التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب

خليل بن إسحاق الجندي

كتاب الطهارة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما الْمِيَاهُ أَقْسَامٌ الماء اسم جنس، يقع على القليل والكثير، فحقُّه أن لا يُجمع، لكن جمعه باعتبار اختلاف أنواعه، كاللحوم. وأقسام جمع قِسْمٍ بكسر القاف، والمراد به النوع، ومرادُه بالأقسام ثلاثةٌ، كما سيأتي. قيل: وكان ينبغي للمصنف أن يقول: الماء أقسام؛ لأن الجنس يُفرد، ولا يقال للجنس المياه؛ لأنه يلزم عليه وجود المياه في كل نوع؛ لأن النوع يستلزم الجنس وزيادة؛ ولأنه كان يسلم من الإخنبار بالأخصِّ عن الأعم؛ فإن المياهَ جَمْعُ كَثرة، والأقسامَ جمعُ قِلَّةٍ، وإنما يُخبر بالأعمِّ والمساوِي، أما أخص منه فلا. وكون الماء جنساً هو باصطلاح الفقهاء؛ لأن النوع عندهم جنس، وأما الجنسُ عند الأصوليين فهو ما اجتمع على كثيرين مختلفين بالحقيقة. والماءُ ليس كذلك، ولعل المصنف- رحمه الله- جَمَعَه ليُنبه على أن كل صنف منه ينقسم إلى الثلاثة الأقسام، وهذا لا يَدْفَعُ كونَ الإفرادِ أَوْلَى. الْمُطْلَقُ طَهُورٌ؛ وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِه أي القسم الأول: (الْمُطْلَقُ) ومرادُه بالمطلق ما لم يُضَفْ إليه شيء أصلاً، ولذلك قال في الجواهر: الباقي على أوصاف خِلْقَتِه مِن غيرِ مُخالِطٍ. وليس المطلق عند المصنف مرادفاً للطَّهور؛ لأنه جَعل ما تغيّر بما لا يَنفكُّ عنه غالباً مُلحقاً بالمطلق، والملحقُ بالشيء خلافُه.

وعلى هذا فالطَّهورُ أعمُّ مِن المطلق، وتفسيرنا المطلق لا يَرِدُه اعتراضُ مَن اعتَرض بأنه يَخرج عنه ما انتقل مِن عذوبةٍ إلى ملوحةٍ، وبالعكس؛ إذ هو لم يُخالطه شيءٌ، لكن كلامَ القاضي عبد الوهاب يقتضي أن المطلقَ مرادِفٌ للطَّهورِ، فإنه قال: الماءُ ضربان: مطلقٌ ومضافٌ، والتطهيرُ بالمطلق دونَ المضافِ، والمطلقُ هو ما لم تتغير أحدُ أوصافِه بما لا ينفك عنه غالباً مما ليس بقَرارٍ له ولا متوَلِّدٍ عنه، فيدخل في ذلك الماءُ القَرَاحُ، وما تَغيَّر بالطينِ لأنه قَرارُه، وكذلك ما يجري على الكِبْرِيتِ، وما تغيَّر بطولِ المُكْثِ؛ لأنه متولِّدٌ عنه، وما تغير بالطُّحْلُبِ؛ لأنه مِن مكثِه، وما انقلبَ مِن العذوبة إلى الملوحة؛ لأنه مِن أرضِه وطولِ إقامته، ويَدخل فيه المستعملُ على كراهة مِنَّا لَهُ، وكذلك القليلُ الذي لم تُغيره النجاسةُ. والمضافُ نقيضُ المطلقِ، وهو ما تغيرتْ أوصافُه وأحدُها مِن مخالطةِ ما يَنفك عنه غالباً، انتهى. فأنت ترى كيف جَعل ما يُطهر به مطلقاً. وقوله: (وَهُوَ) أي المطلقُ، وقدَّم حكمَه على تَصَوُّرِه، وإِنْ كان على خِلافِ الأَوْلَى، لأن المقصودَ بالذاتِ الحكمُ، فكان أهمَّ، وما ذكرَه ابنُ عبد السلام، بأنه قال: إنما ذَكَر ذلك لأنه أَلحق بالمطلق أنواعاً أُخَرَ، فلو ذّكر جميعَها قبلَ الخبرِ لحصَل للناظرِ تشويشٌ- ليس بظاهرٍ؛ لإمكانِ ذِكْرِها بعد الخَبَرِ. وَيُلْحَقُ بِهِ الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِمَا لا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِباً كَالتُّرَابِ وَالزِّرْنِيخِ الْجَارِي هو عَلَيْهِمَا، وَالطُّحْلُبِ وَالْمُكْثِ ... إنما أُلحق المتغيرُ بهذه الأشياء بالمطلقِ لمشقةِ الاحترازِ مِن المُغَيِّرِ المذكورِ، وقد حكى ابنُ المنذرِ الإجماعَ على طهورية المُتَغَيِّرِ بالمُكْثِ. والطُّحْلب بضمِّ اللام وفَتْحِها، وقد حكَى ذلك الجوهريُّ وغيرُه، وهو خضرةٌ تَعْلو على الماءِ لِطُولِ المُكْثِ، والمكثُ: طُولُ الإقامةِ.

ونَقَلَ سندٌ عن مالك كراهةَ المتغيرِ بالطحلبِ مع وجودِ غيرِه. واحتَرَزَ بالغالب مما غَيَّرَ وليس بغالبِ، كورقِ الشجرِ، وفيه قولان: الجوازُ لشيوخِنا العراقيين، والمنعُ للإِبِّيَانِيِّ، حكاهما الباجيُّ. وكذا المتغيرُ بأرواثِ الماشيةِ، فإن مالكاً قال مرة: لا يُعجبني، ولا أُحرِّمُه. اللخمي: والمعروفُ من المذهب أنه غيرُ مطهِّرٍ. قال سند: ليس الأمر على ما قاله اللخميُّ، بل إنما تردّد مالك في ذلك أنه رآه غالباً. ويخرج بقولنا: (غَالِباً) المتغيرُ بحبل السَّانِيَةِ، فإنه يَضُرُّ، ففي أسئلة ابن رشد في الإناء الجديد، والحبل الجديد: إذا كان التَّغَيُّرُ يسيراً- جاز الوضوء به، وإن تغيّر تغيراً بَيِّناً لم يَجُزِ الوضوءُ به، نقلَه سندٌ. وأما رائحةُ القَطِرَانِ تبقى في الوعاءِ وليس له جسمٌ يُخالطُ الماءَ- فلا بأسَ به، ولا يُستغنى عنه عند العرب وأهل البوادي، فأما إذا أُلْقِيَ في الماء، وظَهر عليه، فإِنْ راعينا مُطلقَ الاسم- قلنا بجواز الوضوءِ به، وإن راعينا مجرد التغيير- منعناه. قال: والأَوَّلُ عندي أرجحُ كما قال أصحابُ الشافعيِّ. ابنُ راشد: ونُقل عن بعض المتأخرين الجوازُ في القِرَبِ للمسافر بها للحج للضرورة. وأَبْرَزَ الضميرَ في قوله: (الْجَارِي هو) لكَوْنِ الصِّفَةِ إذا جَرَتْ على غيرِ مَن هي له- فمذهبُ البَصريين وجوبُ إبرازِه مطلقاً [1/ب]، وعند الكُوفيين إنما يجب عند اللَّبْسِ. وَالْمُتَغَيِّرُ بِالْمُجَاوَرَةِ أَوْ بِالدُّهْنِ كَذَلِكَ صورة التغير بالمجاورة أن تكون جِيفَةٌ بإزاءِ ماءٍ فتنقُلُ الريحُ رائحةَ تلك الجيفةِ إلى الماء فيتغيرُ، ولا خلافَ في هذا.

حكى المازَرِيُّ في المُبَخَّرِ بالمَصْطَكَى ونحوِها قولين للمتأخرينَ بنَاهما على أنه مجاورٌ فلا يَسلب الطهوريةَ، أو مُخالِطٌ فيسلب، والظاهرُ أنه مخالِطٌ، ولم يَحْكِ اللخمي غيرَه. وأما الدُّهْنُ، فقد أُنكر ما ذَكره المصنفُ؛ لأن المعروفَ مِن المذهب أن الدهنَ يَسلب الطهوريةَ، وممن ذكر أنه يسلب الطهورية ابنُ بشير، وعلى هذا يُحمل كلامه على ما إذا كان مجاوِراً لسطح الماء، وإليه أشار ابنُ عطاء الله. وقال ابن راشد: ولا يُقال: يَلزم عليه التكرارُ، وكان يستغني بالمجاورة؛ لأنَّا نقول: أراد أن يُبين أن المجاور الذي لا يَضُرُّ قسمان: قسمٌ غيرُ ملاصِقٍ، وقسمٌ ملاصقٌ. وقال بعضُهم: أراد ما يَصعد على الماءِ الراكِد بِطُولِ المكثِ مما يُشْبِهُ الدهنَ. وقال آخرون: أراد بالدهنِ الماءَ القليل، أو المطرَ القليلَ. والدهنُ يُطلق على ذلك لغةً، ولا يَخْفَى ضعفُه. وَمِثْلُهُ التُّرَابُ الْمَطْرُوحُ عَلَى الْمَشْهُور الضمير في (مِثْلُهُ) عائدٌ على (ما) أي: ومثل ما لا يَنفك عن الماء غالباً الترابُ المطروحُ على المشهور، والمرادُ بـ (الْمَطْرُوحُ) المطروحُ قصداً، لا ما ألقته الريحُ، فإنه لا خلافَ فيه أنه لا يَضُرُّ. ووجهُ مقابلِه أن الماءً منفكٌّ عن هذا الطارئِ فيسلبه الطهورية كالمطعومات. وليس الخلافُ خاصّاً بالتراب، بل هو جارٍ في المُغْرَةِ والكِبْرِيتِ ونحوِهما. وخصَّصَ الترابَ بالذكر- والله أعلم- تبعاً لابن شاسٍ. وقد ذَكَرَ مجهولُ الجلّابِ أن المشهورَ في الترابِ وغيرِه واحدٌ، وهو عدمُ سلبِ الطهورية. لكن قال ابن يونس: الصوابُ في المِلْحِ سلبُ الطهورية.

فائدة: قاعدةُ ابنِ الحاجب وغيرِه مِن المتأخرين أَن يَستغنوا بأحد المتقابلين عن الآخَرِ، ومقابلُ المشهورِ شاذٌّ، ومقابلُ الأشهرِ مشهورٌ دونَه في الشهرةِ، وكذلك في الصحيح والأصحِّ، والظاهرِ والأظهرِ، ويُقابل المعروفَ قولٌ غيرُ معروفٍ، ولم تَطَّرِد للمصنف- رحمه الله- قاعدةٌ في مقابلِ المنصوصِ، فقد يكون منصوصاً، وقد يكون تخريجاً وهو الأكثرُ. وكلما قال: (وفيها) فمرادُه المدونةُ وإِنْ لم يتقدم لها ذِكْرٌ؛ لاستحضارِها ذِهْناً عند كلِّ مَن اشتغلَ في المذهَبِ. ولهذا قال ابنُ رُشْدٍ: نِسْبَتُها إلى كتبِ المذهَبِ كنسبةِ أمِّ القرآن إلى الصلاةِ، يُستغنى بها عن غَيْرِها، ولا يُستغنى بغيرها عنها، ولا يأتي بقولِه فيها في الغالبِ إِلّا لاستشهادٍ أو استشكالٍ. وإذا قال: (ثالثها) فالضميرُ عائدٌ على الأقوالِ المفهومةِ مِن السياقِ. وحيث أَطلقَ الروايةَ- فالمرادُ بها قولُ مالكٍ. و (القولُ) يحتملُ أنْ يكونَ للإمامِ أو غيرِه. ومِن قاعدته أيضاً أن يَجعل القولَ الثالثَ دليلاً على القولين الأوَّلَيْنِ، فيَجعل صَدْرَه دليلاً على الأول، وعَجُزَه دليلاً على الثاني، إلا في النادر، وسأنبه عليه. ومِن قاعدتِه أنه إذا ذَكر قسمةً رباعيةً أن يبدأ بإثباتين ثم بنفيين، ثم بإثبات الأول، ونفي الثاني، ثم بعكسه. ومِن قاعدتِه أنه إذا صَدَّرَ بقولٍ ثم عَطَفَ عليه بقيل- أَنْ يكون الأول هو المشهورُ. ومِن قاعدتِه إذا حكَى الاتفاقَ- فمرادُه أهلُ المذهبِ، وإذا حكى الإجماعَ فمرادُه إجماعُ الأُمَّةِ.

ومِن قاعدتِه إذا ذَكَرَ أقوالاً وقائِلِينَ- أَنْ يَجعل الأوَّلَ مِن الأقوال للأوَّلِ مِن القائِلِين. وسيتضحُ لك ما ذكرتُه بالنظرِ في كلامِه، إِنْ شاءَ اللهُ تعالَى. والإشارةُ في هذا الكتاب: بالراء لابن راشدٍ، وبالعينِ لابن عبدِ السلامِ، وبالهاءِ لابن هارونَ، وإذا ظَهَرَ لي شيءٌ أشرت إليه بالخاءِ. وَفِي الْمِلْحِ ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْدِنِيِّ وَالْمَصْنُوع أي: الملحُ المطروحُ، وأما ما كان مِن القَرَارِ- فقد تقدَّمَ أنه يُغتفرُ اتفاقاً، فَوَجْهُ القولِ بعدمِ تأثيرِه أنه مِن جِنْسِ الأرضِ، فكان كالترابِ، وهو قولُ ابنِ القَصَّارِ، وابنِ أبي زيدٍ، وابنِ راشدٍ. ووَجْهُ القولِ بتأثيرِه أَنَّهُ يُشبِه المطعومَ، وهو قول القابِسِيِّ. وتفرقُه الثالثِ ظاهرةٌ، وهكذا حَكَى المازريُّ الثلاثةَ، ووَجَّه الثالثَ بأنَّ المعدنيَّ حكمُه حكمُ الترابِ في جوازِ التيممِ؛ فلم يُؤَثِّرَ، ونَسَبَ سندٌ الثالثَ للباجي، وفي ذلك نظرٌ؛ لأن الباجي لمي َجزم به، وإنما ذَكَرَه على طريقِ الاحتمالِ، فقال بعد أَنْ حكَى عدمَ التأثيرِ عندَ ابنِ القصارِ: يحتملُ أن يكون ذلك في الملحِ المعدنيِّ، وأما المصنوعُ فلا. سندٌ: والأَوْلى عكسُه؛ لأن المصنوعَ أصلُه ترابٌ، بخلافِ المعدنيِّ، فإنه طعامٌ، وفيه نظر. ونقلَ ابنُ بَشِيرٍ خلافاً: هل القولُ الثالثُ تفسيرٌ أم خلافٌ؟ فرع: حكَى ابنُ رشدٍ في طَهوريةِ ماءِ الملحِ الذائبِ في غيرِ موضعِه بعد أنْ صارَ ملحاً- ثلاثةَ أقوالٍ للمتأخرين: أحدُها: أنه على الأصلِ، لا يُؤثر فيه جمودُه. والثاني: أنَّ حُكمَه

حُكمُ الطعامِ فلا يُتَطَهَّرُ به، ويَنْضَافُ به ما غَيَّرَ مِنْ سائرِ المياه. والثالثُ: أن جمودَه إنْ كان بعنايةٍ وصنعةٍ- أَثَّرَ، وإِلَّا فلا. وَالْمُسَخَّنُ بِالنَّارِ وَالْمُشَمَّسُ كَغَيْرِه فلا كراهة فيه، وفيه تنبيهٌ على خلافِ الشافعيةِ [2/أ]، فإِنَّهم يَكرهون المُسَخَّنَ في الشمسِ لِلطِّبِّ، واقتصرَ عياضٌ- في بعضِ كُتُبِه- وسندٌ في المشمس على الكراهةِ. الثَّانِي: مَا خُولِطَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، فَالْكَثِيرُ طَهُورٌ بِاتِّفَاقٍ، وَالْقَلِيلُ بِطَاهِرٍ مِثْلُهُ. وَوَقَعَ لابْنِ الْقَابِسِيِّ: غَيْرُ طَهُورٍ ... إن كان مرادُه بالكثيرِ ما اتفقتِ الأُمَّةُ على كثرتِه- فصحيحٌ، وإِنْ كان مرادُه ما هو كثيرٌ عندَ قومٍ دونَ قومٍ- فلا يَصِحُّ؛ لأن ابنَ رشدٍ قال في البيان في الماء إذا لم يُغَيِّرْهُ مخالِطٌ: إنه طَهورٌ، إلا على روايةِ ابنِ نافعٍ عن مالكٍ، وهي كمذهبِ أبي حَنِيفَةَ. وأُجيبَ بأنَّ المصنفَ إِنَّما ذَكَرَ الاتفاقَ في الكثيرِ، ومالكٌ في روايةِ ابنِ نافعٍ هذه لا يَرى هذا الماء كثيراً، وأُورِدَ على المصنِّفِ أنَّ ما خُولِطَ ولم يتغير مُطْلَقٌ، لا سيما الكثير، فلا يكون هذا القسمُ قَسيماً للمطْلَقِ، وتفسيرُنا أوَّلاً المطلَقَ يَدْفَعُ هذا، لكن على هذا كان ينبغي أن يذكر هذا في القسم الأول، ويجعلَه مما أُلحق بالمطلقِ. والعبارةُ التي حكاها عن القابسيّ حكاها الباجيّ وابنُ شاسٍ، وحكى ابنُ بَشيرٍ وغيرُه كراهتَه خاصَّةً، وأشار صاحبُ النُّكَتِ إلى أنه خَرَّجَه على قولِ مَن رَأَى أَنَّ الماءَ القليلَ إذا وقعتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغَيِّرْهُ- أنه غيرُ طَهورٍ. ابنُ عبدِ السلامِ: وإنْ كان هذا هو الصحيح فقد يُقال: لا يَلْزَمُ مِن تنجيسِ الماءِ اليسيرِ عدمُ طهوريةِ الماءِ بما أُضيف إليه؛ لأ، مُسْتَنَدَ مَن حَكَمَ بالنجاسةِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "إِذا بَلَغَ الماءُ قُلًّتَيْنِ لم يَحْمِلْ خَبَثاً".

ومفهومُه أَنَّ ما دُونَ القُلتين يَحْمِلُ الخبثَ، ولا يَلزمُ مِن تأثيرِ النَّجِسِ تأثيرُ الطاهرِ؛ لأنَّ النجسَ يَسْلُبُ وَصْفَيْ الطَّهوريةِ والطهارةِ، والطاهرُ إنما يَسلب الطهوريةَ فقط، فهو أضعفُ، ولا بُدَّ في الكلام مِنْ حَذْفٍ، أي وَقَعَ لابنِ القابسي فيه. وَفِي تَقْدِيرِ مُوَافِقِ صِفَةِ الْمَاءِ مُخَالِفاً نَظَرٌ يعني: إذا خالط الماءَ أجنبيٌّ يُوافقُ أوصافَه الثلاثةَ ولم يُغيره، فهل يُقَدَّرُ مخالفاً أو لا؟ وفيه نظرٌ. والنظرُ في وجودِ التغيرِ وعَدَمِه، وَجْهُ النظرِ تَعَارُضُ مُدْرَكَيْنِ قويين سيأتيان، وعلى هذا فلا نَصَّ في المسألةِ، ولذلك قال ابنُ عطاء الله: إنه لم يَقِفْ في هذه المسألةِ على شَيْءٍ. قال: والذي أَراه أَنه إِن وَجَدَ غيرَه- لم يَسْتَعْمِلْه، وإن لم يَجِدْ غيرَه- تَوَضَّأَ به وتَيَمَّمَ. ابنُ راشد: ومِن ابنِ عطاء الله أَخَذَ المصنفُ، وعلى هذا مَشَّاهُ ابنُ هارونَ وابنُ عبد السلام. وقد تَرَدَّدَ سندٌ فيمن وَجَدَ مِن الماءِ دونَ ما يَكفيه، وخَلَطَه بماءِ الزَّرْجُونِ أو غيرِه مما لا يُغَيِّرُهُ، هل يَتطهر به لأنه ماءٌ لم يَتغير، أو لا؟ لأنه تَطَهَّرَ بغيرِ الماءِ جَزْماً. قال: والظاهرُ أنه لا يُتطهر به. ثم نَقَلَ عن بعضِ الشافعيةِ التفرقةَ بينَ ذلك وبينَ مَن معه مِن الماءِ ما يَكفيه، وخَلَطَ به قَدْرَه مِن المائِعِ، فقال بالإجْزَاءِ في هذه دُونَ الأُولَى، ثم إذا فُرض أنه مخالفٌ- فيُنظر في الواقعِ إما أن يكون طاهراً أو نجساً، وإما أن يكون الماءُ قليلاً أو كثيراً- أَجْرِهِ على ما تقدم. فإن قيل: لِمَ لا حَمَلْتَ كلامَه على أن النظرَ في كيفيةِ التقديرِ؟ إذ لا يُدرَى بأي نوع يُلحقه من المخالفات، أو على أن استَشكل قولَ مَن جَزَمَ بوقوعِ التقديرِ في المذهبِ؟. فجوابُه: أنه منعني مِن الحَمْلِ عليهما كوني لم أَرَ نقلاً يُوافِقُهما، والله أعلم. ابنُ عبد السلام: ويكون ذلك في صورتين: إحداهما: أَنْ يُخالطَه موافقٌ لصفةِ الماءِ كماءِ الريحانِ المقطوعِ الرائحةِ. والثاني: أن يكون متغيراً بما لا يَنْفَكُّ عنه غالباً، فيُخالِطُه مائعٌ موافقٌ لِصِفَتِه.

ووجهُ النظرِ هو أنْ يُقال: يَصْدُقُ عليه أنه ماءٌ باقٍ على خِلْقَتِه، وذلك يقتضي إباحةَ استعمالِه. أو يقال: لا نُسَلِّمُ أنه باقٍ على خِلْقَتِه؛ لأن اللونَ والطعمَ الموجودَين- والحالةُ هذه- إنما هما وَصْفانِ للمخالِط والماءِ، وأدنى الأمورِ الشكُّ في هذا، وذلك يقتضي تَجَنُّبَ هذا الماءِ. خليل: هذان المُدْرَكانِ اللذان قلنا: سيأتيان. ثم قال ابنُ عبد السلام: واعلمْ أنَّ الأصلَ التمسكُ ببقاءِ أوصافِ الماءِ حتى يُتحققَ زوالُها- أو يُظنَّ- كما لو كان المخالطُ للماء هو الأكثرُ، ولا تُقدر الأوصافُ الموافقةُ مخالفةً لعدمِ الانضباط مع التقدير؛ إذْ يَلزمُ إذا وقعتْ نقطةٌ أو نقطتان مِن ماءِ الزَّهْرِ مثلاً أَلَّا تُغير، ولو كان مِن ماءِ الورْد لأَثَّرَ، وكذلك ربما غَيَّرَ مقدارٌ مِن ماءِ الوَرْدِ ما لم يُغيره مِن ماءٍ آخرَ مِن مياه الوردِ لرداءتِه، فلو رُوعي مثلُ هذا لَمَا انْضَبَطَ، والشريعةُ السمحةُ تَقتضي تَرْكَ ذلك، انتهى بالمعنى. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا قَدَّرْنَاه بالوَسَطِ- كما هو الأصح عند الشافعية- وجعلنا الماءَ كأنَّه غيرُ مُغَيَّرٍ في صورةِ ما إِذَا كان مُغَيّراً بِقَرَارِه- لم يَلْزَمْ ما ذُكِرَ، والله أعلم. فرع: ذَكَرَ المازريُّ إذا شُكَّ في المغيّر هل أَثَّرَ أم لا، أنّه لا تأثيرَ لذلك. قال: ولا يُنْقَلَ الماءُ عن أصلِه- استصحاباً للأصلِ- حتى يَتحقَّقَ وجودُ ما مِن شأنِه أَن يُؤثر فيه. وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ، وَكُرِهَ لِلْخِلافِ، وَقَالَ: لا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ فِي مِثْلِ حِيَاضِ الدَّوَابِّ: لا بَاسَ بِهِ. أَصْبَغُ: غَيْرُ طَهُورٍ. وَقِيلَ: مَشْكُوكٌ فيه فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ لِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ .... المستعملُ في الحَدَثِ ما تَقَاطَرَ مِن الأعضاءِ، أَوْ ما اتَّصَلَ بها، والمشهورُ أنه طَهورٌ، ولكنه مكروهٌ مع وجودِ غيرِه للخلافِ. وتقييدُه بالحَدَثِ يُخرجُ المستعملَ في غيرِ حدثٍ إذا لم يرفعْ حَدَثاً، كالمستعملِ في الأَوْضِيَةِ المستحبةِ، وغسلِ الجمعةِ.

وظاهرُ قولِه في المدونة: لا يُتوضأ بما قد تُوُضِّئَ به مرةً. دخولُ الأوضيةِ المستحبةِ، وقد عُلِّلَتِ [2/ب] الكراهةُ في هذه المسألةِ أو المنعُ بأوجهٍ غيرِ ما قاله المصنفُ: الأول: أنه أُدِّيَتْ به عبادةٌ، الثاني: لكونه أزال المانعَ، الثالث: لكونه لا تُعلم سلامتُه من الأوساخِ. قال القرافي في الذخيرة: قال بعض العلماء: وعلى الأوَّلَيْنِ تَجوز الرابعةُ بلا إشكالٍ، ويُنظر على التعليلِ الثالثِ هل كان نظيفَ البَدَنِ أم لا؟ وعلى الثاني: يَجوز المستعملُ في الأوضيةِ المستحبةِ، والعكسُ في غَسْلِ الذِّمِّيَّة، انتهى. الرابع: أنه قد ذهبتْ قوتُه في عبادةٍ فلا تُفْعَلُ به أُخْرَى. الخامس: لأنه ماءُ الذنوبِ. السادس: لأنه لم يُنقل عن السلفِ جَمْعُ ما سَقَطَ مِن الأعضاء واستعمالُه مع كونهم بالحجازِ والماءُ قليلٌ. وفي كل هذه التعاليلِ المذكورةِ إشكالٌ لا يَخفى عليك. وذَكَرَ سندٌ أنَّ مشهورَ المذهبِ كراهةُ استعمالِ ماءٍ استُعْمِلَ في الحَدَثِ فقط دونَ التجديدِ. فقد قال في المدونة في الجنبِ يغتسلُ في القَصْرِيَّةِ: لا خَيْرَ فيه. وقال في الطاهِرِ: لا بأسَ به. وهذا يُوافق كلامَ ابنِ الحاجبِ، لكن ما ذكره سندٌ إنما يأتي على أحدِ التأويلاتِ، وقد ذَكَرَ عياضٌ في هذه المسألة ثلاثةَ تأويلاتٍ: أحدُها: أنَّ قولَه في القصرية: لا خير فيه. محمولٌ على أنه دَخَلَها قبلَ غسلِ ما به مِن الأذى، وذكره ابنُ أبي زَمَنِينَ عن بعضِ شيوخِه. ثانيها: أن جوابَه قَبْلَ الفِعْلِ، فلذلك شَدَّدَ ابتداءً عليه لما وَرَدَ مِن النهيِ عن الاغتسالِ في الماءِ الدائمِ. ولو سُئل عَمَّن فَعَلَ ذلك لكان جوابُه فيها كجوابِه في مسألة الحوضِ، أنه إِذا غسل ما به من الأذى وإِلَّا أَفْسَدَها، ذكره عن بعضِ الشيوخِ.

ثالثُها: وهو الذي يَأتي عليه ما قاله سندٌ- ما قاله أبو محمد مِن أنَّ المسألةَ محمولةٌ على الإطلاقِ- وإن لم يَكُنْ في بدنِه أذىً- لقولِه: كماءٍ تُطُهِّرَ به مَرَّةً. قال القاضي: وهو أسعدُ؛ لأنه كجوابِه في الماءِ المستعملِ سواءٌ. ولتعلمْ أنّ الخلافَ الذي ذكره المصنفُ إنما هو في حقِّ مَن سَلِمَتْ أعضاؤه مِن النجاسةِ وغيرِها، وأما إِنْ كان نجسَ الأعضاءِ- فهو ماءٌ حَلَّتْه نجاسةٌ، وأما إِنْ كان وَسِخَ الأعضاءِ- غيرَ نجسِها- فهو ماءٌ حلّته أوساخٌ طاهرةٌ فَأَجْرِهِ على ما تقدم. وعلى كلٍّ مِن التعاليلِ لا يَنبغي أنْ يُؤتى بالمستعمل في قسمِ ما خُولِطَ ولم يتغير، إلا على الثالث، فقد يُؤتي به، وقد لا يؤتي به، إذ لا تَلزَمُه المخالطةُ في حقِّ الخارجِ مِن الحمَّامِ مَثَلاً. ونَصَّ ابنُ القاسم بعد قولِ الإمامِ مالكٍ (لا خَيْرَ فِيهِ) على أنه إذا لم يَجِدْ غيرَه- أَنَّهُ يتوضأ به. وحَمَلَ غيرُ واحدٍ مِن الشيوخِ المختَصِرِين قولَ مالكٍ (لا خَيْرَ فِيهِ) على معنى: لا خيرَ فيه مع وجودِ غيرِه، فإذا لم يُوجد غيرُه- فكما قال ابنُ القاسم؛ فهما متفقان. عياضٌ: وعلى ذلك أكثرُ المختَصِرِينَ. وقال ابنُ رشدٍ: هما مختلفان، ورَجح بأنّ ظاهرَ (لا خَيْرَ فِيهِ) التحريمُ؛ لأن المكروهَ لا يُنفى عنه الخيرُ نفياً عامّاً، وقوله (وَقَالَ فِي مِثْلِ حِيَاضِ الدَّوَابِّ: لا بَاسَ بِهِ) أي لكثرته. وقوله: (أَصْبَغُ: غَيْرُ طَهُورٍ) أي قال أصبغُ: هو غيرُ طهورٍ. وقال اللخميُّ وغيرُه: هو قولُ مالكٍ في مختصرِ ابن أبي زيد، ومذهبُ ابنِ القاسم في كتاب ابنِ القَصَّار؛ لأن ابن القصار حَكَى عنه أنه يتيممُ مَن لم يَجِدْ سِواه. وحكى بعضُهم عن الأَبْهَرِيِّ أنه تأوَّل ما وَقَعَ لابنِ القاسم في كتابِ ابنِ القصارِ- على أنه يَتوضأ به ويتيمم. وقوله: (وَقِيلَ: مَشْكُوكٌ فيه) لم يُصرِّح قائلُ هذا القولِ- وهو الأبهري- فيما حكاه ابنُ القصار بأنه مشكوكٌ فيه، كما ذَكَرَ المصنفُ، وإنما قال: يتوضأ به ويتيمم. قال اللخميُّ: وأَراه في معنى المشكوكِ وفي حُكمِه. وصرّح ابنُ عطاء الله بأنه قولٌ ثالثٌ في المسألة- كما

ذكر المصنف- واعْتَرَضَه ابنُ راشدٍ بأن الأبهري إنما ذَكَرَه مفسِّراً لقولِ ابن القاسم، والتفسيرُ لا يُعَدُّ خِلافاً. فائدة: كثيراً ما يّذكر أهلُ المذهبِ: الحُكْمُ كذا، مراعاةً للخلافِ. ويقولون: هل يُراعَى كُلُّ خلافٍ أو المشهورُ؟ وهل المشهورُ ما قَوِيَ دليلُه، أو كَثُرَ قائلُه؟ خلافٌ. وكذلك اختُلِفَ في المشهور في مذهبِنا، والذي ذهبَ إليه المغاربةُ أنه مذهبُ المدونةِ. ابنُ عبد السلام: والذي يَنبغي أَنْ يُعتمد أنّ الإمام- رحمه الله تعالى- إنما يُراعي ما قَوِيَ دليلُه، وإذا قَوِيَ فليس بمراعاةِ خلافٍ، وإنما هو إعطاءُ كلٍّ مِن الدليلين ما يَقتضيه مِن الحُكْمِ مع وجود المُعَارِضِ، فقد أجازَ الصلاةَ على جلودِ السباعِ، وأَكْلَ الصيدِ وإنْ كان أَكَلَ الكلبُ منه، وأباح بيعَ ما فيه حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ غيرِ الطعامِ قَبْلَ قَبْضِهِ مع مخالفةِ الجمهورِ فيها، فَدَلَّ على أنَّ المرَاعَى عنده إنما هو قوةُ الدليلِ. فرع: وأما الترابُ إذا تَيمم عليه مَرَّةً- فيَجُوزُ أنْ يَتيمم عليه مرةً أخرى، ولا يُكره ذلك. نَص عليه في العتبية، وفَرَّق بينه وبين الماءِ المستعملِ عبدُ الحقِّ وابنُ رشد بأنّ الماءَ لابُدَّ أنْ يتعلق به أوساخٌ بخلافِ الترابِ. وَالْقَلِيلُ بِنَجَاسَةٍ: الْمَشْهُورُ: مَكْرُوهٌ. وَقِيلَ: نَجِسٌ. وَفِيهَا: فِي مِثْلِ حِيَاضِ الدَّوَابِّ أَفْسَدَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى- أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاسَةِ لِلتَّيَمُّمِ، وَعَلَى الْكَرَاهَةِ لِلْوَقْتِ، وَعَلَى التَّنَاقُضِ. وَقِيلَ: مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: يَتَيَمَّمُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ لِصَلاتَيْنِ، فَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدُ فَعَلَهُمَا لِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ .... اختُلف في مقدارِ القليلِ، فوقع لمالكٍ أنه آنيةُ الوضوءِ والغسلِ. وفي كلام عبد الوهاب أنه الحُبُّ والجَرَّةُ، وقال بعضُ المتأخرِين: إنه القُلَّتَانِ، على ما جاء في الحديث. والقلتان:

خمسُمائة رَطْلٍ بالبَغْدادي. وقال بعضُهم: ليس له حَدٌّ بمقدارٍ، [3/أ] بل بالعادةِ. هكذا حكى ابنُ عبد السلام هذه الأقوالَ. وقال ابنُ راشدٍ: ليس في المذهبِ في القليلِ حَدٌّ. ورأيتُ لابن رُشْدٍ أنَّ اليسيرَ قدرُ ما يَتوضأُ به ويَغتسلُ. قال: والمعلومُ مِن قولِ ابنِ القاسم وروايتِه عن مالكِ: أَنه مِثْلُ الجرةِ. وإن لم يَفْسُدْ مِن قطرةِ البولِ فإنه يَفسد بما هو أكثرُ مِن ذلك، وإن لم يتغيرُ بخلافِ الجُبِّ والمَاجَلِ فإنه لا يَفسد بما وقع فيه إلا أَنْ يَتغير. وحاصلُ ما ذَكَرَ المصنفُ ثلاثةُ أقوالٍ: المشهورُ أنه طَهورٌ إلا أنه يُكره استعمالُه مع وجودِ غيرِه؛ لما رواه أحمدُ وأبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ: قيل: يا رسول الله، أنتوضأُ مِن بئرِ بُضَاعَةَ، وهي بئرٌ تُلقى فيها الجِيفَةُ والنَّتْنُ ولحومُ الكلاب؟ قال: "الماءُ طَهُورٌ لا يُنْجِسُه شيء" صحَّحه الإمامُ أحمدُ وحسَّنَه الترمذيُّ. ولا يُعارِضُه حديثُ القُلتين، فإنه إنما يَدُلُّ بالمفهومِ، وأيضاً فإنَّ المفهومَ إنما يُعمل به إذا لم يَكُن ثَمَّ دليلٌ أرجحُ منه. وقد اختَلف الناسُ في صِحَّةِ حديثِ القُلتين، فصحَّحه الدارقطنيُّ وابنُ خُزَيْمَةَ وابنُ حِبَّانَ، وتَكلم فيه ابنُ عبد البر وغيرُه. وقيل: الصوابُ وَقْفُهُ. ومِنْ ثَمَّ وَقَعَ في المذهبِ قولٌ أَنَّهُ غَيْرُ مكروهٍ، حكاه اللخميُّ ولم يَعْزُهُ. ثم قال: ورَوى أبو مصعبٍ عن مالكٍ أنه قال: الماءُ كلُّه طاهرٌ إلا ما تَغَيَّرَ لونُه أو طعمُه أو رِيحُهُ بنجاسةٍ حَلَّتْ فيه مَعِيناً كان أو غَيْرَ مَعِينٍ. وقال: فعلى هذا يُتوضأ به مِن غيرِ كراهةٍ. وذَكَرَ ابنُ بَشير أن اللخمي حكاه عن أبي مصعب، وليس بظاهرٍ؛ لأنه لم يُصَرِّحْ به عن أبي مصعبٍ، ثُم رَدَّه ابنُ بَشير لعدمِ وجودِه في المذهبِ، وليس رَدُّ ابنِ بشير بشيءٍ؛ لأنَّ حاصلَه شهادةٌ على نَفْيٍ. وأَوْرَدَ ابنُ راشد سؤالاً، وهو أن المكروهَ ليس في فعلِه ثوابٌ، وقد صحَّ الوضوءُ به، والصحةُ تستلزمُ الثوابَ، فكيف يُجمع بينهما؟ انتهى.

القول الثاني: أنه نَجِسٌ، وهو قولُ ابنِ القاسم، واختاره صاحبُ الرسالة. وقوله: (وَفِيهَا) أتى بما في المدونة- والله أعلمُ- للترددِ، لقوله: (أَفْسَدَهَا) هل معناه أَنْجَسَها، أو معناه يُجتنب مع وجودِ غيرِه، أو يُجمع بين الماءِ والتيمم؟ وأَتَى بقولِ ابنِ القاسم ليَذكر ما قيل فيه، وتَصورُه مِن كلامِه واضحٌ. واعترضَه ابنُ راشد بأنَّ ابنَ القاسم لم يَقُلْ ذلك فيما تَحَقَّقَ وقوعُ النجاسةِ فيه، وإنما قاله في سُؤْرِ ما يأكلُ الجِيَفَ إذا لم تَتَحَقَّقْ بِفِيهِ نجاسةٌ، ولا يَلزمُ تساوي الغالبِ بالمحقَّقِ. وقوله: (فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاسَةِ لِلتَّيَمُّمِ ...) إلى آخره، أي أن الأشياخَ اختلفوا في حَمل كلامِ ابنِ القاسمِ، فحملَه عبدُ الحميد والسُّيُورِيُّ على أَنَّ الماءَ عنده نجسٌ، وجَعَلَ الإعادةَ في الوقتِ مراعاةً للخلافِ، وحَمَلَه ابنُ رشد على أنَّ الماءَ عنده نجسٌ، وجَعَلَ الإعادةَ في الوقتِ مراعاةً للخلافِ، وحَمَلَه ابنُ رشد على أنَّ الماءَ عنده مكروهٌ؛ لكونِه أَمَرَه بالإعادةِ في الوقتِ، وإلى هذين التأويلين أشارَ بقوله: (فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاسَةِ لِلتَّيَمُّمِ، وَعَلَى الْكَرَاهَةِ لِلْوَقْتِ). ومِن الأشياخِ مَن عَدَّه تناقُضاً، وإليه أشار بقوله: (وَعَلَى التَّنَاقُضِ) وحمله عبد الوهاب على أنه يَجمعُ بينَ الماءِ والتيممِ، وضَعَّفَه عياضٌ بِبُعْدِه عن اللفظِ. قال في المقدمات: ولم يفرّق ابنُ القاسم في الإعادةِ في الوقت بينَ أن يكون جاهلاً أو متعمداً، أو ناسياً. وقال ابنُ حبيب في الواضحة: إن كان عامداً أو جاهلاً- أَعَادَ أبداً. وقَيَّدَه أبو محمدٍ والبراذعيُّ في اختصارِهما: الإعادةُ في الوقتِ بعَدَمِ العِلْمِ. وتُعُقِّبَ ذلك عليهما لِعَدَمِ وجودِه في الأَصْلِ، وكأنهما عَوَّلا في ذلك على ما في كتابِ الصلاةِ الأوَّلِ منها، وذلك أنه قال في باب ما تُعاد الصلاةُ منه في الوقتِ: قال مالكٌ فيمَن تَوضأ بماءٍ غيرِ طاهرٍ وصَلى وهو يظن أنه طاهرٌ، ثم عَلِمَ به، قال: يُعيد ما دام في الوقتِ، فإنْ مضَى الوقتُ لم يُعِدْ، ويَغسلُ ما أصاب ذلك الماءُ مِن جسدِه ومِن ثوبِه.

وقوله: (وهو يظن) يَدُلُّ على أنه كان غيرَ عالِمٍ، لكنَّ أبا سعيدٍ لم ينقل هذه المسألةَ في كتابِ الصلاةِ، ولا أَتى بها على ما هي عليه في كتابِ الوضوءِ، قاله عبدُ الحق. والقولُ الثالث- مما حكاه المصنفُ- أنه مشكوكٌ فيه، أي لا يُتَحَقَّقُ هل هو نجسٌ أو طاهرٌ؟ ثم اختُلِفَ على هذا القول على قولين. الأول: لابن الماجِشُونِ: يتوضأ أوّلاً ثم يتيمم للصلاة الواحدة، وإلى تقديم الوضوء- قبل التيمم- أَشار بقوله: (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ) فإِنّ ثُمَّ للترتيبِ. والثاني: لسُحْنُونٍ: أنه يتيمم أوّلاً ثم يُصلي، ثم يتوضأ ويصلي ثانياً؛ ليكون قد صَلَّى صلاةً مُتَيَقِّناً فيها السلامةَ مِن النجاسةِ. وقوله: (فَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدُ فَعَلَهُمَا) هو فرعٌ على قولَيْ مَن قال بالشكِّ، أي إذا أَحْدَثّ بعد أن فَعَلَ بمقتضى كلٍّ مِن القولين، فإنهما يتفقان على أنه يتوضأ ثم يتيمم لصلاةٍ واحدةٍ؛ لأن ما كان يخاف منه- على القول الثاني- وهو تلطيخُ أعضائِه بالنجاسةِ قد حَصَلَ. اللخمي: وكذلك لو لم يُحدث فإنه يتيمم ويصلي. واعترض ابنُ رشد هذا القولَ، أي قولَ مِن قال: إنه مشكوك فيه. وقال: الشكُّ ليس بمذْهَبٍ، وإنما هو وَقْفُ حَيْرَةٍ، وإنما المشكوكُ فيه ما شَكَّ في تغيره بالنجاسة، أو في حلولها فيه عند مَن يَرَى مُطْلَقَ الحُلولِ مانعاً وإنْ لم يتغير، ففي هذين الوجهين يُعتبر الشكُّ. ابن هارون: وفيه عندي نظرٌ؛ لأن الشكَّ في الحكمِ قد يَحصل بتعارضِ الأدلةِ عند المجتَهِدِ فيرَى بالاحتياطِ. وَالْجَارِي كَالْكَثِيرِ إِذَا كَانَ الْمَجْمُوعُ كَثِيراً، وَالْجَرْيَةُ لا انْفِكَاكَ لَهَا أي: والماءُ الجاري إذا وقع فيه مُغَيِّرٌ نجساً كان أو طاهراً، يُريد: والمستعملُ تحتَ الواقعِ، وأما لو كان فوقَه لم يَضُرَّ وإن كان يسيراً. ابن هارون: إلا أن يقرب منه جداً. انتهى.

وهذه المسألةُ على وجهين: أحدُهما: أنْ يَجري الماءُ بذلك المغيِّرِ الحالٍّ- مع بقاءِ بعضِه في محلِّ الوقوعِ- إلى محل الاستعمالِ، ففي هذا الوجهِ يُنظر إلى مجموع ما بين محلِّ [3/ب] الوقوع والاستعمالِ، فقد يكون يسيراً، وقد يكون كثيراً، والحالُّ أيضاً إما أن يكون نجساً أو طاهراً، أَجْرِهِ على ما تقدم، ولا تَعتبر هنا المجموعَ مِن محلِّ النجاسةِ إلى آخِرِ الجِزْيَةِ. والوجه الثاني: أَنْ يَنْحَلَّ المُغَيِّرُ، وفي هذا الوجهِ يُنظر إلى مجموعِ ما بين محلِّ الوقوعِ ومحلِّ تأثيرِ ذلك التغييرِ، فلو كان مجموعُ الجريةِ كثيراً، ومِن محل الوقوعِ إلى محل الاستعمال يسيراً- جاز الاستعمالُ، لكونِ المغَيِّرِ قد ذَهب في جميعِ ذلك، ولا كذلكَ الوجهُ الأولُ. ابنُ هارون: واعتُرض على المصنف بأنَّ اشتراطَ عدمِ الانفكاكِ لا معنى له إذا كان المجموعُ كثيراً؛ لأنه مع الكثرة لا يُجتنب إلى المتغيرُ دون غيرِه، انقطعتْ جِريتُه أو اتصلتْ، وأُجيب بأنه تأكيدٌ لقوله: إذا كان المجموع كثيراً. انتهى. وهذا ما ظَهر لي مِن البحث في كلامه، ولم أَرها منصوصةً للمتقدِّمين هكذا؛ نَعَمْ قال أبو عمر بنُ عبد البرِّ في كافِيهِ: إنّ الماءَ الجاريَ إذا وقعتْ فيه نجاسةٌ جَرَى بها فما بعدَها منه طاهرٌ. وأشار عياضٌ في الإكمالِ لَمَّا تكلم على قولِه عليه الصلاة والسلام: "لا يَبُولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ" إلى أنَّ الجاري كالكثير، والله أعلم. الثَّالِثُ: مَا خُولِطَ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَحُكْمُهُ كَمُغَيِّرِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الرِّيحَ، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ التَّغْيِيرَ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَفِي التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ بَعْدَ جَعْلِهِ فِي الْفَمِ قَوْلانِ ... تصورُه ظاهرٌ، ومعنى حُكمه كمغيِّره، أي: إِن كان المغيِّر نجساً كان الماء نجساً، وإن كان المغيرُ طاهراً كان الماء طاهراً غيرَ مطهِّرٍ، وانظرْ إذا خالطَه مشكوكٌ فيه. وروى بعضُهم أنَّ سببَ الخلافِ بينَ ابنِ الماجشونِ والمذهبِ الخلافُ في زيادةِ العَدْلِ؛ لأنَّ (الرِّيحَ) لم يَقَعْ في كلِّ الطُّرُقِ.

واعتُرض على قولِ مَن قال: ولعلَّه قصدَ التغييرَ بالمجاورة. لأنه لا يَصِحُّ لقيامِ الدليل على امتناعِ انتقالِ الأَعْرَاضِ، فلا بُدَّ مِن انتقالِ أجزاءٍ يَقع تغيرُ الريحِ بها. وأُجيب بأَنَّا لا نعني بتغيير المجاورَة إلا أنا لا نُشاهد الحالَّ الذي وقعَ التغييرُ بسببه. قيل: ووقع كلامُ ابن الماجشون في مختصر الثَّمانِيَةِ صَريحاً فيه أَنه لا يَعتبر الريحَ، بما لا يَقبل هذا التأويل. والقولان في الماءِ بعد جعلِه في الفم راجعان إلى خلافٍ في حال: هل يمكن أن ينفك عنه الماء بصفته أم لا؟ والجوازُ رواه موسى بن معاوية عن ابن القاسم، والمنعُ رواه أشهب في العتبية، واتفقا على أنه لو تَحقق التغييرُ لأَثَّرَ. وَلَوْ زَالَ تَغَيُّرُ النَّجَاسَةِ فَقَوْلانِ بِخِلافِ الْبِئْرِ تَزُولُ بِالنَّزْحِ يعني: أنه اختُلف إذا زال تغيرُ النجاسة بنفسِه على قولين، فمَن رأى أن الحكمَ بالنجاسة إنما هو لأجل التغيير وقد زال، والحكمُ يدور مع علته وجوداً وعدماً- حَكَمَ بالطهوريةِ، ومَن رأى أنَّ الأصلَ أن النجاسةَ لا تزولُ إلا بالماء، وليس هو حاصلاً- حَكَم ببقاءِ النجاسةِ، وصَوَّب هذا الثاني ابنُ يونس. ابن راشد: وسمعت بعضَ الفقهاء يقول: الخلافُ إنما هو في الماء الكثير، وأما اليسيرُ فهو باقٍ على التنجيس بلا خلافٍ. قال شيخُنا- يعني ابن دقيق العيد-: والخلافُ أيضاً في البولِ نفسِه إذا زالتْ رائحتُه. ويُؤيد ما قاله الخلافُ في بول المريض الذي لا يَستقر الماءُ في معدتِه، ويَبُوله في صِفَتِه. انتهى. فإنْ زال تغيرُ النجاسة بكثرة المطلَقِ كان طَهوراً اتفاقاً، وإليه أشار بقوله: (بِخِلافِ الْبِئْرِ تَزُولُ بِالنَّزْحِ) أي: فلا خلافَ في طَهوريته.

وَأَمَّا الْمَاءُ الرَّاكِدُ كَالْبِئْرِ وَغَيْرِهِ تَمُوتُ فِيهِ دَابَّةُ بَرٍّ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَيُسْتَحَبُّ النَّزْحُ بِقَدْرِهَا بخِلافِ مَا َلْو وَقَعَ مَيِّتاً ... الراكد هو الواقف، وقوله: (تَمُوتُ) احترازاً مما لو وقع ميتاً، فإن حكمَه مخالفٌ. وقوله: (دَابَّةُ بَرٍّ) احترازاً من دابة البحر، فإنها إذا لم تغير لا يُستحب النزحُ. وقوله: (ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ) احترازاً مما ليس له نفسٌ سائلةٌ كالعقربِ والزنبورِ، فإنهما إذا وقعا في ماء فماتا فيه فإنه- إذا لم يَتغير- لا يُستحب النزحُ، والمرادُ بالنفسِ السائلةِ الدمُ الجاري. وقوله: (وَلَمْ يَتَغَيَّرْ) احترازاً مما لو تغير، فإنه يجب نزحُه حتى يزول تغيرُه. وقوله: (بِقَدْرِهَا) أي: بقدر الميتة، ويتحمل بقدر البئر. وفي بعض النسخ: بقدرهما. وهو أظهرُ. ولمراعاتهما قال ابنُ الجلاب: على قدرِ كثرةِ الماء وقلته، وصِغَرِ الدابةِ وكبرِها. وعلى هذا فالصورُ أربعٌ: تارةً يكثُر الماءُ وتصغُر الدابةُ، فيقلَّلُ مِن النَّزْحِ، وتارًة يَقِلُّ الماءُ وتكبُر الدابةُ، فيُزادُ في النزحِ، وتارة يُتَوَسَّطُ، إما لكِبَرِ الميتةِ وكثرةِ الماء، وإما لقلةِ الماء وصِغَرِ الميتةِ. وإنما يُستحب النزحُ لأن الله تعالى أجرَى العادةَ أن الحيوانَ عند خروجِ رُوحه تنفتح مَسَامُّه، وتَسيل رُطوباتُه، ويَفتح فاه طلباً للنجاة فيدخل الماء ويَخرج برطوباته، وذلك مما تَعافُه النَّفْسُ، فأُمِرَ بالنزح ليزول ذلك، ولهذا قال بعضُهم: إذا نَزَحَ فيُنقص مِن الدلوِ شيئاً يسيراً؛ لأنه إذا مُلِئَ تطفو الدُّهنيةُ فيُنزلها الماءُ فلا يَكون النزحُ مُعتبراً. وما ذكره المصنف مِن استحبابِ النزحِ إذا لم يتغيرْ هو ظاهرُ المذهب، وحكى الباجي قولاً عن مالك بوجوب النزحِ، وهو ظاهر المدونة في مواجِلِ بُرْقَةَ، فإنه قال: لا يُشرب منها، ولا بأس أن تُسقى منه المواشي.

سحنون: وينجس بولُ الماشية الشاربةِ. فلذلك حَمل أبو الحسن ما في المدونة على أن الماءَ تَغير، واستدل لذلك بكلام سحنون، وفي كلام ابن عبد السلام هنا نظرٌ. وقوله: (الرَّاكِدُ) يشملُ كل ما له مادةٌ، وما لا مادةَ له. وقوله: (كَالْبِئْرِ) يُخَصِّصُ ما له مادةٌ. وذكر ابنُ شاسٍ في الماء إذا تغير- ولا مادة له- وذهب التغيرُ بنزحِ [4/أ] بعضِه: أَنَّ في طهوريةِ الباقي قولين. وقوله: (بخِلافِ مَا َلْو وَقَعَ مَيِّتاً) أي: فإنْ تغير وَجَبَ نزحُه، وإن لم يتغير لم يجب ولم يُستحب، لِفَقْدِ العلةِ التي ذُكرت للاستحباب إذا مات في الماء، والمخالفةُ إنما هي في عدمِ التغير، وأما مع التغير فالحكمُ متساوٍ، وهو وجوبُ النزح، وفي المذهب قولٌ أنَّ ما وقع ميتاً بمنزلةِ ما مات فيه. وَالْجَمَادَاتُ- مِمَّا لَيْسَ مِنْ حَيَوَانٍ- طَاهِرَةٌ إِلا الْمُسْكِرَ يريد بقوله: (مِمَّا لَيْسَ مِنْ حَيَوَانٍ) ما قال ابن شاس وغيره، ويعني بالجمادات ما ليس بذي روحٍ، ولا منفصلٍ عن ذي رُوحٍ، وإنما أخرجنا المنفصلَ عن الحيوانِ لأنَّ منه ما هو نجسٌ، كما سيأتي. وقوله: (إِلا الْمُسْكِرَ) أي: فإنه نجسٌ، وسواء كان من العِنَبِ أو من غيرِه، وهذا هو المشهورُ خلافاً لابنِ لُبابَةَ وابنِ الحَدَّادِ فإنهما قالا بطهارةِ الخَمْرِ، والأوّلُ أظهرُ، لقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90]. والرجسُ النجسُ، ولأن القول بطهارتِها يَستلزم جوازَ استعمالِها. وقصدُ الشَّرْعِ الإبعادُ عنها بالكُلِّيَّةِ. فائدة: تنفع الفقيهَ يَعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرَقِّدِ، فالمسكرُ ما غيّب العقلَ دون الحواسِّ مع نشوة وفرح، والمفسدُ ما غيّب العقل دون الحواس لا مع نشوة وفرح كعسل البلادر، والمرقد: ما غيب العقل والحواس كالسَّيْكَرانِ.

وينبني على الإسكارِ ثلاثة أحكام دون الآخرين: الحدُّ والنجاسةُ، وتحريمُ القليل. فإذا تقرر ذلك فللمتأخرين في الحشيشة قولان: هل هي من المسكرات، أو من المفسدات المرقدات؟ مع اتفاقهم على المنع مِن أكلها. واختار القرافي أنها من المفسدات المرقدات، وقال: لأني لم أَرَهُم يميلون إلى القتال والنصرة، بل عليهم الذلة والمسكنة، وربما عَرَضَ لهم البكاءُ. وكان شيخنا- رحمه الله تعالى- الشهير بأبي عبد الله المَنُوفي يختار أنها من المسكرات، قال: لأنا رأينا مَن يتعاطاها يبيع أموالَه لأجلِها، فلولا أن لهم فيه طرباً ما فَعَلوه، بدليل أنا لا نجد أحداً يبيع داره ليأكل بها سيكراناً، وهو واضح. وَالْحَيَوَانَاتُ طَاهِرَةٌ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ نَجَسٌ. فَقِيلَ: عَيْنُهُمَا. وَقِيلَ: سُؤْرُهُمَا لاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ ... المشهور أن جميعَ الحيوانات طاهرةٌ حتى الكلبُ والخنزيرُ خلافاً لسحنون وابن الماجشون، ثم اختُلف على قولهما هل المرادُ حقيقة الكلام؟ ويكون المراد عينُهما، أي ذاتُهما نجسةٌ كمذهب الشافعيِّ، أو مرادُهما المجازُ، وأطلق النجاسة عليهما والمراد سؤرهما، والأولُ أظهرُ؛ لأن الأصلَ في الكلام الحقيقةُ، وأيضاً فلا تجدهم يطلقون هذا اللفظِ على غيرهما مما يُشاركهما في نجاسة السؤرِ، وأطلق في الكلب ولم يقيده، وكذلك نقل في الإكمال فقال لما تكلم في الولوغ: وخالفَ الشافعيُّ في نجاسة الكلب، وحُكي هذا عن سحنون وعبد الملك. ونقل اللخمي عن سحنون التفرقةَ، وأنه قال: كلُّ كلب لم يُؤْذَنْ في اتخاذه نجسٌ، وكلُّ كلب أذن في اتخاذه فهو طاهرٌ. وحصل في المقدمات في سؤر الكلب أربعةُ أقوال: الأول: الطهارة، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة. والثاني: النجاسة. الثالثُ: الفرقُ بين الكلب المأذون في اتخاذه وغيرِ المأذون في اتخاذه. الرابع:

الفرق بين البدوي والحضري، وهو قول ابن الماجشون في رواية ابن أبي زيد عنه. انتهى. قال في الإكمال: والثلاثةُ الأُوَلُ لمالكٍ. وَالْمَيْتَاتُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ إِلا دَوَابَّ الْبَحْرِ، وَمَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ كَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ ... يعني: أن الميتات كلها نجسة إلا ميتتين: دوابّ البحر لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". رواه مالك. وما لا نفسَ له سائلٌ، والمراد بالنفسِ السائلةِ ما له دمٌ. وربما قالوا: وليس بمنقولٍ. فإن الذباب مما لا نفس له سائلة، وقد وُجد فيه دمٌ. وهذا على أحد القولين وسيأتيان. ونقل سند عن سحنون أن ميتة ما لا نفس له سائلة نجسةٌ، ولكن لا تُنَجِّسُ غيرَها، واستدل علماؤنا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، وإنه يؤخر الدواء". أخرجه البخاري. وفي غمسِه تعريضٌ لتلفه المستلزمِ تنجيسَ ما يُغمس فيه لو كان نجساً. عياضٌ: والزنبور بضم الزاي. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَا فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَمَاتَا فِيهِ لَمْ يَفْسُدْ الضمير في وقعا عائد على ميتة الماء، وما لا نفس له سائلة، وقوله: (لَمْ يَفْسُدْ) أي: لم ينجس. وهل يجوز استعماله؟ أما لو وقعتْ فيه دابةُ بحرٍ فإن لم يتغير فطهورٌ، وإلا فطاهر فيستعمل في العادات، وأما البريّ الذي لا نفس له سائلة فإن لم يتغير فطهورٌ، ولا يقال إنه مما خالطته ميتةٌ؛ فإن المذهبَ افتقارُ ما لا نفس له سائلة إلى الذكاة، كما قال ابن هارون؛ لأن المشهورَ طهارة هذه الميتة، ولو بنينا على الشاذِّ فغايتُه أن يكون ماءً خالطتْه نجاسةٌ ولم تغيره، وما كان كذلك فلا يُمنع استعماله، وإن تغير الماء لم يستعمل في العبادات اتفاقاً.

نقله في التنبيهات، قال: وهل ينجسُ الماءُ المتغيرُ بما لا نفس له سائلة؟ اختُلف فيه. ومذهب أشهب تنجيسُ ما خالطه بطبخٍ أو شبهه، وأنكره عليه سحنون، والصواب أنه لا ينجس ما لا نفس له سائلة، قال: وأما أكل الطعام إذا تحلل فيه أو طبخ فيه، فاختلف فيه أيضاً، والصوابُ أنه لا يؤكل إذا كان مختلطاً به وغالباً عليه، وإن تميز الطعامُ عنه أُكِلَ الطعامُ دُونَه، ولا يُؤكل الخَشاشُ على الصحيح من المذهب إلا [4/ب] بذكاةٍ، وإن كان بعضُ الشيوخ خرّج أكله بغيرِ ذكاة على الخلاف في الجرادِ، وإليه ذهب عبد الوهاب، وفيه نظر. انتهى كلام صاحب التنبيهات. وزعم أبو الحسن الصغير أن في كلام عياض تناقضاً؛ لأنه قال: لا ينجس بالموت. ثم قال في الطعام والشراب: والصوابُ أنه لا يؤكل إذا كان مختلطاً به. خليل: وليس بِبَيِّنٍ، وإنما يثبت ذلك إذا كان بينَ عَدمِ الأكل والنجاسةِ ملازمةٌ، فتأملْه. وقد نقلَ ابنُ بَشير الاتفاقَ على أنه لا يَنجس بالموت، وفيه نظرٌ لما تقدم مِن حكاية عياضٍ وسندٍ فيه الخلافَ. وَفِي الآدَمِيِّ قَوْلانِ أي: وفي نجاسة الآدمي الميتِ قولان: القول بالنجاسة لابن القاسم وابن شعبان، والقول بالطهارة لسحنون وابن القصار، واختاره عياض، وذكر عياض عن بعضِ المتأخرين التفرقةَ بتنجيس الكافر بخلاف المسلم، وقصَر بعضُهم الخلافَ على المسلم، قال: أما الكافر فلا يختلف في نجاسته. وأنكره بعضهم، وكذلك روى بعضهم أن ما أُبِينَ منه في حال الحياة لا يُخْتَلَفُ في نجاسته. ابن عبد السلام: وليس كذلك؛ قال: فمذهبُ المدونة في كتاب الرضاعِ النجاسةُ. وقال بعضُ العراقيين: ظاهرُ المذهب الطهارةُ. وهو الذي تعضده الآثارُ مِن تقبيله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بن مظعون، وكذلك صلاته على ابنِ بيضاء في المسجد، وكذلك

الأعيان الطاهرة والنجسة

الصحابةُ بعده صلوا على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في المسجد، وكلامُ عائشة رضي الله تعالى عنها الْمَشْهُورِ من أجل سعد بن أبي وقاص. انتهى. وهذا الخلافُ عندي لا يدخل فيه أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكيف بجسده صلى الله عليه وسلم. وَالْمَشْهُورِ أَنَّ السُّلْحُفَاةَ وَالسَّرَطَانَ والْضِّفْدِعَ وَنَحْوَهُ مِمَّا تَطُولُ حَيَاتُهُ فِي الْبَرِّ بَحْرِيٍّ كَغَيْرِهِ ...... قوله: (تَطُولُ حَيَاتُهُ) قال ابن القاسم في رواية عيسى: وإن كان يرعى في البر. وقوله: (بَحْرِيٍّ كَغَيْرِهِ) أي كغيره من سائر البحريات، فلا يفتقر إلى ذكاة، ولا ينجس بالموت، ومقابل الْمَشْهُورِ لابن نافع. وانظر هل هذا الخلاف خاصٌّ بما إذا مات بالبر أو هو جارٍ إذا ماتَ في البر والبحر. قال الجوهري: والسحلفاة - بفتح اللام - واحدةُ السلاحف. وحكى الرُّؤَاسِي سُلَحْفِيَة، والأفصح في الضفدع كسر الضاد والدال، وفيه لغة ثانية بفتح الدال ذكرهما الجوهري وغيره. وَالْمُذَكَّى الْمَاكُولُ طَاهِرٌ وَغَيْرُهُ سَيَأتِي وفي بعض النسخ "وغيره ميتة" يعني أن الحيوان المأكول إذا حصلت فيه ذكاة فهو طاهر، ولا شك في ذلك. وقوله: (وَغَيْرُهُ) يدخل فيه ثلاثة أقسام: المذكي غير المأكول كالسباعِ، وميتة المأكولِ، وميتة غيرهِ. وعلى نسخةِ (سَيَأتِي) لا إشكالَ، والنسخةُ الأخرى (ميتة) وهي الموجودة عند ابن عبد السلام- يَلْزَمُ عليها نجاسةُ جلود السباعِ، والمذهب خلافه، وعلى هذا فالصحيحُ نسخة (سَيَأتِي).

ابن عبد السلام بناءً على ما وقع في نسخته: وعدل عن أن يقول: (وغيره نجس) إلى (ميتة) لأن لفظَ الميتةِ لا يدلّ على نجاسةِ الشعورِ كما هو المذهب، ولو قال: (نجس) لفُهِمَ منه نجاسةُ الشعور. وَمَا أُبِينَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ مِنَ الشَّعَرِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ طَاهِرٌ، وَقِيلَ: إِلا مِنَ الْخِنْزِيرِ، وَقِيلَ: وَالْكَلْبُ .... الضمير في (مِنْهُ) عائد على الحيوان المفهوم من السياق، وقد وقع في بعض النسخ ظاهرًا غيرَ مضمر، وحاصل ما ذكره ثلاثة أقوال: الْمَشْهُورِ طهارةُ جميع ما ذكره. الثاني: استثناءُ شعر الخنزير. الثالثُ: استثناء شعر الخنزير والكلب. والمراد بالشعر الطاهر ما جُزَّ، وأما ما نُتف، فهو غيرُ طاهر لِمَا تَعَلَّق به مِن أجزاءِ الميتة، نص عليه ابن المواز. وَالْقَرْنُ وَالْعَظْمُ وَالظَّلْفُ وَالسِّنُّ نَجِسٌ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: طَاهِرٌ. وَقِيلَ بالْفَرْقِ بَيْنَ طَرَفِهَا وَأَصْلِهَا. وَكَذَلِكَ نَابُ الْفِيلِ: وَقِيلَ: إِنْ صُلِقَ طَهُرَ والقرنُ والعظمُ معلومان، والظلفُ للبقرة والشاة والظبي، والظفر للبير والإوز والدجاج والنعام ونحوها، يعني أن هذه الأشياء الأربعة نجسة من الحيوان الميت على الْمَشْهُورِ لقوله تعالى: {يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 87]. فإن قيل: هو على حذف مضاف. أي: أصحاب العظام، قيل: الإضمارُ على خلاف الأصل. واعتُرض بأن الإحياء في الآخرة، وأما في الدنيا الإنشاء، وأجيب بالإجماع على أن النشأة الثانية كالأولى، وإنما غاير بين اللفظين في الآية تنبيهًا على أن القادرَ على الأصعب قادرُ على الأهون. ابن عبد السلام: انظر تحقيقَ هذا الإجماعِ، فقد جاء أن أهل َ الجنة طولُ أحدهم ستون ذراعًا، وأن الكافر يعظم جسمه في جهنم حتى يكون كأُحُدٍ، ولا مانع من أن يحيي الله تعالى منه ما كان ميتًا في الدنيا تكميلاً لنعيمه أو عذابه. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن زيادة

أهل الجنة بعد دخولهم الجنة، وذلك لا ينافي أن يكونوا في المحضر على صورتهم في الدنيا، وكذلك القول في أهل النار. انتهى. وقال ابن وهب: الجميعُ طاهرٌ بناءً على أن الحياة لا تحله كالشعر، وقيل بطهارة طرفِ القونِ دون أصلِه. وقوله: (وِكِذَلِكَ نَابُ الْفِيلِ) ففيه الثلاثة، وكأنه إنما أفره لاختصاصه بالطهارة بالسلق، وإلا فهو قرن، وليس القول خاصًا به بل هو عامّ، حكى الباجي والتلمساني عن ابن وهب أنه إذا سلقت عظامُ الميتة جاز بيعُها، وكأنه يرى السلقَ هنا كالدباغ في الجلد. وما ذكره المصنفُ في نابِ الفيل مِن أنه نجس - هو كقول ابن بشير: الْمَشْهُورِ أنه لا يُستعمل ولا يُتَّجَرُ فيه. وفي المدونة: وكره الادَّهان في ناب الفيل. اللهم إلا أن تكون الكراهةُ محمولةً على التحريمِ. [5/ أ] وفي الرسالة: وكُرِه الانتفاعُ بأنيابِ الفيلِ، وقد اختلف في ذلك. فرع: فإذا ذُكِّيَ الفيل فقال أبو بكر الأبهري: يُنتفع بجلده وعظمه مِن غيرِ دبغٍ كجلود السباع وعظامها. وَالرِّيشُ شَبِيهُ الشَّعَرِ كَالشَّعَرِ، وَشَبِيهُ الْعَظْمِ كَالْعَظْمِ، وَمَا بَعُدَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ والريش ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فشبيهُ العظم حكمُه حكمُ العظم. قال ابن شاس: حكمُ الريش الطهارةُ في شبيه الشعر، وأما ما فيه مِن شبه العظم فما أصله الدم والرطوبة- كالعظم، وما بَعْدَه فعلَى القولين. وشبيهُ الشعر هو الزُّغْبُ المكتنفُ للقَصَبَةِ. وقوله: (وَمَا بَعُدَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ) أي: المتقدمَين في أطراف القرون.

وَالدَّمْعُ وَالْعَرَقُ، وَاللُّعَابُ وَالْمُخَاطُ مِنَ الْحَيِّ طَاهِرٌ أي: كل ما لا مَقَرَّ له يَسْتَحِيلُ فيه. وَالْقَيْءُ الْمُتَغَيِّرُ عَنْ حَالِ الطَّعَامِ نَجِسٌ. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ شَابَهَ أحَدَ أَوْصَافِ الْعَذِرَةِ يعني أن القيءَ على ثلاثةِ أقسام: إن كان باقيًا على هيئة الطعام لم يَحُلْ فهو طاهرٌ اتفاقًا. ابن عبد السلام: على أنه قلَّ أن يخلو مِن الأخلاطِ عادةً المحكومِ لها بالنجاسة. وحكى القرافي عن سند: إن المعِدَةَ عندنا طاهرةٌ لعِلَّةِ الحياةِ، والبلغمُ والصفراءُ، ومرائرُ ما يؤكل لحمه طاهرةٌ، والسوداءُ والدمُ نجسان. وهكذا نقل في قواعده في الفرق الرابع والثمانين أن السوداءَ والدمَ عند المالكية وغيرهم نجسان، والبلغمُ والصفراءُ طاهران من الآدمي وغيرِه، وإن شَابَهَ أحدَ أوصاف العَذِرَةِ فهو نجسٌ اتفاقًا، وإن لم يشابِه فظاهرُ المدونة أنه نجسٌ، وخالف في ذلك اللخمي، قاله ابن عطاء الله وابن هارون. وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ نَجِسٌ، وَغَيْرُهُ طَاهِرٌ. وَقِيلَ: قَوْلانِ كَأَكْلِهِ اعلم أن فضلة الحيوانات على قسمين: قسم منه لا مقر له يستقر به كالدمع، وهو محكوم له بالطهارة وقد تقدم. وقسم له مقر يَستحيل فيه، وهو على قسمين: قسم يستحيل إلى صلاحٍ كاللبن والبيض، وسيأتي حكمهما. وقسم يستحيل إلى فسادٍ كالدم والعذرة. أما الدم فالمسفوح - أي الجاري - نجس إجماعًا، وغيرُ المسفوح - كالجاري في العروق - نقل المصنف فيه طريقتين: الأولى: أنه طاهر بلا خلاف. والثانية: أن فيه قولين: أي قول بالطهارة، وقول بالنجاسة، وهذه طريقة ابن شاس. وأما الأُولَى فمل أَرَها لغيرِ المصنف؛ أعني الحكمَ بطهارته فقط لوجودِ الخلافِ، نعم القولُ بنجاستِه شاذٌّ، والْمَشْهُورِ الطهارة لقول عائشة رضي الله عنها: لو حُرِّمَ غيرُ المسفوحِ لتتبع الناس ما في العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم على عهد رسوال الله صلى الله عليه وسلم والبُرْمَةُ تعلوها الصُّفرةُ.

وقوله: (كَأَكْلِهِ) أي في الأكل أيضاً الطريقان، وأفاد بالتشبيه الحكمَ، وقد يفعل المصنفُ مثل هذا في كتابه، أي يُشبه بشيء لإفادة الحكم وإن لم يتقدم له ذِكْرٌ، كما قال: ويسر كالإمام والمتفرد وسيأتي. والمِسْكُ وفَارَتُه طاهران بإجماع الأُمة، نقله الباجي، لكن إنما حكاه المازري عن الجمهور، وحكى عن طائفة قليلة أنهم يقولون بالنجاسة. قاله في أول كتاب البيوع. واعلمْ أنَّ الطريقَ عبارةٌ عن شيخ أو شيوخ يَرون أن المذهب كله على ما نقلوه، فالطرقُ عبارةٌ عن اختلافِ الشيوخِ في كيفيةِ نقلِ المذهبِ، والأوْلَى الجمعُ بين الطرق ما أمكن، والطريقةُ التي فيها زيادةٌ - راجحةٌ على غيرها؛ لأن الجميعَ ثقاتٌ، وحاصلُ دعوى النافي شهادةُ نفي. وَدَمُ السَّمَكِ مِثلُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: كسائر الدماء، مسفوحُه نجسٌ، وغيرُ مسفوحِه طاهرٌ، ومقابلُ الْمَشْهُورِ أنه طاهر مطلقاً، وهو قول القابسي، واختاره ابن العربي، قال: لأنه لو كان نجسًا لشرعتْ ذكاته. وجوابه منعُ تعليل الذكاة بما ذكره؛ لاحتمال مشروعيتها لإزهاق النفس بسرعة. وكأن المصنف إنما ذكر هذا الفرغ لإفادةِ الشاذِّ. وَفِي دَمِ الذُّبَابِ وَالْقُرَادِ قَوْلانِ. وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ نَجِسٌ ظاهرُ قوله في المدونة: الدم كله سواء وأنه لا يُعفى عنه. والقول الآخر أنه مَعْفُوٌّ عنه، ولا خالف في نجاسةِ القيحِ والصديد، نقله ابن راشد. فرع: ألحق ابنُ القصار البرغوثَ بما له نفسٌ سائلةٌ لوجود الدم فيه، وألحقه سحنون بما لا نفس له سائلةً، ومنشأُ الخلافِ النظرُ إلى أصل الدم أو طُرُوِّه، قاله المازري. وفي الطراز:

إذا مات البرغوث أو القملة في الطعام - ألحقه ابنُ القصار بما له نفس سائلة، وخالفه سحنون ابن عبد البر، هذا إذا لم يكن فيهما دمٌ، فإن كان فيهما دمٌ وافق ابنُ عبد البر ابنَ القصار في التنجيس. وأكثرُ أصحابنا يقولون: لا يُؤكل طعامٌ مات فيه أحدُهما؛ لأن عَيْشَهما مِن دمِ الحيوان. ومنهم مَن قضَى بنجاسة القملة لكونها مِن دم الإنسان بخلافِ البرغوثِ فإنه مِن التراب، ولأنه وَثَّابٌ يعسر الاحترازُ منه. فتحصل لنا فيهما أربعة أقوال. وذكر ابن عبد السلام في باب الصلاة أن الْمَشْهُورِ في القملة أنها مما لا نفس له سائلة. وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ مِنَ الآدَمِيِّ وَالْمُحَرَّمِ الأَكْلِ نَجِسٌ، وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي يَصِلُ إِلَى النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ وَنَحْوُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ ......... يعني: أن البول والعذرة من الآدمي [5/ ب] مطلقاً ذكرًا كان أو أنثى صغيرًا أو كبيرًا نجسان، ويستثنى من ذلك الأنبياء صلوات الله عليهم فإن الظاهر طهارة ما يخرج منهم لإقراره عليه الصلاة والسلام شاربةَ بولِه. وقوله: (وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي يَصِلُ إِلَى النَّجَاسَةِ) أي: فكذلك ورثُ المباح الذي يأكل النجاسة وبولُه، وهذا مذهب المدونة. وحكى ابن رشد في لبنِه وعرقِه وروثِه أربعةَ أقوال: أحدها: أن ذلك كله طاهر، وهو قول أشهب. الثاني: أن ذلك كله نجس، وهو قول سحنون. الثالث: أن الألبان طاهرة، والأعراق والأبوال نجسة. الرابع: أن الأبوال نجسة، والألبان والأعراق طاهرة. وقوله: (وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ) المراد بالدواب الحمير، انظر هل أراد بنحوها البغال فقط، أو مع الخيل؟ ويعضد هذا الثاني قوله في المدونة: والخيل والبغال والحمير لا تشرب ألبانها، ولا تؤكل لحومها.

وَقِيلَ: إِلا بَوْلَ مَنْ لم يَاكُلُ الطَّعَامَ مِنَ الآدَمِيِّ. وَقِيلَ: إِلا مِنَ الذُّكُورِ هذان القولان راجعان إلى أصل المسألة، يعني أن في بول الآدمي ثلاثةَ أقوالٍ: الْمَشْهُورِ النجاسةُ، والثاني: طهارةُ بول من لا يأكل الطعام، رواه ابن شعبان والوليد بن مسلم عن مالك. والطعام يحتمل أن يريد به لبن أمه، ويحتمل أن يريد به غير لبن أمه؛ لأنه الطعام عرفًا، والحديث الصحيح هو أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بصبي صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. قال الباجي وغيره: يحتمل الوجهين؛ لأنهم كانوا إذا وُلِدَ لهم مولودٌ أتوا به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليدعو له، ويتفلَ في فِيهِ لكون ذلك أولَ شيءٍ يَدخل في جوفه. ويؤخذ من كلامه في الاستذكار أن المرادَ بالطعامِ الطعامُ المعتاد، فإنه قال: أجمعوا على أن بولَ كلِّ صبي يأكلُ الطعامَ نجسٌ، واختلفوا في بول الصبي والصبية اللذين يرضعان ولا يأكلان الطعام. ثم ذكر الخلافَ، واقتصر ابنُ بطال على أن المراد بالطعام اللبن. والقول الثالث لابن وهب أنه يغسل بول الأنثى، وينضح بول الغلام، كذا نقله في الإكمالِ وكذا نقله بعض من تكلم على التهذيب، ولم يتحقق ابنُ عبد السلام نضحَ بول الغلام عن ابن وهب، وهذا الخلافُ إنما هو في بوله، وأما عذرتُه فنجسةٌ باتفاق. وَطَاهِرٌ مِنَ الْمُبَاحِ. وَمَكْرُوهٌ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقِيلَ: نَجِسٌ أي: البولُ والعذرةُ من مباح الأكل طاهران؛ لطوافه صلى الله عليه وسلم بالبعير، ولتجويزه صلى الله عليه وسلم الصلاة في مرابض الغنم، رواه مسلم. ومقتضى كلام المصنف أن الْمَشْهُورِ في بول المكروه أنه مكروهٌ لتصديره به، وعطفه عليه بقيل. وقال ابن عطاء الله: هذا مذهبُ العراقيين. وكذلك قال اللخمي. فالْمَشْهُورِ أن ذلك نجس، وهو ظاهر المدونة، ووجهه أن مقتضى القياس أن تكون الأرواثُ والأبوالُ

نجسةً مِن كل حيوانٍ، كما قال المخالفُ لما فيه مِن الاستقذار، وخرج بدليلٍ ما يؤكل لحمُه، فبقيَ ما عداه على الأصلِ. انتهى. وكذا ذكر ابنُ عبد السلام أن الْمَشْهُورِ النجاسةُ، وانظرْ هل يَتخرج على قولِ مَنْ قال بالنجاسةِ مِن المكروهِ قولٌ بالكراهةِ في المباح. وَفِيهَا: وَيُغْسَلُ مَا أَصَابَ بَوْلُ الْفَارَةِ فهذه المسألةُ لاحتمالها لكلِّ مِن القولين، أو للاستشهادِ لنجاسةِ بولِ المكروه، إذ الفأرةُ مكروهةٌ. وظاهر قوله: (َيُغْسَلُ) الوجوب. ابنُ حبيب: كره مالكٌ بولَ الفأرة مِن غيرِ تحريمٍ، ونصَّ سند على أن بول الفأرة مكروه. وحكى ابنُ عبد السلام في باب الذبائح وغيرِه في الفأرة ثلاثة أقوال: بالتحريم، والإباحة، والكراهة. ورأيت في مجهول التهذيب أن الْمَشْهُورِ التحريمُ، ولا ينبغي أن يؤتى بهذه المسألة هنا؛ لأنه تقدم أن بولَ المباح الذي يصل إلى النجاسة نجسٌ، فما بالُك ببول المكروهِ والمحرمِ المحكومِ بنجاستهما وإن لم يصلا إلى النجاسة. ومقتضى ما رواه ابن القاسم في العتبية نجاسةُ بول الفأرة، فإنه روى أنه مَن صلى ببول الفأرة يُعيد في الوقت. قال في النودار: وقال سحنون: لا يُعيد. وقد أجازت عائشة رضي الله عنها أكلها. وقال أبو بكر بن اللباد: إن كانت في موضع لا تصل إلى النجاسة فلا بأس ببولها. ومن الواضحة لابن حبيب: بولها وبول الوطواط وبعرُهما نجسٌ. انتهى كلامه في النودار. وقال سندٌ: قولُ ابن حبيب موافقٌ لما رواه ابن القاسم. وعلى هذا يُحمل قوله في الرواية: أعاد في الوقت. على الناسي، وأما العامد فيُعيد أبداً. وفي الوجيزِ لابن غلاب إلحاقُ الوطواط بالفأرة في البول واللحم، ولعله من هنا أخذه.

وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ نَجِسٌ قال ابنُ شاس: المذي نجسٌ بإجماع، وفي معناه الودي. ابن هارون بعد حكاية الإجماع: يحتمل أن يكون ذلك من الآدمي والمحرَّم، وأما المباح ففيه نظر، إن أجرينا ذلك مجرى بوله فيكون طاهرًا، وإن أجريناه مجرى المني فيختلف فيه على قولين كما سيأتي. والمذي بالذال المعجمة، وفيه لغتان: سكون الذال وتخفيف الياء، والثانية كسر الذال وتشديد الياء. والوذي أيضاً بالوجهين مثله. ويقال بالدال المهملة أيضاً. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ، فَقِيلَ: لأَصْلِهِ. وَقِيلَ: لِمَجْرَى الْبَوْلِ. [6/أ] وَعَلَيْهِمَا مَنِيُّ الْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ .... يعني: اختُلف في المني هل هو نجسٌ أو طاهرُ الأصلِ ولكنه تَنَجَّسَ لَمِمَرِّهِ على وضعِ البولِ؟ ويَنبني على القولين مَنِيُّ المباحِ، فعلى القولِ الأولِ يكون نجسًا، وعلى الثاني يكون طاهرًا، وكذلك المكروهُ. فإن قلت: ما فائدةُ نسبةِ هذه المسألةِ إلى المذهبِ؟ وهل ذلك إشارةٌ إلى خلافِ أو للتَّبَرِّي لإِشكالها كما يقول؟ قالوا: فالجواب: أنا لا نَعلم في المذهب خلافًا، ويحتمل أن يكون ذلك لإشكالِ مأخذِ المسألة، فإنه وإن اختلفت الآثار عن عائشة رضي الله عنها في غسلِها له وفركِها، فالغسلُ يكون لما هو أعمُّ مِن النجاسة، إذ يكون للنظافة، ولا إِشعارَ للأعمِّ بالأخصِّ. على أنه قد يقال: لا دلالةَ في منى نبينا صلى الله عليه وسلم لادِّعاءِ أنه مِنْهُ طاهرٌ، وإن كان مِن غَيْرِه نجسًا.

وينبغي أن يكون ما بَعْدَ الدَّفْعّةِ الأولى- على رأي مَن يقول بالنجاسة لمجرى البول - طاهرًا؛ لأن ما عدا الماء مِن المائعات قد يُزيل عينَ النجاسةِ ويُبقي حكمَها، ثم على مذهب الجمهور لا يَنْجُسُ ما لاقى محلَّ النجاسةِ، وإليه أشارَ ابنُ عبدِ السلام، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وَلَبَنُ الآدَمِيُّ وَالْمُبَاحِ طَاهِرٌ، وَمِنَ الْخِنْزِيرِ نَجِسٌ، وَمِنْ غَيْرِهمَا الطَّهَارَةُ وَالتَّبَعِيَّةُ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْمُحَرَّمِ .... أي: أن اللبن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ لا خلاف في طهارته، وهو لبنُ مباحِ الأكلِ، وجنسِ الآدميِّ امرأة كان أو رجلاً إذا دَرَّ، ولعل المصنف إنما قال: (الآدَمِيُّ) ولم يقل الآدمية ليندرج الذَّكَرُ في كلامِه. الثاني: لا خلافَ في نجاسته وهو لبنُ الخنزيرة، واختُلف فيما عدا ذلك كالسباعِ والأُتنِ، والكلابِ على ثلاثة أقوال: الأول: طهارةُ الجميعِ، لأنه قد استَحَال إلى صلاحٍ. الثاني: تبَعِيَّةُ اللبنِ لِلَّحْمِ، لأنه ناشئٌ عنه، فما حَرُم لحمُه فلبنُه نجسٌ، وما كُره لحمُه فلبنُه مكروهٌ، وهو ظاهرُ المذهب، قاله عياضٌ وغيره. الثالث: أنه أخفُّ مِن اللحم، فيُقال بكراهة لبن المحرَّم، والظاهر أنه يقول بالإباحة من مكروه اللحم. ونَقْلُ المصنفِ موافقٌ لِنَقْلِ ابنِ شاسٍ، وحكى ابنُ بَشير والقاضي عياض عن المذهبِ ثلاثةَ أقوالٍ في لبن ما لا يؤكل لحمه سوى الخنزير، الطهارةَ والنجاسةَ والكراهةَ. والضميرُ في (غَيْرِهِمَا) عائد على القسمين: أحدُهما: الآدمنيُّ والمباحُ الأكلِ، والثاني: الخنزيرُ، وفي بعض النسخ (غيرهم) فيَعُودُ على الثلاثةِ.

وَالْبَيْضُ طَاهِرٌ مطلقاً لأَنَّ الطَّيْرَ كُلَّهُ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى نَجَاسَةٍ قوله: (وَالْبَيْضُ) أي: من الطير؛ لقوله: (لأَنَّ الطَّيْرَ كُلَّهُ مُبَاحٌ) ومرادُه بالإطلاق سواءٌ أَكان مِن سباعِ الطير أو لا؟ وانظر - على القول بتحريم سباع الطير- هل يَحْرُمُ أكلُ بيضِه أم لا؟ وأما بيضُ الحشراتِ فأشار ابنُ بشير إلى أنه يُلحق بلحمِهما، وسيأتي بيانُ ذلك في كتاب الذبائحِ إِن شاءَ الله تعالى. وقوهل: (مَا لَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى نَجَاسَةٍ) أي: يَفْسُد ويَصير دمًا، وينبغي أن يكونَ اللبنُ كذلك - إذا استحال إلى الدم- أن يكون نجسًا. وَفِي لَبَنِ الْجَلاَّلَةِ وَبَيْضِهَا وَالْمَرْأَةِ الشَّارِبَةِ وَعَرَقِ السَّكْرَانِ وَشِبْهِهِ قَوْلانِ الذي اختاره المحققون كعبد الحق، والمازري، وابن يونس وغيرهم الطهارةُ. قال ابنُ رشد: وهو قولُ ابنِ القاسم في اللبنِ. والجلالةُ في اللغة هي البقرةُ التي تَستعمل النجاسةَ، والفقهاءُ يستعملونها في كل حيوانٍ مستعمِلٍ للنجاسةِ. والخلافُ في عرقِ السكرانِ في حالِ سكرِه، أو بعد صحوِهِ قريبًا، وأما لو طال العهدُ بالسُّكْرِ فلا خلافَ في طهارةِ عَرَقِه. وقوله: (وَشِبْهِهِ) كالنصراني. فرع: وكذلك اختُلف في الزرعِ إذا سُقِيَ بالماء النجسِ، والظهرُ الطهارةُ، وهو قول يحيى ابن عمر. وَهُمَا جَارِيَانِ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ تَغَيَّرَتْ أَعْرَاضُهَا كَرَمَادٍ الْمَيْتَةِ، وَمَا تحَجَّرَ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ وَشِبْهِهِ مِمَّا يَنْتَقِلُ قَرِيباً ..... كذا ذكر ابن شاس وابن بشير. وذكر المازري أن رماد الميتة والعذرة وما في معنى ذلك لا يَطْهُرُ عند الجمهور مِن الأئمة بخلافِ الخمر؛ لأنها معللة بمعنى، وهي الشدة

المطْرِبَةُ، فإذا ذهبتْ ذهب التحريمُ. قال: وقد تناع الناسُ في دخان النجاسة إذا أُحرقتْ، هل هو نجسٌ كرمادِها أو طاهر؛ لأنه بُخارٌ بخلافِ الرَّمَادِ؟ انتهى. ووقع في بعضِ النُّسَخِ خلطُ هذه المسألةِ بما تقدم، وهذه أَولى. سُؤْرُ مَا عَادَتُهُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ إِنْ رُئِيَتْ فِي أَفْوَاهِهَا نَجَاسَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تُرَ وَعَسُرَ الاحْتِرَازُ كَالْهِرِّ وَالْفَارَةِ فَمُغْتَفرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْسُرْ كَالطِّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَالدَّجَاجِ وَالإِوَزِّ الْمُخَلاَّةِ فَثَالِثُهَا الْمَشْهُورِ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ لاسْتِجَازَةِ طَرْحِ الْمَاءِ .... عياضٌ: سؤر الدواب وغيرها- مضموم الأول مهمل السين مهموز وقد يسهل- وهو بقيةُ شُربها، وقد يُقال أيضاً في بقية الطعام. انتهى. قال الجوهري: الفأر- مهموز- جمعُ فأرة. عياضٌ: الإِوَزُّ بكسر الهمزة وتشديد الزاي. وحاصلُه أن الحيوانَ المستعمِلَ للنجاسةِ له حالتان: حالةٌ تُرَى على فِيه النجاسةُ وقتَ شُربه، وهو مرادُه بقوله: (إِنْ رُئِيَتْ) وحالة لا تُرى، فأما الحالةُ الأُولى فإن تغيّر الماءُ حُكِمَ نجاستهِ، وإن [6/ب] لم يتغير فلا يخلو إما أن يكون قليلاً أو كثيرًا. أَجْرِه على ما تقدم. وأما الحالة الثانية: وهي التي لم تُر على فيه- وقت شربه- نجاسةٌ، فهو أيضاً إلى ينقسم إلى قسمين: إِنْ عَسُرَ الاحترازُ منه اغتُفِرَ للمشقةِ، وإن لم يَعْسُر فثلاثةُ أقوالٍ: الحملُ على النجاسة نظرًأ إلى الغالب، والحملُ على الطهارة نظرًا إلى الأصل، واختاره ابن رشد. والثالث: يُطرح الماءُ دُونَ الطعامِ؛ لأَنَّ الماءَ يُستجازُ طَرْحُه على الْمَشْهُورِ، وهو مذهبُ المدونة، قال فيها: قال مالك: وِنْ شَرِبَ مِن إناءٍ فيه ماءُ ما يأكلُ الجيفَ مِن الطَّيْرِ والسباعِ والدجاجِ والإوزِّ المخلاةِ وغيرِها- فلا يُتَوَضَّأُ به. قال ابن القاسم: ويُطْرَحُ ويتيمم مَنْ لم

يَجِدْ سِواه، ومَن تَوضأ وصلى - أَعَادَ في الوقت. وإذا شربتْ أو أكلتْ مِن طعامٍ فإنه يُطرح إذا تَيقنت أن في أفواهها وَقْتَ شربِها أذى، وما لم يُرَ ذلك فلا بأس به بخلافِ الماءِ لاستجازةِ طَرْحِه. وَسُؤْرُ الْكَافِر وَمَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَسُؤْرُ شَارِبِ الْخَمْرِ وَشِبْهِهِ ومِثْلُهِ مقتضى كلامِه أن في سؤرِ الكافرِ وسؤرِ شارب الخمر وشبهه- أي: كل مسكر- الثلاثةَ؛ لأن الضمير في (مِثْلُهِ) عائدٌ على ما يَسْتَعْمِلٌ النجاسةَ ويُمكن التحرزُ منه، وقد صَرَّحَ بإجراءِ الخلافِ ابنُ شاس وسندٌ وأبو الحسن الصغيرُ. وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ لمالكٍ في العتبية والمجموعة: لا يُتَوَضَّأُ بفَضْلِ وَضوء النصراني، ولا بأس بفَضْلِ شرابِه. كأنه رأى أنَّ ما يَجعل في فيه يَذهب إلى جَوفِه، ولا يَرجع إلى الإناء، بخلافِ ما أَدخل يدَه فيه. ومذهبُ المدونة مِن هذه الأقوال أنه لا يُتوضأ بسؤره، ولا بما أَدْخَل يدَه فيه كما تقدم. قال في البيان: وهو يحتمل ألا يتوضأ به مع وجودِ غيرِه، فإن توضأ به مع وجود غيرِه أعادَ في الوقت، وإن لم يجدْ غيرَه توضأ به على كلِّ حالٍ، والتأويلُ الأولُ أَوْلَى وأظهرُ. انتهى. وحاصلُه هل تَجنُّبُ الماءِ على الوجوب أو الاستحباب؟ وقد صرّح المازريُّ بهذين الاحتمالين فقال: وهل النهيُ عن استعمالِه على الاستحباب أو الوجوب؟ قولان قد بناهما على أَنَّ الغالبَ هل هو كالمحقَّقِ أم لا؟ وبالتأويل الثاني قال ابن حبيب. واعلم أنَّ محلَّ الخلافِ إنما هو إذا لم تُتَحَقَّقْ طهارةُ الفمِ واليدِ ولا نجاستُهما، بذلك صرح في البيان، وكذلك صرح غيره. قال في البيان: إن تيقنت طهارة يده وفيه- جاز استعمال سؤره وما أدخل يده فيه وإن وجد غيره، وإن تيقنت نجاستهما لم يجز استعمال

شيءٍ من ذلك وإن لم يجد غيره. وإنما الخلاف إذا لم يعلم طهارتهما من نجاستهما فقيل: إنهما يحملان على الطهارة. وقيل: يحملان على النجاسة. وقيل يحمل سؤره على الطهارة، وما أدخل يده فيه على النجاسة. وقيل في سؤره: إنه يكره، ولا يحمل لا على طهارةٍ ولا على نجاسةٍ، وهذا على رواية المصريين في الماء اليسير تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم تغير وصفًا من أوصافه. وأما على رواية المدنيين في أن الماء قل أو كثر لا تفسده النجاسة إلا أن تغير وصفًا من أوصافه، فسؤر الكافر، وما أدخل يده فيه- وإن أيقن بنجاسة يده- مكروه مع وجود غيره ابتداءً مراعاةً للخلاف، ووجب استعماله مع عدم سواه. فالذي يتحصل في سؤر النصراني وما أدخل يده فيه: إنه إن توضأ به وهو يجد غيره ففي ذلك ثلاثة أقوالٍ: أحدها: لا إعادة عليه لصلاته، ويُعيد وضوءه لما يستقبل. والثاني: أنه يُعيد وضوءه وصلاته في الوقت. والثالث: الفرق بين سؤره وما أدخل يده فيه، فيُعيد صلاته في الوقت إن توضأ بما أدخل يده فيه، ولا يُعيد إن توضأ بسؤره إلا وضوءه لما يستقبل: وأما إن لم يجد غيره، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يتوضأ به ولا يتيمم، فإن تيمم وتركه أعاد أبداً. والثاني: أنه يتيمم ويتركه، فإن توضأ به أعاد في الوقت خاصةً، وقيل: لا إعادة عليه. وقيل: يُعيد من ماء أدخل يده فيه، ولا يُعيد من سؤره. وبالله التوفيق. انتهى كلام صاحب البيان. والظاهرُ طهارةُ ذلك؛ لأن الله تعالى أباح لنا طعامَهم، ومِن لازِمِ طعامِهم خولُ أيديهم فيه، وشربُهم منه.

وَلا يُصَلَّي بِلِبَاسِهِمْ بِخِلافِ نَسْجِهمْ، وَلا بِثِيَابِ غَيْرِ الْمُصَلِّي بِخِلافِ لِبَاسِ رَاسِه، وَلا بمَا يُحَاذِي الْفَرْجَ مِنْ غَيْرِ الْعَالِمِ، بخِلافِ ثَوْبِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ ... وفي بعض النسخ: (بخلاف سؤر الجنب والحائض) والنسختان معناهما صحيح، لكن الأولى يساعدها سياق الكلام، وعلى نسخة (سؤر الجنب والحائض) فهو الاستثناء من قوله: (وسؤر الكافر) وكأنه - والله أعلم - أخرها؛ لأنه لو قدمها لتوهم أن قوله بعد ذلك (لا يُصَلَّي بِلِبَاسِهِمْ) عائد على الحائض والجنب. وما ذكره المصنف في لباس الكافر هو الْمَشْهُورِ، وأجاز ابن عبد الحكم أن يصلي فيما لبسه النصراني. [7/أ]. قال في البيان: ووجهه أنه حمله على الطهارة حتى يُتيقن فيه بالنجاسة، ومعنى ذلك عندي فيما لم يطل مغيبه عليه ولباسه؛ لأنه إذا طال مغيبه عليه ولباسه إياه- لم يصح أن يُحمل على الطهارة؛ لأن الظن يغلب على أنه لم يسلم من النجاسة، وقد اختلف إذا أسلم هل يُصلي في ثيابه قبل أن يغسلها؟ فعن مالكٍ في ذلك روايتان، قال: وإذا أيقن بطهارتها فالخلاف في وجوب غسلها يجري على الخلاف في طهارة عرق السكران والمخمور. وقوله: (وَلا يُصَلَّي بِلِبَاسِهِمْ) أي: لا يُصلى بلباس الكافر وشارب الخمر بخلاف نسجهما. قال في المدونة: مضى الصالحون على ذلك. أي على عدم الغسل؛ ولأنا لو أمرنا بغسله لأدى إلى الحرج والمشقة؛ ولأنهم يصونون ذلك لغلاء الثمن. وقوله: (وَلا بِثِيَابِ غَيْرِ الْمُصَلِّي) لعدم توقيه للنجاسة، ولا تصل غالبًا إلى رأسه.

وقوله: (وَلا بمَا يُحَاذِي الْفَرْجَ مِنْ غَيْرِ الْعَالِمِ) أي: القبل والدبر، يريد من المصلي؛ لأنه قل من يتقن أمر الاستبراء. وفهم من التقييد بما يحاذي الفرج الجواز فيما لا يحاذيه من المصلي. اللخمي وابن بشير: ويلحق بما يحاذي الفرج ما ينام فيه ولو من المصلي؛ لأن الغالب أن النجاسة فيه. والمراد بالعالم العالم بأمور الاستبراء، ولا يشترط أن يكون عالمًا بغيره، وكل من ولي أمرًا في الشريعة فإنما يُطلب منه العلمُ بذلك فقط. فرعان: الأول: من باع ثوبًا جديدًا وبه نجاسةٌ، ولم يُبين ذلك كان عيبًا فيه؛ لأن المشتري يَحِبُّ أَنْ يَنتفع به جديدًا. قاله اللخمي. سندٌ: وكذلك إن كان لبيسًا وينقص بالغسل كالعمامة والثوب الرفيع والخف، وإن كان لا ينقص من ثمنه فليس عيبًا. الثاني: قال في النوادر: وعلى من اشترى رداءً من السوق إن قدر أن يسأل عنه صاحبه فعل، وإلا فهو من غسله في سعةٍ. انتهى. وقال اللخمي: وأما ما لبسه المسلمُ فإن علم أن بائعه ممن يُصلي فلا بأس بالصلاة فيه، وإن كان ممن لا يصلي - فلا يصلي به حتى يغسله، وإن لم يعلم بائعه فينظر إلى الأشبه ممن يلبس مثل ذلك، فإن شك فالاحتياط بالغسل أفضلُ. انتهى. ونص سند على أن ما اشترى من مسلمٍ مجهولِ الحال ِ على السلامة، قال: وإن شُك فيه نُضح. انتهى. قال اللخمي بإثر كلامه المتقدم: وهذا في القمص وما أشبهها، وأما ما على الرأسِ فالأمرُ فيه أخف. قال: وتُحمل قُمُصُ النساءِ على غير الطهارة؛ لأن الكثيرَ منهن لا يُصلي.

وَفِي قَليلِ النَّجَاسَةِ فِي كَثِيرِ الطْعَامِ الْمَائِعِ قَوْلانِ أي: وفي تأثيرِ قليلِ النجاسةِ وعدمِ التأثير كالماءِ، وعلى التأثيرِ فرِّقَ بينه وبين الماء؛ لأن الماء َ له مزية التطهير للغير. الباجي: والْمَشْهُورِ التأثيرُ، وكلامُ ابنِ رشد في البيان يدل على عدم الخلاف، لأنه قال: لم يقل أحد بأن يسير النجاسة لا يُنجس الطعام الكثير إلا داود. وقد رُوي عن سليمان بن سالم الكندي من أصحاب سحنون أنه كان يقول: إذا وقعت القملة في الدقيق ولم تخرج في الغربال- لم يؤكل الخبز، وإن ماتت في شيءٍ جامدٍ طرحت كالفأرة. وكذلك قال غيره في البرغوث، وفرق بعضهم بينهما. وبالحملة فالخلافُ هنا على ما تقدم، وهو هل ينجسان بالموت أم لا؟ واستشكل في البيان تنجيس العجين إذا كان كثيرًا. قال: لأن القملة لا تنماع في جملة العجين، وإنما تختص بموضعها منه، فلا ينبغي أن يحرم الكثير منه، كمن يعلم أن له أختًا ببلدٍ من البُلدان لا يعلم عينَها، فإنه لا يَحْرُمُ أن يتزوج من نساء تلك البلدة بخلاف اختلاطها بعددٍ يسيرٍ. قال شيخُنا- رحمه الله تعالى: ولو فرق بين ما يَعسر الاحتراز منه- كروث الفأر- فيعفى عنه، وبين ما لا يعسر الاحتراز منه كبول ابن آدم فلا يُعفى عنه فينجسُ- لما بعد. ويفهم من قوله: (قَليلِ) أن النجاسة لو كانت كثيرةً أفسدت وإن كان الطعام كثيرًا. وَأَمَّا الْجَامِدُ كَالْعَسَلِ وَالسَّمْنِ الْجَامِدَيْنِ فَيَنْجُسُ مَا سَرَتْ فِيهِ خَاصَّةً قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، فَتُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا بِحَسَبِ طُولِ مُكْثِهِ وَقِصَرِهِ لما أخرجه البخاري أنه عليه الصلاة والسلام: سئل عن فأرةٍ ماتت في سمنٍ فقال: ((أَلْقُوها، وما حَوْلَها فَاطْرَحُوهُ، وكُلُوا سَمْنكُمْ)).

وقيد سحنونٌ هذه المسألةَ بما لم يَطُلْ مقامها فيه، وأما إن طال فإنه يُطرح كله. وذكره السمن والعسلَ مع كاف التشبيه لئلا يتوهم قصر الحكم على السمن كما ذهب إليه أهل الظاهر. وقوهل: (قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً) يقع في بعض النسخ بإضافة قليل وكثير إلى هاء الضمير، وفي بعضها بتاء التأنيث عوضًا عن الضمير، ومعناهما مُتَقَارِبٌ. وَفِي اسْتِعْمَالِ النَّجِسِ لِغَيْرِ الأَكْلِ كَالْوَقُودِ وَعَلَفِ النَّحْلِ وَالدَّوَابِّ قَوْلانِ، بِخِلاَفِ شَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْعَذِرَةِ عَلَى الأَشْهَرِ ..... أي: وفي جواز استعمال النجس لغير الأكل، وأما أكله فلا يجوز اتفاقًا، والوقود مقيد بغير المساجد، فأما المساجد فلا يجوز ذلك فيها اتفاقًا، والْمَشْهُورِ من القولين الجواز لمالكٍ، والشاذ لابن الماجشون. وقوله: (بِخِلاَفِ شَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْعَذِرَةِ عَلَى الأَشْهَرِ) أي: الأشهر في شحم الميتة أنه لا يجوز استعماله في طلاء السفن، ولا غيرها، ولكونه نجس الأصل فهو أقوى مما طرأت عليه النجاسة. وذكره للشحم تمثيلاً؛ لأن الخلاف في اللحم، ومقابل الأشهر يجوز كالمتنجس. وَفِي طَهَارةِ الزَّيْتِ النَّجِسِ وَنَحْوِه وَاللَّحْمِ يُطْبَخُ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَالزَّيْتُونِ يُمَلَّحُ بمَاءٍ نَجِسٍ، وَفِي الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسٍ [7/ب] غَوَّاصٍ كَالْخَمْرِ- قَوْلانِ قال ابن بشير: الْمَشْهُورِ في ذلك كله أنه لا يَطْهُرُ، وبَنَى الخلافَ على الخلافِ في شهادةٍ: هل يُمكنُ إزالةُ ما حَصَل مِن النجاسةِ أَوْ لا؟ ونحوُ الزيت كل دُهْنٍ، وكيفية تطهيره- على القول به- بأن يُؤخذ إناءٌ فيُوضَعُ فيه مِن الزيتِ ويُوضَعُ عليه ماءٌ أكثرُ منه، ويُثقب الإناء مِن أسفلَ ويَسُدُّ الإناء بيدِه أو

بغيرِها، ثم يُمْخَضُ الإناءُ، ثم يُفتحُ الثقبُ فينزلُ الماءُ ويبقَى الزيتُ، يَفعل هكذا مرةً بعد مرةٍ حتى يَنزلَ الماءُ صافيًا. وبهذا القولِ كان يُفْتِي ابنُ اللبادِ. وفي السُّليمانية قولُ ثالثٌ في اللحمِ، فقال: إِنْ طُبِخَ بماءٍ نجسٍ من أولِّ طبخه فلا يؤكل، وإن وقعت فيه النجاسة بعد طبخه أُكل. وكذلك الزيتون، قال فيه سحنون: إن ملح أولاً بنجس لم يطهر، وإن وقعت النجاسةُ فيه بعد طيبه غُسِلَ. وقوله: (وَفِي الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسٍ) تقديرُه وفي طهارةِ الفخارِ من نجسٍ مثل الخمرِ والبولِ والماءِ المتنجسِ. وفُهم من تقييد النجس بأن يكون غواصًا - في مسألة الخمر - أنه لو لم يكن غواصًا لم أثر. وَفِي نَجَاسَةِ الْبَيْضِ يُصْلَقُ مَعَ نَجِسِ- بَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ- قَوْلانِ الْمَشْهُورِ النجاسةُ. وَفِيهَا: وَإِنْ وَقَعَ الْخَشَاشُ فِي قِدْرٍ أُكِلَ مِنْهَا وَاسْتُشْكِلَ لأَكْلِهِ حَتَّى قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: سَقَطَ لا. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي وَلَمْ يَتَحَلَّلْ .... هذه المسالة وقعتْ في بعض النسخ، والمصنفُ يذكرها في بابِ الذبائحِ، وتصورُها ظاهرٌ، والإشكالُ إنما جاء من جهة أنه قال: يُؤكلُ. والمذهبُ افتقارُ ما لا نفس له سائله إلى الذكاة. ولم يستشكل المسألة للنجاسة؛ فإن المذهب أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت. وإلى هذا أشار بقوله: (وَاسْتُشْكِلَ لأَكْلِهِ) وأُجيب عنه بوجوهٍ ثلاثةٍ: الأول: لأبي عمران، أنه إنما كان (لا يؤكل) فسقط لفظ (لا) ثم صار الكلام: (يؤكل) فغيَّرها الناسخ بـ (أُكِلَ) واستُبْعِدَ؛ لأن الرواةَ متفقون على سقوطِها. وإلى بُْعِدها أشار بقوله: (حَتَّى).

الأواني

الثاني: أنه محمول على أنه لم يَتَحَلَّلْ، وهو أظهرُ الوجوه. الثالث: أنه محمولٌ على أنه يَسيرٌ والطعامُ كثيرٌ- كما تقدم في أحدِ القولين. والخشاش - بفتح الخاء وضمها وكسرها - صِغارُ الدَّوابِّ. الأَوَانِي مِنْ جِلْدِ الْمُذَكَّى الْمَاكُولِ طَاهِرَةٌ، ومِنْ غَيْرِهِ نَجِسَةٌ، وَفِيمَا دُبِغَ أَوْ ذُكِّيَ مِنْ غَيْرِهِ إِلا الْخِنْزِيرَ ثَالِثُها: الْمَشْهُورِ: الْمَيْتَةُ مُقَيَّدَةُ الطَّهَارَةِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ وَحْدَهُ، وَلا يُبَاعُ وَلا يُصَلَّى بِهِ وَلا عَلَيْهِ. وَالْمُذَكَّى طَاهِرٌ مطلقاً وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ ..... يعني: إِنْ حَصَلَ القيدان وهما: أَنْ يكون جِلْدًا مُذَكًّى، أي حَصَلَتْ فيه الذكاةُ، وأَنْ يكون مأكولَ اللحم، أي: مباحَ الأكل- جاز استعمالهُ اتفاقًا. وإِنِ انْتَفَى أَحَدُ القَيْدَيْنِ فَفِيهِ خلافٌ، وإليه أشارَ بقوله: (وَفِيمَا دُبِغَ) أي مطلقاً، سواءٌ أَكانَ مِن ميتةِ المذكى المأكولِ أو غيرهِ. وقوله: (أَوْ ذُكِّيَ مِنْ غَيْرِهِ) أي مِن غيرِ المأكولِ، وهو كلُّ ما ذُكِّيَ لِقَصْدِ جِلْدِه ولم يَكُنْ مباحًا كالسباعِ والخيلِ، وأُخرج من ذلك الخنزيرُ فإنه لا يَطْهُرُ مطلقاً ذُكِّيَ أم لا، دُبغَ أم لا. وحكى اللخميُّ وابنُ رشد في البيان والزناتي قولاً بأنَّه يَطْهُرُ بالدبغِ. وقوله: (ثَالِثُهَا) أي في المسألتين ثلاثةُ أقوالٍ: بالطهارةِ المطلقةِ فيهما، وقولٌ بالنجاسة فيهما، والْمَشْهُورِ هذا، وهو قولُ ابن راشد. وقال ابن هارون: في المسألة قولان: قول بأنه يَطهر طهارةً مقيدة فيهما، أي فيما دُبغ أو ذُكِّيَ، وهو قولُ ابن حبيب. والثاني لابن وهب: أنه يَطهر طهارةً مُطلقة فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّما إِهَابٍ دُبغَ فقَدْ طَهُرَ)). وبناه على أنَّ الذكاةَ تَتَبَعَّضُ، والْمَشْهُورِ الفرقُ، فالميتةُ إذا دُبغتْ

تطهرُ طهارةً مقيدةً، أي: تُستعمل في اليابسات وفي الماء وَحْدَه مِن دون سائرِ المائعاتِ. والمذكَّى مِن غيرِ المأكولِ طاهرٌ طهارةً مطلقةً، وسيأتي التنبيه على ما في كلٍّ من التَّمْشِيَّتَيْنِ. تنبيهات: الأول: وقع في نسخة ابن عبد السلام: (وفيما دُبغ) زيادةُ (منه) وفسَّرَها، فقال: أي مِن ميتة المأكول. وليس بجَيِّدٍ؛ لإيهامِ ذلك أنَّ الخلافَ في الطهارةِ بالدبغِ خاصٌّ بميتةِ المأكولِ، وليس كذلك، بل الخلافُ في الطهارة عامٌّ في ميتة المأكولِ وغيرهِ، نقل ذلك ابنُ شاسٍ وغيرهُ، وممن نقل ذلك صاحبُ التلقين، قال: وجلودُ الميتةِ كلُّها نجسةٌ لا تطهر بالدبغِ، غير أنها يجوز استعمالها في اليابسات. المازري: وإنما أكد الميتة بقوله: كلها طاهر. فأما الأوزاعيُّ فذهبَ إلى أَنه إنما يَطهر بالدبغ جِلْدُ ما يُؤكل لحمُه دون ما لا يؤكل. وحكى في البيان قولاً بطهارة مدبوغ ميتة الأنعام خاصةً. ورواه أشهبُ عن مالك، ولفظُ الروايةِ: سئل مالكٌ: أَترى ما دُبغَ من جلود الدوابِّ طاهرًا؟ قال: إنما يقال هذا في جلود الأنعام، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون جلده طاهرًا إذا دُبغ، وهو مما لا ذكاة فيه ولا يؤكل؟ اللهم إلا أن يقال: هذا الإيهامُ يرتفع بالاستثناء، وهو قوله: (إلا الخنزير) فإنه إنما أخرج الخنزير فقط. التنبيه الثاني: ليست الطهارةُ بالذكاة خاصةً بالجلد. قال في الجواهر في باب الذبائح: وتَطهر بالذكاة جميعُ أجزائه من لحمه وعظمه وجلده، سواء قلنا يُؤكل أو لا يؤكل، كالسباع والكلاب ولحمر والبغال إذا ذكيت طهرت على كلتا الروايتين في إباحة أكلها ومَنْعِه، وقال ابنُ حبيب: لا تطهر بالذبح، بل تصير مَيْتَةً. انتهى. وكلامُ ابن شاس يَدلُ على أن الذكاةَ تعمل في مُحَرَّمِ الأكل، وهي إحدى الطريقتين اللتين يَذكرهما المصنف في باب الصيد، والطريقة الأخرى- وهي طريقةُ أكثرِ الشيوخِ- أن الذكاةَ لا تُؤَثِّر [8/أ] في مكروهِ الأكلِ.

قال الباجي: وأما جِلْدُ الحمير والبغال فقال ابن القاسم: لا يصلَّى بشيء منها ولو ذُبحَ ودُبِغَ. قال مالك: أكره ذكاتها للذريعة إلى أكلِ لحومِها. وهذا يقتضي أنها عنده على الكراهة، وأما على روايةِ التحريمِ فوجب أن يكون جلدُها ممنوعاً قولاً واحداً. انتهى. وقال سندٌ: الكلام في جلودِ الحُمُرِ يَتَخَرَّجُ على أحكامِ لحومِها، وفيها قولان: التحريمُ، والكراهةُ. قال: فإن قلنا بالتحريمِ كانت كالخنزير، فلا تؤثر الذكاةُ في جلودِها. وهو وجهُ قولِه: لا يُصَلَّى على جلدِ حمارٍ وإن ذُكِّي ودُبغَ. وإِنْ قلنا: إِنَّ لحومَها مكروهةٌ- كانت كالسباعِ وجلودِها. وهو مقتضى قول مالك: أكره ذكاتها للذريعة إلى أكل لحومها. إلا أن كراهتَها فوقَ كراهةِ السباعِ. وقال ابن عطاء الله: الذكاةُ تُؤَثِّرُ في كلِّ ما ليس أكلُه حراماً، فتؤثر في جلود السباع إِذْ ليست عندنا محرمةً. وكذلك ظاهرُ كلامِ التونسي وابن عبد البر وابن يونس، والقاضي غياضِ: أَنَّ الذكاة لا تؤثر في محرمِ الأكل، وعلى هذا يُقَدَّرُ قوله: (وَالْمُذَكَّى طَاهِرٌ مطلقاً) بما يُكره أكله، ونَقص مِن الْمَشْهُورِ أَنَّ مالكاً- رحمه الله تعالى- لا يَستعمله في خاصَّةِ نَفْسِه، ولم يحرمْه على غيرِه. وقوله: (وَلا يُبَاعُ) سيأتي ذلك في البيوع إن شاء الله. واختلفتْ عبارةُ أهل المذهب في جلدِ الميتةِ المدبوغِ، فقال أكثرُهم كالمصنف: إنه يَطهر طهارةً مطلقةً. وقال عبد الوهاب وصاحب البيان: إنه نجس، ولكن رُخِّصَ في استعماله في اليابساتِ والماءِ، ولذلك لا يُصَلَّى عليه. وهو خلاف لفظي. وقوله: (وَالْمُذَكَّى طَاهِرٌ مطلقاً) وهو مِن تمام الْمَشْهُورِ، وذِكْرُه الأواني تمثيلٌ، وإلا فلا فَرْقَ بين الأواني وغيرِها.

وفُهِمَ من قوله: (دُبِغَ) أَنَّ جِلْدَ الميتة لو لم يدبغ لم يَجُزِ الانتفاعُ به بوجهٍ. ابن هارون: وهو المذهب. قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: لا يُفْتَرَشُ ولا يُطْحَنُ عليه حتى يُدْبَغَ. وروى ابن القاسم عن مالك في العتبية: تَرْكُ الانتفاعِ بها أحبُّ إليَّ. وهذا قولٌ بالاستحباب. انتهى. التنبية الثالث: ما قاله ابنُ هارون بأن الأقوالَ الثلاثةَ: الطهارةُ المقيدةُ، والطهارةُ المطلقةُ، والتفصيلُ- أَقْرَبُ إلى قاعدة المصنف؛ لأنه قاعدتَه أَنْ يَجعل صَدْرَ القولِ الثالثِ دليلاً على القول الأول، وعَجُزَه دليلاً على الثاني، لكن الأقرب ما قاله ابن راشد من الأقوال الثلاثة: الطهارة المطلقة، والطهارة المقيدة؛ لأني لم أَرَ من قال: إن جلدَ المذكَّى غيرِ المأكولِ يَطهر طهارةً مُقيدةً بعدَ البحثِ عنه، والذي رأيتُه في مدبوغِ الميته: الْمَشْهُورِ وهو أنه يَطهر طهارةً مقيدةً. وقولُ ابنِ وهب وغيرِه: إنه يَطهر طهارة مطلقة. وهو مقتضى ما نقله الباجي عن ابن حبيبِ لأنه نَقَلَ عنه أنه تُعْمَلُ منه قِرْبَةُ اللَّبَنِ وزِقُّ الزيتِ، ونقل عنه غيرُه ما يَقتضي النجاسة، فإِنه نقل عنه أنه إذا بيعَ جِلْدُ الميتةِ المدبوغُ أن ذلك البيع يُفسخ، إلا أن يَفُوتَ، فيُمْضَى بالثَّمَنِ للاختلاف فيه. والذي رأيته في جلود السباع الْمَشْهُورِ، وهو أنها تطهر طهارة مطلقة. وحكى ابن عبد البر عن أشهب قولاً بنجاسة ما ذكِّي من السباع. وحكى الباجي عن ابن حبيب التفرقةَ فالسباعُ العاديَةُ لا يُصَلَّى عليها، ولا تُباع جلودُها، ولا تُلبس، ويُنتفع بها فيما سوى ذلك. وغيرُ العادية كالهر والثعلب يَجوز بيعُها والصلاةُ عليها. وعلى هذا فيتحمل في كل مسألة ثلاثة أقوال، ويكون الصحيح تمشية ابن راشد؛ لأن القولَ بالنجاسةِ فيهما منقولٌ، وليس القول بالطهارة المقيدةِ فيهما منقولاً، والله أعلم. انتهى.

وَفِيهَا: وَلا يُصَلَّى عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ وَإِنْ ذُكَّيَ. وَتَوَقَّفَ عَنِ الْجَوَابِ فِي الْكَيْمَخْت ذكر ما قاله في المدونة في جلد الحمار؛ لأن ظاهرَه مخالِفٌ للمشهور، إذ هو جلدُ مذكَّى غيرِ مأكولٍ، وقلنا: ظاهرهُ جوازُ حملِه على الكراهة. والكيمخت: لفظٌ فارسيٌّ مُعَرَّبٌ. قال التونسي: هو جلد الحمار. وقال ابن عطاء الله: الكيمخت لا يكون إلا من جلد الحمر والبغال المدبوغِ. والقياسُ يقتضى أنه نجسٌ لا سيما إذا وُجِدَ ذلك مِن جلد حمار ميتٍ، ولكن يُعارضه عملُ السلف. قال علي عن مالك: ما زال الناس يُصَلُّون بالسيوف، وفيها الكيمخت. فلما تَعارض عنده القياسُ والعملُ- رأى أنَّ الأحوطَ تركُه. ثم قال: فرعٌ: قال محمدٌ: لا يُصَلَّى على جلد الفرس ولو ذُكِّيَ. فأَلْحَقَه بجلد الحمار. وقال ابن حبيب: لا بأسَ ببيعِه والصلاةِ عليه. وهو الأظهرُ، لأنها أخف. انتهى كلام ابن عطاء الله. واعلم أنَّ في كلام المصنف نقصاً وإيهاماً، أما النقصُ فلأنه قال في المدونة بعد التوقف: ورأيتُ تَرْكَهُ أَحَبُّ إليَّ. وأما الإيهامُ فلأنَّ عطفَه التوقف على قوله: (وَلا يُصَلَّى عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ) يُوهم أن الكيمخت غيرُ جلد الحمار، وليس كذلك على ما قاله التونسي وابن عطاء الله. وكأنه تَبعَ في ذلك لفظَ المدونة، لكن هذا الإيهام يندفع على ما فَسَّرَ به عياضٌ الكيمخت، فإنه قال: وهو جلدُ الفرس وشبهِه غيرِ المذكَّى. وحكى ابن يونس في الكيمخت ثلاثة أقوال: أحدها: قوله في المدونة: وتركه أحب إليَّ. فيحتمل أن مَن صلَّى عليه يُعيد في الوقت، أولا إعادةَ عليه. والثاني: الجوازُ لمالك في العتبية، قال: وما زال الناس يُصَلُّونَ بالسيوف وفيها الكَيْمَخْتُ.

الثالث: الجوازُ في السيوف خاصَّةً، قاله ابنُ المواز، وابنُ حبيب لحاجة الناس إلى ذلك. زاد ابن حبيب: ومَن صلى به في غير السيف يسيراً كان أو كثيراً أَعَادَ أبداً. خليل: وفي أَخْذِ هذه الثلاثةِ الأقوالِ مِن كلامِه نظرٌ. والكيمخت بفتح الكاف وسكون الياء وفتح الميم. وَمِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اتَّفَاقاً وَاقْتِنَاؤُهُمَا عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الْبَاجِيُّ: لَوْ لَمْ يَجُزْ لَفُسِخَ بَيْعُهُمَا. وَأُنْكِرَ لانْتِفَاءِ ضَمَانِ صَوْغِهَا وَتَحْرِيمِ الاسْتِئْجَارِ عَلَيْهَا، وَصَحَّ بَيْعُهَا لأَنَّ عَيْنَهَا تُمْلَكُ إِجْمَاعاً ....... أي: والأواني من الذهب والفضة محرمةُ الاستعمال عامَّةً عند الجمهور، خلافاً للظاهريةِ في قَصْرِهِم ذلك على الشّربِ. وقوله: (عَلَى الأَصَحِّ) أي: الأصحُّ منعُ الاقتناء؛ لأن اقتناءها ذريعةٌ إلى استعمالها وقيل يجوزُ للتجمل، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]. فإن قُلْتَ: وقد صرَّح في المدونة بأنَّ علةَ منعِ الاستعمالِ السرفُ. وإذا كان كذلك فالسَّرَفُ في الاستعمالِ أَشَدُّ منه في الاقتناءِ، فصار الفَرْعُ أضعفَ، فلا يصحُّ القياسُ. فالجوابُ أنَّا لا نسلم أنَّ العلةَ سرفٌ قويٌّ، بل العلةُ مطلقُ السرفِ- وهو حاصلٌ في عملِها، وإن لم تستعمل- نعم يَزيد السرفُ بالاستعمال. وقوله: (قَالَ الْبَاجِيُّ) يعني أن الباجي ينتصر للقول بجوازِ الاقتناء، أي: لو لم يكن الاقتناء جائزاً لفسخ البيع، ولا يُفْسَخُ. بيانُ ذلك أنه وَقَعَ في المدونة جوازُ بيعِها، وليس لقصدِ الاستعمال؛ لأنه غيرُ جائز، فتعَيَّنَ أن يكون الاقتناءُ جائزاً، وإلا لفُسِخَ لكونهِ لغرضٍ فاسدٍ كبيعِ الآلةِ المحرمةِ، أو لكون الصفقةِ جمعتْ حلالاً وحراماً.

وقوله: (وَأُنْكِرَ) أي: أُنْكِرَ قولُ الباجي لوجهين: أحدُهما: لو كانت تلك الآنيةُ جائزةَ الاتخاذِ لَلَزِمَ أنه إذا كسرها شخصٌ أن يَغرم قيمةَ صياغتِها. الثاني: يلزمُ جوازُ إعطاءِ الأجرةِ لِتُصَاغَ، إِذْ هو على شيءٍ جائزٍ، ولا يجوز ذلك. وهذا تقديرُ كلامِه، وفيه نَظَرٌ؛ لأن كلامَه يقتضي الاتفاقَ عليهما، وليس كذلك. قال ابن شاس بعد أن حكى عن الباجي جوازَ الاقتناء: قال ابن سابق: هذا غير صحيح؛ لأن ملكَها يَجوز إجماعاً بخلافِ اتخاذِها. قال: وإنما تُتصور فائدةُ الخلافِ بأنَّا لا نُجيز الاستئجارَ، ولا نُوجب الضمانَ على مَن أَفسدها؛ إِذْ لم يُتْلِفْ مِن عَينِها شيئاً، والمخالفُ يُجيز الاستئجارَ، ويُوجب الضمانَ. انتهى. فأنت تَرى كيف حَكى الخلافَ فيما ظاهرُ كلامِ المصنف فيه أنه مُتفقٌ عليه، وإنما أنكرَ ابنُ سابق قولَ الباجي للإجماع فقط. وقول المصنف: (وَصَحَّ بَيْعُهَا) فهو جوابٌ عن سؤالٍ مُقَدَّرٍ، كأنَّ قائلاً قال: وإذا كانت الصياغةُ ممنوعةً فكيف أَجَزْتُمُ البيعَ؟ فأجاب بأنَّا إنما أجَزْنا البيعَ، لأنَّ الصياغةَ وعينَها تُمْلَكُ إجماعاً، على أنه لا يَلزم مِن مِلْكِ العَيْنِ جوازُ البيعِ باتفاقٍ، فإن ابن عبد السلام قال: ذكروا في جوازِ بيع ثياب الحرير التي يلبسها الرجالُ خلافاً. وَمِنَ الْجَوَاهِرِ قَوْلانِ: بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِعَيْنِهِمَا أَوْ لِلسَّرَفِ. وَلَوْ غُشِّيَ الذَّهَبُ برَصَاصٍ أَوْ مُوِّهَ الرَّصَاصُ بذَهَبٍ فَقَوْلانِ. وَالْمُضَبَّبُ وَذُو الْحَلْقَةِ كَالْمِرْآةِ مَمْنُوعٌ عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ مَالِكٌّ: لا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ، وَلا أَنْ يُنْظَرَ فِيهَا .... أي: وفي جواز أتخاذ الأواني من الجواهر كالزمرد والياقوت قولان للمتأخرين، مبنيان على الخلاف في علةِ منعِ الذهبِ والفضةِ، فمَن رآها للسَّرَفِ مَنَعَ مِن بابِ أَوْلَى،

ومَن رَآها لِعَيْنِ الذهبِ والفضةِ- أي لِذَاتِها- أجازَ. والجوازُ قولُ الباجي وابن سابق، واختاره ابنُ رشد. والقولُ بالمنع لابن العربي. ابن عبد السلام: صرح في المدونة بالتعليل بالسرف. ومنشأُ الخلافِ في المُغَشَّى والمُمَوَّهِ النظرُ إلى الظاهرِ أو إلى الباطنِ، فمَن نظر إلى الظاهرِ أَجاز الأولى لا الثانية، وعلى العكسِ العكسُ. وتردد ابنُ عبد السلام في المغشي، واستَظهر في المموهِ الإباحةَ؛ لأنه ليس بإناءِ ذهبٍ. وفي معنى الرصاصِ النحاسُ ونحوه. والرصاص بفتح الراء وكسرِها، ذكره عياضٌ في السَّلَمِ الأول. وانظرْ هل مرادُهم بالمموهِ الطلاءُ الذي لا يجتمع منه شيء، أو لو اجتمع؟ واتُفق في مذهب الشافعي على المنعِ فيما يَجتمع منه شيءٌ، وإنما جعلوا الخلافَ فيما لا يجمع منه شيء. وانظر هذا النحاسَ المكَفَّتَ- أي: الذي يُحفر، ويُنزل فيه فضة- هل هو مُلْحَقٌ بإناءِ فضةٍ أو بالمموه؟ والأوَّلُ أظهرُ. وقد اتفقتْ الشافعيةُ فيه على المنع. والمُضَبَّبُ إناءٌ شُعِبَ كَسْرُهُ بخيوطٍ مِن ذهب أو فضة، أو عُمِلَتْ فيه صَفِيحَةٌ مِن ذلك. قاله ابن راشد. ذو الحلقة كالمِرْآةِ واللَّوْحِ تُجعل فيه حلقةٌ مِن ذهبٍ أو فضةٍ. وقوله: (مَمْنُوعٌ عَلَى الأَصَحِّ) ظاهرهُ التحريمُ، وهو اختيار القاضي أبي الوليد، واختار القاضي أبو بكر الأبهري الجوازَ؛ لأنه تَبَعٌ. وقولُ مالك يحتملُ التحريمَ والكراهةَ، وهو في العتبية. ابن عبد السلام: وظاهرُه الكراهةُ، وكلامُ المصنِّفِ ظاهِرُه الاحتجاجُ به على المنع.

وَفِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ثَلاثُ طُرُقٍ: الأُولَى: لابْنِ الْقَصَّارِ، وَالتَّلْقِينِ، وَالرِّسَالَةِ: وَاجِبَةً مطلقاً، وَالْخِلافُ فِي الإِعَادَةِ خِلافٌ فِي الشَّرْطِيَّةِ. الثَّانِيَةُ: لِلْجَلابِ وَشَرْحِ الرِّسَالَةِ: سُنَّةٌ، وَالإِعَادَةُ كتَارِكِ السُّنَنِ. الثَّالِثَةُ: لِلَّخْمِيِّ وَغَيْرِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَاجِبةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ لإِيجَابهِ الإِعَادَةَ مَعَهُمَا مطلقاً، دُونَ النِّسْيَانِ وَالْعَجْزِ لأَمْرِهِ فِي الْوَقْتِ خَاصَّةً، وَقَالَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ: إِلَى الاصْفِرَار. الثَّانِي: وَاجِبَةً مطلقاً؛ لأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى: يُعيد أبداً وَإِنْ كانَ نَاسِياً. الثَّالِثُ: سُنَّةٌ. قَالَ أَشْهَبُ: تُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ عَامِداً أَوْ نَاسِياً .... أي: الطريقةُ الأولى: [9/أ] لا خلاف عندهم في الوجوب، وما وقع مِن الخلافِ في الإعادةِ فهو مبني على أنها هل هي واجبة شرطاً أو واجبةٌ ليست بشرطٍ. فالإعادةُ على الشرطية، ونفيُ الإعادة على عدمِها. وما نَسَبَه للرسالة ليس كذلك؛ لأن فيها قولين: قولٌ بالوجوب، وقول بالسُّنِّيَّة. والطريقة الثانية: لا خلاف عندهم في أنها سُنة. وما وقع مِن الخلافِ في الإعادةِ مبنيٌّ على الخلافِ في تاركِ السننِ متعمداً. وابن الجلاب- رحمه الله تعالى- لم يَتعرض في كتابه لنفي الخلاف، فلا ينبغي أن يُعَدَّ قولُه طريقةً لجواز أن يكون اقتصر على هذا القولِ لاختيارِه. والطريقةُ الثالثة: ظاهرةُ التصور، غير أنّ الشيخ عبدَ الحميد لا يَرضى بمثلِ هذا التخريجِ؛ لاحتمالِ أن يكون هذا القائلُ بالإعادة في الوقت- ولو مع العمد- يَرى وجوبَ زوال النجاسة، ولكن لم يأمره بالإعادة أبداً مراعاة للخلاف، ولاحتمال أن يكون القائل بالإعادة أبداً إنما قال بذلك لأن مذهبه أن السُّنة يَلزم فيها ذلك. وزاد ابن رشد قولاً رابعاً بالاستحباب.

وطريقة اللخمي تدل على أن الْمَشْهُورِ هو التفصيل، وقد صرح بذلك غيرُ واحد، وذكر في البيان أن الْمَشْهُورِ في المذهب قولُ ابن القاسم وروايته عن مالك: أنَّ رَفْعَ النجاسةِ من الثياب والأبدان سنةٌ لا فريضةٌ، فمَن صَلَّى بثوبٍ نجسٍ- على مذهبهم- ناسياً أو جاهلاً بنجاسته، أو مضطراً إلى الصلاة فيه- أعاد الصلاة في الوقت. انتهى. وذَكر المازري طريقةً رابعة، فإنه ذَكر بعدما ذَكر- كلامَ القاضي عبد الوهاب- أن إزالةَ النجاسة فرضٌ: اضطرب الحُذَّاقُ مِن أهل المذهب في العبارة عن ذلك، فالجاري على ألسنتهم- في المذكرات والإطلاقات- أن المذهب على قولين: أحدُهما: أن غسل النجاسة فرض، والآخرُ سنةٌ إطلاقاً لهذا القول من غير تقييد. ومن أشياخي مَن يقول: المذهبُ على ثلاثةِ أقوالٍ. فأشار إلى ما ذَكره اللخمي، ثم قال: ومِن عجيب ما في هذه المسألة أن القاضي أبا محمد حكَى الاتفاقَ على تأثيمِ مَن تَعَمَّدَ الصلاةَ بها، والاتفاقُ على التأثيمِ يَقتضي الاتفاقَ على الوجوبِ، إذ الإثمُ مِن خصائصِ الوجوبِ. قال: وسألتُ بعضَ أشياخي عن هذا فتوقف عن الجواب، وسألت غيرهَ فقال لي: هو محمولٌ على اختلاف طريقة. انتهى. وقوله: (وَقَالَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ: إِلَى الاصْفِرَارِ) هو الْمَشْهُورِ، وروي أن وقتَهما إلى الغروب، وقال ابن حبيب وابن وهب، وقيل إلى الغروب في حق المضطر، وإلى الاصفرار فيما سواه. وعلى الْمَشْهُورِ فيُعيد- في المغرب والعشاء- الليلَ كلَّه، نص على ذلك في المدونة؛ إذِ الإعادةُ كالنَّفْلِ، ولا تُكره النافلة بعد نصف الليل، وعلى هذا فيكون للظهر ثلاثةُ أوقات: اختيارٌ إلى آخِرِ القامَةِ، واستدراكُ فضيلةٍ- كمسألتنا- إلى الاصفرار، وضرورةٌ إلى الغروب.

فائدة: ثمانُ مسائلَ المذهبُ فيها الوجوبُ مع الذُّكْرِ، والسقوطُ مع النسيانِ: إزالةُ النجاسةِ، والنضحُ، والموالاةُ في الوضوء، وترتيبُ الصلاة، والتسميةُ في الذبيحة، والكفارةُ في رمضانَ، وطوافُ القدوم، وقضاءُ التطوعِ مِن صلاةٍ وصيامٍ واعتكافٍ، أَعنى إذا قُطِعَتْ عمداً مِن غيرِ عذرٍ لَزِمَ القضاءُ، وإِنْ كان لعُذْرٍ لم يَلْزَمْ، وسيأتي ذلك في بابه مُبَيَّناً إن شاء الله تعالى. سؤالُ أَوْرَدَه ابنُ دقيقِ العيد: ما الفرقُ بينَ مَن صَلَّى بنجاسةٍ فإنه يُعيد ما لم تصفرَّ الشمسُ كما تقدم، وبين مَن نَسِيَ الصبحَ حتى صلى الظهرَ، فلْيُصَلِّها، ويُعيد الظهرَ إلى الغروبِ؟ وجوابُه: أَنَّ المطلوبَ في الترتيبِ آكَدُ منه في إزالةِ النجاسةِ فلذلك زِيدَ في وقتِ الإعادةِ للترتيب، أَلا تَرى أنه- عِنْدَ ضِيقِ الوقت- تُقَدَّمُ الفائتةُ وإِنْ خَرج وقتُ الحاضرةِ؟ ولو ضاقَ الوقتُ عَن غسلِ النجاسةِ صَلَّى بها؟ وأيضاً فإنه يُغتفر مِن النجاسة اليسيرُ، ولأن ابنَ رشد حَكَى عن المَذْهَبِ أنّ الإزالةَ سُنة كما تقدم. وَعُفِيَ عَمَّا يَعْسُرُ كَالْجُرْحِ يَمْصُلُ وَالدُّمَّلِ تَسِيلُ فِي الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ، فَإِنْ تَفَاحَشَ اسْتُحِبَّ، بِخِلافِ مَا يَنْكَأُ فَإِنَّهُ يُغْسَلُ ..... لما ذكر أن إزالةَ النجاسةِ واجبةٌ- ولم يفصل بين نجاسةٍ ونجاسةٍ- أَعْقَبَهُ بهذا الفَصْلِ لِيُعْلَمَ أنّ بعضَ النجاسةِ يُعفى عنها. و (فِي الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ) متعلقٌ بيمصل، أي: أن الدم الذي يسيل مِن الدُّمَّلِ مِن غيرِ نَكْإِ يُعفى عنه لعُسر الانفكاكِ عنه حينئذٍ، بخلاف ما يَنكأُ فلا يُعْفَى عنه؛ لأنه مختارٌ للصلاةِ بالنجاسةِ. ويقال نَكَاتُ الجُرْحَ: أي قَشَرْتُهُ.

ابنْ عبد السلام: وهذا- والله أعلم- في الدُّمَّلِ الواحدِ، وأما إذا كَثُرَ كالجَرَبِ فإنه مُضطرٌّ إلى نَكْئِها. وَالْمَرْأَةِ تُرْضِعُ وَتَجْتَهِدُ، وَاسْتَحَبَّ لَهَا ثَوْباً لِلصَّلاة (الْمَرْأَةِ) عطف على (الدُّمَّلِ) وكذلك ما بعده، أي: وعُفِي عمَّا يُصيب ثوبَ المرضِعِ وبدنَها بعد أن تجتهد. واستحبَّ لها مالكٌ ثوباً للصلاةِ، ولم يَقُلْ ذلك في صاحبِ الدُّمَّلِ، ولعل ذلك لأن سببَ عُذْرِ الأَوَّلِ متصلٌ. خليل: وهذا ظاهرٌ إذا كان ولدَها، أو غيرَه واحتاجتْ، أو كان لا يَقبل غيرَها، فأما مع عدمِ الحاجة فلا. وَالأَحْدَاثِ تَسْتَنْكِحُ أي: تكثر، وهي مثلُ الدُّمَّلِ. وَبَوْلِ الْفَرَسِ لِلْغَازِي يعني: إذا لم تَجِدْ مَن يَقوم به لضرورتِه إلى ملازمتِه، كذا قال في العتبية [9/ب] قال: وسُئل عن الفرسِ في مثل الغزو والأسفار يكون صاحبُه يمسكُه فيبولُ فيصيبُه بولُه؟ قال: أما في أرضِ الغزوِ فأرجو أن يكون خفيفاً إذا لم يُمسكه له غيرُه، وأما في أرض الإسلامِ فليَتَّقِهِ جُهْدَه, ودينُ الله يُسْرٌ. فرع: سُئل سحنونٌ عن الدوابِّ تَدْرُسُ الزرعَ فتبولُ فيه؟ فخَفَّفَه للضرورةِ، كالذي يكون في أرض العدو ولا يَجِدُ مَن يُمْسِكُ فَرَسَه.

قال في البيان: وإنما خَفف ذلك مع الضرورة للاختلاف في نجاستها، كما خفف المشي على أرواث الدواب وأبوالها في الطرقات- مع الضرورة إلى ذلك- من أجل الاختلاف في نجاستها. وَبَلَلِ الْبَوَاسِيرِ وَعَمَّا أَصَابَ يَدَهُ مِنْ رَدَّهَا إِنْ كَثُرَ البواسيرُ جمع باسُورٍ. عياض: ويقال باسُورٌ وناسُورٌ، ومعناهما متقاربٌ، إِلاَّ أنه بالنونِ عجميٌّ، وبالباء عربيٌّ. قاله الزُّبيديُّ، وهو بالباءِ وَجَعٌ بالَمقْعَدَةِ وتَوَرُّمُها مِن الداخل وخروجُ الثَّوَاليلِ هناك، وبالنون انقطاعُ عروقِها وجريانُ مادَّتِها. انتهى. وفاعلُ (كَثُرَ) ضميرٌ عائد على الرَّدِّ، ولا يَصِحُّ أن يكون عائدا على المصيب؛ إذ لو كَثُرَ مِن غيرِ تَكَرُّرِ لوَجَبَ غَسْلُهُ لعدمِ المشقةِ. وَعَنْ يَسِيرِ عُمُومِ الدَّمِ بِخِلافِ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: يُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ مَا لَمْ يَرَهُ فِي الصَّلاةِ، وَرُوِيَ: يَسِيرُ الْحَيْضِ كَكَثِيرِهِ. وَقِيلَ: وَدَمُ الْمَيْتَةِ. وَفِي يَسِيرِ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ قَوْلانِ ..... يعني: أنه يُعفى عن سائرِ الدماء، ولو وصل إليه من خارجٍ على ظاهرِ المذهب، وروى بعضُهم أنه إنما يُعفي عما كان مِن جسم الإنسان، وأمَّا ما وصل إليه مِن خارجٍ فيُغسلُ كالبولِ. اللخمي: واختلف في الدمِ اليسيرِ يكونُ في ثوبِ الغيرِ ثم يلبسه الإنسانُ؛ لإمكانِ الانفكاكِ عنه. انتهى. قال سند: ما أُرَاهُ قاله إلا مِن رأيه، وفيه نظرٌ. ففي الجواهرِ يُعْفَى عنه إذا كان من بَدَنِه، وإنْ أصابه مِن بدنِ غيرِه، ففي العفوِ قولان، ذكره في كتاب الصلاة.

قوله: (بِخِلافِ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ) أي: فلا يُعفى عن يسيره، وهو ظاهرُ المدونة، وحكى عياضٌ في الإكمال عن مالك اغتفارَ ما تَطايَرَ مِن البَوْلِ كرؤوسِ الإِبَرِ، ثم اغتفارُه يحتمل أن يكون عامّاً في كل يسيرٍ مِن البول، ويحتمل أن يكون عندَ بولِه فقط، لأنه محلُّ الضرورة لتكرارِه. فرع: وأَمَّا يسيرُ البولِ والعذرةِ يَتعلق بالذُّبابِ ثم يَجلس على المَحَلِّ فيُعْفَى عنه، قاله سندٌ. وقوله: (وَقِيلَ: يُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ مَا لَمْ يَرَهُ فِي الصَّلاةِ) أي، أنه اختُلف في يسيرِ الدم، هل يُغتفر مطلقاً، ويصيرُ كالمائعِ الطاهر، أو اغتفارُه مقصورٌ على حالِ الصلاة فلا تُقطع الصلاةُ لأجلِه إذا ذكره فيها. وهذا الثاني هو مذهبُ المدونة. وأما القولُ الأَوَّلُ فهو قول الداوُدي، وعُزِيَ للعراقيين. ابن عبد السلام: واعتُرض على المؤلفِ في تقديمِه غيرَ مذهبِ المدونة، وعليه فيكون الأمرُ بالغَسل- قبل الدخول في الصلاةِ- أمرَ ندب؛ لما نُقل عن ابن يونس عن مالك في العتبية أنه قال: كل ما لا تُعاد الصلاة منه بعد أن صُلي به يُكره للمرءِ أن يُصلي به، وإنْ ذكر وهو في الصلاة لم تَفْسُدْ عليه صلاتُه، مثل أنْ يُصلي الرجلُ بالماء الذي وَلَغَ فيه كلبٌ، أو يُصلي بالدم القليل، وما أشبه هذا. انتهى. وكذلك نقل الباجي، فإنه قال: الدماءُ ثلاثة أقسام: يَسِيرٌ جِدّاً فلا يَجب غَسلُه ولا يمنعُ الصلاة، وكثيرٌ أكثرُ منه يَجِبُ غسله ولا يَمنع الصلاةَ، وهو قَدْرُ الأُنْمُلَةِ والدَّرْهَمِ، وكثيرٌ جداً يجب غسلُه ويمنعُ الصلاةَ. وقوله: (وَرُوِيَ: يَسِيرُ الْحَيْضِ كَكَثِيرِهِ) وهذا راجعٌ إلى أصل المسألةِ، أي أنَّ في العفو عن يسير الدم ثلاثةَ أقوالٍ: الأوَّلُ: وهو الْمَشْهُورِ العفوُ مطلقاً. والثاني: قولُ ابن حبيب ورواه ابن أَشْرَسَ عن مالك أنه لا يُعْفَى عن يسيرِ دمِ الحيضِ؛ لكونه يَمُرُّ على مَمَرِّ البَوْلِ. والثالث: قولُ ابن وهب وابنُ حبيب وزاد عليه دمَ الميتةِ.

وأكثرُ النُّسَخِ على ما ذكرناه مِن قول: (وَرُوِيَ: يَسِيرُ الْحَيْضِ كَكَثِيرِهِ) وفي بعض النسخ: (وروي يسير الحيض كغيره) أي: كغير اليسير وهو الكثير. وقوله: (وَفِي يَسِيرِ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ قَوْلانِ) قال في المدونة: القيحُ والصَّدِيدُ مِثْلُ الدَّمِ. سند: يُرِيدُ في العفوِ عن يسيرِه، والقولُ بعدمِ العفوِ أيضاً عن مالك. وَفِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ طَرِيقَانِ: ابْنُ سَابقٍ: مَا دُونَ الدِّرْهَمِ وَما فَوْقَهُ. وَفِي الدِّرْهَمِ رِوَابَتَانِ. ابْنُ بَشِيرٍ: قَدْرُ الْخِنْصَرِ وَالدِّرْهَمِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلانِ ... أي: ما دون الدرهمِ يسيرٌ، وما فوقه كثيرٌ. وفي الدهم روايتان: روى ابن زياد في المجموعة أنه يسيرٌ، وقاله ابنُ عبد الحكم، وروى ابن حبيب في الواضحة أنه كثيرٌ، هكذا نقل في النوادر، وكذلك نَقَلَ الباجي وغيرُه. وبه تعلمُ أن طريقةَ ابنِ بشيرٍ غيرُ صحيحةٍ. ابنُ هارون: لأنه جَعَل الدرهم فيها كثيراً اتفاقاً. وليس كذلك؛ لثبوت الخلافِ في الدرهمِ، وقصورُ كلامِه ظاهرٌ. ومنهم مَن رأى أن اليسارةَ والكثرةَ إنما يُرجع فيها إلى العُرْفِ، وهو ظاهرُ العتبية، لأنه قال فيها: وسُئل عن وَقْتِ الدمِ، فقال: ليس به عندنا وَقْتٌ. فقيل له: أفقليلُه وكثيرُه سواءٌ؟ فقال: لا، ولكن لا أُجيبُكم إلى هذا الضلالِ، إذا كان مثلَ الدرهمِ. ثم قال: الدراهمُ تَختلف. ويُمكن أن يُجمع بين الطُّرق، فيقال: هل يُرْجَعُ إلى العادة أم لا؟ قولان. وعلى الثاني فالخنصِرُ يسيرٌ وما فوق الدرهمِ كثيرٌ، وفيما بينهما خلافٌ. والمرادُ بالدرهمِ الدرهمُ البَغْلِيُّ. أشار إليه مالكٌ في العتبية، ونص عليه ابنُ رشد ومجهولُ [10/أ] ابن الجلاب، أي: الدائرةُ التي تكون في بياض الذراعِ من البَغْلِ.

والخنصرُ قال مصنفُ الإرشاد في العمدة: والمرادُ- والله أعلم- مساحةُ رأسِه لا طولُه، فإن طولُه أكثرُ من الدرهم. وقال مجهولُ ابن الجلاب: يَعنون به الأُنْمُلَةَ العُلْيَا. وقال ابن هارون: المرادُ بالخنصرِ عند مَن اعتبره إذا كان مطويا. وَعَنْ دَمِ الْبَرَاغِيِثِ غَيْرِ الْمُتَفَاحِشِ النَّادِر أكثرُ الناسِ لم يزيدوا القيدَ الأخير الذي ذَكَرَهُ المصنفُ، وكأنَّ المصنفَ زَادَه لكونِ المتفاحش لم يُحَدَّهُ أصحابُنا، وإنما أَحالُوه على العُرْفِ، وظاهرُ كلامِ ابنِ أبي زيدٍ وجوبُ غَسلِه إذا تفاحَشَ؛ لقوله: ودم البراغيت ليس عليه غسله إلا أن يتفاحش. ابن عبد السلام: وجرتْ عادةُ المذاكِرِينَ بمعارضةِ هذه المسألةِ بمسألةِ الدملِ والجرحِ؛ لأنهم يقولون فيها: فإِنْ تَفَاحَشَ استُحِبَّ غَسْلُه. ومنهم مَن يَرى الحُكْمَ متساوياً، ومنهم مَن يُفَرِّقُ بسرعةِ التفاحشِ في الدملِ. انتهى. وهذه المعارضةُ إنما تأتي إذا بَنَيْنَا على أنه واجبٌ. ورأيت في نسخةٍ من التهذيب: ولا يُغْسَلُ مِن دمِ البراغيثِ إلا ما تَفَاحَشَ فيُستحب غسلُه. وتكلَّم عليها أبو الحسن، وعلى هذا فلا معارضةَ أصلاً لمساواة المسألتين. وقال المتيويُّ بعد قول ابن أبي زيد: ليس عليه غسله إلا أن يتفاحش. يُريد: فيُستحبُّ له غَسله. وذكر مصنف الإرشاد في العمدة قولين إذا تفاحش: بالوجوب والاستحباب. وكذلك نَقَلَ اللخمي. وَعَنْ أَثِر الْمَخْرَجَيْن أي: أنه لا يُكَلَّفُ بغسلِهما بل يَمْسَحُ، والغَسْلُ أفضلُ. ولا يُريد به ما وَصَلَ إلى الثوبِ؛ لأنه يَذكر ذلك الفرعَ بعد هذا.

وَعَنِ الْخُفِّ والنَّعْلِ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابُّ وَأَبْوَالِهَا يَدْلُكُهُ وَيُصَلِّي بهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ لِلْعَمَلِ بِخِلافِ غَيْرِهمَا كَالْعَذِرَة ..... يعني: ويُعْفَى عما يُصيب الخفَّ والنعلَ مِن أرواثِ الدوابِّ وأبوالها؛ لمشقة الاحترازِ منها في حقِّ الماشي في الطرقاتِ. وقوله: (يَدْلُكُهُ) بَيَّنَ أَنَّه لا يُعفى عنه على الإطلاق، ثم بيَّن السببَ المقتضي للعفوِ- وهو المشقةُ- ونَبَّهَ- رحمه الله تعالى- على أن المرضِيَّ عنده في سببِ العفوِ ما ذكره لا ما ذَكَرَ غيرُه مِن كون هذه الأرواثِ مختلَفاً في نجاستها. وقوله: (وَإِلَيْهِ رَجَعَ) يعني: أن قولَ مالكٍ اختلف، فكان أوّلاً يقول بعدمِ العفو وأنه لا بُدَّ من الغَسل، ثم رجع إلى العفوِ لِعَمَلِ أهلِ المدينةِ. وفي المذهب قول ثالث لابن حبيبٍ بالعفو عن الخفِّ دُونَ النَّعْلِ، وسيذكره المصنف. وقوله: (بِخِلافِ غَيْرِهمَا) أي: غير الأبوالِ والأرواثِ، فلا يُعفى عنه كالعذرة والدم، ولابد من غسله. انتهى. تنبيه: نص سحنونٌ على أن العفوَ خاصٌّ بالمواضعِ التي تكثر فيها الدواب، وأما ما لا تكثر فيه الدواب فلا يُعفى عنه. فَلِذَلِكَ يَخْلَعُهُ الْمَاسِحُ الْذِي لا مَاءَ مَعَهُ وَيَتَيَمَّمُ. ابْنُ حَبيبٍ: عُفِيَ عَنِ الْخُفِّ لا النَّعْلِ. وَفِي الرِّجْلِ مُجَرَّدَةً قَوْلانِ ......... أي: ولأجل أن ما عدا أرواث الدواب وأبوالِها لا يُعْفَى عنه لَزِمَ الماسحَ الذي لا ماء معه خلعُ الخُفُّ، ويتيمم إذا أصابه شيءٌ مِن ذلك، ولو كان مؤدياً إلى إبطال الطهارةِ المائيةِ والانتقالِ إلى الطهارةِ الترابيةِ. قال ابن راشد: وحكاه مطرفٌ عن مالك، يُريد أن

الوضوء له بَدَلٌ، وغَسْلُ النجاسة لا بَدَلَ له. ونقله المازريُّ عن أصبغَ، وأَخذ منه تقديمَ غَسل النجاسة على الوضوء في حقِّ مَن لم يَجِدْ مِن الماءِ إلا ما يَكفيه لإحدى الطهارتين. ابن عبد السلام: وأظن أني رأيتُ لأبي عمران أنه يَتوضأ ويُصلي بالنجاسة، وكان بعض أشياخي ينقله عنه أيضاً، ويحتج بأن طهارةَ الخبثِ مختلفٌ في وجوبِها بخلاف طهارةِ الحدثِ، والمتفقُ على وجوبِه أولى بالتقديمِ، وهو الظاهرُ. ابن هارون بَعْدَ أنِ استشكل ما ذكره المصنفُ، وذَكَرَ ما ذَكَرَه ابن عبد السلام بحثاً، ولم ينقله عن أحدٍ، قال: ويحتمل أن يَجري على اختلافهم فيمن عليه نجاسةٌ ومعه من الماء ما يَتوضأ به خاصة، أو يُزيل به النجاسة خاصة، فقد قيل: يُزيلها ويتيمم. وقيل: يتوضأ به ويُصلى بالنجاسة للاختلاف فيها. وأما الرِّجْلُ المجرَّدَةُ فقال الباجي: لا نَصَّ فيها. قال: وعندي أنه يجوز فيها المسحُ؛ لأن العلةَ في المسحِ التكرارُ وعدمُ خُلُوِّ الطُرُقَاتِ منها. ويجوز أن يقال: يَجب غَسلها؛ لأنها لا تفسُد بخلافِ الخفِّ. وحكى ابن بشير قولين للمتأخرين فيمن دَعَتْه ضرورةٌ إلى المشيِ حافياً. وحكى ابنُ شاس والقرافي في الذخيرة الثلاثةَ. وَعَنْ طِينِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَنْقِعِ فِي الطُّرُقِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا الْعَذِرَةُ، وَقَالَ: مَا زَالَتِ الطُّرُقُ وَهَذَا فِيهَا، وَكَانُوا يَخُوضُونَ طِينَ الْمَطَرِ وَيُصَلُّونَ، وَلا يَغْسِلُونَهَ. وَفِي عَيْنِ النَّجَاسَةِ فِيهِ قَوْلانِ ..... قال شيخنا: نحوُ المطر هو ماء الرَّشِّ الذي في الطرقات. قال عياض: والمستنقِع بكسر القاف. وما قاله عن المدونة هو كذلك فيها، قال: وإن كان فيه العذرةُ والدمُ.

قال ابن أبي زيد: يُريد ما لم تكُنْ غالبةً أو تكُنْ لها عينٌ قائمةٌ. قال ابن بشير: يحتمل أن يكون تفسيراً، ويحتمل أن يبقي الكتاب على ظاهره، وأنه في المدونة عفي عنه، وإن كان غالباً أو عينهُ قائمةً إذا تساوتِ الطرقاتُ في وجودِ ذلك فيها، وكان لا يمكن الانفكاكُ عنه. وقال المازري بعد [10/ب] كلام أبي محمد: وقد تأولَ بعضُ الأشياخِ المتأخرين أن النجاسةَ وإذا كانت تخفى عينُها، ولا يُقطع بعلوقها في الجسم والثوب، فإنه يُعفى عنها في مثلِ هذا، فإذا تحقق عُلوقها فلا يُعفى عنها، وكأنه يرى أن الشكَّ مع الضرورة غيرُ معتبر. انتهى. ابن راشد: وهذه المسألةُ على أربعةِ أوجهٍ: أحدُها أن يتساوى الاحتمالان في وجودها وعدمِها، فهذا يُصَلَّى به على ما قاله في المدونةِ لترجيح الطهارةِ بالأصلِ. الثاني: أن يترجح احتمالُ وجودِها، فهذا يُصلى به- على ما في المدونة- ترجيحاً للأصل، ويَغسله على رأي أبي محمد ترجيحاً للغالب. والثالث: أن يُتَحَقَّقَ وجودُها، ولكن لا تَظهر لاختلاطِها بالطين، وظاهرُ المدونة أيضاً أنه يُصَلِّي به، ويغسله على رأي أبي محمد، وهو أحسنُ لتحققِ النجاسةِ. ونحوه للباجي. الرابع: أن تكون لها عينٌ قائمةٌ، فههنا يجبُ غسلُها. انتهى. وقوله: (وَإِنْ كَانَ فِيهَا الْعَذِرَةُ) يحمل على الصورتين الأولتين. وقوله: (وَفِي عَيْنِ النَّجَاسَةِ فِيهِ قَوْلانِ) يُحمل على الثالثة. وأما الرابعة فلا يُعلم فيها خلافٌ، ويَبْعُدُ وجودُ الخلاف فيها. وهكذا كان شيخنا يقول، وبه يترجح ما قاله ابن عبد السلام هنا، فإنه قال: معنى قوله: (وَفِي عَيْنِ النَّجَاسَةِ فِيهِ قَوْلانِ) إذا كانت قائمةَ العينِ، ولا يُريد غيرَ قائمةِ العين، وإلا لنَاقَضَ قولَه: (وَإِنْ كَانَ فِيهَا الْعَذِرَةُ) ثم اعتُرض عليه بأنه خلافُ ما نَصُّ عليه الشيوخُ، ولا يُعْلَمُ قولٌ بالعفو في ذلك. قال: وإِنْ أَرَادَ بهذا القولِ ما قاله بعضُ المتأخرين من أنه يُعفى عنه إذا غَلَبَ على الطُّرُقِ، وهو بهذا الصفة،

أعني كون النجاسة قائمةً أو غالبةً، فإنه ليس بخلافٍ. ولو سُلِّم أنه خلافٌ لم يكن قولاً مطلقاً، وإنما يكون بشرطِ غلبتِه على الطُّرُقِ، لا باعتبارِ طريقٍ معينٍ. انتهى. فرع: قال في العتبية. وسئل مالك عن الرَّجُلِ يَمُرُّ تحت السقائفِ فيقعُ ماؤها عليه. قال: أراه في سَعَةٍ ما لم يتيقن بنجسٍ. زاد في سماع عيسى، وإِنْ سألهم فقالوا: إنه طاهر فليُصَدِّقْهُم، إِلا أن يكونوا نَصَارَى فلا أَرَى ذلك. قال ابن رشد: وهذا كما قال: إِنَّ النصارى يُحمل ما سال عليه مِن عندِهم على النجاسة، ولا يُصَدَّقون إن قالوا: إنه طاهرٌ. بخلاف المسلمين. وَلَوْ عَرِقَ مِنَ الْمُسْتَجْمِرِ مَوْضِعُ الاسْتِجْمَارِ فَقَوْلان أي: هل يعفى عن ذلك العَرَقِ في الثوبِ؟ وستأتي هذه المسألة. وَالْمَرْهَمُ النَّجِسُ يُغْسَلُ عَلَى الأَشْهَر أي: إذا عمل المرهم مِن عِظام الميتة، أو مِن شيءٍ نجس، وطُلي به الجُرح، فهل يُعفى عنه لمشقَّةِ غَسلِه مِن الجرحِ- وهو قولُ ابن الماجشون- أو لا يُصلي به حتى يَغسله، وهو الْمَشْهُورِ؛ لأنه أَدْخَله على نَفْسِه، فكان لو نَكَأَ القُرْحَةَ. انتهى. وَالنَّجَاسَةُ عَلَى طَرَفِ حَصِيرٍ لا تُمَاسُّ لا تَضُرُّ عَلَى الأَصَحِّ. وَنَجَاسَةُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ مُعْتَبَرَةٌ. وَقِيلَ: إِنْ تَحَرَّكَتْ بحَرَكَتِه إنما كان الأصحُّ في الحصير عدمَ الاعتبار؛ لأنه إنما صلى على مكان طاهر، وهو المطلوب. ونقله صاحبُ النُّكَتِ عن غيرِ واحدٍ من شيوخه، قال: ومنهم مَن ذهب إلى مراعاةِ تحركِ النجاسةِ، وليس بصحيحٍ. وهذا مقابل الأصح، والله أعلم.

وقوله: (وَنَجَاسَةُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ مُعْتَبَرَةٌ) أي: أن الأظهرَ اعتبارُ نجاسةِ طرفِ العمامة إذا صلى بطرفها، والطرفُ الآخر مُلقى بالأرض وبه نجاسة؛ لأنه في معنى الحامل للنجاسة. وَعَنِ السَّيْفِ الصَّقِيلِ وَشِبْهِهِ يُمْسَحُ لانْتِفَائِهَا أَوْ لإِفْسَادِهِ وَلا يَلْحَقُ بهِ غَيْرُهُ عَلَى الأَصَحُّ ...... قال في الجواهر: إذا مَسح السيفَ أو المُدْيَةَ الصَّقِيلَيْنِ أَجْزَأَ عن الغَسل، لما في الغَسل مِن إفسادِهما، وقيل: لأنه لم يَبْقَ مِن النجاسة شيءٌ. قال: والْمَشْهُورِ الاعتمادُ العِلة الأولى. واحتَزر بالصقيل مِن غيرِه، فيجب غسلُه لبقاءِ بعضِ النجاسةِ؛ ولأن الغَسل حينئذٍ لا يُفسدُه. وقوله: (وَشِبْهِهِ) كالمدية والمرآة، قاله القاضي أبو بكر. وقد اتضح لك أن قوله: (لانْتِفَائِهَا أَوْ لإِفْسَادِهِ) علتان على القولين، وتظهر ثمرةُ الخلافِ في الخلافِ في الظُّفْرِ وشبهِه لانتفائِها؛ إذ لا يفسُد. وقيّد بعضُهم العفوَ بأنْ يكون الدمُ مباحاً كما في الجهاد والقِصاصِ، ولا يُعفى عن دم العدوان، وأكثرُ أمثلتهم في السيف إِنَّما هو في الدم، فيحتمل ألا يُقْصَرَ الحكمُ عليه، ويحتمل القصرَ لأنه الغالبُ مِن النجاسة الواصلة إليه. ومقتضى قولِ المصنفِ وابنِ شاس أنه لا يُعفى عن السيف إلا بعدَ المسحِ، وكذلك قال غيرُهما. ونقله الباجي عن مالك. ابن راشد: وهو قول الأبهري، وعزاه اللخمي لعبد الوهاب، وابن شاس لابن العربي، والذي نقله في النوادر عن مالك وابن القاسم خلافُه، ولفظُه: قال مالك: ولا بأسَ بالسيفِ في الغزو وفيه الدمُ أن لا يغسل. قال في المختصر: ويُصَلَّى به. قال عيسى في روايته عن ابن القاسم عن مالك: مسحه من الدم أو لم يَمْسَحْه. قال عيسي: يريد في الجهاد أو في الصيد الذي هو عيشه. انتهى.

وقوله: (وَلا يَلْحَقُ بهِ غَيْرُهُ عَلَى الأَصَحُّ) كالثوب والجسد، والقولان للمتأخرين. ابن العربي: والصحيح وجوب الغسل. وَعَنْ مَاسِحِ مَوَاضِعِ [11/أ] المْحَاجِمِ وَفِيهَا: يُؤْمَرُ بِغَسْلِهَا وَيُعيد فِي الْوَقْت أي: أن ماسح المحاجم يَكتفي في تطيرها بالمسح ِلما يتضررُ به المحتَجِمُ من وصولِ الماء لمحلِّ الحجامة، ومقتضى كلامُه أنه لا يُؤمر بغسلِها أصلاً؛ لأن ما بقي بعد المسح يَصير مَعْفُوّاً عنه لمقابلةِ ذلك بقوله: (وَفِيهَا: يُؤْمَرُ بِغَسْلِهَا) ووَصْلِه به (فِيهَا) قولَ يحيى بن سعيد: وكذلك العِرْقُ يُقْطَعُ. أي: الفَصْدُ. وليس مرادُه في المدونة أنه يُؤمر بالغسلِ إثر الحجامةِ أو الفصدِ؛ لأن ذلك مؤدٍّ إلى غاية الضرر، وإنما يَعني به بعد برء المحلِّ. ومذهبُ المدونة أظهرُ؛ لأن الأصل أن النجاسة لا تُزالُ إلا بالماء المطلق، وقد انتفى العذرُ، لكنَّ أمرَه بالإعادة في الوقت على خلافِ الأصل، إذ لم يفرق بين العامد وغيره، فتأوَّله ابنُ يونس على النسيان. وحكاه أبو عمران عن أبي محمد. وقيل: ليسارةِ الدم في نفسه واتساع محله أخذ شبهاً من اليسير والكثير، فيُحكم له بالإعادة في الوقت ولو مع العمد. وهو تأويل أبي عمران. وَالْمَشْهُورِ أَنَّ ذَيْلَ الْمَرْأَةِ الْمُطَالَ لِلسَّتْرِ يُصِيبُهُ رَطْبُ النَّجَاسَةِ لا يَطْهُرُ بِمَا بَعْدَهُ روى مالك وأبو داود وابن ماجه أن امرأةً سألتْ أمَّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لها: إني امرأةٌ أُطيلُ ذَيلي وأَمشي في مكانٍ قذرٍ. فقالت أم سلمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يُطَهِّرُهُ ما بَعْدَهُ". واختلف هل هذا عام سواء مشت على نجاسة رطبة أو يابسة؟ من نظر إلى ظاهر الحديث قال: يطهر مطلقاً لقوله عليه السلام: "يطهره ما بعده". ومَنْ نَظَرَ إلى المعنَى حَمَلَه عَلَى القَشْبِ اليابسِ، وهو الْمَشْهُورِ. وحمل الباجي الحديثَ على ما إذا لم تُتَيَقَّنِ النجاسة،

قال: لأن النجاسة لا تنفك عن الطرقات، كطين المطر الذي لا يخلو عن النجاسة، لكن يُعفى عنه ما لم تظهر عينُ النجاسة فيه. فرع: وسئل مالك في العتبية عن الذي يتوضأ ثم يمشي على الموضعِ القذرِ الجافُّ. قال: لا بأسَ به، قَدْ وَسَّعَ اللهُ على هذه الأُمَّةِ. وقيده ابن اللباد بما إذا مشى بعد ذلك على محل طاهرٍ، كهذه المسألة. ونقل المازريُّ في تأويل ما وقع في العتبية ثلاثةَ تأويلات للأشياخٍ: أحدها ما ذكرناه عن ابن اللباد. وثانيها: إنما هذا لأن الماشي لا تكاد تستقر رجله على النجاسة استقراراً ينحل معه قَدْرٌ له بالٌ يتعلق بالرِّجْلِ. ثالثها: أنَّ الماء يَدْفَعُ عن نفسه ولا ينجسه إلا ما غَيَّرَه، ولا يَكادُ يَنْحَلُّ مِن النجاسة ما يُغَيِّرُ أجزاءَ الماءِ الباقيةَ بالرِّجْلِ. وَلا يَكْفِي مَجُّ الرِّيقِ فَيَنْقَطِعُ الدَّمُ على الأَصَحّ لأن النجاسة لا تُزال إلا بالماء المطلق. وَلا يَمَصُّهُ بفِيهِ ثُمَّ يَمُجُّهُ، وَالْيَسِيرُ عَفْوٌ الفرع الأول: فيما إذا كان الدم في نفس الفم، والثاني: فيما إذا كان في غير الفم، وكونُ اليسير معفوّاً عنه ظاهرٌ، ولا حاجةَ إلى ذِكْرِه. وَلا تُزَالُ النَّجَاسَةُ إِلا بِالْمَاءِ عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ: وَبنَحْوِ الْخَلِّ. وَالاسْتِنْجَاءُ يَأتِي. وَأَمَّا الْحَدَثُ فَالْمَاءُ باتِّفَاقٍ ........ أي: أن الْمَشْهُورِ أن النجاسة لا تُزال إلا بالماء المطلق. وقيل: تزول بكل مائع قَلاَّعٍ كالخَلِّ. وتبع المصنفُ في هذا ابنَ بشير. وإنما حكَى في النوادر الخلافَ في الماءِ المضافِ. وذكرَ المازريُّ أنّ اللخميَّ ذَكَرَ خلافاً في إزالة النجاسةِ بالمائعِ، قال: وأُراه إنما أخذه من

قول ابن حبيب: إذا بصق دماً ثم بصق حتى زال أنه يَطْهُرُ. ورَدَّهُ بجوازِ أن يكون ابن حبيب إنما عَفَا عن هذا ليسارتِه. ومعنى (لا تُزَالُ النَّجَاسَةُ إِلا بِالْمَاءِ) أي: لا يُزال حكمُها، وإِلاَّ فعَيْنُها تُزَالُ بغير المطلق اتفاقاً. فرع: وإذا زالت عينُها بغير المطلق فذلك الثوبُ لا تجوز الصلاةُ به على الْمَشْهُورِ. وعليه فهل يَنْجُسُ ما لاقاه؟ قولان. والأكثرون على عدمِ التنجيس إِذِ الأَعْرَاضُ لا تنتقل، وعلى هذا الخلاف اختلف الشيخان القابسي وابن أبي زيد: إذا دَهَنَ الدَّلْوَ الجديدَ بالزيتِ واستَنْجَى منه فإنه لا يجزئه. فقال القابسي: ويَغسل ما أصابَه مِن الثياب. وقال ابن أبي زيد: يُعيد الاستنجاءَ دون غَسْلِ ثيابه. ومن هنا يتحقق لك أن المذهبَ سَلْبُ الدهنِ للطهوريةِ. وقوله: (وَالاسْتِنْجَاءُ يَاتِي) جوابٌ عن سؤالٍ مقدَّرٍ، كأن قائلاً يقول له: كيف تقول أن النجاسةَ لا تُزال إلا بالماء، وحكمُ النجاسة التي على المخرجين تُزال بالحَجَرِ، فأجاب بأنه سيأتي. وقوله: (وَأَمَّا الْحَدَثُ فَالْمَاءُ باتِّفَاقٍ) أي: فاتُّفِقَ على اعتبارِ المطلقِ فيه كما ذكر المصنفِ. وَغَيْرُ الْمَعْفُوِّ إِنْ بَقِيَ طَعْمُهُ لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ بَقِيَ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ لِعُسْرِ قَلْعِهِ بِالْمَاءِ فَطَاهِرٌ تقدم من كلامه ما يدل على أن النجاسة قسمان: معفو عنه، وغير معفو عنه. فالمعفوُّ عنه لا كلامَ فيه، وأما ما لا يُعفى عنه فلا بد مِن تطهيره بالماء كما أشار إليه المصنفُ، فإذا غُسِلَ وبَقِيَ طَعْمُه لم يَطْهُر؛ لأن بقاءَ الطعم دليلٌ على بقاءِ جزءٍ في المحلِّ، وإِنْ بَقِيَ اللونُ أو الرِّيحُ- وقَلْعُه مُتَيَسِّرٌ- فكذلك أيضاً. وإِنْ عَسُرَ قلعُه فيُحكم بطهارةِ المحلِّ، وينبغي أن يكون بقاءُ اللون أشدَّ مِن بقاءِ الريح.

وَالْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ نَجِسَةٌ، وَغَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ طَاهِرَةٌ وَلا يَضُرُّ بَلَلُهَا لأَنَّهُ جُزْءُ الْمُنْفَصِلِ مرادهُ بالغُسالة ما غُسلت به النجاسة، ثم إن كانت متغيرةً فلا شكَّ في نجاستها، كان تغيرُها باللون أو بالطعم أو بالريح، وإن كانت غيرَ متغيرةٍ فطاهرةٌ، ولا يَضر ما بقي بَعْدَ زوالِ الغُسالة الطاهرةِ. فإنَّ ما بقي بعضُ ما نزل، والنازلُ بالفرض طاهر، وهو معنى قوله: (وَلا يَضُرُّ بَلَلُهَا لأَنَّهُ جُزْءُ الْمُنْفَصِلِ) أي جزؤه قبلَ الانفصال، وصرح ابن شاس بأنه لا يلزم عصرُ [11/ب] الثوب لما ذكرناه. وهل يَجوز رفعُ الحَدَثِ بهذه الغُسالةِ أم لا؟ أجراه ابنُ العربي على الماء القليلِ تَحُلُّه النجاسةُ ولم تُغَيِّرْهُ. ابن عبد السلام وابن هارون: وفيه نظر؛ إِذْ لو كانت كذلك لكانت الغسالةُ مختلفاً فيها، ولم يذكروا فيها خلافاً فيما رأيناه. وفيه نظر. وَإِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ مَوْضِعُهَا غُسِلَ الْجَمِيعُ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ كُمَّيْهِ عَلَى الأَصَحِّ وَجَبَ غسلُ الجميعِ؛ لأنَّ غسلَ النجاسةِ واجبٌ، ولا يَتحقق إلا بغَسل الجميع، إِلاَّ أَنْ لا يجدَ مِن الماء ما يَعُمُّ الثوبَ، ويَضيق الوقتُ، فإنه يتحرى موضعَها. نص عليه في الذخيرة. وأما الكُمَّانِ فلْيُعْلَمُ أولاً أنه إذا اشتبه عليه ثوبان أحدُهما نجسٌ والآخر طاهرٌ فالحكمُ أن يَتحرى أحدَهما على المذهب؛ لأنَّ الأصلَ في كلٍّ منهما الطهارةُ، ولا كذلك الثوبُ الواحدُ؛ لأن حكمَ الأصل قد بَطَلَ لتحققِ حصولِ النجاسةِ فيه، وعلى هذا فمنشأُ الخلافِ في الكمينِ هل هما كالثوبِ الواحدِ أو كالثوبين؟ ولهذا قال ابن العربي: لو أَفْرَدَ الكمين جاز له التحري إجماعاً. يعني على القولِ بالتحرِّي في الثوبين.

فَإِنْ شَكَّ فِي إِصَابَتِهَا نُضِحَ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ الثَّوْبِ يُجِنِبُ فِيهِ أَوْ تَحِيضُ فِيهِ وَنَحْوِهِ. قَالَ: وَالنَّضْحُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، وَهُوَ طُهُورٌ لِكُلِّ مَا يُشَكُّ فِيهِ. فَإِنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ نَجَاسَةً فَقَوْلانِ. فَإِنْ شَكَّ فِيهِمَا فَلا نَضْحَ .... لما تكلم على حكمِ النجاسةِ المحققةِ أَتْبَعَها بحكم النجاسةِ المشكوكِ فيها، وحاصلُ ما ذكره أن مسائلَ النضحِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٌ متفقٌ فيه على النضحِ، وقسمٌ مختَلَفٌ فيه، وقسمٌ اتفق فيه على سقوط النضح، أشار إلى الأول بقوله: (فَإِنْ شَكَّ فِي إِصَابَتِهَا نُضِحَ) أي: إذا تَحَقَّقَ النجاسةَ وشكَّ في الإصابةِ، ومَثَّلَ لهذا القسم إذا شك الجنبُ أو الحائضُ هل أصاب ثوبَهما شيءٌ أم لا؟ وهذا إذا كان الثوب مصبوغاً يَخْفَى أثرُ الدمِ فيه، فإن كان أبيضَ فلا أثرَ للاحتمال، وهو وهمٌ. قال معناه في الجلاب. وقوله: (وَالنَّضْحُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ) استدلالٌ على إثباتهِ، أي: مقتضى الدليلِ سقوطُه، إذ الأصلُ الطهارةُ. وأشار إلى القسم الثاني بقوله: (فَإِنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ نَجَاسَةً فَقَوْلانِ) أي: إذا تحقق الإصابةَ وشك في النجاسة فقولان: أحدُهما لا شيء فيه؛ إذ الأصلُ الطهارةُ. وقال ابن شاس: وهو الْمَشْهُورِ. والثاني أن فيه النضحَ. رواه ابن نافع عن مالك، واستظهره بعضُهم قياساً على الشك في الإصابةِ بجامعِ حصولِ الشَّكِّ. وأيضاً فهو ظاهرُ قوله: (طُهُورٌ لِكُلِّ مَا يُشَكُّ فِيهِ). وأشار إلى القسم الثالث بقوله: (فَإِنْ شَكَّ فِيهِمَا فَلا نَضْحَ) أي: شك في النجاسة والإصابةِ. وذكر الباجي من أقسام الشكِّ قسماً آخر: وهو إذا تحقق النجاسةَ وشكَّ في الإزالةِ. قال: ولا خلافَ في وجوب الغَسْلِ؛ لأن النجاسةَ مُتيقنةٌ فلا يَرتفع حكمُها إلا بيقينٍ.

والنضحُ هو الرشُّ على المعروف. ونقل الباجي عن الداودي أنه غَمْرُ المحلِّ بالماءِ، وأنه نوعٌ من الغَسل. والمعروفُ أن النضحَ هو الرشُّ باليدِ، ونصَّ عليه سحنون. ونقل أبو الحسن الصغير عن سحنون أنه الرشُّ بالفم، قال سند وصاحب البيان: وظاهرُ المذهب وجوبُ النضح. وَفِي النِّيَّةِ فِي النَّضْحِ قَوْلانِ فوجهُ القولِ بالوجوبِ ظهورُ التَّعَبُّدِ، فإن الرشَّ يَنْشُرُ النجاسةَ. ووجهُ القولِ بسقوطِها أنه مِن بابِ إزالةِ النجاسةِ. قال ابن بشير وابن شاس: والقولان للمتأخرين. قال في البيان: وظاهرُ المذهب عدمُ افتقارِه للنية. وَالْجَسَدُ فِي النَّضْحِ كَالثَّوْبِ عَلَى الأَصَحِّ. وَفِيهَا: وَلا يَغْسِلُ أُنْثَيَيْهِ مِنَ الْمَذْيِ إِلا أَنْ يَخْشَى إِصَابَتَهُمَا. فَأُخِذَ مِنْهُ الْغَسْلُ .... أي: أن الأصح في الجسد أنه كالثوب على التفصيل المتقدم، ومقابل الأصح أن الجسد يُغسل لعدم فساده. واستُقْرِئَ من المدونةِ من قوله: (وَلا يَغْسِلُ أُنْثَيَيْهِ مِنَ الْمَذْيِ إِلا أَنْ يَخْشَى إِصَابَتَهُمَا) فإنَّ ظاهرَه أنه إذا خَشِيَ يغسلُهما، وهذا الاستقراءُ للباجي وغيره. وأجيب بأنه يجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: لكن إن خشي إصابتَهما وَجَبَ النضحُ؛ لقوله في المدونة: والنضحُ طهورٌ لكل ما يُشَكُّ فيه. ومقتضى كلامِه في البيان أنّ المذهبَ وجوبُ غسلِ الجسدِ مع الشكِّ؛ لأنه قال بعد أنْ ذَكَرَ استقراءَ الغَسْلِ من مسألة المدونة المذكورة: وأصلُ ذلك أن ما شُكَّ في نجاسته مِن الأبداًن فلا يُجزئ فيه إلا الغسلُ بخلافِ الثيابِ، ومن الدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم .... " الحديثَ. فأَمَرَ بغسلِ اليد للشكِّ في نجاستها. وفي كتاب ابن شعبان أنه يُنضح ما شُكَّ فيه مِن الأبدانِ والثيابِ. انتهى.

وقال صاحبُ النكت وسندٌ: ظاهرُ المدونة الغسلُ في الجسد مع الشك. وذكر ابن شاس أن ظاهرَ المذهب مساواةُ الجسد للثوب، واعترض عليه صاحب الذخيرة بما ذكرناه عن عبد الحق وسند، وإنما قالا: ظاهر المدونة؛ لأنه لما نص على خصوص الجسد في الأُنثيين أَمَرَ بالغَسل، وإنما أُخذ النضحُ فيه مِن تعميمه بقوله: هو طهور لكل ما يشك فيه. وهو محتمِلٌ للتخصيص. تنبيه: اللفظ الذي ذكره المصنفُ عن المدونة هو الذي في الأمهات. وقال في التهذيب: إلا أن يصيبَهما منه شيء. واعترضه عبد الحق. وَلَوْ تَرَكَ النَّضْحَ وَصَلَّى فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ: يُعيد كَالْغُسْلِ. وَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا إِعَادَةَ عَلَيْهِ .... قوله: (وَلَوْ تَرَكَ النَّضْحَ) يُريد والغسلَ، وأما لو تركه وغَسَلَ لجرى على الخلافِ فيمن أُمِرَ بمسحِ رأسِه وخفيه فغَسَلَ ذلك، والأقيسُ الإجزاءُ، وسيأتي. انتهى. وفي هذا التخريجِ نظرٌ. وقوله: (كَالْغُسْلِ) يُريد كمَن تَرَكَ الغُسل مع تحققِ النجاسة. وظاهرهُ يُعيد العامِدُ أبداً والناسي في الوقت، ونحوُه لابن حبيب. وأَلحق الجاهلَ بالعامدِ. وفي المجموعة عن ابنِ القاسم فيمن تَرَكَ النضحَ: يُعيد في الوقت. وظاهرُه عمداً أو سهواً. وقال أشهب وابن نافع وابن الماجشون: لا إعادةَ عليه أصلاً. وعلله القاضي أبو محمد بأن النضحَ عندهم مستحبٌّ، وقد تقدم أن ظاهرَ المذهبِ خلافُه. تنبيه: قولُ ابن حبيب المتقدم: يُعيد الجاهل والعامد أبداً بخلاف الناسي. مقيدٌ في الواضحة بما إذا شك هل أصاب ثوبَه شيءٌ مِن جنابة [12/أ] أو غيرِها من النجاسة؟ قال: وأما إذا

وَجَدَ أثر احتلام فاغتسل وغسل ما رَأَى، وجَهِلَ أَنْ يَنْضَحَ ما لم يَرَ وصلَّى به- فلا إعادةَ عليه لِمَا صَلَّى. قال: ولكن عليه أن يَنضحه لما يَسْتَقْبِلُ. وقاله ابن الماجشون. قال: وقال: ليس هذا كالأول؛ لأن هذا لم يدخله الشكُّ فيما لم يَرَ كما دَخَلَ الأولَ، وإنما أُمِرَ بالنضحِ فيما لم يَرَ لتطيبَ النفسُ عليه. هذا معنى كلامه، وعلى هذا فيُقَيَّدُ ما نَقَلَه المصنفُ عن ابن الماجشون بهذا. المازري بعد حكايته الثلاثة الأقوال: وقد قدمنا الاختلاف في الإعادةِ بِتَرْكِ النجاسةِ المحققةِ، وأَنَّ في المذهب قولاً بالإعادة أبداً مع النسيان، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ مِن أصحابنا في النضحِ، وإنما ذلك لانخفاضِ رُتْبَتِه عن الغَسل. وَيُغْسَلُ الإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعاً لِلْحَدِيثِ فَقِيلَ: تَعَبُّدً. وَقِيلَ: لِقَذَارَتِهِ. وَقِيلَ: لِنَجَاسَتِهِ. وَالسَّبْعُ تَعَبُّدٌ، وَقِيلَ: لِتَشْدِيدِ الْمَنْعِ. وَقِيلَ: لأَنَّهُمْ نُهُوا فَلَمْ يَنْتَهُوا ..... الحديث المشار إليه حديث صحيح خرجه البخاري ومسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ في إِناءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً". وكونُ الغسلِ تعبداً هو ظاهرُ المذهبِ. وقوله: (وَالسَّبْعُ تَعَبُّدٌ) الواو للحالِ مِن تمامِ القولين. والفرقُ بينَ تشديدِ المنع وبين كونِهم نُهوا فلم ينتهوا- أَنَّ الأوَّلَ تشديدٌ ابتداءً، والثاني تشديدٌ بَعْدَ تَسهيلٍ. واحتج من قال بالتَّعَبُّدِ بطلبِ العددِ المخصوص. وأُجيب بأنه لا يَبعد أن يكون الغسلُ للنجاسة، ويكون التعبدُ في كيفية الغسل. واعتُرِضَ على مَن قال: إنهم نُهُوا فلم ينتهوا. بأنه غيرُ لائقٍ بالصحابة رضي الله عنهم. وأُجيب بأن المراد بعضُ الأعراب الذين لم يتمكن الإسلامُ من قلوبهم، ولم يفهموا معنى هذا النهي، فحملوه على الكراهة، وعلى هذا فكان الأولى أن يقال: لأنَّ بعضَهم نُهِيَ.

فائدة: كثيراً ما يَذكر العلماءُ التعبدَ، ومعنى ذلك: الحكمُ الذي لا تَظهر له الحكمةُ- بالنسبة إلينا مع أنَّا نَجْزِمُ أنه لا بُدَّ مِن حكمة؛ وذلك لأنا استقرأنا عادةَ الله تعالى فوجدناه جالباً للمصالحِ دَارِئاً للمَفاسِدِ؛ ولهذا قال ابن عباس: إذا سمعتَ نداءَ الله فهو إمَّا يدعوك لخيرٍ أو يصرفُك عن شَرٍّ، كإيجاب الزكاةِ والنفقاتِ لسَدِّ الخَلاَّتِ، وأَرْشِ الجناياتِ لجبرِ المتلفاتِ، وتحريمِ القَتْلِ والسُّكرِ والزِّنَى والقَذْفِ والسَّرِقَةِ صَوْناً للنفوسِ والأنسابِ والعقولِ والأموالِ والأعراضِ وإعراضاً عن المُفْسدات. ويُقَرِّبُ إليك ما أشرنا إليه مثالاً في الخارجِ إذا رأينا مَلِكاً عادتُه يُكْرُمُ العلماءَ ويُهِينُ الجُهَّالَ، ثم أَكْرَمَ شخصاً- غَلَبَ على ظَننا أنه عالمٌ، فاللهُ تعالى إذا شَرَعَ حُكْماً عَلِمْنا أنه شَرَعَه لحكمةٍ، ثم إِنْ ظهرتْ لنا فنقولُ هو معقولُ المعنى، وإن لم تَظهر لنا فنقولُ هو تعبدٌ، والله أعلم. وَفِي وُجُوبِهِ وَنَدْبِهِ رِوَايَتَانِ منشأُ الخلافِ الخلافُ في الأمرِ المطلَقِ: هل يُحمل على الوجوبِ أو على الندب؟ قال ابن بشير: والذي في المدونةِ الندبُ. أَخَذَهُ مِن قولِه: يُضعفه، فإنه جعل المعنى: يُضْعِفُ الوجوبَ. وَلا يُؤْمَرُ بِهِ إِلا عِنْدَ قَصْدِ الاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ بَنَى ابنُ رشد وعياضٌ الخلافَ على أن الغُسل تَعَبُّدٌ، فيجِبُ عند الولوغ؛ لأن العبادات لا تُؤَخَّرُ، أو للنجاسة فلا يَجِبُ إلا عند إرادةِ الاستعمال. وفيه نظر؛ لأن الْمَشْهُورِ أنه تعبد، وأنه لا يجب إلا عند إرادة الاستعمال. والأحسنُ أَنْ يُبْنَى على الخلافِ في الأمر: هل هو على الفور أو على التراخي؟ وَلا يَتَعَدَّدُ الْغُسْلُ بتَعَدُّدِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي إِلْحَاقِ الْخِنْزِيِرِ بِهِ رِوَايَتَانِ الظاهر أن الضمير في (تعدده) عائدٌ على الولوغ، ويشمل ذلك صورتين: إحداهما أن يكون التعددُ مِن كلبٍ واحدٍ. الثانية: أن يكون مِن كلبين فأكثر.

وقد ذكر ابنُ بشير وابن شاس الخلافَ في الفرعين، وقال ابن عبد السلام: الظاهرُ عَوْدهُ على الكلب. وفيه نظرٌ لوجهين: أحدُهما أن عَود الضمير على المضاف إليه على خلافِ الأصل. الثاني: أن الحمل الذي ذكرناه أعم فائدةً فكان أولى. ابن هارون: وهذا الخلاف أيضاً في تَعَدُّدِ حكايةِ المؤذنين. ورجَّح بعضُهم عدمَ التعدد، وهو الْمَشْهُورِ؛ لأن الأسبابَ إذا تَساوتْ مُوجِبَاتُها اكتُفي بأحدِها، كتعدد النواقضِ في الطهارة، والسهوِ في الصلاة، وموجباتِ الحدود. والظاهرُ مِن المذهب عدمُ إلحاق الخنزير به، والقولُ بالإلحاق مبنيٌّ على أن الغسل للقذارة. قال ابن رشد: وإذا لَحِقَ به الخنزيرُ فيُلحَقُ به سائرُ السباع لاستعمالها النجاسةَ. وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنِ اتِّخَاذِهِ قَوْلانِ بناءً على أن الألف واللام في قوله صلى الله عليه وسلم: "الكلب" هل هو للجنس فيعمُّ، أو للعَهْدِ في المنهيِّ عن اتخاذه؟ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي الْمَاءِ خَاصَّةً، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ: وَفِي الطَّعَامِ. وَفِيهَا: إِنْ كَانَ يُغْسَلُ فَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ وَكَانَ يُضَعِّفُهُ. فَقِيلَ: الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: الْوُجُوبَ. وَقَالَ: جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ وَمَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ. وَكَانَ يَرَى الْكَلْبَ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ السِّبَاعِ ..... بنى المازريُّ الخلافَ على خلافِ أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة، إِذِ الغالبُ عندهم وجودُ الماءِ لا الطعام. ابن هارون: ويحتمل أن يُبنى على أَنَّ الولوغَ هل يختصُّ بالماء أو يعمُّ؟ وقوله: (إِنْ كَانَ يُغْسَلُ) إشارة إلى تَضعيف الغسل.

واختلف في الضمير في (يُضَعِّفُهُ) على ثلاثة أقوال: فقيل: أَراد يضعف الوجوب، وهو أظهرُها. وقيل: أراد تضعيفَ الحديث لظاهر السياق. وقيل: إنما ضعَّفَه لمعارضته لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. وقيل: أراد تضعيفَ العددِ. ولا يَخفى ما فيهما مِن الضعف، فإن الحديثَ صحيحٌ، والمعارضةَ منفيةٌ لإمكان حَمْلِ الحديثِ على المنهي عن اتخاذه، وحَمْلِ الآيةِ على المأذونِ في اتخاذه. أو المرادُ مِن الآية- بَعْدَ غَسْلِ الصيد. [12/ب] أو الحديثُ مقيدٌ بالماء فقط إلى غير ذلك. قوله: (وَكانَ يَرَى الْكَلْبَ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ السِّبَاعِ) استدل بعضهم على أن مذهبَ المدونة تعميمُ الغسل في المأذونِ وغيرِه، إذ المأذونُ فيه هو الذي يكون من أهل البيت. ورده عياضٌ لاحتمال أن يُرادَ مِن أهل البيت في عادة الناس في اتخاذه، لا أنه مِن أهل البيت في إباحة مخالطتِه. وَفِي إِرَاقَتِهِمَا- مَشْهُورُهَا الْمَاءُ لا الطَّعَامُ- ثَالِثُ الأَقْوَالِ. وَكَانَ يَسْتَعْظِمُ أَنْ يَعْمَدَ إِلَى رِزْقِ اللهِ. فَيُرَاقُ لأَنَّهُ وَلَغَ فِيِهِ كَلْبٌ .... (وَفِي إِرَاقَتِهِمَا) خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، أي ثلاثةُ أقوال، و (الْمَاءُ) في كلامِه مرفوعٌ على أنه خبرُ مبتدإٍ على حذفِ مضافٍ، أي: ومشهورُها إراقةُ الماء، ويجوز أن يكون التقدير: يُراق الماءُ دونَ الطعامِ؛ لاستجازةِ طَرْحِه. وكيفية الأقوال هكذا: يُراق الماء والطعامُ بناءً على أن التعليل بالنجاسة. لا يُراقان للتَّعَبُّدِ. ونُسِبَ لابن القاسم: يراقُ الماء دون الطعام؛ لاستجازةِ طَرْحِه، وهو الْمَشْهُورِ. وفي المذهب قولٌ رابعٌ لمالكٍ فَرَّقَ بين المأذونِ، فسؤرُه طاهرٌ وغيرُه نجسٌ. وخامسٌ لعبد الملك: فَرَّقَ بين البدويِّ وغيرِه، فيُحمل في البدوي على الطهارة، وفي الحَضَرِيِّ على النجاسةِ.

وَفِي غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمَوْلُوغِ فِيهِ قَوْلانِ يمكن أن يكون منشأُ الخلافِ التعبدَ والنجاسةَ. خليل: والصحيحُ أنه لا يُغسل به لما في مسلم: "فَلْيُرِقْهُ، وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً". وَفِيهَا: إِذَا تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى فَلا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَفِيهَا: لا يُعْجِبُنِي إِنْ كَانَ قَلِيلاً إن قلتَ: ظاهرُ قولِه (فَلا إِعَادَةَ) يقتضي التعبد، وهو خلافُ مقتضى قوله: (لا يُعْجِبُنِي إِنْ كَانَ قَلِيلاً) لأنَّ التفرقةَ بينَ القِلَّةِ والكثرةِ لا تُناسِبُ التعبدَ- فالجوابُ أَنَّ الأَوَّلَ كما قلتُ يقتضي التعبد، ولا منافاةَ بينه وبين ما بعده؛ لأن القليلَ قد يتَغير مِن لُزُوجاتِ فَمِ الكلبِ. كما قالوا في أحد القولين: لا يُتطهر بالماء بَعْدَ جَعْلِه في الفَمِ. وما ذكره المصنفُ هو الْمَشْهُورِ. ولابن القاسمِ وغيرِه أنه يطرح الماء الملوغ فيه ويتيمم. وقاله ابن الماجشون في الثمانية. ولابن وهب أنه يُعيد- المتوَضِّئُ به- في الوقت. فروع: الأول: الغسلُ مختصٌّ بالإناء، فلو وَلَغَ في حوضٍ لم يُغسل؛ لأنه تَعبدٌ. الثاني: الغسلُ مختصٌّ بالولوغ، فلو أدخل يدَه أو رجلَه لم يغسل خلافاً للشافعي. الثالث: لا تُشترط النيةُ في الغسل. قاله الباجي وابن رشد، قالا: وإنما يَفتقر التعبدُ إلى النيةِ إذا فعلَها شخصٌ في نفسه، أمّا هذا وغسلُ الميت وما شابههما فلا. قال في الذخيرة: ويحتمل أن تُشترط فيه النية قياساً على اشتراطها في النضحِ. قال: ويحتمل أن يُفْرَقَ هنا بأن الغسلَ يُزيل اللعابَ، والنضحُ لا يُزيل شيئاً، فكان تعبداً بخلافِ إناء الكلب. الرابع: هل يشترط الدلك أم لا؟ ليس فيه نصٌّ، والظاهرُ- على أصولنا- الاشتراطُ، لأن الغسلَ عندنا لا تَتِمُّ حقيقتُه إلا به.

وَإِذَا اشْتَبَهَتِ الأَوَانِي قَالَ سَحْنُونٌ: يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهَا. وَقَالَ مَعَ ابْنِ المَاجِشُونِ: يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي حَتَّى تَفْرُغَ. زَادَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: وَيَغْسِلُ أَعْضَاءَهُ مِمَّا قَبْلَهُ. ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ سُحْنُونٍ: يَتَحَرَّى كَالْقِبْلَةِ. ابْنُ الْقَصَّارِ مِثلُهُمَا إِنْ كَثُرَتْ، وَمِثْلُ ابْنِ مَسْلَمَةَ إِنْ قَلَّتْ ..... (اشْتَبَهَتِ) أي: التبس الطاهرُ بالنجسِ، وأما لو اشتبه مُطَهِّرٌ بطاهر لاستَعْمَلَهما وصلَّى صلاةً واحدةً. ومسألةُ المصنف يُمكن أن تُفْرَضَ في الماءِ القليلِ تَحُلُّه نجاسةٌ كثيرة، ولم تُغَيِّرْهُ على القولِ بالنجاسة. ويُمكن أن تُفرض في الماء الكثيرِ تُغَيِّرُه نجاسةٌ كثيرة، ولكنها لم تَظْهَرْ لكونِ الماءِ متغيراً بِقَرارِه. ويُمكن أن تُفرض في البولِ الموافقِ لصفةِ الماء. أما الوجهُ الأوَّلُ فالظاهرُ أنه لم يُرِدْهُ؛ لأنه إنما يأتي على غيرِ الْمَشْهُورِ، وحكمُه على الْمَشْهُورِ ما قاله ابنُ الجلاب أنه يتوضأ بأيهما شاء، إلا أنه يُستحب له أن يتوضأ بأحدِهما ويُصلي، ثم بالثاني ويصلي. وأما الثاني فحكى ابنُ شاس فيه الخلافَ كما حكى المصنف. وأما الثالثُ فخرّج القاضي أبو محمد فيه جوازَ الاجتهاد على قول ابن المواز، واختاره ابنُ العربي. وأوجبت الشافعيةُ فيه التيمم. ووجهُ تخريجِ القاضي أنه اشتباهُ طاهرٍ بنجس، فأجاز التحرِّي كالماء المتنجس. وحاصلُ ما ذكره المصنف مِن الخلاف هل يتيمم ويتركُها، أو يتطهر بها؟ قولان: فالأولُ: مذهبُ سحنون، وعلى الثاني هل يتحرى؟ وهو قول ابن المواز وابن سحنون. ابن العربي: وهو الصحيح. أم لا؟ وعليه فهل يَتطهر بالجميع أو يُفَرِّقُ؟ والأولُ مذهب ابن الماجشون وابن مسلمة، غير أن ابن مسلمة زاد: ويغسلُ أعضاءه بماءِ الإناء الثاني مما أصابه مِن ماء الإناءِ الأوَّلِ. قال الأصحابُ: وقولُ ابنِ مسلمة هو الأشبهُ بقولِ مالك. واختاره القاضي أبو محمد.

والثاني: مذهبُ ابن القصار يُفَرِّقُ بينَ أنْ تَقِلَّ الأَواني فيقول بقولِ ابن مسلمة، وبين أن تَكْثُرَ فيقولُ بقول ابن المواز وابن سحنون. وعلى قولِ ابن مسلمة لو ترك غسل أعضائه مما قبله- لم يكن عليه شيءٌ، لكونِ النجاسةِ غيرِ مُحَقَّقَةٍ. ابن عبد السلام: وبَقِيَ عليه قولُ مَن قال: يَتوضأ بعَدَدِ النَّجِسِ وزيادةِ إناءٍ مثلُ ما قيل في الثياب. خليل: وهذا هو الصحيحُ، بل لا يَنبغي أن يُفهم الخلاف على الإطلاق؛ لأنه إذا كان معه عشرةُ أوانٍ فيها واحدٌ نجسٌ فما وجهُ التيمم ومعه ماءٌ محقَّقُ الطهارة وهو قادر على استعماله؟ وما وجه مَن يقول إنه يستعمل الجميع. ونحن نَقطع بأنه إذا استعمَل إناءين تبرأُ ذمتُه؟ وإنما ينبغي أن يكون محلُّ الأقوال إذا لم يتحقق [13/ أ] النجس من الطاهر، أو تَعَّدَ النجسُ واتحد الطاهرُ. قال في الجواهر: ثُمَّ مِن شرطِ الاجتهادِ أن يَعجز عن الوصولِ إلى اليقين، فإن كان معه ماءٌ يَتحقق طهارتَه امتَنع الاجتهادُ. فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بِعِلْمٍ عَمِلَ عَلَيْهِ، وبَظَنٍّ قَوْلانِ: كَالْقِبْلَةِ أي إذا فرعنا على القول بالاجتهاد فتحَرَّى إناء، ثم تَغَيَّرَ اجتهادُه فإن كان إلى يقينٍ بطلتْ الأولى، ولزمه إعادتُها. وهذا معنى قوله: (عمل عليه) وإلى ظن قولان مبنيان على أن الظنَّ هل يُنقض بالظنِّ أم لا؟ وَيَتَحَرَّى فِي الثِّيَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسَ وَزِيَادَةِ ثَوْبٍ يعني: أن الْمَشْهُورِ في الثياب- إذا التبست عليه- التحري. فإن قلت: ما الفرقُ بين الأواني والثياب؟ قيل: لخفَّةِ النجاسةِ بدليلِ الاختلاف فيها، ولا كذلك الماءُ، فإنه لم يختلف في اشتراط المطلق في رفع الحدث. وبهذا يندفع ما قاله ابن عبد السلام هنا. وانظره.

وظاهر قوله: (وَيَتَحَرَّى فِي الثِّيَابِ) عدمُ اشتراطِ الضرورة. وكلامه في الجواهر قريبٌ منه. ونص سند على أنه إنما يتحرى في الثوبين عند الضرورةِ، وعدمِ وجود ما يَغسل به الثوبين. وَلَوْ رَأَى نَجَاسَةً فِي الصَّلاةِ فَفِيهَا: يَنْزِعُهُ وَيَسْتَانِفُ، وَلا يَبْنِي. ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَتَمَادَى مطلقاً، وَيُعيد فِي الْوَقْتِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهُ. مُطَرِّفٌ: إِنْ أَمْكَنَ تَمَادَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتَانَفَ ..... أي: فلو رأى نجاسةً في الصلاة غيرَ معفوٍّ عنها في ثوبه، وحاصلُ ما قاله في المدونة البطلانُ. ولو قال: ففيها تبطل. لَفُهِمَ المعنى، والقطعُ مشروطٌ بسَعَةِ الوقتِ، وأما مع ضيقِه فقال ابن هارون: لا يَختلفون في التَّمادي إذا خُشِيَ فواتُ الوقت؛ لأن المحافظةَ على الوقت أَوْلَى مِن زوالِ النجاسةِ. وعلى هذا لو رآها وخشي فواتَ الجمعةِ أو الجنازةِ أو العيدين لتمادَى لعدمِ قضاءِ هذه الصلوات. وفي الجمعةِ نظرٌ إذا لنا: إنها بَدَلٌ مِن الظهرِ. وقوله: (وَيَسْتَانِفُ) إنما هو في الفريضة، وأما غيرُها فليس عليه استئنافُها، قاله في المدونة، قال: ففيها ويستأنف بإقامة. وهل ذلك مطلقاً؛ لأنها إنما كانت لتلك الصلاة، وقد فسدتْ، أو مع الطول؟ تأويلان للشيوخ. وقوله: (مُطَرِّفٌ: إِنْ أَمْكَنَ) أي: إن أمكن نزعُه- نَزَعَهُ وتمادى، فإن لم يُمكن نَزْعُه قَطَع واستأنف. وقولُ ابن الماجشون كقولِ مطرفٍ إلا أنه إذا لم يمكنه النزعُ يتمادى لاختلافِ أهلِ العلم في هذه الصلاة، ويُعيد احتياطاً. قال ابن عبد السلام وابن هارون: وظاهر قوله (مطلقاً) ولو أمكنه نَزْعُه، ويكون قوله: (إِنْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهُ) شرطاً في الإعادة في الوقت. لكن إذا كان الحكمُ على هذا أنه يُعيد في الوقت مع عدمِ الإمكان، فكان المناسبُ مع الإمكان الإعادةَ أبداً، وذلك مناقضٌ لقوله: (يَتَمَادَى مطلقاً) والأظهرُ أن الإطلاق عائد على غيرِ مذكور، بل هو إلى ما يُفهم من السياق، وهو على أيِّ حالٍ كان المصلي مِن قيام أو غيرِه، عقدَ ركعةً أم لا.

خليل: والظاهرُ- من جهة اللفظ- أن ابن الماجشون يقول بالتمادي مطلقاً، سواء أمكن نزعه أم لا. إلا أنه إن لم يمكن نزعه يُعيد في الوقت، وإن أمكن نزعُه: فإنْ نَزَعَه فلا شيءَ عليه، وإن لم ينزعه أعاد أبداً. وإليه أشار المازري بقوله: وقيل يتمادى بعد نزعها، وإن لم يمكنه النزع تمادى. وكذلك قال ابن شاس، ولفظه: وقال ابن الماجشون: وينزعه إذا أمكنه ويتمادى، وإن لم يمكنه تمادى ثم نزعه وأعاد. انتهى. فروع: الأول: قال سحنون: مَن أُلقي عليه ثوب نجس في الصلاة، ثم سقط عنه مكانَه أرى أن يبتدئ. قال الباجي: وهذا على رأي ابن القاسم. الثاني: إذا كانت النجاسةُ تحت قدميه فرآها فتحوَّل عنها- خُرِّجَتْ على الخلاف في الثوب إذا أَمْكَنَه طَرْحُه. الثالث: قال أبو العباس الإِبِّيَانِيّ: إذا كانت في أسفل نعليه نجاسةٌ فنزعه ووقف عليه جاز، كظَهْرِ حَصِيرٍ. نقله في الذخيرة. فَلَوْ رَآهَا فِي الصَّلاةِ ثُمَّ نَسِيَ فَتَمَادَى فَقَوْلانِ أي: رآها في ثوبِه، أو في جسدِه، فَهَمَّ بالقَطْعِ فَنَسِيَ وتمادى فقولان: ابن حبيب: تبطُل صلاتُه. وهو الجاري على مذهب المدونة. واختار ابنُ العربي عدمَ البطلان بناءً على صحة الصلاة إذا نَزع الثوبَ النجسَ. وَأَمَّا قَبْلَهَا فَكَمَا لَوْ لَمْ يَرَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ أي: كمن لم يرها، أي فيُعيد في الوقت.

ابن عبد السلام: والشاذُّ ليس بثابتٍ في المذهب، وإنما اعتمد المؤلف فيه على ابن شاس، وابن شاس ذكره عن ابن العربي، وابن العربي لم يسمِّ قائله، وشأنه في كتابه إدخالُ مسائلَ وأقاويلَ مِن غيرِ المذهب استحساناً لها، أو استغراباً أو تضعيفاً. وَلَوْ سَالَتْ قُرْحَتُهُ أَوْ نَكَأَهَا تَمَادَىَ، إِلا أَنْ يَكُونَ كَثِيراً، إِلا أَنْ تَمْصُلَ بِنَفْسِهَا وَلا تَكُفَّ فَيَدْرَأَهَا بِخِرْقَةٍ ...... أي: إن سالت أو نكأها تمادى إن كان يسيراً، بدليل قوله: (إلا أن يكون كثيراً) أي فلا يتمادى. وقوله: (إِلا أَنْ تَمْصُلَ بِنَفْسِهَا) استثناءٌ مِن المستثني، وكلامُه يقتضي أنه يَتمادى إذا مَصَلَتْ بشرطِ ألا تَكُفَّ. وأما لو رجا الكفَّ لَقَطَعَ ولو سَالتْ بنفسِها. وهذا كما قال في المدونة: وكلُّ قرحةٍ لو تركها صاحبُها لم تَمْصُل، ولو نكَأها سالتْ، فما خرج مِن هذه مِن دَمٍ أو غيرِه فأصاب ثوبَه أو جسدَه غَسَلَه، وإن كان في الصلاة قَطَعَ، ولا يَبني إلا في الرُّعاف إلا أن يَخرج منها الشيءُ السيرُ فَلْيَفِتِلْهُ، ولا ينصرفُ. وإن كانتْ لا تكفُّ ولا تَمْصِلُ مِن غيرِ أن ينكأها فليُصَلِّ، وليَدْرَأَها بخرقةٍ، ولا يقطعُ لذلك الصلاةَ. انتهى. الجوهري: نكَاتُ القُرْحَةَ أَنْكَؤُهَا إِذا قَشَرْتَها. ولَوْ رَعَفَ وَعَلِمَ [13/ب] دَوَامُهُ أَتَمَّ الصَّلاةَ قال الجوهري: الرُّعَافُ: الدَّمُ الذي يَخرج مِن الأنفِ. وقد رَعَفَ الرجل يَرْعَفُ ويَرْعُفُ. ورَعُفَ- بالضم- لغةٌ فيه ضعيفةٌ. انتهى. وقوله: (ولَوْ رَعَفَ) أي في الصلاة، بدليل قوله: (أَتَمَّ الصَّلاةَ). ومرادُه بالعلم في قوله: (وعلم) الظنُّ على أحد التأويلين في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}. [الممتحنة: 10].

وقيل: أَطلق الإيمانَ على الإسلام لما بينهما مِن الارتباط غالباً. وموجبُ الظن هاهنا العادةُ. ابن عبد السلام: والدوامُ إلى آخرِ الوقتِ الضروريِّ، وفي الاختياريِّ نظرٌ. خليل: يحتمل أن يكون النظرُ مبنياً على أن غير أصحاب الأعذار إذا أوقعوا الصلاة بعد الوقت الاختياري، هل يكونون مؤدين أو قاضين؟ فعلى الأداء مِن غيرِ عصيانٍ يَقطعُ، وعلى القضاءِ لا يَقطع. وقد حكى ابنُ رشد فيما إذا أصابه الدمُ قبلَ الدخول في الصلاة قولين: أحدُهما أنه ينتظر الوقت الاختياري: القامة في الظهر، والقامتان في العصر. والثاني أنه يؤخرها ما لم يَخَفْ فواتَ الوقتِ جملةً. والظاهرُ مِن كلام ابن رشد أن الأوّلَ هو المذهب؛ لتصديره به، وعطفِه عليه بقيل، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن أنْ يُجري هذان القولان اللذان حكاهما ابن رشد فيما إذا حَدَثَ له الرعافُ بعد دخولِه في الصلاة، والأصل في هذا ما ورد أن عمر رضي الله عنه صَلَّى وجُرْحُه يَثْعَبُ دماً. وَفِي جَوَازِ إِيمَائِهِ خَشْيَةَ تَلَطُّخِهِ بِالدَّمِ قَوْلانِ أي: إذا قلنا يُتِمُّ الصلاةَ ولا يَقطعُ لأجلِ الدمِ، فهل يَجوز له أن يُومِئُ ألا؟ فقولان. وفي كلامِه إجمالٌ؛ لأن المسألةَ على ثلاثةِ أقسام: إِنْ خَشِيَ ضرراً لجسمِه أَوْمَأ اتفاقاً، وإِنْ خَشِيَ تَلَطُّخَ جسدِه لم يُومِئُ اتفاقاً، إذِ الجسدُ لا يَفسد. وإن خشي تلطخَ ثوبِه فللشيوخِ طريقان: حكى ابنُ رشد جوازَ الإيماء باتفاقٍ كما في القسم الأول، وحكى غيرُه قولين كالمصنف: الأول: الجوازُ عن ابن حبيب، وعدمُه عن ابنِ مسلمة. وعلى الإيماء فقال في تهذيب الطالب: يُومئ للركوع من قيام، وللسجود من جلوس.

فَإِنْ شَكَّ فَتَلَهُ وَمَضَى، فَإِنْ كَثُرَ بِحَيْثُ سَالَ أَوْ قَطَرَ وتَلَطَخَّ بِهِ قَطَعَ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَطَّخْ جَازَ أَنْ يَقْطَعَ أَوْ يَخْرُجَ فَيَغْسِلَهُ ..... حاصلُ ما ذكره أنّ للراعف إذا لم يعلم أنه يتمادى به الدمُ ثلاثةَ أحوال: الأول: لا يسيل ولا يقطر، فلا يجوز له أن يَخرج، وإنْ قَطَعَ أَفسد عليه صلاته، وعليهم إن كان إماماً. وقال مالك وابن نافع في المجموعة: ويَفْتِلُه بأنامِلِه الأربعة، والمراد بالأناملِ الأناملُ العليا، فإن زاد إلى الوسطى قَطَعَ. هكذا حكى الباجي، وحكى ابنُ رشد أن الكثير هو الذي يَسيل إلى الأنامل الوسطى بقدرِ الدرهم في قول ابن حبيب، وأكثرَ منه في رواية ابن زياد. وحكى مجهولُ الجلاب في فتله باليد اليمنى أو اليسرى قولين. الحالة الثانية أن يَقطر أو يَسيل، ويتلطخُ به فلا يجوزُ له التمادي، وإليه أشار بقوله: (قطع). الحالة الثالثة أن يسيل أو يقطر، ولا يتلطخُ به، فيجوزُ له القطع والتمادي. وهل الأفضلُ البناءُ لعَمَلِ الصحابة، أو القطعُ لحصول المنافي؟ حكى ابن رشد الأول عن مالك، والثاني عن ابن القاسم. وحكى الباجيُّ عن مالك من رواية ابن نافع وعلي بن زياد ترجيحَ القطع. قال الباجي: وهذا إن كان مأموماً. وإن كان فَذّاً فهل له أن يبني أم لا؟ عن مالك في ذلك روايتان: إحداهما أنه ليس له لك، وهو الْمَشْهُورِ من مذهبه. والثانية له ذلك، وبها قال محمد بن مسلمة. انتهى.

ثُمَّ يَبْنِي مطلقاً عَلَى الْمُدَوَّنَةِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ وَعَقَدَ رَكْعَةً. وَقِيلَ: وَأَتَمَّ رَكْعَةً. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ إِمَاماً وَيَسْتَخْلِفُ كَذَاكِرِ الْحَدَثِ هذا مُفَرَّعٌ على الحالة الثالثة، أي: إذا أَجَزْنَا له البناءَ والقطعَ، فإنْ قَطَعَ فلا إشكالَ، وإِنْ بنى خَرجَ فغسلَ الدمَ، ثم يبنى على صلاتِه مطلقاً على مذهب المدونة. أي: سواءٌ أكان إماماً أو مأموماً أو فذّاً، عَقَدَ ركعةً أم لا. وكأنّ المصنفَ اعتمد في هذا على ابن بشير وابن شاس، فإنهما قالا: وإن كان فذّاً أو لم يعقد ركعة فهنا قولان: أحدهما يبني، وهو ظاهر الكتاب. ولذلك قال في المقدمات: إن ظاهر المدونة بناء من لم يعقد ركعة، وبناء الفذ على ما قاله ابن لبابة. وحكى ابن بشير بناء الفذ عن ابن مسلمة وأصبغ ومالك من سماع ابن القاسم، وكذلك قال ابن بَزِيزَةَ: مذهب المدونة بناء الفذ. خليل: ولا شك في أخذ بناء المأموم من المدونة، وفي أخذ بناء الفذ والإمام منها نظر، وفي كل منهما قولان منصوصان. وقد تقدم أن الباجي حكى أن الْمَشْهُورِ في الفذِّ عدمُ البناءِ. وقد حكى ابنُ رشد في البناءِ قَبْلَ عَقْدِ ركعةٍ أربعةَ أقوال: عن سحنون: يبني. وعن ابن القاسم: لا يبني. وعن ابن وهب: يبني إلا في الجمعة. قال: وهو ظاهر المدونة. وقيل يبني المأمومُ دونَ الإمامِ والفذِّ. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ وَعَقَدَ رَكْعَةً) أي: إنما يبني على هذا القول بشرط أن يكون في جماعة، فلا يبني الفذ، وبشرط أن يعقد ركعة، فلا يَبني مَن كان في جماعة قبل أن يَعقد ركعة. وهذا القول لابن حبيب، وعقدُ الركعة عنده برفع الرأس. وقوله: (وَقِيلَ: وَأَتَمَّ رَكْعَةً) أي: يزيدُ هذا القائلُ على قولِ ابنِ حبيب أنه يُتِمُّ ركعةً بسجدتيها، ولا يكتفي هذا القائلُ في البناء بمجرد العقدِ. وحكى ابن يونس أن ابن

القاسم روى عن مالك جوازَ بناء الفذ بشرط أن يعقد ركعة بسجدتيها؟ ومنشأ الخلاف هل رخصةُ البناء لحرمة الصلاةِ للمنع من إبطال العمل أو لتحصيل فضل الجماعة؟ ابن عبد السلام: وظاهرُ قوله: (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ إِمَاماً) التكرارُ؛ لأن قوله قبل هذا (مطلقاً)، يُغني عنه. فإن قيل: إن الإطلاقَ عائدٌ على [14/أ] عَقْدِ الركعة. قيل: قوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ وَعَقَدَ رَكْعَةً) يدل على أنه أراد بالإطلاقِ ما هو أعمُّ. خليل: ويمكن أن يقال: إنما أعاده ليرتب عليه ما بعده من كيفية الاستخلاف. وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَخْرُجَ مُمْسِكاً لأَنْفِهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمِيَاهِ الْمُمْكِنَةِ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ وَلا مَاشٍ عَلَى نَجَاسَةٍ، فَلَوْ تَكَلَّمَ سَهْواً أَوْ مَشَى عَلَى نَجَاسَةٍ فَثَالِثُهَا: تَبْطُلُ فِي الْمُضَيِّ لا فِي الْعَوْدَةِ، لإِقْبَالِهِ إِلَيْهَا. وَرَابعُهَا عَكْسُهُ أي: وصِفَةُ ما يَفعل الراعِفُ الذي يَجوز له البناءُ أن يَخرج إلى أقربِ المياهِ، فإِنْ تَعَدَّى إِلى أبعدَ بَطَلَتْ. قال في المقدمات: باتفاقٍ. لأنه أَتَى بزيادةٍ مُستغنى عنها، ولم يَفصلوا بين الزيادةِ القليلةِ والكثيرةِ. واشترطَ ابنُ هارون أنْ يُمسك أنفَه مِن أعلاه؛ لأنه إذا أَمسكه مِن أسفلِه بقيَ الدمُ في داخل الأنف، وحكمُه حكمُ الظاهر على سطح الجسد. خليل: وفيه نظرٌ، والمحلُّ محلُّ الضرورة، والله أعلم. وقوله: (إِلَى أَقْرَبِ الْمِيَاهِ) قالوا: ما لم يَتَفَاحَشُ بُعْدُ موضعِ الغَسْلِ، فيَجِبُ القَطْعُ، وقد يُفهم ذلك مِن قوله: (أَقْرَبِ الْمِيَاهِ) ويُشترط في بنائه أَلاَّ يتكلمَ ولا يمشيَ على نجاسةٍ. فإنْ تَكلم- قال في المقدمات: جاهلاً أو عامداً- بطلتْ باتفاقٍ. قال: واختُلِفَ إذا تَكلم ساهياً. فقال ابن حبيب: لا يَبْنِي. وحكى ابنُ سحنون عن أبيه أنه يَبني على صَلاتِه، ويسجدُ لسَهْوِه إلا أن يكون الإمامُ لم يَفرغ مِن صلاته، فإنَّه يَحْمِلُه عنه.

وقال ابن الماجشون وابن حبيب: إِنْ تَكلم في ذهابه بطلتْ، وإن تكلم في رجوعه لم تبطل. قال ابن يونس: قال بعضُ أصحابنا: لأنه إذا تكلم راجعاً فهو في عملِ الصلاة فأَشْبَهَ كلامَه سهواً في أَضْعَافِ الصلاةِ، وإذا تكلم في انصرافه فإنما هو في مستقبل الغسلِ للدمِ. وهذا هو القول الثالثُ الذي ذكره المؤلفُ. وحكى ابنُ بشير وابنُ شاس عكسَه: إِنْ تَكَلَّمَ في مسيرِه لم تبطل، وغن تكلم في عَوْدِه بطلت. ولم يَعْزُواهُ. قال في المقدمات: واختُلِفَ إن مشى على قَشْبٍ يابسٍ، فقال سحنون: تنتقضُ صلاتُه. وقال ابن عبدوس: لا تنتقض. ولم أرَ منصوصاً في مسألةِ النجاسةِ إلا هذين القولين. وكلامُ المصنفِ يَدُلُّ على أن الكلامَ والمشيَ على النجاسة مستويان. وهو مقتضى كلامِ ابن شاس، وابنِ عطاء الله. ولم يقع في بعض النسخ قوله: (أَوْ مَشَى عَلَى نَجَاسَةٍ) وهذا الخلافُ إنما هو في النجاسةِ اليابسةِ، وأما الرَّطْبَةُ فتبطل اتفاقاً. قاله في المقدمات. ثُمَّ يَبْتَدِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ كَانَ سَجَدَ وَاحِدَةً بِخِلافِ السَّجْدَتَيْنِ. وَقِيلَ: يَبْنِي عَلَى مَا عَمِلَ فِيهَا ....... يُطلق البناءُ في بابِ الرُّعاف على معنيين: بناءٍ في مقابلَةِ قَطْعٍ، وقد تقدّم، وبناءٍ في مقابلةِ عَدَمِ اعتدادٍ. وهذا الثاني إنما يأتي بعد حصولِ البناءِ الأوّلِ، أي: إذا حَكَمْنَا بأنه لا يَقطع فهل يَعتدُّ بكلِّ ما فَعَلَه أو لا يعتدُّ إلا بركعةٍ قد تَمَّتْ بسجدتيها؟ الْمَشْهُورِ الثاني. والأولُ هو قولُ ابن مسلمة، وهو الأظهرُ. وما ذكره إنما هو في حقِّ الإمام والفذِّ والمأمومِ إذا وَجَدَ الإمامَ قد فَرَغَ، وأما إن وَجَدَه في الصلاة فإنه يَتبعُه على كلِّ حالٍ.

فَإِنْ رَجَعَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ فَظَنَّ فَرَاغَ الإِمَامِ أَتَمَّ مَكَانَهُ إِنْ أَمْكَنَ، أَصَابَ ظَنُّهُ أَوْ أَخْطَأَ، فَإِنْ خَالَفَ ظَنَّهُ بَطَلَتْ، أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ، فَإِنْ كَانَتِ الْجُمُعَةَ رَجَعَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَثَالِثُهَا: إِنْ أَمْكَنَهُ رَجَعَ وَإِلا فَمَكَانهُ ..... قيل: يُريد أَخَذَ في الرجوعِ أو قَصَدَه، إِذِ المرادُ ليس حقيقةَ الرجوعِ؛ لقوله: (أَتَمَّ مَكَانَهُ) ويحتمل أن يريد: رجعَ في بعضِ الطريق ثم عَلِمَ، ويحتمل أن يريد: رجع إلى ما زَايَلَه، وهو الصلاةُ؛ لأنه بخروجِه كالمفارِقِ له. وفي بعض النسخ: (فإن خرج في غير الجمعة) ولا إشكالَ عليها. وحاصلُ كلامِه أن له صورتين: صورةٌ في غير الجمعة، وصورةٌ في الجمعة، ففي غير الجمعة: إِنْ ظَنَّ فراغَ الإمامِ أَتَمَّ مكانَه إِنْ أَمْكَنَ، وإلا ففي أقربِ المواضعِ إليه مما يَصلح للصلاة وهذا هو الْمَشْهُورِ. ورُوي عن مالك- رحمه الله تعالى- أنه يرجع في مسجدِ مكةَ ومسجدِ الرسول صلى الله عليه وسلم. الباجي: فجعل الرجوعَ لفضيلةِ المكان. قوله: (أَتَمَّ مَكَانَهُ) في الكلام حذفٌ، أي: وصَحَّتْ صلاتُه أَصاب ظنُّه أو أخطأ، وهذا هو الْمَشْهُورِ. وحكى ابن رشد قولاً- إذا أخطأ- بالبطلان، ويدل على الحذف قوله: (فَإِنْ خَالَفَ ظَنَّهُ بَطَلَتْ، أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ). ويَتَخَرَّجُ قولٌ بالصحةِ- فيما إذا خالفَ ظنَّه وأصابَ- مما حكاه ابنُ رشد في مقابلةِ هذا مأخوذٌ مِن كلامِه بالمطابقة. وفُهِمَ مِن كلامه أنه لو ظن بقاءَ الإمام لزمه الرجوعُ مطلقاً، وهو الْمَشْهُورِ قاله الباجي. وقال ابن شعبان: إِنْ لم يَرْجُ أَنْ يُدرك ركعةً أَتَمَّ مكانَه. قال ابن يونس: وهو خلافُ مذهب المدونة.

وهذا التقسيمُ ظاهرٌ في المأمومِ والإمامِ؛ لأنه إذا استخلّف صار حكمُه حكمَ المأموم، وأما الفَذُّ فيُتِمُّ مكانَه مِن غيرِ رجوعٍ. فإن كانت الجمعة فإنْ ظن بقاءَ الإمام رَجَعَ، وإن لم يَظُنَّ بقاءَه فقال المصنف: رَجَع على الْمَشْهُورِ إلى آخره. أي: أن الْمَشْهُورِ يرى أن رجوعه إلى الجامع شرطٌ في صحة الجمعة، وإن لم يرجع بطلتْ. ولا يُمكن حملُه على ما يُفهم مِن كلامه أنه يَرجع مطلقاً إن أمكن أو لم يمكن؛ إذ لا يمكن أن يُقال بالرجوع مع عدمِ الإمكانِ. والقول الثاني: لا يرجعُ– كغيرها– ويُتِمُّ بموضِعه. وهذا القول حكاه الشوشاوي وابن شاس، وعزاه بعضُهم لابن عبد الحكم، وخرَّجه ابنُ يونس مِن قول أشهب في هروب الناس عن الإمام بعدَ عقدِ ركعةٍ أنه يُضيف إليها أُخرى، وتجزئه جمعته. قال: لأن الجماعةَ أحد [14 / ب] شروطها كالمسجد. والقول الثالث نقله اللخمي وابن يونس عن المغيرة، أنه إذا رَعَفَ بعدَ تمامِ ركعةٍ من الجمعةِ فحال بينه وبين المسجد وادٍ فليُضِفْ إليها أُخرى، ثم يُصلي أربعاً. لكن لا يُؤخذ من كلام المصنف أنه يُصلي أربعاً. قال في البيان: ومن أصحابنا من قال: إنه يُتِمُّ صلاتهَ في أقربِ المساجدِ إليهِ. فرع: وإذا قلنا إنه لا بد أن يرجع، فهل لا بُدَّ له أن يَرجع إلى نفس الجامع؟ وهو الْمَشْهُورِ، أو إلى أقربِ موضعٍ تُصلى فيه الجمعة؟ وهو قول ابن شعبان. قال: وإنْ أَتَمَّ في موضعه لم أرَ عليه الإعادة. قال المازري: فأشار إلى أنَّ الرجوعَ إلى الجامع فضيلةٌ. ويُمكن أن يكون هذا مراد المصنف في القول الثاني، وفيه بُعْدٌ.

وإذا بَنينا على الْمَشْهُورِ فإنه يَكتفي بأولِ الجامع، فإنْ تَعَدَّاه بطلتْ، نَصَّ عليه الباجي، وهذا الخلافُ كلُّه إنما هو إذا حصل له ركعةٌ قَبْلَ رُعافِه، وتَرَكَ المصنفُ هذا القيدَ لما سيأتي، والله أعلم. وَعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ رَعَفَ فَسَلَّمَ الإِمَامُ رَجَعَ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ، فَإِنْ سَلَّمَ الإِمَامُ فَرَعَفَ سَلَّمَ وَأَجْزَأَهُ. أي: وعلى الْمَشْهُورِ بالتزامِه العَوْدَ إلى الجامع مطلقاً لو رَعَفَ قبل أن يُسَلِّم الإمامُ رَجع ليُوقع السلامَ في الجامع. وقوله: (فَتَشَهَّدَ) أي: لم يتقدم له التشهد، وأما لو تقدم فلا يُعيده. وقوله: (فَإِنْ سَلَّمَ الإِمَامُ فَرَعَفَ سَلَّمَ وَأَجْزَأَهُ) لما في الخروج مِن كثرةِ المُنافي، وخِفَّةِ لفظةِ السلام، ولا يُؤخذ منه عدمُ وجوبِ السلامِ كما قِيل. وما ذَكره المصنفُ– من التفرقة بينَ أَنْ يَرْعُفَ قبلَ سلامِ الإمامِ أو بعدَه– منصوصٌ لمالك في المدونة والعتبية، وهو الْمَشْهُورِ. ومنعَ سحنونٌ أن يُسلِّم حتى يغسل الدمَ إن كان كثيراً. فَإِنْ كَانَ لَمْ يُتِمَّ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا ابْتَدَأَهَا ظُهْراً. وَقال سَحْنُونٌ: يَبْنِي عَلَى إِحْرَامِهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ، أَوْ بَنَى عَلَى إِحْرَامِه أَوْ عَلَى مَا عَمِلَ فِيهَا ... أي: فإن حَصَلَ الرُّعاف في الجمعة قبل أن يُتِمَّ ركعةً بسجدتيها– يريد: ولم يَلحق منها بعد ذلك ركعةً– صلى ظهراً اتفاقاً. وهل يَبني على إحرامه؟ الْمَشْهُورِ لا بد من الابتداءِ. وقال سحنون: يَبني على إحرامِه. وقال أشهب: إِنْ شاءَ قطعَ وابتدأَ كما في المذهب، وإن شاء بَنَى على احرامِه كقولِ سحنون. وإن شاءَ بَنَى على ما تقدم له مِن

فعلِها. وظاهرُ كلامِه أن أشهب لا يَستحبُّ شيئاً، والذي حكاه عنه ابنُ يونس وابنُ رشد وغيرُهما استحبابَ القطعِ. وربما عُورِضَ الْمَشْهُورِ هنا بمن دَخَلَ يومَ خميسٍ يَظنه يومَ جمعةٍ، لكنَّ مسألةَ الرعافِ أخفُّ مِن حيث إن الإمام قد انفصل فيها من الصلاة، فضَعُفَ رَعْيُ حُرْمَتِه. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَضَاءُ وَالْبِنَاءُ فَفِي الْبِدَايَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ، وَذَلِكَ بأَنْ يُدْرِكَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ مَعاً أَوْ إِحْدَاهُمَا ... أي: فابنُ القاسم يُقدم البناءَ، وسحنونٌ يُقدم القضاءَ. والبناءُ عبارةٌ عما فات بعد الدخول مع الإمام، والقضاءُ عبارةٌ عما فات قبل الدخول مع الإمام، هذا إن لم يدخل بعد ذلك مع الإمام، وأما إن دخل فلا، وذلك في ثلاث صور: الأولى: إذا أَدرك الأُولى ثم رَعَفَ فخرج ثم أَدرك الرابعةَ، فأطلق في المدونة على الثانيةِ والثالثةِ القضاءَ. وبعضُ الأندلسيين: البناءَ. ابن عبد السلام: وجعلها بعضُ أشياخي قولين. الصورة الثانية: إذا أَدرك الأُولى ورَعَفَ في الثانية أو نَعَسَ، ثم أدرك الثالثةَ وفاتته الرابعةُ؛ فالأخيرةُ بناءٌ بلا شكٍّ، والثانيةُ قضاءٌ على مذهب المدونة، بناءٌ على مذهب الأندلسيين. الثالثة: عكسُها. وهاتان الصورتان تُستدركان على المصنفِ؛ لأنه اجتمع فيهما القضاءُ والبناءُ بخلاف الأُولى فإنها بناءٌ كلُّها، أو قضاءٌ كلُّها، والله أعلم. والأظهرُ تقديمُ البناءِ؛ لأنه إذا قَدَّمَ القضاءَ وَقَعَ بين بناءين، وإذا قدّم البناءَ وقع القضاءُ في طرفٍ، والبناءُ في طرفٍ آخرَ. وقوله: (وَذَلِكَ) أي اجتماعُ البناءِ والقضاءِ، فيُتَصَوَّرُ في ثلاثِ مسائلَ:

الأولى: فاتَتْه الأُولى وأَدرك الوسطيين، وفاتته الرابعة بخروجِه لغسلِ الدمِ، وفي معناها النُّعَاسُ والزِّحامُ. فعلَى البناءِ يأتي بركعةٍ بالفاتحةِ فقط سرّاً. وهل يَجلس قبل نهوضِه لركعةِ القضاءِ؟ قولان: الْمَشْهُورِ الجلوسُ؛ لأنه يُحاكي به فِعْلَ الإمام؛ ولأَنَّ مِن سنةِ القضاءِ أن يكون عَقِيبَ جلوسٍ. وقيل: لا يَجلس؛ لأنها ثالثتُه. ثم يأتي بركعةٍ بأمِّ القرآنِ وسورةٍ ويَجهر إِنْ كانتْ صلاةً جهريةً، ويَجلس؛ لأنها آخرُ صلاتِه. وتُلَقَّبُ هذه المسألةُ بأمِّ الجناحين لقراءةِ السورة في الطَّرَفَيْنِ. وعلى قولِ سحنون: يأتي بركعة بأم القرآن وسورةٍ ولا يجلس، ثم بركعةٍ بأمِّ القرآنِ خاصةً. الصورة الثانية: فاتته الأولى وأدركَ الثانيةَ وفاتته الأخيرتان، فعلى البناءِ يأتي بركعةِ بالفاتحة فقط ويجلس؛ لأنها ثانيته تغليباً لحُكْمِه، ثم يأتي بالثالثة بالفاتحةِ فقط. وهل يجلس. القولان، ثم بركعة القضاءِ بالفاتحةِ والسورةِ، وتكون هذه الصلاةُ– على الْمَشْهُورِ– كلها جلوساً، وهي أيضاً– على هذا القول– أمُّ جَناحين. وعلى القضاء يأتي بركعةٍ بالفاتحة وسورة ويجلسُ لأنها ثانيته، ثم بركعتي البناء مِن غيرِ جلوس في وَسَطِها. الصورة الثالثة: فاتته الأُوليان وأدركَ الثالثةَ، وفاتته الرابعة لخروجه للغسل. فعلى البناء يأتي بالفاتحة فقط ويجلسُ اتفاقاً؛ لأنها ثانيته ورابعة إمامه؛ ولأنَّ القضاءَ لا يَقوم له إلا مِن جلوس، ثم يأتي بركعتي القضاءِ بسورتين مِن غير جلوس في وسطهما؛ [15/ أ] لعدمِ مُوجِبِ الجلوسِ، فتكون السورتان متأخرتين عكسَ الأصلِ. وعلى القضاءِ يأتي بالفاتحةِ والسورةِ ويجلسُ؛ لأنها ثانيتهُ، ثم بثالثةٍ بالفاتحةٍ والسورةٍ ولا يجلسُ، ثم بركعة البناءِ بالفاتحةِ فقط، وتُسمى هذه الحُبْلَى والمُجَوَّفَةَ؛ لصيرورةِ السورتين في وسطِها. وَعَلَى الْبِنَاءِ فَفِي جُلُوسِهِ فِي الأَخِيرَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَانِيَةً قَوْلانِ يعني: إذا كانت ثانيةً لم يدخلها خلافٌ، بل يجلسُ فيها اتفاقاً كما ذكرنا في الصورة الثالثة، وإن كانت غيرَ ثانيةٍ فقولان، كالصورة الأولى والثانية.

الوضوء

وقوله: (الأَخِيرَةِ) أي: بالنسبة إلى صلاة الإمام. وقوله: (إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَانِيَةً) أي: للمأموم، وهو ظاهرٌ مما تقدم. وَيَجْتَمِعُ الْبِنَاءُ وَالْقَضَاءُ فِي حَاضِرٍ أَدْرَكَ ثَانِيَةَ صَلاةِ مُسَافِرٍ، وَفِيمَنْ أَدْرَكَ ثَانِيَةَ صَلاةِ خَوْفٍ فِي حَضَرٍ .... أي: إذا صلى حاضرٌ خَلْفَ مسافرٍ وفاتَتْه الأُولَى فإنَّ الأُولى قضاءٌ والأخيرتين بناءٌ؛ لأن الحاضرَ إذا صلى خلفَ المسافر لا يَقْصِرُ، وهذه كالصورة الثانية سواءٌ. وقوله: (وَفِيمَنْ أَدْرَكَ ثَانِيَةَ صَلاةِ خَوْفٍ فِي حَضَرٍ) ظاهر. وَلا يَبْنِي فِي فَرْحَةٍ، وَلا جُرْحٍ، وَلا قَيْءٍ، وَلا حَدَثٍ، وَلا شَيْءٍ غَيْرِ الرُّعَافِ هذا ظاهرٌ، ونَبَّهَ على خلافٍ خارجَ المذهبِ. وحكى المازري وابن العربي عن اشهب أنه يقول فيمن رأى نجاسةً في ثوبِه في الصلاة أنه يغسلُها ويبني. وهذا بعيدٌ عن أصل المذهب. والقرحة بفتح القاف وسكون الراء: الجُرْحُ، وبغير التاء وفتح القاف وضمها: الجرح أيضاً، وقيل: بالضم ألمُ الجرح؟ قاله عياضٌ. الْوُضُوءُ: فَرَائِضُهُ سِتٌّ: النِّيَّةُ عَلَى الأَصَحِّ أي: الفريضةُ الأُولى النيةُ على الأصح؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوَا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الْدِيِنَ} [البينة: 5]. وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات". خَرَّجَه البخاري ومسلم. ومقابلُ الأصَحِّ روايةٌ عن مالك في عدم الوجوب، حكاها المازري نصّاً عن مالك في الوضوء، وقال: يتخرج في الغسل. وكذلك ذكر ابن شاس أن ابن حكى عن مالك في كتابه الأوسط أن النية غير واجبة في الوضوء، وقال: ويتخرج في الغسل.

خليل: وفي التخريج نظرٌ؛ لأن التعبدَ في الغسل أقوى، ولم يحفظ صاحبُ المقدمات في وجوب النية في الوضوء خلافاً، بل حكى الاتفاق عليها. وحكمةُ إيجابِ النية تمييزُ العبادات عن العادات؛ لتبيينِ ما لله عما ليس له، وتمييز مراتبِ العبادات في أنفسها؛ لتمييز مكافآت العبد على فعلهِ، ويظهرَ قدرُ تعظيم العبد لربه. فمثال الأول الغُسل: يكون عبادةً ويكون تبرداً، وحضورُ المساجد يكون للصلاة ويكون للفرجة، ويكون السجودُ لله وللصنم. ومثال الثاني الصلاة؛ لانقسامها إلى فرضٍ ونفلٍ، والفرضُ ينقسم إلى فرضٍ على الأعيانِ وفرضٍ على الكفاية، وفرض على منذور وغير منذور. ومحلُّ النية القلبُ. قال المازريُّ: أكثرُ المُتَشَرِّعِينَ وأقلُّ أهلِ الفلسفةِ على أنَّ النيةَ في القلبِ، وأقلُّ المتشرعين وأكثرُ أهل الفلسفةِ على أنها في الدماغِ. ورُوي عن عبد الملك في كتاب الجنايات أنَّ العقلَ في الدماغِ. وَهِيَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ: إِمَّا بتَخْصِيصِهِ ببَعْضِ أَحْكَامِهِ كَرَفْعِ الْحَدَثِ أَوِ اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِمَّا لا يُسْتَبَاحُ إِلا بِهِ، وَإِمَّا بفَرْضِيَّتِهِ ... الضمير المجرور بإلى عائدٌ على الوضوء، والباءُ الأُولَى للمُصاحَبَةِ، والثانيةُ للتَّعْدِيَةِ. وقوله (ببَعْضِ أَحْكَامِهِ) أي: ببعضِ لوازمِ الوضوءِ كرفعِ الحدثِ. وعبارتُه تقتضي أن للوضوءِ أحكاماً، وأن منها رفعَ الحدث، وهو كذلك؛ لأن الوضوءَ له أحكامٌ منها رفعُ الحدثِ عن الأعضاء، ومنها استباحةُ ما كان الحدث مانعاً منه، ومنها امتثالُ أَمْرِ الله تعالى بأداءِ ما افتَرَضَ. وقوله: (أَوِ اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِمَّا لا يُسْتَبَاحُ إِلا بِهِ) الضمير المجرور في (بِهِ) يحَتمل عَوْدَه على الوضوء، ويحتمل عودَه على رفع الحدث، ورجحه بعضُهم؛ لأنه يَلزم على

الأوَّلِ أَنَّ مَن نوى استباحةَ الصلاة، أو القراءةَ في المصحف ونحوَهما لا يُجزئه ذلك؛ لأن ذلك يُستباح بالغُسل من الجنابة. وأُجيب بأنَّ الغُسلَ مُستَلْزِمٌ للوضوء. وعلى كلا الوجهين يُنتقض كلامُه بالتيمم؛ لأنه تُستباح به العبادةُ، وليس بوضوءٍ. والأَوْلَى أَنْ لو قال: هو استباحةُ ما كان ممتنعاً منه، أو كقول ابن شاس: أو استباحة ما لا يُستباح إلا بالطهارة. لِعُمُومِه. على أنَّ لقائلٍ أَنْ يقول: في كلام ابن شاس نظرٌ؛ لأنه إن أراد بالطهارةِ الطهارةَ الأصليةَ– أعني الحدثَ الأصغرَ والأكبرَ دونَ بدلهِما– ففيه إطلاقُ العامِّ وإرادةُ الخاصِّ، ويَرِدُ عليه التيممُ. وإن أراد بالطهارةِ الطهارةَ الكبرى أو الصغرى وبدلَهما– فيَرِدُ عليه ما لو نوى بوضوئِه قراءةَ القرآن طاهراً فإنه لا يُجزئه ما أنها لا تُستباح في حق الجُنُبِ إلا بالغسل، والله أعلم. وقوله: (وَإِمَّا بفَرْضِيَّتِهِ) أي: ينوي أداءَ الوضوء الذي هو فرضٌ عليه. وبه صرح ابن شاس، فإنه قال: أو أرادَ فرضَ الوضوءِ. وعلى هذا يَخرج عنه الوضوءُ للتجديد، ويَدخل فيه الوضوء للنوافل. وما قاله ابن هارون مِن أنه يَحتمل أن يريد أداءَ ما افتُرِضَ عليه من العبادات. وعلى هذا يَخرج الوضوءُ للنوافل– ليس بظاهر؛ لأن إعادةَ الضميرِ على غيرِ مذكورِ؛ ولأن تخصيصَ [15/ب] وضوءٍ بالفريضة– ليس بظاهر، إذ لا وجهَ للتخصيص، والله أعلم. قال بعضهم: بناءً على أنَّ حقيقةَ رَفْعِ الحَدَثِ مغايرةٌ لاستباحةِ الصلاة– إن صاحبَ السلس والمستحاضة ينويان بوضوئهما الاستباحةَ لا رفعَ الحدثِ؛ لأن الحدثَ دائمٌ. وهذا يَظهر على القول بأن بولَ صاحب السلس حدثٌ، ويَسقط عنه الوضوء لكل صلاة للمشقةِ. وأما على رأي العراقيين الذين يجعلون بولَه كالعَدَمِ، ويَشترطون في الحدثِ الصحةَ والاعتيادَ– فلا يَلزم.

وَوَقْتُهَا مَعَ أَوَّلِ وَاجِبِهِ، وَقِيلَ: مَعَ أَوَّلِهِ يعني: أنه اختُلف في وقت النيةِ، فالْمَشْهُورِ أنها عند غسل الوجه، وقيل: إنها عند غسل اليدين. وجمعَ بعضُهم بين القولين فقال: يبدأُ بالنية عند أول الفعل، ويَسْتَصْحِبُها إلى أولِ الفَرْضِ. خليل: والظاهرُ هو القول الثاني؛ لأنه إذا قلنا: إنه ينوي عند غسل الوجه. يَلْزَمُ منه أَنْ يَعْرَى غسلُ اليدين والمضمضة والاستنشاق عن النيةِ. فإن قالوا: ينوي له نيةً مُفْرَدَةً. قيل: يَلزم منه أن يكون للوضوء نيتان، ولا قائلَ بذلك. قاله ابن راشد. وَفِي الْفَصْلِ الْيَسِيرِ بَيْنَهُمَا قَوْلانِ أي: بين النية ومحلها. ابن عبد السلام: والأشهرُ عدمُ التأثير، ومقتضى الدليل خلافُه. وقال المازري: الأصح في النظرِ عدمُ الإجزاء. ابن بزيزة: وهو الْمَشْهُورِ. ومن هذا المعنى اختلافُهم فيمن مشى إلى الحمَّام أو إلى النهر ناوياً غُسل الجنابة، فلما أخذ في الطُّهر نسيها. قال عيسى عن ابن القاسم: يجزئه فيهما. وشبه ابن القاسم ذلك بمن أَمَرَ أهلَه فوضعوا له ماءً يَغتسل به من الجنابة. وقال سحنون: يجزئه في النهر لا في الحمام. وقال في البيان: ووجهُه أن النيةَ بَعُدَتْ؛ لاشتغاله بالتَّحْمِيمِ قبلَ الغُسْلِ، وكذلك إن ذهب إلى النهر لِيَغْسِلَ ثوبَه قبل الغُسل، فغَسَل ثوبَه ثم اغتسل، لا يُجزئه على مذهبه، ولو لم يَتحمم في الحمام أجزأه الغُسْلُ، كالنهر سواء، ووجه ما قاله ابن القاسم أنه لما خرج إلى الحمام بنية أن يتحمم ثم يغتسل لم تُرْتَفَضْ عنده النيةُ. انتهى. ونقل القارفي في قولاً بعدمِ الإجزاء في الحمام والنهر، وفُهم من التقييد باليسير أنه لو كان كثيراً لم يجز بلا خلاف. وقاله المازري.

وَعُزُوبُهَا بَعْدَهُ مُغْتَفَرٌ العزوب هو انقطاعُ النية والذهولُ عنها. وقوله: (بَعْدَهُ) أي: بعد وقتها. ولفظه (مُغْتَفَرٌ) تقتضي أن الأصلَ الاستصحابُ، وهو كذلك، وإنما أسقطه عنه للمشقة. وَفِي تَاثِيرِ رَفْضِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ رِوَايَتَانِ هذا الخلافُ في الوضوءِ والحجِّ والصومِ والصلاةِ، وذكر القرافيُّ عن العبدي أنه قال: الْمَشْهُورِ في الوضوء والحج عدمُ الارتفاض، والْمَشْهُورِ في الصوم والصلاة الارتفاضُ. ومقتضى كلامه أن الخلافَ جارٍ بعد الفراغ من الفعل، فإنه قال: رفضُ النية من المشكلات لا سيما بعد تمام العبادة. كما نقله العبدي. فذكر الكلام السابق، ثم قال: والقاعدةُ العقليةُ أَنَّ رفع الواقع محالٌ. انتهى. وقد أشرنا إلى الفَرْقِ بين هذه الأربعة في باب الصلاة فانظرْهُ. ابن عبد السلام: وكان بعضُ من لقيته من الشيوخ يُنكر إطلاقَ الخلافِ في ذلك، ويقول: إن العبادةَ المشترط فيها النية إمّا أن تنقضي حِسّاً وحُكماً كالصلاةِ والصومِ بعد خروجِ وقتِهما، أو لا تنقضي حِسّاً ولا حُكماً كما في حال التَّلبُّس بها، أو تَنقضي حساً دون حكمٍ كالوضوء بعد الفراغ منه، فإنه وإن انقضى حسّاً لكنَّ حكمَه– وهو رفع الحدث– باقٍ. فالأولُ لا خلاف في عدم تأثيرِ الرفضِ فيه، والثاني لا خلاف في تأثير الرفض فيه، ومحل الخلاف هو الثالث، وهو أحسنُ من جهة الفقهِ لو ساعدَتْه الأنقالُ. انتهى.

خليل: وقد نصَّ صاحبُ النكت في باب الصوم على خلافهِ، فإنه نصَّ على أنه لو رفض الوضوء– وهو لم يكمله– إن رفضه لا يُؤَثِّرُ إن أكمل وضوءَه بالقُرْبِ. قال: وكذلك الحجُّ إذا رَفَضَه بَعْدَ الإحرامِ ثم عاد فلا شيءَ عليه. قال: وأما إن كان في حين الأفعالِ التي تجب عليه ونوى الرفضَ وفَعَلَها بغير نيةٍ كالطوافِ، فهذا الرافضُ يُعَدُّ كالتاركِ لذلك. انتهى. وَلَوْ فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى الأَعْضَاءِ فَقَوْلانِ بِنَاءً عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ أَوْ بالإِكْمَالِ .... أي: خصَّ كل عضوٍ بالنية مع قطعِ النظرِ عما بعده. ومنشأُ الخلاف كما المصنفُ: هل يرتفع حدثُ كلِّ عضوٍ حصلت الطهارةُ فيه بانفرادِه أو لا يرتفعُ إلا بإكمال الطهارةِ؟ فإذا غَسَلَ الوجه مثلاً: في قولٍ يرتفع حدثُه عنه، وفي قول لا يرتفع حدثه عنه إلا بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. قال في البيان: والأولُ قولُ ابن القاسم في سماع موسى عنه في هذا الكتاب، والثاني لسحنون. قال: والأولُ أظهرُ، واحتج له بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ العبدُ المسلمُ فغَسَلَ وجهَه خرجتْ الخطايا مِن وجهِه حتى تخرجَ مِن تحتِ أَشْفاِر عَينيه". فخروجُ الخطايا دليلٌ على حصولِ الطهارةِ. انتهى. وقد يُجاب بمنعِ ارتفاع الخطايا بارتفاعِ الحدث، بل لأجل الغسلِ؛ لأن الغسلَ مِن فِعْلِه فيُجازَى عليه، وأما رفعُ الحدثِ فليس مِن فعلِه. سندٌ: وظاهرُ المذهب عدمُ الصحة. وقال ابن بزيزة: المنصوصُ أنها لا تَفَرَّقُ؛ نظراً إلى أنها عبادةٌ واحدةٌ، فكأن الأعضاءَ كلَّها عضوٌ واحدٌ، والشاذُّ أنها تَفَرَّقُ. واستقرأه القاضي أبو محمد من المدونة، وفيه نظرٌ. انتهى. وفي كلامِهما نظرٌ مع كلام ابن رشد فانْظُرْه.

واستَشْكَلَ [16/أ] القرافيُّ في قواعده القولَ بطهارةِ كلِّ عضوٍ بانفرادِه، قال: لأن المنعَ يَتعلق بالمكلَّفِ لا بالعضوِ، فالمكلفُ هو الممنوعُ من الصلاة، لا أن العضوَ هو الممنوعُ من الصلاة، والمنعُ في حقِّ المكلفِ باقٍ ولو غسل جميع الأعضاء إلا لُمْعَةً واحدةً. وأطال في ذلك فانظره. وَمِنْهُ لابسُ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ غَسْلِ الأُخْرَى عِنْدَ قَوْمٍ أي: ومن هذا الأصل اختُلف فيمن غسل رجلَه اليُمنى وأدخلها في الخُفِّ، ثم غسل اليسرى فأَدْخَلَها: هل يسمحُ أم لا؟ فإن قلنا: إن الحدثَ يرتفع عن كل عضوٍ بالفراغ منه– مَسَحَ وإلا فلا. وأنكر ابنُ العربي أن يكون هذا أصلاً أو فرعاً في المذهب، وشنَّع على مَن ذهب إليه، وبَنَي الخلافَ في هذه المسألةِ على أن الدوامَ كالابتداءِ أَوْ لا. وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (عند قوم) أي: يُفهم منه أنه عند قوم آخرين ليس كذلك. وَأَمَّا خِلافُ الْقَابِسيَّ وَابْنَ أَبِي زَيْدٍ فِيمَنْ أَحْدَثَ قَبْلَ تَمَامِ غَسْلِهِ ثُمَّ غَسَلَ مَا مَرَّ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ وَلَم يُجَدِّدْ نِيَّةً فَالْمُخْتَارُ: بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّ الدَّوَامَ كَالابْتِدَاء أَوْ لا، وَظَاهِرُهَا لِلْقَابِسِيِّ ... يعني: أن الشيخين القابسي وابن أبي زيد اختلفا فيمن أَحْدَثَ أثناءَ غسلِه بمَسِّ ذَكَرِه أو غيرِه، هل يجب عليه تجديدُ النيةِ إذا غَسَلَ أعضاءَه؟ فقال ابن أبي زيد: يجب عليه التجديد، وإن لم يجدد لَمْ يُجْزِهِ ذلك عن وضوئه. وقال القابسي: يجزئه. وأَجْرَى هذا الخلافَ على الأصلين المتقدمين. واختار المصنفُ إجراءَه على أن الدوامَ كالابتداءِ.

ووجهُ إجرائِه على الأصلِ الأولِ أنك إذا قَدَّرْتَ أن الطهارةَ حاصلةٌ في أعضاء الوضوء وجبتْ إعادةُ النيةِ عند تجديدِ غسلِها لذهابِ طهارتِها، وإن قَدَّرْتَها غيرَ حاصلةٍ فالنيةُ باقيةٌ فلا يُحتاج إلى تجديدِ النيةِ لبقائِها ضِمْناً في نيةِ الطهارةِ الكبرى. وأما إجراؤُها على الأصل الثاني فلأنَّ نيةَ الطهارةِ الكبرى منسحبةٌ حكماً، فإن قُدِّرَ الانسحابُ كالابتداءِ لم يُحْتَجْ إلى تجديدِ النية، وإِلاَّ احتيج. واختار المصنفُ إجراءَ هذا الفرعِ على الأصلِ الثاني، ولم يفعل ذلك في المسألة التي قَبْلَها، لأن اعتبارَ الاستدامةِ لمسألةِ الخفِّ مخالِفٌ لظاهِرِ قوله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ". قوله: (وَظَاهِرُهَا لِلْقَابِسِيِّ) أي: ظاهرُ المدونة مع القابسي؛ لأنه إنما ذَكَرَ إمرارَ اليدينِ مِن غيرِ تَعَرُّض للنية، فلو كانت شرطاً لذَكَرَها، ولأن لفظَ التهذيب: (ومَن مَسَّ ذَكَرَهُ في غُسْلِه مِن جنابةٍ أعاد وضوءَه إذا فرغ مِن غُسْلِه، إِلا أن يُمِرَّ يَدَه على أعضاءِ الوضوء في غُسله فيُجزئه. فأطلَق على الأولِ إعادةً، وعلى الثاني إِمْرَاراً، وخالفَ بين اللفظين وذلك دليلٌ على اختلافِ الحقيقتين، وليس إلا اختلافُ النية، وفيه ضعف، إذ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ ذِكْرِ شيءٍ عَدَمُ اشتراطِه. فرع: إذا قيل بقول القابسي، فغَسَلَ أعضاءَ الوضوءِ بعدَ الفراغِ مِن الطهارةِ الكبرى، فهل يَلْزَمُ تجديدُ النيةِ لانقطاعِ الطهارةِ الكبرى؟ أَوْ لا لأن الفَصْلَ يَسير؟ قولان للشيوخ المتأخرين، قاله المازري. فَإِنْ نَوَى حَدَثاً مَخْصُوصاً نَاسِياً غَيْرَهُ أَجْزَأَهُ أي: إذا أَحْدَثَ أَحْدَاثاً فَنَوى منها حَدَثاً ناسياً غيرَه– أَجزأه؛ لتساويها في الحُكْمِ- وسيأتي ما إذا أخرج غيرَه– وأما لو كان ذاكراً للغيرِ ولم يخرجْه فظاهرُ النصوصِ الإجزاءُ. وسواءٌ كان الحدثَ الأولَ أَمْ لا.

وفَرَّقَ بعضُ المخالِفين لنا في المذهب بينَ أَنْ يَنْوِي الحدثَ الأولَ فيجزئُه، وبين أن يَنوي غيرَه فلا يُجزئه، إذِ المؤثرُ في نقضِ الطهارةِ إنما هو الأَوَّلُ، ولو نوى حدثاً غيرَ الذي صَدَرَ منه غَلَطاً فنَصَّ بعضُ المخالفين المتأخرين على الإجزاءِ، وهو أيضاً صحيحٌ على المذهب. قال ابن عبد السلام. وَفِي الْجُنُبِ تَحِيضُ وَالْحَائِضِ تُجْنِب فَتَنْوِي الْجَنَابَةَ قَوْلانِ، فَإِنْ نَوَتِ الْحَيْضَ فيهِمَا فَالْمَنْصُوصُ يُجّزِئُ لِتَأكُّدِهِ، وَخَرَّجَ الْبَاجِيُّ نَفْيَهُ لِقِرَاءَةِ الْحَائِضِ .... قوله: (الْجُنُبِ تَحِيضُ وَالْحَائِضِ تُجْنِب) أي: لا فرق بين أن تتقدم الجنابةُ على الحيض أو تتأخرَ، ففُهِم منه أنه يُوافق مَن ذهب إلى هذه الطريقةِ، لا ما ذهب إليه أبو بكر ابن عبد الرحمن مِن أنه إذا تَقَدَّمَ الحيضُ لم تُجْزِئْها نيةُ الجنابة اتفاقاً. قال: لأن الجنابة إذا طرأتْ لم تؤثر شيئاً. ثم لهذه المسألة ثلاث صور: الأولى: إن نوتهما معاً فلا إشكال في الإجزاء، ولذلك لم يتعرض لها المصنف لوضوحِها. الصورة الثانية: أن تنوي الجنابة ناسية للحيض، فهل يجزئها؟ وإليه ذهب أبو الفرج، وابن عبد الحكم، وابن يونس، وهو مذهب المدونة. ولا يجزئُها وإليه ذهب سحنون؛ لأن موانعَ الحيض أكثرُ فلا تندرج تحت الجنابة. ورأى في القول الأول أنهما متساويان في أكثر الأشياء، وإنما يختلفان في الأقلِّ، ومن القواعد جَعْلُ الأقلِّ تابعاً للأَكْثَرِ. الصورة الثالثة: أن تنوي الحيضَ ناسيةً للجنابةِ. قال المصنفُ: فالمنصوصُ، أي المنقول عن ابن القاسم يُجزئ. ولم يَفْصِلْ بين تَقَدُّمِ الجنابةِ وتَأَخُّرِها. وقوله: (لِتَأكُّدِهِ) أي: لكثرة موانعه.

وقوله: (وَخَرَّجَ الْبَاجِيُّ نَفْيَهُ لِقِرَاءَةِ الْحَائِضِ) أي نفي الإجزاء، فإن الجنابةَ تمنع القراءةَ، والحيضُ لا يمنعُها على الْمَشْهُورِ. ورُدَّ بأن الحيضَ يمنع مِن القراءة إذا انقطع الدمُ، نصَّ على ذلك عبدُ الحق في نكته. وزاد: وحكمُها حكم الجنب في أنها لا تنام حتى تتوضأَ. وعلى هذا فقد اشتركا في مَنْعِ القراءةِ فلا فَرْقَ. خليل: وللباجي أن يقولَ: لا يضرُّني ما ذكرتموه؛ لأني إنما ادعيت أن الجنابة تمنع ما لا يمنعه الحيض. وقد سلمتم لي ذلك قبلَ انقطاعِ الدمِ. وفيه نظر؛ لأن فرض المسألة إنما هو بعدَ الانقطاع، وهما إذ ذاك قد اشتركا في المنعِ، والله أعلم. فَإِنْ خَصَّهُ مُخْرِجاً [16/ب] غَيْرَهُ فَسَدَتْ لِلتَّنَاقُضِ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ أَحَدَ الثَّلاثَةِ الضمير في (خَصَّهُ) عائدٌ على الحدثِ المخصوصِ من قوله: (فَإِنْ نَوَى حَدَثاً مَخْصُوصاً). والمرادُ بالثلاثة رفعُ الحدث، واستباحةُ الصلاة، والفرضية. إذ لو نوى رفعَ الحَدَثِ وقال: لا أستبيح. أو نوى الاستباحة وقال: لا أرفع الحدث. أو نوى امتثالَ أَمْرِ الله تعالى وقال: لا أستبيح الصلاةَ ولا أَرْفَعُ الحَدَثَ– لم يَصِحَّ للتَّضَادِّ. وفاعل (فَسَدَتْ) عائدٌ على الطهارةِ المفهومةِ من السياقِ. وقوله: (كَمَا لَوْ أَخْرَجَ أَحَدَ الثَّلاثَةِ) إشارةٌ إلى أن هذا الحُكمَ ليس خاصّاً بهذه المسألة، بل وكذلك لو نَوَتِ الحيضَ، وأَخْرَجَتِ الجنابةَ، أو تَغَوَّطَ وبَالَ، ونوى رفعَ أحدِهما، وأَخْرَجَ الآخَرَ. فَإِنْ أَخْرَجَ بَعْضَ الْمُسْتَبَاحِ فَثَالِثُهَا: يَسْتَبِيحُ مَا نَوَاهُ دُونَهُ أي: دُونَ ما لم يَنْوِهِ، مثال ذلك: لو نَوَى أَنْ يُصلي به الظهرَ ولا يُصلي به العصر، أو مسَّ المصحفِ دونَ الصلاةِ، فقيل: يَستبيح ما نواه، وما لم يَنْوِهِ؛ لِقَصْدِ رَفْعِ الحدثِ. قال الباجي: وهو الْمَشْهُورِ.

وقيل: لا يستبيح شيئاً؛ لأنه لما أَخرج بعضَ المستباح فكأنه قَصَدَ رَفْضَ الوضوءِ. والثالثُ: يَسبيح ما نواه دُون ما لم يَنْوِهِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى" وتَبعَ المصنفُ في حكاية الثلاثةِ ابنَ شاسٍ. ولم يذكر المازري والباجي غيرَ قولين: الْمَشْهُورِ، والثاني أنه يَستبيحُ ما نواه فقط. وذكر أن ابنَ القصار خرَّجه على القول برفضِ الطهارةِ، قال: لأنه نوى رفضَ طهارتِه بعد ما نواها، فليس له أن يُصلي شيئاً بَعْدَه. لكنْ قال ابن زَرْقُون: اختلف أصحابُنا البغداديون فيمن توضأ ينوي صلاةً واحدًة، فقال بعضُهم: له أن يصلي به جميعَ الصلوات. وقال بعضُهم: لا يصلي إلا تلك الصلاةَ وحدَها. وقال بعضُهم: لا يُصَلِّي به شيئاً. والله أعلم. وَلَوْ نَوَى مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ كَالتِّلاوَةِ لَمْ يُجْزِه عَلَى الْمَشْهُورِ قاعدةُ هذا أن مَن نَوَى ما لا يَصِحُّ إلا بطهارة كالصلاةِ ومَسَّ المصحفِ والطوافِ فيجوزُ له أنْ يَفعل بذلك الطُّهْرِ غيرَه، ومَن نوى شيئاً لا تُشترط فيه الطهارةُ كالنومِ وقراءةِ القرآن طاهراً وتعليمِ العلم– فلا يَجُوزُ له أن يَفعل بذلك الوضوءِ غيرَه على الْمَشْهُورِ. وقيل: يستبيح؛ لأنه نَوَى أن يكون على أكملِ الحالات بِنِيَّةٍ مستلزِمَةٍ لرفعِ الحدثِ عنه. فرعان: الأول: لو قصد الطهارةَ المطلقةَ، فإن ذلك لا يرفع الحدثَ؛ لأن الطهارةَ قسمان: طهارةُ نَجَسٍ، وطهارةُ حَدَثٍ. فإذا قصد قصداً مطلقاً، وأَمْكَنَ انصرافُه للنَّجَسِ لم يَرتفعْ حَدَثُه. قاله المازري. والثاني: لا يَلزم في الوضوء أو الغسل أن يُعَيِّنَ بنيته الفعلَ المستباحَ، ويلزم ذلك في التيممِ. وحكى ابنُ حبيب أن ذلك في التيمم يُشترط على سبيل الوجوب، والْمَشْهُورِ أن ذلك على سبيلِ الاستحبابِ، لا على سبيلِ الإيجاب، فانْظُرِ الفَرْقَ. قال ابنُ بزيزة.

وَلَوْ شَكِّ فِي الْحَدَثِ وَقُلْنَا: لا يَجِبُ. فَتَوَضَّأَ أَوْ تَوَضَّأَ مُجَدَّداً فَتَبَيَّنَ حَدَثُهُ فَفِي وُجُوبِ الإِعَادَةِ قَوْلانِ ...... أي: إذا بنينا على مقابل الْمَشْهُورِ– أَنَّ الشكَّ لا يُوجبُ الوضوءَ– فتوضأ، أو توضأ مجدداً فتبَيَّنَ حدثُه مِن غيرِ شَكٍّ، فالْمَشْهُورِ عدمُ الإجزاءِ، لكونه لم يَقصد بوضوئه رفعَ الحدث، وإنما قَصَدَ به الفضيلةَ. وقيل: يُجزئه؛ لأن نيته أن يكون على أكملِ الحالات، وذلك يستلزمُ رفعَ الحدث. فرع: لو اغتسل وقال: إِنْ كُنْتُ على جنابةٍ فهذا لها. ثم تبين أنه كان جنباً، فروى عيسى عن ابن القاسم: لا يُجزئه. وقال عيسى: يجزئه. فائدة: اختُلف عندنا في مسائل: هل يجزئ فيها ما ليس بواجبٍ عن الواجب أم لا؟ المسألة الأولى التي ذكرها المصنف هي ما إذا جَدَّدَ ثم تبين حدثُه. ومنها ما إذا ترك لمعةً فانغسلتْ ثانيةً بنِيَّةِ الفضيلةِ. ومنها ما إذا بطلتْ عليه ركعةٌ ثم قام إلى خامسةٍ ساهياً. ومنها مَن اغتسل للجمعة ناسياً للجنابة. ومنها مَن سَلَّم مِن ركعتين ثم قام إلى نافلةٍ. ومنها مَن لم يُسَلِّم ولكنه ظن أنه قد سلم. ومنها مَن نسي سجدةً ثم سَجَدَ سهواً، أو سَجَدَ للسهو. والْمَشْهُورِ في هذه عدمُ الإجزاءِ. ومنها من طاف للوداع ناسياً للإفاضة.

ومنها من سَاقَ هدياً تَطَوُّعاً ثم تَمَتَّعَ. ومنها مَن قال إلى ثالثة مِن غير أن يُسَلِّمَ أو يَظُنُّ السلامَ. والْمَشْهُورِ في هذه الثلاثة الإجزاءُ. ومنها ما وقع لعبد الملك فيمن نَسي جمرةَ العقبة ثم رماها ساهياً أنها تُجزئه. وَلَوْ تَرَكَ لُمْعَةً فَانْغَسَلَتْ ثَانِياً بِنِيَّةِ الْفَضِيلَةِ فَقَوْلانِ هذا ظاهر مما تقدم. وَلَوْ نَوَى الْجَنَابَةَ وَالْجُمُعَةَ فَفِيهَا: يُجْزِئُ عَنْهُمَا. وَفِي الْجَلابِ: وَلَوْ خَلَطَهُمَا بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاء التَّنَافِي أَوْ حُصُولِهِ ..... اعلمْ أنّ لهذه المسألة صورتين: إحداهما: أن ينوي غسل الجنابة، وينوي به النيابةَ عن غسلِ الجمعةِ. فهذه الصورةُ لا خلاف فيها أنه يُجزئ لهما. والثانية: أن يَنوي أن هذا الغسلَ للجنابة والجمعة، وهي المسألة التي ذكرها في الجلاب. ثم اختلف الشيوخ: هلا ما في الجلاب مخالفٌ لما في المدونة؟ وإليه ذهب الأكثرون، وأن قوله في المدونة: (يُجْزِئُ عَنْهُمَا) أي: سواء خلطهما أم لا. وذهب ابنُ العربي إلى أن مسألةَ المدونةِ محمولةٌ على الصورة الأولى، ويكون في كلِّ كتاب مسألةٌ غيرُ التي في الكتابِ الآخَرِ. ويؤيده قولُ ابنُ الجلاب، وهذ المسألة مخرَّجة غيرُ منصوصة، ذكرها الشيخ أبو بكر الأبهري، إِذْ لو كانت [17/أ] في المدونة لكانت منصوصةً. ويضعف قول بعضهم أنه لم يَطَّلِعْ على المدونة أو أنه نسي المسألة؛ لأنه من الأئمة الحفاظ. وقوله: (ذكرها الشيخ أبو بكر الأبهري) قيل: إن الأبهري خرّجها على مسألةِ ما إذا نوى بحجِّه فرضَه ونذرَه. فعلى القولِ بالإجزاءِ هناك عن الفرض يُجزئ هنا عن الجنابة، وعلى القولِ بالإجزاءِ عن النذر يُجزئ هنا عن الجمعة. وكان المصنف– رحمه الله تعالى-

إنما لم يَحْكِ القولين مُجملين لاختلاف الشيوخ في الفَهْمِ، لكنَّ ذِكْرَه لسببِ الخلافِ مرجِّحٌ لمخالفةِ أحَدِ الكتابين للآخَرِ. ومعنى التنافي أن نيةَ الفرض الذي هو غسلُ الجنابة منافيةٌ لنيةِ غسل الجمعةِ، إذِ الفرضُ لا يجوز تركُه، والنفلُ يجوز تَرْكُه، والجمعُ بينهما في نيةٍ واحدةٍ جمعٌ بين المتنافيين. أو يقالُ: إن النفلَ جزءٌ من الفرض؛ لأن النفلَ مما يُمدح على فِعله، والفرضُ يُشاركه في هذا، ويَزيد المنعَ مِن الترك فلا تنافي. وَلَوْ نَوَى الْجَنَابَةَ نَاسِياً لِلْجُمُعَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لا يُجْزِئُ عَنِ الْمَنْوِيِّ فِي الثَّانِيَة، وَلا عَنِ الْمَنْسِيِّ فِيهمَا، وَقِيلَ: يُجْزِئُ، وَقِيلَ: يُجْزِئُ فِي الأُولَى لا في الثَّانِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَبيبٍ: بِالعَكْسِ ... يتضح كلامُه هنا بمعرفة الأُولى والثانية، ومَنْوِيِّ الأولى ومنويِّ الثانية. فالأُولى: إذا نوى الجنابة ناسياً للجمعة. والثانية: إذا نوى الجمعة ناسياً للجنابة. ومنويُّ الأولى الجنابةُ ومنسُّيها الجمعةُ. ومنويُّ الثانية الجمعةُ، ومنسُّيها الجنابةُ. فقوله: (فَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لا يُجْزِئُ عَنِ الْمَنْوِيِّ فِي الثَّانِيَة) أي: الجمعة (وَلا عَنِ الْمَنْسِيِّ فِيهمَا) أي: الجمعةُ في الأولى والجنابةُ في الثانية. وحاصلُه أنه إذا نَوَى الجنابةَ ناسياً للجمعة– أنه تُجزئُه عن الجنابة ولا تجزئه عن الجمعة، وإذا نوى الجمعة ناسياً للجنابة لَمْ يُجْزِهِ عن جنابته ولا عن جمعته. وقوله: (وَقِيلَ: يُجْزِئُ) أي عن المنوي والمنسي في المسألتين، وهو منقولٌ عن أشهب، حكاه ابن شاس عنه فيما إذا نسي الجنابةَ والباجيُّ في عكسها. وقوله: (وَقِيلَ: يُجْزِئُ فِي الأُولَى لا في الثَّانِيَةِ) أي: يُجزئه في الأولى عن المنسي، ولا يجزئ عن منسي الثانية، وهو قولُ ابن عبد الحكم.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ حَبيبٍ: بِالعَكْسِ) أي: يجزئ عن الجنابة في المسألة الثانية ولا يجزئ عن الجمعة في المسألة الأولى. فوجهُ قولِ ابنِ القاسم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". فوَجَبَ أن لا يجزئه عن الجمعة إذا نسيها. وأما المسألة الثانية فمِن شَرْطِ غُسل الجمعة حصولُ غُسل الجنابة. ورأى أشهبُ الإجزاءَ عن الجمعة إذا نَوى الجنابةَ بناءً منه على أن غُسل الجمعة تنظيفٌ، ورأى الإجزاءَ عن الجنابة إذا نوى الجمعة؛ لأنه نوى أن يكون على أكمل الحالات. ووجهُ قولِ ابنِ عبد الحكم أنه إذا نوى الجنابة أجزأه عن الجمعةِ بناءً على أنه للتنظيف، وإذا نوى الجمعةَ فقد نوى ما ليس بواجبٍ؛ فلا يَنُوبُ عن الواجب كما لو صلى نافلةً فلا تَنُوب عن الفريضة. ووجهُ قولِ ابن حبيب أنه إذا نوى الجنابةَ لم يجزئْه عن الجمعة؛ لأن الغُسل لها تعبدٌ وغسلُ الجنابة لا يستلزِمُه، وإذا نوى الجمعةَ فقد نَوى ما يَستلزم الجنابةَ. وَلا يَصِحُّ وُضُوءُ الْكَافِر وَلا غُسْلُهُ بِخِلافِ الذِّمِّيِّةِ تُجْبَرُ لِلْحَيْضِ لِحَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخِلافِ الْجَنَابَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ ...... إنما لم يَصِحَّ وُضوء الكافر ولا غُسله لتعذرِ النيةِ في حقِّه. وقوله: (بِخِلافِ الذِّمِّيِّةِ تُجْبَرُ) أي: على الغُسل مِن الحيض لحقّ الزوج على الْمَشْهُورِ للنص، وهو قوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]. ومقابلُ الْمَشْهُورِ لا تُجبر، وهو قولُ مالك في العتبية، قال في البيان: والخلاف جارٍ على اختلافِهم في الكفار: هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ لأن المُسْلِمَ أُمِرَ أن لا يطأ مَن يَجِبُ عليها الغُسلُ مِن الحيض حتى تغتسل. قال: فإن قيل: فما فائدةُ إجبارها على

الغسل وهو لا يصح إلا بالنية، وهي لا تصح منها؟ قيل: إنما تشترط النية في صحة الغسل للصلاة، وأما الوطء في حق الزوج فلا؛ لأنه متعبد بذلك فيها، وما كان كذلك من العبادات التي يفعلها المتعبد في غيره لم تفتقر إلى نية كغسل الميت، وغسل الإناء سبعاً من ولوغ الكلب. قال: وقد قيل: إنما لم ير مالك في رواية العتبية أن يجبرها على الاغتسال من أجل أن الغسل لا يصح إلا بنية، وهي لا تصح منها. وإنما قال في المدونة: يجبرها. مراعاة لمن يقول: إن الغسل يجزئ بغير نية. والتأويل الأول هو الصحيح، انتهى باختصار. قوله: (بخلاف الجنابة) أي: فلا تجبر على الغسل منها؛ لأن وطء الجنب جائز. وروي عن مالك في الثمانية أنه يجبرها على الاغتسال من الحيض والجنابة. الثَّانِيَةُ: غَسْلُ جَمِيعِ الْوَجْهِ بِنَقْلِ الْمَاءِ إِلَيْه مَعَ الدَّلْكِ عَلَى الْمَشْهُورِ قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) عائدٌ على الدلك فقط، أو على الدلك والنقلِ، وفي الأخير نظر؛ لأنَّ ظاهرَ المذهب أن النقلَ غيرُ مشترطٍ خلافاً لأصبغ وغيرهِ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وفي الدلك ثلاثةُ أقوال: الْمَشْهُورِ الوجوبُ، والثاني لابن عبد الحكم بنفيِ وجوبه، والثالثُ أنه واجبٌ– لا لنفسه– بل لتحقيقِ إيصالِ الماءِ، فمتى تحقَّقَ إيصالَ الماءِ لطُولِ مُكْثِه أجزأَه. ورأى بعضُهم أن هذا القولَ راجعٌ إلى القولِ بسقوطِ الدلكِ. وأما النقلُ فقد قال سحنون في العتبية: أرأيتَ الرجلَ يكون في السَّفَرِ، ولا يَجِدُ الماء [17/ب] فيصيبه المطرُ، هل يجوز له أن يَنْصِبَ يديه إلى المطر ويتوضأَ به؟ قال لي: نعم. قلت له: وإن كان جنباً هل يجوز له أن يتجرَّدَ ويتطهر بالمطر؟ فقال: نعم. قلت: وإن لم يكن المطر غزيراً؟ فقال لي: إذا وقع عليه من المطر ما يَبُلُّ به جلده فعليه أن يتجرد ويتطهر.

قال في البيان: أما إذا نصب يديه للمطر فحمل فيهما من ماء المطر ما ينقلُه إلى وجهِه وسائرِ أعضائه غاسلاً لها، ومِن بللِه ما يَمسح به رأسَه– فلا اختلاف في صحة وضوئه. وذهب ابنُ حبيب إلى أنه لا يجوز له أن يمسح بيديه على رأسِه بما أصابه مِن الرشِّ فقط، وكذلك– على مذهبه– لا يجوز أن يَغسل ذراعيه ورجليه مما أصابهما من ماء المطر دون أن ينقل إليهما الماءَ بيديه مِن ماءِ المطر. وحكاه عن ابن الماجشون، وهو دليلُ قولِ سحنون في هذه الرواية، وذلك كله جائزٌ على مذهب ابن القاسم، ورواه عيسى عنه فيما حكاه الفَضْلُ، وذلك قائمٌ من المدونة في الذي توضأ وأَبْقَى رجليه فخاضَ بهما النهرَ فَغَسَلَهُما فيه: إِن ذلك يُجزئه إذا نوى به الوضوء، وإن لم يَنقل إليهما الماءَ بيده. ومثلُه في سماع موسى بن معاوية، ومحمد بن خالد مِن هذا الكتاب. وقد أَجمعوا أن الجُنُبَ إذا انغمس في النهر وتدلَّك فيه للغُسل أنّ ذلك يُجزئه، وإن كان لم ينقل الماء بيده إليه ولا صَبَّه عليه، وذلك يدل على ما اختلفوا فيه من الوضوء. وأما قوله: (إذا وقع من المطر ما يبل به جسده فعليه أن يتجرد ويتطهر) فمعناه إذا وقع عليه في أول وهلة من ماء المطر ما يَبُلُّ به جسدَه فعليه أن يَتجرَّد ويتطهرَ؛ لأنه إذا مَكَثَ للمطرِ تضاعف عليه البللُ، فكثر الماءُ على جسدِه فأَمْكَنَه التدلكُ. وأما لو لم يقع عليه مِن ماء المطر إلا ما يبل جسدُه لا أكثرَ لَمَا كان ذلك غُسلاً ولا أجزأه؛ لأن الاغتسال لا يكونُ إلا بإفاضةِ الماءِ، أَلا تَرَى إلى قوله في الحديث: "ثمَّ اغْتَسَلَ فَأَفاضَ عَلَيْهِ المَاءَ". وبالله التوفيق. انتهى. فأنت ترى ابنَ رشدٍ كيف حكى اشتراطَ النقلِ في الصورةِ المذكورةِ، وعلى هذا فالصورُ ثلاثٌ: منها ما اتُفق فيه على عدم النقلِ– وهي مسألةُ النهرِ– كما ذكر ابن رشد. ومنها ما اختُلف فيه – وهي مسألة سحنون. ومنها ما اتُّفق فيه على وجوبِ النقلِ، وهي

إذا أخذ الإنسانُ الماءَ، ثم نفضه مِن يده، ومرَّ بها بعد ذلكَ على العضوِ، فلا يُجزئه، نص على ذلك مالك في العتبية. ابن رشد: ولا خلافَ فيه؛ لأنه مَسْحٌ، وليس بغسلٍ. وفي المنتقى: لو مسحَ بماءٍ على رأسِه مِن بللِ المطرِ أو غيرِه لَمْ يُجْزِهِ. قاله ابن القاسم. وفيه أيضاً أن ابن القاسم وسحنوناً قالا: يجوز الغسل بماء المطر. كما نقله ابن رشد. وعلى هذا فاتَّفَقَ نقلُ الباجي وابن رشد عن ابنِ القاسم في الإجزاءِ في الغُسل، واختُلف في المسح، والظاهرُ أن له فيه قولين، والله أعلم. والفرق على هذا القولِ أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] يقتضي وجوبَ النقل، إذ التقدير: أَلْصِقُوا بللَ أيديكم برؤوسِكم، والله أعلم. وَالْوَجْهُ: مِنْ مَنْبَتِ الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ إِلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ، فَيَدْخُلُ مَوْضِعُ الْغَمَمِ وَلا يَدْخُلُ مَوْضِعُ الصَّلَعِ، وَمِنَ الأُذْنِ إِلى الأُذُنِ، وَقِيلَ: مِنَ الْعِذَارِ إِلَى الْعِذَارِ. وَقِيلَ بالأَوَّلِ فِي نَقِيِّ الْخَدِّ وَبِالثَّانِي فِي ذِي الشَّعَرِ. وَانْفَرَد عَبْدُ الْوَهَّابِ بِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا سُنَّة ..... أي: حدُّ الوجهِ طُولاً مِن منابتِ الشعرِ المعتادِ إلى منتهى الذقنِ. والذقنُ مجتمعُ اللحيين، فبسببِ قولِنَا: (الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ) يَغسل الأَغَمُّ ما على جبهته من الشعر، ولا يغسل الأصلعُ ما انحسر عنه الشعرُ مِن الرأس. وحدُّه عَرْضاً مِن الأُذُنِ إلى الأذن على الْمَشْهُورِ، والقولُ بأنه مِن العذار إلى العذار رواه ابن وهب عن مالك في المجموعة. والقولُ الثالث حكاه عبدُ الوهاب عن بعض المتأخرين. والضمير في (بَيْنَهُمَا) عائدٌ على الأذنِ والعذارِ. واستُضْعِفَ قولُ القاضي؛ لأنه إِنْ كان مِن الوجهِ وَجَبَ، وإِلاَّ سَقَطَ، ولا يَثْبُتُ كونُه سنةً إلا بدليلٍ، ولم يَثْبُتْ، وكلامُه ظاهرُ التصورِ.

وَيَجِبُ تَخْلِيلُ خَفِيفِ الشَّعَرِ دُونَ كَثِيفِهِ، وَفِي اللَّحْيَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى الْهُدْبِ، وَقِيلَ: وَكَثِيفُهُ ..... الخفيف ما تظهرُ البشرةُ مِن تحته، والكثيفُ ما لا تظهر. قاله في التلقين. قوله: (وَيَجِبُ تَخْلِيلُ خَفِيفِ الشَّعَرِ) أي: أَن يُوصِلَ الماءَ إلى البشرة. وقوله: (دُونَ كَثِيفِهِ) أي: فلا يَجِبُ. واختُلِفَ في تخليلِ اللحيةِ الكثيفةِ على ثلاثةِ أقوالٍ: أحدُها- لمالك في العتبية- نَفْيُ التخليلِ، وعاب تخليلَها، فيحتمل ذلك الإباحةَ والكراهةَ. والثاني الوجوبُ، قاله محمد بن عبد الحكم. قال في البيان: وهو قول مالك في رواية ابن وهب وابن نافع. وهو القولُ الذي حكاه المصنف بقوله: (وَقِيلَ: وَكَثِيفُهُ). والثالث الاستحبابُ لابن حبيب. قال في البيان: وهو أظهرُ الأقوال. فإن قيل: فما الفرقُ بين الْمَشْهُورِ في الوضوءِ والْمَشْهُورِ في الغُسل، وأنه يَجب فيه تخليلُ الكثيف؟ فجوابُه أن المطلوبَ في الغسل المبالغةُ؛ لقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "تَحْتَ كُلِّ شَعَرَةٍ جَنَابَةٍ، فَاغْسِلُوا الشَّعَرَ وأَنقُوا البَشَرَةَ". رواه الترمذي والنسائي وأبو داود، ولكنه ضَعَّفَه. بخلاف الوضوء، فإنه إنما أُمِرَ فيه بالوجه، والوجهُ مأخوذٌ مِن المواجهة. وَيَجِبُ غُسْلُ مَا طَالَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَلَى الأَظْهَرِ كَمَسْحِ الرَّاسِ التشبيهُ هنا في الخلافِ وفي الظهورِ، أي أن الأظهرَ في غَسلِ ما طال مِن اللحية على الذقن الوجوبُ. قال في البيان: وهو الْمَشْهُورِ والمعلومُ مِن قولِ مالكٍ وأصحابهِ. وكذلك الخلافُ في مَسْحِ ما طال مِن شعرِ الرأس.

الثَّالِثَةُ: [18/أ] غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ. وَقِيلَ: دُونَهُمَا. فَلَوْ قُطِعَ الْمِرْفَقُ سَقَطَ، وَفِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِمَا: الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ. وَفِي إِجَالَةِ الْخَاتَمِ: ثَالِثُهَا يِجِبُ فِي الضَّيِّقِ. وَرَابعُهَا: يُنْزَعُ ...... المرفق: بفتح الميم وكسر الفاء، وبالعكس لغتان. وقوله: (سَقَطَ) أي: على القول الأول، وأما على الثاني فلم يَجِبْ حتى يسقط. وحكى جماعةٌ عن أبي الفرج أن تخليلَهما واجبٌ لا لنفسِه، بل لتحققِ الوجوبِ كما تقدم في الدَّلْكِ. ولم يُختلف في طلبِ تخليلِ أصابعِ اليدين، وإنما اختُلف في الطلب هل هو وجوبٌ أو ندبٌ. ابن راشد: والْمَشْهُورِ الوجوبُ. وقال في الذخيرة: ظاهرُ المذهب عدمُ الوجوب. والقولُ بِإِجالَةِ الخاتَمِ لابن شعبان، وبعدمِها لمالك، رواه عنه ابنُ القاسم في العتبية والمجموعة. قال ابن المواز: وكذلك ليس عليه إجالتُه في الغُسل. والثالث لابن حبيبٍ. والرابع حكاه ابن بشير عن ابن عبد الحكم. وليس هو مِن فَرْضِ المسألةِ؛ لأن فرضَ المسألةِ الإجالةُ، لكنْ مِن عادة المصنف التكلمُ على ما هو أعمُّ مِن فرضِ المسألة. الرَّابِعَةُ: مَسْحُ جَمِيعِ الرَّاسِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرأَةِ وَمَا اسْتَرْخَي مِنْ شَعْرِهِمَا، وَلا تَنْقُضُ عِقَصَهَا، وَلا تَمْسَحُ عَلَى حِنَّاءٍ وَلا غَيْرِهِ. وَمَبْدَؤُهُ مِنْ مَبْدَإِ الْوَجْهِ وَآخِرُهُ مَا تَحُوزُهُ الْجُمْجُمَةُ. وَقِيلَ: آخِرُهُ مَنْبَتِ شَعْرِ الْقَفَا الْمُعْتَادِ. فَإِنْ مَسَحَ بَعْضَهَ لَمْ يُجْزِئُهُ الْمُعْتَادِ. فَإِنْ مَسَحَ بَعْضَهُ لَمْ يُجْزِئُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ. ابْنُ مَسْلَمَةً: يُجْزِئُ الثُّلُثَانِ. أَبُو الْفَرَجِ: الثُّلُثُ وَقَالَ أَشْهَبُ: النَّاصِيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ أيضاً الإِطْلاقُ، وَقَالَ: إِنْ لَمْ يَعُمَّ رَاسَهُ أَجْزَأَهُ وَلَمْ يُقَدِّرْ مَا لا يَضُرُّهُ تَرْكُهُ اللخمي وابن عبد السلام: ولا خلاف أنه مأمور بالجميع ابتداء، وإنما الخلاف إذا اقتصر على بعضه. ابن عبد السلام: وكان بعض أشياخي يحكي عن بعض شيوخ الأندلسيين أن الخلافَ ابتداءً في المذهب، ولم أَرَهُ. انتهى.

وقوله: (وَمَا اسْتَرْخَي مِنْ شَعْرِهِمَا) أي: على الخلاف المتقدم. وقوله: (وَلا تَنْقُضُ عِقَصَهَا) أي للمشقةِ، وهو مجازٌ؛ لأن عَقْصَ الشعرِ ضَفْرُهُ ولَيُّهُ. والواحدةُ عِقْصَةٌ، والجمع عقائصُ وعِقَصٌ. ويقال أيضاً للواحدة عقيصة. والعقصة التي يجوز المسح عليها ما تكون بخيط يسير، وأما لو كَثُرَ لم يُجُزْ؛ لأنه حينئذٍ حائلٌ. الباجي: وكذلك لو ضفرتْ شعرَها بصوفٍ أو شعرٍ لم يجزْ أن تمسحَ عليه؛ لأنه مانعٌ من الاستيعاب. ابنُ يونس: وكذلك الرجل لو فَتَلَ رأسَه يَجوزُ له أن يَمسح عليه كالمرأة. وحكى البَلَنْسِي في شرح الرسالة أنَّ الرجلَ لا يَجوزُ له أن يَفْتِلَ شعرَ رأسِه. ابن أبي زيد: وتُدخل يديها مِن تحتِ عِقَاصِ شعرِها في رجوع يديها في المسح. وقولُه: (وَلا تَمْسَحُ عَلَى حِنَّاءٍ) يُريدُ ولا حائلَ غيرَه. والأحسنُ لو قال: وآخره منتهى الجمجمة. لأن مقتضى قوله: (مَا تَحُوزُهُ الْجُمْجُمَةُ) أن الجمجمةَ حائزةٌ للرأس، وليس كذلك، بل هي الرأس. وقوله: (عَلَى الْمَنْصُوصِ) يحتمل أن يُريد بمقابلةِ الأقوالِ التي ذَكَرَها، ويحتمل أن يريد ما أَلْزَمَ مالكاً بعضُهم مِن قوله: إنَّ الأذنين مِن الرأسِ. ثم قال: إِنْ تَرَكَهما وصَلَّى فلا يُعيد. فقال: يَلزم مِن ذلك الإجزاءُ في حقِّ مَن لم يَعُمَّ رأسَه. ولا يُؤخذ من قول أشهب: (إِنْ لَمْ يَعُمَّ رَاسَهُ أَجْزَأَهُ) قولٌ في المذهب بإجزاءِ ثلاثِ شعراتٍ كمذهب الشافعي؛ لأن الذي يُفهم من قوله: (إِنْ لَمْ يَعُمَّ رَاسَهُ) عُرْفاً أَخْذُ جزءٍ جَيِّدٍ منه. تنبيه: ذكر في النوادر أن شعرَ الصُّدْغَيْنِ مِن الرأسِ يَدْخُلُ في المسحِ. قال الباجي: يُريد ما فَوْقَ العَظْمِ.

وَغَسْلُهُ ثَالِثُهَا: يُكْرَهُ وَيُجْزِئُ فِي الْغُسْلِ اتِّفَاقاً. وَفِيهَا: لَوْ حَلَقَ رَاسَهُ أَوْ قَلَّمَ أَظفَارَهُ لمَ يُعِدْ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: هَذَا مِنْ لَحْنِ الْفِقْهِ. وَالظَّاهِرُ الصَّوَابُ، بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ يُعيد ... قال ابن عطاء الله: أشهرُ الثلاثةِ الإجزاءُ؛ لأنَّ الغَسل مسحٌ وزيادةٌ. وحكاه ابنُ سابق عن ابن شعبان. الثاني: نفيُ الإجزاء؛ لأن حقيقةَ الغسل مغايرةٌ لحقيقة المسح، فلا يُجزئ أحدُهما عن الآخَرِ. ووجهُ الكراهةِ مراعاةُ الخلافِ. وقوله: (وَيُجْزِئُ فِي الْغُسْلِ اتِّفَاقاً) أي: أن المغتسِل مِن الجنابةِ إذا لم يمسحْ رأسَه فغُسْلُه في الجنابةِ يُجزئه عن الوضوء اتفاقاً؛ لقول عائشة رضي الله عنها: وأيُّ وضوءٍ أعمُّ مِن الغُسْلِ. وقرَّره ابنُ راشد وابن هارون، ولم يعترضا عليه. وقال ابن عبد السلام: لا ينبغي أن يُتَّفَقَ عليه؛ فإنه اختَلف المذهب هل تَضْمَحِلُّ شروطُ الطهارةِ الصغرى في الطهارةِ الكبرى، أو إنما يَضمحل منها ما يُوافق الطهارةَ الكبرى؟ وقوله: (وَالظَّاهِرُ الصَّوَابُ، بِفَتْحِ الْحَاءِ) أي: أنّ لفظةَ (لحن) تُقال بفتح الحاء وسكونها، فبالفتح معناها الصوابُ، وبالسكون معناها الخطأ. واختلفَ الشيوخُ في مرادِه، نَقل ذلك صاحبُ النكت. قال المصنفُ: (والظاهرُ أنه أراد الصوابَ بفتح الحاء) والظاهرُ ما قاله سحنون- وصوَّبه عياضٌ- أنَّ مرادَه الخطأُ؛ فتُسكنُ الحاءُ؛ لأنه إذا كان مذهبُه الإعادةَ فلا يُصَوِّبُ مذهبَ غيرِه. وقوله: (لمَ يُعِدْ) أي: مسحَ رأسِه، كذا قال في المدونة، وكذا قال في المعونة: إن زوالَه لا يُوجب إعادةَ تطهيرِه.

واختُلف إذا حلق لحيتَه، فقال ابن القصار: لا يَغسل محلَّها. وقال الشارِقيُّ: يغسلُه. قيل: فأما مَن قُطعتْ منه بَضْعَةٌ بعدَ الوضوءِ أنه يغسلُ موضعَ القَطْعِ، أو يمسحُه إن تعذّر غسلُه. ورَدَّهُ سندٌ بأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يُجرحون ثم يصلون بلا إعادةِ غَسْلٍ. الخَامِسَةُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ. وَقِيلَ دُونَهُمَا. وَهُمَا النَّاتِئَانِ فِي السَّاقَيْن، وَقِيلَ: عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَفِي تَخْلِيلِ وَفِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِمَا: [18/ب] الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالإِنْكَارُ .... الخلافُ في دُخول الكعبينِ كالخلافِ في دخولِ المرفقين، والْمَشْهُورِ عندنا- وعند أهل اللغة- أَنَّ الكعبين هما الناتئان في طرفي الساقين، وأَنكر الأصمعيُّ الثانيَ. وإنما أَتَى في أصابع الرجلين قولٌ بالإنكارِ، ولم يأتِ في اليدينِ لالتصاقِ أصابعِ الرِّجلين، فأَشْبَه ما بينهما الباطنَ. والقولُ بالندب لابن شعبان. وبالإنكار رواه أشهب عن مالك. ورجح اللخمي وابن بزيزة وابن عبد السلام الوجوبَ في تخليل أصابع اليدين والرجلين لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُخَلِّلُ أصابعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصِرِهِ". وذكر ابنُ وهب أنه سمع مالكاً يُنكر التخليلَ، قال: فأخبرتُه بالحديثِ فرجع إليه. السَّادِسَةُ: الْمُوَالاةُ. وَقِيلَ: سُنَّةٌ. وَالتَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ مُغْتَفَرٌ، وَالْكَثِيرُ، ثَالِثُهَا لِلْمُدَوَّنَةِ: يُفْسِدُ عَمْدُهُ لا نِسْيَانُهُ فَإِنْ أَخَّرَهُ حِينَ ذَكَرَهُ فَكَالْمُتَعَمَّدِ، فإِنِ اتَّفَقَ غَسْلُهُ بِغَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ ..... منهم مَن يُعَبِّرُ عن الموالاة بالفَوْرِ، وبعضُ المصنفين يَحكي الخمسةَ الأقوالَ التي ذكرها المصنفُ في حُكْمِها ابتداءً. والمصنفُ حكى الخلافَ أَوَّلاً في حُكمها بالسُّنَّيَّةِ

والوجوب، ثم فيه إذا ترك، يعني- والله أعلم- ما هو أعم من كل واحد من القولين، يعني القول بالوجوب والقول بالسنية، وشَهَّرَ في المقدمات القولَ بالسُّنيةِ. وقوله: (وَالتَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ مُغْتَفَرٌ) حكى عبدُ الوهاب فيه الاتفاقَ، والعجزُ مُلْحَقٌ- على الْمَشْهُورِ- بالنسيانِ في عدمِ الإفسادِ، إلا أنه في النسيان يَبني مطلقاً طال أو لم يَطُلْ، وفي العَجْزِ ما لم يَطل. والْمَشْهُورِ أن الطُّولَ مقيدٌ بجفافِ الأعضاءِ، وقُيِّدَ في الزمان المعتدل، والجسم المعتدل، وقيل: هو محدودٌ بالعُرْفِ. وحكى ابنُ القصار عن بعض أصحابِ مالكٍ أن الموالاةَ مستحبةٌ، ولعلَّه القولُ بالسُّنِّيَّةِ؛ لأن العراقيين يُطلقون على السُّنَّةِ الاستحبابَ. وقوله: (فَإِنْ أَخَّرَهُ حِينَ ذَكَرَهُ) هذا فرعٌ على الْمَشْهُورِ، أي إذا بَنَيْنَا أنها لا تَجِبُ مع النسيان، فلو ذَكَرَ ما أَخَّرَ- صار كما لو أَخَّرَ مُتعمداً. فرع: فلو ذَكَرَ ولم يجد ماءً فحكى في النكت عن غيرِ واحدٍ من شيوخِه أن حُكمَه حكمُ مَن عَجَزَ ماؤه. قوله: (فإِنِ اتَّفَقَ غَسْلُهُ بِغَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ) يعني حيثُ قُلنا بأنه يَبني على ما تقدَّمَ فلا بُدَّ له مِن نيةٍ. فلو حَصَلَ غَسْلُ المنسيِّ بلا نية لم يُجزه ذلك، كما لو تَرَكَ رجليه وخاضَ بهما نهراً ودَلَكَهُما فيه. وَلا يَمْسَحُ رَاسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ، بَلْ بِمَاءٍ جَدِيدٍ، وَلا يُعيد غَسْلَ رِجْلَيْهِ إِنْ كَانَ وَضُوءُهُ قَدْ جَفَّ وَرَابِعُهَا: يَفْسَدُ إِلا فِي الرَّاسِ. وَخَامِسُهَا: وَفِي الْخُفَّيْنِ .... نَبَّهَ بهذا على خلافِ ابن الماجشون: أنه إذا نَسِيَ مسحَ رأسِه- أَنَّهُ يَمسح ببللِ لحيتِه، ونص مالكٌ على أنه يُجدد الماءَ. ابن القاسم في العتبية: فإنْ مَسَحَ ببللِ لحيتِه أَعادَ أبداً، وليس هذا بِمَسْحٍ.

قال في البيان بعد كلام ابن القاسم وقول ابن الماجشون: وهذا الخلافُ جارٍ على اختلافِهم في إجازةِ الوضوءِ بالماءِ المستعملِ عندَ الضرورةِ، وظاهرُ قولِ مالك في المدونة أن ذلك لا يجوزُ، مثلُ المعلوم مِن قولِ أصبغَ خلافَ قولِ ابن القاسم، وبالله التوفيق. انتهى. ويمكن أن يُستدل للتجديد بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مَسح على رأسه بماءٍ جديدٍ. وقوله: (وَلا يُعيد غَسْلَ رِجْلَيْهِ) أي: إذا توضأ فغسل رجليه ونسي مسحَ رأسِه فإنه يمسحُ رأسَه ولا يُعيد غَسْلَ رجليه. ابن راشد: وقيل يُعيد لأجْلِ الترتيب. ابن هارون: وظاهرُ كلام المصنف وإن كان بالقُرْبِ، فلهذا قال: ولا يمسح رأسه ببللِ لحيته، ولو طال- لم يكن في لحيته بَلَلٌ، وهو في هذا مخالفٌ لمشهور المذهب من الفَرْقِ بَيْنَ أن يكون بحَضْرَةِ الوضوء أو بَعْدَ الطُّولِ. ففي الحضرةِ يأتي بالمنسيِّ وما بَعْدَهُ، وبَعْدَ الطُّولِ يأتي بالمنسيِّ فقطْ. انتهى. خليل: وفيه نظر؛ لأن قوله: (إِنْ كَانَ وَضُوءُهُ قَدْ جَفَّ) نصٌّ في الطول، بل يُفهم منه أنه إذا لم تجفَّ أعضاؤه أنه يُعيد غَسْلَ رجليه، فليس فيه مخالفةٌ للمشهور، وأما ما احتج به مِن قوله ولذلك قال: (وَلا يَمْسَحُ رَاسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ) فليس فيه دليلٌ؛ فإنهما مسألتان. وقوله: (وَرَابِعُهَا: يَفْسَدُ إِلا فِي الرَّاسِ. وَخَامِسُهَا: وَفِي الْخُفَّيْنِ) حاصلُه أن هذين القولين أَسْقَطَا وجوبَ الموالاةِ في الممسوحِ؛ لكونه مَبْنِيّاً على التخفيف، واختُلف هل ذلك خاصٌّ بالممسوح بطريقِ الأصالةِ أو هو عامٌّ في الممسوحِ سواءٌ كان بطريقِ الأصالةِ أو بطريقِ النيابةِ؟ وما نقله المصنفُ في القول الرابع والخامس موافقٌ لما نَقَلَه المازري، فإنه قال: وقيل: يفسد إلا في الممسوح، فإنه لا يفسد بالنسيان.

وقَيَّدَ بعضُ هؤلاء الممسوحَ بأن يكون أَصْلاً، احترازاً مِن المسح على الخفين، لكنه مخالفٌ لما نقله ابنُ شاس وابن عطاء الله، فإنهما قالا: والرابعُ أنها شرطٌ في المغسول دُونَ الممسوحِ الذي هو الرأس. رواه عبد الملك في ثَمَانِيَةِ أبي زيد. والخامس: أنها شرطٌ في المغسولِ والممسوحِ الذي ليس بدلاً عن غَيْرِه، ولسي شرطاً في الممسوحِ الذي هو بدلٌ، فإن أَخَّرَ مَسْحَ رأسِه بَطَلَ وُضوؤه، وإن أَخَّرَ مَسْحُ خُفَّيْهِ لم يَبْطُلْ. انتهى. ويَنبغي أن يكون حكمُ الجبيرة حكمَ الخفين عند هذا القول. نعم يُوافقُ كلامُ المصنفِ كلامَ ابن شاس على ما وقع في بعض النسخ: (وخامسها في الخفين) بإسقاط الواو. وَفِيهَا: إِذَا قَامَ لِعَجْزِ الْمَاءِ وَلم يَطُلْ حَتَّى جَفَّ بَنَى قال عياض: ذهب بعضُهم إلى أنَّ معناه لم يَعُدْ مِن الماءِ ما يَكفيه، فكان كالمفرِّطِ، ولو أَعَدَّ مِن الماءِ ما يَكفيه فأُهْرِقَ عليه أو غُصِبَ منه- لكان حكمُه حكمَ الناسي: يَبْنِي وإن طال. وعلى هذا [19/أ] تُحمل روايةُ ابنِ وهب أنه يَبني إذا عَجَزَ الماءُ وإِنْ طال، وحملَها الباجي على الخلاف. انتهى. وذَكر بعضُهم في العاجز ثلاثةَ أقوالٍ كالناسي وكالعامد. والفرقُ: فإن أَعَدَّ ما يَكفيه وأهرق عليه- كان كالناسي، وإن أعد ما يعتقد أنه كافٍ، فتبين أنه غير كافٍ- فكالعامد. نقله ابن عبد السلام عن بعض المتأخرين. وقال ابن بزيزة: ذَكَرَ المتأخرون في العاجز ثلاثَ صورٍ: الصورة الأولى: أن يَقطع أن الماء يَكفيه. الصورة الثانية: أن يقطع أن الماء لا يكفيه.

سنن الوضوء

الصورة الثالثة: أن يَشُكَّ في ابتداءِ وُضوئه هل يكفيه أم لا؟ ففي كل صورة قولان: الابتداُ والبناءُ، والْمَشْهُورِ في الأولى البناءُ، وفي الثانية والثالثة الابتداءُ، ووجهُ ذلك ظاهرٌ. انتهى. السُّنَنُ سِتٌّ: الأُولَى: غَسْلُ يَدَيْهِ قَبْلَ إِدْخَالِهمَا فِي الإنَاءِ. وَفِي كَوْنِهِ لِلْعِبَادَةِ أَوْ لِلنَّظَافَاةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَعَلَيْهِمَا مَنْ أَحْدَثَ فِي أَضْعَافِهِ ........ الْمَشْهُورِ كما ذكره أنَّ غَسْلَ اليدين سنةٌ، وقيل: مستحبٌّ. ومذهبُ ابنِ القاسم أنه للعبادة، ومذهبُ أشهب أنه للنظافة. وعلى العبادة يَغسلهما مَنْ أَحْدَثَ في أَضْعَافِ وُضُوئِهِ ولو كان نظيفَ اليدينِ، ويُحتاج إلى نيةٍ ويَغسلهما مُفْتَرِقَتَيْنِ، وعلى النظافةِ خلافُه في الجميع، وهكذا قالوا. وفيه بحث على التنظيف، وذلك لأنه لم لا يجوزُ أن يُسَنَّ لنظيفِ اليدِ الغُسْلُ، ولو قلنا: إنه تنظيف؟ كما في غُسل الجمعة فإنه شُرِعَ أولاً للنظافة مع أَنا نأمر به مَن كان نظيفَ الجسد، فانظرْ ما الفَرْقُ؟ الثَّانِيَةُ: الْمَضْمَضَةُ. الثَّالِثَةُ: الاسْتِنْشَاقِ؛ وَهُوَ أَنْ يَجْذِبَ الْمَاءَ بِأَنْفِهِ وَيَنْثُرَهُ بِنَفَسِهِ وَإِصْبَعَيْهِ، وَيُبَالِغُ غَيْرُ الصَّائِمِ، وَالاسْتِنْشَاقُ بِغَرْفَةٍ ثَلاثاً كَالْمَضْمَضَةِ، أَوْ كِلاهُمَا بِغَرْفَةٍ واحدةٍ .... كونُ المضمضةِ والاستنشاقِ سنةً هو المعروفُ. المازري: وذهبَ بعضُ المتأخرين إلى أنهما فضيلتان. ابن عبد السلام: فَسَّرَ الاستنشاقَ بجَذْبِ الماءِ مع نَثْرِه، وحقيقتُه إنما هي في جَذْبِه خاصَّةً، ولهذا عَدَّ غيرُ واحدٍ الاستنثارَ سنةً أُخرى. انتهى. وذكر الأصبعين ليُنَبِّهَ على أنه بغيرِهما لا ينبغي، فقد قال مالك في المجموعة في رواية ابن وهب: هكذا يَفْعَلُ الحمارُ.

وقوله: (وَالاسْتِنْشَاقُ بِغَرْفَةٍ ثَلاثاً كَالْمَضْمَضَةِ) أي: يَتمضمض بغَرْفَةٍ ثلاثاً، ثم يَسْتَنْشِقُ بأخرى ثلاثاً. وقوله: (أَوْ كِلاهُمَا بِغَرْفَةٍ) مثلُه وَقَعَ في الموطأ، وجَوَّزَ فيه الباجي وجهين: أحدُهما أن يَفعلَ كلَّ مضمضةٍ واستنشاقةٍ في غَرفةٍ، فيكون المجموعُ في ثلاثِ غَرَفاتٍ. الثاني: أن يفعل الستَّ في غَرفةٍ. وهذا الأخيرُ أيضاً يحتمل وجهين: أحدُهما ان يَبدأ فيتمضمضُ بها أولاً ثلاثاً، ثم يَستنشق كذلك. والثاني أن يَتمضمض، ثم يستنشق، ثم يتمضمض، ثم كذلك. ولم يذكر المصنفُ الصفةَ الفاضلةَ عندهم، وهي أن يَفعلها مِن ستِّ غَرَفاتٍ. تنبيه: وحكمُ ما ظَهَرَ مِن الشفتين الوجوبُ، وكذلك أيضاً وَجَبَ عليه غَسْلُ الوَتَرَةُ، وهي الحاجزةُ بين ثُقْبَتَيَ الأَنْفِ. فرع: قال في النوادر: وليس عليه غَسلُ ما غَارَ مِن جُرْحٍ بَرِئَ على اسْتِغْوارٍ كثير، أو كان خَلْقاً خُلِقَ به، ولا غسلُ ما تحت ذَقَنِهِ. وَمَنْ تَرَكَهُمَا وَصَلَّى أُمِرَ بِفِعْلِهِمَا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَعَمَّدِ أَنْ يُعيد الصَّلاةَ فِي الْوَقْتِ قوله: (أُمِرَ بِفِعْلِهِمَا) أي: لما يستقبل. وقوله: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَعَمِّدِ أَنْ يُعيد الصَّلاةَ فِي الْوَقْتِ) في هذه المسألة ثلاثةُ أقوالٍ: الإعادةُ في الوقت كما ذَكَرَ، ونفيُها كما ذكروا، والثالثُ لغير ابن القاسم في العتبية بالإعادة أبداً، نقله صاحبُ الطراز، قال: وهذا إمّا لأنهما- أي المضمضة والاستنشاق- عنده واجبان، وإما لأنّ تركَ السنن عمداً لعبٌ وعبثٌ. والذي رأيتُه في البيان: وأما

العامدُ فقال ابن القاسم: يُعيد الصلاةَ فيالوقت. وقال ابنُ حبيب: لا إعادةَ عليه. ويتخرَجُ في المسألة قولٌ ثالثٌ: أنه يُعيد أبداً بالقياس على مِن تَرْكَ سنةً مِن سُنَنِ الصلاة. فقيل: يستغفرُ الله تعالى وَلا شىء عليه. وقيل: يُعيد في الوقت. وعلى قياسِ هذا يَأتي قولُ ابن القاسم في هذه المسألة. وقيل: أنه يُعيد أبداً. وهو الْمَشْهُورِ في المذهبِ, المعلومُ مِن قول ابن القاسم فيَلزم على قياسِ هذا القولِ أَنْ يُعيد في هذه المسألة أيضاً أبداً. انتهي. الرَّابعَةُ: أَنْ يَمسحَ أُذُنَيْهِ بمَاءٍ جَدِيدٍ ظَاهِرَهُمَا بإِبْهَامَيْهِ, وَبَاطِنَهُمَا بإِصْبَعَيْهِ وَيَجْعَلُهُمَا فِي صِمَاخَيْهِ. وَفِي وُجُوبِ ظَاهِرِهِمَا قَوَلانِ, وَظَاهِرُهُمَا مَا يَلِي الرَّاسَ, وَقِيلَ: مَا يُوَاجِهُ ... الْمَشْهُورِ أنَّ مسحَ الأذنين ظاهراً وباطناً سنةٌ. قال في المِنتقى: وذهب ابنُ مَسلمةَ والأبهريُّ إلى أنَّ مسحَهما فَرْضٌ. وقال عبد الوهاب: داخلُهما سنةٌ وفي ظاهرهما خلافٌ. وقوله: (بمَاءٍ جَدِيدٍ) الْمَشْهُورِ لا بُدَّ مِن تجديد الماءِ لهما. ابن حبيب: وإن لم يُجدد الماءَ فهو كمِن تَرْكَ مسحَهما. وقال ابن مسلمة: هو مخيَّرٌ بَيْنَ التجديدِ وعدمِه. وكلامُه يحتمل أن التجديدَ مع المسحَ سُنَّةٌ واحدةٌ, وإليه ذهب أكثر الشيوخ, وجعل ابنُ رشد التجديدَ سُنَّةً مستقلةً, ويحتمل أن يكون المسحَ هو السُّنَّةِ, والتجديدُ مستحبٌّ, وهو قول مالك في المختصر. وقوله: (ظَاهِرَهُمَا بإِبْهَامَيْهِ) يُريد بالظاهر هنا ما يلى الرأس. وقوله: (وبَاَطِنَهُمَا بإِصْبَعَيْهِ) أي بسبابتيه (وَيَجْعَلُهُمَا فِي صِمَاخَيْهِ) نَبَّهَ على ذلك لئلا يُظَنَّ سقوطُ المسحَ عليهما. قال ابن حبيب: وَلا يتبع غُضُونَهما, أي كالخفين. وقوله: (وَظَاهِرُهُمَا مَا يَلِي الرَّاسَ) إلى آخره. قال ابن عطاء الله: إذا كان [19/ب] مسحُ الجميع سنةً فلا معنى للتفريق. أي: وإنما يَظهر على مقابَلْ الْمَشْهُورِ أن مسحَ

ظاهِرهما واجبٌ. ومنشأُ الخلافِ فيه النظرُ إلى الحالِ أو الأصلِ, فإِنَّ أصلَ الأُذُنِ في الخِلْقَةِ كالوَرَدَةِ ثُم تَنفتح. والقوَلان حكاهما ابنُ سابق عن المتأخرين, قال: والأظهرُ أن الظاهرَ ما يُوالى الرأسَ. الجوهرى: والصِّماخُ خَرْقُ الأُذُنِ, بالصاد, وبالسين لغةٌ, ويقال: هو الأذنُ نفسُها. الخَامِسَةُ: رَدُّ الْيَدَيْنِ مِن مُؤَخَّرِ الرَّاسِ إِلَى مُقَدِّمِهِ ظاهرُ كلامه أنَّ الردَّ لا يكون سُنة إلا إذا كان مِن المؤخَّر إلى المقدَّم. وليس كذلك؛ فقد نقل اللخمىُّ وصاحبُ تهذيب الطالب عن ابن القصار أنه قال: لو بَدَأَ الرَّجُلُ مِن مُؤخَّرِ الرأس إلى مُقدَّمِه لكان المسنونُ في حقه أَنْ يَرُدَّ مِن المقدَّم غلى المؤخَّر. ويلزمُ على قولِ المصنفِ –أن يكونَ الابتداءُ مِن مقدمِ الرأسِ سنةً- خلافُ ما يَأتي له. السَّادِسَةُ: أَنْ ُيُرَتِّبَ عَلَى الأَشْهَرِ. وَقَاَلَ: مَا أَدْرِى مَا وُجُوُبُه. وثَالِثُهَا: وَاجِبٌ مَعَ الذِّكْرِ فاعل (قَالَ) عائدٌ إلى الإمام, وفيه إيماءٌ إلى إنكارِ وجوبِ الترتيبِ؛ لأن الآيةَ جاءت بالواو, وهي لا تقتضى ترتيبا. وفِعْلُه صلى الله عليه وسلم يَحتمل الوجوبَ والندبَ, وقد قال على رضى الله عنه: ما أُبالى إذا أتممتُ وُضوئي بأيِّ أعضائى بَدَأَتُ. وقال ابن عباس: لا بأسَ بالبداية بالرِّجلين قَبْلَ اليدين. خَرَّجَ الأَثَرين الدارقطنىُّ. مَعَ صُحْبَةِ علىٍّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم طولَ عمرِه, فلوَلا إطلاعُه على عدمِ الوجوبِ ما قال ذلك. وفي المدونة أيضاً عن عليٍّ وابن مسعود رضى الله عنهما: ما نبالى بدأنا بأيماننا أو بأيسارنا. والأقوالُ الثلاثةُ- الْمَشْهُورُ مِنها السنيةُ. والثانى: الوجوبُ مطلقاً, رواه علي عن مالك, وهو قول أبى مصعب, والتفرقةُ لابن حبيب, وزِيدَ قولٌ رابعٌ بالاستحباب.

وتأوَّل اللخميُّ المدونةَ عليه لقوله فيها: (يُعيد الوضوء وهذا أحب إلى). سند: وهو تأويلٌ فاسدٌ. والهاء في (وُجُوبُهُ) عائدةٌ على الترتيب, ويحتمل أن تَعود على إعادةِ الوضوء. واقتصر ابنُ يونس على الأَوَّلِ. وهذا حكمُ الترتيبِ بين المفروضِ مع المفروضِ. وأما حكمُ ترتيبِ المفروضِ مع المسنون ففي المقدمات: ظاهرُ الموطأ أنه مستحبٌّ؛ لأنه قال فيمِن غسلَ وجهَه قَبْلَ أَنْ يَتمضمض: أنه يتمضمضُ وَلا يُعيد غَسْلَ وجهِه. وقال ابنُ حبيب: هو سُنةٌ. إلا أنه جعله أخفَّ مِن ترتيبِ المفروضِ مع المفروض, فقال مَرَّةً: إنه يُعيد الوضوءَ إذا نكَّسَه متعمداً كالمفروض مع المفروض. وله في موضعٍ آخرَ ما يَدُلُّ على أنه لا شيءَ عليه إذا فرَّق وضوءَه. انتهى باختصار. واما ترتيبُ المسنونِ مع المسنونِ فمستحبٌّ. وَعَلَى السُّنَّةِ لَوْ نَكْسَ مُتَعَمِّداً فَقَوَلانِ كَمُتَعَمِّدِ تَرْكَ السُّنَّةِ, وَلَوْ نَكْسَ نَاسِياً أَعَادَ بحَضْرَةِ الْمَاء, فَإِنْ بَعْدَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُعيد الْمِنكِّسُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: يُعيدهُ وَمَا بَعْدَهُ ... فَرَّعَ على السُّنَّةِ لكونِه هو الْمَشْهُورِ. وقوله: (فقوَلان) قال ابن شاس: أحدُهما أنه يُعيد مع العَمْدِ قريباً كان أو بعيداً. الثانى: أنه كالناسى, فلا يُعيد. وهما على الخلاف في تاركِ السنن متعمداً: هل تجب عليه إعادةُ الصلاةِ أم لا؟ وقوله: (وَلَوْ نَكْسَ نَاسِياً أَعَادَ بحَضْرَةِ الْمَاءِ) يحتمل إعادةَ الوضوءِ كلِّه, وهو ظاهرُ كلامِ ابن شاس, ولفظه: إن كان بحضرةِ الماءِ فأنه يَبْتَدِئُ ليسارةِ الأَمْرِ عليه. ويحتملُ إعادةَ المِنكَّسِ وما بَعْدَه, وهو الذي نصَّ عليه ابنُ رشد وابنُ بشير أنه إن كان بحضرة الماء فإنما عليه إعادةُ المِنكَّسِ وما بَعْدَه. قال في المقدمات: ناسيا كان أو متعمداً.

فإن كان قد تَبَاعَدَ وجَفَّ وُضوؤه وكان متعمداً فثلاثةُ أقوالٍ: الأولُ: يُعيد الوضوءَ والصلاةَ. والثانى: لا يُعيدهما. وهو قولُ مالك في المدونة. والثالث: يُعيد الوضوءَ فقط. وهو قولُ ابن حبيب. والأَوَلانِ مَبْنِيَّانِ على الخلافِ في تاركِ السننِ متعمداً, وأما الثالثُ فرأي أنه يُعيد الوضوءَ لبقاءِ حُكمِه بخلافِ الصلاةِ؛ لانقضاءِ أمرِها. وقوله: (فَإِنْ بَعْدَ) أي: وكان ناسياً (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُعيد الْمِنكِّسُ خَاصَّةً) ظاهرُ التصورِ. (وَقِيلَ: يُعيدهُ وَمَا بَعْدَهُ) وهو قولُ ابن حبيب. فلو بَدَأَ بيديه, ثم بوجهِه, ثم برأسِه, ثم برجليه فعَنِ ابنِ القاسم: يُعيد ما تقدَّم مِن غَسْلِ ذراعيه, وَلا يُعيد ما بَعْدَه كما لو تَرْكَ غسلَهما ناسياً حتى طال. وعند ابن حبيب: يَغسل ذراعيه, ثم يَمسحَ رأسِه, ثم يَغسل رجليه؛ لأنه إذا لم يُعِدْ مسحَ رأسِه وغَسْلَ رجليه وَقَعَ غَسْلُ يديه آخراً. ولو بَدَأَ بوجهه, ثم رأسِه, ثم ذراعيه, ثم رجليه- أَعَادَ عند ابن القاسم رأسِه فقط فيرتفعُ الخللُ. وعند غيرِه يمسحَ رأسِه, ثم يغسل رجليه. ولو بَدَأَ بوجهه, ثم رأسِه, ثم رجليه, ثم ذراعيه – فعند ابن القاسم: يُعيد مسحَ رأسِه؛ لأنه لم يَقَعْ بَعْدَ يديه, ويُعيد غسلَ رجليه أيضاً لهذه العِلة. ويتفق ابنُ القاسم وغيرُه هنا. ابن هارون: واستشكل الشيوخُ مذهبَ ابن القاسم؛ لأنه لم يَتَخَلَّصْ به مِن التنكيس. ومثالُه: لو قَدَّمَ رأسَه على غَسل يديه ثم تذكر فأنه يُعيد مسحَ رأسِه ليحصلَ له بَعْدَ اليدين, ولكنه يختلُّ عليه الترتيب لمسحِه إياه بَعْدَ الرِّجلين. قال ابن رشد: والجارى على أصلِه أنه لا شىء عليه كما لو أخلَّ بالفَوْرِ ناسياً. وأُجيب عنه بوجهين: أحدُهما أن المِنكَّسَ عنده كالمِنسِّى, فيأتى به بعد الطُّولِ. واعتُرِضَ بأنه لو جعله كالمِنسي لَلَزِم أن يُعيد [20/أ] الوضوءَ في العَمْدِ, ولم يَقُلْ به. والثانى: أَنَّ إعادةَ

فضائل الوضوء

الرأسِ إنما هي لتحصيلِ الترتيبِ بينَه وبينَ اليدين؛ لأن التنكيسَ وَقَعَ بينهما, لا بينه وبين الرِّجلين لحصولِ الترتيبِ بينهما أوَلا, وهذا أيضاً معترَضٌ عليه؛ لأنه يَلْزَمُ مثلُه بالحضرةِ. ثم قال: واستُشْكِلَ قولُ ابنِ حبيب على أصلِه؛ لأن فيه الإخلالَ بالفَوْرِ, وهو عنده واجبٌ في العمدِ والنسيانِ. وقوله: (وَعَلَىَ السُّنَّةِ) يقتضى أنا لو فرّعنا على الوجوب -وخالف- أنه يبتدئ, قال في الجواهر: وكذلك روى عن مالك. لكن حكى القاضى أبو الوليد خلافاً في الترتيب: هل هو مِن شروط الصحةح وإن قيل بالوجوب- أم لا؟ فعلى هذا يُختلف في الابتداء على قولين وإن قلنا بالوجوب. انتهي. الْفَضَائِلُ: التَّسْمِيَةُ. وَرُوِيَ الإِبَاحَةُ وَالإِنْكَارُ استَشكل بعضُهم تَصَوُّرَ الإباحةِ؛ لأن الذِّكْرِ راجحُ الفِعْلِ. خليل: وأُجيب بأن مرادَ مِن أباح إنما هو اقترانُ هذا الذِّكْرِ بأوَّل هذه العبادةِ الخاصةِ, لا حصولُ الذِّكْرِ مِن حيث هو ذِكرٌ. وصيغةُ رِواية الإنكارِ: أَهُوَ يَذْبَحُ؟ ما علمتُ أحداً يَفعل ذلك. فائدة: مِن الأفعال ما شُرعت فيه التسميةُ سواءٌ كانت قُرْبَةً كالطهارةِ, أو مباحاً كالأكل. ومِنها ما لم تُشرع فيه كالأَذان, والحجِّ, والذِّكْرِ, والدعاء. ومِنها ما تُكره فيه كالمحرمات والمكروهات؛ لأن المقصود بها البركةُ, والحرامُ والمكروهُ لا تُراد البركةُ مِنهما. وَلا بأس بِعَدِّ المواضعِ التي يُبسمل فيها, فنقول على ما حَضَرَ لنا الآنَ: ركوبُ الفَرَسِ, وركوبُ السفينةِ, والأكلُ, والشربُ, والطهارةُ سواءٌ أكانت وضوءاً أو غسلاً أو تيمماً, والذَّبْحُ, والدخولُ إلى الخلاء, والخروجُ مِنه, والدخولُ إلى المسجد, والخروجُ مِنه, والدخولُ إلى المِنزل, والخروجُ مِنه, والوطءُ, وإطفاءُ المصباح, وإغلاقُ الباب, وإذا لَبِسَ ثوباً جديداً, أو

لَبِيساً, وعِنْدَ نَزْعِه, وعند صُعودِ الخطيبِ على المِنبر -نص عليه الشيخ أبو عبد الله بن الحاجِّ- وعند وضع الميت في لَحْدِهِ فقد استَحَبَّ ابنُ حبيب حينئذٍ أن يُقال: بسم الله, وعلى مِلَّةِ رسولِ الله. وكذلك نُصَّ على استحبابها عندَ إغماض الميت, وكذلك نُص على استحبابها عند ابتداء الطواف بأن يقول: بسم الله, والله أكبر, اللهم إيماناً بك ... إلى آخره. واَلسِّوَاكُ وَلَوْ بإِصْبَعِهِ إِنْ لَمْ يَجِدْ, وَالأَخْضَرُ لِغَيْرِ الصَّائِمِ أَحْسَنُ السواكُ فضيلةٌ لما وَرَدَ فيه مِن الأحاديثِ الصحاحِ. قال سندٌ: يَستاك قَبَلْ الوُضوء ويتمضمض بَعْدَه؛ ليَخرج بالماء ما حَصَلَ بالسواك. وفي اللخمى: هو مخيرٌ في أن يجعله عند الوضوء أو الصلاة. واستَحسن إذا بَعُدَ ما بين الوضوءِ والصلاةِ أَنْ يُعيده عِنْدَ صلاته, وإِنْ حضرتْ صلاةٌ أُخرى- وهو على طهارته تلك- أَنْ يَستاك للثانية. انتهي مختصراً. وقوله: (وَلَوْ بإِصْبَعِهِ إِنْ لَمْ يَجِدْ) أي أنه بغيرِ الأصابعِ أفضلُ, ولكنْ يُجزئ بأصبع. وما ذكره مِن أرجحيةِ غيرِ الأصبع- فالأمرُ عليه عند أهلِ المذهبِ, وظاهرُ كلامِ أبى محمدٍ أن الأصبعَ كغيرِه. وفُضِّلَ الأخضرُ؛ لكونه أبَلْغَ في الإنقاءِ. قال ابنُ حبيب: ويُكره السواكُ بعودِ الرُّمَّانِ والرَّيْحانِ. وَالْيَمِينُ قَبَلْ الْيَسَارِ, وَأَنْ يَبْدَأَ بِمُقَدَّمِ رَاسِهِ هذا هو الْمَشْهُورِ, وحكى فيه ابن رشد قوَلا بالسنية, وفي المذهب قولٌ أنه يبَدَأُ مِن مؤخِر الرأسِ, وقيل: مِن وسطِه, ثم يذهب إلى جِهة وَجْهِه إلى حَدِّ مِنابتِ شعرِ رأسِه, ثم يَرجعُ إلى قفاه, ثم يَردهما إلى حيث بَدَأَ, وهو قول أحمد بن داود.

وَانْفَرَدَ ابْنُ الْجَلابِ بِصِفَتِهِ, وَقَالَ: اخْتَرْتُهَا لِئَلا يَتَكَرَّرَ الْمَسْحُ. وَرُدَّ بِأَنَّ التَّكْرَارَ الْمَكْرُوهَ بِمَاءٍ جَديدٍ ... صِفَةُ ابنِ الجلاب هي أن يَبْدَأَ بمقدَّمِ رأسِه فيُلْصِقُ أصابعَ يديه بمقدَّم رأسِه, ويرفعُ راحتيه عن فَوْدَيْهِ ويمرُّ بهما إلى قفاه, ثم يرفعُ أصابعَه ويلصِقُ راحتيه بفوديه, ثم يَرُدُّهما كذلك إلى مُقَدَّمِه. قال عبد الوهاب: كان رحمه الله يقول: إنما اخترتُها لئلا يَتكرر المسحُ, وفضيلةُ التكرار تَختص بالغَسل. وَردَّهُ ابنُ القصار بأنَّ ذلك ليس محفوظاً عن مالكٍ وَلا عن أحدٍ مِن أصحابه, وإنما يُكره التكرارُ إذا كان ذلك بماءٍ جديدٍ. انتهي. وَأَنْ يُكَرِّرِ الْمُغْسُوَل, وَثَلاثاً أَفْضَلُ الْمَشْهُورِ أن الغسلة الثانيةَ والثالثةَ فضيلةٌ, وهو الذى يُؤخذ مِن كلامه؛ لأنه جعل الثانيةَ فضيلةً بقوله: (وَأَنْ يُكَرِّرَ الْمُغْسُولَ) ثم نَبَّهَ على أن الثلاثةَ أفضلُ مِن الاثنتين بقوله: (وَثَلاثاً أَفْضَلُ) وقيل: كلاهما سنة. وقيل: الثانية سنة, والثالثة فضيلة. والْمَشْهُورِ أن ذلك عام. وزعم بعضُ الشيوخ أنه لا فضيلةَ في تكرارِ غسلِ الرجلين, قال: لأن المقصودَ مِن غَسلِهما الإنقاءُ؛ لأنهما محلُّ الأقذارِ غالباً, ونحوُه رواه ابنُ حبيب عن مالك, نقله في النوادر. وما ذكرنا أنه الْمَشْهُورِ هو الذى في الرسالة والجلاب. وقال ابن راشد: وذكر لى بعضُ المشايخ أن الْمَشْهُورِ في الرِّجلين عَدَمُ التحديد. انتهي. وكذلك ذَكَرَ سندٌ أن الْمَشْهُورِ في الرِّجلين انتفاءُ التحديدِ. وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ نحوُه في المقدمات, وقال عبد الوهاب واللخمى والمازرى: بَلْ تُمِنعُ. ونَقَلَ سندٌ على المِنعِ اتفاقَ المذهبِ. فوَجْهُ الكراهةِ أنه مِن ناحية السَّرَفِ في الماء, ووجهُ المِنع قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابى الذى سأله عن الوضوء فاراه ثلاثاً فقال له: ((هكذا الوضوءُ فمَنْ زادَ فقد تَعَدَّى [20/ب] وظَلَمَ)). رواه النسائى, ورواه أبو داود بنحوه.

ولو شك هل غسل اثنين او ثلاثاً -فقوَلان للشيوخ: قيل يأتى بأخرى قياساً على الصلاة, وقيل: لا؛ خوفاً مِن الوقوع في المحظور. وَلا فضيلةَ عن أهل المذهب في إطالةِ الغُرَّةِ. ابنُ عبد السلام: وينبغى أن يَعُدُّوها مِن الفضائل لما ثَبَتَ في ذلك. وَلا بَاسَ بِمَسْحِ الأَعْضَاءِ بالْمِنْدِيلِ نَبَّهَ على استحبابِ الشافعيةِ تَرْكَ المسحِ أو كراهتِهم له على خلافٍ بينهم فيه. وَلا تَحْدِيدَ فِيمَا يُتَوَضَّأُ بهِ وَيُغْتَسَلُ عَلَى الأَصَحِّ, وَقِيلَ: الأَقَلُّ مُدٌّ وَصَاعٌ. وَالوَاجِبُ الإِسْبَاغُ, وَأَنْكَرَ مَالِكٌ التَّحْدِيدَ بأنْ يَقْطُرَ أَوْ يَسِيلَ, وَقَالَ: كَانَ بَعْضُ مِنْ مَضَى يَتَوَضَّأُ بِثُلُثِ الْمُدِّ- يَعْنِي: مُدَّ هِشَامٍ ... لأن ذلك يختلف بحسب القَسَاوَةِ والرطوبةِ, والرِّفْقِ والخَرَقِ. الباجى: ومَن اغتسلَ بأقلَّ مِن صاعٍ, أو توضأ بأقل مِن مُدٍّ أَجْزَأَهُ على الْمَشْهُورِ. وقال الشيخُ أبو إسحاق: لا يُجزئ في الغُسل أقلُّ مِن صَاعٍ, وَلا في الوضوءِ أقلُّ مِنْ مُدِّ. انتهي. وقال ابنُ العربى: ومرادُه التقديرُ بهما في الكَيْلِ لا في الوَزْنِ, ورَأَى أَنَّ ما رواه البخارىُّ ومسلمٌ مِن وُضوئه صلى الله عليه وسلم بمُدٍّ وتَطَهُّرِه بصاعٍ محمولٌ على الأقَلِّ. وقوله: (وَالوَاجِبُ الإِسْبَاغُ) أي التعميمُ. وأنكر مالكٌ التحديدَ, ورُوى عنه أنه قال: قَطَرَ قَطَرَ. إنكاراً لذلك, ثم الإنكارُ إنما هو لنفسِ التحديدِ؛ لأنه بغيرِ دليلٍ, وإلا فهو مع عدمِ السيلانِ مسحٌ بغير شكٍّ. قاله فضلُ بن مَسلمة. وقال ابن مُحْرِزٍ: ظاهرُ قوله أنه ليس مِنْ حَدِّ الوضوء أَنْ يَسِيلَ أو يَقْطُرَ. قال في التنبيهات: وهو خلافُ الأَوْلَى.

الاستنجاء

وقوله: (كَانَ بَعْضُ مَنْ مَضَى) عياضٌ: هو عباسُ بن عبد الله بن سعيد بن العباس بن عبد المطلب, بباء موحدة وسين مهملة. والشيوخُ يقولون: عياش. وهو خطأٌ. والْمَشْهُورِ أن مُدَّ هشام مُدٌّ وثلثان بِمُدِّهِ صلى الله عليه وسلم. الاسْتِنْجَاءُ آدَابُهُ الإِبْعَادُ وَالسَّتْرُ (الإِبْعَادُ) عن أعين الناس, بحيث لا يسمع له صوت وَلا يُرَى له شخص. (وَالسَّتْرُ) أي عن أعين الناس. ابن عبد السلام: ولو استغنى بالسترِ عن الإبعادِ لكان كافياً. خليل: وفيه نظر؛ لأن الإنسان قد يستتر بجدارٍ, وَلا يكون بعيداً. وَاتِّقَاءُ الْجِحَرَةِ (الْجِحَرَةِ) جمعُ جُحْرٍ, لما قد يخرج مِنها مِن الهوامِّ فيؤذيه. وقال ابن حبيب في النوادر: ويكره أن يبول في المَهْواةِ, وَلْيَبُلْ دونها فيجرى البولُ إليها, وذلك مِن ناحية الجانِّ ومساكنِها. ابن عبد السلام: وكان ذلك سببَ موتِ سعدِ بن عُبادة رضي الله عنه. وقال سيدى أبو عبد الله ابنُ الحاجِّ: وعلى التعليل الأوَّلِ, فاختُلف إذا بَعُدَ عنها, فكُرِهَ مِنْ خِيفَةِ حشراتٍ تَنبعثُ إليه مِن الكُوَّةِ. وقيل: يُباحُ لِبُعْدِه عن الحشرات. وَالْمَلاعِنِ كَالطُّرُقِ وَالظُّلالِ وَالشَّاطِئ وَالْمَاءِ الرَّاكِدِ (الْمَلاعِنِ) جمع مَلْعَنَةٍ. وروى أبو داود, وابم ماجه, عن أبى سعيد الحِمْيَرِيِّ المصريِّ, عن معاذ بن جبَلْ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ)). وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ الناسَ يأتون إليها فيَجِدُونَ العَذِرَةَ هنالك, فيَلْعَنُونَ فاعِلَها.

وَإِعْدَادُ الْمُزِيلِ أي: مِن حَجَرٍ أو ماءٍ. والذِّكْرِ قَبْلَ مَوْضِعِهِ, وَفِيهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَدٍّ لَهُ. وَفِي جَوَازِه فِي الْمُعَدِّ قَوْلانِ كَالاسْتِنْجَاءِ بِخَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرٌ ... مرادُه بالذِّكْرِ ما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقول عند الدخولِ إلى الخلاءِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالْخبَائِثِ)) الرِّجْسِ النَّجِسِ, الشيطانِ الرجيمِ. فقوله: (قَبْلْ مَوْضِعِهِ) أي: قبل موضِعِ الحَدَثِ. وقوله: (وَفِيهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَدٍّ لَهُ) أي: ويَذكر في المحل إِنْ كان غيرَ مُعَدٍّ لقضاء الحاجة, (وَفِي جَوَازِهِ فِي الْمُعَدِّ قَوْلانِ) ثم شبه الخلاف فيه بمسألة الاستنجاء بالخاتم فيه ذِكْرُ الله تعالى, والمعروفُ في الخاتَمِ المنعُ, والروايةُ بالجوازِ منكرةٌ. ثم المنعُ في الخاتم أقوى مِن الذِّكْرِ لِمُلامَسَةِ النجاسةِ له. وَالْجُلُوسُ, وَإِدَامَةُ السَّتْرِ إِلَيْهِ, وَلا بَاسَ بِالْقِيَامِ إِنْ كَانَ الْمَكَانُ رَخْواً أي: الأفضل الجلوس. ويجوز القيام, وقد وَرَدَ في الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم: ((أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِماً)). رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذى. وأنكرتْ ذلك عائشةُ رضي الله عنها وقالت: مَن حدَّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَبول قائماً فلا تُصَدِّقُوهُ, ما كان يبول إِلَّا قاعِداً. وكأنها –والله أعلم- أنكرتْ ذلك للغالبِ مِن فِعْلِه صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: ما بَالَ قَطُّ قائماً إلا مَرَّةً واحدةً.

وقال الخَطَّابِيُّ: إنما فَعَلَ ذلك لِعِلَّةٍ به لم يَقْدِرْ على الجلوسِ معها، وكانت العربُ تَستشفي به مِن وَجَعِ الصُّلْبِ؛ ولذلك قال بعضُهم: بَوْلَة في الحمَّامِ قائماً خَيْرٌ من فِصَادَةٍ. وقيل: إنما فَعَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لقُرْبِ الناسِ منه، والبولُ قائماً يُؤْمَنُ معه خروجُ الصوتِ. وقيل: إنّما فَعَلَه لأنه خاف متى جَلَسَ أن يكون في السباطةِ نجاسةٌ فيَتَنَجَّسُ ثوبُه. وقوله: (وَإِدَامَةُ السَّتْرِ إِلَيْهِ) أي: فيُستحبُّ أن يُدِيمَ السترَ إلى الجلوسِ؛ لأنه أَبْلَغُ في السترِ. وقوله: (وَلا بَاسَ بِالْقِيَامِ إِنْ كَانَ الْمَكَانُ رَخْواً) مُقَيَّدٌ بالبولِ، أما الغائطُ فلا يجوز إلا جالساً. وقد قسَّم بعضُهم موضعَ البولِ على أربعةِ أقسامٍ: إن كان طاهراً رِخْواً جاز القيامُ، والجلوسُ أَوْلَى لأنه أسترُ. وإن كان صَلْباً نجساً تَنَحَّى عنه إلى غَيْرِه. وإن كان طاهِراً صَلْباً [21/أ] تَعَيَّنَ الجلوسُ. وإن كان نَجِساً رِخواً بال قائماً؛ مخافةَ أن تَتَنَجَّسَ ثيابُه. وَلا يَتَكَلَّمُ قالوا: إلا إِذا خَشِيَ فَوَاتَ مالٍ أو نَفْسٍ. وَلا يَسْتَقْبِلُ الْقِبلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرُهَا إِلا لِمِرْحَاضٍ مُلْجَأً إِلَيْهِ بسَاتِرٍ أَوْ غَيْرِهِ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرُوهَا لِغَائِطٍ أو بَوْلٍ، ولكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا" أخرجه البخاري ومسلم.

وخُصَّ قولُه صلى الله عليه وسلم: "شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا" بِمَن لم تكن قِبلتهم في المَشْرِقِ ولا في المَغْرِبِ. قال في التهذيب: ولا يُكره استقبالُ القِبلةِ ولا استدبارُها لبولٍ أو غائطٍ أو مُجامَعَةٍ إلا في الفَلَواتِ، وأمَّا في المدائنِ والقُرَى، والمراحيضِ التي على السُّطوحِ فلا بأسَ به، وإن كانت تَلِي القبلةَ. وظاهرُه جوازُ الاستقبالِ في الكَنِيفِ، وإن لم تَكن مشقةٌ بدليل جوازِ المجامعةِ ولا ضرورةَ فيها. قاله اللخميّ وابنُ رشد وعياضٌ وسندٌ. وهذا كله مخالِفٌ لمفهومِ كلامِ المصنفِ؛ لأن مفهوم قوله (مُلْجَأ) أنه لو لم يكن ملجَأً، وأمكنه الانحرافُ، أنه لا يجوز حينئذٌ الاستقبالُ ولا الاستدبارُ. نَعَمْ يُوافِقُ كلامَ المصنفِ- على نظرٍ فيه- ما في الواضحة والمختصر أنه يَجوز الاستقبالُ والاستدبارُ في الكَنِيفِ مع المشقةِ. وقد يُقال: ليس مرادُ المصنف ذلك بذكر الملجَإِ أنه لا يجوز في غيرِ الملجأ، بل أراد التنبيه على عِلَّةِ الجوازِ في المراحيضِ، وهو عُسْرُ التَّحوُّلِ. سندٌ: وظاهرُ قوله فيها: والمراحيض التي على السطوحِ. الجوازُ، وإن لم يكن ساترٌ، وعلى ذلك حَمَلَه في تهذيب الطالب، ونقل أبو الحسن تأويلاً آخر: أن ما في المدونة مَحمولٌ على السَّاتِرِ. وقال ابن بشير: الموضعُ إن كان لا مراحيضَ فيه ولا ساترَ فلا يَجوز فيه الاستقبالُ ولا الاستدبارُ، أو تكون فيه المراحيضُ والساترُ فيجلس بحسب ما تقتضيه المراحيضُ، أو يكون ذا مراحيضَ ولا ساترَ فيجلس بحسب ما تقتضيه المراحيضُ أيضاً للضرورة، أو يكون ذا ساترٍ ولا مراحيضَ ففي المذهب قولان. وسبب الخلاف: هل العِلَّةُ المُصَلُّونَ فيجوزُ بالساتِرِ، أو القِبْلَةُ فلا يجوز أصلاً؟ قال اللخمي: وعلَى مَن أَحَبَّ بناءَ ذلك أن يجعلَه إلى غيرِ القِبلةِ إلا أن لا يتيسرَ له ذلك. وقوله: (بِسَاتِرٍ) متعلق بمحذوف، أي: كان ساتراً أو غ يره.

فَإِنْ كَانَ سَاتِراً فَقَوْلانِ تَحْتَمِلُهُمَا بِنَاءً عَلَى الْحُرْمَةَ لِلْمُصَلِّينَ أَوْ لِلْقِبْلَةِ أي: إن كان ساتراً في غيرِ المراحيضِ- كالصحراء- ففي الجوازِ وعدمِه قولان، وتحتمل المدونةُ القولين، وقد قدّمنا نصَّ التهذيب، وهو محتملٌ للقولين كما ذكر المصنف. ومنشأُ الخلافِ هل المنعُ للمُصَلِّينَ، أي لئلا يَنظره بعضُ مَن يُصلي للقبلة؟ فإذا حَصَلَ ساترٌ جَازَ للأَمْنِ مِن عِلَّةِ المنعِ، أو المنعُ لأجْلِ حُرمِة القِبلة، وهي حاصلةٌ سواءٌ أكانَ ثَمَّةَ حائلٌ أم لا. وَالْمَشْهُورِ: وَالْوَطْءُ كَذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلْعَوْرَةِ أَوْ لِلْخَارِجِ كذا في بعض النُّسِخِ، وفي بعضها: (والوطءُ) بحذف (الْمَشْهُورِ) وعليهما- معاً- فالوطءُ مبتدأٌ خبرُه محذوف، أي: والوطءُ كقضاءِ الحاجةِ. ومقابِلُ الْمَشْهُورِ جوازُه مطلقاً، كذلك في الجواهر. والْمَشْهُورُ ومقابلُه تأويلان على المدونة، ويبين لك هذا ما وَقَعَ في بعضِ النُّسَخِ: (والمشهور أن الوطء كذلك) ورأينا أن نَذْكُرَ لفظَ المدونة؛ لأن أبا سعيدٍ لم يَنْقُلْه على الوجهِ المرتضَى، فإنه حَذَفَ المحلَّ الذي أَخَذَ منه الأشياخُ، ولم يُبْقِ للتأويلِ محلاً. وقد قدَّمنا لفظَ أبي سعيد في المسألة التي قَبْلَ هذه. ثم نذكر كلامَ الأشياخِ ليتبين لك ما شَهَّرَه المصنفُ وغيرُه، وتَتَّضِحُ المسألةُ. ولفظُ المدونةِ: قلتُ: أَيُجامعُ الرجلُ امرأتَه مستقبلَ القبلةِ في قولِ مالكٍ؟ قال: لا أحفظُ عن مالكٍ في هذا شيئاً، وأرى أنه لا بأٍ بذلك؛ لأنه لا يرى بالمراحيض في المدائنِ والقُرَى بَاساً وإن كانت مستقبلةَ القبلةِ.

قال ابن بشير: لقد تعلّق بعضُ الأشياخِ باللفظِ الأولِ فأجازوه مطلقاً، وتعلّق آخرون بالتشبيه فأَلْحَقُوه بالحَدَثِ. انتهى. وكذلك ذَكر أبو الحسن الصغير هذا الكلامَ بعينِه. ونقل التأويل الثاني عن القابسي، وهو الذي شَهره المصنفُ، وهو الظاهر؛ لأن فيه اعتبارَ مجموعِ كلامِ ابن القاسم. وأما التأويلُ الأولُ فينظر فيه إلى أولِ الكلام فقط، وهو لا ينبغي، وكان عبد الوهاب يَذهب إلى حَمْلِ المدونةِ على الجوازِ مطلقاً، فإنه قال: والجوازُ مذهبُ ابنِ القاسمِ، قال: وكَرِهه ابنُ حبيب. وحكى ابنُ سابق عن ابنِ حبيب أنه قال: لا يجوزُ في صحراءَ، ولا بنيانٍ. فعَبَّرَ عنه بعدمِ الجوازِ وعمّم المنعَ، فيحتمل أن يكونَ أَطلقَ المنع وأرادَ به الكراهةَ، ويحتمل أن يكون أرادَ المنعَ حقيقةً، ويكون قولُ ابنِ حبيب اخْتَلَفَ بالمنعِ والكراهةِ، والجمعُ بين قوليه أَولى. وقوله: (بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلْعَوْرَةِ أَوْ لِلْخَارِجِ) بناء صحيح، أي: إذا قلنا: إِنَّ المنعَ لأجل العورةِ استدبر، وإن قلنا للخارج جَاز الوطءُ مطلقاً؛ إِذْ لا خارِجَ، وهذا أحسن ما يحمل كلام المصنف عليه، والله أعلم. ابن هارون: وجعلَ ابنُ عتاب محلَّ الخلاف إذا كانا منكشفين، قال: وأما إن كانا مستورين جاز في البيان وغيرِه. وفيه نظرٌ. فرعان: الأول: قال صاحب الطراز: ولا يُكره استقبالُ بيتِ المقدس؛ لأنه ليس بقِبلةٍ. الثاني: يَجوز عندنا استقبالُ الشمسِ والقمرِ لعَدَمِ ورود النهيِ عنه. كذا قال ابن هارون. [21/ب].

وقال سيدي أبو عبد الله بن الحاج في ذكره آدابَ الاستنجاء: الثامنةُ منها: أن لا يَستقبلَ الشمسَ والقمرَ؛ فإنه وَرَدَ أنهما يَلعنانه. ومقتضى كلامِه أنه في المذهب، فإنه قال أولاً: قد ذكر علماؤنا- رحمهم الله تعالى- آدابَ التصرفِ في ذلك. وَيُسْتَنْجَى مِمَّا عَدَا الرِّيحَ قوله: (مِمَّا عَدَا الرِّيحَ) لا يخلو إما أن يُريد مِن الناقضِ أو مِن الخارج، والأولُ لا يصحُّ؛ لأنَّ مِن النواقضِ ما لا يُستنجى منه كالمَسِّ، وإِن أراد الخارجَ فليس على عمومِه، إِذْ منه ما لا يُستنجى منه كالحَصَى والدَّمِ والدُّودِ- على ما سيأتي إن شاء الله تعالى- فيُجْعَلُ الخارج صفةً لمحذوفِ، أي: مِن الحدثِ الخارجِ. والحاصلُ أنه يُستنجى مِن جميعِ الأَحْدَاثِ إلا الريحَ، وزاد بعضُهم في المستثنى الصوتَ. قال بعضهم: وما أظن يَخرج بغيرِ ريحٍ. وقوله: (مِمَّا عَدَا الرِّيحَ) أي: مِن الخارج مِن السبيلين، وفيه تنبيهٌ على مَن شَذَّ فَأَمَرَ بالاستنجاء مِن الريحِ. وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام: "ليسَ مِنَّا مَنِ اسْتَنْجَى مِنَ الرِّيحِ". أي: ليس على سُنَّتِنَا. رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب المتفق والمفترق في ترجمة محمد بن زياد الكلبي. وَيَكْفِي الْمَاءُ باتِّفَاقٍ وَالأَحْجَارُ وَجَوَاهِرُ الأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ عُدِمَ الْمَاءُ لا خلافَ في المذهب- كما قال- أنَّ الماءَ يَكفي، وهو أفضلُ مِن الأحجارِ. وقولُ ابنِ المسَيّبِ: إنما ذلك وُضوءُ النساءِ. أي: الماءُ يَختصّ بالنساء؛ لتعذر الاستجمار في حَقِّهِنَّ عند البولِ- يُحْمَلُ على أَنَّه قال ذلك في مقابلةٍ مَن أنكر الاستجمارَ بالأحجارِ، فبَالَغَ في إنكارِه بهذه الصيغةِ ليمنعَه مِن الغُلُوِّ، وإن لم يُحْمَلْ على ما ذكرناه فهو مُشْكِلٌ؛ لحديث الإِدَاوَةِ خَرَّجَه الصحيحان، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه يَدْخُلُ الخلاءَ، فأحْمِلُ أنا وغلامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِن مَاءٍ وعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بالماءِ.

وفي المدونة فيه: فأَخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإدَاوَةَ مِنِّي وقال: "تَأَخَّرْ عَنِّي" فَفَعَلْتُ، فاسْتَنْجَى بالماءِ. وروى النسائي والترمذي، وصححه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بالماءِ- فإني أَسْتَحِي منهم- لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَفعله. وقال المفسرون في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] أنها نزلت في أهل قُباءٍ، وأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سألهم عن الطهارةِ فأخبروه أنهم يَسْتَنْجُونَ بالماءِ. وأما قوله: (وَالأَحْجَارُ وَجَوَاهِرُ الأَرْضِ) فيعني: وتَكفي الأحجارُ وجواهرُ الأرض، أي: ما عليها مِن تراب وغيرِه. والجوهرُ عند الأصوليين موضعٌ لكل مُتَحَيِّزٍ. وقال ابن حبيب: لا تُبَاحُ الأحجارُ إلا لمن عَدِمَ الماءَ. وتأوَّلَه الباجر على الاستحبابِ، قال: وإِلاَّ فهو خلافُ الإجماعِ، والْمَشْهُورِ أظهرُ لعمومِ الأحاديثِ في الاستجمارِ. والأحجارُ عطفٌ على الماءِ، ولا يَلزم أن يكون متفقاً عليه؛ لأن الواو إنما تُشَرِّكُ في الإعرابِ ومُطْلَقِ الحُكْمِ لا في التقييد بالمجرورِ والحالِ والصفةِ، أو نجعل الأحجارَ مبتدأ وخبرُه محذوفٌ، أي: والأحجارُ كافيةٌ. وليس قوله: (تكفي الأحجار) على عمومه؛ إذ الأحجارُ غيرُ كافية في المني والمذي. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى لا خلاف في ذلك.

فَإِنِ انْتَشَرَ فَالْمَاءُ بِاتِّفَاقس، فَإِنْ كَانَ قَرِيباً جِدّاً فَقَوْلانِ أي: فإِنِ انْتَشَرَتِ النجاسةُ على أَحَدِ المَخْرَجَيْنِ كثيراً فلا يُجزئُ فيها الاستجمارُ، وإن كان قريباً جدّاً فقولان. ابن رشد: مبنيان على الخلاف فيما قَرُبَ مِنَ الشيءِ هَلْ يُعْطَى حُكمُه أم لا؟ وهذه القاعدةُ كثيراً ما يذكرُها الفقهاءُ، ولم أَجِدْ دليلاً يَشهد لِعَيْنِها. فأمّا إعطاؤه حكمَ نفسِه فهو الأصلُ، وأما إعطاؤه حكمَ ما قارَبَهُ فإن كان مما لا يَتِمُّ إلا به فهو واجبٌ، كإمساكِ جزءٍ من الليل فهذا مُتَّجِهٌ، وإن كان على خلافِ ذلك فقد يُحتجُّ له بحديث: "مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ" وبقوله صلى الله عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ". انتهى. وقوله: (قَرِيباً جِدّاً) أَحْسَنُ مِن قول ابن الجلاب: وما قارَبَ المخْرَجَ مما لا بُدَّ منه، ولا انْفِكَاكَ عنه- فَحُكْمُه- عندي في العفوِ- حُكْمُ المَخْرَجَيْنِ. وقال ابن عطاء الله: هو في العفوِ بخلافِه؛ لأنه إذا لم يُمْكِنُ الانفكاكُ عنه يلزمُ- على قولِ ابن عبد الحكم- تَرْكُ الاستجمارِ بالكُلِّيَّةِ. وَالْمَنِيُّ بِالْمَاءِ ابن عبد السلام: إن عَنَي به منيَّ الصِّحَّةِ- غيرَ مَنِيِّ صاحبِ السَّلَسِ- فغيرُ محتاجٍ إليه هنا؛ لا يجابِه غَسْلَ جميعِ الجسدِ، وإن عَنَى به منيَّ المَرَضِ- كمَنِيِّ صاحبِ السَّلَسِ- فلمَ لا يَكونُ كالبولِ على قولِ مَن رَأَى أنه مُوجِبٌ للوضوء؟ وقد يمكن أن يُريد القسم الأول في حق مَن كان فرضُه التيممَ لمرضٍ أو لعدمِ ماءٍ، ومعه ما يُزيل به النجاسةَ فقط. ابنُ هارون: وكذلك دمُ الحيض والنفاس، فلا معنى لتخصيص المنيِّ بذلك. وأشار القاضي عياضٌ إلى أن البولَ مِن المرأة لا بُدَّ فيه أيضاً مِن الماء؛ لتعذر الاستجتمارِ في حقَّها وكذلك قال سندٌ أن المرأةَ والخصيَّ لا يكفيهما الاستجمارُ في البول، ونقله في الذخبرة.

وَالْمَذْيُ مِثْلُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: فيتعين له الماءُ؛ لأَمْرِه صلى الله عليه وسلم بغسل الذَّكَرِ منه- خرجه في الصحيحين- وعليه حَمَلَ العراقيون قولَ الإمامِ: والمذي عندنا أشدُّ مِن الودي. لا على ما حَمَلَه المغاربةُ مِن أنه يَجِبُ منه غَسلُ جميعِ الذَّكر. ووجهُ الشاذِّ أنه خارجٌ يَنقض الوضوءَ، فجاز الاستجمارُ منه كسائِرِ الأَحْداثِ. وَفِي مَغْسُولِهِ قَوْلانِ تَحْتَمِلُهُمَا: جَمِيعُ الذِّكْرِ لِلْمَغَارِبَةِ، فَفِي النِّيَّةِ قَوْلانِ، وَمَوْضِعُ الأَذَى لِغَيْرِهمْ فَلا نِيَّةَ .... الضمير في (مغسلوه) [22/ أ] يَعود على صاحبِ المذي، يَدُلُّ عليه السياقُ، ويَجوز أن يعود على المذي، أي: وفي المغسول له أو من أجله. وفي هذا الثاني نظر. ووجهُ احتمال المدونة للقولين؛ لأنه قال فيها: والمذي عندنا أشدُّ من الودي؛ لأن الفرجَ يُغسل عندنا من المذي، والوديُ عندنا بمنزلة البول. فقوله: (مع غسل الفرج) يحتمل أن يريد جميعَ الفرج أو بعضَه، وهو محلُّ الأذى منه، فهذا وجهُ احتمالِها للقولين. فإن قلتَ على احتمالِ غسلِ محلِّ الأذى فهو مساوٍ للودي في ذلك، فما وجهُ الأَشَدِّيَّةِ؟ فجوابه أن الودي يُجزئ فيه الاستجمارُ بخلاف المذي. والاحتمالُ الأولُ أظهرُ لحَمْلِ اللفظِ على حقيقتِه؛ ولأنه وقع في بعض نُسَخِ التهذيبِ: مع غَسل الذَّكَرِ كُلِّه. وهي على هذا لا تَحتمل إلا الاحتمالَ الأولَ، لكن قال أبو إبراهيم: ليس في الأمهات لفظة (كله) ونقلها بعضُ الشيوخِ، وأنكرها البغداديون. وبنى ابنُ بشير القولين على اختلافِ الأصوليين في الأَخْذِ بأوائلِ الأسماء أو بأواخرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَه بغَسْلِ الفرجِ، والفرجُ له أولٌ وآخرٌ.

ابن راشد: ووَهِمَ، فإنّ الخلافَ إنما هو في الاسم الذي له مراتبُ يُطلق على كلِّ واحد منها بطريقِ الحقيقةِ كلفظةِ الدراهمِ في حقِّ مَنْ أَقَرَّ لشخصٍ بدراهمَ مثلاً، وأما ما له حقيقةٌ ويُطلق على البعض بطريقِ المجاز- فلا خلافَ فيه؛ لأن الأصلَ الحقيقةُ، وإنما مستندُ العراقيين القياسُ على البولِ. ثم الظاهرُ- على قول المغاربة- وجوبُ النية لظهور التعبد، وهو قول أبي العباس الإِبِّيَانِيّ، قال: وإن تَرَكَ النيةَ أعاد الصلاةَ. وقال ابن أبي زيد: لا يَفْتَقِرُ إلى نية؛ لأن المقصود بغسل الجميع قطعُ مادَّتِه. قال بعضُ المتأخرين: وينبغي أن يكون غَسل المذي مقارِناً للوضوءِ، ورأى أنَّ غسلَه لما كان تعبداً أَشْبَهَ بعضَ أعضاءِ الوضوء. واختُلف في بطلانِ صلاةِ مَن تَرَكَ غسلَ جميعِ الذَّكَرِ، فقال يحيى بن عمر: لا يُعيد، ويَغسل ذَكَرَه لما يُستقبل. وقال الإِبِّيَانِيّ: يُعيد أبداً. وأجراه بعضُ المتأخرين على أن غسلَ الجميعِ واجبٌ أو مستحبٌّ. وَالْجَامِدُ كَالْحَجَرِ عَلَى الْمَشْهُورِ وضابطُه كلُّ يابسٍ طاهرٍ مُنَقٍّ غيرِ مُؤْذٍ ولا محترمٍ، فاحتُرِزَ باليابس مِن المائعاتِ والخرقِ المبْتَلَّةِ؛ لأن الرطوبةَ تَنشر النجاسةَ، وبالطاهرِ مِن النَّجِسِ، وبمُنَقٍّ من الأَمْلَسِ كالزُّجاجِ، وبغيرِ مؤذٍ من الزُّجاجِ المُحَرَّفِ ونحوِه. وبالمحترمِ مِن جدارِ المسجد والبَعْرِ والرَّوْثِ والعَظْمِ؛ لأنه محترمٌ لحَقِّ الجانِّ. ومِن الذهبِ والفضةِ ونحوِهما لحقِّ الله تعالى. وذَكَرَ في الإكمال عن بعضِ شيوخِه أنه زاد في الشروط أَنْ يكونَ مُنْفَصِلاً؛ احترازاً مِن يَدِ نَفْسِه، لكن ذَكَرَ في الرسالة أنه يَستجمرُ بيدِه، ولفظُه: ثم يَمسحُ ما في المَخْرَجِ مِن الأَذَى بمَدَرٍ أو غيرِه أو بيدِه. وكذلك ذكر سيدي أبو عبد الله بن الحاج أنه قال: إذا عَدِمَ الأحجارَ فلا يَتْرُكُ فضيلةَ الاستجتمارِ، بل يَستجمر بأصبعِه الوسطى بَعْدَ غَسْلِها.

وقاسَ- في الْمَشْهُورِ- كلَّ جامدٍ على الحجرِ؛ لأنَّ القَصْدَ الإنقاءُ، ورأى في القول الأخيرِ أن ذلك رخصةٌ فيُقتصر فيها على ما وَرَدَ. والصحيحُ الأَوَّلُ؛ لأنَّ الرخصةَ في نَفْسِ الفعلِ لا في المفعولِ به، وتعليلُه صلى الله عليه وسلم طرحَه الروثةَ لكونها رِجْساً- تقتضي اعتبارَ غيرِ الحَجَرِ، وإلا لعَلَّلَ بأنها ليستْ بحَجَرٍ. رواه الدارقطني والبخاري. وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قَضَى أَحَدُكُمْ حَاجَتَه فَلْيَسْتَجْمِرْ بثَلاثةِ أَعْوَادٍ، أو بثَلاثَةِ أَحجارٍ، أو ثلاثِ حَثَياتٍ مِنْ تُرَابٍ". ولا دليل له بقوله صلى الله عليه وسلم: "أَوَلا يَجِدُ أَحَدُكُم ثَلاثةَ أَحجارٍ"؛ لأنَّ مفهومَ اللَّقَبِ مردودٌ ولم يَقُلْ به إلا الدَّقَّاق. وَلا يَجُوزُ بِنَجِسٍ وَلا بِنَفِيسٍ وَلا بأَمْلَسَ وَلا بِذِي حُرْمَةٍ كَطَعَامٍ أَوْ جِدَارِ مَسْجِدٍ أَوْ شَيْءٍ مَكْتُوبٍ ...... لام كانت الأعيانُ ضربين: منها ما يُستجمر به، ومنها ما لا يستجمر به، وكان ما لا يَجوز محصوراً ذَكَرَهُ لِيُعْلَمَ بذلك أنَّ غَيْرَهُ جائِزٌ، كقولِه صلى الله عليه وسلم لما سُئل عمّا يَلبس المُحْرِمُ: "لا يَلبسُ القُمُصَ ولا العمائمَ، ولا السَّرَاوِيلاتِ، ولا البَرَانِسَ، ولا الخِفَافَ". وكفِعْلِ النحويين في قولهم: باب ما لا ينصرف. قال ابن راشد: وذَكَرَ وَصْفَ النفاسةِ تنبيهاً على عِلَّةِ المَنْعِ؛ لأنّ استعمالَها في ذلك تَخْسِيسٌ لها؛ ولأنها أجسامٌ فيها مُلُوسَةٌ فتزيدُ المحَلَّ تَلْطِيخاً. ثم قال: وقول المصنف (بِنَجِسٍ) ليس على إطلاقِه، بل إذا باشر المحلَّ؛ لأنه لو كان في أَحَدِ جَنْبَيْ حَجَرٍ نجاسةٌ، جاز بالجَنْبِ الطاهرِ. وقوله: (كَطَعَامٍ) يعني: وإنْ كان مِن الأدويةِ والعقاقيرِ. قال في الإكمال: وقد تساهل الناسُ في المَسْحِ بالحِيطانِ، وهو مما لا يَجوزُ فِعْلُه؛ لِتَنْجِيسِها، ولأن للناس ضَرائِرَ في الانضمامِ إليها لا سيما عند نزولِ المطرِ وبَلَلِ الثياب. وهو كلامٌ ظاهرٌ، وعلى هذا فلا يَظهر لتخصيصِ جدارِ المسجدِ إلا الأولويةُ.

وقوله: (أو شىءٍ مكتوبٍ) يريد لحرمة الحروف, وتختلف الحرمة بحسب ما كتب فيه, وفي معنى المكتوب الغير مكتوبٍ لما فيه من النشاء. وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالْعَظْمُ وَالْحُمَمَةُ عَلَى الأَصَحِّ (الأَصَحِّ) راجعٌ إلى الثلاثة, أما الروثُ والعظمُ فيحتمل أن يُريد بهما إذا كانا طاهِرَين, ويحتمل [22/ب] أن يريد: إذا كانا نجسين يابسين, ويحتمل أن يريد المجموعَ. وقد حكى اللخميُّ في كل منهما قولين, ويكون وجه المنع فى الطاهرين حديثَ البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال له: "لا تَاتِنِى بِرَوْثٍ ولا بعَظْمٍ". وما رواه أبو داوود أنه قَدِمَ وَفْدٌ مِن الجِنِّ على النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا محمد, انهَ أُمَّتَكَ أن يَسْتَنْجُوا بعَظْمٍ أو رَوْثٍ أو حُمَمَةٍ, فإنَّ الله تعالى جَعل لنا فيها رزقاً. فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال أبو عبيد: الحُمَمَةُ: الفحمة. وقيل في تَعليل العَظْمِ لأنه لا يُنْقِي لمُلُوسَتِه, وقيل لأنه من المطعوماتِ إِذْ قد يُؤْكَلُ فى الشدائد, وقيل لأنه لا يَعْرَى عن دَسَمٍ فيزيدُ المحلَّ تنجيساً. ونَقل ابن يونس أن ابن القاسم روى عن مالك أنه كَرِهَ الاستجمارَ بالرَّوْثِ والعَظْمِ. قال فى البيان: واجمعوا على أنه لا يجوز الاستجمار بما له حُرمة مِن الأطعمةِ, وكل ما فيه رُطوبةٌ من النجاسات. وأما الحُمَمَةُ فقال المصنفُ: إن الأصحَّ فيها عدمُ الجوازِ. وقال التلمساني: إن ظاهرَ المذهبِ الجوازُ, والنقلُ يُؤيده. قال أشهب فى العتبية: سئل مالك عن الاستنجاء بالعظم والحممة, فقال: ما سمعت فيه نهياً عاماً, ولا أرى به بأساً فى عِلْمِي. وقال اللخمي: اختُلف فى العُودِ, والخِرَقِ, والفَحْمِ, وما أشبه ذلك مما هو طاهرٌ ولا حُرْمَةَ له, ولا يَتعلق

به حقُّ الغَيْرِ, وليس من انواعِ الأرضِ, فروى ابن وهب عن مالك إجازتَه, ومنعه أصبغُ, وقال: إنْ فَعَلَ أَعادَ فى الوقت. يُريد لأن النبى صلى الله عليه وسلم استَعْمَلَ الأحجارَ, وأنّ للأرض تَعَلُّقاً بالطهارة, وهو التيمم. انتهى. قيل: وإنما مُنِعَتِ الحممة, لأنها تُسَوِّدُ المَحَلَّ, ولا تُزيل النجاسةَ. فَلَوِ اسَتْجَمَرَ بِنَجِسٍ أَوْ مَا بَعْدَهُ فُفِي إِعَادَتِهِ فِي الْوَقْتِ قَوْلانِ أى: ما ذَكَرَ بَعْدَ النجسِ مِن ذى الحُرْمَةِ, والروثِ, والقولُ بإعادته في الوقتِ لأصبغَ, والقولُ بعدمِ الإعادة لابن حبيب. قاله صاحب البيان. ونَقل عن ابن عبد الحكم أنه إن استجمر بما نُهِىَ عنه, أو بحجرٍ واحدٍ فصلاتُه باطلةٌ. ابن عبد السلام: وهو الظاهرُ عندي؛ لأن الاستجمارَ رخصةٌ, فإن لم يأتِ بمحلَّ الرخصةِ بَقِىَ على أصلِ المنعِ كالمصلي بالنجاسة. انتهى. وفيه نظر؛ لأن الرخصةَ إنما هي فى الإزالةِ, لا فى ما يُزال به؛ لأن المقصودَ الإزالةُ وقد حَصَلَتْ. واستُشْكِلَ القولُ بعَدَمِ الإعادةِ في ما إذا استَجْمَرَ بنَجِسٍ, وقد يُقال: هو مبنيٌّ على القول بأنَّ إزالةَ النجاسةِ مستحبةٌ. والله تعالى أعلم. وَصِفَتُهُ: أَنْ يَسْتَبْرِئَ بِالسَّلْتِ وَالنَّثْرِ الُخَفِيفَيْنِ وَيَغْسِلَ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَحَلَّ الْبَوْلِ ثُمَّ الآخَرَ، وَيُوَالِي الصَّبَّ حَتَّى يَنْتَقِيَ، وَلا تَضُرُّ رَائِحَةُ الْيَدِ مَع الإنْقَاءِ الضمير فى (وَصِفَتُهُ) لا ينبغي أن يَعُودَ على الاستنجاءِ؛ لأن الاستبراءَ ليس صِفَةً له, إذ هو استفراغُ ما فى المَخْرَجَيْنِ, وهو واجِبٌ. وأما الاستنجاءُ فهو مِن بابِ زوالِ النجاسةِ, ولا يَنبغي أن يَعود على الاستبراءِ لما يَلزم على ذلك مِن جعل الاستبراءِ بالسَّلْتِ والنَّتْرِ الخفيفين صفةً للاستبراءِ, وهو لا يَصِحُّ إلا بَتَجُّوزٍ, وعلى هذا فالظاهرُ عَوْدُه على فعِْلِ الفاعلِ الجامعِ للاستبراءِ والاستنجاءِ معاً.

وقوله: (بِالسَّلْتِ وَالنَّثْرِ) مخصوصٌ بالذَّكَرِ, ولا تحديدَ فى المرَّاتِ؛ لأن أمزجةَ الناس مختلفةٌ. وفي السليمانية: إذا استبرأتِ المرأةُ فليس عليها غَسْلُ ما بَطَنَ, وإنما عليها غسلُ ما ظَهَرَ والعاتِقُ والثَّيِّبُ في الوضوءِ واحدٌ. وقوله: (وَيَغْسِلَ الْيُسْرَى) يحتمل أن ينصب اللام مِن يغسل بالعطف على يستبرئ, ويحتمل أن يرفعَ على الاستئناف. وإنما أَمَرَ بالغَسْلِ لئلا تَعْلَقَ بها الرائحةُ. وهذا أَوْلَى مما قاله ابن أبى زيد مِن غَسل اليدينِ؛ إذ لا مُوجِبَ لغَسْلِ اليُمْنَى, وينبغى أيضاً أن يكتفى بِبَلَلِ اليُسرى, إذ المقصودُ مِن ذلك إنما هو عدمُ تعلُّقِ الرائحةِ باليَدِ, ثم يغسلُ بعدَ غَسلِ يدِه محلَّ البولِ خوفاً مِن أن يصل إليه شيءٌ مِن النجاسة أَن لو بدأ بمحل الغائط. (ثُمَّ الآخَرَ) أى الدبر (وَيُوَالِي الصَّبَّ) أى مع الاسترخاء (وَلا تَضُرُّ رَائِحَةُ الْيَدِ) لِلْحَرَجِ. وَفِي الأَحْجَارِ الإِنْقَاءُ، وَفِي تَعْيِينِ ثَلاثَةٍ لِكُلِّ مَخْرَجٍ قَوْلانِ والمطلوبُ في الأحجار– وما في معناها- الإنقاءُ, وأما الأثرُ فلا يُمكنُ زوالُه, والتقديرُ: والواجبُ أو المطلوبُ الإنقاءُ, فحذفَ المبتدأ. وقوله: (وَفِي تَعْيِينِ ...) إلى آخره, يعني أنه اختُلف في الواجب في الاستجمارِ, والْمَشْهُورِ أنه الإنقاءُ دُونَ العَدَدِ. وقال أبو الفرج وابن شعبان بوجوبِهما, واختاره بعضُهم لقوله صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن الاستطابةِ: "أَوَلا يجدُ أحدُكم ثلاثةَ أحجارٍٍ" خَرَّجه في الموطأ. وهذا خَرَجَ بياناً لأقلّ ما يُجزئ. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر" خرجه الصحيحان.

وأُجيب بأنَّ الأَوَّلَ إنما يدل على مفهومِ العَدَدِ, ويُمْنَعُ, ولو سُلَّمَ فإنما ذلك ما لم تعارِضْه دلالةُ المنطوقِ, وقد روى أبو داوود "ومَن استجمرَ فليُوتِرْ, من فَعَلَ فقد أَحْسَنَ, ومَنْ تَرَكَ فلا حَرَجَ". وعن الثانى بأنه محمولٌ على الندبِ جمعاً بين الأَدِلَّةِ. وعلى الْمَشْهُورِ: فهل يُطلب الوِتْرُ؟ ابن هارون: لم نرَ لأصحابِنا فيه [23/أ] نصّاً, والذى سمعتُ قديماً في المذاكرات أنه يُطْلَبُ الوترُ إلى السَّبْعِ, فإِنْ لم يُنْقِ بها لم يَطلب إلا الإنقاءَ فيما زاد من غيرِ مراعاةِ وِتْرٍ قياساً على غَسْلِ الإناء مِن ولوغ الكلب. وقوله: (لِكُلِّ مَخْرَجٍ) ابن هارون: يحتمل أن يكون المعنى: ففي تعيينِ ثلاثةٍ أَوْ لا قولان, ويكون القولُ بعدم التعيين يُكتفى فيه بالحجرِ الواحدِ, وهو الْمَشْهُورِ, ويكون مقابلُ الْمَشْهُورِ –على هذا الاحتمال- قولَ ابن شعبان, وهو ظاهرُ لفظِه, ويحتمل أن يكونَ قَصَدَ ذِكْرَ الخلافِ فى تعيينِ ثلاثةٍ لكلِّ مخرجٍ, أو الاكتفاءِ بثلاثةٍ لهما معاً, وقد ذكر ابن بشير هذين القولين. وَعَلَى تَعْيينِها فَفِي حَجَرٍ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قَوْلانِ. وَفِي إِمْرَارِهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَوْضِعِ أَوْ لِكُلِّ جِهَةٍ وَاحِدٌ وَالثَّالِثُ لِلْوَسَطِ قَوْلانِ .... بناءً على الوقوفِ مع ظاهرِ اللفظِ, أو لأن المقصودَ مِن الثلاثةِ حاصلٌ, والأحسنُ أن لو قال: ثلاثة رؤوس؛ لأن الشُّعْبَةُ ما بين الرأسين. وقوله: (وَفِي إِمْرَارِهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَوْضِعِ) الخلافُ في ذلك راجعٌ إلى الخلافِ في شهادةِ أيّهما أَنْقَى, وهذا إنما هو في الدُّبُرِ, وأما القُبُلُ فلا بُدَّ مِن تعميمِ المحلِّ, والقولُ الأولُ أظهرُ, ووجهُ الثانى أن المسحَ مبنيٌّ على التخفيف.

وَلَوْ تَرَكَهُمَا سَاهِياً وَصَلَّى فَفِي إِعَادَتِهِ فِي الْوَقْتِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، فَقَالَ ابْن أَبي زَيْدٍ: يُريِدُ الْمَاسِحَ وَالْمُبَعِّرَ. وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ عَلَى وُجُوبِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ يُعيد أبداً، وَعَرَقُ الْمَحَلِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عَلَى الأَصّحِّ .... الضمير في (تَرَكَهُمَا) عائدٌ على الاستنجاءِ والاستجمارِ. والقولُ بالإعادة في الوقت لابنِ القاسم, وهو الجاري على الْمَشْهُورِ, وقولُ أشهب يأتي على القولِ بأنَّ إزالةَ النجاسةِ مستحبةٌ. وقد ذكره ابنُ رشد فى التقييد والتقسيم. وتأويلُ ابنِ أبي زيد غيرُ ظاهر, إذ المسحُ المخالفُ لِسُنَّةِ الاستجمارِ لا يَرفعُ حكمَ النجاسةِ. وكذلك الذي يَبْعَرُ إِنْ كان به مِن اليُبْسِ ما يَظَنُّ معه أنه لا يَلتصق به شيءٌ مِن النجاسةِ فلا وجهَ لاختصاصِ الناسي, بل وكذلك المتعَمِّدِ, وإن لم يكنْ كذلك فقد يَنْجُسُ المحلُّ, وتخريجُ اللخميِّ صحيحٌ. نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ أَحْدَاثٌ وَأَسْبَابٌ النواقضُ جمعُ ناقضٍ, وناقضُ الشيء ونقيضُه ما لا يُمْكِنُ جمعُه مَعَهُ. وعبارةُ المصنفِ بالنواقضِ أَوْلَى مِمن عبّر عنها بما يُوجب الوضوء؛ لأن الناقضَ لا يكون إلا متأخراً عن الوضوءِ بخلاف الموجِبِ فإنه قد يَسْبِقُ. وفَاعِلٌ إذا لم يكن وَصْفاً لمذَكَّرٍ عاقلٍ يجوزُ جمعُه على فواعل, كجارحٍ وجوارح, وناقض ونواقض, وطالق وطوالق, نص عليه سيبويه. قال ابن مالك فى شرح الكافية: وقد غلطَ فيه كثيرٌ مِن المتاخرين فعَدُّوه مَسموعاً, وليس كذلك. انتهى.

نواقض الوضوء

وقولُ ابنِ عبد السلام: ففى صحةِ هذا الجمع نظرٌ. وكذلك قال في مواضع في باب الفرائض: إِنْ أراد به أنه لا يَصِحُّ فقد تبين أن ذلك غلطٌ, وإن أراد أن فيه خلافاً فى العربية من حيثُ الجَمْعِيَّةِ فقريبٌ. الأَحْدَاثُ: الْمُعْتَادُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ جِنْساً وَوَقْتاً، وَهُوَ الْبَوْلُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ، بِخِلافِ دُودٍ أَوْ حَصىً أَوْ دَمٍ أَوْ بَوَاسيرَ ...... احترز بقوله (جِنْساً) بالمعتادِ مِن الحصى والدُّودِ, والمرادُ بالسبيلين القُبُلُ والدُّبُرُ, واحترز به مما لو خَرَجَ مِن الجَوْفِ أو مِن الحَلْقِ, وبالوَقْتِ مِنَ السَّلَسِ, وسيأتى. وقوله: (وَهُوَ الْبَوْلُ) تفسيرٌ للحَدَثِ, وجعله خمسةً: ثلاثةٌ مِن القُبُلِ, واثنان من الدُّبُرِ, وزاد بعضُهم الصوتَ, وإليه ذَهَبَ ابن رشد, والأولُ اختيارُ ابن بشير, قال: وما أظنه يَخرج بغيرِ ريحٍ. والدليلُ على حصولِ النقضِ بالخمسةِ ظاهرٌ. وقوله: (بِخِلافِ دُودٍ أَوْ حَصىً ....) إلى آخره زيادةٌ فى البيان وإلا فليستْ معتادةً. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَغَيْرُ الْجِنْسِ قال فى البيان: في هذه المسألةِ ثلاثةُ أقوال: أحدُها أن لا وضوءَ عليه, خرجتِ الدودةُ نقيَّةً أم لا, وهو الْمَشْهُورِ فى المذهب أن لا وضوء عليه إلا فيما يَخرج من السبيلين مِن المعتادِ على العادة. والثانى: أنه لا وضوء عليه إِلاَّ أن لا تخرج نقيةً. وهذا على قولِ من برى الوضوءَ فيما يَخرج مِن السبيلين مِن المعتادِ, خَرَجَ على العادة أو على غيرِ العادة. والثالث: أن عليه الوضوء, وإن خرجتْ نقيةً, وهو قولُ ابنِ عبد الحكم خاصَّةً من أصحابنا؛ لأنه يرى الوضوءَ مما يَخرج مِن السبيلين مِن المعتادات أو غيرِ المعتادات. ونقل ابنُ راشد أنه إذا صَحِبَتْهُ بِلةٌ يَنْقُضُ عند ابن نافع وابن القاسم.

وَقَاَلَ الْمَازِرِيُّ: وَإِنْ تَكَرَّرَ وَشَقَّ لما قدّم أنه يُشترط أن يكون معتاداً فى الوقت ذَكَرَ هذا لمخالفته لما تقدم. وظاهرُه أن المازريَّ هو المخالفَ, وليس كذلك. وإنما قال فى شرح التلقين: وقد روى عن مالك ما ظاهرُه تركُ العُذْرِ بالتكرار. ودليلُ الْمَشْهُورِ أن فى إيجابِ الوضوءِ مع التكرارِ حرجٌ, وهو منفىٌّ مِنَ الدِّينِ, ولما وَرَدَ عن عمر رضى الله عنه أنه قال: إنى لأجِدُهُ يَتَحَدَّرُ مِنِّى مثلُ الخُرَيْزَةِ, يعنى فى الصلاة. خرّجه فى الموطأ. واختُلف على الْمَشْهُورِ فى سببِ السقوطِ, فقال العراقيون: لكونه خَرج على غيرِ وجهِ الصحّة. وقال غيرهم: للحرجِ والمشقة. وهو اختيار ابن محرز. وَعَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ لازَمَ أَكْثَرَ الزَّمَانِ اسْتُحِبَّ إِلا فِي بَرْدٍ وَشِبْهِهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَقَوْلانِ، وَإِلا وَجَبَ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُفَارِقُ فَلا فَائِدَةَ فِيهِ اعلم أن لعلمائنا فى السَّلَسِ طريقين: طريقُ العراقيين: يُستحب منه الوضوءُ مطلقاً, ولا يُفَرِّقون. وطريقُ المغاربة: يُقسمونه على أربعةِ أقسام وهى التى ذكرها المصنف. أى: وإذا فرَّعْنَا على الْمَشْهُورِ –لا على رواية المازرى- فَلِلْخارجِ [23/ب] أربعةُ أحوالٍ: تارَةً تكون ملازمتُه أكثرَ, وتارةً تَستوي مفارقتُه وملازمتُه, وتارةً تكون مفارقتُه أكثرَ, وتارةً يُلازِم ولا يُفارِق. فإن كانت ملازمتُه أكثرَ فالوضوءُ مستحبٌ. قال فى التهذيبِ وغيرِه: ما لم يَكن بَرْدٌ أو ضرورةٌ. وإن تساويا فقولان: بالوجوب, والاستحباب. ابن راشد: والْمَشْهُورِ لا يجب. ابن هارون: والظاهرُ الوجوبُ؛ لأنه لا حرجَ عليه في التَّرَبُّصِ حتى ينقطعَ فيتوضأ حينئذٍ؛ لأن الفرضَ انقطاعُه في بعضِ وقتِ الصلاةِ.

وقوله: (وَإِلا) أي: وإن كانت مفارقته أكثر –وهو القسم الثالث- فالْمَشْهُورِ الوجوبُ خلافاً للعراقيين في أنه عندهم مستحَبٌ. وأشار إلى الرابع بقوله: (أَمَّا إِنْ لَمْ يُفَارِقُ فَلا فَائِدَةَ فِيهِ) أي: في الوضوء لا إيجاباً ولا استحباباً , وهذا فى السَّلَسِ. وأما المعتادُ فلا إشكالَ فى وجوب الوضوء منه. وهذا التقسيمُ لا يَخُصُّ حَدَثاً دون حدثٍ. وقد قال الإِبِّيَانِىّ فى من بجوفِه علةٌ أو شيخٍ يَستنكِحُهُما الريحُ: إنه كالبولِ. وسُئل اللخميُّ عن الرجل إِنْ توضَّأَ انتقضَ وضوؤه, وإن تيمم لم ينتقض. فأجاب بأنه يتيممُ. ورَدَّهُ ابنُ بشير بأنه قادرٌ على استعمالِ الماءِ فهو مخاطَبٌ باستعمالِه, وما يَرِدُ عليه يُمنع كونُه ناقضاً. ابن عبد السلام: ومعنى الملازمة هنا –والله أعلم- أن يأتيه البولُ مقدارَ ثُلُثَيْ ساعةٍ مثلاً وينقطع عنه ثلثاً, ثم يأتى ثلثي ساعةٍ مثلَ ذلك, فيعمُّ سائرَ نهارِه وليلِه. وكان بعضُ مَن لقيناه يقول: إنما تُعتير ملازمتُه ومفارقتُه فى أوقاتِ الصلاةِ خاصةً؛ لأن الزمانَ الذى يُخاطب فيه بالوضوء, وهذا وإن كان فى نفسه مناسباً, لكنّه مِن الفَرْضِ النادِر. وأيضاً فإذا كان الأمرُ على ما قال فلا يَخلو وقتٌ مِن أوقات الصلاة مِن بولٍ, سواءٌ لازَمَ أكثرَ ذلك الوقتِ أو نصفَه أو أقله, فلا بُدَّ مِن وجودِ النقضِ, فيستوي مشقةُ الأقلِّ والأكثرِ, فيلزم استواءُ الحُكْمِ. انتهى. ابن هارون: وهذا هو الظاهرُ؛ لأن غيرَ وقتِ الصلاةِ لا عِبْرَةَ بمُفارقتِه وملازمتِه, إِذْ ليس هو مخاطَباً حينئذٍ بالصلاةِ. انتهى. وهذا الذى كان يَميل إليه شيخُنا –رحمه الله- وكان يقول ما معناه: إنه لا ينبغي أن تُؤخذَ المسألةُ على عمومِها, بل يَنبغى أن تُقَيَّدَ بما إذا كان إتيانُ ذلك مختلفاً قي الوقت, فيُقَدِّرُ بذهنه أيهما أكثر فيعمل عليه, وأما إن كان وقتُ إتيانِه منضبطاً لعَمِلَ عليه, فإن كان أولَ الوقتِ أَخَّرَها, وإن كان آخرَ الوقتِ قَدَّمَها, وهو كلام حست فتأمله.

وما رَدَّ به ابنُ عبد السلام مِن أنه فرضٌ نادرٌ ليس بظاهرٍ؛ إذ هذه المسائل كلُّها مِن الفروض النادرةِ. وَإِنْ كَثُرَ الْمَذْيُ لِلْعُزْبَةِ أَوْ لِلتَّذَكُّرِ فَالْمَشْهُورِ الْوُضُوءُ، وَفِي قَابِلِ التَّدَاوِي قَوْلانِ ابن عبد السلام: الخلافُ إنما هو فى القادرِ لا كما يعطيه ظاهرُ كلامِ المصنفِ, وينبغى أن يكون –فى زمانٍ يَطلبُ فيه النكاحَ وشراءَ السُّرِّيَّةِ- معذوراً. وجعل قوله: (وَفِي قَابِلِ التَّدَاوِي قَوْلانِ) راجعاً إلى سلسِ البولِ. ابن عبد السلام: وعَيَّنَ الْمَشْهُورِ في المذي دونَ البولِ لحصولِ اللذةِ فى الأوَّلِ, فكان أقوى شَبَهاً بالمختار. خليل: وفيه نظرٌ, لأنى لم أَرَ أحداً ذكر هذا في البول, وإنما ذكروه في المذي. والظاهرُ في هذا المحلُ أن يُقال: الْمَشْهُورِ وجوبُ الوضوء لطول العُزبة أو التَّذَكُّرِ, ومقابلُ الْمَشْهُورِ لا يجب إلا بمجموعِهما, وذلك لأنه قال فى التهذيب: وإن كثر عليه المذي لطُولِ عزية أو تذكرٍ لزمة الوضوءُ لكلِّ صلاةٍ. وفى كتاب ابن المرابط: لِطُولِ عُزْبَةٍ وتَذَكُّرٍ. قاله أبو الحسنِ. وقال ابن الجلاب: إن كان يستطيعُ رَفْعَه بتزويجٍ أو تسرٍّ فإنه يتوضأُ لكلِّ صلاةٍ. فخَرَجَ مِن هذا على روايةِ (أو تذكر) ثلاثةُ أقوالٍ, ثالثها قولُ ابن الجلاب. قال: ولا خلافَ أنه إذا تَذَكَّرَ أَنَّ عليه الوضوءَ. انتهى. وقد ذكر ابن شاس القولين اللذين ذكرهماالمصنف في القادرِ على رَفْعِ المذي. ولفظه: وإِنْ قَدَرَ, أى على المعالجة, كالمذي يُلازمه لطولِ عُزبةٍ يَقدر على رفعِها –فقد اختلفَ فيه العراقيون على قولين, وسَببهما مَنْ مَلَكَ أن يَمْلُكَ فهل يُعَدُّ مَالِكاً أم لا؟ وكذلك قال ابنُ بشير.

ابن راشد: وكان شيخُنا القرافى يُنكر هذه القاعدةَ ويقول: أَرَأَيْتَ مَن كان عنده خمرٌ, وهو قادرٌ على شُرْبِها, وكذلك السرقةُ؟ ويقول: الذى ينبغى أن يقال: مَن جرى له سببٌ يَقتضى المطالبةَ بأن يَملك هل يُعَدُّ مالكاً لجريانِ السبب؟ أم لا لفقدان الشرط؟ مثالُه مَن سَرَقَ مِن الغَنِيمَةِ بعد الإيجابِ وقبلَ القسمةِ –في حَدِّهِ قولان بناءً على ما قَدَّرْناه, أمّا مَن لم يَجْرِ له سببٌ فكيف يُعَدُّ مالكاً. وَالاسْتِحَاضَةُ كَالسَّلَسِ يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ أشار ابنُ عبد السلام إلى أن معناه: الاستحاضةُ كالسلس في جميع الصور المتقدمة, فيَجِبُ حيث يَجِبُ, ويُستحب حيث يُستحب. وقَيَّدَ قول المصنف: (يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ) فقال: يريد: إن لازمت الاستحاضةُ أكثرَ الوقت. انتهى. وقال الباجى: إذا ثبت أنه –أى دم الاستحاضة- لا يَجِبُ منه غُسْلٌ, فهل يجب به الوضوءُ؟ والْمَشْهُورِ من المذهب: لا يجِب به وضوء. وقال القاضى أبو الحسن: إنه على ضربين: منه ما يكون مَرَّةً بعد مرةٍ, فهذا يجب منه الوضوءُ. ومنه ما يكون بالساعات, فيستحب منه الوضوء, ولا يجب. ودليلُنا على نفيِ الوضوءِ أنه دمٌ لا يجب منه الغُسل, فلا يجب منه الوضوءُ, كما لو خرج مِن سائرِ الجسدِ. انتهى. فنَقْلُ الباجى [24/أ] مخالِفٌ لكلام ابن عبد السلام, ومساعِدٌ لقولِ المصنف: (يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ) وأنه باق على إطلاقه, لكنْ يبقى على هذا فى تشبيهِه بالسلسِ نطرٌ. وَحَيْثُ سَقَطَ الْوُضُوءُ فَفِي إِمَامَتِهِ لِلصَّحِيحِ قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ ذُو الْقُرُوحِ الْمَشْهُورِ الكراهةُ, ولا يُفهم مِن كلامه إرادةُ الاختلافِ فيها. ابن عبد السلام: والأظهرُ الجوازُ؛ لأن عمرَ رضي الله عنه لم يُنقل عنه تَرْكُ الإمامةِ حين وَجَدَ سلسَ المذي. انتهى. وفيه نظرٌ لجوازِ أن يكون ذلك لأجلِ الإمامةِ الكبرى.

وفي التنبيهات: وفي قول عمرَ رضي الله عنه: إني لأجدُه ينحدرِ مني كالخُرَيْزَةِ. حُجَّةٌ لمن أجاز إمامةَ مَن به سَلَسٌ. وهو قولُ سحنون خلافاً لابن أبي سلمة. وذهب بعضَ شيوخِنا إلى أن تَرْكَهُ أحسنُ, ولسحنون مثلُه؛ لأنَّ مَن به رخصةٌ فلا تتعداه إلى غيرِه, إلا أن يكون صالحاً فاضلاً كعمر رضي الله عنه, فإنْ فَعَلَ أجزَأَه. وظاهرُ كلامِه وكلامِ غيرِه أن هذا الخلافَ لا يختصُّ بإمامته للصحيحِ, وهو خلافُ تقييدِ المصنفِ فانظره. وفيه مجالٌ للنظرِ, فإنهم أجازوا إمامةَ المتيممِ للمتيممين, والعريانِ للعريانينَ في ليل مظلم, واختلفوا في إمامةِ المريضِ الجالسِ للمرضى جلوساً. ابن هارون: وبالجملةِ فتقييدُ المصنف بالصحيح فيه نظرٌ, وقد خالفَه ابنُ بشير وابن شاس فى التقييد, وأطلقا وأَجْرَيا القولين على الرخصة في ترك الوضوء: هل هي مقصورة عليه أو يصير الخارجُ كالطاهر؟ وَلَوْ صَارَ يَتَقَيَّأُ عَادَةً بِصِفَةِ الْمُعْتَادِ فَلِلْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلانِ قوله: (عَادَةً) احترازٌ مما لو خرج ذلك نادراً, فلا يجب عليه الوضوءُ بلا خلافٍ. وقوله: (بِصِفَةِ الْمُعْتَادِ) أي: بصفةٍ من صِفاتِه لا بكلِّ الصفات. ابن عبد السلام: والأظهرُ أنه إن انقطعَ خروجُ الحَدَثِ مِن محله وصار موضعُ القيءِ محلاًّ له –وَجَبَ الوضوءُ, وكذلك إن كان خروجُه مِن محله أكثرَ لم يجب الوضوءُ. وقال ابن بَزِيزَةَ: إن انْفَتَقَ لخروجِ الحدثِ مخرجٌ غيرُ السبيلين فلا يخلو أن يَسْنَدَّ المَخرَجَان المعلومان أم لا, فإنِ انْسَدَّا وكان المنْفَتِقُ تحت المَعِدَةِ- فهو كالمَخْرَجِ المعتادِ, وإن لم ينسدا فهل يَجري المنفتقُ مجرى المخرج المعتاد أم لا؟ فيه قولان في المذهب. وكذلك إذا كان فوقَ المعدةِ, وهذه حالة نادرة. انتهى.

الأَسْبَابُ ثَلاثَةٌ وَهُوَ مَا نَقَضَ بمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ: الأَوَّلُ: زَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ سُكْرٍ .... قوله: (وَهُوَ) عائد على بعض ما تقدم، وهو السببُ، والضميرُ، المجرور بإلى عائدٌ على الحَدَثِ، وهذا التعريفُ وقع بحكمٍ من أحكامِ المحْدُودِ، وهو مُجْتَنَبٌ في التعريفِ، ولو قال: وهو ما كان مؤدياً إلى خروجِ الحَدَثِ لكان أَحْسَنَ. وحَصَرَها في ثلاثةٍ: زوالِ العقل، ولمسِ مَنْ تُشْتَهَى، ومَسِّ الذَّكَرِ. ابن هارون: يَرِدُ عليه الرِّدَّةُ، ورَفْضُ الوضوءِ، والشَّكُّ، فإنه لم يَذْكُرْها في الأَحْدَاثِ ولا في الأسباب، ولعله قصدَ حَصْرَ المتفق عليه. انتهى. وقد يقال: لا نُسلم أن هذه الأشياءَ نواقضُ؛ لأنها ليست أحداثاً ولا تُؤدي إلى خروج الحَدَثِ، وإنما يجب الوضوءُ عند مَن أوجبه بها بمعنىً آخَرَ، والله تعالى أعلم. وظاهرُ كلامِ المصنفِ أن الجنونَ بصَرَعٍ أو غيرِه ليس ناقِضاً للطهارة الكبرى، وهو الْمَشْهُورِ، ورآه ابنُ حبيب من موجبات الغُسل في حقِّ المصروعِ، وأن الغالبَ عليه خروجُ المَنِيِّ، كذا نقل عنه ابنُ بشير. ونقل عنه ابنُ يونس إن أفاق بحِدْثَانِ ذلك ولم يَجِدْ مَنِيّاً فلا غُسل عليه، وإن أقام يوماً أو يومين فعليه الغُسلُ. فرع: إذا حصل له هَمٌّ أَذْهَبَ عقلَه، فقال مالك في المجموعة: عليه الوضوءُ. فقيل له: فهو قاعدٌ. قال: أحبُّ إليَّ أن يَتوضأ. قال صاحب الطراز: يحتمل الاستحباب أن يكون خاصاً بالقاعِد بخلافِ المضطجعِ، ويحتمل أن يكون عامّا فيهما.

وَفِي النَّوْمِ ثَلاثُ طُرُقٍ اللَّخْمِيُّ: الطَّوِيلُ الثَّقِيلُ يَنْقُضُ، مُقَابِلُهُ لا يَنْقُضَ، الطَّوِيلُ الْخَفِيفُ يُسْتَحَبُّ، مُقَابِلُهُ قَوْلانِ، الثَّانِيَة: مِثْلُهَا، وَفِي الثَّالِثِ قَوْلانِ كان حقُّه أن يعطفَ النومَ على السُّكْرِ ثم يَذْكُرَ طرقَ الشيوخ فيه، وكأنه رأى أن حكاية طُرُقِه تستلزمُ كونَه مِن الأسبابِ، والْمَشْهُورِ أن النومَ سببٌ، ونُقِلَ عن ابنِ القاسم أنه حَدَثٌ، رواه أبو الفرج عن مالكٍ. و (اللَّخْمِيُّ) يحتمل أن يرتفعَ على الفاعِلِيَّةِ، والتقديرُ قال اللخمي، أو على حذفِ مُضَافٍ أي قولُ اللخميِّ، وهو أَوْلَى. والطريق الثانيةُ لابن بشيرٍ وهي كالأولى؛ لأن في القسم الثالثِ مُوجباً ومسقِطاً كما في الرابعِ. الثَّالِثَةُ: عَلَى هَيْئَةٍ يَتَيَسَّرُ فِيهَا الطُّول وَالْحَدَثُ كَالسَّاجِدِ يَنْقُضُ، مُقَابِلُهُ كَالْقَائِمِ وَالْمُحْتَبِي لا يَنْقُضُ، وَفِي الثَّالِثِ كَالْجَالِسِ مُسْتَنِداً، وَفِي الرَّابِعِ كَالرَّاكِعِ قَوْلانِ ... الطريقان الأولان راعَيَا حالةَ النوم، وهذه راعتْ حالةَ النائم، وهي طريقةُ عبد الحميد وغيرِه. و (على هيئة) يتعلق بمحذوف، أي: يكون النائم على هيئة، ويدخل في حكم الساجِد المُضْطَجِعُ. قال اللخمي: وللمحتبي ثلاثةُ أقسامٍ: أن يَستيقظ قَبْلَ انحلالِ الحَبْوَةِ فلا [24/ب] وضوءَ، وإن استيقظَ لانحلالِها انتقَضَ على قولِ مَن قال: إن النومَ حدثٌ، لا على الْمَشْهُورِ، وكذلك إنِ انْحَلَّتْ ولم يَشْعُرْ ولم يَطُلْ، وإن طال وكان مُستنداً انتَقَضَ، وكذلك إن كانت في يدِه المروحةُ، فإن لم تَسقط مِن يَدِهِ فهو على طهارتِه، وإن استيقظَ لسقوطِها فعلى القولين، إلا أن يَطُولَ.

قال ابن عطاء الله: كونُه جعلَ الخلافَ في الحالةِ الثانيةِ والثالثةِ دونَ الأولى لا وجهَ له؛ لأنَّ الأُولى يَجري فيها أيضاً الخلافُ. ابن عبد السلام: ويَنبغي أن يُقيد المحتبي بما إذا كان بيديه وشبهِهما، أما الحبوةُ المصنوعةُ فلا، وهي كالمستند. والقولان في الثالثِ والرابعِ لتعارضِ موجِبٍ ومسقِطٍ، وقَيَّدَ بعضُ الأشياخِ المستندَ بما إذا كان مستوياً، وإلا فالمائلُ يلحق بالمضطجع. خليل: ولو قِيلَ بمراعاةِ الشخصِ فيُفَرَّقُ بين أن يكون حديثَ عهدٍ باستبراءٍ أو لا، وبين الممتلئ طعاماً وغيرِه- ما بَعُدَ عَنِ القَواعِدِ. وَفِيها: {إِذَا قُمْتُمْ} يَعْنِي مِنَ النَّوْمِ هذا محكيٌّ في المدونة عن زيد بن أسلم، وهو يقتضي أن النومَ حَدَثٌ بِنَفْسِه. وقيل: معناها إذا قمتم مُحْدِثِينَ. وقيل: خِطابٌ لكلِّ قائمٍ للصلاة، ثم نُسِخَ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ. وقيل: خطابٌ لكلِّ قائمٍ على سبيلِ الندبِ، وهو أولى لسلامتِه مِن الإضمارِ والنَّسْخِ. الثَّانِي: لَمْسُ الْمُلْتَذِّ بِلَمْسِهَا عَادَةً فَلا أَثَرَ لِمَحْرَمٍ وَلا صَغِيرَةٍ لا تُشْتَهَى ظاهر كلامه: ولو التَذَّ بالمَحْرَمِ، وهو ظاهرُ كلامِ ابن الجلاب. ونصَّ القاضي عبد الوهاب وغيرُه- أنه إذا وَجد اللذةَ- على النَّقْضِ، وبناه على الخلافِ في الصورِ النادرةِ. وقوله: (وَلا صَغِيرةٍ لا تُشْتَهَى) قال في المجموعة: ليس في قُبلة أحدِ الزوجين الآخرَ لغيرِ شهوةٍِ وضوءٌ في مرض أو غيره، ولا في قُبلةِ الصبيةِ وضوءٌ ومَسِّ فَرْجِها إلا أن يكون لِلّذَّةٍ.

وروى علي عن مالك: ليس في مَسِّ فرج الصبيِّ والصبيةِ وضوءٌ. قال في النوادر: يُريد لغيرِ لَذَّةٍ. انتهى. ولا تبالي بما وقع اللمس فيه سواء كان ظفراً أو شعراً أو يداً وهو المنصوص. ورأى بعضُ الشيوخ أن الظفرَ والشعرَ لا يُلحقان بما عداهما من الجسد؛ لأن اللذةَ ليست بلمسِهما، وإنما هي بالنظر إليهما، ولا أثَر له في نقضِ الطهارةِ. فَإِنْ وَجَدَهَا فَالنَّقْضُ بِاتِّفَاقٍ قَصَدَهَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا، فَإِنْ قَصَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الرَّفْضِ لا يَنَْتَقِضُ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ يَجِدْ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَالْمَشْهُورِ أَنَّ الْقُبْلَةَ فِي الْفَمِ تَنْقُضُ لِلُزُومِ اللَّذَّّةِ ... الضمير في (وَجَدَهَا) عائدٌ على اللذةِ؛ لأنها مفهومةٌ مِن السياق. وقوله: (باتِّفَاقٍ قَصَدَهَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا) كذا قال ابن شاس، ونُقِضَ عليه. ابن هارون: الاتفاقُ بما نقله ابن يونس عن سحنون في التي كَسَتْ زوجَها أو نزعتْ خُفَّه لا وضوءَ عليهما وإِنِ الْتَذَّا. وفيه نظرٌ فإنه ليس فيه نصٌّ صريحٌ على اللمسِ، بل الظاهرُ فيه أنه من باب الالتذاذِ بالنظرِ، والأصحُّ فيه عدمُ النقضِ كما سيأتي، فانظره. ويؤيد هذا قولُه في الروايةِ بإثْرِ الكلامِ المتقدمِ: وقد يُلْتَذُّ بالكلام. كذا في النوادرِ، وتخريجُ اللخمي ضعيفٌ؛ لأن رفضَ النيةِ قصدٌ منفردٌ، وهنا قصدٌ وفِعلٌ، ولا يَلزم مِن إلغاءِ الأخفِّ إلغاءُ الأشدِّ، ثم إن قولَ المصنفِ المنصوصَ مع تخريجِ اللخميِّ ظاهرُه أن مقابِلَ المنصوصِ مُخَرَّجٌ ليس بمنصوصٍ، وليس كذلك، فقد حكى ابنُ بشير فيما إذا قصد ولم يَجِدْ قولين منصوصين: النقضُ لابن القاسم، وعدمُه لأشهب. وينتقضُ الاتفاق الذي قاله المصنف بما قاله التلمساني في اللُّمعِ: واختُلِفَ إذا قصد ولم يَجِدْ، أو وَجَدَ ولم يقصد.

تنبيه: ما ذكرنا من أنه إذا لم يَقصد ولم يَجِدْ لم ينتقض بالاتفاقِ- إنما هو ف يغيرِ القُبلة، وأما في القُبلة فاختلف فيها على قولين: إيجابُ الوضوء، وهي رواية أشهب عن مالك، وقول أصبغ، قال في المقدمات: وهو دليلُ المدونة، وعِلَّةُ ذلك أن القُبلة لا تنفَكُّ عن اللذة، إلا أن تكون صبيةً صغيرةً يُقَبِّلُها على قَصْدِ الرحمةِ، أو ذاتِ مَحْرَمٍ يُقبلها على سبيلِ الوُدِّ أو الوَدَاعِ أو نحوَ ذلك. والقولُ الثاني أنه لا وضوءَ كالملامسةِ والمباشرةِ، وهو قولُ ابنِ الماجشون. وقوله: (وهو دليل المدونة) يُريد لقوله فيها: إذا مَسَّ أحدُ الزوجين صاحبَه للذةٍ من فوقِ الثوب أو تحتهِ، أو قبَّلَه على غيرِ الفمِ- فعليه الوضوءُ، أَنْعَظَ أم لا. قال في التنبيهات: اشتراطُ اللذةِ على غيرِ الفَمِ دليلٌ على أنه لا يُشترط وجودها في القُبلة في الفم ولا قصدُها منهما جميعاً، وهو قول مالك في المجموعة. قال ابن رشد: وأمّا إن قَصَدَ اللذةَ بالقبلةِ في الفمِ ولم يَجِدْها فالوضوءُ واجبٌ عليه، ولا أَعْلَمُ في ذلك خلافاً في المذهب، ولا يبعد دخول الخلاف فيها معنى. وعلى هذا فيحمل قوله: (وَالْمَشْهُورِ أَنَّ الْقُبْلَةَ فِي الْفَمِ تَنْقُضُ لِلُزُومِ اللَّّّذَّةِ) على الوجهِ الأَوَّلِ. وذكر ابن بزيزة في القُبلة ثلاثةَ أقوالٍ في المذهب: النقضُ مطلقاً، والثاني اعتبارُ اللذة، والثالثُ إن كانت في الفم انتَقَضَ مطلقاً، وإن كانت في غيره اعتُبِرَتِ اللذةُ، ولا فَرْقَ بين الطوعِ والإكراهِ. فعن مالك في المجموعة: إذا قَبَّلَ امرأتَه مكرهةً فعليها الوضوءُ، وكذا روى ابن نافع أنها لو غلبتْه هي فقَبَّلَتْه فعليه الوضوءُ ولو لم يَلْتَذَّ. ابن هارون: أما لو قَبَّلها [25/أ] على غير الفم لكان ذلك كالملامسةِ، ولا نَعلم في ذلك خلافاً بين الشيوخ إلا ما تأوّل ابنُ يونس في رواية ابنِ نافع المتقدمةِ في الذي استَغْفَلَتْهُ زوجتُه فقبَّلَتْه: أنه يتوضأ، فقال: هو يُريد سواءٌ قبّلَتْه في الفم أو في غيره، وفيه نظرٌ. انتهى. قال صاحب الإرشاد في العمدة: والقبلةُ في الفم تَنْقُضُ، وفي غيرِه مِن الوجهِ خلافٌ.

وَالْحَائِلُ الْخَفِيفُ لا يَمْنَعُ وَفِي غَيْرِه قَوْلانِ رواية ابن القاسم بالنقض مطلقاً، وقيّد ذلك ابنُ زياد بما إذا كان الحائلُ خفيفاً، وحَمَلَها المصنفُ على الخلافِ، وحمَلها في البيان والمقدمات على التفسير. قال في التهذيب: والملموسُ إن وَجَدَ اللذةَ توضَّأ، وإلا فلا، قالوا: ما لم يقصدها فيكون لامساً. وَاللَّذَّةُ بِالنَّظَرِ لا تَنْقُضُ عَلَى الأَصَحِّ قال المازري: أما مَن نَظَرَ فالتَذَّ بقَلْبِه دونَ لَمسٍ، فالْمَشْهُورِ عن أصحابنا أن وضوءَه لا يَنتقضُ؛ لأنَّ إثباتَ الأحداث طريقُه الشرع، والذي وَرَدَ مِن الشرعِ في هذا ذِكْرُ اللمسِ، فأمّا مجردُ اللذةِ دونَ لمسٍ فلم يُوجَدْ ظاهراً لا في الكتابِ ولا في السُّنة؛ فلا يصحُّ إثباتُه بالدعاوى. انتهى. وذهب ابن بَكير والإِبِّيَانِيّ إلى أن اللذةَ بالنظرِ ناقضةٌ، وظاهرُ نَقْلِ المازري مع المصنفِ. قال ابن شاسٍ: وأما مَن نَظَرَ فالتَذَّ بمداومةِ النظرِ، ولم ينتشرْ ذلك منه فلا يؤثرُ في نقضِ الطهارةِ، فقيَّدَ ذلك بمداومةِ النظرِ وعَدَمِ الإنعاظِ، ويمكن أن يُقال: إنما قيّدَ ذلك بالمداومة؛ لأن الغالبَ أن اللذةَ إنما تَحْصُلَ بذلك. وَفِي الإِنْعَاظِ الْكَامِلِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْمَذْيِ أَمْ لا هذا كلام واضحٌ، وحكى ابنُ بشير أن الأشياخَ رأوا أن يَنظر الشخصُ في نَفْسِه، فإن كانت عادتُه خروجَ المذي بذلك فعليه الوضوءُ، وإلا فلا. وقيد الباجيُّ وابنُ شاسٍ الإنعاظَ بالكامل كما فَعَلَ المصنفُ، وهو يُؤْذِنُ بِنَفْيِ الخلافِ عمّن لم يَكمل إنعاظُه.

وقال ابن عطاء الله: الصحيحُ لا وُضوءَ فيه بمجردِه؛ فإِنِ انْكَسَرَ عن مذيٍ توضأ للمذي، وإلا فلا، وليس الإمذاءُ من الأمورِ الخَفِيَّةِ حتى تُجعل له مَظِنَّةٌ. الثَّالِثُ: مَسُّ الذَّكَرِ بِتَقْييدٍ عَلَى الأَخِيرَة، فَفِيهَا ببَاطِنِ الْكَفِّ أَوْ بِبَاطِنِ الأَصَابِعِ، أَشْهَبُ: بِبَاطِنِ الْكَفِّ. فِي الْمَجْمُوعةِ: الْعَمْدُ. الْعِرَاقِيُّونَ: اللَّذَّّةُ. وَبِإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ قَوْلانِ .... يعني: أنه كان أولاً يقول بعدمِ النقضِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ؛ للحديث: "إِنْ هو إلا بَضْعَةٌ مِنْكَ" رواه أبو داود والترمذي، وضعَّفه أبو حاتم وأبو زرعة، وحسَّنه الترمذي- ثم رَجَعَ إلى النقضِ بتقييدِ ما ذُكِرَ. وقوله: (الْعِرَاقِيُّونَ: اللَّذَّةُ) يعني: سواءٌ حصلتْ بأيِّ عضوٍ كان، هكذا نص عليه السيوريُّ وغيرُه. وقد قال ابن القصار: الذي عليه العملُ أنّ مَن مَسَّ ذكرَه لشهوةٍ بباطنٍ كفِّه أو سائرِ أعضائه مِن فوق الثوب أو مِن تحته أن طهارتَه تنتقضُ. قال الأبهري: وعلى هذا كان يَعْمَلُ شيوخُنا كلُّهم، ولا فرقَ على هذه الأقوالِ بين أولِه وآخرِه. وحكى ابنُ نافع أن المعتبرَ في النقضِ الحشفةُ دونَ سائرِه. وأما الأصبعُ الزائدةُ فقال ابن راشد: الخلافُ خلافٌ في حالٍ: هل فيها من الإحساسِ ما في غيرِها، أم لا؟ وينبغي أن يقال: إن تساوتِ الأصبعُ في التصرفِ والإحساسِ- فالنقضُ، وإن لم تتساوَ فلا، وإن شَكَّ فعلى الخلافِ فيمن تيَقَّنَ الطهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ. قال سند: يَنتقضُ على ظاهرِ قول ابن القاسم إذا مَسَّهُ بِبَيْنِ أصابِعِه، أو بحُرُوفِ كَفِّه. وكلامُه في الأَحْوَذِيّ يقتضي أن يَنتقض بجانبِ الأصابعِ.

وَمِنْ فَوْقِ حَاِئلٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ خَفِيفاً نَقَضَ، وَلا أَثَرَ لِلْمَقْطُوعِ وَلا مِنْ آخَرَ. وَقِيلَ: يَنْتَقِضُ الْمَمْسُوسُ .... حكى المازري، وصاحب الأحوذي، وابن راشد في مذهبنا الثلاثةَ، وفي المقدمات: واختلف قولُ مالك إذا مَسَّه على حائلٍ رقيقٍ، روى عنه ابن وهب: لا وضوء عليه، وهو الأشهَرُ، وروى عنه ابنُ زياد: أن عليه الوضوء. قال في البيان: وأما إن كان الحائلُ كثيفاً فلا وضوءَ عليه قولاًَ واحداً. وهو خلافُ طريقة المصنفِ والمازريِ في حكايتهما الخلافَ مطلقاً. والظاهرُ عدمُ النقضِ مطلقاً لما في صحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم: "مَن أفضَى بيدِه إلى فَرْجِه وليس بينهما سترٌ ولا حجابٌ فقد وَجَبَ عليه الوضوءُ للصلاةِ". وقوله: (وَلا أَثَرَ لِلْمَقْطُوعِ) إلى آخرِه، يعني: إذا قُطع ذَكَرُه، ثم مَسَّه فلا أَثَر لذلك. ونَبَّه بذلك على خلافِ بعضِ الشافعيةِ، على أن ابن بزيزة حكاه في الَمذْهَبِ فقال: إذا مَسَّ ذَكَرَ غيرِه مِن جنسِه أو مِن غيرِ جنسِه أو ذَكَراَ مقطوعاً أو ذَكَرَ صبيٍّ أو فرج صبيةٍ، فهل عليه الوضوءُ أم لا؟ فيه قولان في المذهب. انتهى. ابن هارون: ولو مَسَّ موضعَ الجَبِّ فلا نص عليه عندنا، وحكى الغزالي أن عليه الضوءَ، والجاري على أصلنا نفيُه لعدمِ اللذةِ منه غالباً. انتهى. وقوله: (وَلا مِنْ آخَرَ) أي: ولا مِن مَسِّ ذَكَرِ رَجُلٍ غيرِه. وحكى ابنُ العربي وابن شاس عن الأَيْليِّ البَصْرِيِّ مِن أصحابنا أنه ينتقض وضوؤه. وكلامُه يقتضي أن الْمَشْهُورِ أنه لا أثرَ لذلك في حق الملموسِ، وليس كذلك. والذي حكى ابن شاس وابن عبد السلام أن ذلك يجري على حكمِ الملامسة، فإن المرأةَ لو لمستْ ذَكر زوجِها تلذذاً لوَجَبَ عليها الوضوءُ، وكذلك في الملموسِ ذَكَرُه إِنِ الْتّذَّ فعليه الوضوءُ، وإلا فلا.

وفِي مَسِّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا ثَلاثُ رِوَاياتٍ [25/ب] لابْنِ زِيَادٍ، وَالْمُدَوَّنَةِ، وَابْنِ أَبي أُوَيْسٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ أَلْطَفَتْ انْتَقَضَ. وَقَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَلْطَفَتْ؟ قَالَ: أَنْ تُدْخِلَ يَديْهَا بَيْنَ الشُّفْرَيْنِ. فَقِيلَ: عَلَى ظَاهِرِهَا. وَقِيلَ: بِاتِّفَاقِهَا .... أي: روايةُ ابن زيادٍٍ الوضوءَ، والمدونةِ نَفْيُه، وابنِ أبي أُويسٍ التفصيلُ، وحكى ابنُ رشد روايةً رابعةً بالاستحباب. والظاهرُ روايةُ ابنِ زياد إن كانت الرواياتُ مختلفةٌ لما في صحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّا، والمرأةُ مِثْلُ ذَلِكَ". انتهى. ووجهُ مذهبِ المدونةِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّا" ومفهومُه نفيُ الوضوءِ مِمَّنْ مَسَّ غيرَه، ورُدَّ بأنه مفهومُ لَقَبٍ. وزاد الباجي- في رواية ابنِ أبي أويسٍ- أنها إِنْ ألْطَفَتْ وقَبَضَتْ عليه بيدِها انتَقَضَ. وقوله (فَرْجَهَا) يُريد القُبُلَ، وأما الدُّبُرَ فهي فيه كالرَّجُلِ. واختلف الأشياخُ في الروايات، فمنهم مَنْ أجراها على ظاهرِها مِن الخلافِ، ومنهم مَن جَعَلَ الثالثَ تفسيراً للقولين، وأن من قال بالنقض محمولٌ على ما إذا أَلْطَفَتْ، ومن قال بعَدَمِه محمولٌ على ما إذا لم تُلْطِفْ. ومنهم مَن يَرى أن المذهبَ على قولين: الوجوبُ والتفصيلُ. وَلا أَثَرَ لِمَسِّ الدُّبُرِ. وَخَرَّجَهُ حَمْدِيسٌ عَلَى مَسِّ الْمرفرج المرأة ورده عبد الحق باللذة تصورُه ظاهرٌ. وأجاب ابنُ سابقٍ عن رَدِّ عبد الحق بأنْ قال: لا يَلْزَمُ هذا حمديساً لأنه لا يُعَلِّلُ باللَّذَّةِ، بل بمجردِ اللمسِ. ووقع في بعض النُّسَخِ بإِثْرِ الكلامِ المتقدمِ ما نَصُّه: وابن بشير: ليس ذلك بقياسٍ. ومعناه أن ابنَ بشيرٍ رَدَّ إلحاقَ حمديسٍ بأنَّ الوضوءَ مِن مسِّ الفرجِ خارجٌ عن القياسِ؛ لأنه مِنَ الجَسَدِ، والحُكْمُ إذَا خَرَجَ على غيرِ قياسٍ لم يُقَسْ عليه. ويمكن أن يقال: لعل

حمديساً لم يرَ ذلك قياساً، وإنما ألحقه عَمَلاً بما علَّلَ به فرجَ المرأة مِن العمل بالرواية التي فيها ذِكْرُ الفَرْجِ، وهذا فَرْجٌ. وقاله ابنُ راشد، وهذا الذي ذكره المصنفُ عن ابنِ بشير ليس هو في تنبيهِه. وَمَسُّ الْخُنْثَى فَرْجَهُ مُخَرَّجٌ عَلَى مَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ التخريجُ المذكورُ للمازري، وهذا إنما هو في الخنثى المُشْكِلِ، وأما غير المشكل فبحَسَبِ ما يَثْبُتُ له. ابنُ العربيّ عن بعض شيوخه: إِنْ مَسَّ فَرْجَيْهِ معاً وَجَبَ الوضوءُ، وإن مسَّ أحدَهما- وقلنا: إن المرأةَ يَنتقض وضوؤها بمَسِّ فرجِها- فهو كمن تيقَّنَ الطهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ. وَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَفِيهَا: فَلْيُعِدْ وُضُوءَهُ كَمَنْ شَكَّ أَصَلَّى ثَلاثاً أَمْ أَرْبَعاً يُعيد. فَقِيلَ: وُجُوباً وَقِيلَ: اسْتِحْبَاباً .... أجرى القاضيان أبو الفرج وأبو الحسن الأبهري الروايةَ على ظاهرِها من الوجوبِ، وحملَها أبو يعقوب الرازي على النَّدْبِ، والأوَّلُ أظهرُ للأمرِ، ولتشبيههِ بالصلاةِ. واستشكل الشيوخُ القياسَ؛ لأن الشكَّ في الحدثِ شَكٌّ في المانع، والأصلُ في الشكِّ الإلغاءُ، إِذِ الأصلُ في الوضوءِ دَوَامُه بخلافِ الركعاتِ فإنَّ الشكَّ فيها شَكٌّ في الشَّرْطِ، والأَصْلُ عِمَارَةُ الذِّمَّةِ بالعَدَدِ حتى يَتحققَ حصولُه، وحاصلُه أنَّ الأصلَ إلغاءُ الشكِّ، ويَلْزَمُ منه البناءُ على الأقلِّ في الركعاتِ، والبقاءُ على الطهارة، ويمكن أن يُوَجَّهَ الوجوبُ على الاحتياطِ للعبادةِ، إِذِ الأصلُ أن الصلاةَ في الذِّمَّةِ بيقينٍ فلا تبرأُ الذمةُ منها إلا بيقينٍ. ويمكن أن يُقال: منشأُ الخلاف: هل للشكِّ في الشرطِ تأثيرٌ في المشروطِ أم لا؟ قال صاحب النكت: وإنما يجب الوضوءُ في غير المُسْتَنْكَحِ، وأما المستنكَحُ فلا شيءَ عليه.

وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: خَمْسَةٌ: ثَالِثُهَا يُسْتَحَبُّ، وَرَابِعُهَا: يَجِبُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلاةٍ، وخَامِسُهَا: يَجِبُ مَا لَمْ يَكُنِ الشَّكُّ فِي سَبَبٍ نَاجِزٍ كَمَنْ شَكَّ فِي رِيحٍ وَلم يُدْرِكْ صَوْتاً َولا ريحاً ....... الأقوالُ ظاهرةٌ مِن كلامِه، وتَبعَ المصنفُ في حكايةِ الأقوالِ الخمسةِ هكذا ابنَ بشير، وفيه نظرٌ؛ لأن قوله (ثَالِثُهَا) يقتضي أن القول الثاني لا يَجِبُ ولا يُستحبُّ، ولم يحكِه اللخمي، ولفظه: اختُلِفَ إذا كان ممن لا يتكررُ ذلك منه على خمسةِ أقوالٍ. فقال في المدونة: يتوضأ، وهو بمنزلةِ مَن شَكَّ في صلاتِه، وعلى هذا فيكون الوضوءُ عليه واجباً. وقال أبو الحسن بن القصار: روى ابن وهب عن مالك أنه قال: أحبُّ إليّ أن يتوضأ. قال: ورُوي عنه أنه قال: إِنْ شَكَّ في الحَدَثِ- وهو في الصلاة- بنى على يقينِه ولم يَقطع، وإن كان في غيرِ صلاتِه أَخَذَ بالشَّكِّ. قال: وروي عنه أنه قال: يَقْطَعُ وإن كان في صلاةٍ. قال ابن حبيب: إذا خُيِّلَ إليه أن ريحاً خرجتْ منه فلا يتوضأُ إلا أن يُوقِنَ بها، وإن دخله الشكُّ بالحِسِّ فلا شيءَ عليه. قال: بخلافِ مَن شكَّ هل بالَ أو أَحْدَثَ فإنه يُعيد الوضوءَ. انتهى. وفيه نظر؛ لأن القولَ بالتفرقةِ بين أن يكون في صلاةٍ فلا يَقطعُ، وإن لم يكن في صلاة أَخَذَ بالشكَّ- راجعٌ إلى الاستحباب، والقولُ بالقطعِ مطلقاً راجعٌ إلى الوجوبِ، كذا قال ابن عطاء الله. وعلى هذا فليس في المسألة إلا ثلاثةُ أقوالٍ: الوجوبُ والاستحبابُ وقولُ ابن حبيب. وقال الباجي في منتقاه: إذا قلنا بوجوب الوضوءِ بالشَّكِّ، فإن شكَّ خارجَ الصلاةِ فهذا حُكْمُه، وإن شكَّ في الصلاة فقدروى القاضي أبو الحسن عن مالك في ذلك روايتين: إحداهما: يَقطع الصلاةَ ويتوضأُ. والثانية: إن شَكَّ في نَفْسِ الصلاةِ فلا وضوءَ [26/أ] عليه، وإن شكَّ خارجَ الصلاةِ فعليه الوضوءُ. انتهى. ففَهِمَ- رحمه الله- أن الروايةَ بالفَرْقِ مبنيةٌ على الوجوب، فانظرْ ذلك.

فرع: فإن افتَتَحَ الصلاةَ متيقناً الطهارةَ، ثم شك في الصلاة وتمادى على صلاته ثم تبين له أنه متطهر، فقال مالك: صلاته تامة لحصول الشرطِ في نَفْسِ الأَمْرِ. وقال أشهب وسحنون: لا تصحُّ لأنه غيرُ عاملٍ على قَصْدِ الصحةِ. المازري: وكذلك اختُلف إذا افتَتَح تكبيرةَ الإحرامِ ثم شك فيها، وتمادى حتى أَكْمَلَ وتبين له بعد ذلك أنه أصاب في التمادي، أو زاد في الصلاةِ شيئاً تعمُّداً أو سهواً، ثم تبين أنه واجبٌ: هل يُجزئه عن الواجب أم لا؟ ومِن ذلك الاختلافُ فيمَنْ سَلَّمَ شاكّاً في إتمامِ الصلاة ثم تبَيَّنَ له بعد ذلك الكمالُ. انتهى. وعلى هذا فيَخْرُجُ لنا مِن هاهنا قاعدةٌ، وهي: إذا شككنا في شيء لا تجزئ الصلاة بدونه، ثم تبين الإتيان به: هل تجزئ الصلاة أم لا؟ والله أعلم. وَلَوْ شَكَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَجَبَ الْوُضُوءُ بِاتِّفَاقٍ يدخل فيه خمسُ صُوَرٍ: الأولى: تَيَقَّنَ الحدَثَ وشَكَّ في الطهارة، وحكى ابنُ بشير فيها الإجماعَ. الثانية: تيقَّنَهما، ولم يَدْرِ السابقَ منهما، وحكى سندٌ فيها الاتفاق. الثالثة: شَكَّ فيهما، فحكى ابنُ محرزٍ أن الوضوءَ يَجِبُ عليه؛ لأنه ليس عنده أمرٌ يتيقنُه يَبني عليه. وذكر ابنُ بشير في هذه الصورة أنه يطرح ما شَكَّ فيه ويَبني على ما كان عليه قَبْلَ الشكِّ، فإن كان محدِثاً لزِمَه الوضوءُ، وإن كان متوضِّئاً صار بمنزلةِ مَن تيقَّن الطهارةَ وشكَّ في الحَدَثِ. الرابعة: يَتيقنُ الوضوءَ ويَشُكُّ في الحَدَثِ، وشك في ذلك أكان قَبْلَه أم بَعْدَه.

الخامسة: عكسُ هذه، يَتيقن الحدثَ ويَشُكُّ في فِعْلِ الوضوءِ، وشكَّ مع ذلك أكانَ قبلَه أو بعدَه. وحكى ابن محرز الوجوبَ فيها. وَأَمَّا الْمُسْتَنْكَحُ فَالْمُعْتَبَرُ أَوَّلُ خَاطِرَيْهِ اتفاقاً يُريد بالمستنكح مَن كثرتْ منه الشكوكُ. وما ذكره من اعتبارِ أولِ خاطريه هو قولُ بعضِ القَرويين، وتابعه عليه بعضُ المتأخرين، قالوا: لأنه في الخاطرِ الأولِ سليمُ الذهنِ، وفيما بعده شبيهٌ بغير العقلاءِ. ابن عبد السلام: وظاهرُ المدونةِ وغيرِها السقوطُ من غيرِ نظرٍ إلى خاطرِه ألبتةَ، وهو الذي كان يُرجحه بعضُ مَن لقيناه ويقول به، ويَذكر أنه راجَعَ فيه بعضَ المشارقةِ، وكان يوجِّهه بأن المستنكحَ- ومن هذه صفته- لا يَنْضَبِطُ له الخاطرُ الأوَّلُ مما بَعْدَه، والوجودُ يَشْهَدُ لذلك. وَفِي وُجُوبِ وُضُوءِ الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ قَبْلَ نَقْضِ وُضُوئِهِ قَوْلانِ هذه المسألةُ وقعتْ في بعضِ النُّسَخِ، والْمَشْهُورِ فيها الوجوبُ، ومنشأُ الخلافِ: هل الرِّدَّةُ بمُجَرَّدِها مُحْبِطةٌ للعمل، أو بشرط الوفاة؟ والأوَّلُ أَبْيَنُ؛ لقولِه تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] فهو من بابِ اللَّفِّ والنَّشْرِ؛ لأنه إذا رَتَّبَ شيئين على شيئين جَعَلَ الأوَّلَ للأولِ، والثاني للثاني، وهنا رَتَّبَ الإحباطَ والخلودَ على الردةِ والوفاةِ عليها، قاله في الذخيرة. وبنى اللخمي الخلافَ على الخلافِ في رفضِ النيةِ، ورُدَّ بأنه قد صاحَبَ النيةَ هنا فعلٌ.

وَلا يَجِبُ بِقَيْءٍ وَلا بحِجَامَةٍ وَلا لَحْمِ إِبِلٍ، وَفِيهَا: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ مِنَ اللَّبَنِ وَاللَّحْمِ، وَيَغْسِلَ الْغَمَرَ إِذَا أَرَادَ الصَّلاةَ .... هذا ظاهر، ونبّه المصنفُ به على خلافٍ خارجَ المذهبِ. والغَمَرُ- بفتح الغين المعجمة والميم-: الوَدَكُ، وبسكون الميم: الماءُ الكثيرُ، وبكسرِ الغين: الحِقْدُ، وبضمِّها: الجَهْلُ. وَيُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنَ الصَّلاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ أَوْ جِلْدِهِ وَلَوْ بِقَضِيبٍ، وَلا بَاسَ بِحَمْلِ صُنْدُوقٍ أَوْ خُرْجٍ هُوَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حَمْلَهُ ...... أما الصلاةُ فظاهرٌ، وأما مسُّ المصحف فهو مذهبُ الجمهورِ لما في كتابِه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم "أَنْ لا يَمَسَّ القرآنَ إلا طاهرٌ" خرّجه مالكٌ وغيرُه. وفي حكمِ المصحفِ الجِلْدُ (وَلَوْ بِقَضِيبٍ) وأَحْرَى طُرَرُ المكتوبِ، وما بين الأَسْطُرِ مِن البياضِ. وَلا بَاسَ بِالتَّفَاسِيرِ وَالدَّرَاهِم وَبالأَلْوَاحِ لِلْمُتَعَلِّمِ وَالْمُعَلِّمِ لِيُصَحِّحَهَا. ابْن حَبِيبٍ: يُكْرَهُ مَسُّهَا لِلْمُعَلَّمِ وَالْجُزْءُ لِلصَّبِيِّ كَاللَّوْحِ بِخِلافِ الْمُكَمَّلِ. وَقِيلَ: وَالْمُكَمَّلُ ...... ولو كان مثلَ تفسيرِ ابنِ عطيةَ؛ لأن المقصودَ منه ليسَ مَسّ القرآنِ، وأجاز مالكٌ للجُنُبِ أن يَكتب الصحيفةَ فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، وآياتٌ مِن القرآن. وقوله (وَبالأَلْوَاحِ) حكى ابنُ يونس فيها ثلاثةَ أقوال: الجوازُ للمَُلِّمِ والمتعلم مِن رَجُلٍ أو صبيٍّ، لابنِ القاسمِ لضرورةِ التعليمِ. والكراهةُ مطلقاً لأشهب عن مالك لعموم الآية. والكراهةُ للرجال دون الصبيان لابن حبيب. وظاهرُ ما حكاه ابن يونس عن ابن حبيب أن الكراهةَ مطلقة في حَقِّ الرجال، وحكى عنه ابن شاس كما حكى عنه المصنف أنه يُكره مسها للمُعَلِّمِ لإمكان أن يُصححها غيرَه وهو ينظر؛ ولأنه يُمكنه أن يُصحح الألواحَ في

الغسل

وقتٍ واحدٍ. ونَقْلُه في النوادر يُرَجِّحُ نَقْلَ ابنِ شاسٍ لأنه قال: قال ابن حبيب: ولا يَمَسُّ مَن ليس على وضوءٍ مصحفاً، ولا جزءاً ولا ورقةً [26/ب] ولا لوحاً، ويُكره ذلك للمعلِّم إلا على وضوءٍ، ويُسْتَخَفُّ مَسُّ الجزءِ للمتعلِّمِ كالألواحِ والأَكْتَافِ، ويُكره له مسُّ المصحفِ الجامعِ إلا على وُضوءٍ. وبه تَعْلَمُ أنَّ قول المصنف: (بِخِلافِ الْمُكَمَّلِ) هو قول ابن حبيب. ورَخَّصَ مالكٌ في المختصر في مَسِّ المكمل للصغير، وإليه أشار بقوله: (وَقِيلَ: وَالْمُكَمَّلُ) وحكى ابنُ بشير الاتفاقَ على جواز مسِّ المصحف للمتعلم، وظاهرُه: ولو كان بالغاً، ونقل في المعلِّم قولين، وليس بجيِّدٍ. فرع: أجاز مالكٌ في العتبية الحِرْزَ للصبيِّ والحائضِ والحاملِ إذا كان عليه شيءٌ يُكِنُّه. قال: ولا يُعَلَّقُ، وليس عليه شيءٌ، وما رأيتُ مَنْ فَعَلَه. وأجاز ابن القاسم في رواية أبي زيدٍ مَسَّ الحائضِ اللوحَ، وتقرأُ فيه على وجهِ التعليمِ، نقله في النوادر. الْغُسْلُ مُوجِبَاتُهُ أَرْبَعَةٌ: الْجَنَابَةُ: وَهُوَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ الْمُقَارِنِ لِلَّذّةِ الْمُعْتَادَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، أَوْ مَغِيبُ الْحَشَفَةِ أَوْ مِثْلِهَا مِنْ مَقْطُوعٍ فِي فَرْجِ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ: أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ، حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، وَالْمَرْأَةُ فِي الْبَهِيمَةِ مِثْلُهُ أي: الغُسل الواجبُ، و (الْجَنَابَةُ) خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، أي: الأول. وقوله: (وَهُوَ) ذَكَّرَ الضميرَ مراعاةً لما بَعْدَه، ولو راعى ما قَبْلَه لقال: وهي. وكلاهما جائزٌ، وسيأتي ما احتَرَزَ عنه المصنفُ بهذه القيودِ. وَلَوْ وَطِئَ الصَّغِيرُ كَبِيرَةً فَلَمْ تُنْزِلْ فَلا غُسْلَ عَلَيْهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتؤْمَرُ الصَّغِيرَةُ عَلَى الأَصَحِّ .... الخلافُ إنما هو في المراهِق ونحوِه على ما قاله عبد الوهاب، وأما ما دون ذلك فلا غسلَ عليها اتفاقاً. ومنشأُ الخلافِ خلافٌ في شهادةِ هل يحصُلُ مِن وطءِ المراهق لذةٌ كالبالغ أم لا؟

وقوله: (وَتؤْمَرُ الصَّغِيرَةُ) أي: إذا وطئها الكبيرُ، بناءً على أن الغسلَ طهارةٌ كالوضوءِ، فتُؤْمَرُ به أَوْلاً؛ لعدم تكرُّرِه كالصومِ. والأصحُّ قولُ أشهب وابن سحنون، قالا: وإن صَلَّتْ بغيرِ غسلٍ أعادتْ. قال سحنون: إنما تُعيد بقُرْبِ ذلك، لا أبداً. ومقابلُ الأصحِّ في مختصرِ الوَقَارِ. فرع: فإن كانا غيرَ بالغَيْنِ فقال ابن بشير: مقتضى المذهبِ أن لا غُسْلَ. قال: وقد يؤمران به على جهةِ الندبِ. وَلَوْ أَصَابَ دُونَ فَرْجِهَا فَأَنْزَلَ فَالْتَذَّتْ وَلَمْ تُنْزِلْ فَتَاوِيلُ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا غُسْلَ عَلَيْهَا بِخِلافِ غَيْرِهِ .... قال في المدونة: فإن جامَعَها دونَ الفرْجِ فوَصَلَ مِن مائه إلى داخل فرجِها فلا غُسْلَ عليها إلا أنْ تَلْتَذَّ. فمنهم مَن حَمَلَه على إطلاقِه، وهو تأويلُ الباجي وغيرِه، واختيارُ التونسي لأن التذاذَها مظنةُ الإنزالِ، وتأوّلَ ابنُ القاسم ذلك على أنها أَنْزَلَتْ. وأما لو لم تَلتذ لم يجب عليها الغُسل اتفاقاً، قاله ابنُ هارون، وفيه نظر؛ لأن أبا الحسن الصغير نَقَلَ قولاً ثالثاً بوجوب الغسل بمجرد وصولِ الماء إلى فرجِها وإن لم تلتذ. فَإِنْ أَمْنَى بِغَيْرِ لَذَّةٍ أَوْ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ كَمَنْ حَكَّ لِجَرَبٍ أَوْ لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ أَوْ ضُرِبَ فَأَمْنَى، فَقَوْلانِ .... لما انتهى كلامُه على ما يتعلق بخروجِ المنيِّ ذَكَرَ ما يتعلق بقوله (المقارن للذة المعتادة) وهذا نالقولان جاريان على الخلافِ في الصورِ النادرةِ؛ لأن العادةَ خروجُ المني بلذَّةِ الجماعِ أو مقدماتِه، ولا فرقَ بين خروجِه بغيرِ لَذَة مطلقاً كالملدوغِ والمضروبِ، وبين خروجِه بلذةٍ غيرِ معتادةِ كحَكِّ والنزولِ ف يالماء السُّخْنِ. ابن بشير: والْمَشْهُورِ السقوطُ.

ولو أخَّرَ المصنفُ قوله: (كَمَنْ حَكَّ لِجَرَبٍ) عما بعده ليعودَ الأولُ إلى الأولِ والثاني للثاني لكان أَوْلَى. واخترا سحنون وأبو إسحاق القولَ بالوجوبِ. وَعَلَى النَّفْيِ فَفِي الْوُضُوءِ قَوْلانِ ويقع في بعضِ النُّسَخِ القولان مفسرين بالوجوب والاستحبابِ، وهو أحسنُ. فوجهُ الوجوبِ أن هذا الخارجَ له تأثيرٌ في الكرى وإن لم تؤثر فيها، فلا أقلَّ من الصغرى. ووجهُ العَدَمِ أن هذا الخارجَ غيرُ معتادٍ بالنسبة إلى الوضوءِ. وَلَوِ الْتَذَّ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَهَابهَا جُمْلَةً، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَنْ جِمَاعٍ وَقَدِ اغْتَسَلَ فَلا يُعيد .... هذه المسألةُ على وجهين: أحدُهما أن يُجامِعَ ولم يُنْزِل، ثم يغتسل ثم يخرج منه المنيُّ. والثاني أن يلتذَّ بغيرِ جماعٍ، ولا يُنزل، ثم يُنزلُ، فقيل بالوجوبِ فيهما؛ لأنه مستندٌ إلى لذةٍ متقدمةٍ. وقيل: لا فيهما؛ لِعَدَمِ المقارَنَةِ، ولأن الجنابةَ في الأُولَى قد اغتُسِلَ لها. والثالثُ التفرقةُ، فيجبُ في الثاني دونَ الأوّل؛ لأنه في الأوّل قد اغتسل لجنابتِه، والجنابةُ الواحدةُ لا يَتكرر لها الغُسل. وقد ذكر اللخميُّ والمازريُّ وغيرُهما الثلاثةَ الأقوالَ هكذا. وهكذا كان شيخُنا- رحمه الله تعالى- يُقَرِّرُ هذا المحل، وكذلك قرره ابن هارون. وَعَلَى وُجُوبِهِ لَوْ كَانَ صَلَّى فَفِي الإِعَادَةِ قَوْلانِ القولُ بالإعادةِ لأصبغَ، ومقابلُه لابن المواز، واختاره ابنُ رشد والمازريُّ وغيرُهما؛ لأنه إنما حُكِمَ له بالجنابةِ عِنْدَ الخروجِ. وَعَلَى النَّفْيِ فَفِي الْوُضُوءِ قَوْلانِ أي: بالإيجابِ والاستحبابِ. قال الباجي: وقال القاضي أبو الحسن: الظاهرُ مِن مذهبِ مالكٍ أنَّ الوضوءَ واجبٌ.

فَلَوِ انْتَبَهَ فَوَجَدَ بَلَلاً لا يَدْرِي: أَمَنِيٍّ أَمْ مَذْيٍّ وَلَمْ يَحْتَلِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: لا أَدْرِي مَا هَذَا. ابْنُ سَابِقٍ: كَمَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ .... هذه المسألة وقعت لمالك في المجموعةِ، يعني أن مالكاً توَقَّفَ. وقال ابن نافع: يغتسلُ. وظاهرُه الوجوبُ. وقال علي بن زياد: لا يَلزمه إلا الوضوءُ مع غَسْلِ الذَّكَرِ. ابن الفاكهاني في شرح العمدة: والْمَشْهُورِ الوجوبُ كالوضوء. وقوله: (ابْنُ سَابِقٍ) أي: وأجرى [27/أ] ابن سابق واللخمي وغيرُهما هذا الفرعَ على مَن شكَّ في الحَدَثِ، ولعل الفَرْقَ الذي أوجَبَ تَوَقُّفَ مالكٍ مشقةُ الغُسْلِ. فرعان: الأول: إذا قلنا بإنباتِ الغسلِ بالشكِّ فهل عليه أن يُضيف الوضوء إلى ذلك أم لا؟ المازريُّ: والْمَشْهُورِ أنه يَستغني بالغسل؛ لأنَّ مَن أَجْنَبَ يقيناً سَقَطَ عنه الوضوءُ واستغنى بالغسلِ، فمن شَكَّ هل أجْنَبَ أم لا- يَكْتَفِي بالغُسل، وقد رأيتُ بعضَ المخالفين ذَهَبَ إلى أنه يُضيف إلى غسلِه الوضوءَ. قال: وعندي أنه يَتخرَّجُ على قولِ مَن ذَهَبَ مِن أصحابِنا إلى وجوب الترتيبِ في الوضوءِ؛ لأن غسلَ الجنابة لا ترتيبَ فيه، والوضوءُ يَجِبُ ترتيبُه. الثاني: لو استيقظ فذَكَرَ احتلاماً ولم يجِدْ بللاً فلا حُكْمَ له. قال المازري. وَلَوْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ احْتِلاماً اغْتَسَلَ، وَفِي إِعَادَتِهِ مِنْ أَوَّلِ نَوْمٍ أَوْ حَدَثِ نَوْمٍ قَوْلانِ قوله: (احْتِلاماً) أي يابساً، وأما الطَّرِيُّ فيُعيد مِن أَحْدَثِ نومٍ اتفاقاً. ومذهبُ الموطأ والمجموعةِ أنه يُعيد مِن أحدثِ نَوْمَةٍ. وقسم الباجي المسألة إلى قسمين: إن كان ينام فيه وقتاً دون وقتٍ- أعاد مِن أحدثِ نومةٍ اتفاقاً. وهل يُعيد ما قَبْلَ ذلك؟ قولان. وإن كان لا ينزعُه فروى ابن حبيب عن مالك أنه يُعيد من أوَّلِ نومةٍ.

الباجي: ورأيتُ أكثرَ الشيوخِ يَحملون هذا على أنه تفسيرٌ لمسألةِ الموطأ، وأن المسألتين مفترقتان، والصواب عندي أن يكون اختَلَفَ قولُه في الجميع. انتهى. وعلى هذا فإطلاقُ المصنفِ موافقٌ لطريقِ الباجي، لا كما حكاه عن الأكثر، وذكر ابن راشد في المسألة ثلاثة أقوال: يُفَرِّقُ في الثالثة بينَ إِنْ كان ينزعُه فيُعيد مِن أحدثِ نومةٍ، وإن كان لا ينزعه فمِن أولِ نومةٍ. قوله: (رَأَى فِي ثَوْبِهِ احْتِلاماً) أي: سواءٌ أَرَأَى أنه يُجامِعُ أم لا. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، وَمَنِيُّ الرَّجُلِ أَبْيَضُ ثَخِينٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ أَوِ الْعَجِينِ، وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ ...... أي في جميعِ ما تَقَدَّم، وهو كلامٌ واضحٌ. الثَّانِي: انْقِطَاعُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، بخِلافِ انْقِطَاعِ دَمِ الاسْتِحَاضَةِ، ثُمَّ قَالَ: تَتَطَهَّرُ أَحَبُّ إِلَيَّ .......... أي الموجبُ الثاني، لا إشكالَ في وجوبِ الغسلِ مِن دمِ الحيضِ والنفاسِ. واختَلَفَ قولُ مالكٍ إذا انقطع دمُ الاستحاضةِ فقال أَوّلاً: لا يُسْتَحَبُّ الغُسْلُ؛ لأنها طاهرٌ، وليس ثَمَّ مُوجِبٌ؛ ولأنه دمُ عِلَّةٍ وفسادٍ، فأَشْبَهَ الخارجَ مِن الدُّبُرِز ثم رجع فقال: يُستحب لها الغُسْلُ؛ لأنه دمٌ خارجٌ مِن القُبُلِ، فتُؤمر بالغُسلِ منه كالحيضِ؛ ولأنها لا تخلو من دمٍ غالباً. فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ دَمٍ: فَرِوَايَتَانِ، وَإِنْ حَاضَتِ الْجُنُبُ أَوْ نُفِسَتْ أَخَّرَتْ الظاهرُ مِن القولين الوجوبُ حَمْلاً على الغالب، ومنشأُ الخلافِ الخلافُ في الصُّوَرِ النادرةِ: هل تُعطى حُكمْ نَفْسِها أوم غالِبِها؟ وقال بعضهم: هل النفاسُ اسمٌ للدمِ ولم

يوجد، أو اسم لتَنَفُّسِ الرَّحِمِ وقد وُجِدَ؟ والروايتان بالوجوبِ والاستحبابِ لا كما يُعطيه كلامُ المصنفِ مِن السقوطِ. وقوله: (وَإِنْ حَاضَتِ) إلى آخره، يعني أن الجنبَ إذا حاضتْ أو نُفِسَتْ فإنها تُؤَخِّرُ الغسلَ، وهذا هو الْمَشْهُورِ؛ لأن الحيضَ والجنابةِ حَدَثَانِ، فلا يَتَأَتَى رَفْعُ أحدِهما مع بقاءِ الآخرِ كالغائطِ والبولِ. وقيل: إلا أن تُريدَ القراءةَ فتغتسلَ لتقرأَ القرآنَ؛ لأن الحائضَ تجوز لها القراءةُ، فكانت موانعُها مختلفةً، فأشبهت الجنابةَ والحدثَ الأصغرَ. الثَّالِثُ: الْمَوْتُ. الرَّابِعُ: الإِسْلامُ: لأَنَّهُ جُنُبٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: تَعَبُّدٌ. وَعَلَيْهِمَا لَوْ لمَ ْتَتَقَدَّمْ له جَنَابَةٌ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: يُسْتَحَبُّ وَإِنْ كَانَ جُنُباً لِجَبَّ الإِسْلامِ، وَأُلْزِمَ الْوُضُوءَ .... ما ذَكره في الموتِ مبنيٌّ على القولِ بالوجوبِ وسيأتي. ولا يَحْسُنُ عَدُّ الإسلامِ موجباً رابعاً إلا على الشاذِّ، وأما على الْمَشْهُورِ فقد دخل في الموجِبِ الأول. والتعبدُ حكاه المازري وابن شاس وغيرُهما عن القاضي إسماعيل، وينبني على الخلاف لو بَلَغَ بغيرِ احتلامٍ لم يغتسل على الْمَشْهُورِ، وعلى قول إسماعيل يُستحب، قاله المازري وابن شاس وابن عطاء الله. وعلى هذا ففي قولِ المصنفِ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: يُسْتَحَبُّ وَإِنْ كَانَ جُنُباً لِجَبَّ الإِسْلامِ، وَأُلْزِمَ الْوُضُوءَ) نظرٌ لأن كلامَه يقتضي أن القائلين بالوضوء اختلفوا: فمنهم مَن قال: إنه للجنابة. ومنهم من قال: إنه تعبد. وأن قولَ إسماعيل ثالثٌ. وكلامُ هؤلاء الشيوخ يَقتضي أن مَن قال بالتعبدِ قال بالاستحباب، ولفظُ المازري: واختلَف أصحابُنا في غُسل الكافر هل هو للجنابةِ أو للإسلامِ؟ فمَنْ رآه للجنابةِ جعله واجباً إِذْ غُسْلُ النابة واجبٌ، ومَن رآه للإسلام جعله مستحَبّاً، وهو قول القاضي إسماعيل، لكنَّ المصنفَ تَبعَ ابنَ بشيرٍ، فإنه قال: اختلف القائلون بالوجوبِ هل ذلك للإسلامِ أو لأنَّ

الكافر يُجْنِبُ ولا يَغْتَسِلُ. وعلَّلَ الأولَ بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] قال: والنجسُ لا يَقربُ الصلاةَ إلا بعد غسلِ نجاستِه. واعلم أنَّ التعليلَ بالجنابةِ لا يَضُرُّ؛ لأن الغسلَ قد يكونُ لانقطاعِ دمِ الحيضِ فيمن بلغتْ به وأَسْلَمَتْ. ويمكن أن يُجاب على ما استدل به إسماعيلُ بأن المرادَ جبُّ الإثمِ، وإلا سقطتْ حقوقُ الخلقِ. [27/ ب] وألزَمَه اللخميُّ وغيرُه القولَ بسقوطِ الوضوءِ؛ لأن الإسلامَ إن كان يَجُبُّ ما كان مِنْ حدثٍ في حالِ الكفرِ- جَبَّ فيهما، وإلا فلا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً فَالْمَنْصُوصُ يَتَيَمَّمُ إِلَى أَنْ يَجِدَ كَالْجُنُبِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَوْ أَجْمَعَ عَلَى الإِسْلامِ فَاغْتَسَلَ لَهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْجَنَابَةَ لأَنَّهُ نَوَى الطُّهْرَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ ..... قوله: (إِلَى أَنْ يَجِدَ كَالْجُنُبِ) ظاهرُ التَّصَوُّرِ. ومقابلُ المنصوص يأتي على التعبدِ؛ لأنه يرى أن الغسلَ مستحبٌّ كما تقدم، ولا يتيمم للمندوب. وقوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ) إلى آخره، يعني أن ابن القاسم يقول: إذا اغتَسَلَ بعدَ أن عَزَمَ على الإسلام، وقَبْلَ أن يتلفَّظَ بالشهادة- أجزَأَهُ ذلك في الجنابةِ وإن لم يَنْوِها. ونقل صاحبُ العمدة في المسألة قولين بالإجزاءِ وعدمِه. وقول ابن القاسم مشكل لوجهين: أحدهما أن الغسل عنده للجنابة وهو لم ينوها، وليس للإنسان إلا ما نوى. والثاني أنه قبل التَّلَفُّظِ على حُكْمِ الشِّرْكِ، فلا يَصِحُّ منه الغسلُ؛ لأن التلفظَ في حقِّ القادرِ شرطٌ على الْمَشْهُورِ، والْمَشْهُورِ عدمُ اشتراطِه مع العجزِ، نقله عياض. وهذا بخلافِ الكُفْرِ فإنه لا يَفتقر إلى لفظٍ؛ لأنه مقامُ خِسَّةٍ. وينبغي حَمْلُ قولِ ابن القاسم على ما إذا كان خائفاً أن ينطقَ بالشهادةِ. ابنُ هارون: وقد يُجاب عن الأوَّلِ بأنه- وإن لم ينوِ الجنابةَ- فقد نوى أن يكونَ على طُهْرٍ، وذلك يَستلزِمُ رَفْعَ الجنابةِ، وعن الثاني أنه إذا اعتقدَ الإسلامَ فهو ممن تَصِحُّ القُرْبَةُ بخلافِ مَن لم يعتقده؛ لما في الصحيحين مِن اغتسالِ ثُمَامَةَ قبل أن يُسْلِمَ، ثم أَسْلَمَ ولم يأمُره صلى الله عليه وسلم بإعادةِ الغُسْلِ.

وَالْجَنَابَةُ كَالْحَدَثِ، وَتَمْنَعُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الأَصَحَّ، وَالآيَةُ وَنَحْوُهَا لِلتَّعَوُّذِ مُغْتَفَرٌ أي: أن الجنابةَ في الموانعِ كالحَدَثِ الأصْغَرِ، وتَزيدُ عليه بمنعِ أشياء لا يَمنع منها الحدثُ الأصغرُ، منها القراءةُ على الْمَشْهُورِ. ابنُ عطا الله وغيرُه: وأجاز مالكٌ في المختصر للجُنُبِ أن يَقرأ القليلَ والكثيرَ، وقال في سماعِ أشهب: يَقْرَأُ اليسيرَ. ابن راشد: ولا وجهَ لما في المختصر؛ لأنَّ الحديثَ في المنعِ صحيحٌ، ففي النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخرج من الخلاءِ فيقرأُ القرآنَ ويَأكلُ، ولم يَكُنْ يحجبُه عن القراءةِ شيءٌ سوى الجنابةِ. وعنه أيضاً: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأِ الْقُرْآنَ على كلِّ حَالٍ ما لم تَكُنْ جُنُباً)). وقوله: (وَالآيَةُ وَنَحْوُهَا) أي: والآيتان والثلاث، يعني: لا يُباح له ذلك على معنى القراءةِ، بل هو على معنى التَّعَوُّذِ أو الرُّقَي أو الاستدلالِ ونحوه للمشقةِ في المنعِ على الإطلاقِ. انتهى بالمعنى. وَدُخُولَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ عَابِراً عَلَى الأَشْهَرِ الأشهَرُ- كما قال- المَنْعُ مِن دُخولِ المسجدِ مطلقاً. قال مالك: ولا بأسَ أن يَمُرَّ ويَقْعُدَ فيه مَن كان على غيرِ وضوءٍ. ونُقل عن مالك الجوازُ إذا كان عابرَ سبيلٍ. ومنشأُ الخلاف قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] هل المرادُ مواضعُ الصلاةِ؟ فيكون في الآيةِ إضمارٌ، أي: ولا تقربوا مواضع الصلاة، أي: وأنتم سكارى، أو المرادُ الصلاةُ نفسهُا، والتقدير: ولا تقربوا

الصلاة جنباً إلا عابري سبيل، أي: إلا وأنتم مسافرون بالتيمم، وهو مرويٌّ عن عليٍّ رضي الله عنه، وعليه فيكونُ في الآية دليلٌ على أن التيممَ لا يرفع الحدث. وقال ابن مسلمة: لا ينبغي للحائض أن تَدخل المسجدَ لأنها لا تَامَنُ أَنْ يَخرجَ منها ما يُنَزَّهُ المسجدُ عنه، ويَدْخُله الجُنُبُ لِلأَمْنِ مِنْ ذلك. وقال اللخمي: وعلى قولِ ابنِ مسلمةَ يجوز كونُ الجنبِ فيه، وكذلك الحائضُ إذا استَثْفَرَتْ بثوبٍ. (وَدُخُولَ الْمَسْجِدِ) مِن قَوْلِ المصنفِ معطوفٌ على القراءةِ. وَيُمْنَعُ الْكَافِرُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ المنعُ لِحُرْمَةِ المسجدِ، وهو حقٌّ للهِ تعالى فلا يَسْقُطُ، ونَبَّهَ بهذا على خلافِ مَن أجازَ ذلك إِنْ أَذِنَ له مُسْلِمٌ. ابن عبد السلام: وهو ظاهرُ الأحاديث، وقد كان ثمامة رضي الله عنه مربوطاً في المسجد قَبْلَ أن يُسْلِمَ. انتهى. وَجْهُ المْنْعِ قولُه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. وإذا مُنِعُوا مِن المسجدِ الحرامِ للنجاسةِ وَجَبَ أن يُمنعوا مِن سائرِ المساجدِ للاتفاقِ على تنزيهِ سائرِها كالمسجدِ الحرامِ، ولعمومِ الحديثِ: "لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ" رواه أبو داود. وقال النسائي: لا بأسَ به. ولأنه إذا مُنِعَ الجُنُبُ والحائض فالكافر أولى. وَلِلْجُنُبِ أَنْ يُجَامِعَ وَيَاكُلَ وَيَشْرَبَ هذا ظاهر. وقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدُورُ على نسائِه في الساعةِ الواحدةِ مِن الليلِ أو

النهارِ، وهن إحدى عشرةَ نسوةً. قيلَ لأنسٍ: أكان يُطِيقُه؟ قال: كُنَّا نتحدثُ أنه صلى الله عليه وسلم أُعْطِيَ قوةَ ثلاثين رجلاً. ولم يذكر في الحديث أنه اغْتَسَلَ قَبْلَ أن يَأتي الأُخْرَى. واستحسَنُوا له غسلَ فرجِه قبلَ إعادةِ الجماعِ، وعليه حُمِلَ قولُه صلى الله عليه وسلم: "إذا أَتَى أحدُكم أهلَه ثم أَراد أن يَعُودَ فليتوضأ". وفي الغَسْلِ فوائدُ: تقويةُ العُضْوِ، وإزالةُ النجاسةِ؛ فإنَّ رُطوبةَ فرجِ المرأةِ- عندنا - نجسةٌ لاختلاطِها بالبولِ وغيرِه. وَفِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَاسْتِحْبَابِهِ قَوْلانِ بخِلافِ الْحَائِضِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي تَيَمُّمِ الْعَاجِزِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلنَّشَاطِ أَوْ لِتَحْصِيلِ طَهَارَةٍ قال القاضي عياض: ظاهِرَ المذهب أنه مستَحَبٌّ، وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ به. ورُوي عن عائشة رضي الله [28/أ] عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جُنُبٌ ولا يَتوضأ. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه البيهقي وغيرُه، وضعَّفَه بعضُهم. وقال الترمذي: حديثُ الأَمْرِ أَصَحُّ مِن هذا الحديثِ. فتأَوَّلَ الجمهورُ الأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وهذا على سبيلِ الجوازِ جَمْعاً بين الأَدِلَّةِ. والوجوبُ قولُ ابنِ حبيبٍ. والْمَشْهُورِ في الحائضِ عَدَمُ الأَمْرِ بناءً على التعليلِ بالنشاطِ، قال في النكت: ويستوي حُكمُها وحُكْمُ الجنبِ إذا انقطعَ الحيضُ. وأما التيممُ فعلى النَّشَاطِ، لا يُؤْمَرُ به، وهو على قولِ مالكٍ في الواضحةِ. وعلى أنه لتحصيلِ الطهارةِ يُؤْمَرُ به، وهو قولُ ابنِ حبيبٍ.

الباجي: ولا يُبطل هذا الوضوءَ بَوْلٌ ولا غيرُه إلا الجماعُ. قاله مالك في المجموعة. وقال اللخميُّ: إن قُلنا: الغسلُ للنشاطِ لا يُعيد الوضوءَ وإِنْ أَحْدَثَ، وإن قُلنا لينامَ على إحدى الطهارتين أَعَادَ الوضوءَ استحباباً إِنْ أَحْدَثَ. وَوَاجِبُهُ النِّيَّةُ وَاسْتِيعَابُ الْبَدَنِ بِالْغَسْلِ وَبِالدَّلْكِ عَلَى الأَشْهَرِ ابن عبد السلام وابن هارون: اتُفِقَ هنا على وجوبِ النيةِ، وخَرَّجَ جماعةٌ قولاً بعدمِه مِن الوضوء. ابن هارون: وقد يُفَرَّقُ بأن الوضوءَ فيه معنى النظافة؛ لكونه متعلقاً بالأعضاء التي يَتعلق بها الوَسَخُ غالباً، بخلافِ الغُسْلِ. وقوله: (الْبَدَنِ) أي: الظاهرُ، فلا تَرِدُ عليه المضمضةُ والاستنشاقُ كما زَعَمَ ابنُ هارون، والدَّلْكُ هنا كالوضوءِ. فَلَوْ كَانَ مَمَّا لا يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ سَقَطَ، وَإِنْ كَانَ يَصِلُ باسْتِنَابَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ كَثِيراً لَزِمَهُ ... أي: إن كان بعضُ جسدِه لا يَصِلُ إليه بوَجْهٍ، أو لم يكن هناك مَن يَسْتَنيبُهُ، أو كان في موضعٍ لا يَطَّلِعُ عليه أحدٌ غيرُه لكونه عورةً- سَقَطَ، وإن كان مما يصل إليه باستنابة أو بخرقة، فثلاثة أقوال وهي ظاهرةٌ. والظاهرُ الوجوبُ لأنه مما لا يُتوصل إلى الواجبِ إلا به، وهو لسحنون، والسقوطُ في الواضحة، والثالثُ للقاضي أبي الحسن. وَلَوْ تَدَلَّكَ عَقِيبَ الانْغِمَاسِ وَالصَّبِّ أَجْزَأَهُ عَلَى الأصَحِّ الأصحُّ كما قاله المصنفُ؛ لأن في اشتراطِ المَعِيَّةِ حَرَجاً- وقد نفاه اللهُ- وهو قولُ أبي محمد، ومقابلُه لابن القابسي.

وَلا تَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَلا الاسْتِنْشَاقُ وَلا بَاطِنُ الأُذْنَيْنِ كَالْوُضُوءِ، وَيَجِبُ ظَاهِرُهُمَا، وَالْبَاطِنُ هُنَا الصِّمَاخُ ... نَبَّهَ على عدمِ وجوبِ المضمضةِ والاستنشاقِ على خلافِ أبي حنيفةَ فإنه يَرى وجوبَهما. وقوله: (وَلا بَاطِنُ الأُذْنَيْنِ) أي الصماخ، ومسحُه سُنَّةٌ. وقوله: (كَالْوُضُوءِ) أي: أنهما سُنة في الغُسل كالوضوءِ. ومرادهُ بظاهِرِ الأذُنَيْنِ ظاهرُ الأَشْرَافِ مما يَلي الرَّاسَ ومما يُواجِه، بخلافِ داخلِ الأذنين في الوضوءِ؛ ولذلك قال: (وَالْبَاطِنُ هُنَا الصِّمَاخُ). وَتَضْغَثُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا مَضْفُوراً، وَالأَشْهَرُ وُجُوبُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ وَالرَّاسِ، وَغَيْرِهِمَا (وَتَضْغَثُ) بفتح التاء والغين المعجمة والضاد المسكنة وآخره ثاء مثلثة، ومعناه: تَضُمُّه وتَجمعه وتُحرِّكُه وتعصرُه، قال عياض. وقوله: (مَضْفُوراً) مبنيٌّ على الغالبِ، وإلا فلا فَرْقَ بين المضفورِ والمربوطِ، وفي الصحيح عن أم سلمة قالت: "جاءتِ امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللهَ إني امرأةٌ أَشُدُّ ضُفْرَ رَاسِي، فكيف أصنعُ إذا اغتسلتُ؟ فقال: احْفِنْي عليه مِن الماءِ ثلاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ اغمِزِيهِ على إِثْرِ كُلِّ حَفْنَةٍ بِكَفَّيْكِ" رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظُ المتقدِّمُ لأبي داود. ولفظ مسلم: "إنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عليه ثَلاثَ حَثَيَات، ثم تُفِيضِي عليك الماءَ فتَطْهُرِينَ"، وفي رواية "أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ والجَنَابةِ؟ فقال: لا". وما ذكَرَه مِن الأشْهَرِ في اللحيةِ والرأسِ تَبعَ فيه ابنَ بشيرٍ، والذي في العتبية- ونَقله الباجي وغيره- مِن الخلافِ إنما هو في اللحيةِ، ففي العتبية: قال ابن القاسم: وسُئل

مالكٌ عن الجُنُبِ إذا اغتسل أَيُخَلَّلُ لِحْيَتَهُ؟ قال: ليس ذلك عليه. وقال أشهب عن مالك: إن عليه تخليلَ اللحيةِ من الجنابةِ. ومقابلُ الأَشْهَرِ مِن كلامِ المصنفِ نَفْيُ الوجوبِ، وهو أَعَمُّ مِن الندبِ والسقوطِ، والذي حكاه الباجيُّ أنه السقوطُ، وحكى عياضٌ وابن شاس أنه الندبُ. وانظرْ كيف جَعَلَ الأَشْهَرَ رِوَايَةَ أشهبَ إلا أن يكونَ الأشهرُ ما قَوِيَ دليلُه، ففي الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم كان يُخَلِّلُ أصولَ شعرهِ. وأما الرأسُ فلم ينصَّ أصحابُنا فيه إلا على الوجوبِ، وقد حكى القاضي عياض أنه مُجمعٌ عليه. ابن هارون: وإنما اعتمد المصنفُ في نقلِ الخلافِ فيه على ابن بشير، ولم أَرَه لغيرِهما، نَعَمْ خَرَّجَ عبدُ الوهاب الخلافَ في الرأسِ مِن اللحيةِ. وَالأَكْمَلُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يُزِيلَ الأَذَى عَنْهُ ثُمَّ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأ لِيَقَعَ الغَسْلُ في عضوٍ طاهرٍ، ومقتضى كلامِه أنه لو اغَتَسَلَ غسلةً واحدةً ينوي بذلك رَفْعَ الحَدَثِ، وزالتْ مع ذلك النجاسةُ أَجْزَأَهُ، ونحوُهِ لِلَّخْمِيِّ وابنِ عبد السلام وغيرِهما خلافَ ما يُعطيه كلامُ ابنِ الجلابِ مِن وجوبِ الإزالةِ أَوّلا، كما يفهمُه غيرُ واحدٍ مِن كلامِه، وكان شيخُنا- رحمه الله تعالى- يقول: كلامُ ابن الجلاب حقٌّ، ولا يمكن أن يُخَالِفَ فيه أحدٌ؛ إِذْ لا بُدَّ مِن انفصالِ الماءِ عن العضوِ مطلقاً، ولو انفَصَلَ متغيراً بالنجاسةِ لم يُمْكِنُ القولُ بحصولِ الطهارةِ لهذا المتطهرِ. وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ إزالةِ النجاسةِ قَبْلَ طهارةِ الحَدَثِ. وقوله: (وَالأَكْمَلُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ) يعني قَبْلَ إدخالهِما في الإناءِ كما في الوضوء. وقوله: (ثُمَّ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ) أي [28/ب] وإِنْ لم تَكُنْ عليه نجاسةٌ، فإِنَّ غَسْلَه للجنابةِ، ويُقَدِّمُ غَسْلَه ليَامَنَ مِنْ نَقْضِ الوضوءِ بمَسِّه، وعلى هذا فيَنوي عند غَسْلِ الفَرْجِ، وإلا فلا بُدَّ مِنْ غَسْلِه ثانياً لِيَعُمَّ جميعَ جَسَدِه، ذَكَرَ ذلك المازريُّ وغيرُه.

وقوله: (ثُمَّ يَتَوَضَّأ) أي: بنيةِ رَفْعِ الجنابةِ عن تلك الأعضاءِ، ولو نوى الفضيلةَ وَجَبَ عليه إعادةُ غَسْلِها. عياضٌ: ولم يَأتِ تكْرَارُه في الأحاديثِ. وذكر بعضُ شيوخِنا أنه لا فضيلةَ في تكرارِه، يُريد لأنه مِن الغَسْلِ، ولا فضيلةَ في تكرارِه. وَفِي تَأخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، ثَالِثُهَا: يُؤَخِّرُ إِنْ كَانَ مَوْضِعُهُ وَسِخاً منشأُ الخلافِ حديثُ عائشةَ- رضي الله عنها- فإن فيه تقديمَ غسلِهما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي- وحديثُ ميمونةَ فإن فيه تأخيرَ غسلِهما، رواه البخاريُّ وغيرُه. والقولُ الثالثُ منهم مَن عَدَّةُ ثالثاً- كما فَعَلَ المصنفُ- ومنهم مَن جَعَلَهُ جَمْعاً، وزاد بعضُهم التخييرَ. ابن الفاكهاني في شرح العمدة: والْمَشْهُورِ التقديمُ. وَعَلَى تَاخِيرِهِمَا فَفِي تَرْكِ الْمَسْحِ رِوَايَتَانِ وجهُ التَّرْكِ أنه لا فائدةَ للمَسْحِ؛ لأنه يغسلُه حينئذٍ، وأيضاً فإن المستحبَّ تخليلُ شعرِ الرأسِ قبلَ الغَسْلِ، وذلك يَنُوبُ له عن المَسْحِ، ووجهُ مقابلِه أن الأفضلَ تقديمُ أعضاءِ الوضوءِ، وخرجتِ الرجلانِ بدليلٍ ويَبْقَى ما عداهما على الأصلِ. ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَاسِهِ ثَلاثاً، وَالْمَوَالاةُ كَالْوُضُوءِ اعلمْ أَنَّ الفَرْضَ في الغُسْلِ واحدةٌ، وليس في الغُسْلِ شيءٌ يُنْدَبُ فيه التكرارُ غير الرأسِ. وقوله: (وَالْمَوَالاةُ كَالْوُضُوءِ) أي: فَتجِبُ على الْمَشْهُورِ.

وَيُجْزِئُ الْغُسْلُ عَنِ الْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ عَنْ غُسْلِ مَحَلِّهِ أي: وغَسْلُ الوضوءِ عن غَسْلِ محلِّه؛ لأن ممسوحَ الوضوءِ لا يُجزئُ عن غسل محلِّه. واعْلَمْ أنَّ الأصغرَ يدخلُ تحتَ الأكبرِ، كما ذكر، وهل يَدخل الأكبرُ تحتَ الأصغرِ؟ لم يختلفِ العلماءُ أنه لا يُجزئ في الطهارةِ المائيةِ لاختلافِ الموجِبِ والموجَبِ مَعاً. وفي التُرّابِيَّةِ قولان: الإجزاءُ لاتفاقِ الموجَبِ، ونَفْيُه لاختلاف الموجِبِ، حكاهما القاضي أبو محمدِ في التلقينِ والمازريُّ وغيرُهما. قال ابنُ بَزِيزَةَ: وانظرْ لو لَزِمَهُ رَفْعُ الحَدَثِ الأصغرِ، فنوى الأكبرَ، هل يُجزئُه لاندراجِ الجزءِ تحتَ الكلِّ، أم لا يُجزئُه لخروجِه عن سَنَنِ الشَّرْعِ، وإفسادِه الأوضاعَ الشرعيةَ بالقَلْبِ والتغييرِ فصار كالعابِثِ؟ فرع: قال الشيخ أبو إسحاق: مَن اغتسلَ يَنوي به الطهرَ، ولم ينوِ الجنابةَ، فقال مالكٌ مَرَّةً: يُجْزِئُه. وقال مرة: لا يجزئه. وعلى ذلك أكثرُ أصحابِنَا. وإذا تقرر ذلك فيدخل في قوله: (وَيُجْزِئُ الْغُسْلُ عَنِ الْوُضُوءِ) لو اغتسل ثم ذَكَرَ أنه غيرُ جُنُبٍ، وقد نصَّ اللخميُّ فيها على الإِجزاءِ. ويَدخل في قوله: (وَالْوُضُوءُ عَنْ غُسْلِ مَحَلِّهِ) ما لو توضأ ثم ذَكَرَ أنه جُنُبٌ أنه لا يَلْزَمُهُ أن يأتيَ في غَسْلِه على أعضاءِ الوضوءِ، وقد نصَّ اللخميُّ على ذلك أيضاً. وخرَّج المازريُّ فيها قولين، فمَنْ نوى بتيممِه الحدثَ الأصغرَ، هل يُجزئُه عن الأكبر أم لا؟ ويدخل أيضاً في قوله: (ويجزئ الوضوء عن غسل محله) ما لو كانت جبيرةٌ مَسَحَ عليها في غسلِ الجنابةِ، ثم سقطتْ وتَوضأ بَعْدَ ذَلِكَ، وكانت في مغسولِ الوضوءِ. وقد نَصَّ في المدونة في هذه على الإجزاءِ، وسيأتي مِن كلامِ المصنفِ.

ويَدخل أيضاً لو ترك لُمْعَةً في الجنابةِ ثم غَسَلَها في الوضوءِ، وظاهرُ كلامِه الإجزاءُ، فانظرْه. وَفِيهَا: وَلا يَغْتَسِلُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَإِنْ غَسَلَ الأَذَى لِلْحَدِيثِ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ وهو جُنُبٌ. فقالوا: كيفَ يَفْعَلُ يا أبا هريرةَ؟ قال: يَتَناوَلُه تَناوُلاً" رواه مسلم والنسائي وابن ماجه. قال ابن القاسم في العتبية: وسُئل مالكٌ عن اغتسالِ الجنبِ في الماءِ الراكدِ، وقد غَسَلَ ما به مِن الأذى؟ فقال: قد نُهِيَ الجنبُ عن الاغتسالِ في الماءِ الراكدِ، وجاء به الحديثُ، ولم يَاتِ في الحديثِ أنه إذا غَسَلَ الأَذَى عنه جازَ له الاغتسالُ. وقال ابن القاسم: وأنا لا أَرَى به بَاساً إن كان قد غَسَلَ ما به مِن الأَذَى، وإن كان الماء كثيراً يَحْمِلُ ما يَقَعُ فيه، فلا أَرَى به بأساً، غَسَلَ ما به مِن الأَذَى أم لم يَغْسِلْه. قال في البيان: فجَعَلَ مالكٌ العلةَ النهيَ مِنْ غيرِ عِلَّةٍ، وحَمَلَه ابنُ القاسم على أنه لاِنْتِجَاسِ الماءِ، فإذا ارتفعتِ العِلَّة ارتفعَ المعلولُ. واعلمْ أنَّ بعضَهم ذَكَرَ الإجماعَ على إخراجِ الماءِ الكثيرِ جدّاً كالمُسْتَبْحِرِ، وعلى هذا فتَخْرُجُ هذه الصورةُ مِن الخِلافِ. وَفِيهَا: فِي بِئْرٍ قَلِيلَةِ الْمَاءِ وَنَحْوِهَا، وَبيَدِهِ نَجَاسَةٌ يَحْتَالُ، يَعْنِي: بِآنِيَةٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِفِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَطْهِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا أَدْرِي. وَأُجْرِيَتْ عَلَى الأَقْوَالِ فِي مَاءٍ قَليلٍ تَحُلَّهُ النَّجَاسَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، وَقَالَ: فَإِنِ اغْتَسَلَ فِيهَا أَجْزَأَهُ وَلَمْ يُنَجِّسْهَا إِنْ كَانَ مَعِيناً تَصَوُّرُ هذه المسألةِ ظاهرٌ، وأشار ابنُ عبد السلام إلى بحثِ حَسَنٍ وهو أنَّ ظاهرَ المذهبِ أنه إذا أُزيلت النجاسةُ بغير المطلَقِ مِن الطاهر فإن محلَّها لا يُنَجِّسُ ما لاقاه، فعلى هذا يأخذ الماءَ بِفِيِهِ فيغسلُ يديه، ثم يأخذ الماءَ بيديه فيغسلُهما. ولا يضرُّه ذلك يعني إدخالَهما في الماءِ الراكدِ.

التيمم

التَّيَمُّمُ وَيَتَيَمَّمُ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ باتِّفَاقٍ (التَّيَمُّمُ) لغةً القصدُ، وشرعاً طهارةٌ تُرابيةٌ تشتمل على مسح الوجهِ واليدين، وتعذرُ الاستعمالِ على المريضِ مِن جهةِ عدمِ الماءِ، أو عجزِه عن استعمالِه، [29/ أ] وعلى المسافرِ من جهةِ عدمِ الماءِ. والتعذرُ- بمعنى تعذرِ الاستعمالِ- هو مصطلحُ الفقهاءِ. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المرادُ بالتعذرِ فيها التعذرَ مِن جهةِ العدمِ لتكونَ لفظةُ التعذرِ مستعملةً في معنى واحدٍ، وتكون فيه إشارةٌ إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43]؟ فجواُبه أن المصنفَ لما فَسَّرَ التعذرَ فقال: ويتعذرُ بعدمِه، أو ما يتَنَزَّلُ منزلةَ عدمِه، وذكر في القسمِ الثاني عجزَ المريض مِن جهةِ الاستعمالِ - منع مِن حَمْلِه على ما ذكرتَ، فإن قلت: فإذا كان كذلك، فلا يصحُّ الاتفاقُ؛ لأن المريض إذا عَجَزَ عن الاستعمالِ تارةً يَخَافُ على نفسِه وتارةً على ما دُونَها، والأَوَّلُ لا خِلَافَ فيه، والثاني فيه الخلافُ كما سيأتي. فالجوابُ أنَّ المرادَ به متفقٌ عليه في الجملةِ، والله أعلم. وَكَذَلِكَ الْحَاضِرُ الصَّحِيحُ يَخْشَى فَوَاتَ الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلا يُعيد. وَقَالَ ابْنُ حَبيبٍ: رَجَعَ عَنْهُ إِلَى وُجُوبِ الإِعَادَةِ .... منشأُ الخلافِ هل تتناول الآيةُ الحاضِرَ، أو هي مُخْتَصَّةٌ بالمريضِ والمسافرِ، وذلك لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] فإن حملنا {أو} على بابِها فيكون قوله تعالى: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ الْنِّسَآءَ} [النساء: 43] مطلقاً لا يَختص بمريضٍ ولا بمسافرٍ، وإن جعلناها بمعنى الواو خصَّتِ المريضَ والمسافرَ، لأن التقديرَ: وإن كنتم مرضَى أو على سفرٍ وجَاءَ أحدٌ منكم من الغائطِ. والْمَشْهُورِ أظهر؛ لحَمْلِ أَوْ على حقيقتها.

ومقابلُ الْمَشْهُورِ لمالك في الموازية قال: ويَطلب الماءَ وإن خرج الوقتُ. نقله ابن راشد، وهذا يظهر إذا قلنا: إِنَّ مَن عَدِمَ الماءَ والصعيدَ لا يُصلي، وأمّا على القولِ بأنه يصلي فيحتمل أنه يُصلي هذا بغير تيممٍ، ويحتمل أن يُقال: إنه يتيمم؛ لأن التيمم لا يَزيده إلا خيراً. والْمَشْهُورِ كما قال المصنفُ أنه لا إعادةَ عليه، صرح بن الباجي وابن شاس، ولفظُ ابن شاس: إذا فرّعنا على الأوّل – أي: التيمم – فهل يُعيد؟ الْمَشْهُورِ أنه لا إعادة عليه، وقال ابن عبد الحكم، وابن حبيب: يُعيد أبداً. ابن حبيب: وإليه رجع مالك. انتهى. وعلى هذا فقول المصنف: (وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: رَجَعَ عَنْهُ) أي: عن عدم الإعادة. واعلم أنّ التيممَ مِن خصائص هذه الأمّةِ تكريماً لها وتشريفاً، وشُرِعَ لتحصيلِ مصالحِ أوقاتِ الصلاةِ قَبْلَ فواتِها، وذلك يَدُلُّ على اهتمامِ الشرعِ بمصالح الأوقاتِ أكثرَ مِن اهتمامِه بمصالحِ الطهارةِ، وبهذا يترجَّحُ الْمَشْهُورِ. فإن قيل: فأيُّ مصلحةٍ في إيقاعِ الصلاةِ في وقتِها مع أن العقلَ يَحْكُمُ باستواءِ أفرادِ الزمان؟ فجوابُه: إِنَّ ذَلِكَ تَعَبُّدٌ. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجُمُعَةِ فَقَوْلانِ القولُ بالمَنْعِ لأشهب، قال: فإن فَعَلَ لمَ ْيُجْزِهِ. والقولُ بالجواز حكاه ابنُ القصّار وغيرُه. قال ابن عطاء الله: ومنشأُ الخلاف: هل الجمعةُ فرضُ يومِها أو بدلٌ مِنَ الظُّهْرِ؟ انتهى. وظاهرُ المذهبِ انه لا يَتيمم لها. ابنُ يونس: قال بعضُ المتأخرين: لو قيل: يَتيمم ويُدْرِكُ الجمعةَ ثم يتوضأُ ويُعيد احتياطاً لما بَعُدَ.

فرع: لو لم يَجِدِ الجُنُبُ الماءَ إلا في وَسَطِ المسجدِ، فهل يَجِبُ عليه التيممُ لدخولِ المسجدِ ليتوصَّلَ إلى الماء، ويَصِيرُ في معنى مَن تَعَيَّنَ عليه فِعْلٌ كالجنازةِ المتعَيِّنَةِ، أو يُنهى عن ذلك، لأنه لما كان للماءِ بَدَلٌ – وهو التيممُ – صار في معنى مَن لم يتعين عليه؟ المازري: هذا مما لا أحفظ فيه الآن نَصّاً. انتهى. وقال الباجي: قد قال مالك أن الجُنُبَ لا يَمُرُّ في المسجد، فعلى هذا إذا اضطر إليه وَجَبَ عليه التيممُ. انتهى. وقال في النوادر: قال بعضُ أصحابِنا: مَن نام في المسجد فاحتَلَم فينبغي أن يَتيمم لخروجِه منه. قال سند: وهو باطل بالخبرِ والنَّظَرِ، أما الخبرُ فإنه صلى الله عليه وسلم: لما أَحْرَمَ ثم ذَكَرَ أنه جُنُبٌ – خَرَجَ ولم يَرَهُ أحدٌ يَتيممُ، وأما النظرُ فلأنه إذا اشتغل بالتيمم كان لابثاً في المسجدِ بالجنابةِ، والخروجُ أهونُ منه. وَلا يَتَيَمَّمُ الْحَاضِرُ لِلسُّنَنِ عَلَى الْمَشْهُورِ قوله: (لِلسُّنَنِ) ابن عبد السلام: يَقتضي الاتفاقَ على عدمِ التيمم للفضائلِ والنوافلِ، وفيه نظرٌ، والأظهرُ في الحاضرِ الصحيحِ التيممُ للفرائضِ والنوافلِ؛ لأن الآيةَ إذا تناولتْه – كان كالمسافرِ والمريضِ، وإن لم تتناوله – فلا يتيمم لها. انتهى. ويُمكن أن يُقال: وإن قلنا إن الآيةَ تتناولُه فلا تَتناولُ إلا الفرائضَ عملاً بالحَمْلِ على الغالبِ، إذ الصلاةُ إذا وردتْ في الشرعِ غيرَ مقيدةٍ إنما تُحمل على الواجبةِ، وعلى هذا فاشتراطُ الوضوءِ للنافلةِ إنما هو للإجماع. ويُعترض على هذا بأنه لو صَحَّ لَلَزِمَ أن المسافر لا يتيممُ للنوافلِ، وذلك باطلٌ اتفاقاً. ومقابلُ المشهورِ لسحنون. وَيَتَيَمَّمُ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ لِلْكُسُوفِ الأحسنُ لو قال: "للنوافل" ليَعُمَّ. ويُمكن أن يريد بالكسوفِ كسوفَ الشمسِ والقمرِ فيَعُمَّ، ويكون كقوله في المدونة: ويتيمم المرضى والمسافرون لكسوف الشمس والقمر.

وَصَلاةُ الْجَنَازَةِ لِلْحَاضِرِ إِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ فَكَالْسُّنَنِ وَإِلا فَكَالْفَرْضِ عَلَى الأَصَحِّ قوله (لِلْحَاضِرِ) أي: الصحيح؛ لأن المريضَ يتيمم لما هو دون هذا. وقوله: (فَكَالسُّنَنِ) أي: فلا يتيمم لها على الْمَشْهُورِ. (وَإِلا) أي: وإن تعينتْ كفرضِ العين على الأصح، [29 / ب] فعلى الأصح يتيمم لها كالظهر والعصر. وعلى مقابِلِه تُدْفَنُ بغيرِ صلاةٍ، فإذا وَجَدَ الماءَ تَوَضَّأَ وصَلَّى على القَبْرِ مراعاةً لمن أَجَازَ الصلاةَ على القبرِ. وفي هذه التفرقةِ نظرٌ؛ لأنه إذا كان مذهب أهل السنة في فرض الكفاية خطابُ الجميعِ حتى تفعلَه طائفةٌ منهم، فلا فَرْقَ بَيْنَ تعيينِه وعدمِ تعيينِه. وَفِي تَحْدِيدِ سَفَرِهِ بِالْقَصْرِ قَوْلانِ هذا الفرعُ مرتَّبٌ على القولِ الشاذِّ بمنعِ الحاضرِ من التيممِ للفرائضِ، ومنشأُ الخلافِ فيه: هل المعتبرُ السفرُ الشرعيُّ، أو يُقال: الخروجُ عن الوطنِ مظنةُ عَدَمِ الماءِ؟ والأَوَّلُ نقله ابن حبيب على ما نقله الباجي عنه، فقال: مَن يقصرُ التيممَ على المسافرِ فلا يُجزئه من المسافة إلا ما تُقصر فيه الصلاةُ. والثاني في الإشراف، ولفظُه: يجوز التيممُ في كلِّ سَفَرٍ عُدِمَ الماءُ فيه طال أو قَصُرَ، خلافاً لمن قال: لا يجوز إلا في مقدارِ مسافةِ القَصْرِ لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] فَعَمَّ. انتهى. وجَوَّزَ فيه ابنُ هارون احتمالاً ثانياً، وهو أنه إذا بنينا على المشهور مِن مَنْعِ الحاضرِ مِن التيممِ للنوافلِ فهل يُشترطُ فيه مسافةُ القَصْرِ أَمْ لا؟ قال: وقد ذكر ابنُ بشير هذا الخلافَ. خليل: ولم أَرَهُ في تنبيهِه. وَلا يَتَرَخَّصُ بالْعِصَيَانِ عَلَى الأَصَحُّ أي: لا يترخص بسفرِ العصيانِ كالإِبَاقِ، وقَطْعِ الطريقِ، وعقوقِ الوالدين.

واحترز (بالْعِصْيَانِ) مِن السفرِ المباحِ إذا عصَى فيه. ونفيُه الترخصَ يحتمل عمومَ نفيِ الترخصِ، ويحتمل أن يريد نَفْيَ الرخصةِ بالنسبة إلى التيممِ خاصَّةً، وهو الأظهرُ؛ لأنه يَذكر حكمَ غيرِ التيمم في موضعه. ويُستثنى على الأَوَّلِ جوازُ أَكْلِ الميتةِ، فإنه جائزٌ للعاصي على المشهور ارتكاباً لأخف المفسدتين؛ لأنه لو يأكل لَلَزِمَ فواتُ النَّفْسِ. ابن عبد السلام: والحقُّ أنه لا يَنْتَفِي مِن الرُّخَصِ بسببِ العصيانِ بالسَّفَرِ إلا رخصةٌ يَظْهَرُ أثرُها في السَّفَرِ دُونَ الحَضَرِ كالقَصْرِ والفِطْرِ. وأما رخصةٌ لا يَظهر أثرُها في السفر والإقامة كالتيممِ ومسحِ الخفين – فلا يُمْنَعُ المسافرُ منها. وَيَتَعَذَّرُ بعَدَمِهِ أَوْ مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ لما قَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ التيممِ تعذرُ الماءِ – أَخَذَ يُبين ذلك التعذرَ، أي يتعذر استعمال الماء بوجهين: أحدُهما: عدمُه جملةً، والثاني: ما يتنزل منزلةَ عدمِه. ابن عبد السلام: ويُقال لغةً: تَعَذَّرَ عليه الأمرُ إذا عَسُرَ، وبعضُ المتأخرين يَستعمل التعذرَ فيما لا يَتأتى وقوعُه أصلاً، والمتعَسِّرَ فيما يَقَعُ بمشقةٍ، وربما قابل أحدَهما بالآخَرِ، فيقول: متعذرٌ أو متعسرٌ. وهو قريبٌ مِن استعمالِ المصنفِ. الأَوَّلُ: إِنْ تَحَقَّقَ عَدَمَهُ تَيَمَّمَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ القسم الأول من القسمين: وهو أيضاً ينقسم إلى قسمين: الأول: إن تحقق العدمَ – تَيَمَّمَ لعدمِ الفائدةِ في طلبِ ما لا حُصول له. ابنُ رشد: يُريد بالتحققِ غلبةَ الظنِّ؛ لأن الظن في الشرعياتِ معمولٌ به، وأما القَطْعُ بالعَدَمِ فلا يُتَصَوَّرُ.

وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ طَلَبَهُ طَلَباً لا يَشُقُّ بِمِثْلِهِ، قَالَ مَالِكٌ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمِيلِ .... ابنُ عبد السلام: يَدْخُلُ في هذا الظانُّ، والشاكُّ، والمتوهِّمُ وينبغي أن يَختلف حكمُ الطَّلَبِ في حقِّهم، فليس مَنْ ظَنَّ العَدَمَ كمَنْ شَكَّ، ولا الشاكُّ كالمتوَهِّمِ. انتهى. وقال ابن شاس، وابن عطاء الله: لعادمِ الماءِ ثلاثةُ أحوالٍ: الحالةُ الأولى: أن يتحققَ عَدَمَ الماءِ حواليه فيتيممُ مِن غيرِ طَلَبٍ. الحالة الثانية: أن يتوهم وجوده حواليه فليتردد إلى حدٍّ لا يَدخل عليه فيه ضررٌ ولا مشقةٌ، ولا يُحَدُّ ذلك بحَدٍّ؛ إِذِ الشابُّ ليس كالمرأةِ، وقال أبو حنيفة: لا يَحتاجُ إلى طَلَبٍ، فإن كان عادِماً ولم يَعْلَمْ ماءً جاز له التيممُ. ودليلُنا الآيةُ كما سنذكرُه. الحالة الثالثة: أن يَعتقد وجودَ الماءِ في حدِّ القُرْبِ فيلزمُه السعيُ؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا} (المائدة: 6) وإنما يُقال: لم يجد، لمن طَلَبَ، وحَدُّ القرب ما لم يَنْتَهِ إلى المشقةِ، أو خوفِ فواتِ الأصحابِ. ورُوي عن مالك أن مِن الناسِ مَن يَشُقُّ عليه نِصْفُ المِيلِ. وقال سحنون: لا يَعْدِلُ للمِيلَيْنِ وإِنْ كان آمناً. انتهى. تنبيه: مقتضى كلامِ ابنِ رُشْدٍ أنَّ المتوَهِّمَ لا يَطْلُبُ؛ لأنه فَسَّرَ تحققَ العَدَمِ بِظنِّه، ولا شك أنه إذا ظَنَّ العدمَ كان وجودُه متوَهَّماً، وهو خلافُ كلامِ هؤلاءِ، وعلى هذا فالأَوْلَى أَنْ يَبْقَى التحقيقُ أَوَّلاً على بابه. وَفِي الطَّلَبِ مِمَّنْ يَلِيهِ مِنَ الرُّفْقَةِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانُوا نَحْوَ الثَّلاثَةِ طَلَبَ، وَإِلا أَعَادَ أبداً. قال مالك: إن كان أهلُ الرفقةِ يَبخلون بالماء لقِلَّتِه معهم – جاز له أن يَتيمم بلا سؤالٍ، وإن لم يكونوا كذلك، وكانت الرفقةُ كثيرةً – لم يَكُنْ عليه أن يسألَهم. قال مالك: لم

يَكُنْ عليه أن يسأل أربعين رجلاً. وقال أصبغ: يطلب من الرفقة الكثيرة ممن حوله وممن قرب، فإن لم يفعل فقد أساء، ولا يُعيد، وإن كانوا رفقة قليلة، ولم يطلب أعاد في الوقت، وإن كانت مثلَ الرجلين والثلاثة أعاد أبداً. وضعفه اللخمي والمازري بأنَّ تَوَجُّهَ الخِطَابِ بالطلبِ مِن النَّفَرِ اليسيرِ مِن الرُّفقةِ الكثيرةِ كَتَوَجُّهِهِ لو كانوا بانفرادِهم. قال اللخمي: ولا وَجْهَ أيضاً لإيجابِه الإعادةَ بَعْدَ خروجِ الوقتِ إن كانوا مثلَ الرجلين والثلاثةِ. قال: والأَوْلَى إِنْ كان الغالبُ عنده أنهم يُعطونه إذا طلب – أنه يُعيد أبداً في الموضعين، وإن أشكل الأمرُ ولم يطلبْ جاز أن يُقال: يُعيد في الوقت لأن الأصلَ الطلبُ. وظاهرُ كلامِ المصنف أن في المسألةِ ثلاثةَ أقوالٍ: الأولُ: وجوبُ الطلبِ [30 / أ] مطلقاً، وإِنْ تَرَكَ أعاد أبداً. والثاني: نفيُ الوجوب. والثالث: أنه يجبُ في الرفقةِ اليسيرةِ، وإن لم يطلب أعاد أبداً، ولا يجب في الرفقة الكثيرة. ابن راشد وابن هارون: ولم أر أحداً نَقَلَ مِثْلَما نَقَلَ المصنفُ، وإنما هو ما تقدم. فَإِنْ وُهِبَ لَهُ لَزِمَهُ قَبُولُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخِلافِ ثَمَنِهِ ما ذَكَرَه مِن الخلافِ في لُزُومِ قَبُولِ هِبَةِ الماءِ نحوُه في الجواهر. ونُسِبَ الشاذُّ لابنِ العربي، ثم قال: وقال ابنُ سابق: لا خلافَ في لزومِه. انتهى. والفرقُ للمشهورِ قُوَّةُ المِنَّةِ في الثَّمَنِ، وهو كلامٌ مُتَّجِهٌ. وَلَوْ بِيعَ بِغَبْنٍ مُجْحِفٍ، أَوْ بِغَيْرِ غَبْنٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ لِنَفَقَةِ سَفَرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ لا حَدَّ للزيادةِ المُوجِبَةِ للتيممِ، وما وقع في الجلاب مِن قوله: ويَحتمل أن يُحَدَّ بالثُّلُثِ. مشكلٌ؛ لأنه إِنْ عَنَى ثُلُثَ مالِه فيلزمُ على قولِه على قوله إذا كان للإنسانِ ثلاثةُ آلافِ دينارٍ أن يشتريَ الماءَ بألفِ دينارٍ، وإن عَنَى ثلثَ الثمنِ فيَلْزَمُ إذا كانت القِرْبَةُ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ.

وصارت تُبَاعُ بثلاثةٍ – أنه يَتيمم، ولا خلافَ في بُطلانهِما. ثم إنَّ كلامَه يَحتمل إذا بَلَغَ الثلثَ يَتيمم، أو إذا زاد عليه، وفي كلامِ المصنفِ نظرٌ، وجوابُه لو قال بما خَرَجَ عن العادةِ ولو لم يُجحف به، فقد سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن رجلٍ كثيرِ الدراهمِ: أَيَشتري قِرْبَةً بعشرةِ دراهمَ؟ فقال: ليس عليه ذلك. رواه ابنُ نافعٍ في المجموعةِ، وقال ابنُ القاسم نحوَه، قاله في النوادر. وقوله: (أَوْ بِغَيْرِ غَبْنٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ لِنَفَقَةِ سَفَرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ) ظاهرُ قول ابن العربي: لو بِيعَ له بثمنٍ في الذِّمَّةِ لَزِمَهُ شراؤُه؛ لأنه قادرٌ على ذلك، فأَشْبَه ما لو كان ثمنُه معه، وقد جَرَتِ العادةُ بانقسامِ البيعِ إلى المُعَجَّلِ والمُؤَجَّلِ، فلا مَعْنَى لِحَصْرِه في أحدِهما. الثَّانِي: مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ كَعَدَمِ الآلَةِ، فَإِنْ وَجَدَهَا وَلَكِنْ يَذْهَبُ الْوَقْتُ لَهَا أَوْ لاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَنْهُ يُعِيدُ الْحَضَرِيُّ .... تقديره: فإن وَجَدَ الآلةَ، ولكن يَذْهَبُ الوقتُ لرفعِ الماءِ بها. أو لاستعمالِ الماءِ، ويحتملُ أن يُقَدَّرَ أو لاستعمالِ المكَلَّفِ، ويكون المفعول محذوفاً. وقَسَّمَ غيرُ واحدٍ الحاضرَ على أربعةِ أقسامٍ: أحدُها: أَنْ يَعْدَمَ الآلةَ التي يَرفع بها الماءَ، وحكمُه التيممُ. والثاني: أن يَخشى فواتَ الوقتِ إن تَشاغَلَ بالطَّلَبِ. والثالث: أن يكونَ في بئرٍ يَخشى إن تَشاغل برفعِه يَذْهَبُ الوقتُ. والرابع: أن يكونَ في إناءٍ، ويخشى فواتَ الوقتِ إن اشتغلَ باستعمالِه. وحكى اللخمي والمازري في القسمِ الثاني ثلاثةَ أقوالٍ: أحدُها: يتيممُ ويصلي، ولا إعادةَ عليه. والثاني: يُعيد إن وَجَدَ الماءَ في الوقتِ.

والثالث: يَطلب الماءَ، وإن خشي فواتَ الوقتِ. وصَوَّبَ اللخميُّ إلحاقَه بالمسافرِ لتحصيلِ مصلحة الوقتِ. وذكر في المدونة في القسم الثالث أنه يتيمم. وحكى ابن شاس فيه وفي الرابع روايتين: قال: واختار المغاربةُ الاستعمالَ تمسكاً بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً} (المائدة: 6). خليل: واعلم أنه في المدونة لم ينص على التيمم إلا في القسم الثالث، وأما الرابعُ فلم يُنَصَّ عليه، وما شَهَّرَهُ المصنفُ فيه رواه الأبهريُّ عن مالك على ما نقله المازري وغيرُه، وهو مذهبُ ابنِ القصار وعبدِ الوهاب وغيرِهما من العراقيين، وهو مقتضى الفقه، وهو اختيار التونسي وابن يونس، ولا أَعْلَمُ مَنْ شَهَّرَهُ، وحكى في النكتِ عن بعضِ الشيوخِ أنه لا يُختلف في استعمالِ الماءِ لمن هو بَيْنَ يديه. وقوله: (وَعَنْهُ يُعِيدُ الْحَضَرِيُّ) تَقَدَّمَ. وَكَالْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَالِهِ عَلَى الأَصَحِّ الأصحُّ راجعٌ إلى المالِ لعَدَمِ الخلافِ في النَّفْسِ، وقاله ابن عبد السلام وابن هارون. قال ابن بشير: والقولُ بأنه لا يَتيمم إذا خاف على مالِه بعيدٌ، وأحسنُ ما يُحمل عليه إذا لم يتيقن الخوفَ، ولا غَلَبَ على ظَنِّه. قال ابن عبد السلام: ويَنبغي أن يُفصل في الماءِ بين اليسيرِ والكثيرِ، وهو الذي أراه، والله أعلم. وفي الإعادةِ في الوقت بعد ذلك نظرٌ كالمصلي على الدابةِ خوفاً مِن اللصوصِ والسباعِ. وَكَظَنِّ عَطَشِهِ أَوْ عَطَشِ مَنْ مَعَهُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ دَابَّةٍ لتأكدِ حِفْظِ النفوسِ، وفَصَّلَ ابن عبد السلام في الدابةِ، فقال: وأما الدابةُ فإن كان لا يَبْلُغُ إلا عليها فكذلك، وإلا اعتُبرتْ قيمتُها إن لم يُؤكل لحمُها، أو ما بَيْنَ قيمتِها حيةً

ومذبوحةً إن أُكِلَ لحمُها، فإن كان ذلك لا يُجْحِفُ به ذَبَحَها، وإن أَجحف به أبيح له التيممُ. خليلٌ: وفيه نظرٌ، لأنه يَقتضي أن الحيوانَ الذي لا يُؤكل لحمُه وثمنُه يسيرٌ يَتْرُكُه يموتُ ويَتوضأ، ولا أَظُنُّ أحداً يقول بذلك؛ لأنه لا يَجوز قَتْلُ الحيوانِ لغيرِ ضرورةٍ، والظاهرُ أنه إذا كان معه كلبٌ أو خنزيرٌ أنه يقتلُهما، ولا يَدَعُ الماءُ لأَجْلِهِما، وإن كان ابن هارون قد تَرَدَّدَ في ذلك لأن المذهبَ جوازُ قَتْلِ الكلبِ، صَرَّحَ به غَيْرُ واحدٍ، وكذلك المذهبُ جوازُ قتلِ الخنزيرِ، صَرَّحَ به اللخميُّ في بابِ الصيدِ. وإذا جاز قتلُهما، وكان الانتقالُ إلى التيممِ– مع القُدْرَةِ على الماءِ– غيرُ جائزٍ تَعَيَّنَ قَتْلُهما، والله أعلم. تنبيه: قول المصنف: (وَكَظَنِّ عَطَشِهِ) قريبٌ منه في الجواهر، والذي في كتب أصحابِنا كالمدونةِ والجلابِ والتلقينِ وابنِ بشير وغيرِها: إذا خاف عطشَه أو عطشَ مَنْ معه فإنه يتيمم. وأنت إذا تَأَمَّلْتَ العبارتين وجدتَ بينهما فَرْقاً؛ لأن عبارة المصنف تقتضي أنه– إذا شكَّ في العطشِ أو تَوَهَّمَه– لا يَجوز له التيممُ بخلاف عبارتهِمِ. وَكَخَوْفِ تَلَفٍ، وَكَزِيَادَةِ مَرَضِ، أَوْ تَأَخِيرِ بُرْءٍ، أَوْ تَجْدِيدِ مَرَضٍ عَلَى الأَصَحِّ [30/ب] الأصحُّ راجعٌ إلى ما بَعْدَ التَّلَفِ لعَدَمِ الخلافِ في التَّلَفِ. والظاهرُ الأصحُّ؛ لأن في إلزامهِ استعمالَ الماءِ حينئذٍ حَرَجاً. وَكَالْمَجْدُورِ وَالْمَحْصُوبِ يَخَافَانِ الْمَاءَ أي: فيفصل بين أن يَخاف التلفّ أو ما دوُنَه، كما تقدم

ابن راشد: وأَفْرَدَهُ تنبيهاً على محلِّ الدليلِ. روى ابنُ وهب في المدونةِ أن رجلاً في غزوةِ خيبرَ أصابه جُدَرِيٌّ، وأصابَتْه جنابةٌ، فغسله أصحابُه، فَتَهَرَّأَ لحمُه فماتَ. فَذُكِرَ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيه أَنْ يُيَمِّمُوهُ بالصعيدِ" انتهى. رواه أبو داود والدارقطني، وفي أبي داود بعد قوله: "قتلَهم الله، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لم يَعْلَمُوا؟ إِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السؤالُ، إِنَّما كان يَكفيه أن يَتيممَ أو يَعْصِبَ– شك موسى– على جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثم يَمْسَحُ عليها، ويَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِه". وَكَشِجَاجٍ غَمَرَتِ الْجَسَدَ وَهُوَ جُنُبٌ، أَوْ أَعْضَاءَ الْوُضُوء وَهُوَ مُحْدِثٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَبْقَ إِلا يَدٌ أَوْ رِجْلٌ .... الشَّجَّةُ مخصوصةٌ بالرأسِ، والجرحُ يُطلقُ على الرَّاسِ وغيرِه مِن الجسدِ، فاستعمالُ المصنفِ الشجةَ في غيرِ الرأسِ بطريقِ التجوزِ. ومقتضى كلامِه أنه لو بقي الأقلُّ من جسدِه صحيحاً– مما فَوْقَ اليَدِ والرِّجْلِ– لزمَه استعمالُ المالِ لتقييدِه باليَدِ والرِّجْلِ. واعلمْ أن لهذه المسألةِ– اعني ما إذا كان أكثرُ جَسَدِه جريحاً– صورتين: إحداهما: أن لا يَصِلَ إلى غسلِ الصحيحِ إلا بضَرَرٍ يَلْحَقُ الجريحَ، فهذا يتيممُ. وإِنْ كان الأقلُّ متميزاً أو يُمكنُه غسلُه بدونِ ضررٍ يَلْحَقُ الجريحَ– غَسَلَهُ ومَسَحَ الجريحَ، إلا أن يَقِلَّ كاليّدِ والرِّجْلِ. وقولُ ابنِ الجلابِ: ومَن كانتْ به جراحٌ في أكثرِ جسدِه وهو جنبٌ، أو في أعضاءِ وضوئِه وهو مُحْدِثٌ– تَيَمَّمَ. إِنْ عَنَى به أن الأكثرَ متفرقٌ في الجَسَدِ، فهذا موافقٌ لمذهب المدونةِ، وإلا فهو مخالفٌ. قاله سَنَدٌ. خليل: ويتحققُ هذا بذِكْرِ لفظِ المدونةِ، ونصُّها: قلتُ: أرأيتَ الذي كَثُرَتْ جراحاتُه في جسدِه حتى أَتَتْ على أكثرِ جسدِه، كيف يُصَلِّي في قولِ مالكٍ؟ قال: هو بمنزلةِ المجدورِ والمحصوبِ إذا خافا على أنفسِهما وقد أصابتهما جنابةٌ أنهما يتيممان لكِّل صلاةٍ. قُلْتُ: فإن

كان بعضُ جسدِه صحيحاً ليس فيه جراحٌ، وأكثرُ جسدِه فيه الجراحُ؟ قال: يَغْسِلُ ما صَحَّ مِن جسدِه، ويمسحُ على موضعِ الجراحِ. قلتُ: هذا قولُ مالكِ؟ قال: نعَمْ. وإنما عَدَلْتُ عن لفظِ التهذيبِ هنا؛ لأنه قال فيه: والذي أَتَتِ الجراحُ على أكثرِ جسدِه ولا يستطيعُ مَسَّهُ بالماء، ثم ذكر بعد هذا أنه يَتيمم. واعتُرِضَ عليه بأن ما ذَكَرَه مِن قولِه: ولا يستطيعُ مَسَّه. ليس في المدونة، وهذا مِن المواضعِ التي تَعَقَّبَها عبدُ الحق عليه. تنبيه: قال أبو الفرج وابنُ عبد البر، وصاحبُ الإرشاد: جريحُ أكثرِ الجسدِ فَرْضُه التيممُ. فرع: فلو اغتسلَ أجزَأَه. نصَّ على ذلك المازريُّ في باب الصلاة، ونصَّ عليه صاحبُ الذخيرةِ، ولفظُه: ولو تحمل المشقةَ، وغسلَ الجميعَ أجزأَه؛ لأن التيممَ رخصةٌ، كما لو صَلّى قائماً مع مبيحِ الجلوسِ. وكذلك نَصَّ اللخميُّ على أن المريضَ الذي يَخشى إن صام حصولَ عِلَّةٍ أو تأخيرَ بُرْءٍ على أنه إِنْ صامَ يُجزئُه، وكذلك قال المصنف في باب الظهار: ولو تكلفَ المعسرُ العِتْقَ جاز. فَلَوْ غَسَلَ مَا صَحَّ وَمَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ لَمْ يُجْزِهِ، كَصَحِيحٍ وَجَدَ مَاءً لا يَكْفِيهِ فَغَسَلَ وَمَسَحَ الْبَاقِيِ ... يعني: إذا كان حكمُه التيممَ، كما لو لم يبقَ له إلا يَدٌ أو رِجْلٌ، فَغَسَلَ اليدَ أو الرِّجْلَ، ومَسَحَ على الجبائرِ– لَمْ يُجْزِهِ ذلك لعدمِ إتيانِه بالأصلِ، ولا بالبَدَلِ. والتشبيهُ الذي ذكره المصنِّفُ هو لأبي بكر بن عبد الرحمن، ونقضَه ابنُ محرز بمَنْ كان بعضُ جسدِه جَريحاً، فإنه يَغْسل ما صَحَّ ويَمسحُ على الجِرَاحِ. ولو وجد الصحيحُ هذا القدرَ من الماء لم يَلْزَمْه استعمالُه.

وفي هذا التشبيه تنبيهٌ على مذهبِ الشافعيِّ، فإنه يقولُ: لو وجد الماءَ لبعضِ أعضائهِ أنه يَسْتَعْمِلُه، ثم يتيمم. ومنشأُ الخلافِ قولُه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] هل هو محمولٌ على وجودِ الكفايةِ أو على مطلَقِ الوجودِ؟ فإن قلتَ: كيف اختلف مالك والشافعي في واجِدِ ما لا يَكفيه، واتفقا على أنه إن وَجَدَ بَعْضَ الرقبةِ لا يَعْتِقُ، ويَصوم؟ فالجوابُ أن الله عز وجل لما قدَّم ذِكْرَ الرقبة في صدرِ آيةِ الكفَّارَةِ في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] اتُّفِقَ على أن قولَه تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] محمولٌ على مَن لم يَجِدْ ما تَقَدَّمَ النَّصُّ عليه، بخلافِ آيةِ الوضوءِ، فإنه لم يتقدم ذِكْرُ الماءِ في صَدْرِها، ولذلك جاء الاضطرابُ. ومما يناسبُ هذا ما نَقَلَه المازريُّ عن بعضِ العلماءِ أنه إذا وَجَدَ ما يُزيل به بعضَ ما عليه مِن النجاسةِ– أنه يَجِبُ عليه إزالةُ ذلك البعضِ. وكذا قال المازري: يَجِبُ عليه سترُ ما قَدَرَ عليه مِن عورتِه إذا لم يَجِدْ إلا ما يَكفيه لبعضِها. وفَرَّقَ بينهما وبين المتيممِ الواجِدِ دونَ الكفايةِ– أَنَّ وَاجِدَ الماءِ إنما لم يَجِبْ عليه استعمالُ ما لا يَكفيه لأنه فَعَلَ بَدَلاً يَقوم مقامَه، وهو التيممُ، بخلافِهما. قال: ومما يَنْخَرِطُ في هذا المسلكِ المضطرُ للميتةِ، وعنده اليسيرُ مِن الطعامِ الذي لا يَسُدُّ رمَقَه، فإنه يَجِبُ عليه أَكْلُه، ثم بَعْدَ أَكْلِه يَنتقلُ إلى الميتةِ. ولا يكون هذا حُجَّةً لمن قال: إن الواجِدَ مِن الماءِ ما لا يَكفيه يَجِبُ عليه استعمالُ ما وَجَدَ؛ لأن اليسيرَ مِن الطعامِ له أَثَرٌ في إمساكِ الرَّمَقِ، فلذلك وَجَبَ استعمالُه، والغرضُ مِن الطهارةِ رفعُ الحَدَثِ، وهو لا يَرتفعُ إلا بالفراغِ مِن الطهارةِ. قال: وأما مَن قال: يَرتفعُ حَدَثُ كُلِّ [31/أ] عضوٍ بالفراغِ منه، ففي انفصالِه عن مذهبِ الشافعيِّ وإلزامِه كلامٌ يَغْمُضُ. انتهى.

وَفِيهَا: مَنْعُ الْمُسَافِرِ مِنَ الْوَطْءِ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهمَا. وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَطُولَ، وَكَذَلِكَ مَنْعُ الْمُتَوَضِّئِينَ مِنَ التَّقْبِيلِ، وَأَجَازَهُ فِي الشَّجَّةِ النَّاقِلَةِ إِلَى الْمَسْحِ أَوْ إِلَيْهِ لِطُولِ أَمْرِهِ. في كلامِ المصنفِ نظرٌ؛ لأن قوله: (وَقِيلَ) لم يَقُلْ أحدٌ إنه خلافلإ، وإنما هو تقييدٌ. قاله ابنُ عبد السلام، وابن هارون. وعلى هذا ففي الطُّولِ يَجوزُ اتفاقاً، لا إن لم يَطُلْ على الْمَشْهُورِ خلافاً لابنِ وهب. وعلى ما قاله المصنفُ يَنْعَكِسُ النَّقْلُ. والضمير في (أَجَازَهُ) عائدٌ على الوطءِ، وفي (إِلَيْهِ) عائِدٌ على التيمم. قال في المدونة: وليس كمَنْ به شِجَاجٌ أو جِرَاحٌ لا يستطيعُ الغُسْلَ بالماءِ، هذا له أن يَطَأَ لطُولِ أَمْرِه. انتهى. وأما التقبيلُ فهما يشتركان في المَنْعِ إذا كانا على وضوءٍ. وَوَقْتُهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لا قَبْلَهُ عَلَى الأَصَحِّ ما ذَكَرَ أنه الأصحُّ، قال غيرُه: هو المشهورُ. ووجهُه أنها طهارةٌ ضروريةٌ، ولا ضرورةَ لِفِعْلِها قَبْلَ وَقْتِ الصلاةِ. ومقابلُه لابنِ شعبانَ، وبناه بعضُهم على القولِ بأنه يَرْفَعُ الحَدَثَ، وفيه نظرٌ. ولا يَصِحُّ إلا في حَقِّ العاجِزِ عن استعمالِ الماءِ، أو العالِمِ بعَدَمِه، وأما الطامِعُ فيه، والشاكُّ فلا يُمكن أن يَاتِى فيه. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الآيسَ أَوَّلُهُ، وَالرَّاجِيَ آخِرَهُ. وَقِيلَ: وَقَبْلَهُ، وَالْمُتَرَدِّدَ وَسَطَهُ. وَرُويَ: آخِرَهُ فِي الْجَمِيعِ. وَقِيلَ: وَسَطَهُ إِلا الرَّاجِيَ، فَيُؤَخَّرُ. وَقِيلَ: آخِرَهُ إِلا الآيسَ فَيُقَدَّمُ. والمرادُ بـ (أَوَّلُهُ) وما بعدَه الوقتُ المختارُ، ولا فَرْقَ في المتردِّدِ بين أن يكونَ تردُّدُه في إدراكِ الماءِ أو وجودِه، وتصورُ كلامِه واضحٌ.

ويُلحق بالمترددِ الخائفُ مِن السباعِ ونحوِها، والمريضُ الذي لا يَجِدُ مَن يُناولُه، ومعنى يَتيمم في آخره، أي: في آخِرِ ما يَقَعُ عليه وقتٌ. وَفِيهَا: التَّاخِيرُ بَعْدَ الْغُرُوبِ إِنْ طَمِعَ فِي إِدْرَاكِ الْمَاءِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ ذَكَرَ هذه المسألةَ لأنها كالنقضِ لما قَدَّمَ؛ لأن التأخيرَ إنما يكونُ في الوقتِ المختارِ. والمغربُ لا حَظَّ لها في ذلك، إِذْ وقتُها مُقَدَّرٌ بفعلِها بعد تحصيلِ شروطِها، وهذه المسألة– والله أعلم– إنما هي مبنيةٌ على أن وقتَ الاختيار ممتدٌّ إلى مغيب الشَّفَقِ، وهو الظاهرُ. وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في ذلك. فَإِنْ قَدَّمَ ذُو التَّاخِيرِ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ أَبَداً. وَقِيلَ: فِي الْوَقْتِ، وَتَحْتَمِلُهُمَا. وَقَيلَ: وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ (ذُو التَّاخِيرِ) هو الراجي، و (قَدَّمَ) أي: في أول الوقت. وأَشْعَرَ بذلك لفظُه، إِذْ هو المتبادِرُ إلى الذِّهْنِ، ويدخلُ في كلامِه المتيقنُ للماءِ؛ لأنه صاحبُ تأخيرٍ. وقد حكى ابن شاس في الراجي والمتيقنِ إذا قَدِمَا أولَ الوقتِ ثلاثةَ أقوالٍ: الإعادةُ في الوقتِ لابن القاسم، والإعادةُ أبداً، والتفصيلُ: فيُعيد المتيقنُ أبداً، والراجي في الوقت لابن حبيب. ومِنْ ثَمَّ اعتُرِضَ على المؤلفِ في تقديمِ قولِ غيرِ ابنِ القاسمِ. ووجهُ احتمالِ المدونةِ للقولين أنه قال فيها: وإن كان على يقينٍ مِن إدراكِ الماءِ في الوقتِ أَخَّرَ الصلاةَ إلى آخِرِ الوقتِ، فإن تيمم في أولِ الوقتِ وصَلَّى– أَعَادَ الصلاةَ إن وَجَدَ الماءَ في الوقتِ. فقوله: (فِي الْوَقْتِ) يحتمل أن يَكون ظَرْفاً للوجودِ أو للإعادِة، فإن كان للإعادةِ فلا احتمالَ، وإنما الاحتمالُ على جَعْلِه ظَرْفاً للوجودِ.

قال ابن عطاء الله: ومنشأُ الخلافِ: هل التأخيرُ مِن بابِ الأَوْلَى، أو مِن باب الأَوْجَبِ؟ إلا أن لفظ المدونة في هذه المسألة بيِّن فيه. وقال: أَرى أن يُعيد هذا في الوقت إن وَجَدَ الماءَ في الوقتِ. فقد أَسَاءَ أبو سعيِدٍ إِذْ نَقَلَ اللفظَ الصريحَ بلفظٍ محتَمِلٍ، ولم يَذكر عبدُ الحق هذا المكانَ في تعقبِه. انتهى. وعلى هذا فالمدونةُ لا احتمالَ فيها، والمسألةُ مقيدةٌ بما إذا وَجَدَ الماءَ المرجوَّ، وأما إن وَجَدَ غيرَه فلا إعادةَ عليه. قاله ابن عبد السلام. والله أعلم. فَإِنْ قَدَّمَ ذُو التَّوَسُّطِ لَمْ يُعِدْ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاتِّفَاقٍ (ذُو التَّوَسُّطِ) هو المترَدِّدُ، ومفهومُ كلامِه أنه يُعيد في الوقت، وفيه تفصيلٌ، فإن كان تَرَدُّدُه في وجودِ الماءِ وعدمِه، فوَجَدَهُ بَعْدَ صلاتِه– فلا إعادةَ عليه، وإن ترددَ هل يبلغُ الماءَ المعهودَ أم لا يبلغُه فبَلَغَه بَعْدَ صلاتِه– فإنه يُعيد في الوقتِ، وكذلك الخائفُ من اللصوصِ، وكذلك المريضُ العادمُ المناوِلَ. ومفهومُ كلامِ المصنفِ أن القسمَ الأولَ يُعيد، وليس كذلك. وما حكاه المصنفُ من الاتفاقِ حكاه المازري. فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الصَّلاةِ بَطَلَ، وَفِي الصَّلاةِ لا يَبْطُلُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي رَحْلِهِ قَطَعَ أي: إن المتيمم إذا وَجد الماءَ قبل دخولِه في الصلاة بَطَلَ تيممُه، ووَجَبَ عليه استعمالُه، يريد إذا كان الوقتُ متسعاً، وإن كان ضيقاً إِنْ توضأ به لم يُدْرِكِ الصلاةَ– لم يَجِبْ عليه استعمالُه على الصحيح مِن المذهب، قاله اللخمي. وقوله: (وَفِي الصَّلاةِ) أي: إن وَجد الماءَ بعد دخولِه في الصلاة لا يَبْطُلُ تيممُه ويَتمادى على صلاتِه.

ابنُ العربي: ويَحْرُمُ عليه القَطْعُ. وخَرَّجَ اللخمي قولاً بالقَطْعِ من الأَمَةِ تَعْتِقُ وهي في الصلاةِ مكشوفةَ الرأسِ، والعريانِ يَجِدُ ثوباً وهو في الصلاة، ومَنْ ذَكَرَ صلاةً في صلاةٍ، والمسافرِ يَنوي الإقامةَ بَعْدَ ركعةٍ، ومَن صلى بقومٍ ركعةً من الجمعةِ فقَدِمَ والٍ فعَزَلَه؛ فإِنَّ في الجميعِ قَوْلاً بالقَطْعِ، وفيه نَظَرٌ، أما تخريجُه على الأَمَةِ والعُريانِ فلأنَّ [31/ب] المتيممَ دَخَلَ بِبَدَلٍ بخلافِهما، وأما تخريجُه على مَن ذَكَرَ صلاةً في صلاتِه– فإِنَّ مستندَ مَن قال هنا بالقَطْعِ قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنما ذلك وقتُها". والوقتُ الواحدُ لا يُتصور إيقاعُ صلاتين فيه بخلافِ المتيمم؛ ولأن المَنْسِيَّةَ تَقَدَّمَ العِلْمُ بها، بخلافِ الماءِ، وأما تخريجُه على المسافرِ فلأنَّ الإبطالَ جاءَ مِن جهتِه بخلافِ المتيممِ، وأما تخريجُه على مسألةِ الوالي فلأنَّ القولين فيه مبنيان على أنَّ الاستنابةَ هل تَبْطُلُ بِنَفْسِ العَزْلِ أو لا تبطل إلا بوصول الثاني إليه؟ وهو قصدُ المُستنيبِ، إذ لا يَقْصِدُ إهمالَ أَمْرِ الناسِ مِن وقتِ وقوعِ العزل بخلافِ التيممِ، فإنه إنما جُعل نائباً عن الماء في القيامِ إلى الصلاةِ، بدليلِ قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] والله تعالى أعلم. وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي رَحْلِهِ قَطَعَ) يعني: لتفريطِه، كذكرِه الرقبةَ بَعْدَ الصيامِ ناسياً، وحكى ابن راشد قولاً في المتيمم بالتمادي. فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَوَجَدُوا مَا يَكْفِي أَحَدَهُمْ فَإِنْ بَادَرَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُ الْبَاقِينَ، وَإِنْ أَسْلَمُوهُ اخْتِيَاراً فَقَوْلانِ .... هذا راجع إلى قوله: (فإن وجده قبل الصلاة بطل) وإنما لم يَبْطُلْ تيممُ الباقين؛ لأن وجودَ الماء إنما يَبطلُ مع القدرةِ على الاستعمالِ، فإذا بادَرَ إليه أحدُهم فهو أَحَقُّ به، والباقون معذورون إِذْ ليس لهم قدرةٌ عليه. وأمَا إِنْ أَسْلَمُوه اختياراً فقيل: يَبْطُلُ تيممُ كلٍّ منهم؛ لأن الماءَ شركةٌ بينهم، فالحكمُ فيه القُرْعَةُ، فإذا أسلموه فكأَنَّ كلَّ واحدٍ منهم مُسْلِمٌ لجميعِه؛ لجوازِ ملكِه له بالسهمِ.

والثاني لا يَبْطُلُ – وهو الأظهرُ– لأنَّ ما تركوه مِن هذا الماء غايتهُ أن يكون مملوكاً لهم، فكُلُّ واحدٍ منهم لم يَملك ما يُكْمِلُ به الطهارةَ، فلم يَبْطُلْ التيممُ. والقولان لسحنون، قاله في البيان. فرع: في العتبية: قيل لسحنون: لو أن رجلاً معه ماءٌ، قال لرجلين قد تَيَمَّمَا: وهبتُ لأحدِكما. ولم يُسَمِّ أحداً، فقال: قد وَجَبَ لأحدِهما وهو مجهولٌ ولا يُعْرَفُ، وليس لهما رَدُّ هذه العطيةِ؛ لأنها مِن البِرِّ، فإنْ أَسْلَمَه أحدُهما لصاحبِه فقد انتقضَ تيممُه. وكذلك لو قال لثلاثةٍ أو أربعةٍ: هو لأحدكم. فأَسْلَمُوه لواحدٍ منهم– انتَقَضَ تيممُهم. قيل له: فلو أَعْطَى ذلك لجماعةِ جيشٍ أو لقومٍ كثيرين، فأَعْطَوْه واحداً. فقال: أما إذا كثروا فأَرَى تيممَهم تامّاً. قيل: فلو قال لثلاثةٍ: هذا الماءُ لكم. فقال: ليس هذا مِثْلَ الأَوَّلِ؛ لأن هذا قد وَجَبَ لكلِّ واحدٍ نصيبهُ بلا شَكٍّ، وليس في نصيبهِ ما يَكفيه لوضوئِه، فإذا هو أعطى نصيبَه لم يَنْتَقِضْ تيممُه. قال في البيان: تأوَلَ ابنُ لبابة على سحنون في هذه المسألة أنه إذا قال: قد وهبتُ هذا الماءَ لأحدِكم– فسواءٌ أكانوا ثلاثةً أو اثنين، أو عشرةَ آلافٍ– ينتقضُ تيممُ الجميعِ. وإن قال: قد وهبتُ هذا الماءَ لكم. فلا يَنتقضُ إلا تيممُ مَنْ أُسْلِمَ إليه– كانوا اثنين أو عشرةَ آلافٍ. والظاهرُ مِن قولِه خلافُ ذلك أنه إذا كان عددُهم كثيراً فسواءٌ أقال: هذا الماءُ لكم، أو هو لأحدِكم. لا ينتقضُ إلا تيممُ الذي أُسْلِمَ إليه الماءُ وَحْدَهُ. وإن كان عددُهم يسيراً كالرجلين والثلاثةِ، ونحوِ ذلك، فقال: هذا الماءُ لأحدِكم. انتقضَ تيممُهم إِنْ أَسْلَمُوه لواحدٍ منهم. وإن قال: هذا الماءُ لكم. لم ينتقضْ إلا تيممُ الذي أُسْلِمَ إليه وَحْدَهُ. انتهى. وكأنه إنما فَرَّقَ في (لأَحَدِكُمْ) بَيْنَ الجماعةِ اليسيرةِ والكثيرةِ لعمومِ الحرجِ في حقِّ الجماعةِ الكثيرةِ.

قال في البيان: وقوله: إن قال هذا الماء لكم، لم ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده. إنما يأتي على أحد قوليه المتقَدِّمَيْنِ، يُريد في مسألةِ المصنفِ، وهي قوله: (وَإِنْ أَسْلَمُوهُ اخْتِيَاراً فَقَوْلانِ). وَمَنْ تَيَمَّمَ ِفي وَقْتِهِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ فَلا إعَادَةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَالْمُقَصِّرِ فَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَيَحْتَمِلُ أَبَداً كالشَّاكِّ، هَلْ يُدْرِكُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ، وَالْمُطِّلِعِ عَلَيْهِ بِقُرْبِهِ، وَالْخَائِفِ، وَالْمَرِيضِ الْعَادِمِ الْمُنَاوِلَ لِتَقْصِيرِهِ فِي الاسْتِعْدَادِ .... إنما قَيَّدَه بـ (وَقْتِهِ) ليُخْرِجَ ما تَقَدَّمَ في ذِي التأخيرِ وذِي التَّوَسُّطِ إذا قَدَّمَا. قال في المدونة: ويتيممُ المريضُ الذي يَجِدُ الماءَ، ولا يَجِدُ مَن يُناولُه إياه، والخائفُ الذي يَعلم موضعَه ويخاف أَلاَّ يبلغَه. وكذلك الخائفُ مِن سباعٍ أو لصوصٍ في وسطِ وقتِ كلِّ صلاةٍ، ثم إن وَجَدَ الماءَ في الوقتِ أَعَادَ. فقولُه: (أعاد) يحتمل أن يُريد في الوقتِ، ويحتمل أن يُريد أبداً، فهذا معنى قوله: ويحتمل أبداً. وما رأيتُ من ذَهَبَ إلى أن المدونةَ تحتملُ الإعادةَ أبداً مع ضعفِه مِن جهةِ النَّظَرِ؛ لأن كُلاًّ منهم تيممَ في الوقتِ المأذونِ له فيه. وقوله: (كالشَّاكِّ، هَلْ يُدْرِكُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ) تحرز مما لو لم يكن عنده عِلْمٌ، فإنه لا إعادةَ عليه؛ لأنه استَنَدَ إلى أصلٍ، وهو العَدَمُ، ولا يُتصور التقصيرُ في جميعِ الصُّوَرِ. وقوله: (وَالْمُطِّلِعِ عَلَيْهِ بِقُرْبِهِ) يعني: لتقصيرِه في الطَّلَبِ. وقوله: (وَالْخَائِفِ) أي: مع تَيَقُّنِ الماءِ، ولو لم يتيقَنْه لم يُعِدْ. وعبارةُ المصنفِ قاصرةٌ، قال شيخُنا: وإعادةُ الخائفِ مُشْكِلَةٌ، إِذْ لا يَجوز أن يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ. وعادمُ المناوُلِ إِنْ كان ممن يتكررُ عليه الداخلونَ فليس بمُقَصِّرٍ، وزِيدَ ناسِي الماءِ في رَحْلِه، يُعيدُ في الوقتِ على مذهب المدونة، وعلى هذا فالمعيدون في الوقتِ خمسةٌ على مذهبِ المدونةِ.

وأَوْرَدَ عليه [32/أ] ابنُ راشد أن مسألةَ المطلعِ عليه بقُرْبِه ليستْ في المدونة، وإنما حكاها ابنُ يونس عن ابنِ القاسم، وكلامُ المصنف يُوهِمُ أنها فيها. وقد يُقال: لا دلالة في كلامِ المصنفِ على أن جميعَ المسائلِ في المدونةِ. وَفِي نَاسِي الْمَاءِ فِي رَحْلِه، ثَالِثُهَا: لابْنِ الْقَاسِمِ، يُعيد فِي الْوَقْتِ أي: وفي إعادة ناسي الماء في رَحْلِه- يُريد ولم يَذَكَرَه إلا بَعْدَ الصلاةِ- ثلاثةُ أقوالٍ: الأولُ: الإعادةُ أبداً، وهو قول أصبغ ومطرف وابن الماجشون لأنه مُفَرّطٌ، وأيضاً فهو كمظاهِرٍ كَفَّر بالإطعامِ مع نسيانِ الرقبةِ، فإنه لا يُجزئُه. ابن عطاء الله: وهو الْمَشْهُورِ. وفيه نظر؛ لأنه خلافُ روايةِ ابن القاسمِ في المدونةِ. والثاني: نفيُ الإعادةِ، رواه ابنُ عبد الحكم عن مالك، زاد: وإن أَعَادَ فحَسَنٌ؛ لأنه معذورٌ بالنسيانِ. والفرقُ بين ناسي الماءِ وناسي الرقبةِ أَنَّ الإعتاقَ غيرُ مؤقتٍ، والصلاةَ مؤقتةٌ، فإن ذَهَبَ الوقتُ فاتَ التَّلافِي. والثالث: الإعادةُ في الوقتِ مراعاةً للدليلين، وهي روايةُ ابنِ القاسمِ في المدونةِ، قاله ابنُ عطاء الله. أما لو ذَكَرَه قَبْلَ الدخولِ في الصلاة– بَطَلَ تيممُه اتفاقاً، نقله ابن عطاء الله، قال: وإن ذَكَرَ ذلك في الصلاة– فمَنْ يَقُولُ في المسألةِ المتقدمةِ بالإعادةِ يَقُولُ هنا: يَقْطَعُ. لأن صلاته عنده باطلةٌ، ومَن يَقول بعَدَمِ الإعادةِ يقول هنا بالتَّمادي؛ لأنه عنده كالعَادمِ. وقال ابن القاسم هنا: يقطع. مع أنه يقول: لو لم يَذْكُرْ حتى فَرَغَ لَصَحَّتْ. فللمُعترِضِ أن يقولَ: إمّا أن يُغَلَّبَ عليه حُكْمُ العادِمِ فيتمادَى على صلاتِه كما لو طَلَعَ عليه رجلٌ بماءِ، وإما أن يُغَلَّبَ عليه حُكْمُ الوَاجِدِ فينبغي أن تَجِبَ عليه الإعادةُ أبداً إذا ذَكَرَ بَعْدَ الفراغِ مِن الصلاةِ.

وطريقُ الجوابِ عندي أن يُقال: إِنَّ هذا المكَلَّفَ تعارضتْ فيه شائبتان؛ شائبةُ أنه واجِدٌ في نَفْسِ الأَمْرِ، وشائبةُ أنه عادِمٌ في ظَنِّهِ، والمرءُ مكلَّفٌ بما غَلَبَ على ظَنِّهِ، فإن ذَكَرَ قَبْلَ الفراغِ– غُلِّبَتْ عليه شائبةُ الواجِدِ؛ لِشَبَهِه بمَن ذَكَرَ قَبْلَ الشروعِ في الصلاةِ، لاشتراكِهما في عدمِ براءةِ الذمةِ. وإِنْ ذَكَرَ بعدَ أنْ يُسَلِّمَ غُلبت عليه شائبةُ العادمِ، إلا أَنَّا نَسْتَحِبُّ له الإعادةَ في الوقتِ مراعاةً للخلافِ. فَإِنْ أَضَلّهُ فِي رَحْلِهِ فَأَوْلَى أَلا يُعيد إنما كان أَوْلَى لعجزِه عنه بَعْدَ الإمعانِ في طلبهِ حتى خشيَ فواتَ الوقتِ. ابن راشد: والظاهرُ دخولُ الخلافِ في هذه الصورة؛ لأن معه بعضَ تفريطٍ، فيُمكن تخريجُ قولٍ بالإعادةِ فيها من المُطَّلِعِ عليه بِقُرْبِهَ، والله أعلم. ابن شاس: وظاهرُ روايةِ مطرفِ وابنِ الماجشون وأصبغَ الإعادةُ، يعني أبداً. فَإنْ أَضَلَّ رَحْلَهُ فَلا إِعَادَةَ إذا أَضَلَّ رَحْلَهُ بَيْنَ الرِّحَالِ وبَالَغَ في طلبِه– لم يُعِدْ في الوقتِ ولا في غيرِه. ابن راشد: ولم أَرَ في هذا خلافاً. وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ أَنْ يُعيد فِي الْوَقْتِ فَنَسِيَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِدْ بَعْدَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُعيد .... في قولِ ابنِ حبيبٍ نظرٌ، إِذْ الفرضُ أن الصلاة مستوفاةُ الشروطِ والأركانِ، وإنما الخللُ وَقَعَ في بعضِ كمالها، فأُمِرَ باستدراكِها في الوقتِ، فلو أُمِرَ بالإعادةِ أبداً لَلَزِمَ انقلابُ النفلِ فرضاً، وكأَنَّه يَرَى أنه لما أُمِرَ بالإعادةِ وتَرَكَ– صار كالمُخالِفِ لما أُمِرَ به.

وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَاءِ وَمَعَهُ جُنْبٌ فَرَبُّهُ أَوْلَى بِهِ إِلا أَنْ يَخْشَى الْجُنُبُ الْعَطَشَ فَيَضْمَنُ قيِمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ لا مِثْلَهُ عَلَى الأَصَحِّ .... رَبُّهُ أَوْلَى لا لكونِه ميتاً، بل لِمِلْكِه للماءِ، وَلَوْ كان حيّاً لكان أَوْلَى. وانظرْ كيفَ يُضَمَّنُ قيمتَه هُنَا مع ما قاله أهلُ المذهبِ إذا استهلكَ طعاماً في غلاءٍ، ثم حُكِمَ عليه في الرخاءِ، فإن الْمَشْهُورِ لا يُقْضَى عليه إلا بالمِثْلِ. وما قاله المصنفُ في بابِ قضاءِ الدَّيْنِ لو تَسَلَّفَ فُلُوساً ثم انقطعَ التعاملُ بها– فالْمَشْهُورِ المثلُ. وما قاله في باب الغصب: فإنْ فُقِدَ المِثْلُ صَبَرَ حتى يُوجد عند ابن القاسم، وله طلبُ القيمةِ الآنَ عندَ أشهبَ. إلا أن يُقال: لو أُخِذَ منه المِثْلُ لكان في موضعِ السَّلَفِ، وذلك في غايةِ الحَرَج، إِذْ الغالبُ أن الاحتياجَ للماءِ إنما يكونُ بموضعٍ يَتعذرُ الوصولُ إليه في كلِّ وقتٍ. ومكانُ السَّلَفِ عندنا معتبرٌ في ضمانِ المثلياتِ ما عدا الدراهم والدنانير، ويُراعى في القيمةِ الزمانُ والحالُ مِن كثرة الرُّفْقَةِ وقِلَّتِها، وكثرةِ الطلبِ له. ابن راشد: والحكمُ عندنا في قَفْصَةَ في المياهِ تُسْلَفُ في الصيفِ أو وقتِ الربيعِ- فإنها تكونُ حينئذٍ مطلوبةً، ولا كثيرَ ثَمَنٍ لها في أوائلِ الشتاءِ– بِالْقِيمَةِ، وأفتى بعضُ المعاصِرِينَ بالمِثْلِ. انتهى. وإنما كان الجنبُ أَوْلَى إذا خَشِيَ العطشَ لإحياءِ النفوسِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَفِي الأَوْلَى بهِ قَوْلانِ قال ابنُ القاسم: الحَيُّ أَوْلَى، ويَضْمَنُ قيمةَ نصيبِ الآخَرِ؛ لأنَّ غُسْلَ الجنابةِ مُجْمَعٌ عليه. وقال ابن العربي: الميتُ أَوْلَى؛ لأنها طهارةُ خَبَثٍ، وهي أَوْلَى؛ ولأنها آخِرُ طهارتِه مِنَ الدُّنْيَا. والجوابُ عن الأوّل مَنْعُ أن تكون طهارةُ الميتِ للخَبَثِ، ويعضِدُه أن التيممَ يَقومُ مقامَ الماءِ، وعن الثاني أنّ ما ذَكَرَه وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، فإن تطهيرَ الحيِّ بالماءِ يَعُودُ صلاحُه على الميتِ.

وانظر على قولِ القاضي: هل يُقْضَى للحَيِّ على وَرَثَةِ الميتِ بالقيمةِ، وإن زادت على الثلثِ أو لا يُقضى بها، وتكونُ في الثلث؟ فإن اجتمع حائض وجنب، فرأى ابن العربي تقديم الحائض؛ [32/ب] لأن موانع الحيض أكثر، واختلف الشافعية فيه. وَيَتَيّمَّمُ بالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَهُوَ وَجْهُ الأَرْضِ: التُّرَابُ وَالْحَجَرُ وَالرَّمْلُ وَالْمِلْحُ وَالسَّبْخُ والصَّفَا والشَّبُّ وَالنُّوَرَةُ وَالزِّرْنِيخُ وَغَيْرُهُ مَا لَمْ يُطْبَخْ لما كان المذهب في تفسير الصعيد الطيب بالطاهر – لزم أن يتيمم بكل ما ذكر. وإن كان قد وقع في تفسير الصعيد خلاف في اللغة، فالظاهر مذهب مالك – رحمه الله – لقوله صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لي الأرضُ مَسْجِداً وطَهُوراً" أخرجه البخاري ومسلم. والأرضُ لا تَخْتَصُّ بالترابِ، واستَدَلَّ مَن خَصَّصَ بالترابِ بما في الحديث الآخَرِ: "وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طَهُوراً". واعْتُرِضَ بمنعِ كَوْنِ التربةِ مرادفةً للترابِ، وادَّعَى أن تربةَ كلِّ مكانٍ ما فيه. وَلَوْ سُلِّمَ فهو مفهومُ لَقَبٍ، ولم يَقُلْ به إلا الدَّقَّاقُ، وَلَوْ سُلِّمَ فإنما يُعْمَلُ بالمفهومِ ما لم يُعارِضْه ما هو أقوى منه، وهَبْ أَنَّ هذا الحديثَ يدلُّ على التخصيصِ بالترابِ فالآخَر يَعُمِّ. واشْتُرِطَ عَدَمُ الطبخِ؛ لأن الطبخَ يُخرجُه عن ماهِيَّةِ الصعيدِ. وفي المنتقى: ولا يَجُوزُ التيممُ بالجِيرِ، ويجيءُ عل قولِ ابنِ حبيب أنه يجوزُ التيممُ به. والأولُ أصحُّ، لأنه قد تَغّيَّرَ بالطبخِ عن جِنْسِ أصلِه. انتهى. قيل: وأشار بقوله: (على قول ابن حبيب) إلى ما نَصَّ عليه ابنُ حبيبٍ، إذا كان الحائط آجُرّاً، أو حَجَراً، فاضطُرَّ إليه المريضُ فتيمم به لم تَكن عليه إعادةٌ؛ لأنه مضطرٌ.

التونسي: انظر قوله: آجُرّاً أو حَجَراً. والآجُرُّ طينٌ قد طُبِخَ، فكيف يَتيمم عليه وهو كالرمادِ؟ ومَنْ قَصَرَه على الترابِ جَعَلَ الطَّيِّبَ الُمنْبِتَ. والصَّفَا – مقصورٌ: الحجارةُ التي لا ترابَ عليها. وَظَاهِرُهَا كَابْنِ حَبِيبٍ بِشَرْطِ عَدَمِ التُّرَابِ. وَقيلَ: بالتُّرَابِ خَاصَّةً. وَعَلَى الْخَضَخَاضِ مِمَّا لَيْسَ بِمَاءٍ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ. وَقِيلَ: وَإِنْ وَجَدَ أي: وظاهرُ المدونةِ كقولِ ابنِ حبيبٍ أنه لا يتيممُ بما عدا الترابِ إلا بشرطِ عدمِه، كقول المُخْتَصِرِينَ: ويتيممُ على الجَبَلِ والحَصْبَاءِ مَنْ لم يَجِدْ تُراباً. وأَنْكَرَ هذا بعضُ المشارقةِ– أعني اختصارَ المدونةِ على هذا– وقال: إنما وَقَعَ هذا الشرطُ في المدونةِ مِن كلامِ السائلِ لا مِن كلامِ ابنِ القاسمِ فيحتَمِلُ ما ذَكَرَهُ، ويحتملُ الجوازُ عموماً، وهو مُتَّجِهٌ. قاله ابن عبد السلام. خليل: وما قاله– مِن أن الشَّرْطَ إنما هو في السؤالِ– صحيحٌ إن شاء الله. ونَصُّ الأُمِّ: سُئِلَ مالكٌ: أَيَتَيَمَّمُ على الجَبَلِ مَن لم يَجِدْ تُراباً؟ قال: نعم. ولم ينقل المصنفُ قولَ ابنِ حبيبٍ على ما يَنبغي، ونصُّه على نَقْلِ ابنِ يونس: قال ابن حبيبٍ: ومَنْ تَيَمَّمَ على الحصى، أو الجبلِ، ولا ترابَ عليه، وهو يَجِدُ تراباً أساءَ، ويُعيد في الوقتِ، وإِنْ لم يَجِدْ تراباً لم يُعِدْ. وقال ابن سحنون عن أبيه: لا يُعيد واجداً كان أو غيرَ واجِدٍ. قال في المقدمات: وظاهرُ المدونةِ عدمُ الإعادةِ. والقولُ بالقَصْرِ على الترابِ نقلَه ابنُ بشير وابنُ شاس. وقوله: (وَعَلَى الْخَضَخَاضِ) قال في المدونة: يُخَفِّفُ وَضْعَ يديه عليه. قال القاضي عياض: يخفف بالخاء، ويُرْوَى بالجيم. وجَمَعَ في المختصر بينهما بأنه يُخفف ويجففهما قليلاً. قال ابنُ حبيب: ويُحرِّكُ يديه بعضَهما ببعضٍ يسيراً إِنْ كان فيهما ما يُؤذيه، ثم يَمْسَحُ. ابنُ راشد: والقولُ بأنه يتيممُ به– وإِنْ وَجَدَ غَيْرَه– لم أَرَهُ.

وَفِيهَا: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: مَا حَالَ بَيْنَكَ وبَيْنَ الأَرْضِ فَهُوَ مِنْهَا يريد: هو استشهاد للمشهور، وقوله: (مَا حَالَ) يريد: من جنسِها من حجرٍ أو رملٍ، أو ملحٍ، أو نباتٍ. وحكى اللخمي عن ابن القصار جوازُ التيممِ على الحشيشِ، وأجاز في مختصرِ الوَقَارِ التيممَ على الخشبِ، وذكر بعضُ البغداديين أنّ في التيمم على الزَّرْعِ اختلافاً. وظاهرُ كلامِ يحيى بن سعيد مساواةُ الجميعِ، فلا يُقَدَّمُ بعضُ أجزائِها على بعضٍ. وَفِي المِْلْحِ وَالثَّلْجِ رِوَايَتَانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ روايةُ ابن القاسم عن مالك في المدونةِ الجوازُ، وقَيَّدَ ذلك بما إذا لم يَجِدُ غيرَه، ولعل المصنفَ تَرَكَه لما تَقَدَّمَ. وروايةُ أشهبَ عدمُه وَلَوْ لم يَجِدْ. قال اللخميُّ: جَعْلُه كالعَدَمِ. ونقلَها الباجيُّ روايةً لابنِ القاسمِ. وقيل: يَتيمم بالملحِ بالمعدنيِّ دُونَ المصنوعِ. وَلا يَتَيَمَّمُ عَلَى لَبَدٍ وَنَحْوِهِ لأنه ليسِ بِصَعِيدِ، إلا أن يَكْثُرَ ما عليه مِن الترابِ حتى يتناولَه اسمُ الصعيدِ. وَلَوْ نَقَلَ التُّرَابَ، فَالْمَشْهُورِ الْجَوَازُ، بِخِلافِ غَيْرِهِ. وجهُ الْمَشْهُورِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "وتُرْبَتُها لنا طَهُوراً" وظاهرُه العمومُ، ومقابِلُه لابن بكير، والأظهرُ أن اسم الصعيدِ لا يَتناولُه مع النقلِ إلا باعتبارِ ما كان عليه، وهو مجازٌ. وقوله: (بِخِلافِ غَيْرِهِ) أي: مِن الحَجَرِ، وما عُطِفَ عليه.

ابنُ عبد السلام، وابن هارون: وفي الفَرْقِ بينها وبين الترابِ بُعْدٌ. وقد حكى ابنُ يونس عن ابن المواز أن المريضَ إذا لم يَجد مَن يناوله تُراباً تَيمم بالجدارِ المبنيِّ بالحجارةِ إذا لم يكن مَسْتُوراً بالجِيرِ. ومن النوادر: قال عيسى عن ابن القاسم: وللمريضِ أن يَتيمم على الجدارِ إذا كان طُوباً نِيئاً مِن ضرورةٍ، مثلُ أن لا يَجِدَ مِن يُوَضِّئُه، ولا يُيَمِّمُه. وقال عنه ابن المواز: لا يتيمم عليه وهو طوبٌ أو حجارةٌ إلا مِن ضرورةِ، وإِن كُسِيَ بِجِيرٍ أو جِبْسٍ فلا يَتيمم عليه. وقال اللخمي بعد أن ذَكَرَ الْمَشْهُورِ وقولَ ابنِ بكيرٍ في الترابِ المنقولِ: ومثلُه لو أُتِيَ المريضُ بصخرٍ. على قولِ مَن يقول: يَتيمم بالصفا. جاز التيممُ، ولم يَجُزْ على قولِ ابنِ بكيرٍ. قال: ولا يختلف المذهب أن البَدَاءَةَ بالترابِ [33/أ] أَوْلَى. وقال مالك في السُّلمانيةِ: إذا نُقِلَ الكِبْرِيتُ، والزِّرْنِيخُ، والشَّبُّ، ونحو ذلك لا يُتيمم به؛ لأنه لما صار في أيدي الناسِ مُعَدّاً لمنفعتِهم أَشْبَهَ العَقَاقِيرَ. ويَتيمم على المَغْرَةِ؛ لأنها ترابٌ. ويحتمل أن يريد بقوله: (بخِلافِ غَيْرِهِ) أن فيه قولين، ولا مشهورَ فيهما، ويكون الفرقُ بين الترابِ وغيرِه قُوَّتَهُ، فانظرْ في ذلك كلِّه. وَفِيهَا: وَالْمُتَيَمِّمُ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ كَالْمُتَوَضِّئِ بِمَاءٍ غَيْرِ طَاهِرٍ يُعيدانِ فِي الْوَقْتِ، وَاسْتُشْكِلَ، وَقَالَ أيضاً: يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ وَيُعيد الْوُضُوءَ وَالصَّلاةَ فِي الْوَقْتِ، وَاسْتُشْكِلَ، وَحُمِلَ عَلَى الْمَشْكُوكِ .... وجهُ الإشكالِ ظاهرٌ؛ لأنه إذا انتفتِ الطهارةُ عن الترابِ كان الصعيدُ غيرَ طَيِّبٍ، وإذا انتفتْ عنِ الماء كان نَجِساً. وقوله: (وَقَالَ أيضاً) هو كالأَوَّلِ، وفيه زيادةُ أنَّ الأَمْرَ بالغَسْلِ مع الإعادةِ في الوقت كالمتناقِضِ.

وقوله: (وَحُمِلَ عَلَى الْمَشْكُوكِ) أي: الماءِ الذي وقعتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغَيِّرْ أَحَدَ أوصافِه، والترابِ المشكوكِ هو الذي خالطَتْه النجاسةُ ولم تَظْهَرْ فيه. وهذا الحَمْلُ لأبي الفَرَجِ، ولا يُمْكِنُ حَمْلُ الشكِّ في الترابِ على بِابِه، لقوله في المدونة: ومَن تيمم على موضعٍ أصابه بَوْلٌ أو عَذِرَةٌ فلْيُعِدْ ما كان في الوَقْتِ. قال ابن يونس بعد كلام أبي الفرج: وإن لم يُرِدْ هذا فلعله قد يُفَرَّقُ بين الماءِ والأرضِ بأن الماءَ ينقلُ المُحْدِثَ إلى أكملِ الطهارةِ، والتيممَ إنما ينقله عن حكمِ الحدثِ إلى وجودِ الماءِ، ويحتمل أن يكون الفرق بين المتيم على الموضع النجس، والمتوضئِ بماٍء قد تَغَيَّرَ لونُه أو طعمهُ– أن المتوضئَ يَنتقل إلى ماءٍ طاهرٍ في الحقيقة؛ لأنه يُدرك معرفتَه بالمشاهدةِ، والمتيمم إذا انتقل إلى ترابٍ آخرَ أَمْكَنَ أن يكون ذلك الترابُ نجساً؛ لأنه لا يُدركُ مشاهدتَه كما في الماء، فلذلك لم يُؤمر بالإعادةِ أبداً. والله أعلم. انتهى. واستُضْعِفَ هذا الأخيرُ؛ لأن القَدْرِ الذي يُتَوَصَّلُ إليه بالحواسِّ في الماء ممكنٌ في الترابِ. وقيل: إنما قال في الترابِ: أعاد في الوقت. لأنَّ الأرضَ تَسْفِي عليها الرياحُ الترابَ، فيختلطُ الطاهرُ بالنجسِ. وقال عياض: إنما قال: يُعيد في الوقت. مراعاةً لمن يقول: جُفُوفُ الأرضِ طُهورُها. وهو مذهبُ الحسنِ ومحمدِ ابن الحنفية. وَصِفَتُهُ أَنْ يَنَوِيَ اِسْتِبَاحَةَ الصَّلاةِ مُحْدِثَا أَوْ جُنُباً لاَ رَفْعَ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ لاَ يَرْفَعُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَيهِمَا وُجُوبُ الْغُسْلِ لَمَا يُسْتَقَبْلَ .... قدَّمَ النية وإن لم تكن مِن الصفةِ؛ لأن النيةَ شرطٌ لا يَصِحُّ التيممُ إلا بها. وفُهِمَ مِن هنا أن الاستباحةَ لا تَستلزمُ رَفْعَ الحَدَثِ، بل أعمّ، نَعَمْ يُمكن أن يُدَّعَى أن الاستباحةَ بالماءِ مساويةٌ لرفعِ الحدثِ. وظن الشرَّاحُ الثلاثةُ أن قوله: (وَعَلَيهِمَا) يقتضي وجودَ قول بأنه لا يَلزم استعمالُ الماءِ إذا وجده– وهو غيرُ موجود– حتى تأوَّلَ ذلك ابنُ هارون على أن الضميرَ عائدٌ

على الجنبِ والمحدِثِ. ورُدَّ بأن الغُسْلَ إذا أطلقَ في الاصطلاح إنما يُراد به الطهارةُ الكبرى لا الصغرى. والذي يَظهر أن معناه. – على كلٍّ مِن القولين– فيَجِبُ الغُسْلُ لما يُستقبل؛ لأنه وإِنْ رَفَعَ فإِلى غايَةٍ. وهكذا كان شيخُنا رحمه الله يقول: ودليلُ الْمَشْهُورِ قوله تعالى: {ولا جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [المائدة:6] على تأويلِ عليٍّ رضي الله عنه وقد تقدم، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لما بَعَثَه إلى غزوةِ ذاتِ السلاسلِ، واحتَلَمَ في ليلةٍ باردةٍ، وأَشْفَقَ إن اغْتَسَلَ هَلَكَ، فتيممَ وصَلَّى بأصحابهِ، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أَصَلَّيْتَ بالناسِ وأنتَ جُنُبٌ". فقال عمرو: سمعت الله عز وجل يقول: {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فضحك صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود والدارقطني وابن وهب في المدونة. قال القرافي: ومعنى قولهم: إن التيمم لا يرفع الحدث. أنه لا يَرفعه مطلقاً، وإنما يرفعُه إلى غايةِ وجودِ الماءِ. قال: وهذه المقالةُ أشدُّ مِن المقالةِ بأنه لا يَرْفَعُ الحدثَ ألبَتَّةَ، إِذْ يَلْزَمُ عليه اجتماعُ النقيضَيْنِ؛ إِذْ الحدثُ هو المانعُ، والإباحةُ متحققةٌ بإجماعٍ، وعلى هذا فلا يبقَى في المسألةِ خلافٌ. ولذلك قال المازري: لعل الخلافَ في اللفظِ. ابن رشد: ويُمكن أن يُقال: الجنابةُ سببٌ يترتب عليه سببان: أحدُهما المنعُ من الصلاةِ، والآخرُ وجوبُ الغسلِ بالماءِ، فأقام الشرعُ التيممَ سبباً لرفعِ المنعِ مِن الصلاةِ، ولم يُقِمْه سبباً لرفعِ وجوبِ الغسلِ، فإذا وُجِدَ الماءُ أُمِرَ بإيقاعِ السببِ الثاني وهو وجوبُ الغسلِ، فلا منافاةَ بين قولِنا: التيممُ لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، وأنه يُؤمر بالغُسل لما يَستقبل. وهو لَعَمْرِي مُرَادُ الأشياخِ بقولِهم: التيممُ لا يَرْفَعُ الحَدَثَ. أي لا يَرفعُ موجباتِ الحدثِ كلَّها، وإنما وَقَعَ إشكالٌ من قصورِ الفهمِ عنهم فتأمَلْه، وهو بحثٌ حسنٌ جدّاً. انتهى. خليلٌ: وعليه أيضاً فلا يكون في المسألةِ خلافٌ، والأَوْلَى هنا ما ذَكَرَه ابنُ دقيق العيد، فإنه قال بعد أن قَرَّرَ أن الحَدَثَ يُطلق على ثلاثةِ معانٍ:

الأولُ: الخارجُ مِن السبيلين. والثاني: الخروجُ. والثالثُ: المنعُ الناشئ عن الخارج. واستُشكل عدمُ رفعِ التيممِ للحدثِ بما ذكره. نعم هاهنا معنى رابعٌ يَدَّعِيه كثيرٌ مِن الفقهاءِ، وهو أن الحَدَثَ وَصْفٌ حُكْمِيٌّ يُقَدَّرُ قيامُه بالأعضاء على مقتضى الأوصافِ الحسيةِ، ويُنزلون ذلك منزلةَ الحسيِّ في قيامِه بالأعضاءِ. فمَن يقول: إنه يرفعُ الحدثَ كالوضوءِ [33/ب] والغسلِ، يقول: يُزيل ذلك الأمرَ الحُكْمِيَّ، فيزول ذلك المنعُ المرَتَّبُ على ذلك الأمرِ المقدرِ الحكميِّ. ومَن يقول: إنه لا يرفع الحدث. فذلك المعنى المقدَّرُ القائمُ بالأعضاءِ حكمٌ باقٍ ولم يَزُلْ، والمنعُ المُرَتَّبُ عليه زائلٌ. فبهذا الاعتبارِ يقول: إن التيممَ لا يَرفع الحدثَ. بمعنى أنه لم يُزِلْ ذلك الحكمَ الوصفيَّ المقدَّرَ، وإن كان المنعُ زائلاً. وحاصلُ هذا أنهم أَبْدَوْا للحَدَثِ معنى رابعاً غير ما ذكرناه مِن الثلاثةِ، وهم مطالَبُون بدليلٍ شرعيٍّ يَدُلُّ على إثباتِ هذا المعنى. انتهى. قال القرافيُّ: نظائرُ خمسةٌ: التيممُ، والمسحُ على الخفين، والمسحُ على الجبيرة، والمسحُ على شعر الرأسِ، والغسلُ على الأظفارِ، وفي الجميعِ قولانِ للعلماءِ، والمذهبُ في الثلاثة الأُوَلِ عدمُ الرَّفْعِ. فَإِنْ نَسِيَ الْجَنَابَةَ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَيُعيد أبداً يعني: أن الجُنُبَ إذا تيمم فلابُدَّ أن يَنْوِيَ الجنابةَ، فإن نَسِيَها لَمْ يُجْزِهِ تيممُه على الْمَشْهُورِ، إِذْ ليس لكلِّ امرئٍ إلا ما نوى. وفي سماع ابن وهب: يُعيد في الوقت. وقال ابن مسلمة: لا إعادةَ عليه؛ لأن التيممَ للوضوءِ والغسلِ فَرْضانِ على صِفَةٍ واحدةٍ، فنَابَ أحدُهما عن الآخرِ كالحيضِ عن الجنابةِ. وحكاه في التلقينِ روايةً. فرع: إذا تيمم الجنبُ ثم أَحْدَثَ فظاهرُ المذهبِ أنه يتيممُ بِنِيَّةِ الجنابةِ أيضاً، وخَرَّجَ اللخمي أيضاً على قولِ ابن شعبان– أَنَّ له أَنْ يُصيب الحائضَ إذا طهرت بالتيمم-: أن ينويَ الحدثَ الأصغرَ.

وَلَوْ كَانَ مَعَ الْجُنُبِ قَدْرُ الْوُضُوءِ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأ بهِ كما لو وجد ماءً لا يَكفي إلا بعضَ أعضاءِ وضوئِه، ولا أَعْلَمُ في المذهب في هذا خلافاً. وَيَسْتَوْعِبُ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَنْزِعُ الْخَاَتَم عَلَى الْمَنْصُوصِ، قَالُوا: وَيُخَلَّلُ أَصَابعَهُ .... أي: أن الاستيعاب مطلوبٌ ابتداءً، وَلَوْ تَركَ شيئاً من الوجه واليدين إلى الكُوعَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ على الْمَشْهُورِ. وقال ابن مسلمة: إن كان يسيراً أجزأه. وما ذَكَرَه المصنف هو الْمَشْهُورِ. وقال ابن مسلمة: يَتيمم إلى المنكبين. ورُوي عن مالكِ إلى الكوعين. وقال ابن لبابة: يَتيمم الجنبُ إلى الكوعين، وغيرُه إلى المنكبين. قال ابن رشد: واعْتَمَدَ على آثارٍ. وأما الخاتمُ فلا خلافَ أنه مطلوبٌ نزعه ابتداءً؛ لأن الترابَ لا يَدْخُلُ تَحْتَه، وإِنْ لم يَنْزِعْه فالمذهبُ أنه لا يُجزئُه، واستقرَأَ اللخميُّ مِن قولِ ابنِ مسلمةَ الإجزاءَ. وعلى هذا فكان الأَوْلَى أن يقول: فلو لم ينزعه لَمْ يُجْزِهِ على المنصوص. لأن كلامه يُوهمُ أن الخلافَ ابتداءٌ. وأما تضعيفهُ تخليلَ الأصابعِ بقوله: (قَالُوا) لأحدِ وجهين، إما لأن التخليلَ لا يُناسِبُ المسحَ الذي هو مبنيٌّ على التخفيفِ، وإما لأنه لما كان المذهبُ لا يَشترطُ النَّقْلَ؛ إِذْ يَجوز على الحَجَرِ– نَاسَبَ أن لا يَلْزَمَ التخليلُ. وقوله: (قَالُوا) يُوهِمُ تواطؤَ جماعةٍ كثيرةٍ مِن أهلِ المذهبِ، ولم يُنقل ذلك إلا عن ابن القُرْطِيِّ. ونص ما نقله أبو محمد عنه: ويُخلل أصابعَه في التيمم، وليس عليه متابعةُ الغُضُونِ. الشيخ أبو محمد: ولم أَرَهُ لغيرِه. وأشار ابنُ راشدٍ إلى هذا الاعتراضِ.

وَفِي مُرَاعَاةِ صِفَةِ الْيَدِينِ قَوْلانِ، وَفِي الصَّفَّةَ قَوْلانِ، فَفِيهَا: يَبْدَأُ بِظَاهِرِ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى مِنْ فَوْقِ الْكَفِّ إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ يَمْسَحُ الْبَاطِنَ إِلَى الْكُوعِ، ثُمَّ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى كَذَلِكَ وَلا بُدَّ مِنْ زِيادَةٍ، فَقِيلَ: أَرَادَ ثُمَّ يَمْسَحُ الْكَفَّيْنِ، وَقِيلَ: أَرَادَ إِلَى مُنْتَهى الأَصَابع فِيهِمَا أي: وفي استجاب (مُرَاعَاةِ) إِذْ لا خلافَ أعلمُه في عدمِ الوجوبِ، والْمَشْهُورِ المراعاةُ لأنه ممسوحٌ، فتُرَاعَى فيه الصِّفَةُ كالرأسِ والخُفَّيْنِ. والقولُ الآخَرُ لابنِ عبدِ الحَكَمِ قياساً على الوضوءِ. والباء في (بِظَاهِرِ) للإلصاق، وفي (بِالْيُسْرَى) للاستعانة، و"إلى المرفق" في محل الحال، أي: يمسح ظاهر اليمنى باليُسرى مُوِصلاً إلى المرفقِ. وقوله: (وَلا بُدَّ مِنْ زِيادَةٍ) مِن لفظِ المدونةِ، واختُلف– كما قال المصنف– في معناها، فقال ابن القاسم: يُكمل اليمنى، ثم يَشرع في اليسرى. واختاره الشيوخُ: أبو محمد، وابنُ أبي زيد، والقابسيُّ، وعبدُ الحقِّ، وهو الظاهرُ لتحصيلِ فضيلةِ الترتيبِ بينَ المَيَامِنِ والمَيَاسِرِ. وقال مطرفٌ وابن الماجشون: بل يبلغ الكوع من اليمنى، ثم كذلك من اليسرى، ثم يمسح كفيه. قال الباجي: والأول هو اختيار أكثر الأصحاب. فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ عَلَى ضَرْبَةٍ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَثَالِثُهَا: يُعيد فِي الْوَقْتِ، وَرَابِعُهَا: الْمَشْهُورِ فِي الأُولَى خَاصَّةً .... المأمورُ به ابتداءً ضربتان على الْمَشْهُورِ، وقال ابن الجَهْمِ: التيممُ بضربةٍ واحدةٍ لقوله تعالى: {فَتَيَممُوا} [المائدة:6] معناه فَاقَصِدُوا. فكان القصدُ مرَّةً واحدةً؛ إِذْ لم يَذْكُرْ مرتين. قال اللخميُّ: وهو أَبْيَنُ لظاهرِ القرآنِ، ثم إذا فرَّعنا على الْمَشْهُورِ فاقتَصَرَ على الكوعين أو على ضربةٍ واحدةٍ للوجهِ واليدين فأربعةُ أقوالٍ: الأولُ لابنِ ناقعٍ: الإعادةُ أبداً فيهما.

والثاني: لا إعادةَ فيهما. والثالثُ: الإعادةُ في الوقت لابن حبيب. والرابع– وهو الْمَشْهُورِ-: إن اقْتَصَرَ على الكوعين أَعَادَ في الوقتِ، وإن اقتَصَر على ضربةٍ واحدةٍ فلا إعادةَ عليه في وقتٍ ولا غيرِه. فمن رأى الإعادةَ أبداً رأى الثانيةً– وكونها إلى المرفقين– فرضاً. ومَن قال بالإجزاءِ رأي أن ذلك فضيلةٌ، ومَنْ أَمَرَ بالإعادةِ في الوقتِ فلتَرْكِ الكمالِ، أو مراعاةً للخلافِ. وقال بعضُ الشيوخِ: مَن يُجيز التيممَ على الصَّخْرِ لا يُوجب الضربةَ الثانيةَ إِذْ لا معنى لها، ومَنِ اشتَرَطَ الترابَ أَوْجَبَها. وخالفَه غيرُه لأنه لا يَلْزَمُ مِن عدمِ اشتراطِ الترابِ عَدَمُ اشتراطِ الأمرِ بالضربةِ الثانيةِ، وإلا لَزِمَ انتفاءُ [34/أ] الأُولَى به. تنبيهان: الأول: ما ذكرناه مِن الإعادةِ أبداً مبنيةٌ على وجوبِه إلى المرفقين، ووجوبِ الضربةِ الثانيةِ، قاله جماعةٌ مِن الأشياخِ. ونقلَ المازريُّ عن بعضِ أشياخِه أنه أَنكر ذلك. وقال: لعله بَنَى ذلك على أَنَّ تاركَ السننِ متعمداً يُعيد أبداً. وأن يُؤخذ مِن قول مَن قال بالإعادة في الوقتِ عدمُ الوجوبِ، ولعله يقولُ بالوجوب، واقتَصَرَ على الإعادةِ في الوقتِ مراعاةً للخلافِ. المازري: وهذا الذي قاله ممكنٌ، لكنْ وَقَعَ لابن القصّار فيمن لم يَجِدْ من الترابِ إلا ما يَكفيه لضربةٍ واحدةٍ أنه لا يَتيمم؛ إِذْ لا يَنْتَفِعُ بتيممِه، وهو كالنَّصِّ على أن الضربةَ الثانيةَ فرضٌ لا حِيلَةَ لأَحَدٍ في تأويلِه. الثاني: ما ذَكَرَه المصنفُ مِن الْمَشْهُورِ بالتفرقةِ ظاهرٌ في المسألة الأولى؛ لأنه نَصَّ في المدونةِ فيمن تيمم إلى الكوعين على الإعادةِ في الوقت.

وأما المسألةُ الثانية فلا يُؤخذ منها عدمُ الإعادة، والذي ذكروا فيها أنه يَسْتَانِفُ الضربةَ. وفَهِمَ ابنُ عطاء الله منه أن الضربةَ الثانيةَ سنةٌ، وأَنَّ مَنْ تَرَكَها يُعيد في الوقت. وبه قال ابن حبيب. ونَسَبَ عدمَ الإعادةِ مطلقاً لكتابِ محمد، قال: وهو مروي عن ابن القاسمِ. وَلَوْ مَسَحَ يَدِيِْهِ عَلَى شَيْءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ فَلِلْمُتَأَخِّرِين قَوْلانِ، بِخِلافِ النَّفْضِ الْخَفَِيفِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ .... ابن عبد السلام: الأظهرُ أن ذلك لا يَضُرُّه، إِذْ النَّقْلُ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ. انتهي. وفيه نظرٌ؛ لأن تيممَه لم يَحْصُلْ للأعضاءِ بل للممسوحِ. وقد ذكر صاحبُ تهذيب الطالب القولين، وشُرِعَ النَّفْضُ الخفيفُ خشيةَ أن يَضُرَّه شيءٌ في عينيه. وَالتَّرْتِيبُ والْمُوَالاةُ كَالْْوَضُوءِ أي: على الْمَشْهُورِ فيهما على أنه يُمكنُ إجراء الأقوالِ المتقدمةِ في الترتيب هنا. وأما الموالاةُ فلا يُمكنُ إجراءُ كلِّ تلك الأقوالِ؛ إِذْ لا يَتَأَتَّى فيها قولٌ بالفَرْقِ بَيْنَ المغسولِ والمسموحِ. خليل: ويُمكن أن يُقال بالبطلان إِذا فَرَّقَ التيممَ ناسياً مِن جهةِ اشتراطِ اتصالهِ بالصلاةِ، لا مِنْ جِهَةِ الموالاةِ، فافهمْه. وكذلك يَنبغي أن يُفهم كلامُ المصنفِ إذا تقدَّم له كلامٌ على مسألةِ، ثم شَبَّهَ مسألةً أُخرى بها في الحُكْمِ فإنما يُشَبِّه في الْمَشْهُورِ خاصَّةً. وَفِيهَا: فَمَنْ نَكَّسَ تَيَمُّمَهُ وَصَلَّى يُعيد لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَحُمِلَ عَلَى النَّوَافِلِ، وَإِلا فَهُوَ وَهْمٌ .... أي: يُعيد لما يُريد فِعْلَه مِن النوافل، وإلا فهو وهمٌ؛ لأنه اعتقد إجراءه على الوضوء، وغَفَل عن كونِه لابُدَّ مِن استئنافِه، إِذْ لا يُجمع عنده بين صلاتين بتيممٍ واحدٍ، والإعادةُ عنده محمولةٌ على الاستحبابِ. وليس الوهمُ بلازمٍ كما قال المصنفُ؛ لاحتمالِ أن يكونَ

مرادُه إذا تيمم مرةً ثانيةً يَفْعَلُه على سُنَّتِه من الترتيبِ، ولا يَعود إلى الخطأ، وهو أجودُ ما تؤُوِّلَ على المدونة، ذَكَرَه في التنبيهات. ابنُ عبد السلام: وهو يظهر إذا كان تنكيسُه على وجهِ العَمْدِ، وأما النسيانُ فلا يَحسن وُرُودُ مِثْلِ هذا الكلامِ فيه. انتهى. والقياسُ يَقتضي أنه إذا كان في الحَضْرَةِ يَمسحُ يديه فقط، وإن طال أَعادَ التيممَ، ولا يكونُ حكمُه كالوضوءِ من إعادةِ المُنكَّسِ خاصَّةً على الْمَشْهُورِ، إِذْ لا حُكْمَ له إِلا أَنْ يُؤْتَى بجميعِه لأجلِ اتصالِه. وقد يقال: هو تامٌّ، وإنما أُمِرَ أن يُرَتِّبَه للكمالِ خاصةً، والله أعلم. وَلَوْ نَوَى فَرْضاً جَازَ النَّفْلُ بَعْدَه، وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ وَرَكْعَتَاهُ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ وِقِرَاءَتُهُ وَسَجْدَتُهَا، وَرُوِيَ وَقَبْلَهُ .... قال بعضُهم: لا خلافَ في جوازِ النفلِ بعدَ الفَرْضِ؛ لأنه تَبَعٌ. وقال بعضُ الشيوخِ: إنما يَجري هذا على القولِ بأنه يَرفعُ الحدثَ، وفيه نظرٌ. ومِن شَرْطِ جوازِ إيقاعِ النفلِ بتيممِ الفرضِ أن يكونَ النفلُ متصلاً بالفرضِ؛ فقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية: مَن تَيَمَّمَ لنافلةٍ ثم خرج مِن المسجدِ لحاجةٍ ثم عاد فلا يَتنفلُ به، ولا يَمَسُّ المصحفَ. وشَرَطَ فيه ابنُ رشدٍ أن تكونَ النافلةُ منويةً عند تيممِ الفريضةِ. قال: وإن لم يَنْوِها لم يُصَلِّها. ولا فرقَ بين النفلِ والسنةِ عند ابنِ حبيب، واستَحَبَّ سحنونٌ أن يتيمم للوَتْرِ. التونسي: وإنما له أن يتنفلَ بإثْرِ الصلاةِ ما لم يَطُلْ كثيراً. انتهى. وقيد ذلك الشافعيةُ بأن لا يَدخلَ وقتُ الأخرى، فإذا دخل فلا، وهو ظاهرٌ؛ لأن ما يفعلُه مِن النافلةِ تابعٌ للفريضةِ، ولا معنى للتابعِ حالَ عَدَمِ المتبوعِ حِسّاً وحُكماً، والله أعلم. والْمَشْهُورِ: لا يَجوز أن يَتنفل قَبْلَ الفريضةِ. وروى يحيى بن عمر جوازَ صلاةِ ركعتي الفجرِ بتيممه للصبحِ، وهو معنى قولهِ: (وقيل: قَبْلَه).

وقوله: (وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ) يُريد أنه يُصلي بتيممِ الفريضةِ ما شاءَ مِن النفلِ، ويطوفُ به ويَقرأ به، وينبغي أن يُقَيَّدَ الطوافُ بطوافِ النفلِ. وجوَّزَ فيه ابنُ هارون احتمالاً ثانياً وهو أن يكون كلاماً مُستأنفاً، ويكون في كلامِه ثلاثُ جُمَلٍ وأن التابعَ في كلٍّ يُفْعَلُ بتيممِ متبوعِهِ، وفيه نظرٌ. فرع: وإن تَيمم للفريضةِ فتنَفَّلَ قَبْلَها، أو صلى ركعتي الفجرِ ثم صلى المكتوبةَ، ففي الموازية: أعاد أبداً. ثم قال: هذا خفيفٌ، وأرى أن يُعيد في الوقت. قال: وإن تيمم لنافلةٍ أو لقراءةِ مصحفٍ ثم صلى مكتوبةً أعاد أبداً. وقال سحنون عن ابن القاسم فيمن تيمم لركعتي الفجر فصلى به الصبحَ، أو تيمم لنافلةٍ فصلى به الظهرَ: إنه يُعيد في الوقت. وقال البرقي عن أشهب: تُجزئه صلاةُ الصبحِ بتيممه لركعتي الفجرِ، ولا يُجزئه إذا تيمم لنافلةٍ أن يُصَلِّي به الظهرَ. وَلَوْ نَوَى نَفْلاً لَمْ يُجْزِ الْفَرْضُ بِهِ، وَصَلَّى [34/ ب] مِنَ النَّفَلِ مَا شَاءَ وَفَعَلَ مَا تَقَدَّمَ كَمَا يَفْعَلُهُ بِمَا تَقَدَّمَ .... أي: أنه لا يكون الأعلى تابعاً للأدنى، وقد تَقَدَّمَ حُكْمُ ما لو فَعَلَ. وقوله: (وَصَلَّى مِنَ النَّفَلِ مَا شَاءَ) يعني: إذا نَوَى مطلقَ النفلِ، وأما إذا نَوَى نافلةً دون الأخرى فيُمكنُ أن يَجْرَى على الخلافِ فيمن نَوَى صلاةً بعينها دونَ غيرِها– وقد تقدم. وقوله: (وَفَعَلَ مَا تَقَدمَ) يعني: مِن الطوافِ وما عُطِفَ عليه في مسألةِ التيممِ للفريضةِ. وقوله: (كَمَا يَفعَلُهُ بمَا تَقَدمَ) يعني: بتيممه للفريضة، وهذا ينفي ما جوزه ابن هارون في التي قَبْلَها، والله أعلم.

بِخِلافِ تَيَمُّمِهِ لِلنَّوْمِ وَنَحْوِهِ يعني: أن التيمم كالوضوءِ، فكما أن مَن توضأ للنومِ لا يُصلِّي به، فكذلك مَن تيمم للنومِ. وكذلك قال في المدونة، وذكر في التنبيهات عن الواضحة: أنه يصلي بتيمم النوم. وَلَوْ نَوَى فَرْضَيْنِ صَحَّ وَصَلَّى بِهِ فَرْضاً عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لأَنَّهُ لاا يَرْفَعُ الْحَدَثُ، أَوْلاَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَقْتِ، أَوْ لِوُجُوبِ الطِّلَبِ لَكُلَِّ صَلاَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الثَّلاثَةِ. لا يُقال إنه لما نَوَى فَرضين– فلا يَستبيح به إلا فرضاً واحداً– صار تيمماً غيرَ مشروعٍ، لأن القَصْدَ الأهَمَّ مِن النيةِ استباحةُ العبادةِ، وفعلُه فرضاً أو فرضين مِن لواحق التيمم. وأحدُ الفرضين منفصلٌ عن الآخَرِ، والأولُ عبادةٌ مستقلةٌ بنفسِها بخلافِ مَن نَوَى في الذبيحةِ أَنْ يُجْهِزَ حتى يُبِينَ الرأسَ، فإنه اختُلِفَ في أَكْلِها كما سيأتي. وما ذَكَرَه المصنفُ من تعليلِ عدمِ الجمعِ بثلاثِ عللٍ قد سبقه إلى ذلك عبدُ الوهاب، وفيه نظرٌ. أما الأُولى فلأَنَّا وإِنْ سَلَّمْنَا إلى أنه لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، فما المانعُ أن يَستبيحَ به ما نواه؟ وقولهم: فلا يستبيح به إلا أقل ما يمكن– دَعْوَى لا دليلَ عليها. وأما الثانيةُ فمنقوضةٌ بالفائتتين، والْمَشْهُورِ خلافُه، وأما الثالثةُ فمنقوضةٌ بالمريضِ الذي لا يَقْدِرُ على استعمال الماءِ، أو مَن كان غيرَ مريضٍ، وهو يَعْلَمُ عَدَمَه، والْمَشْهُورِ خلافُه. ويُمكن أن يُوَجَّهَ الْمَشْهُورِ بأن يُقال: ظاهرُ قوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] يَقتضي أَلاَّ يُجْمَعَ بين فَرْضَيْنِ بوضوءٍ ولا بتيممٍ، فاستثنتِ السُّنَّةُ جوازَ الجمعِ بالوضوءِ، وبَقِيَ ما عداه على الأصْلِ. وقال ابن المسيب: مضتِ السنةُ أنه لا يَجمع المتيمُ بينَ صلاتين وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الثَّلاثَةِ) يعني: في عدمِ رفعِه للحدثِ، وتقدُّمِه على الوقتِ، ووجوبِ الطلبِ، وليس الخلافُ مخصوصاً بما إذا نَوَى فرضين، بل الخلافُ موجودٌ سواءٌ نَوَى فرضاً أو فرضين.

أَبُو الْفَرَجِ: يَجُوزُ فِي الْفَوَائِتِ. أَبُو إِسْحَاقَ: يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ قولُ أبي الفَرَجِ مبنيٌّ على التعليلِ الثاني، وليس هو قولُه، وإنما رواه عن مالك. ذَكَرَه صاحبُ المقدمات وغيرهُ. وقولُ ابنِ شعبانَ على الثالثِ. وَلَوْ صَلَّى الْفَرْضَيْنِ فَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَتَا مُشْتَرَكَتَيِ الْوَقْتِ أَعَادَ الثَّانِيَةَ فِي الْوَقْتِ وَإلّا أَعَادَهَا أبداً .... لم يُصَرِّحِ ابنُ القاسمِ بهذا، وإنما صّرح به أصبغُ، وقال: هو بمعنى قولِ ابنِ القاسم، ومَنْ يُحَرِّرُ النَّقْلَ يُفَرِّقُ بين ما هو نصٌّ أو استقراءٌ أو إجراءٌ، ويُفهم منه أن في المسألة خلافاً، وهو كذلك. ففي كتاب محمد: إِنْ فَعَلَ ذلك ناسياً أو جاهلاً جَمَعَهما أو فرَّقَهما– أعاد الأخيرةَ في الوقتِ. وقال أيضاً: يُعيدها أبداً وإِنْ ذَهَبَ الوقتُ. وقد نقل اللخمي وابن يونس والمازري وغيرُهم هذه الثلاثةَ الأقوالَ، ونَسَبَ في النوادرِ القولَ بالإعادةِ أبداً لابن القاسم مِن روايةِ ابن المواز مطلقاً، سواءٌ كانتا مشتركي الوقت أم لا. قال الباجي: وهو الذي يُنَاِظِرُ عليه أصحابُنا. ولابن القاسم في العتبية أنه يُعيد ما زاد على الواحدةِ في الوقتِ، ولو أعاد أبداً كان أحبَّ إليَّ. وقال سحنون في كتاب ابنه: يُعيد الثانيةَ ما لم يَطُلْ كاليومين وأكثر. وقال في البيان: واختُلف في الوقت الذي يُعيد فيه الثانيةَ مِن المُشْتَرَكَيَ الوقتِ، فقيل: ما لم تَغْرُبِ الشمسُ، وقيل: ما لم يَذهبِ الوقتُ المختارُ. فرع: قال ابن سحنون: سبيلُ السننِ في التيمم سبيلُ الفرائضِ، الوترُ وركعتا الفجر والِعيدَانِ والاستسقاءُ والخسوفُ– يَتيمم لكلِّ واحدةٍ كما في الفرائض. نقله اللخمي.

وَلَوْ نَسِيَ صَلاةً مِنَ الْخَمْسِ تَيَمَّمَ خَمْساً عَلَى الْمَشْهُورِ وَصَلَّى قوله: (وَصَلَّى) أي: خمساً. وقد اختلف في أصول الفقه في هذه المسألة: هل الواجب عيه خمس أو وحدة، والبواقي لتحصيل المتروكة؟ والأول المختار بدليل أن خواص الواجب من ثواب أو عقاب يدور مع كل واحدة، والتيمم لكل واحدة يحقق هذا القول. وأما مقابل الْمَشْهُورِ فيتيمم واحداً ويصلي به خمس صلوات، وهو يحتمل أن يكون مبنياً على قول أبي الفرج ويحتمل أن يكون مبنياً على المذهب. الثاني: لأنه أشبه من اجتمع في حقه فرض ونفل، فيكون كمن تيمم للفريضة وتنفل قبلها، بل هو أخف لجواز أن يصادف الفريضة أولاً. وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلا تُراباً فَرَابِعُهَا لابْنِ الْقَاسِمِ: يُصَلِّي وَيَقْضِي، وَالثَّلاثَةُ لِمَالِكٍ وَأَشْهَبَ وَأَصْبَغَ .... يُتَصَوَّرُ ذلك في المربوط والمريض إذا لم يجدُ مُناوِلاً. وقوله: (تُرَاباً) أحسن منه لو قال: صعيداً. وعلى ما قدمناه من قاعدته فإن ابن القاسم هو القائل بالأداء والقضاء، ومالك هو القائل بنفيهما، وأشهب قائل بالأداء دون القضاء، وأصبغ بالعكس. فدليل قول ابن القاسم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "إِذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ". ورأى [35/أ] القضاء عليه احتياطاً، وهو بعينه حجة لأشهب؛ لأن ظاهره الاقتصار على الأداء. واختاره الأكثر لصلاة الصحابة رضوان الله عليهم عند عدم الماء قَبْلَ نزول آية التيمم؛ لأن عدم الماء قَبْلَ شرع التيمم كعدم الماء والتراب بعد شرعه. ودليل قول مالك: "لا يَقْبَلُ اللهُ صلاةَ أحدِكُم إذا أَحْدَثَ حتى يَتَوَضَّأ" أخرجه البخاري وأبو داوود والترمذي، وقال: حديث صحيح.

المسح على الخفين

والقضاءُ إنما هو بأمر جديد على المختار، وهو اختيار السيوري وعياض وغيرهما. وقد نظمت هذه الأقوال، فقيل فيها: ومن لم يجد ماء ولا متيمما ... فأربعة أقوال يحكين مذهبا يصلي ويقضي عكس ما قال مالك ... وأصبغ يقضي والأداء لأشهبا وجعل المازري سبب الخلاف كون الطهارة شرط في الوجوب، أو في الأداء، وأنكره ابن العربي، وقال: الطهارة شرط في الأداء باتفاق؛ بدليل خطاب المحدث بالصلاة إجماعاً. وَفِيهَا: وَمَنْ تَحْتَ الْهَدْمِ لا يَسْتَطِيعُ الصَّلاةَ يَقْضِي لعله أَتى بها استشهاداً لقول أصبغ، ويحتمل كلامه في المدونة أن يكون على طهارة، ولا يقدر على التَّحَرُّكِ بشيء من جسده، وترك الصلاة على هذه الحالة، فيقضي، ويحتمل أن يكون مذهبه في المريض الذي لا يستطيع الحركة القضاء، إذا لم يقصد الصلاة بقلبه، وسيأتي إن شاء الله. الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ رُخْصَةٌ عَلَى الأَصَحُّ لِلرَّجُلِ والْمَرْأَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ .... الرخصة - بإسكان الخاء - عبارة عما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المانع لولا العذر، والعزيمة بخلاف. وأما بفتح الخاء فهو الرجل المتبع للرخص. ومقابل الأصح ما وقع في مختصر ابن الطلاع أنه مطلوب، قيل بالندب، وقيل بالوجوب. وكان شيخنا رحمه الله يحمل الوجوب على ما إذا كان لابساً، فأراد خلعه لغير عذر، لا أنه يجب عليه أن يلبس ليمسح، ولا يريد - كما قيل - بمقابله أنه غير مشروع مطلقاً لا لمسافر ولا لمقيم، وإن كان بعض الأصحاب نقله عن مالك، وقال: لعله رأى المسح منسوخاً لوجهين: أحدهما: لو كان مراده كذلك لقال: مشروع رخصة على

الأصح، لأن مقابل الرخصة العزيمة. ثانيهما: أن هذا القول ليس بثابت في المذهب، أنكره الحفاظ. فقد قال المازري: إنما الرواية الثابتة أنه قال: لا أمسح لا في الحضر ولا في السفر. وكأنه كرهه، وإنما حكم على نفسه بما يؤثر فعله، وقد يكون الفعل جائزاً عند الفقيه ويؤثر تركه، وكيف يظن به إنكار المسح أصلاً وقد قال الحسن البصري: روى المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعون صحابياً. قال في الإكمال: وكذا نقلها في النوادر: إني لا أمسح. قال: وقد تأول أحمد بن حنبل قول مالك هنا على أنه آثر الغسل، قال: ويؤيد هذا التأويل قوله في البسط لابن نافع عند موته: المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح بيقين ثابت لا شك فيه، إلا أني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور، ولا أرى من مسح مقصراً فيما يجب عليه. انتهى. ونص ابن القصار على أن إنكاره فسق. وفي النوادر: قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: لم يختلف فيه أهل السنة، ولا علمنا مالكاً ولا غيره من علمائنا أنكر ذلك في الحضر والسفر. قال ابن حبيب: لا يرتاب فيه إلا مخذول. انتهى. والمعروف من المذهب قولان: قول بجوازه للمقيم والمسافر، والثاني جوازه للمسافر فقط. وقوله: (لِلرَّجُلِ والْمَرْأَةِ) زيادة بيان لاحتمال أن يتوهم قصر الرخصة على الرجل، لكونه هو الذي يضطر غالباً إلى الأسباب المقتضية للبسه. وقوله: (وَرَجَعَ إِلَيْهِ) أي عن قصره على السفر. ثم قال: (لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ) فيه نظر؛ فقد قال ابن وهب: آخر ما فارقته عليه المسح مطلقاً. الباجي: وهو الصحيح، وإليه رجع مالك، ويؤيده ما تقدم من رواية ابن نافع عنه في المبسوط.

تنبيه: مقتضى كلامِ المصنفِ أن مالكاً كان أوّلاً يقول بمَسْحِ المسافرِ فقط، ثم رجع إلى أن المسافرَ والمقيمَ يمسحان بقوله: (وَرَجَعَ إِلَيْهِ) ثم رجع فقال: (لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ) وإنما المنقولُ في المدونةِ أنه كان أوَّلاً يقول: يمسحُ المسافرُ والمقيمُ. ثم قال: لا يَمسح المقيمُ. ثم رَجَعَ إلى التعميمِ على ما نقلَه ابنُ نافعٍ وابنُ وهب والباجيُّ. والله أعلم. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ خُفّاً سَاتِراً لِمَحَلِّ الْوُضُوء صَحِيحاً بطَهَارَةٍ بالْمَاء كَامِلَةٍ لِلأمْرِ الْمُعْتَادِ الْمُبَاحِ ...... الضميرُ المضافُ إليه (شَرْطٌ) عائدٌ على الممسوحِ. قال غيرُ واحدٍ: للمسحِ شروطٌ: خمسةٌ في الماسح، وخمسةٌ في الممسوحِ؛ فالتي في الماسِحِ: أَنْ يَلْبَسَهُما على طهارةٍ بالماءِ كاملةٍ غيرَ عاصٍ ولا مُتَرَفِّهِ. والتي في الممسوحِ: أن يكون الخفُّ جِلْداً طاهِراً مَحْروزاً سائِراً لمحلِّ الفَرْضِ، تُمْكِنُ متابعةُ المَشْيِ عَلَيْهِ. فَلا يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبِ وشَبِهْهِ وَلا عَلَى الْجُرْمُوِقِ إِلا أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوْقِهُ وَمِنْ تَحْتِهِ جِلْدٍّ مَخْرُوزٌ ثُمَّ قَالَ: لا يَمْسَحُ عَلَيْهِ. وَاختْاَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ الأَوَّلَ، وَهُوَ جَوْرَبٌ مُجَلَّدٌ، وَقِيلَ: خُفٌّ غَلِيظٌ ذُو سَاقَيْنِ. وَقِيلَ: يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مطلقاً ..... هذا راجعٌ إلى قولِه: (خُفّا). و (الْجَوْرَبِ) ما كان على شَكْلِ الخُفِّ مِن كَتَّانٍ أو صوفٍ، أو غيرِ ذلكَ. (وشَبِهْهِ) الخِرَقُ تُلَفُّ على الرِّجْلِ. و (الْجُرْمُوقِ) بضمِّ الجيمِ والميمِ بينهما راءٌ ساكنةٌ، فَسَّرَهُ مالكٌ في روايةِ ابنِ القاسمِ بأنه جوربٌ مُجَلَّدٌ، مِن فوقِه ومِن تحتِه جلدٌ مَخْرُوزٌ. وعلى هذا فإطلاقُ الجرموقِ عليه قَبْلَ التجليدِ مجازٌ.

قال في النوادر: وقال ابن حبيب: الجُرْمُوقانِ: الخُفَّانِ الغليظان لا سَاقَ لهما. وهكذا قال [35/ ب] الباجي واللخمي والمازري، وهو عكسُ ما قاله المصنف (ذُو سَاقَيْنِ) ولكن المصنفَ تَبعَ ابنَ شاسٍ، ولم نَعْلَمْ لهما موافقاً إلا أن ابن عطاء الله حكى في ذلك قولين، فقال: هما خُفان غليظان ذوا ساقين غليظين يَستعملهما المسافرون مُشَاةً. وقيل: هما خفان غليظان لا ساقَ لهما. انتهى. على أنه يمكن أن يكونَ ابنُ عطاء الله تَبعَ ابنَ شاسٍ. وقيل: هو خُفٌّ على خُفٍّ. وضعَّفَه عياضٌ بأنه ذَكَرَ في المدونةِ المسألتين، فلو كانتا مَعاً بمعنى واحدٍ لما كَرَّرَهما. وفي جوازِ المسحِ عليه لمالكٍ قولان: قال أولاً: يمسحُ عليهما إذا كان مِن فوقِهما أو مِن تحتِهما جِلْدٌ مَخْرُوزٌ، ثم رجع إلى أنه لا يَمْسَحُ لأن الرخصةَ لم تَرِدْ فيهما. واختار ابنُ القاسمِ الأَوَّلَ؛ لأ، هـ خُفٌّ يُمْكِنُ متابعةُ المشي عليه. وقوله: (وَقِيلَ: يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مطلقاً) الظاهرُ أنه راجعٌ إلى الجرموقِ، ومعنى (مطلقاً) سواءٌ قيل إنه جوربٌ مُجَلَّدٌ أو خُفٌّ غليظٌ، هكذا ظَهَرَ لي في هذا المحلِّ، والله أعلم. وقال الشراحُ الثلاثةُ: هذا يَقتضي جوازَ الْمسْحِ على الجوربِ وإن كان غيرَ مُجَلَّدٍ. ابن راشد وابن هارون: ولا نَعلمُه في المذهب. وهذا إنما يُفْهَمُ إذا جعلنا الإطلاقَ عائداً على الجوربِ. وَيَمْسَحُ عَلَى الخُفِّ فوق الخف على الْمَشْهُورِ، فلو نزع الأعليين على الأسفلين كالخف مع الرجلين ... زَعَمَ اللخمي أَنَّ الخلافَ إنما هو إذا لَبِسَ الأعليين قَبْلَ أن يَمسحَ على الأسفلين، وأما لو مسح على الأسفلين جَازَ له المسحُ على الأعليين اتفاقاً. ورَأَى غيرُه أن الخلافَ عامٌّ، ومنشأُ الخلافِ الخلافُ في القياسِ على الرُّخْصَةِ.

وقوله: (فَلَوْ نزعَ الأَعْلييْنِ) أي على الْمَشْهُورِ، نَزَّلَ الأسفلين منزلةَ الرِّجْلَيْنِ مع الخُفَّيْنِ. ابن عبد السلام: أما لو نَزَعَ أَحَدَ الأعليين فهل يُؤمر بنزعِ الأعلى مِن الرِّجْلِ الأُخرى أم لا؟ قولان حكاهما المازري وسببُهما هل الأعليان بَدَلٌ عن الأسفَلَيْنِ أو عن الرِّجلين؟ فإن قلنا بالأَوَّلِ نَزَعَ الآَخَرَ لظُهورِ الأَصْلِ في أحِدهما، وإلا فلا. وَلا يَمْسَحُ عَلَى غَيْرِ سَاتِرٍ عَلَى الأَصَحِّ أي: لا يمسح على خُفِّ غيرِ ساترٍ على الأصَحِّ، ومقابلُ الأصحِّ روايةُ الوليد بن مسلم: يمسحُه، وَيغْسِلُ ما ظَهَرَ مِن الرِّجْلَيْنِ. وكلامُ المصنفِ يَقتضي تصحيحَ هذا القولِ مِن جهةِ النَّقْلِ، وتَوْهِيمُ الباجيِّ للوليدِ بأنَّ هذا إنما يُعْرَفُ للأوزاعي، وهو كثيرُ النَّقْلِ عنه- ليس بظاهِر؛ لأن الوليد مُخَرَّجٌ له في الصحيحِ، ولم يَنْسِبْهُ أَحَدٌ إلى الوَهْمِ. وَلا يَمْسَحُ عَلَى ذِي الْخَرْقِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ جُلُّ الْقَدَمِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. الْعِرَاقِيُّونَ: إِذَا تَعَذَّرَتْ مُدَاوَمَةُ الْمَشْيِ عَلَيْه، فَلَوْ شَكٌ فِي أَمْرِه لَمْ يَمْسَحْ ..... يعني: أنه يجوز المسحُ على ذي الخرق اليسيرِ، إِذْ لو كان اليسيرُ مانعاً مع عَدَمِ الانفكاكِ عنه غالباً لأَدَّى إلى الحَرَجِ بخلافِ الخْرقِ الكثيرِ، فلا يَمْسَحُ عليه. والكثيرُ أن يَظهر جُلُّ القَدَمِ- على المنصوصِ لابن القاسم في المدونة- ومقابِلُه قولُ العراقيين. وقولُ العراقيين مُقَيَّدٌ بذوي المروءات، وأما غيرُهم فيُمْكِنُ أن يمشيَ بكلِّ شيءٍ. وقوله: (فَلَوْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ) يعني هل هو مِن حَيِّزِ اليسيرِ أو الكثيرِ؟ لم يَمسحْ؛ لأنَّ الأصلَ الغَسْلُ، وقد شكَّ في محلِّ الرخصةِ. قال في البيان: لم يَقع في الأمهات ما فيه شفاءٌ وجلاءٌ لحَدِّ الخَرْقِ الذي يَجوز المسحُ عليه مِن الذي لا يَجوز؛ لأنه في المدونة قال: إن كان كثيراً فاحشاً يَظهر منه جُلُّ القَدَمِ فلا يَمْسَحُ، وإن كان يسيراً لا يَظهر منه القَدَمُ فَلْيَمْسَحْ.

وقال في الواضحة: إن كان فاحشاً لا يُعَدُّ به الخُفُّ خُفّاً لِتَفَاحُشِ خَرْقِهِ وقِلَّةِ نَفْعِهِ- فلا يَمْسَحُ، وإن لم يكن متفاحشاً مَسَحَ، وإِنْ أَشْكَلَ عليه الأمرُ خَلَعَ. وروى ابنُ غانم عن مالك أنه يَمسح عليه ما لم تَذهب عامَّتُهُ، وقال في آخر الرواية: إن كان الخرقُ خفيفاً لم أرَ بالمَسْحِ بَأساً. فاسْتَقْرَانَا مِن مجموعِ هذه الرواياتِ أنه يَمْسَحُ على الخَرْقِ اليسيرِ، ولا يَمْسَحُ على الخرقِ الكثيرِ. وإذا كان كذلك بإجماع وقامت الأدلةُ من الكتابِ والسُّنَّةِ على أن الثُّلُثَ آخرُ حَدِّ اليسيرِ، وأَوَّلُ حَدِّ الكثيرِ- وَجَبَ أَنْ يَمْسَحَ على ما كان الخرقُ فيه دُون الثلثِ، ولا يَمْسَحَ على ما كان الثلثَ فأكثرَ؛ أعني ثُلُثَ القَدَمِ مِنَ الخُفِّ لا ثُلُثَ جميعِ الخُفِّ. وإنما يمسحُ على الخرقِ الذي يكون أقلَّ مِن الثلثِ إذا كان ملتصقاً بعضُه ببعضٍ كالشَّقِّ. وتحصيلُها أنه إذا كان الخَرْقُ في الخفِّ الثلثَ فأكثرَ- فلا يَمْسَحُ عليه- ظهرتْ منه القَدَمُ أولم تَظْهَرْ- وإن كان أقلَّ مِن الثلثِ فإنه يَمْسَحُ عليه ما لم يَتَّسِعَ ويَنفتحَ حتى تظهرَ منه القَدَمُ، فإن عَرُضَ الخَرْقُ حتى تظهرَ منه القَدَمُ فلا يمسحُ عليه إلا أن يكون يسيراً كالثُّقْبِ الذي لا يُمكنه أن يَغْسِلَ منه ما ظَهَرَ مِنْ قَدَمِه؛ لأنه إذا ظَهَرَ مِن ذلك ما يُمكنُه الغَسْلُ- لم يَصِحَّ له المسحُ مِنْ أَجْلِ أنه لا يجتمع مَسْحٌ وغَسْلٌ. فعلى هذا يجب أن تُخَرَّجُ الرواياتُ الْمَشْهُورِاتُ. انتهى. فرع: فإن مَسَحَ على خُفه ثم صَلَّى، ثم انْخَرَقَ خُفُّه خرقاً لا يَمْسَحُ على مثلِه فليَنْزِعْه مكانَه، وليَغْسِلْ رجليه. قاله ابن القاسم في العتبية. وعليه فلو انْخَرَقَ في الصلاة لقَطَعَ، والله أعلم.

تنبيه: لم يتكلم المصنفُ- رحمه الله- على ما يتعلق بقوله: (بطهارة) ولعله- والله أعلم- تَرَكَه لعدمِ الخلافِ فيه، وهو كذلك. ولا يُعلم فيه خلافٌ إلا ما وَقَعَ في العتبية فيمن غَسَلَ رجليه خاصَّة ولَبِسَ خُفَّيْهِ، ونَامَ قَبْلَ أن تَكْمُلَ طهارتهُ، فإنه يُجزئه المسحُ عليهما. قال المازري: وهذا إذا تَرَكَ الطهارةَ المعهودةَ، واكتفى بتطهيرِ القدمينِ خاصةً- ألا ترى أنه قال: يَمْسَحُ ولو نَامَ. والنومُ يُبْطِلُ الطهارةَ- وإن كان غسل رجليه بنية الوضوء المنكس، إلا أنَّ قوله: [36/أ] قبل أن يكمل وضوءَه؛ فيه إشارةٌ إلى قَصْْدِ الوضوءِ المنكسِ. وقال ابن عطاء الله: لعله بنى هذه المقالةَ على أن المتوضئَ لو نَكَّسَ وضوءَه فغَسَلَ رجليه- اِرْتَفَعَ الحَدثُ عنهما، بناءً على أن ارتفاعَ حدثِ كلِّ عضوٍ بالفراغِ منه. وَلا يَمْسَحُ عَلَى لُبْسٍ بِتَيَمُّمٍ، وَقَالَ أَصْبَغُ: يَمْسَحُ هذا راجعٌ إلى قوله: (بالماء) والخلافُ على ما قاله الشيوخُ إذا لَبِسَه قَبْلَ الصلاةِ، وأمَّا إذا لَبِسَه بَعْدَ الصلاةِ فلا يُخالِفُ في ذلك أصبغُ لانقضاءِ الطهارةِ المشترطةِ حِسّاً وحُكْماً. فإن قيل: يَلزم على هذا صحةُ المسحِ بعدَ الصلاةِ لمن أراد أن يَتنقل، قيل هذا صحيحٌ لولا ما عارضَه مِن مخالفةِ الأصلِ، وهو أن الوضوءَ للنافلةِ يَجوزُ به إيقاعُ الفريضةِ. وأَجرى بعضُهم الخلافَ على أن التيممَ هل يَرفع الحدثَ أم لا؟ ويمكن أن يُقال: بناءً على أن البَدَلَ هل يَقومُ مَقامَ المُبْدَلِ منه أم لا؟ فرع: قال في المدونة: وتمسحُ المرأةُ المستحاضةُ على خُفَّيها. قال ابن عطاء الله: ومذهبُنا أنها كغيرِها.

وَلا يَمْسَحُ إِذَا لَبِسَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ غَسَلَ الأُخْرَى، وَلَيسَ الآخَرَ حَتَّى يَخْلَعَ الأَوَّلَ وَيَلْبَسَهُ، وَقَالَ مُطَرِّفٌ: يَمْسَحُ ... هذا راجعٌ إلى قوله: (كاملة) وتَصَوُّرُ كلامِه واضحٌ، وقد تقدم الكلام عليها في أَوَّلِ الوضوءِ. وقوله: (حَتَّى يَخْلَعَ الأَوْلَ وَيَلْبَسهُ) أي: ليكون لبسه للخفين بعد كمالِ الطهارة. ابن عبد السلام: وهذا كافٍ في جوازِ المسحِ، لكن يفوتُ معه فضيلةُ الابتداءِ بالميامِن، فالأحسنُ أن يَخْلَعَهُمَا. انتهى. وفيه نظرٌ؛ لأنه قَدْ لبس اليُمْنَى قبل اليُسرى أَوّلاً، وإنما هذا النزعُ لأجلِ الضرورةِ، فأَشْبَهَ ما لو نَزَع الخفَّ اليمنى لأَجْلِ عُودٍ وَقَعَ فيه ونحوِه. ومن هذا لو نكَّسَ فغَسَلَ رجليه، ثم غَسَلَ بقيةَ أعضائِه. قال الباجي: والْمَشْهُورِ عن مالكٍ المنعُ. وَلا يَمْسَحُ لابسٌ لِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ كَالْحِنَّاءِ أَوْ لِيَنَامَ. وَفِيهَا: يُكْرَهُ. وَقَالَ أَصْبَغُ: يُجْزِئُهُ هذا راجعٌ إلى قوله: (للأمرِ المعتادِ). يعني: في اشتراط هذا الشرط لا يَمْسَحُ من لبس الخفين ليمسحَ عليهما مِن غيرِ ضرورةٍ داعيةٍ إليهما، كمَن جَعَلَ حناءً في رِجْلَيْهِ ولَبِسَ الخفين ليَمْسَحَ عليهما أو لَبِسَهُما لينامَ. وقال ابن عطاء الله: والْمَشْهُورِ أن هؤلاء لا يَمْسَحُونَ. ابن راشد وابن هارون: وإِنْ مَسَحُوا لَمْ يُجِزِهِم على الْمَشْهُورِ. وأصبغُ يحتملُ أَنْ يجيزَ الإقدامَ على ذلك ابتداءً كما في بعض النُّسَخِ، وحكاه بعضَ الشيوخِ، ويحتمل أن يكون مذهبهُ الكراهةَ كما نقله عنه ابنُ شاس. وما نقله المصنفُ عن المدونةِ مِن الكراهةِ- هو كذلك في التهذيب.

قال في البيان في باب الصلاة: وقد اختُلِفَ في المرأةِ إذا لبست الخفين لتَمْسَحَ على الخضابِ، فروى مطرف عن مالك أنه لا يَجوز لها أن تَمسح عليهما، وقد قيل أيضاً أنه يَجوز لها المسحُ عليهما، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي. وقال مالك في المدونة: لا يُعجبني. فهذه ثلاثةُ أقوالٍ: المنعُ، والإباحةُ، والكراهةُ. انتهى. ومقتضى كلامِه أن الْمَشْهُورِ الكراهةُ خلافَ ما شَهَّرَه ابنُ راشدٍ وغيرُه. وَلا يَمْسَحُ الْمُحْرِمُ الْعَاصِي بِلُبْسِهِ عَلَى الأَصَحِّ. سَحْنُونٌ: وَيَمْسَحُ عَلَى الْمَهَامِيزِ أخرج بـ (الْعَاصِي) مَنْ لَبِسَهما لضرورةٍ، فإنه يَجوزُ له المسحُ، والمرأةَ على أنها ليستْ بعاصيةٍ، على أنها تخرج بلفظة (المُحْرِمِ). وظاهرُ كلامِه على أن مقابلَ الأصحِّ منصوصٌ. وفي المازري: مَنَعَ بَعْضُ أصحابِنا المُحْرِمَ مِنَ المَسْحِ؛ لأنه منهيُّ عن اللبس، فلا يُرَخَّصُ له في المسح عليه، وعندي أنه قد يَتَخَرَّجُ على القولين في جوازِ القَصْرِ لمن سَفَرُه معصيةٌ. انتهى. وهل يَمْسَحُ على الخُفِّ المغصوبِ؟ ابنُ عطاء الله: واحْتَرَزْنَا بقولِنا أن يكون اللبسُ مباحاً مما لو لبس المُحْرِمُ الخفين مِن غيرِ عُذْرٍ، أو لبس الإنسانُ خفين مغصوبين- لم يَجُزِ المسحُ في المسألتين؛ لأنَّ المسحَ رخصةٌ، وحكمةُ الشرعِ تَقتضي أَلاَّ يُوَسَّعَ على العاصِي. وقال في الذخبرة: سؤالٌ: إن قيل: كيف صَحَّتْ صلاةُ الغاصبِ إذا مَسَحَ بخلافِ المُحْرِمِ، وكلاهما عاصٍ؟ فجوابُه أن الغاصبَ مأذون له في الصلاةِ بالمسحِ على الخفين في الجملةِ، وإنما أدركه التحريمُ مِن جهةِ الغصبِ، فأَشْبَهَ المتوضئَ بالماءِ المغصوبِ والذابحَ بالسكينِ المغصوبةِ فيَاثَمَانِ، وتَصِحُّ أفعالُهما.

وأما المُحْرِمُ فلا يُشرع له المسحُ ألبتةَ. وكذلك نَصَّ في قواعِدِه على أنَّ الغاصبَ يَمْسَحُ عندنا. وقوله: (وَيَمْسَحُ عَلَى الْمَهَامِيزِ) نصه في النوادر: قال سحنون: ولا بأسَ بالركوبِ بالمهاميزِ، وللمسافرِ أن يمسحَ عليهما، ولا ينزعَهما، وهذا خفيفٌ. ونقل الباجي وغيرُه عن مالك أنه قال: لا بأسَ بسرعةِ السَّيْرِ في الحجِّ على الدوابِّ، وأَكره المهاميزَ، ولا يصلحُ الفسادُ، وإذا كَثُرَ ذلك خَرَّقَها. وقد قال: ولا بأسَ أَنْ يَنْخَسَها حتى يُدْمِيَها. وَصِفَتُهُ فيهَا: أَرَانَا مَالِكٌ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَاهِر أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَالْيُسْرَى مِنْ تَحْتِهَا مِنْ بَاطِنِ خُفِّهِ فَأَمَرَّهُمَا إِلَى حَذْوِ الْكَعْبَيْنِ. فَقَالَ ابْنُ شَبْلُوَن بِظَاهِرِهِ: الْيُسْرَى كَالْيُمْنَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْيُسْرَى عَلَى الْعَكْسِ. وَقِيلَ: يَبْدَأ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: الْيُمْنَى كَالأُولَى، وَالْيُسْرَى كَالثَّانِيَةِ ..... حاصلُ ما ذَكَرَه ثلاثُ صفاتٍ: الصفةُ الأولى: ما نَسَبَه إلى المدونةِ على الوصفِ الذي ذَكَرَه. وقوله: (أَصَابعِهِ) يُريد أصابعَ رجلِه اليمنى، كذا في التهذيب، وأطلق المصنفُ تبعاً لابن شاس. واختلف الشيوخُ على هذه في صِفَةِ اليُسْرَى، فقال ابن شبلون: يَمْسَحُ اليسرى كاليمنى، فيضَعُ يدَه اليمنى على ظاهِرِ أطرافِ أصابعِ رجلِه اليسرى، ويدَه اليسرى مِن تحتِها. وأَخَذَ ذلك مِن اقتصارِ [36/ ب] ابنِ القاسمِ على الرِّجْلِ اليُمْنَى، فظاهرُه أن اليسرى كذلك؛ إِذْ لو كانت مخالفةً لنبه على ذلك، وإلى هذا أشار بقوله: (فَقَالَ ابْنُ شَبْلُوَن بِظَاهِرِهِ).

وقال ابنُ أبي زيد وغيرهُ: يَجعل يدَه اليسرى على ظَهْرِ رجلِه اليسرى؛ لأنه أَمْكَنُ، وهذا معنى قوله: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْيُسْرَى عَلَى الْعَكْسِ). ونقل ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، قال وذَكَرَ أن مالكاً أَراهما المسحَ هكذا، وأن ابنَ شهابٍ وَصَفَ لهما المسحَ وهكذا، وهذا مما يرجحُ هذه الطريقةَ. الصفة الثانية: أن يبدأ بيَدَيْهِ مِن الكعبين مارّاً إلى القَدَمِ. والضمير المجرور في (فيهما) عائدٌ على الرِّجلين. وانظر: هل يأتي الخلافُ المتقدمُ في كونِ اليمنى على الرِّجلين، أو اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى؟ الصفة الثالثة: أن يجعل اليَدَ اليمنى كالصفةِ الأولى، واليدَ اليسرى مِنْ عِنْدِ العَقِبِ كالصفةِ الثانيةِ، ويُمِرُّهما مختلفتين. وهذه الصفةُ لابنِ عبدِ الحَكَمِ، وهي منقولةٌ هكذا كما ذكرتُ لك، وليس المرادُ ما يُعطيه ظاهرُ اللفظين مِن أنه يَمسح الرِّجْلَ اليمنى كالصِّفَةِ الأُولَى، والرجل اليسرى كالصِّفَةِ الثانيةِ لِعَدَمِ وُجُودِ ذلك. وإن كان ابنُ عطاء الله أَخَذَها مِن ظاهرِ كلامِ اللخمي، ولعله وَهِمَ. ومنشأُ الخلافِ: هل يُرَاعَى في الخفين ما يُراعى في الرِّجلين مِن البدايةِ مِن القَدَمِ مع تكرمِة اليَد اليُمنى عن الوصولِ إلى محلِّ الأقذارِ، وهو أسفلُ الخُفِّ؟ أو تقديمُ إزالةِ الأقذارِ، فيبدأُ بالعَقِبِ خَوْفاً مِن أن ينعطف شيءٌ مِن الأقذارِ إلى العَقِبِ؟ والتعليلُ الأولُ أَوْلَى لما فيه مِن مشابهةِ الفرعِ للأصلِ، وما رُوعِيَ في الثاني يُمكن الاحترازُ منه بالنظرِ إلى الخِفِّ قَبْلَ المَسْحِ. وهذا الكلامُ كلُّه إنما هو في الأفضلِ، وإلا فيكفي التعميمُ على أيِّ صِفَةٍ كانت.

وَيُزِيلُ عَنْهُمَا الطّينَ وَلا يَتْبَعُ الْغُضُونَ لأن الطين حائل. و (الْغُضُونَ): التَّكاسِيرُ التي في الجِلْدِ، ولم يُؤْمَر باتباعه؛ لأن المسحَ مبنيُّ على التخفيف. قال سند: وخالف ابنُ شعبان في غضونِ الخفينِ، والجبهةِ في التيمم. وَلَوْ خَصَّ أَعْلاهُ أَجْزَأَهُ، وَيُعيد فِي الْوَقْتِ وَأَسْفَلَهُ لَمْ يُجْزِه. أَشْهَبُ: يُجْزِئُهُ فِيهِمَا. ابْنُ نَافِعٍ: لا يُجْزِئُهُ فِيهِمَا ... وجهُ الْمَشْهُورِ ما رواه أبو داود وصححه عن علي رضي الله عنه: لو كان الدِّينُ يُؤْخَذُ بالقياسِ لكان مَسْحُ أَسْفَلِ الخُفِّ أَوْلَى مِنْ أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَسَحَ على ظاهرِ خُفَّيْهِ. وكلامُه ظاهرٌ. وَالْغَسْلُ وَالتَّكْرَارُ مَكْرُوهٌ ابن هارون وابن عبد السلام: لا يَبْعُدُ تخريجُ الخلافِ الذي في غَسْلِ الرأسِ في الوضوء بدلاً مِن مسحِه في غسلِ الخفين، وفي كلامهِ حذفُ خبرٍ؛ أي: والغسل مكروهٌ، والتكرار مكروه، على حَدِّ قولِه: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأيُ مختلفٌ وقول ابن هارون: والصوابُ أن يقول: مكروهان. ليس بجَيِّدٍ. وَلا تَحْدِيدَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ: لِلْمُقِيمِ مِنْ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. وَرَوَى أَشْهَبُ: لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَاقْتَصَرَ. وَفِي كِتابِ السِّرِّ: وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ روايةُ ابنِ نافعِ محمولةٌ على الاستحبابِ، وهي موافقةٌ للمذهبِ لأجْلِ غُسْلِ الجمعةِ. قاله عبد الوهاب والمازري. وتوجيهُ الأقوال معلومٌ. وكتابُ السِّرِّ يُنسب لمالكٍ أنه كتبه إلى هارون الرشيد، رَخَّصَ له فيه أشياءَ.

عبدُ الوهاب: وكان أبو بكر الأبهري وغيرُه يُنْكِرُه. ويقول: كان مالكٌ أتقى الناس لله أن يُسامِحَ بدينه أحداً أو يُرَاعِيَه، وقد نظرتُ في هذا الكتابِ فوجدتُه يَنْقُضُ بعضُه بعضُاً، ولو سمع مالكٌ مَن يتكلمُ بما فيه لأوجَعَه ضَرْباً. وقد سُئِلَ ابن القاسم عنه فقال: لا يُعْرَفُ لمالكٍ كتابُ سِرٍّ. فَلَوْ نَزَعَ الْخُفَّيْنِ فَأَخَّرَ الْغَسْلَ ابْتَدَأَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ نَزَعَ إَحْدَاهُمَا وَجَبَ غَسْلُ الأُخْرَى .... قوله: (فَأَخَّرَ الْغَسْلَ) أي بقدرِ ما يجفُّ فيه أعضاءُ الوضوءِ. ومقابلُ الْمَشْهُورِ يأتي على أن الموالاةَ ليست بواجبةٍ. وقوله: (فَأَخَّرَ) يريد عامداً، وأما الناسي فيبني طال أو لم يَطُلْ. وبالجملةِ فهذا مِن لزومِ الموالاةِ، ومفهومُه أنه لو غَسَلَ في الحالِ أجزَأه، وهو كذلك. ورُوي عن مالكٍ في مختَصر ما ليس في المختصر قولٌ بعدمِ الإجزاءِ لبُعْدِ ما بينَ أولِ الطهارةِ وتمامِها. وهو بعيدٌ، إِذِ الطهارةُ قد تَمَّتْ بدليلِ صحةِ ما وقع مِن العبادة بها قَبْلُ، وإنما غَسَلَ الآن جَبْراً لما وَقَعَ فيها مِن الخلل بسببِ النَّزْعِ، وأما وجوبُ غسلِ الرِّجلين إذا نَزَع أحدَهما، فإنهما كعضوٍ واحدٍ، بدليلِ أَنَّ مَن أوجبَ الترتيبَ لم يُوجبه فيما بينهما، وأجاز أصبغُ أَنْ يَغسل إحداهما، ويمسح الأخرى. وأشار المازري إلى أن هذا الخلافَ يجري على الخلاف في المكفِّرِ إذا أَطْعَمَ خمسةَ مساكين، وكسى خمسةً. وحَصَّلَ ابنُ رشد في هذه المسألة وفي نزعِ أحدِ الأعليين ثلاثةَ أقوالٍ: جوازُ المسح على الرِّجلِ الواحدةِ والخفِّ الأعلى الواحدِ, وهو قوله في العتبية. والثاني لابن حبيب: لا

المسح على الجبيرة

بُدَّ له مِنْ خَلْعِ صاحبِه في المسألتين جميعاً. ومذهبُ ابنِ القاسمِ الفرقُ، فيجوزُ المسحُ على أحدِ الأعليين، ولا يَجوز في خلعِ أحدِ الخفين إلا غَسْلُ الرِّجلين جميعاً، والله أعلم. فَإِنْ عَسُرَ وَخَشِيَ الْفَوَاتَ فَكَالْجَبِيرَةِ. وَقِيلَ: يَتَيَمَّمُ. وَقِيلَ: يُمَزِّقُهُ يعني: (فَإِنْ عَسُرَ) نزعُ الخفِّ الآخرِ بعد أن نَزَعَ واحداً، وخشي فواتَ [37/ أ] الوقتِ، فقيل: يَغسل التي نَزَعَ منها الخفَّ، ويَمسح الأخرى قياساً على الجبيرةِ بجامِعِ تَعَذُّرِ الغُسْلِ على ما تَحْتِ الحائلِ، قاله أبو العباس الإِبِّيَانِيّ. (وَقِيلَ: يَتَيَمَّمُ) إعطاءَ لسائِرِ الأعضاءِ حُكْمَ ما تَحْتَ الخُفِّ؛ لأن الحقيقةَ المُرَكَّبَةَ إذا بطل جزؤها بطلتْ كلُّها. (وَقِيلَ: يُمَزِّقُهُ) احتياطاً للعبادةِ. ابن يونس: واستحسنَ بعضُ فقهائِنا إن كان قليلَ الثَّمَنِ يمزقُه، وإن كان لغيرِه فيغرمُ قيمتَه، وإن كان كثيرَ الثَّمَنِ فيمسحُ عليه كالجبيرةِ. انتهى. وهو الأظهرُ. وَيَمْسَحُ عَلَى جِرَاحِهِ إِنْ قَدَرَ فَإِنْ خَشِيَ مَسَّ الْمَاءِ فَعَلَى الْجَبَائِرِ وَشِبْهِهَا كَالْمَرَارَةِ وَالْقِرْطَاسِ عَلَى الْجَبِينِ لِلْمَرِيضِ، وَعَلَى عِصَابَةِ الْجَبَائِر إِنِ احْتَاجَتْ وَلَوِ انْتَشَرَتْ، وَعَلَى عِصَابَةِ الْفِصَادَةِ إِنْ خَافَهَا فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، وَإِنْ شُدَّتْ بغَيْرِ طَهَارَةٍ ....... يعني- والله أعلم- إنما يُخشى في هذا الباب مثلُ ما يُخشى مِن الضررِ الناقلِ إلى التيمم وِفاقاً وخِلاَفاً، وقد تقدم. وقوله: (وَعَلَى عِصَابَةِ الْجَبَائِر) لأنها لا تَثْبُتُ الجبيرةُ إلا بها. ثم فَسَّرَ شِبْهَ الجبائرِ بالمرارَةِ تُجْعَلُ على الظُّفْرِ، والقرطاس يُجْعَلُ على الصُّدْغِ. وقوله: (وَإِنْ شُدَّتْ بغَيْرِ طَهَارَةٍ) لأن سببَها ضروريٌّ بخلافِ الخُفِّ.

ابن عبد السلام: ومِن هنا يُؤْخَذُ الحُكْمُ في مَن برأسِهِ عِلَّةٌ لا يَستطيعُ معها غسلُه بالماء في الطهارةِ الكبرى أنه يَنْتَقِلُ إلى المَسْحِ، خلافَ ما في أسئلة ابن رشد أنه يَنْتَقِلُ إلى التيمم. وبالأوَّلِ كان يُفتي أكثرُ مَن لقيناه. فَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِمَسِّهَا أَوْ لا تَثْبُتُ أَوْ لا يُمْكِنُ، وَهِيَ فِي أَعْضَاء التَّيَمُّمِ تَرَكَهَا وَغَسَلَ مَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا فَثَالِثُهَا: يَتَيَمَّمُ إِنْ كَانَ كَثِيراً، وَرَابعُهَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاء وَالتَّيَمُّمِ ..... الضمير في (مَسِّهَا) عائدٌ على الجراحِ، وفي (تَثْبُتُ) عائدٌ على الجبائرِ. وقوله: (أَوْ لا تَثْبُتُ) صوابه: ولا تَثْبُتُ على الجَمْعِ، وإن كان الواقعُ فيما رأيتُ إثباتَ الأَلِفِ؛ لأنه إذا كان لا يَقْدِرُ على مَسِّ الجِرَاحِ لا يَكفيه ذلك في جوازِ تَرْكِ المَسْحِ، بل لا بُدَّ مع ذلك مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إما أن تكون الجبيرةُ لا تَثْبُتُ كما لو كانت تحت المَارِنِ، أو كانت لا تُمكنُ أَصْلاً كما لو كانت في أَشْفَارِ العَيْنِ. فقوله: (لا يُمْكِنُ) عطفٌ على قوله: (لا تَثْبُتُ) وأَحَدُهما- لا بِعَيْنِه- قَيْدٌ في قوله: (يَتَضَرَّرُ). وحاصلُ كلامِه صورتان: إحداهما: لا يُمكنه مَسُّ الجراحِ، ولا تَثْبُتُ عليها جبيرةٌ أصلاً. والثانية: لا يُمكنه غَسْلُها ولا يُمكن أن تكون فيه جبيرةٌ أَصْلاً. ويُؤيد هذا كلامُ صاحبِ الجواهرِ قال: إن كان الموضعُ لا يُمكنه وضعُ شيءٍ عليه ولا ملاقاته بالماءِ فإِنْ كان في موضعِ التيممِ- ولم يُمكن مسحهُ بالتراب- فليس له إلا الوضوءُ وتَرْكُه بلا مَسْحٍ، ولا غُسْلٍ. انتهى. فإن قلتَ: فعلى هذا قول المصنف (ولا يمكن) أي: المسحُ بالتراب ليكون موافقاً لصاحب الجواهر- قيل: الظاهرُ أنه لا يُريد هذا، إِذْ هو حَذْفُ مالا دليل عليه، وهو غيرُ

جائزٍ. وعلى هذا فالظاهرُ أنه لم يَتْبَعَ ابنَ شاسٍ هنا، وأن الضمير في (مسها) عائدٌ على الجبائر، لا على الجراح، ويكون كلامهُ باقياً على ظاهرِه، ويكون محتوياً على ثلاثِ صُوَرٍ، والله أعلم. وقولُ ابن شاس: فليس إلا الوضوء. هو كقول المصنف: (تَرَكَهَا وَغَسَلَ مَا سِوَاهَا) يريد أنه لو تَيمم تَرَكَها أيضاً، فالوضوءُ الناقصُ أَوْلَى مِن التيممِ الناقصِ. وإِنْ كانت في غيرِ أعضاءِ التيمم كالرأسِ والرجلين فأربعةُ أقوالٍ: قيل يَتيمم ليأتي بطهارةٍ كاملةٍ. وقيل: يَغسل ما صَحَّ، ويَسقط موضعُ الجبيرةِ؛ لأن التيممَ إنما يكون مع عَدَمِ الماءِ. والقولُ بالتفرقةِ مبنيٌّ على أن الأقلَّ تابعٌ للأكثرِ. والرابعُ مبنيٌّ على الاحتياط. ولم أَرَ هذه الأقوالَ مَعْزُوَّةً، ولم يَحْكِ ابنُ شاسٍ الثالثَ. فإِنْ قُلْتُ: قد تَقَدَّمَ في باب التيمم أنه لا يَنقلُ مِن الجِراحِ أو الشِّجاجِ إليه إلا ما كَثُرَ مِثْلُ أَنْ يَبْقَى له يَدٌ أو رِجْلٌ، والخلافُ هنا مطلَقٌ بدليلِ القولِ الثالثِ. فالجوابُ أَنَّهُ إِنما قَيَّدَ هنالك المتألمَ بأن يكون أكثرَ؛ لأن المسحَ ممكنٌ، وأَطلقَ هنا لأنه لا يُمْكِنُ فيه، فلا يَبْعُدُ أن يكون اليسيرُ هنا كالكثيرِ هناك، والله أعلم. فَإِذَا صَحَّ غَسَلَ وَمَسَحَ الرَّاسَ فِي الْوُضُوء قوله: (غَسَلَ) أي: ما مَسَحَه مما هو في الأصلِ مغسولٌ. وقوله: (وَمَسَحَ الرَّاسَ فِي الْوُضُوء) ينبغي أن تكون الأذنان كذلك، وكأنه إنما اقتصر على الرأسِ لكونِه فرضاً، وحاصلُه أنه يَبْنِي كما في المَسْحِ على الخفين. ابن عبد السلام: ولا خلافَ أَعلمُه فيه.

وَإِنْ سَقَطَتِ الْجَبِيرَةُ قَطَعَ الصَّلاةَ وَرَدَّهَا وَمَسَحَ أمَّا قَطْعُ الصلاةِ فلأَنَّ الجبيرةَ لمَّا سقطتْ تَعَلَّقَ بذلك المحلِ الحدثُ، فلَمْ يَبْقَ شَرْطُ الصلاةِ بالنسبةِ إلى ما بَقِىَ مِن الصلاةِ. وَلَوْ صَحَّ وَنَسِيَ غَسْلَهَا وَكَانَ عَنْ جَنَابَةٍ، فَفِيهَا: إِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لا يُصِيبُهُ الْوُضُوءُ أَعَادَ كُلْمَا صَلَّى. يُرِيدُ غَسْلَ الْوُضُوءِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَغْسُولِ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ، وَأَعَادَ مَا قَبْلَهُ .... كان يَنبغي أَنْ يَجعلَ هذا الفرعَ بإِثْرِ قولِه: (فَإِذَا صَحَّ غَسَلَ وَمَسَحَ) لأنه مُفَرَّعٌ عليه، وإدخالُه مسألةَ سقوطِ الجبيرة بينهما ليس بجَيِّد، وكأنه تَبعَ في ذلك ابنَ شاس. والضمير في (غَسْلَهَا) عائدٌ على الجِرَاحِ، واسم كان يحتمل أن يكون عائداً على الغسلِ، ويحتمل أن يَعود على الحَدَثِ المفهومِ مِن السياقِ. وينتهي لفظ المدونة عند قوله: (كُلْمَا صَلَّى). وقوله: (يُرِيدُ غَسْلَ الْوُضُوءِ) يعني أن مالكاً يُريد بقولِه: (لا يُصِيبُهُ الْوُضُوءُ) غَسْلَ الوضوءِ، إذا لو كانت [37/ب] في الرأسِ- ومَسَحَ عليها- صَدَقَ أن الوضوءَ أصابها، وليس هو المراد. وإنما أَجزأ غَسْلَ الوضوءِ عن غَسْلِ محلِّه للجنابةِ- وإن كانت موانعُ الجنابةِ أكثرَ- لأن الفِعْلَ فيهما واحدٌ، وهما فرضان، فنَابَ أحدُهما عن الآخَرِ. وانظرْ هل يَجْرِي في هذه المسألة خلافٌ مِن مسألةِ ما إذا نَوَتِ الجَنَابَةَ دُونَ الحَيْضِ؟ وخالفَ الباجيُّ في هذه المسألةِ، ورآها كمسألةِ التيممِ التي تأتي. ومما يَنْخَرِطُ في هذا المسلكِ ما حُكِيَ عن الشيخين الجليلين أبي علي ابنِ القَدَّاحِ وأبي الحسنِ المنتصرِ فيمن بقيت عليه لمُعَةٌ، فلما غَسَلَها بنيةِ الوضوءِ أَحْدَثَ قَبْلَ كَمالِ الطهارةِ. فقال أبو علي: إِنْ قلنا: إِنَّ الحدثَ لا يَرتفع إلا بالإكمالِ. لم تَطْهُرِ اللمعةُ مِن الجنابةِ، وإن قلنا: يَرتفع حدثُ كلِّ عُضْوٍ بالفراغِ منه. ارتَفَعَتْ جنابةُ اللمعةِ.

وقال أبو الحسن: تَطْهُرُ لمعةُ الجنابةِ مطلقاً؛ لأنها غُسِلَتْ بنيةِ الفرضِ، وكذلك أيضاً إذا لَزِمَه مَسْحُ الرأسِ في الغسلِ لضررٍ به فَنَسِيَه، ثم مَسَحَه في الوضوء. فأفتى أبو الحسن بعدمِ الإجزاءِ، وأفتى أبو علي بالإجزاءِ. وبه قال ابنُ عبد السلام. وَاعْتُرِضَ بمَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بأَنَّ تَيَمُّمَ الْوُضُوءِ كَالْوُضُوءِ وَبأَنَّهُ بَدَلٌ يعني: إذا تيمم لاستجابةِ الصلاةِ مِن الحدثِ الأصغرِ ناسياً للحدثِ الأكبرِ، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورِ عدمُ الإجزاءِ، فيُقالُ عليه: إِنَّ نيةَ الحدثِ الأصغرِ إما أن تَنُوَب عن الحدثِ الأكبرِ أَوْ لا. والأولُ يُوجب الاكتفاءَ بالتيمم في المسألة المذكورة، والثاني يوجب عدمَ الاكتفاءِ بغسلِ الوضوءِ. وفُرِّقَ بوجهين: الأولُ: أن تيممَ الوضوءِ كالوضوءِ، وهو لو تَوَضَّأَ ينوي الجنابةَ لَمْ يُجْزِهِ، فأَحْرَى البَدَلُ، وأما مسألةُ الجبيرةِ فالمطلوبُ في الوضوءِ والغسلِ إنما هو غَسْلُ محلِّها، والفرضُ أنه غَسَلَه بنيةِ رَفْعِ الحَدَثِ، فصحَّ الاكتفاءُ بغَسْلِها في الوضوءِ عن غَسلِها في الجنابة. والثاني: أنه بدل، والضمير في (أنه) عائدٌ على تيممِ الوضوء، وهو كلام يحتمل أن يُوجه على معنيين: الأول- وهو الأظهر: أن التيممَ بَدَلٌ، والجنابةَ أصلٌ، فلا يَنُوبُ عن أصلٍ بخلافٍ غسلِ الوضوء، فإنه أَصْلٌ يَنُوبُ عن أصلٍ. والثاني- وهو الذي قاله ابن عبد السلام: أن البدلَ لا بُدَّ أن يُذكر عند الإتيان بالأصل الذي هو بَدَلٌ عنه، فَشَرْطُ صِحَّةِ التيممِ في المسألةِ المفروضةِ، أنْ ينوي أنَّ هذا التيممَ بَدَلٌ عن الحدثِ الأكبرِ، وقد فاتَه، ولا بَدَليَّةَ في مسألةِ الجبائرِ، بل كلُّ واحدٍ مِن الغَسْلَيْنِ أَصْلٌ. ثم قال: وقد بَقِيَ هنا شيءٌ، وهو: إِنْ َصَحَّ هذا الفرقُ لَزِمَ طَرْدُه في كلِّ بَدَلٍ مع أصلِه، فيَلزم المكفِّرَ في الظهار بالصوم أن يَنويَ بَدَليَّتَه عَن العتقِ، وفي الإطعامِ بدليتهَ عن

الحيض

الصومِ، وكذلك سائرُ الكفاراتِ المُرَتَّبِة، والصومُ مع الهَدْيِ، إِلا أَنْ يُقال: الموجِبُ لهذا في التيممِ كونُه لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، كما أشار إليه بعضُهم. وفيه مع ذلك نظرٌ؛ إِذْ لا مناسبةَ تُوجِبُ هذا في هذا الموضعِ دونَ غيرِه. خليل: وقد يُقال أيضاً في الفَرْقِ أنَّ غَسْلَ اللُّمْعَةِ في الجنابةِ استَنَدَ إلى شيءٍ قد تمَّ بدليلِ صحةِ ما وقع مِن العباداتِ قَبْلَ النَّزْعِ فيبقَى معنا أَصْلُ مُتَقَدِّمٌ ناسَبَ أن يُبْنَى عليه، بخلاف تيممِ الوضوءِ، فإنه لم يتقدم قَبْلَه شيءٌ، والله اعلم. الْحَيْضُ الدَّمُ الْخَارِجُ بِنَفْسِهِ مِنْ فَرْجِ الْمُمْكِنِ حَمْلُهَا عَادَةً غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً مِنْ غَيْرِ وِلادَةٍ .... (الْحَيْضُ): لغةً: السَّيَلاَنُ. قيل: أصلُه مأخوذٌ مِن قولِ العربِ: حاضَتِ السَّمُرَةُ، إذا خَرَجَ منها ماءٌ أحمرُ، فكأنه مِنَ الحُمْرَةِ. عياض: ولعل السمرة إنما شُبِّهَتْ بالمرأةِ لهذا. وقيل: الحيضُ والمحيضُ اجتماعُ الدَّمِ هناك، ومنه سُمِّيَ الحوضُ حوضاً لاجتماعِ الماءِ فيه. انتهى. ورُدَّ الأخيرُ بأنَّ الحوضَ مِن ذوات الواو، والحيضَ مِن ذوات الياءِ، فهما متباينان. وقد جَعَلَهما صاحبُ الصِّحَاحِ في بابين. وحدُّه شرعاً ما ذكره؛ فالدمُ الخارجُ كالجِنْسِ، ويُخْرَجُ به غيرُ الدّمِ. وأَخْرَجَ بقوله: (بِنَفْسِهِ) الخارجَ في النِّفَاسِ؛ لأنه بسببِ الولادةِ، أو بشيءٍ كَدَم العُذْرَةِ. ومن ثَمَّ أجاب شيخُنا- رحمه الله- لما سُئِلَ عن امرأةٍ عالجتْ دمَ الحيضِ: هل تَبْرَأُ مِن العِدَّةِ؟ فأجاب: بأن الظاهرَ أنها لا تَحِلُّ. وتَوَقَّفَ- رحمه الله- عن تَرْكِ الصلاةِ

والصيامِ. والظاهرُ على بَحْثِه أن لا يُتْرَكا، وإنما قال: الظاهرُ؛ لاحتمالِ أن استعجالَه لا يُخرجه عن دمِ الحيضِ كإسهالِ البَطْنِ. وقوله: (مِنْ فَرْجِ) يُخرج الخارجَ لا مِن الفرج كالدُّبُرِ ونحوِه؛ لأن مرادَه القُبْلَ. والأحسنُ أن لو قال: مِنْ قُبُلٍ. لِصِدْقِ الفَرْجِ على الدُّبُرِ. وقوله: (الْمُمْكِنِ حَمْلُهَا عَادَةً) يُخرج اليائسةَ والصغيرةَ؛ لأنَّ ما يَخرج منهما لا يُسَمَّى حيضاً. وقوله: (غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً) أي على الْمَشْهُورِ، يُخرج دمَ الاستحاضة وهذا- والله أعلم- حدُّ الغالب، وإلا فحيضُ الحَمْلِ أكثرُ، كما سيأتي. وقوله: (مِنْ غَيْرِ وِلادَةٍ) زيادةُ بيانٍ، وإلا فهو خارجٌ بقوله: (بِنَفْسِهِ). وأُورِدَ عليه أنه غيرُ مانعٍ لدخولِ نوعٍ مِنْ دَمِ الاستحاضةِ، وهو ما زاد على دمِ العادةِ، والاستظهارِ إذا كان أقلَّ مِنْ خمسةَ عشرَ يوماً. وأُجيب بأن ذلك نادرٌ فلا يَرِدُ. واعتُرِضَ عليه في استعمال لفظة (بنَفْسِهِ) في غيرِ محلِّها؛ لأن النفسَ والعينَ إنما يُستعملان في التأكيد، أو حالاً مؤكدة، كقوله: هذا وجَدَّكُمُ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ. ابن هارون: وقد يُجاب عنه بأن هذه النفسَ والعينَ ليست المذكورةَ [38/ أ] في التأكيدِ؛ لأن التي في التأكيدِ بمعنى الحقيقةِ إِذْ أَنها إِنما يُؤتى بها لرفعِ تَوَهُّمِ الَمجازِ، بخلافِ هذه. فَدَمُ بِنْتِ سِتٍّ وَنَحْوِهَا، وَاليَائِسَةِ كَبِنْتِ السَّبْعِينَ- وَقِيلَ: الْخَمْسِينَ- لَيْسَ بِحَيْضٍ لأن كُلاًّ منهما لا يُمكنُ حَمْلُها في العادةِ. وقوله: (السَّبْعِينَ) قال ابن رشد: والستين. والقولُ بالخمسين لابنِ شعبانَ. ووَجْهُه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: ابنةُ الخمسينَ عجوزٌ في الغابرينَ. وقولُ عائشةَ: قَلَّ امرأةٌ تُجَاوِزُ الخمسين فتحيضُ إلا أن تكونَ قُرَشِيَّةً.

وما ذكره المصنف من قوله: (لَيْسَ بِحَيْضٍ) هو متفقٌ عليه في الصغيرةِ، وأما الآيِسَةُ فكذلك أيضاً بالنسبة إلى العِدَّةِ، لأن اللهَ تعالى جَعَلَ عَدَّتَها ثلاثةَ أشهرٍ. واختُلِفَ في العبادةِ، فالْمَشْهُورِ كما قال المصنفُ، وكذلك قال ابن القاسم: إذا انْقَطَعَ هذا الدمُ لا غُسْلَ عليها. وروى ابنُ المواز عن مالك أنها تَتْرُكُ الصلاةَ والصومَ، وعليه فيجب عليها الغُسْلُ عند انقطاعِه، وبذلك صرحَ ابنُ حبيبٍ. وَأَقَلُّ مُدَّتِهِ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرُ مَحْدُودٍ فَالدَّفْعَةُ حَيْضٌ، وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ حَيْضٌ: وَحْدَهُ، أَوْ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا ... الفاء في قوله (فَالدَّفْعَةُ) للسببية، أي بسبب أن أَقَلَّه غيرُ محدود، كانت الدَّفْعَةُ حيضاً. ويحتمل أن يقال- على بُعْدٍ- لما كان قوله: (غير زائد على خمسة عشر يوماً) يُوجب أن يَكون ما قَصُرَ عن ذلك حيضاً، فالدفعةُ داخلةٌ في ذلك. ولا يقال: إذا كانت الدفعةُ حيضاً، ولا أقلَّ مِن ذلك، فالدفعةُ حَدٌّ لأَقَلِّه، لأنا نقول: إنما يُريد أنَّ أَقَلَّه لا حَدَّ له بالزمانِ، واحترز بالعبادةِ مِن العِدَّةِ، وسيأتي. وقوله: (وَالصُّفْرَةُ) إلى آخرِه ظاهرُ التصورِ. ابن بزيزة: والْمَشْهُورِ أن الصفرةَ والكدرةَ حيضٌ اعتماداً على حديثِ عائشةَ رضي الله عنها الذي رواه مالكٌ في موطئِه. وقد قيل: إنها لَغْوٌ؛ اعتماداً على حديثِ أمِّ عطيةَ في الصحيح، قالت: كنا لا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ والكُدْرَةَ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً. وقد قيل: إنها إِنْ كانت في أيامِ الحَيْضِ فهي حَيْضٌ، وإلا فهي استحاضةٌ. انتهى.

وقال ابن راشد: لا خلافَ عندنا في أن الصفرةَ والكدرةَ حيضٌ ما لم تَرهُ عَقِبَ طُهْرِها. فإِنْ لم يَمْضِ مِن الزمان ما يكون طهراً، فقد قال ابن الماجشون: إن رأت عَقِبَ طهرِها قطرةً مِن دَم كالغُسَالَةِ- لم يَجِبْ عليها غُسْلٌ، وإنما يَجِبُ عليها الوضوءُ لقولِ أمِّ عطيةَ: كنا لا نَعُدُّ الصفرةَ والكدرةَ بَعْدَ الطُّهْرِ حيضاً. انتهى. فانْظُرْه مع كلام ابن بزيزة. وقوله: (وَحْدَهُ، أَوْ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا) أي: سواءٌ كانت الصفرةُ والكدرةُ وَحْدَها لم يَتَقَدَّمْها دَمٌ، أو كانت في أيامِ الدمِ كذلك. وعلى هذا فتذكيرُ الضميرِ مُشْكِلٌ، وإنما كان ينبغي أن يقول: وَحْدَهما. ولعله أعاده على المفهومِ، أي سواءٌ كان المذكورُ وحدَه، على حَدِّ قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} (النحل: 67). وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَخُرِّجَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَأَكْثَرُ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً عَلَى الْمَشْهُورِ، ابْنُ حَبيبٍ: عَشَرَةٌ. سَحْنُونٌ: ثَمَانِيَةٌ. ابْنُ الْمَاجِشُونِ: خَمْسَةٌ. وَقِيلَ: تُسْأَلُ النِّسَاءُ قوله: (وَأَكْثَرُهُ) إلى آخره، أي: من حيث الجملة، وإلا فالْمَشْهُورِ التفرقةُ بين المبتدأةِ والمعتادةِ كما سيأتي، ويَرِدُ عليه الحاملُ، وسيتضحُ لك التخريجُ مِن قولِ ابنِ نافعٍ، على أَنَّ في نَقْلِه تَرَدُّداً سيأتي. وأما الطهرُ فلا حَدَّ لأكثرِه؛ لجوازِ عَدَمِ الحيضِ، وأقلُّه خمسةَ عشرَ يوماً. ونقل المصنفُ وغيرُه أنه الْمَشْهُورِ، وحكاه في الجلاب عن ابنِ مسلمة، وأكثرِ أصحاب مالك المتأخرين، قال في التلقين: وهو الظاهرُ مِن المذهبِ. ابن عبد السلام: وأكثرُ النصوص في الكتب الْمَشْهُورِةِ إنما هو القولُ الأخيرُ، ورجحه ابنُ عطاء الله. ومنشأُ الخلافِ اختلافُ العوائدِ، فكلٌّ أفتى بما عنده مِن العادةِ.

تنبيه: اعلم أن بابَ العبادةِ وباب العِدَدِ إنما يختلفان في مقدارِ الحيضِ، وأما في الطهرِ فلا، ولذلك قال المصنف في أقل الحيض: (وأقلُّ مدتِه في العبادة غيرُ محدودٍ) ولم يقُلْ ذلك في الطُّهْرِ. قال في باب العِدَدِ بعد أن ذَكَرَ حُكم الحيضِ بالنسبة إلى العِدَدِ والاستبراِء: (وقد تقدم الطهر في الحيض) تنبيهاً منه- رحمه الله- على مساواةِ البابين في الطُّهْرِ. فمَنْ يَقولُ: إن الطهرَ أقلُّه خمسةَ عشرَ يوماً، أو عشرةٌ، أو ثمانيةٌ لا يُفَرِّقُ في ذلك بَيْنَ البابين. فإن قلتَ: هذا لا يَظهر له معنى، بل الذي يَظهر أن الطهرَ في بابِ العبادةِ لا حَدَّ له، إِذْ لا خِلافَ أنها لو طَهُرَتْ يوماً صَلَّتْ فيه. فالجوابُ أن الفائدةَ في ذلك تَظْهَرُ في المنقَطِعِ حيضُها إذا بلغتْ أكثرَ الحيضِ، فإنها حينئذٍ تُصَلِّي في يومِ دَمِها، وفي يومِ طهرِها. ولو كان كما توهمتَ مِنْ أَنَّ أقلَّ الطهرِ في العبادةِ غيرُ محدودٍ لما كانتْ تُصلي في يومِ دمِها؛ لأنه أَتَى بعد طهرٍ على ما توهمتَ، ولا خفاءَ في فسادِه. نعم أَوْرَدَ بعضُ الأشياخِ سؤالاً، فقال: إذا قلتم: تُصلي في يومِ طهرِها، فلا يَخْلُو أن تَحْكُموا لها فيه بالطهرِ أو بالحيضِ، وضدان لا يَجتمعان، ولا جَائِزَ إلى الأولِ؛ لأنَّ أقلَّ الطهرِ خمسة عشرَ يوماً على الْمَشْهُورِ، ولا إلى الثاني، وإلا لَزِمَ أن تَقضي الصلاة. ويُجابُ عنه باختيارِ القسمِ الأولِ، ويَكون طهراً بانضمامِه إلى ما بَعْدَه إِذِ الجميعُ طهرٌ واحدٌ، والله أعلم. وَالنِّسَاءُ: مُبْتَدَأَةٌ، وَمُعْتَادَةٌ [38/ب] وَحَامِلٌ. فَالْمُبَتَدَأَةُ إِنْ تَمَادَى فَفيها خَمْسَةَ عَشَرَ. وَرَوَى ابْنُ زِيَادٍ: تَطْهُرُ لِعَادَة لِدَاتِهَا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبِ: وَثَلاثَةُ أَيَّامٍ اسْتِظْهَاراً قَدَّم المبتدأةَ لتَقَدُّمِ أمرِها على المعتادة، وأَخَّرَ الحاملَ لندورِ أمرِها، والْمَشْهُورِ مذهبُ المدونةِ: أن المبتدأة إذا تَمَادَى بها الدمُ تمكثُ خمسةَ عشرَ يوماً. ورَأَى في روايةِ ابنِ زيادٍ أن الطباعَ

لا تَختلف كاستوائِهن في النومِ واليقظةِ، والألمِ واللذةِ، ويَغْلِبُ على الظن أن الدمَ الزائدَ دَمُ عِلَّةٍ وفسادٍ. واللِّدَاتُ هن الأَتَرابُ، وهن ذواتُ أسنانِها. ابن الجلاب: مِن أهلِها، وغيرِهن. وقال اللخمي: لو قيل: ينظر إلى ما كان عليه أمهاتُها وأخواتُها وعماتُها لكان حَسَناً. والاستظهارُ استفعالٌ، مِن الظَّهِيرِ: وهو البرهانُ. فكأنَّ أيامَ الاستظهارِ برهانٌ على تمامِ الحيضِ. وفي التنزيل: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [لتحريم: 4] والاستظهارُ- على رواية ابن وهب- مشروطٌ بأن لا يزيدَ على خمسة عشر يوماً. والْمُعْتَادَةُ إِنْ تَمَادَى فَخَمْسَةٌ، فِيهَا رِوَايَتَانِ: خَمْسَةَ عَشَرَ، ورَجَعَ إِلَى عَادَتِهَا مَعَ الاسْتِظْهَارِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى خَمْسَةُ عَشَرَ يَوْماً فَقِيلَ: عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا. وقِيلَ: عَلَى أَقَلِّهَا. وأَيَّامُ الاسْتِظْهَارِ عِنْدَ قَائِلِهِ حَيْضٌ، ومَا بَيْنَهَا وبَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ قِيلَ: طَاهِرٌ. وقِيلَ: تَحْتَاطُ فَتَصُومُ وتَقْضِي وتُصَلِّي وتَمْنَعُ الزَّوْجَ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ ثَانِياً يعني: أن في المعتادة إذا تمادى بها الدمُ خمسةَ أقوالٍ، فيها- أي في دولة المدونة- من الخمسةِ روايتان: الأُوَلى: تَمكث خمسة عشر يوماً. والثانية: رجع إليها، وهي الْمَشْهُورِةُ، تمكثُ عادتَها مع الاستظهارِ بثلاثةِ أيامٍ ما لم يَزْدَدْ على خمسةَ عشرَ يوماً، وهو الْمَشْهُورِ، فتَسْتَظْهِرُ بثلاثةِ أيامٍ إذا كانت العادةُ اثني عشرَ فأقلَّ. وإن كانت ثلاثة عشر استَظْهَرَتْ بيومين، وإن كانت أربعة عشر فبيومٍ واحدٍ. وإلى هذا أشار بقوله: (مَعَ الاسْتِظْهَارِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى خَمْسَةُ عَشَرَ يَوْماً). واستَضْعَفَ التونسيُّ الاستظهارَ على أقلِّ العادةِ؛ لأنه قد يكون بينَ الأقلِّ والأكثرِ أكثرُ مِن مُدَّةِ الاستظهارِ، فإذا بَنَتْ على القليلِ احتمل أن يكون هذا الدمُ مِن العادةِ الكثيرةِ، فتَفْعَلُ أفعالَ الطاهرِ وهي حائضٌ. وأُجيب بأنَّ معنى المسألة: مَنْ تَخْتَلِفُ عادتُها في الفصولِ فتحيضُ في الصيف مثلاً عشرةً، وفي الشتاءِ ثمانيةً، فإن تَمادى بها الدمُ في الشتاءِ فاختُلف على ما ذُكِرَ، وأما إن تمادى بها في فصلِ الأكثرِ فلا خلافَ أنها تَبْنِي على الأكثرِ.

وعلى هذا فقولُه: (فَقِيلَ: عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا. وقِيلَ: عَلَى أَقَلِّهَا) فَرْعٌ على الْمَشْهُورِ، أي: إذا بَنَيْنَا على الْمَشْهُورِ مِن الاستظهارِ على عادتِها، فاختُلِفَ إذا اختلفتْ عادتُها في الفُصُولِ على أيِّ العادَتَيْنِ تَبْنِي، والقولُ بالأكثرِ مذهبُ المدونةِ، وبالأقلِّ مذهبُ ابن حبيب. قال ابن رشد: وذهب ابنُ لبابة إلى أنها تَغتسل عند أقلِّ أيامِها مِنْ غيرِ استظهارٍ، وهو خطأٌ، صَرَّحَ به ابنُ هارون. واتُّفِقَ على أَنَّ أيامَ الاستظهارِ حيضٌ عِنْدَ مَنْ قال به. وقوله: (وما بينه وبين خمسة عشر يومًا) إلى آخره، يعني أنه اختُلف – على الْمَشْهُورِ – إذا قلنا بالاستظهارِ على العادةِ فيما بين العادة وتمامِ خمسة عشر يومًا، فقيل: حكمُها حكمُ الطاهِر في تَوَجُّهِ الصلاةِ والصومِ وعدمِ القضاءِ وإتيانِ الزوجِ، وهو مذهبُ المدونة في الطهارة، ونصُّ قولِ ابنِ القاسم في الموازية، وظاهرُ المدونة في الحجِّ لقولِه: إذا حاضت قَبْلَ طوافِ الإفاضةِ أَنَّ كَرِيَّهَا يُحْبَسُ عليها قَدْرَ أيامِها والاستظهارِ، ثم تَطُوفُ. وقيل: تحتاطُ: فتصومُ لاحتمالِ الطهارةِ، وتقضي لاحتمال الحيضِ، وتصلي لاحتمالِ الطهارةِ، ولا تقضي لأنها إِنْ كانت طاهرًا فقد صَلَّتْ، وإن كانت حائضًا فلا أداءَ ولا قضاءَ. وتَمْنَعُ الزوجَ لاحتمالِ الحيضِ، وتغتسلُ عند انقطاعِه لاحتمالِ الحيضِ. وفَهِمَ الأبهريُّ وابنُ الجهم واللخمي وغيرُهم روايةَ ابنِ وهب التي في المدونةِ على هذا القولِ، وعَبَّرَ المازري عن هذين القولينِ بأنه اختُلِفَ في الزائدِ هل هو استحاضةٌ قَطْعاَ أو احتياطًا. وذَكَرَ مِن ثمرتِه ما ذَكَرَ المصنفُ، ثم قال: ومِن ثمرتِه قضاءُ الصومِ والصلاةِ، فإن منهم مَن أَمَرَ بقضائِها كما حكيناه، ومنهم مَنْ عَدَّها استحاضةً قطعًا فلم يَأَمُرْها بالقضاءِ. ومِنْ ثمرتِه: هل تغتسلُ؟ قال ابنُ الجهم: تغتسلُ عند الخمسةَ عشرَ يومًا غسلاً هو الواجبُ عليها بناءً على أنها مستحاضةٌ احتياطًا.

وقد عَبَّرَ بعضُهم عن هذه الطريقة بأن الغسلَ عند انقطاعِ أيامِ اللَّداتِ مستحبٌّ، وعند الخمسةَ عشر واجبٌ. قال المارزي: وهذه العبارةُ يجب– عندي– أن تُحَقَّقَ لئلا يغلطُ مَن لا دِرَايَةَ له بالحقائقِ، فيتوهمُ أن الغُسْلَ مستحبٌّ، فلا تَاثَمُ إن صلتْ بغير غُسْلٍ، وهي متى صَلَّتْ مِنْ غيرِ غُسْلٍ أَثِمَتْ بإجماعٍ؛ لأنها حائضٌ صَلَّتْ بغيرِ غُسْلٍ بإجماعٍ، والصلاةُ وإن كانت عند هؤلاء غيرَ واجبةٍ، فالطهارةُ لها واجبةٌ على مَن أراد الشروعَ فيها. ولعل معنى قولِ هؤلاء: الغُسْلُ مُسْتَحَبٌّ: أنها لو تَرَكَتْهُ لِتَرْكِها الصلاةَ لم تَاثَمْ، فهذا الإطلاقُ يجب أن يُحَقَّقَ هكذا. وأمَّا مَنْ حَكَمَ بأنها مستحاضةٌ قطعًا فلا ريبَ عنده في وجوبِ الغسلِ؛ لاعتقادِه وجوبَ الصلاةِ عليها. ومن ثمرةِ الخلاف أيضاً: إذا وجبت عليها عِدَّةٌ– كان مبتدأُ الطهر الذي هو عدتُها عند انقضاءِ أيامِ لِدَاتِها عِنْدَ مَنْ رآها مستحاضةً قطعًا، وبعد ذَهابِ [39/ أ] الخمسة عشر يومًا عند مَن رآها مستحاضةً احتياطًا. قال: ومِن ثمرته أيضاً– عندي– طلاقُها حينئذٍ، هل يُجبر الزوجُ فيه على الرجعةِ؟ فعلى الاستحاضةِ المحققةِ لا يُجْبَرُ. وهذا كلُّه– وإن ذكره المازري في المبتدأةِ– فلا فرقَ بينها وبين المعتادةِ في ذلك، والله أعلم. والثَّالِثُ: عَادَتُهَا خَاصَّةً، وفِيمَا بَيْنَهَا وبَيْنَ الخَمْسَةَ عَشَرَ القَوْلانِ. والرَّابعُ: خَمْسَةَ عَشَرَ واسْتِظْهَارُ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. والْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: واسْتِظْهَارُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. وأَنْكَرَهُ سَحْنُونٌ .... نَسَبَ اللخمي القولَ الثالثَ لابن عبد الحكم.

وقوله: (القَوْلانِ) أي: المتقدمان، الجزمُ بالطُّهْرِ والاحتياطُ. والضمير المجرور في (بينها) عائدٌ على العادةِ. والرابعُ قول مالكٍ في كتاب الحج من الموازية. وقوله: (يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ) أي: لا تَزيدُ عليهما ولا تَنقص مِن اليومين، وتُخَيَّرُ فيهما. ودلت الواو من قوله: (واسْتِظْهَارُ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ) أن هذا الاستظهارَ بَعْدَ الخمسةَ عشرَ يومًا، وكذلك قال ابنُ نافع. والتخييرُ مُشْكِلٌ، ولعل ذلك بحَسَبِ رائحتِه وخِفَّتِه، وثخانتِه ورِقَّتِه. والظاهرُ أنّ إنكارَ سحنونٍ الخامسَ مِنْ حيثُ النَّقْلُ. المازري بعد أن حكى عن ابن نافع ما حكاه المصنف: هكذا نَقَلَه عنه ابنُ حارث وبعضُ أشياخي. وأنكر بعضُهم أن يكون ابنُ نافع حَدَّ الاستظهارَ بحَدٍّ، قال: وإنما ذكر عنه أنه قال: تَستظهر. ولعله أراد اليومين؛ لأن مِن الناسِ مَن قال: أكثرُ الحَيْضِ سبعةَ عشرَ يومًا. ولم يَقُلْ أحدٌ بالزيادة على ذلك، فلا معنى لإثباتِ الاستظهارِ في أمر اتُّفِقَ على أنه لا يبلغُ أكثرُ الحَيْضِ إليه. انتهى. والْحَامِلُ تَحِيضُ، فَإِنْ تَمَادَى بها الدَّمُ فَفِيهَا: قَالَ مَالِكٌ: تَمْكُثُ قَدْرَ مَا يُجْتَهَدُ لَهَا. ولَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، ولَيْسَ أَوَّلُ الْحَمْلِ كَآخِرِهِ، ورَوَى أَشْهَبُ كَالْحَائِلِ ... كَوْنُ ما تراه الحاملُ مِن الدَّم حيضًا هو الْمَشْهُورِ. وقال الداودي: لو أُخِذَ فيه بالاحتياطِ فتصومُ وتُصلي، ولا يأتيها زوجُها لكان حسنًا. هكذا نقله الباجي وغيرُه. وجزم بعضهم عنه أنها تحتاط. وقال ابن لبابة: ليس حيضًا. واستُقْرِئَ لابن القاسم مما قاله في المطلقة إذا حاضَتْ ثم أَتَتْ بولدٍ: لو عَلِمْتُ أنه حَيْضٌ مستقيمٌ لرَجَمْتُها. فإن قيل: لو كان الحيضُ يَحْصُلُ مع الحَمْلِ– لم يكن الحيضُ دليلاً على براءةِ الرَّحِمِ. فجوابُه أنه يَدُلُّ دلالةً ظنيةً لا قطعيةً، واكتفى الشارعُ بالظَّنِّ رِفْقًا بالنساء.

وقوله: (فَإِنْ تَمَادَى) أي: فإن جاوزَ دمُها عادتَها. فقال مالكٌ ما ذَكَرَه المصنفُ عنه. وقولُ أشهبَ ظاهرٌ عَمَلاً بالاستصحابِ. ومعنى (كَالْحَائِلِ) أي: فتَجلس أيامَ عدتِها. ابن يونس: وتَسْتَظْهِرُ. وذلك عنه في الموازية والواضحة، وسواءٌ استرابتْ عنده على هذا القولِ أم لا. انتهى. ولا يُؤخذ هذا مِن كلام المصنفِ؛ لاحتمالِ أن يُريد بقوله: (كالحائل) أنها تجلس خمسة عشر يوماً. وقد حكى المازري وابن رشد ثلاثةَ أقوال، فقيل: تجلسُ خمسة عشر يومًا كما قيل في الحائِلِ. وقيل: قَدْرَ عادَتِها، ولا تُؤْمَرُ بالاستظهارِ. وأمر به أشهبُ، واختَلف عنه رواةُ المدونة، هل تُؤمرُ بالاستظهار بِشَرْطِ الاِسْتِرَابَةِ أو بشرطِ أَلاَّ تَسْتَرِيبَ. والاسترابةُ– عند بعضِهم– أن يتأخرَ عن وقتِه، أو يزيدَ أو ينقصَ عن عَدَدِه، وعند بعضِهم أَنْ يَرتفع في أَوَّلِ الحَمْلِ. انتهى. وانظرُ ما يتعلقُ باختلافِ الرواةِ عن أشهبَ في التنبيهات. وفِيهَا: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَمْكُثُ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ ونَحْوِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ ونَحْوَهَا، وبَعْدَ سِتَّةِ الْعِشْرِينَ ونَحْوَهَا. وعَنْهُ: وآَخِرُ الْحَمْلِ ثَلاثِينَ، ولا اسْتِظْهَارَ فِيهَا هذا تفسيرٌ لأَوَّلِ الحَمْلِ وآخرِه. واختَلَفَ الشيوخُ في الشهرِ الأولِ والثاني، فقال الإِبِّيَانّي: تَجلس خمسةَ عشرَ بمنزلةِ الثلاثةِ. وقال ابن يونس: الذي يَنبغي على قولِ مالك الذي رجع إليه أن تَجلس في الشهر والشهرين قَدْرَ أيامِها والاستظهارِ. واختُلِفَ أيضاً في الستة: هل حكمُها حكمُ الثلاثةِ، وهو قولُ ابنِ شبلون، أو حكمُ ما بعدها، وهو قولُ جماعةِ شيوخِ إفريقيةَ؟ وهو أظهرُ؛ لأنَّ الحاملَ إذا بَلَغَتْ ستةَ أشهرٍ صارتْ في أحكامِها كالمريضةِ. ونَقْلُ ابنِ شِبْلُونَ راجعٌ إلى هذا.

والضميرُ المجرور بعن عائدٌ على ابن القاسم. وظاهرُه أنه وَافَقَ في هذا القولِ قولَه الأولَ في أَوَّلِه، وهو كذلك. قال في النوادر: قال ابن حبيب: مذهبُ ابن القاسم إن رَأَتْهُ في أَوَّلِ الحَمْلِ جلستْ خمسةَ عشرَ يومًا، وفي آخرِه ثلاثينَ. وقال ابن يونس: قال سليمان بن سالم عن ابن القاسم أنها تجلس في أول الحمل خمسة عشر، وفي آخره خسمة وعشرين، ولا أُحِبَّ أن أَبْلُغَ بها الثلاثين. ونَقَلَ ابنُ الجلاب عن ابن القاسم أنها إِنْ رأته بعد شهرين أو ثلاثةٍ مِنْ حَمْلِها تَرَكَتِ الصلاةَ ما بين خمسة عشر يومًا إلى عشرين، وإن رأته بعد ستةِ أشهرٍ أو في آخرِ حَمْلها تَركت الصلاةَ ما بين عشرين إلى ثلاثين، فتَحَصَّلَ لابنِ القاسمِ أربعةُ أقوالٍ. ورَوَى مُطَرذِفٌ فِي أَوَّلِهِ الْعَادَةَ والاسْتِظْهَارَ، وفِي الثَّانِي مِثْلَيْ الْعَادَةِ، وفِي الثَّالِثِ ثَلاثَةَ أَمْثَالِهَا، وكَذَلِكَ إِلَى سِتِّينَ فَلا تَزِيدُ. وقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ضِعْفَ عَادَتِهَا خَاصَّةً. تصورُ هذا الكلام ظاهرٌ، ومرادُه بالثاني الشهرُ الثاني، وكذلك بالثالث. وقوله: (إِلَى سِتِّينَ) أي: لا تَزال تُضَاعِفُ العادةَ إلى أن يبلغَ دمُها ستين يومًا، ولا تَزِيدُ بعد ذلكَ، ونَقَلَ المازري قولاً آخَرَ بالتضعيفِ إلى آخِرِ شهورِ الحَمْلِ، وإن زادت على الستين يومًا. [39/ ب]. ومَتَى تَقَطَّعَ الطُّهْرُ غَيْرَ تَامٍّ عَلَى تَفْصِيلِهِ كُمِّلَتْ أَيَّامُ الدَّمِ عَلَى تَفْصِيلِهَا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وتَغْتَسِلُ كُلَّمَا انْقَطَعَ عَنْهَا وتُصَلِّي وتَصُومُ وتُوطَأُ. وقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِنْ كَانَ الدَّمُ أَكْثَرَ وإِلا جَمَعَتْ أَيَّامَ الطُّهْرِ طُهْراً وأَيَّامَ الْحَيْضِ حَيْضاً حَقِيقَةً .... (تَقَطَّعَ الطُّهْرُ) أي: تَخَلَّلَهُ دَمٌ، وكلامُ المصنفِ أصحُّ مِن كلامِ مَن أضافَ التقطعَ إلى الدمِ؛ لأن الدمَ لا أقلَّ له.

وقوله: (غَيْرَ تَامٍّ) زيادة بيانٍ؛ إذ لا يكون الطهر متقطعًا إلا إذا لم يمض منه ما يصدق عليه اسم طهرٍ. وقوله: (عَلَى تَفْصِيلِهِ) يعني: من الخلاف في أقله. (كُمِّلَتْ أَيَّامُ الدَّمِ عَلَى تَفْصِيلِهَا) أي: على الخلافِ في أكثرِ الحَيْضِ. وقوله: (وتَغْتَسِلُ) إلى آخره، أي: لأنها لا تَدْرِي هل يُعاودُها دمٌ أَمْ لا؟ واختُلف إذا طَلَّقَها في يومِ طُهْرِها، فقال أو بكر بن عبد الرحمن: يُجبر على الرجعةِ للتطويلِ. وقيل: لا يجبر؛ لأنه إنما طلق في طُهْرٍ. ولا خلافَ في إلغاءِ أيامِ الطهرِ إن كانت أيامُ دمِها أكثرَ مِن أيامِ طُهْرِها، إِذْ لا يكونُ الطهرُ أقلَّ مِن الحيضِ أصلاً. هكذا عَلَّلَ صاحبُ الذخيرةِ هذه المسألةَ. والْمَشْهُورِ أن الحُكْمَ كذلك إن كانت أيامُ الطهرِ أكثرَ أو مساويةً. وقال ابن مسلمة وعبد الملك: تكُونُ حائضًا يومَ الحيضَ، وطاهرًا يَوْمَ الطهرِ حقيقةً، ولو بَقِيَتْ على ذلك عمرَها. وهي امرأةٌ خاضتْ مِن الشهرِ نصفَه، وطَهُرَتْ نصفَه، فقد حاضت أكثرَ الحيضِ، وطَهُرَتْ أقلَّ الطُّهْرِ، وإِنْ كان الطهرُ أكثرَ فهو واضحٌ على قولهِما. التونسي: ويَجِبُ على قولِ ابنِ مسلمة أن تكُونَ عِدَّتُها- إذا كانت تحيض يومًا وتَطْهُرُ يوماً- ثلاثةَ أشهرٍ، إِذْ فيها تَسْتَتِمُّ ثلاثةَ أطهارٍ. قال: وانْظُرْ على قولِه هل يُطلقها في يومِ الطهرِ؛ لأنها تحتسب به؟ قال في المقدمات: وانظر هل يَصِحُّ أن تُلَفِّقَ في النفاسِ أيامَ الطهرِ على مذهبِ ابن مسلمة؟ ولا يَبْعُدُ ذلك عندي. انتهى. تنبيه: قولنا: حاضت يومًا وطهرت يومًا- لا نُرِيدُ به استيعابَ جميعٍ اليومِ بالحيضِ؛ فقد نقل في النوادر عن ابن القاسم في التي لا ترى الدمَ إلا في كلِّ يومٍ مرةً، فإنْ رَأَتْه عند

صلاةِ الظهر فتَرَكَتِ الصلاةَ، ثم رأت الطهرَ قَبْلَ العصرِ فَلْتَحْتسِبْهُ يومَ دمٍ، وتتطهرُ وتصلي الظهرَ والعصرَ. ومَتَى مَيَّزَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ حُكِمَ بابْتِدَاء حَيْضٍ فِي الْعِبَادَةِ اتِّفَاقاً، وفِي الْعِدَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. والنِّسَاءُ يَزْعُمْنَ مَعْرِفَتَهُ بِرَائِحَتِهِ ولَوْنِهِ، فَإِنْ تَمَادَى فَكَمَا تَقَدَّمَ. وفِي الاسْتِظْهَارِ عِنْدَ قَائِلِهِ قَوْلانِ ..... ما ذكره ظاهرٌ. وقوله: (فَإِنْ تَمَادَى) أي: هذا الدمُ المميَّزُ. فهل تَقتصر على عادتِها، أو تَسْتَظهر، أو تَرْفَعُ إلى خمسة عشر يوماً؟ ثلاثةُ أقوالٍ كما تقدم. ثم اختلف القائلونَ بالاستظهارِ في الحيضِ، فابن الماجشون طَرَدَ أَصْلَه في ذلك. ورُوِيَ عن مالك: لا تَسْتَظْهِرُ. وهو قولُ ابن القاسم في المجموعة، ورواه عن مالك في العتبية، وبه قال أصبغ؛ لأن المستحاضةَ قد تقرَّرَ لها حكمُ الاستحاضةِ، فالأصلُ أن دمَها– إذا زاد على حيضها– استحاضةٌ. وجعل اللخمي محلَّ الخلافِ إذا أَشْكَلَ عليها الدمُ، وأما لو تحققتْ أنه حيضٌ عَمِلَتْ على ذلك، وحُكِمَ بانتقالِ عادتها ما لم تجاوز أقصى الحيض، وكذلك إذا تحققت أيضاً أنه استحاضةٌ عَمِلَتْ عليه. ومَتَى انْقَطَعَ دَمُهَا اسْتَأنَفَتْ طُهْراً تَامّاً مَا لَمْ تُمَيِّزْ قوله: (انْقَطَعَ) أي: حُكِمَ بانقطاعِ دَمِ الحيضِ الُمَميَّزِ، وليس المرادُ بالانقطاعِ انقطاعَه حِسّاً بدليل قوله: (مَا لَمْ تُمَيِّزْ).

وقوله: (طُهْرًا تَامّاً) احترازًا مما لو مَيَّزَتْ قَبْلَ كمالِه، فإنه لا اعتبارَ بذلك التمييزِ. ثم الدمُ المميَّزُ – المحكومُ بأنه حيضٌ– إما أن يكون حيضةً كاملةً أَوْ لا، أَجْرِهِ على ما تقدم. ومعنى قوله: (مَا لَمْ تُمَيِّزْ) أي: أنها لا تزال محكومًا لها بالطهارة بعد أقَلِّ الطهرِ، ولو استمرَّ الدمُ بها شهورًا متواليةً إلى أن تُمَيَّزَ. فقولُه: (مَا لَمْ تُمَيِّزْ) مُخْرِجٌ مِنْ غَيْرِ مذكورٍ كما ذكرنا، والله أعلم. ابن عبد السلام: وظاهر هذا أنه إن عاودها الدمُ بعد انقطاعِ الاستحاضةِ أنه لا يكون حيضًا إلا بشرطِ التمييزِ، وظاهرُ كلام أهل المذهبب أنه إنما يُرْجّعُ إلى التمييز إذا كان دمُ الاستحاة متصلاً. وفيه نظرٌ؛ لأن كلام المصنف إنما هو مفروضُ فيما إذا كان الدمُ مُتَّصِلاً، والله أعلم. ولِلطُّهْرِ عَلامَتَانِ: الْجُفُوفُ وهُوَ خُرُوجُ الْخِرْقَةِ جَافَّةً، والْقَصَّةُ الْبَيْضَاءُ وهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ كَالْقَصَّةِ، وهُوَ الْجِيرُ. ابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَصَّةُ أَبْلَغُ. ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: الْجُفُوفُ أَبْلَغُ. وغَيْرُهُمَا: هُمَا سَوَاءٌ ....... (جَافَّةً) أي: ليس عليها شيء من الدم. و (والْقَصَّةُ) ماءٌ أبيضُ، قيل: يُشْبِهُ ماءَ الجِيِر. وقيل: يُشبه ماءَ العَجِينِ. وقيل: شيءٌ كالخيطِ الأبيضِ. وروى ابن القاسم: يُشبه البولَ. وروى علي: يشبه المنيَّ. ووجهُ قولِ ابن القاسم أن القَصَّةَ لا يُوجد بعدها دَمٌ، والجفوفَ قد يُوجدُ بَعْدَه دَمٌ. ووجهُ قول ابن عبد الحكم– وهو قولُ ابنِ حبيب أيضاً– أن القصةَ مِن بقايا ما يُرْخِيه الرَّحِمُ، والجُفُوفَ بَعْدَهُ. وقوله: (وغَيْرُهُمَا: هُمَا سَوَاءٌ) هو قول الداودي وعبد الوهاب.

وفَائِدَتُهُ أَنَّ مُعْتَادَةَ الأَقْوَى تَنْتَظِرُهُ مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: الضَّرُورِيُّ الضميرُ عائدٌ على الخلافِ المفهومِ مِن الأقوالِ المذكورةِ، والانتظارُ إنما يأتي على القولين الأولين، وأما الثالثُ فأيّ العلامتين وَجَدَتْ اغْتَسَلَتْ. وجعل ابنُ راشدٍ الخلافَ في الانتظارِ [40/ أ] للوقتِ الاختياريِّ والضروريِّ مَبْنِيّاً على أَنَّ طَلَبَ الأَقْوَى هل هو مِن بابِ الأَوْلَى، أو مِن بابِ الأَوْجَبِ. ابن عبد السلام: والظاهرُ الاختياريُّ، ولا حاجةَ إلى إيقاعِ الصلاةِ في الوقتِ المكروهِ مع أَنَّ كُلاًّ منهما علامةٌ. وأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ومُطَرِّفٌ وابْنُ الْمَاجِشُونِ: تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ. وغَيْرُهُمْ: هُمَا سُوَاءٌ. قَالَ الْبَاجِيُّ: نَزَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ظاهرُه– وكذلك صرَّحَ ابنُ شاس أنها إن رأت القَصَّةَ تَنتظر الجفوفَ. وفي المنتقى نحوُه، فإنه قال: وأما المبتدأةُ فقال ابن القاسم وابن الماجشون: لا تَطْهُرُ إلا بالجفوف. وهذا نزوعٌ إلى قولِ ابنِ عبدِ الحكمِ. وفي النكتِ نحوَه. وقال المازري: وافق ابن القاسمِ على أن المبتدأةَ إذا رأتِ الجفوفَ طهرتْ. ولم يَقُلْ إذا رأتِ القَصَّةَ تَنتظر الجفوفُ فتأمَله، ثم حكى تعقبَ الباجي، وردَّه بأنَّ خروجَ المعتادةِ عن عادتِها ريبةٌ بخلافِ المبتدأة؛ لأنها لم تتغيرْ في حقِّها عادةٌ، فإذا رأتِ الجفوفَ أولاً فهو علامةٌ، والأصلُ عَدَمُ القَصَّةِ في حقِّها، فلا معنى للتأخيرِ لأجلِ أمرٍ مشكوكٍ فيه. وما قاله المازري واضحٌ إن كانت صورةُ المسألة كما ذَكَرَ أنها رأت الجفوفَ ولم تَرَ القصةَ، وأما إن كان الأمرُ على ما نقله الباجي والمصنف مِن أنها إذا رأت القصةَ تنتظرُ الجفوفَ فإيرادُ الباجيِّ صحيحٌ، فتأمله.

ونقلُ ابن حبيب كنقلِ الباجي، فإنه قال: قال مطرف وابن القاسم وابن الماجشون: والتي بَلَغَتْ فلا تَطْهُر حتى تَرَى الجُفُوفَ، ثم تَجْرِي بعد ذلك على ما يَنكشفُ لها مِن علامةٍ. ونقلَ عبدُ الوهاب عن ابنِ القاسم مثلَ ما قاله المازري، قال في المقدمات: ونقلُه أصحُّ في المعنى وأَبْيَنُ مما نَقَلَه ابنُ حبيبٍ عنه؛ لأنه كلامٌ متناقضٌ في ظاهرِه. فرع: قال في النوادر: قال ابن القاسم عن مالك: وليس على المرأةِ أن تقومَ فتنظرَ طهرَها قَبْلَ الفجرِ، وليس من عَمَلِ الناسِ. قال عنه عليٌّ في المجموعة: وإنما عليها أن تنظر عند النومِ، وعندَ صلاةِ الصبحِ. وقال ابن حبيب: إذا رأت الطهرَ غُدْوَةً فلم تَدْرِ أَكانَ قَبْلَ الفجرِ أو بَعْدَه فلا تقضي الصبحَ حتى تَتيقن أنه قَبْلَ الفجرِ، ولكن تصومُ يومَها إن كان رمضانَ، وتقضيه احتياطًا. ويَمْنَعُ الْحَيْضُ الصَّلاةَ مطلقاً ولا قَضَاءَ، والصَّوْمَ وتَقْضِيهِ أراد بالإطلاق سواءٌ كان فرضًا أو نفلاً، أداءً أو قضاءً. واعلم أن ممنوعات الحيض قسمان: متفَقٌ عليها، ومختلَفٌ فيها. فالأَوَّلُ تسعةٌ: وجوبُ الصلاةِ، وصحةُ فِعْلِها، وصحةُ فِعْلِ الصومِ، ومَسُّ المصحفِ، والطلاقُ، وابتداءُ العِدَّةِ، والوطءُ في الفَرْجِ، ورَفْعُ الحَدَثِ، ودخولُ المسجدِ. ويَنْدَرِجُ فيها الطوافُ والاعتكافُ؛ إذ لا يُوقَعَانِ في غيرِه. والقسم الثاني سبعةٌ، وهو ينقسمُ إلى قِسمين: قسمٌ الْمَشْهُورِ فيه المنعُ، وقسمٌ الْمَشْهُورِ فيه الجوازُ. فالأَوَّلُ خمسةٌ: الوطءُ بَعْدَ الطُّهْرِ وقَبْلَ التطهيرِ، والوطءُ بِطُهْرِ التيممِ، والوطءُ فيما دُونَ الإزارِ، ووجوبُ الصومِ، ورفعُ حَدَثِ جنابتِها.

النفاس

وفائدةُ الخلافِ في الأخيرِ إباحةُ القراءةِ بالغسل، وثالثها فيه: إِنْ طرأتِ الجنابةُ لم يَجُزْ، وإن طرأ الحيضُ جاز. والثاني شيئان: قراءةُ القرآنِ ظاهرًا، والتطهيرُ بفَضْلِ مائِها. ودُخُولَ الْمَسْجِدِ، ومَسَّ الْمُصْحَفِ، والطَّوَافَ، والطَّلاقَ، ويَمْنَعُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ اتِّفَاقاً مَا لَمْ تَطْهُرْ وتَغْتَسِلْ عَلَى الْمَشْهُورِ. وقِيلَ: أَوْ تَتَيَمَّمُ. وقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: يُكْرَهُ قَبْلَ الاغْتِسَالِ، ومَا فَوْقَ الإِزَارِ جَائِزٌ، لا مَا تَحْتَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وفِي قِرَاءَتِهَا قَوْلانِ أكثرُ هذا مفهومٌ مما تقدمَ، وإنما بَقِيَ شيءٌ لم يُنبه عليه، وهو أن الشاذَّ قولُ ابن بُكَيْرٍ. وحَدَّ ابُن القصار وابنُ الجهم ما فوقَ الإزارِ بما فوقَ السُّرَّةِ، وما تحته بما بين السرة والرُّكْبَةِ، ومُنِعَ ما تَحْتَ الإزارِ سَدّاً للذَّرِيعَةِ. ومقابلُ الْمَشْهُورِ فيما تحت الإزارِ لأصبغَ. قال المازري: واستَخَفَّهُ أصبغُ. والخلافُ في قراءةِ الحائضِ إنما هو قَبْلَ أن تَطْهُرَ، وإلا فهي بعد النَّقَاءِ من الدمِ كالجُنُبِ. النِّفَاسُ الدَّمُ الْخَارِجُ لِلْوِلادَةِ، وفِي تَحْدِيدِ أَكْثَرِهِ بِسِتِّينَ أَوْ بِمَا يَرَى النِّسَاءُ- وإِلَيْهِ رَجَعَ- رِوَايَتَانِ، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ ... قولُه: (لِلْوِلادَةِ) فَصلٌ عن الحيض والاستحاضة. ولم يَقُلْ في حَدِّ النفاسِ غيرُ زائدٍ على الستين، كما قال في الحيض: غيرُ زائدٍ على خمسة عشر يومًا؛ لأن الخمسة عشر في الحيض هي الأكثرُ على الْمَشْهُورِ. والذي رجع إليه مالكٌ في النفاسِ سؤالُ النساءِ، ولكن نصَّ ابن بَزِيزَةَ على أن الْمَشْهُورِ هنا الستُّونَ، وعليه عوَّلَ ابنُ أبي زيدٍ.

وقال ابن الماجشون: لا يُلْتَفَتُ إلى قولِ النساءِ لِقِصَرِ عُقُولهِنَّ وقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِنَّ، وقد سُئِلْنَ قديماً فَقُلْنَ: مِن الستينَ إلى السبعينَ. حكاه ابن رشد، وحكى الباجي عنه أن أقصاه ستون أو سبعون. وفِي كَوْنِ الدَّمِ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ إِلَى شَهْرَيْنِ نِفَاساً؛ فَيُضَمُّ مَعَ مَا بَعْدَهُ، أَوْ حَيْضاً- قَوْلانِ ..... قال: (إِلَى شَهْرَيْنِ) لأنه إن كان بين الولادتين شهران فأكثرُ- حُكِمَ لكُلِّ مِن الولادتين بحكمٍ مستقلَّ، لكنه يَنْبَنِي على أنَّ أكثرَ النفاس معتبرٌ بالشهرين، لا بقولِ النساءِ، والقولان في المقدمات، ولفظها: وإن ولدتْ ولداً وبَقِيَ في بطنها آخرُ، ولم تَضَعْهُ إلا بعد شهرين، والدَّمُ متمادٍ- فحالُها حالُ النفساءِ، ولزوجِها [40/ ب] عليها الرجعةُ مالم تَضَعِ الْوَلَدَ الآخَرَ. ابن يونس: وقوله: حالها كحال النفساء. يريد: في الجلوسِ عن الصلاةِ إذا تمادى بها الدمُ، فتجلسُ على قولِه الأولِ شهرين. وقوله: كحال الحامل. أي: فتجلسُ عشرين يومًا على قول ابنِ القاسم؛ لأنها قد جاوزتِ الستةَ أشهرٍ. انتهى. وقال في التنبيهات: لا خلافَ أنها إن جلستْ للأَوَّلِ أَقْصَى ما يُمْسِك النساءَ النفاسُ على اختلافِ قول مالك، ثم ولدت الثاني أنها تجلس له ابتداءً مثلَ ذلك. واختُلِفَ إذا ولدتِ الثانيَ قَبْلَ استيفاءِ أكثرِ النفاسِ، فقيل: تَسْتَانِفُ- وهو الأظهرُ- وإليه ذهب أبو إسحاق. وقيل: تَبْنِي على ما مَضَى للأَوَّلِ، وإليه ذهب أبو محمد والبراذِعِيُّ. انتهى. فرع: والنفساء لا تَسْتَظْهِرُ إذا جاوز دمُها الستين. رواه ابنُ حبيب عن مالك، نَقَلَه ابنُ يونس وغيرُه، ولعل هذا إنما هو مبنيٌّ على التحديد بالسِّتِّينَ.

وقولُه: (فَيُضَمُّ مَعَ مَا بَعْدَهُ) ثمرةُ القولِ بأنه نفاسٌ. وأما إِنْ حَكَمْنا عليه بحُكْمِ الحيضِ فتستأنفُ النفاسَ مِنْ وَضْعِ الثاني، ومنشأُ الخلافِ تعارضُ شَائِبَتَيْ الحَمْلِ والنفاسِ بأنها بالنظرِ إلى ما وضعته نفساءُ، وبالنظرِ إلى ما بَقِيَ في بطنِها حاملٌ. فرعان: الأول: الدمُ الخارجُ قَبْلَ الولادةِ لأجِلها- حكى فيه عياضٌ قولين للشيوخ: أحدُهما أنه حيضٌ، والثاني أنه نِفَاسٌ. الثاني: الماءُ الأبيضُ يَخرج مِن الحاملِ، ويعرف بالهادِي، يجتمع في وعائه يَخرجُ عند وَضْعِ الحَمْلِ أو السِّقْطِ. قال ابن القاسم في العتبية: يَجِبُ منه الوضوءُ. قال الأبهري في شرح المختصر: لأنه بمنزلةِ البولِ. وفي العتبية عن مالك في موضعٍ آخر: ليس هو بشيءٍ، وأَرَى أَنْ تُصَلِّيَ به. قال صاحب البيان: وهو الأحسنُ لكونه ليس بمعتادٍ. ومَا يَجِيءُ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ حَيْضٍ، وإِلا ضُمَّ وصُنِعَ فِيهِ كَالْحَيْضِ، فَإِذَا كَمُلَ فَاسْتِحَاضَةٌ، وحُكْمُهُ كَالْحَيْضِ ولا تَقْرَأُ .... قوله: (كَالْحَيْضِ) أي: في الموانع المتقدمةِ إلا في القراءةِ، وهذا مما انفرد به، وقد صرح في المقدمات بتساوي حكمِ الحائضِ والنفساءِ في القراءة. وكأنه- والله أعلم- نَظَرَ إلى أنه لما كانتِ العِلَّةُ في قراءةِ الحائضِ خوفَ النسيانِ بسببِ تكررِهِ فلا يَنبغي أن يُلحق بها النفساءُ لِنُدُورِهِ. وفيه نظرٌ، فإن طُولَه يَقومُ مقامَ التكررِ.

كتاب الصلاة

الأَوْقَاتُ أَدَاءٌ وقَضَاءٌ (الأَوْقَاتُ) جمع وقت، وهو جمع قلة. والوقت مأخوذ من التوقيت وهو التحديد، والوقت أخص من الزمان؛ لأن الزمان مدة حركة الفلك، والوقت هو ما قال المارزي: إذا اقترن خفي بجلي سمي الجلي وقتًا نحو: جاء زيد طلوع الشمس، فطلوع الشمس هو وقت المجيء إذا كان الطلوع معلومًا والمجيء خفيًا. ولو خفي طلوع الشمس بالنسبة إلى أعمى أو مجنون مثلاً لقلت له طلوع الشمس عند مجيء زيد، فيكون المجيء وقت الطلوع. وجمع المصنف الأوقات إما لأنه جعل الأداء ينقسم ثلاثة أقسام أو أربعة والقضاء واحداً، وإما لأن كل صلاة لها وقت أداء وقضاء، فلا يقال أن زمن القضاء ليس بوقت للصلاة، فلا ينبغي أن يجعل قسمًا منه. ولذلك حد بعضهم القضاء بأنه إيقاع العبادة خارج وقتها؛ لأنا نقول: المرادُ بالوقتِ الوقتُ الذي تفعل فيه الصلاة، ولا شك أن المكلف قد يوقعها خارجة عن وقتها المقرر لها شرعًا إما عمدًا أو سهوًا. فَوَقْتُ الأَدَاءِ: مَا قُيِّدَ الْفِعْلُ بهِ أَوْلاً، والْقَضَاءُ مَا بَعْدَهُ ابن عبد السلام: تكلم هنا بالحقيقة، وتكلم فيما قبل بالمجاز؛ لأن الوقت إنما ينقسم إلى وقت أداء ووقت قضاء، لا إلى الأداء والقضاء، فوقع الاختصار في التقسيم والبيان في التعريف، وهو حسن. وقوله: (مَا قُيِّدَ الْفِعْلُ بهِ) أي وقت قيد العمل به احترز من النوافل المطلقة، فإن الشارع لم يقدر لها وقتًا فلا توصف لا بالأداء ولا بالقضاء. قوله: (أَوْلاً) أي بخطاب أول احترازًا من القضاء، فإنه بخطاب ثان بناء على رأي الأصوليين أن القضاء بأمر جديد كوقت الذكر للناسي، وقضاء رمضان، ويحتمل أن يريد فعلاً أولاً ليخرج الإعادة كما قال الأصبهاني في شرح المختصر.

وقد حكي عن المصنف أنه قال: احترزت بقولي: (أَوْلاً) من الإعادة. وفيه نظر؛ لأنه على هذا تكون الإعادة خارجة عن الأداء، وليس كذلك، بل هي قسم منه، ولا بد من زيادة شرعًا كما فعل المصنف في الأصول ليخرج بذلك ما قيد الفعل به لا شرعًا كما إذا قيد السيد لعبده خياطة ثوب بوقت، وكتعيين الإمام لأخذ الزكاة شهرًا، لكن المصنف إنما حد من حيث هو. ابن راشد: سؤال: الجمعة توصف بالأداء ولا توصف بالقضاء، والقاعدة العقلية أن لا يوصف بأحد الوصفين إلا ما كان قابلاً للضد الآخر، فلا يقال: هذا الحائط لا يبصر، ولا هذا الحمار لا يعقل، لعدم القابلية. ويشكل على هذه القاعدة أيضاً سلب النقائض عنه تعالى، فإنه لا يقبلها – فليت شعري – أيقبل المولى الشريط حتى يقال لا إله إلا هو. ولو أن الشرع أمر بذلك لوقف العقل عنه. خليل: وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم لزوم وصف الشيء بشيء قبوله لضده كما في صفات الباري جل جلاله، وكقولنا النار حارة مع أنمها لا تقبل البرودة، كقولنا الحجر جامد. وإن سلم فالجمعة [41/ أ] في ذاتها قابلة بأن توصف بالقضاء. وفرق بين القبول وعدم الوجود. والأَدَاءُ: اخْتِيَارٌ، وفَضِيلَةٌ، وضَرُورَةٌ. وقِيلَ: ومَكْرُوهٌ أي: وقت الأداء ينقسم إلى ما ذكر، وأراد بالاختيار ما يقول الفقهاء وقت الإباحة والتوسعة، وكأن المصنف لما رأى أن هذه العبارة توهم أن العبادة إذا وقعت في ذلك الوقت تكون مباحة عدل عن ذلك، ولا يتوهم على المصنف أن الاختيار عبارة عن الأفضل كما يفعل ابن الجلاب؛ لأن جعله الفضيلة قسيمًا للاختيار ينفي ذلك، ولما كان وقت الاختيار عبارة عن زمان وقت ممتد صح وصف المجموع بالأداء وصح وصف كل جزء من أجزائه بوصف، وتلك الأجزاء هي الاختيار والفضيلة والضرورة

والمكروه. وانظر كيف جعل الفضيلة قسيمًا للاختيار، وهي جزء منه، وذلك لا ينبغي والله أعلم. الأَوَّلُ: الْمُوَسَّعُ، فَالظُّهْرُ أَوَّلُهُ زَوَالُ الشَّمْسِ، ويُعْرَفُ بأَخْذِ الظِّلِّ فِي الزِّيَادَةِ، وآخِرُهُ أَنْ تَصِيرَ زِيَادَةُ ظِلِّ الْقَامَةِ مِثْلَهَا ... أي: فوقت الظهر الموسع أوله زوال الشمس، ويعرف الزوال بأن يقام عود مستقيم، فإذا تناهى الظل في النقصان وشرع في الزيادة فذلك وقت الزوال. وذلك الظل الذي زالت عليه الشمس لا يعتد به لا في الظهر ولا في العصر، فإذا صار بعد ذلك الظل قدر القامة فهو آخر وقت الظهر الاختياري، وجرت عادة الفقهاء بالقامة؛ لأنها لا تتعذر، وإلا فكل قائم يشاركها في ذلك. وهَذَا أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَكُونُ مُشْتَرِكاً، ورَوَى أَشْهَبُ الاشْتِرَاكَ فِيهَا قَبْلَ الْقَامَةِ بِمَا يَسَعُ إِحْدَاهُمَا، واخْتَارَهُ التُّونُسِيُّ. وقَالَ ابْنُ حَبيبٍ: لا اشْتِرَاكَ. وأَنْكَرَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ ..... يعني: إذا كان آخر الأولى وهو بعينه أول وقت الثانية لزم قطعًا حصول الاشتراك بين الأولى والثانية، فيحصل بينهما الاشتراك على هذا القول في أول الثانية بما يسمع إحداهما، فلو أن مصليين صلى أحدهما الظهر والآخر العصر كانا مؤديين. وقوله: (ورَوَى أَشْهَبُ الاشْتِرَاكَ فِيهَا قَبْلَ الْقَامَةِ بِمَا يَسَعُ إِحْدَاهُمَا) أي: في آخر القامة الأولى. ومقتضى كلام المصنف أن الأول هو الْمَشْهُورِ، وكذلك شهره سند. وقال ابن عطاء الله: الْمَشْهُورِ الثاني. ومنشأ الخلاف قوله في حديث جبريل: ((فصلى الظهر من الغد حين كان ظل كل شيء مثله)).

هل معناه: شرع أو فرغ؟ وهو أقرب إلى حقيقة اللفظ. واستظهر في المقدمات الثاني، ولفظه: والمشهور من المذهب أن العصر مشاركة للظهر في وقت الاختيار. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا المذهب هل العصر مشاركة للظهر في آخر القامة. أو الظهر هي المشاركة للعصر في أول ابتداء القامة الثانية؟ والأظهر أن العصر هي المشاركة للظهر في آخر القامة الأولى. انتهى. ابن راشد: وما حكاه في الأصل من رواية أشهب من أن الاشتراك فيما قبل القامة لم أقف عليه في الأمهات. والمنقول عن أشهب أنه قال في مدونته أن الظهر تشارك العصر في القامة الثانية في مقدار أربع ركعات، نعم يؤخذ من قوله في المجموعة: إذا صلى العصر قبل القامة أجزأه. انتهى. وكلام ابن شاس مخالف لما قررناه، ولقظه: وتيمادى وقت الاختيار إلى أن تصير زيادة ظل الشخص مثله، ويدخل وقت العصر، فيكون الوقت مشتركًا بينهما، إلا أن تتجاوز زيادة الظل المثل، فيختص العصر بالوقت. ثم ذكر قول أشهب، وذكر بعضهم ما ذكره ابن شاس عن ابن القاسم. وما قدمناه أولى؛ لأن هذا القول يقتضي أنه إنما يكون الاشتراط فيهما في جزء لطيف، وذلك لا يمكن ترتيب شيء من الأحكام عليه؛ بخلاف ما قدمناه أولاً، والله أعلم. وفي المسألة قول آخر ذكره ابن يونس، وغيره عن ابن القصار؛ أن أول وقت العصر بعد مضي قدر أربع ركعات من الزوال، فيشترك في ذلك الوقت الظهر والعصر إلى أن يبقى قدر أربع ركعات للغروب فيختص بالعصر. قال: وكذلك تشارك العشاء المغرب بعد مضي قدر ثلاث ركعات، ثم لا تزال إلى أن يبقى قدر أربع ركعات قبل الفجر فيختص ذلك بالعشاء.

وقال ابن حبيب: لا اشتراك لما في مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر وقت العصر"، وفي رواية: "ما لم يحضر العصر"، وهو مذهب ابن المواز، واختاره اللخمي. فإن قلت: فإذا كان هذا الحديث يدل لابن حبيب، فما وجه إنكار ابن أبي زيد؟ فالجواب أن أحاديث الاشتراك صريحة في الاشتراك، فمن ذلك ما رواه الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صىل المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى الظهر في المرة الثانية حين صار ظل كل شيء في وقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت، ثم التفت إلى جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء [41/ ب] قبلك، والوقت فيما بين هذين)) قال الترمذي: أحاديث هذا الباب عن أبي يزيد، وأبي هريرة، وابن مسعود، وجابر، وعمرو ابن حزم، والبراء، وأنس. وقد رواه النسائي وأبو داود والدارقطني، وحسنه الترمذي وصحح طريقه ابن العربي. فلما كان هذا صريحًا في المشاركة، وأمكن حمل قوله صلى الله عليه وسلم ((ما لم تحضر العصر)) أو ((إلى أن يحضر العصر)) على أن المرد وقت العصر المختص بوجه الإنكار والله أعلم.

وآخِرُهُ إِلَى الِاصْفِرَارِ، ورُوِىَ إِلَى قَامَتَيْنِ الأول قوله في المدونة، والثاني قوله في المختصر. ودليل الأول ما في حديث ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقت العصر ما لم تصفر الشمس" خرجه مسلم. والْمَغْرِبُ بِغُرُوبِ قُرْصِ الشَّمْسِ دُونَ أَثَرِهَا، ورِوَايَةُ الاتِّحَادِ أَشْهَرُ، وفِيهَا: ولا بَاسَ أَنْ يَمُدَّ الْمُسَافِرُ الْمِيلَ ونَحْوَهُ. ورِوَايَةُ الامْتِدَادِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ، وهُوَ الْحُمْرَةُ دُونَ الْبَيَاضِ مِنَ الْمُوَطّأِ، وهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَيَكُونُ مُشْتَرِكاً. وقَالَ أَشْهَبُ: الاشْتِرَاكُ فِيمَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ. وآخِرُهُ ثُلُثُ اللَّيْلِ. وقَالَ ابْنُ حَبيبٍ: النِّصْفُ .... ما ذكره المصنف أنه الأشهر، قال في الاستذكار: هو الْمَشْهُورِ. وعلى الاتحاد قال صاحب التلقين، وابن شاس يقدر آخرها بالفراغ منها، وكذلك قال ابن راشد. وظاهر المذهب أنه قدر ما توقع فيه بعد الأذان والإقامة. وبعض الشافعية يراعي مقدار الطهارة والستر. واقتصر صاحب الإرشاد على الذي نسب للشافعية فقال: بقدر فعلها بعد تحصيل شروطها. وقال ابن عطاء الله: معنى الاتحاد – والله أعلم – بعد قدر ما يتوضأ فيه ويؤذن ويقيم. خليل: وقول من قال بالاعتبار – أعني اعتبار الطهارة – هو الظاهر لقولهم أن المغرب تقديمها أفضل مع أنهم يقولون أن وقت المغرب واحد، ولا يمكن فهمه إلا على أن معنى تقديم الشروط قبل دخول الوقت أفضل من تأخيرها بعده، والله أعلم. وقوله: (مِنَ الْمُوَطَِّأ) متعلق برواية الامتداد. ولفظ الموطأ: فإذا ذهبت الحمرة فقد وجبت صلاة العشاء وخرج وقت المغرب. واستقرأه بعضهم مما ذكره المصنف عن المدونة أن المسافر له أن يمد الميل ونحوه. ورد أن التأخير للمسافر من باب الأعذار والرخص كالقصر والفطر، وهو خارج عن هذا الباب. قاله في التلقين.

واستقرأه أيضاً ابن عطاء الله من قوله في المدونة: إذا طمع المسافر في الماء قبل مغيب الشفق فإنه يؤخر المغرب إليه، وتأخير الراجي إنما هو في الوقت المختار. ومن قوله فيها في الجمع بين المغرب والعشاء للمسافر: ويجمع بين العشاءين مقدار ما تكون المغرب في آخر وقتها قبل مغيب الشفق، والعشاء في أول وقتها بعد الشفق. ويدل على الاتحاد ما تقدم في الحديث أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد. لكن جاء في سنن أبي داود أنه صلاها عليه السلام في اليومين في حديث السائل عن وقت الصلاة في اليوم الأول حين غابت الشمس، وفي الثاني قبل أن يغيب الشفق. وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق". وقوله: (وهُوَ الْحُمْرَةُ دُونَ الْبَيَاضِ) هو المعروف في المذهب، وعليه أكثر أهل اللغة. وأخذ اللخمي قولاً لمالك بأنه البياض من قوله. ابن شعبان: أكثر قوله أن الشفق الحمرة. قال المازري: ويمكن عندي أن يكون ابن شعبان أشار بهذا لما وقع في سماع ابن القاسم عن مالك: أرجو أن تكون الحمرة والبياض أبين. فيمكن أن يكون ابن شعبان لما رأى هذا فيه تردد وما سواه لا تردد فيه، أشار إلى أن أكثر أقواله أنه الحمرة دون تردد، فلا يقطع بصحة ما فهم اللخمي. والذي نقل الباجي واللخمي عن أشهب أن الاشتراك بعد الشفق بقدر ثلاث ركعات، والمصنف نقل عنه أن الاشتراك قبل المغيب، فلعل له قولين، والله أعلم. ولم يبين المصنف بماذا يقع الاشتراك عند أشهب. ابن هارون: والظاهر بأربع ركعات قبل الشفق كقوله في الظهر والعصر، واختلفت الأحاديث في تحديد وقتها بالثلث والنصف.

والْفَجْرُ بالْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ لا الْمُسْتَطِيلِ وهِيَ الْوُسْطَى، وآخِرُهُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. وقِيلَ: الإِسْفَارُ الأَعْلَى. وتَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الإِسْفَارَ يَرْجِعُ بِهَا إِلَى وِفَاقٍ يعني وقت صلاة الفجر على حذف مضافين، أو تكون هذه الألفاظ منقولة عن أسماء لهذه الصلوات، فيكون في كلامه حذف مضاف واحد. والمستطير: المنتشر الشائع، قال الله تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] لا المستطيل الذي هو كذنب السرحان، وهو الذئب. وكون الصبح هي الوسطى هو المذهب، وهو مذهب ابن عباس، ونقل عن أهل المدينة. وما من صلاة من الخميس إلا وقد قيل أنها الوسطى. وقيل: وهي صلاتان؛ العصر والصبح. وقيل الجمعة، وقيل الوتر، وقيل الخمس صلوات، وقيل: أخفيت ليجتهد في الجميع كما قيل في ليلة القدر، والساعة التي في يوم الجمعة. ومقتضى كلام المصنف أن المشهور أن الصبح لا ضروري لها، وأن وقتها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وقت اختيار لتصديره به، وعطفه عليه بـ (قِيلَ)، وليس كذلك، بل ما صدر به قول ابن حبيب. ومذهب المدونة الإسفار. قال ابن عطاء الله: [42/ أ] أي الأعلى. وهو قوله في المختصر. ابن عبد السلام: وهو المشهور. نعم يوافق كلام المصنف ما قاله ابن العربي، والصحيح عن مالك أن وقتها الاختياري ممتد إلى طلوع الشمس، ولا وقت لها ضروري، قال: وما روى عنه خلافه، وهو لايصح. قال ابن عطاء الله بعد كلامه: إن كان ثمة وجه يلجىء إلى تأويل لفظ المدونة والمختصر أن آخر وقتها إذا أسفر يحمل على أنه الأفضل من الوقت المختار، وما بعد ذلك

حكمه أنه يجوز التأخير إليه بلا كراهة، وإلا فلا يمكن في نقل المدونة أن يقال أنه لا يصح. وفي جعل كلام ابن أبي زيد تحصيلا للاتفاق بين القولين نظر؛ لأن الذي جعله ابن أبي زيد آخر الوقت إسفارا مقيدا، وهو الإسفار البين، والإسفار المذكور في القول الثاني مقيد بالأعمال كما قال المصنف. قال عبد الحق: قال بعض المتأخرين: قوله في المدونة: وآخر وقتها إذا أسفر؛ يريد بذلك وقتا تتراءى فيه الوجوه لا على ما قاله ابن أبي زيد أنه الذي إذا سلم منها برز حاجب الشمس. واعلم أن في مذهبنا قولًا بأن أول وقت الاختيار وآخره سواء في الفضيلة مطلقاً تعلقا بقوله صلي الله عليه وسلم: "ما بين هذين وقت". الثَّانِي: مَا كَانَ أَوْلَى، وَهُوَ لِلْمُنْفَرِدِ أَوَّلُ الْوَقْتِ، وقِيلَ: كَالْْجَمَاعَةِ يعني القسم الثاني: وهو وقت الفضيلة. وألحق اللخمي بالمنفرد الجماعة التي لا تنتظر غيرها، أي كأهل الزوايا. ابن العربي في القبس: والأفضل للمنفرد تقديم الفرض على النفل، ثم ينتقل بعد الصلاة. قال: وقد غلط في ذلك بعض المتأخرين. انتهى. وينبغي أن يقيد بما إذا كانت الصلاة يجوز التنقل بعدها، وأما ما لا يجوز- كالعصر والصبح- فلا، وهو يؤخذ من قوله: وينتقل بعدها. وقوله: (وقيل: كالجماعة) هو قول عبد الوهاب. والأَفْضَلُ لِلْجَمَاعَةِ تأخير الظُّهْرِ إِلَى ذِرَاعٍ وَبَعْدَهُ فِي الْحَرِّ بِخِلاَفِ الْجُمْعَةِ قوله: (لِلْجَمَاعَةِ) يخرج الفذ، فإن الأفضل في حقه التقديم كما تقدم. وقال صاحب الاستذكار: وحكى ابن القاسم عن مالك أن الظهر تصلى إذا أفاء الفيء ذراعا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد كما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه

إلى عماله صلوا الظهر والفيء ذراعاً، أي: ولم ينكر عليه، فيكون إجماعا. قال: وقال ابن عبد الحكم وغيره من أصحابنا أن معنى ما في كتاب عمر في مساجد الجماعات، وأما المنفرد فأول الوقت له أولى، وإلى هذا مال فقهاء المالكية من البغداديين، ولم يلتفتوا إلى رواية ابن القاسم. انتهى. وفيها نسبة إلى رواية ابن القاسم نظر، وسيأتي. وقوله: (إِلَى ذِرَاعٍ وَبَعْدَهُ) أي بعد الظل الذي زالت عليه الشمس، وهذا مقيد بها إذا قيس بالقمامة؛ لأن قامة كل اثنين أربعة أذرع بذراعه، والمراد أن يزيد ظل كل قائم ربعه، وإنما يعبرون بالقامة والذراع لتيسيرهما بخلاف غيرهما. وقوله: (وَبَعْدَهُ فِي الْحَرِّ) أي ويزاد على الذراع في شدة الحر، كذا صرح به غير واحد، وليس المراد مطلق الحر. ونص على استحباب التأخير للإبراد عبد الوهاب، والتونسي، واللخمي، والمازري، وابن بشير، وابن بزيزة، والباجي. ومعنى التأخير الذي حكاه ابن القاسم أي قوله في المدونة: أحب إلي أن يصلي في الشتاء والصيف والفيء ذراع ليس من معني الإبراد في شيء، وإنما هو لأجل اجتماع الناس. قال: فيحصل للظهر تأخيران أحدهما لأجل الجماعة، وذلك يكون في الصيف والشتاء في المساجد ومواضع الجماعات دون الرجل في خاصة نفسه، فالمستحب له تقديم الصلاة. والثاني للإبراد وهو مختص بالحر دون غيره، وتستوي فيه الجماعات والفذ. انتهى. وما قلناه من استحباب التأخير إلى الذراع في الصيف والشتاء هو الْمَشْهُورِ. وقال ابن حبيب: تؤخر في الصيف إلى نصف الوقت وما بعده قليلا، ويستحب تعجيلها في الشتاء. كذا نقل عنه الباجي وغيره.

ونقل التونسي عن ابن حبيب أنه قال: وسط الوقت هو بلوغ الظل إلى ربع القامة. التونسي: وإنما يجب أن يكون وسط الوقت نصف ظل القائم إلا أن يكون ذلك عند الزوال لبطء حركة الشمس. انتهى. ونقل ابن أبي زيد مثل ما قاله التونسي أن وسط الوقت نصف القامة، وعن غيره أنه الثلث لبطء حركة الشمس عند الزوال وسرعتها بعد ذلك، فإذا قلنا بالتأخير للإبراد فما حده؟ نقل المازري عن بعض الأشياخ إلى نحو الذراعين. وقال محمد بن عبد الحكم: يؤمر بالتأخير، لكن لا يخرج عن الوقت. فأشار إلى أن الإبراد لا ينتهي إلى آخر الوقت. قال المازري: والأصح عندي مراعاة قوة حر اليوم وحر البلد. انتهي. وفهم المازري أن قول ابن عبد الحكم مخالف للذراعين، وكذلك فهم شيخه اللخمي، وفهم الباجي أنه مثله، فإنه قال: وقت التأخير للإبراد يصح أن يكون إلى نحو الذراعين. وقد فسر أشهب ذلك في المجموعة، وذلك لأنه قال: ويبرد في الحر بالجماعة، ولا يؤخر إلى آخر وقتها. انتهى بالمعنى. تنبيهان: الأول: ما ذكره المصنف من اختصاص التأخير إلى ذراع بالجماعة خلاف لما رواه ابن القاسم على ما قاله ابن عبد البر، لكن قال صاحب البيان في الجامع السادس أن ما ذكره ابن عبد البر حمله على المدونة، قال: وليس حمله بصحيح. وخص صاحب البيان الخلاف الذي في إبراد المنفرد بالصيف، ولا يبرد المنفرد في الشتاء اتفاقا. الثاني: إذا تقرر ما قاله الباجي من أنه إنما تكلم في المدونة على التأخير لأجل الجماعة، ولم يتكلم على الإبراد، وتقرر عندك ما نص عليه الشيوخ الذين ذكرتهم من استحباب الإبراد، علمت أن قول ابن راشد وابن هارون ظاهر المدونة أنه لا يزاد على الذراع ليس بحيد؛ لأنه في المدونة لم يتكلم على الإبراد بشيء.

وَالْعَصْرِ تَقْديمُهُمَا أَفَضْلُ، وقَالَ أَشْهَبَُ: إِلَى ذِرَاعٍ بَعْدَهُ لا سِيَّمَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أي أن تقديم العصر أفضل في حق الجماعة كالمنفرد؛ لأنها تأتي والناس متأهبون بالطهارة. وقوله: (بَعْدَهُ) أي بعد أول الوقت. ولو أسقك لفظة (بَعْدَهُ) لكان أولى. وقوله: (لا سِيَّمَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ) كذا نقله صاحب النوادر، والباجي، والمازري، وابن شاس. وزعم ابن عبد السلام أن قوله: (لا سيما) مراده يزاد على الذراع، وهو خلاف الظاهر. وَالْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ تَقْديمُهُمَا أَفَضَلُ. وفِي الْعِشَاءِ، ثَالِثُهَا: تَاخِيرُهَا إِنْ تَأَخَّرُوا، وَرَابِعُهَا: فِي الشِّتَاءِ وفِي رَمَضانَ ....... أما المغرب فلا خلاف فيها. وأما الصبح فما ذكره فهو قول جمهور أهل المذهب. وعن ابن حبيب أن العشاء تؤخر إلى نصف الوقت في زمان الصيف لقصر الليل. ورواية ابن القاسم عن مالك في العشاء أن تقديمها عند مغيب الشفق أو بعده بقليل أفضل. قال في المدونة: وأحب إلي للقبائل تأخيرها بعد مغيب الشفق قليلا. وهو مذهب الرسالة. وفي المدونة إنكار التأخير، قال: ومحمله على أن ذلك مما يضر بالناس. ورواية العراقيين عن مالك أن تأخيرها أفضل، والقول الثالث اختبار اللخمي، والرابع لابن حبيب. وقول ابن عبد السلام: أكثر نصوص أهل المذهب هو الثالث ليس بظاهر؛ لأن المازري وابن عطاء الله وغيرهما لم ينقلاه إلا عن اللخمي. وكذلك أشار إلى ذلك ابن شاس فإنه نقله عن بعض المتأخرين.

الثَّالِثُ: الضَّرُورِيُّ، وهُوَ مَا يَكُونُ فِيهِ ذُو الْعُذْرِ مُؤَدِّياً وَقِيَلَ: مِنْ غَيْرِ كَرَاهَِةٍِ لِيَتَحَقَّقَ الْمَكْرُوهُ ....... هذا هو القسم الثالث من أقسام الأداء؛ يعني أن كونه ضروريا أن الأداء فيه يختص بصاحب العذر، وهذا الحد يقتضي أن غير أهل الأعذار إذا صلى في هذا الوقت لا يكون مؤديا. وهذا القول هو الذي ينقله بعد هذا في قوله: وأما غيرهم فقيل قاض. وقوله: (وَقِيَلَ: مِنْ غَيْرِ كَرَاهَِةٍِ) يعني أنه يزاد على هذا القول في الحد من غير كرهة؛ لأن هذا القائل يري أن غير صاحب العذر كصاجيه في أن كلا منهما مؤديا، وإنما يمتاز صاحب العذر بنفي الكراهة، وهذا هو القول الذي يأتي في قوله: وقيل: مؤد وقت كراهة. ابن رشد: ويرد عليه أن اللام ظاهرة في التعليل، فيكون زيادة ذلك سببت في تحقق المكروه، وليس كذلك؛ لأنه إنما يتحقق المكروه بالدليل. وَهُوَ مِنْ حِينِ يَضِيقُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ عَنْ صَلاتِه إِلَى مِقْدَارِ إتمْامِ رَكْعَةٍ. وقِيلَ: إِلَى الرُّكُوعِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي الصُّبْحِ، وقَيْلَ الْغُرُوبِ فِي الْعَصْرِ، وَقَيْلَ الْفَجْرِ فِي الْعِشَاءِ، وفِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ والْعِشَاءَِ قَوْلاَنِ سَيَأتِيَانِ ..... جعل بعضهم الضمير في (صَلاتِهِ) يعود على الوقت، أي أن ذلك الوقت ضاق عن إيقاع صلاته فيه، ويحتمل أن يعود على المكلف. وقوله: (مِنْ حِينَ .... إلخ) يعني أن أول الوقت الضروري من حين يضيق الوقت الاختياري عن إدراك صلاته في الوقت المختار بأن لم يبق له من الوقت المختار مقدار ركعة، وأما إن أوقع ركعة في وقت الاختيار فقد أدرك وقت الاختيار قياسا على الوقت الضروري وفضل الجماعة، هكذا ظهر لي. وقاله ابن هارون. بل نقل صاحب تهذيب الطالب عن غير واحد من شيوخه أن وقت الاختيار يدرك بالإحرام فقط.

وفهم ابن راشد وابن عبد السلام من قوله (صَلاتِهِ) أن وقت الاختيار لا يدرك إلا بمقدار صلاة كلها لا بركعة، حتى إن المصلي لو أتى بثلاث ركعات من الظهر في القامة الأولي والرابعة في القامة الثانية لم يدرك الوقت الاختياري. وقوله: (إِلَى مِقْدَارِ إتمْامِ رَكْعَةٍ) يعني أن الوقت الضروري ممتد من المبدأ المذكور إلى أن يضيق الوقت قبل طلوع الشمس عن ركعة من الصبح، وكلامه ظاهر التصور. خليل: لكن مقتضاه أنه إذا ضاق وقت الضروري عن ركعة يخرج حينئذ وقت الضرورة، وليس بظاهر، بل وقت الضرورة ممتد إلى الغروب، ولو كان كما قال المصنف للزم ألا يدرك وقت الضرورة إلا بمقدار ركعة زائدة على ذلك، وليس كذلك، بل أدرك ركعة ليس إلا فهو مدرك لوقت الضرورة، ولا يلزم من كون الصلاة لا تدرك فيه أن يكون وقت الضرورة قد خرج؛ لأن الصلاة لا تدرك إلا بركعة. وقد صرح غير واحد بأن وقت العصر الضروري إلى الغروب، والله أعلم. واعلم أن قوله هنا: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يقتضي أن للصبح وقتا ضروريا، وهو خلاف ما قدمه، لكن قد تقدم أنه صدر بغير الْمَشْهُورِ. وقوله: (وقِيلَ: إِلَى الرُّكُوعِ) أشار إلى الخلاف الواقع بين ابن القاسم وأشهب بماذا يدرك أصحاب الأعذار الصلاة، هل بالركعة كلها أو بالركوع فقط؟ والخلاف ينيني على فهم قوله صلي الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". وقول ابن القاسم أولى لحمل اللفظ على الحقيقة، وصرح ابن بشير بمشهوريته. قال اللخمي: يعتبر قدر الإحترام وقراءة الفاتحة معتدلة والركوع والسجود، ويختلف هل تقدر الطمأنينة أم لا على الخلاف في وجوبها. ويرد على القول بأن القراءة إنما تجب في الجل هل يراعى قدرها في الإدراك؟ لأن له تقديمها في الركعة الأولى، أولا يراعى إذ لا يتعين فيها. خليل: وينبغي على هذا أن تؤخر القراءة؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.

والأَعْذَارُ الْحَيْضُ، وَالنُفَاسُ، وَالْكُفْرُ- أَصْلاً وَاِرْتِدَادَاً- وَالصِّبَا، وَالْجُنُونُ، والإِغْمَاءُ، وَالنَّوْمُ، وَالنِّسْيَانُ، بِخِلاَفِ السُّكَّرِ ...... هذا بيان للعذر المذكور في قوله: [43/أ] وهو ما يكون فيه ذو العذر مؤديا. وَفَائِدَتَهُ فِي الْجَميِعِ الأَدَاءُ عِنْدَ زَوَالِهِ، وفِي غَيْرِ النَّائِمِ وَالنَّاسِيِ السُّقُوطُ عِنْدَ حُصُولِه الضمير في قوله: (وَفَائِدَتَهُ) عائد على العذر في قوله: ما يكون فيه ذو العذر مؤديا. وهذه الفائدة ظاهرة في السقوط، وأما في الأداء تظهر إلا على القول بأن غير أهل الأعذار إذا صلوا في الوقت الضروري لا يكونون مؤدين، نعم تظهر الفائدة أيضاً على الأداء بانتفاء العصيان والكراهة. والحصول يتصور في الحيض والجنون والإغماء بخلاف الصبا والكفر، كذا قاله عبد الوهاب وتبعه ابن بشير، وفيها قالاه نظر. والصحيح أن الكفر مما يحصل لنفي القضاء عن المرتد عندنا، فلو ارتد لخمس ركعات قبل الغروب ولم يكن صلى الظهر والعصر ثم أسلم لسقطتا عنه. قُلْتُ: وَاِعْتِبارُ قَدْرِ الرَّكْعَةِ لِلأَدَاء، وأَمَّا السُّقُوطُ فَبِأَقَلِّ لَحْظَةٍ، وإِنْ أَثَِم الْمُتَعَمِّدُ حاصله أنه وافق المذهب في الطهر دون الحيض، وكأنه تخريج منه على أن الماهية إنما تتحقق عند حصول أجزائها، وتبطل عند ذهاب بعضها كما تبطل عند ذهاب الجميع، فمن أجل ذلك إذا حاضت وقد بقي قبل الغروب قدر ما توقع فيه- مثلا- تكبيرة الإحرام أن العصر تسقط عنها؛ لأن الحيض مانع لذلك الجزء المتوقف حصول الماهية عليه، ويلزم منه أن الإدراك إنما يكون بجميع الركعة، وعلى هذا فيتحصل في المسألة ثلاثة لأقول: الْمَشْهُورِ: اعتبار ركعة كاملة في الطهر والحيض. والشاذ: اعتبار الركوع فيهما.

وتفرقة المصنف، وما تأول على المصنف من أن مراده إذا كانت في الصلاة فحاضت قبل الغروب بعيد؛ لأن كلام المصنف لا ينبني على ذلك، ولكن تلك الصورة سيذكر المصنف فيها خلافا بين أصبغ وغيره. وروايته في الاستذكار: قال ابن وهب: وسألت مالكا عن المرأة تنسى أو تغفل عن صلاة الظهر فتغشاها الحيضة قبل الغروب، فقال: لا أرى عليها قضاء لا للظهر ولا للعصر إلا أن تحيض بعد الغروب. فإطلاقه في هذه الرواية يؤيد ما قاله المصنف. وقال ابن عبد السلام: سمعت من يقول ما ذكره المصنف في الاستذكار ولم أره. وَعَنْ تَحَقُّقَ الأَدَاءِ قَالَ أَصَبْغُ: لَوْ صَلْتْ رَكْعَةً فَغَرَبَتْ فَحَاضَتْ فَلا قَضَاءَ. وَلِمُخَالَفَتِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ بَعْضُهَا بَعْدَهُ قَضَاءٌَ ...... اعلم أن عن موضوعة في اللغة للتجاوز، وتصح أن تبقى هنا على بابها، أي نشأ قول أصبغ عن تحقق الأداء، ويجوز أن تكون بمعنى على، كقول الشاعر: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني ويكون المعنى: ويتفرع على تحقق الأداء قول أصبغ. ويؤيد هذا أنه وقع في بعض النسخ (على) ويحتمل أن تكون هنا (عن) للتعليل كقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53]، وقوله تعالى: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ويكون التقدير: ولأجل أو من أجل تحقق الأداء. وقوله: (لَوْ صَلْتْ رَكْعَةً فَغَرَبَتْ فَحَاضَتْ .....) إلى آخره، حكى التونسي والمازري في هذه المسألة قولين لأصحاب مالك: أحدهما: أنها إذا صلت ركعة من العصر قبل الغروب ثم حاضت لا يجب قضاؤها؛ لأن من حاضت في وقت صلاة لا تقضيها، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم مدرك ركعة من العصر قبل الغروب مدركا للعصر. وإذا كانت هذه مدركة لم يجب القضاء. والثاني: أن القضاء عليها واجب.

المازري: ووجهه ما نبهنا عليه من أن تعمد التأخير إلى هذا المقدار يحصل به الإثم، وأن الثلاث ركعات في حكم ما يقضى لفواته. ومن حاضت بعد الفوات وجب عليها القضاء. انتهى. قال ابن بشير بعد ذكره القولين: ويشير هذا الاختلاف إلى الخلاف في مدرك ركعة من الوقت هل يكون مؤديا لجميع الصلاة؟ وهو مقتضى سقوط القضاء عنها، وهذا هو الذي نسبه المؤلف لأصبغ، أو مؤديا للركعة قاضيا للثلاثة، وهو مقتضى وجوب القضاء، وهذا هو الذي نسبه المؤلف لبعضهم وهو لسحنون. لكن اعترض عليه في قوله: (ولِمُخَالَفَتِهِ) فإنه يقتضي أن هذا القائل قائل بهذا لأجل مخالفته لأصبغ أو مخالفته تحقق الأداء، وليس كذلك، بل إنما قال ذلك لأجل الدليل لا للنخالفة. وقوله: (بَعْضُهَا) أي بعض الصلاة. وقوله: (وبعده) أي بعد الوقت. ابن عبد السلام: وليس عندنا خلاف في الركعة المأتي بها في الوقت أنها أداء، وإنما الخلاف في المذهب في الركعة المأتي بها خارج الوقت، والخلاف في الركعة الأولى إنما هو لبعض الشافعية. وَأَمَا غَيْرَهُمْ، فَقَيَّلَ: قَاضٍ. وَقَالَ اِبْنُ الْقصَّارِ: مُؤَدٍّ عَاصٍ. وهُوَ بَعيدٌ، وقِيلَ: مُؤّدِّ وَقْتَِ كَرَاهَةٍ. وَرْدَّهُ اللَّخْمِيُّ بِنقَْلِ الإِجْمَاعِ عَلَى التَّأثِيمِ، ورَدَّ بِأَنَّ الْمَنْصُوصَ أَنْ يَرْكَعَ الْوَتْرَ وإِنْ فَاتَتْ رَكْعَةٌ مِنَ الصُّبْحِ ويَلْزَمُ أَلاَ تَسَقُطَ عِمَّنَ تَحِيضُ بَعْدَ وَقْتِ الاِخْتِيَارِ إِلا مَعَ مُسْقطِ الإِثْمِ كَالنِّسْيَانِ، والْجُمْهُورُ عَلَى خِلاَفِهِ وَأَلاَ يَقْصُرَ الْمُسَافِرُ ولاَ يُتْمَّ الْقَادِمُ إِلا مَعَ ذَلِكَ وَفِيهِ خِلاَفٌ .... يعني: وأما غير أهل الأعذار إذا أوقعوا الصلاة في الوقت الضروري، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه قاض. ولا أعلم قائله، لكن ابن بشير: إليه مال اللخمي. وهو مقتضى ما حكاه اللخمي وغيره عن مالك أن قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" مختص بأرباب الأعذار. ابن راشد: وهو الأصل. والثاني: نسبه المصنف لابن القصار، ونقله غير عن ابن القاسم، بل نقل التونسي التفاق عليه، فإنه قال: من أخر الظهر والعصر [43/ب] إلى اصفرار الشمس فإنه يأثم، لأن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين" وتكريره لذلك يدل على تأكيد النهي. فإن قيل: فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". قيل: هذا وقت لأصحاب الضرورات. واحتج من خالفنا بأنه إذا لم يكن قاضيا لم يكن عاصيا. قيل: قد اتفق على أن من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس أنه مؤد لها وليس بقاض، ولا خلاف أنه عاص، فقد صح عصيانه مع كونه مؤديا. انتهى. وظاهر كلام التونسي نفي وجود القول الذي حكاه المصنف بالقضاء. وقال في المقدمات: اتفق أصحاب مالك أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن الوقت المختار. ثم قال: فإن فعل فهو مضيع لصلاته، آثم وإن كان مؤديا. ونقل المصنف عن ابن القصار أنه مؤدٍّ عاصٍ. والذي نقلع سند وصاحب اللبان عن ابن القصار أنه مؤد غير آثم. وكذلك نقل عبد الحق وابن يونس عن ابن القصار أنه قال: من أخر الظهر حتى يصير ظل كل شيء مثليه لا نقول فيه أنه مفرط لخفة الوعيد، بل نقول أنه مسيء لتركه الاختيار، وإن أخرها عنه حتى لم يبق إلا أربع ركعات قبل الغروب أنه يأثم.

ثم قال ابن عطاء الله: فهذا تصريح بأن إيقاع الظهر بعد دخول وقت العصر الخاص بها من غير عذر مكروه وليس بمحرم. وقوله: لتركه الاختيار أشار إلى أنه أخف وجوده الكراهية؛ لأنه ترك الأولى. انتهى. واستبعد المصنف القول بأنه مؤد عاص؛ لأن الأداء إنما هو إيقاع العبادة في وقتها المقدر لها شرعا، وقد أوقع الصلاة فيه. فقد حصلت الموافقة للأمر فيه فينبغي العصيان. ووجه ابن عطاء الله والقرافي باعتبار الجهتين: فالأداء لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة)). والتأثيم لتفريطه. ولا يبعد اجتماع الإثم والأداء مع اختلاف موجبها كالصلاة في الدار المغصوبة، وفيه نظر. وقوله: (ورَدَّهُ اللَّخْمِيُّ) أي رد في التبصرة القول بأنه مؤد وقت كراهة بأن الإجماع منعقد على تأثيم غير ذوي الأعذار إذا أوقعوا الصلاة في الوقت الضروري، ولو كان مكروها لم يأثم، ولفظه: ولا أعلم خلافا بين الأمة أنها مأمورة بأن تأتي بجميع الأربع في العصر قبل الغروب، وبجميع الركعتين في الصبح قبل طلوع الشمس، وأنها إذا أخرت إحدى هاتين الصلاتين حتى يبقى لطلوع الشمس أو لغروبها مقدار ركعة أنها آثمة. انتهى. وقريب منه ما تقدم للتونسي- لا خلاف أنه عاص وإن كان مؤديا- فإن ظاهره أنه أراد نفي الخلاف في المذهب وغيره، وعلى هذا فهمه ابن عبد السلام. وكلا النقلين لا يصح؛ لأن ابن عبد البر نقل في الاستذكار عن إسحاق بن راهويه أن آخر وقت العصر أن يدرك المصلى منها ركعة قبل غروب الشمس، قال: وهو قول داود، لكن الناسي معذور وغير معذور، صاحب ضرورة وصاحب رفاهية، إلا أن الأفضل عنده وعند إسحاق أول الوقت. انتهى. وهذا الرد أولى مما قاله المصنف؛ لأن نقض الإجماع بالنقل أولى من نقضه بالاستقراء.

وقوله: (ورَدَّ بأَنَّ الْمَنْصُوصَ ....) إلى آخره، أي رد الإجماع بأن المنقول في المذهب أنه إذا لم يبق قبل طلوع الشمس إلا ركعتان ولم يكن صلى الوتر أنه يصلي الوتر ثم يصلي الصبح ركعة في الوقت وركعة خارجه، ولو كان الإجماع كما قال اللخمي للزم تقديم الصبح حتى لا يحصل الإثم، ويترك الوتر الذي لا إثم فيه. والعجب منه كيف قال هنا، وفي باب الوتر المنصوص، وفي المدونة: تقديم الصبح. وإنما الذي ذكره قول أصبغ. وقوله: (والْجُمْهُورُ عَلَى خِلافِهِ) لا يريد جمهور أهل المذهب، فإنا لا نعلم في المذهب خلافا، بل كلهم قالوا إذا حاضت قبل الغروب بركعة أن العصر تسقط قطعا، وكذلك قوله: (وفِيهِ خِلافٌ) لا نعلمه في المذهب. وَالْمُشْتَرِكَتَانِ- الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعَشَاءُِ- لا تُدْرَكَانِ معَاً إِلا بِزِيادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى مِقْدَارِ الأُولَى عِنْدَ اِبْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ، وَعَلَى مِقْدَارِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ اِبْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَاِبْنِ الْمَاجِشُونِ وَاِبْنِ مُسَلَمَةَ وسَحْنُونٍ، وَعَلَيْهِمَا الخِْلافُ إِذاَ طَهُرَتِ الْحائِضُ لِأُرَبَعٍ قَبْلَ الْفَجْرِ. قَالَ أَصَبْغُ: سَأَلْتُ اِبْنَ الْقَاسِمِ آخِرَ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأَ اِبْنُ عَبْدِ الْحَكْمِ. وسُئِلَ سَحْنُونٌ فَعَكْسَ .... أي: الاشتراك الضروري، ولا يظهر للخلاف أثر في الظهر والعصر لاتحاد ركعاتهما، وإنما يظهر في المغرب والعشاء، وتصور القولين ظاهر. ونقل المارزي ما نسبه المصنف لابن القاسم عن مالك وأكثر أصحابه: ووجه قول ابن القاسم أن أول الصلاتين لما وجب تقديمها على الأخرى فعلا وجب التقدير بها. ووجه الثاني: أن الوقت إذا ضاق حتى لم يسع إلا إحدى الصلاتين فالذي يجب عليه إنما هي الأخيرة اتفاقا بدليل أن من أدرك أربع ركعات قبل الغروب إنما يجب عليه العصر فقط اتفاقا، فإذا تزاحمت الصلاتان على آخر الوقت وثبتت الأخيرة وسقطت الأولى دل ذلك على أن آخر الوقت مستحق لآخر الصلاتين.

وَلَوْ طَهُرَتْ الْمُسَافِرَةُ لِثَلاثٍ فَقَوْلانِ عَلَى الْعَكْسِ فَلَوْ حَاضَتَا فَكُلٌّ قَائِلٌ بِسُقُوطِ مَا أَدْرَكَتْ .... يعني: فإن قدرنا بالأولى فلا يفضل للعشاء شيء، فيكون الوقت مختصا بالعشاء فتسقط المغرب، وعلى قول ابن عبد الحكم- إذا قدرنا [44/أ] بالثانية- أدركتهما؛ لأنها ركعتان. والضمير في (حَاضَتَا) عائد على المسافرة والحاضرة اللتين طهرتا لأربع وثلاث قبل الفجر. وقوله: (فَكُلٍّ) أي فكل واحد من القائلين أو القولين. فعلى قول ابن القاسم تسقط الصلاتان إذا حاضت الحاضرة لأربع قبل الفجر لوجوبهما عليها إذا طهرت، وتسقط العشاء عن المسافرة إذا حاضت لثلاث. وعلى قول ابن عبد الحكم تسقط العشاء عن الحاضرة دون المغرب، وتسقط الصلاتان عن المسافرة بعكس الوجوب. وعن سحنون ما معناه الأخذ بالأحوط من مذهبي ابن القاسم وابن عبد الحكم. َلَوْ كَانَتِ الأُولَى لِخَمْسٍ أَوْ لِثَلاثٍ، وَالثَّانِيَةَ لأَرْبَعٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ لَحَصَلَ الْاِتِّفَاقُ فِي الطُّهْرِ وَالْحِيَضِ ..... الأولى هي الحاضرة، يعنى أن طهرت لخمس أدركتهما أو لثلاث أدركت الأخيرة فقط اتفاقا، وهذا واضح. والثانية للمسافرة، يعني فإن طهرت لأربع أدركتهما أو لاثنين أدركت الأخيرة فقط اتفاقا، وهذا واضح. وَلَوْ سَافَرَ لِثَلاثٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَسَفَرِيَّتَانِ ولِمَا دُونَهَا فَالْعَصْرُ سَفَرِيّةٌ، ولَوْ قِدِمَ لِخَمْسٍ فَحَضَرِيَّتَانِ ولِمَا دُونَهَا فَالْعَصْرُ حَضَرِيَّةٌ مسائل النهار لا صعوبة في فهمها، ولهذا استغنى المصنف في فصل الطهر والحيض عن ذكرها. وضابط هذا الفصل أنه إن أدرك وقت صلاة في سفر صلاها سفرية، وإن أدرك وقتها في حضر صلاها حضرية.

وَلَوْ سَافَرَ لأَرْبَعٍ قَبْلَ الْفَجْرِ فَالْعِشَاءُ سَفَرِيَّةٌ، ولِمَا دُونَهَا فَالرِّوَايَةُ أيضاً، وفِي الجَلابِ رِوَايَةٌ: حَضَرِيَّةٌ، وَلَوْ قَدِمَ لأَرْبَعٍ فَالْعِشَاءُ حَضَرِيّةٌ، وِلمَا دُونَهَا كَذَلِكَ، وَخَرَّجَهَا فِيهِ سَفَرِيّةٌ .... وأما إذا سافر لأربع فلا خلاف أنه يصلي العشاء سفرية؛ لأن التقدير: إن كان بالأولى فضل ركعة، وإن كان بالثانية فضلت ركعتان، وكذلك لما دونها، ولا وجه لها في الجلاب. وكثيرا ما يقال إذا أريد إدخال هذا القول هل آخر الوقت لآخر الصلاتين أو لأولهما، والمعلوم أن الوقت إنما تختص به الأخيرة، أو تشاركها الأولى، أما أن يكون للأولى وليس للآخرة فيه حظ فلا. ويلزم عليه في السقوط والإدراك، ولا قائل بهما. وَفِي اِعْتبَارِ مِقْدَارِ التَّطْهِيرِ، ثَالِثُهَا: لاَبْنِ الْقَاسِمِ: إِلا الْكَافِرَ لانْتِفَاءِ عُذْرِهِ، وَرَابِعُهَا لابْنْ حَبيبِ: والْمُغْمَى عَلَيهِ؛ وَلَمْ يُخْتَلِفْ فِي الصَّبِيِّ ... يعني: أنه اختلف هل يعتبر مقدار التطهير في حق الحائض، ومن ذكر معها على أربعة أقوال: الأول: اعتباره في الجميع، وحكي عن سحنون وأصبغ. قال عبد الوهاب: وهو القياس. وقيل: لا يعتبر إلا في الصبي. نقله ابن بشير، ولم يعزه ابن راشد، وعزاه بعضهم لسحنون وأصبغ. انتهى. والمعروف عنهما هو الأول، قال بعضهم: بناء على أن الطهارة شرط في الوجوب وفي الأداء. ورد بأنها لو كانت شرطا في الوجوب لم يخاطب محدث أصلا، وهو خلاف الإجماع. قال اللخمي وغيره: ويلزم على عدم الاعتبار أنهم إذا خافوا إن استعملوا الماء ذهب الوقت أنهم يتيممون قياسا على تيمم الحضري إذا خاف الفوات.

والقول الثالث: اعتباره في الجميع إلا في حق الكافر لانتفاء عذره. وضعفه عبد الوهاب بأن الإسلام يجب ما قبله، وصرح ابن بزيزة بمشهوريته. والرابع: لابن حبيب يعتبر في الجميع إلا في حق الكافر والمغمى عليه. أما الكافر فكما ذكره، وأما المغمى عليه فجعله ابن حبيب كالنون بجامع أن كلا منهما يبطل الوضوء. ولآن أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال: يقضي ما قل وما كثر كالنائم. وقال أبو حنيفة: إن كان أغماؤه يوما وليلة فأقل وجب القضاء، وإلا فلا. وأخرج ابن أبي زيد في النوادر الحائض عن الخلاف كما ذكر المصنف في الصبي. وحكى المازري وغيره طريقة ثالثة بإجراء في الجميع حتى في الصبي. ونقل ابن بزيزة قولا باعتبار مقدار الطهارة وستر العورة. ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم أنه اعتبر ستر العورة واستقبال القبلة. وجزم ابن الجلاب باعتبار مقدار التطهير في حق الحائض، وتردد فيمن عداها، وجعله محتملا. فإن قيل: قول المصنف: (لانْتِفَاءِ عُذْرِهِ) ينافي ما قدمه في عده الكفر من الأعذار. قيل: لا؛ لأنه عذر باعتبار الإدراك والسقوط كما في غيره من الأعذار، لكن ليس في المعذور فيه لتمكنه من زواله بأن يسلم بخلاف الأعذار الباقية، فإنه لا قدرة لصاحبها على إزالتها، والله أعلم. فرع: وهل يقدر لأهل الأعذار مقدار الطهارة في طرف السقوط؟ قاله اللخمي، ولم أره لغيره.

وَلَوْ تَطَهَّرَتْ فَأَحْدَثَتْ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ طَاهِرٍ وَنَحْوَُهُ فَالْقَضَاءُ عَلَى الأَصَحِّ لِتَحَقَّقِ الْوُجُوبِ .... يعنى: لو تطهرت الحائض مثلا فأحدثت، فظنت أنها تدرك الصلاة في الوقت بطهارة أخرى، فشرعت فلم تدرك الصلاة ولا شيئا منها في الوقت. أما لو علمت قبل الشروع في الطهارة الثانية أنها لا تدرك فإنها تتيمم على الْمَشْهُورِ. وحكى المصنف الخلاف في مسألة الحدث تبعا للمازري وابن شاس أنهما حكيا قولا فيهما بعدم القضاء، والمنقول عن ابن القاسم في المسألة القضاء. قال المازري: وهذا فيمن غلبها الحدث، وأما المختارة فلا يختلف في وجوب القضاء عليها. وقال ابن بشير: [44/ب] لو حصل للحائض أو غيرها التطهير فأحدثت وكانت إن أعادت الطهر فات وقت الصلاة فالقضاء واجب عليها باتفاق؛ لأنها بعد الطهر مطلوبة بالصلاة، فإحداثها كإحداث من هو مطلوب بالصلاة، وقد تعينت عليها، فيجب عليها التطهير وقضاء الصلاة. انتهى. وأما مسألة إن (تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ طَاهِرٍ وَنَحْوَُهُ) أي الماء المضاف بطاهر، فقال ابن شاس: إذا اغتسلت الحائض بماء غير طاهر، فلما أخذت في الإعادة بالماء الطاهر خرج الوقت، لم يلزمها قضاء ما فات لأجل تشاغلها بالغسل المعاد؛ لأن منعها من الصلاة بالطهر الأول كمنعها من الصلاة بالحيض، ولو أعادت لكان أحوط. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الإعادة. وقيل: لا تؤمر بالقضاء إذا كان الماء الأول لم يتغير؛ لأن الصلاة به تجزئ، وإنما تعاد في الوقت طلبا للكمال. ولهذا قال أشهب: لو علمت المتطهرة بهذا الماء أنها لو أخذت في إعادة الغسل غربت الشمس كانت صلاتها بذلك الغسل أولى من اشتغالها بإعادة الغسل حتى يفوت الوقت. انتهى.

والقول الذي صرح به ابن شاس هو قول ابن القاسم في الموازية والعتبية، وما صححه المصنف هو قول سحنون، وجمع المصنف بين المسألتين وذكر أن الأصح فيهما القضاء اختيارا لمذهب سحنون، والله أعلم. وحمل ابن بشير الاختلاف على ما إذا لم يتغير أو تغير وظنت أنه من قراره، قال: ولو علمت بنجاسته وجب عليها القضاء بلا إشكال. وحمل ابن أبي زيد وغيره الاختلاف على ما إذا لم يتغير الماء، يعني: وأما لو تغير أحد أو صافه لاعتبر الوقت بعد الغسل الثاني؛ لأن الأول كالعدم. فإن قيل: هل يصح أن يريد المصنف بقوله: (ونَحْوُهُ) ما لو تبينت لها نجاسة الثوب أو الجسد. قيل: لا؛ لأن الحكم في تلك الصلاة. كذلك قاله مالك في النوادر. قَالَ اِبْنُ الْقَاسِمِ: ولا يُعْتَبَرُ مِقْدَارُ مَنْسِيَّةٍ تُذْكَرُ كَحَائِضٍ طَهُرَتْ لأَرْبَعٍ فَأَدْنَى فَذَكَرَتْ فَإِنَّهَا تُصْلِّي الْمَنْسِيَّةَ ثُمَّ تَقْضِي مَا أَدْرَكَتْ وَقْتَهُ. ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لا تَقَضِي. والأَوَّلُ أَصَحُّ .... تقديم المنسية على الوقتية وإن خرج وقت الحاضرة جاز على الْمَشْهُورِ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في بابها إن شاء الله تعالى. وقوله: (فَذَكَرَتْ) أي ذكرت صلاة تستغرق ما بقي من الوقت. وصحح المصنف القضاء؛ لأن المنسية إنما قدمت للترتيب وإلا فالوقت إنما هو للحاضرة. وقد قال ابن المواز أن القضاء أصح؛ لأن من أصل مالك أن من سافر لركعتين ناسيا للظهر والعصر أن يصلي الظهر حضرية والعصر سفرية؛ لأنه سافر في وقتها، وعلى القول الآخر ينبغي أن يصلي الظهر ركعتين والعصر أربعاً.

قال ابن يونس: لأن جعل ذلك الوقت للظهر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنما ذلك وقتها". وَقَالَ أيضاً: إذاً حَاضَتْ لأَرْبَعٍ فَأَدْنَى بَعْدَ أَنْ صَلّتِ الْعَصْرَ نَاسِيَةً لِلظُّهْرِ تَقَضِي الظُّهْرَ لأَنَّهَا تَخَلَّدَتْ فِي الذِّمَّةِ لِخُرُوجِ وَقْتِهَا. ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ تَقْضِي لأَنَّهُ وَقْتٌ. وَغَيْرُ هَذَا خَطَأ، والأَوَّلُ أَصَحُّ ... سبب الخلاف هل تختص العصر بأربع ركعات قبل الغروب أولا؟ فإن قلنا بالاختصاص جاء منه القول بالقضاء وإلا فلا، ولما كان المعروف من المذهب الاختصاص صحح المصنف القضاء. وَعَلَيهِمَا لَوْ قَدِمَ لأَرْبَعٍ أَوْ سَافِرَ لاثْنَتَيْنِ وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ نَاسِياً لِلْظُهْرِ، فَلَوْ لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ صَلَّى الظُّهْرَ قَضَاءً فِيهِمَا اتِّفَاقاً .... يعني: فعلى القول بالاختصاص إذا قدم لأربع وقد صلى العصر ناسيا للظهر فيكون وقت الظهر قد خرج وهو مسافر فيصليها سفرية، وعلى القول بعدمه فيكون قد قدم في وقتها فيصليها حضرية، وكذلك لو سافر لركعتين والمسألة بحالها. وقوله: (فَلَوْ لَمْ يُصَلِّ ....) إلى آخره الضمير في (فِيهِمَا) عائد على الحاضر والمسافر. ووقع في بعض النسخ تصل بالتاء المثناة من فوق، وبإلحاق تاء التأنيث بعد صلى، فيعود ذلك على المرأة؛ يعني أن المرأة إذا حاضت لأربع ولم تصل الظهر والعصر قضت الظهر؛ لأن الحيض إنما طرأ بعد خروج وقتها. وعلى هذه النسخة فيكون الضمير في (فِيهِمَا) عائدا على قولي ابن القاسم. وانظر هذا الاتفاق مع قول من قال بعدم الاختصاص، وأن الوقت مشترك بين الظهر والعصر إلى الغروب كما حكاه الباجي عن جماعة من الأصحاب، ومع مسألتي ابن الجلاب. وقد يجاب عن الأول بأن ابن رشد قال في البيان: أما النهار فلا اختلاف في أن مقدار أربع ركعات قبل الغروب وقت للعصر خاصة. فلعل

المصنف يذهب إلى هذه الطريقة. وعن رواية ابن الجلاب فإنها خارجة عن القياس، ولا يصح أن تجرى في كل شيء وإلا لزم أشياء في الحيض والطهر، ولا يقول بها أحد. فَلَوْ قَدَّرَتْ خَمَسْاً فَأَكْثَرَ فَصَلَّتِ الظُّهْرَ فَغَرَبَتْ قَضَتِ الْعَصْرَ لِتَحَقَّقِ وُجُوبِهَا هذا بين ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في عكسه إذا قدرت أربعا فصلت العصر وبقي من الوقت فضله فإنها تصلي الظهر. واختلف في إعادتها للعصر والظهر وهو قوله في العتبية: عدم الإعادة. لأن ترتيب المفعولات مستجب في الوقت لا بعده, والفرض أن الوقت قد خرج، فلو علمت في الفرع الذي ذكره المصنف وهي في الظهر، فروى عيسى عن ابن القاسم: إن غربت الشمس وقد صلت منها ركعة فلتضف إليها أخرى وتسلم وتصل العصر، وكذلك لو غربت بعد [45/أ] لأن صلت ثلاث أتت برابعة وتكون نافلة وتصلي العصر. وقال أشهب وابن حبيب: لو قطعت في الوجهين كان واسعا. قال في البيان: ويجري فيها من الخلاف ما جرى فيمن ذكر صلاة في صلاة وقد صلى منها ركعة أو ثلاثا، وسيأتي ذلك عند المصنف هذا الفرع. وقال ابن يونس: يجري على الخلاف قيمن أقيمت عليه المغرب وهو فيها. فعلى مذهب المدونة يقطع بعد ركعة. أما لو علمت وهي تصلي الظهر قبل أن تغيب الشمس أنها إن أكملت الظهر غابت الشمس لوجب أن تقطع على أي حال كان وتصلي العصر، بلا خلاف. قاله في البيان. وأَوْقَاتُ الْمَنْعِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ بِرَكعَتَيْهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشّمْسُ وَتَرْتَفِعَ، وَبَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشّمسُ .... ما قدمه من أول الأوقات إلى هنا مختص بالفريضة الوقتية. وأخذ الآن يذكر الوقت بالنسبة إلى النوافل، وأما الفرائض فلا منع فيها؛ لأنها إن كانت وقتية فواضح، وإن كانت فائتة فتوقع في كل وقت من غير استثناء كما سيأتي.

وظاهر كلامه أن مراده بالمنع التحريم ويحتمل أن يريد به الكراهة وهو الذي رأيت من كلامهم، وقد صرح ابن عبد البر وابن بزيزة بكراهة النافلة بعد العصر والصبح. وصرح المازري بالكراهة بعد الفجر. ولعل المصنف تعلق بظاهر الأحاديث فإن فيها: ((ونهى عن الصلاة في هذين الوقتين))، وظاهر النهي التحريم. وقال ابن عبد السلام: الذي حمله على ما نقله ما يأتي في آخر الفصل من قطع من ابتدأ الصلاة في وقت منع ولو كانت الكراهة على بابها لم يقطع. انتهى. وفيه نظر، بل الظاهر القطع في المكروه كالمحرم أذ لا يتقرب إلى الله بمكروه. والباء في (بِرَكْعَتَيْهِ) للمصاحبة، وهل النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر حماية لئلا يتطرق إلى الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها أو حقا لهذين الفرضين ليكون ما بعدهما مشغولا بما هو تبع لكل منهما من دعاء ونحوه. قولان ذكرهما المازري وابن رشد في بيانه. وحكى ابن بشير الإجماع على تحريم إيقاعها عند الطلوع وعند الغروب. وَبَعْدَ صَلاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْمُصَلَّي يعني: أنه كره لكل مصل أن يتنفل بعد صلاة الجمعة حتى ينصرف. قال في المدونة: ولا يتنفل الإمام والمأموم بعد الجمعة في المسجد، وإن تنقل المأموم فيه فواسع. انتهى. أما الإمام فلما في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته. أما الإمام فلما في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته. وأما المأموم فلظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، ولسد الذريعة في أن يفعل ذلك أهل البدع فيجعلون الجمعة أربعا وينوون بها الظهر.

قال في البيان: ويتحصل في ركوع الناس بعد الجمعة إثر صلاة الجمعة في المسجد لمالك ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه لا كراهة في الركوع ولا استحباب في الجلوس، فإن جلس لم يؤجر، وإن ركع كان له أجر صلاته كاملاً. والثاني: أن الجلوس مستحب، والركوع واسع، فإن جلس ولم يصل أجر على جلوسه، وإن صلى أجر على صلاته- والله أعلم أيهما أكثر أجرا- وهو الذي يأتي على قول مالك في الصلاة الثاني من المدونة. والثالث: أن الركوع مكروه والجلوس مستحب، فإن جلس ولم يصل أجر، وإن صلى لم يأثم، وهو الذي يأتي على ما في الصلاة الأول من المدونة، فالجلوس على هذا القول أولى من الصلاة، والصلاة على القول الأول- وهو الذي يأتي على قول مالك في العتبية- أولى من الجلوس. انتهى. خليل: وظاهر المذهب كراهة الركوع، ولهذا اختلفوا لو كان غريبا، أو ممن لا بيت له، أو ممن كان يريد انتظار صلاة العصر، فمنهم من يقول: يخرج من باب، ويدخل من باب آخر. ومنهم من يقول: ينتقل من مكانه إلى غيره من المسجد فيركع فيه. ومنهم من يقول: إذا طال مجلسه أو حديثه مما يسوغ الكلام به فيجوز له أن يركع في موضعه من غير انتقال. ولا تُكْرَهُ وَقْتَ الاِسْتِوَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتُسْتَثْنَى الْفَوَائِتُ عُمُوماً، وَقيامُ اللَّيْلِ لَمِنْ نَامَ عَنْ عَادَتِهِ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَصَلاَتَهِ خُصُوصاً .... وجه الْمَشْهُورِ ما قاله مالك: أدركت الناس وهم يصلون يوم الجمعة نصف النهار. ووجه مقابلة حديث الصنابحي. وقوله: (وَتُسْتَثْنَى الْفَوَائِتُ عُمُوماً) أي فترفع في كل وقت، وتقييد قيام الليل لمن نام عن عادته هو الْمَشْهُورِ، ولا بن الجلاب يلحق به العامد.

و (مَا بَيْنَ الْفَجْرِ) منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر؛ أي: يصليه. والضمير في (وصَلاتِه) عائد على المكلف؛ أي: ما بين طلوع الفجر وأن يصلي الصبح، ويجوز عود الضمير على الفجير- أي وقت صلاة الفجر- أي بالنسبة إليه. وَفِي الْجَنَّازَةِ وَسُجُودِ التِّلاوَةِ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَقَبْلَ الإِسْفَارِ وَبَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ وَقَبْلَ الاصْفِرارِ الْمَنْعُ لِلْمُوَطأ وَالْجَوَازُ لْلِمُدَوَّنَةِ، وَالْجَوَازُ فِي الصُّبْحِ لاَبْنِ حَبيبٍ، وَأَمَّا الإِسْفَارُ وَالْاِصْفِرارُ فَمَمْنُوعٌ إِلا أَنْ يُخَشَى تَغَيُّرُ الْمَيِّتِ .... تقييده ببعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر صحيح، فقد نص المدونة على أنه يسجد للتلاوة بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح. ولفظ المنع عند قائله على الكراهة. فوجه ما في الموطأ ما خرجه أبو داود عن ابن عمر: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يسجدوا حتى تطلع الشمس. ووجه المدونة أن هاتين الصلاتين اختلف في وجوبهما، فكان لهما مزية على النوافل، فخصا [45/ب] بهذين الوقتين. فإن قيل: ينقض بالوتر؛ لأنه أيضاً مختل في وجوبه. فجوابه أن الوتر مؤقت بزمان، وقد ذهب وقته. وقول ابن حبيب مشكل؛ لأن النهي فيهما واحد. وقيد المصنف الخلاف بقبل الإسفار والاصفرار؛ لأنه لو أسفر أو اصفرت لم يسجد اتفاقا حينئذ. فقال في المدونة: إذا أتت في قراءته سجدة فليتعدها. قال صاحب النكت وابن يونس: يويد موضوع ذكر السجود لا الآية كلها. قاله الباجي. وقيل: يتعدى الآية كلها. وقال أبو عمران: لا يتعدى أصلا ولا يخرج عن حكم التلاوة.

ومَنْ أَحَرْمَ فِي وَقْتِ نَهْيٍ قِطَعِ لأنه لا يقترب إلى الله تعالى بها نهى عنه. زاد شاس: ولا قضاء عليه. وَنُهْيَ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الْمَزْبَلَةِ والْمَجْزَرَةِ وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ (وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ) قارعتها. والنهي المشار إليه ما رواه الترمزي وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواضع: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق بيت الله الحرام. والتعليل فيها مختلف. أما المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق فلأن الغالب نجاستها، ثم إن تيقن بالنجاسة أو الطهارة فواضح، فإن لم يتيقن، فالمشهور أنه يعيد في الوقت بناء على الأصل. وقال ابن حبيب: أبداً بناء على الغالب. وهذا إذا صلى في الطريق اختيارا, وأما إذا صلى فيها لضيق المسجد فإنه يجوز، نص على ذلك في المدونة، وغيرها. المازري: ورأيت فيها علق عن ابن الكاتب وابن مناس أن من صلى على قارعة الطريق لا يُعيد إلا أن تكون النجاسة فيها قائمة. وبَطْنِ الْوَادِي قيل أن المصنف انفرد به. وحكى الباجي لما تكلم على حديث الموطأ وأمره صلى الله عليه وسلم بالانتقال من الوادي، لأن به شيطانا، عن ابن مسلمة أنه لو تذكر صلاته في بطن واد صلاها لعدم عرفاننا بوجود الشيطان فيه. قال الداودي: إلا أن يعلم ذلك الوادي بعينه فلا تجوز الصلاة فيه لإخباره صلى الله عليه وسلم أن به شيطانا. الباجي: ويحتمل عندي أن تجوز لعدم علمنا ببقائه. فهذا قولهم في الفائتة، فيحتمل أن يكون ذلك لوجوب المبادرة بها بخلاف الحاضرة لسعة الوقت، ورأيت بعض الشافعية علل ذلك بخوف خطر السيل.

وظَهْرِ بَيْتِ اللهِ الْحَرِامِ ومَعَاطِنِ الإِبلِ وهُوَ مُجْتَمَعُ صَدْرِهَا مِنْ الْمَنْهَلِ بِخِلاَفِ مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ .... سيأتي الكلام على ظهر بيت الله الحرام عز وجل إن شاء الله تعالى. وأما المعاطن فهو جمع: معطن. ويجمع أيضاً على: أعطان. وقوله: (مُجْتَمَعُ صَدْرِهَا مِنْ الْمَنْهَلِ) أي موضع اجتماعها عند صدورها من الماء. والمعطن: هو الصدر، يقال: فلا واسع العطن أي الصدر. ومعاطن الإبل مباركها عند الماء، قاله المازري. واختلف في التعليق: فقيل: لأن العرب تستتر بها عند الحاجة. قاله ابن الققاسم وابن حبيب. وقيل: لأنها خلقت من جان فتشغلهم عن الصلاة. وقيل: لزفرة رائحتها، والصلاة منزهة عن ذلك. وقيل: لنفورها. وقيل: لأنها تمني. تنبيه: قال الشيخ ابن الكاتب: إنما النهي عن المعاطن التي عادة الإبل أن تغدو منها وتروح إليها. وأما لو باتت في بعض المناهل لجازت الصلاة فيها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام صلى على بعيره في السفر. ويختلف على التعليل بالنجاسة لو فرش شيئا وصلى عليه. واختلف إذا وقعت الصلاة فيها، فقال ابن حبيب: إن كان عامدا أو جاهلا أعاد أبداً، وإنا كان ناسيا أعاد في الوقت. وقيل: بل في الوقت مطلقاً.

وقوله: (بِخِلاَفِ مَرَابِضِ الْغَنَمِ) فيه استعمال المرابص للغنم. قال ابن دريد: ويقال ذلك لكل ذي حافر. وقال بعضهم: إنما هي للبقر، وأما الغنم فالمستعمل لها إنما هو المراح. والأصل فيها خرجه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مراح الغنم. وَكَرِهَهَا فِي الْمَقْبَرَةِ وَفِي الْحِمَّامَ لِلْنَجَاسَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مَامُونَةٌ مِنْ أَجِزَاءِ الْمَوْتَى، وَالْحَمَّامُِ مِنَ النَّجَاسَةِ لَمْ تُكْرَهْ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيِلَ: إِلا مَقَابِرَ الْكُفَّارِ ..... في المقبرة أقوال: الجواز لمالك في المدونة. والكراهة في رواية أبي مصعب. وحمل ابن حبيب الحديث على مقبرة المشركين. قال ابن حبيب: وإن صلي فيها أعاد أبداً إلأا أن تكون دراسة فقد أخطأ، ولا يُعيد. وقال عبد الوهاب: تكره الصلاة داخل الحمام، وفي الجديدة من مقابر المسلمين، وكذلك القديمة إن كان فيها نبش إلا أن يجعل حصيرا تحول بينه وبينها. وتكره في مقابر المشركين. وفي الجلاب: لا بأس بها في المقبرة الجديدة، وتكره في القديمة. وما ذكره المصنف أن الْمَشْهُورِ هو كذلك في المازري، فقال: مشهور المذهب جوازها، وإن كان القبر بين يديه للحديث الذي رواه البخاري ومسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)). وقال ابن عبد البر: هذا الحديث ناسخ لما عارضه مبيح الصلاة في كل موضع، وقد ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام بنى مسجدا في مقبرة المشركين. ووجه الكراهة عموم النهى.

ورأى في الثالث أن مقابر الكفار حفرة من حفر النار. واعتبر في القول الرابع هذا المعنى، وكون الميت ينجس بالموت فكرهها في الجديدة لخوف النجاسة، وكذلك القديمة إذا نبشت، وفيه نظر، فإن الجديدة لم تتحول أجزاء الموتى إلى أعلاها إلا أن يريد بالجديدة العامرة بالدفن، وبالقديمة المندرسة [46/أ] التي لم يبق لها حكم. واختار اللخمي منع الصلاة في القبور والجلوس عليها، والاتكاء إليها، لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث أنه نهى عن أتخاذ القبور مساجد. ولما في مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا على المقابر ولا تصلوا إليه)). وقد كره الليث الجلوس عليها، ومنعه ابن مسعود وعطاء. ابن عات: وتأول مالك النهي على الجلوس لقضاء الحاجة، لما في الموطأ عن علي رضي الله عنه أنه كان يتوسد القبور، ويضطجع عليها. وأما الحمام فقد أجاز الصلاة فيه في المدونة إذا كان موضعه طاهرا. وأجازها في العتبية ولم يشترط الطهارة. فقيل: تكلم في المدونة على داخلة وتكلم في العتبية على خاجه. وقال اللخمي وعبد الوهاب: اختلف في الصلاة في الحمام وإن بسط ما يصلي عليه. وَكَرِهَهَا فِي الْكَنَائِسِ لِلْنَجَاسَةِ وَالصُّوَرِ أي: وكره مالك الصلاة في الكنائس لنجاسة أقدامهم لما يتعاطون من النجاسة؛ لأنها مكان أسس على غير التقوى، ولما فيها من الصور. زاد في المدونة كراهة النزول فيها من غير ضرورة. وأجاز مالك الصلاة فيها للمسافر الذي يلجئه إليها المطر أو الحر أو البرد، ويبسط فيها ثوبا طاهرا. واستحب سحنون أن يُعيد وإن صلى لضرورة، كثوب النصراني.

الأذان

ابن حبيب: وإن صلى في بيت نصراني أو مسلم لا يتنزه عن النجاسة أعاد أبداً. قال في البيان. وهذا في الكنائس العامرة، وأما الكنائس الدارسة العافية من آثار أهلها فلا بأس بالصلاة فيها، قاله ابن حبيب. وَيُكْرَهُ التَّماثِيلُ فِي نَحْوِ الأَسِرَّة بِخِلاَفِ الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ الَّتِي تُمْتَهَنُ، وَتَرْكُهُ أَحْسَنُ التماثيل إن كان بغير حيوان كالشجر جازز، وإن كان بحيوان مما له ظل قائم فهو حرام بإجماع. وكذلك إن لم يقم كالعجين، خلافا لأصبغ، لما ثبت أن المصورين يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما كنتم تصورون. وما لا ظل له إن كان غير ممتهن فهو مكروه، وإن كان ممتهنا فتركه أولى. الأَذَانُ سُنَّةً، وقِيلَ: فَرْضٌ. وفِي الْمُوَطَّأِ: وإِنَّمَا يَجِبُ الأَذَانُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ. وقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى كُلَّ بَلَدٍ يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ .... اختلف في تأويل الموطأ فحمله ابن أبي زيد وغيره على الوجوب. واختاره الباجي. قال الباجي: إلا أن وجوبه على الكفاية. وحمله عبد الوهاب على أن المراد وجوب السنن. والمصنف ممن حمل الموطأ على ظاهره. والفرق بين مذهب الموطأ والذي بعده- وإن اشتركا معا في الوجوب على الكفاية- أن القول الثالث يراه في المصر مرة واجبا، وسنة في مساجد الجماعات. ومذهب الموطأ يرى وجوبه في كل مسجد من مساجد الجماعة. والقول الثالث وهو ما حكاه الطبري عن مالك؛ لأنه نقل عنه أنه قال: إذا تركه أهل مصر أعادوا الصلاة. وحكى بعض المتأخرين عن مالك من رواية أشهب ما هو قريب منه وهو أن من صلى بغير أذان في مساجد الجماعات يُعيد الصلاة.

وإذا بنينا على المشهور من أنه سنة فهل يجب للجمعة أو لا قولان، قال اللخمي: ووجوبه أحسن لتعلق الأحكام به. انتهى، وفيه نظر. وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي مَشْرُعِيَّتِهِ فِي الْمَفْرُوضَةِ الْوَقْتِيَّةِ إِذاً قُصِدَ الدُّعَاءُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُقْصَدْ فَوَقَعَ لا يُؤَذِّنُونَ، ووَقَعَ إِنْ أَذَّنُوا فَحَسَنٌ. فَقِيلَ: اِخْتِلاَفٌ. وقِيلَ: لا. وَاِسْتَحَبَّهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِلْمُسَافِرِ، وإِنِ اِنْفَرَدَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَحَدِيثِ اِبْنِ الْمُسَيَّبِ. وَلَا أَذَانَ لِغَيْرِ مَفْرُوضَةٍ ولا لِفائِتَةٍ، وفِي الأَذَانِ فِي الْجُمَعِ ثَلاثَةٌ: مَشْهُورَهَا يُؤَذِّنُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ... أي: وفي استحبابه، وإلا فالمشروع أعم من المستحب؛ لأنه يطلق على المباح وغيره. واحترز بالمفروضة من النافلة فلا أذان لها، وبالوقتيه من الفائتة فلا أذان لها، إلا على قول شاذ. واحترز بالقصد إليها مما إذا لم يقصد. ثم تكلم على الحكم مع عدم القصد، وتصوره ظاهر. والذي حمله على الخلاف: اللخمي. وعلى الوفاق: ابن بشير. وحديث أبي سعيد هو قوله في الموطأ لعبد الله بن زيد: إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإن لا يسمع نداء المؤذن إنس ولا جن إلا شهد له يوم القيامة. قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث ابن المسيب في الموطأ والبخاري والنسائي وابن ماجه، أنه كان يقول: ((من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله مللك، فإذا أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال)). وقوله: (مَشْهُورُهَا) أي في الجميع مطلقاً ثلاثة أقوال:

الإقامة

قيل: لا يؤذن لهما. وقيل: يؤذن للأولى فقط. والْمَشْهُورِ: يؤذن لكل منهما. قال المازري: واتفق عندنا على أنه يقام لكل صلاة. والإِقَامَةُ سُنَّةٌ فِي كُلّ فَرْضٍ عُمُوماً أَدَاءً أَوْ قَضَاءٌ، وفِي الْمَرْأَةِ حَسَنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَيِمَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ، وإِسْرَارُ الْمُنْفَرِدِ حَسَنٌ .... قوله: (حَسَنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ) هو قول ابن القاسم. قال في الجلاب: وليس على النساء أذان ولا إقامة. قاله ابن عبد الحكم. وقال ابن القاسم: إن أقمن فحسب. ولأشهب قول ثالث بالكراهة. وأما الأذان فلا يطلب منهن اتفاقا. ونص اللخمي على أنه ممنوع. وقوله: (وَجَائِزٌ أَنْ يُقَيِمَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ) لحديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمر أن [46/ب] يلقيه على بلال، وقال: ((هو أندى منك صوتا)). فلما أذن بلال قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله: ((أقم أنت)) رواه أبو داود. وقوله: (وإِسْرَارُ الْمُنْفَرِدِ حَسَنٌ)؛ لأن المقصود بها إشعار النفس بالصلاة. وَصْفَتَهُ مَعْلُومَةٌ، وَيَرَفَعُ صَوْتُهُ بالتَّكْبيرِ اِبْتِداءً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَقُولُ بَعْدَهُ الشّهادَتَيْنِ مَثْنَى مَثْنَى أَخْفَضَ مِنْهُ ولا يُخْفِيهِمَا جِدّاً، ثُمَّ يُعيدهُمَا رَافِعاً صَوْتَهُ وهُوَ التَّرْجِيعُ، وَيُثْنِي: الصَّلاَةُ خَيِّرٌ مِنْ النُّوْمِ فِي الصُّبْحِ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: وصفه الأذان عند المالكية معلومة من الترجيع وتثبية التكبير دون ترجيعه. ودليلنا ما رواه مسلم والترمذي، وصححه أبو داود والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذن. كذلك مثنى التكبير فرجع الشهادتين. وفيه: تثنية الصلاة خير من النوم.

وفي مسلم رواية أخرى: تربيع التكبير. ثم ذكر المحل المختلف فيها، فذكر أن الْمَشْهُورِ رفع الصوت بالتكبير ابتداء، واحرز من التكرير آخر الأذان فإنه اتفق على رفع الصوت فيه. وما ذكر أنه الْمَشْهُورِ، كذلك ذكر صاحب الإكمال، وذكر أن عليه عمل الناس، وعبر عنه ابن بشير بالصحيح. وذكر بعضهم أن مذهب مالك ليس إلا الإخفاء كالشهادتين. وذكر في الإكمال أنه اختلف الشيوخ في المدونة على أي المذهبين تحمل. خليل: وظاهرها الإخفاء. وهو ظاهر الرسالة والجلاب والتلقين. والرفع مشهور باعتبار العمل في زماننا حتى في الأندلس. وقيل: هي إحدى المسائل التي خالف فيها أهل الأندلس مذهب مالك. واعلم أن قول المؤذنين: ((الصلاة خير من النوم)) صادر عنه صلى الله عليه وسلم. ذكره صاحب الاستذكار وغيره. وقول عمر: اجعلها في نداء الصبح؛ إنكار على المؤذن أن يستعمل شيئا من ألفاظ الأذان في غير محله، كما كره مالك التلبية في غير الحج. وقوله: (وَيُثْنِي: الصَّلاَةُ خَيِّرٌ مِنْ النُّوْمِ فِي الصُّبْحِ عَلَى الْمَشْهُورِ) مقابله لابن وهب: يفردها مرة. والْمَشْهُورِ: قولها لمن يؤذن لنفسه. فائدة: يغلط بعض المؤذنين في مواضع منها: أن يمد الباء من أكبر فيصير أكبار. والإكبار جمع كبر، وهو الطبل؛ فيخرج إلى معنى الكفر. ومنها: أنهم يمدون في أول أشهد إلى حيز الاستفهام، والمراد أن يكون خبرا لا إنشاء. وكذلك يصنعون في أول لفظ الجلالة.

ومنها: الوقوف على إله، وهو خطأ ومنها: أن بعضهم لا يدغم تنوين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الراء بعدها، وهو لحن خفي عند القراء. ومنها: أن بعضهم لا ينطق بالهاء في حي على الصلاة، ولا بالحاء في حي على الفلاح. فيخرج في الأول إلى صلى- وهو اسم من أسماء النار- وفي الثاني إلى غير المقصود وهو الخلاء من الأرض. والله أعلم. ويُفْرِدُ قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وأَنْكَرَ مَالِكٌ أَذَانَ الْقَاعِدِ إِلا مَرِيضاً لِنَفْسِهِ ويَجُوزُ رَاكِباً وَلا يُقِيمُ إِلا نِازِلاً .... مقابل الْمَشْهُورِ في مختصر ابن شعبان أنه يشفع. وكره أذان القاعد لكونه مخالفا لأذان السلف. وروى أبو الفرج جوازه الأذان راكبا لكونه في معنى القائم، ولا يقيم إلا نازلا لتكون متصلة بالصلاة. وفي الجلاب رواية بجوازها راكبا. ووَضْعُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذْنَيْهِ فِيهِمَا وَاسِعٌ. ولا يُكْرَهُ الالْتِفَاتُ عَنِ الْقِبْلَةِ للإِسْمَاعِ، ولا يَفْصِلُ بِسَلامٍ ولا رَدَّ ولا غَيْرِهِمَا، فَإِنْ فَرّقَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ تَفْرِيقاً فَاحِشاً اسْتَأنَفَ قوله: (فِيهِمَا) أي في الأذان والإقامة. قال ابن القاسم: رأينا المؤذنين في المدينة يفعلون ذلك، وأجاز مالك الدوران والالتفات عن القبلة لقصد الإسماع، وكلامه يدل على أن الْمَشْهُورِ في الأذان التوجه إلى القبلة. وفي المدونة: رأيت المؤذنين بالمدينة يتوجهون إلى القبلة في أذانهم، ويقيمون عرضا. وفي الواضحة: عليه أن يستقبل استحبابا. وفي المجموعة: ليس ذلك عليه، أي: وجوبا. وعلى هذا فما في الكتابين متفق. ومنهم من حمله على الخلاف. قال ابن عات: ويستحب في الإقامة التوجه. وتأولوا قوله في المدونة: ويقيمون عرضا على أن الإمام كان

يخرج من جهة المغرب أو المشرق ويخرج المؤذن معه فيقيم عرضا ولا ينتظر حتى يتوجه. قال: ولو كان خروجه طولا أو كان جالسا في المسجد أقام إلى القبلة. وقوله: (ولا يُكْرَهُ الالْتِفَاتُ عَنِ الْقِبْلَةِ) لما في الترمزي، وصححه عن ابن أبي جحيفة عن أبيه قال: رأيت بلالا خرج إلى الأبطح فإن، فلما بلغ حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدير. رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقوله: (ولا يَفْصِلُ بِسَلامٍ) أي المؤذن والمقيم وإن كان الضمير مفردا. وقوله: (فَإِنْ فَرَّقَ) أي أحدهما بسلام أو رد أو غير ذلك، وكان التفريق يسيرا بنى وأن كان فاحشا استأنف. ويمكن أن يكون الضمير في (فَرَّقَ) عائدا على المؤذن وحده، ويقرأ (غَيْرِهِ) بالرفع معطوف على الضمير في (فَرَّقَ). ولا يَرُدُّ بِالإِشَارَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخِلافِ الصَّلاة الفرق بين الأذان والصلاة أن الأذان عبادة ليس لها في النفس موضع كالصلاة. فلو أجزنا فيه الرد بالإشارة لتطرق إلى الكلام بخلاف الصلاة فإنها لعظمها في النفوس لا يتطرق فيها جواز الإشارة إلى الكلام. والملبي ملحق بالمؤذن. قَالَ بَعْضُهُمْ: ولَمْ يُسْمَعْ إِلا مَوْقُوفاً فِيهِمَا هو ثعلب؛ أي: لم يسمع الأذان معربا وإنما سمع مجزوما بخلاف الإقامة فإنها معربة. [47/أ]. وفي بعض النسخ بعد قوله: (مَوْقُوفاً) زيادة: فيهما؛ فيكون الضمير عائدا على كلمتي الأذان والإقامة.

وأجاز بعض الأندلسيين الوصل والوقف في التكبير من بين ألفاظ الأذان، واختار الوصل، ثم قال: والوجهان المذكورين إنما يحسنان في التكبير الأخير، وأما التكبير الأول في الأذان فإنه يحسن الفصل على غير رأي مالك الذي يرفع الصوت، وأما مالك فالمناسب على مذهبه بالإخفاء وصل التكبير. وشَرْطُ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونُ مُسْلِماً عَاقِلاً بَالِغاً ذَكراً، وفِي الصَّبِّي: قَوْلانِ. فَلا يُعْتَدُّ بِكَافِرٍ ولا مَجْنُونٍ ولا سَكْرَانَ ولا امْرَأَةٍ .... إطلاق الشروط عليها أحسن من إطلاق الصفات لما تعطيه الشرطية من انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه. والقولان في الصبي كالقولين في إمامته في النافلة. وقوله: (فَلا يُعْتَدُّ بِكَافِرٍ) تحقيق للشرطية لئلا يتوهم أنه من شروط الكمال. ولا يُؤَذِّنُ وَلا يُقِيمُ مَنْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلاةَ أي: إذا صلى صلاة فلا يؤذن ولا يقيم في تلك الصلاة لغيره كما لا يؤم غيره فيها. أشهب: فإن فعل ولم يعلموا حتى صلوا أجزأهم. واختلف إذا لم يصل وأذن في مسجد هل يؤذن في غيره؟ كره ذلك أشهب، وأجازه بعض الأندلسيين. وتُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ، وَفِي الإِقَامَةِ آكَدُ أي: وتستحب الطهارة في الأذان والإقامة، واستحبابها في الإقامة آكد لاتصالها بالصلاة. واستحبت الطهارة؛ لأنه داع للصلاة. وإذا كان متطهراً بادر إلى ما دعى إليه، فيكون كالعالم العامل إذا تكلم انتفع بعلمه بخلاف ما إذا لم يكن متطهراً.

ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتاً، وَالتَّطْرِيبُ مُنْكَرٌ لأن ظهور الثمرة في الصيت أكثر، إذ القصد من الأذان الإعلام. وألحق ابن حبيب التحزين بالتطريب. وقوله: (وَالتَّطْرِيبُ مُنْكَرٌ) يعني: إذا غير حروف الأذان كمد المقصور وقصر الممدود؛ لأنه ينافي الخشوع، وإلا فتحسين الصوت بالذكر والقرآن مندوب. وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم كان له مؤذن يطرب في أذانه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا فأذن، ,إلا فلا)). وإِذَا تَعَدَّدُوا جَازَ أَنْ يَتَرَتَّبُوا أَوْ يَتَرَاسَلُوا، وَفِي الْمَغْرِبِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ مَرَّةً وَاحِدَةً (يَتَرَتَّبُوا) أي واحدا بعد واحد ما لم يؤد ذلك إلى خروج الوقت. (أَوْ يَتَرَاسَلُوا) يريد: أو يؤذن الجميع في زمان واحد، وكل منهم يؤذن لنفسه ولا يقتدي بأذان صاحبه. قاله ابن شاس وابن راشد. وذكر الشيخ أبو عبد الله بن الحاج أن هذا هو الذي أجازه علماؤنا، ولم يجيزوا أن يذكر الجميع لفظة لفظة. ويرجحه ما قاله ابن حبيب: رأيت بالمدينة ثلاثة عشر مؤذنا وكذلك بمكة يؤذنون معا في أركان المسجد، كل واحد لا يقتدي بأذان صاحبه. نقله في النوادر. وتُسْتَحَبُّ حِكَايَتُهُ، ويَنْتَهِي إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وقِيلَ إِلَى آخِرِهِ، فَيُعَوِّضُ عَنِ الْحَيْعَلَةِ الْحَوْقَلَةَ. وفِي تَكْرِيرِ التَّشَهُّدِ قَوْلانِ. وقَوْلُهُ: قَبْلَ الْمُؤَذِّنِ وَاسِعٌ ..... تستحب الحكاية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)). رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمزي، والنسائي، وابن ماجه.

والمشهور أن الحكاية تنتهي إلى قوله: وأشهد أن محمدا رسول الله. وقال ابن حبيب: إلى آخره. وقوله: (فَيُعَوِّضُ) من تتمة الشاذ؛ أي: إذا قلنا يحكيه إلى آخره فيعرض عن قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفرح: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ أي: ويحكي ما بعد الحيعلتين من الأذان. والشاذ أظهر؛ لأنه كذلك ورد في حديث صحيح رواه البخاري وغيره. وإذا قلنا لا يحكيه في الحيعلتين فهل يحكيه فيها بعد ذلك التهليل والتكبير؟ خيره ابن القاسم في المدونة. وظاهر قول مالك في المدونة: الذي يقع في نفسي أنه يحكيه إلى قوله أشهد أن محمدا رسول الله، ولو فعل ذلك أحد لم أر به بأسا. وإن تركه أولى وهذا على ما تأوله سحنون والشيخ أبو محمد؛ لأنهما تأولا ذلك على أن معناه: وإن أتم الأذان لم أر بذلك بأساً، وعلى ذلك اقتصر البراذعي. وقال ابن يونس والباجي: الظاهر أن مراده: لو فعل ما يقع في نفسي. وصوبه بعض شيوخ عبد الحق؛ أي: لأنه المذكور، وأما تمام الأذان فليس مذكوراً. وقوله: (وفِي تَكْرِيرِ التَّشَهُّدِ قَوْلانِ) أي في الرجيع. وأما تثنيته فلا بد منها كالتكبير. وحاصلة: هل يقول الشهادتين مثل المؤذن أربع مرات أو مرتين؟ والقول بعدم التكرار رواه ابن القاسم عن مالك. والتكرار للداودي وعبد الوهاب. وقوله: (قَبْلَ الْمُؤَذِّنِ وَاسِعٌ) ونحوه في المدونة. قال عنه علي: أحب إلى بعده. قال الباجي: إن كان في ذكر أو صلاة، وكان المؤذن بطيئا فله أن يفعل قبله، ليرجع إلى ما كان فيه، وإن كان غير ذلك فالأحسن بعده؛ لأن ذلك حقيقة الحكاية.

فَإِنْ كَانَ فِي صَلاةِ فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورِ يَحْكِي فِي النَّافِلَةِ لا الْفَرِيضَة هذا كلام ظاهر، والقول بأنه يحكى فيهما لابن وهب وابن وهب وابن حبيب، وقاله مالك أيضاً. ومقابلة لسجون. فَلَوْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ. فَفِي بُطْلانِ الصَّلاةِ قَوْلان أي: وكذلك حي على الفلاح؛ يعني: وإذا قلنا يحكي في الفرض والنفل فلا يتجاوز التشهد. فإن قال: حي على الصلاة؛ فحكي المصنف في بطلان الصلاة قولين. والقول بعدم البطلان لأبي محمد الأصيلي. والقول بالبطلان ذكره عبد الحق عن غير واحد من شيوخه، وهو قول ابن القصار واستظهر. قال سند: وهو أصل المذهب؛ لأنه قول غير مشروع في الحكاية خارج الصلاة، فأخرى ألا يكون مشروعا في الصلاة، [47/ب] والجاهل في الصلاة كالعامد. ولا يُؤَذِّنُ لِجُمُعَةٍ ولا غَيْرِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ إِلا الصُّبْحَ فَإِنَّ مَشْهُورَهَا: يَجُوزُ إِذَا بَقِيَ السُّدُسُ. وقِيلَ: إِذَا خَرَجَ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: إِذَا صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ .... جاز تقديمه في الصبح لما في الصحيح ((إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم))، وكان رجلا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت. رواه مالك، والبخاري، ومسلم. وتأول ابن العربي القول الثالث بأن معناه: إذا صليت العشاء آخر وقتها المختار، الثلث أو النصف فيرجع بهذا التأويل إلى القول الثاني، وفيه نظر؛ لأن الشيوخ حكوه ثالثا. وأيضاً فقد حكى الباجي والمازري هذا القول، ولو صليت العشاء في أول الوقت، ونسباه للوقار.

شروط الصلاة

وزاد بعضهم قولاً رابعاً عن ابن عبد الحكم: أنه يؤذن لها إذا بقي الثلث الآخر. ولِلصَّلاةِ شُرُوطٌ، وفَرَائِضُ، وسُنَنٌ، وفَضَائِلُ الفرق بين الشرط والفرض أن الشرط خارج عن الماهية والفرض داخل فيها. فَالشُّرُوطُ: طَهَارَةُ الْخَبَثِ ابْتِدَاءً ودَوَاماً فِي الثّوْبِ والْبَدَنِ والْمَكَانِ عَلَى الْخِلافِ الْمُتَقَدِّم المكان المطلوب طهارته للصلاة ما تماسه الأعضاء. قاله في الذخيرة. وقوله: (ابتداء) أي قبل الدخول في الصلاة. و (دواما) أي بعد الدخول فيها، ويحتمل أن يريد بقوله: (على الخلاف المتقدم) الخلاف في الوجوب، أي هل مع الذكر أو مطلقاً، وينحمل عوده على الدوام؛ لأنه قد تقدم الخلاف إذا ذكر المصلي النجاسة في الصلاة ويحتمل أن يريد المجموع. الثَّانِي: طَهَارَةُ الْحَدَث أي: ابتداء ودواما. الثَّالِثُ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وفِي الرَّجُلِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: السَّوْءَتَانِ خَاصَّةً، ومِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، والسَّتر حَتَّى الرُّكْبَةِ. وقِيلَ: سَتْرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَاجِبٌ وسيأتي الكلام على شرطية ستر العورة. وقوله: (وفِي الرَّجُلِ) تقديره: وفي عورة الرجي. فالأول منها حكاه اللخمي وابن شاس، ولم يعزواه، ولم أره معزوا. قال صاحب اللباب: وهو ظاهر قول أصبغ؛ لأنه قال: لو صلى رجل منكشف الفخذ لم يعد. والثاني: من السرة إلى الركبة ولا يدخلان. قال الباجي: وإليه ذهب جمهور أصحابنا. قال صاحب الإشارة في العمدة: وهو الْمَشْهُورِ.

والثالث: أن السرة والركبة داخلتان في العورة. وقال سند: مقتضى النظر أن العورة السوءتان وأن الفخذ حريم لهما. وفي الجلاب رابع، وهو قوله: وعورة الرجل فرجاه وفخذاه. وقوله: (وقِيلَ: سَتْرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَاجِبٌ) أي: ستر كل ما يستره القميص، وليس مراده الرأس ونحوه. ولا يريد هذا القائل أن جميع البدن عورة. ألا ترى أن المصنف حكى في العورة ثلاثة أقوال وجعل هذا القول خارجا عنها. وهذا القول أخذه أبو الفرج من قول مالك في الكفارة إذا كسا المساكين كسا المرأة درعا وخمارا، والرجل ثوبا وذلك أدنى ما تجزئ به الصلاة. ورده المازري بجواز أن يكون مراد مالك أقل ما يجزئ في الفصل. وعَوْرَةُ الحُرَّةِ: مَا عَدَا الْوَجْهَ والْكَفَّيْن هذا بالنسبة إلى الرجل، وأما حكمها مع النساء فالْمَشْهُورِ أنها كحكم الرجل مع الرجل، وقيل كحكم الرجل مع ذوات محارمه، وقيل كحكم الرجل مع الأجنبية ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله بن الحاج أن هذا الخلاف إنما هو في المسلمة مع المسلمة، وأما الكفارة فالمسلمة معها كالأجنبية مع الرجل اتفاقا، وحكم المرأة فيما تراه من الأجنبي كحكمه فيما يراه من ذوات محارمه. قال في البيان في باب النكاح: وقيل كحكمه فيما يراه منها. قال: وهو بعيد. قال: ويلزم عليه ألا ييمم النساء الرجال الأجنبيين إلا إلى الكوع. وهو مما لا يوجد في شيء من مسائلها. وحكم المرأة فيما تراه من ذوي محارمها كالرجل مع الرجل. والأَمَةُ كَالرَّجُلِ بِتَأكُّدٍ أي: وعورة الأمة كعورة الرجل مع تأكد، والباء للمصاحبة. وما ذكره مخالف لما قاله في المقدمات: لا خلاف في أن الفخذ من الأمة عورة، وإنما اختلف في الفخذ من الرجل.

ومِنْ ثَمَّ جَاءَ الرَّابِعُ الْمَشْهُورِ: إِذَا صَلَّيَا بَادِيَيِ الْفَخِذَيْنِ تُعِيدُ الأَمَةَ خَاصَّةً فِي الْوَقْت أي: ومن محل التأكد؛ لأن (ثَمَّ) من ظروف المكان. وظاهره أن الأقوال الأربعة: يُعيدان أبداً، لا يُعيدان في الوقت ولا غيره، يُعيدان في الوقت، تعيد الأمة دون الرجل وهو الْمَشْهُورِ. ولعل الخلاف مخرج على أن الفخذ عورة أولا؟ ولم أر ما حكاه من الأقوال، وإنما رأيت ما ذكره أنه الْمَشْهُورِ. ونقله التونسي، واللخمي، وابن يونس عن أصبغ. ونقل اللخمي عن أشهب ما يقتضي إعادة الرجل إذا صلى بادي الفخذين، ولفظه: قال أشهب فيمن صلى عريانا، أو في ثوب يصف، أو في قميص لا يبلغ الركبتين، أو يبلغهما فإذا سجد انكشف عورته: أعاد ما دام في الوقت. فرأى أن ستر السوءتين سنة، وأن الفخذ عورة. النتهى. خليل: ولا يلزم ما قال أنه رأى ستر السوءتين سنة لجواز أن يرى ذلك واجبا ليس بشرط، واعلم أنه إذا خشي من الأمة الفتنة وجب الستر لدفع الفتنة لا لأنه عورة. فرع: قال في المدونة: شأن الأمة أن تصلي بغير قناع. قال سند: اختلف في قوله: شأنها هل معناه أنها لا تندب إلى ذلك وهو الأظهر كالرجل، أو تندب وهو اختيار صاحب الجلاب. وقد كان عمر رضي الله عنه يمنع الإماء من لبس الإزار, وقال لابنه: ألم أخبر أن جاريتك خرجت في [48/ب] الإزار، وتشبهت بالحرائر، ولو لقيتها لأوجعتها ضرباً. فإن قيل: لم منع عمر الإماء من التشبيه بالحرائر؟ فجوابة أن السفهاء جرت عادتهم بالتعرض للإماء، فخشي عمر رضي الله عنه أن يلتبس الأمر فيتعرض السفاء للحرائر، فتكون الفتنة أشد، وهو معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] أي: يتميزن بعلامتهن عن غيرهن.

وأُمُّ الْوَلَدِ آكَدُ مِنْهَا، ولِذَلِكَ قَالَ: إِذَا صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تُعِيدَ فِي الْوَقْتِ بِخِلافِ الْمُدَبَّرَةِ والْمُعْتَقِ بَعْضُهَا، والْمُكَاتَبَةُ .... الإعادة في حق أم الولد أخف منها في حق الحرة نص عليه في المدونة. وما ذكره في المكاتبة هو الْمَشْهُورِ، وألحقها في الجلاب بأم الولد. ورَاسُ الْحُرَّةِ وصَدْرُهَا وأَطْرَافُهَا كَالْفَخِذِ لِلأَمَة قوله: (كَالْفَخِذِ لِلأَمَةِ) أي فتعيد في الوقت. قال ابن الجلاب: فإن صلت الحرة مكشوفة الرأس أعادت في الوقت استحبابا، وإن خرج الوقت فلا إعادة عليها. وأطرافها بخلاف جسدها بدلالة جواز النظر إلى الأطراف من ذوات المحارم. وتُؤْمَرُ الصَّغِيرَةُ بسُتْرَةِ الْكَبِيرَة أي: تندب الصغيرة التي تخاطب بالصلاة أن تستر من جسدها ما تستره الكبيرة. قال مالك: كبنت إحدى عشرة، واثنتي عشرة. قال أشهب: فإن صلت بغير قناع أعادت الوقت. وكذلك الصبي يصلي عريانا. وإن صلينا بغير وضوء أعادا أبداً. وقال سحنون: يُعيدان في القرب لا بعد اليومين والثلاثة. اللخمي: إن كانت بنت ثماني سنين كان الأمر أخف. والْمُتَنَقِّبَةُ لا تُعِيدُ لأنها فعلت ما أمرت به وزادت إلا أنها فعلت فعلا مكروها إذ هو من الغلو. فَلَوْ طَرَأَ عِلْمٌ بِعِتْقٍ فِي الصَّلاةِ لِمُنْكَشِفَةِ الرَّاسِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَتَمَادَى ولا إِعَادَةَ إِلا أَنْ يُمْكِنَهَا السَّتْرُ فَتَتْرُك. سَحْنُونٌ: تَقْطَعُ. أَصْبَغُ: إِنْ كانَ الْعِتْقُ قَبْلَ الصَّلاةِ فَكَالْمُتَعَمِّدَةِ تُعِيدُ فِي الْوَقْتِ كَنَاسِي الْمَاءِ يُعيد أبداً، وإِلا لَمْ تُعِدْ مطلقاً كَوَاجِدِ الْمَاءِ .... اعلم أن لهذه المسألة صورتين: إحداهما: أن يطرأ العتق في الصلاة، وتعلم به. ثانيهما: أن يطرأ العتق قبل الصلاة، ولا تعلم به إلا في الصلاة.

والظاهر أن المصنف تكلم عليهما؛ ولذلك ذكر قول أصبع تفصيلا. وعلى هذا فقوله: (فِي الصَّلاةِ) ظرف لـ (عِلْمٌ) لأن طروء العلم في الصلاة أعم من أن يكون العتق في الصلاة أو قبلها. ونقل ابن رشد في بيانه الخلاف في الصورتين، قال: ويتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدهما: إن استترت في بقية الصلاة أو لم تقدر على الاستتار فيها أجزأتها صلاتها، فإن قدرت على الاستتار فلم تفعله أعادت في الوقت. وهو قول ابن القاسم في العتبية. والاستتار عليها في بقية الصلاة على هذا القول واجب مع القدرة، وساقط مع عدمها. والقول الثاني: أنها إذا استترت في بقية صلاتها أجزأتها، فإن لم تفعل أعادت في الوقت كانت قادرة على ذلك أو لم تكن. وهو قول ابن القاسم أيضاً في رواية موسى عنه. والاستتار على هذا القول في بقية الصلاة واجب عليها بكل حال. قال ابن القاسم في هذه الرواية بإثر قوله: إن استترت أجزأها: وأحب إلى أن لو جعلتها نافلة، وإن كانت ركعة شفعتها وسلمت، كمن نوى الإقامة بعد أن صلى ركعة. والقول الثالث: أن الصلاة لا تجزئها وإن استترت لبقيتها فتقطع وتبتدئ، وإن لم تفعل أعادت في الوقت. وهو قول سحنون. ووجهه أنه قد حصل جزء من صلاتها بغير قناع بعد عتقها، أو بعده وبعد وصول العلم إليها بذلك. والقول الرابع: الفرق بين أن تعتق في الصلاة أو يأتيها الخبر بعتقها بعد أن دخلت فيها فإن عتقت فيها لم يجب عليها استتار في بقيتها إلا استحبابا إن قدرت عليه، وإن لم تفعل فلا إعادة عليها، وإن أتاها الخبر بعتقها بعد أن دخلت في الصلاة لم يجزها، وإن استترت في بقيتها فتقطع وتبتدئ وإن لم تفعل أعادت في الوقت- وهو قول أصبع- فيحكم لها بحكم الحرة من يوم عتقت. ولم يحكم لها به ابن القاسم إلا من حين وصول

الخبر بذلك إليها، وهو على اختلافهم في المنسوخ هل يكون منسوخا بلفظ الناسخ، أو بوصول العلم به. انتهى. وأنكر رحمة الله على من خصص الخلاف بما إذا أعتقت في الصلاة، والله أعلم. وفرض المصنف المسألة في منكشفة الرأس تبعا لفرض العتيبة، وهو أحسن من قول غيره إذا افتتحت الصلاة بما لا يجزئ الحرة من اللباس. فإذا قلت: لم شبه أصبغ صورة بأخرى، وخالف بينهما في الحكم. فالجواب أن أصبغ إنما قصد في هذه المسألة أنه لا ينبغي أن يسوي في الحكم بين من يكون من أهل الخطاب بالشرط قبل دخوله في العبادة، وبين من لا يكون مخاطبا، بل دخل في العبادة وهو من غير أهلها. والأول غير معذور والثاني معذور. وإذا تم هذا فقصارى الأمة التي طرأ لها العلم بالعتق قبل الصلاة – وهي في الصلاة – أن تكون فعلت ذلك متعمدة، ومن فعلت مثل ذلك – أعني صلت مكشوفة الرأس – فإنها تعيد في الوقت ولا كذلك في مسألة التيمم؛ إذ نسيانه للشرط لا يعذر به، فتكون في الإعادة كم افتتحها [48/ب] بذلك فيُعيد أبداً. وكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يَجِدُ ثَوْباً، وقِيلَ: يَتَمَادَى ويُعيد أي: ففيها قولان، وقد نقلهما سند لما تكلم على مسألة الأمة والعريان. فقال ابن القاسم: تستر رأسها المكشوف، وتتمادى إن كانت السترة قريبة وهو المشهور عندنا، فإن بعدت فقيل تتمادى، وقيل تقطع. فإن قربت ولم تستتر، فقال ابن القاسم: تعيد في الوقت وكذلك العريان، وقال سحنون: يقطعان. وكذلك ذكر في النوادر القولين، وكذلك قال ابن عطاء الله: المشهور في العريان أنه يستر، ويتمادى، وقول ابن عبد السلام المنقول في هذه المسألة القطع مطلقاً ليس بظاهر.

وقوله: (وقِيلَ: يتَمَادَى ويُعيد) اختلف ضبط النسخ. ففي بعضها: يُعيد بالياء المثناة من أسفل فيكون عائدًا على العريان، وفي بعضها تتمادى وتعيد بالتاء المثناة من فوق فيكون عائداً على الأمة. ولعله يريد القول الثاني الذي نقله صاحب البيان، ويكون معنى كلامه: وقيل: إن الأمة تتمادى مطلقاً سواء أمكنها الاستتار أم لا وتعيد: يريد إذا لم تستتر، وأما إن استترت أجزأها. وعلى هذا يكون المصنف ذكر الأربعة التي ذكرها في البيان، والله أعلم. وفِي وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ قَوْلانِ، وعَلَى النَّفْيِ فَفِي وُجُوبِهِ لِلصَّلاةِ قَوْلانِ. وقِيلَ: بَلِ الْقَوْلانِ فِي شَرْطِيَّتِهِ مطلقاً .... أشار اللخمي إلى أن العورة في هذا الفرع السوءتان وما والاهما خاصة، ولا يدخل في ذلك الفخذ من الرجل، وكذلك قال ابن عبد السلام. وأعلم أنه لا خلاف في وجوب ستر العورة عن أعين الناس، وأما الخلوة فإن لم يكن في صلاة فحكى اللخمي فيه الاستحباب. وقال ابن بشير: الذي سمعناه في المذكرات قولان: الوجوب والندب، والوجوب أظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يقضي الرجل إلى أهله، استحيوا منهم وأكرموهم" رواه الترمذي، قوله عليه الصلاة والسلام: "إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى زوجه"، ونحو ذلك كالاغتسال. قوله: وعلى نفيه؛ أي: إذا فرعنا على أنه لا يجب في غير الصلاة، فهل يجب للصلاة أم لا؟ وهذه طريق اللخمي، ورد عليه ابن بشير، وقال: لا خلاف في الوجوب، وإنما الخلاف هل هو شرط في صحتها أو لا؟ ينبني عليهما إن صلى مكشوف العورة فعلى الشرطة يُعيد أبداً، وعلى نفيها يُعيد في الوقت. وهذا معنى قوله: (وقِيلَ: بَلِ الْقَوْلانِ فِي شَرْطِيَّتِهِ مطلقاً).

وقوله: (مطلقاً): أي: في الخلوة والجلوة وقال ابن شافين وابن عطاء: الذي قاله ابن بشير ضعيف، فقد ذكر عبد الوهاب أن أبا إسحاق وابن بكير والشيخ أبا بكر الأبهري ذهبوا إلى أن السترة من سنن الصلاة، وهذا يعضد ما حكاه اللخمي ويحققه. انتهى. وقال صاحب القبس الْمَشْهُورِ: إنه ليس من شروط الصلاة؛ ولذلك قال التونسي أن الستر فرض في نفسه ليس من شروط الصلاة. وإذا كان الْمَشْهُورِ نفي الشرطية لم يحسن عد المصنف وغيره الستر من شروط الصلاة؛ لأنه إنما يأتي على الشاذ، وهذا ما وعدناك فيما يتعلق بالشرطية، والله أعلم. نعم يحسن على ما قال ابن عطاء الله فإنه قال: والمعروف من المذهب أن ستر العورة المغلظة من واجبات الصلاة وشرط فيها مع العلم والقدرة لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار"، انتهى. رواه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: على شرط مسلم. ورواه ابن خزيمة في صحيحه. واحتج الذاهب للشرطية بقوله تعالى: (زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31] فإن كان المراد من الزينة الحقيقة فستر العورة لازمها، وإن كان المراد المجاز وهو ستر العورة على ما قاله غير واحد من المفسرين فهو المطلوب. قال المازري: وهذه الآية قد كثر كلام الناس عليها، فأشار مالك في المستخرجة إلى أن المراد بالزينة الأردية وبالمساجد الصلوات في المساجد. وذكر ابن مزين أن المراد بالمساجد الصلوات. وقال القاضي إسماعيل: ذهب قوم إلى وجوب لباس الثياب في الصلاة تعلقاً بهذه الآية، والآية إنما نزلت رداً لما كانوا يفعلونه من الطواف عراة تحريماً للباس، ألا تراه تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32]. والسَّاتِرُ الشَّفُّ كَالْعَدَمِ لظهور العورة معه؛ كالبندقي الرفيع.

وما يَصِفُ لِرِقَّتِهِ أَوْ لِتَحْدِيدِهِ كَالسَّرَاوِيلِ فَمَكْرُوهٌ بِخِلافِ الْمِئْزَرِ قال في النوادر: ومن الواضحة: ويكره أن يصلى في ثوب رقيق يصف، أو خفيف يشف، فإن فعل فليعد، قال مالك: إلا الرقيق الصفيق الذي لا يصف إلا عند ريح، فلا بأس به. انتهى. وهذا مخالف لكلام المؤلف؛ لأنه جعل في النوادر ما يصف قسمين، وأطلق المصنف فيه، ثم إنه جعل في النوادر ما يصف دائماً كالشاف، لاسيما وقد قال مالك في هذه الرواية إثر قوله فليعد: لأنه شبيه بالعريان. لكن ذكر في الجواهر أن الواصف مكروه، ولا يصل إلى البطلان. وفي تهذيب الطالب: ومن العتيبة قال ابن القاسم: إذا صلت المرأة بغير خمار أو بثوب يصف أعادت في الوقت. واختلف إذا صلى بسراويل، ففي المدونة لا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره، وإن كان واجدا للثياب. وقال أشهب: يُعيد في التبان والسراويل في الوقت والْعَاجِزُ يُصَلِّي عُرْيَاناً هذا بيّن، على أن ستر العورة غير شرط، وكذلك على أنها شرط مع القدرة، كما تقدم من كلام ابن عطاء الله. ابن القاسم وابن [49/أ] زرب: إذا صلى العاجز عرياناً فلا يُعيد، بخلاف المصلي بثوب نجس، واستشكل. وفرق ابن عطاء الله بأن المصلي بنجاسة قادر على إزالتها بأن يصلي عرياناً، وإنما رجحنا ستر العورة على إزالة النجاسة، مع أنه قادر على تركها، بخلاف المصلي عرياناً لعدم القدرة على الستر.

قال في الكافي: ومن وجد ما يواري به وارى به قبله، وقد قال بعض أصحابنا: يواري أيَّ فرجيه شاء. انتهى. وقال الطرطوشي في التعلقة: واختلف إذا لم يجد ما يستر به إلا الطين هل يتمعك به ويستتر أم لا؟ واختلف إذا وجد ما يستر به إحدى السوأتين، فقيال: يستر القبل، وقيل: الدبر، وإن وجد حشيشا استتر به. انتهى فَإِنِ اجْتَمَعُوا فِي ضَوْءِ انْفَرَدُوا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَقَولانِ: الْجُلُوسُ إِيمَاءً، والتَّمَامُ وغَضُّ الْبَصَرِ، وفِي الظَّلامِ كَالْمَسْتُورِينَ .... أي: إذا اجتمع عراة في ضوء نهار أو ليل مقمر انفردوا، أي: يتباعدوا، بحيث لا ينظر بعضهم إلى بعض، وصلوا أفذاذاً. وقال ابن الماجشون: يصلون جماعة صفاً واحداً، وإمامهم في الصف، يعني ويغضون أبصارهم. فإن لم يمكن تباعد بعضهم من بعض لخوف أو غيره. فقولان: الجلوس إيماء؛ أي: للركوع والسجود، والتمام؛ أي: تمام الصلاة على الهيئة المعهودة من القيام والركوع والسجود، أي مع غض البصر. وفي بعض النسخ: والقيام، والأول أحسن واختار عبد الحق وغيره التمام؛ لما في الجلوس من ترك فرض القيام ويَسْتَتِرُ الْعُرْيَانُ بِالنَّجِسِ أي: إذا لم يجد غيره. ابن عبد السلام: واتفق المذهب في ذلك فيما علمت.

وبِالْحَرِيرِ عَلَى الْمَشْهُورِ، ونَصَّ ابْنُ الْقَاسِمِ وأَشهب فِي الْحَرِيرِ يُصَلَّي عُرْيَاناً أي: الْمَشْهُورِ إذا لم يجد إلا الحرير أن يصلي فيه، ومقابل الْمَشْهُورِ قول ابن القاسم وأشهب، واستبعد بأن الحرير إنما يمنع خشية الكبر والسرف، وعند الضرورة يزول ذلك. فَإِنِ اجْتَمَعَا فَالْمَشْهُورِ لابْنِ الْقَاسِمِ: بِالْحَرِيرِ. وأَصْبَغَ: بِالنَّجِسِ أي: فإن اجتمع الحرير والنجس، ووجه قول ابن القاسم أن النجاسة تنافي الصلاة بخلاف الحرير. ووجه قول أصبغ أن الحرير يمنع في الصلاة وفي غيرها، والنجس إنما يمنع في الصلاة، والممنوع في حال دون أخرى أولى من الممنوع مطلقاً. ونص أصبغ في الموازية على أنه إذا صلى بالنجس حالة انفراده يُعيد في الوقت، وإن صلى بالحرير لا إعادة عليه. وهو خلاف الْمَشْهُورِ؛ إن الْمَشْهُورِ إذا صلى بالحرير يُعيد. وقد يسق للنفس إنكار قول أصبغ في أمره بالإعادة في حق من صلى بالنجس وعدم أمره بالإعادة في حق من صلى بالحرير، وهو يقتضي أن الحرير أخف، وقد قال بتقديم النجس على الحرير في الاجتماع فيكون أخف. المازري: وعندي أنه اعتبر في الإعادة ما يختص بالنواهي في الصلاة دون ما لا يختص بها، واعتبر بما يؤمر به من اللباس ابتداءّ عموم النهي عن اللباس. فلما كان النهي عن الحرير مطلقاً، والنهي عن النجس في الصلاة، كان النجس في حكم اللباس أخف؛ لجوازه في الغالب، وفي الإعادة أثقل؛ لاختصاص النهي عنه في الصلاة. وخَرَجَ فِي الْجَمِيعِ قَوْلانِ يعني: خرج لابن القاسم في كل من الصور المتقدمة قولان، أي: في صلاة العريان بالحرير وفي صلاته أيضاً بالنجس، وفي صلاته عرياناً أو بالنجس إذا وجدهما؛ وذلك لأن

ابن القاسم قدم الحرير على النجس في الاجتماع، والنجس مقدم على التعري، فيلزم تقديم الحرير على التعري؛ لأن مقدم المقدم مقدم، وأيضاً فإن قدم التعري على الحرير في الانفراد، والحرير مقدم على النجس في الاجتماع، فيلزم أن يصلي إذا وجدهما عرياناً؛ لأن مقدم المقدم مقدم، وأيضاً فإن قدم النجس على التعري في حالة الانفراد، والتعري في الانفراد مقدم على الحرير، فيلزم تقديم النجس على الحرير في الاجتماع، لأن مقدم المقدم مقدم، والله أعلم. والْمَذْهَبُ: يُعيد فِي الْوَقْتِ أي: إذا صلى بحرير أو نجس، فإنه يُعيد بغيرهما في الوقت، واختلف في الوقت فقال ابن القاسم: الاصفرار في الظهر والعصر. وقال في النوادر: وروى ابن وهب عن مالك فيمن صلى وفي ثوبه أو جسده نجاسة أنه يُعيد وقت غروب الشمس، وقال بها عبد الملك وابن عبد الحكم. قال في البيان: ومعنى ذلك أن يدرك الصلاة كلها قبل الغروب، وأما إن لم يدرك قبل الغروب إلا بعضها فقد فاتته. ونص سحنون على أنه إذا صلى بأحدهما أنه لا يُعيد بالأخرى. ونقل المازري عن أشهب أنه أمر من صلى بالنجس أنه يُعيد في الوقت إذا وجد الحرير الطاهر. ولَوْ صَلَّى بالْحَرِيرِ مُخْتَاراً عَصَى، وَثَالِثُهَا: تَصِحُّ إِنْ كَانَ سَاتِراً غَيْرَهُ لا شك في عصيانه عند جهور العلماء، والظاهر صحة الصلاة لوجود ستر العورة. وجمع المصنف مسألتين: إحداهما: أن لا يكون عليه غيره.

والثانية: أن يكون عليه غيره، فذكر فيهما ثلاثة أقوال، ومقتضى كلامه أن فيهما قولاً بالإعادة أبداً، وفيه نظر لأن اللخمي والمازري وابن بشير وسنداً وابن شاس أنهم حكموا الإعادة أبداً إذا لم يكن عليه غيره. وهو قول ابن وهب وابن حبيب. وقال أشهب: في الوقت. وقال ابن عبد الحكم: لا إعادة. وأما إن كان عليه غيره فقال سحنون: يُعيد في الوقت. وقال أشهب وابن حبيب: لا إعادة. وكذلك القولان لو صلى بخاتم ذهب أو سوار، أو تلبس بمعصية في الصلاة، كما لو نظر إلى عورة آخر، أو أجنبية، [49/ب] أو سرق درهماً. ونقل عن سحنون في ذلك كله البطلان. فانظر هل يؤخذ منه قول بالبطلان، وإن عليه غيره أو لا؟ لأن الحرير مختلف فيه في الأصل. فرع: لو صلى وفي كمه ثوب حرير، أو حلي ذهب فلا شيء عليه، ولا يأثم بذلك. قال سحنون: إلا أن يشغله. ابن أبي زيد: فيُعيد أبداً. وفِيهَا: ولَوْ صَلَّى وهُوَ يُدَافِعُ الأَخْبَثَيْنِ بِقَرْقَرَةٍ ونَحْوِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشْغَلُ أَوْ يُعَجِّلُ أَحْبَبْتُ لَهُ الإِعَادَةَ أبداً ...... هذه المسألة لا يتعلق لها بهذا الفصل، ولعله أتى بها لينبه على البطلان بالمعصية فيها، فيؤخذ منه البطلان في مسألة من صلى بالحرير، ويحتمل أن يكون أتى بها ينبه على إشكالها؛ لأنه استحب الإعادة أبداً، والقاعدة في الإعادة المستحبة إنما تكون في الوقت.

ويجاب عن هذا بأن معنى قوله: أحببت، أي: أوجبت. وهذه المسألة عند القرويين على ثلاثة أوجه: إن كان شيئاً خفيفاً فلا شيء عليه، وإن صلى به وهو ضام بين وركيه فإنه يؤمر بالقطع، فإن تمادى أعاد في الوقت. وإن كان مما يشغله عن استيفائها أعاد أبداً، وكذلك قال ابن بشير: إن شغله عن الفرائض أعاد أبداً، وعن السنن في الوقت. ويجري على ترك السنن متعمداً، وعن الفضائل لا شيء عليه. وإذا خرج لحقن فليجعل يده على أنفه لئلا يخجل، رواه ابن نافع عن مالك. ومَنْ صَلَّى مُحْتَزِماً أَوْ جَمَعَ شَعَرَهُ أَوْ شَمَّرَ كُمَّيْهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِبَاسَهُ أَوْ كَانَ فِي عَمَلٍ فَلا بَاسَ بِهِ ....... حاصله: إنما يكره ذلك إذا كان لأجل الصلاة، وأما لو كان لباسه ذلك، أو كان لأجل شغل تم حضرته الصلاة، وهو على تلك الحالة فإنه يصلي من غير كراهة. الرَّابِعُ: الاسْتِقْبَالُ، وهُوَ شَرْطٌ فِي الْفَرَائِضِ إِلا فِي الْقِتَالِ، وفِي النَّوَافِلِ إِلا فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ لِلرَّاكِبِ فَيَجُوزُ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ دَابَّتُهُ ابْتِدَاءً وَدَوَاماً، وِتْراً أَوْ غَيْرَهُ بِخِلافِ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَدُورُ لَهَا. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ كَالدَّابَّةِ، وَيُومِئُ الرَّاكِبُ بالرُّكُوعِ، وَبالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْهُ ...... قوله: (إِلا فِي الْقِتَالِ) أي: حالة الالتحام، وأما في صلاة القسمة فاشتراط الاستقبال باق. وقوله: (الطَّوِيلِ) أي: سفر القصر. احترز بالراكب من الماشي فإنه لا يجوز له التنقل عندنا. ومراده بالنوافل ماعدا الفرض، ولذلك قال وتراً أو غيره.

وقوله: (ابْتِدَاءً وَدَوَاماً)؛ أي: سواء ابتدأ الصلاة إلى القبلة ثم تحول عنها، أو افتتحها إلى غيرها، وهذا هو الْمَشْهُورِ. وقال ابن حبيب: يفتتحها إلى القبلة ثم يصلي كيفما أمكنه. ولا فرق على الْمَشْهُورِ بين أن يكون في محمل أو لا، أشار إلى ذلك في العتبية، وخفف مالك فيها إن أعرض بوجهه عن وجه دابته لحر الشمس، أن يتنفل كذلك. والفرق على الْمَشْهُورِ بين السفينة والدابة: إمكان الدوران في السفينة، والْمَشْهُورِ مذهب المدونة، لكن تأولها ابن التبان على أن ذلك لمن يصلي إيماء، وأما من يركع ويسجد فهي كالدابة. وخالفه أبو محمد وقال: ليست كالدابة، ولا يتنفل فيها إلا إلى القبلة وإن ركع وسجد. ذكره في تهذيب الطالب. وقوله: ويومئ: قال اللخمي: ويكون إيماؤه إلى الأرض لا إلى الراحلة. قال ابن حبيب: ولا يجوز أن يسجد على الكور ولا على القربوس، وليتوجه لوجه دابته، وله إمساك عنانها، وضربها بالسوط، وتحريك رجليه إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت. قال اللخمي: قال مالك: إذا أومأ للسجود يرفع العمامة من جبهته. ولا يُؤَدَّى فَرْضٌ عَلَى رَاحِلَةٍ، فَإِنّ كَانَتْ مَعْقُولَةً وأُدِّيَتْ كَالأَرْضِ فَفِي كَرَاهِتَها قَوْلانِ يعني اختياراً، وهو متفق عليه، ولذلك ردوا على أبي حنيفة قوله بوجوب الوتر مع صحة صلاته عليه الصلاة والسلام الوتر على الراحلة. واعترض بأن الوتر وقيام الليل كانا واجبين عليه صلى الله عليه وسلم. وأجاب في الذخيرة عن هذا الاعتراض بأن الوتر وقيام الليل لم يكونا واجبين عليه عليه السلام في السفر. والخلاف في قوله: وأديت كالأرض؛ خلاف في حال. ومذهب المدونة الكراهة.

قال في البيان: وروى ابن القاسم عن مالك إجازة الصلاة على المحمل إذا لم يقدر على السجود ولا على الجلوس بالأرض. وقال ابن عبد الحكم: يجوز وإن قدر على الجلوس. انتهى. سحنون: وإن صلى على المحمل لشدة مرض أعاد أبداً. وأما الصلاة على السرير فلا خلاف في جوازها، قاله في البيان. والْمَشْهُورِ جَوَازُ النَّفْلِ فِي الْكَعْبَةِ لا الْفَرْضِ، وفِيهَا: ولا الْوِتْرِ ولا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِذَا صَلَّى فَحَيْثُ شَاءْ ..... الْمَشْهُورِ التفرقة كما ذكر، فتجوز النافلة غير المؤكدة، ولا يجوز الفرض ولا السنن، والنافلة المؤكدة، وهي ركعتا الفجر والوتر. ومقابل الْمَشْهُورِ بالجوازفيهما، وهو قول ابن عبد الحكم، وقد أجاز الصلاة على ظهرها، وهو أشد. واستحب أشهب أن لا يفعل ذلك في الفرض ابتداءً، وصوبه اللخمي؛ لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها النافلة وجبت مساواة الفريضة إلى أمرهما في الحضر واحد من جهة الاستقبال. فمنع في المدونة أن يصلي فيها أو في الحجر ركعتي الطواف الواجب. وقوله: (فَإِذَا صَلَّى فَحَيْثُ شَاءْ)، هكذا روي عن مالك، وروي عنه أيضاً: إنما استحب ألا يصلي إلى جهة الباب. قال في البيان: وروي عن مالك أولاً أن يصلي فيه إلى أي ناحية شاء؛ إذ [50/ أ] لا فرق، ثم استحب بعد ذلك أن يصلي فيه إلى الناحية التي جاء أنه عليه الصلاة والسلام صلى إليها.

وفِيهَا: فَفِي الْفَرْضِ يُعيد فِي الْوَقْتِ. وحُمِلَ عَنِ النَّاسِي لِقَوْلِهِ: كَمَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ..... إن فرعنا على قول أشهب من جواز إ يقاع الفرض فيها فلا شك في عدم الإعادة، وإن فرعنا على الْمَشْهُورِ ففي المسألة أقوال: قال أصبغ: يُعيد أبداً. وقال ابن حبيب: يُعيد العامد والجاهل أبداً، والناسي في الوقت. ووقع في المدونة أنه يُعيد في الوقت، فحمله ابن يونس وجماعة على الناسي. قال المصنف: لقوله: كمن صلى لغير القبلة، أي؛ لأنه لو صلى لغير القبلة عامداً أعاد أبداً. وحمله عبد الوهاب واللخمي وابن عات على ظاهره، وأن العامد كالناسي، ويكون تشبيه مالك لمطلق الإعادة. فإن قلت: هذا كله يناقض ما يقوله المصنف آخر الفصل: ويُعيد الناسي والجاهل أبداً على المشهور. فالجواب: من ثلاثة أوجه: الأول: أنهما مسألتان؛ لأن الناسي لم يستقبل شيئاً من القبلة، بخلاف من صلى فيها؛ لكونه استقبل بعضها فكان أخف، فلهذا الوجه حملها عبد الوهاب على ظاهرها. الثاني: وإن سلمنا أنهما مسألة واحدة، فقد يكون المشهور غير ما في المدونة. الثالث: وهو الظاهر أن التشهير الذي يأتي للمصنف ليس بظاهر، وسيأتي ذلك. والْحِجْرُ مِثْلُهَا يعني: في الصلاة فيه؛ لأنه جزء من البيت؛ بدليل أن من لم يطف وراءه بمنزلة من لم يطف بجميع البيت.

قال اللخمي: منع مالك الصلاة في الحجر، ولم يقل في التوجه إليه، والصلاة إليه من خارج شيئاً، وقد قيل أن الصلاة إليه لا تجزئ؛ لأنه لا يقطع أنه من البيت. ورأى اللخمي أنه لو صلى إليه في مقدار ستة أذرع لم تكن عليه إعادة؛ لتظاهر الأخبار أنه من البيت، وما زاد على ذلك فليس من البيت، وإنما زيد لئلا يكون ركناً فيؤذي الطائفين. وذكر في البيان قولين في التوجه إليه. والصَّلاةُ عَلَى ظَهْرِها أَشَدُّ، وقِيلَ: مِثْلُهَا. وقيِلَ: إِنْ أَقَامَ مَا يَقْصِدُهُ. وقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ قِطْعَةٌ مِنْ سَطْحِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِبِنَائِهَا أَوْ بِهَوَائِهَا ....... الأشدية على الْمَشْهُورِ؛ لأنه هناك يُعيد في الوقت وهنا أبداً. قال المازري: ومشهور مذهبنا منع الصلاة على ظهرها، وأنه أشد من المنع في بطنها، وأنه إذا صلى على ظهرها يُعيد أبداً بناءً على أن الأمر ببنائها. ومنع ابن حبيب التنفل فوقها، وأجازه فيها. وقوله: (وقِيلَ): مثلها، يعني: أنه يمنع من إيقاع الفرض عليه. فإن فعل أعاد في الوقت، وهذا القول حكاه ابن محرز عن أشهب. وحكى اللخمي عنه نفي الإعادة، كالصلاة فيها عنده، وهو قول ابن عبد الحكم. وقوله: (وقِيلَ): إن أقام؛ هذا قول عبد الوهاب. قال ابن بشير: اختلف المذهب في الصلاة على ظهر الكعبة هل هي منهي عنها على الإطلاق، أو بشرط أن لا يجعل عليها قائماً يقصده؟ اللخمي: والأول رأي الجماعة. والثاني تأويل أبي محمد على المذهب، وكأنه رأى متى أقيم عليها قائم يقصده المصلي كان كالمصلي لبنائها. واعترضه ابن بشير بأنه إذ ذاك مستدبر لبعض سمتها، فصار كالمصلي فيها.

وحكى عنه ابن محرز أنه إذا أقيم شيء كان كالمصلي في جوفها. فعلى هذا ما ألزمه ابن بشير هو قائل به، وعلى هذا تكون الصلاة عنده حينئذٍ جائزة؛ لأنه يجيز الصلاة فيها. قوله: وقال أشهب .... إلخ، كذا حكاه عنه المازري. الْمُستَقْبَلُ يصح بكسر الباء على أنه اسم فاعل، وهو الذي يؤخذ من الجواهر، ويصح بالفتح اسم مفعول؛ لأنه ذكر ف يهذا الفصل حكم من يستقبل وحكم ما يستقبل. والْقُدْرَةُ عَلَى الْيَقِينِ تَمْنَعُ مِنَ الاجْتِهَادِ، وعَلَى الاجْتِهَادِ تَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ منع الاجتهاد مع القدرة على اليقين؛ لكون الاجتهاد معرضاً للخطأ، ومنع التقليد إذا قدر على الاجتهاد؛ لكون الاجتهاد أصلاً التقليد فرع عنه، والاجتهاد مطلوب في الصحاري. قال ابن القصار في تعليقه: والبلد الخراب الذي لا أحد فيها لا يقلد المجتهد محاربه، فإن خفيت عليه الأدلة، أو ولم يكن من أهل الاجتهاد قلدها، والبلد العامر الذي تتكرر فيه الصلاة، ويعلم أن إمام المسلمين نصب محرابه، أو اجتمع أهل البلد على نصبه، فإن العالم بالأدلة يجتهد ولا يقلد، فإن خفيت عليه الأدلة قلد محاربها، وأما العامي فيصلي في سائر المساجد. وهَلْ مَطْلُوبُهُ فِي الاجْتِهادِ: الْجِهَةُ أَوِ السَّمْتُ؟ قَوْلانِ القول بطلب الجهة للأبهري، والقول بطلب سمت عينها لابن القصار، قال المازري: وأشار إلى أنه لا يمتنع في كثرة المسامتين مع البعد، كما لا يمتنع ذلك في مسامته

النجوم. وهذا الذي قاله يفتقر إلى التحقيق؛ وذلك أن المتكلمين اختلفوا في الدائرة، هل يحاذي مركزها جميع أجزاء المحيط، أو إنما يحاذي من أجزائه مقدار ما ينطبق عليه ويماسه؟ فذهب النَّظَّامُ من المعتزلة إلى أن المركز يحاذي جميع [50/ب] أجزاء المحيط، واحتج في ذلك بأنك لو قصدت إلى أي جزء من أجزاء المحيط أخرجت منه خطاً يوصل إلى المركز. ورد عليه ذلك أئمتنا المتكلمون، بأن الخطوط إذا خرجت من المركز إلى المحيط فإنها تضيق عند ابتدائها، وتنفرج عند انقطاعها، وما ذاك إلا أن ما يسامت المركز يفتقر فيه إلى تعويج الخط؛ ليمكن الاتصال. قالوا: لا يحاذي نقطة المركز من أجزاء المحيط إلا ما لو قدر منطبقاً عليها لماسها، فهذه المسألة يجب أن يعتبر فيها ما قاله ابن القصار، فيقال: إن أدرت بمسامتته الكثير مع البعد، أنهم وإن كثروا فكلهم يحاذي بناء الكعبة، فليس كما تذهب، وقد أخبرناك إنكار أئمتنا على النظام، وإن أردت أن الكعبة تقدر بمرائهم ولو كانت بحيث ترى وأن المرائي يتوهم المقابلة والمحاذاة وإن لم يكن كذلك في الحقيقة فهذا نسلمه ونسلم تمثيله لك برؤية الكواكب، وتبقى المسامتة على هذا بالبصر لا بالجسم. وذكر المازري عن أحد أشياخ شيخه أبي الطيب عبد المنعم اختيار المسامتة لا الجهات. انتهى. والظاهر أن ابن القصار إنما أراد المسامتة بالمعنى الثاني، وبه يندفع ما أورد على القول بالمسامتة من أنه يلزم عليه ألا تصح صلاة الصف الطويل؛ فإن الكعبة طولها خمسة وعشرون ذراعاً، وعرضها عشرون ذراعاً، والإجماع على خلافه. وكان ابن عبد السلام شيخ ابن دقيق العيد يستشكل هذا الخلاف؛ لأن محل الخلاف إنما هو فيمن بعد عن الكعبة، وأما القريب ففرضه السمت اتفاقاً، والذي بعد لا يقول أحد أن الله تعالى أوجب عليه استقبال عين القبلة ومقابلتها ومعاينتها؛ فإن ذلك تكليف ما لا يطاق؛ ولأنه كان يلزم عدم صحة صلاة الصف الطويل، بل الواجب عليه أن يبذل

جهده في تعيين جهة يغلب على ظنه أن الكعبة وراءها، وإذا غلب على ظنه بعد بذل الجهد بالأدلة الدالة على الكعبة أنها وراء الجهة التي عينها وجب استقبالها، فصارت الجهة مجمعاً عليها، والسمت الذي هو العين مجمع على عدم التكليف به، فأين محل الخلاف على هذا؟ وكان يجيب عنه فيقول: الشيء قد يجب إيجاب الوسائل وقد يجب إيجاب المقاصد، والأول كالنظر في المياه، فإنه يتوصل به إلى معرفة الطهورية، وكالسعي إلى الجمعة، والضوء للصلاة، والثاني كالأولين والصلوات الخمس، وصوم رمضان، والحج، والعمرة. وإذا تقررت هذه القاعدة فاختلف الناس في الجهة، هل هي واجبة وجوب الوسائل؟ وأن النظر فيها إنما هو لتحصيل عين الكعبة، وهو مذهب الشافعي، فإذا أخطأ في الجهة وجبت الإعادة؛ لأن القاعدة أيضاً أن الوسيلة إذا لم يحصل مقصدها، يسقط اعتبارها، أو النظر في الجهة واجب وجوب المقاصد، وأن الكعبة لما بعدت عن الأبصار، جعل الشرع الاجتهاد في الجهة هو الواجب، وهو المقصود دون عين الكعبة، فإذا اجتهد ثم أخطأ لا يجب عليه إعادة، وهو مذهب مالك، وعلى هذا فقول العلماء هو الواجب الجهة أو السمت؟ يتضمن قيداً لطيفاً، أي: هل الواجب وجوب المقاصد السمت أو الجهة؟ قولان، وإنما أطلت في هذا المحل؛ لأنه يشكل على كثير من الناس. أَمَّا لَوْ خَرَجَ عَنِ السَّمْتِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ تَصِحَّ ولَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ، وكَذَلِكَ مَنْ بمَكْةَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ اسْتَدَلَّ فَإِنْ قَدَرَ بِمِشَقَّةٍ ففِي الاجْتِهَادِ تَرَدُّدٌ قوله: (أَمَّا لَوْ خَرَجَ عَنِ السَّمْتِ) فواضح؛ لكونه خالف ما أمر به. وقوله: (وكَذَلِكَ مَنْ بمَكْةَ) أي: فتجب عليه المسامتة لقدرته على ذلك، بأن يطلع على سطح أو غيره، ويعرف سمت الكعبة في المحل الذي هو فيه.

وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ اسْتَدَلَّ) أي كما لو كان بليل مظلم، واستدلاله بالمطالع والمغارب. وقوله: (فَإِنْ قَدَرَ بِمِشَقَّةٍ)؛ أي: قدر على المسامتة بمشقة كما لو كان يحتاج إلى صعود السطح وهو شيخ كبير أو مريض. والتردد حكاه ابن شاس عن بعض المتأخرين. ووجهه: إن نظرت إلى الحرج، وهو منفي عن الدين كما قال الله تعالى، أجزت الاجتهاد، وإذا نظرت إلى أنه قادر على اليقين لم يجز له الاجتهاد. ومَنْ بِالْمَدِينَةِ يَسْتَدِلُّ بِمِحْرَابِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَنَّهُ قَطْعِيٌّ قوله: (قَطْعِيٌّ)، يريد لأنه ثبت بالتواتر أن هذا محرابه الذي كان يصلي إليه، وإذا ثبت ذلك ثبت قطعاً أنه مسامتٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون أقامه على اجتهاد على القول به أو بوحي، وأياً ما كان فهو مؤد إلى القطع، أما الوحي فظاهر، وأما الاجتهاد فلأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، وقد روى ابن القاسم أن جبريل عليه السلام أقام للنبي صلى الله عليه وسلم قبلة مسجده. والأَعْمَى الْعَاجِزُ يُقَلِّدُ مُسْلِماً مُكَلَّفاً عَارِفاً، فَإِنْ كَانَ عَارِفاً قَلَّدَ فِي الأَدِلَّةِ واجْتَهَدَ العاجز، أي؛ عن التوصل لليقين والاجتهاد. وقوله: (مُسْلِماً مُكَلَّفاً عَارِفاً) احترازٌ من الكافر والصبي والجاهل لعدم الوثوق بخبرهم، وينبغي أن يريد عدلاً؛ لأن الفاسق غير مقبول إجماعاً. وقوله: (َإِنْ كَانَ عَارِفاً) أي: الأعمى عارفاً بالاجتهاد قلد في [51/ أ] أدلتها، كسؤاله عن كوكب كذا. ابن عبد السلام: ولا يحتاج هنا أن يسأل مسلماً مكلفاً. وفيه نظر.

والْبَصِيرُ الْجَاهِلُ مِثلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، وَلَوَ صَلَّى أَرْبَعاً لَكَانَ مَذْهَباً ... أي: مثل الأعمى. وفاعل (لَمْ يَجِدْ) ضمير عائد على أحد المتقدمين لا بعينه، وهما الأعمى والبصير الجاهل. وقوله (وَلَوَ صَلَّى أَرْبَعاً لَكَانَ مَذْهَباً) هو من تمام قول ابن عبد الحكم، ومعنى (لكان مذهباً) أي: مذهباً حسناً. فإن قيل: لم لا يتعين هذا كالشاك في صلاة من الخمس؟ فجوابه: خفة الطلب في القبلة؛ إذ قد اكتفى فيها بالظن، وشدة أمر الصلاة، وأيضاً فقد لا يتوصل إلى القطع في القبلة إذ قد لا يصادفها. ولَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَفِي تَخْبِيِرهِ أَوْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَوْ تَقْلِيدِهِ ثَلاثَةُ أَقْوالٍ ..... يستغني عن قوله: (ولَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ) بما قدمه بأن القدرة على الاجتهاد تمنع من التقليد، لكن ذكره ليرتب عليه ما بعده، وأظهر الأقوال الثالث؛ لأن المجتهد هنا كالعاجز. ومَنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ. وَالْوَقْتُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِلَى الاصْفِرَارِ، بِخِلافِ ذَوِي الأَعْذَارِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ تَغْرُبْ. ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِلا أَنْ يَسْتَدْبرَ. ابْنُ سَحْنُونٍ: يُعيد أبداً عَلَى أَنَّ الْوِاجِبَ الاجْتِهَادُ أَوِ الإِصَابَةُ ..... قوله: (فَأَخْطَأَ)؛ أي: ولم يتيقن له الخطأ إلا بعد الفراغ من الصلاة. وقوله: (أَعَادَ فِي الْوَقْتِ) هو كذلك في المدونة. قال الباجي: وهو قول محمد؛ وذلك أن المصلي إلى غير القبلة لا يخلو أن يفعل ذلك مع عدم أدلة القبلة، أو مع وجودها، ولم أر لأصحابنا في ذلك فرقاً بيناً، غير أن ابن

القصار ذكر عن مالك: أنه إن فعل ذلك مجتهداً أعاد في الوقت استحباباً. وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه فيمن عميت عليه دلائل القبلة فصلى إلى ما غلب على ظنه أنه جهتها، ثم بان له الخطأ، لم تكن عليه إعادة، ثم ذكر قول ابن مسلمة وحمله على ما إذا ما كانت علامات القبلة ظاهرة، قال: وأما مع خفائها فإن مذهب مالك ألا إعادة عليه وإن استدبر القبلة. قال: فعلى هذا الانحراف عن القبلة يكون على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعمد ذلك، فهذا يُعيد أبداً وإن صلى إلى جهتها. الثاني: أن يتحرى استقبالها مع ظهور علاماتها، فهذا حكمه على ما قدمنا ذكره عن محمد بن مسلمة. الثالث: أن يتحرى استقبالها مع عدم علاماتها، فهذا لا إعادة عليه. وما ذكره من أن وقت الإعادة إلى الاصفرار منصوص عليه في المدونة. قال ابن عات: ويتخرج فيها قول آخر، يُعيد إلى الغروب من المصلى بثوب نجس. وقوله: (بِخِلافِ ذَوِي الأَعْذَارِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ تَغْرُبْ) فرق الأصحاب بينما بأن إعادة المصلي لغير القبلة وبثوب نجس مستحبة، فأشبهت النافلة، فلا تصلى عند الاصفرار، وصلاة أهل الأعذار فرض، فتصلى في كل وقت. قوله: (ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِلا أَنْ يَسْتَدْبرَ) يعني: أن ابن مسلمة قال بالإعادة في الوقت، كالمذهب إلا أن يستدبر فيُعيد أبداً. وفي نقل المصنف لهذا القول نقص، ونص ما نقله الباجي: وقال ابن مسلمة: من استدبر القبلة قاصداً للقبلة متحرياً أعاد أبداً؛ لأنه لم يستقبل القبلة بشيء من وجهه، فإن كانت قبلته إلى اليمن فصلى إلى شرق أو غرب أعاد في الوقت؛ لأن بعضه مستقبل القبلة، فأما من كان انحرافه بين المشرق والمغرب؛ فلا يُعيد في الوقت ولا غيره. وقال ابن سحنون: يُعيد أبداً سواء استدبر أو لا، وهو قول المغيرة.

وقوله: (عَلَى أَنَّ الْوِاجِبَ الاجْتِهَادُ أَوِ الإِصَابَةُ) أي: فإن قلنا: الواجب الاجتهاد، فلا إعادة؛ لكونه أتى بالواجب، وإن قلنا: الواجب الإصابة فقد أخطأها، فيُعيد أبداً. فإن قيل: لم لا حكمتم بالبطلان في الخطأ لفقد الشرط. فجوابه من وجهين: الأول: أن الخطأ لا يتبين في هذا الباب قطعاً، وإنما يتبين ظناً، فلذلك لم نجزم ببطلانها. الثاني: لما كان هذا الشرط مطلوباً مع القدرة، وساقطاً مع العجز، أشبه طهارة الخبث. ورد بأنه لو كان كذلك لم يعد الناسي أبداً، وهو خلاف ما سيأتي. وإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِي الصَّلاةِ قَطَع إِلا فِي الْيَسِيرِ فَيَنْحَرِفُ ويُغْتَفَرُ قال في المدونة: ومن علم في الصلاة أنه استدبر القبلة، أو شرق، أو غرب، قطع وابتدأ، وإن علم في الصلاة أنه انحرف يسيراً فلينحرف إلى القبلة ويبني. وقال أشهب: يدور إلى القبلة ولا يقطع؛ لحديث أهل قباء أنهمن كانوا مستقبلين بيت المقدس فأتاهم آت فأخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا، وأقرهم عليه الصلاة والسلام على ذلك. وفرق بينهما بأن الماضي من صلاة الصحابة صحيح، والطارئ نسخ، فبنوا الصحيح على الصحيح، بخلاف الخطأ، ولأن أهل قباء لم يكن منهم تقصير بخلاف غيرهم. ويَسْتَانِفُ الاجْتِهَادَ لِكُلِّ صَلاةٍ كذا ذكر ابن شاس، وهذا لعله تغير اجتهاده. وفي الطراز: إن كان الوقتان تختلف فيهما الأدلة اجتهد ثانياً، وإلا فلا. وهو أظهر مما قاله ابن شاس والمصنف.

ابن هارون بعد أن ذكر كلام المصنف: ولعله محمول على ما إذا نسي الاجتهاد الأول، وأما [51/ ب] إذا كان ذاكراً له فلا يجب عليه تكرار الاجتهاد، وكما هو الصحيح في المجتهد يفتي في نازلة، ثم يُسأل عنها، فإن كان ذاكراً للاجتهاد الأول أفتى به، وإن نسيه استأنف الاجتهاد. حكاه صاحب الإحكام، وحكى قولاً بوجوب الاجتهاد مطلقاً، وقولاً بعدمه مطلقاً. وإِذَا اخْتَلَفَاَ لَمْ يَاثْمَا أي: إذا اختلف شخصان في القبلة فلا يأثم أحدهما بالآخر، وهو ظاهر. ولَوْ قَلَّدَ الأَعْمَى ثُمَّ أُخْبرَ بِالْخَطَأِ فَصَدَّقَهُ انْحَرَفَ، ومَا مَضَى مُجْزِئٌّ. وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ: إِلا أَنْ يُخْبَرهُ عَنْ يَقِينٍ فَيَقْطَعَ .... جعل الأعمى أعذر من المجتهد، وهو كذلك؛ لتعذر الأسباب في حقه، وقول ابن سحنون فيه إشارة إلى ذلك. ويُعيد النَّاسِي فِي الْوَقْتِ، والْجَاهِلُ أبداً عَلَى الْمَشْهُورِ قال ابن يونس: الرواية في الناسي أنه يُعيد أبداً. وعليه فيُعيد الجاهل أبداً من باب أولى. وقال ابن الماجشون: يُعيد في الوقت. وقال ابن حبيب: يُعيد الجاهل أبداً، بخلاف الناسي. ابن راشد: والأول أصح؛ لأن الشروط من باب خطاب الوضع، فلا يشترط فيها علم المكلف. وكلام صاحب البيان بخلاف هذا، ولفظه: وقد اختلف فيمن صلى إلى غ ير القبلة مستدبراً لها، أو مشرقاً أو مغرباً عنها، ناسياً أو مجتهداً، فلم يعلم حتى فرغ من الصلاة، فالْمَشْهُورِ من المذهب أنه يُعيد في الوقت، من أجل أنه يرجع إلى اجتهاد من غير يقين، وقيل: يُعيد في الوقت وبعده، وهو قول المغيرة وقال سحنون: كالذي يجتهد فيصلي قبل

الوقت. وذكر عن أبي الحسن القابسي: أن الناسي يُعيد أبداً بخلاف المجتهد، وأما من صلى إلى غير القبلة متعمداً أو جاهلاً بوجوب استقبال القبلة، فلا اختلاف في وجوب الإعادة عليه أبداً. انتهى. وعلى هذا فالأحسن ما وقع في يبعض النسخ: ويُعيد الناسي في الوقت والجاهل أبداً، على الْمَشْهُورِ. والظاهر أن المراد بالجاهل الجاهل بالأدلة، ولا يصح أن يريد الجاهل بوجوب استقبال القبلة؛ لأن هذا لم يختلف فيه، على ما قاله ابن رشد. الْخَامِسُ: تَرْكُ الْكَلامِ. السَّادِسُ: تَرْكُ الأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، وَسَيَأَتِيَانِ لا ينبغي عد هذين في الشروط؛ لأن ما طولب تركه إنما يعد في الموانع، وهذا محقق في علم الأصول، لكن المؤلف تابع لأهل المذهب هنا؛ فإن جماعة منهم عدوهما من الفرائض. فإن قيل: في هذا الاعتراض الذي ذكرته نظر؛ لأن عدم المانع شرط؛ إذ الحكم لا يوجد إلا إذا عدم المانع، ولا يلزم من عدم المانع حصول الحكم، وهذا هو حقيقة الشرط. قيل: الفرق بينهما أن الشك في الشرط أو في السبب يمنع من وجوب الحكم، بخلاف الشك في المانع، كالشك في الطلاق، والله أعلم. وذكر الأبهري في شرحه أن ترك الكلام سنة، قال: لقولهم فيمن تكلم ساهياً في صلاته تجزئه صلاته، وسجد لسهوه، بخلاف من سها عن فريضة من فرائضها. قال في المقدمات: والأظهر أنه فرض؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

فرائض الصلاة

الْفَرَائِضُ: التَّكْبِيرُ لِلإِحْرَامِ، وَالْفَاتِحَةُ، وَالْقِيَامُ لَهُمَا، وَالرُّكُوعُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ، وَالسُّجُودُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ، وَالاعْتِدَالُ، وَالطُّمَانِينَةُ، عَلَى الأَصَحِّ، وَالْجُلُوسُ لِلتَّسْلِيمِ، وَالتَّسْلِيمُ ..... لما فرغ من الكلام على الشروط شرع في الكلام على الفرائض، ولا شك أن النية فرض، ولعله إنما أسقطها لكونها شرطاً في صحة الإحرام، ولا يقال إنه ترك ذكرها لأنها من الشروط، كما فعل ابن شاس؛ لأنه لم يذكرها في الشروط. قال المازري بعد أن ذكر عن الشافعي أنها جزء، وعن أبي حنيفة أنها شرط: والذي حكاه أصحابنا البغداديون أنها جزء. وقوله: (وَالْقِيَامُ لَهُمَا) أي: للإحرام والفاتحة. أما فريضة القيام لتكبيرة الإحرام في غير المسبوق فظاهرة، وأما بالنسبة إلى المسبوق فظاهر المدونة- على ما قاله الباجي وابن بشير- أنه لا يجب؛ لكونه قال فيها: إذا كبر للركوع ونوى بها العقد أجزأته. والتكبير إنما يكون للركوع في حال الانحطاط. وقال ابن المواز: وهو شرط، وأنه من أحرم راكعاً لا تصح له تلك الركعة. وتؤولت المدونة عليه أيضاً، وصرح في التنبيهات أيضاً بمشهوريته. فائدة: قال في التقييد والتقسيم: أقوال الصلاة كلها ليست بفرض إلا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، والفاتحة، والسلام. وأفعال الصلاة كلها فرائض إلا ثلاثة: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والجلسة الوسطى، والتيامن عند السلام. زاد في المقدمات: والاعتدال؛ فإنه مختلف فيه.

سنن الصلاة

واختلف في القيام للفاتحة، هل هو فرض لأجلها أو فرض مستقل؟ وتظهر فائدة الخلاف إذا عجز عن الفاتحة وقَدَر عليه. وأيضاً فلا يجب القيام على المأموم للفاتحة إلا من جهة مخالفة الإمام عند من يقول بأنه واجب لها. وقوله: (وَالاعْتِدَالُ) يؤخذ من قول ابن القاسم الذي يأتي أنه سنة. ومقابل الأصح في الطمأنينة- أنها فضيلةٌ، والفرق بين الاعتدال والطمأنينة أن الاعتدال في القيام هنا انتصابُ القامة، والطمأنينة استقرار الأعضاء في محلها، وقد يكون قبل ذلك، وقد يحصل الاعتدال من غير طمأنينة. ولم يذكر المصنف من جملة الفرائض ترتيبَ الأداء- وهو أن يأتي بالصلاة على [52/أ] نظمِها، كما فعل عبد الوهاب- استغناء بذكر الأركان عن الترتيب. السُّنَنُ: سُورَةٌ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الأُولَيَيْنِ، وَالْقِيَامُ لَهُمَا، وَالْجَهْرُ، وَالإِسْرَارُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَالْجُلُوسُ الأَوَّلُ، وَتَشَهُّدُهُ، وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الاعْتِدَالِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الثَّاني، وَتَشَهُّدُهُ، وَالصَّلاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَصَحِّ. وَالْفَضَائِلُ: مَا سِوَاهُمَا .... قوله: (سُورَةٌ مَعَ الْفَاتِحَةِ) الظاهر أن كمال السورة فضيلة، والسنة قراءة شيء مع الفاتحة بدليل أن السجود إنما هو دائرٌ مع ما زاد على الفاتحة، لا على السورة، وكذا صرح به صاحب الإرشاد، وقد يقال: إن قراءة السورة سنة. وهو ظاهر كلامهم، وإنما لم يسجد إذا قرأ بعضها؛ لأن كمالها سنة خفيفة. وذكر المازري والباجي في الاقتصار على بعض السورة قولين لمالك، قال في المختصر: لا يفعل ذلك، وإن فعل أجزأه. وروى الواقدي عن مالك: لا بأس أن يقرأ بأم القرآن وآيةٍ مثل آية الدين.

واختلف في التكبير- ما عدا تكبيرة الإحرام- هل كل تكبيرة سنة أو الجميع سنة؟ قولان. وقوله: (وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الاعْتِدَالِ) أحسنُ منه أن يقول: والزائد على قدر الطمأنينة. ولو قال أيضاً: على الأصح لكان أعم فائدة؛ ليدخل في كلامه قولُ من رأى أن ما زاد على الطمأنينة ينسحب عليه حكم الوجوب، ورُدَّ بأن الزائد لا يذم تاركه. واحتج الآخر بأن من أدرك الزائد على الطمأنينة من الركوع مع الإمام فقد أدرك تلك الركعة، فلو لم يكن الزائد واجباً لزم فوات الركوع في حق المأموم، وفيه نظر؛ لأن المسبوق يُغتفر في حقه للضرورة، بدليل أن من أوجب على المأموم الفاتحة اغتفرها لإدراك الركوع. وقوله: (وَالتَّسْلِيمِ) مخفوضٌ معطوف على (الزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الاعْتِدَالِ) يعني أن الزائد من الجلوس الثاني على قدر التسليم سنة. وما ذكره المصنف من أن التشهد الأخير سنة هو الْمَشْهُورِ، وروى أبو مصعب وجوبه، وعليه فيكون الجلوس واجباً؛ لأن القاعدة أن الظرف حكمُه ما يُفعل فيه. وحكى ابن بزيزة في التشهدين ثلاثة أقوال، والْمَشْهُورِ أنهما سنتان، وقيل: فضيلتان. وقيل: الأول سنة، والثاني: فريضة. وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عندنا ثلاثة أقوال: الفريضة، والسنة، والفضيلة. وصحح المصنف القول بالسنية، قال ابن شاس: وهو الْمَشْهُورِ. وقال ابن عطاء الله: الْمَشْهُورِ الفضيلة. وهو الذي يؤخذ من كلام ابن أبي زيد في الرسالة لقوله: ومِمَّا تزيدُهُ إنْ شِئتَ، ولا يقال ذلك ف يالسنة، وزاد صاحب المقدمات في السننِ رفعَ اليدين عند الإحرام، قال: وقيل: إنه مستحب. ورَدُّ السلام على الإمام، وتأمين المأموم إذا قال الإمام {وَلاَ الضَّالِّين} [الفاتحة: 7] وقوله: ربنا ولك الحمد، والقناع للمرأة، والتسبيح في الركوع، والدعاء في السجود. وإنما يُسجد للمؤكدة منها، وهي ثمان: قراءة ما سوى أم القرآن، والجهر، والإسرار، والتكبير سوى

تكبيرة الإحرام، والتحميد، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخِر، وأما ما سواها فلا حكم لتركها، ولا فرق بينها وبين الاستحباب إلا في تأكيد فضائلها، انتهى بمعناه. وَيُشْتَرَطُ فِي تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ اقْتِرَانُهَا بِنِيَّةِ الصَّلاةِ الْمُعَيَّنَةِ بِقَلْبِهِ أَوْ تَقْدِيمُهَا وَتُسْتَصْحَبُ، وَفِي نِيَّةِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ قَوْلانِ ....... النية إن اقترنت فلا إشكال في الإجزاء، وإن تأخرت عن تكبيرة الإحرام فلا خلاف في عدم الإجزاء، وإن تقدمت بكثير لم يجزئ اتفاقاً، وبيسير قولان: مذهب عبد الوهاب وابن الجلاب وابن أبي زيد- وهو الذي اقتصر عليه المصنف- عدمُ الإجزاء. واختار ابنُ رشد وابن عبد البر والمتيوي في شرح الرسالة الإجزاءَ، قال ابن عات: وهو ظاهر المذهب. خليل: وهذا هو الظاهر، ومن تأمل عمل السلف، ومقتضى إطلاقات متقدمي أصحابنا يرى هذا القول هو الظاهر؛ إذ لم ينقل لنا عنهم أنه لابد من المقارنة، فدل على أنهم سامحوا في التقديم اليسير. قال في المقدمات: وليس عن مالك ولا عن أصحابه المتقدمين نص في ذلك، ولو كان عندهم فرضاً لما أغفلوه ولتكملوا عليه. ولأن اشتراط المقارنة طريق إلى التوسوس المذموم شرعاً وطبعاً. ثم الذي يظهر لي أن قول الآخرين بشرطِ المقارنة معناه أنه لا يجوز الفصل بين النية وتكبيرة الإحرام؛ لأنه يشترط أن تكون مصاحبة للتكبيرة، وإلى ذلك أشار المازري، بل يؤخذ منه أنه حمل المقارنة على ما إذا لم يحصل فصل كثير، ولفظه: الْمَشْهُورِ عندنا ما ذكره القاضي من قصر الوجوب على حالة الإحرام، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز تقديمها على الإحرام بالزمان اليسير. قال: وبعض أشياخي يشير إلى تخريجٍ في هذا من الطهارة، فإنه اختلف في تقديم النية فيها بالزمان اليسير. وقد ينفصل عنه بأن النية في الصلاة آكد للإجماع على وجوبها. انتهى. وقوله: (أَوْ تَقْدِيمُهَا وَتُسْتَصْحَبُ) ظاهرٌ إذ استصحابها بنيةٍ.

وقوله: (الْمُعَيَّنَةِ) أي: أنه لا يكفيه فرض مطلقاً، بل لابد من تعيينه ظهراً أو عصراً. وقوله: (بِقَلْبِهِ) أي: لا يتلفظ على الأَوْلَى، ويجب على المأموم أن ينوي الاقتداء بالإمام. قالوا: وإن لم ينوه بطلت صلاته. وأما الإمام فلا تلزمه [52/ب] نية الإمامة إلا في مسائل سيأتي التنبيه عليها في باب الإمامة إن شاء الله. والأصح عدم اشتراط نية عدد الركعات؛ لأن كونها مغرباً يستلزم كونها ثلاثاً، وكذلك في سائرها، وإنما يحتاج إلى ذلك لو اختلفت عدد الركعات في الظهر أو المغرب أو غيرهما من الصلوات. ولا يجب أن يستحضر في نيته الإيمان وأداء الصلاة والتقرب بها ووجوبها، نعم الأكملُ استحضارُ ذلك، نص عليه في المقدمات، ولا يلزم عند الإحرام أن يذكر حدوث العالم وأدلته، وإثباتَ الأعراض واستحالة عِرْوِ الجواهر عنها، وأدلةَ إثبات الصانع والصفات وما يجب له تعالى، ويستحيل عليه، ويجوز، وأدلة المعجزة، وتصحيح الرسالة، ثم الطرق التي بها وصل التكليف إليه خلافاً للقاضي أبي بكر. وحُكي عن المازري أنه قال: أردت العمل على قول القاضي أبي بكر فرأيت في منامي كأني أخوض في بحر من الظلام، فقلت: والله، هذه الظلمة التي قالها القاضي. وَفِيمَنْ نَوَى الْقَصْرَ فَأَتَمَّ وَعَكْسِهِ قَوْلانِ وفي المسافر ينوي القصر فيتم. (وَعَكْسِهِ) أي: وفي المسافر ينوي الإتمام فيَقْصُرُ. والخلاف فيهما مبنيٌّ على اعتبار عدد الركعات، وستأتي هذه المسألة في باب القصر. وَفِيمَنْ ظَنَّ الظُّهْرَ جُمُعَةً وَعَكْسِهَا، مَشْهُورُهَا تُجْزِئُ فِي الأُولَى أي: في المسالتين ثلاثة أقوال: الأول الإجزاء فيهما، وعدمه فيهما، مبنيان على ما تقدم. ووجه المشهور أن شروط الجمعة أخص من شروط الظهر، ونية الأخص تستلزم نية الأعم، بخلاف العكس. وحكى في البيان قولاً رابعاً بعكس المشهور.

وَعُزُوبُهَا بَعْدَهُ مُغْتَفَرٌ بِخِلافِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ أي: والذهول عن النية- بعد الاقتران- مغتفر للمشقة. وكان سحنون يُعيدها، ولعله على الورع. وعن ابن العربي: إن عزب بأمر خطر في الصلاة، أو بسبب عارض في الصلاة لم يضر، وإن كان بأسباب متقدمة دنيوية قَوِيَ تركُ الاعتداد. خليل: وقوله: (بِخِلافِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ) أي: الرَّفْضِ، فإنها تبطل على الْمَشْهُورِ كالصوم، بخلاف الحج والوضوء، فإن الْمَشْهُورِ فيهما عدم الرفض، وقد تقدم هذا. فإن قيل: فما الفرق على الْمَشْهُورِ؟ قلتُ: لأنه لما كان الوضوء معقول المعنى- بدليل أن الحنفية لم توجب فيه النية- والحج محتوٍ على أعمال مالية وبدنية لم يتأكد طلب النية فيهما، فرفضُ النية فيهما رفضٌ لما هو غير متأكد، وذلك مناسب لعدم اعتبار الرفض، ولأن الحج لما كان عبادة شاقة، ويُتمادى في فاسدِه- ناسَبَ أن يال بعدمِ الرفضِ رفعاً للمشقة الحاصلة على تقدير رفضه، والله تعالى أعلم. وما ذكرناه هو الذي كان شيخنا رحمه الله يُمَشِّيه عليه، وهو الذي يؤخذ من الجواهر، وهو أحسن ممن حمل كلامه على عدم اغتفار عزوب النية عند الخروج من الصلاة، وأنه لابد من استصحابها عند الخروج بالسلام، لأن هذه المسألة سيذكرها المصنف، ويذكر فيها قولين. فَلَوْ أَتَمَّهَا بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ سَهْواً أَوْ عَمْداً فقَوْلانِ في هذه المسألة ثلاثة أقوال، يُفرق في الثالث بين العامد فتبطل، وبين الساهي فلا تبطل. ثم هذه المسألة لها صور: إن سلم من اثنتين، ثم قام وأتى بركعتين بنية النافلة فالمعروف عدم الإجزاء، وإن لم يسلم فصورتان: الأولى: إن ظن أنه قد سلم من فريضته فقام إلى نافلة، فإن ذكر بالقُرب رجع إلى فريضته وسجد بعد السلام، وإن لم يذكر إلا بعد ركوعه في نافلته أو طول قراءته فالْمَشْهُورِ بطلان فريضته.

الصورة الثانية: أن يظن أنه في نافلة من غير أن يعتقد السلام، فالْمَشْهُورِ هنا الإجزاء، وقيل: لا يجزئ. وصححه ابن الجلاب. والفرق على الْمَشْهُورِ: أنه في الأولى لما ظن أنه سلم من الفريضة قَصد أنه في نافلة، وفي هذه لم يقصد أنه خرج من الفرض البتة، ولم يوجد منه قصد ذلك. وَلَفْظُهُ: اللهُ أَكْبَرُ مُعَيَّناً وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيّاً، ولا يُجْزِئُ الأَكْبَرُ وَلا غَيْرُهُ، وَالْعَاجِزُ تَكْفِيهِ النِّيَّةُ، وَقِيلَ يَدْخُلُ لِلصَّلاةِ بِلِسَانِهِ ..... لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يرو أنه دخل الصلاة بغير هذه اللفظة، والمحل محل تعبد. ولا يجزئ أكبار بإشباع فتحة الباء لتغيير المعنى، نص عليه سند. قال في الذخيرة: وأما قول العامة: الله وكبر فله مدخل في الجواز، لأن الهمزة إذا وليتْ ضمةً جاز أن تقلب واواً. (وَالْعَاجِزُ) أي: لجهلِه باللغة، فقال الأبهري: تكفيه النية. المازري: وهو صحيح على أصلنا؛ لأن لفظ التكبير متعين عندنا. واستعمال القياس فيه بالأبداًل لا يصح، ولم يأت الشرع ببدل منه عند العجز، كما أتى بالبدل في غيره من العبادات، والأصل براءة الذمة فلا يجب شيء إلا بدليل. انتهى. وقال أبو الفرج: يدخل بالحرف الذي دخل به الإسلام. وذكر عبد الوهاب عن بعض شيوخه: أنه يدخل الصلاة بمرادف التكبير في لغته، ولا خلاف أنه لا يعوض القراءة في لغته؛ لأن الإعجاز في النظم العربي، والعاجز الجاهل باللغة هو محل الخلاف، وأما العاجز عن الكلام جملة فتكفيه النية اتفاقاً. وَيَنْتَظِرُ الإِمَامُ بِهِ قَدْرَ مَا تَسْتَوِي الصُّفُوفُ قوله: (وَيَنْتَظِرُ) روى ابن حبيب عن مالك أن ذلك لازمٌ، يريد على طريق الاستحباب، والضمير المجرور عائد على الإحرام، لأنه [53/أ] إن كبر بإثْرِ الإقامة؛

فالمأمومون إن تشاغلوا بتسوية الصفوف فاتهم جزء من الصلاة، ومن فاتته الفاتحة فقد فاته خير كثير، وإن لم يسووا صفوفهم فاتتهم فضيلة تسوية الصفوف، ولما في أبي داود عنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان يسوي الصفوف فإذا استوت كبر. ولما في الموطأ: أن عمر وعثمان– رضي الله عنهما– كانا يوكلان رجلين بتسوية الصفوف، فلا يكبران حتى يخبراهما أن قد استوت. وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ. وَقِيلَ: إِلَى الصَّدْرِ. فَقِيلَ: قَائِمَتَيْنِ. وَقِيلَ: بُطُونُهُمَا إِلَى الأَرْضِ. وَقِيلَ: يُحَاذِي برُؤُوسِهِمَا الأُذُنَيْنِ .... قوله: (وَيُسْتَحَبُّ) ظاهره أنه فضيلة، وكذلك نص ابن يونس. وقال ابن أبي زيد وابن رشد: هو سنة. ووقت الرفع عند الأخذ في التكبير، نص عليه ابن شاس. وفي الرفع خمسة أقوال: المشهور أنه يرفع في تكبيرة الإحرام فقط، وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا يرفع في شيء. وروى ابن عبد الحكم: يرفع عند الإحرام والرفع من الركوع. وروى ابن وهب: وعند الركوع. وقال ابن وهب: وفي القيام من اثنتين. ورفعهما إلى المنكبين هو المشهور، وإلى الصدر رواه أشهب، وإليه مال سحنون، والقول بأن بطونهما إلى الأرض لسحنون. ومنشأ الخلاف: اختلاف الآثار والأحاديث. والظاهر رفعهما قائمتين لعدم التكليف، وأنه يرفع عند الإحرام، والركوع، والرفع منه، والقيام من اثنتين لورود الأحاديث الصحيحة بذلك، والله أعلم.

وَفِي سَدْلِ يَدَيْهِ أَوْ قَبْضِ الْيُمْنَى عَلَى الْكُوعِ تَحْتَ صَدْرِهِ ثَالِثُهَا، فِيهَا: لا بَاسَ فِي النَّافِلَةِ. وَكَرِهَهُ فِي الْفَرِيضَةِ. وَرَابعُهَا: تَاوِيلُهُ بالاعْتِمَادِ. وَخَامِسُهَا: رَوَى أَشْهَبُ إِبَاحَتَهُمَا الجواز فيهما في العتبية. ابن راشد: والمنع فيهما رواه العراقيون، والتفصيل هو مذهب المدونة، قال فيها: ولا يضع يمناه على يسراه في فريضة، وذلك جائز في النوافل لطول القيام. قال صاحب البيان: ظاهره أن الكراهة في الفرض والنفل، إلا إن أطال في النافلة فيجوز حينئذ. وذهب غيره إلى أن مذهبه الجواز في النافلة مطلقاً؛ لجواز الاعتماد فيها من غير ضرورة. وقوله: (وَرَابعُهَا: تَاوِيلُهُ بالاعْتِمَادِ) أي: تأويل الثالث، وهو تأويل عبد الوهاب. وقال بعضهم: إنما كرهه مخافة أن يعتقد وجوبه، وإلا فهو مستحب. وقال عياض: مخافة أن يُظهر من الخشوع ما لا يكون في الباطن. وتفرقته في المدونة بين الفريضة والنافلة يرده ويرد الذي قبله. وقوله: (وَخَامِسُهَا) إلى آخره؛ أي: روى أشهب إباحة السدل والقبض في الفرض والنفل، والتحقيق أنه لا يعد خلافًا إلا ما كان راجعًا إلى التصديق، أما ما كان راجعًا إلى التصور – كالقول الرابع – فلا. وفي المذهب قول آخر باستحبابه في الفرض والنفل، قاله مالك في الواضحة، وهو اختيار اللخمي وابن رشد. الْفَاتِحَةُ إِثْرُ التَّكْبيرِ، وَلا يَتَرَبَّصُ، وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَلا يَتَعَوَّذُ وَلا يُبَسْمِلُ، وَلَهُ أَنْ يَتَعَوَّذُ وَيُبَسْمِلُ فِي النَّافِلةِ، وَلَمْ يَزَلِ الْقُرَّاءُ يَتَعَوَّذُونَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ .... (الْفَاتِحَةُ) خبر ابتداء مضمر، أي: الفرض الثاني – الفاتحة، و (إِثْرُ التَّكْبيرِ) خبر أيضاً، أي: محلها إثر التكبير. وكونها فرضًا في الجملة هو المنصوص، ولابن زياد فيمن صلى ولم يقرأ: لا إعادة عليه. رواه الواقدي عن مالك، وكذلك نقل المازري

عن ابن شبلون أنه قال بسقوط فريضة الفاتحة مطلقاً؛ قال: لحمل الإمام لها، والإمام لا يحمل فرضًا. (وَلا يَتَرَبَّصُ) أي: بعد التكبير وقبل القراءة، لأنه إذا كره الدعاء– على المشهور– فلا معنى للتربص مع السكوت، ومقابل الْمَشْهُورِ إجازة قول: ((سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وجهت وجهي ... إلى آخره))، ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرف، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)). روي ذلك عن مالك، وروي عنه أيضاً استحسان ذلك. وقال ابن حبيب: يقوله بعد الإقامة وقبل الإحرام. قال في البيان: وذلك حسن. وقوله: (وَلا يَتَعَوَّذُ) هو الصحيح، أي: في الصلاة لعد إثباته، ولا يقال إن عموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] متناول له؛ لأنه نقل فعله عليه السلام، ولم ينقل فيه استعاذة، فيكون ذلك مخصصًا للآية. ابن هارون: وفي البسملة في الفريضة أربعة أقوال: الكراهة للمدونة، والإباحة لمالك في المبسوط، والندب لابن مسلمة، والوجوب لابن نافع. انتهى. وقوله: (وَلَهُ أَنْ يَتَعَوَّذُ) أي: ولو جهرًا، وكره مالك في العتبية الجهر في الاستعاذة. وقوله: (وَيُبَسْمِلُ) حكى في البيان في قراءتها في النافلة قبل الفاتحة روايتين، وثلاثة أقوال في قرءاتها في أول كل سورة: فالأول: أنه يقرأها في أول كل سورة، والثاني: لا يقرأ في شيء منها إلا أن يكون رجلاً يقرأ القرآن عرضًا، يريد بذلك، عرضه في صلاته، وهي رواية أشهب. الثالث: أنه مخير، إن شاء قرأ وإن شاء ترك، وهو قوله في المدونة.

فَيَجِبُ تَعَلُّمِهَا فَإِنْ لَمْ يَسَعِ الْوَقْتُ ائْتَمَّ عَلَى الأَصَحَّ أي: فبسبب وجوبها وجب تعليمها، وهذا إذا كان في الوقت سعة، وكان قابلاً للتعليم، فإن لم يسع الوقت للتعليم، وجب عليه الائتمام بمن [53/ ب] يحسنها على الأصح، ومقابل الأصح أن صلاته تصح من غير ائتمام، وصحح المصنف الأول؛ لأن القرءاة واجبة، ولا يتوصل إلى الواجب حينئذ إلا به. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَقِيلَ: تَسْقُطُ. وَقِيلَ: فَرْضُهُ ذِكْرٌ أي: فإن لم يجد من يأتم به – وفي معناه لا يجد من يعلمه – فقيل: تسقط. ويُختلف: هل يجب القيام بقدرها أو لا؟ قال المازري: أوجبه بعض أهل العلم. وفي المبسوط: ينبغي له أن يقف قدر قرءاة أم القرآن وسورة، ويذكر الله تعالى. قال المازري: وإليه ذهب القاضي أبو محمد. لكن القاضي لم يعتبر قدر القراءة كما في المبسوط، وإنما استحب الفصل بين الإحرام والركوع بوقوف ما يكون فاصلاً بين الركعتين. وقال سحنون: فرضه ذكر. دليله ما رواه الدارقطني: ((أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أحسن القراءة، فقال له: قل: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)). فرع: قال أشهب في المجموعة: من قرأ في صلاته شيئًا من التوراه والإنجيل والزبور، وهو يحسن القراءة، أو لا يحسنها، فقد أفسد صلاته، وهو كالكلام، وكذلك لو قرأ شعرًا فيه تسبيح أو تحميد لم يُجزِئه، وأعاد. وَلا تَجِبُ عَلَى الْمَامُومِ وَتُسْتَحَبُّ فِي السِّرِّيَّةِ لا الْجَهْرِيَّةِ. وَقِيلَ: وَلا السِّرِّيَّةِ أي: لا تجب الفاتحة على المأموم، وإذا لم تجب الفاتحة فأولى غيرها.

وقوله: (وَتُسْتَحَبُّ فِي السِّرِّيَّةِ) ظاهره أن هذا خاص بالفاتحة؛ لأنه إنما يتكلم فيها، ولو قال: وتستحب القراءة ليعم الفاتحة وغيرها كان أولى؛ لأن الخلاف في الجميع، ولعل المصنف اقتصر على الفاتحة؛ لأن ذكره الخلاف فيها يقتضي الخلاف في غيرها، والقراءة مع الإمام فيما يجهر فيه مكروهة، وهذا إذا كان يصل الإمام قراءته بالتكبير، فإن كان الإمام ممن يسكت بعد التكبير سكته ففي المجموعة من رواية ابن نافع عن مالك: يقرأ من خلفه في سكتته أم القرآن، وإن كان قبل قراءته. قال الباجي: ووجه ذلك أن اشتغاله بالقراءة أولى من تفرغه للوسواس وحديث النفس إذا لم يقرأ الإمام قراءة ينصت لها، ويتدبر معناها. انتهى. خليل: وعلى هذا فإن كان الإمام ممن يسكت بعد الفاتحة كما تفعل الشافعية فيقرأها المأموم، والله أعلم. واختار ابن العربي وجوب قراءة الفاتحة على المأموم إلا في الجهر إذا كان يسمع قراءة الإمام. وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقِيلَ: فِي الأَكْثَرِ. وَإِلَيْهِ رَجَعَ. وقِيلَ: فِي رَكْعَةٍ. وَقَالَ: تُجْزِئُ سَجْدَتَا السَّهْوِ، وَما هُوَ بِالبَيِّنِ. وَلَمْ يَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقَالَ: تُلْغَى الرَّكْعَةُ. وَفيهَا فِيمَنْ فَاتَتْهُ ثَانِيَةُ الْجُمُعَةِ فَقَامَ يَقْضِي فَنَسِيَهَا يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلامِ وَيُعيد ظُهْراً .... اختلف في الفاتحة هل تججب في كل ركعة أو إنما تجب في الأكثر؟ والقولان لمالك في المدونة. أو إنما تجب في ركعة؟ وإليه ذهب المغيرة، وما صححه المؤلف. قال ابن شاس: هي الرواية الْمَشْهُورِة. ومنشأ الخلاف ما خرجه مسلم والنسائي من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)) ثلاثًا، أي: غير تمام. هل المراد ظاهر اللفظ فيكتفي بها في ركعة أو المراد بالصلاة كل ركعة؟ لأن ذلك يظهر من السياق؛ لأن محل أم

القرآن من الصلاة كل قيام، كما لو قيل: كل صلاة لم يركع فيها ولم يسجد. وكذلك لم خرجه البخاري ومسلم وأبو داود الترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب))، ومنهم من زاد فيه: ((فصاعدًا))، وروى هذه الزيادة ابن حبان في صحيحه، وهي تقتضي وجوب قراءة ما زاد على الفاتحة. وأما القول بوجوبها في الأكثر فضعيف؛ لأنه لم يأخذ هذين المحملين، ووجهه – على ضعفه – أن الحكم للأكثر في الغالب. قال المازري: واختلف في الأقل على هذا المذهب، ما هو؟ فقيل: هو الأقل على الإطلاق. وقيل: هو الأقل بالإضافة. ومعنى الأقل مطلقاً العفو عنها في ركعة واحدة، وإن كانت صبحًا أو جمعة أو ظهرًا لمسافر. ومعنى الأقل بالإضافة: أن تكون الركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، والله أعلم. وأما حديث جابر: ((كل ركعة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج))، فالصحيح وقفه على جابر، قاله الدارقطني. قال ابن عبد البر: ورفعه غلط خطأ. تفريع: إن بنينا على قول المغيرة، فقرأها في ركعة من أي صلاة صحت صلاته. قال بعض الشيوخ: وظاهر قول المغيرة أنها سنة فيما عدا الواحدة، وإن بنينا على قول غيره فإما أن يترك القراءة في نصف صلاته أو في أقلها، فإن تركها في نصفها كركعة من الثنائية أو ركعتين من الرباعية فقولان، قال ابن عطاء الله: أشهرها أنه يتمادى، ويسجد قبل السلام، ويُعيد، وهو مذهب المدونة. والثاني قول أصبغ وابن عبد الحكم: يغلي ما ترك فيه القراءة، ويأتي بمثله، ويسجد بعد السلام. وإن تركها في الأقل، فقال ابن راشد: فإن تركها في ركعة من الرباعية، فإما أن يذكر ذلك بعد فراغه من الصلاة أو في الصلاة، فإن ذكر بعد فراغه فلا يخلو إما أن يذكر

بالقرب أو لا، فإن ذكر بالقرب من سلامه ولم يحدث ما يمنعه من البناء [54/ أ] ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يسجد وتجزئه صلاته، وهذا على قوله: أرجو أن تجزئه سجدتا السهو قبل السلام. وثانيها: أنه يسجد ويُعيد الصلاة. وثالثها: أنه يلغي تلك الركعة ويأتي بركعة ويسجد بعد السلام، وإن ذكر بعد أن طال أعاد على القولين الأخيرين. وعلى القول الأول: يسجد وتجزئه سجدتا السهو. وأما إن ذكر وهو في الصلاة، فإما أن يذكر ذلك في الركعة الأولى أو غيرها، فإن ذكر ذلك في الركعة الأولى فلا يخلو: إما أن يذكر ذلك قبل الركوع، أو وهو راكع، أو بعد تمام الركعة، فإن ذكر قبل الركوع فلا خلاف أنه يقرأها. والمشهور: أنه يُعيد السورة وفاقاً لأشهب وسحنون، ولمالك في المجموعة: أنه لا يُعيدها. واتفقوا في المستنكح على عدم الإعادة. وهل يسجد لإعادة السورة بعد السلام؟ وإليه ذهب سحنون، أو لا يسجد؟ وإليه ذهب ابن حبيب، قولان، وقول ابن حبيب أصح؛ لأن زيادة القراءة لا يسجد لها، بدليل لو قرأ سورتين. تنبيه: قال مالك فيمن ترك تكبير صلاة العيدين فلم يذكر حتى قرأ: إنه يكبر ثم يُعيد القراءة ويسجد بعد السلام. قال عبد الحق: فعلى هذا يسجد من قدم السورة على الفاتحة، والفرق أن قراءة السورة سنة، وإلغاؤها كإلغاء تكبيرة وشبه ذلك فلا سجود عليه. والذي كبر بعدما قرأ الفاتحة إذا ألغى القراءة فقد ألغى ركنًا، فكان له تأثير كما لو انخرم عليه ركوع أو سجود فألغاه، وإن ذكر وهو راكع ففي المذهب أربعة أقوال: روى ابن القاسم عن مالك في المجموعة: أنه يرجع إلى القيام فيقرأ ثم يركع ويسجد بعد السلام. وقال سحنون: يرجع إلى القراءة ويُعيد الصلاة احتياطًا. وقال ابن القاسم في الموازية: يقطع بسلام ثم يبتدئ؛ لأنها ركعة لم تنعقد، فالقطع فيها أخف من تماديه عليها؛ لأنه إن

بنى عليها فقد لا تجزئه، وإن ألغاها صارت صلاته خمسًا لما في ذلك من الاختلاف، فكان إتيانه بصلاةٍ متفق عليها أولى. وقال ابن القاسم وأصبغ وغيرهما: يتمادى ويجزئه سجود السهو قبل السلام. وإن ذكر بعد الرفع أو بعد أن سجد فقال ابن القاسم في الموازية: يقطع ويبتدئ. وتجري فيها الأقوال الثلاثة التي قبلها. وإن ذكر بعد أن أتمها بسجدتيها ففيها أيضاً أربعة أقوال: يتمادى ويسجد قبل السلام وتجزئه، ويتمادى ويسجد ويُعيدها، والقول الثالث ويلغي تلك الركعة، ويجعل الثانية أولى صلاته ثم يسجد بعد السلام، والرباع: أن يضيف إليها ركعة ويسجد قبل السلام ثم يسلم ويبتدئ، قاله ابن القاسم في الموازية. وأما إن ذكر ذلك في غير الأولى، مثل أن يذكر وهو في الركعة الثانية أنه نسى الفاتحة منها، فإن ذكر وهو قائم أعاد قراءة الفاتحة، واختلف في إعادة السورة، وفي السجود كما تقدم. وإن ذكر وهو راكع فقال ابن القاسم هنا: لا يقطع. وتقدم قوله في الموازية أنه يقطع إذا ذكر ذلك في ركوع الأولى، لأنه في الأولى لم يبق له إلا تكبيرة الإحرام، وقد يتصل بها ذلك، فكان القطع أولى. وهاهنا وقعت له ركعة على الصحة فاستحب له أن يشفعها ويجعلها نافلة. وكذلك يقول إذا ذكر وهو في سجودها أو بعد قيامه إلى الثالثة، فإنه يرجع إلى الجلوس ويجعلها نافلة، وإن لم يذكر حتى ركع الثالثة– وقلنا بإلغاء الركعة– فهل تكون هذه ثالثة، أو يفرق فيقرأ فيها بأم القرآن خاصة، أو ثانية يضيف إليها سورة؟ خلاف. تنبيه: ما تقدم من الخلاف في تركها من الأولى جارٍ هنا، وإن ذكر ذلك وهو راكع في الثالثة ولم يعلم الركعة التي نسيها منها، هل هي الأولى أو الثانية ففي المذهب خمسة أقوال: أحدها: أنه يلغي الأولى ويتم سجود التي هو فيها ثم يجلس لأنها ثانية، ثم يسجد قبل السلام لأنه ترك من ثانيته السورة. وثانيها: أنه يتمادى ويجزئه سجود السهو قبل

السلام. وثالثها: أنه يفعل ذلك ويُعيد. ورابعها: أنه يتمادى ويجعل هذه ثالثة ثم يقوم إلى الرابعة ثم يقضي الركعة بأم القرآن وسورة، ثم يسجد بعد السلام. وخامسها: أنه يرجع إلى الجلوس ثم يسجد ويسلم ويجعلها نافلة. قاله ابن القاسم في الموازية. ولو ذكر ذلك بعد فراغه من الثالثة فقال ابن القاسم: يتم صلاته ويسجد قبل السلام، وأحب إلى أن يُعيد، فيكون في هذه أربعة أقوال أيضاً. وكذلك إذا ذكر في الرابعة أو في التشهد أنه ترك أم القرآن من الأولى أو الثانية – ففيه أربعة أقوال أيضاً: أحدها: أنه يسجد قبل السلام وتجزئه. وثانيها: أنه يسجد ثم يُعيد، وهو ظاهر المذهب عند أصحابنا. قال ابن المواز: وهو الذي استحب ابن القاسم. وثالثها: أنه يأتي بركعة بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام ورابعها: أنه يأتي بركعة بأم القرآن وسورة ويسجد بعد السلام. انتهى كلام ابن راشد. تنبيه: قوله: (وَقِيلَ: فِي الأَكْثَرِ. وَإِلَيْهِ رَجَعَ) ليس هذا الرجوع كسائر الرجوعات في الجزم بما رجع إليه؛ لأن مالكًا هنا قال: وما هوبالبين. فقول الإمام وما هو بالبين فيه إيماء إلى ترجيح القول بالوجوب في الجميع، والله أعلم. فرع: قال عبد الحق: لو أسقط الإمام آية من الفاتحة لانبغي أن يلقن، وإن لم يقف لقول من قال أنه كتارك جملة أم القرآن وذلك يبطل صلاته. وحكى الشيخ أبو عمران عن القاضي إسماعيل [54/ ب] أنه قال: يجب على المذهب أن يسجد قبل السلام. وفيها قول آخر: أنه لا يسجد، والله أعلم. وَلَيْسَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنْهَا، فَلا تَجِبُ لِلأَحَادِيثِ وَالْعَمَلِ أي: عمل المدينة، والأحاديث: حديث: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ...)) رواه مالك، وحديث أبي بن كعب: ((كيف تفتتح الصلاة)) رواه مالك، وحديث أنس:

((صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكلهم كانوا لا يقرؤون – بسم الله الرحمن الرحيم-)) خرجه مالك والبخاري ومسلم. وأيضاً فإنا نقطع أن القرآن ينقل متواترًا، فما لم تنقل متواترًا يحصل لنا القطع بأنه ليس قرآنًا. وَلا تُجْزِئُ بِالشَّاذِّ وَيُعيد أبداً أي: بالقراءة الشاذة، وعن مالك إجازة القراءة بالشاذ ابتداء، ذكره ابن عبد البر في تمهيده. والإمام إنما نص على الإعادة أبداً في شاذ خاص، وهو قراءة ابن مسعود، ولعل ذلك إنما هو لما يقال أنه كان يفسر فيخلط القراءة بالتفسير، بخلاف غيرها من الشاذ. ولقائل أن يقول: هذا إنما هو في الفاتحة، وأما غيرها فالقارئ وإن خرج عن التلاوة فإنما خرج إلى ذكر، وهو مشروع في الصلاة فلا يبطل، وفيه نظر؛ لأن الشاذ لما لم يكن قرآنًا، ونقله قرانًا خطأ على ما نقله أهل الأصول صار كالمتكلم في صلاته عامدًا، والله أعلم. وَيُسْتَحَبُّ التَّامِينُ قَصْراً أَوْ مَدّاً (التَّامِينُ) قول آمين عند الفراغ من الفاتحة. وقوله: (قَصْراً أَوْ مَدّاً) أي: فيه لغتان: بمد الهمزة وهي الأفصح، وقصرها وهي ثانية. وروي تشديد الميم مع المد، وأنكرت. ومعناها اللهم استجب، وقيل: اسم من أسماء الله، فكأنه قال: يا الله اغفر لي. وَيُؤَمِّنُ الإِمَامُ إِذَا أَسَرَّ اتِّفَاقاً، فَإِذَاَ جَهَر فَرَوَى الْمِصْرِيُّونَ: لا يُؤَمِّنُ. وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ: يُؤَمِّنُ ..... الْمَشْهُورِ رواية المصريين، ودليلنا ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قال الإمام: {وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه".

ووجه رواية المدنيين ما رواه مالك والبخاري ومسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) وهو أظهر؛ لأن حمله على بلوغ الإمام محل التأمين مجاز، والأصل عدمه. وفي المسألة قول ثالث لابن بكير بالخيار بين التأمين والترك. وَيُسِرُّ كَالْمَامُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَقِيلَ: يَجْهَرُ فِي الْجَهْرِ هذا من الاختصار الحسن لإعطائه الحكم في الثلاثة. وقوله: (وَقِيلَ: يَجْهَرُ) أي: الإمام في الجهرية، لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)). فرع: وهل يؤمن المأموم على قراءة إمامه في صلاة الجهر إذا لم يسمع قراءة الإمام؟ روى ابن نافع عن مالك في العتبية: ليس عليه ذلك. قال في البيان: قوله ليس عليه ذلك يدل على أن له أن يقول بأن يتحرى الوقت كما يتحرى المريض الوقت الذي يرمي فيه الجمار عنه فيكبر. وذهب ابن عبدوس إلى أن ذلك عليه، وذهب يحيى بن عمر إلى أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك. فهي ثلاثة أقوال، أظهرها قول يحيى؛ لأن المصلي ممنوع من الكلام، والتأمين كلام أبيح له أن يقول في موضعه، وإذا تحرى فقد يضعه في غير موضعه. انتهى. وقد يصادف آية عذاب، والله أعلم. وَالسُّورَةُ بَعْدَهَا فِي الأُولَيَيْنِ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ وَالْجُمُعَةُ وَفِي كُلِّ تَطَوُّعٍ، وَفِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَوْلانِ ..... فَفِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ فَمَا زَادَ مَا لَمْ يُخْشَى الإِسْفَارُ، وَالظُّهْرُ تَلِيهَا، وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ تُخَفِّفَانِ، وَالْعِشَاءُ مُتَوَسِّطَةٌ، وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ .... تقدم في كون السورة سنة بحث. وقوله: (فِي الأُولَيَيْنِ) يدل على أن الصلاة أكثر من ركعتين، ولذلك ذكر بعد هذا الكلام الصبح والجمعة، يريد: وصلاة السفر. وقوله: (فِي الأُولَيَيْنِ) يدل على أنه لا يقرأ في غيرهما بسورة، وهو المذهب. وقال محمد بن عبد الحكم: من قرأها في الأخريين فقد أحسن. وأخذ اللخمي وجوب السورة من قول

عيسى: من ترك السورة عامدًا أو جاهلاً أعاد أبدً. وأخذ استحبابها من قول مالك وأشهب: إذا ترك السورة فلا سجود عليه. ورد المازري الأول بأن الجاهل كالعامد، فلعل الإعادة أبداً مبنية على قول من رآها في ترك السنن. وقوله: (وَفِي كُلِّ تَطَوُّعٍ) أي: السورة سنة في كل تطوع، فإن أراد أنها مشروعة فظاهر، وإن أراد أنه يسجد لها كما في الفرائض فلا؛ لأن المنصوص أنه إذا ترك السورة في النافلة أو الوتر لا شيء عليه. وقد صرح في البيان: بأن قراءة ما زاد على الفاتحة في الوتر مستحب لا سنة. فائدة: هذه المسألة إحدى خمس مسائل مستثناة من قولهم: السهو في النافلة كالسهو في الفريضة. الثانية: الجهر فيما يجهر فيه. الثالثة: السر فيما يسر فيه. الرابعة: إذا عقد ثالثة في النفل أتمها رابعة بخلاف الفريضة. الخامسة: إذا نسي ركنًا من النافلة وطال فلا شيء عليه، بخلاف الفريضة فإنه يُعيدها. وقوله: (وَفِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَوْلانِ) أي: وفي الاقتصار على الفاتحة في ركعتي الفجر قولان، الْمَشْهُورِ الاقتصار، وسيأتي. فرع: تجوز قراءة سورتين مع الفاتحة فأكثر، والأفضل واحدة، قاله المازري. وأما المأموم يقرأ مع الإمام فيما يسر فيه، فيفرغ من السورة قبل أن يركع الإمام فقال ابن القاسم في العتبية: يقرأ غيرها ولا يقيم ساكتًا. قال في البيان: بعد ذلك هو بالخيار، إن شاء قرأ، وإن شاء سكت. انتهى. وهو خلاف ظاهر قول ابن القاسم، والله أعلم. وكره مالك في العتبية تكرير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [55/ أ] في ركعة واحدة، وقال: هذا من محدثات الأمور. ومقتضى كلامه في البيان أن هذه الكراهة خاصة بحفظ القرآن، وأما

غيره فلا؛ لأنه قال: كره مالك للذي يحفظ القرآن أن يكرر (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في ركعة واحدة؛ لئلا يعتقد أن أجر من قرأ القرآن كله هو أجر من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثلاث مرات، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم: أنها تعدل ثلث القرآن، وليس ذلك معنى الحديث عند العلماء، ولو كان ذلك معناه عندهم لاقتصرنا على (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الصلاة بدلاً من السور الطوال، ثم ذكر معنى الحديث، فانظره فيه. فَفِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ فَمَا زَادَ مَا لَمْ يُخْشَى الإِسْفَارُ، وَالظُّهْرُ تَلِيهَا، واَلْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ تُخَفَّفَانِ، وَالْعِشَاءُ مُتَوَسِّطَة، وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ .... واختلف في المفصل، فقيل: من الشورى. وقيل: من الجاثية. وقيل: من الحجرات. وقيل: من قاف. وقيل: من النجم. وقيل: من الرحمن. وقوله: (وَالظُّهْرُ تَلِيهَا) ظاهره أنها أقصر، وهو قول مالك ويحيى بن عمر، وقال أشهب: هي كالصبح. وقوله: (وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ) أي: والركعة الثانية أقصر، ونص بعضه معلى كراهة كون الثانية أطول: هي كالصبح. وقوله: (واَلْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ تُخَفَّفَانِ) قال في البيان: اختلف في العصر فقيل: إنها والمغرب سيان في قدر القراءة، وإليه ذهب ابن حبيب. وقيل: إنها والعشاء الآخرة سيان. وهذا مع الاختيار، وأما مع الضرورة – كالسفر – فله التخفيف بحسب الإمكان. وقد أجاز مالك القراءة في الصبح في السفر بسبح والضحى. وَيُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ سِرّاً فِي ثَانِيَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ الرُّكُوعِ كَفِعْلِ مَالِكٍ، أَوْ بَعْدَهُ، وَلا يُكَبِّرُ لَهُ، وَفِيهَا: اخِتَيارُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُك إِلى آخِرِهِ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِهِ، أَوْ يَدْعُو بِمَا شَاءْ، وَفِيهَا: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ .... والْمَشْهُورِ: أن القنوات في الفجر فضيلة، وقيل: يُسجد له فهو سنة. وقال يحيى بن يحيى: إنه غير مشروع. ومسجده بقرطبة – إلى حين أخذها الكفار – على الترك. وقال

علي بن زياد: من تركه متعمدًا فسدت صلاته. وهذا يحتمل أن يكون على أحد القولين في تارك السنن متعمدًا، ويحتمل أن يكون على الوجوب. فإن قيل: تخصيصه بالعامد لا يقتضي الوجوب. قلت: راعى الخلاف في الناسي. وقال أشهب: من سجد له أفسد على نفسه. وقوله: سرًا هذا هو الْمَشْهُورِ، كما سيأتي. والأفضل فيه قبل الركوع؛ رفقًا بالمسبوق، ولما فيه من عدم الفصل بين الركوع والسجود. واختار ابن حبيب والشافعي: بعده. وقاله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقوله: (نَسْتَعِينُك) إلخ، أي: نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونخنع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق. ومعناه: نستعينك على طاعتك، ونستغفرك من التقصير عن خدمتك. ونؤمن بك، ونصدق بما ظهر من آياتك، ونتذلل لعظمتك. ونخلع الأديان كلها لوحدانيتك. ونترك من يكفرك؛ أي: من يجحد نعمتك. اللهم إياك نعبد؛ أي: لا نعبد إلا إياك. ولا نسجد إلا لك، ونبه على السجود؛ لأنه أشرف أحوال الصلاة، إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وقال غيره: نرجو رحمتك؛ لأن أعمالنا لا تفي بشكر نعمتك، فما لنا ملجأ إلا رجاء رحمتك، ونخاف عذابك. الجد؛ أي: الثابت، وهو بكسر الجيم، هو ضد الهزل. وملحق روى بكسر الحاء، أي: لاحق، وبالفتح: اسم مفعول، والفاعل هو الله والملائكة. و (يَدْعُو بِمَا شَاءْ) أي: من أمر دينه ودنياه في القنوت. وَيَجْهَرُ فِي أُولَيَيْنِ غَيْرَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَما فَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلاً، وَالْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَقَطْ كَالتَّلْبِيَةِ ....... في كلامه قصور؛ لأنه إنما يتناول ما زاد على الركعتين دون الصبح والجمعة وصلاة السفر.

وقوله: (وَما فَوْقَ ذَلِكَ) أي: ومن يليه، هو أدنى مراتب الجهر. وجهر المرأة كسرها، فتسمع نفسها فقط. وَلا يُجْزِئُ الإِسْرَارُ مِنْ غَيْر تَحْرِيكِ لِسَانٍ، وَيَجُوزُ الإِسْرَارُ فِي النَّوَافِلِ ليْلاً، وَفِي الْجَهْرِ فِيهَا نَهَاراً قَوْلانِ ..... لأنه إذا لم يحرك لسانه لم يقرأ، وإنما فكر. وانظر: هل يجوز للجنب ذلك حينئذ؟ قال ابن القاسم: ويجزئ إذا حرك لسانه، وأن يسمع نفسه أحب إلى. (وَيَجُوزُ الإِسْرَارُ فِي النَّوَافِلِ ليْلاً) أي: والأفضل الجهر. (وَفِي الْجَهْرِ فِيهَا نَهَاراً قَوْلانِ). ووقع في بعض النسخ: (وفي كراهة الجهر فيها نهارًا قولان). وظاهر المذهب أن الجهر خلاف الأولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة النهار عجماء)). الْقِيَامُ إِنْ كَانَ يَثْبُتُ بَزَوَالِ الْعِمَادِ كُرِهَ أي: الفرض الثالث القيام. واعلم أن مراتب الصلاة سبع: أربع على الوجوب، وثلاث على الاستحباب. فالأربع: أن يقوم مستقلاً، ثم مستندًا، ثم يجلس مستقلاً، ثم مستندًا، فمتى قدر على واحدة وانتقل إلى التي تليها بطلت صلاته. والثلاث: أن يستلقي على جنبه الأيمن، ثم على ظهره مستلقيًا، ثم على الأيسر. وفي بعض النسخ بعد قوله: إن كان يثبت بزوال العماد كره، وإن كان يسقط بطلت؛ لأنه إذا سقط [55/ ب] بزوال العماد صار في معنى المضطجع، وهذا صحيح على أصل المذهب، وصرح بذلك ابن شاس.

فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَهَا أَوْ فِيهَا تَوَكَّأ ثُمَّ جَلَسَ ظاهرٌ مما تقدم. وَلا بَاسَ بهِ فِي النَّافِلَةِ لِلْقَادِرِ أي: بالجلوس في النافلة مع القدرة على القيام. ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى غَيْرِ جُنُبٍ أَوْ حَائِضٍ، فإن استند إلى أحدهما أعاد في الوقت هذه المرتبة الرابعة. وقوله: (إِلَى غَيْرِ جُنُبٍ أَوْ حَائِضٍ) المازري: على سبيل الأولى. اللخمي والمازري: ويتخرج جواز ذلك على قول ابن مسلمة بجواز الاستناد إلى الحائض والجنب، ونقل عن بعض القرويين أنه لم يحمل قول أشهب على الخلاف، بل حمله على ما إذا تيقنت طهارة ثيابهما، وقول ابن القاسم على ما إذا لم تتحقق الطهارة، قال: والقول بحمل قوليهما على الخلاف أظهر. انتهى. قال ابن القاسم في العتبية: فإن استند إلى جنب أو حائض أعاد في الوقت. قال في التنبيهات: ذهب أكثر شيوخنا إلى أن علة الإعادة كون المصلي باشر نجاسة في أثوابهما، فكان كالمصلي عليها. وقال بعضهم: بل حكم المستند إليه حكم المصلي؛ لأنه كالمعاون له بإمساكه، فيجب أن يكون على أكمل الحالات، ورد بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون الممسك متوضئًا، وهذا لا يقوله أحد. انتهى بالمعنى. وما ذكره الباجي عن بعض القرويين من أن قول ابن القاسم ليس مخالفًا لقول أشهب نحوه لابن أبي زيد، فإنه رأى أن العلة في كراهة ابن القاسم الاستناد إليهما كون ثيابهما لا تخلو من النجاسة غالبًا، ونقل ابن يونس عنه إذا تحققت الطهارة الجواز. قال ابن بشير: إنما العلة في ذلك بعدهما عن الصلاة بخلاف غيرهما.

وَيُومِئُ بِالسُّجُودِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ، وَيُكْرَهُ رَفْعُ شَيْءٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ اشتراط عدم القدرة في الفرض متفق عليه، واشترطه ابن القاسم في النافلة أيضاً، ولم يشترطه ابن حبيب، وأجاز له إذا صلى جالسًا أن يؤمئ بالسجود من غير علة. وإذا أومأ بالسجود إلى الأرض وهو جالس، فهل يضع يديه على الأرض؟ وهو قول اللخمي، أو لا؟ وهو قول أبي عمران، لأن اليدين إنما يسجدان مع الوجه. واعلم أنه لا يسقط عندنا ركن للعجز عن آخر، فالعاجز عن السجود إن قدر على القيام والركوع قام وركع وأومأ للسجدة الأولى، ثم يجلس ويؤمئ للسجدة الثانية، فإن عجز عن السجود والجلوس وقدر على الركوع ركع وأومأ للسجدتين من قيام، والله أعلم. وقوله: (وَيُكْرَهُ رَفْعُ شَيْءٍ) حكى اللخمي في ذلك الاتفاق. قال: واختلف إن فعل، ففي المدونة وإن فعل أو جهل ذلك لم يعد. وقال أشهب: لا يجزئه، ويُعيد أبداً إلا أن يومئ برأسه. انتهى. قيل: وقول أشهب تفسير لقول مالك. ثُمَّ عَلَى الأَيْمَنِ كَالْمُلْحَدِ، ثُمْ مُسْتَلْقِياً وَرِجْلاهُ إِلَى الْقِبْلَة، أَوْ عَلَى الأَيْسَرِ. وَثَالِثُهَا: هُمَا سَوَاءٌ. وَقِيلَ: الاسْتِلْقَاءُ قَبْلَ الأَيْمَنِ، وَيُومِئُ فِيهِمَا القول بتقديم الاستلقاء لابن القاسم، والقول بتقديم الأيسر لابن المواز وابن الماجشون ومطرف وأصبغ، والتسوية ظاهر المدونة لقوله: يصلي على جنبه أو هره لكن تؤول على أنه أراد تقدمة الأيسر، بل صرح اللخمي بأنه في متن المدونة، ولم أر من صرح بهذا القول، غير أنه مقتضى كلام التونسي، ولفظه: ومن لم يقدر على الجلوس صلى على جنبه أو ظهره ثم ذكر قول ابن المواز.

وقوله: (وَيُومِئُ فِيهِمَا) أي: في حالتي الجنب يمينًا وشمالاً، والاستلقاء. وقال ابن راشد: في حالتي الركوع والسجود. والقول بأن الاستلقاء قبل الأيمن لابن القاسم في الواضحة. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سِوَى نِيَّتِهِ فَلا نَصَّ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ إِيجَابُ الْقَصْدِ، وعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سُقُوطُهَا ....... أي: فإن عجز عن جميع أفعال الصلاة، ولم يقدر على شيء إلا النية فلا نص في مذهبنا. وعن الشافعي إيجاب القصد، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)). وعن أبي حنيفة: سقوطها؛ لأن النية وسيلة لتمييز غيرها، وقد تعذر الفعل المميز، فلا يخاطب بالنية، كما في حق العاجز عن الصيام وغير ذلك. ويمكن أن يكون سبب الخلاف بين الحنفي والشافعي: هل النية شرط فلا تجب، كسقوط الوضوء عند سقوط الصلاة، أو ركن فتجب؟ وقوله: (فَلا نَصَّ) أي: صريحًا. وأما الظواهمر فلا؛ لأن في الجلاب والكافي: ولا تسقط الصلاة عنه، ومعه شيء من عقله. وفي الرسالة نحوه. وللمصنف أن يمنع أن تكون هذه صلاة. ابن بشير: وقد طال بحثي عن مقتضى المذهب في هذه المسألة، والذي ترجح مذهب الشافعي. وقال المازري: إذا لم يستطع المريض أن يؤمئ برأسه للركوع والسجود، فهل يؤمئ بطرفيه وحاجبيه ويكون مصليًا بهذا مع النية؟ مقتضى المذهب – فيما يظهر لي – أمره بذلك، ويكون مصليًا بذلك، وبه قال الشافعية. وقال أبو حنيفة: لا يصلي في هذه الحالة وتسقط الصلاة. وقال ابن القاسم في العتبية: إذا لم يقدر على القراءة والتكبير لم يجزئه أن ينوي ذلك بغير حركة اللسان بقدر ما يطيق. وهذا وإن كان فيه إشارة إلى أن النية لا تنفع، فإن المراد أن يأتي بحركة اللسان إذا لم يعجز عنها. انتهى. وفيه نظر؛ لأن ظاهر قول ابن القاسم أنه عاجز عن حركة اللسان، [56/ أ] وعلى كلام المازري،

فقول المصنف: (عَجَزَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سِوَى نِيَّتِهِ) ليس بجيد؛ لأنه يقتضي أنه لو قدر على تحريك عينيه للزمته الصلاة بلا إشكال، وهو محل عدم النص على ما قاله المازري. وَعَجْزُهُ لِمَشَقَّةٍ أَوْ خَوْفِ عِلَّةٍ أَوْ لا يَمْلِكُ خُرُوجَ الْحَدَثِ إِذَا قَامَ لم يذكر في هذا الباب خلافًا كالتيمم، والظاهر أنه لا فرق بينهما، ونص ابن عبد الحكم على أن من لا يملك الريح إذا قام على سقوط القيام عنه، واستشكله سند بأن هذا سلس فلا يترك الركن له، ولو خاف من القيام انقطاع العروق ودوام العلة صلى إيماءً، قاله مطرف وعبد الملك. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ غَيْر الْقِيَامِ قَامَ وَأَوْمَأ، وَفِي إِيمَائِهِ وُسْعَهُ قَوْلانِ قوله: (فَإِنْ عَجَزَ عَنْ غَيْر الْقِيَامِ) أي: لا يقدر على الركوع والسجود فإنه يصلي قائما إيماءً، والأقرب في الإيماء أن يكون إلى الوسع؛ لأنه أقرب إلى الأصل، وهو ظاهر مختصر ابن شعبان. وأخذ اللخمي والمازري من قوله في المدونة في المصلي قائمًا: يكون إيماؤه للسجود أخفض من إيمائه من الركوع أنه ليس عليه نهاية طاقته. ورده ابن بشير بأنه قال ذلك للفرق، لا لأنه لا يومئ وسعه. ومنشأ الخلاف هل الحركة إلى الركن مقصودة أم لا؟ فرع: قال المازري: فإن زاد على ما أمر به، مثل من بجبهته قروح تمنعه من السجود عليها فإنه مأمور بأن يومئ ولا يسجد على أنفه. قال ابن القاسم في المدونة، فإن لم يفعل وسجد على أنفه فقال أشهب: يجزئه؛ لأنه زاد على الإيماء. واختلف المتأخرون في مقتضى قول ابن القاسم هل الإجزاء– كما قال أشهب– أم لا؟ فقال بعضهم– وحكاه عن ابن القصار– هو خلاف قول أشهب؛ لأن فرض هذا المصلي الإيماء، فإذا سجد على أنفه فقد ترك فرضه، فصار كمن سجد لركعته فلا يعتد بذلك، وإن كان زاد على مبلغ الركعة. وقال

غيره من الأشياخ: بل هو موافق للمذهب؛ لأن الإيماء لا يحصر بحدَّ ينتهي إليه، ولو قارب المومُئ الأرضَ أجزاه باتفاقٍ، فزيادةُ مساس الأرض بالأنف لا تؤثر، مع أن الإيماء رخصة وتخفيف، ومن ترك الرخصة وارتكب المشقة فإنه يعتد بما فعل، كمتيممٍ أبيح له التيمم لعذرٍ، فتحمل المشقة واغتسل بالماء فإنه يجزئه. انتهى. فإن قيل: قد تقدم في حق من كان فرضه التيمم واغتسل الإجزاء، وكذلك من كان فرضه الفطر وصام، ولم يذكروا خلافًا، فهل يمكن أن يخرج فيه الخلاف من هذه المسألة؟ قيل: لا؛ لأن هذا لما سجد على أنفه، فقد يقال: إنه لم يأت بالأصل، وهو السجود، ولا ببدله، وهو الإيماء، وإنما نظير المسألتين المذكورتين– أن لو سجد على جبهته، والله أعلم. فَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إِنْ سَجَدَ لا يَنْهَضُ قَائِماً فَقِيلَ: يُصَلِّي الأُولَى قَائِماً وَيُتِمُّ قَاعِداً. وَقِيلَ: يُصَلِّي قَائِماً إِيمَاءً، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فِي الأَخِيرَةِ. أي: أن هذا المريض يستطيع القيام والركوع، والرفع منه، والسجود، والجلوس، لكن إذا جلس لا يستطيع النهوض إلى القيام، فقيل: يصلي الأولى قائمًا بكمالها ويتم بقية الصلاة جالسًا، وإليه مال التونسي واللخمي وابن يونس. وقال بعض المتأخرين: يصلي الثلاث الأول إيماءً؛ أي: يؤمئ بركوعها وسجودها وهو قائم، ثم يركع ويسجد في الرابعة، ويلزم على الأول الإخلال بالركوع من ثلاث ركعات، وعلى الثاني الإخلال بالسجود ثلاث ركعات، ورجح الأول بأن المكلف مطلوب أولاً بفعل ما قدر عليه حتى يتحقق عجزه، وتركه شيئًا مع القدرة عليه لما يأتي به بعد من باب تقديم المظنون على المقطوع. وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الْفَاتِحَةِ قَائِماً فَالْمَشْهُورِ الْجُلُوسُ أي: إذا عجز عن جميعها حال القيام، ولم يعجز عنها حال الجلوس لدوخةٍ أو غيرها فالمشهور الجلوس؛ لأن القيام إنما وجب لها، فإذا لم يقدر أن يقف لها سقط. وقوله

(فَالْمَشْهُورِ) يقتضي أنه نصٌّ. وفي ابن بشير: وإن عجز عن القيام لكمال الفاتحة فهاهنا مقتضى الروايات أنه ينتقل إلى الجلوس، وهذا ظاهر على القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة، وأما على القول بأنها فرض في ركعةٍ فينبغي أن يقوم مقدار ما يمكنه إلا في ركعة واحدة، فيجلس ويأتي بأم القرآن. انتهى. خليل: وينبغي أن يقيد هذا بما إذا قام ولم يقدر بعد ذلك على الجلوس، وأما لو قدر على الجلوس فينبغي أن يقوم قدر ما يطيق، فإذا عجز جلس وكمل الفاتحة من غير خلاف. وَيُسْتَحَبُّ التَّرَبُّعُ، وَقِيلَ: كَالتَّشَهُّدِ أي: حيث قلنا يصلي جالسًا فالمستحب مِن الهيئةِ – على المشهور– التربُّعُ؛ لأنه بدلٌ مِن القيام وقيل: كجلوسِ الشتهد. واختاره المتأخرون. قال اللخمي: وهي التي اختارها اللهُ لعبادهِ، وهي جِلسة الأدنى بين يَدي الأعلى، والتربعُ جِلسة الأَكْفاء. وَيُكْرَهُ الإِقْعَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ. أَبُو عُبَيْدَةَ: عَلَى اَلْيَتَيْهِ نَاصِباً قَدَمَيْهِ. وَقِيلَ: نَاصِباً فَخِذَيْهِ .... كُره لقولِ مالك: ما أدركت أحدًا من أهل العلم إلا وهو ينهى عنه. وما صدر به نَسبه الجوهريُّ في صحاحه إلى الفقهاء، ولفظه: والإقعاء أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين. وهذا [56/ ب] تفسير الفقهاء، وأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم: أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض ويتسانَدَ إلى ظهره. انتهى. قال بعضهم: مثل إقعاء الكلب والأسد. زاد ابن يونس عن أبي عبيدة: ويضع يديه بالأرض. وقوله: (وَقِيلَ: نَاصِباً فَخِذَيْهِ) لم أر هذا القول ولم أتحقق معناه.

وَلا حَدَّ فِي تَفْرِيِقِ الأَصَابِعِ وَضَمِّهَا فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، وَجُلُوسُ التَّشَهُّدِ كَغَيْرِهِ، وَيُكَبِّرُ لِلدُّخُولِ فِي الثَّالِثَةِ ....... أي: لا حد في تفرقة الأصابع، بل يفعل ما تيسر عليه. ونص مالك على أن الفعل الخاص من البدع. واستحب ابن شعبان ضمها في السجود؛ لاستقبال القبلة بسائر أصابع اليد بخلاف تفرقتها. وقوله: (وَجُلُوسُ التَّشَهُّدِ) أي في حق الجالس كغيره من الجلوس بين السجدتين. والضمير في (وَيُكَبِّرُ لِلدُّخُولِ فِي الثَّالِثَةِ) عائد على المصلي جالسًا، فيكَبِّرُ إذا تَمَّ تشهدُه، ويتربع على المشهور. وَالرَّمِدُ يَتَضَرَّرُ بِالْقِيَامِ، وَغَيْرُهُ كَغَيْرِهِ (وَغَيْرُهُ) أي: من الركوع والسجود. (كَغَيْرِهِ) أي: من ذوي العذر. وَفِيهَا فِي قَادِحِ الْمَاءِ: يُعيد أبداً، وَعُلَّلَ بِتَرَدُّدِ النُّجحِ فِيهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: مَعْذُورٌ. وَهُوَ الصَّحِيحُ ....... لما ذكر أن الرَّمِدَ كغيرِه خشي أن ينقض عليه بهذه المسألة؛ فذكرها ليبين أنه اختار خلاف مذهب المدونة، وقد اعترض الشيوخ مذهب المدونة بأن التداوي مباح؛ فينبغي أن لا يُعيد، وعلل مذهب المدونة بتردد النجح كما ذكر المصنف، وأجيب بأن الظن عند الأطباء حاصل بالنجح، ولم يكلفوا اليقين. وقوله: (يُعيد أبداً) زاد في سماع موسى: يقوم ويصلي وإن ذهبت عيناه. وقول أشهب رواية أيضاً عن مالك، رواها ابن وهب، واختارها التونسي وابن محرز، وأجازه مالك في كتاب ابن حبيب في اليوم ونحوه، وكرهه فيما كثر من الأيام. والخلاف مقيد بما إذا أدى ذلك إلى الاضطجاع، وأما إن أدى إلى ترك القيام للجلوس فإنه يصلي جالسًا، ويجوز له ذلك، قاله المازري، ولم يَحْكِ فيه خلافًا.

ثُمَّ حَيْثُ خَفَّ الْمَعْذُورُ انْتَقَلَ إِلَى الأَعْلَى (خَفَّ) أي: وجد في نفسه القوة انتقل إلى الأعلى، فإن كان جالسًا قام، وإن كان يومئ ركع وسجد كذلك، وهو ظاهر. وَلا يَتَنَفَّلُ قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ مُضْطَجِعاً عَلَى الأَصَحِّ قوله: (قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ) ظاهره سواءٌ كان مريضًا أو صحيحًا، وحكى اللخمي في المسألة ثلاثة أقوال: أجاز ذلك ابن الجلاب للمريض خاصة، وهو ظاهر المدونة، وفي النوادر المنع وإن كان مريضًا، وأجازه الأبهري للصحيح، ومنشأ الخلاف القياسُ على الرُّخَصِ. فَلَوِ افْتَتَحَهَا قَائِماً ثُمَّ شَاءَ الْجُلُوسَ فَقَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، بِخِلافِ الْعَكْسِ تصور هذا الكلام ظاهرٌ بناءً على أن التخيير في الجملة يقتضي التخيير في الأبعاضِ أم لا؟ كخصال الكفارة، وقسم اللخمي المسألة على ثلاثة أقسام: إن التزم القيام لم يجلس، وإن نوى الجلوس جلس، فإن نوى القيام ولم يلتزمه فقولان. الرُّكُوعُ: وَأَقَلُّهُ أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ تَقْرُبُ رَاحَتَاهُ مِنْ رُكْبَتَيْهِ أي: الفرض الرابع: الركوعُ، وأقله أن ينحني بحيث تقرب راحتاه من ركبتيه، والراحتان الكفان، ثم بين أكملَه، فقال: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ وَيَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَيْهِمَا وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ وَلا يُنَكِّسَ رَاسَهُ إِلى الأَرْضِ ...... (يَنْصِبَ) أي: يقيم ركبتيه معتدلتين، والأفعال منصوبة عطفًا على (يَنْصِبَ)، فهي على الاستحباب. (وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ) أي: تجنيحًا وَسَطًا، وهو خاصٌّ بالرَّجُلِ، وأما المرأةُ فيطلب في حقها الانضمامُ، ولا ينكس رأسه بل يكون ظهره مستويًا، وقد ورد النهي عن الإفراط في الركوع.

الْخَامِسُ: الرَّفْعُ: فإِنْ أَخَلَّ بِهِ وَجَبَتِ الإِعَادَةُ عَلَى الأَشْهَرِ، فَلَوْ لَمْ يَعْتَدِلْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَجْزَأَهُ وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يُجْزِئُهُ. وَقِيلَ: إِنْ قَارَبَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَى وُجُوبِ الاعْتِدَالِ، ففِي وُجُوبِ الطُّمَأنِينَةِ فيهِ وَفِي غَيْرِه قَوْلانِ، وَفِيهَا: وَلا أَعْرِفُ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي رَفْعٍ وَلا خَفْضٍ، وَرَوَى أَشْهَبُ: يُسْتَحَبُّ فِيهِمَا أي: الفرض الخامس: الرفعُ من الركوع. وقوله: (فإِنْ أَخَلَّ بِهِ) أي تَرَكَه جملةً، والأشهر هو الصحيحُ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "صَلِّ فإنك لم تُصَلِّ" فقال: علمني يا رسول الله. فأمره بالتكبير والقراءة ثم قال له: "اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها" أخرجه البخاري ومسلم. ومقابل الأشهرِ رواية عن مالك يَرى أن الرفعَ سُنة، ووجهُه التمسكُ بظاهر القرآن في الأمر بالركوع والسجود، ولم يَذكر الرفع، وهو بعيد. ولو قال المصنف: على الْمَشْهُورِ لكان أولى، لأن مقابل الأشهر لا حظ له هنا في الشُّهرة. وقوله: (فَلَوْ لَمْ يَعْتَدِلْ .... إلخ) أي: إذا فرَّعنا على وجوب الرفع فاختلف، هل يجب الاعتدال؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سنة، ونقل عن ابن القاسم، الثاني: أنه واجب، وهو قول أشهب وابن القصار وابن الجلاب وابن عبد البر، الثالث: إن كان إلى القيام أقرب أجزأه، قاله عبد الوهاب، حكاه ابن القصار أيضاً. وظاهر المذهب وجوبُ الطمأنينة، [57/ أ] والواجب منها أدنى لبثٍ، واختلف في الزائد هل ينسحب عليه حكم الوجوب أو هو فضيلة؟ قولان، لكن قول المصنف: (وَعَلَى وُجُوبِ الاعْتِدَالِ، ففِي وُجُوبِ الطُّمَأنِينَةِ فيهِ) يقتضي أن الخلاف في الطمأنينة مرتب على القول بالوجوب فقط، وليس بجيد، بل الخلاف في الطمأنينة مطلقاً، ولو اكتفى بالخلاف الذي قدمه في الطمأنينة لكان أحسن، وقد تقدم ما يتعلق برفع اليدين.

وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُنْفَرِدِ فِي الرَّفْعِ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَلِلإِمَامِ الأَوَّلُ. وَقِيلَ: مِثلُهُ وَلِلْمَامُومِ الثَّانِي، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: ولَك. وَابْنُ وَهْبٍ: لك ...... قد تقدم أن قوله: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) سنة، فالاستحباب إنما هو راجع إلى الجميع، والْمَشْهُورِ: أن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". (وَقِيلَ: مِثلُهُ) أي: مثل المنفرد في الجمع، وهو قول عيسى بن دينار وابن نافع، وقاله مالك أيضاً، واختاره عياض وغيره، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله. والأظهر إثبات الواو لأن الكلام –عليه– جملتان، تقديره: يا ربنا استجب لنا ولك الحمد، بخلاف ما إذا أسقطه، فإن الكلام يبقى جملة واحدة، والإطناب في الدعاء مطلوبٌ، وقد صحت الروايتان عنه صلى الله عليه وسلم. السُّجُودُ: وَهُوَ تَمْكِينُ الْجَبْهَةِ وَالأَنْفِ مِنَ الأَرْضِ، وَفِي أَحَدِهمَا ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورِ إِنْ كَانَتِ الْجَبْهَةُ أَجْزَأَ .... أي: الفرض السادس السجود. والقول بالإجزاء – مع الاقتصار على أحدهما – حكاه أبو الفرح في الحاوي عن ابن القاسم، وقال: يُعيد في الوقت. والقول بنفي الإجزاء متى لم يسجد عليهما لابن حبيب، واختاره ابن العربي؛ لأنه صفة سجوده صلى الله عليه وسلم، فيكون مُبَيِّنًا لإطلاق الآية. والثالث: المشهور، ووَجْهُه أن معظم السجود على الجبهة، فإذا سجد عليها حصل المطلوب. قال عبد الوهاب: ويُعيد في الوقت لترك الأنف. وَتَقْدِيمُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ أَحْسَنُ، وَتَاخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ أي: الأحسن تقديم اليدين قبل الركبتين في الهُوِيِّ إلى السجود، وفي أبي داود والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه قبل

ركبتيه"، وفي رواية قال: "يعمد أحدكم فيبرك في صلاته كما يبرك الجمل"، لكن في أبي داود: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض من الصلاة" وفي أبي داود والترمذي والنسائي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه ققبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". وروى ابن عبد الحكم عن مالك – التخيير. وقوله: (وَتَاخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ) حكى فيه في البيان ثلاث روايات: الأولى: إجازة ترك الاعتماد وفعله، ورأى ذلك سواء، وهو مذهبه في المدونة، ومرة استحب الاعتماد وضعف تركه، ومرة استحب تركه، قال: وهو أولى الأقوال باصواب؛ لأنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه قبل ركبتيه)) فإذا أَمَرَه بوضعِ اليدين أوَّلاً في سجوده –حتى لا يشبه البعير في بروكه– وجب أن يضع يديه في القيام حتى لا يشبه البعير في قيامه. انتهى. وَأَمَّا الْيَدَانِ فَقَالَ سَحْنُونٌ: إِنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ بَيْنَهُمَا فَقَوْلانِ أي: يتخرج في وجوب السجود على اليدين قولان من القولين اللذين ذكرهما سحنون في بطلان صلاة من لم يرفعهما من الأرض، فعلى البطلان يكون السجو عليهما واجبًا، وإلا فلا. وَأَمَّا الرُّكْبَتَانِ وَأَطْرَافُ الْقَدَمَيْنِ فَسُنُّةٌ فِيمَا يَظْهَرُ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ كون السجود عليهما سنة ليس بالصريح في المذهب، قال ابن القصار: الذي يقوى في نفسي أنه سنة في المذهب. وإليه أشار بقوله: (فِيمَا يَظْهَرُ) أي من المذهب، لأنه اختيارٌ منه مخالف للمنقول. ووجه القول بالوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء)). وقوله: (وَأَطْرَافُ الْقَدَمَيْنِ) احترازًا من أن يسجد على ظهور قدميه.

وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ كَالطَّاقَتَيْنِ أَوْ طَرَفِ كُمِّهِ صَحَّ كَور العمامة –بفتح الكاف– مجمع طاقتها. وأطلق مالكٌ الإجزاء في الكَوْرِ، وقيده ابن حبيب بما ذكره المصنف، وحمله المصنف وغيره على الوفاق، وحملَه بعضُهم على الخلاف. المازري بعد كلام مالك وابن حبيب: وهذا فيما شُدَّ على الجبهة، لا فيما بَرَزَ عنها حتى منع لصوقها بالأرض. أي: فإن ذلك لا يجزئ اتفاقًا، وكذلك قال ابن عات: ولا شك في صحة صلاة من صلى على طرف ثوبه أو كمه على المذهب، وأما حكمه ابتداء فالكراهة إلا لضرورةٍ كاتقاءِ حرِّ الأرض أو بردها. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَبَيْنَ مِرْفَقَيْهِ وَجَنْبَيْهِ، وَبيْنَ بَطْنِهِ وَفَخِذَيْهِ- بخِلافِ الْمَرْأَةِ- وَلَهُ تَرْكُهُ فِي النَّافِلَةِ إِذَا طَوَّلَ هذا ظاهر، وفي المرأة قولٌ أنها كالرجل. وَتُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةُ الأَرْضِ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مُخَيَّرٌ، فَإِنْ عَسُرَ لِحَرَّ أَوْ بَرْدٍ وَنَحْوِهِ سَجَدَ عَلَى [57/ب] مَا لا تَرَفُّهَ فِيهِ كالخُمْرَةِ وَالْحَصِيرِ وَمَا تُنْبِتُهُ الأَرْضُ، بِخِلافِ ثِيَابِ الصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ، وَالأَوْلَى وَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى مَا يَضَعُ عَلَيْهِ جَبْهَتَهُ استُحِبَّت المباشرة؛ لأنَّ ذلك مِن التواضع، ولذلك لم يتخذ في مسجدي الحرمين حصير. وحكى أبو طالب في القوت: أن تحصير المساجد من البدعِ المحدّثة. والْمَشْهُورِ كراهة ثياب القطن والكتان، وأباح ذلك ابن مسلمة. والخُمْرُة: فرضٌ صغيرٌ. قال ابن بشير: قال المحققون، إذا كان الأصلُ الرفاهيةَ، فكل ما فيه رفاهيةٌ– ولو كان مما تنبته الأرض كالحصر السامان – فإنه يكره، وكلُّ ما لا تَرَفُّهَ فيه فإنه لا يكره، ولو كان مما لا تنبته الأرض كالصوف الذي لا يقصد به الترفه. وهذا إنما يكره في الوجه والكفين، وأما غيرهما من الأعضاء فيجوز أن توضع على كلِّ طاهرٍ، والفرقُ: تعلقُ

الخضوعِ بهما؛ ووجهُ استحباب وضع اليدين على ما يضع عليه الوجه أنهما يُرفعان مع الوجه ويُوضعان مع الوجه، فوجب أن يكون حكمُهما في ذلك حكمَه. وفي قول المصنف: (فَإِنْ عَسُرَ) نظرٌ؛ لأنه يقتضي أنه إنما يجوز ما تنبته الأرض مع العسر، والمذهبُ جوازُ ذلك اختيارًا. الرَّفْعُ مِنْهُ: وَالاعْتِدَالُ فِيهِ وَالطُّمَانِينَةُ كَالرُّكُوعِ اعتُرِض على المصنف بأنه شبَّه الرفعَ من السجود– وهو متفق على وجوبه– بالرفع من الركوع، وهو مختلفٌ فيه. وأُجيب بأن التشبيه في الطلبِ فقط، لا في الخلاف. وقاعدةُ المصنف أنه إنما يشبه بالخلاف إذا ذكر المشبه به بإثر المشبه، كما قال: والدمُ المسفوحُ نجسٌ، وغيرُه طاهرٌ، وقيل: قولان، كأكله. وأما مع البُعْدِ فإنما يُشبه في القول الراجح فقط. واتُفق على وجوب الرفع من السجود، بخلاف الرفع من الركوع؛ لاختلاف شكل الركوع والسجود؛ لأن الركوع انحناء الظهر، والسجود إلصاق الوجه بالأرض، والفرق بينهما حاصل إذا ركع ولم يرفعْ رأسَه، والسجدةُ الواحدة– وإن طالت– لا تُتصور سجدتين، فلا بد من الفصل بين السجدتين حتى يكونا اثنتين لا واحدة، قاله المازري. نعم، اختُلف في الاعتدال في الرفع منه كالركوع. وَلا بَاسَ بِالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، وَالرَّفْعِ مِنْهُ، بِخِلافِ الرُّكُوعِ، وَلَكِنْ يُسَبِّحُ، وَأَنْكَرَ التَّحْدِيدَ فِي الْجَمِيعِ بِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ ..... مقضتى كلمه أن الدعاء في السجود ليس مستحبًا، وكذلك قال ابن أبي زيد؛ لأنه قال: وتدعو في السجود إن شئت. وينبغي أن يكون مستحبًا للآثار في ذلك، وأنكرَ مالكٌ التحديدَ في عدد التسبيحات أو في تعيين لفظها؛ لاختلاف الآثارِ في ذلك.

فائدة: يكره الدعاء في خمسة مواضع باتفاق: أولها: في أثناء الفاتحة، ذَكره صاحب البيان والتقريب؛ لأنها رُكنٌ فلا يُقطع لغيرِه، ولأنها ثناءٌ ودعاء فدعاؤها أَوْلَى. وثانيها: بَعْدَ الفاتحة وقَبْلَ السورةِ، ذكره بعضُهم؛ لأن السورةَ سُنَّةٌ فلا يُشتغل عنها بما ليس بسنة. وثالثها: في أثناء السورة، ذكره ابنُ عطاء. قال: لأنها سنةٌ، والدعاءُ ليس بسنةٍ. قال عنه ابن نافع في المجموعة: وإن كان في نافلة فيَمُرُّ بآيةِ استغفارِ فليستغفِرِ اللهَ، ويقول ما شاء الله، فلا بأسَ. وعلل ذلك بأن السورةَ في النافلةِ ليست مؤكدةً كما في الفريضة. ورابعها: بَعْدَ الجلوسِ، وقَبْلَ التشهدِ، ذكرَه عبدُ الحق في نكته، وابنُ يونس، وصاحبُ البيان. وخامسها: بَعْدَ سلام الإمام وقَبْلَ سلام المأموم، ذكره ابن الطلاع. واختلف في أربعة مواضع: بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة، والْمَشْهُورِ– كما تقدم– الكراهةُ. وفي الركوع، والمعروف من المذهب الكراهة، قال المازري: ووقفت لأبي مصعب على جواز الدعاء في الركوع. انتهى. ودليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب))، فإن قيل: الدعاء لا ينافي التعظيم. قيل: فَهِمَ العلماءُ منه الأمرَ بقولِ: سبحان ربي العظيم وبحمده فقط. وفي التشهد الأول، وذكر الباجي فيه قولين، والظاهرُ الكراهةُ؛ لأن السنةَ فيه التقصيرُ، والدعاءُ يُطوِّله.

والرابع: بين السجدتين، والصحيح الجواز، وهو الذي اقتصر عليه المؤلفُ وابنُ الجلاب وجماعةٌ. وما عدا هذه المواضع فيجوز الدعاء فيه اتفاقًا كالسجود، وبعد القراءة، وقبل الركوع، والرفع من الركوع، والتشهد الأخير، والله أعلم. وَلا يَقْرَأ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أي: في الركوع والسجود والرفع، وجاء في الصحيح النهيُ عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وأما الرفعُ فلا أعلم فيه حديثًا. ثُمَّ يَقُومُ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ وَيَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ لِلْقِيَامِ أَوْ يَتْرُكُ نبه بقوله: (يَقُومُ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ) على خلاف الشافعية في استحبابهم جلسة الاستراحة. فرع: وإن جلس عامدًا فلا شيء عليه، وإن كان ساهيًا ففي العتبية عن مالك: يسجد للسهو. قال في البيان: ولم يراع في ذلك قول من رأى ذلك سُنةً؛ لضَعْفِ الخلاف عنده. انتهى. وروى ابن وهب وابن أبي أويس: لا سجود عليه إلا أن يجلس قدر ما يتشهد. وأشار مالك في العتبية إلى أن السجود إنما يجب على مَن جلس مُجْمِعًا على الجلوس، لا على الشاكِّ الذي يريد أن ينظر [58/ أ] ما يصنع الناس. وكذلك نص بعضهم على أن الشاكَّ لا شيءَ عليه. وقوله: (وَيَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ لِلْقِيَامِ أَوْ يَتْرُكُ) ظاهرهُ التسويةُ، وقد تقدم من كلام صاحب البيان في هذه المسألة ثلاثة أقوال.

وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا أي: والركعةُ الثانيةُ مِثلُ الأولى، إلا أنَّ الثانية أقصرُ كما تقدَّم. فرع: وهل الأفضل في الثانيةِ أن يقرأ سورةً بعدَ السورةِ التي قرأ بها في الأُولَى، أو لا فرق بين ذلك والتي قبلها؟ عن مالك في ذلك روايتان، والذي اختاره ابن حبيب وابن عبد الحكم وابن رشد، واقتصر عليه في الجلاب أن ذلك أفضل، والله أعلم. وَالسُّنَّةُ التَّكْبِيرُ حِينَ الشُّرُوعِ إِلا فِي قِيَامِ الْجُلُوسِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَقِلَّ قَائِماً لِلْعَمَلِ إِذْ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ رُكْنٍ .... يعني: أن التكبير يكون للأركان في حال الحركة إليها إلا في قيام الجلوس من الثانية، فإنه بعد أن يستقل في الثالثة لوجهين: الأول: العمل، وكَفَى به. ورُوي أن عمر بن عبد العزيز كَتب إلى عُمَّاله فأمَرهم بذلك، فلم يُنكر ذلك عليه أحدٌ. الثاني: أن التكبير على قسمين: إمَّا مفتَتَحٌ به رُكْنٌ، كتكبيرة الإحرام. وإمَّا في حالِ الحركة إذا انتقل عن ركنٍ، كالتكبير للركوعِ وغيرهِ، والجلوسُ الأول ليس بركنٍ، فأخر التكبير ليُفتتح به ركنٌ وهو القيام، كتكبيرة الإحرام. وقيل: إنها مشبهة بابتداء صلاة، لما جاء أن الصلاة فرضت ركعتين فأُقِرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. تنبيه: ما ذكرناه من أن المشروع أنه لا يكبر في الثالثة إلا بعد الاستقلال هو المشهور. وقيل: إن التكبير في القيام إلى الثالثة كالتكبير في القيام إلى الثانية، وعلى المشهور فذلك مطلوب في حق المصلي مطلقاً إمامًا كان أو مأمومًا أو مفردًا، لكن المأموم يزيدُ بأنه لا يَقوم حتى

ينتصبَ إمامُه ويكبِّر، فإذا انتصب وكبَّر قام حينئذ، ولم يكبر إلا بعد استقلاله. نص على ذلك في الرسالة. جُلُوسُ التَّسْلِيمِ، وَيُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْجُلُوسِ جَعْلُ الْوَرِكِ الأَيْسَرِ عَلَى الأَرْضِ وَرِجْلاهُ مِنَ الأَيْمَنِ نَاصِباً قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَبَاطِنُ إِبْهَامِهَا إِلَى الأَرْضِ وَكَفَّاهُ مَفْرُوجَتَانِ عَلَى فَخِذَيْهِ .... في صفة الجلوس ثلاثة مذاهب: أحدها لأبي حنيفة: ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى. والثاني للشافعي: الجلوسُ الأول كأبي حنيفة، والثاني كمالك. والثالث لمالك: وهو ما ذكره المصنف. وقوله: (وَبَاطِنُ إِبْهَامِهَا إِلَى الأَرْضِ) قال ابن أبي زيد بعد ذلك: وإن شئت أحنيت اليُمنى في انتِصابِها، فجعلتَ جَنْبَ بَهْمِها إلى الأرض فواسعٌ. وَيَعْقِدُ فِي التَّشَهُّدَيْنِ بالْيُمْنَى شِبْهَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَجَانِبُ السَّبَّابَةِ يَلِي وَجْهَهُ، وَيُشِيرُ بِهَا عِنْدَ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: دَائِماً. وَقِيلَ: لا يُحَرِّكُهَا ...... أي: يقبض الخنصر، والبنصر، والوسطى، ويُقيم السبابة ويَضم الإبهام إليها، قاله ابن شاس. ابن عبد السلام: فما فعله في السبابة والإبهام هو العشرون، وما فعله في الثلاثة الأخر هو التسعة، وما ذكره مخالف لما ذكره غيره، فإن ابن بشير قال: شبه ثلاث وثلاثين. وقال الباجي: شبه ثلاث وخمسين. وهذا يعرف عند أهله. وحاصل ما ذكره المصنف في التحريك ثلاثة أقوال، وتصورها واضح، غير أن كلامه يقتضي أن الْمَشْهُورِ التحريك عند الشهادة فقط، وهذا القول إنما نقله الباجي.

والمازري عن يحيى بن عمر، ونقلاً عن مالك: أنه كان يحركها من تحت البُرْنُس، فلما قال المازري: وعندي أن ابن عمر إنما حركها عند الشهادة؛ لأنها حركة تستعمل في تقرير الأمر وثبوته. ألا ترى أن الإنسان إذا حدَّث صاحبه حَرَّك أصبعه كالمقرر بها مُلِحًّا بها، فلما افتتح المصلي الشهادتين رأى ابن عمر أن ذلك مما يحتاج إلى التقرير، فكأنه قرر على نفسه وحقق عندها صحة ما أخذ فيه. انتهى. واختلف في معنى ذلك، فقيل: إن ذلك مقمعة للشيطان. وقيل: إشارة للتوحيد. وقيل: يشتغل به عن السهو. قال ابن رشد: وحكم هذه الإشارة السُّنَّيَّةُ، وقال غيرُه: الاستحباب. وَفِيهَا: اخْتِيَارُ التَّحِياتُ لِلّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بَعْدَهُ دُونَ الأَوَّلِ ..... اختار مالك هذا؛ لأنه هو الذي كان عمر يعلمه للناس على المنبر. ولم ينكره عليه من حضرة من الصحابة، ومعناه مشهور. ولم يذكر المصنف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وكأنه سكت عنه اكتفاء بما قدمه؛ إذ محلها الجلوس الثاني. التَّسْلِيمُ: وَيَتَعَيَّنُ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَلَوْ نَكِّرَ فَالْمَشْهُورِ كَغَيْرِهِ. وَفِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ بِهِ قَوْلانِ ..... أي: الفرضُ التاسعُ التسليمُ. (فَلَوْ نَكِّرَ) أي: قال: سلام عليكم، فالْمَشْهُورِ كغيرِ السلام عليكم فلا يجزئ.

ومقابل المشهور لابن شبلون. قال ابن الفاكهاني: والمشهور عدمُ اشتراطِ نيةِ الخروجِ بالسلامِ. وقال سند: ظاهر المذهب افتقارُه إلى نية. وكذلك قال الشيخ [58/ ب] عبد الحميد في استلحاقه، واقتصر صاحب الإشراف على الاشتراط، وحكَى في الجواهر القولين عن المتأخرين. وما ذكره المصنف– من اشتراط السلام– هو المعروف. وحكى الباجي عن ابن القاسم أنه قال: من سبقه الحدث وهو في آخر صلاته أجزأته. وأُنكر معنىً ونقلاً. أما معنىً: فإن الأمة على قولين: مذهبُ الجمهور اشتراطُ السلام. والثاني– وهو مذهب أبي حنيفة– أن كل مُنافٍ يَقوم مقاهه بشرطِ نيةِ الخروجِ. وأمَّا نقلاً: فلأنَّ الموجود لابن القاسم إنما هو في قوم صلوا خلف إمامٍ، فأَحْدَثَ في آخر صلاته وسلموا، فقال: لا إعادة عليهم. فقوله: لا إعادة عليهم. يريد المأمومين دون الإمام. وَيَتَيَامَنُ الإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ قَلِيلاً مَرَّةٌ وَاحِدَةً، وَرُوِيَ مَرَّتَيْنِ (يَتَيَامَنُ) كما قال ابن أبي زيد: يسلم واحدة قبالةَ وجهِه، ويتيامنُ برأسه قليلاً. ابن عبد السلام: يريد– والله أعلم– بقدر ما يرى صفحة وجهه. قال في التنبيهات: ظاهر المدونة أن سلام الإمام والفذ في الهيئة سواء، وسلام المأموم بخلاف ذلك، لأنه قال في الإمام: قبالة وجهه ويتيامن. وقال في المنفرد: يسلم واحدة ويتيامن قليلاً. ولم يقل قباله وجهه، وهو ظاهر. وقال في المأموم: يسلم عن يمينه، ثم يَرُدُّ على الإمام. وكذلك وصف سلام مالك خلف الإمام في العتبية، والمجموعة. واختلف الشيوخ في هذا، فذهب بعضهم إلى هذا الظاهر. وحكى ابن أبي زيد مثلَه، وإن كان الذي له في رسالته خلاف هذا، فإنه قال: ويسلم تسليمة واحدة يتيامن برأسه قليلاً، هكذا يفعل الإمام والرجل وحده. وأما المأموم فيسلم واحدة يتيامن بها قليلاً. فهو وإن لم يذكر

قبالة وجهه– كما ذكر في الفذ والإمام– فضمنه أنه قُبالة وجهه؛ لأنه لا يتيامن إلا مِنَ استقبالٍ. وإلى استواءِ سلام الثلاثة ذهب ابن سعدون. وإلى افتراق المأموم أشار عبد الحق والباجي وغيرهما، وهو ظاهر الكتاب. انتهى. وقوله: (وَرُوِيَ مَرَّتَيْنِ) هي رواية ابن وهب، وسببُ الخلافِ اختلافُ الأحاديث، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم واحدة أو اثنتين؟ وقد روى الترمذي: ((أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم واحدة)). قال الباجي وغيرُه: وأحاديث التسليمة الواحدة غيرُ ثابتة، وأحاديثُ التسليمتين لم يُخَرِّج منها البخاري شيئًا، وخرَّجَ مسلمٌ في ذلك حديثين: عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين)). وقال سعد: ((يسلم عن يمينه ويساره حتى يرى بياض خديه)). الباجي: وهي أخبار تحتمل التأويل، والقياس يقتضي إفراد السلام الذي يُتحلل به من الصلاة، وما زاد على ذلك فإنما هو للرد، وليس ذلك في الإمام والفذ. انتهى بمعناه. وذكر مالك أن على التسليمة الواحدة العملَ، ولفظُه على نَقْلِ ابنِ يونس: وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، وكذلك أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وغيرهم. قال مالك في غير المدونة: فكما يدخل في الصلاة بتكبيرة واحدة فكذلك يخرج منها بتسليمة واحدة. وعلى ذلك كان الأمر في الأئمة وغيرهم، وإنما حدثت التسليمتان منذ كان بنو هاشم. وَالْمَامُومُ عَنْ يَمِينِهِ وَيُضِيفُ اثْنَتَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَمَامَهُ ثُمَّ يَسَارَهُ إِنْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ، وَقِيلَ: يَسَارَهُ ثُمَّ أَمَامَهُ .... مقابل الْمَشْهُورِ يسلم اثنتين فقط، الأولى عن يمينه، والثانية على الإمام، نقله ابن شاس وغيره، يريد هذا القائل، ويقصد بالثانية أيضاً الرد على المأموم. وعلى المشهورِ فالمشهورُ أنه يبدأ بالأمامِ قبل اليسار، وروى أشهب عن مالكٍ العكسَ.

وحكى عبد الوهاب ثالثاً بأنه مُخَيَّرٌ. والردُّ على اليسارِ مشروطٌ بأن يكون على اليسار أحد. مالك: ويجهر الإمام بتسليمة التحليل جهرًا، يُسمع نفسه ومَن يليه، ويُخفِي تسليمةَ الرد على مَن كان على يسارِه. المازري: قيل: لئلا يُقتدى به في ذلك، وقال بعضهم: التسليمة الأولى تستدعي الرد، واستدعاؤه يفتقر إلى الجهر، وتسليمةُ الرد لا يَستدعي بها ردًا؛ فلم تفتقر إلى الجهر. فرع: ولو قدم المأمومُ السلام على يساره، وتكلم قبل أن يسلم على يمينه فقال ابن القُرْطِيُّ: تبطل صلاته. وقال مطرف: صلاته تامة، عامدًا كان أو ناسيًا، فذَّاً كان أو إمامًا. ابن أبي زيد: ولا وجه لفسادها؛ لأنه إنما ترك التيامن. وفَصَّلَ اللخميُّ فقال: إِن تَعمد الخروج بها لم تبطل صلاته، وإن سلم للفَضْلِ، ثم يَعودُ ويُسلم ويَخرج مِن الصلاة، ثم نسي وانصرف– وطال الأمر– أبطل صلاته. وجعل ابن بشير قول اللخمي جمعًا بين القولين، لا خلافًا. وَفِي الْمَسْبُوقِ رِوَايَتَانِ أي: هل يرد على الإمام أو على من يساره إذا فَرغ، كغير المسبوق، أو لا يَرُدُّ لفواتِ المحلِّ؟ روايتان. واختار ابن القاسم أنه يَرُدُّ على مَن سلم عليه، انصرف أم لا. المازري: وعلل بعض المتأخرين ثبوته بأنَّ حكمَ الإمامِ باقٍ عليه في قضائه، فكأنَّ الإمام لم يفرغ بَعْدُ مِن [59/ أ] صلاتِه. وعلَّل نفيَه بأنَّ مِن سُنة الردِّ الاتصالُ بسلامِ الابتداء، فإذا عدم الاتصال لم يَثبت الرد. وهذا التعليل يقتضي تصور الخلاف في الرد، وإن كان من يرد عليه حاضرًا لم يذهب. وأشار بعض أشياخي إلى أن الخلاف لا يتصور مع حضور من يرد عليه وإنما يتصور مع غيبته. انتهى.

وَكُرِهَ الدُّعَاءُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَالْيَمِينُ بِهَا. وَنَهَى عُمَرُ عَنْ رِطَانَةِ الأَعَاجِمِ، وَقَالَ: إِنهَا خِبٌّ أي: في الصلاة. وقال في موضع آخر في المدونة: ولا بأس أن يدعو بها في غير الصلاة. وقال في الذي يحلف بالعجمية: وما يدريه أن الذي قال هو كما قال. اللخمي: فعلى هذا إن علم أن ذلك اسم الله جاز أن يحلف بها ويدعو بها. ثم إن النهي المذكور إنما هو في حق القادر على النطق بالعربية؛ ففي سماع ابن القاسم: سئل مالك عن العجمي يدعو في صلاته بلسانه، وهو لا يُفصح بالعربية، فقال –رضي الله عنه-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وكأنه خَفَّفَه. واختُلف في سبب الكراهةِ، فقيل: لأنه لا يعلم أنه اسم الله تعالى فيدعو به، وعلى هذا فيُكره في غيرِ الصلاة ويجوز فيها إذا علم ذلك. وهو قريب مما تقدم. اللخمي: وقيل: لكونه لم يَرِدْ عن السلف. والرطانة: بفتح الراء وكسرها. والخِبُّ: بكسر الخاء، المكر والخديعة. وقيل: إنما نهى عمر عن ذلك إذا كان بحضرةِ مَن لا يَفهمه مِن بابِ كراهةِ تَناجي اثنين دونَ واحدٍ. نقله ابن يونس. وعلى طرد هذا لو كان عربيان في جماعة عظيمة من الأعاجم لا يحسنون العربية، والعربيان يحسنان لسانها – لكان الأولى في حق العربيين التكلم بالعجمية. وقيل: إنما الكراهة في المساجد مطلقاً؛ لأن مالكًا كره أن يتكلم في المساجد بألسنة العجم، وإليه ذهب ابن يونس. وَالتَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ- وَهِيَ الْخَمْسُ فَمَا دُونَهَا أصْلاً أَوْ بَقَاءً، وَقِيلَ: الأَرْبَعُ- وَاجِبٌ مَعَ الذِّكْرِ .... (وَالتَّرْتِيبُ) مبتدأ، وخبره (وَاجِبٌ مَعَ الذِّكْرِ). وقوله: (أصْلاً) أي: هي جميع ما فات. وقوله: (أَوْ بَقَاءً) أي: بقيت فوائت. وشهر المازري أن اليسير خمسٌ. ومقتضى

الرسالة أن الخمسَ في حيِّزِ الكثيرِ، واليسيرَ أربعةٌ، لقوله: وإن كانت يسيرة أقل من صلاة يوم بدأ بهن. وتؤول القولان على المدونة. قال في البيان: وقيل: الكثيرُ أربعُ صلواتٍ على ظاهرِ المدونةِ. وقال ابن يونس: إن ذكر صلوات إن بدأ بهن فات وقت الحاضرة، فإن كانت أربع صلوات فأقل فلا خلافَ بين أصحابنا أنه يَبدأ بهن وإِنْ فاتَ وقتُ الحاضرة. فإن كانت ستَّ صلواتٍ فأكثر بدأ بالحاضرة، واختلف إِنْ كانت خمس صلوات، فقيل: يبدأُ بهن. وقيل: يبدأ بالحاضرة. قال ابن حبيب: وإن كان الوقت متسعًا. انتهى. وَيُقّدَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْوَقْتِيَّةِ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي سُقُوطِ قَضَاءِ الْوَقْتِيَّةِ حِينَئِذٍ عَنْ نَاسِيهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَعْذَارِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنْ ضَاقَ فَالْوَقْتِيَّةُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: مُخَيَّرٌ أي: ويقدم يسير من الفوائت على الحاضرة الوقتية– وإن ضاق الوقت عن إدراك الحاضرة – على الْمَشْهُورِ. ومقابلُه قولُ ابنِ وهب وأشهبَ. وقولُ ابن وهب ظاهرٌ؛ لأنه إذا قدم الفوائت– مع الضيق– تصير جميع الصلوات قضاء. والترتيب بين الفوائت والحاضرة واجبٌ على الْمَشْهُورِ، وقيل: مندوبٌ. وكلام المصنف يحتمل وجهين: أولهما: أن يكون إنما تكلم على ترتيب الفوائت مع الحاضرة، وعلى ذلك حمله ابن راشد. والثاني: وهو ظاهر لفظه، أنه إنما تكلم أوَّلاً على ترتيبِ الفوائتِ في أنفسِها، ثم على ترتيبها مع الحاضرة. لكن اعترضه ابن عبد السلام بأن هذا شيء لا يعلم لغيره، بل الذي ذكره غيره أن الترتيب فيما بين الفوائت أنفسها لا يتحقق فيه في المذهب نص للمتقدمين، واختار بعض الشيوخ سقوطه فيما بين المتماثلات كظهرين، بخلاف ظهر مع عصرٍ. قال: لكن مسائلهم تقتضي عندي أنه مطلوب وجوباً مع الذِّكر وغيرِه، في يسيرِ الفوائتِ وغيرِها. قال: وأما ما ذكره المصنف في قوة كلامه أنه واجب في اليسير دون الكثير فلا أعلمه لغيرِه.

خليل: أمَّا ما ذكره من أن مقتضى كلامهم وجوب الترتيب بين الفوائت في أنفسها وإن كثرت فهو كذلك، وأما ما قاله من وجبوه مطلقاً، فالذي ذكره المازري وجوبه مع الذكر. ونقل ابن يونس عن ابن القصار سقوطَ وجوبِه في المتماثلين دونَ غيرِهما. قال ابن القصار: وليس عن مالك في هذا نصٌّ. ابن هارون: وقول ابن القصار عندي مبنيٌّ على عدم مراعاة الأيام. وذكر ابنُ هارون في ترتيب الفوائت في أنفسها– إذا كانت مختلفة – ثلاثة أقوال: الوجوب والسُّنِّية، والوجوب مع الذكر، والسقوط مع النسيان، وهذا هو الذي يؤخذ من التهذيب، لقوله: وإن نسي صُبحًا وظهرًا مِن غيرِ يومِه، فذكر الظهر وحدها فلما صلى بعضها تفكر في الصبحَ فسدتْ الظهر وصلى الصبحَ ثم الظهرَ، وإن ذكرها بعد أن فرغ أعاد الصبح فقط. انتهى. يريد: لأن إعادة المفعولات مستحبٌّ في الوقت، والفائتةُ لا وقت لها. وقال مالك في المجموعة: إن علم– وهو بمكانِه– أعادها، وإن طال فلا شيء عليه، وجعل القُرْبَ كالوقتِ. ونَقَلَ في المقدمات فيما إذ قدم بعضَ الفوائت على بعض، متعمدًا أو جاهلاً، كما إذا نسي الصبح والظهر، فذكر ثم صلى الظهر ذاكرًا للصبح ثلاثة أقوال: الأول: [59/ ب] ليس عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛ لأنها مفعولة قد خرج وقتها، وهو يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم. والثاني: أن عليه إعادتها. والثالث: الفرق بين أن يتعمد الصلاة الثانية قبلَ الأولى، أو يدخل في الثانية ثم يذكر الأولى ويتمادى عليها، وهو يأتي على قول ابن القاسم في المدونة، انتهى. وقوله: (وَفِي سُقُوطِ .... إلخ) لو أسقط المصنف هذا الفرع واكتفى بما تقدم– كما فعل ابن شاس– لكان أولى، وكلام ابن شاس أولى من وجهٍ آخر؛ وذلك لأنه إنما ذكر اليسير في ترتيب الفوائت مع الحاضرة، ثم قال: وترتب الفوائت كما تُرتب الحاضرة معها، وأطلق.

فرع: حكى في المقدمات الاتفاق على وجوب ترتيب الحاضرتين، وأنه إن خالف أعاد الثانية أبداً بلا خلاف. خليل: كما لو طَهُرت الحائضُ قبل الغروب وصلَّت العصرَ ذاكرةً للظهر. فَلَوْ بَدَأَ بِالْحَاضِرَةِ سَهْواً صَلْى الْمَنْسِيَّةَ وَأَعَادَ فِي الْوَقْتِ. وَفِي تَعْيِينِ وَقْتِ الاخْتِيَارِ أَوِ الاضْطِرَارِ قَوْلانِ .... مثاله لو نسي الظهر، ثم صلى العصر والمغرب ثم ذكر، فإنه يصلي الظهر ويُعيد المغرب لبقاء وقتها، فلو لم يذكر إلا بعد العشاء صَلَّى الظهر وأعاد العشاء لبقاء وقتها. وهل يُعيد المغرب؟ إن أُريد الوقت الاختياري؟ لم يُعد؛ لخروج الوقت الاختياري، وإن أريد الضروري أعادها مع العشاء، والْمَشْهُورِ أنه يُعيد في الوقت الضروري، والقائل بوقت الاختيار هو ابن حبيب. وقد تقدم سؤال ابن دقيق العيد لمن فرق في الْمَشْهُورِ بين هذه المسألة وبين من صلى بثوب نجس– فإن الْمَشْهُورِ فيها الإعادة في وقت الاختيار– والجوابُ عنه. وَفِيهَا: رَجَعَ إِلَى أَنَّهُ لا إِعَادَةَ عَلَى مَامُومِيهِ أي: إذا أعاد إمامهم في الوقت للترتيب، فالذي رجع إليه مالك أنه لا إعادة على مأموميه، وكان أَوَّلاً يقول: يُعيدون معه. وهو أقيس. قال ابن بزيزة: وهو الْمَشْهُورِ بناءً على الارتباط، ويُختلف على هذا في إعادتِّهم لإعادتِه لو صلَّى بنجاسة ناسيًا. وَعَمْداً فَكَذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُعيد أبداً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ أَوْ لا يعني: إذا بنينا على أن الترتيبَ واجبٌ، فهل هو شرط أَوْ لا؟ الْمَشْهُورِ نفي الشرطية، وروى ابن الماجشون عن مالٍك الشرطية، وتظهر ثمرة الخلاف لو ذَكَرَ صلاةً في صلاةٍ ولم يَقطع، فعلى المشهورِ تَصِحُّ؛ لأنه إنما خالف واجبًا ليس بشرطٍ، وعلى الشرطية لا

تصح. فقوله: (وَعَمْداً) أي: فلو قدم الحاضرة عمدًا فإنه يُعيدها في الوقت، كما لو قدمها ناسيًا، ويُختلف في إعادة المأمومين إن كان إمامًا، وهذا معنى قوله: (فَكَذَلِكَ)، وعلى رواية ابن الماجشون تفسد صلاة المأموم. وأخذ بعض الشيوخِ من المدونة مثل رواية ابن الماجشون مِن المسألة التي تقدَّم ذِكرها في ترتيب الفوائتِ بعضِها مع بعضٍ، وخالف المصنف هاهنا الغالب من عادته؛ لأن الفسادَ مرتَّبٌ على الشرطيةِ، والإعادةُ في الوقت مُرتبةٌ على عَدَمِها، والله أعلم. فَإِنْ ذَكَرَ فَائِتَةً فِي وَقْتِيَّةٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقَطْعِ وَاسْتِحْبَابِهِ قَوْلانِ هو ظاهر مما تقدم، لكن استحباب القطع مشكل؛ لأنه إن وجب الترتيب وجب القطع، وإن لم يجب فلا يبطل العمل المتلبس به لتحصيل المستحب. وَفِي إِتْمَامِ رَكْعَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً قَوْلانِ لذكر المنسية ثلاثة أقسام. قسم قبل الدخول في الصلاة، وقسم بعدها –وقد تقدما-، وقسم وهو فيها، والكلام الآن فيه، والقولان لمالك، وظاهر المذهب وجوبُ القطع، وهما في حق المنفرد. وأما المأموم والإمام فسيأتي الكلام عليهما. ومقتضى كلامه: أنه إن عقدها أضاف إليها أخرى وسلم عن نافلةٍ. وحصَّل في البيان في هذه المسألة سبعة أقوال: الأول: لمالك في العتبية أنه يتم ركعتين ركع أو لم يركع، كان في فريضة أو نافلة. الثاني: أنه يقطع ما لم يركع، وهو قوله في المدونة، وسواء –على مذهبه فيها– ذَكَرَ وهو في العصر صلاةَ الظهر من يومه، أو صلاةً قد خرج وقتها. الثالث: أنه يقطع أيضاً في المسألتين، رَكَعَ أو لم يركع، وهو أحدُ قولي مالك في المدونة، ولا فَرْقَ على هذا بين الفريضة والنافلة.

الرابع: الفرقُ بين النفل والفرض، فيقطع في النافلة، رَكع أو لم يركع، ولا يَقطع في الفريضة إذا ركع، ولابن القاسم أيضاً –في كتاب الصلاة الثاني من المدونة– أنه لا يقطع في النافلة، ركع أو لم يركع. خليل: يريد قوله في ذاكر سجود السهو وهو في الصلاة، أنه إن أطال القراءة أو ركع بطلت الأولى، وإن كانت هذه نافلة أتمها، ولا شك أن الأولى إذا بطلت صارت منسية ذكرها في نافلة، وسيأتي ذلك في سجود السهو. الخامس: إن كان معه ركعة أتم ركعتين، وإن لم يركع شيئًا أو ركع ثلاث ركعات قطع، وهو اختيار ابن القاسم في المدونة. السادس: لابن حبيب: الفرقُ بين أن يذكر الظهر في العصر، أو المغرب في العشاء، فيقطع ركع أو لم يركع، كان مع إمام أو وحده، وإن ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة تمادى إن كان مع الإمام، وإن كان وحده أتم ركعتين، ركع أو لم يركع. السابع: إن كان في خناق من الوقت قَطَعَ ما لم يركع، وإن لم يكن في خناق منه تمادى وإن لم يركع. قال: [60/ أ] وهذا كله اختلافُ اختيارٍ، إذ لا يتعلق بمن فعل شيئًا من ذلك حكمٌ عند من يرى خلافه إلا نقص الفضيلة. انتهى. فرع: إن ذكر بعد أن صلى ركعتين فإنه يسلم ويجعلها نافلة إن كانت غير ثنائية، وإن كانت فهو كمن ذكر المنسية بعد أن صلى أربعًا، فإنه يُسَلم ويكون كمَن ذَكر بعد أَنْ سلم، وإن ذكر في الثالثة قبل عَقْدِها رجع إلى الجلوس وسلم، وبعد عقدها قال مالك: يصلي الرابعة، ثم يصلي المنسية ويُعيد هذه. وقال ابن القاسم: يقطع بعد ثلاثٍ أحب إلى. وإن كانت مغربًا فقد تَمَّتْ، وصار كالذاكرِ بعد سلامه، قاله المازري.

فَإِنْ كَانَ إِمَاماً قَطَع أيضاً، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: يَسْرِي فَلا يَسْتَخْلِفُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: رَجَعَ عَنْهُ. وَرَوَى أَشْهَبُ: لا يَسْرِي فَيَسْتَخْلِفَ، وَإِنْ كانَ مَامُوماً تَمَادَى. وَفِي وُجُوبِ الإِعَادَةِ قَوْلانِ ..... أي: أن حكم الإمام إذا ذكرَ صلاة القطعُ، فالْمَشْهُورِ سريانُ الفساد إلى صلاة المأمومين؛ فلا يستخلف. وروى أشهب: لا يسري. والضمير في: (رَجَعَ) راجعٌ إلى مالك. فائدة: قاعدة المذهب –في القول الْمَشْهُورِ– كلما بطلتْ صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، إلا في مسألتي نسيانِ الحَدَثِ وسَبْقِه. وقوله: (وَإِنْ كانَ مَامُوماً تَمَادَى) أي: مُطْلَقاً لحَِقِّ الإمام. ابن عبد السلام: والتمادي مشكلٌ– على رأي مَن يُوجب الإعادةَ– إذْ فيه مراعاةُ حقِّ الإمامِ بالتمادي على صلاة فاسدة يجب على المأموم إعادتها، ولا حق للإمام في ذلك. وبالجملةِ فأكثرُ مسائل هذا الفصل قال بعض الشيوخ: إنها جَارِيّةٌ على الاستحسان. انتهى. فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ فَالْمَذْهَبُ: يُعيد ظُهْراً. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ خَافَ فَوَاتَهَا تَمَادَى وَلا إِعَادَةَ لِفَوَاتِهَا، وَإِلا قَطَعَ وَقَضَى وَلَحِقَ .... أي: فإن كان المأمومُ الذاكرُ للصلاةِ في صلاةِ جمعةٍ فإنه يتمادى مع الإمام ويُعيد ظهرًا، وهذا يَدل على أنها بدل من الظهر. وقال أشهب: إنما يَتمادى إذا خاف فواتها، ولا يُعيدها ظُهرًا؛ لأن الظهر صلاةٌ أخرى. وإليه أشار بقوله: (وَلا إِعَادَةَ لِفَوَاتِهَا) أي: لأن الجمعةَ فرضُ يومِها وقد فَرغت، وإنْ لم يَخَفِ الفواتَ قَطَعَ، وصلى الفائتةَ، ودخل مع الإمام، وفي نَقلِه لقولِ أشهبَ نقصٌ؛ لأنَّ ظاهرَه نفيُ الإعادة جملةً. وقال أشهب: إنْ أعاد ظُهرا فحسنٌ، نقله ابن يونس.

فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْجُمُعَةِ فَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ: يُعيد فِي الْوَقْتِ. وَرَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَيْهِ ...... قولُ ابن القاسم المرجوعُ عنه شبيهٌ بقولِ أشهبَ في الفرعِ السابق، ومنشأُ الخلاف: هل الجمعةُ بدلٌ مِن الظهرِ أو فرضُ يومِها؟ وَفِي وُجُوبِ تَرْتِيبِ كَثِيرِ الْفَوَائِتِ قَوْلانِ. وَلا تُقَدَّمُ إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ اتِّفَاقاً، وَتُقْضَى أي: اختُلف في وجوبِ ترتيبِ كثيرِ الفوائتِ مع الحاضرة على قولين، والْمَشْهُورِ سقوطُ الوجوب. وقوله: (وَلا تُقَدَّمُ إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ اتِّفَاقاً) أي: لا يقدم الكثير من الفوائت على الحاضرة إذا ضاق وقتُ الحاضرة. وحاصلُه أن الشاذ إنما يقول بوجوب ترتيبِ كثيرِ الفوائت مع سعةِ الوقتِ، وفي كلامِه نظرٌ لمَا نقلَه اللخميُّ، ولفظه: وقال محمد بن مسلمة: يَبدأ بالمنسيات– وإنْ كثرتْ– إذا كان يأتي بجميعِها مرةً واحدةً. قال: ولو أنَّ رَجلاً صلى جُنبًا شهرين– ولم يعلم– فإنه يَبتدئ بها – قَبْلَ صلاةِ يومِه وإن خرجَ وقتُها– إذا كان لا يُفارقها حتى يصلي جميعها. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا كانت صلوات كثيرة– فإن صلاها كلها فاته وقت الحاضرة– فإنه يصلي بعض تلك الصلوات، فإذا خاف فواتها صلاها ثم صلى ما بقي. انتهى. فقول ابن مسلمة ينقض الاتفاق الذي ذكره المصنف، وقد ذكر ذلك المازري، والله أعلم. قال اللخمي: واختلف إذا ذكر صلوات كثيرة، وهو في أول وقت التي هو فيها، في أول وقت الظهر أو العصر، فقال ابن القاسم: إذا كان يقدر على أن يصلي ما نسي والظهر والعصر قَبْلَ الغروبِ بَدَأَ بما نَسِيَ، وإِلا بَدَأَ بالحاضرةِ. واختلف النقلُ عن مالك، فرُوي عنه كذلك، ورُوي عنه أنَّ المُرَاعَى الاصفرارُ. وقال أشهب وابن حبيب: المراعى في ذلك الوقت المختار، انتهى. قوله: (وَتُقْضَى) نَبَّه فيه على خلافِ أهلِ الظاهرِ في قولهم: أنه يسقط القضاء عن العامد. وهو لازمٌ؛ لقولِ ابنِ حبيبٍ القائلِ بتكفيرِ تاركِ الصلاةِ، على أنَّ بعضَهم نَسَبَ السقوطَ مع العمدِ لمالكٍ، لكنْ أنكر عياضٌ نسبتَه إليه.

وَيُعْتَبَرُ فِي الْفَوَائِتِ يَقِينُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ شَكَّ أَوْقَعَ أَعْدَاداً تُحِيطُ بِجِهَاتِ الشُّكُوكِ مقتضى كلامه أنه لا يُكتفى فيه بالظن، وهو الأصلُ؛ لأن الصلاةَ في الذمةِ بيقينٍ، فلا تَبرأ الذمةُ منها إلا بيقينٍ. وقوله: (فَإِنْ شَكَّ) أي: في الإتيان، أو في الأعيان، أو في الترتيب. فَلَوْ نَسِيَ صَلاةً- لا بِعَيْنِهَا- صَلَّى خَمْساً لأن الشكَّ لا يَزول إلا بالخَمْسِ. فَإِنْ عَلِمَ عَيْنَهَا دُونَ يَوْمِهَا صَلاهَا، وَلا يُعْتَبَرُ عَيْنُ الأَيَّامِ اتِّفَاقاً أي: عَلم عينَ الصلاةِ بأنها ظهر أو عصر– مَثَلاً – صَلاها، ولم يُعْتَبَرْ عينُ الأيام اتفاقًا؛ أي: لا يطلب من المكلف تكرار الصلاة بحسب عدد أيام الأسبوع بالاتفاق؛ لأنه– وإن كرر تلك الصلاة– فلا يحيل في نيته إِلا على يومٍ مجهولٍ، وإن كان لا بُدَّ مِن الإحالةِ على جهالةٍ فلا فائدةَ في التَّكرار. وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَعْيَانَ بَعْضِهَا، وَنَسِيَ التَّرْتِيبَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَخُرِّجَ [60/ب] اعْتِبَارُهُ مِنَ الشَّاذِّ فِيمَنْ نَسِيَ ظُهْراً وَعَصْراً مِنْ يَوْمَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ لا يَدْرِي مَا السَّابقَةُ مِنْهُمَا يُصَلِّي ظُهْراً وَعَصْراً ثُمَّ عَصْراً وَظُهْراً، وَالصَّحِيحُ: يُصَلِّيهِمَا وَيُعيد الْمُبْتَدَأَةَ فَيَسْتَوْعِبُ التَّقْدِيرَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْيَوْمَانِ اتِّفَاقاً .... الضمير في (بَعْضِهَا) عائد على الأيام؛ أي: إذا علم الصلاة وشَكَّ، هل هي من الخميس أو من الجمعة لزمه الخمسُ أيضاً، كما لو لم يعلم ذلك، ولا يمكن عوده على الصلوات؛ إذ لا معنى له هنا؛ لأنه إذا علم أن عليه صلاة الظهر مثلاً وصلاةً أخرى غيرَ معيَّنة فلا إشكال أنه يصلي الظهرَ وصلاةً يومٍ كامل.

قوله: (وَخُرِّجَ اعْتِبَارُهُ مِنَ الشَّاذِّ) أي اعتبار تعيين الأيام، أي يُطلب من المكلف الصلاةُ مُضافةً إلى يومها. ومُقابلُ الْمَشْهُورِ هو التخريج المذكور، وتصورُ القولين اللذين ذكرهما المصنف فيمن نسي ظهرًا وعصرًا ظاهرٌ. ووقع في بعض النسخ بعد: لا يدري لفظة ما، وهي تحتمل أن تكون زائدة، أو مصدرية، أو استفهامية، وفي بعضها بإسقاطها. وفي المذهب قول ثالث فيمن نسي ظهرًا وعصرًا من يومين معينين لا يدري ما السابقة منهما، فيكتفي بصلاة ظهر وعصر فقط، وهو أظهر؛ لأن ترتيب المفعولات إنما يطلب في الوقت، فإذا خرج الوقتُ سقط، والفرضُ أن الظهر والعصر فائتتان، فإذا صلاهما فلا وجه للإعادة. وطلبُ الصلاة مع تعيين يومها مشكلٌ؛ لأنه لو طُلب ذلك مع تعيين الأيام لطلب مع عدمه، فلا يطلب ذلك بالاتفاق كما حكاه المصنف، وإنما قلنا: لو طُلب مع التعيين لطلب مع عدمه؛ لأن نية إيقاع الصلاة في يومها المعين إما أن يكون معتبرًا شرعًا أم لا؟ فإن كان معتبرًا شرعًا لزم ذلك في المعلوم والمجهول، وإن لم يكن معتبرًا سقط فيهما. وقد يفرق بأنه لو طلب ذلك مع عدم التعيين للزم الحرجُ؛ لأنه كان يلزم تكرار صلاة جميع الأيام الماضية من عمره إلى الأيام التي يتيقن أنه أتى بجميع صلواتها. وَضَابِطُهُ أَنْ تَضْرِبَهَا فِي أَقَلَّ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، ثُمَّ تَزِيدُ وَاحِدةً؛ فَفِي الثَّلاثِ يُصَلِّي سَبْعاً، وَفِي الأَرْبَعِ ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَفِي الْخَمْسِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ... أي: وضابط هذا الترتيب أن يضرب الصلوات المنسيات في أقل منها بواحدة، ثم تزيد صلاة واحدة، فإذا نسي ثلاث صلوات من ثلاثة أيام لا يدري ما السابقة منهن يصلي سبعًا؛ لأنه يضرب ثلاثة في اثنين، فيكون الحاصل سِتًا، ثم يزيد واحدة، ويبدأ بالظهر اختيارًا. وقيل: بالصبح.

فَإِنِ انْضَمَّ شَكَّ فِي الْقَصْرِ فَالصَّحِيحُ- وَرَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ-: يُعيد كُلَّ حَضَرِيَّةٍ عَقِيبَهَا سَفَرِيَّةً عَلَى مَا ذُكِرَ فَتَتَضَاعَفُ الْحَضَرِيَّاتُ، وَالصَّحِيحُ الاسْتِحْبَابُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَصْرِ ..... أي: فإن انضم إلى ما تقدم الشكُّ في القصر، أي شك في الظهر والعصر مثلاً من يومين معينين لا يدري السابقة منها، وشك هل الظهر سفرية أم العصر؟ فإنه يصلي ست صلوات، لكن اختلف في صورة ترتيبها، والصحيح– على ما ذكر المصنف– أن يصلي ظهرًا حضرية، ثم ظهرًا سفرية، ثم عصرًا حضرية، ثم هي سفرية، ثم ظهرًا حضرية، ثم هي سفرية، وإن بدأ بالعصر فعلى ذلك. ومقابل الصحيح: يحتمل أن يصلي ظهرًا حضرية، ثم عصرًا سفرية، ثم عصرًا حضرية، ثم ظهرًا سفرية، ثم ظهرًا حضرية، ثم عصرًا سفرية، فيقع له صلاة حضر بين صلاتي سفر، وبالعكس. وهذا القول حكاه أبو محمد عن بعض الأصحاب، ويحتمل أن يريد أن يصلي ظهرًا وعصرًا تامتين، ثم مقصورتين، ثم تامتين، وهو الذي ذكره المازري عن ابن القاسم في العتبية. المازري: وذكر ابن حارث قول ابن القاسم هذا فيما إذا شك هل الظهر والعصر سفريتان أم حضريتان؟ وليس كما نقل، بل ذكر في المستخرجة أنه يعلم أن إحداهما سفرية والأخرى حضرية، ولا يدري ما السفرية منهما، وقد أطال المازريُّ النفسَ في هذه المسألة، فانظره. وقوله: (عَلَى مَا ذُكِرَ) أي: على القانون المتقدم. وفي هذه الأقوال إشكال؛ لأن إعادة من أتم في السفرية مستحبةٌ في الوقت، ولا وقت هنا، فالذي يأتي على أصل المذهب أن يصلي الحضريات ليس إلا. وفي قوله: (فَتَتَضَاعَفُ الْحَضَرِيَّاتُ) إشكال؛ لأنه إذا صلى ثلاثًا صلاة سفر، وثلاثًا صلاة حضر لم تحصل مضاعفة البتة.

وأجيب بأنه لمَّا كان من الصلوات ما لا يُقصر كالمغرب والصبح كثرت الحضرياتُ حينئذ، ويكن مراده بالتضعيف مطلق الكثرة. وقيل: المراد تتضاعف الحضريات، وفيهما بُعْدٌ. وقوله: (وَالصَّحِيحُ الاسْتِحْبَابُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَصْرِ) أي: إعادة الحضرية سفرية ليس بواجب، وإنما هو مستحب على ما يأتي في بابه إن شاء الله. وقوله: (عَلَى الْقَوْلَيْنِ) أي: على الْمَشْهُورِ من أن القصر سنة، وعلى القول بأنه مستحب، وعلى هذا ففيه نظر؛ لأن قياس المشهور أن تكون الإعادة سنة، إِلا أن يكون تجَوَّزَ بإطلاق المستحب على السنةِ، وإنما اختص الاستحباب بهذين القولين؛ لأنه على القول بالتخيير يصلي صلاتي حضر، وعلى القول بالوجوب تكون الإعادةُ واجبةً– والله أعلم– وإلى هذا أشار ابن بشير. ولَوْ نَسِيَ صَلاةً وَثَانِيَتَهَا وَلَمْ يَدْرِ مَا هُمَا صَلَّى سِتَّاً مُرَتَّبَةً الذي تقدم له في الضابط إذا علم أعيان الصلاة وجهل الترتيب فيها، وهذا بالعكس، عَلمَ الترتيبَ وجهل أعيانَها. ويُصلي ستًا؛ يعني: ويختم بأي صلاة بدأ بها، ويبدأ بالظهر اختيارًا؛ لأنهما إن كانتا ظهرًا وعصرًا، أو عصرًا ومغربًا، أو مغربًا وعشاء، أو عشاء وصبحًا، أو صبحًا [61/ أ] وظهرًا، فقد أتى بهما. ولَوْ نَسِيَ صَلاةً وَثَالِثَتَهَا صَلَّى سِتّاً يُثَنِّي بِثَالِثَتِهَا، وَفِي رَابعَتِهَا برَابِعَتِهَا، وَفِي خَامِسَتِهَا بِخَامِسَتِهَا، فَلَوْ نَسِيَ صَلاةً وَسَادِسَتَهَا فَهُمَا مُتَمَاثِلَتَانِ مِنْ يَوْمَيْنِ فَيُصَلِّي الْخَمْسَ مَرَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ حَادِيَةَ عَشْرَتِهَا وَسَادِسَةَ عَشْرَتِهَا تصورها ظاهر لمن تأمله.

سجود السهو

وَللسَّهْوِ سَجْدَتَانِ، وَفِي وُجُوبِهِمَا قَوْلانِ أطلق- رحمه الله- الخلافَ في وجوبهما، والخلافُ إنما هو في اللتين قبل السلام. وأما اللتان بعد السلام فلا خلاف في عدم وجوبهما. قال في الإشراف: ومقتضى مذهبنا وجوب القبلي. قال: وكان الأبهري يمتنع من إطلاق الوجوب. وقال المازري: ذكر القاضي أبو محمد أنه يتنوع لواجب وسنة، ومعناه: أن البَعدي سنة، والقبلي واجب، على قولنا: إنه إن أخّر ما قبل السلام بعد السلام تأخيرًا طويلاً فسدت الصلاة. ابن عبد السلام: والتحقيق عدم وجوبه؛ لأن سببه غير واجب. خليل: وقد يُعترض عليه بوجوب الهدي في الحج عما ليس بواجب. فَفِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ السَّلامِ، وَفِي النُّقْصَانِ وَحْدَهُ- أَوْ مَعَهَا- قَبْلَهُ، وَرُوِيَ التَّخْييرُ دليل الزيادة: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ذي اليدين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين في إحدى صلاتي العَشِيِّ ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، وخرجت السَّرَعانُ من أبواب المسجد فقالوا: قُصِرَت الصلاة. وفي القوم أبو بكر، وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم عليه الصلاة والسلام فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتين بعد السلام)). ودليل النقصان: حديث ابن بُحينة، قال: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من اثنتين ولم يجلس، فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل السلام))، قال ابن أبي حازم، وعبد العزيز بن أبي مسلمة: يسجد لهما سجدتين قبل وبعد.

وقوله: (وَرُوِيَ التَّخْييرُ) يعني: إن شاء سجد قبل أو بعد، كان السبب زيادة أو نقصانًا أو هما معًا، وهذا القول حكاه اللخمي. وَسُجُودُ الْمُتِمِّ للِشَّكَّ بَعْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: الذي يشك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا فإنه يبنى على ثلاث، ويصلي أخرى، ويسجد بعد السلام؛ لانحصار أمره في الزيادة وعدم النقص. فقال ابن لبابة: يسجد للزيادة بعد السلام إلا في هذه الصورة فإنه يسجد قبل، لحديث أبي سعيد الخدري، وهو الصحيح. وَفِي سُجُودِ الْمُوَسْوِسِ: قَوْلانِ، ثُمَّ فِي مَحِلِّهِ: قَوْلانِ القولان في السجود لمالك، و (الْمُوَسْوِسِ) هو الذي تكثر عليه الشكوك، والقول بأن محله بعد السلام رواه ابن القاسم، والقول بأن محله قَبْلَ السلام لابن حبيب. وَفِي تَشَهُّدِ الْقَبْلِيَّةِ رِوَايَتَانِ الْمَشْهُورِ إعادة التشهد وهو اختيار ابن القاسم، وهو الذي يؤخذ من الرسالة، والعمل عليه الآن ببلاد المغرب، ووجهه أن من سنة السلام أن يكون عقب تشهد. والقول بعد إعادته لمالك أيضاً، وذكر في الجلاب أنها رواية ابن القاسم عنه، واختارها عبد الملك، ووجهه أن سنة الجلوس الواحد ألا يتكرر التشهد فيه مرتين. وَفِي سِرِّ سَلامِ الْبَعْدِيِّةِ قَوْلانِ القولان لمالك، وروى ابن القاسم وابن زياد عنه أن السلام منهما كالسلام من الفريضة. وروى غيرهما أنه يسره كالسلام من الجنازة. ابن عبد السلام: وهذا– والله أعلم– لغير الإمام، وأما الإمام فيجهر به ليقتدي به.

وفي ذِكر المصنف الخلافَ في صفة السلام إشعارٌ بأن ثبوت السلام متفق عليه، وهو كذلك. وأُخِذَ مِن قوله في المدونة إذا انتقض وضوؤه قبل السلام منهما أنه إِن لم يُعِدْهُما فلا شيء عليه عدمُ اشتراط السلام للبعدي، وفيه نظر. وَفِي الإِحْرَامِ لِلْبَعْدِيَّة، ثَالِثُهَا: يُحْرِمُ إِنْ سَهَا وَطَالَ قال ابن عطاء الله: الْمَشْهُورِ افتقاره إلى الإحرام. وأطلق، قال: لاستقلاله بنفسه. ونفيُ الإحرام مطلقاً لمالك في الموازية. والثالث: لابن القاسم في المجموعة. وما حكاه المصنف مِن الخلاف مطلقاً موافقٌ لِلَّخمي، مخالفٌ لابن يونس والمازري، فإنهما لم يحكيا الخلاف إلا مع الطول. ابن راشد: ويصحح نقل المصنف ما قاله محمد: كل من رجع إلى إصلاح صلاته فيما قرب يرجع بإحرام، قال: فإذا قلنا يحرم فيكتفي بتكبيرة الإحرام عن تكبيرة الهُوِيِّ، لما في الموطأ من حديث ذي اليدين: فصلى ركعتين أخريين، ثم كبر فسجد بعد. وذلك يقتضي أنه كبر تكبيرة واحدة. وفيه من طريق هشام بن حسان أنه كبر ثم كبر، قال الناس: وذلك وهم، انتهى. وَعَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَحِلِّ، وَالْوُجُوبِ لَوْ قَدَّمَ أَجْزَأَهُ. وَقِيلَ: يُعيدهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يَبْطُلُ عَمْدُهُ ...... (الْوُجُوبِ) معطوف على (الْمَشْهُورِ) لا على (الْمَحِلِّ)؛ لأنه لم يتقدم له مشهور في الوجوب، وقد تقدم أنه إنما اختلف في وجوب القبلي، وعلى هذا يشكل قوله: (لَوْ قَدَّمَ أَجْزَأَهُ)؛ لأن المسألة مفروضة في السجود البعدي وليس فيها قول بالوجوب. والقول بأنه يُعيده بعد السلام لابن القاسم في العتبية، يريد إذا فعله سهوًا، كذا قيده في العتبية. [61/ب] قال في البيان: ويلزم عليه إعادة العامد والجاهل. وكذا نص أشهب أنه يُعيد

الصلاة إذا قدمه جاهلاً أو عامدًا. وفي الموازية: لا إعادة عليه للسجود بعد السلام إذا سجد قبله ناسيًا أو متعمدًا؛ مراعاة للخلاف. واختلف الشيوخ في تأويل المدونة مجملها في البيان على نفي الإعادة مطلقاً. وجعل ابن لبابة رواية عيسى بالفرق بين الناسي والعامد تفسيرًا للمدونة، قال في البيان: وإنما هو خلاف. فَلَوْ أَخَّرَهُ فَأَوْلَى بالصِّحَّةِ أي: فإن أخر السجود القبلي إلى بعد السلام فالصحةُ فيه أولى من الصحة في الفرع الذي قبله. ووجه الأولوية أن المنافاة في الأولى أظهرُ لإدخال ما ليس من صلب الصلاة فيها، وكذلك قال أشهب بالإبطال عمدًا، ولا كذلك هنا. وبهذا يندفع قول ابن عبد السلام: في هذه الأولوية نظر. ثم قال: وانتظر معنى المسألة فيمن أخّر عمدًا أو سهوًا، أو عمدًا فقط. وقد نص ابن المواز على مَن سلم ساهيًا قبل السجود القبلي أنه يرجع بنية وتكبيرة كما يرجع للسجود الذي هو صلب الصلاة، والمدونة عندي محتملة لذلك. انتهى. فَإِنْ سَهَا عَنِ الْبَعْدِيَّةِ سَجَدَ مَتَى مَا ذَكَرَ، وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ قوله: (مَتَى مَا ذَكَرَ) نحوه في المدونة. وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أن السهو إن كان من فريضة سجد في كل وقت، وإن كان من نافلة فلا يسجد في وقتٍ تكره فيه النافلة. واختلف هل هو تفسير للمدونة أو خلاف؟ قال ابن القاسم في العتبية: وإن ذكر وهو قائم فلا يهوي ساجداً بل يقعد ويتشهد. فإن قلت: لِمَ أمر به ولو بعد شهر وليس هو بفرض، والقاعدة أن النافلة لا تقضى؟ فالجواب أنه لما كان جابرًا للفرض أمر به لتبعيته لا لنفسه.

ابن هارون: ولا أدري لم أنث القبلية والبعدية، ولا يصح أن يريد الجلسة من السجود كما ذهب إليه بعضهم؛ لأنه لم يَسْهُ عنه بانفراده، وإنما سها عن السجود جملة. فَإِنْ كَانَ فِي صَلاةٍ فَبَعْدَهَا أي: فإن ذكر البعدي وهو في صلاة. وكلامه ظاهر. فَإِنْ سَهَا عَنِ الْقَبْلِيِّ سَجَدَ مَا لَمْ يَطُلْ أَوْ يُحْدِثْ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَثَالِثُهَا: تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنِ نَقْصِ فِعْلِ لا قَوْلٍ. وَرَابِعُهَا: تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنِ الْجُلُوسِ أَوِ الْفَاتِحَةِ. وَخَامِسُهَا: تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ تَكْبِيرَتَيْنِ، أَوْ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَرَّتَيْنِ .... يعترض عل المصنف بذكر الحدث من وجهين: أحدهما: أن قوله: (مَا لَمْ يَطُلْ) يُجزئ عنه؛ لأنه إذا أحدث افتقر إلى الوضوء فيطول الأمرُ بفعله. الثاني: تخصيصه الحدث بهذا الحكم – من بين سائر الموانع – لا معنى له؛ لأنه لو تكلم أو لمس نجاسة أو استدبر القبلة عامدًا كان حكمُ ذلك حكمَ الطول، والطولُ معتبرٌ عند ابن القاسم بالعرف. وقال أشهب: بالخروج مِن المسجد. قيل له: فلو كان في صحراء؟ قال: يسجد ما لم يجاوز من الصفوف قدر ما لا ينبغي أن يصلي بلاتهم. قال: وهو استحسان. قال: والقياس أن يسجد ما لم ينتقض وضوؤه. وهذا الخلاف أيضاً فيمن نسي ركعة أو سجدة، وحيث أمرناه أن يسجد مع القرب، فقال ابن المواز: يسجد في موضعِ ذَكَرَ، إلا أن يكون عوضاً عن متروكٍ من صلاة الجمعة، فلا يُجزئ إلا في الجامع. نقله الباجي. وقوله: (فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا) أي: الطول أو الحدث، وكان تامَّة، وذكر خمسة أقوال: الصحة مطلقاً، حكاه ابن الجلاب عن بعد الملك. وحكاه اللخمي والمازري عن ابن عبد الحكم، وزاد فيه: ولو كان على الجلوس الأول أو الفاتحة.

والبطلان مطلقاً لابن القاسم. والثالث: رواه ابن عبد الحكم عن مالك في المختصر. وقوله في الرابع: (تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنِ الْجُلُوسِ) أي: الوسط. (أَوِ الْفَاتِحَةِ) أي: في قول من يرى سجود السهو كافيًا عنها، وهو قول ابن القاسم في المختصر. والخامس: لمالك، وحاصلهُ التفرقة، فإن كان عن سُنتين– كتكبرتين– لم تبطل لخفة الأمر، وإن كان عن ثلاثٍ كالجلسة الوسطى، أو ثلاث تكبيرات أبطل، وبه كان يفتي غير واحد، وهو مذهب المدونة، والرسالة. ووقع في بعض النسخ بإثر الكلام المتقدم: وفرق فيها بين مرتين وثلاثًا، أي: كالقول الخامس، قال فيها: وإن ترك تكبيرتين أو التشهدين فليسجد قبل السلام، وإن لم يسجد حتى تطاول الأمر أو انتقض وضوؤه أجزأته صلاته، وإن نسي ثلاث تكبيرات، أو سمع الله لمن حمده سجد قبل السلام، وإن نسي أن يسجد حتى سلم سجد بالقرب، وإن تطاول ذلك أعاد الصلاة. قال المازري: وسبب الخلاف أن من اعتبره بحال ما هو عوض عنه لم يبطل الصلاة؛ لأنه عوضٌ عن متروك ليس بواجب. وإلى هذا كان يميل بعض أشياخي المحققين. ومَن أبطل الصلاة به مطلقاً إذا طال فإنه لم ينزله منزلة ما هو عوض عنه، ولا يبعد أن يكون ترك مندوبًا علمًا على وجوب فعل آخر، ومن فصّل اعتبر الجزء المتروك وخفته. انتهى. فرع: ابن راشد: فإذا قلنا بالصحة فهل يكونان كسجدتي الزيادة يسجدهما متى ما ذكر، أو يسقطان؟ قولان: ففي التفريع: إن كانتا عن ترك قولٍ أو صفة قول سجد متى ما ذكر، طال أو لم يطل. ورأيت في اللباب عن ابن القاسم أنه قال بالسقوط فيما لم ير فيه إعادة، قال: ووجهه أنها سنة مرتبطة بالصلاة وتابعةٌ، ومِن حُكم التابع أن يُعطى حكم المتبوع [62/ أ]

بالقُرب، فإذا بَعُدَ لم يُلْحَقْ به. انتهى. وحكى بعضهم عن محمد بن عبد الحكم أنه يسجد متى ما ذكر كالبعدي. فَإِنْ كَانَ فِي صَلاةٍ وَحُكِمَ بِبُطْلانِ الأُولَى فَهُوَ كَذَاكِرِ صَلاةٍ، وإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلانِهَا لِسَهْوٍ وَانْتِفَاءِ طُولٍ وَحَدَثٍ فَهُوَ كَتَارِكِ بَعْضِ صَلاةٍ. أي: فإن ذَكَرَ السجود القبلي وهو في صلاة، فإن قلنا بالبطلان فذلك بمنزلة مَن ذكرة صلاةً في صلاةٍ، وقد تقدم، وإن لم نَقُل ببطلان الأُولى لسهوٍ، أي: لم يتعمد ترك السجود في محله فهو كذاكرِ بعض صلاة؛ أي: فيكون ذلك البعض فرضًا. ثم ذكر حكم تارك بعض الصلاة فقال: وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، فَرْضٌ فِي فَرْضٍ: إِنْ طَالَ بَطَلَتْ، وَيُعْتَبَرُ الطُّولُ بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ: بِعَقْدِ الرَّكْعَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَإِلا أَصْلَحَ الأُولَى. نَفْلٌ فِي نَفْلٍ: إِنْ طَالَ تَمَادَى، وَإِلا فقَوْلانِ. فَرْضٌ فِي نَفْلٍ: كَالأُولَى، وَقِيلَ: تَبْطُلُ الأُولَى مطلقاً. نَفْلٌ فِي فَرْضٍ: يَتَمَادَى عَلَى الأَصَحِّ .... أي: ولمَن ذكر بعضَ صلاة في أخرى. وقوله: (فَرْضٌ فِي فَرْضٍ) أي: يَذكر السجودَ مِن صلاة فريضة وهو في صلاة فريضة أخرى، وتقديره: فرضٌ مذكورٌ سجودُه في فرضٍ. وفي حَدِّ الطُّولِ أربعة أقوال: أحدها: أنها تبطل إذا أطال القراءة في الثانية أو ركع، وهو لابن القسم في المدونة، ولم يتعرض له المصنف وكان حقه أن يذكره، ولفظها: فإن كانت القبليتان من فريضة فذكرهما بقرب صلاته رجع إليهما بغير سلام، وإن أطال القراءة في هذه أو ركع بطلت الأولى، فإن كانت هذه الثانية نافلة أتمها، وإن كانت فريضة قطعها، إلا أن يعقد منها ركعة فيشفعها استحبابًا، ثم يصلي الأولى ثم الثانية.

الثاني: أن المعتبرَ الطولُ، فلا تبطل إذا ركع ركعة خفيفة إلا أن يطول فيها، لابن وهب. الثالث: أنه إن صلى ركعة كان مخيرًا بين القطع لإصلاح الأولى، أو يمضي على صلاته، رواه ابن وهب عن مالك. والرابع: أنه يرجع وإن صلى ثلاث ركعات، حكاه ابن بشير. قوله: (وَقِيلَ: بِعَقْدِ الرَّكْعَةِ) هو الخامس، وحكاه ابن بشير أيضاً ولم يَعْزُه. وأل في القولين للعهد، وهما ما تقدم، هل عقد الركعة برفع الرأس أو بوضع اليدين؟ وقوله: (وَإِلا أَصْلَحَ الأُولَى) أي: وإن لم يطل رجع وأصلح الأولى، ويسجد بعد السلام. فإن قيل: كيف قال: وإن طال بعد أن فرضها فيما إذا لم يطل؟ قيل: الطول المنفي أولاً الطولُ في غير الصلاة، والطول الثاني باعتبار ما إذا تلبَّس بصلاةٍ أخرى، ولهذا أطلق في الطول أوَّلاً، وذكر الخلاف ثانيًا، والله أعلم. وقوله: (نَفْلٌ فِي نَفْلٍ: إِنْ طَالَ تَمَادَى) أي: ولا قضاء عليه للأُولى؛ لأنها قد بطلت سهوًا، والأصل في النافلة– إذا بطلت على غير وجه العمد – أنه لا يلزمه قضاؤها. وإن لم يطل فقولان. قال في المدونة: يرجع إلى الأولى ما لم يركع؛ يعني: أو يطول القراءة كما في الفرض. قال في المدونة: ثم يبتدئ التي كان فيها إن شاء. والقول بالتمادي مطلقاً حكاه ابن بشر، ووجهه أنه لا يصح له ولا نافلة منهما. وقوله: (فَرْضٌ فِي نَفْلٍ: كَالأُولَى) أي: فإن طال بطلت. ويقع في بعض النسخ كالأول؛ أي: كالوجه الأول أو كالقسم الأول.

وقوله: (تَبْطُلُ الأُولَى مطلقاً) لأن مضادة نية النافلة بالفريضة أقوى من مضادة نية الفريضة للفريضة، وهذا قول مالك في مختصر ما ليس في المختصر. وقال أشهب: يرجع إلى المكتوبة ولو صلى سبع ركعات. وكذلك قال مطرف فيمن نسي السلام من مكتوبة وأحرم لنافلة أنه يرجع إلى المكتوبة وإن طال، ورأى أن حرمة الصلاة باقية إذا لم يسلم منها، وكذلك وافق على مسألة المصنف. قوله: (نَفْلٌ فِي فَرْضٍ: يَتَمَادَى عَلَى الأَصَحِّ) الأصح لابن القاسم حكاه عنه ابن المواز. وقال ابن عبد الحكم: يرجع إلى إصلاح النافلة. وأطلق في القولين. وقال بعضهم: إن طال فليس إلا التمادي على الفريضة. وهو الظاهر. وحيث قلنا يرجع إلى الأولى فإنه يرجع بغير السلام، والله أعلم. تنبيه: ما تقدم من لفظ المدونة اختلف في تأويله الشيوخ: فحمله أبو عمران وعبد الحق على ظاهره من الفرق بين الفريضة والنافلة، وأنه يقطع في الفريضة ما لم يركع، ويمضي في النافلة مطلقاً، وقد نص في الموازية على ذلك، وذهب غيرهما إلى أن في قوله في الفريضة بعد عقد ركعة يشفعها استحبابًا إشارة إلى جواز القطع أيضاً بعد عقد ركعة، وهو خلاف ما تقدم له في المدونة فيمن ذكر فريضة في فريضة، أنه إن عقد ركعة أكملها نافلة، وإنما اختلف قوله إذا لم يعقد ركعة. وتقدم له أيضاً أنه إذا ذكر فريضة في نافلة أنه إن لم يعقد ركعة قَطَعَ، وإن عقد فقولان. وظاهرُ كلامه هنا التمادي مطلقاً، فذهب بعضهم إلى أن قوله هنا خلاف ما تقدم له في الفرض والنفل. قال في التنبيهات: وذهب بعضهم إلى أن قوله لا يختلف هنا بعد عقد الركعة في الفرض والنفل. قال في التنبيهات: وذهب بعضهم إلى أن قوله لا يختلف هنا بعد عقد الركعة في الفرض والنفل، إلا بعد ثلاث في الفرض أنه يشفع لاتساع الوقت هنا، بخلاف الفائتة التي ذكرها في صلاته؛ لأن تلك قد ضاق وقتها، فلذلك اختلف هنالك قوله بالقطع أو بالخروج عن شفع. انتهى.

سَبَبُهُ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ يريد: أوْ هما معًا. فَكَثِيرُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاةِ مُبْطِلٌ مطلقاً، وَإِنْ وَجَبَ كَقَتْلِ مَا يُحَاذَرُ وَإِنْقَاذِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ...... أي: فكثير الفعل من غير جنس الصلاة، وأما من جنسها فسيأتي. وقوله: (مطلقاً) أي: ولو سهوًا، كذا حكى ابن بشير، [62/ ب] وهو ظاهر كلام ابن شاس. قال الباجي: العمل في الصلاة على ثلاثة أضرب: أحدها: اليسير جدًا كالغمزة، وحك الجسد، والإشارة، فهذا لا يُبطل الصلاة لا عمدُه ولا سهوه، وكذلك المشي إلى الفُرج القريبة. وثانيها: ما كان أكثر من ذلك فيُبطلها عَمْدُه لا سهوه، كالانصراف. واختلف أصحابنا في الأكل والشرب، فقال ابن القاسم: يُبطل الصلاة عمده وسهوه. وقال ابن حبيب: لا يبطلها إلا أن يطول جدًا كسائر الأفعال. يريد: ويجزئه سجود السهو. وكذلك قال ابن رشد: إذا كان الفعل لا يجوز كأكله وشربه، فقيل: يبطل صلاته. وقيل: يجزئه سجود السهو. وثالثها: الكثير جدًا كالمشي الكثير، والخروج من المسجد فهذا يُبطل عمدُه وسهوه. وقوله: (وَإِنْ وَجَبَ) تأكيد للإبطال؛ لئلا يُتوهم نفي الإبطال مع الوجوب. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون البطلان مع اتساع الوقت، وإذا ضاق بقدر ما يُحاذر فقد يقال أنه يؤدي الصلاة على تلك الحال كالمُسَايَفَةِ، وفي استحباب الإعادة بعد ذلك في الوقت نظر، كمن يخاف أن ينزل عن دابته لخوف لصوص أو سباع، وكذلك إنقاذ النفس في هذا، ولا يبعد إلحاق المال الكثير بهذا. انتهى.

وَالْقَلِيلُ جِدّاً مُغْتَفَرٌ، وَلَوْ كَانَ إِشَارَةً بِسَلامٍ أَوْ رَدٍّ وَنَحَوْهِ أَوْ لِحَاجَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ الأصل في هذا إدارةُ النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس عن يمينه، وإصلاحه صلى الله عليه وسلم رداءه بعد الإحرام، وغمزه لعائشة حين السجود لتضم رجليها. وقوله: (مُغْتَفَرٌ) يريد مع إباحته؛ لقوله: (وَلَوْ كَانَ إِشَارَةًخ فإن المهشور الجوازُ، ومقابِلُ المشهورِ الكراهةُ، رواها علي بن زياد، فإنه روى كراهة السلام على المصلي، ورده بيده أو رأسه. وفصَّل ابن الماجشون فقال: لا بأس بالمصافحة في الصلاة، وبالإشارة برد السلام في المكتوبة، وأما الشيء يعطيه فلا أحبه، وقد يخطيه فيكون ليفهم. نقله صاحب النوادر وغيره. وفصل ابن بشير في القليل جدًا فقال: إن لم تدع إليه ضرورة ولم يكن من مصلحة الصلاة فهو مكروه، وإن كان من مصلحتها أو دعت إليه ضرورة كإنقاذ نفس أو مال أو قتل ما يحاذر لم يكره. وقسَّم في المقدمات اليسيرَ على ثلاثة أقسام: منها ما يجوز كقتل عقرب تريده، ولا شيء فيه. ومنها ما يكره كقتلها وهي لا تُريده، فهذا يتخرج السجود فيه على قولين. ومنها ما يمنع كالأكل والشرب، فهذا قيل: يسجد له. وقيل: تبطل الصلاة. فرع: لو أطال الجلوس أو التشهد أو القيام، فقال ابن القاسم: ذلك مغتفر. وقال سحنون: عليه السجود. وفرق أشهب فقال: إن أطال في محل شرع تطويله كالقيام والجلوس فلا سجود، وإن أطال في محل لا يشرع فيه الطول كالقيام من الركوع أو الجلوس بين السجدتين سجد. قال في البيان: وهو أصح الأقوال.

وَلِذَلِكَ لَمْ يُكْرَهِ السَّلامُ عَلَى الْمُصَلِّي فَرْضاً أَوْ نَفْلاً أي: ولجواز الإشارة بالسلام، وجواز الإشارة بالرد لم يكره السلام على المصلي، سواء كان يصلي فريضة أو نافلة. وَفِيهَا: وَلا يَرُدُّ عَلَى مَنْ شَمَّتَهُ إِشَارَةٌ، وَلا يَحْمَدُ إِنْ عَطَسِ كأنه نسب المسألة إلى المدونة لإشكالها بسبب تفرقتها بينه وبين رد السلام، وكلاهما مطلوب. وفرق بوجهين: الأول: أن رد السلام متفق على وجوبه، والردُّ على المشمِّت مختلفٌ فيه بالوجوب والندب، فلا يلزم من إباحة المجمع عليه إباحة المختلف فيه. والثاني: أن سبب الرد على المشمت منتفٍ؛ فينتفي لانتفاء سببه. وبيانه أن سبب التشميت الحمدُ من العطاس، والمصلى العاطسُ مأمورٌ بترك الحمدِ لاشتغاله بالصلاة، وهذا إنما يتمشى إذا قلنا أن المصلى لا يحمد ربه. قال سحنون، فإنه قال: لا يحمد سرًا ولا جهرًا. ويقرب منه ما قاله في المدونة: لا يحمد الله، فإن فعل ففي نفسه، وتركه خير له. وقيل: يحمد سرًا. وقيل: جهرًا. وَفِيهَا: إِنْ أَنْصَتَ لِمُخْبِرٍ يَسِيراً جَازَ كذا قال ابن بشير، قال: وإن طال الإنصات جدًا أبطل الصلاة؛ لأنه انشغل عن الصلاة، وإن كان بين ذلك سجد بعد السلام. وَابْتِلاعُ شَيْءٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مُغْتَفَرٌ يعني: لعموم الضرورة. قال في المدونة: إن ابتلع حبة بين أسنانه لم تبطل صلاته. وهو يحتمل الإباحة والكراهة، وهو أقرب؛ ولذلك جاء الترغيب في السواك عند كل صلاة خشية التشويش على المصلي بما يبقى بين أسنانه من الطعام.

وَالْتِفَاتُهُ وَلَوْ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ مُغْتَفَرٌ إِلا أَنْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ الالتفات مكروه إلا لضرورة، فأما كراهته فلما في البخاري: عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد))، وفي أبي داود: ((ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في الصلاة ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)). وأما إجازته للضرورة فلفعل أبي بكر – رضي الله عنه – حال التصفيق. وقوله: (وَلَوْ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ) مقيد بما إذا لم ينقل رجليه، وإلا لم يكن مستقبلاً. وَتَرْوِيحُ رِجْلَيْهِ مُغْتَفَرٌ ترويح الرجلين؛ أي: يرفع واحدة ويعتمد على الأخرى. ابن عبد السلام: وهذا إذا كان لطول قيام وشبهه، وإلا فمكروه. انتهى. وظاهر المدونة جوازهُ مطلقاً. فرعان: الأول: كره مالك في المدونة أن يفرق رجليه ويعتمد عليهما، وهو الصفق المنهي عنه. وفسره أبو محمد بأن يجعل حظهما من القيام سواء راتبًا دائمًا. قال: وأما إن فعل ذلك اختيارًا، وكان متى شاء روح واحدة [63/ أ] ووقف على الأخرى فهو جائز. الثاني: قال في المدونة: أكره أن يصلي وكُمُّه محشُوٌّ خبزًا أو غيره، أو يفرقع أصابعه في الصلاة. وكره مالك في العتبية تنقيض الأصابع في المسجد وغيره. وقال ابن القاسم في العتبية: إنما أكرهه في المسجد: قال في البيان: كره مالك ذلك في المدونة في الصلاة خاصة. ولم يتكلم على ما سوى الصلاة، وكرهه مالك هنا في المسجد وغيره وفي الصلاة؛ لأنه من

فعلِ الفتيان وَضَعَفَةِ الناس الذين هم ليسوا على مستٍ حسنٍ. وكرهه ابن القاسم في المسجد دون غيره؛ لأنه من العبث الذي لا ينبغي أن يُفعل في المساجد. انتهى. وأجاز مالك في العتبية تشبيك الأصابع في المسجد إذا لم يكن في الصلاة. قال اللخمي: ولا يعبث المصلي بلحيته ولا بخاتمه. وقيل: لا بأس أن يحوله في أصابعه كلها لعدد ركوعه خوف السهو. ويُكره أن يكون لباسه مما يشغله النظر إليه كعَلمٍ أو غيرِه. انتهى. ولهذا كره مالك في المدونة تزويق القبلة والكتابة فيها. وَمَا فَوْقَهُ مِنْ مَشْيٍ يَسِيرٍ وَشِبْهِهِ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَانْفِلاتِ دَابَّتِهِ أَوْ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَشْيٍ لِسُتْرَةٍ أَوْ فُرْجَةٍ أَوْ دَفْعِ مَارَّ دَفْعاً خَفِيفاً فَمَشْرُوعٌ .... أي: وما فوق القليل جدًا. قال في المدونة: لا بأس أن يشمي فيما قرب بين يديه أو عن يمينه أو عن شماله. قال بعضهم: ويقهقر إليها إن كانت خلفه. فرع: قال في المدونة: فإن تباعدت الدابة قطع وطلبها. قال في البيان: هذا إن كان في سعة من الوقت، وإلا تمادى وإنْ ذهبتْ، ما لم يكن في مفازةٍ، ويخاف على نفسه إن تركها. انتهى. ومن هذا الأسلوب من خُطف رداؤه في الصلاة، أو نحو ذلك. وفي العتبية لمالك: إذا دخلت شاة فأكلت ثوبًا أو عجينًأ، فإن كان في مكتبوبةٍ فليتمادى على صلاته ولا يشتغل بطردها. قال في البيان: ولم يفرِّق مالك بين ما له بال وقدر، وبين ما لا بال له. انتهى. وإلى الفرق بين ذلك ذهب ابن القاسم في سماع موسى عنه، قال: وهو الأظهر عندي. انتهى. ولسحنون في إمامٍ خاف على صبي أو أعمى أن يقع في بئر، أو ذكر متاعًا له خاف عليه التلف أن له أن يخرج لذلك ويستخلف. وقوله: (مَصْلَحَةٍ) أي: من مصالح الصلاة مِن مشيٍ لسترة. ابن عبد السلام: وأكثر عبارات أهل المذهب: الصفان، وربما قالوا: والثلاثة.

وقال أشهب في المارِّ: إن كان قريباً مشى إليه، وإن كان بعيداً أشار إليه ليرجع. ابن عبد السلام: وهذا عندي خلافُ ما قاله ابن العربي أن ليس للمصلي حريم إلا مقدار ثلاثة أذرع، وأن لا إثم عليه فيما بين ذلك. وقوله: (فَمَشْرُوعٌ) جواب ل (إِنْ) وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَإِنْ أَخَالَ الإِعْرَاضَ فَمُبْطِلٌ عَمْدُهُ، وَمِنجَبِرٌ سَهْوُهُ، وَإِلا فَمَكْرُوهٌ أي: وإن كان الفعل لغير ما ذُكر، وهو مع ذلك فوق القليل جداً. (فَإِنْ أَخَالَ الإِعْرَاضَ) أي: أشبه المِنصرف عن الصلاة، يُقال: أَخال، يَخال، إِخالة إذا أشبهَ غيرَه، ومِنه قياس الإِخالة؛ أي: الشَّبَه، وليس هو مِن خال بمعنى ظن. ويقع في بعض النسخ عوضَ أخال أطال، وليس بظاهرٍ؛ إِذِ الكلام في الفعل القليل. وقوله: (فَمُبْطِلٌ عَمْدُهُ) ظاهر، فإنه زاد فعلاً مِن غير جنس الصلاة على سبيل العمد مع مكونه مُخِيلاً للإعراض. وقوله: (وَمُِنْجَبِرٌ سَهْوُهُ) أي: بالسجود بعد السلام. وقوله: (وَإِلا فَمَكْرُوهٌ) أي: وإن لم يكن مُخيلاً للإعراض مع كونه فوق اليسير فهو مكروه- أي عمده- وأما السهوُ فلا يوصف بالكراهة، ولا يَبعد السجود في هذا القسم. وقد تقدم مِن كلام ابن رشد في القسم المكروه- كما إذ قتل عقرباً لا تريده- أنه يتخرج في ذلك قولان في السجود. وَفِيهَا: وَلَوْ سَلَّمَ مِن اثْنَتَيْنِ فَأَكَلَ وَشَرِبَ بَطَلَتْ. وَفِيهَا: إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الصَّلاةِ أَجْزَأَهُ سُجُودُ السَّهْوِ. فَقِيلَ: اخْتِلافٌ. وَقِيلَ: لا. وَفُرِّقَ بِالْكَثْرَةِ إِمَّا لأَنَّ الأُولَى مَعَ السَّلامِ وَإِمَّا لأَنَّ فِيهَا أَكَلَ وَشَرِبَ وهَذِهِ أَوْ شَرِبَ ..... لعله أتى بهذه المسألة لتضمِنها إبطال بعض أقسام القاعدة المتقدمة؛ فإنَّ هذا فعلٌ متوسطٌ مُخيلٌ للإعراض على سبيل السهو، وقد نص مالك فيه على البطلان،

وهو خلافُ ما قاله المصنف أن حكمه السجود. ويمكن أن يُجاب عنه بأن انضمام السلام صيَّره كالكثير. وقوله: (فأَكَلَ وَشَرِبَ وهَذِهِ أَوْ شَرِبَ) يعني أن هذه المسألة رويت على وجهين، وتصوره واضح. وقوله: (إِمَّا لأَنَّ الأُولَى مَعَ السَّلامِ) هذا فرقٌ على روايةِ مَن روى: أو شرب بأو. وقوله: (وَإِمَّا لأَنَّ فِيهَا أَكَلَ وَشَرِبَ) هذا فرق على رواية مِن روى بالواو، وحاصله أن بالواو يكون الفرق بالوجهين مِن جهة الجمع والسلام، وبأو مِن جهة السلام فقط. فرع: اختلف في السلام سهواً، هل يُخرج المصلي عن حكم صلاته، أوْ لا؟ على قولين، حكاهما صاحب البيان وغيره. ونسب في المقدمات القولَ بأنه لا يخرجه لأشهبَ وابنِ الماجشون، واختاره ابنُ المواز. قال: وعليه فيرجع للصلاة بغير إحرام، والقول بالخروج لابن القاسم في المجموعة، ورواه عن مالك، وهو قول أحمد بن خالد، وعليه فيرجع إليها بإحرام. ويأتي على الخروج ما نص عليه أصبغ في العتبية في إمام صلى بقوم وسها سهواً يكون سجوده بعد السلام، فلما كان في التشهد الآخر سمع أحدهم شيئاً، فظن أن الإمام قد سلم فسلم، ثم سجد سجدتين، ثم سمع سلام الإمام بعد ذلك. فقال: يعيد الصلاة إذا كان قد سلم قبل سلام إمامه. قال في البيان: وهو مثل قوله في المدونة فيمِن سلم مِن ركعتين ساهياً، ثم أكل وشرب ولم يطل: أنه يبتدئ. انتهى. تنبيه: وهذا الخلاف إنما هو إذا سلم (63/ ب) قاصداً للتحليل وهو يرى أنه قد أتمها، ثم شك في شيء مِنها، وأما إن سلم ساهياً قبل تمام صلاته فقال في المقدمات: لا يخرج لذلك بإجماع.

وَفِيهَا: إِنْ قَلَسَ وَقَلَّ لَمْ يَقْطَعْ بِخِلافِ الْقَيْء القلس: ماء حامض تقذفه المعدة، ولم يقطع إذا قلَّ لسيارته، فأشْبَهَ التثاؤبَ والعطاسَ، ومقتضى كلامِه أن القيء يقطع الصلاة، وليس على إطلاقه، فقد روى ابن القاسم في المجموعة: إن كان ماء لا يقطعها، وإن كان طعاماً قطعها. قال في البيان: فأفسد الصلاة بما لا يفسد به الصوم. والمشهور أنَّ مَن ذَرَعَه القيءُ لا يُفسد صلاته ولا صيامه. واختلف قوله إنْ رده بعد انفصاله ساهياً في فساد صلاته وصيامه. قال: وأما إن رده طائعاً غير ناسٍ فلا اختلاف أنه يُفسد صلاته وصيامه. انتهى. وَكَثِيرُ الْفِعْلِ مِن جِنْسِ الصَّلاةِ سَهْواً غَيْرُ مِنجَبِرٍ. وَقِيلَ: مِنجَبِرٌ أي: والمشهور أن زيادة الفعل الكثير في الصلاة إذا كان سهواً من جنس الصلاة ليس بمِنجبر، لأن الكثرة تُلْحِقُه بغيرِ المجانس، والشاذُّ أنه مِنجبر. ثم بيَّن الكثير فقال: وَالْكَثِيرُ: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ. وَقِيلَ: رَكْعَتَانِ. وَالثُّنَائِيَّةُ: مِثلُهَا. وَقِيلَ: نِصْفُهَا. فَتُلْحَقُ الْمَغْرِبُ بالرُّبَاعِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالثُّنَائِيَّةِ .... ابن راشد: لا خلاف أن الأربع كثيرٌ؛ لأنها أكثر عدد الصلوات الخمس، فهي كثيرةٌ في نفسِها، كثيرةٌ بالنسبة إلى الصلاة المَزيدِ فيها. انتهى. وفيه نظر، فقد حكى اللخمي عن مطرف أنه روى عن مالك: لو صلى الحاضر الظهر ثمانية ركعات، والمسافر أكثر من أربعة لم تبطل صلاته. وهذا هو القول الذي حكاه المصنف أولاً بقوله: (وَقِيلَ: مُِنْجَبِرٌ). وقوله: (وَقِيلَ: رَكْعَتَانِ) نُسب لابن القاسم وابن الماجشون. قال ابن الماجشون: وليس هذا مِن قِبَلِ أنها نصف الصلاة؛ لأني لا أرى زيادةَ ركعةٍ في الصبح طُولاً. وقوله: (وَالثُّنَائِيَّةُ: مِثْلُهَا) يعني أن الخلاف المتقدم إنما هو بالنسبة إلى الرباعية، وأما الثنائية فتبطل بزيادة ركعتين.

ابن راشد: والمشهور أن الصبح تبطل بزيادة ركعتين؛ لأنهما مثلها، وقيل: لأنهما نصف الرباعية. انتهى. وقوله: (وَقِيلَ: نِصْفُهَا) قال ابن هارون: هو قول ابن نافع وابن كنانة في ثمانية أبي زيد: أن الصبح والجمعة تبطل بزيادة ركعة. وما ذكرناه مِن كلام المصنف أصح مما في بعض النسخ عوض قوله: (وَالثُّنَائِيَّةُ: مِثْلُهَا). وقيل: (مِثْلُهَا) لأنه على هذه النسخة يقتضي أن المشهور لا تبطل الثنائية إلا بزيادة أربع ركعات، وليس كذلك. قال المازري: ولا خلاف أن الرباعية لا تبطل بزيادة ركعة. وقوله: (فَتُلْحَقُ الْمَغْرِبُ بالرُّبَاعِيَّةِ ....) إلخ؛ أي: إذا حد الكثير بالنصف فيُختلف في المغرب، هل تُلحق بالثنائية فتبطل بركعة، أو بالرباعية فلا تبطل إلا باثنتين؟ والقولان لابن القاسم؛ لأنه قال في العتبية فيمِن صلى المغرب خمساً أنه يكتفي بسجدتي السهو. قال في البيان: وهو خلاف ما روي عن سحنون أن مَن زاد في صلاته مثلَ نصفِها، فإنها تبطل. وَقَلِيلُهُ جِدّاً مُغْتَفَرٌ كرفع اليدين في السجود والتشهد. وَنَحْوَ سَجْدَةٍ عَمْداً مُبْطِلٌ ظاهر. وَإِذَا قَامَ الإِمَامُ إِلَى خَامِسَةٍ: فَمِن أَيْقَنَ مُوجِبَهَا وَجَلَسَ عَمْداً بَطَلَتْ، وَمِن أَيْقَنَ انْتِفَاءَهُ وَتَبِعَهُ عَمْداً بَطَلَتْ، وَيَعْمَلُ الظَّانُّ عَلَى ظَنِّهِ، وَالشَّاكُّ عَلَى الاحْتِيَاطِ ...... اعلم أن مصلي الفرض يجب عليه الكف عن الزيادة متى ما ذكر. وقوله: (وَمَنْ أَيْقَنَ) يعني أن المأمومين ينقسمون على أربعة أقسام:

الأول: من أيقن موجبها بالنسبة إلى الإمام، كمِن علم أم الإمام إنما قام لكونه نسي سجدة مِن الأولى، فإنه يلزمه إتباعُ الإمام، وإن جلس عمداً بطلتْ لكونه خالف ما لزمه. القسم الثاني: أن يتيقن انتفاء الموجب فيلزمُه الجلوسُ، فإن تَبِعَه عمداً بطلتْ. وشروط سحنون في صحة صلاة الجالس التسبيح، واستبعده أبو عمران، ورأى ابن رشد أنه تفسيرٌ للمذهب. القسم الثالث: أن يظن أحدَ هذين. قال المِنصف: (وَيَعَْمَلُ الظَّانُّ عَلَى ظَنِّهِ). القسم الرابع: أن يَشكَّ فيتبعَ الإمامَ، وهو معنى قوله: (وَالشَّاكُّ عَلَى الاحْتِيَاطِ). وما ذكره المصنف في الظنِّ مخالفٌ لما نقله الباجي، ولفظه: وإنما يعتد مِن صلاته بما تيقن أداءه له. هذا مذهب مالك وأصحابه. وقال أبو حنيفة: يرجع إلى غالب ظنه. انتهى. خليل: وقد يقال: ما ذكره المصنف يتخرج على أحد القولين اللذين ذكرهما اللخمي فيمن ظن أنه صلى أربعاً، هل حكمه كمن شك؟ هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ أو يبني على الظن قولان. فَلَوْ قَالَ لَهُمَا: إنما كَانَتْ لِمُوجِبٍ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مَنْ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ وَتَبِعَهُ، وَمُقَابِلُهُ: تَصِحُّ فِيهِمَا، وَفِي الثَّالِثِ الْمَنصُوصِ: تَبْطُلُ، وَفِي الرَّابِعِ، مُتَأَوِّلاً قَوْلانِ، وَالسَّاهِي مَعْذُورٌ ..... (لَهُما) أي: لمن تَبِعَه ولمَن جلس. وفي بعض النسخ لهم؛ أي: للمأمومين. (كَانَتْ لِمُوجِبٍ) أي: لم تكن سهواً وإنما كانت لإسقاط الفاتحة أو نحوها. (فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ) أي: فحكم المأمومين على أربعة أقسام: (مَنْ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ وَتَبِعَهُ) لتيقنِه الموجِبَ، أو شكِّه أو ظنِّه. (وَمُقَابِلُهُ) أي: مَن لم يلزمه اتباعه ولم يتبعه لتيقنه انتفاء الموجب أو ظنه، على ما قدَّمه المصنف، لا على ما حكاه الباجي.

وأما الوجه الأول: فالظن معتبر فيه اتفاقاً. وقوله: (تَصِحُّ فِيهِمَا) أي: في الوجهين؛ لأن كلاً منهما قد أتى بما لزمه. قال سحنون: وإنما تصح صلاة الجالس إذا سبح للإمام، وأما إن لم يفعل وقعد أعاد أبداً. (64/ أ) وقوله: (وَفِي الثَّالِثِ الْمَنصُوصِ: تَبْطُلُ) الثالث: مِن يلزمه اتباعه ولم يتبعه، ومرادُه بلزوم الاتباع اللزومُ في نفس الأمر. ومقابلُ المنصوص هو اختيار اللخمي، فإنه قال: قال محمد: فإن قال الإمام بعد السلام: كنت ساهياً عن سجدة. بطلتْ صلاة مَن جلس، وصحَّتْ صلاةُ مَن اتبعه سهواً أو عمداً، يريد إذا أسقطوها أيضاً. والصواب أن تتمَّ صلاةُ مَن جلس ولم يتبعه؛ لأنه جلس متأوِّلاً، وهو يرى أنه لا يجوز له إتباعه، وهو أعذرُ مِن الناعس والغافل. وقوله: (وَفِي الرَّابِعِ) أي: مَن لم يلزمه إتباعه لتيقنه الكمال، فيتبعُه متأوِّلاً للزوم متابعته. (قَوْلانِ) قال سحنون: أرجو أن يجزئه، وأحبُّ إليَّ أن يعيد. وقال غيره: تلزمه الإعادة. ويقع في بعض النسخ: وفي الثالث والرابع قولان. وما تقدم أولى لانتفاء الخلاف في الوجه الثالث إلا ما اختاره اللخمي. وقوله: (وَالسَّاهِي مَعْذُورٌ) يعني أن مِن لم يتبع الإمام ساهياً وحكمه الاتباع أو يتبعه ساهياً وحكمه الجلوس فصلاتُه صحيحة. فَيَلْزَمُ الْجَالِسَ عَلَى الصِّحَّةِ الإِتْيَانُ بِرَكْعَةٍ ابن عبد السلام: يعني أن مَن جلس وحكمُه الإتباع، وقلنا بصحة صلاته فلا بد أن يأتي بركعة. انتهى.

ابن هارون: وفيه بُعْدٌ؛ لأن المصنف لم يَحْكِ في صحة صلاةِ مَن جلس وحكمه الإتباع قولاً حتى يُفَرِّعَ عليه، وإنما أشار إلى اختيار اللخمي، ويبعد أن يفرع عليه. انتهى. وقد يقال: لعله يريد مَن جلس ساهياً وحكمه الإتباع. فإن قيل: يَرُدُّه قوله: (على الصحة) أو التقدير: على القول بالصحة، ولا خلاف في صحة صلاة الساهي. قيل: إنما أتى هذا على التقدير المذكور، وأما إن قدر على الحكم بالصحة، فلا. فرع: واختلف لو ذكر الإمام وهو قائم في الثانية سجدة، ولم يَسْهُ عنها جميع مِن خلفه، فقيل: يستحب لهم أن يعيدوها معه، وهم بمِنزلة مَن رفع مِن الركعة أو السجدة قَبْلَ إمامِه، فإن لم يُعيدوا صحتْ صلاتُهم. وقال سحنون: يجب عليهم أن يعيدوا معه. وقال ابن القاسم في العتبية: لا يسجدوا معه، وسجدتُهم تجزئهم. قال: وأحبُّ إليَّ أن يعيدوا صلاتهم. قاله اللخمي والمازري. قال في البيان: ولو اتبعوه على ترك السجدة عالمين سهوة فصلاتهم فاسدة باتفاق. انتهى. وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يَفُتِ الإمامَ الرجوعُ إليها. قال في البيان: وأما لو فاته الرجوع إليها بعقد الركعة التي بعدها فركعة القوم صحيحةٌ باتفاق، ويقضي الإمامُ تلك الركعة في آخر صلاته وهم جلوس، ثم يسلم بهم ويسجد بعد السلام. وأما إن سها عنها هو وبعض مِن خلفه فلا يخلو مَن لم يَسْهُ عنها مِن حالتين: إحداهما: أن يسجدوا لأنفسهم. والثانية: أن يتبعوه على ترك السجود عالِمينَ بسهوِه، فأما إن سجدوا لأنفسهم ولم يرجع الإمام إلى السجود حتى فاته الرجوعُ بعقد الركعة التي بعدها ففي ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها لابن القاسم: أن السجود يجزئهم وتصح لهم الركعة، ويلغيها الإمام ومَن سها معه، فإذا أكمل ثلاث ركعات قام ومَن سها معه إلى الرابعة، وقَعَدَ مَن لم يَسْهُ حتى يسلم فيُسلموا بسلامه، ويسجد بهم جميعاً بعد السلام. وهو أضعف الأقوال؛ لاعتدادهم بالسجدة، وهم إنما فعلوها في حكم الإمام، ولمخالفتهم إياه، فإن صلاتهم تبقى على سُنتها، وتصير للإمام ومَن سها معه الركعةُ الثانيةُ أُولى. ولهذا قال ابن القاسم: أحبُّ إليَّ أن يعيدوا. وإنما يسجد الإمام بعد السلام إذا ذكر بعد الركوع في الثانية؛ لأنه يجعلها أولى، ويأتي بالحمد وسورةٍ، ويجلس، فيكون سهوُه زيادةً، وأما إن لم يذكر حتى صلى الثالثة أو رفع من ركوعها فإنه يسجد قبل السلام لاجتماع الزيادة والنقصان. والقول الثاني: أن صلاتهم فاسدة للمعنى الذي ذكرناه مِن مخالفة نيتهم لنية الإمام في عدد الركعات. وهو قول أصبغ. والقول الثالث: أن السجود لا يجزئهم، وتبطل عليهم الركعة كما بطلت على الإمام ومَن معه، ويتبعونه في صلاته كلها وتجزئهم. حكاه ابن المواز في كتابه. وأما إن اتبعوه على ترك السجود عالمين بسهوه، فقال في العتبية: صلاتهم مِنتقضة. ويتخرج على ما في الموازية أنه إنما تبطل عليهم الركعة، ولا تنتقص عليهم الصلاة. انتهى. وفيه نظر؛ لأنه نص على أنه إذا لم يسهُ عنها أحد ممن خلفه وسجدوا ولم يرجع الإمام حتى فاته الرجوع أَنَّ ركعة القوم صحيحة باتفاق، وحكى فيها إذا سها بعضهم ولم يسه البعض ويجد ثلاثةَ أقوال، مع فوات التدارك أيضاً في حق الإمام، ولا يظهر بينهما فرقٌ. ومقتضى كلام المازري بل نصه حصول الأقوال الثلاثة فيما إذا لم يسه عنها أحد ممكن خَلْفه. وأيضاً فإنه حكى الاتفاق في البطلان على الأولى إذا اتبعوه على ترك السجود عالمين بسهوه، ولم يحك ذلك في الثانية، فانظر ما الفرق.

وَفِي إِعَادَةِ التَّابِعِ السَّاهِي لهَا قَوْلانِ أي: إذا اعتقد صحة الركعات الأربع، وتبع الإمام في الخامسة سهواً، ثم تبين له أن أحد الأربع باطلة، فهل يعيد هذه الركعة أم لا؟ ابن عبد السلام وابن هارون: وأصل المشهور الإعادة. وحكاهما ابن بشير، وبناهما على الخلاف فيمن ظن أنه أكمل صلاته فأتى بركعتين ثم ذكر أنه إنما صلى ركعتين، فقيل: تنوب له النافلة. وقيل: لا. وفي بنائه نظر؛ لأنه (64/ل) أتى في هذه بنية منافية بخلاف ما نحن فيه. وَفِي إِلْحَاقِ الْجَاهِلِ بالسَّاهِي قَوْلانِ أي: إذا قلنا بعدم نيابة ركعة السهو فالأحرى أن لا تنوب ركعة الجهل، وإن قلنا نيابة ركعة السهو فهل تجزئ الجاهل كالساهي أم لا؟ ونعني بالجهل اعتقاد لزوم متابعة الإمام مع أنه غير لازم. وَفِي نِيَابَتِهَا عَنْ رَكْعَةِ مَسْبُوقٍ يَتْبَعُهُ قَوْلانِ يعني: أن المسبوق بركعة أو أكثر إذا تبع الإمام في هذه الركعة الخامسة التي قام لها لموجب، هل يعتد بها أم لا؟ وفي ذلك قولان، وهذا فيه تفصيل: إن تبعه وهو يعلم أنها خامسة، ولم يسقط الإمامُ شيئاً بطلت صلاته. نقله ابن يونس والمازري عن ابن المواز، ونص ما نقله ابن يونس عنه: ولو اتبعه فيها من فاتته ركعةٌ وهو يعلم أنها خامسة ولم يُسقط الإمام شيئاً أبطل صلاته، وإن لم يعلم فليقضِ ركعةً أخرى وليسجد لسهوه كما يسجد إمامه. انتهى. فلو قال الإمام: كنت أسقطت سجدة. وتبعَه المسبوق وهو يعلم أنها خامسةٌ فقال مالك: لا تجزئة عن ركعة. وقال ابن المواز: تجزئه؛ لأن الغيب كشف أنها رابعة. وأما إن لم يعلم فتجزئه عند مالك وابن المواز.

ابن راشد: وكلام المصنف يؤخذ منه هذا؛ أعني أن الخلاف إنما هو إذا تبين أنه قام لموجب؛ لأن فرض المسألة أن الإمام قال لهم: كانت لموجب. وبنى ابن شاس هذا الخلافَ على الخلافِ في الإمام، هل هو قاضٍ في هذه الركعة فلا تنوب له، أو بانٍ فتنوب؟ وَمِن قَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ فِي نَفْلٍ فَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً رَجَعَ وَإِلا أَتَمَّهَا أَرْبَعاً وَسَجَدَ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: بَعْدَهُ ........ قوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً) اختلف إذا ذَكر وهو مُنْحَنٍ، فقال مالك: يرفع رأسه ويتمُّها. وقال أيضاً: يرجع إلى الجلوس. وبه أخذ ابن القاسم، وهو على الخلاف المعلوم في عقد الركعة. قوله: (وَإِلا أَتَمَّهَا أَرْبَعاً) كان في ليل أو نهار، وهذا مذهب المدونة. وقال محمد بن مسلمة: إن كان في نهار فكذلك، وإن كان في ليلٍ قطع متى ما ذكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى)). وقيد أبو عمران الأول بما عدا ركعتي الفجر؛ لأنه لا نافلة بعدها، والسجود قبل السلام لمالك، وهو المشهور. والثاني: لمالك أيضاً وابن عبد الحكم وسحنون. ابن عبد السلام: وثمرة هذا الخلاف هل يعتد بهذه الصلاة في قيام رمضان بتسليمة أو بتسليمتين؟ قال: فإن قلنا بالسجود قبلُ اعتدَّ بأربع، وإلا فبركعتين. واختلف في توجيه المشهور: فقال الأبهري وابن شبلون وابن أبي زيد: لأنه نقص السلام. وقال ابن مسلمة والقاضي إسماعيل: لأنه نقص الجلوس. واختاره ابن الكاتب والقابسي واللخمي، وهو أظهر. ولا ينبغي أن يعلل السجود بنقص السلام؛ لأنه فرض،

والذي ينبغي أن يقال: إِنْ قام مِن غير جلوسٍ سجدَ قبل السلام لنقص الجلوس، وإن جلس فلا سجودَ عليه قبلُ ولا بعدُ. قاله اللخمي. قال: لأن الأربعة صحيحة عند بعض أهل العلم. واعتبر بعضهم قول سحنون بأن السجود البعدي إنما يكون للزيادة على طريق السهو، والركعتان هنا وإن ابتدأهما سهواً فقد صارتا كالمأذون فيهما، ولذلك يؤمر بَعْد عقدِ الثالثةِ بالتمادي. وأجيب بأنه قبل العقد مأمور بالكشف، فليس ترجيح الإذن فيهما آخراً أولى مِن ترجيح المنع أوَّلاً، بل مراعاة السابق أولى. فرع: فإن قام الإمام لخامسة رجع متى ما ذكر كالفرض، وهذا بناء على أنه لا يراُعى مِن الخلاف إلا ما قوي واشتهر عند الجمهور، والخلافُ في الأربعِ قويٌّ بخلاف غيره. واختلف إذا صلى النافلة خمساً، هل يسجد قبل أو بعد؟ قال ابن القاسم في المدونة: لم أسمع من مالك في ذلك شيئاً، ولا أرى أن يصلي السادسة، ولكن يرجع إلى الجلوس ويسلم ويسجد لسهوه. عبد الحق: يجعل سجوده بعد السلام، ثم قال ابن القاسم: وأرى أن يسجد قبل السلام. وحمله اللخمي على أنه اختلافُ قول. وقال صاحب النكت: ليس هو خلافاً. وأصوب ما قيل في ذلك أن قوله: يسلم ثم يسجد إنما قاله على رأي من قال أن النافلة أربع، ثم ذكر بعد ذلك اختياره، وما يجيء على مذهب مالك- رحمه الله- الذي يرى أن النافلة ركعتان؛ أي: فيكون إنما ذكر فيها السجود قبله. وحَمَل هذا القائلُ على هذا كونُ المعروفِ فِي المذهب في اجتماع الزيادة والنقص السجودَ قبله. واستبعد عياض هذا بأن المجتهد لا يفتي بمذهب غيره، وإنما يفتي بمذهبه أو بالاحتياط لمراعاة خلاف غيره عند عدم الترجيح أو فوات النازلة. وذكر أن المسألة وقعت في كتاب ابن المرابط على أن يسلم

ويسجد، معطوف بالواو لا بثم. اللخمي: وأرى- إن لم يكن جلس في الثانية- أن يسجد قبل السلام؛ لأنه نَقَصَ الجلوسَ وزاد الخامسةَ، وإن جلس في الثانية سجد بعده. فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَشَرَعَ فِي الْوِتْرِ أَمْ هُوَ فِي ثَانِيَةِ الشَّفْعِ جَعَلَهَا ثَانِيَةً وَسَجَدَ بَعْدَهُ (جَعَلَهَا ثَانِيَةً) لإلغاء الشك، (وَسَجَدَ بَعْدَهُ) لاحتمال أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى الشفع مِن غيرِ سلام، ويكون قد صلى الشفع ثلاثاً، وهذا هو المشهور. ورُوي عنه أنه يسجد قبل السلام؛ لاحتمال أن يكون في وترٍ فشفَعَه بسجدتين، للنهي الوارد عن وِترين في ليلةٍ. وحكى ابنُ حارث ثالثاً بنفي السجود مطلقاً. وَأَمَّا الْكَلامُ فَعَمْدُهُ لِغَيْرِ إِصْلاحِهَا مُبْطِلٌ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ وَجَبَ لإِنْقَاذِ أَعْمَى وَشِبْهِهِ قوله: (قَلَّ أَوْ كَثُرَ) كذا قال أكثر الشيوخ، وفي المقدمات: إن يسيرَه غيرُ مبطل كيسيرِ الفعل. وهو بعيد. وقوله: (وَإِنْ وَجَبَ) هو المذهب، واختار اللخمي في ضيق الوقت أنه يتكلم ولا يبطل، وشبهها بحال المسايفة. المازري: وفي تشبيهه نظر؛ لأن المسايف لا يبطل كلامه صلاته إذا اضطر إليه. ولو أوقع الصلاة في أول الوقت، بخلاف ما ذكر. وَسَهْوُهُ إِنْ كَثُرَ فَمُبْطِلٌ، وَإِنْ قَلَّ فَمِنجَبِرٌ، وَفِي جَهْلِهِ الْقَوْلانِ أبطل مع الكثرة لخروج المصلي بسببه عن معنى الصلاة. وقوله: (وَإِنْ قَلَّ فَمِنجَبِرٌ) واضح. (وَفِي جَهْلِهِ الْقَوْلانِ) أي: المتقدمان في عذر الجاهل بجهله في الصلاة. وفسره ابن شاس وغيره بمن جهل تحريم الكلام في الصلاة، ولعل هذا إنما يتصور فيمن قرب إسلامه.

فرع: نص ابن شاس على أن الصلاة تبطل بكلام المكره. ابن هارون: وانظر الفرقَ بينه وبين الناسي. فَإِنْ كَانَ ذِكْراً فِي مَحِلِّهِ كَاتِّفَاقِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنينَ} وَقَصَدَ بِهِ التَّفْهِيمَ فَمُغْتَفَرٌ ........ أي: فإن كان الكلام ذِكراً في محله، والذِّكر هنا كلُّ كلام مشروع في الصلاة، وهو أعمُّ من القرآن. وإِنْ تَجَرَّدَ لِلتَّفْهِيمِ فَقَوْلانِ كما لو بشر بشارة فقال: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) (الأعراف: 43) أو أَمِنَ خوفاً فقال: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ) (فاطر: 34) أو استؤذن عليه فقال: (ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنينَ) (يوسف: 99) ومعنى (تَجَرَّدَ) أنه لم يكن يقرأ في هذه المواضع. والأظهرُ البطلانُ؛ لأنه في معنى المحادثة. وحكى ابنُ عات البطلانَ عن ابن القاسم، وحكى المازريُّ عنه الصحةَ مع كراهةِ ذلك ابتداءً، ولم يذكر اللخمي قولاً منصوصاً بالبطلان وإنما خرجه على القول بالبطلان إذا فتح على من ليس معه في الصلاة. وحكى اللخميُّ والمازريُّ عن ابن حبيب إجازةَ الإفهام ابتداءً بكل ما يجوز للرجل أن يتكلم به في الصلاة مِن الذِّكرِ والقراءةِ. كَمَن فَتَحَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلاةِ أي: ففيه القولان، قال اللخمي: ولا يفتح مَن هو في صلاةٍ على مَن ليس في صلاة، أو في صلاة وليس بإمام له. واختُلف إذا فعل، فقال ابن القاسم في المجموعة، وسحنون في كتاب ابنه أنه يفسد صلاته. قال سحنون: ويعيد، وإن خرج الوقت. قال أشهب في مدونته، وابن حبيب: أساء ولا يعيد. انتهى.

وَيُسَبِّحُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلْحَاجَةِ، وَضَعَّفَ مَالِكٌ التَّصْفِيقَ لِلنِّسَاء قال ابن شعبان: اختلف قول مالك في ذلك، فقال مرة: يسبح الرجال ولا يصفق النساء. وقال مرة: يسبح الرجال ويصفق النساء. وصفة التصفيق- على مقابل المشهور- أن تضرب بظهر أصبعين من يمينها على كفها الشمال. وَلإِصْلاحِهَا لا يُبْطِلُ، مِثْلُ: لَمْ تُكْمِلْ. فَيَقُولُ: أَكْمَلْتُ. وَمِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ فَيُخْبَرَ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَة: مُبْطِلٌ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: إِنْ كَانَ بَعْدَ سَلامِ اثْنَتَيْنِ فَلا تَبْطُلُ قوله: (مِثْلُ: لَمْ تُكْمِلْ) مثالٌ لما ابتدأ فيه المأمومُ بالكلام. وقوله: (وَمِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ فَيُخْبَرَ) مثال لما ابتدأ الإمام فيه بالكلام. ووجه المشهور قصة ذي اليدين. ورأى التسوية بعد كونه بعد سلام اثنتين وغيره، ورأى ابن كنانة أن ذلك عند تجويزهم النسخ؛ لقولهم: أقصرتْ الصلاةُ أم نسيتَ. وذلك مقتضٍ للخصوصية. قال في البيان: ووافقه على ذلك أكثرُ أصحاب مالك. المازري: وأفسد ابن القاسم هذا بأن القوم تكلموا أيضاً بعد علمهم بعدم النسخ، وهو قولهم: قد كان بعضُ ذلك. وأجيب بأنه قد ثبت مِن وجه صحيح أنهم أشاروا؛ أي: نعم، ذكر ذلك ابن عبد البر من حديث حماد بن زيد، قال: وهو أثبت من غيره. وأيضاً لو أجابوا بنعم كما روي لما أضرَّهم لمخالفتهم إيانا في الكلام، إذا مجاوبته صلى الله عليه وسلم واجبةٌ. وعلى قول ابن كنانة يسبح فقط. وقال سحنون: الأصل ألا يتكلم في الصلاة، خرج الكلام بعد سلام اثنتين في حديث ذي اليدين، فيبقى ما عداه على الأصل، وفيه جمود. تنبيه: وهذا الخلاف إنما هو إذا وقع الكلام بعد أن سلم الإمام معتقداً التمام، كما في الحديث، وأما إذا شك الإمام قبل سلامه، فحكى اللخمي والمازري في ذلك ثلاثة أقوال:

المشهور أنه لا يجوز له أن يسأل المأمومين، كان في الصلاة أو انصرف مِنها بسلام، ثم حدث له الشك بعد سلامه. هذا اللفظ للمازري. وعَبَّرَ اللخمي عنه بالمعروف. ووجهه أنه مع الشك مخاطَبٌ بالبناء على اليقين، وقال أصبغ: يجوز السؤال بعد التسليم خاصة. وقال محمد بن عبد الحكم. يجوز قبل التسليم وبعده. اللخمي: وأرى أن ذلك كله لإصلاح الصلاة، وخارج عن الكلام المنهي فلا فرق بين أن يكون قبل السلام أو بعده، ولا يفسد عليه ولا على من كلمه. وَيَرْجِعُ الإِمَامُ إِلَى عَدْلَيْنِ، وَقِيلَ: إِلَى عَدْلٍ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِماً. وَقِيلَ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مَأمُومَيْهِ ...... قال اللخمي: إذا شك الإمام ومَن خلفه فأخبرهم عدلان أنهم أتموا رجعوا إليهما وسلموا. واختلف إذا أخبرهم عدل واحد، فقال مالك: لا يجتزئ به. وقال في كتاب محمد: إذا أخبره واحد أنه أتم طوافه أرجو أن يكون في ذلك بعض السَّعَة. ورآه من باب الإخبار لا من باب الشهادة، وعلى هذا يجتزئ بخبر العدل في الصلاة، والحرُّ والعبد والمرأة (65/ب) في ذلك سواءٌ، انتهى. وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ عَالِماً) قال في الجواهر: وإنما يرجع الإمام إلى قول المأمومين إذا غلب على ظنه ما قالوه بعد سلامه، أو شك فيه، فإن خرج الاعتقاد بخلاف ما قالوه لم يرجع إلا أن يكثروا جداً، بحيث يفيد خبرهم العلم، فإنه يرجع إلى خبرهم، ويترك اعتقاده. ثم قال: وقال ابن حبيب: إذا صلى الإمام برجلين فصاعداً فإنه يعمل على يقين مَن وراءه، ويَدَعُ يقينه، يريد الاعتقاد. انتهى. وعلى هذا فقول المصنف: (مَا لَمْ يَكُنْ عَالِماً) مقيد بما إذا لم يكثر مَن خلفَه جداً. وقال المازري: اختلف قول مالك إذا أخبره مَن خلفه وكان الأمر عنده بخلاف ما قالوه، فروي عنه أنه لا يرجع إليهم، وبه قال الشافعي، وروي عنه أنه يرجع إليهم، وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: يرجع إلى عدلين. وقال ابن مسلمة: يرجع إلى العدد الكثير ولا يرجع إلى العدد اليسير كالاثنين والثلاثة، انتهى.

وقوله: (وَقِيلَ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مَأمُومَيْهِ) هذا القول لمالك في العتبية، ونقله المازري غن ابن القصار، وعلله بأن المأمومين يراعون صلاته كما يراعيها، بخلاف غيرهم، وعلى هذا فيختلف في الفذِّ إذا أخبره غيره ممِن يسكن إلى قوله بعدد ما صلى. ثُمَّ يَبْنِيِ إِنْ كَانَ قَرِيباً وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: وَإِنْ بَعُدَ لأنه إذا طال الأمر أو خرج مِن المسجد وانضم أحدهما إلى السلام كان ذلك إعراضاً عن الصلاة بالكلية. وقوله: (وَقِيلَ: وَإِنْ بَعُدَ) حكاه في الجواهر، وظاهره: ولو خرج مِن المسجد، ورجح، لأن ابن عبد البر روى في حديث ذي اليدين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته. وَبَبْنِي بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِنْ قَرُبَ جِدّاً اتِّفَاقاً، وَإِلا فَقَوْلانِ في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: بأنه يحرم مطلقاً، نقله الباجي عن مالك مِن رواية ابن القاسم، وعن ابن نافع. ونقل القول بعدم الإحرام عن بعض القرويين واستبعده، ونقله بعضهم عن مالك في العتبية. والثالث بالتفصيل إِن قرُب لم يَحْرُم، وإِنْ بَعُدَ أحرم، وعلى هذا ينتقض الاتفاق الذي ذكره المصنف، وإن كان قد يتبع فيه ابن بشير. وقد قيل: إن بعض أصحاب المصنف راجعه في ذلك، ونقل له الخلاف، وتوقف، وأشار أن يجعل مكان الاتفاق على الأكثر، وكذلك يوجد في بعض النسخ، على أن الاتفاق يمكن أن يكون عائداً على البناء؛ أي: يبني في القرب جداً اتفاقاً. وقوله: وإلا فقولان قال المازري: والمشهور، إذا قرب ولم يطل جداً أنه يرجع بإحرام. وهذا كله مقيد بما إذا لم يطل جداً، وأما لو طال لم يصح له البناء على المشهور خلافاً لما في المبسوط.

فرع: إذا قلنا بالإحرام فترَكَه، فقال ابن نافع: تبطل صلاته. وقال ابن أبي زيد وغيره مِن مشايخ عصره: لا تبطل. قال الأصيلي: ونيته تكفيه عن الإحرام كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. المازري: ووقع في المدونة أنه صلى الله عليه وسلم رَجَعَ بإحرام. فقال بعض الأشياخ: لا يثبُتُ؛ لأن ابن سحنون أسنده لابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ أبو الحسن: ليس لابن عمر في السهو حديثٌ صحيح ولا سقيم. وَعَلَى الإِحْرَامِ فَفِي قِيَامِهِ لَهُ قَوْلانِ، وَعَلَى قِيَامِهِ فَفِي جُلُوسِهِ بَعْدَهُ ثُمَّ يَنْهَضُ فَيُتِمُّ قَوْلانِ ..... قوله: (فَفِي قِيَامِهِ) نحوه لابن بشير وابن شاس، وظاهره أن القولين جاريان ولو كان جالساً. ابن عبد السلام وابن هارون: وليس بصحيح، وإنما القولان في حقِّ مَن تذكَّر بعد أن قام، هل يطلب بالجلوس وهو قول ابن شبلون؛ لأنها الحالة التي فارق عليها الصلاة، وهو الأصل، أو يجوز له أن يحرم وهو قائم فيكون إحرامه بالفور وهو قول قدماء أصحاب مالك؟ قولان، وعلى القيام، فهل يجلس بعد ذلك أَوْ لا، قولان، وأما من تذكر ذلك وهو جالس فإنه يُحرم كذلك ولا يُطلب مِنه القيام اتفاقاً، والقول بأنه يكبر ويجلس لابن القاسم، والقول بأنه يكبر ويجلس لابن نافع، وأشار المازري إلى بناء قول ابن القاسم وابن نافع على أن الحركة إلى الركن مقصودة أم لا؟ وأنكر ابن رشد أن يكون قول ابن القاسم في المذهب، ووَهَّمَ مَنْ نقل ذلك عنه، وليس بصحيح؛ لأن عبد الحق والباجي وصاحب اللباب وغيرهم نقلوا ذلك عنه.

وإِنْ أَخَلَّ بِالسَّلامِ فَكَذَلِكَ، وَفِي إِعَادَةِ التَّشَهُّدِ فِي الطُّولِ قَوْلانِ، فَإِنْ قَرُبَ جِدّاً فَلا تَشَهُّدَ وَلا سُجُودَ .......... قوله: (فَكَذَلِكَ) أي: فكالسلام مِن اثنتين في إبطال الصلاة مع الطول. وهذه المسألة على أربعة أقسام: إما أن يتذكر بعد أن طال جداً، أو مع القرب جداً، أو مع القرب وقد فارق موضعه، أو بعد طول يبني معه. فالقسم الأول: تبطل فيه الصلاة على مذهب المدونة، ولا تبطل على ما في المبسوط، وقاله اللخمي. وأما الثاني: فإن لم ينحرف عن القبلة سلم ولا شيء عليه، وإن انحرف استقبل وسجد لسهوِه بعد السلام. وأما الثالث: فاختلف فيه في ثلاثة مواضع: هل يكبر؟ وهل يكون تكبيره وهو قائم أو بعد أن يجلس؟ وهل يتشهد؟ قال في المجموعة: يكبر المازري وابن شاس: وهو المشهور. وقال في كتاب محمد: يجلس ويسلم. ولم يذكر تكبيراً، واختاره اللخمي. قال ابن القاسم في المجموعة: ويجلس ثم يكبر ويتشهد. وفي كتاب محمد: ويكبر وهو قائم. ولم يجعل عليه التشهد. (66/أ) اللخمي: والقولان في إعادة التشهد يشبهان القولين في إعادة التشهد في السجود القبلي. وأما القسم الرابع: فيختلف فيه كالقسم الثالث سواء. وعلى هذا فقول المصنف: (وَإِنْ قَرُبَ جِدّاً فَلا تَشَهُّدَ وَلا سُجُودَ) إنما هو إذا لم ينحرف عن القبلة، وهذا كله ما لم يحدث، فإذا أحدث بطلت بلا إشكال.

وَإِنْ خَرَجَ مِنْ سُورَةٍ إِلَى سُورَةٍ فَمُغَتْفَرٌ واضح. وَإِنْ جَهَرَ فِي السِّرِّيَّةِ سَجَدَ بعد السلام كَأَنَّهُ مَحْضُ زِيَادَةٍ، وَعَكْسُهُ قَبْلَهُ قال: (كَأَنَّهُ) أي: ليس بزيادة محضة لكونه صفة للقراءة. وما ذكره من السجود بعد السلام هو المشهور، وحكي عن ابن القاسم قبله. واختلف إذا فعل ذلك متعمداً، فقال أصبغ: يستغفر الله، ولا شيء عليه. وقال الطليطلي: تبطل. وقوله: (وَعَكْسُهُ) أي: أسَرَّ فيما يُجهر فيه، سجد قبله لنقص الجهر، وقيل: بعده لضعف مدرك السجود، فيؤخر عن الصلاة صيانة لها، فإن الصلاة تصان عن الزيادة كما تُصان عن النقص. واختلف إذا أسرَّ فيما يُجهر فيه متعمداً، فقال ابن القاسم: يُعيد ويعيدون في الوقت. وقال عيسى بن دينار: أبداً. وقال أصبغ: يستغفر الله ولا شيء عليه. فَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَعَادَهُ وَسَجَدَ بَعْدَهُ فِيهِمَا الضمير في (فِيهِمَا) عائد على صورتي الجهر فيما يسر فيه، والسر فيما يجهر فيه. وسجوده بعد السلام هو قول ابن القاسم في العتبية. وقال أشهب: لا سجود عليه. وَقَالَ فِي السُّورَةِ: يُعِيدُهَا جَهْراً وَيُغْتَفَرُ أي: إذا قرأ الفاتحة جهراً ثم نسي فأسر السورة فإنه يعيدها جهراً. (وَيُغْتَفَرُ) أي: لا سجود عليه للخفة. وقال أشهب فيمن ترك الجهر في قراءة الفاتحة في الصبح ثم ذكر فأعادها جهراً: لا سجود عليه، وحسن أن يسجد. وقال مالك في العتبية: يسجد. والأول أيضاً رواه أشهب. قال في البيان: والقولان قائمان من المدونة.

وَنَحْوُ الآيَةِ وَيَسِيرُ الجَهْرِ وَالإسْرَارِ مُغْتَفَرٌ قال: (وَيَسِيرُ الجَهْرِ) ليدخل في كلامه ما إذا أسر أو جهر في أكثر من آية، وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: يمكن أن يكون مراده لو يساعده السياق. وإسقاط نحو الآية من الفاتحة مغتفر، وقد تقدم ما في هذا الفرع. خليل: والأقرب أن يريد ما ذكره ابن أبي في مختصره، فإنه ذكر بعد أن قرر السجودَ في الجهر في السريةِ، وعكسَه: وإن أسرَّ إسراراً خفياً، أو جهر جهراً يسيراً فلا شيء عليه، وكذلك إعلانه بالآية، فيكون مراده بيسير الجهر والإسرار إذا لم يبالِغْ فيهما، ولو كان ذلك في كل قراءته، والله أعلم. وَزِيَادَةُ سُورَةٍ فِي نَحْوِ الثَّالِثَة مُغْتَفَرٌ عَلَى الأَصَحِّ المشهور أنه إذا قرأ في الأخيرتين سورة مع الفاتحة لا سجود عليه. وقال أشهب: عليه السجود. وعلى هذا ففي كلامه نظر؛ لأن كلامه يقتضي أن الخلاف جارٍ ولو في ركعة. وقال أشهب: إنما خالف في الزيادة في الركعتين. وَلَوْ بَدَّلَ اللهُ أَكْبَرُ بِسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَكَالتَّرْكِ، يُغْتَفَرُ مَرَّةً، فَإِنْ ذَكَرَ فِي مَوْضِعِهِ أَعَادَهُ ....... أي: إذا أبدل التكبير بالتحميد، أو التحميد بالتكبير، أو تركَ التحميدَ مرة، أو التكبير مرة فلا سجود عليه، واشتمل كلامه- رحمه الله- على أربع مسائل، وما ذكره مِن الاغتفار في التبديل مرة واحدة. ابن راشد: هو ظاهر المذهب؛ لأن مشهور المذهب ترك السجود في ترك التكبيرة الواحدة. انتهى. وفيه نظر، فإن مذهبَ المدونة في التبديل السجودُ قبل السلام، وعلل ذلك بأنه زيادة ونقص.

قال فيها: وإن جعل موضع الله أكبر سمعَ الله، أو موضع سمع الله لمِن حمده الله أكبر فليرجع فيفعل كما وجب عليه، فإن لم يرجع ومضى سجدَ قبل السلام. انتهى. عياض: وهكذا رويناه بالعطف بأو. خليل: وهو الذي يوافق نقل الجلاب وغيره. قال عياض: وأكثر المتكلمين على المسألة حملوا جوابه على أنه أبدل ذلك في الركوع والقيام، فجاء مِنه إسقاطُ ذِكرين وبدلهما. انتهى. ومفهوم قوله: (مَرَّةً) أنه لو أبدل مرتين لم يغتفر، وهو كذلك، لكن قال ابن عبد الحكم: يسجد بعد السلام. وقال ابن القاسم: قبلَه. قال في الجلاب: ولم يفرق بين قليل ولا كثير. وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَ فِي مَوضعه) أي: قبل أن يلتبس بالركن الذي يليه أعاد الركن المشروع في ذلك المحل، وفيه تجوُّزٌ إِذِ الإعادة إنما تطلق مع تقديم الفعل. وذكر عياض أنهم اختلفوا هل يقولها معاً، أو إنما يقول سمع الله لمِن حمده فقط، ويحصل التكبير قبله. والأول تأويل عبد الحق، والثاني تأويل ابن يونس. وَالتَّنَحْنُحُ لِضَرُورَةٍ غَيْرُ مُبْطِلٍ، وَلِغَيْرِهَا فِي إِلْحَاقِهِ بِالْكَلامِ رِوَايَتَانِ (إِلْحَاقِهِ بِالْكَلامِ) أي: فيفرق بين عمده وسهوه، وعدم إلحاقه، فلا يبطل مطلقاً. والأول قوله في المختصر، والثاني قوله في غيره، وبه أخذ ابن القاسم، واختاره الأبهري واللخمي، وأما إن كان لضرورة فلا خلاف في صحة الصلاة، قاله ابن بشير. وَالْمَشْهُورُ إِلْحَاقُ النَّفْخِ بِالْكَلامِ أي: فيبطل عمده دون سهوه. واختار الأبهري مقابل المشهور، قال: لأن النفخ ليس فيه حروف هجاء. فرع: مذهبنا أن مَنْ أَنَّ لوجعٍ فلا تبطل صلاته خلافاً للشافعي، قاله المازري.

وَالْقَهْقَهَةُ تُبْطِلُ مُطْلَقاً، وَقِيلَ: عَمْداً. وَفِيهَا: يَتَمَادَى الْمَامُومُ وَيُعِيدُ (مُطْلَقاً) أي: عمداً أو غلبة [66 / ب] أو نسياناً، وهكذا روي ابن القاسم عن مالك، نقله التونسي، وكذلك قال صاحب البيان أنه لا يعذر فيه بالغلبة ولا بالنسيان عند ابن القاسم خلافاً لسحنون في قوله أن الضحك نسياناً بمِنزلة الكلام نسياناً ولابن المواز أيضاً: إذا صح نسيانه مثل أن ينسى أنه في صلاة. انتهى. وإلى هذا القول أشار بقوله: (وَقِيلَ: عَمْداً) وهذه المسألة على ثلاثة أقسام: لأنه إما أن يضحك عامداً مع القدرة على الإمساك أو مغلوباً، أو نسياناً. فأما الأول: فيؤخذ مِن كلام المصنف نفي الخلاف فيه، وكذلك قال في البيان: إنَّه إِنْ البيان كان عامداً قادراًَ على الإمساك فلا خلاف أنه أبطل صلاته وصلاةَ مَن خلفه، وإنْ كان إماماً يقطع ولا يتمادى عليها، فذّاً كان أو مأموماً أو إماماً، ونحوه لِلَّخمى. وأما إن ضحك غلبةً فقال اللخمي: إنْ كان فَذّاً قطع، وإن كان مأموماً مضى وأعاد انتهى. وأما الإمام فوقع لابن القاسم في العتبية: أنه يقدِّم غيره فيتمُّ بهم، ويتم هو الصلاة معهم، ثم يعيد إذا فرغوا. وفي بعض الروايات: ويعيدون. قال في البيان: وقال يحي بن عمر: قوله يقدم غيره .. إلى آخره، لا يعجبني. قال: ولا وجه لإنكاره؛ لأن قولَه أنه يُقدم غيره ويتم معهم صحيحٌ على ما في المدونة في المأموم يتمادى مع الإمام ولا يقطع فإذا لم يقطع المأمومُ مِن أجلِ فضلِ الجماعة التي قد دخل فيها فالإمامُ كذلك ... والأظهرُ أنه لا إعادة على المأمومين، وهو ظاهر ما في الواضحة مِن رواية مطرف عنه، وأما هو فيعيد على أصله في المدونة في المأموم، وذهب فضلٌ إلى أنه إذا قدم مَن يتم بهم الصلاة يقطع هو ويدخل معهم، لأن الصلاة قد فسدت عليه بضحكه. انتهى. وحمل اللخمي ما في العتيبة على المأمومين يعيدون. واعترض التونسيُّ قولَ ابن القاسم في العتبية فقال: قوله أنه يستخلف من يتم بهم ويعيد ليس له وجه بَيِّنٌ؛ لأنه إن كان أفسد صلاته فقد أفسد على القوم ويبتدئ بهم الصلاة، وإن كان ذلك كالكلام فيتم ويسجد بهم بعد السلام.

قال اللخمي: واختلف في الناسي أنه في صلاةٍ، فقال ابن القاسم: ليس بمِنزله الكلام. أي: فيبطل مطلقاً. وجعل الجواب فيه في الموازية كالمغلوب إن كان وحده قطع، وإن كان مأموماً مضى، وإن كان إماماً استخلف وأعاد مأموماً، وأعاد جميعهم. وقال أشهب في مدونته: هو كالكلام فيمضى إن كان فَذّاً وتجرئه الصلاة، وإليه ذهب محمد. انتهى. وعلى هذا إن كان مأموماً فلا شيء عليه، ويحمِله عنه الإمامُ، وكذلك قال أصبغ، نقله عن التونسي. وقال اللخمي: قال ابن المنذر: أجمع أهل العالم على أن الضحك يقطع الصلاة. يريد: لأنهم فرقوا بينه وبين الكلام؛ لأن فيه أمرأً زائداً على الكلام، وهو قلة الوقار، وفيه ضرب مِن اللعب. وانتهى. وذكر في البيان عن القاضي إسماعيل أنه قال: الكلام في قطع الصلاة أيسرُ من الضحك. وعلى هذا فقوله في المدونة: ويتمادى المأموم مقيدٌ بها إذا لم يكن ضحك عمداً، وكذلك قال سند. وَالتَّبَسُّمُ لا يُبْطِلُ وَلَوْ عَمْداً. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَسْجُدُ. وَأَشْهَبُ قَبْلَهُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بَعْدَهُ ....... أي: مع كراهة عمده. ووجهُ رواية ابن القاسم انتفاءُ الزيادة والنقص، واستحسن اللخمي قولَ اشهب لنقص الخشوع، ورأي في رواية ابن عبد الحكم أنه لما ضَعُفَ مدرك السجود ـ وهو الخشوع ـ أُخِّر. وهذه الرواية نقلها ابن عبد الحكم عن مالك في مختصر ما ليس في المختصر، وقال سحنون: نقله ابن راشد، وغيره. وَكَانَ مَالِكٌ إِذَا تَثَاءَبَ سَدَّ فَاهُ بِيَدِهِ وَنَفَثَ فِي غَيْرِ الصَّلاةِ، وَلا أَدْرِي مَا فَعَلَهُ فِي الصَّلاةِ ........... هذا كلام ابن القاسم في المدونة، لكن روي عن مالك أنه كان يسدُّ فاه أيضاً في الصلاة، فإن احتاج إلى نفثٍ نَفَثَ في طرفِ ثوبِه. قال في الواضحة: ويقطع القراءة. وذَكر.

هذه المسألة هنا- وإن لم تكن من زيادة القول- لمِناسبتها للضحك والتنحنح والتبسم، والله أعلم. النُّقْصَانُ: رُكْنٌ وَسُنَّةٌ، وَفَضِيلَةٌ أي: يتنوع إلى هذه الأنواع، وفي كلامه حذف؛ أي: نقص ركن. فَالرُّكْنُ لا يَنْجَبِرُ إِلا بِتَدَارُكِهِ إِلا النِّيَّةَ وَتَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ أي: أن الركن لا ينجبر إلا بالإتيان به، ولا يَرِدُ عليه إجزاءُ السجود عن الفاتحة في قولٍ، فإن ذلك مبنيٌّ على عدم الوجوب. وقوله: (إِلا النِّيَّةَ وَتَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ) أي: فإنهما لا يتداركان بوجه؛ لأنهما إذا اختلا أو اختل أحدهما لم يحصل الدخول في الصلاة. وَيَفُوتُ بِعَقْدِ رَكْعَةٍ تَلِي رَكْعَتَهُ، وَهُوَ رَفْعُ الرَّاسِ. وَقِيلَ: الاطْمِئْنَانُ أي: يفوت التدارك بعقدِ الركعةِ التي تلي ركعةَ النقصِ، وهذا ظاهر إن كانت الركعة أصلية، وإن كانت غير أصلية- كمن قام إلى خامسة غلطاً- فاختلف: هل هي كالأصلية فيمتنع إصلاح الرابعة بالعقد أَوْ لا؟ لأن الخامسة لا حرمة لها على قولين حكاهما المازري، قال: وإذا قلنا: لا يَمْنَعُ عاد وكمَّل ما وجب مِن الركعات، فإن قلنا: يمِنع ذلك بطلت الرابعة، وهل يقضيها أو تكون الخامسةُ قضاءً؟ فيها قولان مبنيان على ما اشرنا إليه في مسألة الساجد لثنائيةٍ التاركِ لسجودِ الأُولى، هل ينوب له عن سجود الأولى؟ فانتهى. والخلافُ في انعقاد الركعة كثيرٌ شهير. فائدتان: الأولى: قالوا: وافق ابنُ القاسم أشهبَ في انعقاد الركعة بوضع اليدين في مسائلَ: مِنها: مَن تركَ [67/أ] السورة، وفي معنى ذلك مَن تركَ الجهرَ أو السرَّ.

ومنها: مَن ذكر سجود السهو قبل السلام مِن فريضةٍ في فريضةٍ أو نافلةٍ. ومنها: مَن ترك التكبيرَ في صلاة العيد. ومنها: مَن نسي سجودَ التلاوة. ونصَّ على هذه الأربعة صاحبُ النكت. ومنها: مَن نسي الركوع فلم يذكر إلا في ركوعِ التي تليها. قاله في البيان. ومنها: مَن سلم مِن اثنتين ساهياً ودخل في نافلة، فلم يذكر إلا وهو راكع. ومنها: مَن أقيمت عليه المغرب، وهو فيها قد أمكن يديه مِن ركبتيه في ركوع الثانية. فرآه ابن القاسم فوتاً في المجموعة، واختلف قول أشهب، فقال مرة: يرجع ما لم يرفع رأسه مِن ركوع الثانية، وقال مرة أخرى كابن القاسم. خليل: وقد يقال لا نسلم أن ابن القاسم يرى هذا انعقاداً، وإنما قال بالفوات لأحد أمرين: إما لخفة المتروك كترك السورة والجهر، وإما لعدم الفائدة كمِن ذكر أنه نسي ركوع الأولى وهو راكع، فإن رجوعه إلى الأولى لا فائدة فيه، إذ لا يصح له إلا ركعة، ألا ترى أنهم قالوا فيمِن ترك الجلوس وفارق الأرض بيديه وركبتيه أنه لا يرجع، مع كونه لم تنعقد له ركعة، بل ها هنا أَوْلَى؛ لأنه هنا قد تلبَّس بركنٍ، وتاركُ الجلوس لم يتلبس إلى الآن به. قال في البيان: ومِن المسائل أيضاً ما لا يكون فيه عقد الركعة إلا بتمامها بسجدتيها، وذلك مثل أن يذكر صلاة وهو في صلاةٍ، أو تقام عليه صلاةٌ وهو في صلاةٍ، على مذهب مَن يفرِّق في ذلك بين أن يكون قد عقد ركعة أو لم يعقد، ومثل أن ينسى القراءة جملة في الركعة الأولى- على مذهب من لا يقول بالإلغاء- فإنه إِنْ ذكر قبل أن يتم ركعة بسجدتيها قطع، وإن ذكر بعد أن صلى ركعة بسجدتيها أضاف إليها ثانية وخرج عن نافلة، أو أتم أربعاً وسجد قبل السلام وأعاد. واختُلف إذا ترك القراءة في الركعة الثالثة، فقيل: إنه يرجع إلى الجلوس ويسلم مِن ركعتين ما لم يركع. وقيل: ما لم يرفع رأسه مِن الركوع.

وقيل: ما لم يتم الثالثة بسجدتيها. فإن ركع على الأول، أو رفع على الثاني، أو أتمها بسجدتيها على الثالث تمادى إلى الرابعة، وسجد قبل السلام، وأعاد الصلاة. ومثل أن يَرْعُفَ على مذهبه في المدونة، فإنه يلغي تلك الركعة ما لم تتم بسجدتيها. انتهى. الفائدة الثانية: إذا بطلت الأولى في حق الإمام والفذ، فهل تصير الثانية أولى، والثالثة ثانية- وهو المشهور- أَوْ لا؟ وركعات الصلاة على حالها؟ قولان. وعلى المشهور فالركعة التي يأتي بها في آخر صلاته بناءً يقرأ فيها بأم القرآن فقط. وعلى الشاذ تكون قضاء، ويقرأ فيها بأم القرآن وسورة. وأما المأموم إذا بطلت عليه الأولى فلا خلاف أن الثانية باقيةٌ على حالها؛ لأن صلاتَه مبنيةٌ على صلاة إمامه. وَفِي الْفَوْتِ بِالسَّلامِ قَوْلانِ كما لو نسي السجود مِن الأخيرة حتى سلم، والفوتُ مذهبُ ابن القاسم، وعدمُه لغيرِه. ووجه الأول: أن السلام ركنٌ حصل بعد ركعة السهو، فيكون مُفِيتاً لركوع التي تليها. ووجه الثاني: أنه سلام حصل به الخروج مِن الصلاة، فلا يكون مانعاً كالسلام من اثنتين، ولأن السلام ركن قولي فأشبه الفاتحة. فَإِنْ أَخَلَّ برُكُوعٍ رَجَعَ قَائِماً، وَيُسْتُحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ رَاكِعاً أي: إذا انحط للسجود مِن غير ركوع فإنه يتدارك الركوع. واختُلف في الكيفية، فالمشهور أنه يرجع قائماً ثم ينحط للركوع مِن القيام، بناء على أن الحركة إلى الركن مقصودة، وعليه فيستحب أن يقرأ شيئاً ليكون ركوعه عقيب القراءة. وقوله: (وَقِيلَ: يَرْجِعُ رَاكِعاً) ظاهره أنه قول منصوص ونحوه لابن شاس، وجعله اللخميُّ مخرجاً على أن الحركةَ غيرُ مقصودة.

وَبِسَجْدَةٍ يَجْلِسُ ثُمَّ يَسْجُدُ، وَبِسَجْدَتَيْنِ لا يَجْلِسُ أي: إذا أخل بسجدةٍ رجع إلى الجلوس ثم يسجد، وهذا إذا لم يكن جلس. وقيل: يرجع ساجداً مِن غير جلوس، بناء على أن الحركة إلى الركن مقصودة أمْ لا؟ وأما لو جلس أوَّلاً لخرَّ مِن غير جلوس اتفاقاً. وقوله: (وَبِسَجْدَتَيْنِ) أي: وإن أخل بسجدتين انحط إليهما مِن قيام كما كان يصنع لو لم ينسهما. المازري: واختلف لو لم يذكر ذلك إلا وهو راكع في الثانية، هل يرفع رأسه ليخرَّ للسجود من قيام أم لا؟ على الخلاف في الحركات إلى الأركان، وهل هي مقصودة أم لا؟ وَلَوْ أَخَلَّ بِسُجُودِ ثُمَّ بِرُكُوعٍ مِنَ الَّتِي تَليِهَا لَمْ يَنْجَبِرْ بِسُجُودِ الثَّانِيةِ عَلَى الْمَنصُوصِ، بَلْ يَاتِي بِسُجُودٍ آخَرَ لِيُتِمَّ بِهِ الأُولَى. وَقِيلَ: يَنْجَبِرُ بِخِلافِ الْعَكْسِ أي: إذا أتى بركوع الركعة الأولى ونسي سجودها، ثم أتى بسجود الثانية ونسي ركوعها فالمنصوصُ أن ركوع الأولى لا ينجبر بسجود الثانية، وعلل في المدونة بأنه نوى به الركعة الثانية، أي: فلا ينصرف إلى الأولى، واعتُرِض بما لو نسي سجود الأولى حتى فات التدارك فإن الثانية ترجع أولى، فإذا جاز ذلك في كلها جاز في بعضها. وأجيب بأنه نوى بالسجود الثانية وهو تابع للركوع، فلما بطل الركوع بطل السجود للتبعية. وقوله: (وَقِيلَ: يَنْجَبِرُ) هو مقابل المِنصوص، وهو مخرَّجٌ، خرَّجه اللخمي على قول ابن مسلمة فيمن أخل بسجود الرابعة وسجد للسهو قبل السلام أن ذلك يجزئه عما أخلَّ به. وفرق بأن سجود السهو لم يقصد به ركعة بعينها، فلذلك أجزأه عما أخل به بخلاف سجود الثانية. فعلى هذا فقول المصنف: (وَقِيلَ: يَنْجَبِرُ) ليس بظاهر؛ لإيهامه أنه قول منصوص.

وإذا فرعنا على المنصوص فقال عبد الحق: ينبغي إن ذكر ذلك راكعاً أو (67/ب) ساجداً أن يرجع إلى القيام ليأتي بالسجدتين وهو منحط لهما من قيام، فإن لم يفعل وسجد السجدتين على حاله فقد نقص الانحطاط، فيكون سجوده قبل السلام، وهكذا قال لي بعض شيوخنا. انتهى. وَأَرْبَعُ سَجَدَاتٍ مِن أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يُتِمُّ الرَّابعَةَ وَيَبْطُلُ مَا قَبْلَهُا، وَيَجْرِي عَلَى كَثْرَةِ السَّهْوِ ....... أي: ولو أخل بأربع سجدات من أربع ركعات- أي: ترك من كل ركعة سجدة- لأتم الرابعة وبطلت الثلاث الأُوَل لانعقادِ الرابعة، فتصير الرابعةُ أُولَى، ثم يأتي بثانيةٍ بأمِّ القرآن وسورة ويجلس، ثم بركعتين بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام لنقص السورة مِن الأولى. قوله: (وَيَجْرِي عَلَى كَثْرَةِ السَّهْوِ) أي: فتبطل عند مَن يرى البطلانَ بزيادةِ النصف. قال في الجواهر: وإن نسي السجدات الثمانية ولم يحصل له إلا ركوع الرابعة فليبْنِ عليه. وَلَوْ سَجَدَ الإِمَامُ وَاحِدةً وَقَامَ فَلا يُتْبَعُ، وَلْيُسَبَّحُ به، فَإِذَا خِيفَ عَقْدُهُ قَامُوا فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا، فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَامُوا، كإمام قام من اثنتين، فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا كَإِمَامٍ قَعَدَ فِي ثَالِثَةٍ ..... أما عدمُ إتباعهم وتسبيحُهم فظاهرٌ لعله يرجع إليهم، فإذا خيف عقد الركعة الثانية- على زعمه- قاموا واتبعوه، وكانت هي الأولى بالنسبة إلى اعتقادهم، فإذا جلس كان كإمام جلس في الأولى فلا يُتْبَعُ ويقومون، وهو قوله: (فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا). وقوله: (فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ) أي: إلى الثالثة في اعتقاد الإمام. ومعنى (قَامُوا) أي: استمروا على القيام. ففيه تجَوُّزٌ.

وقوله: (فَإِذَا جَلَسَ) أي: في الرابعة على اعتقاده، قاموا كإمام قعد في ثالثة. والحاصل أنهم يتبعونه في القيام دون الجلوس، وأصل هذه المسألة لسحنون، وفيها نظرٌ؛ لأنهم متعمدون لإبطالِ الأُولَى لتركِهم السجودَ، ومَنْ تعمد إبطالَ ركعةٍ مِن صلاته بطل جميعُها. ولو قيل: إنهم يسجدون سجدة ويدركون الثانية معه، فتصح لهم الركعتان ما بَعُدَ. فإن قلت: في ذلك مخالفة على الإمام وقضاء في حكمه، وهو غير جائز. فالجواب: أَمَّا المخالفةُ فهي لازمةٌ لهم أيضاً؛ لأنه قائم وهم جلوس، وأما القضاءُ في حكم الإمام فقد أُجيز مثلُه في الناعسِ والغافلِ والمزحومِ خوفاً من إبطال الركعة، فكذلك هنا. فَإِنْ سَلَّمَ أَتَمَّ بِهِمْ أَحَدُهُمْ عَلَى الأَصَحِّ وَسَجَدُوا قَبْلَ السَّلامِ الأصح لسحنون، قال في النوادر بعد نسبته إليه: وإن صلوا أفذاذا أجزأهم. وأجرى ابنُ عبد السلام الخلافَ على أنه إذا بطلت الأولى، هل ترجع الثانية أولى؟ إذ هم يعتقدون بطلان أُولى الإمام، فإن قلنا بالرجوع فيؤمهم أحدهم لكونهم مؤديين، ويكون سجودهم قبل السلام لاجتماع الزيادة والنقصان، فالزيادة هي الركعة الأولى، والنقصان هو نقص القراءة مِن ركعة، ونقصُ الجلوس مِن الأوسط، وأما على القول بأنهم يأتون بهذه قضاء يقرؤون فيها بأم القرآن وسورة، فيسجدون بعد السلام لتحقق الزيادة في حقهم دون النقص؛ لوقوع الجلوس في محله وعدم نقص القراءة. واعترضه ابن هارون بأنه لا خلاف أنهم يأتون بالأفعال بناء، وإنما الخلاف في الأقوال، والمشهور أنهم يأتون بها أيضاً بناء، بخلاف المسبوق بها، وعلى هذا فيكون سجودهم قبل السلام لإسقاط الجلوس الوسط على القولين، كما ذكر المصنف. انتهى.

وَمَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي رَكْعَةٍ رُبَاعِيَّةٍ فَفِيهَا قَوْلانِ: يُلْغِيهَا، وَتَنْجَبِرُ بِالسُّجُودِ. وَعَلَى الْجَبْرِ، ثَالِثُهَا: يُعِيدُ أَبَداً ..... أي: من ركعةِ صلاةٍ رباعيةٍ. واحترز مِن الثنائية، وأما الثلاثية فهي كالرباعية، قاله في المقدمات، وقد تقدمت هذه المسألة. وَالشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ إِلا أَنَّ الْمُوَسْوِسَ يَبْنِي عَلَى أَوَّلِ خَاطِرَيْهِ أي: إذا شك في الإتيان بركن فذلك كتحقق النقص يبني على القليل، والأصل فيه الحديث: ((إذا شك أصلي ثلاثاً أم أربعاً، فليأت برابعة ... الحديث)). وما ذكر في الموسوس تقدم مثلُه والكلامُ عليه في الطهارة. فائدة: الشكُّ مستنكِحٌ وغيرُ مستنكِح، والسهو كذلك، فالشك المستنكِح هو أن يعتري المصلي الشكُّ كثيراً بأن يشك هل زاد أو نقص، ولا يتيقن شيئاً فيبني عليه، وحكمه أنه يلهو عنه ولا إصلاح عليه، ولكن عليه أن يسجد بعد السلام. والشك غير المستنكح كمن شك أصلي ثلاثاً أم أربعاً، وحكمه واضح. والسهو المستنكح هو الذي يعتري المصلي كثيراً، وحكمه أن يصلح ولا يسجد. والسهو غير المستنكح هو الذي لا يعتري المصلي كثيراً، وحكمه أنه يصلح ويسجد على حسب ما سها. وَالشَّكُّ فِي مَحِلِّهِ كَمَنْ شَكَّ فِي مَحِلِّ سَجْدَةٍ فِي التَّشَهُّدِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَسْجُدُ وَيَاتِي بِرَكْعَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيَتَشَهَّدُ. وَقَالَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ: يَاتِي بِرَكْعَةٍ فَقَطْ ........ الضمير في (مَحِلِّهِ) عائدٌ على النقص؛ أي إذا تحقق النقص وشك في محله كمِن شك في التشهد الأخير، فذكر سجدة لا يدري مِن أي ركعات الأربع هي، وذكر ثلاثة أقوال:

قال ابن القاسم: يسجد الآن سجدة لاحتمال أن تكون من الرابعة، ثم يأتي بركعة لاحتمال أن تكون من إحدى الثلاثِ الأُوَلِ. وزاد عبدُ الملك- على هذا- التشهدَ قبل أن يقوم لإتيان الركعة؛ لأن سجودَه إنما كان مصححاً للرابعة، والتشهدُ مِن تمامِها. ووجهُ قول ابن القاسم أن المحقَّقَ له حينئذ إنما هو ثلاثُ ركعات وليس هو بمحلِّ تشهدٍ، وإليه نَحَا ابن المواز. وقال أشهب وأصبغ: لا يسجد بل يأتي بركعة فقط، إذ المطلوب إنما هو رفع الشك فقط بأقل (68/أ) ما يمكن، وكل ما يُزاد على ذلك فهو زيادة يجب اطِّراحُها. وَفِي قِرَاءَتِهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ سُورَةٍ وَسُجُودِهِ قَبْلَ السَّلامِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ فابن القاسم يقرأ فيها بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام؛ لأنه زاد ركعة، وصارت الثالثة ثانية، فنقص مِنها السورة والجلوس. وقال أشهب وابن وهب: يكون قاضياً؛ فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ويسجد بعد السلام، حكاه اللخمي. فَلَوْ كَانَ فِي قِيَامِهَا جَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ تَشَهَّدَ عَلَى الأَوَّلَيْنِ أي: القولين الأولين، قول ابن القاسم وعبد الملك؛ لأنه لما كان مأموراً بالجلوس والسجود عليهما ولم يتحقق له إلا ركعتان أُمِرَ بالتشهد، ويأتي على مذهب أشهب أنه لا يسجد؛ لأن معه ركعتين صحيحتين، فيأتي بركعتين ولا يجلس؛ لأنه حينئذ بمنزلة مَن قام مِن اثنتين، وهو ظاهرٌ. وكلامُ المصنف أولى مِن كلام ابن يونس؛ لأنه حكى الاتفاق على التشهد في هذه المسألة، قال: لأنه موضع جلوس. فَلَوْ كَانَ فِي قِيَامِ الثَّالِثَةِ جَاءْتِ الثَّلاثَةُ أي: فلو ذكر السجدة في قيام الثالثة، فعلى قول ابن القاسم: يسجد ولا يتشهد. وعلى قول عبد الملك: ويتشهد. وعلى قول أشهب: لا يسجد، بل يبني على ركعة فقط.

السُّنَنُ: إِنْ كَانَ عَمْداً فَثَالِثُهَا: تَصِحُّ وَيَسْجُدُ لما قدم أن النقص على ثلاثة أقسام, وقدم الكلام على نقص الركن أتبعه بالكلام على نقص السنن. وذكر أنه إذا ترك سنة عمداً, ثلاثة أقوال: الأول: الصحة, ولا سجود عليه لابن القاسم ومالك, لأن السجود إنما أتى فى السهو. الثانى: تبطل, قاله ابن كنانة, لأنه كالمتلاعب. الثالث: تصح ويسجد, قاله أشهب. وزِيدَ رابعٌ بالإعادة فى الوقت. وَإِنْ كَانَ سَهْواً فِعْلاً سَجَدَ قَبْلَ السَّلامِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلاً قَلِيلاً كَالتَّكْبِيرَةِ فَمُغْتَفَرٌ. وَقِيلَ: يَسْجُدُ ..... قوله: (فِعْلاً) أى: الجلوس الوسط. قيل: وليس من الأفعال ما يُسجد له غيره, وقد ذكر المصنفُ حكمَ الجلوس بعدَ هذا, لكن ذكره هنا ليكون التقسيم جامعاً. وقوله: (وَإِنْ كَانَ قَوْلاً قَلِيلاً كَالتَّكْبِيرَةِ فَمُغْتَفَرٌ) ظاهر. وكالتكبيرة: سمع الله لمن حمده, مرة, والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم, والتشهد. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَثَالِثُهَا يَسْجُدُ بَعْدَهُ أى: وإن كان أكثر من تكبيرة – كتكبيرتين – فثلاثة أقوال: المشهور: يسجد قبل السلام كما لو نقص سنة فعلية. والقول بعدم السجود لأشهب, ولفظة: ماأرى عليه السجود واجباً. قاسَهُ على التسبيح فى الركوع والسجود, وأنت تعلم أنَّ نفى الوجوب لا يَلْزَمُ منه نفى الندب, لكن قياسه على التسبيح يقتضى نفيه جملة.

والقول بأنه يسجد بعد السلام هو لأشهب أيضا. وَجَاءَ فِي السُّورَةِ يَسْجُدُ، وَفِي التَّشَهُّدَيْنِ مَعاً يَسْجُدُ أى: وجاء عن مالك فيما إذا ترك السورة أنه يسجد, وهذا هو المشهور. وروى عن مالك نفى السجود, وبه قال أشهب. وقوله: (وَفِي التَّشَهُّدَيْنِ مَعاً يَسْجُدُ) أى أن التشهدين كالتكبيرتين يسجد لهما, والتشهد الواحد كالتكبيرة لايسجد له. وفى بعض النسخ: وفى التشهدين لايسجد, يعنى: فى كل واحد منهما منفردا. سؤالٌ: السجود إنما يجب لفوات محل التدارك, والسجودُ هنا قبلُ, وقبلَ السلام لم يَفُتْ محلُّ التشهد الثانى, فيبقى التشهد الأول وحده, والمذهب لاسجود فيه؟ وأجيب: بأن السجود لإسقاط التشهد الأول, وزيادة الجلوس قبل الثانى, إذ لايقال سها عنه إلا إذا أَخَّرَه. وجواب ثان: وهو أنه لم يَذكُر حتى سلم, فقد قال مالك فى المدونة: إذا ذكر ذلك بقرب السلام يرجع ويتشهد ويسلم ويسجد. وفى الجلاب مثله بناءً على أن السلام ليس بمانعٍ من الاستدراك, وروى عنه رواية بالفوات بناء على أن السلام مانع. وَيَسْجُدُ لِلْجُلُوسِ، فَإِنْ ذَكَرَ مُفَارِقاً للأَرْضِ لَمْ يَرْجِعْ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ مَا لَمْ يَسْتَقِلَّ قِائِماً، فَإِنْ رَجَعَ فَفِي السُّجُودِ قَوْلانِ، وَبَعْدَ الاسْتِقْلالِ فَفِي الْبُطْلانِ قَوْلانِ، ثُمَّ فِي مَحِلِّ السُّجُودِ قَوْلانِ ...... يسجد لترك الجلوس الوسط لكونه محتويا على ثلاث سنن: الجلوس, والتكبير, والتشهد. وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَ ... إلخ) اعلم أن لهذه المسألة ثلاث حالات:

إحداها: أن يذكر قبل أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه فيرجع, والمشهور: لاسجود عليه فى تزحزه, لأن التزحزح لو تعمده لم تفسد صلاته, وما لايفسد عمده فلا سجود فى سهوه, فإن قام ولم يرجع فإما أن يكون ناسياً أو عامداً أو جاهلاً. فالناسى: يسجد قبل السلام. والعامد: يجرى على تارك السنن عمداً. والمشهور: إلحاق الجاهل بالعامد. وحكى ابن بطال أن من قام من اثنتين عمداً بطلت صلاته اتفاقاً. وليس بظاهر. الحالة الثانية: أن يذكر قبل استقلاله, وبعد مفارقته الأرض بيديه وركبتيه, فالمشهور: لايرجع ويسجد قبل السلام. وقيل: يرجع. ومنشأ الخلاف هلى النهوض إلى القيام فى حكم القيام, أو لايفارق حكم الجلوس إلا مع الانتصاب؟ وقيل: إن كان إلى القيام أقرب لم يرجع, وإن كان إلى الجلوس أقرب رجع. وقد ذكر المصنف الأوَّلَيْن, وعلى المشهور: إن رجع فإما عمداً أو سهواً أو جهلاً, ولا تبطل صلاته فى الثلاثة مراعاة لمن قال بالرجوع. واختُلف إذا رجع– على المشهور– هل يسجد بعد السلام لتحقق الزيادة أو لايسجد لخفتها [68/ ب] وقِلَّتِها؟ قولان, والأول أظهرُ, رواه ابن القاسم عن مالك فى المجموعة. الحالة الثالثة: أن يذكر بعد استقلاله فيتمادى اتفاقاً, ويسجد قبل السلام, لأنه قد شرع فى واجب فلا يبطل بسنة. واختلف إذا رجع عمداً: هل تبطل صلاته لإبطاله فرضا وقد تلبس به, أو لا يبطل, لأنه إنما رجع لإصلاح صلاته؟ فى المذهب قولان. المازى وابن راشد: والمشهور الصحة. والقول بالبطلان حكاه ابن الجلاب عن عيسى بن دينار, ومحمد بن عبد الحكم, وحكاه فى النوادر عن محمد بن سحنون, وصححه مصنف الإرشاد. وقال سحنون: فإذا جلس فلا ينهض حتى يتشهد. وإن كان مأموراً ابتداء بأن لا يرجع. ابن راشد: ولا أعلم خلافا إذا رجع ساهيا أن صلاته تامةٌ. وقد ذكر الاتفاقَ على ذلك سندٌ.

وقوله: (ثُمَّ فِي مَحِلِّ السُّجُودِ قَوْلانِ) هذا تفريغ على القول بالصحة, وأما على القول بالبطلان فلا يحتاج إلى تفريغ. أى: إذا قلنا بالصحة فرور ابن القاسم عن مالك فى المجموعة أنه يسجد بعد السلام لتحقق الزيادة, ورواه أيضاً أشهب وابن نافع. وقال أشهب وابن زياد: يسجد قبله. فرع: ابن راشد: فلو نسى الإمام الجلوس وذكر بعد اعتداله فليتبعه المأموم, فإن رجع الإمام إلى الجلوس قبل قيام المأموم فعلى رواية ابن القاسم يبقى المأموم جالسا معه ولا يقوم إلا بقيامه, لأنه عنده جلوس يعتد به. قال سند: ويحتمل أن يقال على قول أشهب: لايقوم إلا بقيامه وإن كان لايعتد به, لان المأموم باق على جلوسه الأصلى, وليس الإمام باقياً على قيامه فيتبعه فيه, ويحتمل أن يقال: لما اعتدل الإمام تعيَّن على المأموم اتباعه, فإذا أخطأ الإمام بالرجوع لم يتبعه المأموم فى خطئه, ويترك فعل مايجب عليه فعله, وهذا هو القياس. ولو قام المأموم فلما اعتدل رجع الإمام فهاهنا لايتبعه على قول أشهب, لأنه قد دخل فى قيام واجب, فلا يتركه لخطأ الإمام, ويتبعه على رواية ابن القاسم, لأنه فَعَلَ ما يُعتد به. ولو اعتدل المأموم قبل الإمام ثم رجع الإمام فهاهنا يرجع المأموم, والله أعلم. انتهى. وَالْفَضَائِلُ: لا سُجُودَ لَهَا هذا متفق عليه. ابن عبد السلام: ونص أهل المذهب على أنَّ من سجد قبل السلام لتركِ الفضيلة أعاد أبداً, وكذلك قالوا – فى المشهور– إذا سجد للتكبيرة الواحدة قبل السلام.

وَالْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ مَعَ الإِمَامِ قَبْلَ السَّلامِ إِنْ كَانَ لَحِقَ رَكْعَةً، فَإِنْ سَهَا بَعْدَهُ فَفِي إِغْنَائِهِ قَوْلانِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَتْبَعُهُ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: يَتْبَعُهُ ...... أى: أن المسبوق إذا لَحِقَ ركعة فأكثر, وسجد إمامُه قبل السلام, فإنه يسجد معه, سواء حضر السهو أَوْ لا, وهذا هو المشهور. وقال أشهب: إنما يسجد إذا قضى مافاته, ورواه ابن عبدوس عن ابن القاسم. قال فى البيان: وهذا على قياس المنقول بأن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته, إذ لايكون سجود السهو فى وسط الصلاة. فإذا سجد معه على المشهور, ثم سها بعده, أى: بعد إمامه, ويحتمل بعد السجود, فهل يغتنى بسجوده الأول؟ وهو قول ابن الماجشون. أولا يغتنى به؟ وهو قول ابن القاسم, وهو المشهور. ابن عبد السلام: بناء على استصحاب حكم المأمومية أَوْ لا. قال: وينبغى أن يكون من ثمرة هذا الخلاف وجوب القراءة فيما ياتى به بعد سلام الإمام وسقوطها. خليل: وفيه نظر, لأن حكم المأموم بعد مفارقة الإمام كالمنفرد, بدليل أن الإمام لو لم يسه ثم سها المأموم لسجد اتفاقا. وعلى هذا ففى البناء الذى ذكره نظر, لكن ابن القاسم لم يَرَ الاكتفاء بالسجود, لأن السجودجابر فلا ينوب عن سهو لم يتقدمه. ورأى ابن الماجشون الاكتفاء, لأن من سنة الصلاة ألا يتكرر فيها السجود, والله أعلم. قوله: (فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم: لا يَتْبَعُهُ) قولُ ابن القاسم هو المشهور, وقال سحنون: يتبعه, لأن لما دخل مع الإمام وجبت متابعته. وحكى ابن عبد السلام عن أهل المذهب أنهم قالوا: لو تبعه على قول ابن القاسم بطلت صلاته. وقال ابن هارون: قال صاحب اللباب: إنها لاتبطل. قال عيسى: سواء كان عالما أو جاهلاً, ويعيد السجود بعد السلام استحبابا عند ابن القاسم, وإيجابا عند أشهب. انتهى.

وفى كلام ابن هارون نظر, لان الذى نقله عن اللباب إنما نقله فى السجود البعدى, وهو إلى الآن لم يأت. وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلا، وَيَقُومُ إِمَّا بَعْدَ السَّلامِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَإِمَّا بَعْدَ السُّجُودِ، وَفِي تَعْيينِ الْمُخْتَارِ وَالتَّسْوِيَةِ ثَلاثةٌ .... يعنى: وأما فى السجود البعدى فلا يتبع المسبوق إمامه, وهل يقوم المأموم لقضاء مابقى عليه بعد سلام الإمام من صلب صلاته أَوْ لا يقوم حتى يفرغ من سجوده؟ قولان, وهو خلاف في الأَوْلَى, لا فى الوجوب. ونسب فى البيان الأقوال الثلاثة لمالك وابن القاسم. ومذهب المدونة ماذكره المصنف أنه المختار, فإذا قام قالوا: يقرأ ولا يسكت. قال فى المدونة: وإذا جلس فلا يتشهد وليدع. فرع: فلو سجد المسبوقُ السجودَ [6?/ أ] البعدى فإن تعمد ذلك فقد أفسد صلاته, وإن جهل فقال عيسى: يعيد أبداً. قال فى البيان: وهو القياس على أصل المذهب, لأنه أدخل فى صلاته ماليس منها, وعذره ابنُ القاسم بالجهل, فحكم له بحكم النسيان مراعاةً لمن يقول: عليه السجود مع الإمام. وهو قول سفيان. انتهى. ثُمَّ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلامِ، فَلَوْ سَهَا بَعْدَهُ يِنَقْصٍ فَفِي مَحِلِّ سُجُودِهِ قَوْلانِ قوله: (ثُمَّ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلامِ) يريد إذا كان لحق ركعة, وكذلك الخلاف فى الانتظار والقيام, وأما من لم يدركها فلا يسجد بعد سلام نفسه ولا ينتظره حتى يسجد, بل يقوم للقضاء بنفس السلام.

وقوله: (فَلَوْ سَهَا بَعْدَهُ) أي: فلو سها هذا المأموم بعد سلام إمامه, فإذا كان بزيادةٍ فلا شك فى بقاء سجوده بَعْدِيّاً, فإذا كان بنقصٍ فقال ابن القاسم فى العتبية, وأشهب فى المجموعة: يرجع سجودُه قبلَ السلام, لاجتماع الزيادة والنقص. وقال عبد الملك: ولا يسقط عنه مالزمه مع إمامه, ألا ترى أنه يسجد موافقةً لإمامه ولو لم يَسْهُ. وعبر ابن شاس عن قولِ عبدِ الملك بالمنصوص. وفيه نظرٌ, ولعله لم يطَّلع على قولٍ ابن القاسم وأشهب. وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ بِالسَّهْوِ بَعْدَهُ فَكَالْمُنْفَرِدِ يعنى: أما لو لم يسه إمامُ المسبوق بل سها المسبوقُ فقط فحكمُه فى سهوه كحُكمِ المنفرد, فإن كان بزيادة ٍ فبعده, وإن كان بنقص أو بهما فقبله. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدُ الإِمَامُ لِسَهْوِهِ سَجَدَ الْمَأمُومُ هذا ظاهر إن كان السجود بعدياً أو قبلياً, ولا تبطل الصلاة به, فإن كان مما تبطل الصلاة به فتبطل أيضاً على المأموم, وهو الذى يظهر ببادى الرأى, لكن قال فى البيان: إن كان السجود مما تبطل الصلاة بتركه, فإن لم يرجع الإمام إلى السجود بطلتْ صلاتُه وصحَّتْ صلاتهم, لأن كل ما لا يحملُه الإمام عمَّن خلفه لا يكون سهوُه عنه سهواً لهم إذا هم فعلوه, وهذا أصل, وبالله التوفيق. انتهى. وَلا يَسْجُدُ الْمَامُومُ لِسَهْوِهِ مَعَ الإِمَامِ لما رواه الدارقطنى: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على من خلف الإمام سهو, فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه".

فَإِنْ ذَكَرَ الْمَامُومُ سَجْدَةً فِي قِيَامِ الثَّانِيّةِ فَإِنْ طَمِعَ فِي إِدْرَاكِهَا قَبْلَ عَقْدِ رُكُوعِ إِمَامِهِ سَجَدَهَا وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ تَمَادَى وَقَضَى رَكْعَةً بِسُورَةٍ ..... لما ذكر أن الإمام يحمل سهو مأموميه خشى أن يتوهم أنه يحمل سهوه مطلقا فى السنن والفرائض, فذكر هذا الكلام ليبن أنه إنما يحمل عنه السنن ولا يحمل عنه الفرائض. وقوله: (سَجْدَةً) أى: أو سجدتين, من بابِ الأَوْلَى. وقوله: (ذَكَرَ) يقتضى أنه نسى, إذا لا يُقال ذَكَرَ إلا مع النسيان. قوله: (َإِنْ طَمِعَ فِي إِدْرَاكِهَا قَبْلَ عَقْدِ رُكُوعِ إِمَامِهِ سَجَدَهَا وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ) أى: لا سجود عليه لحمل الإمام: وليس هذا متفقا عليه كما قيل, فإن ابن راشد نقل روايتين: إحداهما هذه, والثانيه: انها مثل الركوع لا يتبعه فى الأولى ويتبعه فى الثانية. وقوله: (قَبْلَ عَقْدِ رُكُوعِ إِمَامِهِ) هو على الخلاف في العقد، والله أعلم. فرع: واختلف إذا كانت الاخيرة ولم ينتبه لذلك حتى سلم الإمام, فقال ابن القاسم وأشهب ومطرف وابن الماجشون: يسجد بعد السلام ويجزئه. وقيل: لا يسجد, وسلام الإمام حائل فياتى بركعة. وقوله: (وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ تَمَادَى) لأنه لو رجع لإصلاح الأولى لم يحصل بيده سوى ركعه مع مالفة الإمام. (وَقَضَى رَكْعَةً بِسُورَةٍ) لأن الأولى إذا بطلت على الماموم لم تصر الثانية أولى اتفاقا كما تقدم. ثُمَّ إِنْ كَانَ عَنْ يَقِينٍ لَمْ يَسْجُدْ، وَإِلا سَجَدَ بَعْدَهُ وَالْمَزْحُومُ كَالسَّاهِي أى: إن كان عن يقين من نقص سجود لم يسجد, لأنه سهو فى حكم الإمام والركعة التى أتى بها فى محلها.

(وَإِلا سَجَدَ بَعْدَهُ) أى: وغن لم يكن على يقين من النقض سجد بعد السلام, لا حتمال أَلا يكون نقض, فتكون الركعه التى قضى زيادة فيسجد لها بعد السلام. وَالْمَزْحُومُ كَالسَّاهِي أى: وحكمُ المزحومِ كَحكمِ الساهي. فَإِنْ كَانَ رُكُوعاً فَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَرْبَعَةٌ: فَوَاتُهَا، وَمِثْلُ السُّجُودِ، وَمِثلُهُ مَا لَمْ يَقُمْ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَمِثلُهُ مَا لَمْ تَكُنِ الأُولَى. وَقِيلَ: مِثْلُهُ مَا لَمْ تَكُنْ جُمُعَةً ...... ابن عبد السلام: الأقرب انتصابُ ركوع على إسقاطِ الخافض, وإن كان مقيس عند البصريين. انتهى. وفيه نظر, والأحسن أن يُجعل خبر كان, أى: فإن كان المتوك لسهوٍ أو زحامٍ ركوعاً. وحاصل ما ذكره خمسة أقوال: الأول: أنها تفوت مطلقاً؛ لأنه لو أتى بها لأدى إلى مخالفة الإمام والقضاء في حكمه. الثانى: أنه مثل السجود؛ أى: فيركعُ ويلحق الإمام ما لم يرفع رأسه من الركوع فى الثانية, أو يركع على اختلاف القول في ذلك, فإن لم بفرغ من ذلك حتى الإمام من الركوع فى الثانية فقد فاتت الركعتان معاً. الثالث: أنه يتبعه ما لم يرفع الإمام من سجود هذه الركعة المسبوق فيها. ابن عبد السلام: وهذا معنى كلام المصنف, وإن أراد غير هذا فليس كما أراد. ونقل المازرى أنه اختلف إذا قلنا باعتبار السجود هل تعتبر السجدتان معاً أم الأولى؟ المشهور: اعتبارهما. والثانى: ذكره ابن أبى زمنين عن بعض أصحابنا. الرابع: أنه يتبعه فى ركوع الثانية والثالثة ما لم يرفع من سجودها, ولا يتبعه فى الأولى, [6?/ب] بل يحكم عليه بفواتها, وهذا هو المشهور.

وقوله: (وَقِيلَ: ... إلخ) نسبة فى الجلاب لابن عبد الحكم, فقيل: يركع ويسجد, ويعتدْ بالركعة إن فرغ من فعلها قبل قيام الإمام إلى الركعة الثانية- فى قول ابن عبد الحكم- إلا أن يكون ذلك في صلاة الجمعة, فإنه لا يعتد بالركعة ويلغيها. وحكى فى البيان الأربعة الأُولَ عن مالك من رواية ابن القاسم, لأنه قال: لمالك فى المسألة ثلاثة أقوال: الأول: يتبع مطلقاً. الثانى: فواتها مطلقاً. الثالث: التفصيل, فلا يتبعه فى الأولى ويتبعه فيما عداها. واختلف قوله إلى أى حدٍّ يتبعه- على الأول وعلى الثالث- على قولين: أحدهما: أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجود الركعه التى غفل فيها. والثانى: أنه يتبعه مالم يعقد الركعه التى تليها, على اختلاف قوله فى العقد, هل هو بالرفع أو بوضع اليدين على الركبتين؟ قال: وسواء على مذهب مالك غفل, أو سها, او نعس, أو زوحم, أو اشتعل بحل إزاره, أو ربطه وما أشبه ذلك. وسواء أيضاً على مذهبه أحرم قبل أن يركع الإمام, أو بعد أن ركع إذا كان لولا ما اعتراه من الغفلة وما أشبهه لأدرك معه الركوع, وأما لو كبر بعد أن ركع الإمام فلم يدرك معه حتى رفع رأسه فقد فاتته الركعة ولا يجزئه ان يركع بعده ويتبعه, قولاً واحداً. وأخذ ابن وهب واشهب بقول مالك الأول إذا احرم قبل ان يركع الإمام, وبالقول الثانى إذا أحرم بع أن ركع الغمام, ولم بفرقا بين الزحام وغيره. وأخذ ابن القاسم فى الزحام بالقول الثانى, وفيما سواه من الغفلة والاشتغال بالقول الثالث. انتهى باختصار.

ولَوْ ظَنَّ أَنَّ الإِمَامَ سَلَّمَ فَقَامَ رَجَعَ مَا لَمْ يُسَلِّمْ وَلا سُجُودَ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ سَلامِهِ وَكَمَّلَ حِينَئِذٍ، وَثَالِثُهَا يَسْجُدُ بَعْدَهُ .... يعنى: إذا ظن المسبوق أن الإمام سلم, فقام لقضاء ما عليه, فتبين له أن الإمام لم يسلم, فإن تبين له ذلك قبل سلامه رجع ولا سجود عليه, لأنه سها مع الإمام, وإن لم يتبين له ذلك حتى سلم فإنه لا يرجع حينئذ, لانه إنما كان يرجع إلى الإمام وقد زال, ولا يعتد بما فعل قبل سلام الإمام, وهذا هو المشهور. ونقل بعضهم عن المبسوط قولاً أنه يعتد به, وحكاه المازرى عن ابن نافع, واستَغْرَبَهُ ابنُ رشد وقال: إنما الخلاف فى الاعتداد فى هذه المسألة إذا أدرك المسبوق مع الإمام مالم يعتد به, كما لو أدرك سجود الأخيرة. وقوله: (وَكَمَّلَ حِينَئِذٍ) أى: بعد سلام الإمام. وقوله: (وَثَالِثُهَا يَسْجُدُ بَعْدَهُ) هذا الخلاف مقيد بما إذا سلم عليه وهو غير جالس إما قائم أو راكع, وأما لو سلم عليه والمأموم جالس فلا يطالب بالسجود اتفاقاً. وقوله: (وَثَالِثُهَا) أى: قول بنفى السجود, وقول بثبوته قبلياً, وقول بثبوته بعدِيّاً. والأول: للمغيرة, وصححه ابن الجلاب, لأنه سهو فى حكم الإمام. الثانى: هو المشهور, وعلله سحنون وابن المواز بنقص النهضة بعد السلام. وقال ابن العربى: لأنه زاد القيام قبل السلام ونقص الاقتداء بالإمام فى الانتظار, والأول: اظهر, لأان ما فعل من ذلك سهو فى حكم الإمام. والثالث: لابن عبد الحكم في المختصر وهو مشكل؛ لأنه لا موجب للسجود بعد السلام, إلا أن يُقال: لما ضَعُفَ مُدْرَكُ السجود أُخِّرَ. فرع: وعلى المشهور, فإن سلم عليه وهو ساجد فقال المازى: إن رفع رأسه من السجود إلى الجلوس سجد بعد السلام, لزيادته بعد الإمام رفعَ الرأس من السجود إلى الجلوس,

وإن رفع رأسه إلى القيام سجد قبل السلام, لنقصه جزءاً مِن النهضة, لأن حقه أن ينهض إلى القيامِ مِن جلوس, فنهض إليه من سجود, وفى ذلك نقصُ شيء من النهضة. وَيُؤْخَذُ تَارِكُ الصَّلاةِ بِهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ لا الاخْتِيَارِيِّ عَلَى الْمَشْهُورِ أى: إن تارك الصلاة لا يُقَرُّ على التَّرْكِ, ويُؤَاخذ على ذلك, وهذا متفق عليه. واختُلف فى وقت المؤاخذة, فالمشهورُ أنه آخرُ الوقت الضرورى, المازرى: والمعروف أنه لا يُقتل حتى يبقى بينه وبين آخر الوقت الضرورى مقدارُ ركعة, فحينئذ إن لم يُصَلِّ قُتِل. والمشهورُ اعتبارُ ركعة بسجدتيها, وقال أشهب: الركوع فقط. ولا يُعتبر مقدارُ قراءة الفاتحة, لأنه قد قيل عندنا: إنها ليست فرضاً فى كل ركعة. وقد ذكر ابن خويزمنداد أن المعتبر مقدار أربع ركعات للعصر قبل الغروب, مع القول باعتبار الوقت الضرورى, وكان عبد الحميد يقول: إذا راعينا الخلاف لم يقتل حتى يبقى من الوقت مقدارُ تكبيرة الإحرام, لأن الجماعة قد قالوا بالإدراك بذلك, وهذا التحفظُ– لصيانة الدم– طَرَفُ نقيضٍ مع ماذكره ابن خويزمنداد من أنه إنما يؤخر إلى آخر الوقت الاختيارى, ليس بشيئ إلا أن يرى قائلُه أن مابعد الوقت الاختيارى ليس بوقتٍ للأداء. انتهى كلام المازى. وذكر عن أشهب أنه لا يُقتل حتى يَخرج الوقت, فإذا خرج الوقت ولم يصلِّ قُتِلَ. قال ابن رشد: وهو الأقيس, لأن الموجبَ هو الترك, ولا يتحقق إلا بعد ذهاب الوقت, وإيقاعُ المسَّببِ قبل وقوع سَببِه مُحَالٌ. فَإِنِ امْتَنَعَ فِعْلاً وَقَوْلاً قُتِلَ حَدّاً لا كُفْراً. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: كُفْراً أى: إن امتنع مِن فِعلها, وقال لا أصلى فإنه يقتل وفاقاً للجمهور, خلافاً لأبى حنيفة والماتريدى فى قولهما: أنه يُحبس ويُهدَّد ولا يقتل. وعلى المذهب لا يُقتل ابتداءً, بل يهدد, ولا يضرب, صرح بذلك ابن الجلاب, وظاهر المذهب أنه يضرب بالسيف, لأنه المتعارف.

وقال بعض فقهائنا: بل يُنخس بالسيف نَخْساً حتى يصلى أو يموت. وعلى القتل فالمشهور أنه حد. وقال ابن حبيب وفاقا لأحمد: كفراً. وعلى هذا القول فيختلف فى استتابته كالمرتد, وعليه لا تصح ذبيحته, ولا يقضي ما خرج وقته فى تلك الحال. واحتج لهذا المذهب بظواهر, فمنها مافى مسلمٍ عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر تَرْكُ الصلاة" وما رواه بُرَيْدَةُ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العهدُ بيننا وبينهم الصلاةُ, فمَن تركها فقد كَفَرَ" رواه الترمزى, وقال: هذا حديث حسن صحيح. وما رواه الترمذى فى كتاب الإيمان بإسناد صحيح: عن شقيق بن عبد الله التابعى المتفق على جلالته قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركُه كفرٌ غيرَ الصلاة. وما رواه ابن حبان فى صحيحه, عن ابن عمرو: أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يومَ القيامة, ومن لم يُحافظ عليها لم تكن له برهاناً ولا نوراً ولا نجاةٌ, وكان يومَ القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأُبَىِّ بن خَلَفٍ", ولقول عمر رضى الله عنه يوم وفاته: لا حَظَّ فى الإسلام لمن ترك الصلاة. وذلك بحضرتهم مِن غيرِ نكيرِ. ودليل الأول: أنَّ تاركَ الصلاةِ فى المشيئة, والكافر ليس فى المشيئة, فتاركُ الصلاة ليس بكافر, أما أنه فى المشيئة فلما رواه مالكٌ فى الموطأ أنه عليه الصلاة والسلام قال: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد فى اليوم والليلة" إلى قوله:"ومن لم يأت بهن, فليس له عند اللهِ عهدٌ, إِنْ شاء عذَّبه وإن شاء أدخله الجنة". وأما الكافر فليس فى مشيئة الله, لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ??6] , وعلى هذا فتحمل هذه الأحاديث وما أشبهها على التاركِ جحداً. قال ابن حبيب: وفى حكمه مَنْ قال: لا أصلى, من قال: لا أتوضأ, ولا

أغتسل من جنابة, ولا أصوم رمضان. وما ذكرناه إنما هو فى التارك إذا أَبَى خاصة. وأما إِنِ انضم إلى ذلك بعضُ الاستهزاء, كما يقوله بعض الأشقياء إذا أُمر بها: إذا دخلتَ الجنةَ فأغلِق البابَ خلفَك. فإنْ أراد أنَّ الصلاة لا أثر لها فى الدِّين فلا يُختلف فى كفره, وإن أراد صلاةَ المنكَر عليه خاصةً, وأنها لم تنهه عن الفحشاء والمنكر فهو مما اختلف فيه. قاله ابن عبد السلام. فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّي وَلَمْ يَفْعَلْ فَفِي قَتْلِهِ قَوْلانِ أى: فإن امتنع فعلاً لا قولاً فظاهرُ المذهب القتلُ, والقول بعدم القتل لابن حبيب, واستشكله اللخمى والمازى وغيرهما, لأن عدمَ امتناعه بالقول لا أثر له, والقتلُ إنما هو على تَرْكِ الفعلِ, وهو حاصل. أَمَّا جَاحِدُهَا فَكَافِرٌ بِاتِّفَاقٍ لا إشكال فى ذلك, والإجماع عليه, قال فى المدونة: وكذلك لو قال: ركوعها وسجودها سنةٌ غيرُ واجب. فرعان: الأول: اختلف أصحابنا فى قتل من امتنع من قضاء فوائت عليه, نقله المازى, ومال إلى عدم القتل. الثانى: قال فى النوادر: قال الأوزاعى فى أسير موثوق: يصلى إيماء. وقاله سحنون, قال: وإن أُطْلِقَ فى الوقت لم يلزمه أن يعيد, وإن أعاد فحسنٌ. قال سحنون: وإذا خاف القتل إن صلى وَسِعَه تركُ الصلاة, وكذلك فى ترك الوضوء والتيمم. قال الأوزاعى: ولا يدع التيمم والصلاة إيماء وإن قتل. وخالفه سحنون, وقال: يسعه الترك. انتهى. وبالله التوفيق.

صلاة الجماعة

صَلاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ الأول هو المشهور, وتصور كلامه ظاهر. وَالْجَمَاعَاتُ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ هذا كقوله فى الجواهر: والمشهور أنه لا فضلَ لجماعةٍ على جماعةٍ. وقال ابن حبيب: بل تَفْضُلُ الجماعةُ الجماعةَ بالكثير وفضيلة الغمام. انتهى ابن عبد السلام: ومنهم من يرى ان إطلاق الأول بالتسوية إنما هو فى نفى الإعادة فى حقِّ مَن صلى مع واحد فاكثر لا أن الصلاة مع واحد كالصلاة مع ألف, لما رواه أُبَىُّ بن كعب أنه عليه الصلاة والسلام قال: "صلاة الرجل مع واحد أزكى من صلاته وحده, وصلاته مع الرجلين أزكى مِن صلاته مع الواحد, وما كثر فهو أحب إلى الله". ولما رواه مالك: "مَن صلَّى بأرضِ فلاةٍ صلى عن يمينه ملك وعن يسارة ملك, فإن أذن وأقام صلى وراءه مِن الملائكة كأمثالِ الجبال". الباجى: ولو لم تكن الجماعه تتفاضل لمَا كان للمصلِّى فائدةٌ فى تكثير مَن صلى خلفة. وَإِذَا أُقِيمَتْ كُرِهَ التَّنَفُّلُ لما فى مسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". ابن عبد السلام: وظاهر الاحاديث وما يقوله اهل المذهب فى تفاريع هذه المسالة مِن القَطْعِ أن المراد بالكراهة هنا التحريم. وقال ابن هارون: المراد بالكراهة هنا التحريم, ويناقش المصنف فى تخصيصه الكراهة بالنقل, وهو أيضاً ممنوعٌ مِن فرضٍ آخرَ غير الذى أُقِيمَ. انتهى.

وَتُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ الْمُنْفَرِدِ مَعَ اثْنَيْنِ فَصَاعِداً، لا مَعَ وَاحِدٍ عَلَى الأَصَحِّ إِلا إِمَاماً رَاتِباً فِي مَسْجِدِه فَإِنَّهُ كَالْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ لا يُعِيدُ .... ظاهره أن المنفرد يطلب الجماعة ليعيد معها. ابن راشد: وهو ظاهر المذهب, وفى الحديث: "صل معنا وإن كنت صليت مع أهلك". ويؤيده [?0/ب] إطلاق مالك فى موطئه, حيث يقول: ولا أرى بأساً أن يصلى مع الغمام من كان قد صلى وحده, إلا المغرب. انتهى. وهو خلاف ما فى المبسوط, لانه قال فى المارَّ يكون قد صلى وحده على نفسه مع الإمام بعد أن صلى وحده, وذلك مما لا ينبغى. نقله الباجى, ولم يذكر فيه خلافاً. وفى استدلال ابن رشد بالحديث, وبما فى الموطأ نظر. تنبيه: هنا سؤال: وذلك لأنه إذا كان المطلوب فى حق من هو خارج المسجد ألا يدخل المسجد- كما قد قاله مالك - وتلزمه الصلاة بدخوله, فأين محل الاستحباب؟ إلا ان يجاب عنه بأن الاستحبابَ خاصٌ بغير المسجد. قوله: (مَعَ اثْنَيْنِ فَصَاعِداً) لقله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة". قوله: (لا مَعَ وَاحِدٍ عَلَى الأَصَحِّ) أى: لأنه إنما أُمِرَ أن يُعيد مع جماعة, والواحد ليس جماعة. وهذا القول نقلة ابن يونس عن القابسى وأبى عمران, وراى فى القول الآخر أنه إذا دخل مع الإمام صار جماعة. خليل: وهو أظهر؛ لأن الصلاة إنما اعيدت للفضل, والفضل يحصل مع راحد, وحديث: "من يتصدق على هذا". يوضحه, وقد صرح صاحبُ اللباب بأنَّه ظاهرُ المذهبِ, بعد أنْ نَقَلَ الأَوَّلَ عن القابسيِّ.

وقوله: (إِلا إِمَاماً رَاتِباً) أى: لأنه وحده كاجماعة, بدليل انه لا يعيد فى جماعةٍ إذا صلى وحده. فائدة: الإمام الراتب يقوم مقامَ الجماعة فى أوجه: فى تحصيل الفضل المرتب للجماعة, وفى عدم إعادته فى جماعة, وفى أنه إذا وحده لا تعيد بعدة جماعة, وفى أن الصلاة تعاد معه وحده باتفاق. فرع: أذا صلى وحده ثم أدرك ركعة من صلاة الجماعة أتمها, وإن لم يدرك ركعة فليس عليه إتمامها لئلا يُعيد منفرداً, ويستحب أن يصلي ركعتين, يجعلهما نافلة. قاله فى الجلاب, وقاله ابن القاسم, وقُيِّدَ بأن تكون الصلاة يُتنفل بعدها. ولو أدركه فى التشهد فروى أشهبُ: لا يدخل معه. وقال ابن القاسم: فإن دخل يظنه فى التشهد الأول, فسلم الإمام فلا شىء عليه, وأحبُّ إليَّ ان يتنفل بعدها. فإن شاء تَرَكَ. وقاله المغيرةُ وابنُ الماجشون, وقال مالك فى المبسوط: إن كانت نيته حين دخل مع الإمام ان يجعلها ظهراً أربعاً, وصلاتَه فى بيته نافلةً فعليه أن يتمها وأمرهُما إلى الله تعالى, يجعل فرضَه أيهما شاء, وأن لم يرد رفض الأولى أجزأته الأولى, ولم يكن عليه أن يتم هذه. وَفِي إِعَادَةِ مَنْ صَلَّى مَعَ صَبِيَّ أَوْ أَهْلِهِ قَوْلانِ يعنى: أنه اختُلف فيمن صلَّى مع صبى, فقيل: لا يعيد فى جماعة. وقال ابن عبد الرحمن. يعيد, لآن صلاة الصبى نافلة. واختلف فى أيام محمد فيمن صلى مع امرأته هل يعيدها فى جماعة؟ وإلى عدم الإعادة ذهب الشيخ أبو الحسن والشيخ أبو عمران, وهو اختار جماعة. المازرى قال: لأنه مع المرأة جماعة.

فَإِنْ أُقِيمَتْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَالظَّاهِرُ لُزُومُهَا كَالَّتِي لَمْ يُصَلِّهَا أى: الظاهر من المذهب, لأنه قال فى المدونة: ومَن سمع الإقامة- وقد صلى وحده- فليس بواجب عليه إعادتها إلا أن يشاء, ولو كان فى المسجد لدخل مع الإمام, إلا فى المغرب فليخرج. انتهى. وظاهرهُ لزومُ الدخول, وصرح بذلك ابن بشير, ويدل علية قولة عليه الصلاة والسلام: "صل", والأمرُ للوجوب. ويؤخذ مِن كلامِ المصنفِ الحكمُ فى التى لم يُصَلِّها بطريقِ الأَوْلَى, وفُهم من كلامه أنه إذا أتى المسجد قبل إقامة الصلاة أن له أن يخرج ما لم تُقَمْ, وبذلك صرح ابن الماجشون. وإِنْ كَانَ فِي نَفْلٍ أَتَمَّهَا أى: أتم النافلة سواء عقد ركعة أم لا, يريد مالم يخف فوات ركعة, كما سيأتى. فإن قيل: هذا خلاف المشهور فيمن أحرم بنافلة فذكر أن عليه فريضة, فإنه إذا لم يعقد ركعة يقطع. قيل: الفرق أنه فى هذه إذا أتم النافلة أدرك وقت الفريضة وفعلها على التمام مع الإمام, ولم يكن فى ذمته ما يمنعه التمادى, بخلاف من ذكر فريضةً فإن الوقت قد تعين لها وهى فى الذمة, فأَثَّرَتْ فيما تَلَبَّسَ به فافترقا. قال فى البيان: ولا خلاف أنه إذا عقد ركعة فى النافلة أنه يضم إليها ثانية, إلا فى المغرب. وَإِنْ كَانَ فِيهَا وَهِيَ غَيْرُ الْمَغْرِبِ فَإِنْ عَقَدَ رَكْعَةً شَفَعَهَا. وَقِيلَ: وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً كَالنَّفْلِ، وَإِلا قَطَعَ .... يعنى: وإن كان فى الصلاة التى أقيمت عليه، بشرط أن تكون غير المغرب، فإن كان قد عقد ركعة فلا يقطع وكمًلها نافلةً، وإن لم يعقد قَطَعَ، وإليه أشار بقوله: (وإلا قطع) وهذا مذهب المدونة. وقال أشهب: يشفعها وإن لم يعقد ركعة كالنافلة. وفرق للأول بأن النافلة إذا قطعها أبطلها بالكلية، والفريضة إذا قطعها يأتى بها على وجه أكمل. وأيضاً فإن

نية النافلة على حالها لم تتغير، وفى الفريضة قد تغيرت من الفرض إلى النفل فضعفت بهذا؛ ولأنه فى الفريضة إذا أُمِرَ أن يُتم ركعتين فهو قاطع لها، فيقطع مِن الآن، بخلافِ النافلة فإنه إذا أتمها ركعتين هو تمامها. ذكر هذه الفروق ابنُ يونسَ وغيره. وحصل فى البيان فيها والتى قبلها أربعة أقوال: يقطع فيهما، يتم فيهما، يقطع فى الفريضة دون النافلة، وعكسه. وَالثَّالِثَةُ كَالأُولَى إِلا أَنَّهُ يَجْلِسُ لِيُسَلِّمَ أى: إذا عقدها تمادى، وأضاف إليها أخرى وسلم. قال ابن القاسم: ولا يجعلُها نافلة. والعقدُ فيه خلافٌ مشهور، [??/أ] وإن لم يعقدها لم يتمادَ، وعاد إلى الجلوس وسلم؛ لأن السلام لا يكون إلا وهو جالس. فَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ قَطَعَ فِي الْجَمِيعِ أى: قطع فى الفريضة والنافلة، عقد ركعة أم لا، إذ لو لم يقطع لتحققتْ مخالفةُ الإمام وصلاتان معاً. وَالْقَطْعُ بِسَلامٍ أَوْ مُنَافٍ، وَإِلا أَعَادَ الصَّلاةَ يعنى: وحيث قلنا بالقطعِ فلا يَقطع ما أَحْرَمَ به إلا بسلامٍ، أو بفعلٍ مناف للصلاة، ومتى لم يفعل ذلك صار محرماً فى الصلاة، وهو فى صلاة، فتبطلان معاً. خليل: وينبغى -على القول بأن الصلاة ترتفض بالنية- أن يصح الرفض هنا بغير سلام ولا كلام. وَفِي الْمَغْرِبِ يَقْطَعُ. وَقِيلَ: كَغَيْرِهِا أى: يقطع، عَقَدَ ركعةً أم لا، لئلا يؤدى إلى التنفل قبل المغرب، وقال الباجى: لأنه دخل بنية الوتر فلا يسلم على شفع. وفى هذا الأصل خلاف.

والقول الثانى: لابن القاسم، وأشهب فى المجوعة، ورأيا أن الأحكام جرت إليه. وَإِنْ أَتَمَّ رَكْعَتَيْنِ فَالْمَشْهُورُ يُتِمُّ وَيَنْصَرِفُ، كَمَا لَوْ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ، أَوْ كَانَ أَتَمَّهَا يعنى: إذا أتم ركعتين من المغرب ففى المدونة- وهو المشهور - أنه يضيف إليها ثالثةً فيسلم وينصرف؛ لأنه إذا سلم من اثنتين يصير متنفلاً قبل المغرب. ومقابلُ المشهور لابن القاسم أيضاً فى المجموعة: يسلم منها؛ لأن فى إتمامها مخالفة على الإمام وإيقاع صلاتين معاً. وقوله: (كَمَا لَوْ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ) ظاهرة أنه يتفق على أنه إذا قام إلى ثالثة على الإتمام، وفيه نظر. فقد حكى اللخمى وابن بشير وغيرهم الخلاف إذا ركع فى الثالثة ولم يَرفع، وبَنَوْهُ على الخلاف فى الرفع. ابن راشد: ثم حيث أمرناه بالانصراف فإنه يخرج مُمْسِكاً لأنفه ليشعر أن خروجَه لرعافٍ أصابه لمَا فى خروجه مِن التعرض للإمام. فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: يَتَمَادَى مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ رَكْعَةٍ. وَقِيلَ: فَوَاتَهَا كُلَّهَا. وَقِيلَ: وَإِنْ خَافَ ...... أى: وإن أقيمت عليه الصلاة وهو فى غيرها كما لو أقيمت عليه العصر وهو فى الظهر، فقيل: الحكم فيها كما إذا أقيمت عليه الصلاة نفسها فيفرق بين أن يعقد ركعة أم لا، كما تقدم، وهو قول ابن القاسم، قال: إن كان قد صلى ركعة شفعها ودخل مع الإمام وإن خاف فوات ركعة مع الإمام قطع. وظاهر كلامه أنه إن لم يعقد ركعة قطع. وقيل: يتمادى مطلقاً، عَقَدَ ركعة أم لا، إلا أن يخاف فوات ركعة. وهذا القول رواه أشهب عن مالك. وقوله: (وَقِيلَ: فَوَاتَهَا) أى: الصلاة كلها، وهذا القول حكاه اللخمى عن مالك فى المستخرجة فيمن كان فى الظهر فأقيمت عليه العصر، أنه إن كان يطمع أن يفرغ منها

ويدرك الصلاة مع الإمام فَعَلَ، وإلا قطع ودخل مع الإمام ويستأنف الصلاتين. انتهى. ولكن حملها ابن يونس على أنها وفاق لما رواه أشهب، وأنه إنما يتمها إذا لم يَخف فواتَ ركعة. وقال محمد بن عبد الحكم: يتم صلاته التى هو فيها ويخففها. فإن أدرك مع الإمام شيئاً صَلَّى، وإن لم يُدرك صلَّى لنفسه. وهذا القول هو الرابع من كلام المصنف، ولا إشكال على قول ابن القاسم لمساواته بين من أقيمت عليه تلك الصلاة أو غيرها، وأما على قول مالك، فقال ابن يونس: يحتمل أن يساوى مالك بينهما، ويرى أنه إذا أقيمت عليه الصلاة التى هو فيها، وطمع فى إكمالها قبل ركوع الإمام أكملها. وإليه نحا فى رواية أشهب، فلا فرق بين أن تقام الصلاة التى هو فيها أو صلاة أخرى؛ لأنه إنما أمر بالقطع فى الجميع لئلا يقع فى الصلاتين معاً. وقد يفرق بينهما بأن من أقيمت عليه الصلاة التى هو فيها إذا قطعها وصل مع الإمام اعتد بصلاته معه، وحصل له فضل الجماعة، والذى أقيمت عليه أخرى إذا قطع لم تحصل له الصلاتان جميعاً، أما الأولى فلإبطاله إياها، وأما التى مع الإمام فلأنه صلاها وعليه صلاة. قال معناه المازريُّ وابنُ يونس. وَلا تُعَادُ الْمَغْرِبُ وَلا الْعِشَاءُ بَعْدَ الْوِتْرِ. وَقِيلَ: تُعَادَانِ أما منع إعادة المغرب فلأنها وتر صلاة النهار، ولأنها لو أعادها لزم أن تكوم إحدى الصلاتين نفلاً، ولا يتنفل بثلاث. وقال المغيرة، وابن مسلمة: تعاد المغرب، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلِّ وإنْ كنتَ صليتَ مع أهلك". وأما مَن منعَ إعادة العشاء بعد الوتر فلأنه لو أعادها فإما أن يعيد الوتر أم لا؟ ولا يُمكن إعادتُه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران فى ليلة"، ولا عَدَمُ إعادته لقوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً". قال اللخمى: وعلى قول المغيرة تعاد العشاء بعد الوتر.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ أَعَادَ فَإِنْ رَكَعَ شَفَعَهَا، وَقِيلَ: يَقْطَعُهَا. وَقِيلَ: يُتِمُّهَا أى: إذا فرعنا على المشهور فأخطأ وأعاد, فإن لم يركع قطع, وإن ركع فثلاثة أقوال: الأول: يشفعها. حكاه الباجى عن ابن حبيب, قال: ويجئ على أصل ابن القاسم أنه يقطع بعد الركوع, أى: لأن أصله أن العقد غنما هو بالرفع. ورأى فى الثالث أنه احرم بصلاة فلا يقطعها لقوله, تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] [71/ب] وهذا التفريع المذكور منصوص فى المغرب. ابن عبد السلام: ولا أذكره الآن في العشاء بعد الوتر. وقال ابن هارون: ذِكْرُه ذلك مما انفرد به. فَإِنْ أَتَمَّ الْمَغْرِبَ أَتَى بِرَابِعَةٍ بِالْقُرْبِ، فَإِنْ طَالَ لَمْ يُعِدْهَا ثَالِثَةً عَلَى الأَصَحِّ يعنى: إذا أتم المغرب أضاف إليها أخرى بقرب سلامه وتكون نافلة, قاله ابن القاسم. قال: وبلغنى ذلك عن مالك. وإذا كان يضيف إليها أخرى بالقرب بعد السلام فَلأَنْ يُضيف إليها أخرى قبل سلامه أَوْلَى. قال اللخمى بعد كلام ابن القاسم: يريد إذا أعادها بنيه النفل, وإن نوى رفضَ الأولى لتكون هذه فرضة لم يشفعها, لأن الاحتياط لفرضه أولى. واعلم أن القول بإعادة المغرب ثلاثاً إنما يعلم لابن وهب, ولمالك فى رواية ابن زياد, وانما نقله صاحب النوارد والتونسى والباجى إذا أكمل المغرب مع الإمام، وأراد المأمومُ الإصلاحَ قبل سلامِه. ولفظ الباجى: فإن أكمل صلاته مع الإمام, وأراد الإصلاح قبل السلام فقد قال ابن القاسم فى المدونة: من أعاد المغرب فى جماعة, فإنه يشفعها بركعه, وبلغنى ذلك عن مالك. وقال ابن وهب: لا يشفع, ولكن يسلم ويعيدها ثالثة, فإن ذكر بعد السلام فقد قال ابن حبيب: إنْ ذَكَرَ بالقُرْبِ شَفَعَها بركعةٍ وإن تباعد ذلك فلا

يشفعها ولا شيء عليه. انتهى. وهذا تصريح بأن قول اين وهب إنما هو إذا ذكر قبل السلام, وكذلك نقل صاحب البيان عن مالك من رواية على بن زياد, وينبغى أن يكون الحكم كذلك على هذا القول إذا ذكر بقرب السلام, وهو خلافُ نَقْلِ المصنف؛ لأنه إنما نقله مع البعد لقوله: (فَإِنْ طَالَ) فانظره. وبنى الباجي خلافَ قول ابن القاسم وابن حبيب وأشهب على الخلاف فى نبة الشفع, هل هي منافية لنية الوتر أو لا؟ وَفِي إِعَادَةِ الْوِتْرِ قَوْلانِ أي: إذا أوتر بعد العشاء, وقلنا: لا يعيدها, فأعادها فقال سحنون: يعيد الوتر. وقال يحي بن عمر: لا يعيده. واحتجا بالحديثين, ورأى اللخميُّ الإعادةَ إن كانت نيتُه بالعشاء الفرضَ, وإن نوى بها النفل لم يُعِدْ. وَإِذَا أُقِيمَتْ وَقَدْ أَحْرَمَ فِي بَيْتِهِ أَتَمَّهَا كَمَا لَوْ لَمْ تُقَمْ أي: إذا أحرم بصلاة فى بيته, فأقيمت تلك الصلاة فى المسجد فإنه يتمادى على صلاته كما لو لم تُقَمْ, لأن الموجب للقطع فى المسجد إما هو خوف مخالفة الإمام, وإما وقوعه فى صلاتين معاً, وكل منهما منتف هنا. وَفِي نِيَّةِ الإِعَادَةِ أَرْبَعَةٌ: فَرْضٌ، وَنَفْلٌ، وَتَفْوِيضٌ، وَإِكْمَالٌ نُظِمَتْ هذه الأقوال, فقيل: في ِنيَّةِ العَوْدِ للمفروضِ أربعة ... فرضٌ ونفلٌ وتفويضٌ وإكمالْ ابن الفاكهانى: والمشهور التفويض, وحكى ابنُ بشير وابن شاس الأربعةَ, ولم يحك الباجى والمازرى وإلا روايتين: النفل والتفويض. والقول بالفريضة. ابن راشد: لم أره معزواً. انتهى.

وصحح ابنُ عبد البر وابنُ العربى وغيرُهما النفلَ, لأن الذمه قد برئت بالصلاة الأولى. واستكمل القول بالإكمال؛ لأنه إن وقع الخلل فى أركان الأولى تَعَيَّنَ عليه أن ينوى الفرض، وإن وقع على الكمال كانت الثانية نفلاً ولا معنى للتكملة. ابن راشد: ولم أره فى غير الأصل من الأمهات. وقال ابن عبد السلام: فهم المؤلف القول بالإكمال رابعاً، وظاهرُ كلام قائله أنه تفسيرٌ للقول بالنفل، وهو الأقرب، وإلا فالأمر بالنفل المجرد من غير تكميل للفرض السابق به لا معنى له. انتهى بمعناه. واستشكلت الفرضية أيضاً؛ لأنها مبنية على الرفضِ، والذمةُ قد برئت فعمارتُها ثانياً تفتقر إلى دليل. واستُشكل التفويضُ أيضاً بأن النية شأنها التمييز، والتفويضُ ضدُّ ذلك. وقولُ عمر لما سئل عن ذلك: أَوَ ذَلِكَ إليك، إنما ذلم إلى الله يجعل أيتهما شاء رَاجِعٌ إلى القَبول، وبذلك فسره ابنُ الماجشون، وهو أمرٌ آخر وراء النية. وَعَلَى الْفَرْضِ لَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُ الأُولَى أَجْزَأَتْهُ الثَّانِيَةُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُ الثَّانِيَةِ لَمْ تُجْزِئْهُ الأُولَى، وَعَلَى غَيْرِهِ بالْعَكْسِ فِيهِمَا ..... قال فى الجلاب: ون أعاد صلاتَه فى جماعةٍ، ثم ذكر أنَّ الأُولى مِن صلاتيه كان فيها على غير وضوء ففيها روايتان: إحداهما: أن الثانية تجزئه عن فرضه، والأخرى: لا تجزئه وعليه الإعادة. انتهى. وانظر: هل يؤخذ من هنا القول بأنه ينوى الفريضة. وقوله: (وَعَلَى غَيْرِهِ) أى: الثلاثة الأُخَرِ: النفل, والتفويض, والإكمال. وقوله: (بالْعَكْسِ فِيهِمَا) أى: فإن تبين فساد الأولى لم تجزئه الثانية, وإن تبين فساد الثانية أجزأته الأولى. وما ذكره المصنف مِن أنه إذا تبين فسادُ الأولى لم تجزئه الثانيةُ بَيِّنٌ على

النفل والإكمال، وأما على التفويض، فقال ابن بشير: تُراعى صحة الصلاتين؛ لأنه لا يدرى أيتهما المنكوبة. وقال اللخمى: إذا تبين فساد إحدى الصلاتين- على القول بالتفويض- أجزأتْه الأخرى. وعلى هذا فكلام المصنف لا يوافق واحداً منهما. وسلك فى الجواهر طريقةً أخرى؛ لأنه قال: هل يُعيد بنية الفرض، أو النفل، أو الإكمال، أو التفويض؟ أربعةُ أقوال، ينبنى عليها ثلاثة فروع: الفرع الأول: إن صلى فذّاً ثم أعاد فى جماعة، ثم ذكر أن الأولى كانت على غيرِ طهارة، فقال ابن القاسم: تجزئة الثانية. وقال ابن الماجشون: لا تجزئه؛ لأنه صلاها على جهة [??/أ] السُّنية لا على جهة الفريضة. وقال أشهب: إن كان حين دخوله فى الثانية ذاكراً للأولى فلا تجزئة هذه، وإن لم يكن ذاكراً لها أجزأته. الفرع الثانى: إذا صلى مع الإمام لفضل الجماعة معتقداً انه صلى فى بيته، ثم ذَكَرَ أنه لم يُصَلِّ فقال ابن القاسم: تجزئه. وقال ابن أشهب: لاتجزئه. الفرع الثالث: إذا صلَّى الأول على طهارة، وأَحْدَثَ فى الثانية، فروى المصريون عن مالك: ليس عليه أن يُعيد الثانية. وقال أشهب منهم: ولو قصد بصلاته مع الأيام رَفْضَ الأولى لم تلزمه إعادة. وروى: أنه يعيدها. وبه قال ابن كنانة وسحنون، إلا أنهما اختلفا فى التعليل، فقال ابن كنانة، لأنه لايدرى أيهما صلاته. وقال سحنون، لأنهما وجبت بدخوله فيها. وتظهر فائدتها فى التعليل، إذا كان الحدث من غلبة. وقال ابن عبد الحكيم: إذا أحدث بعد عقد ركعة أعاد الثانية؛ لأنه أدرك صلاة الإمام، وإذاكان قبل أن يعقد ركعة لم تلزمه إعادتها. وحكاه ابنُ سحنون عن أبيه, وروى فى كتاب ابن سحنون أنه إن كان أراد بصلاته مع الإمام أن يجعلها فرضه, والتى صلاها وحده نافلة, أو أراد أن يكون الأمر إلى الله سبحانه فى صلاته فليُعد الصلاة. انتهى كلامه فى الجواهر.

وَلا يُؤْتَمُّ بِالمُعِيدِ، وَيُعِيدُ الْمُؤْتَمُّونَ بِهِ أَبَداً أَفْذَاذاً عَلَى الْمَشْهُورِ لا يؤتم به؛ لأنه كمتنفل، وينبغى على القول بأنه ينوى الفريضة أن يَؤُمَّ، قاله اللخمى، ويعيد المؤتمون به أبداً كما ذكرناه. ونقل ابن بشير عن ابن سحنون أنه قال: يعيد المؤتمون وإن خرج الوقت ما لم يطل ذلك؛ لأجل اختلاف الصحابة رضى الله عنهم فى صلاة المفترض خلف المتنفل. فإن قلت: فإن كانوا يعيدون أبداً فينبغى أن يجمعوا؛ لأن الإعادة أبداً تقتضى البطلان، وإذا بطلت لم يحروما فضل الجماعة. قيل: لأن الصاة لما كانت غير مجزئة عندنا، وكان الشافعى وغيره يرى صحتها قيل بالإعادة أبدا لبطلان الصلاة عندنا، وبعدم إعادته فى جماعة لصحتها عند الغير. ابن هارون: وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) يحتمل أن يتعلق بقوله: (وَيُعِيدُ الْمُؤْتَمُّونَ) أو بقوله: (أَبَداً) أو بقوله: (أَفْذَاذاً). فعلى تعلقه بالأول يكون إشارة إلى التحرز مما أجراه اللخمى من نفى ظغعادتهم على القول بالفرضية. وعلى تعلقه بالثانى يكون إشارة إلى ما حكاه ابن بشير عن ابن سحنون. وعلى تعلقه بالثالث يكون إشارة إلى مذهب المدونة فى أنه يعيد بنية التفويض، وقد يحتمل إذا قلنا أنه يعيد بنية النفل أن يعيد فى جماعة. انتهى. وَلا تُعَادُ صَلاةُ جَمَاعَةٍ مَعَ وَاحِدٍ فَأَكْثَرَ فِي أُخْرَى. ابْنُ حَبِيبٍ: إِلا فِي الثَّلاثَةِ الْمَسَاجِدِ. وَأُلْزِمَ أَنْ يُعِيدُ مُنْفرِداً .... المساجد الثلاث هى: المسجد الحرام، ومسجده عليه الصلاة والسلام، ومسجد بيت المقدس. يعنى أن مَن صلَّى فى جماعة- ولو قل عددها- فلا يعيدها فى حماعة أخرى.

وكلامُ ابن حبيب ظاهرٌ، والإلزام للخمى؛ لأن الصلاةَ فى أحد الثلاثة منفرداً أفضلُ مِن الصلاة فى جماعة غيرها. وقد قال مالك فى قوم أتوا المسجد فوجدوا أهله قد صلوا: فلا بأس أن يَخرجوا منه فيجتمعوا فى غيره، إلا أن يكون المسجد الحرام، أو مسجده عليه الصلاة والسلام، فيُصَلُّوا أفذاذاً، فهو أعظم لأجرهم. وهذا ظاهر؛ لأن صلاتهم جماعة تفضل صلاةَ الفَذِّ بسبع وعشرين درجة، والصلاةُ فى أحد المسجدين بألف. ابن بشير: ولا يلزم هذا. ابن حبيب: لأن الشرع إنما وَرَدَ بإعادة الفذِّ فى جماعةٍ، وهذا نقيضه. وفيه نظر، والله أعلم. فَإِنْ أُقِيمَتْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ، وَلا يَجْلِسُ، وَلا يُصَلِّيهَا وَلا غَيْرَهَا أى: أقيمت بعد أن صلاها فى جماعة خرج. ولا يجلس لئلا يتوهم الطعن على الإمام، ولا يصليها لئلا يعيد ما صلى فى جماعة، ولا غيرها لئلا يقع فى صلاتين معاً، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، رواه الترمذى وأبو داود. وَلا تُجْمَعُ صَلاةٌ فِي مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ مَرَّتَيْنِ، وَإِمَامُهُ وَحْدهُ كَالْجَمَاعَةِ إِلا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَمَعَ قَبْلَهُ، وَيَخْرُجُونَ فَيُصَلُّونَ جَمَاعَةً فِي مَوْضِعٍ غَيْرِه إِلا فِي الثَّلاثَةَ الْمَسَاجِدِ فَيُصَلُّونَ أَفْذَاذاً ..... اعلم أن للشرع غرضاً فى تكثير الجماعة، لعل أن يصلى الشخص مع مغفور له فيغفر له، على ما جاء فى الحديث، ولذلك أَمَرَ بالجماعة وحَضَّ عليها، ولذلك قلنا: لا تجمع الصلاة فى مسجدٍ واحدٍ مرتين: لأن الناس إذا علموا بذلك تأهبوا أول مرة خوفاً من فوت فضيلة الجماعة. ومِن كرمِ الله تعالى أنْ شَرَعَ الجمعة؛ لأنه قد يكون فى تلك الحالة مغفوراً له؛ لأن الجمعة يجتمع فيها أهل البلدة، ثم شرع العيدين؛ لأنه يجتمع فيها من لا تلزمه الجمعة، ثم

شرع الموقف الأعظم بعرفة الذى يجتمع فيه الناس من سائر الأقطار، وهذا دليل على اعتنائه تعالى بك أيها العبد، وهذا أحسن ماعللت به [??/ب] الكراهة فى هذه المسألة. وقيل: لئلا يتطرق أهل البدع بالتأخير، ثم يجتمعون مع إمامهم. وقيل: لأن ذلك حق للإمام. وعلى الأول: يكره الجمع مطلقاً. وعلى الثانى: يجوز إذا علمت براءتهم. وعلى الثالث: يجوز إذا أذن الإمام. ابن راشد: وحكى صاحبُ اللبابِ الجوازَ إذا أَذِنَ الإمامُ، ولم يَحْكِ خلافاً. وقال سند: ظاهرُ المذهب: لا يجوز وإن أذن الإمام؛ لأن مَن أَذِنَ لرجل أن يؤذيه لا يجوز له ذلك. وكذلك قال ابن عطاء الله، وما ذكره المصنف من كراهة الإعادة هم المشهور. وذهب أشهب إلى الجواز، ويؤيده حديث: "من يتصدق على هذا". واحترز بقوله: (لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ) مما لو لم يكن له إمام راتب، فإنه يجوز له الجمع- وإن كان له إمام راتب- فى بعض الصلوات دون بعض، فالصلاة التى فيها راتب لا تُعاد الجماعة فيها، والصلوات الأخرى اختلف قول مالك فى كراهة الإعادة فيها، والكراهة رواية ابن القاسم، ورأى أن مَن جمع أولاً كخليفة الإمام. واستحسن اللخمى جوازَ الإعادة، قال المازرى: وهو الأظهر على أصلنا فى إجازة الجَمْعِ فى المساجد التى لا إمام راتب لها. وقوله: (وَإِمَامُهُ وَحْدهُ كَالْجَمَاعَةِ) ظاهرٌ. قوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَمَعَ قَبْلَهُ) أى: فيجوز له الجمع، يريد ما لم يستخلف، فلا يجوز له حينئذ الجمع. وقال مالك فى الواضحة: إذا أذًنَ المؤذنُ فلم يأتِهِ أحدٌ فصلَّى

شروط الإمامة

وحدَه، ثم أتى إمامه فهو كالإمامِ، صلاتُه وحدَه جماعة، لايجوز لهم أن يجمعوا تلك الصلاة، إذا كان ممن يصلى إذا غاب إمامه، وإذا كان المؤذن ممن لايصلى إذا غاب الإمام فهو كرجل من الناس. اللخمى والمارزى: ويحمل هذا الذى قاله مالك إذا صلى فى وقت لا يؤمر فيه بانتظار الإمام، وأما لو صلى بهم فى وقت صلاة الإمام المعتاد أو بعده بيسير فللإمام أن يعيد الصلاة؛ لأن هذه مسابقة، وإن كان الإمام قد أبطأ وأضر بالناس انتظاره جاز لهم أن يأمروا المؤذن أو غيره فيصلى بهم، ثم ليس للإمام الجمع. قوله: (وَيَخْرُجُونَ ...) إلى آخره ظاهر التصور. شُرُوطُ الإِمَامِ: مُسْلِمٌ، ذَكَرٌ، بَالِغٌ، عَاقِلٌ، عَالِمٌ بِمَا لا تَصِحُّ الصَّلاةُ إِلا بِهِ قِرَاءَة وَفِقْهاً قَادِرٌ عَلَيْهَا .... وقع هنا نسختان: شرط وشروط على الإفراد والجمع، وكان ينبغى أن يقول: الإسلام، والذكورية إلى آخرها؛ لأن المسلم محل الشروط فلا يخبر به عن الشرط إلا بتجوز. والأحسن ألا يعد من شروط الإمامة إلا ماكان خاصاً بها، فلا يعد: الإسلام والعقل؛ لأنهما شرطان فى مطلق الصلاة وليسا خاصين بالإمام، ولا خلافَ فى اشتراط الإسلام. واختلفى فى الكافر يَتَزَيَّا بِزِىِّ الإسلام ويُصَلِّى، فإذا ظُهِرَ عليه قال: فعلت ذلك خوفاً، فقال مالك فى العتبية: لا يُقتل، ويُعيدون أبداً. ابن يونس: يريد ويُعاقَبُ. ونقل عن مالك أيضاً أنهم يُعيدون أبداً، وإِنْ ظُفِرَ به استُتِيبَ كالمرتد. وكذلك قال مطرف: إِنْ لم يَتُبْ قُتِلَ. وقاله ابن الماجشون. ابن يونس: وقال سحنون: إن كان بوضع يخاف على نفسه فَوَارَى بذلك عن نفسه وماله لم يُعْرَضَ له، وإِلا قُتِلَ. ومنشأُ الخلاف: هل الصلاة عَلمٌ على الإسلام كالشهادتين، فيكون كالمرتدِّ، أَمْ لا؟ فعلى القول أنها ليست عَلماً يُقبل عذرهُ ويُعيدُ مأمومُه، وعلى عكسِه لا يُقبل عذرُه، وفى إعادتهم قولان.

وقوله: (قراءة وفقها) كذلك فى بعض النسخ، وفى بعضها: وفعلا عوضا عن (فقها) وهى أولى؛ لأنها يدخل تحتها الفقه والقدرة على الركوع، والسجود، والقراءة. ثم أخذ المصنف يتكلم على الشروط فقال: فَلا تَؤُمُّ امْرَأَةٌ، وَرَوَى ابْنُ أَيْمَنَ: تَؤُمُّ النِّسَاءَ روى أبو داود حديثاً فى جواز إمامة المرأة، ولم يأخذ به أكثر العلماء، ورأوا الإمامةَ مِن باب الولاية. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لن يفلح قومٌ ولوا أمَرهم امرأةً". وذهب أبو ابراهيم الأندلسى إلى أنه من ائتم بها من النساء يُعيد فى الوقت. وَلا الصَّبِيُّ، وَقِيلَ: يَؤُمُّ فِي النَّافِلَةِ مذهب المدونة أنه لا يَؤُمُّ فى فريضة ولا نافلة، وفى المختصى جوازُ إمامته فى النافلة. زاد أشهب فى روايته: وفى قيام رمضان. فإنْ أمَّ فى النَّفْل- على مذهب المدونة- صحتْ وإِنْ لمْ يَجُزْ. وإنْ أَمَّ فى الفَرْضِ فقال سحنون: يُعيد مَن صلى خلفَه أبداً، وكذلك مَنْ صلى خَلْفَ المرأةِ. وحكى فى النوادر عن أبى مصعب أنها جائزةٌ إذا وقعت، وقاله أشهبُ فى مدونته فى إمامِ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ صَبِيّاً فأَتَمَّ بهم: إِنْ عَقَلَ الصلاةَ وأَمْرَها أَجزأَتْه، وأَعَادَ مَنْ خَلْفَه فى الوقت. وزعم اللَّبِيدِىُّ أن الشيخَ وَهِمَ من ذلك، وأن المسألة لا وجود لها فى كتاب أبى مصعب، وأن الشيخ عزم على إصلاح كتابه بعد [??/أ] مطالعته لأبى مصعب فاخترمته المنية. فرع: سُئِلَ مالكٌ فى العتبية عن الغلمان فى الكتاب، أيصلى بهم أحدهم؟ فقال: ما زال ذلك مِن فِعْل الصبيان وخفَّفَه. ولم يَحْكِ فى البيان فى ذلك خلافاً.

وَلا السَّكْرَانُ لا إشكالَ فى َعَدِم الصلاةِ خلفَه إذا غُلِبَ على عقلِه. التونسي: وهو كالمجنون. وإلى ذلك أشار اللخمي، قال: ويُختلف إذا شَرِبَ خمراً ولم يَسكر، فقال مالك فى الموازية: يعيدون؛ لأن الخمر فى جوفه. وعلى القول أن عَرَقَ السكرانِ نجسٌ يكون جميعُ الحسد نجساً، ويُعيد فيها قَرُبَ. انتهى. ونصَّ ابنُ حبيب والتونسى على إعادته وإن لم يَسكر أبداً. رقال ابن حبيب: وكذلك مَنْ صَلَّى خلفَه، إلا أن يكون الإمام الذى تؤدى إليه الطاعة، فلا يُعيدون إلا أن يكون فى حالة صلاته سكراناً. قال ابن حبيب: وقاله مَن لقيته مِن أصحابِ مالك. ابن يونس: والصواب عدم إعادة المصلى خلفه؛ لأنه مِن أهل الذنوب، ولا يكون أسوأ حالاً من المبتدع. وقد اختلف فى إعادة الصلاة خلفه. وَلا الْجَاهِلُ بِمَا ذُكِرَ أى بالفقه والقراءة. وَلا الْعَاجِزُ عَنِ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ أَوِ الْفَاتِحَةِ كَالأَخْرَسِ وَالأُمِّيِّ هذا ظاهر. وَالْقَاعِدُ بِالْقيَامِ مِثْلُهُ عَلَى الأَصَحِّ أى: أن القاعدَ لا يجوز أن يؤم القائم فى فرضٍ أو نفلٍ، وهكذا فى المدونة. وقوله: (مِثْلُهُ) أى: العاجز، وما عبَّر عنه المصنف بالأصحِّ عبَّر عنه ابن البشير بالمشهور. وفى المدونة: إذا عَرَضَ للإمام ما يمنعه القيامَ استَحلف ورجع إلى الصف، فإن أمَّ أَعَادَ مَنِ ائْتَمَّ به أبداً. ونحوه لابن الماجشون. وفى الجلاب: الكراهة، ومَنِ ائْتَمَّ به يُعيد فى

الوقتِ. وروى الوليد بن مسلم جوازَ إمامةِ الجالس للقيام، وقاله أشهب في مدونته، واختاره اللخمي. واستحب مالك في هذه الرواية أن يقوم إلى جانب الإمام رجلٌ يَقتدي به الناسُ. ودليل المشهور ما خرجه الدارقطني عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الشعبي أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: "لا يَؤُمُّ أحدٌ بعدي جالساً". هذا الحديث أدخله سحنون في كتابه واحتج به، وذكر عبد الحق في الأحكام الكبرى أن الحديث، مرسل، وأن جابرَ بن يزيد متروكُ الحديث، ولكن العمل عليه في سائر الأمصار. ودليله من جهة القياس أن الجالسَ تاركٌ لركنٍ، فلا يصح الاقتداء به كصلاة القادر عل القراءة خلفَ العاجزِ عنها؛ لأنه إن قام المأموم خالفه، وإن جلس تَركَ فرض القيام. ودليل الثاني صلاةُ أبي بكر في مرضه صلى الله عليه وسلم، على ما عليه الجمهور أن أبا بكر كان مأموماً. وَفِي إِمَامَتِهِمُ لأَمْثَالِهِمْ قَوْلانِ بِخِلافِ الْمُومِىِء أي: الأمي، والقاعد، والعاجز عن الركوع أو السجود أو الفاتحة؛ لأنه أخرسُ أو أميٌّ. وأشار ابن عبد السلام إلى أن الخلاف في الأخرس والأمي مقيّدٌ بعدمِ وجودِ القارئ، وأما إذا أمكنها أن يصليا خَلْفَ القارئ فلا؛ لأن القراءة لمَّا كان يحمِلُها الإمام كان تركُهما الصلاة خلف الإمام تَركاً للقراءة اختياراً، وفيه نظر؛ فقد قال سند: ظاهر المذهب بطلانُ صلاة الأميِّ إذا أمكنه الائتمامُ بالقارئ فلم يفعل. وقال أشهب: لا يجب عليه الائتمام بالقارئ، كالمريض الجالس لا يجب عليه أن يأتم بالقائم. وحكى المصنف في إمامة هؤلاء لأمثالهم قولين: قال ابن القاصم: لا يتبني لأحد أن يَاتَمَّ بمَنْ لا يُحسن القراءةَ. وعلى هذا فلا يأتمَّ أميٌ بأميٌّ. وقال ابن حبيب: لا يجوز لهم أن يأتموا بأميٍّ إلا أن

لا يجدوا قارئاً ويخافوا فواتَ الوقت، وأما إن وجدوه فصلاتُهم فاسدة. قال ابن الحارث: وهو قولُ ابن القاسم وابن الماجشون ومطرف وأصبغ. وقال سحنون في كتاب ابنه أنه لا بأس أن يؤم الأميُّ أميين. قال سند: وهو المعروف من قول أهل العلم، أن ائتمام الأمي بالأميين صحيح، وقاله الشافعي وأبو حنيفة. انتهى. وأمَّا إمامة الأخرس بمثله فلم أَرَ فيها نَصّاً. وأما العاجزُ فأنكر ابن عبد البر وصاحب البيان وجودَ الخلاف فيه، ورَأَيَا أنه لا يُختلف في صحتها، وصحح غيرُهما وجودَه. وقوله: (بخِلافِ المومِئِ) ظاهرُه أنه لا يختلف في ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم في صفات الإمام: (فإذا ركع فاركعوا) فجعل مِن صفته الركوعَ. ولعل المصنف اعتمد هنا على المازري، فإنه قال: ولو كان الإمام يصلي إيماء. فأجاز الشافعي الائتمام به، ومنعه أبوحنيفة. وظاهرُ ما أشار إليه أصحابنا أنَّا لا نُجيزها وإن أجزنا إمامةَ الجالس، لكن ذكر في الجواهر الخلافَ في إمامة المضطجع. فرع: في أسئلة ابن رشد: تجوز إمامةُ الأجذم، فإن كثر ذلك وتضرَّرَ مَن خلفَه به فينبغي له أن يتنحَّى عنهم، فإن أبى أُجْبِر. وَفِيهَا وَلا يَؤُمُّ أَحَدٌ جَالِساً، وَلا يُصَلِّي عَلَى أَرْفَعَ مِمَّا عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ إِلا فِي الْيَسِيرِ؛ لأَنَّهُمْ يَعْبَثُونَ، وَقَالَ فِي السَّفِينَةِ: لا يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وَالنَّاسُ أَسْفَلَ .... تقدم الكلام على مسألة الجالس. وفي مسند ابن سَنْجَرَ (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الإمام على أرفَع مما عليه أصحابه). قال علماؤنا: وكأنه أشار بذلك إلى ما أحدثته بنو أمية بعده من التكبر عن مساواة الناس. ابن بشير: ولا خلاف أن قصد الإمام ذلك محرَمٌ، وأنه مبطلٌ للصلاة، وإن صلى غيرَ قاصد للتكبر، [73/ب] وكان الارتفاعُ يسيراً صحتِ الصلاةُ بلا خلافٍ، وإن كان

كثيراً فللمتأخرين قولان: صحةُ صلاته، وأُخِذَ مِن قوله- في تعليل البطلان- لأن هؤلاء يعبثون. والبطلانُ لعمومِ الحديث المتقدم. ولو تساوى قومٌ في الارتفاع، وصلَّى غيرُهم على موضعٍ غيرِ مرتفعٍ، فإن قَصَدَ المرتفعون الكبرَ بطلتْ صلاتُهم، وإنْ لم يقصدوا ذلك ففي إعادةِ الصلاة في الوقت قولان. وهكذا قال ابن حبيب في الإمام يصلي في السفينة: إن المُرْتَفِعِينَ يُعيدون في الوقت. انتهى بمعناه. ونص المدونة: ولا يُصلي الإمام على شيء أرفع مما عليه أصحابه، وإن فعلوا أعادوا أبداً لأنهم يعبثون، إلا الارتفاع اليسير مثل ما كان بمصر فإنه تجزئهم صلاتم. انتهى. وظاهرُه، أن الإعادة على الإمام والمأموم، وكذلك نقل المسألة التونسي. وقيل لأبي عمران: هل يعيد الإمام؟ فقال: ليس بالقوي. وقال ابن زَربٍ: لا إعادة عليه؛ لأنه لو ابتدأ الصلاة وحده هناك لم تكن عليه إعادة. قالوا: ويلزم على قول ابن زرب أن يُعيد الإمام إذا كانت الصلاةُ جمعهً؛ فإنه يصر قد جمع وحده لبطلان صلاة المأمومين، وهذا مما ينقض الاتفاق الذي حكاه ابن بشير. المازري: وذهب سحنون ويحي بن عمر إلى إجازة ذلك إذا ضاق موضع الإمام عن المأمومين. وقال فضل بن مسلمة: تعليله بأنهم يعبثون يشير إلى قصر المنعِ على موضعٍ واسع يُمكن الصلاة فيه مع الإمام. ثم قال: وقال بعض أشياخي -يعني اللخمي– إذا صلى رجٌل في موضعٍ مرتفع لنفسه، فأتى رجلٌ فائتم به صحت صلاته، وكأنه رأى أن افتتاحه وَحدَه يُشعِرُ بعدم قصده العبثَ. انتهى. وفي الجلاب: ويجوز أن يصل الإمام والمأموم أسفل منه، ولا يصل المأموم في أسفلَ والإمامُ في علوٍ إلا أن يكون مع الإمام طائفةٌ يُصلون معه. انتهى. وقُيَّدَ بأن تكون طائفة مِن سائرِ الناس. قال بعضُ الأصحاب: وما ذكر ابنُ الجلاب هو اخيارُه، وظاهرُ المذهب خلافُه، لقوله في السفية: لا يعجبني أن يكونَ هو فوق والناسُ أسفل، وليُصَلَّ الذي فوقَ بإمامٍ والذي أسفل بإمام. قال صاحب اللباب: وذكر ابنُ حبيب أن الأسفلين يعيدون في الوقت، قيل: وإنما ذلك لأنَّ الأسفلين ربما لم تمكنهم مراعاة أفعال الإمام، وربما دارتْ فيختلط عليهم. انتهى.

خليل: وعلى هذا فيحتمل أن يكون هذا جواباً لما في الجلاب ولا يكون مخالفاً، وهو الأقربُ بالقيدِ الذي قيد به كلامَه، فانظره، والله أعلم. وقالوا: الارتفاع اليسير نحو الشبر، وعَظْمِ الذراع. زاد في المدونة في مسألة السفينة: ولكن يُصلون فوق بإمام، وأسفل بإمام. ابن حبيب: وإن صلى الأسفلون بصلاة الأعلى أعادوا في الوقت. ابن يونس: لأنهم ربما لم يتمكن لهم مراعاةُ فِعْلِ الإمام. وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ الأَعْرَابِيِّ لِلْحَضَرِيِّ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَأَهُمْ قالوا: لتركه الجمعةَ والجماعات غالباً ومشاهِدَ المسلمين. وفي النَّفْسِ مِن هذا التعليل- مع كونه أقرأ -شيء. عياض: والأعرابي -بفتح الهمزة- وهو البدوي كان عربياً أو عجمياً. وَلا تُكْرَهُ مِنَ الأَقْطَعِ، وَالأَشَلِّ كَالأَعْمَى، وَقِيلَ: تُكْرَهُ كَالْمُتَيَمِّمِ بالْمُتَوَضِّئِينَ، وَالْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِينَ .... قال ابن بشير وصاحب العمدة: المشهورُ من المذهب أن القطعَ والشللَ لا يَمنع الإجزاءَ؛ لأنه مكملٌ للفرضِ. وظاهرُ روايةِ ابن وهب أنه يمنعُ الإجزاءَ؛ لأنه رأى ألا يُصلى خلفه، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" فعَدّ اليدين. قال في العمدة: ومحتملُ أن يريد الكراهةَ، يرتفعُ الخلافُ. وعلى هذا فما ذكره المصنف مِن نفي الكراهة ليس هو المذهب، لكنه اقتصر في الجلاب على ما ذكره المصنف. ونقل اللخمي وصاحب اللباب وغيرهما عن ابن وهب كراهةَ إمامة الأقطع والأشل إذا لم يقدر أن يضع يده بالأرض، وأجاز ابن الماجشون إمامة الأقطع والخصي وإن كان راتباً. ولفظ الرواية المذكورة في النوادر: لا أرى أن يؤم. والمعروفُ عدمُ كراهة إمامة الأعمى كما ذكر المصنف. وفي الصحيح أن عِتَبانَ بنَ مالكٍ كان يَؤُمُّ قومَه وهو أعمى، وفي

الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام استَخلف ابنَ أمِّ مكتوم على المدينة بضع عشرة مرة يؤُمُ الناس. نَعَمْ قَدَّم أصحابُنا البصيرَ عليه. وفي الإرشاد الكراهةُ. ولا أعلم له موافقاً. وَفِي اللَّحَّانِ ثَالِثُهَا: تَصِحُّ إِلا أَنْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى كَأَنْعَمْتُ ضَمّاً وَكَسْراً. وَرَابِعُهَا: إِلا فِي الْفَاتِحَةِ، وَالشَّاذُّ الصَّحَّةُ. وَفِيهَا: وَلا يُصَلِّي مَنْ يُحْسِنُ خَلْفَ مَنْ لا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ وَيُعِيدُ أَبَداً، وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ تَرْكِهَا ... الخلاف المذكور ينبني على أن اللحن هل يُلحِق القراءةَ بكلامِ الناس ويخرجه عن كونِه قرآناً أم لا؟ فمَن رأى الصحةَ رأى أنَّ اللحنَ لا يُلحقها بالكلاَم، وهذا القول حكاه اللخمي ولم يعزه. المازري: ولم أقف عليه. ولذلك قال المصنف: (وَالشَّاذُّ الصَّحَّةُ). ونقله في البيان عن ابنِ حبيبٍ، قال والصلاة عندي مكروهة ابتداء. قال وهو الصحيح؛ لأن القارئ لا يقصد بقراءته ما يقتضيه اللحنُ، بل يعتقد بقراءته ما يعتقد ما من لا يلحن. انتهى. وفي قوله: (وَالشَّاذُّ الصَّحَّةُ) إشارةٌ إلى أن المشهور البطلان، ولكن لا أعلم مَن صرَّح بتشهيرِه. نَعَم [74/أ] قال القابسي: هو الصحيح. واحتَجَّ له بقوله في المدونة: ولا يُصلي مَن يُحسن خلفَ مَن لا يُحسن القراءةَ، وهو أشدُّ من تَركِها. قال: ولم يفرق في المدونة بين فاتحةٍ وغيرِها، ولا بين مَن يغير المعنى وغيرهَ. ورأى في الثالث أنه إذا غَيَّرَ المعنى صار كلاماً، مثل أن يقول: أنعمتُ -بضم التاء- فيضيف الفعلَ إلى نفسِه، أو يكسرها فيُضيفه إلى المؤنث، وهو اختيار القاضيين: أبي الحسن وأبي محمد. والرابعُ لابن اللباد وابن أبي زيد. ابن عبدالسلام: وبهذا كان كثير ممن أدركنا يفتي.

وَالأَلْكَنُ: الْمَنْصُوصُ تَصِحُّ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ قال ابن عبد السلام: والأَلكَنُ من لا يستطيع إخراجَ بعضِ الحروف مِن مخارجِها سواء كان لا ينطق بالحرف ألبتةَ، أو ينطق به مُغتراً. انتهى. والألكنُ جنسٌ يدخل تحته أنواعٌ، كالفَافَاءِ، والتَّمْتَامِ، والأَرَتِّ، والأَلْثَغِ. والفأفاء والتمتام اللذان يزيدان الفاء والتاء، والأرت الذي يجعل اللام تاء، قاله الفراء. وقيل: هو الذي يدغم حرفاً في حرف. وقال المبرد: الرُّنَّةُ كالربح تمنع الكلام فإذا جاء شيء منه اتصل، والألثغُ الذي يُبْدِلُ حرفا بحرف. وقال الفراء: الذي يجعل الراءَ لاماً، والصادَ تاءً وقال الأبهرى: وهو الذي لا يُبِينُ الكلامَ. وقال ابن العربي: واللُّكنةُّ تجمع ذلك كله. وقوله: (الْمَنْصُوصُ) ظاهرُه أن مقابلَه القول الثاني، وهو أنها إنها تصح إذا كانت لكنته في غير الفاتحة، وهذا القول حكاه ابن العربي، وهو ظاهر الجلاب؛ لقوله: ولا بأس بإمامة الألكن إذا كان عدلاً وكان يقيم حروف الفاتحة. وقال اللخمي: ولا أعلمهم يخالفون أن صلاة مَنِ ائْتَمَّ بالألكن ماضيةٌ ولا إعادة عليه. وفي ابن بشير: وإذا كانت لكنته في لسانه فالمنصوصُ صحةُ الصلاة. وحكى عن القاضي إسماعيل أنه قال: إذا لم تكن لكنته في القراءة، وهذا إن صح فيكون في المسألة قولان: صحه الاقتداء؛ لأن اللكنة لا تغير معنى، وعدمُ الصحة؛ لأن المطلوب النطق بالحروف، وهو عاجز عن ذلك. انتهى. خليل: وفي كلامه نظر؛ لأن الذي نقله اللخمي والمازري عن القاضي أنه أجاز إمامةَ الألكنِ إذا كانت لُكنته في غيرِ محلِّ القراءة. المازري: وهذا الاشتراط لا معنى له؛ لأن التقصير في غير القراءة لا يؤثر في القراءة، ولذلك استبعده اللخمي لأن اللكنة من الطبع فلا تغير بقراءة ولا غيرها، لكن هذا لا

يدل على البطلان إن وقع، ألا ترى أن اللخمي حكاه ثم حكى الاتفاق المقدم، فلو كان يدل عل البطلان لتناقض كلامه. وقول المصنف: (تَصِحُّ) لا يلزم منه الجواز ابتداء. ونقل اللخمي أن لمالك في المجموعة وفي المبسوط إجازة ذلك ابتداء. وفي الجلاب الجوازُ كما تقدم. وحكى ابنُ العربي قولاً بالجواز في قليل اللكنة، والكراهة في بَيَّنها. وَمِنْهُ مَنْ لا يُمَيِّزُ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ ظاهره أن الضمير في (مِنْهُ) عائد على الألكن؛ أي: مِن جنس الألكن. وهو الذي قاله ابن عبد السلام. ونص ابن أبي زيد والقابسي على أن مَن صلَّى خَلفِ مَن لا يُميز بين الضاد والظاء صلاتُه باطلة. اللخمي: وفي الإشراف في الأعجمي الذي يلفظ بالضادِ ظاءً، أو الألثغ تَصِحُّ إمامته؛ إذْ ليس في ذلك إحالة. والأظهر عَوْدُ الضمير على اللحان. وكذلك ذكره اللخمي وابن يونس وابن بشير وغيرهم، أعني أنم ذكروا مَن لا يميز بينهما من اللحن. خليل: وهنا بحث، وهو أن يقال: الذي لا يميز بين الضاد والظاء لا يخلو إمَّا أن يكون عاجزاً في الحال والمستقبل؛ أي: لا يقبل التعليم لطبعه، أو قادراً في الحال، أو عاجزاً في الحال قادراً في المستقبل. فالأول: ينبغي أن يكون كالألكن. والثاني: ينبغي ألا يُختلف في بطلان صلاته؛ لأنه كالمُتَلاعب. والثالث: إن اتسع الوقت للتعليم وَجَبَ عليه الائتمام، كما قالوا في العاجز عن الفاتحة. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ كَالْجَاهِلِ فِي الْبَابَيْنِ كَاللامِ وَالنُّونِ فيحتمل أن يريد بالبابين اللحانَ والألكن، ويعني أته إذا أمكن لكل منهما أن يتعلم فهو غير معذور.

وقوله: (كاَللامِ وَالنُّونِ) أي أن الضاد والظاء حرفان متباينان كتباين اللام والنون، فكما لا تقوم اللامُ مقامَ النون ولا العكس فكذلك هما، وإلى هذا ذهب ابن عبد السلام وابن هارون. ويحتمل أن يريد بالبابين الجاهلَ بالفقه والقراءة؛ لأنهما إذا أمكنهما التعليم ولم يتعلما كانا كالتارك عمداً لما لا تصح الصلاة إلا به قراءة وفقهاً ولم يفعل، وإذا لم يمكنه ذلك فهو معذور. وقوله: (كاَللامِ وَالنُّونِ) مثالٌ لما يمكنه تعليمه؛ لأن مخرجَ اللام والنون سهلٌ بخلاف مخرج الضاد والظاء، وإليه ذهب ابن راشد، فقال: وهكذا سمعته من شيخنا ابن دقيق العيد. ابن هارون: وفيه عندي بُعْدٌ؛ لأن المصنف لم يتكلم في هذا الفصل إلا على القراءة، لا على الفقه، فقرينةُ السباق تنفيه. خليل: وقولُ المصنف: (كَالْجَاهِلِ) في كلا التمشيتين من باب تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن من يمكنه التعلم ولم يتعلم فهو جاهل. وانظر قول المصنف: (وَالظَّاهِرُ) هل أراد الظاهر في النظر، أو أراد بالظاهر قول ابن أبي زيد؟ ويكون مقابله ما قاله عبد الوهاب في الإشراف، وعلى هذا تمشية ابن عبد السلام، وأما على التمشية الثانية فإنما يريد الظاهر في النظر، والله أعلم. وَفِي الْمُبْتَدِعِ كَالْحَرُورِيِّ وَالْقَدَرِيُّ ثَالِثُهَا: تُعَادُ فِي الْوَقْتِ. وَرَابِعُهَا: تُعَادُ أَبَداً مَا لَمْ يَكُنْ وَالِياً بِنَاءً عَلَى فِسْقِهِمْ أَوْ كُفْرِهِمْ، وَلِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي فِيهِمْ قَوْلانِ، وَفِيهَا: لا يُنَاكَحُونَ، وَلا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ، وَلا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ، وَلا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ ..... القول بالإعادة أبداً لأصبغ وابن عبد الحكم، والقولُ بنفي الإعادة لمالك في سماع ابن وهب، وهو قول سحنون.

والثالثُ لابن القاسم في المدونة، ونصها: وقف مالك في إعادةِ مَن صَلَّى خلف مبتدعٍ. وقال ابن القاسم: يعيد في الوقت. قال مالك: ولا يُسلم على أهل البدع، ولا يناكحون، ولا تُصلى خلفهم جمعة ولا غيرها. والرابع لابن حبيب، قال: إذا كان والياً تؤدى إليه الطاعة، أو قاضيه، أو خليفته، أو صاحب شرطة فالصلاةُ خلفه جائزةٌ، وإن أعاد في الوقت فحَسَنٌ. ونحوه لمالك. وقوله: (بِنَاءً عَلَى فِسْقِهِمْ أَوْ كُفْرِهِمْ) أي: فعلَى الكُفْرِ يُعيد مَن صلى خلفَه أبداً، وعلى الفسق يُخْتَلَفُ، كالفاسق بالجوارح، والمختارُ عند حذاق المتكلمين عدمُ تكفيرهم، وأنه لا يُكَفَّرُ أحدٌ بذنبٍ من أهل القبلة. وأكثر المتكلمين إنما فرضوا هذه المسألة فيمن كانت بدعته في الصفات، وجعلوا الخلاف فيها مبنياً على الخلاف في التكفير بالمآل. وعلى هذا فليس لذِكرِ الحروريِّ هنا معنى: إذ الحرورية قومٌ خرجوا على عليٍّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بحرُورَاءَ ونقضوا عليه قضية التحكيم، وكفَّرُوا بالذنبِ، ولم يظهر منهم خلافٌ في الصفات، وإلى هذا أشار ابن عبد السلام، وقد يُجاب عنه بوجهين: أحدهما: أن ما ارتكب هؤلاء من التكفير بالذنب من أعظم البدع. والثاني: نقل ابن يونس عن مالك التسوية بين القدري والحروري في أنه لا يُصلى خلفهما، ثم ذكر بعد ذلك الخلافَ كما ذكر المصنف، فدل على أن الجميع سواء. قال في البيان بعد ذكره الأربعة الأهوال، وأن الخلافَ مبنيٌّ على الخلاف في التكفير: وهذا فيما كان من الأهواء والبدع محتملاً للوجهين، إذ منها ما هو كفٌر صرح، فلا يصح أن يُختلف في أن الإعادة واجبة على من صلى خلفهم، ومنها ما هو هوى خفيف لا يَؤُول بمعتَقِدِه إلى الكفر، فلا يصح أن يُختلف في أن الإعادة غيرُ واجبة على مَن صلَّى خلفهم، هذا وجه القول في هذه المسألة، وإن كانت الروايات جاءت مجملة. انتهى.

وقوله: (وَلِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي فِيهِمْ قَوْلانِ) يعني أبا بكر بن الطيب. (قَوْلانِ) أي: لكل واحد با لتكفير وعدمه. ونَقَلَ الْمَازِرِيُّ الإِجْمَاعَ فِي الْمُخَالِفِ فِي الْفُرُوعِ الظَّنِّيَّةِ، واعْتَذَرَ عَنْ قَوْلِ أَشْهَبَ فيمَنْ صَلَّى وَرَاءَ مَنْ لا يَرَى الْوُضُوءَ مِنَ الْقُبْلَةِ أَعَادَ أَبَداً، فَإِنَّهُ رَآهُ كَالْقَطْعِ، وقَوَّاهُ بِقَوْلِهِ بِخِلافِ مَسِّ الذَّكَرِ، وخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ الْخِلافَ مِنْ قَوْلِ أَشْهَبَ .... لما ذكر المخالفَ في الاعتقاد ذكر المخالفَ في الفروع. ولفظ المازري: وقد حكى حُدَّاقُ الأصوليين إجماعَ الأمة عل إجزاء الصلاة خلف الأئمة المختلفين؛ لأنه إن كان كل مجتهد مصيباً فواضحٌ، وإن كان المصيب واحداً فكذلك لعدم بيان المُحَقَّقِ. واستقرأ اللخمُّي الخلافَ مِن قول أشهب: يُعيد من صَلَّى خَلْفَ مَن لا يرى الوضوءَ مِن القُبلة، فقال: هذا خلاف في، الائتمام المخالف في الفروع الظنية، فيدخل, الخلاف في، ائتمام المالكى بالشفعي وبالعكس. قال المازري: إنما قال أشهب بالإعادة؛ لأنه رأى الدليلَ الدالَّ على وجوب الوضوء مِن القُبلة قطعياً لا ظنياً، فهو إنما صلَّى خلف رَجُلٍ خالف قطعياً لا ظنياً. قال: ويؤيده قولُ أشهبَ: بخلاف مس الذكر. وإنما فرّق بينهما؛ لأن الدليلَ على نقض الوضوء باللمس غيرُ قطعيِّ بخلاف القُبلة، وفيه نظرٌ. وأين الدليلُ الدال على وجوب الوضوء من القُبلة؟ وبالجملة فالإجماعُ فيه نظرٌ. وقد نص الشافعية على الخلاف عندهم، بل حكى المازري في باب الأقضية عن ابن القاسم في العتبية ما يقتضي الخلاف، وهو قوله: لو أعلمأن أحداً لا يقرأ في الركعتين الأخيرتين ما صليت خَلْفَه. وفِي الْفَاسِقِ أَرْبَعَةٌ كَالْمُبْتَدِعِ أي: الفاسق بالجوارح. وتصوُّرُه ظاهرٌ. ابن بزيزة: والمشهور إعادةُ مَن صلَّى خلفَ صاحبِ كبيرةٍ أبداً.

وفصَّل الأبهري، فقال المسألة على وجهين؛ إن كان فاسقاً بتأويلٍ أعاد في الوقت، وإن كان فاسقاً إجماع كمن ترك الطهارة، أوزنى أَعَادَ أبداً. وقال اللخمي: إنْ كان فسقُه لا يتعلق بالصلاة -كالزنا، وغصبِ الأموال، وقَتْلِ النَّفْسِ- أجزأَتْه، لا إن كان يتعلق بالطهارة. وفي القول الرابع هنا زيادة، ونصه: وقال ابن حبيب: مَن صلَّى وراءَ مَن يشربُ الخمرَ أعاد أبداً، إلا أن يكون الوالي الذي تُؤدَّى إليه الطاعةُ، فلا إعادةَ عليه إلا أن يكون حينئذٍ سكراناً. قاله مَن لقيتُه مِن أصحاب مالك. وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ وَالْخَصِيُّ وَوَلَدُ الزِّنَى وَالْمَابُونُ وَالأَغْلَفُ إِمَاماً رَاتِباً فِي الْفَرَائِضِ وَالْعِيدِ، بِخِلافِ السَّفَرِ وقِيَامِ رَمَضَانَ. وقِيلَ: لا تُكْرَهُ كَالْعِنِّينِ ..... هذا لأن الإمامةَ دَرَجَةٌ شريفة، لا يَنبغي أن تكون إلا لمن لا يُطْعَنُ فيه، وهؤلاء الخمسة تُسْرِعُ الألسنةُ إليهم، وربما تعَدَّى إلى مَن ائتمَّ بهم، فلذلك كُرِهَتْ إمامتُهم في المشهور. وقيل: لا تُكره كما لا تكره مِن العِنِّين، مع أنَّ [75/أ] في فرجِه نقصاً. وظاهرُ قوله: (وقِيلَ: لا تُكْرَهُ) عمومُه في الخمسة. ابن هارون: ولا أعلم نفيَ الكراهةِ في الأغلف إذا تركَ الختانَ من غير عذر. انتهى. وقال عبد الملك: من ترك الختان من غير عذر لم تجز إمامته ولا شهادته. قال ابن العربي: وهو يدل على أن الاختتانَ عنده فرضٌ كمذهب الشافعي؛ لأن العدالة لا تسقط إلا بتركِ الواجب.

ومَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِمَامَةَ الْعَبْدِ فِي الْجُمُعَةِ، وقَالَ: يُعِيدُ ويُعِيدُونَ. وأَجَازَهَا أَشْهَبُ اختلف النقلُ عن أشهب، فروي عنه ما ذكره، وروي عنه الكراهة. وقيل: بجوز استخلافه لا ابتداء، والله أعلم. واعلم أن للعبد ثلاث حالات: الأُولى: أن يَؤمَّ في الفريضة مِن غير أن يُتخذ إماماً راتباً فلا كراهة هنا على المشهور. ورُوي عن مالك: لا يَؤم العبدُ الأحرارَ، إلا أن يكون يقرأ وهم لايقرؤون. الثانية: أن يُتخذ إماماً راتباً في الفرائض، فتُكره إمامته، وأجاز ابن القاسم أن يُتخذ إماماً راتباً في التراويح، إذ هي من النوافل، وأَلْحَقَ العيدينِ والكسوفَ والاستسقاء بالفرائضِ؛ لأنها محلُّ اجتماع الناس. وأجاز ابن الماجشون اتحاذه راتباً في الفرائض، فالجواز -على قوله- في هذا أولى. الثالثة: إمامتُه في الجمعة. قال ابن بشير: لا يجوز اتخاذه راتباً بلا خلاف. انتهى. وإن حضرها فالأربعة المتقدمة. ويُرَجَّحُ عِنْدَ انْتِفَاءٍ نَقَائِصِ الْمَنْعِ والْكَرَاهَةِ السُّلْطَانُ، ثُمَّ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ الأَفْقَهُ، ثُمَّ الأَوْرَعُ عَلَى الأَظْهَرِ، ثُمَّ الأَقْرَأُ، ثُمَّ بِالسِّنِّ فِي الإِسْلامِ، ثُمَّ بِالنَّسَبِ، ثُمَّ بِالْخَلْقِ، ثُمَّ بِاللُّبَاسِ. فَإِنْ تَشَاحَّ مُتَمَاثِلُونَ لا لِكِبَرٍ اقْتَرَعُوا ..... يعني: إذا اجتمع جماعة وليس في واحد منهم نقص يُوجب منعاً أو كراهة فأَوْلاهم السلطانُ لما في مسلمٍ عنه عليه الصلاة والسلام: "ولا يُؤَمُّ الرجل في سلطانه". ثم ربُّ المنزل؛ لأنه أيضاً سلطانُ منزلِه. قال مالك في رواية أشهب: ولو كان رب المنزل عبداً فهو أحقُّ. وفي النوادر وقال بعض أصحابنا: وإن كانت امرأة فلها أن توفي رجلاً يؤم في منزلها.

قال اللخمي: وأربعةٌ لهم الإمامةُ; الأميرُ، والأبُ، والعمُّ، وصاحبُ المنزل، فإذا اجتمع أبٌ وابنٌ فالإمامةُ للأبِ، وكذلك العمُّ وابنُ الأخِ الإمامةُ للعمِّ. قال مالك في المستخرجة: ولو كان العمُّ أصغر فهو أحقُّ بالإمامة، إلا أن يَاذَنَ الأبُ والعمُّ. قال سحنون: وذلك إذا كان العم في العلم والفضل مثلَ ابنِ الأخ، وعلى هذا يكون الابنُ أولى مِن الأب إن كان عالماً أو صالحاً والأب ليس كذلك. انتهى. قال المازري: وقد لا يلزم ما ألزمه اللخمي لسحنون لكون الأب آكد حرمة. (ثُمَّ الأَفْقَهُ) لأن الفقه مما تظهر له ثمرة في الصلاة؛ ولأن الفقهاء كالأمراء المصدور عن رأيهم. (ثُمَّ الأَوْرَعُ عَلَى الأَظْهَرِ) في الدليل وقيل: يقدم الأورع عل الأفقه؛ لأن الشفاعة في حقه أظهرُ، والأئمةُ شفعاء. قال ابن بشر: فإن اجتمع الأفقهُ والأصلحُ فلم أر في المذهب نصاً، وللشافعية قولان. (ثُم الأَقْرَأُ)، فإن قلت: قوله صلى الله عليه وسلم في مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه: "يَؤُمَّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواة فأعلمُهم بالسُّنَّةِ، فإن كانوا في السُّنة سواءٌ فأقدمُهم في الهجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمُهم في الإسلام، ولا يُؤَمُّ الرجلُ في سلطانه، ولا يُجلس على تَكْرِمَتِه إلا بإِذْنِه". واللفظُ لمسلمٍ يَدُلُّ على تقديمِ الأقرأ على مَن تقدَّم. فالجوابُ أنَّ القارئَ في ذلك الزمانِ هو الفقيهُ؛ لأنهم كانوا يتعلمون الأحكامَ مع الحفظ، والله أعلم. وقوله: (ثُمَّ بِالسِّنِّ فِي الإِسْلامِ) أي: ولا يُعتبر كِبَرُ السن إذا لم يكن في الإسلام، (ثُمَّ بِالنَّسَبِ) لما في الحديث: (قَدِّمُوا قُرَيشاً ولا تقدموها) ولأن النَّسب شرفٌ.

(ثُمَّ بالْخُلُقِ) أي: بالصورة الجميلة، (ثُمَّ بالْخُلُقِ) أي: لأن العقل والخير يتبعانه، ولأنه أَهْيَبُ في النْفس، لِما في الحديث: "خياركم أحسنكم أخلاقاً". هكذا كان شيخنا يُمَشِّي هذا المحل، وضبطه ابنُ هارون بالعكس فقدم الخُلق- بضم الخاء- على الخَلق بفتحِها، وهو أظهرُ. (ثُمَّ بِاللُّبَاسِ. فَإِنْ تَشَاحَّ) مَن تساوتْ أحوالُهم أُقْرعَ بينهم. قال ابنُ بشير: إذا كان مطلوبهم فضلَ الإمامة، لا طلب الرئاسة الدنيوية. انتهى. قال في البيان: فإن اجتمع فقيهٌ وصاحبُ حديث ومقرئٌ وعابدٌ ومسنٌّ فالفقيه، ثم المحدث، ثم المقرئ الماهر، ثم العابد، ثم ذو السن. انتهى. وقد تقدم قول ابن بشير، ولم أَرَ فيه نصاً فاعلمه. ولِلسُّلْطَانِ وصَاحِبِ الْمَنْزِلِ الاسْتِنَابَةُ وإِنْ كَانَ نَاقِصاً، ويُكْرَهُ لأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُصَلُّوا بِغَيْرِ رِدَاءٍ .... قوله: (وإِنْ كَانَ نَاقِصاً) راجع إلى صاحب المنزل والسلطان، لا يقال: لا يصح عوده عل السلطان؛ لأن النقصَ المانع من الإمامة مانع من الولاية، لأنا نقول: شروط الإمامة الكبرى قسمان: قسم يشترط في ابتدائها ودوامها، وقسم يشترط في ابتدائها وإذا طرأ لا يُوجب العزل كأَخذِ الأموال. ثم إن النقص قد يطلق على مايوجب 72/ب الكراهة كا مر، والله اعلم. وقوله: (ويُكْرَهُ لأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ) أي بخلاف الإمام في غير المساجد، كالسفر ومنزله؛ لأنه إذا كان بغير رداء وهو في المسجد خرج عن هيئة الوقار. وشُرُوطُ الاقتداء أَرْبَعَةٌ: نِيَّةُ الاقتداء بخِلافِ الإِمَامِ إِلا فِي الْجُمُعَةِ والْخَوْفِ، والْمُسْتَخْلِفِ .... أي: يجب أن ينوي المأمومُ أنه مُقْتَدٍ، وإلا لَما وَقَعَ التمييزُ بينه وبين الفذِّ، بخلاف الإمام فإنه لا تجب عليه نية الإمامة.

ابن عبد السلام: وحكى بعضُ الأندلسيين عن ابن القاسم اشتراطَ نية الإمام الإمامةَ مطلقاً. ابن رشد في كتاب القصد والإيجاز: قال عبد الوهاب: الإمام لا يفتقر عند مالك أن ينوي كونه إماماً، وإنما يفتقر إلى ذلك المأموم أن ينوي أنه مُؤْتَمٌّ، وإلا بطلت صلاته. وإنما يلزم الإمام النية في أربعة مواضع: أحدها: إذا كان إماماً في الجمعة، فإن الجماعة شرطٌ فيها، فلا بد أن ينوي مصليها كونه إماماً. والثاني: صلاة الخوف على هيئتها؛ لأن أداءها على تلك الصفة لا يصح إلا إذا كان إماماً. والثالث: للمستخلَف يَلزمه أن ينوي الإمامة؛ ليميز بين نية المأمومية والإمامية. والرابع: فضل الجماعة، فإنها لا تحمل له إلا أن ينوي أنه إمام. فإن قيل: فما تقولون فيمن صلى منفرداً ينوي الانفراد ولاينوي الإمامة، فصل رجل خلفه، أيحصل لصاحب الصلاة فضيلة؟ قيل له: أما المأموم فَنَعَمْ؛ لأنه نواها، وأما الإمام فلا؛ لأنه لم ينوها. انتهى. وخالفه اللخمي في هذا، ورأى أنه يحصل للإمام أيضاً فضيلةُ الجماعة، وإن لم ينو الإمامة. خليل: وتسامح في الرابع؛ لأنها غير لازمة، وإنما هي شرط في حصول فضلِ الجماعة، ولذلك قال المازري بعد ذكر الثلاث: ويجب أن تُشترط نيةُ الإمامة في تحصيل فضل الجماعة؛ لأن الإمام إنما تكتب له فضيلة الجماعة إذا نواها. ولم أَرَ مَن أضاف الجمعَ إلى الثلاثة الأُوَل إلا المتأخرين كالمصنف والقرافي. ولمَّا ذكر ابن عطاء الله الثلاثةَ الأولَ قال: ويظهر لي أن يُلحق بها جمعُ الصلاتين ليلة المطر؛ إذ لا يكون ذلك إلا في الجماعة، فينبغي أن ينوي الإمامُ الإمامةَ فيها كالجمعة، ثم ينظر هل يُشترط ذلك في الثانية مِن الصلاتين؛

لأنها التي ظهر تأثير الجمع فيها لتقديمها على وقتها، أَوْ لا يشترط فيها، إذ السنةُ الجمعُ، والجمعُ لا يُعقل إلا بين اثنين. انتهى. تنبيه: ضبطَ بعضُهم هذه المسائل فقال: كلُّ موضع تُشترط فيه الجماعة فإنه يجب على الإمام فيه نيةُ الإمامة. وليس بصحيحٍ؛ فإن مسألة الاستخلاف لا تشترط فيها الجماعة، ولو أتموا أفذاذاً صحت الصلاة، وكذلك صلاة الخوف لو صلى كلٌّ لنفسِه صحتْ. وزاد ابن بشير مسألة أخرى، وهي صلاة الجنازة، فأوجب فيها على الإمام نيةَ؟ الإمامة بناء على اشتراط الحماعة فيها، وفيه نظر؛ فإنه نص في المدونة على أنه لو لم يكن إلا نساء صلين أفذاذاً. وصرح في الجواهر بأن الجماعة غير مشرطة فيها. فَلا يَنْتَقِلُ مُنْفَرِدٌ إِلَى جَمَاعَةٍ ولا بِالْعَكْسِ، واخْتُلِفَ فِي مَرِيضٍ اقْتَدَى بِمِثْلِهِ فَصَحَّ (لا يَنْتَقِلُ مُنْفَرِدٌ) لأن نية الاقتداء فات محلُّها، وهو أول الصلاة، (ولا بِالْعَكْسِ) لأن المأموم قد أَلْزَمَ؛ نفسَه نيةَ الاقتداء. واختُلف في مريضٍ اقتدى بمثله فصَحَّ المأمومُ، فقال سحنون: يَخرج مِن صلاة الإمام ويُتِمُّ لنفسه؛ إِذْ لا يجوز لقائمِ، أن يأتمَّ بقاعدٍ، وهو قد دخل معه أوَّلاً بوجهٍ جائزٍ فلا يقطعها قياساً على الإمام يَصيرُ مأموماً لعذرٍ، وعلى المأمومِ يُتِمُّ منفرداً إذا لم يستخلف الإمام وأَتَمُّوا أفذاذا. وقال يحى بن عمر: يتمادى معه. يُرِيدُ لأنه دخل معه أوّلاً بوجهٍ جائزٍ فتمادَى مراعاةً لمن أجاز ذلك ابتداءً. الثَّانِي: أَلا يَاتَمَّ فِي فَرْضٍ بِمُتَنَفَّلٍ يُريد خلافَ العكسِ، فإنه جائزٌ، والدليلُ على امتناعِ صلاةِ المفترضِ خلفَ المُتنفل ما خَرَّجَه البخاريُّ ومسلم، مِن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعل الإمامُ ليُؤْتَمَّ به فلا تختلفوا عليه). فَعَمَّ الخلافَ في النيةِ والفعلِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّحِدَ الْفَرْضَانِ فِي ظُهْرِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا تصوره ظاهٌر، ويشترط أيضاً أن تتحد الصلاتان في الأداء والقضاء، فلا يصل ظهراً قضاء خلفَ مَن يُصلي ظهراً أداء، ولا العكس. الرَّابِعُ: الْمُتَابَعَةُ فِي الإِحْرَامِ والسَّلامِ، والْمُسَاوَاةُ والْمُسَابَقَةُ مُبْطِلَةٌ فِيهِمَا، فَيُعِيدُ الإِحْرَامَ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ أَحْرَمَ مَعَهُ أَجْزَأَهُ، وبَعْدَهُ أَصْوَبُ ...... لأن المسابقةَ في الإحرام والسلام منافيةٌ للاقتداء. وقوله: (فَيُعِيدُ الإِحْرَامَ) واختُلِفَ إذا أَحرم قبله، هل عليه أن يُسَلِّمَ مِن ذلك الإحرام؟ فقال مالك: يكبر ولا يسلم. وهو ظاهر كلام المصنف لسكوته عنه، وقال سحنون: يسلم. وهو اختيار بعض المتأخرين لكونه عقد على نفسه صلاةً إحرام، كما لو أحرم بالظهرِ قبلَ الزوال، وكما لو أحرم بها فذكر -وهو في الصلاة- أنه صلاها، فإنها تنعقد نافلة فيهما، وكذلك تعقد في هذه المسألة نافلة، وإذا انعقدت [76/ب] فلا بُدَّ مِن السَّلامِ، وفُرِّق بأنه هنا أَحْرَمَ على أنه مأمومٌ، فمتى لم يَصِحَّ ذلك لم تنعقد، بخلافها، وإنما هو بمنزلة مَن أَحرم بالظهر خلفَ مَن يُصلي على جنازة. قال سند: ويؤيده أنه لو تمادى على إجرامه ليصليها لنفسه لم تَصِح. ونقل ذلك ابنُ سحنون عن أبيه، وفَهِمَ اللخميُّ مِن قول سحنون: يسلم أَنَّهُ لو صلى لنفسه بذلك الإحرام أنه يجزئه، ثم نَقَلَ ما حكيناه عن سحنون، وجَعَلَه اختلافَ قولٍ، وليس كما ظَنَّه، وإنما أَمَرَه سحنونُ بالسلامِ مراعاةً لقولِ مَن أجاز، وهو الشافعي، قاله المازري، وابن بشير، وابن راشد. وما ذكره مِن البطلان في المساواة هو لمالكٍ في الواضحة، وهو الظاهرُ. وقال ابن القاسم: تجزئه قال سحنون في المجموعة: وقولُ ابن القاسم هو قول عبد العزيز، وقول مالك أنه يعيد الصلاة، ولابن عبد الحكم ثالثٌ؛ إن لم يسبقه الإمام بشيء

من حروف التكبير لم يصح، وإنْ سبقَه بحرفٍ صحت. وكلامه في البيان يقتضي أن هذا ليس بخلافٍ؛ لأنه قال؛ مذهب ابن القاسم إنْ أَحْرَمَ معه أجزأه، وهو قول ابن عبد الحكم، وقال محمد وأصبغ وهو قول مالك في كتاب ابن حبيب: لا يجزئه. وهو أظهر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما جُعل الإمامُ ليُؤْتَمَّ به، فإذا كَبَّرَ فكَبِّرُوا) فأَتي بالفاءِ المقتضيةِ للتعقيب، وهذا الاختلاف إنما هو إذا ابتدأ بتكبيرة الإحرام معه، فأتمها معه أَوْ بعدَه، وأما إذا ابتدأها قَبْلَه فلا تحزئه وإِنْ أتمها بعده قَوْلاً واحداً، وإِنِ ابتدأها بعده فأتمها معه أوبعده أجزأه قولاً واحداً، والاختيارُ أَلا يُحْرِمَ المأمومُ إلا بعد أن يَسكتَ الإمامُ قَبْلَه، قاله مالك، قادت وحكم السلام في ذلك حكم الإحرام. وسئل سحنون عن رجلين ائتم أحدُهما بالآخر ثم نسيا قبل الإكمال مَنِ الإمامُ منهما؟ فقال: إِنْ سَبَقَ أحدُهما بالسلام أَعاد الصلاةَ، وإِنْ سَلَّما معا جَرَتْ على اختلافِ أصحابِنا في المساواةِ في الإحرامِ والسلامِ. وتَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فِي غَيْرِهِمَا، ويُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ مَا لَمْ يَلْحَقْهُ الإِمَامُ، وقِيلَ: تَجُوزُ الْمُسَاوَاةُ إِلا فِي قِيَامِ الْجُلُوسِ والأَوَّلَيْنِ ..... هكذا وقع في بعض النسخ، وهي صحيحة باعتبار أن مسابقة الإمام غير جائزة، وأما مساواته فمكروهةٌ، هكذا صرح الباجي بالتفصيل، وكذلك صرَّح المازريُّ وغيرُه بمنع المسابقة، ويدل عليه ما في الصحيحين: "أَوَ مَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام". الحديث، وروي عن مالكٍ جوازُ المساواة إلا في قيام الجلوس مِن اثنتين. و (والأَوَّلَيْنِ) أي: الإحرام والسلام. ووقع في بعض النُّسخ عِوَضَ قوله: (وتَجِبُ): وتستحب. وفي كل من النسختين نظر؛ أما الأولى فلأنها تُفْهِمُ منعَ المساواة، وأما الثانية فلأنه يُفْهَمُ مِنْهُ كراهيةُ المسابقة. والأَوْلَى نسخة: تستحب. ويكون احترز بذلك عن المساواة، فإنهما مكروهة، ولا يكون في كلامه تعرض للمسابقة.

وقوله: (ويُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ مَا لَمْ يَلْحَقْهُ الإِمَامُ) ظاهرٌ. قال مالك: ومَن سَهَا فرفعَ قبلَ إمامِه في ركوعِه أو سجودِه فالسُّنَّةُ أَنْ يرجع راكعاً أو ساجداً. قال الباجي: وإِنْ عَلِمَ أَنه يُدْرِكُ الإمامَ راكعاً لَزِمَهُ أن يرجع إلى متابعته. وإِنْ عَلِمَ أَنَّه لا يُدركه راكعاً فقال أشهب: لا يرجع. ورواه ابنُ حبيب عن مالك، وقال سحنون: يرجع، ويبقى بعد الإمام بقدرِ ما انفردَ الإمامُ قبله. ثم قال: وهذا حكمُ الرفع قبل الإمام، وأما الخفضُ قَبْلَه كركوعٍ أو سجود فإنه غير مقصود في نفسه بلا خلاف في المذهب، وإنما المقصود منه الركوع أو السجود، فإن أقام بعد ركوع الإمام راكعاً أو ساجداً مقدارَ فرضِه صحت صلاته، إلا أنه قد أساء في خفضِه قبلَ إمامِه. انتهى. ولم أَرَ عندنا قولاً بالبطلان فيما إذا سَبَقَ الإمامَ بالركوع أو السجود. قال ابن بشير: وقد ألزمتُ بعضَ أشياخي البطلانَ؛ لكونه لم يحصل له الاقتداء في الأركان فالتزَمَه على القول بأن الحركةَ إلى الأركان مقصودةٌ. وفِيهَا: ولا تُمْنَعُ النِّسَاءُ مِنَ الْمَسْجِدِ، ولا تُمْنَعُ الْمُتَجَالَّةُ فِي الِعِيدَيْنِ والاسْتِسْقَاءِ تصوره ظاهرٌ، وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". وفي تفسير ابن مزين: أَنَّ المرأة الشابة إذا استأذنت زوجها في الخروج لَمْ يُقْضَ لها عليه بالخروج. قال في البيان: وليس ذلك بخلافٍ لما في المدونة؛ لأن معنى ما في المدونة إنما هو في المنع العام، وأما الشابَّةُ فيُكره لها الخروج الكثير إلى المسجد، فتؤمر ألا تخرج إليه إلا في الفرض بإذن زوجها. ويَتعين في زماننا هذا المنعُ، والله أعلم. ويَدل عليه قول عائشة رضي الله عنها المشهورُ: "لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء ... الحديث".

وقد شرط العلماء في خروجهن شروطاً، منها أَلا تمسَّ طِيباً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَيُّما امرأةٍ أصابتْ بَخُوراً فلا تَشْهَدْ معنا العشاء". ويلحق بالبخور ما في معناه. ومنها: أن تخرج في خَشِّ ثيابها، وأَنْ لا تَتَحَلَّى بِحَلْيٍ يَظهر أثرُه، وأن لا يُزاحمن الرجالَ. وزاد بعضُهم في الشروط: أن يكون ذلك ليلاً. الْمَسْبُوقُ: ولا يَحْصُلُ فَضْلُهَا بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لما خرَّجه مالك والبخاري ومسلم، عنه عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". ابن عبد السلام: وحملَه المالكيةُ على فضيلة [76/ ب] الجماعةِ والوقتِ، وقَصَرَه بعضُهم على الوقت، لأن لفظَه قريبٌ مِن لفظ: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس .... " الحديث. ولا يُطِيلُ الإِمَامُ لإِدْرَاكِ أَحَدٍ قال في النوادر: ومن العتبية مِن سماع ابن القاسم قال: ولا يَنتظر الإمامُ مَن رآه أو حَسَّ به مُقْبِلاً. قال ابن حبيب: إذا كان راكعاً فلا يَمُدُّ في ركوعه. وكذلك قال اللخمي: ومَنْ وراءه أعظمُ عليه حقّاً ممن يأتي. انتهى. وجوز سحنونُ الإطالةَ، واختاره عياضٌ، وحديثُ: "مَن يتصدق على هذا". وتخفيفُه عليه الصلاة والسلام من أجل بكاء الصغير، والوقوفُ في صلاة الخوف لأجل إدراك الطائفة الثانية يَدُلُّ له، وانظرْ هل يجوز إطالة الصلاة كلها لهذا أمْ لا؟

قَالَ مَالِكً: وحَدُّ إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ أَنْ يُمَكَّنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ رَفْعِ الإِمَامَ مُطْمَئِناً (مطمئناً) هو حالٌ مِن فاعلِ (يُمَكِّن)، وتصوره واضحٌ. وحكى ابنُ العربي وسندٌ الإجماعَ على هذه المسألة. قال بعضُهم: وينبغي أن تَفُوتَ الركعةُ على القول بأن عقدَ الركعة بتميكن اليدين على الركبتين. فَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَهُ بوُصُولِهِ إِلَى الصَّفِّ فَلْيَرْكَعْ، فَإِنْ كَانَ بقُرْبِهِ دَبَّ إِلَيْهِ هذا مذهب المدونة، وهو المشهور، وروى ابن حبيب عن مالك: ولا يكبر ولا يركع حتى يأخذ مكانَه مِن الصَّفِّ أو يُقارِبُه. وقال أشهب: لا يركع حتى يأخذ مقامه مِن الصَّفِّ. وفي لعتبية فيمن جاء والإمامُ راكعٌ، وعند باب المسجد قوم يُصَلُّون: فليركع معهم ليدركَ الركعةَ، إلا أن يكونوا قليلاً فليتقدم إلى الفُرَج أَحَبُّ إليَّ. فرأى أن اللحاقَ بالصفِّ أَوْلَى مِن الصلاةِ مع النفرِ اليسيرِ، وإذا كان كذلك فَأَحْرَى أَلا يُصَلِّيَ وَحْدَه. ومنشأُ الخلافِ هل إدراكُ الركعة أفضلُ أم الصف الأول؟ ورُجِّحَ الثاني لما في البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكرة لما كبر دون الصف: "زادك الله حرصاً، ولا تَعُدْ". ولهذا روى ابن حبيب عن مالك: إذا كبّر دون الصف أن عليه الإعادة. وحُمِلَ معنى كلامه: ولا تَعُدْ إلى الركوعِ قَبْلَ الصَّفِّ. وأجيب بأن قوله: ولا تَعُدْ إنما هو نهيٌ عن الإسراع. وقيل: المعنى لا تَعُدْ إلى التأخير عن الصلاة. قال في البيان: أمّا لو علم أنه إذا ركع دون الصف لا يُدرك أن يَصِلَ إلى الصفِّ راكعاً حتى يرفع الإمامُ رأسَه فلا يجوز أن يركع دون الصف، وليتمادى إلى الصف، وإن فاتته الركعةُ قولاً واحداً، فإنْ فعل أجزأتْه ركعته وقد أساء، ولا يمشي إذا رَفع رأسَه مِن الركوع بعدُ حتى يتم الركعة ويقوم في الثانية. قال في الجلاب: ولا بأس أن يدبَّ قبل الركوع وبعده، وأن يَدُبَّ راكعاً، ولا يَدِبُّ ساجداً ولا جالساً.

اللخمي: وهو ظاهرُ الكتاب. وقال في سماع أشهب: لا أرى لأحدٍ أن يَدِبَّ راكعاً؛ لأنه لا يدب راكعاً إلا تجافت يداه عن ركبتيه. اللخمي: وهو أحسن. وما حَدُّ القرب الذي يدب فيه؟ في المذهب روايتان إحداهما: أنه الصفان. الثانية: أنه الثلاثة. ابن بشير: وظنه اللخمي خلافاً، وليس كذلك، بل المقصودُ جوازُ الدَّبِّ إذا كان قريباً، والاثنان مِن الثلاثة قريبٌ، ولا أصلَ للتحديد. قيل: والظاهر أنه يحسب في الثلاثة الصفَّ الذي هو فيه والذي يَدِبُّ إليه. خليل: وهو عندي مخالف لما قاله ابنُ حبيب وغيرُه؛ لأن للمصلي أن يخرق الصفوف لسد الفُرَجِ. فرع: واختلف إذا رأى في الصفوف فُرَجاً متعددة، فروى ابنُ القاسم عن مالك في المجموعة: يدِبُّ إلى آخرِها. وقال ابن حبيب: يدب إلى أولها. واختلف أيضاً إذا كان التخلُّل عن يمينه أو عن يساره، فقال ابن القاسم: يتقدمُ إليها ويسدُّها. ونحوَه حكى القاضي أبو محمد. وقال ابن حبيب: إن كانت عن يمينه أو يسارِه تَرَكَها، أما إن لم يُحْرِم أَخْرَقَ إليها مطلقاً. وإِنْ كَانَ سَاجِداً كَبَّرَ وسَجَدَ، ولا يَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَرْفَعَ أي: تكبيرتين، إحداهما للإحرام، والأخرى للسجود، وهكذا يفعل إن وجد راكعاً، بخلاف إن وجده جالساً فإنه يكبر تكبيرة الإحرام فقط ولا ينتظره، لما في الصحيحين: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وَاتُوها وعليكم السكينةُ والوقار، فما أدركتُم فصَلُّوا. وما فاتكم فأتِمّوا".

فَلَوْ شَكَّ فِي الإِدْرَاكِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا وَقِيلَ: يُعِيدُ الصَّلاةَ. ولِذَلِكَ كَانَ الأَوْلَى إِذَا خَشِيَ الشَّكَّ أَلا يُكَبِّرَ .... يعني: إذا شَكَّ: هل أدرك الركعة أم لا؟ لم يَعْتَدَّ بتلك الركعةِ؛ لأن الذمةَ لا تَبْرَأُ بالشَّكِّ، وإذا لم يَعتد بها فتَأَوَّلَ بعضُهم أنه يقطعُ بسلامٍ ويدخلُ مع الإمامِ، وتأوّلَ صاحبُ البيان أنه يلغيها ولا يقطع، بل يتبع الإمام فيما بقي، ثم يضقضي هذه الركعة ويسجد بَعْدَ سلامِ الإمام. وهو الأقيسُ بمنزلة مَنْ شَكَّ أصلى ثلاثاً أم أربعاً، وهو ظاهر لفظ المصنف. وقال ابن القاسم: يُسلم مع الإمام –يُريد إذا كان في أول ركعة- ويُعيد الصلاة، ولا يأتي بركعة مخافةَ أن تكون خامسة. وصَوَّبَهُ بعضُهم؛ أي: يتمادى لاحتمال الإدراك، ويُعيد لاحتمالِ عدمِه. وذكر في البيان قولاً آخر: أنه يعتد بتلك الركعة، وتجزئه صلاته. ولأجل هذا الخلافِ كان الأَوْلَى- إذا شَكَّ: هل يدرك الإمام أم لا؟ -أَنْ لا يُحْرِمُ، فإن تَحَقَّقَ أنه إنما وضع يديه على ركبتيه بعدَ رَفْعِ الإمام، فقال [77/أ] ابن عبد السلام: الحق أنه يرفع موافقةً للإمام، وإن كان بعض أشياخي يقول: ويبقى كذلك في صورة الراكع حتى يهوي الإمام للسجود، فيَخِرُّ مِن الركوع ولا يرفع، قال: لأنَّ رفعَ الرأسِ مِن الركوع عَقْدٌ للركعة، فلو فعل ذلك هنا كان قاضياً في حكم إمامه، وهذا كما تراه ضعيفٌ لاشتماله على مخالفة الإمام، وإنما يكون قاضياً لو كان هذا رَفَعَ مِن ركوعٍ صحيح، وإنما هو موافقة للإمام كما في السجود. وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ ونَوَى بِهِ الْعَقْدَ أَجْزَأَتْهُ بِخِلافِ الإِمَامِ والْمُنْفَرِدِ، فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ ومَنْ خَلْفَهُ، فَإِنْ قَصَدَ بهَا الرُّكُوعَ أَو الْهُوِيَّ مُجَرَّداً لَمْ يُجْزِئْهُ. وفِيهَا: يَتَمَادَى مَعَ الإِمَامِ ويُعِيدُ احْتِيَاطاً .......... قال في التهذيب: إِنْ ذَكَرَ مأمومٌ أنه نسي تكبيرةَ الإحرامِ، فإن كبَّر للركوع، ونوى بها تكبيرة الإحرام أجزأه، وإِنْ كبَّرها ولم ينوِ بها ذلك تمادى مع الإمام وأعاد صلاته احتياطاً؛

لأنها لا تجزئه عند ربيعة، وتجزئه عند ابن المسيب، وإنْ لم يكبر للركوع ولا للافتتاح حتى ركع الإمام ركعة وركعها معه، ثم ذَكَرَ ابتدأَ التكبيرَ، وكان الآن داخلاً في الصلاة، ويقضي ركعةً بعد الإمام، ولو كان وحده ابتدأ متى ما ذَكَرَ قبلَ ركعةٍ أو بعدها، نَوَى تكبيرةَ الإحرامِ للركوعِ أَوْ لا، وكذلك الإمام لا يجزئه أن ينوي بتكبيرة الإحرام تكبيرةَ الركوع، فإنْ فعل أعاد هو ومَن خلفَه. انتهى. وعليه فالمأموم الناسي لتكبيرة الإحرام على ثلاثة أقسام: قسم لا يجزئه وحيثما ذَكَرَ ابتدأ، وذلك إذا لم يُكَبِّر للإحرامِ ولا للركوع، ولا أعلمُ فيه خِلافاً إلا ما حُكِيَ عن مالك أن الإمام يَحمل عن المأموم تكبيرةَ الإحرام كالفاتحةِ، وهي روايةٌ شاذةٌ. والفَرْقُ أنَّ الإمامَ إنما يَحْمِلُ عن مأمومِه إذا دَخَلَ مَعَه، وقَبلَ تكبيرةِ الإحرامِ لَيْسَ هو مَامُوماً، ولم يذكر المصنفُ هذا القسمَ لوضوحِه. وقسم تُجزئه الصلاة، وذلك إذا كبر للركوع ونوى بها الإحرام، وإليه أشار بقوله: (وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ ونَوَى بِهِ الْعَقْدَ أَجْزَأَتْهُ). وأشارَ بعضُ الشيوخِ إلى تخريج هذه المسألة على مَنْ نوى بغسله الجنابةَ والجمعةَ، ذكره المازري، قال ابنُ عطاء الله: والصحيحُ أنها تُجزئه. ولو قُلنا بعدمِ الإجزاء فيمن نوى بغسله الجنابةَ والجمعةَ؛ لأن نيةَ تكبيرةِ الإحرام قد نَوَاها، وتكبيرةُ الركوع لا تَفتقر إلى نيةٍ، وهذا إذا وَقَعَ التكبيرُ في حالِ قيامِه. واختُلف إذا كبَّرَ في حالِ انحطاطِه ونوى بذلك الإحرامَ، فتأوَّل صاحبُ النكت، وابنُ يونس، وصاحب المقدمات أنها لا تجزئه، وهو قول محمد. وتأوَّل الباجيُّ وابنُ بشير الإجزاءَ؛ لأن التكبيرَ للركوع إنما يكون في حال الانحطاطِ، قيل: وهو ظاهر المدونة.

وهذا الخلافُ مبنيٌّ على أنه هل يجب على المأموم أن يقف قدرَ تكبيرةِ الإحرام أَوْ لا؟ أمَّا إِنْ لم يكبر إلا وهو راكع ولم يَحْصُلْ شيءٌ مِن تكبيرِه في حالِ القيام فلا إشكال أنه لا يُعَتَدُّ بهذه الركعة. قاله ابن عطاء الله. وقوله: (بِخِلافِ الإِمَامِ والْمُنْفَرِدِ) أي: فلا تُجزئهما الصلاة؛ لئلا يلزم صحة الصلاة بدون قراءةٍ، ولذلك التزم أبو الفرج مساواتهما للمأمومِ على القولِ بأنَّ أُمَّ القرآن لا تَجِبُ في كلِّ ركعةٍ، ورده ابن شعبان بأَنَّا وإن قلنا أنها إنما تجب في الجُلِّ، وفي ركعةٍ فالزائدُ سنةٌ، فإنْ ترك ذلك سهواً أجزأته، وإن كان عمداً لم تُجْزِئْه. قال في المقدمات: ومَن تأَوَّلَ على ابنِ المسيبِ وابنِ شهابٍ أن تكبيرةَ الإحرامِ عندهما سنةٌ، وأنَّ سجود السهو يُجزئ فيها عن الفذِّ، وأَنَّ الإمام يحملها عن المأموم فَقَدْ أخطأ عليهما خطأ ظاهراً؛ إذ لو كانت عندهما سُنة لم يفترق الحكمُ عندَهما بين أن يكبرَ الإمامُ للركوعِ أَوْ لا، وهو خلافُ ما صَرَّحا به؛ لأنهما لم يقولا بالإجزاء إلا إذا كبر للركوع، وإنما التأويلُ في ذلك أن النيةَ قد تقدمت عند القيام إلى الصلاة، إِذْ لا يُتصور عدمُ النيةِ مِن القيام إلى الصلاةِ، فانتظمت النية المتقدمة بالتكبيرِ للركوعِ، لقربِ ما بينهما، فصَحَّ الإحرامُ. انتهى. والقسمُ الثالث: إذا كبَّر للركوعِ ولم ينوِ بها تكبيرةَ الإحرام، فمذهبُ المدونة- وهو المشهور- أنه يتمادى ولا يقطع؛ لَمِا ذَكَرَه في المدونةِ من أنها تُجزئُ عند ابنِ المسيبِ وابنِ شهاب. وهل من شرط تماديه- على مذهب المدونة- أن يكون قد كبر في حال القيام أم لا؟ قولان. وقيل: الصحيح أن يبتدئ وعلى الأول، فهل يتمادى وجوباً، وهو ظاهر المذهب، أو استحباباً، وهو الذي في الجلاب؟ فوجه الأول: أن الصلاة قد انعقدت له على قولٍ، فلم يَجُزْ قطعُها لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

ووجهُ الثاني: أنه لَّما لم يَكُنْ بُدٌّ مِن الإعادةِ لم يَجِبْ عليه الإتمامُ؛ لأن الإنسان لا تجب عليه صلاتان. قال التلمساني: واختُلف في الإعادة هل هي واجبة أو ندب؟ فقال ابن القاسم: يُعيد احتياطاً، وذكر ابن الجلاب أنه يعيد صلاته وجوباً. انتهى. ففهم التلمساني من الاحتياط عدم الوجوب، وكذلك فهم غيره، والذي يَظهر أن معناه الوجوب. فإنْ قلتَ: لا يمكن أن يكون معنى الاحتياط الوجوب؛ لأنه إذا كان التمادي واجباً فلا يُؤمر بالإعادة؛ لأن الإنسان لا تجب عليه صلاتان. فالجواب: لا منافاة بينهما لجواز أن تكون عنده هذه الصلاة عنده [77/ ب] غير مجزئة، ولكنه أَمَرَه بالتمادي مراعاةً للخلافِ، وقد صرح صاحب الإرشاد بالإعادة إيجاباً، فقال: وأعاد إيجاباً. وقال ابن الماجشون: استحباباً. واعلم أن للمأموم في هذا القسم الثالث حالات: إما أن يذكر بعد رفعه من الركوع، أو في حال ركوعه ويمكنه أن يرفع ويحرم ويدركه، أو يعلم أنه لو رفع لم يدركه. فإِنْ ذَكَرَ بعدَ رفعِه فالمذهبُ التمادي، وقيل: يقطع. وإِنْ ذكر في الركوع وعَلِمَ أنه يَرْفَعُ ويُحْرِمُ ويُدْرِكَ الإمامَ قَبْلَ رَفْعِهِ ففي ذلك قولان: قال في الموازية والعتبية: يرفع ويحرم. ورآه خفيفاً وأَقْطَعَ للشكِّ مع كونِه لا يَفُوته شيء. وقيل: لا يقطع، وهو الذي يؤخذ من المدونة. وإن علم أنه لا يدركه فثلاثة أقوال: قال ابن عطاء الله: أشهرها ما في المدونة أنه يتمادى ويعيد. والقول الآخر: أنه يبتدئ الآن الصلاة. والقول الثالث: لأبي مصعب أنه بالخيار بين التمادي والابتداء.

فرعان: الأول: لو كبَّر ونوى بتكبيرِه تكبيرةَ الإحرام والركوع، فقال في النكت: يجزئه؛ كمن اغتسل غسلاً واحداً للجنابة والجمعة. وقد تقدم ما يؤُخذ منه أن هذه المسألة أخفُّ مِن مسألة نية الجنابةِ والجمعة. الثاني: لو كبر ولم ينوِ بتكبيرِة الإحرامَ ولا الركوعَ، فقال ابن رشد في أجوبته: صلاته مجزئةٌ؛ لأن التكبيرة التي كبرها تنضم مع تنضم مع النية التي قام بها إلى الصلاة، إِذْ يجوز تقديمُ النيةِ قبلَ الإحرامِ بيسيرِ. تنبيهات: الأول: خلافُ سعيدٍ وابنِ شهاب إنما هون إذا كبَّر للركوع غيرَ ذاكرٍ للإحرام، ولو كبر للركوع وهو ذاكرٌ للإحرام متعمداً لما أجزأتْه صلاتُه بإجماع، قاله في المقدمات. وعلى هذا فلا يتمادى حينئذٍ؛ لعدم الخلافِ المُراعَى. الثاني: اعترض على صاحب التهذيب في قوله: ولا يجزئه عند ربيعة. لأن المدونة ليس فيها: فلا يجزئه عند ربيعة. ونصها: وإنما أُمِرَ المأمومُ بالتمادى لأني سمعتُ سعيدَ بن المسيب يقول: يُجزئ الرجل تكبيرة الركوع إذا نسي تكبيرة الإحرام، وكنت رأيت ربيعة يعيد الصلاة مراراً. قال سند: فيحتمل أن يكون أعادَ لكونِ الصلاة عنده غير مجزئة أو لكونه يرى الوقف. الثالث: حيث أمرناه بالقَطْعِ فهل بسلامٍ أم لا؟ قولان، ذكرهما في المقدمات، وخصصهما بما إذا ذَكَرَ بَعْدَ ركعةٍ، قال: وإِنْ كان قبلَ ركعةٍ قَطَعَ بغيرِ سلامٍ. وذكر أن المنفرد في ذلك كالمأموم. الرابع: لو نوى به ذلك في غير الركعة الأولى، كما لو فاتته الأولى ودخل في الثانية، ونَسِيَ تكبيرةَ الإحرامِ وكبَّر للركوعِ ففيها قولان، وروى عن مالك أنها كالركعة الأولى؛

فيتمادى ويقضِي ما فاته ويُعيد. وقال ابن حبيب: بل يَقطع بغيرِ سلامٍ ويَبتدئُ، كبَّر للركوع أم لا. قال في المقدمات: ولا وَجْهَ له. الخامس: قال ابن يونس: قال ابن حبيب: وإن نسي المأمومُ تكبيرةَ الإحرام يومَ الجمعة، أو أَحْرَمَ قبلَ إمامِه، وذَكَرَ بَعْدَ ركعةٍ- فلْيَقْطَعْ بسلامٍ، ثم يُحْرِمُ، وذلك لحرمةِ الجمعةِ، بخلاف غيرِها، ثم يقضي ركعةً، وقاله مالك. ورُوي عن ابن القاسم أَنَّ الجمعةَ وغيرَها سواءٌ، ووجهُ هذا أنه تَصِحُّ له جمعةٌ على قولِ سعيدٍ، فلا يُبْطِلها. انتهى. السادس: لو دخل مع الإمام في الأُولَى، ونسيَ الإحرامَ والتكبيرَ للركوع في الأُولى، وكبّر في الركعة الثانية، ولم يَنْوِ بها الإحرام، فقال مالك في الموطأ: يقطع. قال في المقدمات: والفَرْقُ عنده بين هذه المسألةِ والمسألةِ الأولى- أي مسألة المدونة- تَبَاعُدُ ما بين النيةِ والتكبيرِ. فرع: قال في المقدمات: فإن صَلَّى ثم شَك في تكبيرة الإحرام، فإن كان على شكِّه قبل أن يركع، أو بعد أَنْ رَكَعَ ولم يكبر للركوع فَقِيلَ: إنه يَقطع ويُحرم. يُريد بسلام. وفي الواضحة دليلٌ على أنه يَقطع بغيرِ سلامٍ، وقيل: إنه يتمادى ويُعيد. وأما إن لم يَذْكُرْ حتى كبَّر للركوع فإنه يَتمادى ويُعيد، قال: وأما مَن كبَّر قبل إمامِه فإنه يكون بمنزلةِ مَن لم يُكبِّر في جميعِ شأنِه. وقيل: إنه إنْ ذَكَرَ قبل أن يَرْكَعَ قَطَعَ بغيرِ سلامٍ، وإن ذكر بعد أن ركع ولم يكبر قَطَعَ بسلامٍ. وهو قولُ ابن القاسم، وأما إن لم يذكر حتى كبر للركوع فإنه يتمادى ويعيد قولاً واحداً. انتهى كلامه في المقدمات.

فرع: قال اللخمي: واختلف في الإمام يَشُكُّ في تكبيرة الإحرام، فقال سحنون: يمضي في صلاته، فإذا سلَّم سألهم، فإن قالوا: أَحْرَمْتَ. رَجَعَ إلى قولهم، وإن شَكُّوا أعادوا جميعُهم. ثم خرَّج قولاً بالبطلان- مِن قول سحنون أيضاً- فيمن سَلَّم على شكِّ هل هو في الثالثة أو في الرابعة، ثم تبين أنها الرابعة: إن صلاته فاسدة. هذا ما فهمت منه، فانظره. بِخِلافِ تَكْبِيرَةِ السُّجُودِ، وقِيلَ: تُجْزِئُهُ قوله: (بِخِلافِ تَكْبِيرَةِ السُّجُودِ) يُريد: إذا كبَّر للسجود- ولم يكبر للإحرام ولا للركوع- فإنه لا يتمادى، ويقطعُ ما لم يركع الثانية، كبَّر أو لم يكبِّر، فإن ركعها تمادى وأعاد بعد قضاء ركعة، نَقَلَه في المقدمات عن الموازية. ولا يَصِحُّ حمل كلام المصنف على معنى أنه إذا نوى بتكبيرة السجود الإحرام أنه لا يُجزئه، كما [78/أ] قِيل؛ فإن صاحب المقدمات وغيرَه نَصَّ على أن يُجزئه، كما في الركوع سواء. قوله: (وقِيلَ: تُجْزِئُهُ) هو راجعٌ إلى مسألةِ مَن كبَّر للركوعِ غيرَ قاصدٍ للإحرام، وهذا هو القول الذي قدمناه مِن أن الإعادةَ مستحبةٌ، لأنه إذا كانت الإعادة مستحبة فلا شَكَّ أن الصلاة بالأُولى تُجزئه. وَإِذَا نَعَسَ الْمَامُومُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ مَا بَعْدَهَا اتَّبَعَ الإِمَامَ مَا لَمْ يَرْفَعْ مِنْ سُجُودِهَا بِخِلافِ الأُولَى فَإِنَّهُ يَسْجُدُ ويَقْضِيهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ ..... تصورُ كلامِه ظاهرٌ، وقد تقدمَ الكلامُ على المزحومِ، وهو قريب من هذه، ولذلك كان الأَوْلَى أَنْ يَذكر المسألتين في محلٍّ واحدٍ ويستوفي الكلام عليهما.

ويُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ دُونَ الْجُلُوسِ يعني: أن المسبوق إذا وجد الإمام ساجداً كبَّر تكبيرتين للإحرام والسجود، وكذلك في الركوع دون الجلوس فإنما يكبر للإحرام فقط. ويَقُومُ الْمَسْبُوقُ بِتَكْبِيرٍ إِنْ كَانَتْ ثَانِيَتَهُ، وقِيلَ: مُطْلَقاً قوله: (إِنْ كَانَتْ ثَانِيَتَهُ) أي: إن كانت التي جلس فيها ثانية للمسبوق؛ لأن جلوسه كان في محل جلوس، وأما إن أدرك ركعة أو ثلاثاً فإنه يقوم بغير تكبير على المشهور؛ لأنه جلس في غيرِ محلِّ جلوسه، وقد رفع بتكبير، والقيامُ لا يحتاج إلى تكبيرتين، وجلوسه إنما كان موافقةً للإمام، فكان بمنزلة مَن كبَّر قائماً وعاقه شيءٌ ثم أَمْكَنَهُ القيام. وقال ابن الماجشون: يُكبِّر. ورأى أن التكبير إنما هو للانتقال إلى الركن. وفِيهَا: فِي مُدْرِكِ التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ يَقُومُ بتَكْبيرٍ فيه استشهاد لابن الماجشون، ويُجاب عنه بأنه إنما قيل هنا بالتكبير؛ لأنه كالمفتتح صلاته. وفِي إِتْمَامِهِ ثَلاثَةُ طُرُقٍ، الْكُثْرَى: بَانٍ فِي الأَفْعَالِ قَاضٍ فِي الأَقْوَالِ. الثَّانِيَةُ: لِلْقَرَوِيِّينَ قَوْلانِ فِي الْقَرِاءَةِ دُونَ الْجُلُوسِ. الثَّالِثَةُ: لِلَّخْمِيِّ وَغَيْرِه ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: بَانٍ فِيهِمَا، وقَاضٍ فِيهِمَا، والْفَرْقُ. وعَلَلَّهُ بأَنْهُ بَانٍ ولَكِنِ الْقِرَاءَةُ لا يُفْسِدُ تَلافِيَهَا ..... الضمير في (إِتْمَامِهِ) عائد على جنس المسبوق. والبناءُ: أن يَجعل ما أَدْرَكَ مع الإمام أولَ صلاتِه. والقضاءُ: أن يَجعل ما أَدركه آخرَ صلاتِه. ولنبين الطريقة الثالثة، إِذْ ببيانها يَظهر ما عداها، فنقول: إذا أدرك ركعة من العشاء الآخرة فعلى البناءِ مطلقاً يَقُومُ فيأتي بركعةٍ بأم القرآن وسورة جهراً، ويتشهد ثم بركعتين بأم القرآن فقط، ويتشهد ويسلِّم.

وعلى القضاء مُطلقاً يَأتي بركعةٍ بأم القرآن وسورةٍ ولا يجلس، ثم بأخرى بأم القرآن وسورة ويجلس، ثم بثالثة بأم القرآن فقط ويجلس؛ لأنها آخر صلاته. وعلى الثالث: يأتي بركعة بأم القرآن وسورةٍ ويجلس؛ لأنها ثانية بنائه ثم يأتي بأخرى بأم القرآن وسورة؛ لأنه يقضي الأقوال، ثم بركعة بأم القرآن فقط. والطريقة التي نسبها المصنف للأكثر هي لابن أبي زيد وعبدِ الحميد، وقال بها جُلُّ المتأخرين، واختارها المازري، ورَدَّ طريقةَ اللخميِّ بأنَّ القولَ الذي حكاه أنه قاضٍ في الأفعال غيرُ موجود؛ فقد قال الشيخ أبو محمد: لا خلاف بين مالك وأصحابه أن القاضي إنما يَفترق مِن الباني في القراءة فقط، لا في قيام أو جلوس، وهكذا قال ابن حارث: اتفقوا على أنه قاضٍ في القراءة بانٍ في القيام والقعود. ثم قال المازري: فإِنْ قيل: إذا صححتم طريقَ مَن قال: إنَّ المَذهبَ لا يَختلف في القيام والقعود، فَعَلامَ تحملون الخلافَ عن مالك؟ فقد رُوي عنه أنَّ ما أدركَ المسبوقُ هو أولُ صلاته، وروي عنه أنه آخرها. قال القاضي أبو محمد في إشرافه: وهو المشهور. قيل: المشهور من مذهب الأشياخ أنه يحمل على حالين: فما رُوي عنه أن المُدْرَكَ هو أول الصلاة فحَمْلُه على اعتبارِ القيامِ والقعودِ على حكم نفسه. وما روي عنه أنه آخرُها محمولٌ على اعتبار القراءة على ما قرأ الإمام. انتهى. وحاصلُ الطريقة الثانية أنه اتُّفِقَ على أنه بانٍ في الأفعال، واختلف هل هو بان في الأقوال أو قاضٍ؟ قوله: (وعَلَلَّهُ ... إلخ) أي: واختار اللخمي أنه بانٍ مطلقاً، ولكن تلافيه القراءة على نحو ما كان الإمام قرأ زيادةٌ في مقدار القراءة، وذلك لا يَضُرُّ، وهو ضعيف؛ إذ الزيادةُ في القراءة غيرُ مغتفرةٍ، ألا ترى أنَّ مَن جهر في صلاة سِرِّيَّة يَسجد بعد السلام.

قيل: ومنشأُ الخلافِ اختلافُ الروايات في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"، وفي بعض الروايات: "فاقضوا"، وجمعَ القائلُ بالفرقِ بين الدليلين. فرع: مَن أَدرك الأخيرةَ مِن الصبح، فقال في العتبية: لا يَقنتُ في ركعةِ القضاء، وهو جارٍ على التفصيل؛ لأنه يَقضي ما قيل في الأُولى، ولا قنوت فيها، ويَلزم على البناء مطلقاً القنوتُ. الْمَوْقِفُ الأَوَّلُ لِلْوَاحِدِ عَنْ يَمِينِهِ، وَالاثْنَيْنِ فَصَاعِداً وَرَاءَهُ، وَالنِّسَاءُ وَرَاءَهُمْ هو ظاهر. وَلا يَجْذِبُ مُنْفَرِدٌ أَحَداً، وَفِيهَا: وَهُوَ خَطَأًّ مِنْهُمَا يعني: إذا صلى رجل خلف الصف فصلاته صحيحة، فإذا جذب أحدا من الصف ليقف معه وتبعه كان خطأ من الجاذب والمجذوب، وهذا على المشهور بصحة صلاته خلف الصف، وأما على ما نقله المازري وصاحب البيان عن ابن وهب من البطلان فينبغي أن يجذب من يصلي معه، ونص عليه من قال بهذا القول بخارج المذهب. ويقال: جذب وجبذ. ذكرهما في التنبيهات. [78/ب]. وَيَتَقَدَّمُ إِنْ وَجَدَ فُرْجَةً أي: ويتقدم هذا المنفرد إن وجد فرجة في الصف، وقد تقدم من هذا. وَلا بَاسَ إِنْ لَمْ تُلْصَقُ طَائِفَةٌ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ بِمَنْ حَذْوَهُ يعني: إذا وقفت طائفة حذو الإمام- أي: خلفه- ثم جاءت طائفة فوقفت عن يمين الإمام أو عن يساره، ولم تلصق بالطائفة التي خلف الإمام فلا بأس بذلك، وهذا

قوله في المدونة: وإن كانت طائفة عن يمين الإمام أو حذوه في الصف الثاني أو الأول فلا بأس أن تقف طائفة عن يسار الإمام في الصف، ولا تلصق بالطائفة التي عن يمينه. انتهى. وقال اللخمي: الصواب أن يبدأ الصف من خلف الإمام، ثم من يمينه، وعن شماله حتى يتم الصف، ولا يُبتدأ ثانٍ قبل تمام الأول، ولا ثالث قبل تمام الثاني. قال: وهذا الذي يقتضيه قول مالك في كتاب ابن حبيب، وهو أحسن مما في المدونة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تصافون كما تصاف الملائكة عند ربها" ثم قال: "يتمون الصف الأول ويتراصون" أخرجه مسلم. انتهى. قال في البيان: وقوله في المدونة: ولا بأس ألا تلصق. معناه إذا وقع، لا أن ذلك يجوز ابتداء من غير كراهة. وَلا بَاسَ بِالصَّلاةِ بَيْنَ الأَسَاطِينِ لِضِيقِ الْمسْجِدِ نحوه في المدونة، وظاهره أن ذلك يكره إذا لم يضق، وكذلك فهمه الأشياخ. والأساطين: السواري. وأجاز ذلك في المبسوط مع الاختيار، وذكر أن العمل عليه. واختلف في تعليل الكراهة، فقيل: لتقطيع الصفوف. وقيل: لأنه محل للنجاسة غالباً والأقذار. وقيل: لأنه محل الشياطين. وَلَوْ صَلَّى رَجُلِّ بَيْنَ صُفُوفِ النِّسَاءِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَجْزَأَتْ نحوه في المدونة، وهو تنبيه على مذهب الحنفية، ونسب لابن القاسم مثله. وَتَصِحُّ صَلاةُ الْمُسَمِّعِ وَالْمُصَلِّيِ بِهِ عَلَى الأَصَحِّ اختلف في المنع بتبليغ الصلاة، فأجازه ابن عبد الحكم في الفرض والنفل، وأجازه ابن حبيب في النفل فقط، وادعى بعض الشافعية الإجماع على جوازه. قال: ولم يزل التسميع في الجوامع يوم الجمعة. وحكى جماعة في المسألة أربعة أقوال: الصحة في حقه

وحق من اقتدى به؛ لما ورد من صلاته صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وراءه يسمع الناس. والبطلان فيهما لخروجه عما شرع من التكبير، ولاقتداء السامع بغير إمام. والثالث: الفرق، فتصح إن أذن له الإمام، ولا تصح إن لم يأذن له. والرابع: إن لم يكن صوت الإمام يعمهم صحت وإلا فلا. وحكى في الإكمال في صحة الصلاة بالمسمع للشيوخ ثلاثة أقوال: ثالثها تصح إن أذن له الإمام. وكذلك اختلف في صحة صلاة المكبر نفسه، هل تصح أو تفسد؟ أو يحتاج فيها إلى إذن الإمام؟ وقيل: إنما يجوز هذا في مثل الأعياد، والجنائز، وغير الفرائض التي يجتمع له الناس. وقيل: يجوز في هذا وفي الجماعات لضرورة كثرة الجموع. وقيل: إنما يجوز بصوت وطي غير متكلف. انتهى. فذكر ستة أقوال. وأشار صاحب البيان إلى أن محل الخلاف إذا مد المسمع صوته كثيراً، وأما لو زاد الشيء اليسير الذي لا يخرج به عن المعتاد وما قاربه فلا خلاف في صحة صلاته. خليل: وهذه المسألة أشكلت علي؛ وذلك لأنه إما لأن يكون محل خلاف إذا اضطر إلى الإسماع، أو إذا لم يضطر أو أعم. فإن كان مع الضرورة فلا ينبغي أن يختلف في الجواز والصحة، وإن كان مع عدم الضرورة فالبطلان ظاهر. وظاهر كلامهم أن الخلاف أعم، ألا ترى أنهم جعلوا الرابع تفصيلاً. وَتَصِحُّ فِي دُورٍ مَحْجُورَةٍ غَيْرَ الْجُمُعَةِ بِالرُّؤْيَةِ أَوِ السَّمَاعِ، وَأَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ فَتُكْرَهُ وَتَصِحُّ ... يصح الاقتداء عندنا بأحد أمور أربعة: إما برؤية أفعال الإمام، وإما برؤية أفعال المأموم، وإما بسماع قوله، أو بسماع قول المأموم. والكراهة بين اليدين محمولة على عدم الضرورة. قال ابن عبد البر: ويروى عن مالك أنه يعيد إذا فعله من غير ضرورة. وهو أحب إلي، وظاهره البطلان. وأما إن صلى بين يديه لضرورة ضيق المسجد، فلا بأس بذلك. قاله في الجلاب.

وَلا بَاسَ بِالنَّهْرِ الصَّغِيرِ وَبِالطَّرِيِقِ بَيْنَهُمْ هو ظاهر. وَقَالَ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ: جَائِزٌ. ثُمَّ كَرِهَهُ وَلَمْ يَكْرَهْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ لم يكرهه ابن القاسم لحصول السماع. وينبغي أن يكون خلافاً في حال. وَفِي السُّفُنِ الْمُتَقَارِبَةِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ جَائِزَةٌ هكذا في المدونة، وذكر مجهول الجلاب فيها ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والتفصيل بين أن يكونوا في المرسى أو في حال السير. فوجه الجواز البناء على السلامة لأنها الغالب، ووجه المنع الخوف من طريان ريح أو غيرها فيفرقها، ووجه التفصيل أن الغالب في المرسى السلامة وعدم ما يفرقها. انتهى. فرع: فإذا بنينا على المشهور من الجواز فطرأ ما فرقهم، فقال ابن عبد الحكم: لا يستخلفون من يتم بهم. قال في تهذيب الطالب: قال بعض شيوخنا: ولو أجمعتهم الريح بعد الافتراق، وقد فرغوا منها أو من بعضها والإمام لم يفرغ فلا شيء عليهم؛ لأنهم قد فرغوا من إمامته، وجاز لهم البناء، وألا يلغوا ما صلوا قبل الإمام، بخلاف من ظن أن الإمام سلم فقام لقضاء ما عليه، ثم ظهر أنه [79/ أ] لم يسلم، وكذلك إذا استخلفوا ولم يعلموا شيئاً من الصلاة؛ لأنهم لا يأمنون التفريق أيضاً إلا أن يكونوا لم يستخلفوا ولا علموا شيئاً من الصلاة حتى جمعتهم الريح، فهؤلاء على حالتهم الأولى مع إمامهم كذلك ينبغي. انتهى. الاسْتِخْلافُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ يريد وهو مستحب. صرح به ابن الجلاب، فقال: يستحب له أن يستخلف عليهم من يتم بهم صلاتهم فإن لم يفعل قدموا منهم رجلاً يتم بهم.

وَشَرْطُهُ أَنْ يَطْرَأَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الإِمَامَةَ كَالْعَجْزِ، أَو الصَّلاةَ كَذِكْرِ الْحَدَثِ أَوْ غَلَبَتِهِ بِخِلافِ النِّيَّةِ، وتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، وَمُتَعَمِّدِ الْحَدَثِ وَشِبْهِهِ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَفِي ذِكْرِ مَنْسِيَّةٍ خِلافٌ تَقَدَّمَ .... أي: وشرط مشروعيته، ويحتمل وشرط صحته. وفي كل منهما نظر لما كتاب ابن سحنون: إذا صلى الإمام ركعة ثم انفلتت دابته وخاف عليها أو على صبي أو أعمى أن يقع في بئر أو نار أو ذكر متاعاً يخاف عليه التلف فذلك عذر يبيح الاستخلاف. وقوله: (كَالْعَجْزِ) أي: عن ركن من أركان الصلاة كالركوع والسجود. وقال سحنون: وإن عجز عن القراءة في بقية صلاته استخلف وصلى مأموماً. المازري: ولو عجز عن قراءة بعض السورة التي مع أم القرآن لم يستخلف عندي لصحتها مع العجز عن قراءة الباقي. قوله: (أَو الصَّلاةَ) معطوف على (الإِمَامَةَ) فهو منصوب، ومثَّل ذلك بذكر الحدث وغلبته، وليس لنا ما تبطل فيه صلاة الإمام وتصح صلاة المأموم إلا في هاتين المسألتين. وقوله: (بِخِلافِ النِّيَّةِ، وتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ) أي: فإن نسيانهما مانع من التمادي إذ لم يدخل في الصلاة. وقوله: (وَمُتَعَمِّدِ الْحَدَثِ) معطوف على (النِّيَّةِ، وتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ). وشِبهُ تعمدِ الحدثِ كلُّ منافِ. وأشار بقوله: (تَقَدَّمَ) إلى ما قدمه في ترتيب الفوائت من قوله: (وروى ابن القاسم يسري فلا يستخلف. وروى أشهب: لا يسري فيستخلف). فَيُشِيرُ لِمَنْ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ مُؤْتَمّاً فِي الْعَجْزِ، أَوْ يَتَكَلَّمُ هذه كيفية الاستخلاف، وهو أن يشير لم يتقدم منهم ويتأخر مؤتماً، حيث يكون العذر مانعاً من الإمامة خاصة.

وقوله: (أَوْ يَتَكَلَّمُ) ليس هو على التخيير، بل هو على للتفصيل؛ أي: أو يتكلم في مانع كالحدث، والأفضل عدم الكلام. صرح بذلك الباجي وغيره، قال: ويضع يده على أنفه في خروجه ليرى أن ما أصابه رعاف. قال ابن القاسم: وإن قال يا فلان تقدم لم يضرهم، وقد أفسد على نفسه في الرعاف خاصة. فإن قيل: لِمَ لَمْ تبطل عليهم أيضاً للارتباط؟ قيل: لأنه إنما أفسد على نفسه بعد خروجه من الإمامة. فَإِنْ كَانَ بَعِيداً فَلا يَنْتَقِلُ أي: إن كان المستخلف بعيداً عن محل الإمامة لم ينتقل، وأكمل بهم الصلاة في موضعه؛ لأن المشي الكثير مفسد للصلاة. وإن كان موضعه قريباً تقدم إلى موضع الإمام لتحصيل الرتبة إذ لا مانع؛ ولهذا استحب مالك للإمام أن يستخلف من الصف الذي يليه. المازري: ويكون تقدمه على الهيئة التي صادفه الاستخلاف عليها؛ فيتقدم الراكع راكعاً، والجالس جالساً، والقائم قائماً. وَإِنْ كَانَ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فَفِيهِمَا، وَقِيلَ بَعْدَ الرَّفْعِ، وَلا يُكَبِّرُ يعني: إذا طرأ عليه العذر وهو راكع أو ساجد استخلف حينئذ، فيرفع بهم من استخلفه الإمام. والقول الثاني حكاه الباجي عن ابن القاسم، وجعل قوله: (وَلا يُكَبِّرُ) من قول يحيى بن عمر؛ أي: لئلا يرفعوا برفعه. فَإِنْ رَفَعُوا مُقْتَدِينَ لَمْ تَبْطُلْ عَلَى الأَصَحِّ كَالرَّافِعِ قَبْلَ إِمَامِهِ غَلَطاً يعني: فإن رفع الإمام الأول قبل أن يستخلف فاقتدى المأمومون به لم تبطل صلاتهم على الأصح. قال عبد الحق: كمن ظن أن الإمام رفع فرفع، فتبين أن الإمام لم يرفع، أو رفع بعض المأمومين فظنوه الإمام فتبعوه. قال: ثم يرجعون إلى الركوع، فيتبعون المستخلف. قال: ولو لم يستخلف عليهم أحداً واجتزووا بهما الرفع أجزأهم. انتهى.

واستغنى المصنف عن ذكر الصورتين اللتين شبهه بهما عبد الحق بقوله: (كَالرَّافِعِ قَبْلَ إِمَامِهِ غَلَطاً)؛ لأن قوله: (الرَّافِعِ قَبْلَ إِمَامِهِ غَلَطاً) يشملهما. واعلم أن في التشبيه بالصورة الأولى نظر؛ لأنهم في مسألة الاستخلاف اقتدوا بمن عزل عن الإمامة، وذلك أشد ممن رفع قبل الإمام غلطاً. ولا يقال في التشبيه بالصورة الثانية أيضاً نظر، فإن المنصوص فيمن صلى برجل يظنه منفرداً فتبين أنه مؤتم أن صلاته فاسدة، لأنَّا نقول إنما فسدت فيمن اقتدى برجل ثم تبين له أنه مأموم؛ لكونه دخل الصلاة بنية فاسدة، لكونه نوى الاقتداء بمن لا يصح الاقتداء به، بخلاف من رفع برفع بعض المأمومين، يظن هذا الرافع أنه الإمام، فإن نيته التي دخل بها الصلاة صحيحة، وإنما رفعوا قبل إمامهم غلطاً كما قررناه. ومقابل الأصح ليس بمنصوص، وإنما خرجه ابن بشير على القول بأن الحركة إلى الأركان مقصودة، والله أعلم. فَإِنْ تَقَدَّمَ غَيْرُهُ صَحَّتْ عَلَى الْمَنْصُوصِ يعني: فإن تقدم غير من استخلفه [79/ب] الإمام صحت صلاتهم على المنصوص؛ وهذا رواه ابن سحنون عن أبيه. قال الباجي: ووجهه أن المستخلف لا يكون إماماً إلا بعد أخذه في الإمامة. ومقابل المنصوص حكاه صاحب النكت عن بعض شيوخه أن بنفس الاستخلاف يصير المستخلف إماماً، وإن لم يعمل بهم عملاً حتى لو أحدث عامداً لأبطل عليهم. قال: وليس كالذي يستخلف سكراناً، أو مجنوناً هذا لا يبطل عليهم حتى يعمل عملاً يتبعونه فيه؛ لأن هذا ليس ممن يؤتم به، فلا يضرهم استخلافه حتى يعمل عملاً يُأتم به.

فَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفِ اسْتَخْلَفُوا أَوْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ فَإِنْ أَتَمُّوا وُحْدَاناً، فَإِنْ كَانَتْ جُمُعَةً بَطَلَتْ. وَقِيلَ: تَصِحُّ بَعْدَ عَقْدِ رَكْعَةٍ. وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ جُمُعَةٍ صَحَّتَا عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَمَّ بَعْضُهُمْ وُحْدَاناً. وَاسْتَقْرَأَ الْبَاجِيُّ وَالَّخْمِيُّ بُطْلانَهَا مِنَ الْمُؤْتَمِّ يَنْفَرِدُ ........... أي: وإن لم يستخلف الإمام أحداً قدموا رجلاً وصحت. وكذلك إن لم يقدموا، ولكن تقدم أحدهم وائتموا به فإن قدمت طائفة رجلاً وقدمت أخرى آخر، فإن كان في غير الجمعة أجزأتهم صلاتهم. قاله سحنون في العتبية. قال أشهب: وقد أساءت الطائفة الثانية، بمنزلة جماعة وجدوا جماعة يصلون في المسجد بإمام، فقدموا رجلاً منهم وصلوا. قال الباجي: قالوا ولو قدموا رجلاً منهم إلا واحداً منهم صلى فذاً أساء وتجزئه صلاته، بمنزلة رجل وجد جماعة تصلى بإمام فصلى وحده فذاً. انتهى. وهذا معنى قول المصنف: (وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَمَّ بَعْضُهُمْ وُحْدَاناً)، وإن أتموا وحداناً فإن كانت الجمعة لم تصحَّ على المنصوص؛ لأن من شرطها الإمام والجماعة، وقد فُقِدَا. وروي في القول الثاني أن من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة وقياساً على المسبوق، والفرق للمشهور أن المسبوق يقضي ركعة تقدمت بشرطها بخلاف هذا. وإن كانت غير جمعة فقال ابن القاسم: صلاتهم مجزئة. وقال ابن عبد الحكم: كل من ابتدأ الصلاة منفرداً فأتمها بإمام أعاد، وكل من ابتدأها بإمام فأتمها منفرداً أعاد. وأخذ الباجي واللخمي من هذا يعيدون. وفيه نظر لاحتمال أن يحمل كلام ابن عبد الحكم على ما إذا كان الإمام باقياً على الإمامة. ويكون مراد ابن عبد الحكم بهذا الكلام التنبيه على خلاف الشافعية في قولهم أن للمأمومِ الخروجَ عن الاقتداء، وإلى هذا أشار ابن بشير. فرع: فلو أن الإمام حين خرج أشار إليهم أن امكثوا، هل يمتنع عليهم أن يقدموا أحداً؟ قال ابن عطاء الله: ظاهر المذهب أنهم يقدمون. وفي الاستذكار عن ابن نافع قال: إذا

انصرف الإمام ولم يقدم وأشار إليهم أن امكثوا كان حقاً عليهم ألا يقدموا أحداً حتى يرجع فيتم بهم. وَشَرْطُ الْمُسْتَخْلَفِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ قَبْلَ الْعُذْرِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَهُ الرُّكُوع بَطَلَتْ صَلاتُهُمْ؛ لأَنَّهُمْ كَمُتَنَفَّلٍ بِمُفْتَرِضٍ. وَقِيلَ: تَصِحُّ لِوُجُوبِهِ بِدُخُولِهِ مراده بالجزء المعتد به أن يكون أدركه في الركوع فما قبل، وأما إن لم يدركه إلا بعد الرفع من الركوع فلا يصح استخلافه؛ لأن ما يفعله إنما هو موافقة للإمام وليس بواجب عليه في الأصل. فلو أجيز الاستخلاف في هذه الصورة لزم ائتمام المفترض بشبه المتنفل. ابن المواز: وقيل تجزئهم؛ لأنه إنما يأتي بذلك نيابة عن الإمام، وهو فرض عليه بدخوله فيه؛ وهذا معنى قوله: (لِوُجُوبِهِ بِدُخُولِهِ). ولقائل أن يقول: وإن وجب بدخوله فلا يجزئ؛ لأن جهة الفرضية مختلفة كالظهر مع العصر. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعُذْرِ فَكَأَجْنَبِيِّ يعني: فإن لم يدرك المستخلَف شيئاً، وإنما أحرم بعد حصول العذر فلا يصح استخلافه اتفاقاً، وتبطل صلاة من ائتم به بمنزلة قوم أحموا قبل إمامهم. قاله ابن القاسم في المدونة. قال ابن القاسم في العتبية: فإن استخلف من لم يدرك الركعة فليُقدِّم المقدَّم مَن أدركها ويتأخر هو. وَأَمَّا صَلاتُهُ فَإِنْ صَلَّى لِنَفْسِهِ أَوْ بَنَى فِي الأُولَى وَالثَّالِثَةِ صَحَّتْ، وَقِيلَ: إِنْ بَنَى فِي الثَّالِثَةِ بَطَلَتْ ..... يعني: وأما صلاة المحرم بعد العذر، فإن صلى لنفسه فلا إشكال في الصحة، وإن بني على صلاة الإمام فإن كان في أول ركعة فكذلك، وإن كان في ثالثة فأشار ابن عبدوس إلى أنها تجري على القولين في ترك قراءة السورة متعمداً، ولما كان المشهور الصحة قدمها.

والبطلان لابن حبيب، قال: إن قدمه أول ركعة صحت، وإن قدمه بعد ركعة فأكثر وعمل على صلاة الإمام بطلت. المازري: وتفسد إن استخلفه على ركعة أو ثلاث لجلوسه في غير موضع الجلوس. وَيَقْرَأُ الْمُسْتَخْلَفُ مِنْ حَيْثُ قَطَعَ، وَيَبْتَدِئُ فِي السِّرِّيِّةِ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ كذلك قال في العتبية والسلمانية. وَيَسْتَخْلِفُ الْمُسَافِرُ مِثْلَهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ أَوْ جَهِلَ فَلْيُسَلِّمِ الْمُسَافِرُونَ إِذَا أَتَمُّوا، وَقِيلَ: يَسْتَخْلِفُونَ مُسَلِّماً [80/أ] مِنْهُمْ. وَقِيلَ: يَنْتَظِرُونَهُ، وَيُتِمُّ الْمُقِيمُونَ أَفْذَاَذاً. وَقِيلَ: بَعْدَ سَلامِهِ ... يعني: إذا كان خلف الإمام مقيمون ومسافرون، فالأولى للإمام المسافر أن يستخلف هو مسافراً مثله؛ لأنه يصير إماماً، وإمامة المسافر للمسافر أحسن من إمامة الحضري للمسافر؛ لما يلزم عليه من تغيير السنة في الثاني، فإن تعذر المسافر بأن لم يكن خلفه أو جهل، فاستخلف مقيماً، فاختلف في المسافرين إذا أتموا صلاتهم على ثلاثة أقوال: الأول: إذا قام المستخلَف لإكمال الصلاة سلموا؛ لأن صلاتهم قد انقضت. ورواه ابن حبيب عن مالك؛ ووجهه أن هذا المستخلَف دخل على ألا يقتدي بالأول في السلام. وقال ابن كنانة: وهو أحد قولي ابن القاسم: يستخلفون رجلاً ليسلم بهم. واستشكل هذا القول من جهة اقتدائهم بإمامين. وقال ابن القاسم في الموازية، وأشهب: ينتظرونه حتى يسلم فيسلموا بسلامه، طلباً لمتابعته ما أمكن؛ ولأنه لما قبل صار كالملتزم للإتمام بهم، ومن جملته السلام. وقوله: (وَيُتِمُّ الْمُقِيمُونَ أَفْذَاَذاً)؛ لأنهم دخلوا على عدم السلام مع الإمام؛ وهذا القول لمالك في الواضحة، وهو قول ابن كنانة. وقيل: بعد سلامه. ولعله مبني على القول بانتظار المسافرين في الفرع السابق؛ وحكي هذا القول عن جماعة من الأصحاب.

فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقاً جَلَسُوا إِلَى سَلامِهِ. وَقِيلَ: يَسْتَخْلِفُ مُسَلِّماً يعني: فإن كان المستخلف من حيث الجملة مسبوقاً، فاختلف إذا كمل صلاة الإمام. وما قدمه المصنف هو مذهب المدونة. ابن بشير: وهو المشهور. وحكى المازري القولين وذكر أن الجمهور يرون: أنه يشير إليهم كالآمر لهم بالجلوس، ثم ينهض للقضاء. فإذا فرغ سلم بهم؛ لأن السلام من بقية صلاة الأول، وقد حل محله في الإمامة فيه فلا يخرج عنه بغير معنى يقتضيه، وانتظار القوم لفراغه من القضاء أخف من الخروج من إمامته. وقيل: بل يستخلف من يسلم بهم؛ لأن السلام من بقية صلاة الأول- كما قدمنا- فلا ينبغي له القضاء قبل فراغ الصلاة. وسبب الخلاف أن الضرورة داعية للمصلي إلى الخروج عن الأصل على المذهبين. والنظر في أي الخروجين أخف. انتهى. وانظر ما الفرق على المشهور هنا بين الانتظار، وما قدمه المصنف في المسافرين إذا استخلف عليهم مقيم أنهم يسلمون، ولعل ذلك لأن المسبوق هنا لم يقم إلى شيء لم يدخل عليه المأموم فناسب أن ينتظروه؛ لأن السلام من بقية الصلاة بخلاف المستخلف المقيم، فإنه قام لما لم يدخل عليه كالمسافر، فإن المسافر لما دخل على السلام من ركعتين ناسب أن يسلم ولا ينتظره، والله أعلم. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَسْبُوقٌ مِثْلُهُ قَضَى بَعْدَ سَلامِهِ، وَقِيلَ: يَقُومُ لِنَفْسِهِ وَيُسَلِّمُ بِسَلامِهِ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ بَطَلَتْ عَلَى الأَصَحِّ ..... قوله: (مِثْلُهُ) أي: في مقدار ما سُبق به ليصح. القول الثاني أنه يسلم بسلامه؛ إذ لو كان مقدار ما فاتها مختلفا تعذر غالباً سلامه بسلامه، ويمكن أن يكون مراده بالمثلية كونه مسبوقاً في الجملة لا في القدر. وهذا الوجه هو الموافق لمنقول؛ لأن المسألة أعم. ويكون في القول الثاني تكلم على أحد أفراد المسألة. ولفظ ابن شاس يعضد الأول، فإنه قال: ولو

ساوى هذا المستخلف طائفة من القوم في فوات ما فاته. فقال سحنون: من أصحابنا من يقول: يقوم المستخلف وحده للقضاء ثم يسلم ثم يقضون بعده. ومنهم من يقول: إذا قام يقضي قام كل واحد يقضي لنفسه، ثم يسلمون بسلامه. فإن ائتموا به أبطلوا على أنفسهم، وصلاة المستخلف تامة. وذكر ابن سحنون عن أبيه أنه قال: تجزئهم. ثم رجع فقال: يعيدون أحب إليَّ. وفي كتاب ابن المواز: ومن اتبعه فيها منهم أو من غيرهم فصلاتهم باطلة. انتهى. والظاهر أن القول بأنهم يقضون بعد سلامه جارٍ على الانتظار، والقول بعدم الانتظار جارٍ على استخلافه مسلماً. فَإِنْ لَمْ يَدْرِ مَا صَلَّى الإِمَامُ أَشَارَ فَأَشَارُوا وَإِلا أَفْهَمُوهُ بِالتَّسْبِيحِ وَإِلا تَكَلَّمَ يعني: فإن استُخلف مسبوق فلم يدرِ ما صلى الإمام قبله أشار إلى المأمومين فأفهموه بالإشارة، فإن لم يفهم أو كانوا في ليل مظلم أفهموه بالتسبيح، فقدمت الإشارة لأنها أخف، وكذلك التسبيح على الكلام، وما ذكره في الكلام نحوه في الجواهر. وفي كل منهما نظر لما قدمناه في الكلام لإصلاحها فانظره. ولسحنون في المجموعة: ينبغي أن يُقدَّم من يعلم ما صلى، فإن قُدِّم من لا يعلم صلى بهم ركعة ورجع ثم يتزحزح للقيام، فإن سبحوا به علم أنه في آخر الصلاة، فأشار إليهم أن اجلسوا ثم يقوم للقضاء. وَلَوْ عَادَ الإِمَامُ فَأَتَمَّ بِهِمْ فَفِيُ بُطْلانِ الصَّلاةِ قَوْلانِ لا يريد المصنف أن للإمام أن يفعل ذلك ابتداء، [80/ب] وإنما يريد لو فعل. والقول بالصحة لابن القاسم. الباجي: استدل بفعل أبي بكر حيث تأخر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم. والقول بالبطلان ليحيى بن عمر. الباجي: وهو الأظهر عندي؛ لأن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عن المانع له من أن يثبت مكانه إذ أمره بذلك: ما كان لابن أبي

قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأظهر العلة التي تأخر لها. وهذا حكم خاص به عليه السلام. انتهى. وكذلك قال غيره. ويُقوي الإشكالَ ما وقع في الرواية أن الإمام أحدث فخرج وقدَّم رجلاً، فتوضأ فجاء فأخرج الإمام حتى قال في البيان: إنما أجاز ابن القاسم صلاتهم إذا صلى بهم بقيتها؛ لأنه ابتدأها بهم، فراعى مذهب أهل العراق في إجازة البناء في الحدث. وأما لو لم يبتدئ بهم الصلاة فجاء وهم يصلون فأخرج الإمام، وصلى بهم بقية الصلاة أبطلت صلاتهم أجمعين؛ من أجل أنهم أحرموا قبل إمامهم، وهذا قد ابتدأ صلاته من وسطها. فالصحيح على المذهب أن صلاتهم باطلة؛ لأنه بالحدث يخرج عن الصلاة، فإذا عاد يصير المأمومون محرمين قبل الإمام، ولو تأوَّل متأوِّل أنه لما انعزل أحرم خلف الإمام الذي كان قد قدمه ثم أخرجه بعد ذلك لصح قول ابن القاسم، وإن كان تأويلاً بعيداً عن لفظه. انتهى. وَلَوْ قَالَ الإِمَامُ لِلْمَسْبُوقِ أَسْقَطْتُ رُكُوعاً عَمِلَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ خِلافَهُ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلامِ بَعْدَ كَمَالِ صَلاةِ إِمَامِهِ. وَقِيلَ: بَعْدَ كَمَالِ صَلاتِهِ كَسَهْوِهِ قوله: (رُكُوعاً) يريد: أو سجوداً، ونحوه مما يوجب إبطال الركعة. قوله: (مَنْ لَمْ يَعْلَمْ خِلافَهُ) يدخل في ذلك من يعلم صحة مقالته أو ظنها أو شك فيها أو ظن خلافها من المأمومين، ويدخل في ذلك المستخلف إذ لا علم عنده، ولا يعمل على قول الإمام من يعلم صحة صلاة الإمام وصلاة نفسه، وفي لزوم إتباع من تيقن صحة صلاة نفسه وشك في صلاة الإمام قولان نقلهما ابن راشد. وقوله: (وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلامِ) أي: لأن الأُولى إذا بطلت صارت الثانية أُولى، والثالثة ثانية، وعليه فالركعة المأتي بها بناء يقرأ فيها بأم القرآن فقط. وعلى القول بأن الثانية لا تصير أُولى يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويسجد بعد السلام. واعلم أن السجود قبل السلام على القول الأول ليس عامّاً في كل الصور، وإنما هو فيما إذا صارت الثالثة ثانية

لنقصه حينئذٍ السورة من الثانية، ونقصه الجلوس من محله، وأما إن استخلفه في الثانية قبل الركوع ويقول له: أسقطت ركوعاً، فتتمحض الزيادة، ولذلك لو أخبره في الجلوس الأخير أن النقص في الثالثة وكان المستخلف أدرك الرابعة فقط أتى بركعة بأم القرآن وحدها فلا خلاف، ثم قضى ما فاته ويسجد بعد السلام. وقوله: (وَيَسْجُدُ .... بَعْدَ كَمَالِ صَلاةِ إِمَامِهِ) لأنه موضع سجود إمامه. وقيل: بعد كمال صلاة نفسه تغليباً لحكم صلاة نفسه. فإن قيل: فهل في اتفاقهم على أن المسبوق يسجد مع الإمام ولا يؤخر إلى كمال صلاته ترجيح للقول الأول؟ قيل: لا؛ لأن المانع للمسبوق غير المستخلف من تأخير السجود إلى آخر صلاته إنما هو مخالفة الإمام، وهو مفقود ههنا، وقد يقال أن الإمام وإن لم يوجد حسّاً فهو موجود حكماً. وَلَوْ صَلَّى جُنُباً نَاسِياً أَعَادَ هُوَ وَمَنْ كَانَ عَالِماً بِهَا، وَفِي غَيْرِهِمْ ثَالِثُهَا: تَبْطُلُ خَلْفَ الْعَامِدِ دُونَ غَيْرِهِ ....... أما إعادته فمتفق عليها كان عامداً أو ناسياً. وكذلك إعادة من كان عالماً بجنابته. وفي غير الإمام والعالم بجنابته ثلاثة أقوال، وتصورها ظاهر البطلان مطلقاً جارٍ على أصل المذهب من ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، والمشهور هو التفصيل. ... انتهى المجلد الأول من كتاب التوضيح للشيخ خليل بن إسحاق الجندي ويليه المجلد الثاني وأوله وَيُؤْمَرُ الإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ بِسُتْرَةٍ وَلَوْ مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ

وَيُؤْمَرُ الإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ بسُتْرَةٍ وَلَوْ مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ إِنْ خَشِيَ مُرُوراً. وَقِيلَ: مُطْلَقاً الأمر أمر ندب، قاله الباجي وغيره. التونسي: وسئل مالك عن موعظة الذي يصلي إلى غير سترة أواجب؟ قال: لا أدري، ولكنه حسن، والعلماء مختلفون فمنهم من يقوى على أن يعظ النساء، ومنهم من لا يقوى على ذلك. ابن مسلمة: ومن ترك السترة فقد أخطأ ولا شيء عليه. وقال ابن حبيب: السنة الصلاة إلى السترة، وأن ذلك من هيئات الصلاة. التونسي: وانظر قوله: من هيئة الصلاة ومن سنتها، فافهم ذلك ورتبه على الحكم في تارك السنن. انتهى. والإجماع على الأمر بالسترة نقله ابن بشير. وروى البخاري ومسلم وغيرهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحرية فتوضع بين يديه فيصلي إليها، والناس من ورائه، وكان يفعل ذلك في السفر. وفي الموطأ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لو يعلم المارُّ بين يدَيْ المصلي ماذا عليه لكان أن [81/أ] يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه". قال أبو النضر: لا أدري أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. ورواه البزار مفسراً بأربعين خريفاً. ورواه ابن أبي شيبة: "لكان أن يقف مائة عام". وقوله: (الإمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ) خصصهما؛ لأن المأموم لا يؤمر بها بلا خلاف. قاله ابن بشير، قال: واختلفت ألفاظ أهل المذهب في علة سقوط السترة عن المأموم، فقال بعضهم: لأن سترة الإمام سترة لهم. وقال بعضهم: لأن الإمام سترة لهم. واختلف المتأخرون هل العبارتان بمعنى واحد، أو يختلف معناهما؟ فيكون معنى الأولى: أن السترة التي جعلها الإمام بين يديه هي السترة للمأموم، وإذا سقطت صار حينئذٍ مصلياً إلى غير سترة. ومعنى الثانية: أن الإمام هو الساتر، فإذا سقطت سترته كان المأموم باقياً على حكم الاستتار وإذا ذهبت سترة الإمام. وينشأ عن ذلك مسألة؛ وإن قلنا سترة الإمام

سترة لمن خلفه جاز المرور بين يدي الإمام والصف الذي يليه، كما أجاز ذلك مالك في الثالث والرابع، وإن قلنا أن الإمام سترة لهم لم يجز. وفي المدونة: ولا بأس بالمرور بين الصفوف عرضاً، والإمام سترة لهم. واستشكلت هذه العلة بأنه إذا كان الإمام سترة لهم فكيف يمر هذا بينهم وبين سترتهم؟ والصواب ما قاله ابن الجلاب وعبد الوهاب أن سترة الإمام سترة لمن خلفه. وتأول أبو إبراهيم في حواشيه قوله في المدونة: لأن الإمام سترة لهم. على حذف مضاف؛ أي: لأن سترة الإمام سترة لهم. وجعل المدونة والجلاب متفقين. قال: وظاهر الكتاب أنه لا يمر بين الصف والإمام. انتهى. ومن ثمرة هذا الخلاف أيضاً: لو صلى الإمام لغير سترة فعلى القول بأن سترة الإمام سترة لمن خلفه يستوي الإمام والمأمومون. وعلى القول الآخر تكون صلاة المأمومين أكمل؛ لأن الإمام لهم سترة، كما قالوا: إذا ترك الإمام السجود يسجد المأموم وتكون صلاتهم أكمل. وقوله: (وَلَوْ مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ) لما في مسلم: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سُئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: "مثل مؤخرة الرحل". وللسترة خمسة شروط: أن تكون طاهرة، ثابتة، في غلظ الرمح، وطول الذراع، مما لا يشغل، فاحترزنا بالطهارة من الأشياء الخبيثة فلا يستتر بها كقصبة المرحاض ونحوها، وبالثابت مما لا يثبت فلا يستتر بمجنون مطبق ولا صغير لا يثبت. قاله ابن القاسم. واشترطنا أن تكون في غلظ الرمح لحديث الحربة المتقدم. ولهذا قال مالك في المدونة: السوط ليس بسترة. قال ابن حبيب: لا بأس أن تكون السترة دون مؤخرة الرحل في الطول، ودون الرمح في الغلظ، وإنما يكره ما كان رقيقاً جدّاً، وقد كانت العَنَزَة التي كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون الرمح في الغلظ. قال: ولا يكون السوط سترة

لرقته، إلا ألا يوجد غيره. واحترزنا بما لا يشغل من المرأة، والمأبون، والكافر فإنه لا يستتر بذلك ولا ما في معناه. قال ابن القاسم: وإن صلى وهم أمامه لم أرَ عليه إعادة ناسياً كان أو عامداً، وهو بمنزلة الذي يصلي وأمامه جدار مرحاض. قال مالك: ولا يصلي إلى النائم؛ لأنه قد يحدث منه شيء يشوش على المصلي. وفي مسند ابن سحنون قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إني نُهيتُ أن أصلي إلى النائم والمتحدثين". وتجوز الصلاة إلى ظهر الرجل إذا رضي أن يثبت له حتى تنقضي صلاته، ولا يصلي إلى وجهه لأن ذلك يشغله. وفي الاستتار بجنبه روايتان: منعه مرة، وخففه في رواية ابن نافع. وفي الجلاب: لا يصلي إلى حِلَقِ المتكلمين في الفقه وغيره لما فيه من شغل البال. وفي اللخمي والمازري: واختلف في الصلاة إلى الحلقة، فأجيز لأن الذي يليه ظهر أحدهم، وكره لأن وجه الآخر يقابله. المازري: ولو صلى رجل إلى سترة وراءها رجل جالس يستقبل المصلي بوجهه، لاختلف فيه على التعليل في الحلقة. وخفف مالك الصلاة للطائفين ورآهم في معنى من هو في الصلاة؛ ولأنه لو منعت الصلاة إليهم مع عدم خلو الكعبة من طائف لزم ترك التنفل غالباً. قال في العتيبة: ولا يصلي إلى الخيل والحمير لأن أبوالها نجسة، بخلاف الإبل والبقر والغنم لأن أبوالها طاهرة. قال ابن القاسم: كأنه لا يرى بأساً في السترة بالبقرة والشاة. قاله في المدونة. وأكره أن يصلي للحجر الواحد، وأما أحجار كثيرة فجائز، ولا يصلي إلى ظهر امرأة ليست محرماً وإن كانت امرأته، وهل يستتر بامرأة من ذوات محارمه؟ ففي الجلاب وغيره الجواز، وفي المجموعة: لا يستتر بامرأة وإن كانت أمه أو أخته. قال في المدونة: والخط باطل. قال مالك: وإذا استتر برمح فسقط فليقمه إن كان ذلك خفيفاً، وإن أشغله فليدعه. قال مالك: ولا بأس أن ينحاز [81/ب] الذي يصلي يقضي بعد الإمام إلى ما قرب منه من الأساطين، عن يمينه أو عن يساره وإلى خلفه يقهقر قليلاً ليستتر إذا كان ذلك قريباً، فإن

لم يجد ما يقرب منه صلى مكانه، ودرأ من يمر ما استطاع، وكالمرور مناولة الشيء بين يديه. قاله في المدونة. وكذلك كره مالك من رواية ابن القاسم في المجموعة لمن على يمينه أن يجذب من على يساره، ولا يجعل السترة أمام وجهه بل إما على يمينه أو يساره ويدنو منها. وقوله: (إِنْ خَشِيَ مُرُوراً) هو المشهور. والقول الثاني لابن حبيب، ومنشأ الخلاف: هل شرعت السترة حذاراً من مرور مار يشتغل به، أو حريماً للصلاة حتى يقف عندها نظره. وَيَاثَمُ الْمَارُّ وَلَهُ مَنْدُوحَةٌ، وَالْمُصَلِّي إِنْ تَعَرَّضَ، فَتَجِيءُ أَرْبَعُ صُوَرٍ يأثم لحديث: "لو يعلم المار". وصح أنه عليه الصلاة والسلام أمر بدفع من يمر بين يدي المصلي، وقال: "إن أَبَى فليقاتله، فإنما هو شيطان". واختلف في معنى المقاتلة، فقيل: المراد بها أوائلها. وقيل: الدفع بعنف ما لم يؤدِّ إلى العمل الكثير في الصلاة. وقيل: معناها اللعنة كقوله تعالى: {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} [التوبة: 30]؛ أي: لعنهم الله. الباجي والمازري: ويحتمل أن يريد: فليؤاخذه على ذلك بعد تمام الصلاة وليوبخه على فعله. قالا: ويعدل عن ظاهر المقاتلة بإجماع، والمذهب أنه يدفعه دفعاً خفيفاً لا يشغله عن الصلاة. قال أشهب: إذا مر بين يديه شيء بعيد منه رده بالإشارة ولا يمشي إليه، فإن فعل وإلا تركه، وإن قرب منه فلم يفعل فلا ينازعه؛ فإن ذلك والمشي أشد من مره، فإن مشى إليه أو نازعه لم تفسد صلاته. وهذا بخلاف ما قاله ابن العربي أنه ليس للمصلي حريم إلا ثلاثة أذرع. وقوله: (وَيَاثَمُ الْمَارُّوَلَهُ مَنْدُوحَةً) أي: أمكنه ألا يمر بين يديه. وظاهر كلامه أنه إذا لم يجد مندوحة يسقط عنه الإثم، كأن يمكنه الصبر أو لا، وهذا القول حكاه المازري عن بعض المتأخرين. قال: وقال بعضهم: إن لم يكن للمار مندوحة عن المسير بين يديه، وكان صبره إلى أن يفرغ المصلي يشق عليه لم يكن على المار إثم. قوله: (وَالْمُصَلَّي إِنْ تَعَرَّضَ) أي: يأثم بشرط التعرض. (فَتَجِيءُ أَرْبَعُ صُوَرٍ) يعني: لأن معك مارّاً ومصلياً، ولكل واحد منهما صورتان، ولا خفاء في تصورهما. فإن قلت:

كون المصلي يأثم منافٍ لما قدمت أن السترة مندوب إليها؛ إذ لا يأثم إلا بترك واجب. قيل: ما يتعلق به الإثم غير ما هو مندوب؛ إذ الندب متعلق بفعل السترة، والإثم متعلق بتعرضه، وهما متغايران، والله أعلم. وَلا يَبْصُقُ فِي الْمَسْجِدِ إِلا أَنْ يَكُونَ مُحَصَّباً وَيَدْفِنُهُ أَوْ تَحْتَ حَصيرٍ لما في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي: "البُصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها". وفي رواية: "النُّخامة في المسجد" وفي رواية: التَّفل". وظاهر قوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ مُحَصَّباً) الجواز. ومقتضى الحديث أنه لا يفعل؛ لأنه جعله خطيئة وجعل الدفن كفارة، ولا ينبغي لأحد أن يخطئ فيكفر. قوله: (أَوْ تَحْتَ حَصيرٍ) لعله محمول على البصقة الواحدة، وأما لو كثر لم يجز لما في ذلك من الاستقذار، وجمع الدواب، وتقطع الحصير قريباً لا سيما إن كان ثمنها من الوقف. قال في المدونة: ولا بأس أن يبصق عن يمينه أو يساره أو أمامه. قال في التنبيهات: ليس هو على التخيير، وإنما هو كله عند الاضطرار لأحد هذه الوجوه، وإلا فترتيبها أولاً عن يساره أو تحت قدمه؛ لما جاء في الحديث الصحيح، إلا أن يكون عن يساره أحد ولا يتأتى له تحت قدمه فحينئذٍ يتفل إلى جهة يمينه لتنزيه اليمنى وجهتها عن الأقذار. ثم أمامه إن لم يكن ذلك إ لا هنالك لتنزيه القبلة عن ذلك إلا لضرورة، ثم يدفنه. قال: وتأوله بعض شيوخنا على ظاهره من التخيير، ونحوه لابن نافع. وما قدمناه أصح إن شاء الله، وأقرب لمعنى حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لا يتنخم قِيَل وجهه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولكن تحت قدمه اليسرى". انتهى. وأما البصاق في النعل فقد سُئل عنه مالك فقال: إن كان يصل إلى حصير يتنخم تحتها فإني أستقبحه، ولا أرى لأحد أن يتنخم في نعله، وإن كان لا يصل إلى حصير يتنخم تحتها فلا أرى بالتنخم فيه بأساً. قاله في العتيبة.

وَيُكْرَهُ قَتْلُ الْبُرْغُوثِ وَنَحْوِهِ بِمَا فِيهِ وَيَخْرُجُ فَيَطْرَحُهَا مراده بـ (وَنَحْوِهِ) القملة؛ لقوله: (فَيَطْرَحُهَا) وأجاز في المدونة طرح القملة حية خارج المسجد، ولم يزل الشيوخ يستشكلونها لأنه تعذيب، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة". وقوله: (وَيَخْرُجُ فَيَطْرَحُهَا) ابتداء مسألة، وهي خبر بمعنى الأمر، ولا يصح أن يكون مراده بالكراهة مجموع قتل البراغيث ونحوه في المسجد مع خروجه للطرح؛ لأن المسألة إنما هي في كتب أصحابنا على الوجه الأول، ولأن الخروج لا مدخل له في الكراهة بل هو مطلوب. ومن ابن يونس: قال في المدونة: وأكره قتل البرغوث والقملة في المسجد، فإن أصاب قملة في الصلاة فلا يلقيها في المسجد ولا يقتلها فيه، وإن كان في غير الصلاة فلا يقتلها فيه. ابن نافع: وليصرها في ثوبه، ولا بأس أن يطرحها إن كان في غير المسجد. ابن حبيب: قتل البرغوث في المسجد أخف من القملة. وأجاز قتلها في الصلاة في غير المسجد مطرف وابن الماجشون. انتهى. وعن مالك: أكره قتل ما كثر من القمل والبراغيث في المسجد، [82/ أ] واستخف ما قل من ذلك. اللخمي: ويجوز قتل العقرب والفأرة لإذابتهما، ولأنه يجوز للمحرم قتلهما في الحرم في المسجد الحرام. وَإِحْضَارُ الصَّبِيَّ لا يَعْبَثُ وَيَكُفُّ إِذَا نُهِيَ جَائِزٌ، بخِلافِ غَيْرِهِ نحو هذه العبارة في المدونة وغيرها. وقوله: (بِخِلافِ غَيْرِهِ) أي: إذا كان يعبث ولا يكف إذا نُهي، فلا يجوز إحضاره لما في الحديث: "جنِّبوا مساجدَكم مجانينكم وصبيانكم".

قصر الصلاة

القَصْرُ سُنَّةٌ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَمُبَاحٌ، وَفَرْضٌ المشهور: أنه سنة، وتردد المازري في ثبوت القول بالإباحة، وأما القول بالفرضية فذكر ابن الجهم أن أشهب رواه عن مالك، قال في المقدمات: ويلزم عليه إيجاب الإعادة أبداً على من أتم صلاته في السفر ولا يوجد ذلك لمالك ولا لأحد من أصحابه، والذي رأيت لمالك في رواية أشهب: فرض المسافر ركعتان. وذلك خلاف ما حكاه ابن الجهم عنه إذا تدبرته. انتهى. أي: إذا قلنا القصر فرض حرمت الزيادة وأبطلت الصلاة، وإذا قلنا فرض المسافر ركعتان لم يلزم ذلك لاحتمال أن يكون فرضه ذلك والأربع على التخيير كما صرح به في الجلاب، فقال: وفرض المسافر التخيير بين القصر والإتمام، وفي كلام ابن رشد نظر؛ لأن حاصله شهادة على نفي. وقد نقله اللخمي عن القاضي إسماعيل وابن سحنون، وكذلك نقله أبو الفرج عن بعض أصحاب مالك، ونقله ابن يونس، وكذلك نقله الباجي ولفظه: وروى عنه أشهب أنه فرض. وكذلك ذكره التونسي، وذكر عن ابن سحنون فيمن أتم صلاته في السفر أنه قال: القياس أن يعيد أبداً. قال: وقد ذكره بعض البغداديين عن مالك في مسافر صلى خلف مقيم، أن المسافر يعيد أبداً، وهو الذي كان يستحسن بعض شيوخنا ويقول القصر فرض. انتهى. فَإِنْ قُلْنَا: سُنَّةٌ فَثَلاثُ صُوَرٍ: نَاوٍ للإِتِمَامِ، أَوْ نَاوٍ لِلْقَصْرِ، أَوْ تَارِكٌ سَاهِياً أَوْ مُضْرِباً فرَّع على السنة لكونه هو المشهور، وذكر أن الصور ثلاث: الأولى، أن ينوي الإتمام. والثانية: أن ينوي القصر. والثالثة: أن يترك النيتين إما ساهياً أو مضرباً؛ أي: متعمداً، والمضرب المعرض. وفي بعض النسخ عوض (مُضْرِباً) (متعمداً).

الأُولَى: إِنْ أَتَمَّ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَأَرْبَعاً إِنْ حَضَرَ فِيهِ أي: الصورة الأولى أن ينوي الإتمام فيتم، بهذا يعيد الصلاة في السفر ركعتين ما دام في الوقت، وكذلك إن حضر فيه؛ أي: في الوقت يعيدها أربعاً. وحاصله أن الإعادة في الوقت لا تسقط بحضوره؛ لأنه إذا أوقعها في السفر أربعاً حصل فيه خلل، فكان كالمصلي في السفر ركعتين بثوب نجس ناسياً ثم حضر في الوقت. قال أبو محمد: والوقت في ذلك النهار كله. وقال الإبياني: الوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة. ابن يونس: والأول أصوب. وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ عَلَى أَرْبَعٍ سَاهِياً وَأَتَمُّهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَسْجُدُ وَلا يُعِيدُ. ثُمَّ رَجَعَ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ ..... المسألة المفروغ منها كما قدمنا: دخل ناوياً للإتمام مع العلم. وهذه: دخل الصلاة ناوياً للإتمام مع السهو عن كونه مسافراً. قال في النوادر: أو مع السهو عن التقصير. وذكر المصنف في هذه قولين لابن القاسم: كان أولاً يقول: يسجد بعد السلام ولا يعيد. ثم رجع إلى الإعادة. وكلا القولين مرويان عن مالك، وإنما قيل بالسجود في هذه دون تلك؛ لأن إتمامه هنا في معنى الزيادة سهواً بخلاف تلك، وألزم على هذا أن يؤمر بالإعادة لكثرة السهو لكنه لما لم تكن زيادة مجمعاً عليها لم يأمره بالإعادة. ابن يونس: قال سحنون في كتاب ابنه ومحمد في كتابه: وسواء أتم جهلاً أو عامداً أو ناسياً فإنه يعيد في الوقت ولا سجود عليه. ولو كان ذلك عليه لكان عليه في عمده أن يعيد أبداً. فَإِنْ أَتَمَّ أَعَادَ هُوَ وَمَنِ تَبِعَهُ مِنْ مُسَافرٍ وَمُقِيمٍ فِي الْوَقْتِ، وَأَعَادَ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ أَبَداً عَلَى الأَصَحِّ ..... أي: فإن أَمَّ في المسألتين معاً حيث يعيد في الوقت سرى النقص إلى صلاة المأموم التابع له مطلقاً، مقيماً أو مسافراً، أما إعادة المسافر فظاهر لمخالفته سنة، وأما إعادة المقيم

فينبغي أن يختلف فيها كما اختلف في حق المأموم إذا ذكر الإمام صلاة بعد أن فرغ، أو ذكر أنه صلى بثوب نجس، فإنه اختلف هل يعيد كإمامه أم لا؟ واختلف في صحة صلاة من لم يتبعه. والأصح البطلان لمخالفة الإمام، وهذا الأصح نقل ابن يونس عن سحنون أنه فسر به قول ابن القاسم. والقول الثاني: الصحة؛ لأن الإمام أخطأ لمخالفة سنته بخلاف المقيم. فَإِنْ قَصَرَ عَمْداً بَطَلَتْ عَلَى الأَصَحِّ، فَإِنْ أَمَّ فَوَاضِحٌ أي: فإن قصر عمداً بعد دخوله على الإتمام بطلت؛ لأنه يصير كالمقيم إذا قصر؛ وهذا القول لمالك، وإليه رجع ابن القاسم، وكان أولاً يقول: يعيد في الوقت؛ لأنه رجع إلى السنة في حقه. وقوله: (فَإِنْ أَمَّ فَوَاضِحٌ) أي: فإن أَمَّ فصلاة المأموم تابعة لصلاة الإمام. فَإنْ قَصَرَ سَهْواً فَعَلَى أَحْكَامِ السَّهْوِ، فَإِنْ جَبَرَهَا فَكَمُتِمٍّ أي: فإن قصر من نوى الإتمام كان كمقيم سليم من اثنتين ساهياً، وقد تقدم في باب السهو. (فَإِنْ جَبَرَهَا) أي: أتمها في الموضع الذي يصح له ذلك صار كمسافر أتم. فَإِنْ أَمَّ سَبَّحُوا بهِ وَفَعَلُوا كَمُؤْتَمِّينَ بِحَاضِرٍ، ثُمَّ يُعِيدُونَ فِي الْوَقْتِ كَمُؤْتَمِّينْ بِمُسَافِرٍ أَتَمَّ .... أي: فإن أمَّ هذا الذي افتتح [82: ب] بنية الإتمام وسلم من اثنتين ساهياً، سبحوا به ليرجع. كما لو كانوا كلهم مقيمين سلم إمامهم المقيم من اثنتين، ثم إذا أتم يعيدون كلهم الصلاة في الوقت؛ لأنهم مؤتمون بمسافر أتم، ولعل التشبيه الواقع في هذا الفرع وفي الذي قبله من باب تشبيه الشيء بنفسه.

الثَّانِيَةُ: إِنْ قَصَرَ فَوَاضِحٌ أي: الصورة الثانية؛ وهي أن يدخل ناوياً للقصر، إن قصر فواضح إذا نوى السنة في حقها وفعلها. فَإِنْ أَمَّ أَتَمَّ الْمُقِيمُونَ أَفْذَاذاً وَلا إِعَادَةَ باتَّفَاقٍ، فَإِنْ ائْتَمُّوا فَفِي إِجْزَاء صَلاةِ المُؤْتَمِّينَ لا مَنْ أَمَّهُمْ قَوْلانِ. كَمَا لَوْ أَحْدَثَ فَأَتَمَّ بِهمْ مُقِيمٌ ..... أي: فإن أم الناوي للقصر فالمأموم المسافر يسلم معه من غير إشكال، وأما المقيمون فإنهم يتمون صلاتهم أفذاذاً، ولا إعادة عليهم باتفاق؛ لأنهم صلوا خلف من أتى بالأفضل في حقه، ودليله ما رواه الترمذي وصححه من حديث عمران بن حصين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقام بمكة ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة، ويقول: "يا أهلَ مكةَ أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سفرٌ". وقوله: (فَإِنْ ائْتَمُّوا) أي: فإن لم يتم المقيمون صلاتهم أفذاذاً، وأتموا خلف إمام قدموه لأنفسهم، فأما الإمام فصلاته تامة؛ لأن المطلوب في حقه ألا يقتدي وقد فعل، وأما المقتدون به ففي صحة صلاتهم قولان: قال بعضهم: والأظهر البطلان لكونهم قد ائتموا بإمامين. وهو قول ابن القاسم من رواية موسى. والقول بعدم الإعادة أيضاً له في العتبية. قال في هذا القول: وإن أعادوا فحسن. وقوله: (كَمَا لَوْ أَحْدَثَ فَأَتَمَّ بِهمْ مُقِيمٌ) أي: كما لو أحدث هذا المسافر، واستخلف عليهم مقيماً فائتموا به ففيه القولان، وهو ظاهر. فَإِنْ أَتَمَّ عَمْداً بَطَلَتْ عَلَى الأَصَحِّ كَعَكْسِهَا أي: فإن أتم من نوى القصر عمداً بطلت- كما تقدم فيمن نوى الإتمام فقصر- وهو معنى قوله: (كَعَكْسِهَا).

وقوله: (كَعَكْسِهَا) إشارة إلى وجه الأصح؛ لأنه في كلا المسألتين خالف ما دخل عليه أولاً. والقول بالصحة عزاه ابن العربي لابن القاسم في العتبية، وحكاه اللخمي ولم يعزه، وزاد أنه يعيد في الوقت، وهو استحسان. فَإِنْ أَمَّ فَوَاضِحَّ يعني: فعلى الأصح تبطل على المأمومين، وعلى مقابله يعيد هو وهم في الوقت. فَإِنْ أَتَمَّ سَهْواً فَفِيهَا مَا فِي مَنْ أَحْرَمَ عَلَى أَرْبَعٍ سَاهِياً وَأَتَمَّهَا. وَفَرَّقَ ابْنُ الْمَوَّازِ، فَقَالَ: هُنَا يَسْجُدُ وَلا يُعِيدُ .... يعني: فإن أحرم على ركعتين ثم أتم ساهياً، ففي هذه المسألة من الخلاف ما في من أحرم على أربع ساهياً، وقد تقدم. وفرق ابن المواز فقال: هنا يسجد ولا يعيد بخلاف تلك؛ لأنه لما أحرم بركعتين تمحضت الركعتان للزيادة فلذلك أمره بالسجود، وأما من أحرم على أربع فلم تتمحض الركعتان للزيادة فافترقا. وحكى في اللباب فيمن دخل على القصر فأتم ثلاثة أقوال: الإعادة في الوقت، وهو قول ابن القاسم في العتبية. والإعادة أبداً سواء أتمها عمداً أو سهواً لكثرة السهو، وهو قول سحنون. وقال ابن المواز: إن أتمها عمداً أعاد أبداً، وإن أتمها سهواً سجد لسهوه. وكلام المصنف يؤخذ منه أن قول محمد بالسجود خاص بالسهو؛ لأن فرض المسألة فيه. فرع: فإن نوى القصر فأتم جهلاً فقال ابن بشير: قد يظن هنا أنه يجري على الخلاف في الجاهل: هل حكمه حكم العامد، أو حكم الناسي؟ وليس كذلك؛ لأن الجهل هنا يعذر فيه، فلا يختلف أن حكمه حكم الناسي.

فَإِنْ أَمَّ فَقَالَ مَالِكٌ: يُسَبِّحُونَ بِهِ وَلا يَتَّبِعُونَهُ وَيُسَلِّمُونَ بِسَلامِهِ وَيُعِيدُ وَحْدَهُ فِي الْوَقْتِ، أَمَّا الْمُقِيمُونَ فَيُتِمُّونَ بَعْدَ سَلامِهِ أَفْذَاذاً ... أي: إذا أحرم على القصر، وصلى إماماً ثم قام من اثنتين سهواً، فقال مالك: يسبح المأمومون به ولا يتبعونه، فإن رجع سجد لسهوه وصحت صلاته، وإن تمادى فلا يتبعونه، كمن قام إلى خامسة. قاله في المدونة. قال فيها: ويعيد هو وحده في الوقت، يريد لأن من خلفه لم يتبعوه في سهوه. وهذا الأصل مختلف فيه كما لو ذكر الإمام صلاة بعد فراغ الصلاة، فإنه يعيد المفعول في الوقت، وهل يعيد المأموم أم لا؟ قولان لمالك في المدونة. والذي رجع إليه عدم الإعادة. قال ابن رشد: وعلى القول بأنه يعيد أبداً لكثرة السهو يعيدون أبداً. تنبيه: قوله: (وَيُسَلِّمُونَ بِسَلامِهِ) هو كذلك في المدونة، قال فيها: وإذا صلى المسافر بالمسافرين فقام من اثنتين، فسبحوا به فتمادى وجهل فلا يتبعونه، ويقعدون ويتشهدون حتى يسلم، ويسلمون بسلامه، ويعيد وحده في الوقت. ونقل المازري عن مالك قولين آخرين: أحدهما: أنهم يسلمون وينصرفون. والآخر: أنهم يسلمون معه ويعيدون. وبما ذكرناه عن المدونة يسقط اعتراض ابن راشد على المصنف: لم أرَ لمالك ما ذكر من أنهم يسلمون بسلامه، وإنما رأيت أنه إن لم يرجع إليهم سلموا أو قدموا من يسلم بهم. الثَّالِثَةُ: إِنْ أَتَمَّ أَوْ قَصَرَ فَفِي الصِّحَّةِ قَوْلانِ، كَمَا لَوْ جَهِلَ الْمُسَافِرُ أَمْرَ إِمَامِهِ أَوِ اعْتَقَدَ حَالَةً فَظَهَرَ خِلافُهَا، بنَاءً عَلَى أَنَّ نِيَّةَ عَدَدٍ الرَّكَعَاتِ مُعْتَبَرَةٌ أَمْ لا .... أي: الصورة الثالثة وهي أن يترك نية القصر ونية الإتمام سهواً أو متعمداً، والقولان اللذان ذكر لم أقف [83/ أ] عليهما. وكأنه اعتمد في ذلك على الخلاف في

عدد الركعات. وقال اللخمي: يصح أن يدخل في الصلاة على أنه بالخيار بين أن يتمادى لأربع أو يقتصر على ركعتين. المازري: وكأنه رأى أن عدد الركعات لا يلزم المصلي أن يعتقده في نيته. قال: ولا شك أن المصلي إذا لم يلزمه التعرض للركعات أنه يباح له الدخول في الصلاة على الخيار. وفي اللباب: إذا أحرم بصلاة الظهر مطلقاً، ولم ينوِ قصراً ولا إتماماً يتم صلاته. وهو قول الشافعي أيضاً. قال المازري: قالت الشافعية: لا يجوز القصر حتى ينويه عند الإحرام. فيمكن أن يكونوا قالوا بذلك بناء على اعتبار الركعات، أو بناء على أن الأصل الأربع، والسفر طارئ. فإذا لم يقصد الطارئ خوطب بما هو الأصل المستقر، وهذا الثاني هو الذي عللوا به. انتهى. وقد يعكس ما قاله الشافعية أن سنة المسافر القصر فلا يعدل عنها. وعلى هذا فالأقرب في مسألة من دخل ساهياً إلحاقها بناوي القصر. وقوله: (كَمَا لَوْ جَهِلَ الْمُسَافِرُ أَمْرَ إِمَامِهِ) أي: هل هو مسافر أو مقيم؟ قال سحنون: تجزئه صلاته. وقيل: لا تجزئه. وأما إذا اعتقد حالة وظهر خلافها؛ مثل أن يدخل خلف إمام يظنه مسافراً فيجده مقيماً أو بالعكس، فحكى المصنف في ذلك قولين، وتصورهما ظاهر. ولنذكر كلام مالك في العتبية، وكلام صاحب البيان عليه فإنه هنا حسن، وذلك لأنه قال: قال مالك في العتبية: فيمن مر بقوم فصلى معهم ركعتين فسلم إمامهم، فتبين له أنهم مقيمون وسبقوه بركعتين، وكان يظن أنهم قوم سفر، قال: يعيد أحب إليه. قال سحنون: وذلك إذا كان الداخل مسافراً. قال ابن رشد: وقول سحنون مفسر لقول مالك؛ لأنه لو كان مقيماً لأتم صلاته ولم يضره وجود القوم على خلاف ما حسبهم عليه من القصر أو الإتمام؛ لأن الإتمام واجب عليه في الوجهين، فلا تأثير لمخالفة نيته لنية إمامه. وقول مالك: يعيد أحب إلي؛ يريد في الوقت وبعده، أتم صلاته بعد صلاة

الإمام أو سلم معه على ما اختاره ابن المواز. وقاله ابن القاسم في سماع عيسى. وقال ابن حبيب: إنه يتم صلاته ويعيد في الوقت. وقيل: لا إعادة عليه، وهو قول أشهب. ووجه قول مالك في الإعادة أبداً مخالفة نيته لنية إمامه؛ لأنه إن سلم معه في الركعتين فقد خالفه في النية والفعل، وإن أتم صلاته فقد خالفه في النية وأتم صلاته على خلاف ما أحرم. وأما إذا دخل المسافر فرفع مع القوم فظن أنهم حضريون فألفاهم مسافرين فسلموا من ركعتين، فقال مالك في العتبية: صلاته مجزئة وذلك خلاف أصله في هذه المسألة في مراعاة مخالفة نيته لنية إمامه، وخلاف مذهبه في المدونة؛ لأن فيها: في المسافر إذا أحرم بنية أربع ركعات ثم بدا له فسلم من ركعتين أنها لا تجزئه. وقال ابن حبيب أشهب أن صلاته جائزة؛ لأنهما لا يعتبران مخالفة نيته لنية إمامه وإتمامه على خلاف ما أحرم به. ولابن القاسم في الموازية أن صلاته لا تجزئه، وهو اختيار ابن المواز أن صلاته لا تجزئه في الوجهين لمخالفة نيته لنية إمامه. وقال سحنون: يعيد في الوقت، ولو دخل المسافر خلف القوم يظنهم مقيمين، فلما صلوا ركعتين سلم إمامهم، فلم يدرِ هل كانوا مقيمين أو مسافرين لأتم صلاته أربعاً، ثم أعاد صلاة مسافر. قاله ابن القاسم. ولو دخل خلفهم ينوي صلاتهم وهو لا يعلم أكانوا مقيمين أو مسافرين لأجزأته صلاته قولاً واحداً، والحجة في ذلك إهلال علي وأبي موسى بما أهل به عليه الصلاة والسلام، وصوب عليه الصلاة والسلام فعليهما. انتهى باختصار. وبنى المصنف الخلاف على الخلاف في تعيين عدد الركعات، وهو ظاهر إلا في مسألة ما إذا جهل أمر إمامه، فإنه في هذه المسألة نوى ما نوى إمامه، فقام ذلك مقام نية عدد الركعات، فتأمله. وأيضاً فحكايته فيها الخلاف مخالفة لما تقدم من كلام صاحب البيان. فَإِنْ أَمَّ فَعَلَيْهِمَا وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ يعني: فتصح لهم على القول بالصحة، وتبطل على الآخر.

وقوله: (وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ) يعني: إذا قلنا بالصحة فقصر أو أتم فأجر حكم المأمومين فيما يصنعونه على ما تقدم. فإن قصر أتم المقيمون أفذاذاً بعد سلامه، وإن أتم أعاد هو ومن اتبعه من مسافر ومقيم في الوقت. وأعاد من لم يتبعه أبداً على الأصح. وَرَوى ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَقْتَدِي بمُقِيمٍ، فَإِنِ اقْتَدَى أَتَمَّ وَصَحَّتْ. وَقَالَ: وَلا يُعِيدُ. وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِثلَهُ، وَقَالَ: وَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إلا فِي الْمَسَاجِدِ الكِبَارِ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحٍ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْقَصْرِ أَوِ الْعَكْسِ. معناه: لا ينبغي أن يأتم المسافر بالمقيم؛ لأنه يلزمه اتباعه على ظاهر المذهب، فتذهب في حقه السنة. وعلى قول أشهب بالجلوس حتى يسلم الإمام فيسلم بسلامه يكره له أيضاً [83/ ب] لمخالفة الإمام، وما ذكره المصنف أنه رواية ابن القاسم هو المشهور. قال في الجواهر: ورواه أيضاً ابن الماجشون. وروى ابن شعبان: لا بأس بصلاة المسافر خلف المقيم لفضله وسنه وفهمه. ومنشأ الخلاف النظر إلى الترجيح بين فضيلتي الجماعة والقصر. انتهى. ولم يحكِ في الجواهر إلا هذين القولين. وقال اللخمي: اختلف في صلاة المسافر على القول بالسنية: هل الأفضل القصر أو الجماعة إتماماً؟ لأن الجماعة أيضاً سنة ويتضاعف الأجر فيها بسبعة وعشرين ضعفاً. وكان ابن عمر يقدم الجماعة، فإذا قدم مكة صلى مأموماً، وهو الظاهر من قول مالك. ثم حكى الروايتين اللتين حكاهما في الجواهر. وقوله: (وَقَالَ: لا يُعِيدُ ... إلخ) قال في الجواهر: أعاد عند ابن الماجشون في الوقت، ولم يعد عند ابن القاسم. وكذلك روى مطرف أن الإعادة عليه. وروى ابن الماجشون وأشهب أنه يعيد في الوقت، إلا أن يكون في أحد مسجدي الحرمين، ومساجد الأمصار الكبار. انتهى.

تنبيه: إذا تأملت كلامه في الجواهر وجدته مخالفاً لكلام المصنف؛ لأنه في الجواهر جعل لابن الماجشون قولاً ورواية؛ فالقول بالإعادة بالوقت، والرواية بالإعادة إلا أن يكون في أحد المساجد الكبار. ومقتضى كلام المصنف أن ابن الماجشون هو القائل بالإعادة إلا أن يكون في المساجد الكبار. ولأن ابن شاس إنما جعل منشأ الخلاف الذي ذكره المصنف بين رواية ابن القاسم وابن شعبان. والمصنف لم يذكر رواية ابن شعبان، وجعل المنشأ المذكور راجعاً إلى الإعادة؛ أي: إذا قلنا أن القصر أفضل أعاد لتحصيل الأفضل وإلا فلا. وحكى بعضهم في اقتداء المقيم بالمسافر وعكسه ثلاثة أقوال: الكراهة فيهما، والجواز فيهما، وجواز اقتداء المقيم بالمسافر وكراهة العكس. ابن راشد: والمعروف الأول. ونص ابن حبيب وغيره على أن اقتداء المقيم بالمسافر أقل كراهة؛ لما يلزم عليه من تغيير السنة في اقتداء المسافر بالمقيم بخلاف العكس. وقال ابن حبيب: أجمع رواة مالك على أنه إذا اجتمع مسافرون ومقيمون أنه يصلي بالمقيمين مقيم وبالمسافرين مسافر إلا في المساجد الكبار التي يصلي فيها الأئمة. قال المازري: يعني الأمراء، فإن الإمام يصلي بصلاته، فإن كان مقيماً أتم معه المسافر وإن كان مسافراً أتم مَن خلفَه من المقيمين. فَإِنْ قُلْنَا: الْقَصْرُ فَرْضٌ فَالْقيّاسُ بُطْلانُهَا إِنْ أَتَمَّ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِمقُِيمٍ فَقِيلَ: تَبْطُلُ. وَقِيلَ: تَصِحُّ وَيَنْتَقِلُ كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ فِي الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: وَلا يَنْتَقِلُ وَيَنْتَظِرُهُ. وَقِيلَ: وَيُسَلَّمُ .... يعني: القياس على الفريضة بطلانها إذا أتم، إن اقتدى بمقيم فقال عبد الوهاب وبعض المتأخرين: تبطل الصلاة. وقال بعضهم: لا يمتنع أن يكون القصر فرضه. فإن ائتم بمقيم انتقل فرضه لفرض المقيم كالمرأة والعبد في الجمعة. وقال بعضهم: يُقتدى به في الركعتين خاصة. ثم اختلفوا هل يسلم ويتركه أو ينتظره فيسلم معه. وانفضل الأبهري عن تشبيه من يشبه بالجمعة؛ لأن المرأة والعبد دخلا في الخطاب في الجمعة، وعذرا في

التخلف لشغلهما بخدمة السيد والزوج وكون المرأة عورة، فصار كالمريض والمسافر المخاطبين في الأصل المعذورين بما طرأ عليهما. تنبيهان: الأول: بنى المصنف القول بالانتظار والقول بالسلام على الفريضة تبعاً لابن شاس، وحكاهما ابن رشد وغيره مطلقاً ولم يقيدوه في الفرض ولا بالسنية. الثاني: لا شك على القول بالتخيير، أو بأن القصر أفضل مع التخيير بينه وبين الإتمام أن المسافر يقتدي بالمقيم؛ لأن الجماعة سنة فهي آكد. سَبَبُهُ: سَفَرٌ طَوِيلٌ بَشَرْطِ الْعَزْمِ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى قَدْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَالشُّرُوعُ فِيهِ، وَإبَاحَتُهُ .... إنما شرط العزم في أوله؛ لأنه إذا لم يكن العزم في أوله فهو في المعنى سفران أو أكثر. وسيأتي ما احترز منه بهذه القيود. وقوله: (وَالشُّرُوعُ فِيهِ، وَإبَاحَتُهُ) يحتمل أن يرفعا وأن يخفضا؛ فعلى الأول يكون سبب القصر مركباً من ثلاثة أجزاء: الطول، والشروع فيه، والإباحة. وعلى الثاني يكون السبب واحداً وما بعده شروط له. وَالطَّوِيلُ: أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخاً، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَارَبَعُونَ مِيلاً، وَمَا رُويَ مِنْ يَوْمَيْنِ، وَيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُحَقَّقِينَ، وَرُوِيَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلاً. وَقِيلَ: اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِذَا قَصَرَ فِي سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ مِيلاً أَجْزَأَهُ. وَأَنْكَرَ فَقِيلَ: يُعِيدُ أَبَداً. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: فِي الْوَقْتِ .......... يعني: أن ما روي عن مالك من يومين ويوم وليلة فهو راجع إلى التحقيق إلى ثمانية وأربعين ميلاً. وروى جماعة أن هذا اختلاف قول، وليس هؤلاء عند المصنف بمحققين، وفيه شيء؛ لأن عياضاً نقل أن الأكثر حملوا ذلك على الخلاف. وروي عن مالك في

العتبية أنه يقصر في خمسة وأربعين ميلاً. وروى أبو قرة أنه يقصر في ثلاثة بُرُد ونصف؛ وتُعد اثنين وأربعين ميلاً. وقال ابن الماجشون: يقصر في أربعين ميلاً. وقال ابن حبيب في الواضحة: [84/ أ] وقال يحيى بن عمر: قول ابن الماجشون يجزئه إذا قصر في ستة وثلاثين ميلاً. لا أعرفه لأصحابنا ويعيد فاعل ذلك أبداً. وقال ابن عبد الحكم: في الوقت. وقول المصنف: (فَقِيلَ: يُعِيدُ أَبَداً) فيه نظر؛ لأنه هو المذهب؛ إذ المسافة ثمانية وأربعون ميلاً، فكيف يعبر عنه؟ فقيل: ولو أسقطه لعلم. ووقع في بعض النسخ عوض (أَجْزَأَهُ) (جاز) وليس بشيء؛ لأن الإقدام على ذلك لا يجوز. وقال ابن بشير: لا أجد من أهل المذهب من يقول بقصر في أقل من أربعين ميلاً. ابن رشد وغيره: ولا خلاف في المذهب في أن من قصر في أقل من ستة وثلاثين ميلاً أنه يعيد أبداً. والبريد: أربعة فراسخ. والفرسخ: ثلاثة أميال. والميل: قال ابن عبد البر: أصح ما قيل فيه أنه فيه ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع. انتهى. ووقع في بعض النسخ: والميل ألفاً ذراع على المشهور. وفي البيان: الميل ألفا ذراع؛ وهي ألف باع. قيل: بباع الفرس. وقيل: بباع الجمل. قال ابن القصار: ويقال أن الفرسخ اثنا عشر ألف خطوة، وكل خطوة ثلاثة أقدام بعضها عقب بعض. فرع: ويراعى في البحر أربعة برد أيضاً على المشهور. وقال في المبسوط: يقصر إذا سافر اليوم التام. قال بعضهم: يريد اليوم والليلة. وقال بعضهم: إن سافر مع الساحل فالبريد، وإن سافر في اللجة فبالزمان. هكذا حكى هذا الثالث صاحب العمدة عن بعضهم. وجعله ابن بشير تفسيراً لقول عبد الملك في المجموعة: وإن توجه إلى سفر فيه بر وبحر فإن كان في أقصاه فاتصل البر مع البحر ما تقصر فيه قصر إذا برز. قال ابن المواز: إذا كان ليس بينه وبين البحر ما يقصر فيه فانظر فإن كان المركب لا يخرج إلا بالريح فلا يقصر

حتى يركب ويبرز عن موضع نزوله. ابن يونس: ينظر إذا كان في سفره من ذلك الموضع ما يقصر فيه. قال ابن المواز: وإن كان يخرج بالريح وبالمقدف فليقصر حين يبرز من قريته. وحمل الباجي قول عبد الملك وابن المواز على الخلاف. وَلا يُلَفَّقُ الرُّجُوعُ مَعَهُ بَلْ يُعْتَبَرُ أَيْضاً وَحْدَهُ، وَلِذَلِكَ يُتِمُّ الرَّاجِعُ لا لِشَيْءٍ إِلَى مَا دُونَ الطَّوِيلِ، فَإِنْ رَجَعَ لِشَيْءٍ نَسِيَهُ فِي وََطَنِهِ فَقَوْلانِ يعني: هذا هو الذي يعني أهل المذهب بقولهم: يشترط أن يكون السفر وجهاً واحداً، ولا يعنون بذلك أن تكون طريقة مستقيمة، وإنما يعنون أن تكون الجهة التي يقصدها أربعة بُرُد، فقد قال مالك في المدونة في الذي يدور في القرى، وفي دورانه أربعة بُرُد أنه يقصر. ابن القاسم: وكذلك السعاة. وقوله: (وَلِذَلِكَ ... إلخ) أي: ولأجل الحكم على الرجوع أنه سفر ثانٍ ينظر في الراجع لا لشيء نسيه، فإن كان في رجوعه مسافةُ قَصْرِ قَصَرَ وإلا فلا. واختلف إذا رجع لشيء نسيه وإن لم يكن في ذلك مسافة القصر، فقال مالك وابن القاسم: لا يقصر؛ لأن رجوعه سفر مبتدأ. ابن عبد السلام وابن هارون: وهو المشهور. وقال ابن الماجشون: يقصر؛ لأن المانع من قصره نية الإقامة وهي مفقودة. وحكى في الموازية القولين عن مالك. ولا شك على القولين أنه إذا دخل وطنه يتم. وَيَقْصُرُ الْمَكِّيُّ وَغَيْرُهُ فِي خُرُوجِهِ لِعَرَفَةَ وَرُجُوعِهِ وَلَيْسَ بطَوِيلٍ أي: وإنما يقصر للسنة. وقوله: (وَغَيْرُهُ) يحتمل من دخل مكة وليس من أهلها، ويحتمل من أهل منى ونحوها. وَلا يَقْصُرُ مَنْ عَدَلَ عَنِ الْقَصْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ أي: إذا كان للموضع الذي يقصده طريقان إحداهما فيها مسافة القصر والأخرى قصيرة، فإذا ترك السير من القصيرة وعدل إلى البعيدة فإن كان ذلك لعذر كخوف أو

وعر فيها قَصَر، وإن كان لغير عذر فلا يقصر. وكذلك إذا سافر في غير طريق الناس، فكان في سفره أربعة بُرُد، وطريق الناس ليس فيها ذلك. وهذا مبني على أن اللاهي بصيده وشبهه لا يقصر. وأما على القول بأنه يقصر فلا شك في تقصير هذا، والله أعلم، وهنا انتهى كلام المصنف على ما يتعلق بقوله: (سفر طويل). وَلا يَقْصُرُ طَالِبُ الآبقِ إِلا أَنْ يَعْلَمَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ دُونَهُ وَكذَلِكَ الْهَائِمُ هذا راجع إلى قوله: (بشرط العزم من أوله على قدره)، فلهذا لا يقصر طالب الآبق ونحوه؛ لأنه لا يعزم على المسافة في أوله، بل لو وجده بعد بريد رجع. قوله: (إِلا أَنْ يَعْلَمَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ دُونَهُ) بل وإليه أشار ابن يونس. واختلف أصحابنا المتأخرون إذا كان لما بلغ هذا الذي خرج في طلب الآبق على رأس أربعة بُرُد فأراد الرجوع فقيل له: إن حاجتك في موضع كذا على بريدين من بين يديك، أو عن يمينك، أو عن شمالك. فقال: أنا أبلغ ذلك الموضع، ثم أتمادى منه إلى داري على كل حال وجدته أم لا. فذهب بعض أصحابنا أنه لا يقصر حتى يرجع من الموضع الذي ذكر له أن العبد فيه؛ لأنه لا يضاف مسير إلى رجوع. وظهر لي ولغيري من أصحابنا أنه يقصر؛ لأنه قد نوى الرجوع [84/ ب] انتهى. وفسر ابن عبد السلام وابن هارون الهائم بالتائه عن طريق القصد إذا لم يكن يبعد عن مبدأ سفره في طريق القصد المسافة المذكورة. واعترض ابن هارون عليه بأن إطلاقه المنع لا يصح؛ إذ لو تاه بعد مسافة القصر وكان منتهى بعد لقصر. وفسره ابن راشد وشيخنا بالذي لا يعزم على مسافة معلومة. قال شيخنا: كالفقراء المجردين، فإنهم يخرجون على غير موضع معلوم، وحيث طابت لهم بلدة أقاموا بها. وتفسير شيخنا أولى.

وقد نص مالك في المجموعة على نظيره، فقال في الرعاة الذين يتبعون الكلأ بمواشيهم أنهم يتمون. نقله اللخمي. ويحتاج تفسير ابن عبد السلام إلى نقل يعضده. وَفِيمَنْ عَزَمَ وَانْفَصَلَ يَنْتَظِرُ رُفْقَةً مُتَرَدِّداً إِنْ لَمْ يَسِيرُوا قَوْلانِ هذا راجع إلى قوله: (من غير تردد). وحاصله أنه إن لم يسر إلا بسيرهم أتم، وإن كان إن لم يسيروا سار قصر، واختلف إذا كان يتردد في السفر وعدمه، إذا لم يسيروا على قولين، وهذه طريقة جماعة والأقرب عليها عدم القصر؛ إذ الأصل الإتمام ولم يتحقق المبيح. ومقتضى كلام ابن يونس أن الخلاف جارٍ ولو كان يسير على كل حال، فإنه قال: قال مالك في العتبية في الأمير يخرج من المدينة على ثلاثة أميال حتى يتكامل أقرباؤه وحشمه قال: لا يقصر حتى يُجمِع على المسير. يريد فيقصر إذا برز من الموضع الذي تكامل فيه الجيش، وقال فيمن خرج من الفسطاط إلى بئر عميرة، وهو يقيم ثَمَّ اليومَ واليومين كما تصنع الأكرياء حتى تجتمع الناء: أنه يقصر. قال أبو محمد: قال يحيى: ولم يرَ ذلك في الأمير يخرج على الميلين حتى يجتمع ثَقَلُه. وقال: ويتم. وقال عنه ابن نافع في المجموعة: أحب إليَّ أن يتم إذا كان الأكرياء يحبسون الناس. ابن يونس: الأمير وغيرهم سواء، وإنما ذلك اختلاف من قوله. وقيل: الفرق أن الأمير السير إليه وهو القاصد للإقامة، والخارج إلى بئر عميرة ليست الإقامة إليه، بل خرج على النفاد. ابن يونس: ولو عكس هذا لكان أصوب؛ لأن الأمير إليه السير وعادته الخروج عازماً على السفر، والآخر ليس إليه السير وإنما سيره لسير الأكرياء، فهو كمن واعد قوماً للسفر وهو لا يسير إلا بسيرهم. انتهى. وروى في البيان أن ذلك يتفق عليه. وحمل مسألة الأمير على أنه عزم ألا يسير إلا بعد أربعة أيام. قال: ولو خرج على أن يقيم اليوم واليومين حتى يجتمع إليه جيشه وخدمه

لوجب أن يقصر كما في بئر عميرة. وقد كان بعض الشيوخ يفرق بينهما بأن الأمير لما كان لا يمكنه السفر إلا مع حشمه- وقد لا يجمع- وجب أن يتم، بخلاف الخارج إلى بئر عميرة. قال: ومنهم من حمل ذلك على التعارض ويقول: الأمير أحق بالقصر؛ لأنه قادر على أن يجبر حشمه. وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّرُوعِ مُجَاوَزَةُ بِنَاءٍ خَارِجَ الْبَلَدِ وَبَسَاتِينِهِ الَّتِي فِي حُكْمِهِ، وَفِي الْعَمُودِيِّ بُيُوتُ الْحِلَّةِ، وَفِي غَيْرِهِ الانفِصَالُ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَقْصُرُ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ جُمُعَةٍ .... هذا راجع إلى قوله أولاً: (الشُّرُوعِ) لأن الأصل الإتمام والقاعدة أن النية لا تخرج عن الأصل إلا إذا قارنها الفعل. وقسم المصنف المحل المنفصل عنه؛ فإن كان بلداً فقولان: المشهور اشتراط مجاوزة بناء خارج البلد وبساتينه التي في حكمه التي لا تنقطع عمارتها، ولا اعتبار بالمزارع. وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه إن كان من المدن التي يُجمَع فيها فمبدؤه إذا جاوز بيوت القرية بثلاثة أميال، وإن خرج من قرية لا يُجمَع فيها فكالأول. هكذا نقل الباجي والمازري هذا القول، وفي نقل المصنف له نقص وإيهام أنهما قالا بذلك ولم يروياه، وهو ظاهر لأن حقيقة السفر في هذا الباب وفي باب الجمعة واحدة، فكما أن الجمعة لا تسقط عمن دون ثلاثة أميال؛ لأنه في معنى الحاضر، كذلك لا يقصر حتى يجاوزها، وحمل الباجي وغيره رواية ابن الماجشون على الخلاف. وصرح الباجي بمشهورية الأول وهو ظاهر كلام اللخمي وغيره، وحملها ابن رشد على التفسير. والضمير في (بَسَاتِينِهِ) عائد على البلد، والضمير في (حُكْمِهِ) يحتمل عوده على البلد، أو على لفظة (بناء خارجه). قوله: (وَفِي الْعَمُودِيِّ بُيُوتُ الْحِلَّةِ) يعني: والبدوي لا يقصر حتى يجاوز بيوت الحِلَّة. قوله: (وَفِي غَيْرِهِ الانفِصَالُ) أي: عن منزله كالساكن بجبل.

فرع: من أدركه الوقت في الحضر، فقال ابن حبيب: إن شاء خرج وقصرها، وإن شاء صلاها حضرية ثم سافر. وَالْقَصْرُ إِلَيْهِ كَالْقَصْرِ مِنْهُ، وَفِي الْمَجْمُوعَةِ: حَتَّى يَدْخُلَ مَنْزِلَهُ يعني: منتهى القصر في الدخول هو مبدأ القصر في الخروج. ووجه ما في المجموعة أنا شرطنا أولاً: مجاوزة البلد لأنها مظنة العوائق، بخلاف الرجوع. وما ذكره المصنف مخالف لظاهر الرسالة؛ إذ فيها،: ولا يقصر حتى يجاوز بيوت المصر وتصير خلفه ليس [85/ أ] بين يديه ولا بحذائه منها شيء. ثم قال: ولا يزال يقصر حتى يدخل بيوت القرية أو يقاربها. وكذلك قال في المدونة، وظاهرهما أن مبدأ القصر خلاف منتهاه. وَلا يَتَرَخَّصُ للعَّاصِي بسَفَرِهِ كَالآبقِ وَالْعَاقِّ بِالسَّفَرِ عَلَى الأَصَحِّ مَا لَمْ يَتُبْ إِلا فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عَلَى الأَصَحِّ .... ما عبر عنه المصنف بـ (الأَصَحِّ) عبر عنه المازري وغيره بالمشهور، ومقابله لمالك. وأسقط لفظ السفر من الآبق؛ لأنه لا يكون في الغالب إلا مع سفر. وقاس مقابل المشهور- جواز قصره- على العاصي في سفره فإنه يقصر، وعنه احترز المصنف بقوله: (للعَّاصِي بِسَفَرِه). وإنما كان الأصح في أكل الميتة الجواز حفظاً للنفوس، بل ترك الأكل معصية. وقوله: (مَا لَمْ يَتُبْ) ظاهر. ومقابل الأصح في الميتة لابن حبيب. وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ كَصَيْدِ اللهْوِ أي: وكذلك لا يقصر في السفر المكروه كصيد اللهو. وعلى قول ابن عبد الحكم بإباحة الصيد للهو يقصر. وكذلك قال ابن شعبان: وإن قصر لم يُعد للاختلاف فيه.

وَتَقْطَعُهُ نِيَّةُ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَإِنْ كَانَتْ فِي خِلالِهِ عَلَى الأَصَحِّ. ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسُحْنُونٌ: عِشْرُونَ صَلاةً .... أي: وتقطع القصر نية إقامة أربعة أيام لا إقامتها، فإنه لو أقام ولو شهوراً من غير نية الإقامة، بل كان لحاجة وهو يرجو قضاءها كل يوم قصر. فالقاطع نية الإقامة لا الإقامة. قوله: (وَإِنْ كَانَتْ فِي خِلالِهِ عَلَى الأَصَحِّ) أشار إلى فرع؛ وهو إذا خرج لسفر طويل ناوياً أن يسير ما لا تقصر فيه الصلاة، ويقيم أربعة أيام ثم يسير ما بقي من المسافة فلا شك في إتمامه في مقامه، وهل يقصر في سفره، ويلفق بعضها إلى بعض أو لا؟ فيه قولان ذكرهما صاحب النوادر واللخمي وابن يونس. وصحح المصنف الإتمام لأنه قول ابن القاسم في العتبية، وهو قول ابن المواز، والقول بالقصر لسحنون وابن الماجشون. قال في البيان: فابن القاسم ينظر إلى ما بقي من سفره بعد الإقامة؛ فإن بقي مسافة القصر قصر وإلا فلا، وسحنون ينظر إلى نيته في ابتداء سفره، فإن كان ذلك تقصر فيه الصلاة قصر في مسيره ذلك وإن تخللته إقامة أربعة أيام، نوى الإقامة من أول سفره أو لم ينوها. انتهى. وعلى هذا فقول المصنف: (وَإِنْ كَانَتْ فِي خِلالِهِ) أي: الإقامة سواء كانت في أول السفر منوية أو لا، كما نقله صاحب البيان. ومنشأ الخلاف: هل الإقامة تصير ما قبلها وما بعدها أسفار مستقلة أم لا؟ وهو سفر واحد، وهذا التقدير هنا هو الظاهر، وجوز فيه ابن عبد السلام وجهاً آخر؛ وهو أن يكون قولهم: (عَلَى الأَصَحِّ) راجعاً إلى صدر المسألة؛ وهو قوله: (وَتَقْطَعُهُ نِيَّةُ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ). ويكون قول ابن الماجشون بياناً لمقابل الأصح. وإنما قلنا الأول أظهر؛ لأنه يستفاد منه فائدة زائدة. واعلم أن الأربعة الأيام تستلزم عشرين صلاة، بخلاف العكس؛ إذ لو دخل قبل العصر ولم يكن صلى الظهر ونوى أن يصلي الصبح في اليوم الرابع ثم يخرج فقد نوى عشرين صلاة، ولم يكن معه إلا ثلاثة أيام.

وَعَلَى الأَيَّامِ لا يُعْتَدُّ بيَوْمِ الدُّخُولِ إِلا أَنْ يَدْخُلَ أَوَّلَهُ. ابْنُ نَافِعٍ: يُعْتَدُّ بِهِ إِلَى مِثْلِ وَقْتِهِ ..... قوله: (أَوَّلَهُ) يريد: قبل الفجر، ولهذه المسألة نظائر قد نظمت فقيل: تلفق أيام يخالف بعضها لبعض على مر الليالي يرفع فحلف وسفر واعتداد وعهدة خيار كراء والعقيقة سابع قيل: ومذهب ابن القاسم في السبعة الإلغاء. فرع: لو عزم بعد الأربعة على السفر فقال سحنون: لا يقصر حتى يظعن كابتدء السفر. وقال ابن حبيب: يقصر دفعاً للنية بالنية. وَمُرُورُهُ بِوَطَنِهِ أَوْ مَا فِي حُكْمِ وَطَنِهِ كَنِيَّةِ إِقَامَتِهِ أي: مرور المسافر بوطنه، أو ما في حكمه؛ أي: من البساتين المسكونة كنية إقامته وإن لم يعزم على الإقامة؛ لأن مروره بوطنه مظنة تَعوُّقه فيه بأن يطرأ له ما يقتضي إقامته. وَالْعِلْمُ بِهِمَا بِالْعَادَةِ مِثْلُهُمَا وَإِلا قَصَرَ أَبَداً وَلَوْ فِي مُنْتَهَى سَفَرِهِ ابن عبد السلام وابن هارون: أي: والعلم بمروره بالوطن أو ما في حكم الوطن كمروره بهما. وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: الضمير في (بِهِمَا) عائد على الوطن والإقامة. ويرجح هذا على الأول بأن حكم الوطن ليس ثابتاً في كل النسخ. ومثال العلم بالإقامة ما علم بالعادة أنه لا بد من إقامة الحاج في العقبة أو في مكة أربعة أيام. ولم يقع في نسخة ابن راشد إلا: والعلم بها بالعادة مثلها. وقال: يعني أن العلم بإقامة أربعة أيام بالعادة كنية الإقامة. واعلم أن المرور بالوطن لا يقطع القصر إلا بالوصول،

وأما العلم [85/ب] بالمرور فيقطع السفر، ويغير حكمه قبل الوصول، فإن لم تكن نيته المرور بوطنه فلا يقطع قصره إلا مروره بالوطن، أو ما في حكمه. ومن علم بالمرور بالوطن نظر ما بين مبدأ سفره ووطنه، فإن كان أربعة بُرُد فأكثر قصر، وإلا أتم. واعترض كلام المصنف بأن نية الإقامة في تلك المدة مؤثرة في القصر مطلقاً، والمرور بالوطن إنما يمنع إذا لم يكن في المسافة التي قبله والتي بعده مسافة القصر، وأما إذا كان ذلك فلا يضره المرور بوطنه إلا أنه يتم إذا دخله حتى يبرز عنه، ولو كان فيما قبله مسافة القصر دون ما بعده قصر قبله لا بعده، وبالعكس فتجيء أربع صور نص عليها في المقدمات وبأن ظاهره أن مطلق المرور بالوطن مانع من القصر، وليس كذلك، وإنما يمنع بشرط دخوله أو نية دخوله لا إن اجتاز فقط. أشار إلى هذا صاحب المقدمات وغيره، قال: وإن نوى من ليس قبل وطنه مسافة القصر ولا بعده دخول قريته، فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك فنوى ألا يدخلها نظر إلى ما بقي من سفره؛ فإن كان ما تقصر فيه الصلاة قصر وإلا فلا، وإن نوى عدم دخولها فقصر، فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك فنوى دخولها، فقال سحنون: يتمادى على القصر حتى يدخلها. ووجهه أن بدء القصر قد وجب عليه فلا ينتقل عنه إلى الإتمام إلا بنية المقام أو بحلول موضعه. وقال غيره: يتم بمنزلة ما لو نوى دخولها من أول سفره؛ إذ ليس فيما بينه وبينها أربعة برد. انتهى بمعناه. وقد يجاب عن الأول بأنه إذا سلَّم أنه إذا دخل الوطن يتم فهو المراد، وليس مراد المصنف غيره، ويصدق عليه حينئذٍ أنه كنية الإقامة في قطعة القصر. وعن الثاني بأن المراد بالمرور بالوطن الدخول فيه. وقوله: (وَإِلا قَصَرَ أَبَداً) ولو في منتهى سفره؛ أي: فإن لم يمر بوطنه ولم يعلم بالإقامة قصر أبداً ولو في آخر سفره، كما لو سافر إلى الإسكندرية ودخلها ولم ينو بها إقامة أربعة أيام فإنه يقصر بها.

وَالْوَطَنُ هُنَا مَا فِيهِ زَوْجةٌ مَدْخُولٌ بهَا أَوْ سُرِّيَّةٌ بِخِلافِ وَلَدِهِ وَخَدَمِهِ إِلا أَنْ يَسْتَوْطِنَهُ قيد الزوجة بالدخول؛ لأنها لو كانت غير مدخول بها لم يكن ما هي فيه وطن، وبذلك صرح ابن المواز. وما ذكره من إلحاق السُّرِّية بالزوجة في ذلك نص عليه ابن حبيب. ابن راشد: وقوله: (إِلا أَنْ يَسْتَوْطِنَهُ) أي: إلا أن يستوطن موضع الأولاد والخدم، وكذلك أيضاً إذا استوطن مكاناً ولم يكن له به خدم ولا ولد. وحاصله: إن استوطن محلاًّ فهو وطن سواء كان عازباً أو غيره، وإن لم يستوطنه فإن كان فيه زوجة مدخول بها فوطن وإلا فلا. ابن عبد السلام: وإنما جرت عادة الفقهاء يذكرون كلام المصنف تفسيراً لما في حكم الوطن، وإلا فالوطن معروف لاشتراك جميع الناس فيه، وتفسير المصنف الوطن ليس بجامع، وإلا لزم أن الأعزب لا يكون مستوطناً. انتهى. وقد يجاب عنه بأن قوله: (إِلا أَنْ يَسْتَوْطِنَهُ) يقتضي أن الاستيطان متى حصل في محل كان وطناً. فَإِنْ تَقَدَّمَ اسْتِيطَانٌ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مِنَ الطْوِيلِ غَيْرَ نَاوٍ إِقَامَةً كَمَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ فَأَوْطَنَهَا ثُمَّ نَوَى أَنْ يَعْتَمِرَ مِنْ الْجُحْفةِ، ثُمَّ يُقِيمَ بِمَكَّةَ يَوْمَيْنِ وَيَخْرُجَ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى الْقَصْرِ فِي الْيَوْمَيْنِ، وَاخْتَارُهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .... يعني: فإن تقدم للمسافر استيطان بمحل، ثم سافر من موضع استيطانه ناوياً العودة إليه لقضاء حاجته في يومين، فلا شك أنه يقصر في مسيره ورجوعه. واختلف قول مالك في اليومين اللذين يقيم فيهما، والذي رجع إليه واختاره ابن القاسم القصر؛ لأنه قد رفض الاستيطان، وعودة من غير نية الاستيطان لا توجب الإتمام. والضمير في (رجع من الطويل) عائد على المسافر، وفي (رَجَعَ إِلَى الْقَصْرِ) عائد إلى مالك. وعادة المصنف

إطلاق الضمائر حيث لا لبس. ابن يونس: ولو كان اعتماره من الْجِعْرَانة أو التنعيم، أو ما لا تقصر فيه الصلاة، ثم رجح إلى مكة، ونوى أن يقيم بها اليوم واليومين لأتم في ذلك بلا خلاف من قوله؛ لأنه في ذلك على نيته الأولى في الإتمام، فلا يزايلها إلا خروجه إلى سفر القصر. انتهى. وعن هذا احترز المصنف بقوله: (مِنَ الطْوِيلِ). أَمَّا لَوْ رَدَّتْهُ الرِّيحُ إِلَى مِثْلِهِ أَتَمَّ اتِّفَاقاً الضمير في (مِثْلِهِ) عائد على الوطن، والمراد به ما في حكم الوطن. وفي بعض النسخ: (أما لو ردته الريح إلى وطنه) هو كلام ظاهر. ولو ردته الريح إلى موضع استيطانه، فأجراه ابن يونس على القولين المتقدمين فيمن أقام بمكة بضعة عشر يوماً. وقال اللخمي: اختلف فيمن خرج مسافراً في البحر فسار أميالاً ثم ردته الريح، فقال مالك: يتم الصلاة. يريد في رجوعه إلى البلد الذي أقلع منه وإن لم يكن [86/أ] له وطناً، إذا كان يتم فيه؛ لأنه لم يصح رفضه. وقال سحنون: يقصر إذا لم يكن له مسكن. يريد: لما لم يكن رجوعه باختياره فكان كالمكره، ولو رده غاصب لكان على القصر في رجوعه وفي إقامته إلا أن ينوي إقامة أربعة أيام. انتهى. انظر ما الفرق بين الغاصب والريح. وَإِذَا نَوَى الإِقَامَةَ بَعْدَ صَلاةٍ لَمْ يُعِدْ عَلَى الأَصَحِّ الأصح ومقابله لمالك، والأصح واضح، ومقابله هو مذهب المدونة. قال فيها: وإن نوى الإقامة بعد تمامها فلا إعادة عليه إلا استحباباً. ابن عبد السلام: ويكاد يكون لا وجه له إلا أن يقال: إن نية الإقامة على العادة لا بد لها من تروٍّ، فإذا جزم بالإقامة بعد الصلاة فلعل مبدأ نيته كان في الصلاة فاحتيط لذلك بالإعادة في الوقت.

وَأَمَّا فِي أَثَنَائِهَا فَفِي إِجْزَائِهَا حَضَرِيَّةً قَوْلانِ، وَعَلَى النَّفْي فَفِي إِجْزَائِهَا سَفَرِيَّةً قَوْلانِ، وعَلَى النَّفْيِ فَفِي قَطْعِهَا أَوْ جَعْلِهَا نَافِلَةً قَوْلانِ، وَعَلَيْهِ ففِي بُطْلانِ صَلاةِ الْمُؤْتَمِّينَ قَوْلانِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيُصَلِّيهَا حَضَرِيَّةً وَرَاءَ الْمُستَخْلَفِ بَعْدَ الْقَطْعِ ... قوله: (وَأَمَّا فِي أَثَنَائِهَا فَفِي إِجْزَائِهَا حَضَرِيَّةً قَوْلانِ) أي: في أثناء الصلاة. والقولان حكاهما ابن بشير وبناهما على الخلاف في عدد الركعات. والقول بأنه يصليها حضرية نقله أبو الحسن الصغير عن أشهب، لكنه إنما نقله إذا عقد ركعة. لكن إذا قاله بعد العقد فلأن يقوله قبل العقد أولى. وفصل ابن الماجشون فقال: إن لم يعقد ركعة أتمها أربعاً إن كان منفرداً، وإن كان إماماً يستخلف. اللخمي: يتم هو علة إحرامه أربعاً، وإن عقد ركعة لزمه إتماها سفرية؛ لأنه لما عقد ركعة على السفر لزمه حكم السفر. ومذهب المدونة أنها لا تجزئ حضرية بل ولا سفرية. وإلى الكلام على إجزائها سفرية أشار بقوله: (وَعَلَى النَّفْي فَفِي إِجْزَائِهَا سَفَرِيَّةً قَوْلانِ). والقول بأنه لا تجزئة سفرية نقله ابنبشير، وظاهر كلامه أنه لا فرق عليه بين أن يعقد ركعة أم لا. قال في البيان: واختلف في المسافر ينوي الإقامة في صلاته على ثلاثة أقوال: أولها: مذهب المدونة أن ذلك مفسد لصلاته، فهو كمن ذكر صلاة في صلاة، يخرج عن نافلة أو يقطع– على اختلاف في ذلك– ويصلي صلاة مقيم، وعلى هذا لا يستخلف الإمام. وقال في العتبية: يستخلف من يتم بهم على أحد قولين في الإمام يذكر صلاة وهو في صلاة. وقال عيسى في العتبية: أحب إليَّ أن ينقض عليهم في مسألة من نوى الإقامة بخلاف اختياره في الإمام يذكر صلاة في صلاة؛ فيحتمل أن يكون ذلك خلافاً من قوله. والأظهر أنه فرق بين المسألتين لقوة الاختلاف في الناوي للإقامة، فيكون الإمام على قول

من قال يتمادى على صلاته وتجزئه صلاته قد أفسد صلاته بالقطع متعمداً، فوجب أن تفسد عليهم. والقول الثاني: وهو اختيار بعض المتأخرين أنه لا تأثير لتحول النية في إفساد صلاته فيتمادى عليها وتجزئه؛ كالمتيمم يدخل في الصلاة ثم يطلع عليه رجل معه ماء أنها يتمادى ولا يقطع. ثم ذكر الثالث وهو قول ابن الماجشون المتقدم. انتهى. وقوله: (وَعَلَى النَّفْي فَفِي إِجْزَائِهَا سَفَرِيَّةً قَوْلانِ)، ونحوه في ابن بشير أيضاً قال: وسبب الخلاف أنه لابد هنا من القطع إما في الفعل أو النية، فأيهما يرجح. انتهى. انظر هل يتفق هنا على عدم القطع إذا عقد ركعة كمن ذكر صلاة في صلاة. وقوله: (وَعَلَيْهِ ففِي بُطْلانِ صَلاةِ الْمُؤْتَمِّينَ قَوْلانِ) هما القولان اللذان تقدما من كلامه في البيان. والضمير في (عليه) عائد على البطلان. وقوله: (يُصَلَّيهَا حَضَرِيَّةً وَرَاءَ الْمُستَخْلَفِ) كذا قال ابن القاسم في العتبية أنه يصليها حضرية وراء المستخلف بعد أن يقطع الأولى. زاد ابن بشير على ما قاله المصنف هنا: وإذا قلنا يتمها أربعاً فهل يجتزئ بها أو يعيد في الوقت قولان، والإعادة مراعاة للخلاف. انتهى. وَمَحِلُّهُ الرُّباعِيَّةُ الَّتِي أَدْرَكَ وَقْتَهَا فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَحْضُرْ قَبْلَ فِعْلهَا وَخُرُوجِهِ هذا بيان لمحل القصر؛ يعني أنه لا يقصر من الصلاة إلا الرباعية التي أدرك وقتها في السفر بشرط ألا يحضر قبل فعلها؛ يريد: أو لا ينوي الإقامة، فإن حضر أو نوى الإقامة قبل أن يفعلها وقبل خروج وقتها وجبت حضرية.

جمع الصلاة

فَيَقْصُرُ قَضَاءَ السَّفَرِيَّةِ حَضَراً وسَفَراً كَمَا يُتِمُّ الْحَضَرِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِيهِمَا قوله: (فَيَقْصُرُ قَضَاءَ السَّفَرِيَّةِ) أي: التي ترتبت في ذمته وخرج وقتها في السفر، سواء قضاها فيه أو في الحضر. (كَمَا يُتِمُّ الْحَضَرِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ) أي: التي ترتبت في ذمته وخرج وقتها. (فيهما) أي: في الحضر والسفر. الْجَمْعُ: أَسْبَابُهُ السَّفَرُ واَلْمَطَرُ وَاِجْتِمَاعُ الطِّينِ وَالْوَحْلِ [86/ ب] وَالظُّلْمَةِ. وَفِي الطِّينِِ وَحْدَهُ قَوْلانِ. وَالْمَرِيضُ إذاَ خَشِيَ الإِغْمَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَخْشْ فَقَوْلانِ، وَفِي الْخَوْفِ لابْنِ الْقَاسم ِقَوْلانِ ... الجمع يقع في الشريعة في ستة مواضع: عرفة، والمزدلفة، والسفر، والمطر، والوحل مع الظلمة، والمرض، واختلف في الخوف. وترك المصنف الكلام هنا على الأولين لباب الحج. واعلم أنه إذا اجتمع المطر والطين والظلمة أو اثنان منهما جاز الجمع اتفاقاً، وإن انفرد واحد فإن كانت الظلمة لم يجز الجمع اتفاقاً، وإلا أدى إلى الجمع في أكث الليالي. فإن انفرد الطين والمطر فقال صاحب العمدة: المشهور جواز الجمع لوجود المشقة. وقال في الذخيرة: المشهور في الطين عدمه. وهو الأظهر لأن المازري وسنداً وابن عطاء الله وغيرهم قالوا: ظاهر المذهب عدم الجواز في انفراد الطين لقوله في المدونة: ويجمع في الحضر بين المغرب والعشاء في المطر، وفي الطين والظلمة. فاشترط الظلمة مع الطين. وقوله: (وَالمرِيضُ إذاَ خَشِيَ الإِغْمَاءَ) هو المشهور، وسيأتي. (وَإِنْ لَمْ يَخْشْ فَقَوْلانِ): ابن عبد السلام: وفيه نظر؛ لأنه لا يُعلم خلاف في جواز الجمع لصاحب البطن المنخرق ونحوه، وإنما الخلاف في وقت الجمع، وجعل نقل المصنف معكوساً؛ لأن الخلاف إنما هو في خائف الإغماء لا في ذي البطن المنخرق

ونحوه. وقد نقل ابن بشير الاتفاق على جواز الجمع للمريض سواء خاف على عقله، أو كان الجمع أرفق به، وليس كذلك، فقد نقل ابن يونس والمازري وغيرهما عن ابن نافع أن خائف الإغماء لا يجمع، وأنه يصلي كل صلاة لوقتها فما أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يكن عليه قضاؤه. وحكي ابن راشد قول ابن نافع في ذي البطن المنخرق، ولعله وهم وجعل خائف الإغماء يجمع بالاتفاق كابن بشير، ولعل السبب في ذلك الوقوف مع ظاهر كلام المصنف. تنبيه: حكي الباجي وصاحب المقدمات عن أشهب إجازة الجمع لغير سبب؛ لحديث ابن عباس: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في غير خوف، ولا سفر، ولا مطر". وعلى هذا فيمكن أن يريد المصنف بقوله: (وَفِي الْخَوْفِ لابْنِ الْقَاسم ِقَوْلانِ) قول أشهب. والمذهب عدم جواز الجمع لغير سبب خلافاً لأشهب، وحينئذ يسقط عن المصنف اعتراض ابن عبد السلام المتقدم. فإن قلت: أشهب لم يخصص بالمريض والمصنف إنما تكلم فيه؟ فالجواب أن أشهب إذا أجاز ذلك مطلقاً فلأن يجيزه في المريض من باب أولى. فإن قلت: لعل مراد أشهب الجمع الصوري؟ فالجواب أن الباجي وابن رشد وغيرهما من الأئمة لم ينقلوه على ذلك، ولو كان كذلك لم يكن لنسبته لأشهب معنى، والله أعلم. وقوله: (وَفِي الْخَوْفِ لابْنِ الْقَاسم ِقَوْلانِ) القولان هما في العتبية، والذي رجع إليه الجواز. الباجي: ووجهه أن مشقته أكبر من مشقة السفر والمرض والمطر. قال: وإذا قلنا بالجمع فإنه على ضربين كالمرض؛ إن كان خوفاً يتوقع مع تأخير الصلاة جمعهما في أول الوقت،

وإن كان خوفاً يمنع من تكرار الإقبال عليها والانفراد لها جمع بينهما في وقتهما المختار. والله أعلم. السَّفَرُ: يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلا كَرَاهَةَ عَلَى الْمشْهُورِ المشهور أظهر لما في الموطأ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في سفره إلى تبوك". ومقابل المشهور: الكراهة، رواه ابن القاسم عن مالك في العتبية، وحمله الباجي على إتيان الأفضل لئلا يتساهل فيه من لا يشق عليه. وقال مال في مختصر ابن شعبان: يكره الجمع في السفر للرجال، ويرخص فيه للنساء. وَفِيهَا: وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي الْجَمْعِ عِنْدَ الرَّحِيلِ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَقَالَ سُحْنُونٌ: الْحُكْمُ مُتَسَاوٍ. فَقِيلَ: تَفْسِيرٌ. وِقِيلَ: خِلافٌ ... ليس معنى المدونة أنه لم يذكر الجمع بين المغرب والعشاء مطلقاً، وإنما المعنى لم يذكر ذلك إذا ارتحل بعد المغرب خاصة؛ ولذلك قال المصنف: (عِنْدَ الرَّحِيلِ). ونص سحنون على أن الحكم متساوٍ. اختلف الشيوخ في قوله، قال ابن بشير: فحمله بعض المتأخرين على التفسير، وإنه إنما ترك المغرب والعشاء إحالة على ما ذكره في الظهر والعصر. وحمله الباجي على الاختلاف، وعلل ما في المدونة بأن ذلك الوقت ليس بزمان رحيل. ابن راشد: والأول أصح للحديث. وَلا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ أي: ولا يختص الجمع بالسفر الطويل كالقصر؛ لما في الموطأ: عن علي بن حسين أنه كان يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسير يومه جمع بين الظهر والعصر، وإذا أراد أن يسير ليلته جمع بين المغرب والعشاء".

فرع: قال في النكت: قال بعض شيوخنا: لا يجمع المسافر في البحر؛ لأنا إنما نبيح للمسافر في البر الجمع من أجل جد السير، وخوف فوات أمر، وهذا غير موجود في المسافر بالريح في البحر. وَشَرْطُهُ الْجِدُّ فِي السَّيْرِ، وَزَادَ أَشْهَبُ: الْخَوْفُ لِفَوَاتِ أَمْرٍ، أَوْ لإِدْرَاكِ مُهِمًّ قال الباجي: ونحوه لابن شاس. وحد الإسراع الذي يجوز معه الجمع هو مبادرة ما يخاف فواته أو إسراع إلى ما يهم، قاله أشهب في المجموعة. وقال ابن حبيب: يجوز للمسافر الجمع إذا جدَّ في السير لقطع سفره خاصة لا لغير ذلك، وبه قال ابن الماجشون وأصبغ. انتهى. خليل: والأولى مذهب المدونة لقوله فيها: ولا يجمع المسافر إلا أن يجدَّ به السير، ويخاف فوات أمر فيجمع. وعلى هذا فما قدمه المصنف فهو قول ابن حبيب. ونقل في البيان عن ابن حبيب إجازة الجمع وإن لم يجدَّ به السير. وذكر في المقدمات أن المشهور إجازة الجمع مطلقاً، ولفظه: يجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر للمسافر يرتحل من المنهل بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقياساً على الجمع بعرفة، هذا هو المشهور في المذهب. وقد قيل: إنه لا يجمع إلا أن يجدَّ به السير. وقيل: إنه لا يجمع وإن جدَّ به السير. انتهى. وقال في النكت عن بعض شيوخه أنه أرخص في الجمع للمرأة وإن لم يجدَّ بها السير. فَإِنْ زَالَتْ وَنِيَّتُهُ النُّزُولُ بَعْدَ الاصْفِرَارِ جَمَعَ مَكَانَهُ، وَقَبْلَ الاصْفِرَارِ صَلْى الظُّهْرَ وَأَخَّرَ الْعَصْرَ، فَإِنْ نَوَى الاصْفِرَارَ فَقَالُوا: مُخَيِّرٍ ... يعني: إذا أبحنا الجمع فللمسافر حالتان: تارة يرتحل بعد الزوال، وتارة قبله. فالأولى له ثلاثة أحوال: فالأولى إما أن ينوي أن ينزل بعد الاصفرار، أو قبله، أو عند الاصفرار.

فإن نوى بعد الاصفرار جمعهما مكانه، فتقع الظهر في وقتها المختار، والعصر في وقتها الضروري. قاله المازري، وهذا هو المشهور. وقيل: بل يؤخر العصر؛ لأنه معذور بالسفر، وأصحاب الضرورة لا إثم عليهم في التأخير إلى وقت الضرورة؛ وهو مذهب ابن مسلمة، ورأى أن تأخيرها أخف من تقديمها. وإن نوى قبل الاصفرار آخر العصر لتمكنه من إيقاع كل صلاة في وقتها، وإن نوى الاصفرار فقال اللخمي: جاز ألا يجمع ويصلي الظهر وحدها. وإلى هذا -والله أعلم- أشار بقوله: (قَالُوا: مُخَيَّرٌ) أي: فإن شاء جمعهما في المنهل وإن شاء أخر العصر فقط، لكن على هذا في قوله: (قَالُوا) نظر؛ لأن ذلك يوهم تواطؤ جماعة على ذلك، وهذا إنما هو معلوم للخمي، ولهذا قال في الجواهر: أشار بعض المتأخرين إلى تخييره؛ فإن شاء جمع بينهما في المنهل، وإن شاء جمع بينهما بعد الاصفرار. وزاد: لأن في كلتا الحالتين إخراج إحدى الصلاتين عن وقتها. انتهى. فلم ينسبه إلا لبعض المتأخرين، لكن في كلامه نظر؛ لأن قوله: وإن شاء جمع بينهما بعد الاصفرار. لم ينقله اللخمي، ولا وجه لتأخير الظهر في هذا الفرض، ويلزم من تأخيره إخراج كل صلاة عن وقتها المختار، وهكذا قال ابن عبد السلام. ويقوي هذا الإشكال بأن اللخمي وابن شاس إنما فرضا هذه المسألة على أنه ينزل بعد الاصفرار بما نقله، وهذا هو الموجب الذي أراد المصنف بقوله: (قَالُوا). فَإِنْ رَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنِيَّتُهُ بَعْدَ الاصْفِرَارِ جَمْعُهُمَا آخِرَ وَقْتِ الأُولَى. فَإِنْ نَوَى قَبْلَ الاصْفِرَارِ أَخَّرَهُمَا إِلَيْهِ، فَإِنْ نَوَى الاصْفِرَارِ فَقَالُوا: يُؤَخِّرُهُمَا إِلَيْه. هذه الحالة الثانية؛ وهي أن تزول عليه الشمس وهو راكب، ثم له ثلاثة أحوال، وتصور كلامه لا يخفي عليك. وفي قوله هنا: (قَالُوا) فيه مثل ما تقدم؛ لأن هذا إنما نقله اللخمي وصاحب الجواهر عن ابن مسلمة، وهو مشكل لا سيما على ما فرض اللخمي

وابن شاس المسألة من أنه ينزل بعد الاصفرار. والقياس ما نقله أبو الحسن الصغير عن ابن رشدك أنه يجمع بينهما في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر. وجعل المصنف جمعهما آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية من قبيل ما لا ترخص فيه للمسافر إلا أن يجدَّ به السير. المازري: وهو قوله في المدونة لقوله فيها: لا يجمع المسافر إلا أن يجدَّ به السير ويخاف فوات أمر. قال: وهذا الوجه ليس من الرخص؛ لأنه لم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الجمع الصوري بأن يصلي الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها، فيكون المصلي جمع بينهما فعلاً ولم ينقل إحداهما إلى وقت الأخرى. قال: ويمكن عندي أن يكون مالك لا رأى أن وقت الاختيار أفضله أوله ومؤخر الظهر إلى آخر وقتها مخل لتحصيل هذا الفضل ألحق التأخير لأجل عذر السفر بباب الرخص، وصير فوت الفضل كفوت جملة وقت الاختيار. انتهى. وهذا كله إذا كان له وقت يرتحل فيه ووقت ينزل فيه، وأما إن لم ينضبط له ذلك وتساوت أوقاته، فإنه يجمع بين الصلاتين جمعاً صوريّاً. ذكره ابن بشير. فرعان: الأول: قال التلمساني: لو جمع أول الوقت وهو في المنهل فلم يرتحل فلمالك في المجموعة: يعيد الأخيرة في الوقت. انتهى. ثم قال: فرع: فلو جمع في أول الوقت لشدة السير، ثم بدا له فأقام مكانه، أو أتاه أمر ترك لأجله السير فقال ابن كنانة في المجموعة: لا إعادة عليه. قال سند: وهو بيِّن؛ لأن الصلاة وقعت في حال الضرورة، كما لو جمع] 87/ب [للمطر ثم زال وكما لو أمن بعد صلاة الخوف في المسابقة. انتهى كلام التلمساني. خليل: انظر كيف جعل التلمساني قول ابن كنانة في فرع وقول مالك في فرع آخر- والظاهر أنهما سواء- فإنه إنما يجمع في المنهل أول الوقت لشدة السير، ولم يذكر ابن عطاء الله إلا قول ابن كنانة. ثم قال: وقد قال مالك فيما يشبه هذا: إنه يعيد في الوقت. قال فيمن خاف أن ينزل عن دابته سباعاً ولصوصاً أنه يصلي على دابته، وإن أمن فأحبُّ إليَّ أن يعيد في الوقت، وكذلك في ناسي الماء في رَحله.

الثاني: لو ارتحل قبل الزوال فنزل عند الزوال، وجمع بينهما، فروى عن مالك: يعيد العصر ما دام في الوقت. الباجي: ووجه ذلك أنه خالف سنة الجمع، فاستحب له الإتيان بهما على الوجه المستحب، وهذا حكم من جمع بين الصلاتين إذا لم يجدَّ به السير عند من شرط ذلك. ولم أرَ فيه نصّاً لأصحابنا. انتهى. وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ عَلَى الْقَوْلِ يِجَمْعِهِمَا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِيمَا ذُكِرَ والغروب كالزوال، وثلث الليل كالاصفرار، والله أعلم. الْمَطَرُ: الْمَشْهُورُ عُمُومُهُ. وَقِيلََ: يَخْتَصُّ بمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أي: عمومه في كل مسجد، وفي كل بلد. وقوله: (وَقِيلََ: يَخْتَصُّ بمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ) ظاهره أنه لا يوقع في المدينة ولا غيرها إلا في مسجد المدينة، وهو صحيح، وقد نقله ابن عبد البر في كافيه ولفظه: والجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر رخصة وتوسعة، وصلاة كل واحدة لوقتها أحب إلي لمن لم يكن مسافراً إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه رواية أهل المدينة عن مالك، ورواها أيضاً زياد عنه، ولكن تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابنا إباحة الجمع بين الصلاتين ليلة المطر في كل بلد في المدينة وغيرها. وقد قال: لا يجمع في المدينة ولا غيرها إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وكذلك قال المازري: سائر المساجد في ذلك سواء. وروى ابن شعبان عن مالك أنه لا يجمع إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وإذا ثبت هذا فقول سند أن الخلاف إنما هو في مساجد المدينة؛ أي: هل يجمع فيها، أم لا يجمع بالمدينة إلا بمسجدها؟ وأما سائر البلدان فيجمع فيها باتفاق؛ لأنه في النوادر إنما نقل الخلاف كذلك ليس بجيد.

وَالْمَنْصُوصُ اخْتِصَاصُهُ بالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَاسْتَقْرَأَ الْبَاجِيُّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِنَ الْمُوَطَّأِ: أَرَى ذَلِكَ فِي الْمَطَرِ .... يعني: المنقول أنه يجمع بسبب المطر بين المغرب والعشاء، لا بين الظهر والعصر لعدم المشقة فيهما غالباً، وهذا إنما في تقديم العصر إلى الظهر، وأما لو جمع بينهما جمعاً صوريّاً لجاز ذلك من غير مطر باتفاق. نقله المازري وغيره. واستقرأ ابن الكاتب والباجي من قول مالك في الموطأ بعد حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر: أراه في المطر جوازَ الجمع بين الظهر والعصر، وهو أخذ حسن. ولا يقال: الإمام إنما فسر الحديث ولا يلزمه الأخذ به؛ إذ الأصل عدم المعارض لا سيما والتفسير هنا مخالف لظاهر اللفظ، فعدول المفسر إليه دليل على أنه المعمول به عنده. لكن استشكل تفسير الإمام؛ لأن الحديث في مسلم: "من غير خوف، ولا سفر، ولا مطر" وحمله بعضهم على الجمع الصوري، وبعضهم على أنه لمرض، ولعل هذه الزيادة لم تصح عند الإمام، أو لم تبلغه. وَالْمَشْهُورُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَغرِبَ قَلِيلاً، وَقِيلَ: تُقَدِّمُ، وَقِيلَ: آخِرُ وَقْتِهَا اعلم أنه يؤذَّن للمغرب على المنار في أول وقتها، قاله مالك في الواضحة، ثم يؤخَّر المغرب قليلاً، ثم يصليها في وسط الوقت، ثم يؤذَّن للعشاء في صحن المسجد أذاناً ليس بالعالي، قاله ابن حبيب. وروى عن علي: يؤذن للعشاء في مقدم المسجد. وقيل: إنما يؤذَّن خارجه مع خفض الصوت؛ لأن المشروع في الأذان ألا يكون داخل المسجد، ثم يصلون العشاء وينصرفون قبل مغيب الشفق، هذا هو المشهور. وضعف لأن فيه إخراج كل صلاة عن وقتها المختار. وقيل: تقدم المغرب أول وقتها المختار ويصلي العشاء. وهو قول

ابن عبد الحكم وابن وهب. وقيل: تؤخر ويجمع بينهما جمعاً صوريّاً. وهو قول أشهب، وضعف لأنه لا فائدة حينئذٍ في الجمع لأنهم ينصرفون في الظلمة. وَلَوِ انْقَطَعَ الْمَطَرُ بَعْدَ الشُّرُوعِ جَازَ التَّمَادِي يعني: أن السبب إنما يطلب ابتداء لا دواماً؛ ولأن عودته لا تؤمن؛ فلذلك لو انقطع المطر في المغرب والعشاء جاز الجمع، وإليه أشار بقوله: (وَلَوِ انْقَطَعَ ... الخ). قال المازري: والأولى عدم الجمع إذا ظهر عدم عودته. وَيَجْمَعُ المُعْتَكِفُ فِي الَمْسجِدِ تبعاً للجماعة، ولأنه لو لم يجمع معهم بقي فيه طعن على الإمام، ثم يفوته فضل الجماعة، وإن جمع ثانياً لزم تكرار الجماعة، ولأجل التبعية استحب بعضهم للإمام المعتكف أن يستخلف من يصلي بالناس. وظاهر كلام صاحب تهذيب الطالب: وجوب استخلافه. وَاخْتُلِفَ فِي الضَّعِيفِ والْمَرْأَةِ] 88/أ [فِي بَيْتِهِمَا يَجْتَمِعَانِ بِالسَّمْعِ تصوره ظاهر، والقولان للمتأخرين، والمنع لأبي عمران. قال المازري: وخالفه غيره من الأشياخ. عبد الحق: والأول أصوب. سؤال: وهو أن يقال إيقاع الصلاة في وقتها واجب، والجماعة سنة، فكيف جاز ترك الواجب، وتقديم الصلاة عن وقتها لتحصيل سنة وهي الجماعة؟ ومقتضى الشرع أن يصلوا المغرب في جماعة، ثم ينصرفوا، ويوقعوا العشاء في بيوتهم. وأجاب القرافي رحمه الله بما حاصله أن الشرع قد يقدم المندوب على الواجب، إذا كانت مصلحة المندوب زائدة على مصلحة الواجب. ومثل ذلك بانتظار المعسر فإنه واجب والإبراء مندوب وهو مقدم، وبصلاة الجماعة فإنها وصفت بأنها أفضل من صلاة الفذ، وبالصلاة في الحرمين، وبما روى: "صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بلا سواك".

خليل: وفي نظر. وليس في هذه الأمثلة شيء يقتضي ما قاله، وإنما هي من باب الواجبين اللذين لأحدهما مزية. وهو ظاهر. والذي ينبغي أن يقال: لا نسلم أنَّا إذا تركنا واجباً لأجل المندوب. ويتحقق ذلك بكلام المازري، فإنه قال: وقع لابن القاسم ما يقتضي عدم جواز الجمع للمطر، فإنه قال في المجموعة: من جمع بين المغرب والعشاء في الحضر لغير مرض أعاد العشاء أبداً. قال: والمسألة مبنية على القول بالاشتراك في الوقت، فمن منعه منع الجمع، ومن أثبته تقابل عنده فضيلتان: إحداهما: وقت الاختيار، والثانية: الجماعة. فمن رجح الجماعة على الوقت فذاً جمع، ومن رجح الوقت لم يجمع. ورأى أن صلاة العشاء فذاً بعد مغيب الشفق أولى منها جماعة قبله. انتهى. خليل: وعلى هذا فالاشتراك عندنا على ضربين: اشتراك اختيار؛ وهو ما تقدم في باب الأوقات؛ أعني هل المشاركة بين الظهر والعصر في آخر وقت الظهر، أو في أول وقت العصر. واشتراك ضروري؛ وهو المذكور هنا في باب جمع المسافر، وهو يدخل بعد مضي أربع ركعات بعد الزوال، والله أعلم. ويُقَدِّمُ خَائِفُ الإِغْمَاءِ عَلَى الأَصَحِّ لا غَيْرُهُ عَلَى الأَصَحِّ اختلف أولاً هل يجوز الجمع لأجل خوف الإغماء أم لا؟ فأجازه مالك. ومنعه ابن نافع وقال: يصلي كل صلاة لوقتها، فما أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يكن عليه قضاؤه. واستشكل الأول؛ لأنه على تقدير الإغماء لا تجب الصلاة، فلا يجمع ما لا يجب، بل يحرم التقرب بصلاة من الخمس لم تجب. قاله القرافي. وعلى تقدير عدم وقوعه لا ضرورة تدعو للجمع، وكما لو خافت أن تحيض في وقت الثانية أو تموت. ثم إذا فرعنا على المشهور، فقال مالك: إذا خاف الغلبة على عقله جمع بين الظهر والعصر إذا زالت تدعو للجمع، وكما لو خافت أن تحيض في وقت الثانية أو تموت. ثم إذا فرعنا على المشهور، فقال مالك: إذا خاف الغلبة على عقله جمع بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس، وبين المغرب والعشاء إذا غربت الشمس. وقال في مختصر ابن عبد الحكم:

يؤخر كالذي يشق عليه الوضوء. وبه قال سحنون. وصحح المصنف الأول لأن الإغماء سبب فيبيح الجمع، ووجوب التقديم لخوف الفوات أصله الجد في السير. والظاهر هنا ما قاله سند؛ لأنه لا معنى لنقل الخلاف في هذه المسألة، فإنه إذا كان يخاف زوال عقله عند العصر، فهذا إن أخر الظهر إلى ذلك الوقت غرر بها، بل غرر بالظهر والعصر جميعاً. وكيف يقال يؤخر الظهر إلى الوقت الذي يخاف فيه على عقله وإن خاف من غشاوة تعتريه إن هو تحرك أول الوقت، فهذا يؤخر. ولا يأبي هذا مالك فلا وجه لاختلاف الوقت في ذلك إلا بحسب اختلاف الحال. فرع: وألحق في العتبية بخائف الإغماء الذي يأخذه النابض، وجوز له الجمع عند الزوال، ولذلك أجاز مالك في المبسوط لمنيخاف الميد إذا أنزل في المركز أن يجمع إذا زالت الشمس. قال: وجمعه عند الزوال أحب إلي من أن يصليها في وقتها قاعداً. وقوله: (لا غَيْرُهُ عَلَى الأَصَحِّ) أي: لا غير خائف الإغماء؛ يريد صاحب البطن المنخرق ونحوه ممن يشق عليه تكرار الحركة، فإنه لا يقدم على الأصح. قال في المدونة: وإن كان الجمع أرفق به لشدة مرض به، أو بطن منخرق، ولم يخف على عقله، جمع بين الظهر والعصر في وسط وقت الظهر، وبين العشاءين عند غيبوبة الشفق لا قبل ذلك. انتهى. قال في التنبيهات: كذلك ألحقنا به لفظة وسط من كتاب ابن عتاب وغيره، وعليه اختصرها ابن أبي زمنين. قال ابن وضاح: أمر سحنون بطرح وسط، وبإسقاطها يوافق الجواب في المغرب والعشاء، وبإثباتها يخالف. واختلف في وسط الوقت، فقال ابن حبيب: إذا فاء ظل القائم ربعه. وقال ابن أخي هشام: نصفه. وقال ابن سفيان المقروي: بل ثلثه لبطء حركة الشمس أولاً. وحمل سحنون، وأبو عمران، وغيرهما الكتاب على أن المراد بالجمع وسط الوقت الجمع الصوري، وأن المارد بالوقت الوقت كله، ووسطه آخر القامة، وهو ظاهر؛ لأنه لا ضرورة تدعو إلى تقديم الصلاة الثانية قبل وقتها، والضرورة إنما هي من أجل

تكرار ما في] 88/ب [الحركة، وليوافق ظاهر قوله في المغرب والعشاء عند غيبوبة الشفق. وإنما قلنا يوافق ظاهر ولم نجزم بذلك لاحتمال أن يدعيا أن معنى قوله: عند غيبوبة الشفق، إذا فر منها غاب الشفق، كما قاله بعضهم، ومقابل الأصح لابن شعبان؛ أنه يجمع عند الزوال وعند الغروب كالمغلوب. فرع: إذا جمع أول الوقت لأجل الخوف على عقله ثم لم يذهب عقله. فقال عيسى بن دينار: يعيد الأخيرة. قال سند: يريد في الوقت. وعند ابن شعبان: لا يعيد. ويَنْوِي الْجَمْعَ أَوَّلَ الأُولَى فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى الثَّانِيةِ فَقَوْلانِ هذا الخلاف ذكره ابن بشير، وابن شاس، وابن عطاء الله، ولم يعزه واحد منهم، ولولا أنهم بنوا الفرعين اللذين يليان هذا الكلام على هذا الخلاف لأمكن أن يقال لعلهم أخذوا هذا الخلاف من الخلاف في الفرضين، لكن لما صرحوا ببناء الفرعين على هذا الخلاف كما فعل المصنف لم يمكن ذلك. ولفظ ابن شاس، وابن عطاء الله: وصفة الجمع الذي فيه تغيير إحدى الصلاتين أنه إذا قدم الأولى منهما ينويه لا هما، ولا يجزئه أن ينوي في أولا لثانية. وقيل: يجزئه. ويَنْبَنِي عَلَيْهِمَا جَوَازِ الْجَمْعِ لِمَنْ حَدَثَ لَهُ السَّبَبُ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الأُولَى، ولِمَنْ صَلَّى الأُولَى وَحْدَهُ ثُمََّ أَدْرَكَ الثَّانِيَةَ .... فأما من حدث له السبب فحكى: ففي النوادر: قال ابن القاسم من رواية أصبغ في قوم صلوا المغرب وهم ينتفلون، إذا وقع المطر أنهم لا يصلوا العشاء إذا فرغوا من المغرب قبل نزول المطر. قال عنه ابن أبي زمنين: وإن فعلوا فلا بأس بذلك. قال أبو محمد: وأعرف فيها قولاً آخراً لا أعرف قائله قال ابن يونس: ينبغي على قياس قول ابن عبد الحكم الذي يرى الجمع قبل أول الوقت أن يجمعوا. ورد بجواز أن يكون ابن عبد الحكم

يشترط نية الجمع في الأولى. وأما من أتى بعد أن صلى المغرب، فوجدهم في العشاء. فقال ابن القاسم في المدونة: يجوز أن يصليها معهم. وقال في المبسوط والمختصر: لا يصليها معهم. قال الباجي: فإن صلاها معهم على هذا القول، فقال أصبغ وابن عبد الحكم: لا يعيدها. ووجه ذلك أن هذا عندهم على الاستحباب لأن الوقت مشترك. قال الباجي وابن يونس: إن وجدهم قد فرغوا. فقال مالك: لا يصلي العشاء حتى يغيب الشفق، إلا أن يكون في مسجد مكة، أو المدينة فيصليها بعد الجماعة قبل الشفق؛ لأن إدراك الصلاة في هذه المساجد أعظم من إدراك فضيلة الجماعة. انتهى. ويُوَالِي إِلا قَدْرَ إِقَامَةٍ، وقِيلَ: أَذَانٌ وإقَامَةٌ. وقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لا بأس أَنْ يَنْتَفِلَ يعني: أن من سنة الصلاة الثانية أن تكون متصلة بالأولى. قال مالك: لا يتنفل بين المغرب والعشاء. قال المازري: وكل صلاتين يجمع بينهما فحكمهما هكذا. وقال ابن حبيبك له أن يتنفل بينهما ما دام يؤذن للعشاء. هكذا نقله ابن يونس وغيره، قال المازري: وكأنه رأى أن يتنفل من في المسجد ما دام المؤذن يؤذن للعشاء، لا يخل بمعنى الجمع. وقوله: (إِلا قَدْرَ إِقَامَةٍ) هو مستثنى من قوله: (ويُوَالِي). وقوله (وقِيلَ: أَذَانٌ وإقَامَةٌ) هو المشهور. وقد بينه في فضل الأذان حيث قال: في الأذان في الجمع ثلاثة مشهورها يؤذن لكل منهما. ولا يُوتِرُ إِلا بَعْدَ الشَّفَقِ هذا ظاهر؛ لأنه من جملة النوافل التي إيقاعها في البيوت أفضل. وإِذَا نَوَى الإِقَامَةَ فِي أَثْنَاءِ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ التَّقْدِيمِ بَطَلَ الْجَمْعُ، وإِنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فَلا يَبْطُلُ ... نحو هذا في الجواهر؛ يعني أن من جمع في السفر وكان حكمه تقديم الثانية إلى الأولى فنوى الإقامة في أثناء إحدى الصلاتين، إما الأولى، وإما الثانية فقد بطل الجمع، وبطلان

صلاة الجمعة

الجمع لا يستلزم بطلان الصلاة، فلهذا إذا نوى الإقامة في أثناء الأولى أو بعد الفراغ منها، وقيل التلبس بالثانية صحت الأولى فيؤخر الثانية إلى أن يدخل وقتها، وإن نوى الإقامة في أثناء الثانية صحت الأولى أيضاً، وقطع الثانية، أو أتمها نافلة، والإتمام أولى. وقوله: (وإِنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فَلا يَبْطُلُ) لوقوع الصلاتين صحيحتين، فكان كالمصلي بالتيمم ثم يجد الماء. ولو قيل بالإعادة قياساً على خائف الإغماء إذا لم يغمَ عليه على أحد القولين، وقياساً على استحبابه في المدونة، والإعادة في حق من نوى الإقامة بعد الصلاة ما بعد، والله أعلم. الْجُمُعَةُ فَرْضُ عَيْنٍ، وشُرُوطُ وُجُوبِهَا: الذُّكُورِيَّةُ، والْحُرِّيَّةُ، والإِقَامَةُ، والْقُرْبُ بِحَيْثُ لا يَكُونُ مِنْهَا فِي وَقْتِهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ عَلَى الأَصَحِّ، وهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَبْلُغُهُ الصَّوْتُ الرَّفِيعُ، والْمُعْتَبَرُ طَرَفُ الْبَلَدِ، وقِيل: الْمَنَارُ، وَقِيلَ: عَلى سِتَّةٍ، وقِيلَ: بَرِيدٌ لا خلاف في المذهب أنها فرض عين، ولم يصح غيره. وذكر لوجوبها أربعة شروط: فلا تجب على أنثى، ولا على عبد، ولا مسافر، ولا مقيم ليس بقريب منها. وزاد التونسي في الشروط الصحة؛ لكونها لا تجب على مريض. ولا إشكال في عدم وجوبها على المرأة، وتجب على المسافر إذا نوى إقامة] 89/أ [أربعة أيام. قاله في المدونة. وكونها لا تجب على العبد هو المعروف من المذهب. وأضاف اللخمي للمذهب قولاً بالوجوب، وتعلق بقول ابن شعبان في مختصر ما ليس في المختصر: المشهور من المذهب سقوطها عن العبد. قال: وقال مالك: من قدر من العبيد على إتيان الجمعة فليأتها، ويلزمون ذلك، ويقامون من حوانيت ساداتهم؛ لأنهم إذا لحقوا بها كانوا من أهلها. المازري: وقد أخل في النقل بقوله: لأنهم إذا لحقوا بها كانوا من أهلها. وهذه الزيادة تشير إلى أنها غير واجبة في الأصل عليهم. ونقل المازري عن ابن القصار أنه نقل خلافاً بين أصحابنا في الوجوب، إذا أسقط السيد حقه. واستحب مالك للمكاتب حضورها،

وكذلك العبد إذ أذن له سيده، والصبي يستحب له الحضور، وهل يستحب للمسافر حضورها؟ قال بعضهم: لم أجد فيه نصاً. وينبغي أن يفصل، فإن كان لا مضرة عليه في الحضور ولا يشغله عن حوائجه فيستحب الحضور، وإلا فهو مخير. وكل من حضرها ممن لا تجب عليه نابت له عن ظهره، ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا في المسافر، فلابن الماجشون في الثمانية: لا تجزئه ولو كان مأموماً. قال: ولو كانت صلاته ركعتين لأنه صلاها بنية الجمعة. وذكر في حد القرب ثلاثة أقوال: المشهور: ثلاثة أميال. وقيل: ستة. وقيل: بريد. ابن راشد: ولم أقف على هذين القولين بعد البحث عنهما. انتهى. وإنما حكاهما الباجي والمازري فيمن كان بقرية قريبة. وإن ابن حبيب قال: لا يتخذ بها جامع حتى تكون على مسافة بريد فأكثر. وقال يحيى بن عمر: لا يجمعوا حتى يكونوا على ستة أميال. وقال زيد بن بشير: يتخذون جامعاً إن كانوا على أكثر من فرسخ. الباجي: وهو الصحيح عندي؛ لأن كل موضع لا يلزمهم الجمعة، وكملت فيهم الشروط لزمتهم إقامتها. وكذلك قال ابن هارون أن الخلاف الذي ذكره المصنف إنما هو فيمن ذكرناه لا فيما ذكره المصنف. ولعل المصنف بنى على أحد القولين في أن لازم القول قول؛ لأنه يلزم من الخلاف الذي ذكرناه الخلاف الذي ذكره، والله أعلم. وقوله: (وهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَبْلُغُهُ الصَّوْتُ الرَّفِيعُ) أي: إذا كانت الأرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والمؤذن صيت. وفي مسلم: أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. وسأله أن يرخص له في الصلاة في بيته، فرخص له. فلما ولى الرجل قال: "أتسمع النداء؟ " قال: نعم. قال: "أجب". وفي أبي داود أنه عليه الصلاة والسلامة قال: "الجمعة على من يسمع النداء". وليس المراد من الحديثين أن الوجوب متعلق بنفس السماع، وإلا لسقطت على الأصح، ومن هو في مكان منخفض، وإنما هو متعلق بمحل السماع، والله أعلم. وقوله:

(والْمُعْتَبَرُ طَرَفُ الْبَلَدِ) أي: إذا قلنا بالتحديد بثلاثة فهل يعتبر مبدأها من طرف البلد أو المنار؟ ومقتضى كلامه أن الأول هو المذهب، وإنما هو منقول عن ابن عبد الحكم. والثاني هو الذي قاله عبد الوهاب وغيره، وهو مقتضى قول مالك في المجموعة لقوله: عزيمة الجمعة على من كان بموضع يسمع منه النداء، وذلك ثلاثة أميال. وعلى هذا فهمه اللخمي وغيره، وصدر به صاحب العمدة، ثم عطف الأول في كلام المصنف عليه، فقيل: وهو الظاهر؛ لأن التحديد للثلاث بالسماع، والسماع إنما هو من المنار. وقوله: (طَرَفُ الْبَلَدِ) أي: من المكان الذي تقصر منه الصلاة. هكذا نقل اللخمي، والمازري، وصاحب البيان هذا القول وهو الصواب، لا ما قاله ابن بشير. اختلف هل يعتبر هذا المقدار من المنار أو سور البلد. وهذا الخلاف إنما هو في حق الخارج عن البلد، وأما من فيها فيجب عليه ولو كان من المسجد على ستة أميال. رواه علي بن مالك، قال في المقدمات: وهو تفسير للمذهب. وهل الثلاثة تحديد؛ فلا تجب على من زاد عليها الشيء اليسير؟ أو تقريب؟ وهو مذهب المدونة فتجب قولان. واعلم أن لمن وجبت عليه الجمعة حالتين: إما أن يكون قريباً، وإما أن يكون بعيداً. فالبعيد يجب عليه السعي قبل النداء بمقدار ما يدرك، وهو متفق عليه. وأما القريب فقال الباجي وصاحب المقدمات: اختلف متى يتعين إقباله إليها؟ فقيل: إذا زالت الشمس. وقيل: إذا أذن المؤذن. ولا اختلاف في هذا إنما هو على اختلافهم في وجوب شهود الخطبة. فمن أوجب شهودها على الأعيان أوجب على الرجل الإتيان من أول الزمان ليدركها، ومن لم يوجب شهودها على الأعيان لم يوجب على الرجل الإتيان إلا بالأذان؛ لأنه معلوم أنه إذا لم يأت حتى أذن المؤذن أنه تفوته الخطبة أو بعضها. وكذلك أيضاً يختلف في البعيد، هل يجب عليه السعي ليدرك الصلاة أو الخطبة على هذا الاختلاف. الباجي: ورأيت للشيخ أبي إسحاق نحوه.

فرع: ] 89/ب [فإن كان منزله أبعد من ثلاثة أميال فكان في وقت السعي في ثلاثة أميال، فإن كان مجتازاً لم يجب عليه السعي، وإن كان مقيماً فله حكم المنزل. قاله الباجي. وشُرُوطُ أَدَائِهَا: إِمَامٌ، وجَمَاعَةٌ، وجَامِعٌ، وخُطْبَةٌ، وتَجِبُ إِقَامَتُهَا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ أي: أن شروط الأداء ما يطلب من المكلف، فلا تؤدي إلا بهذا الأربعة الشروط لفعله عليه الصلاة والسلام. والفرق بين شروط الوجوب وشرط الأداء أن كل ما لا يطلب من المكلف كالذكورية والحرية يسمى شرط وجوب، وما يطلب منه كالخطبة والجماعة يسمى شرط أداء. هكذا قال ابن عبد السلام. وقوله: (وتَجِبُ ... إلخ) أي: من تمكن من جميع هذه الشروط الأخيرة وجبت عليه إقامتها. والباء في (بِالتَّمَكُّنِ) للسببية. ولا يُشْتَرَطُ إِذْنُ السُّلْطَانِ عَلَى الأَصَحِّ الأصح عبر عنه ابن راشد بالمشهور، لكنه يستحب إذنه. والقول بأن إذنه من شروط الأداء نقله يحيى بن عمر، فقال: الذي أجمع عليه مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة شروط: المصر، والجماعة، والإمام الذي تخاف مخالفته، فمتى عُدم شيء من هذه لم تكن جمعة. وقال ابن مسلمة في المبسوط: لا يصليها إلا السلطان، أو مأمور، أو رجل مجمع عليه، ولا ينبغي أن يصليها إلا أحد هؤلاء. ابن عبد السلام: ولا يريد من عده شرطاً أنه يحتاج إلى إذن في كل جمعة، بل تكفي أول مرة. فرع: إذا عطل الإمام الجمعة أو نهاهم عنها فقال مالك وابن القاسم: إذا قدروا على إقامتها فعلوا. هكذا نقل اللخمي. ونقل غيره أن مالكاً قال في المجموعة: إن أمنوا أقاموها، وإن كان على غير ذلك فصلى رجل الجمع بغير إذن الإمام لم تجزئهم. يريد: لأن مخالفة الإمام لا تحل. وما لا يحل فعله لا يجزئ عن الواجب.

وفِي كوْنِ الإِمَامِ مُقِيماً، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ مُسْتَخْلَفاً صَحَّتْ. وفِيهَا: إِذَا مَرَّ الإِمَامُ الْمُسَافِرُ بِقَرْيَةِ جُمُعَةٍ فَلْيَجْمَعْ بِهِمْ القول بالصحة مطلقاً لأشهب وسحنون؛ لأنه لما حضرها صار من أهلها. ومقابله هو المشهور؛ لأنها لما لم تجب عليه صار كالمتنفل. والتفرقة نقلها المازري عن مطرف وابن الماجشون، ووجهها ظاهر، وما ذكره عن المدونة قال: هو غير مختلف فيه؛ لأن نائبه يصلي بهم، فمن له الصلاة بطريق الأصالة أولى. قال الباجي: والمستحب أن يصلي بهم الإمام دون الولي، فإن صلى الولي جازت الصلاة. فرع: وإذا قلنا أن الإمام يجمع فهل ذلك واجب عيه، وقد لزمته الجمعة، أم جائز مستحب؟ قال في التنبيهات: ظاهر المدونة والموطأ أنه ليس بواجب عليه. وأطلق الباجي وجوب ذلك عليه، وعلله بأن الجمعة تجب على واليها لأنه مستوطن، وإذا وجبت على واليها فتجب على مستنيبه. عياض: ورد غيره هذا من قوله. ولا تُجْزِئُ الأَرْبَعَةُ ونَحْوُهَا، ولابُدَّ مِمَّنْ تَتَقَرَّى بِهِمْ قَرْيَةٌ مِنَ الذُّكُورِ الأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ بِمَوْضِعٍ يُمْكِنُ الثُّوَاءُ فِيهِ مِنْ بِنَاءٍ مُتَّصِلٍ أَوْ أَخْصَاصٍ مُسْتَوْطِنِينَ عَلَى الأَصَحِّ ... لما ذكر أن الجماعة شرط بيَّن أن الجماعة هنا أخص من الجماعة في غيره. والمعروف لا حد لها بل ضابطها ما ذكره المصنف أن يكونوا بحيث تتقرى بهم قرية؛ أي: مستغنين عن غيرهم آمنين. وروى عن مالك في الواضحة: إذا كانوا ثلاثين رجلاً وما قاربهم جمعوا، وإن كانوا أقل من ثلاثين لم تجزئهم. القابسي: وما علمت أن أحداً ذكر عن مالك في ذلك حداً إلا هذا. وفي مختصر ما ليس في المختصر: إذا كانت قرية وفيها خمسون رجلاً ومسجد يجمعون فيه الصلاة فلا بأس أن يصلوا صلاة الكسوف.

اللخمي وغيره: وعلى هذا لا يصلون الجمعة إلا أن يكونوا هذا القدر؛ لأن الجمعة أولى أن يطلب لها ذلك. وذكر في اللمع عن بعض الأصحاب اعتبار عشرة، وذكر غيره قولاً باثنى عشر. ابن عبد السلام: الذي يبين أن العدد المشترط إنما شرط في ابتداء إقامة الجمعة، لا في كل جمعة كما جاء في حديث العير أنه: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. وقوله: (بِمَوْضِعٍ يُمْكِنُ التُّوَاءُ) أي: صيفاً وشتاء. والثواء بالثاء المثلثة: الإقامة، وأما المثناة فهو: الهلاك. وقوله: (أَوْ أَخْصَاصٍ مُسْتَوْطِنِينَ) عطف على قوله: (مِنْ بِنَاءٍ مُتَّصِلٍ). وانتصب (مُسْتَوْطِنِينَ) على الحال من (الذُّكُورِ الأَحْرَارِ)، وعلى الأصح راجع إلى قوله: (مُسْتَوْطِنِينَ). وعبر ابن شاس عن الأصح بالمعروف، ومقابله لا يشترط الاستيطان ويكتفي بالإقامة. فإن قلت: هل يصح أن يكون قوله: (عَلَى الأَصَحِّ) راجعاً إلى قوله: (أَوْ أَخْصَاصٍ)، ويكون مقابله ما تقدم من كلام يحيى بن عمر أنها لا تجب إلا بالمصر، فإن الأصح عدم اشتراط ذلك. قيل: لا؛ لأن قوله بعد هذا: (وعَلَيْهِمَا ... إلخ) يرفعه ويعين الوجه الأول. وعَلَيْهِمَا الْخِلافُ فِي جَمَاعَةٍ مَرُّوا بِقَرْيَةٍ خَالِيَةٍ، فَنَوَوُا الإِقَامَةَ بِهَا شَهْراً أي: فإن اشترطنا الاستيطان لم تجب عليهم] 90/أ [جمعة، ولو نووا أكثر من ذلك؛ لأن الاستيطان على ما قاله الباجي: المقام بنية التأبيد. ولو اكتفينا بمطلق الإقامة وجبت. وذكره الشهر من باب التمثيل، وإلا فالإقامة عند من يكتفي بها تحصل بأربعة أيام. وفِي اعْتِبَارِ مَنْ لا تَجِبُ عَلَيْهِمْ مَعَهُمْ كَالْمُسَافِرِينَ والْعَبِيدِ قَوْلانِ أي: إذا كن من تجب عليهم لا تنعقد بهم الجمعة، فانضم إليهم من لا تجب عليهم فهل تنعقد أم لا؟ بناء على أن الإتباع، هل تعطي حكم متبوعها أو تستقل؟ ومثل ابن بشير وابن شاس بالصبيان، والعبيد، والمسافرين.

ابن هارون: وهو وهم. أعني جريان الخلاف في الصبيان، إذ لا اختلاف في اشتراط الإسلام والبلوغ والعقل فيمن تنعقد بهم الجمعة، وإنما الخلاف في العبيد، والنساء والمسافرين. ومذهب سحنون أنها لا تنعقد بهم. حكاه ابن عات، فعلى هذا من لا تجب عليهم الجمعة ثلاثة أصناف: صنف لا تجب عليهم، وإن حضروها وجبت عليهم وعلى غيرهم بسببهم وهم ذوو الأعذار. وصنف لا تجب عليهم، وإن حضروها لم تنعقد بهم وهم الصبيان. وصنف لا تجب عليهم، واختلف هل تنعقد بهم؟ وهم النساء والعبيد والمسافرون. انتهى. ويُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُمْ إِلَى تَمَامِهَا. وفِيهَا: إِنْ لَمْ يَاتُوا بَعْدَ انْتِظَارِهِ صَلَّى ظُهْراً. وقَالَ أَشْهَبُ: لَوْ تَفَرَّقُوا بَعْدَ عَقْدِ رَكْعَةٍ أَتَمَّهَا جُمُعَةً أي: يشترط بقاء الجماعة التي تنعقد بهم الجمعة إلى تمام الصلاة، وما صدر به المصنف صرح في الجواهر بمشهوريته، ونص سحنون في المجموعة على عدم الصحة، ولو تفرقوا في التشهد. وقاسه أشهب على المسبوق أو الراعف. ابن راشد: جوابه أن المسبوق أو الراعف أتى بركعة قد تقدمت له شروطها بخلاف التفرق. وحكى في الكافي عن مالك أنه يتمها جمعة إذا لم يبق معه إلا اثنان سواه. وقوله: (بعد انتظاره) قال التونسي: مذهب ابن القاسم في الإمام إذا هرب عنه الناس، أو تأخر الإمام أن الإمام والناس ينتظرون، إلا أن يخافوا دخول وقت العصر، فإن خافوا دخول وقت العصر صلوا ظهراً أربعاً، ثم لا جمعة عليهم بعد ذلك. انتهى. وفي كتاب ابن سحنون في تخلف الإمام أنهم ينتظرونه ما لم تصفر. وأنكره سحنون، وقال: بل ينتظرونه، وإن لم يدركوا من العصر قبل الغروب إلا بعضها. قال: وربما تبين لي أنهم يبقون أربع ركعات للعصر. أبو محمد: يريد سحنون إذا رجوا إتيانه، فأما إن أيقنوا بعدم إتيانه فلا يؤخروا الظهر. وكذا قال سحنون: إذا هرب الناس عن الإمام وأيس من رجوعهم أنه لا يؤخر ولو كان قد

أحرم، أو عقد ركعة كمل ظهراً على إحرامه. ولو لم ييأس جعل ما هو فيه نافلة، وانتظرهم حتى لا يبقى من النهار إلا قدر ما تصلي فيه الجمعة. أبو محمد: يريد: ويخطب. فرع: لو تفرق الناس عنه ولم يبق معه إلا عبيد أو نساء، فقال أشهب: يصلي بهم الجمعة. وكذلك على أصله المسافرون. وقال سحنون: لا يجمع إلا أن تبقى معه جماعة من الذكور الأحرار البالغين. المازري: وأشار بعض المتأخرين إلى احتمال في قول أشهب، وأرى أنه يمكن كونه تكلم في هروبهم عنه بعد إحرامه، وحمل غيره من الأشياخ الرواية على ظاهرها ورأى أنها تنعقد بهم عنده على كل حال. قَالَ الْبَاجِيُّ: والْجَامِعُ شَرْطٌ بِاتّفَاقٍ، واسْتِقْرَاءُ الصَّالِحِيِّ غَلَطٌ، وهُوَ الْمَسْجِدُ الْمُتَفَّقُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. والْبَرَاحُ أَوْ ذُو بُنْيَانٍ خَفِيفٍ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ .... الجامع أخص من المسجد. قال الباجي في منتقاه: ولا خلاف أن الجامع شرط الإخلاف من لا يعتد بخلافه مما نقله القزويني عن أبي بكر الصالحي، وتأوله على المدونة، من قوله أن الجمعة تقام في القرية المتصلة البنيان التي فيها الأسواق، وترك مرة ذكر الأسواق. قال الصالحي: لو كان من صفة القرية أن يكون الجامع فيها شرطاً لذكره. وهذا عندي غير صحيح؛ لأنه إنما ذكر ما يختص بالقرية دون أن يذكر ما هو شرط منفرد عنها. قال: وليس القزويني ولا الصالحي بالموثوق بهما في النقل والتأويل، والصالحي مجهول. انتهى. وأنكر في التنبيهات قول الباجي أنهما مجهولان؛ لأن القزويني إمام مشهور في مذهب مالك، وأما الصالحي فهو أبو بكر بن صالح إمام تلك الطبقة. قال: وقد ذكر ابن محرز مسألة لأصحابنا موافقة لما أشار إليه القزويني، وتأوله الصالحي؛ وهي لو اجتمع جماعة أساري في بلاد العدو وبمثلهم تجب الجمعة، وخلي العدو بينهم وبين إقامة دينهم أنهم

يقيمون الجمعة والعيدين، كانوا في سجن أو غيره، ومعلوم أن سجن الكفار لا يمكن اتخاذ المسجد فيه. قال في التنبيهات: وظاهر المدونة وقول عامة أصحابنا أن الجامع شرط، وإنما اختلفوا هل هو شرط في الوجوب والصحة أو في الصحة فقط؟] 90/ب [وكذلك نقل صاحب المقدمات: أما المسجد فقيل: من شرائط الوجوب والصحة جميعاً. وهذا على قول من يرى أنه لا يكون مسجداً إلا ما كان له سقف؛ لأنه قد يعدم المسجد على هذه الصفة، وقد يوجد. فإذا عدم كان من شرائط الوجوب، وإذا وجد كان من شرائط الصحة. وعلى قياس هذا القول أفتى الباجي في أهل قرية انهدم مسجدهم وبقى لا سقف له فحضره الجمعة قبل أن يبنوه، أنهم لا يصح لهم أن تجمع الجمعة فيه، ويصلون ظهراً أربعاً، وهو بعيد؛ لأن المسجد إذا حصل مسجداً لا يعود غير مسجد إذا انهدم، بل يبقى على ما كان عليه من التسمية والحكم، وإن كان لا يصح أن يسمى الموضع الذي يتخذ لبناء المسجد مسجداً قبل أن يبني وهو فضاء. وقد قيل فيه –أعني المسجد –أنه من شروط الصحة دون الوجوب. فعلى هذا قول من يقول أن المكان من الفضاء يكون مسجداً بتعيينه وتحبيسه للصلاة فيه، واعتقاد اتخاذه مسجداً إذ لا يعدم موضع يصح أن يتخذ مسجداً، فلما كان لا يعدم ولا يقدر عليه في كل حال صار في شرائط الصحة كالخطبة، وكسائر فرائض الصلاة. فهذا وجه هذا القول، ولا يصح أن يقول أحد في المسجد أنه ليس من شرائط الصحة، إذ لا اختلاف في أنه لا يصح أن تقام الجمعة في غير مسجد. انتهى. وهل يشترط في الجامع العزم على إيقاعها على التأبيد فيه؟ فذهب الباجي إلى الاشتراط، وأنهم لو أصابهم ما يمنعهم من الجامع لعذر لم تصح لهم الجمعة في غيره، إلا أن يحكم له بحكم الجامع وينقل الجمعة إليه. ووافقه ابن رشد في مسائله المجموعة عليه، وخالفه في

مقدماته قال: وقد أقيمت الجمعة بقرطبة في مسجد أبي عثمان دون أن تنقل الجمعة إليه على التأبيد، والعلماء متوافرون، ولو نقل الإمام الجمعة في جمعة من الجمع من المسجد الجامع إلى مسجد من المساجد من غير عذر لكانت الصلاة مجزئة. انتهى. وقوله: (وهُوَ الْمَسْجِدُ الْمُتَفَّقُ عَلَيْهِ) فيه نظر؛ لأن المسجد قد يثبت له هذا الحكم بتعيين الإمام إياه للجمعة، ولا يلزم فيه حصول الاتفاق. ولم يقل الباجي أن من شرط الجامع أن يكون متفقاً عليه، وإنما قال: وإنما يوصف بأنه جامع لاجتماع الناس كلهم فيه لصلاة الجمعة. وشرط ابن بشير في الجامع كونه مما يجمع فيه، قال: وأما المساجد التي لا يجمع فيها فلا تقام الجمعة فيها. وصَلاةُ الْمُقْتَدِينَ فِي رِحَابِهِ والطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ إِذَا ضَاقَ وإِنْ لَمْ تَتَّصِلِ الصُّفُوفُ، وإِذَا اتَّصَلَتْ وإِنْ لَمْ يَضِقْ صَحِيحَةٌ عَلَى الأَصَحِّ .... لهذه المسألة أربعة أقسام: إن ضاق المسجد واتصلت الصفوف صحت اتفاقاً. وعكسه إذا لم يضق ولم تتصل فظاهر المذهب عدم الصحة. وحكى المازري عن ابن شعبان فيمن صلى وبينه وبين الحوانيت عرض الطريق، ولم تتصل الصفوف من غير ضيق المسجد أن صلاته تجزئه. القسم الثالث: إذا ضاق ولم تتصل فهي صحيحة. ولا نعلم فيه خلافاً. الرابع: إذا اتصلت ولم يضق. حكى ابن بشير وابن راشد فيها قولين، وعبر ابن بشير عما عبر عنه المصنف بالأصح بالمشهور. وعلى هذا فقوله: (عَلَى الأَصَحِّ) راجع إلى المسألة الثانية؛ لأن الخلاف إنما هو فيها. وعلى هذا يكون خبر قوله (وصَلاةُ) محذوفاً؛ أي: وصلاة المقتدين في رحابه والطريق المتصلة به إذا ضاق وإن لم تتصل الصفوف صحيحة. فأُخذ من هنا صورتان: الأولى: إذا ضاق واتصلت. والثانية: إذا ضاق ولم تتصل. وإنما أُخذتا من المبالغة بإن في قوله: (وإِنْ لَمْ تَتَّصِلِ)، ولو أسقط إن من قوله: (وإِنْ لَمْ تَتَّصِلِ) لكان أولى؛ لأن قوله: (وإِنْ لَمْ يَضِقْ) يقتضي دخول صورتين:

الأولى: إذا اتصلت مع الضيق. والثانية: إذا اتصلت لا مع الضيق. وقد بينا أن الأولى من هاتين الصورتين لا خلاف فيها، وأنها داخلة في كلام المصنف أولاً، فلم يبق إلا أن يريد الصورة الثانية وهي: إذا ما اتصلت ولم يضق. وليس في كلامه تعرض لما إذا لم تتصل الصفوف ولم يضق؛ لأنه إنما تكلم إذا حصل أحد أمرين: إما الضيق، وإما الاتصال. وعلى هذا فلا يؤخذ منه عدم الصحة باتفاق إذا لم يضق ولم تتصل كما قال ابن عبد السلام. والرحاب فسرها بعضهم بصحن المسجد. ابن راشد: ورأيت من يحكي عن سند أنها البناء من خارج، وهو عندي أنسب؛ لأنه صحن المسجد من المسجد. انتهى. وفِي سُطُوحِه، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْمُؤّذِّنُ صَحَّتْ القول بالصحة مطلقاً لمالك، وأشهب، ومطرف، وابن الماجشون، وأصبغ، قالوا: وإنما تكره ابتداء. والقول بعدم الصحة لابن القاسم في المدونة: ويعيد أبداً. ابن شاس: وهو المشهور. والتفصيل لابن الماجشون أيضاً. ابن يونس: وقال حمديس: إذا ضاق المسجد جازت الصلاة على ظهره. وأَمَّا الدُّورُ] 91/أ [والْحَوَانِيتُ الْمَحْجُورَةُ بِالْمِلْكِ فَلا تَصِحُّ فِيهَا عَلَى الأَصَحِّ وإِنْ أَذِنُوا، فَإِنِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ إِلَيْهَا فَقَوْلانِ ... إنما لم تصح بالدور لبعد شبهها بالمسجد لأجل الحجر. والأصح مذهب المدونة، قال فيها: وإن أذن أهلها. قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: فإن فعل فعليه الإعادة وإن ذهب الوقت. اللخمي: وقال ابن نافع: يكره أن يتعمد ذلك إذا لم تتصل الصفوف، وإن امتلأ المسجد والأفنية فذلك جائز. انتهى. وهذا القول هو مقابل الأصح، وأحد القولين في قوله: (فَإِنِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ إِلَيْهَا فَقَوْلانِ). وقوله: يكره إذا لم تتصل هو مقابل الأصح. وقوله: (وإن امتلأ المسجد) جاز، وهو أحد القولين اللذين ذكرهما المصنف: إذا

اتصلت الصفوف. وفي كلام المصنف نظر؛ لأن ظاهره أن القولين في الصحة، وظاهر كلام غيره أنهما في الجواز. ففي الجواهر: وأما الدور والحوانيت المحجورة فلا تجوز صلاة الجمعة فيها وإن أذن أهلها. وقال ابن مسلمة في المبسوط: وإنما قال مالك في هذه الدور التي لا تدخل إلا بإذن: لا يصلي فيها إذا كانت الصفوف غير متصلة إليها، وأما لو امتلأ المسجد ورحابه حتى تتصل إليها الصفوف فلا بأس، وتصير الدور بمنزلة حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إذا قلنا بالمنع على الإطلاق في هذه المواضع التي لا تدخل إلا بإذن، أو بالمنع بشرط ألا تتصل الصفوف على ما أشار إليه ابن مسلمة، فلو خالف المصلي وركب النهي، فهل تصح صلاته أم لا؟ ذكر ابن مزين عن ابن القاسم أنه يعيد أبداً كما تقدم. وذكر اللخمي عن ابن نافع أنه قال: أكره تعمد ذلك، وأرجو أن تجزئه صلاته. انتهى. وفِي تَعَدُّدِهَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ ذَا نَهْرٍ أَوْ مَعْنَاهُ مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ جَازَ، وعَلَى الْمَنْع لَوْ أُقِيمَتْ جُمُعَتَانِ، فَالْجُمُعَةُ لِلْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ ... المشهور: المنع؛ رعاية لفعل الأولين، وطلباً لجمع الكلمة. والجواز ليحيى بن عمر، والتفصيل لابن القصار، قال: إذا كانت المدينة ذات جانبين كبغداد، فيشبه على المذهب أن يجمعوا. ورأى أنها تصير بذلك كالبلدين. خليل: ولا أظنهم يختلفون في الجواز في مثل مصر وبغداد. وقوله: (أَوْ مَعْنَاهُ) أي: مما يعد حائلاً كسور ونحوه. وقوله: (فَالْجُمُعَةُ لِلْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ) قال علماؤنا: ولو سبق في الفعل ولو كان الإمام في الجديد. وعَلَيْهِ لَوْ أُقِيمَتْ بِقَرْيَةٍ أُخْرَى اعْتُبِرَتْ ثَلاثَة أَمْيَالٍ، وقِيلَ: سِتَّةٌ. وَقِيلَ: بَرِيدٌ أي: وعلى المنع. وتصوره ظاهر.

والْخُطْبَةُ وَاجِبَةٌ خِلافاً لابْنِ الْمَاجِشُونِ شَرْطٌ عَلَى الأَصَحِّ أي: الأصح وجوب الخطبة. ومقابله قول ابن الماجشون بالسنية. هكذا نقله اللخمي وغيره. قوله: (عَلَى الأَصَحِّ) راجع إلى قوله: (وَاجِبَةٌ)، ولا يعود إلى قوله: (شَرْطٌ) لأن من قال بالوجوب قال بالشرطية. ولم أر في كلام أصحابنا قولاً بالوجوب دون الشرطية. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وأَقَلُّهُ مَا يُسَمَّى خُطْبَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، وقِيلَ: أَقَلُّهَا حَمْدُ اللهِ عَزَ وجَلَّ والصَّلاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وتَحْذِيرٌ وتَبْشِيرٌ وقُرْآنٌ. القول الثاني نسبه في الجواهر لابن العربي، وهو أخص من الأول؛ لأن الكلام الموصوف بالصفة المذكورة لا خطبة عند العرب، وليس كل ما يسمى خطبة عند العرب مشتملاً على ما ذكر. قاله ابن عبد السلام. ابن بزيزة: والمشهور هو قول ابن القاسم. ونص ابن بشير على أنه لا خلاف في الصحة إذا فعل ما قاله في القول الثاني. وروى عن مالك أنه إن سبح أو هلل أعاد ما لم يصلِّ، فإن صلى أجزأه. المازري: وفي الثمانية عن مطرف: فإن تكلم بما قل أو كثر صحت جمعته. وفِي وُجُوبِ الثَّانِيَةِ قَوْلانِ القول بوجوبها عزاه اللخمي لابن القاسم. ابن الفاكهاني في شرح العمدة: وهو المشهور. والثاني لمالك في الواضحة، وقال: من السنة أن يخطب خطبتين، فإن نسي الثانية أو تركها أجزأتهم. وأنكر ابن بشير هذا الخلاف. وقوله: لا يوجد في المذهب نص على اشتراط الخطبتين ليس بقوي. والثانية كالأولى، إلا أنه يستحب أن يقرأ في الأولى، واستحبوا سورة كاملة من قصار المفصل. وكان عمر بن عبد العزيز يقرأ مرة {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ}، ومرة {وَالْعَصْرِ}. وذكر ابن حبيب أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يدع أن

يقرأ في خطبته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} إلى قوله: {فَوْزاً عَظِيماً}. واستحب مالك أن يختم الثانية بأن يغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين. وإن قال: اذكروا الله يذكركم أجزأ، والأول أصوب. وفِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ قَوْلانِ] 91/ب [ثُمَّ فِي شَرْطِيَّتِهَا قَوْلانِ قال في المدونة: إذا أحدث الإمام في الخطبة فلا يتم بهم بقيتها، واستخلف من يتم بهم. سند: أما النهي عن التمادي فيها مُحدثًا فمتفق عليه. واختلف إذا تمادى فيها محدثاً، فقال عبد الوهاب: إذا خطب محدثاً كره له ذلك وأجزأته. وقال مالك في المختصر: من خطب غير متوضئ ثم ذكر فتوضأ وصلى أجزأه. وقاله ابن الجلاب. سند وابن راشد: وهو المعروف. ابن الفاكهاني: وهو المشهور. وقد أساؤوا القول بالشرطية. الأبهري: وهو قول سحنون في كتاب ابنه: لقوله إذا خطب جنباً أعاد الصلاة أبداً. وقيده ابن أبي زيد فقال: يريد وهو ذاكر. فإن قلت: كيف شهر عدم وجوب الطهارة، وظاهر ما حكيته عن المذهب خلافه؛ لأن أمره بالاستخلاف دليل على أنها لا تصح بلا طهارة؟ فالجواب أنه أمره بالاستخلاف لئلا تفوته الصلاة إذا لم يستخلف إلا بعد تمام الخطبة. أشار إلى ذلك عياض، وغيره. لكن رده عياض بأن هذا لا يلزم إذ لا يلزمه لو أحدث بعد تمامها الاستخلافُ، بل يتطهر ويصلي بهم إذ ليس مقدار طهارته مما يوجب إعادة الخطبة. والقول بالوجوب لم أره معزواً، بل قال ابن هارون: من قال بالوجوب قال بالشرطية. قال: وما ذكره المصنف من أنه اختلف على القول بالوجوب مما انفرد به المصنف. وفِي وُجُوبِ الْجِلْسَتَيْنِ والْقِيَامِ لَهُمَا قَوْلانِ الأولى: وقت الأذان. والثانية: بين الخطبتين، ومقدارها عند علمائنا قدر الجلوس بين السجدتين. وقاله ابن القاسم. (والْقِيَامِ) أي: للخطبتين. قال القاضي أبو بكر: الجلستان

والقيام لهما واجبان. وهو مقتضى القول، فحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام على الوجوب. وقال المازري: الخطبة من شرطها القيام، والجلوس بين الخطبتين. وأجازها أبو حنيفة جالساً. وقدر عياض كلامه في القيام، وذكر أن المذهب وجوبه بلا اشتراط، ثم قال: اختلف في الجلوس، والذي عليه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وجمهور العلماء أنه سنة. ثم قال: وقال الشافعي: هي فرض شرط. الطحاوي: ولم يقل به أحد غيره. انتهى باختصار. قال عبد الوهاب: السنة أن يخطب قائماً، فإن خطب جالساً فقد أساء، ولا تبطل خطبته خلافاً للشافعي لنا أنه ذكر فلم يشترط فيه القيام كالأذان. فظاهره أنه المذهب عنده. وكذلك نص ابن حبيب وابن القصار على أن القيام سنة فقط. وذكر ابن عبد البر في الجلوس الأول قولين: قولاً بالسنة. وقولاً بالاستحباب. ابن هارون: والمشهور أن الجلوس الأول ليس بشرط في صحة الخطبة؛ لأنه إنما كان للأذان. وشهر الباجي سنية الثاني أيضاً. وفِي حُضُور الْجَمَاعَةِ لَهَا قَوْلانِ. وفِيهَا: ولا تُجْمَعُ إِلا بِالْجَمَاعَةِ، والإِمَامُ يَخْطُبُ أي: وفي وجوب حضور الجماعة للخطبة قولان. ابن القصار: وليس لمالك في ذلك نص، وأصل مذهبه عندي أنها لا تصح إلا بحضور الجماعة. وكذلك قال القاضي أبو محمد: هو الجاري على المذهب. وهو اختيار ابن محرز. عياض: وهو ظاهر المدونة. وكذلك قال ابن العربي: الصحيح عندي أنها لا تجزئ إلا بحضور الجماعة؛ لأن الخطبة بغير جماعة لا معنى لها. وأخذ الباجي ذلك من قوله في المدونة: لا تجمع إلا بالجماعة، والإمام يخطب. ولذلك ساقه المصنف استشهاداً للوجوب، وعلى هذا فتكون الواو للحال، وهو الظاهر. ورد المازري وابن بشير هذا الأخذ لإمكان أن يكون إنما أراد التعرض لعد الشروط على الجملة، لا سيما وهذا الكلام إنما

أورده في المدونة عقيب مسألة: الإمام الذي يخطب فيهرب الناس عنه ولا يبقى معه إلا الواحد أو الاثنان أنهم إن لم يرجعوا إليه ليصلي بهم الجمعة صلى ظهراً أربعاً. قال: لأن الجمعة لا تكون إلا بالجماعة والإمام يخطب. وهذا يدل على أن الجماعة شرط في الصلاة لا في الخطبة. ابن بشير: على أنا لا ننازعه أن اللفظ محتمل لما قال. وهذه المسألة لم أجدها في التهذيب، وحملها بعضهم على معنى أن غير الإمام لا يخطب، وفيه تكلف. والقول بعدم وجوب الحضور قال صاحب الإكمال: هو ظاهر قول جماعة من أصحابنا. وأشار عياض إلى المنازعة في اللفظ الذي أورده الباجي فقال: والذي في كتب أشياخنا وسائر الأصول، وعليه اختصر المختصرون، إلا بالجماعات والإمام بالخطبة. خليل: والذي رأيته في المنتقى إنما هو والإمام في الخطبة، فانظره. ويَتَوَكَّأُ عَلَى عَصا أَوْ قَوْسٍ لما في أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام قام متوكئاً على عصا أو قوس. ورجح بعضهم العصا ليطمئن، ورأى بعضهم مع ذلك أو السيف. وشرع التوكؤ لاطمئنان النفس. وقيل: لمنع اليدين من العبث وإمساك اللحية وغير ذلك. ومِنْ شَرْطِهَا أَلا يُصَلَّيَ غَيْرُهُ إِلا لِعُذْرٍ، فَإِنْ عَرَضَ بَيْنَهُمَا ويَزُولُ عَنْ قُرْبٍ فَفِي اسْتِخْلافِهِ] 92/أ [قَوْلانِ ... قوله: (ومِنْ شَرْطِهَا أَلا يُصَلَّيَ غَيْرُهُ) أي: غير الخاطب؛ لأنه خلاف فعله عليه الصلاة والسلام وفعل الخلفاء بعده وغيرهم إلى هلم جراً. قوله: (إِلا لِعُذْرٍ) كما لو طرأ عليه مرض أو جنون، فإن عرض بينهما أي عذر بين الخطبة والصلاة، وكان يزول عن قرب فقولان: أظهرهما عدم الاستخلاف. ابن هارون: والقولان في وجوب الانتظار له. والوجوب لابن كنانة وابن أبي حازم.

فَلَوْ قُدِّمَ وَالٍ، وقَدْ شَرَعَ فَقِيلَ: يَبْتَدِئُهَا الْقَادِمُ أَوْ يَبْتَدِئُ الآنَ بِإذْنِهِ، وقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَةً. وقَالَ أَشْهَبُ: لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِخُطْبَةِ الأَوَّلِ، وقَدْ قُدِّمَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَفَعَلَ ذَلِكَ ... أي: إذا وجده في الخطبة أو في أثناء الصلاة، فقال مالك في المدونة: إن خطب الأول، ثم قدم وال سواه لم يصلِّ بهم بخطبة الأول، وليبتدئ هذا القادم الخطبة. قال ابن القاسم في العتبية: فإذا أذن له في الصلاة فأرى أن يبتدئ خطبة ثانية. وهذا هو القول الذي ابتدأ به المصنف. قال سحنون: فإن صلى القادم بخطبة الأول أعادوا أبداً. وقال ابن المواز: يبتدئها القادم كالقول الأول، إلا إذا أتم ركعة فإن الأول يتمها، ثم يعيدها القادم، ويعيد الخطبة. وقال أشهب: له أن يصلي بخطبة الأول. أي: وإن ابتدأ الخطبة فحسن. وبه قال مطرف وابن الماجشون، وبنوا الخلاف في هذا على الخلاف في النسخ، هل هو من حين النزول أو البلاغ؟ وما حكاه المصنف عن أبي عبيدة فهو معنى ما حكاه ابن حبيب، وكذلك حكاه في البيان. قال في البيان: ولا حجة فيه؛ لأنه إنما خطب خالد بإذن أبي عبيدة، وحينئذ يكون كالمستخلف. انتهى. وقال بعضهم: إنما جاءت الولاية لأبي عبيدة والصفوف مسوَّاة للقتال، فلم يظهر أبو عبيدة ذلك لئلا يقع- والحالة هذه- فشل مع كفاية خالد؛ لا أن ذلك في الجمعة. فرع: فلو قدم الثاني بعد الصلاة وفي الوقت سعة قال اللخمي: لا خلاف في نفي الإعادة هنا. وقاله ابن راشد. وحكي في النكت عن بعض أشياخه أنهم يعيدون الجمعة؛ لأن وقتها قائم، بخلاف ما فات وقته من جمع صلاها.

ويَجِبُ الإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ وإِنْ لَمْ تَسْمَعْ تصور كلامه ظاهر، ولا أعلم فيه خلافاً. وهل يجب على من هو خارج المسجد؟ حكي في البيان عن مطرف وابن الماجشون أنه لا يجب الإنصات حتى يدخل المسجد. قال: قيل: يجب عليه منذ يدخل رحاب المسجد التي تصلي فيها الجمعة. المازري: وروى ابن المواز عن مالك أنه قال: ينصت من هو في المسجد، ومن هو خارج عنه. والكلام عندنا يحرم بكلام الإمام لا قبل ذلك كما في الموطأ عن ابن شهاب: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. قال في المدونة: وإذا قام يخطب فحينئذ يجب قطع الكلا، واستقباله والإنصات إليه لا قبل ذلك. ويجوز الكلام بعد فراغه من الخطبة وقبل الصلاة، ومن أقبل على الذكر شيئاً يسيراً في نفسه والإمام يخطب فلا بأس، وأحب إلى أن ينصت، ويستمع. ثم قال: ولا بأس بالاحتباء والإمام يخطب، ولا يتكلم أحد في جلوس الإمام بين خطبتيه. انتهى. فرع: واختلف في الإمام إذا لغى فلمالك في المجموعة: إذا شتم الناس وألغى فعليهم الإنصات ولا يتكلمون. أشهب: ولا يقطع ذلك خطبته. ولمالك في العتبية، وابن حبيب: إذا خرج الإمام من خطبته إلى اللغو واشتغل بما لا يعني من قراءة كتاب فليس على الناس الإنصات إليه، والإقبال إليه. ولا يُسَلِّمُ ولا يَرُدُّ ولا يُشَمِّتُ أي: الداخل والإمام يخطب لا يسلم، وإن سلم لم يرد عليه. قاله مالك في المدونة. ومن عطس والإمام يخطب حمد الله تعالى سراً في نفسه، ولا يشمته غيره. ونقل ابن هارون عن مالك جواز رد السلام بالإشارة على المسلم في حال الخطبة، كالمسلم على

المصلي، ولم أر ما ذكره في كتب الأصحاب. قال مالك في العتبية: ولا يشرب الماء والإمام يخطب، ولا يدور على الناس يسقيهم حينئذ. فرع: وأما الإمام فيسلم إذا خرج على الناس اتفاقاً. والمشهور: لا يسلم إذا رقى المنبر. ابن يونس: لأنه لم يرد ذلك في شيء من الروايات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حبيب: إذا دخل فرقى المنبر سلم عن يمينه وشماله ركع أو لم يركع، وإن كان مع الناس فلا يسلم إذا جلس للخطبة. هكذا نقله الباجي. ولا يُصَلِّي التَّحِيَّةَ عَلَى الأَصَحِّ أي: لا يبتدئ الداخل التحية بعد خروج الإمام على الأصح، وأما لو ابتدأها قبل خروجه لم يقطعها وخففها. قال المازري: قال مالك في المجموعة: وإن دخل الإمام وقد بقي على الرجل آية في آخر ركعة فواسع أن يتمها. وعنه في العتبية: وإن كان في تشهد النافلة فليسلم ولا يتربص يدعو لقيام الإمام.] 92/ب [وقال ابن حبيب: لا بأس أن يطيل في دعائه ما أحب. وقال في مختصر ابن شعبان: إذا جلس الإمام على المنبر بعد أن دخل في النافلة فليتم ركعتين، ويقرأ في كل ركعة بأم القرآن وحدها، ومن خرج عليه الإمام وهو قائم في آخر ركعة من نافلة فواسع أن يتم ذلك، وإن كان يتشهد فليسلم، ولا يمكث حتى يفرغ من دعائه. انتهى. ومقابل الأصح للسيوري أن الركوع أولى، وهو مذهب الشافعي، لحديث سليك الغطفاني وفيه: أنه أمره صلى الله عليه وسلم بالركوع لما دخل وهو يخطب ورواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم أنه قال له عليه السلام لما جلس: "إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين خفيفتين، ثم ليجلس". ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت" معناه: فقد أثمت. واللغو: الإثم، نص عليه جماعة من أهل المذهب. وإذا

كان يأثم بمجرد قوله: أنصت. وهو أمر بمعروف لاشتغاله عن سماع الخطبة فالصلاة أولى. وما خرجه أبو داود والنسائي: أن رجلاً تخطى رقاب الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: "اجلس فقد آذيت" فأمره صلى الله عليه وسلم بالجلوس دون الركوع. قال ابن العربي: وحديثنا أولى؛ لاتصاله بعمل أهل المدينة. وتأول حديثهم على أن سليكاً كان مملوكا ودخل ليطلب شيئاً، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي ليتفطن له، فيتصدق عليه. ومن جهة القياس أن الإسماع واجب، والتحية ليست بواجبة، فالاشتغال بالواجب أولى. فرع: إذا ثبت أن الداخل والإمام جالس لا يركع، فأحرم جاهلاً أو غافلاً، فإنه يتمادى ولا يقطع على قول سحنون. ورواية ابن وهب عن مالك: وإن لم يفرغ حتى قام إلى الخطبة. وقال ابن شعبان في كتابه: يقطع. وكذلك لو دخل المسجد والإمام يخطب وأحرم لتادى على الأول دون الثاني. قال في البيان: إذ لا فرق بين أن يحرم والإمام يخطب، أو هو جالس على المنبر والمؤذنون يؤذنون؛ لقول ابن شهاب: وذلك لا يكون من قائله رأياً. قال: وهذا عندي في الذي يدخل المسجد تلك الساعة فيحرم، وأما من أحرم تلك الساعة من كان جالساً في المسجد لوجب أن يقطع قولاً واحداً، إذ لم يقل أحد بجواز التنفل له بخلاف الداخل، فإن بعض العلماء أجاز له التنفل لحديث سليك. والتَّعَوُّذُ، والصَّلاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. والتَّامِينُ عِنْدَ أَسْبَابِهَا جَائِزٌ، وفِي الْجَهْرِيَّة قَوْلانِ ... إنما جازت هذه الأشياء؛ لأنها كالمجاوبة للخطيب، ألا ترى أنه لو كلم الخطيب أحداً لأجابه، ولم يعد لاغياً. نص عليه ابن القاسم. وقوله: (عِنْدَ أَسْبَابِهَا جَائِزٌ) أي: يتعوذ عند ذكر النار، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ويؤمن إذا دعى.

ونقل الباجي الاتفاق على إجازة ذلك، قال: وإنما اختلفوا في صفة النطق به هل يؤمن سراً أو جهراً. وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف. والقول بإسرار ذلك لمالك، وصححه بعضهم. والقول بإجازة الجهر لابن حبيب، قال: ويجهر به جهراً ليس بالعالي. اللخمي: وسئل مالك عن التفات الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب، فقال: لا بأس به. ولم ير على من كان في الصف الأول أن يستقبل الإمام. وَيحْرُمُ الاِشْتِغَالُ عَنِ السَّعْيِ عِنْدَ أَذَانِ جُلُوسِ الْخُطْبَةِ وهُوَ الْمَعْهُودُ. قِيلَ: مَرَّةً وَقِيلَ: مَرَّتََيْنِ. وَقيل ثَلَاثاً. فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكَثُرُوا أََمَرَ بِِأَذَانٍ قَبْلَهُ عَلَى الزَّوْرَاء ثُمَّ نَقَلَهُ هِشَامٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَجعَلَ الأَخِيرَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَرَّةً ... قد تقدم ما يتعلق بوجوب السعي عند الأذان، وذكرنا الاختلاف هل يجب بالأذان أو بالزوال، وذكرنا أن ذلك خاص بالقريب، وأما البعيد فيجب عليه أن يسعى بقدر ما يلحق ذلك. وقوله: (الاِشْتِغَالُ) أي: بالبيع وغيره. فإن باع ففي فسخه خلاف. سيأتي ذلك في البيوع إن شاء الله تعالى. قال ابن بشير: قال الأشياخ: ومما ينخرط في سلك البيع الشرب من السقاء بعد النداء إذا كان بثمن، وإن لم يدفع إليه الثمن في الحال. قال: وهذا الذي قالوه ظاهر ما لم تدعُ إلى الشرب ضرورة. فرع: قال في النكت: وإذا انتقض وضوء الرجل يوم الجمعة وقت النداء عند منع البيع فلم يجد ما يتوضأ به إلا بثمن، فحكى ابن أبي زيد أنه يجوز شراؤه ليتوضأ به، ولا يفسخ شراؤه. انتهى. ونقله ابن يونس أيضاً. وقوله: (وهُوَ الْمَعْهُودُ) أي: في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم يؤذن على المنار وبين يديه كما يفعل اليوم. واختلف النقل، هل كان يؤذن بين يديه عليه السلام، أو على المنار؟ والذي نقله أصحابنا أنه كان على المنار. نقله ابن القاسم عن مالك في المجموعة، ونقله في النوادر، وذكر في

هذه الرواية أن المؤذن] 93/أ [واحد. ونقل في النوادر عن ابن حبيب أنه كان المؤذنون ثلاثة، يؤذن واحد بعد واحد. نقله ابن يونس وابن شاس، وكذلك نقل صاحب المعونة، وكذلك نقل ابن عبد البر في كافيه، ولفظه: قال مالك: الأذان بين يدي الإمام ليس من الأمر القديم. وقال غيره: هو أصل الأذان في الجمعة. وكذلك نقل صاحب تهذيب الطالب، والمازري. وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف؛ لقوله: (وَجعَلَ الأَخيرَ بَيْنَ يَدَيْهِ). ففي الاستذكار أن هذا اشتبه على قول بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام، كان في زمانه عليه السلام، وأبي بكر، وعمر، وأن ذلك حدث في زمان هشام. قال: وهو قول من قل علمه. ثم حكي حديث السائب الذي سيأتي. قال: وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهري عن السائب قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة، وأبي بكر، وعمر. انتهى. ابن عبد السلام: إن الصحيح أنه كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وهو الذي ركن إليه بعض أهل المذهب. قوله: (قيل: مَرَّةً ... إلخ) أي أنه اختلف في الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: كان مؤذن واحد. وقيل: اثنان. وقيل: ثلاثة. وفي البخاري، والترمذي، وصححه عن السائب بن يزيد: كان النداء أولاً يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهده صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلما تولى عثمان زاد الأذان الثالث، فأذن له على الزوراء فثبت الأمر على ذلك. فقوله: الثالث؛ يقتضي أنهم كانوا ثلاثة. وفي طريق آخر الثاني بدل الثالث، وهو يقتضي أنهما اثنان. زاد البخاري: ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم غير مؤذن واحد. والعمل الآن ببلاد المغرب على الثلاثة. والزوراء هو: مكان على السوق، وأمر عثمان بالأذان هناك ليأتي الناس من السوق. وما حكاه المصنف عن هشام لا يعترض عليه بأن سكنى هشام إنما كان بالشام؛ لجواز أن يكون أخره أو قدم المدينة وفعل ذلك. قوله: (ثُمَّ نَقَلَهُ هِشَامٌ إِلَى الْمَسْجِدِ) أي: نقل الذي كان على الزوراء إلى المسجد.

فرع: قال ابن حبيب: وينبغي للإمام أن يوكل وقت النداء من ينهي الناس عن البيع والشراء حينئذ، وأن يقيمهم من الأسواق من تلزمه الجمعة، ومن لا تلزمه للذريعة. وَتسْقُطُ بِمَرَضٍ أَوْ تَمْرِيضٍ قَرِيبٍ أَوْ لِكَوْنِهِ مُشْرِفاً أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ أََوْ لِجِنَازَةِ أَخٍ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: ولِغُسْلِ مَيِّتٍ عِنْدَهُ، فَإِنْ حَضَرُوهَا وَجَبَتْ .... قوله: (بِمَرَضٍ) أي: يتعذر معه الإتيان، أو لا يقدر إلا بمشقة شديدة. قال شيخنا رحمه الله تعالى: وإن قدر على مركوب بما لا يحجب به فينبغي أن يلزمه كالحج. قوله: (أَوْ تَمْرِيضٍ قَرِيبٍ) قيد المصنف التمريض بالقريب كابن شاس، قال: وفي معناه الزوجة والمملوك. ونحوه لابن بشير. والذي حكاه الباجي بغير تقييد، ولفظه: قال مالك، أو مريض يخاف عليه الموت. وهو ظاهر، إذا لم يكن له أحد وتكفل به، وقد صرح اللخمي بذلك. قوله: (أَوْ لِكَوْنِهِ مُشْرِفاً) أي: على الموت. والضمير في (كَوْنِهِ) عائد على القريب، وهذا ليس لأجل التمريض بل لما علم مما يوهم القرابة من شدة المصيبة. على أن كلامه في العتبية يقتضي أن هذا الحكم لا يختص بالقرابة؛ لأنه لما سئل مالك عن الرجل يكون معه صاحبه فيمرض مرضاً شديداً، أيدع الجمعة؟ قال: لا، إلا أن يكون على الموت. وقوله: (أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ) ابن عبد السلام: أي عن القريب. وقال شيخنا: بل عن المكلف كخوف ظالم يؤذيه في ماله أو نفسه، وهو أولى ويلزم. ابن عبد السلام: التكرار لأن ما ذكره داخل في التمريض. قوله: (أََوْ لِجِنَازَةِ أٍَخ) لا يريد من القرابة فقط، بل وأخوة الصداقة. ففي العتبية قال مالك في الرجل يهلك يوم الجمعة، فيختلف عليه الرجل من إخوانه: ينظر فيه أمره مما يكون من شأن الميت. قال مالك: لا أرى بذلك بأساً أن يتخلف في أموره، ورآه سهلاً. قال في البيان والمقدمات: ومعناه: إذا لم يكن له ما يكفيه أمره، وخاف عليه التغيير.

انتهى. ونص سحنون على أنه يحضر الجمعة إذا لم يخف تغيراً، وهل يسقط الدين حضور الجمعة؟ فلمالك في العتبية: لا أحب أن يترك الجمعة من دين عليه يخاف في ذلك غرماءه. قال في البيان: معناه عندي: إذا خشي إن ظفروا به أن يبيعوا عليه ماله بالغاً ما بلغ وينتصفوا منه، ولا يؤذوه، وهو يريد بتغييبه أن يتسع في ماله إلى القدر الذي يجوز تأخيره إليه عند بعض العلماء. وأما إن خشي من أن يسجنه غرماؤه وهو عديم. فقال سحنون: لا عذر له في التخلف. وفيه نظر، وقد تعقبه بعض الشيوخ. وأما إن خشي أن يتعدي عليه الحاكم فيسجنه في غير موضع سجن، أو يضربه، أو يخشى بأن يقتل فله أن يصلي في بيته ظهراً أربعاً ولا يخرج. فرع: قال ابن وهب في المبسوط: الذي يأكل الثوم يوم الجمعة- وهو ممن تجب عليه الجمعة- لا أرى أن يشهد] 93/ب [الجمعة في المسجد، ولا في رحابه. نقله الباجي. وقوله: (فَإِنْ حَضَرُوهَا وَجَبَتْ) أي: فإن حضرها من ذكر سقوطها عنهم وجبت عليهم؛ لأن هذه الأوصاف كانت مانعة من الحضور، فإذا حصل الحضور لم يبق مانع، ولا تسقط عن العروس على المشهور، على أن عبد الحق تأول الشاذ، ورأى أنه إنما هو في صلاة الجماعة لا الجمعة، وأنها متفق على وجوبها عليه. وفي الأعمى الذي لا يجد قائداً قولان، أما الواجد فتلزمه اتفاقاً. وفي سقوطها بالمطر الشديد روايتان. قال في المقدمات: وعندي أن ذلك ليس باختلاف قول، وإنما هو على قدر حال المطر. انتهى. واختلف في الأجذم، فقال سحنون: تسقط. وقال ابن حبيب: لا تسقط. والتحقيق: الفرق بين ما تضر رائحته فتسقط وبين ما لا تضر فلا تسقط. واختلف في الخوف على المال. النظر: التفرقة بين ما يجحف وغيره.

وَالسَّفَرُ بَعْدَ الزَّوَالِ لا يُسْقِطُ، وفِي جَوَازِهِ وكَرَاهَتِهِ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَبَيْنَهُ قَوْلاَنِ حاصله أن السفر على ثلاثة أقسام: يحرم، ولا تسقط الجمعة به، وذلك بعد الزوال لمخاطبته بها، وهذا هو المعروف. وحكى اللخمي قولاً بالكراهة فقط، وأنكره عليه ابن بشير. وانظر على الأول من كان في بلاد الفتن، وحصلت له رفقة في ذلك الوقت، ولا يمكنه السفر دونهم، وانتظار أخرى لا يدري متى يمرون به مما يشق. خليل: والظاهر الإباحة. ومباح وهو السفر قبل الفجر، ولا خلاف في إباحته، وتختلف فيه بالإباحة والكراهة، وهو ما بين الفجر وبين الزوال، فقيل يباح لعدم الخطاب، وقيل يكره إذ لا ضرورة في تحصيل هذا الخير العظيم. والإباحة لمالك في الواضحة، والكراهة رواية ابن القاسم، وابن وهب، وهو ظاهر المدونة، واختيار ابن الجلاب، وجماعة من أصحابنا، وروى عن ابن عمر. وَيلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إِذَا أَدْرَكَهُ النِّدَاءُ قَبْلَ انْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أي: إذا فرعنا على الجواز والكراهة. وما ذكره قال الباجي: هو ظاهر المذهب. ابن بشير: وفيه نظر. لأنه قد رفض الإقامة وحصل له حكم السفر نية وفعلاً. انتهى. وينبغي أن يقيد الرجوع بأن يدرك ركعة منها فأكثر، وإلا مضى لعدم الفائدة حينئذ في رجوعه. والْمُسَافِرُ يَقْدَمُ مُقِيماً كَالْحَاضِرِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى الظُّهْرَ فَثَالِثُهَا لِسَحْنُونٍ: إِنْ صَلاهَا وَقدْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فَأَقَلُّ لََزِِمَتْهُ ... قوله: (يَقْدَمُ مُقِيماً) أي: يدخل وطنه أو غيره ناوياً إقامة أربعة أيام كالحاضر، فتلزمه الجمعة. وإن كان قد صلى الظهر، فثلاثة أقوال: تلزمه لتبين استعجاله؛ وهو قول مالك في الموازية. الثاني: لا تلزمه؛ لأنه فعل ما خوطب به ويؤمر أن يأتي الجمعة، فإن لم يفعل فلا شيء عليه. وعزاه في البيان لابن نافع. والثالث لسحنون، وهو ظاهر المناسبة.

الباجي: وقال أشهب: إن كان قد صلى الظهر في جماعة فالأولى فرضه، وينبغي له أن لا يأتي الجمعة، وإن كان قد صلى الأولى فذاً فله أن يعيدها جماعة، ثم الله أعلم بصلاته. انتهى. واعلم أنه إذا علم أنه يدرك الجمعة ببلده فإنه يؤخر الصلاة اتفاقاً، وإنما هذا الخلاف إذا عجل، والله أعلم. وغَيْرُ الْمَعْذُورِ إِنْ صَلَّى الظُّهْرَ مُدْرِكاً لِرَكْعَةٍ لَمْ تُجْزِهِ عَلَى الأَصَحِّ لم تجزه الظهر؛ لأن الواجب عليه الجمعة ولم يأت بها. والأصح لابن القاسم وأشهب. وقال عبد الملك: زاد أشهب: وسواء صلاها وهو مجمع على ألا يصلي الجمعة أم لا. ومقابله لابن نافع، قال: وكيف يعيد أربعاً، وقد صلى أربعاً. ولأنه قد أتى بالأصل، وهو الظاهر. ومفهوم كلام المصنف أنه لو صلى الظهر وكان لا يدرك منها ركعة لم يعدها، وهو كذلك. قال أشهب: وسواء صلاها والإمام فيها، أو قبل أن يحرم. ولِلْمَعْذُورِ غَيْرِ الرَّاجِي التَّعْجِيلُ، فَلَوْ زَالَ الْعُذْرُ وَجَبَتْ عَلَى الأَصَحِّ، وَمِثلهُ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ وَقدْ صَلَّى الظُّهْرَ .... أي: ولمن لم يرج زوال عذره قبل صلاة الناس الجمعة تعجيل الظهر كالمريض والمحبوس والآيس من الماء. ومفهوم كلامه أن الراجي ليس له ذلك، فإن كان على الاستحباب فهو المنصوص، وإن كان على الوجوب فهو خلاف المنصوص. ابن هارون: ويمكن إجراؤه على الخلاف في راجي الماء يجب عليه التأخير أو يستحب؟ وأشار إليه ابن عبد السلام. وقوله: (فَلَوْ زَالَ الْعُذْرُ) يعني: كالعبد يصلي أول الوقت والمريض، ثم يعتق العبد ويصح المريض قبل صلاة الجمعة، وجبت على الأصح لإسفار العاقبة أنه من أهلها. ورأى مقابله أنه أدى ما عليه. (وَمِثلهُ الصَّبِيُّ) أي: في الخلاف. ولا ينبغي أن يختلف في وجوبها في حقه؛ لأن ما أوقعه أولاً نفل، فإذا بلغخوطب ولم يقع منه أداء الواجب بخلاف غيره، فإن أوقع واجباً.

وَلَا يُصَلِّي الظُّهْرَ جمَاعَةً إِلا أَصْحَابُ الْعُذْرِ في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قيل: لا يجوز الجمع مطلقاً. وروى عن ابن القاسم؛ لأنه قال: لا يجوز للمرضى والمحبوسين. قال في البيان:] 94/أ [وهو غير معروف من قوله، وإن جمعوه على هذه الرواية فلا إعادة عليهم. والجواز مطلقاً لابن كنانة، ورواه أشهب عن مالك. والثالث وهو المشهور: إن حصل العذر جمعوا وإلا فلا؛ لئلا يتخلف أهل البدع ثم يجمعون. واختلف إذا جمع من لا عذر له، أو له عذر غير غالب، هل يعيدون أم لا؟ والأظهر عدم الإعادة. قاله في البيان. وَيُسْتَحبُّ الْغُسْلُ مُتَّصِلاً بِالرَّوَاحِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَغيْرُ مَوْصُولٍ. ولا يُجْزِئُ قَبْلَ الْفَجْرِ بِخِلافِ الْعِيدَيْنِ .... المشهور أنه سنة. وقيل: مستحب. وحكى اللخمي ثالثاً بالوجوب. ورده ابن بشير بأنه ليس في المذهب، قال: وإنما عول اللخمي على إطلاقات وقعت. وفي كلام المصنف نظر؛ لأنه إن كان الاستحباب راجعاً إلى نفس الغسل فهو خلاف المشهور، وإن كان راجعاً إلى وصله فكذلك؛ لأنهم نصوا على أن من فرق بين الغسل والمضي تفريقاً كثيراً كالغداء أنه بمنزلة من لم يغتسل. ابن يونس: ولعل قول ابن وهب بالإجزاء إذا اغتسل في الفجر محمول على أنه راح حينئذ. وقد اختلف هل يجزئه غسله وإن راح حينئذ أو لا يجزئه ويعيده. انتهى. الباجي: ويلزم الغسل من تلزمه الجمعة، وكذلك من لا تجب عليه من مسافر، أو عبد، أو امرأة إذا نوى الجمعة. هذا هو المشهور. وفي المختصر عن مالك في ذلك تفصيل؛ لأنه قال: إنما يلزم الغسل من يأتيها لفض الجمعة كالمرأة والعبد والمقيم وكذلك المسافر يأتيها للفضل، فإن لم يأتها المسافر للفضل وإنما شهدها للصلاة أو لغير ذلك فلا غسل عليه، والأول أبين.

ويَتَجَمَّلُ بِالثِّيَابِ والطِّيِبِ لما في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته". وفي حديث آخر: "من كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه". ابن حبيب: ويستحب له أن يتفقد فطرة جسده من قص شاربه، وأظفاره، ونتف إبطه، وسواكه، واستحداده إن احتيج إليه. الباجي: لأن ذلك كله من التجمل المشروع. وَيسْتَحَبُّ فِي الأُولَى الْجُمُعَةِ وَفِي الثََّانِيَةِ هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ أَوْ سَبِّحْ أَوِ المُنَافِقُونَ .... ولم يتردد مالك في استحباب الجمعة في الأولى لمواظبته عليه الصلاة والسلام عليها في الغالب. وفي الصحيح أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قرأ بسبح، وهل أتاك حديث الغاشية. وقيل لمالك: أقراءة سورة الجمعة سة؟ قال: لا أدري ما سنة، لكن من أدركنا كان يقرأ بها، وكذلك من فاتته الأولى يقرأ بها. وظاهر قوله: (هَلْ أَتََاكَ، أَوْ سَبِّحْ) للتخيير. وكذلك قال من يوثق به في النقل كابن عبد البر وغيره. ولفظ ابن عبد البر في كافيه: ويقرأ في الثانية بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، أو إذا جاءك المنافقون كل ذلك مستحب حسن. انتهى. وقال الباجي: لا خلاف أن الركعة الثانية لا تختص بسبح ولا بهل أتاك. قال: ولا تختص عندنا بالمنافقين خلافاً للشافعي. قال المازري: قال مالك في المجموعة: كان من أدركنا يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالأعلى- وفي رواية أشهب بالغاشية- وذلك أحب إليهم، وهم يقرؤون اليوم بالتي تلي سورة الجمعة. وفي مختصر ابن شعبان: رأيت الأئمة عندنا يقرؤون بسبح مع سورة الجمعة. وقال أبو مصعب عنه: يقرأ بها. فهذه ثلاث روايات يشير بها إلى سورة معينة في الثانية. والذي حكي بعض أصحابنا أنها تختص بإحدى السورتين المشار إليهما بسبح والغاشية، ولا بغيرهما من السور. انتهى.

وَأوَّلُ وَقْتِهَا كَالظُّهْرِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا آخِرُهُ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: مَا لَمْ تَصْفَرَّ. وَقِيلَ: الضَّرُورِيُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وقِيلَ: مَا لَمْ تَغْرُبْ، وَذَلِكَ بَعْدَ قَدْرِ الْخُطْبَةِ ... نبه بقوله: (وَأوَّلُ وَقْتِهَا كَالظُّهْرِ) على خلاف أحمد في إجازتها قبل الزوال. ولا يجوز عندنا أن يخطب قبل الزوال ويصلي بعده، وإن فعل فهو كمن لم يصل. ونقل بعض من صنف في الخلاف عن مالك إجازة ذلك، ووهمه المازري. وما صدر به المصنف من أن آخر وقتها آخر وقت الظهر المختار معزو في البيان والتنبيهات للأبهري. وكذلك ذكر صاحب الإشراف عنه أنه قال: إن صلى ركعة بسجدتيها قبل دخول وقت العصر أتمها جمعة، وإن صلى دون ذلك بنى وأتمها ظهراً. ونقل عنه قولاً ثانياً أنه يصليها ما لم يخرج وقت الظهر الضروري، فيبقى قدر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، فإن بقي من النهار قدر ما يخطب فيه ثم يصلي ركعتين ثم تبقى أربع ركعات للعصر أقيمت الجمعة. وحكى ابن شاس عنه: يراعي ثلاث ركعات قبل الغروب،] 94/ب [ركعتان للجمعة وركعة يدرك بها العصر. قال بعض المتقدمين: يريد بعد قدر الخطبة. والقول بأن وقتها ما لم تصفر لأصبغ، ولا وجه له، وقد أنكره سحنون. وقوله: (عَلَى الْقَوْلَيْنِ) ابن عبد السلام: أي: هل يختص العصر بقدرها من آخر الوقت فيشترط في إدراك الجمعة بقاء ست ركعات، أو لا يختص؟ فيدرك بإبقاء ثلاث ركعات. وفيه بعد؛ لأن المصنف لم يقدم في الاختصاص قولين صريحين، لكنه هو الموافق لكلام اللخمي؛ فإنه قال: وقال سحنون: يصلي الجمعة ما لم يبق للغروب بعد الجمعة إلا أربع ركعات للعصر. وقال ابن القاسم في المدونة: يصليها ما لم تغرب الشمس إذا أدرك من العصر ركعة قبل الغروب. انتهى. خليل: وانظر قوله في المدونة، فإنه إنما يأتي على أن العصر لا تختص من آخر الوقت بمقدار فعلها، والمعروف من المذهب خلافه. وقال ابن راشد: يعني القولين المتقدمين في

الإدراك، هل يعتبر في إدراك العصر بعد فراغه من الصلاة إدراك ركعة بسجدتيها، أو يكتفي بإدراك الركوع؟ وقال شيخنا رحمه الله تعالى: يحتمل أن يريد القولين المتقدمين في المشتركتين، هل يدركان بزيادة ركعة على مقدار الأولى، أو على مقدار الثانية؟ والقول بأنها تصلي ما لم تغرب رواه مطرف عن مالك في الواضحة، ومعناه أنه تصلي الجمعة قبل الغروب، وإن لم يدرك من العصر ركعة قبله، ويصلي العصر بعد الغروب. ويقع في بعض النسخ عوض وقيل: ما لم تغرب؛ والمشهور ما لم تغرب. وفيه نظر؛ لأن المصنف صدر كلامه أولاً بأن آخر وقتها آخر وقت الظهر المختار، ثم عطف عليه بقيل، فيؤخذ منه أن الأول هو المشهور، فكيف يشهر غيره؟ ولأنه مخالف لمذهب المدونة على ما قاله اللخمي؛ لأنه اشترط في المدونة بقاء ركعة للعصر، ولم يشترط ذلك المصنف. نعم ذكر في التنبيهات عن المدونة ما يوافقه، ولفظه: وقوله في الإمام يؤخر الجمعة. قال: يصلي بهم ما لم تغرب الشمس، وإن كان لا يدرك العصر إلا بعد الغروب، وهذا بيِّن؛ لأن النهار كله إلى آخره وقتها. وكذلك رواية ابن عتاب وهو مثل قول مطرف، عنه أيضاً. وفي رواية غير ابن عتاب: وإن لم يدرك بعض العصر إلا بعد الغروب. وكذلك في أصل ابن المرابط، وهذه الرواية أصح وأشبه برواية ابن القاسم عن مالك. انتهى. فَلَوْ شَرَعَ فَخَرَجَ وَقْتُهَا أَتَمَّهَا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ رَكْعَةٍ، وَإِلا أَتَمَّهَا ظُهْراً يعني: أن المشهور إتمامها جمعة ولو بمجرد الإحرام وهو غير صحيح، إذ لا يمكن أن تدرك صلاة بأقل من ركعة، والجمعة لا تقضي خارج الوقت، وهذا متفق عليه، أما من أدرك منها ركعة قبل الغروب فاختلف المذهب فيما يأتي به خارج الوقت، هل هو أداء أو قضاء؟ فيمكن أن يقال على الأداء أنه يتمها جمعة، وعلى القضاء إما أن يتمها ظهراً، وإما أن يقطع، كذا قال ابن عبد السلام. خليل: وقد يقال أنه يتمها جمعة ولو بنينا على القضاء لأنها تبع لركعة الأداء، وإنما الممتنع أن تكون الجمعة كلها قضاء.

صلاة الخوف

فائدة: كره مالك ترك العمل يوم الجمعة. قال المازري: وكان بعض أصحابنا يكرهه. أصبغ: من ترك من النساء العمل يوم الجمعة استراحة فلا بأس به، ومن ترك منهن استناناً فلا خير فيه. ووجه الكراهة بيِّن لئلا يوافق أهل الكتاب. صَلَاة الْخَوْفِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا عِنْدَ الْمُنَاجَزَةِ والالْتِحَامِ، فَتُؤَخَّرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، ثُمَّ يُصَلُّونَ إِيمَاءً لِلْقبْلَةِ وَغَيرهَا من غير تكلّف لقَوْل أَوْ فِعْلٍ ... إنما أخرت إلى آخر الوقت رجاء أن يذهب عنهم الخوف فيصلوا صلاة الأمن. ولا يقال يلزم ذلك من النوع الآخر؛ لأن المخالفة في النوع الأول أكثر، وما ذكره من التأخير إلى آخر الوقت نقله في النوادر عن ابن حبيب وابن المواز، ولفظه: وإذا كانوا في القتال فليؤخروا إلى آخر الوقت، ثم يصلوا حينئذ على خيولهم ويومئوا، وإذا احتاجوا إلى الكلام لم يقطع صلاتهم. خليل: والظاهر أن المراد آخر الوقت الاختياري لوجهين: أحدهما: القياس على راجي الماء في باب التيمم، والجامع رجاء كل منهما إيقاع الصلاة على الوجه الجائز. الثاني: أن مالكاً نص على أنهم إذا أمنوا بعد فعل هذه الصلاة في الوقت أنهم لا يعيدون. ولو كان المراد تأخيرها إلى وقت الضرورة لم يتأت هذا. فإن قيل: في هذا الثاني نظر؛ لاحتمال ألا يوافق مالكاً على التأخير بالكلية. قيل: الأصل الوفاق، وهذا إن كانوا في نفس القتال أو مطلوبين، وإن كانوا طالبين فقال ابن عبد الحكم: لا يصلون إلا في الأرض صلاة أمن. وقال ابن حبيب: هم في سعة من ذلك، وإن كانوا طالبين لأن أمرهم] 95/أ [إلى الآن مع عدوهم لم ينقض، ولم يأمنوا رجوعهم. الثَّانِي: عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ مَعَرَّةٍ لَوْ صَلَّوْا بأَجْمَعِهِمْ أي: النوع الثاني: أن يحضر وقت الصلاة، والناس منتظرون لحرب عدوهم. ولو صلوا بأجمعهم لخافوا معرته؛ أي: العدو.

والْحَضَرُ كَالسَّفَرِ عَلَى الأَشْهَرِ هذا خاص بالنوع الثاني، وأما الأول فلا يختلف حكم من حضر من سفر. قاله ابن بشير وغيره. ومقابل الأشهر لابن الماجشون: لا تقام في الحضر. قال في المبسوط: وإنما تأولها أهل العلم في السفر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما صلاها كذلك في السفر. وعلى الأشهر فالجمعة كغيرها، وتقدير كلامه: والخوف في الحضر كالخوف في السفر. وكَذَلِكَ فِي كُلِّ خَوْفٍ وفِي كُلِّ قِتَالٍ جَائِزٍ كَالْقِتَالِ عَلَى الْمَالِ، والْهَزِيمَةِ الْمُبَاحَةِ، وخَوْفِ اللُّصًوصِ والسِّبَاعِ. والظّنُّ كَالْعِلْمِ .... يريد في النوعين، وقيد الهزيمة بالمباحة احترازاً من الممنوعة، فإنهم لا يباح لهم حينئذ أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأن العاصي لا تباح له الرخص. وقاله ابن عبد البر في كافيه. وقوله: (والظّنُّ كَالْعِلْمِ) أي: في جواز الجمع؛ لأن الظن في الشرعيات معمول به. فَيَقْسِمُهُمُ الإِمَامُ، وَيُصَلِّي بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثمَّ يُصَلِّي بِالْأولَى رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ إِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ثُمَّ يَقُومُ سَاكِتاً أَو دَاعِياً، ورَوَى ابْنُ وَهْبٍ: يُشِيرُ وَهُوَ جَالِسٌ فَيُتِمُّ الْمَأَمُومُونَ، وَأمَّا فِي الثَّانِيَة فَلَهُ أَيْضاً أَنْ يقْرَأَ بِمَا يُدْركُ فِِيهِِ، ويُتِمُّ الْحَضَرِيُّ فِِيهَا ثَلَاثاً، وَفِي سَلامِ الإِمَامِ- وَإِلَيْهِ رَجَعَ- أَوْ إِِشَارَتهِ لِتَتِمَّ الثَّانِيَةُ فَيُسَلِّمُ بهِمْ قََوْلاَنِ .... يعني: يقسمهم الإمام طائفتين ويصلي بأذان وإقامة. قال في الجواهر: ويعلم أصحابه بما يفعلون، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة إن كانت ثنائية، أو ركعتين إن كانت أكثر؛ أي: ثلاثية أو رباعية، ثم تتم صلاتها، وينتظر الإمام الطائفة الثانية حتى تفرغ الأولى. والمشهور قول ابن القاسم أنه ينتظرهم قائماً. وقوله: (ساكتاً أَو دَاعياً) أي: ولا يقرأ في ثلاثية أو رباعية لكونه لا يقرأ بغير أم القرآن، فقد يفرغ من قراءتها قبل أن تأتي الثانية. ولا

يتعين الدعاء بل وكذلك التسبيح والتهليل، وبذلك صرح ابن بشير. والشاذ قول ابن وهب أنه ينتظرهم جالساً ويشتغل بالذكر. وقد تقدم الخلاف، هل الجلوس الأول محل للدعاء؟ ولا يبعد أن يتفق هنا على جوازه. وقوله: (وأما في الثنائية فله أن يقرأ) أي: لأنه يقرأ بغير الفاتحة. وحاصله أنه مخير في الثنائية في ثلاثة أمور. وفي غيرها بين أمرين. وكذلك قال ابن يونس والباجي. ونقل اللخمي في قراءته إذا قام إلى الثانية قولين، ونسب القول بعدم القراءة لابن سحنون. وكذلك حكي ابن بشير في قراءته إذا قام إلى الثالثة في الحضر أو في المغرب قولين. وقول ابن وهب إنما هو في الثلاثية والرباعية، وأما في الثنائية فيقوم بلا خلاف. قاله صاحب الإكمال وابن بشير؛ لأنه ليس بمحل جلوس، وهو مقتضي كلام غيره. وكلام المصنف يوهم أن الخلاف مطلقاً، وليس كذلك. وعكس أبن بزيزة هذا فقال: إن كان موضع جلوس فلا خلاف أنه ينتظرهم جالساً، وإن لم يكن هوضع جلوس فهل ينتظرهم جالساً أو قائماً؟ قولان في المذهب. انتهى. قوله: (ويُتِمُّ الْحَضَرِيُّ فِيهَا ثَلاثاً) أي: إذا صلى الحضري خلف مسافر إما مع الطائفة الأولى أو مع لثانية فإنه يتم لنفسه ثلاثاً. وقوله: (وفِي سَلامِ الإِمَامِ ...) إلى آخره؛ يعني أنه اختلف إذا فرغ الإمام من صلاته هل يسلم ثم تقوم الطائفة الثانية، أو لا يسلم؟ ويشير إليهم ليكملوا، ثم يسلم بهم ليكون السلام مع الثانية كما كان الإحرام مع الأولى. والمشهور الأول. واعلم أن إيقاع الصلاة على هذه الصورة رخصة، نص عليه ابن المواز، قال: ولو صلوا أفذاذاً، أو بعضهم بإمام وبعضهم فذاً أجزأت. اللخمي: ومقتضاه جواز طائفتين بإمامين. ورده المازري بأن إمامة إمامين أثقل من تأخير بعض الناس من الصلاة.

وقَالَ أَشْهَبُ: فَيَنْصَرِفُونَ قَبْلَ الإِكْمَالِ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا سَلَّمِ أَتَمَّتِ الثَّانِيَةُ صَلاتَهَا وقَامَتْ وِجَاهَهُ ثُمَّ جَاءْتِ الأُولَى فَقَضَتْ. وعَنْهُ: فَإِذَا سَلَّمَ قَضَوْا جَمِيعاً. أي: وقال أشهب: تنصرف الأولى قبل الإكمال لصلاتها، وتأتي الثانية فيصلي بها ما بقي من الصلاة. (فَإِذَا سَلَّمِ أَتَمَّتِ) أي: قضت ما بقي عليها من الصلاة، وراحت لموضع الأولى، ثم جاءت الأولى. خليل: يريد: إن لم يمكنهم الإتمام بموضعهم، وإلا أتموا فيه. إذ لا معنى لإتيانهم إليه إلا زيادة المشي، وهذا من أشهب طلباً لاتصال] 95/ب [صلاة الإمام، وعنه: فإذا سلم الإمام قام وجاه العدو وحده وصار فئة لهما وكملت الطائفتين حينئذ. وفي الأخير بعدٌ؛ إذ من المعلوم أن تغيير هذه الصلاة إنما كان خوفاً من معرة العدو، والإمام إذا قام وحده فلا يغني شيئاً. وعندنا قول بالفرق بين أن يكون العدو في جهة القبلة أو لا؟ فإن لم يكن فكالمشهور، وإن كانوا في جهتها فيصفهم الإمام صفين فيصلي بهم جميعاً، ويحرسهم الثاني إذا سجدوا فقط، ثم يسجدون ويتبعونه، ويسلم بهم كلهم. واقتصر عليه صاحب الكافي. والوجاه- بضم الواو، وكسرها معاً، وآخره هاء- ومعناه: المقابلة. قاله في التنبيهات. ولَوْ جَهِلَ فَصَلَّي فِي الثُّلاثِيَّةِ أَو الرُّبَاعِيَّةِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً فَصَلاةُ الأُولَى والثَّالِثَةِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ بَاطِلَةً، وأَمَّا غَيْرُهُمَا فَصَحِيحَةٌ عَلَى الأَصَحِّ. أي: وإن جهل وخالف الصفة المشروعة فصلى في المغرب أو في الرباعية في الحضر بكل طائفة ركعة، فصلاة الأولى والثالثة في الرباعية باطلة؛ لانفصالهما عن الإمام في غير محله. قوله: (وأَمَّا غَيْرُهُمَا) أي: الطائفة الثانية في الثلاثية، والطائفة الثانية في الرباعية، والطائفة الرابعة في الرباعية فصحيحة على الأصح؛ لأنهم كالمسبوقين. قاله مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ، وابن حبيب. وقال سحنون: تبطل في حقهم.

صلاة العيدين

ابن يونس: لأنهم خالفوا سنتهم، ووقف الإمام في غير موضع قيام. وهو الصواب. انتهى. وما صور ابن يونس أظهر مما صححه المصنف، والله أعلم. فَيَجْتَمِعُ الْقَضَاءُ والْبِنَاءُ، فَيَبْدَأُ ابْنُ الْقَاسِم بِالْبِنَاءِ وسَحْنُونٌ بِالْقَضَاءِ أي: على لأصح. فيجتمع البناء والقضاء في حق الثانية، فيجئ القولان في البداية. وأما الأولى فبناء فقط، وأما الثالثة في الثانية والرباعية فقاء فقط. صَلاةُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ مُؤَكّدَةٌ، ويُؤْمَرُ بِهَا مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ سنية العيدين. ابن عبد السلام: هو المشهور لحديث الإعرابي: هل عليَّ غيرها؟ فقال: "لا". واختار بعض الأندلسيين الوجوب على الكفاية. وفِي غَيْرِهِمْ قَوْلانِ أي: من العبيد والمسافرين والنساء فالأمر لقوة إظهار الشريعة؛ وهو قول ابن حبيب ونفيه قياساً على الجمعة؛ وهو المشهور. وعَلَى نَفْيِ الأَمْرِ. ثَالِثُهَا: تُكْرَهُ فَذّاً لا جَمَاعَةً تصور الثلاثة واضح؛ حكاها اللخمي وابن شاس، والمشهور الجواز من غير كراهة. وقد نص في المدونة على استحباب صلاة النساء للعيدين أفذاذاً إذا لم يشهدن العيد. وأنكر صاحب التنبيهات على اللخمي القول الثالث، وقال: لا يوجد هكذا، والمتوجه ضده. كما منع في المدونة أن يؤم من النساء فيه أحداً، وجوز ذلك لهن أفذاذاً، قال: وما أراه إلا وهماً وتغييراً من النقلة عنه، وقلباً للكلام بدليل قوله لما حكي رواية ابن شعبان والمبسوط بمنع في هذين القولين أن يتطوعوا بها جماعة. وإن كان المازري قد حكي عنه نص ما حكيناه عنه. انتهى.

وهِيَ رَكْعَتَانِ بِلا أَذَانٍ ولا إِقَامَةٍ، يُكَبِّرُ فِي الأُولَى سَبْعاً بِالإِحْرَامِ وفِي الثَّانِيَةِ خَمْساً غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ .... لما في الصحيحين عن جابر قال: شهدت العيدين مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بغير أذان ولا إقامة. ومذهبنا لا ينادي الصلاة جامعة. وقوله: (يُكَبِّرُ فِي الأُولَى ...) إلخ ظاهر التصور، ودليله ما رواه مالك وغيره، واتصل به العمل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الثانية خمساً قبل القراءة، وأهل المذهب فهموه على أن التكبير المذكور في الأولى هو جميع ما يفعل فيها، والشافعية فهموا أن الراوي قصد بيان ما اختصت به هذه العبادة، فيقولون أن السبع غير تكبيرة الإحرام. أشهب: فإن كبر الإمام في الأولى أكثر من سبع، وفي الثانية أكثر من خمس، فلا يتبع. ويَتَرَبَّصُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ تَكْبِيرِ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ نبه فيه على خلاف الشافعية في قوله: يحمد الله، ويهلله، ويكبره. فرع: ومن لم يسمع تكبيرة الإمام تحري التكبير، وكبر؛ قاله ابن حبيب. ويَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الأُولَى خَاصَّةً، ورَوَى مُطَرِّفٌ فِي الْجَمِيعِ الأول هو المشهور، وتصور رواية مطرف واضح. وروى عن مالك في المجموعة: ليس رفع اليدين مع كل تكبيرة سنة، ولا بأس على من فعله. والخلاف كالخلاف في صلاة الجنائز. ويَتَدَارَكُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، ويُعِيدُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الأَصَحِّ أي: إذا نسي التكبير وقرأ، ثم ذكر قبل الركوع فإنه يرجع فيكبر؛ لأن محله القيام وهو باق. واختلف إذا أعاد التكبير هل يعيد القراءة، أو لا؟ والقياس إعادتها؛] 96/أ [وهو قول مالك، قال: ويسجد بعد السلام. ومن قال: لا يعيدها، راعي خلاف من أجاز ذلك ابتداء.

ويَسْجُدُ بَعْدَ السَّلامِ هو المشهور. وحكي المازري واللخمي قولاً بعدم السجود. خليل: انظر على المشهور ما الفرق بين هذه المسألة وبين من زاد السورة في الثالثة والرابعة؟ وقد يفرق بأن زيادة السورة في الثالثة والرابعة غير متفق عليها. فقد استحبها بعض الأشياخ في الركعتين الأخيرتين، فلذلك لم تكن الزيادة موجبة للسجود فيها لكونها زيادة لم يتفق عليها. واختلف فيمن قدم السورة على الفاتحة ثم أعادها، ففي النكت: الذي تقتضيه المدونة أن يسجد بعد السلام كمسألة من قدم القراءة على التكبير في العيدين. ولمالك في المجموعة: لا سجود عليه. ولا يَتَدَارَكُهُ بَعْدَهُ، فَإِنْ ذَكَرَ وهُوَ رَاكِعٌ فَقَوْلانِ يعني: ولا يتدارك التكبير إذا نسيه ثم ذكر بعد رفع رأسه من الركوع. واختلف إذا ذكر وهو راكع، وأجراه بعضهم على الخلاف في عقد الركعة. وقال أكثر الشيوخ: بل ابن القاسم يوافق أشهب هنا. وفي مسائل آخر، وقد تقدم التنبيه عليها. فرع: وإذا أمرناه بالتمادي فإنه يسجد للتكبير قبل السلام؛ قاله في المدونة. زاد اللخمي عن مالك: إلا أن يكون مأموماً فلا سجود عليه؛ لأن الإمام يحمل ذلك عنه. والْمَسْبُوقُ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ يُكَبِّرُهَا خِلافاً لابْن وَهْبِ يعني: إذا جاء مسبوق فوجد الإمام في القراءة فأحرم فهل يكبر أو يسكت؟ فرأى ابن وهب أن التكبير والحالة هذه كالقضاء في حكم الإمام. ورأى في المشهور أن ذلك ليس بقضاء لخفة الأمر، إذ ليس كحال الصلاة. والعامل في (قَبْلَ) محذوف؛ أي: يدرك الإمام قبل الركوع. وقوله: (يُكَبِّرُهَا) يظهر أنه أراد جميع التكبير، والظاهر أنه إن سبق

ببعض التكبير أن الخلاف باق. وفي مختصر ابن شعبان: وروى ابن القاسم، وابن كنانة، ومطرف، وابن نافع عن مالك فيمن أدرك الإمام في بعض تكبيرات العيد أنه يكبر ويدخل معه، فإذا فرغ الإمام من التكبير، وأخذ في القراءة أتم هو ما بقي عليه والإمام يقرأ. أما إن وجده في الركوع فقال ابن القاسم: يدخل معه بتكبيرة الإحرام، ولا شيء عليه. ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُكَبِّرُ خَمْساً، ويَقْضِي رَكْعَةً بِسَبْعٍ. وقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُكَبِّرُ سِتّاً، ويَقْضِي رَكْعَة بسِتٍّ والسَّابِعَةُ تَقَدَّمَتْ لِلإِحْرَامِ. يعني: وإن كانت الركعة التي سبق بها المأموم هي الثانية على الشرط المتقدم؛ أي: أدركه قبل الركوع. وبنينا على المشهور لا على قول ابن وهب، فقال ابن القاسم: يكبر خمساً ويقضي الركعة الأولى بسبع تكبيرات تباعاً. أي: يعد فيها تكبيرة القيام. وعبارة ابن شاس: وإن وجده في الثانية فليقض ركعة يكبر فيها سبعاً بتكبيرة القيام. وكذلك صرح به صاحب البيان، قال: وهو خلاف أصله في الصلاة الأولى من المدونة فمن جلس مع الإمام في غير موضع جلوس له أنه يقوم بلا تكبير، ومثل قوله فيمن أدرك الإمام جالاً في آخر صلاته أنه يقوم بتكبير. قال: وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله فيمن أدرك الإمام جالساً في آخر صلاته يقوم بتكبير بخلاف أصله في تفرقته بين أن يجلس مع الإمام في موضع جلوس أو لا؟ لكنه استحب لما كان في أول صلاته أن تتصل قراءته بتكبير، وهذا ضعيف؛ لقوله فيمن أدرك الإمام جالساً في صلاة العيدين أنه يكبر سبعاً؛ لأن الواحدة من السبع هي للقيام، وقد كان معه من التكبير ما تتصل به قراءته. انتهى. (وقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُكَبِّرُ سِتّاً) أي: ولا يكبر للقيام؛ لجلوسه في غير محل جلوس. وهو الأظهر، والله أعلم. وبَعْدَ رُكُوعِهِ يَقْضِي الأُولَى بِسِتٍّ عَلَى الأَظْهَرِ يعني: وإن أدركه بعد ركوع الركعة الثانية يقضي الأولى بست على الأظهر؛ أي: على مذهب المدونة. وقد تقدم قوله في البيان أن المراد ست خلاف تكبيرة الرفع؛ وكذلك قال

ابن راشد. وعلى هذا فالمعارضة التي تذكر هنا بين هذه المسألة وبين مدرك التشهد ليست صحيحة؛ لأن ابن القاسم سوى بينهما في القيام بتكبر. وفهم عبد الحق المدونة على أنه يكبر ستاً فقط. وذلك لأنه قال في التهذيب: ومن أدرك الجلوس كبر وجلس، ثم يقضي بعد سلام الإمام الصلاة. فتعقب عبد الحق عليه ذلك وقال: نقص أبو سعيد من هذه المسألة ما الذي يقضي. ونص لفظها في الأم: وإذا قضى الإمام صلاته قام فكبر ما بقي عليه من التكبير، ثم صلى ما بقي عليه كما صلى الإمام. وقوله في الأمهات: ما بقي عليه من التكبير يدل على أنه يكبر ستاً، ويعتد بالتكبيرة التي كبر قبل جلوسه. واعلم أن في غير المدونة فيها خلاف، هل يكبر ستاً، أو يكبر سبعاً؟ وهو شيء محتمل، ألا ترى أنه في الفرائض] 96/ب [إذا أدرك مع الإمام الجلوس فكبر ثم جلس ثم قام، فقد قال: إنه يكبر. فقد يقول قائل كما جعله هنا كبر، وقد كبر ثم جلس، فكذلك في صلاة العيدين يكبر إذا قام، ولا يعتد بما كبر، فيكون تكبيره سبعاً، وقد ذكرنا أنه قد قيل ذلك، ولكن قوله في الأمهات: ما بقي قد بان أنه يكبر ستاً ويعتد بتلك التكبيرة التي كان كبر. ولعل الفرق بين هذه وبين ما وقع له من صلاة الفريضة أنه في الفريضة إذا سلم الإمام قام هو مبتدئاً للقيام. ولابد لمن يبدأ القيام في الصلاة من التكبير، فاستحب ذلك لهذا. وأما في صلاة العيدين فهو إن اعتد بالتكبيرة المتقدمة فإنه يكبر أيضاً فما خلا مبتدئاً قيامه من تكبير فافترقا. انتهى كلام عبد الحق. فعلى هذا فيكون الأظهر ومقابله تأويلين على المدونة. وتأول اللخمي على المدونة ما قال عبد الحق؛ لأنه قال: إن وجده جالسا أحرم وجلس، ثم إذا سلم الإمام قام فصلى ركعتين، يكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً. وقال أيضاً: يكبر في الأولى ستاً مثل قوله في المدونة. انتهى. وقد ذكر في التنبيهات أن ابن وضاح روى في كتاب الحج من المدونة أنه يكبر سبعاً، وأن غيره روى ستاً، وذكر أن قول ابن القاسم في العتبية اختلف على هذين القولين.

وقِرَاءَتُهَا بِسَبِّحْ والشَّمْسِ جَهْراً. ابْنُ حَبِيبٍ: بِقَافْ واقْتَرَبَتْ الأحسن أن يقول: ونحوها كما قال في المدونة، ووقع في بعض النسخ وقراءتها بكالشمس وسبح، وهي أحسن. وفي مسلم، وأبي داود، والترمذي، وصححه النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية. وكقول ابن حبيب ورد حديث في مسلم، وأبي داود، والترمذي وصححه. ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَهَا كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ مِنْ جُلُوسَيْنِ وغَيْرِهِمَا ما ذكره من الجلوسين هو المشهور. وفي المبسوط: لا يجلس في أولها. ووجهه أن الجلوس الأول في الجمعة إنما هو للأذان ولا أذان هنا. ويَسْتَفْتِحُ بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ تِبَاعاً ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلاثاً فِي أَضْعَافِهَا، ولَمْ يَحُدَّهُ مَالِكٌ. وفِي تَكْبِيرِ الْحَاضِرِينَ بِتَكْبِيرِه قَوْلانِ .... الأول: من كلام المصنف لابن حبيب وغيره أنه يستفتح كلاً من الخطبتين بسبع، ثم يفصل بثلاث ثلاث. وقوله: (ولَمْ يَحُدَّهُ مَالِكٌ) أي: لم يحد الابتداء بالسبع، والفصل بالثلاث؛ وهو قوله في المبسوط. ونقل عن ابن القاسم. وعلى هذا فالذي قدمه خلاف قول مالك وابن القاسم، ويحتمل أن يريد: لم يحد كم يفعل مرة. وهو ظاهر التهذيب، فإنه قال: يكبر الإمام في العيدين، ثم في حال خطبته ولا حد في ذلك. فعلى الوجه الأول يكون كلامه كله مسألة واحدة، وعلى الثاني يكون مسألتين، والله أعلم. والمشهور أن الحاضرين يكبرون بتكبيره، والقول بأنهم لا يكبرون معه للمغيرة. فرع: قال مالك في المجموعة: وينصت للخطبة ويستقبل، وليس من تكلم في ذلك كمن تكلم في الجمعة، وإذا أحدث في الخطبة أو في خطبة الاستسقاء تمادى؛ لأنه بعد الصلاة.

ولَوْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ أَعَادَهَا اسْتِحْبَاباً قال أشهب: فإن لم يفعل فقد أساء وتجزئه. والصَّحْرَاءُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ إِلا بِمَكَّةَ لأن إيقاعها في الصحراء هو آخر الأمور منه عليه الصلاة والسلام، فمنهم من رأى ذلك نسخاً، ومنهم من قال: إنما ذلك لضيق مسجد المدينة حين كثر الصحابة. وهو ظاهر، لولا ما علم أن المقصود بها إظهار الشعائر، وذلك يناسب إيقاعها في الصحراء. خليل: انظر قولهم هنا أنهم لا يخرجون من مكة، وتعليلهم ذلك بأمرين: زيادة الفضل، والقطع بجهة القبلة. وقد ثبت إلغاؤهما معاً، واللازم أحد أمرين، إما أن يخرجوا من مكة أيضاً، وإما أن يصلوا بمسجد المدينة. ولا يَنْتَقِلُ فِيهَا فِي الصَّحْرَاءِ، وأَمَّا فٍي الْمَسْجِدِ فُثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ وابْنِ حَبيبٍ وأَشْهَبُ: ثَالِثُهَا: يَنْتَقِلُ بَعْدَهَا ... أي: لا يتنفل الإمام والمأموم في الصحراء لا قبلها ولا بعدها. قال ابن شهاب: لم يبلغني أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر ويوم النحر تنفل قبلها ولا بعدها، وهذا هو المعروف. وفي كتاب ابن شعبان ومختصر ابن عبد الحكم: لابن وهب إجازة النفل بعد الصلاة في المصلى. حكاه في التنبيهات، وأما إن صليت في المسجد فقال ابن القاسم في المدونة: تصلي قبل وبعد. أما قبل فلتحية المسجد، وأما بعد فلعدم المانع. وقاس ابن حبيب المسجد في ذلك على المصلى، ورأى أشهب وابن وهب: يتنفل بعدها لا قبلها، لئلا يظن تغيير سنتها. وحكى بعضهم عكسه، ومنع بعضهم التنفل جُملة يوم العيد إلى الزوال. قال في الإكمال: واختاره بعض أصحابنا. وفي الذخيرة: قال سند: استحب ابن حبيب ألا يتنفل] 97/أ [ذلك اليوم إلى الظهر، وهو مردود بالإجماع. انتهى.

وَقْتُهَا مِنْ حِلِّ النَّافِلَةِ إِلَى الزَّوَالِ ولا تُقْضَي بَعْدَهُ لا خلاف في هذا عندنا. ومِنْ سُنَّتِها: الْغُسْلُ، والطِّيبُ، والتَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ المشهور أن الغسل للعيدين مستحب خلاف ظاهر كلامه، وقيل: سنة. مالك: وواسع أن يغتسل لها قبل الفجر. وقال ابن حبيب: أفضل أوقات الغسل لها بعد صلاة الصبح. ويستحب الطيب والتزين باللباس للخارج لها والقاعد بخلاف الجمعة. والْفِطْرُ قَبْلَ الْغُدُوِّ فِي الْفِطْرِ وتَاخِيرِهِ فِي النَّحْرِ، والْمَشْيُ إِلَيْهَا، والرُّجُوعُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، والْخُرُوجُ بَعْدَ الشَّمْسِ إِنْ أَمْكَنَ .... لما في الموطأ: عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه أخبره أن الناس كانوا يؤمرون بالأكل يوم الفطر قبل الغدو على المصلى. قال الباجي: ويستحب أن يكون فطره على تمرات، لما رواه الترمذي، وحسنه عن أنس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات. زاد البغوي فيه: ويأكلهن وتراً. ونص مالك في المدونة: ولا أرى ذلك على الناس في الأضحى. وفي الدارقطني: أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يفطر يوم النحر حتى يرجع فيأكل من أضحيته. وقوله: (وتَاخِيرِهِ فِي النَّحْرِ) يقتضي أن التأخير مستحب، ونحوه في التلقين والجواهر. وكلامه في المدونة وكلام ابن أبي زيد لا يقتضي استحبابه لقولهما: وليس ذلك على الناس في الأضحى. فانظر ذلك. وقوله: (والرُّجُوعُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى) لما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق. وروى أبو داود وابن ماجه نحوه. واختلف في العلة فقيل: لإظهار الشعائر وإرهاب الكفار. وقيل: لتشهد له الطريقان بذلك. وقيل: ليتصدق على أهل الطريقين. وقيل: لتعم بركته الفريقين. وقيل:

لتصافحه الملائكة من الجهتين. وقيل: خوفاً من أن تكون الكفار كمنت له كميناً. وقيل: ليسأله أهل الطريقين عن أمر دينهم. وقيل: لئلا يزدحم الناس في الطريق. وقيل: لتكثر الخطى إلى المسجد. ويُكَبِّرُ فِي أَضْعَافِهِ، وفِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَبْلَ الشَّمْسِ: ثَالِثُهَا: يُكَبِّرُ إِنْ أَسْفَرَ التكبير في الغدو فضيلة، قاله ابن هارون. خليل: قال في المدونة: ويكبر في الطريق، يسمع نفسه ومن يليه، وفي المصلى حتى يخرج الإمام فيقطع ولا يكبر إذا رجع. قال مالك في العتبية: ويكبر في العيدين جميعاً في الفطر والنحر. والقول بأنه يكبر قبل طلوع الشمس لمالك في المبسوط. ابن عبد السلام: وهو الأولى ولا سيما عيد الأضحى تحقيقاً بالشبه لأهل المشعر الحرام. والقول بعدم التكبير لمالك في المجموعة. وفهم اللخمي المدونة عليه. ابن راشد: وهو الأصل؛ لأنه ذكر شرع للصلاة، فوجب ألا يؤتي به حتى يدخل وقتها قياساً على الأذان. والتفرقة لابن حبيب، قال: ومن السنة أن يجهر بالتكبير في طريقه والتحميد والتهليل جهراً يسمع من يليه، وفوق ذلك حتى يأتي الإمام. وسَأَلَ سَحْنُونٌ ابْنَ الْقَاسِمِ: هَلْ عَيَّنَهُ مُالِكٌ؟ فَقَالَ: لا، ومَا كَانَ مَالِكٌ يَحُدُّ فِي مِثْلِ هَذَاَ. واخْتَارَ ابْنُ حَبِيبٍ تَكْبِير َالتَّشْرِيقِ فِي الْمُخْتَصَرِ وزَادَ: عَلَى مَا هَدَانَا: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَك مِنَ الشَّاكِرِينَ. وزَادَ أَصْبَغُ عَلَيْهِ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً إِلى إِلا بِاللهِ .... كلام ابن القاسم ظاهر، وتقدير كلامه: واختار ابن حبيب أن يكبر في مسيره إلى صلاة العيدين على صفة التكبير الذي في مختصر ابن عبد الحكم؛ أي الذي يقال بعد الصلاة، وسيأتي. وزاد ابن حبيب على ذلك: إذا وصل إلى قوله: ولله الحمد، أن يقول:

على ما هدانا، اللهم اجعلنا لك من الشاكرين. وزاد أصبغ على زيادة ابن حبيب: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويَقْطَعُ بِحُلُولِ الإِمَامِ مَحِلَّ الصَّلاةِ، وقِيلَ: مَحِلَّ الْعِيدِ (محل الصلاة) أي: محل صلاة الإمام نفسه، و (محل العيد) هو: المصلى: أي: محل اجتماع الناس. ويُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ عَقِبَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَكْتُوبَةً، وقِيلَ: سِتَّ عَشْرَةَ. أَوَّلُهَا ظُهْرُ يَوْمِ النَّحْرِ. وفِي النَّوَافِل قَوْلانِ، وفِيهَا: ثَلاثُ تَكْبيرَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ. وفِي الْمُخْتَصَرِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ ولِلهِ الْحَمْدُ أَحَبُّ إِلَيَّ، فَلَوْ قَضَي صَلاةً مِنْهَا فَقَوْلانِ ... أي: وآخرها صبح الرابع. وعلى الشاذ ظهر الرابع. والمشهور: لا يكبر بعد النافلة، قاله ابن الفاكهاني في شرح العمدة. وظاهره أن أهل الأفاق لا يكبرون في غير دبر الصلوات خلافاً لابن حبيب. وقوله: (فَلَوْ قَضَي صَلاةً مِنْهَا) يريد: في أيام التشريق، (فَقَوْلانِ). قال سحنون وأبو عمران: لا يكبر. وقيل: يكبر، لبقاء الوقت. أما لو خرجت أياما التشريق ولم يكبر لها اتفاقاً، نقل ذلك ابن راشد وغيره. وعكس هذا: لو ذكر صلاة من غير أيام التشريق في أيام] 97/ب [التشريق، فظاهر المذهب: لا يكبر، خلافاً لعبد الحميد. واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنما ذلك وقتها". ووقع في بعض النسخ: فلو قضى صلاة فيها، فيكون مراده هذا الفرع، والله أعلم. والمسبوق يكبر إذا فرغ من صلاته. قال أشهب: ولو كان عليه سجود بعدي فلا يكبر حتى يفرغ منه. ولو نسي التكبير كبر بالقرب، وإن تباعد فلا شيء عليه.

صلاة الكسوف

صَلاةُ الْكُسُوفِ قَبْلَ الانْجِلاءِ سُنَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ لا فِي الْمُصَلَّى، وقِيلَ: والْمُصَلَّي. والْجَمَاعَةُ فِيهَا مُسْتَحَبّةٌ، ويُؤْمَرُ بِهَا كُلُّ مُصَلٍّ حَاضِرٍ أَوْ مُسَافِرٍ أَوْ غَيْرِهمَا، وتُصَلِّيهَا الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا .... يقال: خسفت الشمس بفتح الخاء للفاعل، وبضمها مبنياً للمفعول، وكذلك كسفت. ويقال: مسفاً وانكسافاً، وخسفاً وانخسافاً. وقيل: الكسوف مختص بالشمس، والخسوف مختص بالقمر، وقيل: عكسه. ورد بقوله تعالى: {وَخَسفَ الْقَمَرُ}. وقيل: الكسوف للكسوف أوله، والخسوف آخره؛ إذا اشتد ذهاب الضوء. وقيل: الكسوف ذهاب الضوء بالكلية. والخسوف تغيير اللون. وقيل: هما مترادفان. وقوله: (فِي الْمَسْجِدِ) يريد: مخافة انجلائها في طريق المصلى. وقوله: (وقِيلَ: والْمُصَلَّي)؛ هو لابن وهب؛ يعني أن هذا القائل مخير بين إيقاعها في المسجد والمصلى. وفهم هذا من كلامه لإتيانه بالواو المتقضية للجمع، هذا إذا وقعت في جماعة كما هو المستحب. وأما الفذ فله أن يفعلها في بيته. وقوله: (فِي الْمَسْجِدِ) متعلق بمحذوف؛ أي: توقع في المسجد. ولا يصح تعلقه بقوله: (سُنَّةٌ) لأنه يصير معنى كلامه، أن إيقاعها في المسجد سنة. فلا يؤخذ من كلامه حكمها، وكذلك لا يصح تعلقه بقوله: (صَلاةُ) لما يلزم عليه من الإخبار عن الاسم قبل تمامه، إذ صلة المصدر منه كالجزء؛ لأن قوله: (سُنَّةٌ) خبر عن لفظ (صَلاةُ) الذي لم تتم إلى الآن. وقوله: (أَوْ غَيْرِهمَا) قال شيخنا رحمه الله: غيرهما أهل العمود، فإنهم ليسوا كأهل الحضر إذ لا جمعة عليهم، ولا كأهل السفر إذ لا يفطرون ولا يقصرون. قوله: (أَوْ مُسَافِرٍ) قال في المدونة: إلا أن يجد به السير.

ووَقْتُهَا كَالْعِيدَيْنِ. وقِيلَ: إِلَى الاصْفِرَارِ. وقِيلَ: إِلَى الْغُرُوبِ. وقوله: (كَالْعِيدَيْنِ) يريد في الابتداء والانتهاء؛ فلا تصلي إذا طلعت الشمس مكسوفة، لكراهة النافلة حينئذ. نص عليه الباجي. وعبارته في المدونة تدل عليه لقوله: وتصلي من ضحوة إلى الزوال. وفيه قول رابع: تصلي ما لم تصل العصر. وصِفَتُّهَا: رَكْعَتَانِ، فِي كَلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وقِيَامَانِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ ولا إِقَامَةٍ هذا ظاهر. وصح أنه عليه الصلاة والسلام نادي فيها: الصلاة جامعة، قال صاحب الإكمال وغيره: وهو حسن. فَإِنِ انْجَلَتْ فِي أَثْنَائِهَا فَفِي إِتْمَامِهَا كَالنَّوَافِلِ قَوْلانِ القول بإتمامها على سنتها لأصبغ، والآخر لسحنون. ابن عبد السلام: ومعنى الأول- والله أعلم- إنما هو في عدد الركوع والقيام خاصة دون الإطالة. وأطلق المصنف في القولين، وكذلك فعل غيره، وحكاهما بعض الشيوخ فيما إذا انجلت بعد أن أتم ركعة بسجدتيها، وأما لو انجلت قبل ذلك فقولان: قيل: يقطع. وقيل: يتمها ركعتين على حكم النوافل. وقِرَاءَتُهَا سِرّاً عَلَى الْمَشْهُورِ، وفِي الأُولَى بِالْفَاتِحَةِ ونَحْوِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يُرَتِّبُ الأَرْبَعَةَ ويُعِيدُ الْفَاتِحةَ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي والرَّابعِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وجه السر قول ابن عباس في الحديث الذي في الموطأ، والصحيحين، وأبي داود، والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة. ولا يقال ذلك مع الجهر، وفي البيهقي من حديث ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فلم أسمع له صوتاً. وجه الجهر ما خرجه البخاري، ومسلم وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها جهراً. وقوله: (ثُمَّ يُرَتِّبُ الأَرْبَعَةَ) أي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة.

هكذا قال مالك في المختصر، نقله صاحب النوادر، وصاحب الكافي، أنه يقرأ الأربعة قال: وأي سورة قرأ في صلاة الكسوف أجزأ. والاختيار عند مالك ما وصفناه، لكن انظر هذا مع ما نقله صاحب الإكمال وغيره عن مالك أن كل ركعة دون التي قلها، فإنه قال: لا خلاف بين العلماء أن الركوع الثاني من الركعة الأولى أقصر مما قبله. واختلف العلماء في القيام الأول وركوع الأول من الركعة الثانية، هل هو أقصر من القيام الثاني، والركوع الثاني من الركعة الأولى؛ وهو قول مالك أن كل ركعة دون التي قبلها، وهو مقتضى الحديث. انتهى باختصار. وعلى هذا فيمكن أن يريد بقوله: (يُرَتِّبُ الأَرْبَعَةَ)] 98/أ [الأربعة ركوعات. ووجه المشهور - من أن إعادة الفاتحة أنه من سنة كل ركوع- أن يعقب قراءة الفاتحة، ووجه الشاذ - وهو قول محمد بن مسلمة - أنها ركعتان، والركعة الواحدة لا تكرر فيها الفاتحة. ويُطِيلُ الرُّكُوعَ قَرِيباً مِنَ الْقِيَامِ. والسُّجُودُ مِثْلُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: والسجود مثل الركوع في الإطالة على المشهور. ومقابلة لمالك في المختصر. ولا خُطْبَةَ، ولَكِنْ يَسْتَقْبِلُهُمْ ويُذَكِّرُهُمْ على المشهور صح عنه عليه السلام أنه أقبل على الناس وهو محمول عند مالك على الوعظ لا على الخطبة، وإنما استحب ذلك لأن الوعظ إذ أتى عقب الآيات يرجي تأثيره. وإِذَا أَدْرَك الرُّكُوعَ الثَّانِي فَقَدْ أَدْرَكَ الرَكْعَةَ حاصله أن الركوع الأول سنة والثاني وهو الفرض؛ فلذلك إذا أدرك الثاني من إحدى الركعتين فقد أدرك تلك الركعة. وإذا أدرك الركوع الثاني من الركعة الأولى فقد أدرك الصلاة كلها، وإن أدرك الثاني من الثانية فقد أدرك الثانية ويقضي ركعة فيها ركوعان.

صلاة الخسوف

وإِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ فَرْضٍ، فَالْفَرْضُ إِنْ خِيفَ فَوَاتُهُ لعله يريد الجنازة. وإلا لم يتأت هذا الفرع على المشهور. واعْتُرِضَ عَلَى مَنْ قَدَّرَ اجْتِمَاعَ عِيدٍ وكُسُوفٍ بِاسْتِحَالَتِهِ عَادَةً، وأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ بِتَقْدِيرِ الْوُقُوعِ، ورَدَّهُ الْمَازِرِيُّ بأَِنَّ تَقْدِيرَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَيْسَ مِنْ دَابِ الْفُقَهَاءِ ... قال المازري: قال عبد الحق: إذا اجتمع عيد، وكسوف، واستقساء، وجمعة في يوم واحد؛ فيبدأ بالكسوف لئلا تتجلى الشمس ثم بالعيد، ثم بالجمعة، ويترك الاستسقاء ليوم آخر؛ لأن يوم العيد يوم تجمل ومباهاة، والاستسقاء ضد ذلك. ولم أزل أعجب من اغتفاله إذ لا يكون كسوف يوم عيد؛ أي: لأن العيد إنما يكون في النصف الأول، والكسوف لا يكون إلا في النصف الثاني. وقوله: (وأُجِيبَ) إلى آخره ظاهر التصور. وردُّ المازريِّ لِهَذَا يدلُّ على رسوخه في العلم، وشدة خوفه من الله الحامل على اشتغاله بالأهم مما يعنيه. وَصَلاةُ خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَانِ كَالنَّوَافِلِ، ولا يُجْتَمَعُ لهَا عَلَى الْمَشْهُورِ قوله: (رَكْعَتَانِ) لا يريد ركعتين فقط؛ لأن ابن الفاكهاني نقل عن مالك في شرح الرسالة أنه يصلي ركعتين ركعتين، وكذلك قال ابن عبد البر في كافيه أنه يصلي ركعتين ركعتين حتى ينجلي. وقوله: (كالنوافل) يعني: بلا تكرار ركوع، وهذا هو المشهور. وقال ابن الماجشون وعبد العزيز بن أبي مسلمة: تصلي ككسوف الشمس. ولم يجمع لها؛ لأنها تأتي ليلاً، فلو كلف الناس الجمع لأدى إلى الحرج. قال اللخمي: ولمالك في المجموعة: يفزع الناس في خسوف القمر إلى الجامع، ويصلون أفذاذاً، والمعروف من المذهب أن الناس يصلونها في بيوتهم، ولا يكلفون الخروج لئلا يشق ذلك عليهم. واختلف هل يمنعون من

صلاة الاستسقاء

الجمع؟ فقال مالك في المدونة والمجموعة: لا يجمعون. وأجاز أشهب الجمع، وهو أبين؛ لأنا إنما قلنا لا يجمعون لما في خروجهم من المشقة، فإذا اجتمعوا لم يمنعوا قياساً على كسوف الشمس. انتهى. وصلاة خسوف القمر فضيلة، وليست بسنة. صَلاةُ الاسْتِسْقَاءُ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ لِزَرْعِ أَوْ شُرْبِ حَيَوَانٍ، فَلِذَلِكَ يَسْتَسْقِى مَنْ بِصَحْرَاءَ أَوْ بِسَفِينَةِ. وقِلَّةُ النَّهْرِ كَقِلَّةِ الْمَطَرِ، قَالَ أَصْبَغُ: اسْتُسْقِىَ بِمِصْرَ لِلنِّيلِ خَمْسَةً وعِشْرِينَ يَوْماً مُتَوَالِيَةً. وحَضَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وابْنُ وَهْبٍ وغَيْرُهُمَا ... لما في البخاري ومسلم وغيرهما: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى فحول رداءه، ورفع يديه، ودعا، واستسقى، واستقبل القبلة. وكلامه ظاهر. وفِي إِقَامَةِ الْمُخْصِبِينَ لَهَا لا لأَجْلِهِمْ نَظَرٌ (لَهَا) أي؛ لصلاة الاستسقاء. (لأَجْلِهِمْ) أي: للمجدبين. وفي بعض النسخ: لا لأجلهم. فيعود الضمير على المخصبين؛ أي: لا لأجل أنفسهم. قال اللخمي والشوشاوي: ذلك مندوب لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. وقال المازري: في ذلك عندي نظر؛ لأنهم لم يقم على صلاتهم دليل، أما دعاؤهم لهم فمندوب. والجدب بالدال المهملة نقيض الخصب، خاص باحتياج الزرع إلى الماء، ولا يستعمل في احتياج الحيوان. ويَخْرُجُونَ إِلَى الْمُصَلَّى فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ أَذِلَّةً وَجِلِينَ، وتُصَلَّى رَكْعَتَّيْنِ كَالنَّوَافِلِ جَهْراً، ثُمَّ يَخْطُبُ كَالْعِيدَيْنِ، ويَجْعَلُ بَدَلَ التَّكْبِيرِ الاسْتِغْفَارَ، ويُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ فِي آخِرِ الثَّانِيَةِ، ويَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ حِينَئِذٍ ويُحَوِّلُ رِدَاءْهُ تَفاؤُلاً مَا يَلِي ظَهْرَهُ إِلَى السَّمَاءِ وما عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ ولا يُنَكِّسُهُ وكَذَلِكَ النَّاسُ قُعُوداً .... يخرجون] 98/ب [في ثياب بذلة؛ لأن المقصود إظهار التواضع. ابن حبيب: من السنة أن يكونوا مشاة بسكينة ووقار، متواضعين متخشعين، فإذا ارتفعت الشمس خرج

الإمام متذللاً ماشياً، والمذهب أنها تصلي ضحوة. زاد ابن حبيب إلى الزوال. سند: وقوله يحتمل أن يكون تفسيراً. خليل: والظاهر أنه تفسير؛ فإنه هو الذي ذكره ابن الجلاب وعبد الوهاب وغيرهما. وفي العتبية: لا بأس بالاستسقاء بعد الصبح والمغرب. وتأوله ابن رشد بأن المراد الدعاء لا البروز إلى المصلى. فائدة: كل صلاة لها خطبة فالقراءة لها جهراً. وقلنا لها خطبة احترازاً من خطبة الحج فإنها ليست للصلاة بل لتعليم الحاج. وقوله: (ثُمَّ يَخْطُبُ) هو المشهور، وقيل: لا خطبة. وقوله: (ثُمَّ يَخْطُبُ) يقتضي أن الخطبة بعد الصلاة. ابن راشد: وهو المشهور. وكان مالك أولاً يقول أنها قبل الصلاة. قوله: (ويَجْعَلُ ...) الخ، أي: ويجعل الاستغفار هنا بدل التكبير هناك في صلاة العيد، ويجلس جلستين فيها كالجمعة. وفي المبسوط: لا يجلس في غير أول صلاة الجمعة، ولا يخرج لها بمنبر على المشهور. ابن الماجشون: وليس في الغدو إليها تكبير ولا استغفار إلا في الخطبة. وينبغي إذا استغفر في الخطبة أن يستغفروا كما يكبرون معه في خطبة العيدين. والأصل في الاستغفار قوله تعالى في قصة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}] نوح: 10 - 11 [وفي وقت تحويل الرداء أقوال: المشهور- كما ذكر المصنف - بعد الفراغ. وفي المجموعة: يفعل ذلك بين الخطبتين. وروى عنه أنه يفعل ذلك في أثناء الخطبة، وعدم تنكيسه هو المشهور خلافاً لابن الجلاب. وقوله: (تَفاؤُلاً) أي: لعل الله يقلب جدبهم خصباً. ولا يقلب النساء أرديتهن لما في ذلك من الكشف لهن. وقوله: (وكَذَلِكَ النَّاسُ قُعُوداً) هو المشهور، وقال محمد ابن عبد الحكم: إنما يحول الإمام فقط. هكذا حكاه صاحب اللباب. والذي

صلاة التطوع

في النوادر أن محمد بن عبد الحكم حكاه عن الليث. ولا يؤمرون بصيام ثلاثة أيام قبل الخروج خلافاً لابن الماجشون. ولا يخرج إليها من لا يعقل من الصبيان على المشهر. وقال مالك: ولا تخرج الحائض إليها بحال، ولا يخرج إليها البهائم على المعروف. وذكر ابن حبيب عن موسى بن نصير أنه استسقى بإفريقية فجعل الصبيان على حدة، والإبل والبقر على حدة، وأهل الذمة على حدة. وصلى، وخطب، ولم يدع في خطبته لأمير المؤمنين، فقيل له في ذلك. فقال: ليس هو يوم ذلك. ودعا، ودعا الناس إلى نصف النهار. ابن حبيب: واستحسن ذلك أهل المدينة. وهل يخرج إليها أهل الذمة؟ ثالثها المشهور: يخرجون مع الناس غير منفردين بيوم واحد. وإذا خرجوا فقال ابن حبيب: لا يمنعون من التطوف بصلبانهم ويكونون في ناحية منعزلين عن المسلمين، ويمنعون من إظهار ذلك في الأسواق، وفي جماعة المسلمين في الاستسقاء وغيره. والمشهور جواز التنفل قبلها وبعدها في المصلى خلافاً لابن وهب فيهما. ابن حبيب: وبه أقول. صَلاةُ التَّطَوُّعِ مِنْهَا رَوَاتِبُ: وهِيَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ والْوِتْرِ، وقَبْلَ الْعَصْرِ، وبعْدَ الْمَغْرِبِ. وفِيهَا: هَلْ كَانَ مَالِكٌ يُؤَقِّتُ قَبْلَ الْظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وقَبْلَ الْعَصْرِ وبَعْدَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ؟ قَالَ: لا، إِنَّمَا يُؤَقِّتُ أَهْلُ الْعِرَاقِ ... علم من ذكره ركعتي الفجر أنه ليس مراده بالتوابع ما بعد الصلاة. وكان مالك رحمه الله يفر من التحديد، ويرى أن ما ورد من ذلك ليس المراد به التحديد، على أن ابن أبي زيد وقت في الرسالة؛ لما ورد في ذلك. خليل: وقد يقال: إنما نفي مالك رحمه الله التحديد على وجه السنية؛ أي أن هذا العدد هو السنة دون غيره. وحكمة تقديم النوافل على الصلاة وتأخيرها أن العبد مشتغل بأمور الدنيا، فتبعد النفس عند ذلك بحضور القلب في العبادة، فإذا تقدمت النافلة على الفرض

تأنست النفس بالعبادة، فكان ذلك أقرب إلى الحضور، فهذا حكمة التقديم. وأما التأخير فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض. وغَيْرُ الرَّوَاتِبِ: الْعِيدَانِ، والْكُسُوفُ، والاسْتِسْقَاءُ، وَهِيَ سُنَّةٌ كاَلْوِتْرِ ليس عندنا سنن إلا هذه الخمس، واختلف في ركعتي الفجر، ونبه على ذلك بقوله: ورَكْعَتَا الْفَجْرِ والإِحْرَامُ سُنَّةٌ، وقِيلَ: فَضِيلَةٌ كلامه يقتضي أن المشهور في ركعتي الفجر السنية ابن عبد البر: وهو الصحيح. وهو خلاف قل بن أبي زيد فإنه قال: وركعتا الفجر من الرغائب. وقيل: من السنن. والقولان فيها لمالك، وبالرغيبة أخذ ابن القاسم وابن عبد الحكم، وأصبغ، وبالثاني أخذ أشهب. وهذا مما يرجح قول ابن أبي زيد. ومَا عَدَاهَا فَضِيلَةٌ كَقِيَامِ رَمَضَانَ، والتَّحِيَّةِ، والضُّحَى؛ والتَّطَوُّعَاتُ لا تَنْحَصِرُ لو قيل: بسنية التحية ما بعد. ابن راشد: وأكثر الضحى ثمان ركعات، وأقلها ركعتان. والْجَمَاعَة فِي التَّرَاوِيحِ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْعَمَلِ، والْمُنْفَرِدُ لِطَلَبِ السَّلامَةِ أَفْضَلُ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلا أَنْ تَتَعَطَّلَ .... سمى قيام رمضان تراويح؛ لأنهم كانوا يطيلون القيام، فكان القارئ يقرأ بالمئين، فيصلون تسليمتين، ثم يجلس الإمام والمأموم للاستراحة، ويقضي من سبقه الإمام، ثم كذلك، فسميت تراويح لما يتخللها من الراحة. وقال بعضهم: جرت عادة الأئمة أن يفصلوا كل ركعتين من قيام رمضان ويصلون ركعتين خفيفتين. وقوله: (لِلْعَمَلِ) أي لاستمرار العمل على الجمع من زمن عمر رضي الله عنه، والمشهور مذهب المدونة قال فيها: وقيام الرجل في رمضان في بيته أحب إلي لمن قوي عليه. لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة".

ورجح في الشاذ إتباع السلف. وقوله: (إِلا أَنْ تَتَعَطَّلَ) هو كقول ابن شاس: ولو انفرد الواحد في بيته لطلب السلامة من أجل إظهار النافلة لكان أفضل له على المشهور ما لم يؤد ذلك إلى تعطيل المساجد. ابن هارون: ولم أر الخلاف الذي ذكر ابن شاس والمصنف. وهِيَ ثَلاثٌ وعِشْرُونَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ ثُمَّ جُعِلَتْ تِسْعاً وثَلاثينَ، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "مَا زَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ ولا فِي غَيْرِه عَلَى اثْنَتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَعْدَهَا الْوِتْرُ ... استمر العمل شرقاً وغرباً في زماننا على الثلاثة والعشرين، ولمالك في المختصر: الذي نأخذ لنفسي من ذلك الذي جمع عليه عمر بن عبد العزيز الناس، إحدى عشرة ركعة، وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. سند: وكان الناس يقومون إحدى عشرة ركعة قيام النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كانوا يطيلون، ففي الموطأ أنهم كانوا يستعجلون الخدم بالطعام مخافة الفجر. ثم خففت القراءة وزيد في الركعات فجعلت ثلاثاً وعشرين، ويقومون دون القيام الأول. وفي الموطأ أن القارئ كان يقوم بسورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها في اثنتى عشرة ركعة رأوا أن خفف. ثم جعلت بعد وقعة الحرة بالمدينة تسعاً وثلاثين، وخففوا من القراءة فكان القارئ يقرأ بعشر آيات في الركعة، فكان قيامهم بثلاثمائة وستين آية. ولَيْسَ الْخَتْمُ بِسُنَّةٍ، وسُورَةٌ تُجْزِئُ، ويَقْرَأُ الثَّانِي مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الأَوَّلُ، وأَجَازَهَا فِي الْمُصْحَفِ، وكَرِهَه فِي الْفَرِيضَةِ ... يريد: لكن الختم أحسن، (ويَقْرَأُ الثَّانِي مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الأَوَّلُ) لئلا يتخير كل واحد أعشاراً توافق صوته، ولأنه يطلب سماع المصلين لجميع القرآن. قوله: (وأَجَازَهَا) أي: القراءة في المصحف في النافلة في رمضان، وغيره.

وإِنِ ابْتَدَأهاَ بِغَيْرِ مُصْحَفٍ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ إِلا بَعْدَ سَلامِهِ لكثرة الشغل حينئذ. ويُتِمُّ الْمَسْبُوقُ رَكْعَتَيْنِ ويُسَلِّمُ أي: مخففة، ويلحق خلاف ما في الجلاب أنه يتحرى موافقته في الأداء، ويسلم من كل ركعة بالنسبة إلى الإمام، ثم كذلك إلى آخر الصلاة، وفيه مخالفة كثيرة إذ لا يزال مسبوقاً. وتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَانِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، وإِنْ كَانَ مَارّاً جَازَ التَّرْكُ، وقَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ثُمَّ رَجَعَ، ولَمْ يَاخُذْ بِهِ مَالِكٌ .... لما في الصحيحين: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس". قال أبو مصعب: إلا أن يكثر دخوله فيجزئه ركوعه الأول. نقله اللخمي، ونحوه في الجلاب، قال علماؤنا: وليست الركعتان مرادتين لذاتهما؛ لأن القصد بهما إنما هو تمييز المسجد من سائر البيت، فلذلك لو صلى فريضة اكتفى بها، ولا يخاطب بالركوع إلا مريد الجلوس، فأما المار فقال مالك: يجوز له ترك الركوع. وكان زيد بن ثابت يقول أولاً كقول مالك، ثم رجع زيد فأمر المار بالركوع، ولم يعجب مالك ذلك، وبقي على جواز الترك، هكذا في المدونة. وأنكر أبو عمران أن تكون المدونة على ظاهرها في هذا المعنى لما ذكر أنه نص في المجموعة، وهو أن زيداً يقول: إن المار في المسجد لا يلزمه الركوع في أول مرة، وإذا رجع مرة أخرى فلابد له من الركوع. فلم يأخذ مالك بقول زيد في المار إذا رجع. والنسخة التي ذكرتها هي التي توافق المشهور، لا ما وقع في بعض النسخ: فإن كان ماراً جاز الترك، ولم يأخذ به مالك. وقيد بعضهم ما وقع في المدونة من جواز المرور فيه بما إذا لم يتخذ طريقاً؛ أعني أنه إذا كان سابقاً على الطريق؛ لأنه تغيير للحبس ومن أشراط الساعة.

فرع: وتحية المسجد الحرام الطواف، وأما مسجده صلى الله عليه وسلم فنقل التلمساني وابن عطاء الله أن مالكاً قال في العتبية: يبدأ بالصلاة قبل السلام عليه، ووسع له مالك [99/ب] أيضاً أن يبدأ بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة، وبالأول أخذ ابن القاسم. ومنشأ الخلاف أنه ها هنا تعارض مندوبان. فرع: فإن صلى فقال مالك في العتبية: يصلي النافلة في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقدم في الفرض إلى الصف الأول. قال في البيان: قال مالك: والعمود المخلق ليس هو قبلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه أقرب شيء إلى مصلاه عليه السلام، بخلاف قول ابن القاسم أن العمود المخلق هو مصلاه عليه السلام. انتهى. فرع: والسلام المشروع هو أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر. قاله مالك في المبسوط. مالك: وصفة السلام عليه صلى الله عليه وسلم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. التلمساني وابن عطاء الله: واختلف كيف يقول. فروى مالك عن عبد الله بن دينار أنه رأى عبد الله بن عمر يقف على قبره صلى الله عليه وسلم، فيصلي عليه وعلى أبي بكر وعمر. هكذا رواه يحيى بن عمر. وروى ابن القاسم: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو لأبي بكر وعمر. وقد اختلف الناس في الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التبع. الباجي: وأكثر العلماء على الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد". ومنع ذلك ابن عباس.

الوتر

فرع: وروى ابن وهب في المختصر قال: سئل مالك من أين يقف من أراد التسليم؟ فقال: من عند الزاوية التي تلي القبلة مما يلي المنبر، ويستقبل القبلة، ولا أحب أن يمس القبر بيده. واختلف هل يدعو عند القبر؟ فلمالك في المبسوط: ولا أرى أن يقف عند النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي. الباجي: وروى عنه ابن وهب أنه يدعو مستقبل القبر، ولا يدعو مستقبل القبلة وظهره للقبر. مالك في المبسوط: وإنما يقف بالقبر الغرباء. وقال ابن القاسم: رأيت أهل المدينة يقفون إذا دخلوا المسجد أو خرجوا منه، وهو رأيي. والْوِتْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، واسْتَدَلَّ اللَّخْمِيُّ بِقَوْلِ سَحْنُونٍ: يُجَرَّحُ. وأَصْبَغُ: يُؤَدَّبُ .... قوله: (غَيْرُ وَاجِبٍ) لا يعني حكمه؛ لأن نفي الوجوب أعم من السنية، وكأنه اتكل على ما قدمه في السنن، ومقابل المشهور هو تخريج اللخمي، ولهذا كان الأحسن أن يقول على المنصوص. واستضعف التخريج بأن التجريح بالمباح فضلاً عن غيره. والتأديب لا يستلزم الوجوب؛ لأنا نؤدب الصبي على ترك الصلاة، ولعل أصبغ إنما أدبه لاستخفافه بأمور الديانة، فإن المداومة على ترك الوتر مشعرة بذلك. ونقل التونسي وغيره عن ابن خوي منداد أنه قال: من استدام على ترك السنن فسق، وإن تركها أهل بلد جبروا عليها، فإن امتنعوا حوربوا. التونسي: يحتمل أن تكون مقاتلتهم لأن الآمر لهم أمر بالمعروف، وَخُيِّرَ، فكان يجب على الآمر أن يأمرهم بذلك. فلما امتنعوا بعد الأمر وجب قتالهم لتركهم الأمر بالمعروف، والآمر لهم أمر بواجب عليهم، فقتالهم على امتناعهم. وقال بعض المتقدمين: أن الأمر

بالمندوبات ليس بواجب على الآمر به، وإنما ذلك عليه على سبيل الندب. وقد ذكر أيضاً ابن بشير وغيره هذا الخلاف؛ أعني أن الأمر بالمندوب هل هو واجب. أو مندوب؟ لكن قال في الإكمال: لما تكلم على قوله عليه الصلاة والسلام "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من الحطب .. " إلى قوله: "لا يشهدون الصلاة" الحديث. اختلف في التمادي على ترك السنن، هل يقاتل عليها تاركوها إلى أن يجيبوا إلى فعلها؟ والصحيح قتالهم، وإكراههم على ذلك لأن في التمادي عليها إماتتها، بخلاف ما لا يجاهر به منها كالوتر ونحوه. وأطلق بعض شيوخنا القتال في المواطأة على ترك السنن من غير تفصيل. والأول أبين. انتهى. وأَوَّلُهُ بَعْدَ الْعِشَاءِِ وبَعْدَ الشَّفَقِ وآخِرُهُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ أي: أول وقتها المختار. وزاد (بَعْدَ الشَّفَقِ) احترازاً من مثل الجمع ليلة المطر. والضَّرُورِيُّ إِلَى صَلاةِ الْفَجْرِ، وقِيلَ: لا ضَرُورِيَّ يعني: أن وقت الوتر الضروري من طلوع الفجر إلى صلاة الصبح. وظاهر قوله: (لا ضَرُورِيَّ) أن الوتر لا يصلى بعد الفجر، وهو ظاهر كلام ابن شاس. ابن راشد: وغيرهما. ولفظ ابن شاس: ويمتد وقت الضروري إلى أن يصلي الصبح على المشهور. وقال أبو مصعب: ينتهي وقتها لطلوع الفجر، ولا وقت ضروري لها. وقال ابن عطاء الله: لا إشكال أنه لا ينبغي تأخير الوتر إلى طلوع الفجر، وأنه يصلى بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح، وإنما الخلاف بين المتأخرين وأبي مصعب هل هو بعد الفجر قضاء أو أداء في وقت ضرورة؟ انتهى. فعلى هذا [100/أ] يكون معنى قولهم أن الوقت ينتهي في قول أبي مصعب بطلوع الفجر أنها تصلي بعد ذلك على صلاة الصبح، وتكون

قضاء. لكن عبارة ابن بشير لا تحتمل هذا التأويل لقوله: والشاذ أنه لا يصليه بعد طلوع الفجر. وكذلك نقله ابن زرقون. وعَلَى الْمَشْهُورِ لَوِ افْتَتَحَ الصُّبْحَ فَثَالِثُهَا: يَقْطَعُ إِنْ كَانَ فَذّاً. وراَبعُهاً: وإِمَاماً. وفِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ عَقْدِ رَكْعَةٍ قَوْلانِ، ولا يُقْضَى بَعْدَهُا .... أي: وعلى إثبات الضروري وتصور الأقوال من كلامه واضح وحاصله خمسة. ولم يذكر في المدونة في المنفرد إلا استحباب القطع، وذكر في المأمور روايتين، واستحب له أولاً القطع، ثم أرخص له في التمادي. وصرَّح المازري وسند بأن المشهور في الفذ القطع. اللخمي: وفي المبسوط لا يقطع الفذ. وهو أظهر لئلا يقطع الأقوى للأضعف؛ وهو قول المغيرة وغيره. قال في الاستذكار: ولم يقل أحد يقطع الصبح له إلا أبو حنيفة وابن القاسم. والصحيح عن مالك عدم القطع. وروى مطرف عن مالك أنه يقطع كان إماماً أو مأموماً أو فذاً إلا أن يسفر جداً. وروى نحوه ابن القاسم وابن وهب. وقد علمت أن في كل من الفذ والمأموم والإمام قولين. وذكر الباجي رواية ثالثة في الإمام: التخيير في القطع وعدمه. وحكى التلمساني أيضاً في المأموم رواية بالتخيير. وهذا ما رأيته في هذه المسألة، ولم أر بقية الأقوال التي حكاها المصنف في الأمهات، لكن تبع المصنف هنا ابن بشير. ابن راشد: وإذا قلنا يقطع الإمام فهل يقطع المأموم كما إذا ذكر الإمام صلاة؟ قولان. وحكى ابن راشد طريقة عن بعضهم أن الخلاف إنما هو إذا لم يعقد ركعة، وأما إذا عقدها فلا يقطع. وقوله: (ولا يُقْضَى بَعْدَهُا) أي: بعد صلاة الصبح.

وإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ إِلا عَنْ رَكْعَةٍ فَالصُّبْحُ، فَإِنِ اتَّسَعَ لِثَانِيَةٍ فَالْوِتْرُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، ويَلْزَمُ الْقَائِلَ بالتَّاثِيمِ تَرْكُهُ ... المنصوص في كلامه قد تقدم في الأوقات أنه قول أصبغ، وأن مقابله وهو مذهب المدونة، ففي كلامه نظر. ويقال- أي في متقدمي الشيوخ- كانوا إذا نقلت مسألة من غير المدونة، وهي فيها موافقة لما في غيرها عدوه خطأ، فكيف إذا كان الحكم في غيرها مخالفاً؟! فَإِنِ اتَّسَعَ لِرَابعَةٍ فَفِي الشَّفْعِ قَوْلانِ لاشك على مذهب المدونة في ترك الشفع. وقال أصبغ في الموازية: يوتر بثلاثة ويصلي الصبح. وقول أصبغ بصلاة الشفع هنا أبعد من قوله بصلاة الوتر في التي قبلها. ولِخَامِسَةٍ وكَانَ قَدْ تَنَفَّلَ فَفِي تَقْدِيمِ الشَّفْعِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَوْلانِ يعني: إذا بقي من آخر الوقت مقدار خمس ركعات فركعتان للصبح، وركعة للوتر، وهل يصلي فيما بقي ركعتي الفجر، أو ركعتي الشفع؟ إن لم يكن تنفل بعد العشاء قدم الشفع لتأكده وإن كان قد تنفل فهل يصلي الشفع أو ركعتي الفجر لأنهما من توابع الصبح، وركعتي الشفع من توابع الوتر. وإذا كان الصبح أولى من الوتر عند ضيق الوقت كان تابعه أولى. وقال أصبغ: يأتي بالشفع لأنها من الوتر عند أبي حنيفة، وهو يرى أن الوتر واجب، ولأن ركعتي الفجر تقضي عندنا. ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ آخِرَ صَلاةِ اللَّيْلِ لما في مسلم عن عائشة رضي الله عنها: من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر.

فَإِنْ أَوْتَرَ ثُمَّ تَنَفَّلَ جَازَ ولَمْ يُعِدْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: إذا أحدثت له نية النافلة بعد أن أوتر. وأما لو أراد أولاً أن يجعل وتره في أثناء تنفله لغير موجب فذلك خلاف السنة، وأمر في المدونة من أراد النفل بعد الوتر أن يؤخر التنفل يسيراً، وهو ظاهر كلام المنصف لقوله: (ثُمّ) فأتى بحرف المهملة. قوله: (ولَمْ يُعِدْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة". خرجه الترمذي، ووجه الشاذ قوله عليه الصلاة والسلام: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً". وفِي قِرَاءَةِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ والْمُعَوِّذَتَيْنِ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ قَوْلانِ أي: وفي الاستحباب، إذ لا خلاف في عدم الوجوب، والمشهور استحباب قل هو الله أحد والمعوذتين لما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني أن عائشة سئلت بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد، والمعوذتين. الترمذي: وهو حسن غريب. ولعل مقابل المشهور ما رواه ابن نافع عن مالك في المجموعة أنه قال: إن الناس ليلتزمون في الوتر قراءة قل هو الله أحد، والمعوذتين مع أم القرآن، وما هو بلازم وإني لأفعله. قال صاحب الأحوذي: الصحيح أن يقرأ في الوتر [100/ب] بقل هو الله أحد، كذلك جاء في الحديث الصحيح. قال: وهذا إذا انفرد. وأما إذا كانت له صلاة، فليجعل وتره من صلاته، وليكن ما يقرأ فيه من حزبه، ولقد انتهت الغفلة بقوم إلى أن يصلوا التراويح، فإذا صلوها أوتروا بهذه السورة، والسنة أن يكون وتره من حزبه، فتنبهوا لهذا. انتهى.

والشَّفْعُ قَبْلَهَا لِلْفَضِيلَةِ، وقِيلَ: لِلصِّحَّةِ. وفِي كَوْنِهِ لأَجلِهِ قَوْلانِ، ثُمَّ فِي شَرْطِ اتِّصَالِهِ قَوْلانِ ... كلامه يقتضي أن المشهور كون الشفع للفضيلة. والذي في الباجي تشهير الثاني، فإنه قال: لا يكون الوتر إلا عقيب شفع. رواه ابن حبيب عن مالك؛ وهو المشهور من المذهب. وروى ابن زياد أن للمسافر أن يوتر بواحدة. وأوتر سحنون في مرضه بواحدة. وذلك يدل من قولهما أن الشفع ليس بشرط في صحة الوتر. انتهى باختصار. قال المازري: لم يختلف المذهب عندنا في كراهة الاقتصار على ركعة واحدة في حق المقيم الذي لا عذر له، واختلف في المسافر ففي المدونة: لا يوتر بواحدة. وفي كتاب ابن سحنون إجازته بواحدة. وأوتر سحنون في مرض بواحدة ورآه عذراً كالمسافر. انتهى. وفي المدونة: لا ينبغي أن يوتر بواحدة. فقوله: لا ينبغي يقتضي أنه فضيلة، وكونه لم يرخص في تركه للمسافر يقتضي أنه للصحة. فرع: فإن أوتر دون شفع من لا عذر له فحكى سحنون عن أشهب: يعيد وتره بإثر شفع ما لم يصل الصبح. وقال سحنون: يشفع وتره إن كان في الحضرة، وإن تباعد أجزأه. نقله الباجي. وقوله: (وفِي كَوْنِهِ لأَجْلِهِ) أي: اختلف هل يشترط في ركعتي الشفع أن يخصهما بالنية، أو يكتفي بأي الركعتين كانا؟ وهو الظاهر، قاله اللخمي وغيره، لما خرجه مالك، والبخاري ومسلم من قوله عليه السلام: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى". وقوله: (ثُم فِي شَرْطِ اتَّصَالِهِ قَوْلانِ) ليس هو مرتباً على أنه لأجله بل هو كما قال ابن شاس: وإذا قلنا بتقديم شفع لابد، فهل يلزم اتصاله بالوتر أو يجوز وإن فرق بينهما بالزمان الطويل؟ قولان. والقول باشتراط الاتصال لابن القاسم في العتبية، قال فيمن

صلى مع الإمام أشفاعاً، ثم انصرف، ثم رجع فوجد الإمام في الوتر فدخل معه، قال: لا يعتد به، وأحب إلي أن يشفعه بركعة. قيل له: فإن فعل. قال: فالوتر ليس بواحدة. وهو رواية ابن القاسم في المجموعة. والقول بعدم الاشتراط رواية ابن نافع عن مالك، ونقل أيضاً عن ابن القاسم. وفِي قِرَاءَةِ الشَّفْعِ بسَبِّحْ وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِِرُونَ رِوَايَتَانِ المشهور: استحباب ذلك للحديث المتقدم، والشاذ أيضاً لمالك، وهو الذي اقتصر عليه ابن الجلاب. قال القاضي عياض: وخيره ابن حبيب في ذلك، ووسع عليه في الجميع. قال: وهذا في الشفع إذا كان منفرداً عن غيره ولم يتقدم تنفل يتصل به، فأما إذا اتصل به تنفل قبله، فلا تتعين له قراءة ولا عدد جملة وللمصلي حينئذ أن يوتر بواحدة يصليها بنفله إذ الوتر عندنا بواحدة. وإلى هذا ذهب القاضي أبو الوليد الباجي وغيره من متأخري مشايخ المغاربة، وهو مبني على أصل المذهب، واحتج للصواب، وخالف في هذا بعض مشايخ القرويين. انتهى. ولا يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ ولا بَعْدَ نِصْفِ رَمَضَانَ عَلَى الْمَشْهُورِ تصور كلامه ظاهر. والشاذ لمالك أيضاً، وابن نافع، والخلاف إنما هو في نصف رمضان فقط. فروع: الأول: إن صلى خلف من لا يفصل بسلام، ولم يسلم عن اثنتين على المشهور خلافاً لأشهب. الثاني: لا يصلي شفعاً بنية الوتر، ولا العكس على المشهور خلافاً لأصبغ.

وثالثها: لمحمد: إن أحرم بشفع لم يجزئه أن يجعله وتراً بخلاف العكس. وفي المدونة: فإن شفع وتره سجد بعد السلام. وفي المبسوط: يستأنف. وروى علي في المجموعة أنه يسجد ويستأنف الوتر استحباباً، واعترض في النكت على ما في المدونة فقال: أليس زاد في الوتر مثله، فهلا كان كمن زاد في صلاته مثلها أن يعيد؟ ثم أجاب بأن الوتر لما لم يكن إلا بعد شفع أشبه صلاة وهي ثلاث، زاد فيها ركعة. الثالث: إن قرأ في الوتر بأم القرآن فروى ابن القاسم: لا سجود عليه. سند: وهو يقتضي ألا شيء عليه في العمد؛ لأن ما لا سجود في سهوه لا يبطل عمده، كالتسبيح. الرابع: إذا أدرك مع الإمام ركعة من الشفع لم يسلم معه، وليصل معه الوتر. فإذا سلم منه سلم معه، ثم أوتر إلا أن يكون الإمام لا يسلم في شفعه، ففي سلام هذا مع الإمام قولان: أحدهما: أنه لا يسلم إذا سلم الإمام من وتره؛ لأنه شفع مع الإمام، وقد كان الإمام لا يسلم من شفعه، فأمر أن يفعل كفعله، وهو مذهب ابن [101/أ] القاسم. والثاني: أنه يسلم لأن المأمور به عندنا أن يسلم للشفع، وإنما أمر من دخل مع الإمام أولاً بعدم السلام حتى لا تحصل المخالفة، وهنا لا مخالفة مع الإمام، بل هو صورة الحال الموافقة، وهو مذهب مطرف وابن الماجشون. قال الشيخ أبو محمد وغيره: ومعنى قولهم: أنه يصلي الوتر معه؛ أي: يحاذي بركوعه وسجوده ركوع الإمام وسجوده، فأما أن يأتم به فلا؛ لأنه يكون محرماً قبل إمامه. ولا تُقْضَى سُنَّةٌ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، وجَاءَ فِي رَكْعَتَي الْفَجْرِ تُقْضَى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَقِيل: مَجَازٌ .... ظاهر كلامه أن ركعتي الفجر سنة؛ لأن قوله: (وجَاءَ فِي رَكْعَتَي الْفَجْرِ) يجري مجرى الاستثناء من قوله: (لا تُقْضَى سُنَّةٌ) وهو موافق لما تقدم للمصنف. وقد قدمنا ما يتعلق بذلك، والقضاء هو المشهور، لما في الموطأ من حديث الوادي. قال في الجواهر:

وقيل: لا يصليها. ثم إذا قلنا يصليها، فهل ما يفعله قضاء أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر؟ قولان. انتهى. وعلى هذا فهو خلاف مركب، والقول بأنه يصلي ركعتين ينوب له ثوابهما عن ركعتي الفجر، ذكر ابن شاس أن الأبهري تأوله على القول بالقضاء، وإليه أشار المصنف بقوله: (فَقِيلَ: مَجَازٌ) لكنه لو قال: وقيل: مجازاً، لكان أولى؛ لأن الفاء قد تشعر بالتفسير، فيحتمل أن يكون أراد: إذا قلنا بالقضاء على المشهور فإن ذلك مجاز، ولا يؤخذ حينئذ منه القضاء حقيقة مع أنه المشهور. فرع: إذا قلنا بالقضاء فنقل التونسي عن أشهب أنه يقضي بعد طلوع الشمس وحلول التحية، وبعدم الظهر وفي الليل والنهار، وعن مالك أنه قال في رواية ابن وهب: لا يقضيها بعد الزوال. وعلى القضاء فالمشهور أنه لا يقضيها بعد الصبح خلافاً لابن وهب. ومَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وقَدْ أَصْبَحَ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَقَطْ عَلَى الْمَشْهُورِ، وقِيل: بَعْدَ التَّحِيَّةِ ... المشهور: أظهر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وركعتا الفجر تجزئ عن تحية المسجد لما تقدم، والشاذ للقابسي. ولَوْ رَكَعَ فِي بَيْتِهِ فَفِي رُكُوعِهِ رِوَايَتَانِ، ثُمَّ فِي تَعْيينِهِمَا قَوْلانِ يعني: لو ركع في بيته الفجر ثم أتى المسجد فهل يركع أيضاً أم لا؟ روايتان، قال في الجواهر مشهورتان. ابن راشد: وروى ابن وهب وابن القاسم الركوع، واختاره ابن عبد الحكم، وروى ابن نافع عدمه. وعن مالك: الركوع، وعدمه واسع،

وقد رأيت من فعله، وأحب إلي ألا يركع. وبه قال سحنون. وقال بعض شراح الرسالة: وهو المشهور. وقوله: (ثُمَّ فِي تَعْيينِهِمَا قَوْلانِ) أي: إذا قلنا يركع، فهل يركع بنية ركعتي الفجر لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة نافلة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر أو بنية تحية المسجد". وهو الظاهر؟ والقولان للأشياخ. وقِرَاءَتُهُمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ عَلَى الْمَشْهُورِ، وقِيلَ: وسُورَةٍ قَصِيرَةٍ. وقِيلَ: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ، وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا ... فوجه الأول ما رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخفف ركعتي الفجر حتى غني لأقول قرأ فيهما بأم القرآن أم لا. ووجه الثاني- وهو قول مالك في مختصر ما ليس في المختصر- ما رواه مسلم وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد. ووجه الثالث ما رواه مسلم وابن أبي شيبة وغيرهما، عن ابن العباس رضي الله عنهما أنه صلى وسلم كان يقرأ في الأولى بـ {قُولُوَاءَامَنَّا بِاللهِ ...} الآية. وفي الأخيرة بـ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية. وروى ابن حبيب في الواضحة عن ابن معاوية المدني عن يزيد بن عياض عن عباس بن عبد الله بن سعيد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر في الأولى مع أم القرآن بخاتمة سورة البقرة من أول {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} إلى آخرها، وفي الثانية مع أم القرآن بـ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآيتين. قيل: وهو حديث منقطع ضعيف؛ لأن في سنده يزيد بن عياض بن جعدة النسائي وغيره. وهو متروك. والضَّجْعَةُ بَعْدَهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: غير مستحبة على المشهور. وقال في المدونة: وتكره. وقال ابن حبيب: تستحب. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى

أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع عن يمينه". الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح غريب. وخرجه أحمد، وأبو داود. لكن تكلم أحمد والبيهقي فيه وصححوا فعله للاضطجاع لأمره به. والضجعة بالفتح الفعلة الواحدة كالرمية والنوبة، وبالكسر الهيئة كالقعدة والجلسة. فرع: وشرط ركعتي الفجر أن ينوي لهما [101/ب] نية معينة، وأن يصليهما بعد الفجر، فإن صلى ركعة قبله وركعة بعده لم تجزئه، وإن كان متحرياً على المشهور خلافاً لعبد الملك. وإن دخل المسجد فوجد الإمام في الصبح ولم يكن صلاهما دخل مع الإمام على المشهور. وفي الجلاب أنه يخرج ويركعهما إن كان الوقت متسعاً. وفهم منه التلمساني أن المراد بالوقت وقت الصلاة. ونقل عن عبد الوهاب أنه يخرج ويصليهما إن طمع أن يدرك ركعة من الصلاة، وأما إن أقيمت عليه وهو خارج المسجد فقال مالك في المدونة أنه إن لم يخف فوات ركعة فليركعهما خارجه، وإن خاف ذلك دخل مع الإمام. واعتبر ابن القاسم في العتبية فوات الصلاة كلها. قال الباجي: وأما إن ذكرهما الإمام فله إسكات المؤذن والإتيان بمؤكد النفل. وروى ابن القاسم عن مالك: إذا أخذ المؤذن في الإقامة، ولم يكن الإمام ركع الفجر فلا يخرج إليه ولا يسكته، وليصلِّهما قبل أن يخرج إليه. قال في السليمانية: وصلاة ركعتي الفجر، في المسجد أحب إلي منهما في البيت؛ لأنها سنة، وإظهار السنن خير من كتمانها لاقتداء الناس بعضهم ببعض؛ نقله التونسي عن ابن وهب. وفي اللخمي: أن صلاتهما في البيت مستحبة. مالك: وإن فرغ من طوافه بعد الفجر فليبدأ بركعتي الطواف قبل ركعتي الفجر.

وعِدَّةُ النَّوَافِلِ رَكْعَتَانِ فِي لَيْلٍ أَوَ نَهَارٍ، فَإِنْ سَهَا فِي الثَّالِثَةِ وعَقَدَهَا أَكْمَلَ رَابعَةً. وقيلَ: إِنْ كَانَتْ نَهَاراً. ويَسْجُدُ، وفِي مَحِلِّهِ قَوْلانِ ... قوله: (وقِيلَ: إِنْ كَانَتْ نَهَاراً) أي: وإن كانت ليلاً رجع إن عقد الثالثة لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: "صلاة الليل مثنى مثنى". وفسر ذلك ابن عمر بأن يسلم من كل ركعتين. والترمذي: وإن زاد في هذا الحديث صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فقد قال: روى الثقات هذا الحديث، ولم يذكروا فيه صلاة النهار. انتهى. ورواه أحمد بن حنبل بزيادة النهار. والمشهور في محله قبل وقد تقدمت. والسِّرُّ فِيهَا جَائِزٌ، وكَذَلِكَ الْوِتْرُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وفي كَرَاهَةِ الْجَهْرِ نَهَاراً قَوْلانِ الأفضل في الليل الجهر إلا لضرورة؛ لتشويش المصلين بعضهم على بعض. قوله: (وكَذَلِكَ الْوِتْرُ) يريد: مع كونه خالف الأفضل. ومقابل المشهور للإبياني قال: إن أسر فيه ناسياً يسجد قبل السلام، وإن جهل ذلك أو تعمد فعليه الإعادة. وبلغني ذلك عن يحيى بن عمر. وأما الشفع فإن شاء جهر فيه أو أسر. وما حكاه من القولين في كراهة الجهر نهاراً حكاه عبد الوهاب. والْجَمْعُ فِيهَا فِي مَوْضِعٍ خَفِيٍّ، والْجَمَاعَةُ يَسِيرَةٌ جَائِزٌ، وإِلا فَالْكَراَهَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: ويجوز الجمع في النافلة لحديث ابن عباس وحديث أنس بن مالك بشرطين أن يقل القوم. ابن أبي زمنين: كالرجلين والثلاثة، وأن يكون الموضع غير مشتهر. ووجه الباجي الكراهة في الجمع الكثير، أو الموضع المشتهر خشية أن يظنها كثير من الناس من جملة الفرائض، ومن هنا تعلم أن الجمع الذي يفعل في ليلة النصف من شعبان وأول جمعة من رجب، ونحو ذلك بدعة مكروهة. وقد نص جماعة من الأصحاب على ذلك، بل لو قيل بتحريم ذلك ما بعُد. وقد تولى الشيخ أبو عبد الله بن الحاج بيان مفاسده وشناعته، فتنظره في كلامه الذي هو من نور وتأييد.

سجود التلاوة

ومَنْ قَطَعَ نَافِلَةً عَمْداً لَزِمَهُ إِعَادَتُهَا بخِلافِ الْمَغْلُوبِ إنما لزمه إعادتها لأنها قد وجبت عليه بالشروع عندنا، ولا عذر له. فائدة: هذه إحدى الأشياء السبع التي تلزم بالشروع فيها، وهي: الصلاة، والصوم، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والائتمام، والطواف. ونظمها بعضهم فقال: صلاة وصوم ثم حج وعمرة ... يليها طواف واعتكاف وائتمام يعيدهم من كان للقطع عامداً ... لعودهم فرضاً عليه والتزام انظر ما ذكره من لزوم الإعادة في الائتمام، فإن الظاهر عدم لزومه. وَسُجُودُ التِّلاوَةِ فَضِيلَةٌ. وقِيلَ: سُنَّةٌ ظاهر كلامه أن المشهور أن سجود التلاوة فضيلة، والذي حكاه ابن محرز وابن يونس وصاحب اللباب: السنية. قال ابن عطاء الله: وهو المشهور، نعم استقرأ ابن الكاتب الفضيلة من قوله: كان مالك يستحب إذا قرأها في آيات الصلاة ألا يدع سجودها. ابن محرز ولا دليل له على ذلك؛ لأن السنة يطلق عليها المستحب والأشبه بمذهب الكتاب السنية؛ لأنه قال: يسجدها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر فجعلها منزلة الجنازة ورفعها عن النوافل. وهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً: الأَعْرَافُ، والرَّعْدُ، والنَّحْلُ: [102/أ] {يُؤْمَرُونَ}، وسُبْحَانَ، ومَرْيَمُ، وأَوَّلُ الْحَجِّ، والْفُرْقَانُ، والنَّمْلُ: {الْعَظِيمِ}، والسَّجْدَةُ، وص: {وَأَنَابَ}، وقِيلَ: {مَآبٍ}، وفُصِّلَتْ: {يَعْبُدُونَ} وقِيلَ: {يَسْئَمُونَ}. قَالَ ابْنُ وَهْبِ وابْنُ حَبيبِ: خَمْسَ عَشْرَةَ: ثَانِيَةُ الْحَجِّ، والنَّجْمُ، والانشِقَاقُ: آخِرُهَا، وقِيلَ: {لا يَسْجُدُونَِ}، واقْرَا. ورُويَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ دُونَ ثَانِيَةِ الْحَجِّ. فَقِيلَ: اخْتِلافٌ. وقالَ حَمَّادُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْجَمِيعُ سَجَدَاتٌ، والإِحْدَى عَشْرَةَ الْعَزَائِمُ كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ. قال عبد الوهاب: الرواية المشهورة هي أن السجود في أحد عشر موضعاً. وقوله: (ورُوِيَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ دُونَ ثَانِيَةِ الْحَجٌ). وقوله: (قَالَ ابْنُ وَهْبٍ) هما قولان

مقابلان للمشهور. وبعدم السجود في المفصل قال ابن عمر وابن عباس، وابن المسيب، وغيرهم. وفي أبي داود عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة. وفي حديث زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم ولم يسجد. اللخمي وغيره: والاعتراض بهذين الحديثين لا يصح. أما حديث ابن عباس فقد لا يثبت لأنه لم يشهد جميع إقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وإنما كان قدومه سنة ثمان بعد الفتح، ومعارض بحديث أبي هريرة وانه سجد في الانشقاق، والأخذ به أولى لأنه أسلم عام خيبر بعد الهجرة، ولصحة سنده، ولأن من أثبت أولى ممن نفي. والنسخ لا يصح إلا بأمر لا شك فيه مع تأخير الناسخ، ولو ثبت التأخير لأمكن أن يكون ذلك في غير وقت صلاة، أو لكون القارئ لم يسجد. وقال صاحب التهذيب: حديث ابن عباس عندي حديث منكر، يرده حديث أبي هريرة، ولم يصحبه أبو هريرة إلا بالمدينة. اللخمي: وإثبات ثانية الحج ليس بحسن؛ لأن المفهوم: والمراد بها الركوع والسجود. قال: وإثبات الثلاث التي في المفصل أحسن لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} خرجه البخاري ومسلم. وزاد مسلم عنه أنه قال: "في {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. سجدت فيها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجدها حتى ألقاه. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه سجد بمكة في النجم. انتهى بمعناه. وأمر عمر بن عبد العزيز بالسجود في الانشقاق. قال مالك: وليس العمل عليه. ونقل عن الأبهري أنه خير في السجود في المفصل. قال اللخمي: ولمالك في المبسوط نحوه. وقوله: (الأَعْرَافُ) إلى آخره، اكتفى رحمه الله في ذكر السجدة الواحدة التي لا خلاف فيها بذكر السورة، وإن كان في المحل إشكال أو خلاف مذهبي أو خارجي ذكره. فالأولى: كـ: {يُؤْمَرُونَ} لأن ظاهر الأمر عند من لا يعرف طلب السجود عند {يَسْتَكْبِرُونَ} لكنهم راعوا- والله أعلم- إتمام الكلام لأن {يَخَافُونَ} حال من {يَسْتَكْبِرُونَ}.

والثاني: كصاد وفصلت فإن فيهما خلافاً مذهبياً، وكالنمل فإن الشافعي رأي أن السجدة عند {وَمَا يُعْلِنُونَ}، وروى أهل المذهب أن قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} كالمتمم لقوله: {لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ}، وكان الكلام تاماً بتأخره، فإن قيل: لِمَ لَمْ يَعتبروا آخر الكلام في صاد كما في النحل والنمل، فإن المشهور على ما قاله المصنف أن سجودها أولاً. قيل: لأن قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} كالجزاء على السجود، فكان بعد السجود فوجب تقديم السجود عليه، وكذلك فصلت لأن قوله: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي}، إلى قوله: {تَعْبُدُونَ}، طلب للسجود. وقوله بعد ذلك: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} إلى آخره؛ ذم لمن لم يسجد استكباراً، وإنما يكون ذماً إذا مضى محل السجود. وما قدمه المصنف في صاد ذكر صاحب اللباب، وصاحب الذخيرة أنه المذهب. وهو الذي يؤخذ من الرسالة لتصديره به، وعطفه عليه بقيل. والقول بأن السجود عند {لاَ يَسْئَمُونَ}، لابن وهب، وحماد- وهو أخو القاضي إسماعيل- قاله المازري. وإلى طريقة من حمل الرواية على الوفاق ذهب عبد الوهاب، وجمهور الأصحاب على حملها على الخلاف. ويَسْجُدُ الْقَارِئُ وقَاصِدُ الاسْتِمَاعِ إِنْ كَانَ الْقَارِئُ صَالِحاً لِلإِمَامَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْقَارِئُ فَفِي الْمُسْتَمِعِ قَوْلانِ ... أي: إنما يسجد من قصد الاستماع لا السامع. ابن عبد السلام: وهذه التفرقة مروية في الصحيح عن سلمان، وعثمان، وغيرهما. وقوله: (إِنْ كَانَ الْقَارِئُ صَالِحاً لِلإِمَامَةِ) أي: يكون ذكراً بالغاً متوضئاً، فإن كان القارئ امرأة أو غير بالغ لم يسجد بقراءته. وعلى القول بإجازة [102/ب] إمامة الصبي في النافلة، ينبغي أن يسجد. واختلف إذا كان على غير وضوء أو كان ولم يسجد، وإليه أشار بقوله: (فَإِنْ تَرَكَهُ الْقَارِئُ فَفِي الْمُسْتَمِعِ قَوْلانِ) والمشهور الأمر لأن كباَ منهما مأمور، فليس ترك القارئ بالذي يسقطه عن المستمع. وقال ابن حبيب: لا يسجد. وصوبه ابن يونس وغيره، لقوله

عليه الصلاة والسلام لقارئ لم يسجد: "كنت إماماً، فلو سجدت لسجدنا"، وقال بعض الشافعية: إنما تركه صلى الله عليه وسلم لينبه القارئ على أنه أخطأ بتركه، وأنه هو كان المأمور به أولاً، وهو غير واجب على المستمع فلا يبعد تركه لقصد البيان، وفي المسألة قول ثالث بالتخيير لأشهب. ونقل عياض: إذا جلس ليسمع الناس حسن قراءته، وفعل هذا المكروه وسجد أو لم يسجد، خلاف في سجود مستمعه. اللخمي: وأرى أن يسجد لأن الظاهر أنه في طاعة، والسرائر إلى الله تعالى. ونص مالك أنه لا يجلس إليه قال: وإن جلس إليه، وعلم أنه يريد قراءة سجدة، فليقم عنه. وقسم في البيان الجلوس إلى القارئ على ثلاثة أقسام: أحدها: أنه يجلس إليه للتعليم، فهذا جائز أن يجلس إليه ويسجد لسجوده، واختلف إذا لم يسجد القارئ، هل يسجد السامع؟ فذكر القولين، قال: واختلف في المقرئ الذي يقرأ القرآن، فقيل: إنه يسجد لسجود القارئ إذا كان بالغاً في أول ما يمر بسجدة، وليس عليه السجود فيما بعد ذلك. وقيل: ليس عليه السجود بحال. والثاني: أن يجلسوا إليه ليسمعوا قراءته ابتغاء الثواب من الله تعالى في استماع القرآن، فهذا جائز أن يجلسوا إليه، ويختلف هل يسجدون بسجوده إذا مر بسجدة؟ ففي العتبية: لا يسجدون، وقال ابن حبيب: يسجدون غلا أن يكون ممن لا يصح أن يؤتم به من صبي أو امرأة. والذي في المدونة محتمل للتأويل، والأظهر منها أنهم لا يسجدون بسجوده. والثالث: أن يجلسوا إليه لأن يسجدوا بسجوده، فهذا يكره أن يجلسوا إليه، وأن يسجدوا بسجوده؛ وهو نص المدونة، ومعنى العتبية، وزاد فيها ونهى عن ذلك. انتهى بمعناه. قال في المدونة: ويقام الذي يقعد في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن. وما ذكره من تقسيم المسألة على ثلاثة أقسام، خالف في ذلك طريق الأكثر فإنهم قالوا: متى لم يجلس للتعليم فلا يسجد، سجد القارئ أم لا. ولم يفرقوا بين أن يقصد الثواب أم

لا، ذكره في التنبيهات. وقال المازري: إذا قرأ آية سجدة بعدما سجد فإنه يسجد عندنا وعند الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يسجد. قال: وهذا الذي ذكرته من تكرار السجود هو أصل المذهب عندي إلا أن يكون القارئ ممن يتكرر ذلك علي غالباً كالمعلم والمتعلم، ففيه قولان: إذا كانا بالغين، قال مالك وابن القاسم: يسجدان أول مرة لا غير. وقال أصبغ وابن عبد الحكم: لا سجود عليهما ولا في أول مرة. وأما قارئ القرآن فإنه يسجد جميع سجداته. ويَسْجُدُ الْمُصَلِّي فِي النَّفْلِ مُطْلَقَاً. وقِيلَ: إِنْ أَمِنَ التَّخْلِيطَ. وفِي الْفَرْضِ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ جَهْراً أَوْ سِرّاً، فَإِنْ قَرَأَ فَقَوْلانِ، وعَلَى الْمَشْهُورِ إِذَا عَزَمَ جَهْرَ لِيُعْلِمَ فَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ وسَجَدَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُتْبَعُ. وقالَ سَحْنُونٌ: لا يُتْبَعُ لاحْتِمَالِ السَّهْوِ ... قال ابن بشير وابن شاس: وهل تجوز قراءة السورة التي فيها السجدة؟ فأما صلاة النافلة فلم يختلف المذهب في جواز ذلك. وهذا إذا كان فذاً أو في جماعة يأمن التخليط فظاهر، وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها فالمنصوص أيضاً جوازه، لما ثبت في فعل الأولين في قراءة السجدة في قيام رمضان. انتهى. ومفهوم قوله في الجلاب: ولا بأس بقراءة السجدة في النافلة والمكتوبة إذا لم يخف أن يخلط على من خلفه عدم الجواز مع عدم أمن التخليط. والمشهور الكراهة في الفريضة مطلقاً لأنه إذا قرأها فإن لم يسجد دخل في الوعيد، وإن سجد زاد في أعداد سجود الفريضة. ومقابل المشهور بالجواز رواية ابن وهب عن مالك. وصوبه ابن يونس واللخمي وابن بشير وغيرهم. ابن بشير لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يداوم على قراءة السجدة في الركعة الأولى من صلاة الصبح. وعلى ذلك يواظب الأخيار من أشياخي وأشياخهم. انتهى. قوله: (فَإِنْ قَرَأَ فَقَوْلانِ) السجود وهو المشهور، وعليه فإذا كانت صلاتهم سرية جهر ليعلم الناس، فإن لم يجهر وسجد فقال ابن القاسم: يتبع لأن الأصل عدم السهو.

وقال سحنون: لا يتبع لأن أكثر الناس لا يقرؤونها في الفريضة، وإذا قرأ بها جهراً كان الغالب عليه السهو. فرع: قال أشهب: ولا يقرأ الخطيب [103/أ] سجدة على المنبر. وكأنه رأى أن النزول للسجدة يؤثر في نظام الخطبة، فإن قرأها فقال أشهب: ينزل ويسجد مع الناس، وإن لم يفعل فليسجدوا، ولهم في الترك سعة. وينبغي أن يعيد قراءتها في الصلاة ويسجد. وقال مالك في المجموعة: لا ينزل ولا يسجد، وإن العمل على آخر فعل عمر في تركه السجود. وقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا. وشُرُطُهَا كَالصَّلاةِ إِلا الإِحْرَامَ والسَّلامَ، وفِي التَّكْبِيرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلاةٍ: ثَالِثُهَا: خَيَّرَ ابْنُ الْقَاسِمِ .... تصوره واضح. قال ابن وهب: يسلم منها. والظاهر أن الاستثناء في قوله: (إِلا الإِحْرَامَ والسَّلامَ) منقطع. خليل: وفي النفس من عدم الإحرام والسلام شيء. وقوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلاةِ). أي؛ إن كان في صلاة كبر في خفضه ورفعه اتفاقاً كسائر الالتفاتات في الصلاة. والثلاثة الأقوال في المدونة. قال ابن القاسم: وكل ذلك واسع. وفي الرسالة رابع: يكبر في خفضها. وفي التكبير في الرفع منها سعة. والذي رجع إليه مالك التكبير، واختاره ابن يونس. فرع: إذا قرأ الماشي السجدة سجد، وينزل الراكب إلا في سفر القصر؛ قاله في الواضحة.

ولَوْ جَاوَزَهَا بِيَسِيرٍ سَجَدَ، وبكَثِيرٍ يُعِيدُ قِرَاءَتَهَا ويَسْجُدُ. وفِيهَا: إِنْ رَفَعَ الْمُصَلِّي رَاسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي فَرْضٍ لَمْ يُعِدْ. ورَوَى ابْنُ حَبِيبٍ: يَعُودُ فِي الثَّانِيَةِ، ويَسْجُدُ .... واليسير مثل أن يقرأ الآية والآيتين. ابن عبد السلام: وهذا بين؛ لأن ما قارب الشيء يعطَى حكمُه. وقوله: (وبِكَثِيرٍ يُعِيدُ قِرَاءَتَهَا ويَسْجُدُ) زاد في الجواهر بعد قوله: (ويَسْجُدُ) ثم يعود إلى حيث انتهى في القراءة. وقوله: (وفِيهَا: إِنْ رَفَعَ ...) إلى آخره. اين عبد السلام: الموجب لذكر هذه المسألة رواية ابن حبيب، وإلا فسيذكر أنها تفوت بوضع اليدين على الركبتين. وفِي النَّافِلَةِ يَعُودُ أي: وإن ذكر بعد رفع رأسه من الركوع في النافلة عاد إلى قراءتها وسجد. ابن عبد السلام: وهو استحسان. والأصل أن محلها قد فات إلا أن يريد قراءتها إن شاء لأن ذلك سائغ في النافلة. انتهى. وإذا قلنا أنه يعود إليها فهل قبل الفاتحة أو بعدها؟ قولان، أشار إليهما بقوله: وفِي فِعْلِهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةٍ أَوْ قَبْلَهُا قَوْلانٍ، فَإِنْ ذَكَرَ رَاكِعاًَ فَكَذَلِكَ، وقِيلَ: يَخِرُّ سَاجِداً. القول بأنه يعيدها قبل الفاتحة لأبي بكر بن عبد الرحمن؛ لأن المانع من الإتيان بها إنما هو فوت القيام، وقد وجد فلا معنى للتأخير، والقول بأنه يعيدها بعد الفاتحة لابن أبي زيد، لأنها قراءة فتشرع بعد الفاتحة كغيرها. وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَهَا رَاكِعاً فَكَذَلِكَ) يريد: وإن ذكر في النافلة بعد وضع اليدين على الركبتين فكذلك؛ أي: هو بمنزلة ما لو ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع فيمضي على ركوعه، ويقرأها في الثانية. وهذا القول نقله اللخمي عن مالك في العتبية، وتأوله ابن يونس على المدونة، ويريد تأويله أنه نص

فيها على الفوات إذا ذكر وهو راكع في الثانية. وقوله: (وقِيلَ: يَخِرُّ) أي: إذا ذكر راكعاً، وهذا القول لأشهب. زاد اللخمي وصاحب الجواهر عنه: ويسجد إذا حصل له ذلك في الثانية، ولو ذكر وهو جالس قبل أن يسلم أو بعد السلام سجد. وبنى التونسي وابن بشير الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في عقد الركعة، وأبى ذلك عبد الحق وابن يونس وقالا: بل ابن القاسم جعل وضع اليدين على الركبتين تنعقد به الركعة في أربعة مسائل منها هذه، وقد تقدم التنبيه عليها. وعلى هذا فيكون كلامه هنا عائد إلى مسألة النافلة، وقول ابن عبد السلام المتقدم والموجب لذكر هذه المسألة رواية ابن حبيب إلى آخره يدل على أنه جعل هذه المسألة عائدة إلى الفريضة، لكن لم أر المسألة في كتب الأصحاب إلا على الوجه الأول. ولَوْ قَصَدَ السُّجُودَ فَرَكَعَ نَاسِياً، فَقَالَ مَالِكٌ: يَعْتَدُّ بِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً رَفَعَ لِرَكْعَتِهِ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَعْتَدُّ بِهِ فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً خَرَّ، فَإِنْ رَفَعَ سَاهِياً لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ بنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ إلَى الأَرْكَانِ مَقْصُودَةٌ أَوَّلاً، وعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ أَطَالَ الرُّكُوعَ أَوْ رَكَعَ أَوْ رَفَعَ سَاهَياً سَجَدَ بَعْدَ السَّلامِ. وعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ قَوْلانِِ يعني: إذا قصد سجود التلاوة فلما وصل إلى الركوع نسي. وقول ابن القاسم منصوص في العتبية والواضحة. وقول مالك في المجموعة، ورواه أشهب في العتبية. وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً رَفَعَ لِرَكْعَتِهِ)، من تمام قول مالك. وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً خَرَّ)؛ من تمام قول ابن القاسم، وكذلك قوله: (فَإِنْ رَفَعَ سَاهِياً لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ). تنبيهات: أحدها: ما وقع بعد قوله: (فَإِنْ رَفَعَ سَاهِياً لَمْ يَعْتَدَّ بهِ) زيادة على المشهور وليست صحيحة، لأنها ليست قول مالك.

ثانيها: [103/ب] جعل الأول من التعليل للثاني من القولين عكس غالب اصطلاحه. ثالثها: تأول الشيخ أبو محمد قوله: فركع ساهياً على أن المراد منها عن السجدة وقصد الركعة، وأما لو خر للسجدة فلا يجزئه ذلك الركوع؛ لأنه نوى بانحطاطه ما ليس بفرض، إلا على قول من يرى أنه إذا ظن أنه في نافلة فصلى ركعة أنه يجزئه. ابن يونس: وعلى هذا التأويل يكون وفاقاً لابن القاسم قال: وظهر في الإجزاء على قول مالك؛ وإن انحط للسجدة فلا تضره النية لانعقادها من أول الفريضة، وليس عليه تجديدها في كل ركعة. وهل يسجد أم لا؟ أما على قول ابن القاسم فليسجد بعد السلام إن طال ركوعه، أو رفع ساهياً لتحقيق الزيادة والطول هو الطمأنينة فما فوقها. واختلف على قول مالك، والظاهر سقوطه لعدم الزيادة؛ قاله المغيرة. والثاني: أنه يسجد بعد السلام؛ قاله مالك في المجموعة، لأنه أخل بنية الانحطاط فكان حقه قبل، لكن لما ضعف مدرك السجود أخر، كذا قال المازري. فرع: قال مالك في المجموعة: ولو سجد في آية قبلها يظنها السجدة فليقرأ السجدة في باقي صلاته، ويسجد لها ويسجد بعد السلام. ويُكْرَهُ سُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ وجه المشهور العمل؛ ولهذا لما قيل لمالك في العتبية أن أبا بكر الصديق فيما يذكر سجد بعد فتح اليمامة شكراً، قال: ما سمعت ذلك. وأنا أرى أنهم كذبوا على أبي بكر في هذا الضلال. وقد فتح الله على رسوله وعلى المسلمين، فما سمعت أن أحداً منهم سجد. انتهى. والشاذ رواه ابن القصار عن مالك وبه قال ابن حبيب.

صلاة الجنائز

اللخمي: وهو الصواب لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجدة ص: "سجدها داود توبة، وأسجدها شكراً". وحديث أبي بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم أمر سره فخر ساجداً. ذكره الترمذي. وحديث كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله عليه خر ساجداً. أخرجه البخاري. انتهى. فرع: كره في المدونة الاقتصار على قراءة السجدة مجردة عما قبلها وما بعدها، واختلف الأشياخ فحملها بعضهم على أن المراد نفس السجدة دون جملة الآية التي هي منها. وحملها بعضهم على أن المراد به جملة آية السجدة. المازري: وهو الأشبه لأنه لا فرق بين قراءة كلمة السجدة أو جملة الآية. الْجَنَائِزُ: وتَوْجِيهُ الْمُحْتَضِرِ إِلَى الْقِبْلَةِ مُسْتَحَبُّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ عَلَى الأَصَحِّ الجنازة بفتح الجيم وكسرها، للميت والسرير، وقيل: للميت بالفتح، وللسرير بالكسر، الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل. والاستحباب رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك، والكراهة رواها ابن القاسم أيضاً في المجموعة قال: وما علمته من الأمر القديم. قال ابن حبيب: إنما كره استناناً. وروي عن ابن المسيب إنكاره حتى قيل لما أغمي عليه: فلما أفاق قال لبنيه: ليهنني مضجعي ما دمت بين أظهركم، لا أبالي على أي جهة مت إذا مت مسلماً. وزاد: (غَيْرُ مَكْرُوهٍ) ليعلم أن مقابل الأصح الكراهة. ابن حبيب: ولا أحب أن يوجه إلا أن يغلب ويعاين وذلك عند إحداد نظره، وشخوص بصره. وكَذَلِكَ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَه أي: ويستحب. وتبع المصنف في هذا ابن بشير، وإنما هو قول ابن حبيب. وقال: إنما كره مالك ذلك استناناً. والكراهة لمالك في رواية أشهب. واحتج على ذلك بأن عمل

السلف اتصل على ترك ذلك. وذكر ذلك صاحب البيان وغيره، وصاحب الرسالة فقال: وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس، ولم يكن ذلك عند مالك أمراً معمولاً به. انتهى. وهذا هو الظاهر، وفي حمل ابن حبيب نظر، إذ ليس لنا أن نرتب الأسباب والمسببات، وما حده الشرع وقفنا عنده، وما أطلقه ولم يخصه بسبب أطلقناه، وما تركه السلف تركناه وإن كان أصله مشهوداً له بالمشروعية كهذه القراءة. وللشرع حكمة في الفعل والترك، وتخصيص بعض الأحوال بالترك كالنهي عن القراءة في الركوع، وطلبها في القيام، فتمسك بهذه القاعدة الجليلة؛ فإنها دستور للمتمسك بالسنة، وقاعدة مالك والله أعلم. وكَيْفِيَّةُ التَّوْجِيهِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي صَلاةٍ الْمَرِيضِ أي: في تقديم الأيمن وإلا استلقى على ما تقدم، وأما بين الأيسر والأيمن فبعيد. ويُسْتَحَبُّ تَلْقِينُهُ الشَّهَادَةَ، وتَغْمِيضُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". أخرجه مسلم، والترمذي. ولقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". رواه أبو داود، والترمذي. وقال عبد الحق فيه: حسن صحيح. وظاهره الاقتصار على لا إله إلا الله. وقال بعضهم: تلقين الشهادتين. ابن الفاكهاني: ومراد الشارع والأصحاب الشهادتان معاً، واكتفى بذكر إحداهما. ووقع في بعض [104/أ] النسخ الشهادتين. وإذا قالها مرة ثم تكلم أعيد تلقينه وإلا ترك لأن القصد أن يكون آخر كلامه. قالوا: ولا يقال له: قل بل يقال عنده لا إله إلا الله، ويستحب تغميضه إذا قضى لا قبل ذلك، وتمد رجلاه، وتلين مفاصله برفق لئلا يبقى مشوه الخلقة. قال مالك في المختصر: ولا بأس أن

تغمضه الحائض والجنب. قال ابن حبيب: يستحب ألا يجلس عنده إلا أفضل أهله وأحسنهم هدياً وقولاً، ولا يكون عليه وقربه ثوب غير طاهر، ولا تحضره الحائض والكافر. وفي اللخمي: تجتنبه الحائض والجنب. واختلف في ذلك والمنع أولى لما روي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب. ابن حبيب: ويستحب أن يقال عنده {وسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ* والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ}، {ذَلِكَ وعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}. ويقال عند إغماضه: بسم الله، وعلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم يسر عليه أمره، وسهل عليه موته، وأسعده بلقائك واجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه. وإِذَا رُجِيَ الْوَلَدُ فَفِي جَوَازِ بَقْرِ الْبَطْنِ قَوْلانِ المشهور: لا يبقر. وقال أشهب وسحنون وأصبغ: يبقر إذا تيقن حياته، قال محمد بن عبد الحكم: رأيت بمصر رجلاً مبقوراً على رمكة مبقورة. وحمل عبد الوهاب قول سحنون على أنه تفسير لقول ابن القاسم. قال: وإنما قال ذلك ابن القاسم إذا لم تتيقن حياته. تنبيه: وهذا الخلاف حيث يتعذر على النساء إخراج الولد من مخرجه، وأما إن أمكن ذلك بعلاج فحسن؛ قاله مالك في المبسوط. وكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي بَطْنِهِ مَالٌ لَهُ بَالٌ بِبَيِّنَةٍ أي: فيختلف فيه. قال ابن القاسم، وأصبغ، وسحنون: يبقر إذا كان فيه دنانير. قال ابن القاسم: وكذلك إذ ابتلع جوهرة نفيسة أو وديعة. وقال ابن حبيب: لا يبقر. ولو كانت جوهرة تساوي ألف دينار. قال شيخنا رحمه الله: ينبغي أن يكون الخلاف إذا ابتلعه لقصد صحيح. وأما إن قصد قصداً مذموماً فينبغي أن يبقر لأنه كالغاضب، وقيد ابن

بشير الخلاف في الوديعة بما إذا كان له مال يؤدي منه قال: وإلا فلا ينبغي أن يختلف في وجوب استخراجه. انتهى. وقال ابن القاسم هنا بالبقر دون الأول لتحقق المال هنا بخلاف حياة الجنين فإنها موهومة. والبقر مقيد كما قال المصنف بما إذا قامت له البينة بابتلاعه، ولو شهد بذلك عدل فأجراه أبو عمران على الخلاف في القصاص في الجراح بشاهد واحد. ابن يونس: والصواب البقر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، والميت لا يملك ذلك. وخُرِّجَ الْمُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ مَيْتَةِ الآدَمِيِّ عَلَى ذَلِكَ أكثر نصوصهم أن المضطر لا يأكل ميتة الآدمي، ومنهم من أجازه. ابن عبد السلام: وهو الظاهر. وخرج الجواز على القول بجواز البقر، والجواز هنا أولى لأن حياة الآدمي محققة بخلاف الجنين. لكن هنا إذهاب جزء من الآدمي وليس في البقر إلا الشق، فينظر هل ذهاب الجزء مع تحقق الحياة يوازي الشق مع عدم تحقق الحياة؟ وغُسْلُ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ عَلَى الأَصَحِّ الأصح قول عبد الوهاب، وابن محرز، وابن عبد البر. وحكى ابن أبي زيد وابن الجلاب، وابن يونس: ابن بزيزة: وهو المشهور. وسبب الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكتر إن رأيتن ذلك" هل معناه رأيتن الغسل أو الزيادة. المازري: وهذا على اختلاف الأصوليين في الاستثناء، والشرط إذا تعقب الجمل، هل يرجع إلى الجميع أو إلى الأقرب. خليل: وعود التخيير إلى نفس الغسل بعيد جداً، وفي الغسل فوائد منها إكرام الملكين، ومنها تنبيه العبيد على أن المولى أكرمهم أحياء وأمواتاً، ومنها أن يعلموا أن من تأهب للقدوم على مولاه أنه لا يقدم إلا طاهر القلب من المعاصي متفرغاً مما سوى الله تعالى،

لأنه إذا اعتنى المولى بتطهير جسد فإن في التراب تنبه العبد إلى ما هو باق؛ وهو النفس. ومنها إعلام العبد بالاعتناء به لأنه إذا اعتنى بتطهير الجسد الفاني فلأن يعتني بتطهير النفس من باب أولى. فنسأله عز وجل أن يطهر قلوبنا من رعونات البشر وأن يفرغها من غيره. ويملأها من ذكره، وأن يقدمنا عليه وهو راض عنا. ولا يُغَسَّلُ مَنْ لا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِنَقْصٍ أَوْ كَمَالٍ، ومَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ يُمِّمَ كَعَدَمِ المْاءِ، وتَقْطِيعِ الْجَسَدِ، وكَرَجُلٍ مَعَ نِسَاءٍ غَيْرِ مَحَارِمَ سيأتي من لا يغسل لنقص أو كمال. وجعل تعذر الغسل من ثلاثة أوجه. وهو ظاهر. وفِي الْمَحَارِمِ قَوْلانِ، وعَلَى غُسْلِهِنُّ فَفِي كَوْنِهِ مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ أَوْ مِنْ تَحْتِهِ قَوْلانِ المشهور أن ذوات المحارم يغسلنه. وقال أشهب: ييممنه فقط. وقوله: (في كَوْنِهِ .....) إلخ؛ قال في المدونة: يغسلنه. ولم يشترط من فوق ثوب. زاد في المختصر: وتستر عورته. وقال ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية: إنما يغسلنه من فوق ثوب. كما قال في المدونة في غسل الرجل ذات محارمه: ولم أر القول بأنها تغسله [104/ ب] من تحت ثوب منصوصاً، نعم خرجه صاحب التنبيهات على قول ابن حبيب في عكس هذه المسألة وسيأتي. وأَمَّا صَغِيرٌ لا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فَيُغَسِّلْنَهُ قال في المدونة: كابن سبع سنين. قال المازري: وروى عن مالك إجازة غسل المرأة لابن تسع. والْمَرْأَةُ مَعَ رِجَالٍ غَيْرِ مَحَارِمَ كَذَلِكَ إِلا أنهّا تُيَمَّمُ إِلَى الْكُوعِ لأن ذراعها عورة بخلاف وجهها وكفيها بدليل إظهارهما في الصلاة والإحرام. وجاز لكل واحد منهما أن ينظر وجه صاحبه، وإن كان ممنوعاً في الحياة للضرورة، والله أعلم.

وفِي الْمَحَارِمِ ثَالِثُهَا: يُغَسِّلُهَا مَحَارِمُ النَّسَبِ لا الصِّهْرِ مذهب المدونة أنه يغسلها من فوق ثوب، ولا يفضي بيده إلى جسدها. والقول بالتيمم لأشهب قاله صاحب البيان قال: وروى أشهب أنه يصب الماء عليها صباً، ولا يباشر جسدها بيده من فوق الثوب ولا من تحته. قال: وفي المسألة قول لابن حبيب أنه يغسلها وعليها ثوب، ويصب الماء فيما بينه وبينها، لئلا يلصق بجسدها، فيصف بابتلاله عورتها. قال: وظاهره أنه يفضي بيده في غسله إياها إلى جسدها، ومعنى ذلك عندي فيما عدا السرة والركبة، فلا يفضي بيده إلى ذلك منها دون أن يجعل عليه خرقة، إلا أن يضطر إلى ذلك كما يفعل الرجل بفرج الرجل في غسله؛ إذ لا يختلف في أن الفخذ والسرة من المرأة عورة، لا يحل أن ينظر إلى ذلك من لا يحل له الفرج باتفاق. انتهى. وانظر هل يتخرج في غسلها القول الثالث الذي ذكره المصنف؟ وفِي صَغِيرَةٍ بَيْنَ إِطَاقَةِ الْوَطْءِ وبَيْنَ الرَّضِيعَةِ ونَحْوِهَا قَوْلانِ أي: إذا كانت مطيقة للوطء لم يجز الغسل اتفاقاً، وإن كانت رضيعة جاز اتفاقاً. واختلف فيما بينهما، فمذهب ابن القاسم أنه لا يغسلها، ومذهب أشهب أنه يغسلها. ابن الفاكهاني: والأول مذهب المدونة. ابن أبي زيد: وهو أحب إلينا. واختلف هنا ولم يختلف في عكسها لأن تطلع الرجال على الصغيرة أقوى من تطلع النساء على الصغير. ويُغَسَّلُ كَالْجَنَابَةِ، وفِي اسْتِحْبَابِ تَوْضِئَتِهِ قَوْلانِ، وعَلَى الْمَشْهُورِ فِي تَكْرَارِهِ بِتَكْرَارِ الغُسْلِ قَوْلانِ .... فهم من قوله: (وعَلَى الْمَشْهُورِ) أن المشهور أنه يوضأ. وقال أشهب: في ترك وضوئه سعة. ابن حبيب: ويوضأ كما يوضأ الحي. التونسي: وأنكر سحنون تكرار وضوئه. الباجي: وينبغي على القول بتكرار الوضوء ألا يغسل ثلاثاً بل مرة واحدة حتى لا يقع التكرار المنهي عنه. وإذا لم نقل بتكريره هل يثلث أو لا؟ وحكى الباجي عن ابن حبيب أن الوضوء يكون في الغسلة الثانية؛ لأن الأولى تنظيف، فينبغي أن يكون الوضوء بعد حصول النظافة.

فرع: ويعصر بطنه عصراً رفيقاً. أشهب: وإذا عصر بطنه فيؤمر من يصب عليه الماء، ولا يقطع ما دام ذلك. ويغسل ما أقبل منه وما أدبر. ويلف على يده شيئاً كثيفاً لا يجد معه لين ما تمر عليه اليد، ثم يغسل تلك الخرقة ويغسل يده. ويأخذ خرقة أخرى على يده، ويدخلها في فمه لتنظيف أسنانه، قال: ويمضمض. ابن حبيب: ويدخل الماء في أنفه ثلاثاً. فرع: ولو غسل ثم خرج منه شيء لم يعد غسله، ولا وضوءه، بل يغسل المحل فقط. المازري: وقال أشهب: يعيد الوضوء. وفِي كَوْنِهِ تَعَبُّداً أَوْ لِلنَّظَافَةِ قَوْلانِ، وعَلَيْهِمَا اخْتُلفِ فِي غُسْلِ الذِّمِّيِّ، واخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ غُسْلِهِ بِالْمُطَهِّرِ دُونَ سِدْرٍ وكَافُورٍ وغَيْرِهِمَا ..... الظاهر: التعبد بدليل التيمم عند عدم الماء. والقول بالنظافة لابن شعبان، قال: ويجوز غسله بماء الورد، وماء القرنفل. وقوله: (غُسْلِ الذِّمِّيِّ) أي: في تغسيل الذمي المسلم إذا لم يكن مسلم ولا امرأة من محارمه، فعلى التعبد لا يغسله، وهو قول أشهب، وعلى التنظيف يغسله. وعليه فقال مالك: يعلم النساء الذمي الغسل ويغسله. وقال سحنون: يغسل الكافر المسلم والكافرة المسلمة، ثم يحتاطون بالتيمم. تنبيه: وعلى القول بأن الغسل للتعبد فلا يحتاج إلى نية، وإنما يحتاج التعبد إلى نية إذا كان مما تفعله في نفسك، ذكره الباجي وابن رشد وابن راشد. فرعان: الأول: اختلفت إذا مات النصراني، هل لابنه المسلم أن يقوم بأموره ويتبعه إلى قبره؟ فقال مالك في العتيبية: لا أرى أن يقوم في أموره ولا يتبعه إلى قبره، وقد ذهب الحق الذي

كان يلزمه إلا أن يخاف أن يضيع. ابن القاسم: وهذا [105/ أ] أثبت ما سمعت من قول مالك، وبه آخذ. وقال ابن حبيب: لا يحمل المسلم نعش الكافر ولا يمشي معه ولا يقوم على قبره، ولو مات لمسلم كافر يلزمه أمره مثل الأبوين، والأخ، وشبه ذلك، فلا بأس أن يحضره ويلي أمره، ويكفنه حتى يخرج به إلى دفنه. وإن كفي دفنه وأمن الضيعة عليه فلا يتبعه، وإن خشي ذلك فليتقدمهم إلى قبره. وإن لم يخش ضيعته وأحب أن يحضر دفنه فليتقدم أمام جنازته، وإذا خشي عليه تقدمها، ولا يُدخلها قبرها إلا ألا يجد من يكفيه ذلك. الفرع الثاني: قال في العتيبية: لا يعجبني أن يعزي المسلم في أبيه الكافر لقوله تعالى: {مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}. فلم يكن لهم أن يرثوهم وقد أسلموا حتى يهاجروا. وروى عن مالك أنه يعزي جاره الكافر بموت أبيه الكافر لذمام الجار، فيقول إذا مر به: بلغني الذي كان من مصابك، ألحقه الله بأكابر دينه، وخيار ذوي ملته. وقال سحنون: يقول له: أخلف الله لك المصيبة، وجزاك أفضل ما جزى به أحداً من أهل دينك. قال في البيان: وإذا جازت تعزية الكافر بالكافر، فتعزية المسلم بالكافر من باب أولى. خلاف ما قاله في التعبية قال: والتعزية لثلاثة أمور: أحدها: تهوين المصيبة على المعزي وتسكينه وتسليته وتحضيضه على الصبر. والثاني: أن يعوض الله من مصابه جزيل الثواب. والثالث: الدعاء للميت. والكافر يمتنع في حقه الأخير. فيعزي المسلم في وليه الكافر، هذا معنى كلامه. قال: والآية التي احتج بها مالك على ترك التعزية منسوخة. قال عكرمة: أقام الناس برهة لا يرث المهاجر الأعرابي، ولا الأعرابي المهاجر لقوله تعالى: {مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} حتى نزل: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، فاحتج بالمنسوخ كما احتج لما اختاره من الإطعام في الفطر في رمضان بقوله تعالى: {وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}، وهي منسوخة، وذلك إنما يجوز على القول بأن الأمر إذا نسخ وجوبه جاز أن يحتج به على

الجواز، وذلك مما اختلف فيه، واعتلاله بمنع الميراث ضعيف؛ إذا قد يعزي الحر بالعبد، ولا يتوارثان. انتهى. قال مالك في المدونة: وإذا مات كافر بين مسلمين لا كافر معهم لفوه بشيء وواروه. قال الليث وربيعة: لا يستقبل به قبلتنا ولا قبلتهم. ابن حبيب: وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم فلتدفن مع أهل دينها، وإنما ولدها عضو منها حتى يزايلها. نقله ابن يونس. وفِي كَرَاهَةِ غُسْلِهِ بِمَاءِ زَمْزَمَ قَوْلانِ، إِلا أَنْ تَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ قال ابن شعبان: لا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة، وإنما يكره غسل الميت بماء الورد وماء القرنفل من ناحية السرف، وإلا فهو جائز. وقال ابن أبي زيد: ما ذكر في ماء زمزم لا وجه له عند مالك وأصحابه. وما ذكر في القرنفل ليس هو قول أهل المدينة، إن أراد أن يغسل بذلك وحده. وقوله: (إِلا أَنْ تَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ) أعاده شيخنا وابن عبد السلام على قوله: (وفي وجوب غسله بالمطهر) أي: إلا أن تكون فيه نجاسة فلابد من المطهر، وكأنهما فرا من إعادته على ماء زمزم؛ إذ لو أعيد عليه لفهم على أنه اتفق على المنع منه، وليس كذلك؛ إذ ظاهر المذهب الجواز على ما قاله ابن أبي زيد. ومن المعلوم أن أم إسماعيل وابنها عليهما السلام ومن نزل عليهما من العرب حين لم يكن بمكة ماء غيره، لم يستعملوا في كل ما يحتاجون إليه سواه. قال اللخمي: وما ذكره ابن شعبان من أنه لا يجوز أن يغسل الميت بماء زمزم هو مبني على أصله أن الميت نجس. والْوَاحِدَةُ تُجْزِئُ، وُيسْتَحَبُّ التِّكْرَارُ وِتْراً إِلَى سَبْعٍ، وإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الإِنْقَاءُ زِيدَ قال ابن حبيب: السنة أن يكون وتراً. وكذلك غسل النبي صلى الله عليه وسلم، لم يحصل الإنقاء بسبع زيد على السبع من غير مراعاة وتر، قال مالك في الواضحة: ولا

يستحب اغتسال غاسل الميت. ونقل في النوادر عن مالك وابن القاسم وأشهب استحباب اغتسال غاسل الميت. وحكى في البيان قولاً ثالثاً بإيجاب الغسل، قال مالك في المختصر: وليس على حامل الميت وضوء. قال في كتاب ابن القرطي: من اغتسل عند الميت لم يكتف بذلك الغسل إن مات. قال مالك: ولا أحب للجنب غسل الميت، وذلك جائز للحائض. وأجاز محمد بن عبد الحكم للجنب أن يغسله، ورواه ابن نافع عن مالك. قال في البيان: والأظهر الكراهة؛ لما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب، ولأنه يمكن طهره، قال ابن شعبان: وليكثر الغاسل من ذكر الله تعالى. والتَّجْرِيدُ مِنَ الثِّيَابِ مَشْرُوعٌ أي: مستحب؛ لأنه أنقى، ونبه به على خلاف الشافعية أن الميت لا ينزع قميصه. [105/ ب] وفي أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي أراد أصحابه غسله. قالوا: والله ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فقولهم: كما نجرد موتانا، دليل على أن ذلك عادتهم، وأن عدم تجريد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مخصوص به لشرفه ورفعته عن جميع خلق الله كلهم. قال ابن يونس: قال أصحابنا: واختلف لما غسل بالقميص، هل بقى عليه أو نزعوه؟ والحديث يدل على أنهم نزعوه، وهو قوله: كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. انتهى. وتُسْتَرُ الْعَوْرَةُ هكذا قال في المدونة، وفهم اللخمي منه أن المراد السوءتان خاصة، قال: وقال ابن حبيب: من السرة إلى الركبة. واستضعف في التنبيهات قول اللخمي قال: وليس في الكتاب ما يدل على ما قاله. بل لو قيل فيه ما يدل على قول ابن حبيب لكان له وجه؛ لأنه قال بإثر ذلك: ويفضي بيده إلى فرجه إن احتاج إلى ذلك، فلو كانت العورة هي نفس

الفرج كما قال لما جاء بذكر الفرج بلفظ آخر. انتهى. واستحب ابن سحنون أن تُجعل على صدره خرقه. قال اللخمي: وهو أحسن فيمن طال مرضه. المازري: وأما غسل المرأةِ المرأةَ فالظاهر من المذهب أنها تستر منها ما يستر الرجل من الرجل من السرة إلى الركبة، وعلى قول سحنون تستر جميع جسدها؛ لأنه قال في المرأة تدخل الحمام أنها تدخل في ثوب يستر جميع جسدها انتهى. والأَشْهَرُ أَنْ يُفْضِيَ الْغَاسِلُ بِيَدِهِ إِلَيْهَا إِنِ احْتِيجَ وإِلا فَبِخِرْقَةٍ وهِيَ مَسْتُورَةٌ إن أمكن أن يغسل ما هنالك بخرقة فلا خلاف في منع المباشرة، وإن لم يمكن فقال ابن القاسم: يباشر باليد. وقال ابن حبيب: لا يباشرها إلا وبيده خرقة. وقول ابن حبيب أقرب، والقول بالإفضاء إنما يأتي على القول بوجوب بالغسل. والواو من قوله: (وهِيَ مَسْتُورَةٌ) للحال، ولفظة (هِيَ) عائدة على العورة. قيل: والخلاف إنما هو في غير الزوجين، وأما الزوجان فيباشر أحدهما عورة الآخر عند الضرورة. ولا يُؤْخَذُ لَهُ ظُفْرٌ ولا شَعْرٌ زاد في المدونة: وذلك بدعة ممن فعله. وصرح المازري بكراهيته، قال ابن حبيب وغيره: وإن سقط من ذلك شيء جعل في أكفانه. قال أصبغ وغيره: وينقي ما تحت الظفر من وسخ بعود أو غيره. سحنون: ويجوز قص أظفار المريض إذا كان يتأذى منه، وإن كان يُتَهَيَّأ بذلك إلى الموت فلا يفعل. فرع: قال ابن القاسم في العتبية: ويعمل بشعر المرأة ما أحبوا من لفه، وأما الظفر فلا أعرفه. وقال ابن حبيب: لا بأس بظفره. وقالت أم عطية: قد ضفرنا شعر بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ضفائر، ناصيتها وقرنيها وألقي من خلفها.

والْمُقَدَّمُ الزَّوْجُ والزَّوْجَةُ ولَوْ كَانَ الْخِيَارُ لأَحَدِهِمَا عَلَى الْمَنْصُوصِ. وخَرَّجَهَا اللَّخْمِيُّ عَلَى الْخِلافِ فِي الْفَوْتِ بِالْمَوْتِ ..... لأن أسماء بنت عميس غسَّلت زوجها أبا بكر رضي الله عنهما، وغسَّلت أبا موسى زوجته، وغسَّل عليُّ فاطمة، وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه. رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم ينكر عليها أحد. أشهب: وتغسله زوجته وإن لم يبن بها. سحنون: وكذلك يغسلها هو. وهذا حكم النكاح الصحيح، وأما الفاسد مما يفسخ قبل البناء وبعده كالشغار فلا يغسل أحدهما الآخر، وإن كان مما يفسخ قبل البناء فقط غسل أحدهما صاحبه بعد البناء لا قبله. وقوله: (ولَوْ كَانَ الْخِيَارُ لأَحَدِهِمَا) يريد: بشرط الإسلام. قال في النوادر: وليس للمسلم غسل زوجته النصرانية، ظ ولا تغسله هي إلا بحضرة المسلمين؛ إذ لا تؤمن من إذا خلت به، ونقله المازري أيضاً. قوله (وخَرُّجَهَا) أي: المسألة. ولفظ اللخمي: وإن ظهر بأحدهما عيب جنون أو جذام أو برص فلا غسل بينهما. وهذا يصح على قول ابن القاسم؛ لأنه يقول: إذا وقع الطلاق والموت فات موضع الرد. وأما على قول عبد الملك فإنه إذا مات الزوج وكان العيب به غسلته؛ لأن الإجازة خير لها فتأخذ الصداق من الميت والميراث، وإن كان العيب بها كان لأوليائه أن يقوموا بالعيب، ويمنعوها الميراث والصداق فلا تغسله، وإن كانت هي الميتة والعيب بها، وقام الزوج بالعيب ليسقط عن نفسه الصداق وكانت فقيرة لم يغسلها، وكذلك إذا كان العيب به وقام أولياؤها بالعيب ليمنعوه الميراث لم يغسلها. المازري: في هذا التخريج عندي نظر؛ لأن الخيار إذا وقع برد العصمة بعد الموت، فهل يكون [106/ أ] رافعاً لها الآن، أو رافعاً لها من حين العقد؟ هذا أصل مختلف فيه،

فيخرج على هذه الطريقة الاختلاف في هذا الأصل، إلا أن يحتاط للغسل، فيرفع منه الخلاف فلا يباح. والظاهر من نصوص أصحاب هذه الطريقة أنهم يرون الاختيار إذا وقع بالرد، فكأن العصمة لم تكن في منع الميراث، وما في معناه من حقوق الزوجية. انتهى. وكلام المصنف واللخمي يقتضي عموم الخلاف. وقال ابن عات: إن كان العيب بالحي لم يغسل الميت، وإن كان بالميت ففيه تنازع، والقياس منع الغسل. نقله ابن هارون. فرع: وفي حكم الزوجين، السيد وأمته، ومدبرته، وأم ولده، وضابطه أن إباحة الضبط إلى حين الموت يبيح الغسل من الجانبين، بخلاف المكاتبة والمعتق بعضها والمعتقة إلى أجل، ولا يقضي للأمة المدبرة على الأولياء باتفاق. وإذ قلنا بالغسل فالمشهور: يستر كل واحد منهما عورة صاحبه، خلافاً لابن حبيب: إلا أن يحتاج الغاسل منهما إلى معونة غيره، فليستر حينئذ بلا خلاف. فرعان: الأول: نص علماؤنا على أنه لا ينبغي أن يحضر مع الغاسل إلا من يعنيه. الثاني: إذا أجزنا للمرأة غسل زوجها، فقال ابن الماجشون: لها أن تجففه وتكفنه، ولا تحنطه؛ إذ هي حاد إلا أن تضع حملها قبل ذلك إن كانت حاملا، أو تكون بموضع ليس فيه من يحنطه فلتفعل، ولا تمس الطيب إلا الميت. وفِي الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ قَوْلانِ المشهور: المنع. وقال ابن نافع بالجواز. واعلم أن الخلاف جار ولو قلنا أن الرجعية محرمة الوطء. ابن شاس: وروي عن ابن القاسم في العتبية أنه يغسلها وأنه يحدث بالموت

من إباحة الرؤية لها ما لم يكن في حال الحياة لحق الموارثة. ولو تزوج أخت زوجته فأجاز ابن القاسم في المجموعة أن يغسلها، ثم كرهه. وقال أشهب: أحب إلي ألا يفعل. وقال ابن حبيب: وللزوجة أن تغسل زوجها. وإن وضعت ما في بطنها وانقضت عدتها. قال ابن الماجشون: إذا وضعت على سريره فيجوز لها أن تنكح زوجاً غيره، ويجوز لها أن تغسله. انتهى. وانظر كلام ابن عبد السلام. وفِي الْقَضَاءِ لَهُمَا: ثَالِثُهَا: يُقْضَى لِلزَّوْج دُونَهَا. وعَلَى الْقَضَاء لَوْ كَانَ الزَّوْجُ رَقِيقاً وأَذِنَ السَّيِّدُ فَقَوْلانِ ..... القضاء لابن القاسم وهو الظاهر؛ لأن من ثبت له حق فالأصل أن يقضي له به. والثاني حكاه ابن بشير ولم يعزه. والتفرقة لسحنون؛ لأن الرجل له أولياء يغسلونه، فلو قضينا للزوجة لأسقطنا حقهم بخلاف العكس، فإن أولياءها لا يغسلونها. اللخمي: وإن لم يكن للزوج ولي أو كان وعجز عن الغسل، أو أحب أن يجعل إلى غيره كانت الزوجة أحق، وقضى لها قولاً واحداً. انتهى. قوله: (وعَلَى الْقَضَاء لَوْ كَانَ الزَّوْجُ رَقِيقاً) القضاء في العبد أيضاً لابن القاسم، ونفى القضاء لسحنون نظراً إلى عدم التوارث. وإِذَا امْتَنَعَا أَنْ يُغَسِّلا أَوْ غَابَا فَلِلأَوْلِيَاء عَلَى تَرْتِيبِ الْوِلايَةِ يعني: الزوج، والزوجة. وكلامه ظاهر والْبِنْتُ وبِنْتُ الابْنِ لِلْمَرْأَةِ كَالابْنِ وابْنِهِ لِلرَّجُلِ وهكذا ذكر المسألة اللخمي، وابن شاس، وابن بشير. وفي بعض النسخ: والبنت وبنت البنت، وعليها تكلم ابن راشد.

خليل: والنسخة الأولى أحسن؛ لأنه لا شك أن بنت الابن أولى من بنت البنت؛ لأنها تتوصل بالبنوة. فروع: الأول: قال سحنون: واسع غسل الميت بالماء وحده سخناً وبارداً. الثاني: استحب أشهب السدر في تنظيف لحيته ورأسه على الغاسول، وغيره. الثالث: قال ابن القاسم في المجدور ومن غمرته الجراح، ومن إذا مس انسلخ جلده: إنه يصب عليه الماء صباً، ويرفق به. قاله مالك. وقال مالك: ومن وجد تحت الهدم قد تهشم رأسه وعظامه، والمجرور، والمنسلخ فليُغسلا ما لم يتفاحش ذلك منهما. وإذا لم يوجد من الميت إلا مثل الرأس أو الرجل فلا يغسل، ولا يغسل إلا ما يصلي عليه. قاله مالك. الرابع: قال ابن حبيب: لا بأس عند الوباء وما يشق على الناس من غسل الموتى لكثرتهم أن يجتزئوا بغسلة واحدة بغير وضوء، يصب عليه الماء صباً. ولو نزل الأمر الفظيع وكثر الوباء جداً وموت الغرباء فلا بأس أن يقبروا بغير غسل إذا لم يوجد من يغسلهم، ويجعل منهم النفر في قبر. وقاله أصبغ وغيره من أصحاب مالك. المازري: وهذا الذي قاله ابن حبيب صحيح. الخامس: لابد من تنشيف الميت قبل تكفينه، وهل ينجس الثوب الذي ينشف به أو لا؟ قولان مبنيان على نجاسة الميت. قال صاحب البيان وصاحب التنبيهات: والصحيح أن الآدمي لا ينجس بالموت. السادس: [106/ ب] يستحب التكفين إثر الغسل، فإن غسل بالعشي وأخر التكفين إلى الغد فلا يعاد غسله وقد ترك الأولى. قاله ابن القاسم في العتبية.

ويَجِبُ تَكْفِينُ الْمَيِّتِ بِسَاتِرٍ لِجَمِيعِهِ، ويُوَارَي شَهِيدُ قِتَالِ الْعَدُوِّ فِي الْمُعْتَرَكِ فِي ثِيَابِه الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَإِنْ قَصَرَت عَنِ السَّتْرِ زِيدَ ... أما وجوب التكفين فنص عليه المازري وصاحب المقدمات وغير واحد. وأما قوله (لِجَمِيعِهِ) فهو ظاهر كلامهم. وفي التقييد والتقسيم أن الزائد على ستر العورة سنة. وقوله (ويُوَارَي ...) إلى آخره، أي: من غير غسل ولا صلاة. فإن قيل: فَلِمَ غُسِّلَ الأنبياءُ وصلي عليهم مع أنهم أكمل؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن المزية بأمر لا تقتضي الأفضلية، ألا ترى ما ورد من أنه إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا صلى أقبل يوسوسه. الثاني: أن الصحابة فهموا الخصوصية في شهيد المعترك فبقي ما عداه على الأصل، ولأن للشرع في إبقائهم على حالهم غرضاً، وهو البعث عليها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "زملوهم بكلومهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة، اللون لون دم، والريح ريح مسك". الثالث: تشريع وأسوة. ودليل قوله: (فَإِن قَصَرتْ عَنِ السِّتْرِ زِيدَ) حديث مصعب بن عمير أنه قتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر". وفِي الدِّرْعِ والْخُفَّيْنِ والْقُلُنْسُوَةِ والْمِنْطَقَةِ قَوْلانِ اتفق المذهب على أنهم لا يدفنون بالسلاح كالسيف والرمح والسكين. واختلف فيما ذكر. فرأى ابنُ القاسمِ الدرعَ من السلاح. فقال: ينزع. ولم يره مالك منه فقال: لا ينزع الثوب من الحديد الذى يقيه، ويدفن به إلا المنطقة. قال ابن القاسم: لا ينزع الفرو، ولا القنسوة، ولا الخفاف. وفى العتبية عن مطرف: ولا المنطقة إلا أن يكون لها خطب. وقال

أشهب: ينزع القنسوة والخفاف. قال فى البيان: ذهب مالك وابن نافع ومطرف إلى أنه لا يُنزع منهم شئٌ مما هو فى معنى اللباس، وإن لم يكن من الثياب قياساً على الثياب حاشا درع الحديد؛ لأنها من السلاح. وذهب ابن القاسم إلى أنه ينزع منهم ما عدا الثياب تعلقاً بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "زملوهم بثيابهم". انتهى. ويُنْزَعُ الْخَاتَمُ بِفَصِّ ثَمِينٍ، وخَرَّجَهُ اللَّخْمِىُّ عَلَى الْمِنْطَقَةِ تصوره ظاهر، وظاهر قوله: (بِفَصِّ ثَمِينٍ) أنه لا ينزع إذا كان فصه لا خطب له. وقد نص عليه ابن نافع في العتبية. ويتعرض على تخريج اللخمي بأن الخاتم ليس من السلاح في شيء، وأما المنطقة ففيها معونة على القتال، فأشبهت الدرع. ونص التونسي على أن النفقة اليسيرة في المنطقة لا تنزع، بخلاف الكثيرة كفص الخاتم. وأَمَّا الْمَطْعُونُ والْغَرِيقُ وصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ والْمَبْطُونُ والْحَرِيقُ وذُو الْهَدْمِ وذَاتُ الْحَمْلِ فَكَغَيْرِهِمْ وإِنْ كَانُوا شُهَدَاءَ ... أي: يغسلون ويكفنون، وهو ظاهر. وقوله: (وذَاتُ الْحَمْلِ) يدل على أنه ينحو منحى من فسر قوله عليه الصلاة والسلام: "والمرأة تموت بجمع النفاس" وهو الأكثر والأظهر. قاله ابن عبد البر، قال: واختلف على هذا القول، هل ذلك سواء ماتت والولد في بطنها أم لا؟ ويشترط أن تموت والولد في بطنها وقد تم خلقه. وقيل: هي التي تموت بكراً لم يمسها الرجل. وقيل: هي التي تموت قبل أن تحيض وتطمث. وجمع بضم الجيم وكسرها. وأَمَّا الْمُحْرِمُ فَكَغَيْرِهِ ويُطَيَّبُ زاد في الجواهر: وكذلك المعتدة فهي كغيرها، فلا تصان عن الطيب. والأصل فيه العمل وانقطاع التكليف، وتعليله في الحديث بأنه يبعث ملبياً لا يأخذ منه تعميم ذلك

الحكم؛ لأن ذلك لا يعلم إلا بالوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم لما علم أن ذلك المحرم يبعث ملبياً أمر بما أمر، ونحن لا نعلم ذلك. قال المازري وغيره: فيه تنبيه على خلاف الشافعي. وأَقّلُّهُ ثَوْبٌ سَاتِرٌ لِجَمِيعِهِ، وأَكْثَرُهُ سَبْعَةٌ، ولا يُقْضَى بِالزَّائِدِ مَعَ مُشَاحَّةِ الْوَرَثَةِ إِلا أَنْ يُوصِيَ بِهِ، ولا دَيْنَ مُسْتَغْرِقٌ فَيَكُونَ فِي ثُلُثِهِ. وقِيلَ: يُقْضَى بِثَلاثَةٍ مُطْلَقاً. الكفن من رأس المال، ويقدم على الدين. قال مالك: وإن كان الكفن مرهوناً فالراهن أحق به. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك، والزائد على السبعة سرف. ولا يقضي بالزائد على الواحد مع مشاحة الورثة؛ لأن الزائد مستحب، والمستحب لا يقضى به. وقال عيسى: يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب. المازري: وهذا لا يقتضيه نظر إلا أن تجري به عادة. وقال ابن عبد السلام: هو الظاهر؛ لأنه غالب كفن الناس، وهو كلباسه في الحياة. ووقع لسحنون أنه قال إذا [107/ أ] أوصى بثوب واحد، فزاد بعض الورثة ثانياً أنه لا ضمان عليه إن كان في المال محمل. ابن بشير: وهو يشعر بأن الاقتصار على الواحد منهي عنه. قال في البيان: ويكفن في مثل ما كان يلبسه في الْجُمَع والأعياد في حياته، ويقضى به عند اختلاف الورثة فيه. قوله: (إِلا أَنْ يُوصِيَ بِهِ) فيكون في ثلثه. قال في الجواهر: لو أوصى بسرف في عدد الكفن، أو جنسه أو الحنوط أو غير ذلك، كان السداد في رأس المال. واختلفت الرواية في الزائد هل يسقط أو يلزم من الثلث؟ انتهى. واختار التونسي وغيره السقوط. قال صاحب البيان: وهو الصواب.

وخُشُونَتُهُ ورِقَّتُهُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، والاثْنَانِ أَوْلَى مِنْ الْوَاحِدِ، والثَّلاثَةُ أَوْلَى مِنَ الأَرْبَعَةِ أي: يكفن بما جرت به عادته يلبسه في حياته؛ لأن النقص من ذلك، والزيادة عليه خروج عن المعتاد، وينبغي أن يكون الحكم كذلك في الحنوط، وما يتعلق بالدفن. ولما كان المطلوب في الكفن شيئين: الستر، والوتر، وكان الستر واجباً، والوتر مندوباً كان الاثنان أولى من الواحد؛ لأن الثاني مكمل للواجب، فإن كمال الستر لا يحصل بالواحد، وكانت الثلاثة أولى من الأربعة؛ لحصول الستر، والوتر في الثلاثة. ولَوْ سُرِقَ بَعْدَ دَفْنِهِ فَثَالِثُهَا: إِنْ لَمْ يُقْسَمْ مَالُهُ أُعِيدَ القول بلزوم الإعادة لابن القاسم، قال: علي ورثته أن يكفنوه من بقية تركته، وإن كان عليه دين محيط. ومقابله لأصبغ، والثالث لسحنون، ونص ابن عبد الحكم وابن سحنون على أنه إذا كفن ثم وجد الكفن الأول أنه ميراث. قال محمد بن عبد الحكم: إلا أن يكون على الميت دين فيكون للغرماء. وكذلك نص أبو العلاء البصري على عكس هذه المسألة، وهو إذا عدم الميت، وبقي الكفن كما لو أكلته السباع، أن يرجع للورثة. وفِي الزَّوْجَةِ: ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً فَعَلَى الزَّوْجِ أي: وفي كفن الزوجة. والقول بأنه على الزوج- وإن كانت موسرة- لمالك في الواضحة. وجعله من ملازم العصمة كالنفقة. والقول بأنه لا شيء عليه مطلقاً لابن القاسم. ونسبه ابن شاس لسحنون نظراً إلى انقطاع العصمة. والقول الثالث نسبه ابن شاس وابن راشد لمالك في العتيبة. ونسبه في الرسالة لسحنون، وهو استحسان غير قياس. قاله غير واحد. وفِي كَفَنِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ كَالأَبِ والابْنِ قَوْلانِ اللزوم لابن القاسم وابن الماجشون تبعاً للنفقة. وقال المازري: لا يتبع ذلك الإنفاق. وقال أصبغ: لا يلزمه ذلك إلا في عبيده. وصوَّب ابن حبيب اللزوم.

ويُكَفَّنُ الْفَقِيرُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ هذا ظاهر، فإن لم يكن أو كان ولم يتوصل إليه فعلى المسلمين كسائر فروض الكفاية. وفِي الْحَرِيرِ: ثَالِثُهَا: يَجُوزُ لِلنِّسَاء يعني: أنه اختلف في جواز التكفين بالحرير وكراهته. والتفصيل على ثلاثة أقوال: والكراهة مذهب المدونة، ولفظها: يكره في كفن الرجالِ والنساءِ الخزُّ، والمعصفر، والحرير، ويكفن في العصب، وهو الحبر. والجواز رواه ابن وهب عن مالك. والتفصيل لابن حبيب. ولا يخفى عليك وجه كل قول، وانظر هل الكراهة التي في المدونة على المنع أو لا؟ وحمله اللخمي على المنع؛ لأنه نسب للمدونة المنع، وهو ظاهر كلام المصنف؛ لأنه لا يؤخذ من كلامه الكراهة. وهو أيضاً ظاهر كلام ابن الجلاب لقوله: ولا يكفن في خز، ولا وشي، ولا في ثوب نجس. أما العلم الحرير في الثوب فلا بأس بالتكفين فيه. رواه ابن القاسم. وأَفْضَلُهُ الْبَيَاضُ والْقُطْنُ والكتان، ويَجُوزُ بِالْمَلْبُوسِ السَّاتِرِ ويُكْرَهُ السَّوَادُ البياض أفضل لموافقته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الأصحاب: إن القطن أفضل؛ لأنه به كفن صلى الله عليه وسلم. فقد روى مالك أنه كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية. والسحولية منسوبة إلى سحول؛ بلد باليمن. وقيل: سحول هو القطن. وقيل: السحولية: البيض. وفي حديث آخر يذكر البيض فيكون هو المراد. قوله أبي بكر رضي الله عنه: الحي أولى بالجديد من الميت؛ يوضح لك إجازة الملبوس. أشهب: والكفن الخلق والجديد سواء. ابن عات وابن راشد: ونحو الأسودِ الأزرقُ والأخضر. وفِي الْمُعَصْفَرِ قِوْلان كرهه في المدونة؛ لأنه ليس بطيب، ومخالف للمشروع في الكفن وهو البياض، وأجازه في المجموعة. وأجازه ابن حبيب للنساء، وكرهه للرجال.

ويَجُوزُ بِالْوَرْسِ والزَّعْفَرَانِ لأنهما من أنواع الطيب. والْقَمِيصُ والْعِمَامَةُ مُبَاحٌ المشهور من المذهب أن الميت يقمص ويعمم. وروى يحيى بن يحيى أن المستحب لا يقمص، ولا يعمم [107/ب] وحكى ابن القصار عن مالك كراهة التقميص، نقله المازري. وعلى المشهور، وظاهر الرسالة أن التعميم من قبيل الجائز؛ لقوله: ولا بأس أن يقمص الميت ويعمم. قال اللخمي وابن يونس: ومن المدونة قال مالك: من شأن الميت عندنا أن يعمم. فمقتضاه الاستحباب، وعليه فهمها اللخمي. مطرف: ويعمم تحت لحيته كما يعمم الحي، ويترك منها قدر الذراع ذؤابة تطرح على وجهه. وكذلك يفعل بخمار المرأة لأنه كالعمامة للرجل. وروى مطرف عن مالك أن أبلغ الأكفان وأحبها خمسة أثواب: قميص، وعمامة، ومئزر، ومدرجان. وروي عن مالك أنه استحب التكفين في ثلاثة أثواب؛ يريد غير العمامة والمئزر. قال: ولم يؤزر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عمم، وإنما كفن في ثلاثة أثواب، أدرج فيها إدراجاً. قال ابن القاسم في العتبية: وهو أحب إليّ. نقله ابن يونس. وفي كتاب ابن شعبان: ويخاط الكفن على الميت، ولا يترك بغير خياطة. أشهب: ويشد الكفن عند رأسه ورجليه، ثم يحل ذلك في القبر، وإن ترك عقده فلا بأس، ما لم تنتشر أكفانه. ويُسْتَحَبُّ الْحَنُوطُ والْكَافُورُ أَوْلاً الحنوط: ما يطيب به الميت، ولا بأس فيه بالمسك والعنبر والكافور أولاً، لأنه مع كونه طيباً يشد الأ‘ضاء.

ومَحَلُّهُ مَوْضِعُ السُّجُودِ ومَغَابِنُ الْبَدَنِ ومَرَاقُّهُ وحَوَاسُّهُ ورَاسُهُ ثُمَّ سَائِرُ الْجَسَدِ مِنْ تَحْتِ الْكَفَنِ لا فَوْقِهِ .... فعل في مواضع السجود تشريعاً لها، وهي السبعة. ومغابن البدن لسرعة تغيرها وهي ما خفي من الجسد كالإبطين وتحت الركبتين، والمراق قريبة من المغابن. عياض: وهي بفتح الميم وتشديد القاف: ما رق من جلده، كالمغابن، والإبط، وعكن البطن. وقال ابن اللباد: المراق: مخرج الأذى. وقال العتبي: هي ما بين الإليتين والدبر. وقال الهروي: هي ما سفل من بطنه ورفغيه، وما هنالك والمواضع التي رق جلدها. قال: وهذا قريب بعضه من بعض. والرفغ- بضم الراء وفتحها- أصل الفخذ، وما بينه وبين الفرج. انتهى. والحواس: الأذنان، والعينان، والفم، والأنف لما قد يخرج منها، ولهذا يلصق عليها القطن. قال سحنون: ويسد دبره بقطنة فيها طيب ويبالغ فيها برفق، وإن لم يكفِ الطيب جميع المواضع. فنقل ابن مزين عن ابن القاسم أنه يبدأ بالسواجد، والحذر الحذر مما يفعله بعض الجهلة من إدخال القطن داخل دبره. وكذلك يحشون أنفه، وفمه، وذلك لا يجوز. ولا يُسْتَحَبُّ حَمْلُ أَرْبَعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ مذهب المدونة جواز حمل السرير على ما أمكن، ولا مزية لعدد على عدد. والشاذ لابن حبيب، وأشهب: يستحب حمل أربعة لئلا يميل. قال ابن حبيب: يستحب أن يحمل من الجوانب الأربعة، ويبدأ بمقدم السرير الأيسر- وهو يمين الميت- فيضعه على منكبه الأيمن، ثم يختمه بمقدمه الأيمن- وهو يسار الميت- قال: وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة. ونقل المازري عن أشهب أنه قال: يبدأ بمقدم الأيمن من الجانب الأيمن ثم المؤخر. قال المازري: يريد الأيمن، ثم المقدم الأيسر، ثم المؤخر الأيسر. انتهى.

ابن القاسم: ولا يترك ستر المرأة بقبة في حضر أو سفر إن أمكن. قال مالك: وأول من فعل بها ذلك زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، واستحسنه عمر إذ ذاك. وقال الواقدي: أول من فعل به ذلك فاطمة رضي الله عنها. ابن حبيب: ولا بأس بحملها على دابة إذا لم يوجد من يحملها. أشهب: وحمل الصبي على الكف أحب إلي من حمله على الدابة والنعش. قال ابن القاسم في العتبية: كره مالك لمن على غير وضوء أن يحمل الجنازة، لينصرف إذا بلغت. ويكره إعظام النعش، وأن يفرش تحت الميت قطيفة حرير، ولا بأس بستر الكفن بثوب ساج، ولا بأس أن يجعل على كفن المرأة الرداء الوشي وغيره، ولا أحب الأحمر والملون. ولا يمشي بالجنازة الهويني، ولكن مشية الرجل الشاب في حاجته. ويكره أن يتبع الميت بمجمر. ولا يقرأ على الجنازة، ولا يصاح خلفها، ولا ينادى استغفروا لها. وسمع سعيد ابن جبير شخصاً يقول ذلك، فقال: لا غفر الله لك. قال مطرف عن مالك: ولم يزل شأن الناس الازدحام على حمل جنازة الرجل الصالح. ولقد انكسر تحت سالم بن عبد الله نعشان، وتحت عائشة ثلاثة. ابن وهب: ولا بأس بحمل الميت من البادية إلى الحاضرة، ومن موضع إلى موضع آخر يدفن فيه. قال المازري: ظاهر المذهب جواز نقل الميت. وقد مات سعيد بن [108/أ] زيد، وسعد بن أبي وقاص، فحمل إلى المدينة؛ وهذه الفروع كلها من النوادر، وذكر ابن عبد البر أن سعد بن أبي وقاص حمل من قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال. قال في البيان: والنداء بالجنازة في المسجد لا ينبغي، ولا يجوز باتفاق؛ لكراهة رفع الصوت في المسجد، وأما النداء على باب المسجد فكرهه مالك في العتبية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية". والنعي عندهم أن ينادَى في الناس: ألا إن فلاناً قد مات. واستخفه ابن وهب، وأما الأذان بها والإعلام من غير نداء فذلك جائز بإجماع. انتهى.

وفِي التَّشْييعِ: ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: الْمُشَاةُ يَتَقَدَّمُونَ، وأَمَّا النَّسَاءُ فَيَتَأَخَّرْنَ يعني أنه اختلف: هل الأفضل المشي أمامها لأنهم شفعاء، أو خلفها لأن يعتبر في الموت أو يفصل –وهو المشهور- فيتقدم المشاة ويتأخر الركبان. قال ابن شهاب: المشي خلفها من خطأ السنة، وعليه العمل كالخلفاء. وحكى بعضهم رابعاً بالمشي أمامها إلى المصلى، ثم خلفها إلى القبر. وحكى في البيان خامساً بالتسوية، وهو قول أبي مصعب. وسادسها بأنهم يمشون خلفها إلا أن يكون ثم نساء فيمشون أمامها لئلا يختلط النساء والرجال، وأما النساء فيتأخرن باتفاق. فرع: قال في الجلاب: ولا بأس بالجلوس قبل وضع الجنازة، وليس على من مرت به جنازة أن يقوم. ومن صحبها فلا ينصرف حتى يأذن له أهل الميت، إلا أن يطول ذلك، فينصرف قبل الإذن. انتهى. والدليل على الفرع الأول ما قاله سحنون أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجلسون قبل أن توضع الجنازة عن الرقاب. ونبه بالفرع الثاني على خلاف من قال أنه يقوم لها. التلمساني: وقال ابن الماجشون: القيام لها من عمل البر، ولا شيء على من تركه. قال في البيان: وكان في الأول يقومون للجنازة ثم نسخ. فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم للجنازة ثم جلس، ثم أمرهم بالجلوس. قال: وذهب ابن حبيب إلى أنه إنما نسخ الوجوب، فمن جلس فهو في سعة، ومن قام فمأجور، وأما القيام على الجنازة حتى تدفن فلا بأس وليس مما نسخ. انتهى. وأما كراهة الانصراف عنها قبل الصلاة فهو ظاهر المذهب، ورواه ابن القاسم عن مالك في العتبية. وفي البيان: وقال في سماع أشهب: لا بأس أن يحمل الرجل الجنازة فينصرف، ولا يصلي وهو اختلاف من قوله. انتهى.

ويَجُوزُ لِلْقَوَاعِدِ، ويَحْرُمُ عَلَى مَخْشِيَّةِ الْفِتْنَةِ، وفيهِمَا بَيْنَهُمَا الْكَرَاهَةُ إِلا فِي الْقَرِيبِ جِدّاً كَالأَبِ والابْنِ والزَّوْجِ .... يعني: حكم النساء في التشييع على ثلاثة أقسام: يجوز للقواعد، وهن من قعدن عن المحيض لعلو السن، ويحرم على من خشي منها الفتنة، ويكره لمن فقد منها الوصفان؛ أي: قصر سنها عن القسم الأول، ولا يخشى منها الفتنة إلا أن تعظم مصيبتها لموت أبيها، أو أخيها، أو زوجها فتنتفي الكراهة، هذا قوله في المدونة، وشرط فيها إذا كان مثلها يخرج على مثله، وكره ابن حبيب خروج النساء مطلقاً. خليل: وهذا عندي أصوب في زماننا. والصَّلاةُ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ غَيْرِ الشَّهِيدِ وَاجِبَةً عَلَى الأَصَحِّ أي: واجبة على الكفاية؛ وهو قول سحنون، وعبد الوهاب، ومحمد بن عبد الحكم، ومذهب الرسالة. قال القابسي: لم أجد لمالك فيها نصاً إلا أن إجازة مالك أن تصلى بتيمم الفريضة يدل على أنها ليست كالفرائض التي فرضها القرآن والسنة. قول أصبغ. ابن محرز: والوجوب هو الأظهر من المذهب. المازري: وحكى ابن الجلاب أن مالكاً قال أنها واجبة. ولعل أبا الحسن لم يقف على هذا الذي حكاه ابن الجلاب. انتهى. وفي تلقين الشارقي أنها مستحبة؛ وحكاه ابن عيشون عن مالك. وإذا حمل على ظاهره كان في المسألة ثلاثة أقوال. فرع: إذا سقط حضور الجنازة لقيام غيره بها فذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إلى أن صلاة النوافل والجلوس في المساجد أفضل من شهود الجنازة مطلقاً. وذهب سليمان ابن يسار إلى عكسه مطلقاً. وفصل مالك فقال: الجلوس في المسجد أفضل، إلا أن يكون ممن له حق من جوار أو أحد ترجى بركة شهوده. قال ابن القاسم: وذلك في سائر المساجد. قال في البيان: وتفصيل مالك هو عين الفقه.

ولا يُصَلَّى عَلَى شَهِدٍ قَتَلَهُ الْعَدُوُّ تصوره ظاهر. قال أصبغ وغيره: والمرأة [108/ب] والصبي كالذكر البالغ. وإِنْ كَانَ فِي بلادِ الإِسْلامِ عَلَى الأَصَحِّ يعني: لا يصلى على الشهيد إن قتله العدو في بلاد الإسلام على أصح القولين، وهو قول ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وظاهر المدونة. ابن بشير: وهو المشهور. ورأى مقابل الأصح أن هؤلاء انحطت درجتهم عن درجة من دخل من المسلمين بلاد العدو، ونقله في الجواهر عن ابن القاسم، والمازري عن ابن شعبان. ولَوْ كَانُوا نِيَاماً عَلَى الأَصَحِّ يعني أنه اختلف: هل من شرط ترك الصلاة أن يحاربوا عن أنفسهم أولاً؟ فلا يصلى عليهم، ولو قتلوا نياماً على الأصح، وهو قول ابن وهب وأصبغ. ومقابله لابن القاسم في العتبية. ابن يونس: وبالأول أقول، وسواء كانت امرأة، أو صبي، أو صبية. وقاله سحنون، وهو وفاق لما في المدونة. انتهى. ومَنْ أُنْفِذَتْ مَقَاتِلُهُ ولَمْ يَحْيَ حَيَاةً بَيِّنَةً فَكَذَلِكَ أي: كالشهيد المقتول في المعترك لا يصلى عليه؛ لأن موته إنما كان من العدو. وإِنْ لَمْ تَنْفُذْ فَكَفَيْرِ الشَّهِيدِ أي: فيصلى عليه لاحتمال أن يكون موته من غير القتال. وفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلانِ أنفذت ولكن حيا حياة بينة كاليوم وشبهه. قال في الجواهر: فإن رفع من المعترك ثم مات فالمشهور من قول ابن القاسم أنه يغسل ويصلى عليه، إلا أن يكون لم يبق فيه إلا ما

يكون من غمرة الموت، ولم يأكل، ولم يشرب. وقال سحنون: إن كان على حال يقتل قاتله بغير قسامة فهو في معنى الميت في المعترك، وإن كان لا يقتل قاتله إلا بقسامة غسل وصلي عليه. انتهى. ونقل المازري عن أشهب أن الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه من مات في المعترك، وأما من حمل إلى أهله فمات فيهم، أو حمل فمات في أيدي الرجال، أو بقي في المعترك حتى مات، فإنه يغسل ويصلى عليه. قال: وقال مالك: فإن عاش فأكل وشرب غسل وصلي عليه. وقال ابن القصار: إذا عاش يوماً فأكثر فأكل وشرب غسل وصلي عليه. ثم نقل عن سحنون القول المتقدم، ثم قال: فتلخص من هذا في أشكال الحياة اختلاف، فأشهب اعتبرها وأخرجه بها عن حكم الشهداء، وسحنون لم يعتبرها. وما حكيناه عن مالك وابن القصار متقارب. لكن ابن القصار لم يجعل مجرد الأكل والشرب علماً على الحياة هنا كما جعله مالك حتى حدده، فيمكن أن يكون مالك رأى مجرد الأكل والشرب كافياً في ثبوت الحياة، ولم يره ابن القصار حتى يقدر إليه الزمن الذي ذكره. انتهى. ولَوْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُباً فَقَوْلانِ يعني: أن سحنوناً اشترط في ترك الصلاة على الشهيد سلامته من الجنابة، وأما الجنب فيغسل ويصلى عليه. وقال أشهب وابن الماجشون: لا يشترط ذلك، فلا يغسل ولا يصلى عليه مطلقاً. قيل: وهو الأقرب. فرع: ولو وُجد بأرض العدو قتيل لا يدرون من قتله، فقال أشهب: يغسل ويصلى عليه. سحنون: وإذا رموهم بأحجار أو نار، فوجد في المعترك من مات بأحد هذه الوجوه، ولا يدري هل قتله المسلمون أو المشركون هو محمول على أنه من فعل المشركين حتى يظهر خلافه.

ولا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَدْ صُلِّي عَلَيْهِ هو المشهور. المازري: وقال الشافعي: تجوز إعادة الصلاة، كمن لم يصل عليه. وحكى ابن القصار ذلك عن مالك. ومال ابن العربي إلى الجواز. ولا عَلَى مَنْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ صَغِيراً كَانَ أَوْ كَبيِراً قال في المدونة: ومن اشتَرى صغيراً من العدو أو وقع في سهمه، ثم مات صغيراً فإنه لا يصلى عليه، وإن نوى به سيده الإسلام إلا أن يجيب إلى الإسلام بأمر يعرف. انتهى. وذكر في البيان في الصغير من سبي أهل الكتاب هل يجبر على الإسلام أقوالاً. مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك: لا يجبر، ولا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب. قال: وقيل: إنه يجبر على الإسلام، وإن كان معه أبوه. وهو قول الأوزاعي، والثوري، وظاهر رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة. واختيار أبي عبيد، قال: لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. وقيل: يجبر على الإسلام إلا أن يكون سُبي معه أبوه –كانا في بلد واحد أو لم يكونا- ولا يلتفت في ذلك إلى أمه؛ وهو قول المدنيين، وروايته عن مالك، ورواية معن بن عيسى. وقيل: إنه يجبر على الإسلام إلا أن يكون معه أحد أبويه فيكون تبعاً له ما لم تفرق بينهما الأملاك. وهو قول ابن الماجشون، قال: فإن مات قبل أن يجبر على الإسلام في الموضع الذي يجبر فيه فقيل: يحكم له بحكم الإسلام [109/ أ] لملك سيده إياه، وهو قول ابن دينار، ورواية معن بن عيسى عن مالك. وقيل: لا يحكم له بحكم بالإسلام حتى ينويه به سيده. قاله ابن وهب. وقيل: لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يرتفع عن حداثة الملك شيئاً، ويزينه سيده بزي الإسلام، ويشرعه بشرائعه؛ وهو قول ابن نافع. وقيل: لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه، ويعقل الإجابة ببلوغه حد الإثغار ونحو ذلك. وقيل: لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه بعد البلوغ؛ وهو مذهب سحنون.

وأما الصغير من سبي المجوس فلا اختلاف أنه يجبر على الإسلام، إلا أن يكون معه أبواه، أو أحدهما في ملك واحد، أو أملاك متفرقة. وعلى ما تقدم من الخلاف في سبي أهل الكتاب فإن مات قبل الجبر فعلى ما تقدم من الاختلاف. واختلف في الكبير من سبي المجوس، هل يجبر على الإسلام أم لا؟ على القولين. ولم يختلف في الكبير من سبي أهل الكتاب أنه لا يجبر على الإسلام. ومذهب ابن حبيب فيما ولد للنصراني في ملك المسلمين مثل قول ابن القاسم أنه لا يجبر على الإسلام بخلاف السبي. وذهب أبو مصعب إلى أنه لا يجبر بالسبي، ويجبر فيما ولد في ملك المسلمين، عكس تفرقة ابن حبيب، فهذا تحصيل الخلاف في هذه المسألة. انتهى. ولَوِ ارْتَدَّ مُمَيَّزْ فَقَوْلانِ، ولَوْ أَسْلَمَ ونَفَرَ مِنْ أَبَوَيْهِ فَقَولانِ هذا الفرع كالبعض من الذي قبله. وفي المدونة قال: ومن ارتد قبل البلوغ لم تؤكل ذبيحته، ولا يصلى عليه بناء على الحكم بكفره. وقال سحنون: يصلى عليه لأنه يجبر على الإسلام ويورث. ونقل ابن عبدوس اتفاق الأصحاب على قتل أولاد المسلمين إذا ارتدوا وتمادوا على الردة بعد البلوغ؛ ذكره المازري. وقوله: (ولَوْ أَسْلَمَ) أي: أسلم ولد الكافر قبل بلوغه، (ونَفَرَ مِنْ أَبَوَيْهِ) فقيل: يصلى عليه نظراً لحالته الآن. وقيل: لا لأنه لو رجع إلى دين أبويه لم يقتل. وذكر المصنف في باب الردة أن الأصح الحكم بإسلام المميز. وفِي الْمُبْتَدِعَةِ قَوْلانِ قد تقدم في كفرهم وفسقهم قولان، ولا إشكال على القول بالتفكير أنه لا يصلى عليهم. ووقع لمالك أنه لا يصلى على القدرية والإباضية وقتلى الخوارج، ولا تتبع جنائزهم، ولا تعاد مرضاهم، وهذا إما لأنهم عنده كفار- وإلى تأويل المدونة على هذا ذهب بعضهم- أو لأنهم فساق، ولكن تركت الصلاة تأديباً لهم. وهو تأويل سحنون

وغير واحد، وهو أظهر في مختصر ابن شعبان؛ أنه لا يصلى على من ذكر بالفسق والشر، وروى بعض المدنيين عن مالك أنه قال: من ترك الجمعة لم أرغب في الصلاة عليه إذا مات. وفي المجموعة عن مالك يصلى على كل مسلم، ولا يخرجه من دين الإسلام حدث أحدثه، ولا جرم اجترمه. وكذلك قال ابن حبيب: يصلى على كل موحد، وإن أسرف على نفسه بالكبائر. وأشار المازري إلى أن القول بأنه لا يصلى عليهم محمول على أنه نهي عن الرغبة في الصلاة على مثل هؤلاء، إذا قام يفرض الصلاة غيره، ولهذا قال مالك في رواية ابن وهب في الميت المعروف بالفسق والشر: لا تصلِّ عليه واتركه لغيرك. قال: وأما إن كان المراد نهي الكل عن الصلاة على مثل هؤلاء فهو خلاف مذهب الأئمة، فلا تحمل هذه الرواية عليه. وروى ابن شعبان بسنده في مختصره عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من قال: لا إله إلا الله. وذكر أيضاً بسنده عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فصلِّ عليه، واستغفر له، وحسابه على الله. ولهذا الذي أشار إليه المازري أشار المصنف. ويَنْبَغِي لأَهْلِ الْفَضْلِ اجْتِنَابُ الصَّلاةِ عَلَى مُظْهِرِ الْكَبَائِرِ فخصص ذلك بأهل الفصل، وهذا هو قول مالك المتقدم خلافاً لابن حبيب. وإنما لم يصل عليهم أهل الفضل غيرة لله، وردعاً لأمثالهم. وفِي الإِمَامِ فِيمَنْ قُتِلَ حَدّاً قَوْلانِ يعني: وفي صلاة الإمام. والمشهور: العدم. والشاذ لابن نافع، وابن عبد الحكم. وسبب الخلاف: هل صلى عليه الصلاة والسلام على الغامدية؟ وروى اللخمي عكس المشهور، فأشار إلى أنه إذا أقيم عليه الحد فقد حصل له الردع، ومن مات ولم يحد فذلك

الذي يستحب للإمام التخلف عن الصلاة إليه. ونص أبو عمران على أن الإمام يصلي عليه إذا مات هذا المقدم للقتل خوفاً من القتل قبل إقامة الحد؛ لأن ترك الصلاة من توابع الحد. [109/ب] ونص في المدونة على أن الناس إذا قتلوا المحارب دون الإمام أن الإمام لا يصلي عليه. ابن عبد السلام: وكلام المصنف غير واف بالمسألة؛ لأن من قتل قصاصاً يشارك المقتول حداً في هذا الحكم، وكلامه لا يعطي ذلك. فإن قيل: بل يعطيه لأن مراده بالحد العقوبة، وكأنه يقول من قتل عقوبة. قيل: الحد حقيقة عرفية في المعنى الذي ذكرناه، فمن أراد استعمالها في غير ذلك وجب عليه البيان. انتهى. وقوله: (قُتِلَ حَدّاً) يخرج من لم يكن حده القتل كالزاني البكر، والقاذف، ونحوهما، يموت بسبب ذلك، فقد نص في المدونة على أن الإمام يصلي عليه. قال المازري: وقد يتخرج على قول من يقول بترك الصلاة على أهل المعاصي ترك الصلاة على هذا. واختلف في علة ترك الإمام الصلاة على المشهور. فقيل: للردع والزجر، كما يكره لمن سواه من أهل الفضل الصلاة على أهل الكبائر. وقيده أنه ينتقم له بقتله، فلا يكون شافعاً له بالصلاة. انتهى. قال في البيان: والأول: صحيح في المعنى إلا أنه لا يساعده قوله؛ لتفرقته فيه بين القتل وغيره. وفي الثاني نظر؛ إذ لا بعد في أنه ينتقم له منه بما شرعه في الدنيا، ويشفع له في العاقبة في الدار الآخرة. ولا يُصَلَّى عَلَى سِقْطٍ مَا لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بَعْد انْفِصَالِهِ بِالصُّرَاخِ. وفِي الْعُطَاسِ، والْحَرَكةِ الْكَثِيرَةِ، والرَّضَاعِ الْيَسِيرِ قَوْلانِ. وأَمَّا الرَّضَاعُ الْمُتَحَقَّقُ، والْحَيَاةُ الْمَعْلُومَةُ بِطُولِ الْمُكْثِ فَكَالصُّرَاخِ .... السقط: بضم السين، وفتحها، وكسرها، ثلاث لغات مشهورات، قاله غير واحد. قال في الجواهر: يورى بخرقة ويدفن. والخلاف فيما ذكره مبني على خلاف في حال. والمنصوص عن مالك أنه إذا عطس، أو تحرك، أو رضع لا يحكم له بالحياة.

ابن حبيب: ولو أقام يتنفس يوماً، ويفتح عينيه، حتى يسمع له صوت. وفيه نظر. وأشكل من ذلك قول يحيى بن عمران: إن أقام عشرين يوماً أو أكثر لم يصرخ ثم مات، فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأن الميت يتغير في أقل من ذلك. ويسير الحركة لا تعتبر اتفاقاً، وكثير الرضاع يعتبر اتفاقاً. وقطع المازري بأن الرضاع لا يكون إلا من حي، وأنكره غيره. ابن الماجشون: والبول لا يدل على الحياة لاحتمال أن يكون من استرخاء. ويُصَلَّى عَلَى جُلَّهِ، وفِيَمَا دُونَهُ قَوْلانِ يصلى على الجل بلا إشكال. ووقع لأشهب: إن وجد بعض بدن مع الرأس لم يغسل ولم يكفن، ولم يصلَّ عليه، حتى يوجد أكثر بدنه. ونقله المازري. وقال ابن بشير: لا خلاف أنه يصلى على الجل، إلا ما عند ابن حبيب، فإنه قال: إذا كان الجسد مقطعاً فلا يصلى عليه. وعلل ذلك بأن الصلاة لا تكون إلا بعد الغسل، وهذا لا يمكن غسله. وقوله: (وفِيَمَا دُونَهُ قَوْلانِ) يشمل النصف ودون. وحكى ابن بشير الخلاف فيهما. ومذهب المدونة أنه لا يصلى على ما دون الجل. المازري: وهو المشهور. والشاذ لابن حبيب جواز تغسيل العضو والصلاة عليه، ووجهه ما ذكره عيسى بن دينار في كتاب ابن مزين أن أبا عبيدة رضي الله عنه صلى على رأس وأيد بالشام. وقال ابن الماجشون: يصلى على الرأس إذا وجد. قال: لأن فيه أكثر الديات. واستشكل التونسي ترك الصلاة على النصف، فإن ذلك يؤدي إلى ترك الصلاة على النصف بأن ذلك مؤدٍّ لترك الصلاة بالكلية. قال في البيان: والعلة في ترك الصلاة على بعض الجسد عند مالك وأصحابه أن الصلاة لا تجوز على غائب، ويستخفوا إذا غاب منه اليسير؛ الثلث فما دون. انتهى. وبما علل صاحب البيان يندفع ما قاله التونسي. والله أعلم.

وفِي الصَّلاةِ عَلَى الْمَفْقُودِ مِنَ الْغَرِيقِ، ومَاكُولِ السَّبُعِ وشِبْهِهِ قَوْلانِ القول بالصلاة لابن حبيب. واحتج بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي. وقال غيره من أصحابنا: لا يصلى عليه. قال في الجواهر: ويشترط حضور الجنازة، ولا يصلى على غائب. وقال ابن حبيب: يصلى على من أكلته السباع أو غرق. ولا يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ وفي بعض النسخ زيادة على المشهور. واحتج في المدونة بالعمل، ووجه الشاذ حديث المسكينة، وذكر في الجواهر رواية. وقال في البيان: وروى ابن القصار عن مالك إجازة ذلك ما لم يطل، [110/أ] وأقصى ما قيل فيه الشهر، وهو شذوذ في المذهب. انتهى. وعلى هذا فالشاذ الذي حكاه المصنف مقيد بما إذا لم يطل. وفي الاستذكار: روى ابن وهب: من فاتته الجنازة فليصلِّ على القبر إذا كان قريباً اليوم والليلة. على حديث المسكينة. فَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ صَلاةٍ فَقَوْلانِ، وعَلَى النَّفْيِ: فَثَالِثُهَا: يُخْرَجُ مَا لَمْ يَطُلْ القول بالمنع لمالك في المبسوط، وقاله أشهب، وسحنون. سحنون: ولا أجعل ذلك وسيلة إلى الصلاة على القبر. وعلى الجواز جمهور أصحابنا، وهو مذهب الرسالة؛ لأن فيها: ومن دفن ولم يصل عليه. وروي فإنه يصلى على قبره. وعلى نفي الصلاة فقال مالك في المبسوط: لا يخرج، ويدعون له. والقول بأنه يخرج ولو بعد الطول لا أعلمه، وهو مشكل. والذي حكاه ابن بشير أن هذا القول مقيد بما إذا لم يخش عليه التغيير، وهو قول سحنون، وقول عيسى، وروايته عن ابن القاسم. وكذلك حكى الباجي الثلاثة. والظاهر أنه لا يخرج مطلقاً كما اختار اللخمي؛ لإمكان أن يكون حدث من الله شيء. ابن حبيب: ولو وضع الميت على شقه الأيسر، أو الحدوه على غير القبلة، أو ألحدوه منعكساً؛ رجلاه موضع رأسه، فإن عثر عليه بحدثان دفنه وقبل أن يخاف التغيير عليه

يحول، وإن لم يعثر عليه ولم يعلم حتى طال أمره وخيف عليه التغيير ترك. قاله ابن القاسم وأصبغ. ولو ذكر الإمام أنه صلى وهو جنب فإنها لا تعاد كالفريضة، ويكتفى بصلاة المأمومين لأنها تامة، ولا تعاد عليه من الإمام ولا من غ يره؛ لأنه لما صحت صلاة المأمومين لزم ألا تعاد على قاعدة المذهب، هكذا قال في العتبية. قال في البيان: ويدخل هنا من الخلاف ما في صلاة الفريضة إذا صلى الإمام ثم تبين له أنه حدث. ونص ابن القاسم في العتبية في امرأة نصرانية أسلمت وماتـ، فدفنت في قبور النصارى، على أنها تنبش وتخرج إلا أن تكون تغيرت. قال في البيان: وهذا لأن الكفار يعذبون في قبورهم وهي تتأذى بمجاورتهم؛ فوجب أن تنبش وتنقل لمقابر المسلمين. وكَذَلِكَ مَنْ دُفِنَ ومَعَهُ مَالٌ لَهُ بَالٌ أي: فتأتي الثلاثة الأقوال. وهكذا قال ابن بشير، فإنه قال بعد ذكره الخلاف المتقدم: ويلحق بهذا حكم من معه مال معتبر ثمنه، أو تمس الحاجة إليه. انتهى. ويُكَبِّرُ أَرْبَعاً فَإِنْ زَادَ الإِمَامُ فَفِي التَّسْلِيمِ أَوِ الانْتِظَارِ قَوْلانِ الذي أخذ به علماء الأمصار أربع تكبيرات حتى صارت الزيادة شعاراً لأهل البدع. قال في البيان: وانعقد الإجماع على ذلك في زمن عمر رضي الله عنه. قال ابن حبيب: واستقر فعله صلى الله عليه وسلم على الأربع، ومضى عليه عمل الصحابة. والقول بالسلام إذا زاد الإمام لمالك في العتبية. والآخر له في الواضحة، وقاله ابن وهب وابن الماجشون وأشهب. فرع: ولو أن مسبوقاً فاته بعض التكبير، فهل يتبع الإمام في هذه الخامسة معتداً بها قضاء لما فاته؟ فقال أصبغ: يكبر معه، ويحتسب بها. وقال أشهب: لا يكبر معه، وإن كبر فلا

يحتسب بها ويقضي جميع ما فاته. قال في البيان: وقول أشهب هو القياس على مذهب مالك. وقول أصبغ استحسان على غير قياس. فَإِنْ سَلَّمَ بَعْدَ ثَلاثٍ كَبَّرَهَا مَا لَمْ يَطُلْ فَتُعَادُ مَا لَمْ يُدْفَنْ فَتَجِيءُ الأَقْوَالُ لأن كلاً من الأربع تكبيرات ركن، فإذا رجع لإصلاح الصلاة مع القرب اقتصر على النية. ولا يكبر لئلا تلزم الزيادة في عدده، فإن كبر حسبها في الأربع. وقوله: (فَتَجِيءُ الأَقْوَالُ) أي: فيمن دفن ولم يصلَّ عليه، هل يصلى على قبره أم لا؟ وعلى النفي هل يخرج أم لا؟ وفِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ: ثَالِثُهَا: الشَّاذُ لا يُرْفَعُ فِي الْجَمِيعِ تصوره ظاهر؛ يعني أنه اختلف هل يرفع المصلي يديه في التكبير على الجنازة على ثلاثة أقوال: الرفع في الجميع. وعدمه في الجميع. وفي الأول دون ما بقي. وقوله: (الشاذ) يقتضي أن القولين الباقيين مشهوران. وهكذا قال ابن بشير؛ لأنه قال: والقول بأنه لا يرفع في الجميع شاذ، والقولان الآخران في المدونة. انتهى. والرفع في الأولى أشهر من الرفع في الجميع، وهو قول ابن القاسم. والقول بالرفع في الجميع رواية ابن وهب، واختاره ابن حبيب قال: وكان مطرف، وأصبغ، وابن الماجشون يرون أنه يرفع في أول تكبيرة من غير كراهة للرفع فيها كلها. والقول بأنه لا يرفع في الجميع حكاه ابن شعبان. وفِي دُخُولِ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ التَّكْبيرَتَيْنِ أَوِ انْتِظَارِ التَّكْبيرِ قَوْلانِ يعني: إذا وجد مسبوق الإمام قد كبر [110/ ب] وتباعد ذلك فهل يكبر ويدخل مع الإمام، أو ينتظر الإمام؟ فإذا كبر كبر معه. مذهب المدونة الانتظار، ورواه ابن الماجشون أيضاً وقال به، والآخر رواه مطرف وأشهب وقالا به. واختاره ابن حبيب بناء على أنه هل تتنزل التكبيرات منزلة الركعات في غير هذه الصلاة، فيكون الداخل حينئذٍ كالقاضي في حكم الإمام أم لا؟ فيدخل كما يدخل في صلاة العيد. وقال مالك في

المختصر: يدخل في الصلاة بالنية بغير تكبير، فإذا كبر الإمام كبر معه. المازري: واختار القابسي أن يكبر إن أدرك بعد تكبيرة تحميد الله، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، والدعاء بما تيسر قبل أن يكبر الإمام، وإن لم يمكنه ذلك ولو خفف فيه لم يكبر وانتظر الإمام. واعتل بأنه إذا لم يمكنه ذلك فإنه لم يحصل له سوى التكبير من غير دعاء. وإن استوى الحال كان التأخير أولى؛ ليقع القضاء بعد فراغ الإمام متوالياً. وتعقب اللخمي هذا بقوله في المدونة: إن من فاته بعض التكبير يقضيه بعد فراغ الإمام متوالياً من غير دعاء، وإن كان كذلك كان التكبير وإدراك شيء من الدعاء الآن أولى من التأخير. اللخمي: وأما على القول بأنه يصلَّى على الغائب فيمهل حتى يكبر الإمام، فيكبر بتكبيره، فإذا سلم الإمام قضى ما فاته، ويدعو فيما بين ذلك وإن غابت الجنازة عنه. ورد المازري الأول بأن مالكاً إ نما قال: يكبر تباعاً؛ لأنه لو لم يفعل ذلك فإذا ارتفعت عنه الجنازة كان في معنى الصلاة على الغائب، وإن لم ترتفع كان في معنى تكرير الصلاة على الميت بخلاف الآتي، وقد سبقه ببعض التكبير. فإن القابسي إنما اختار التكبير إذا أدرك ما أدرك لحصول المقصود من الصلاة، بخلاف ما إذا لم يدرك المقصود منها. ورد الثاني بأن من منع الصلاة على الغائب إنما قال ذلك إذا افتتحت الصلاة أولاً على الغائب بخلاف هذه. خليل: وفي قول المازري وإن لم ترفع كان في معنى تكرير الصلاة على الميت نظر. فإن المنصوص في الجلاب وغيره أن من سبق ببعض التكبير إذا تركت له الجنازة لا يكبر تباعاً، بل يدعو كما قال يفعل أولاً. وعلى المشهور فقال في المجموعة: يدعو في انتظاره. وفِي اسْتِحْبَابِ الابْتِداَءِ بِالْحمْدِ والصَّلاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْلانِ المراد بالحمد هنا الثناء على الله تعالى لا سورة الحمد، والذي في الجلاب والرسالة وغيرهما من المختصرات الابتداء بالحمد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

والقول بنفي الاستحباب ذكره ابن بشير، وكذلك الشوشاوي فإنه قال: قال مالك مرة: ليس فيه إلا الدعاء من غير حمد، ولا ثناء لقوله عليه الصلاة والسلام: "أخلصوا له الدعاء". ثم رجع فاستحب دعاء أبي هريرة، وفيه حمد وثناء. انتهى. وكذلك ذكر المازري عن بعض شيوخه أنه اعتقد أن المذهب على قولين. قال: وقد خرج مسلم حديث عوف بن مالك وليس فيه إلا الدعاء خاصة. ووجه إثباته أن الشرع ورد بأن يبتدئ كل أمر ذي بال بالتحميد. وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام أمر من يريد الدعاء أن يبتدئ بالحمد لله عز وجل والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو. وقد قال عمر رضي الله عنه: الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم. المازري: وإذا قلنا بالبداية بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعض المتأخرين إلى أنه لا يقتصر فيه على التكبيرة الأولى. وقال بعضهم: واسع أن يقتصر عليه بعد الأولى وأن يعاد بعد كل تكبيرة. انتهى. ونقل ابن زرقون عن أبي بكر الوقار أنه قال: يحمد الله في الأولى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية، ويشفع للميت في الثالثة. وفِي الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ قَوْلانِ قال ابن حبيب: يسلم من غير دعاء. وقال سحنون: يدعو ثم يسلم. وخيره صاحب الرسالة. ولا يُسْتَحَبُّ دُعَاءٌ مُعَيَّنٌ اتِّفَاقاً ولا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ هكذا قال ابن بشير أنه لا يستحب دعاء معين بلا خلاف. فإن قلت: يعارضه قول ابن أبي زيد: ومن مستحسن ما قيل في ذلك. وقوله في المدونة: أحب ما سمعته إلي. فالجواب: أما الرسالة فليس فيها دعاء مخصوص؛ إذ قال فيها قبله: ويقال في ذلك غير شيء، وذلك كله واسع. وأيضاً فالمستحب ما ثبت بنص، والمستحسن ما أخذ من

القواعد الكلية، وأما المدونة فإنما رجحه ولم يعينه. قوله: (ولا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ) أي: ولا تستحب قراءة الفاتحة على المشهور، والشاذ استحبابها. وفي الجواهر: لهذه الصلاة أربعة أركان: النية، والتكبيرات، والدعاء للميت، والسلام. وزاد أشهب وابن مسلمة قراءة الفاتحة عقيب التكبيرة الأولى. ابن رشد: وكان شيخنا القرافي يحكي عن أشهب الوجوب، ويقول: إنه يفعله. [111/ أ] واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". انتهى. ودليلنا ما قاله مالك: ليس العمل على القراءة فيها. قال ابن حبيب، والمازري، وغيرهما: روي ترك القراءة عن عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر، وأبي هريرة، وكثير من الصحابة، والتابعين رضي الله عنهم أجمعين. فروع: الأول: إذا والى التكبير ولم يدع. فقال مالك في العتيبة: تعاد الصلاة ما لم يدفن، كالذي يترك القراءة في الصلاة. ابن حبيب: إلا أن يكون بينهما دعاء وإن قل. الثاني: إذا صلى على جنازة يظنها امرأة فإذا هي رجل أو العكس، فدعا على ما يظنه، فصلاته تامة. الثالث: لو صلى على الميت ونعشه منكوس –رأسه مكان رجليه- لم تعد الصلاة عليه. الرابع: لو ذكر إمام الجنازة أنه جنب، أو رعف، فحكمه حكم المكتوبة في الاستخلاف، وقاله في العتبية. الخامس: إذا ذكر صلاة في صلاة الجنازة، فقال ابن القاسم: لا يقطع. وفرق في البيان بين هذه وبين من ذكر صلاة في صلاة أن الترتيب فيما قل لازم، ولا ترتيب فيما بين صلاة الفريضة وصلاة الجنازة. ومثل قول ابن القاسم هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، ولم يحك في ذلك خلافاً.

السادس: إذا قهقه الإمام أبطل عليه وعليهم، قاله في العتبية. السابع: إذا جهلوا القبلة، ثم علموا بذلك قبل دفنها أو بعده، فقال ابن القاسم في العتبية: إن دفنوها فلا شيء عليهم، وإن لم يدفنوها فإني أستحسن أن يصلى عليها قبل الدفن، وليس بواجب. وفي البيان: رأى أشهب الإعادة ما لم تدفن. وسحنون لا يرى ذلك، ويرى أن بالسلام منها قد انقضت، ومن جهل القبلة يعيد في الوقت، ولا وقت هنا. ورأى أشهب أن حضور الجنازة كحضور الوقت ودفنه كفواته، واستحبّاب ابن القاسم الإعادة ما لم تدفن راجع إلى إسقاط وجوب الإعادة كقول سحنون. انتهى بالمعنى. الثامن: من مات في البحر غسل وكفن، وصلي عليه، وأُنْظِرَ به البر إن طمع في إدراك ذلك اليوم وشبهه ليدفنوه، وإن كان البر بعيداً، وخافوا عليه التغيير، رمي في البحر مستقبل القبلة منحرفاً على شقه الأيمن. قال ابن حبيب: وتشد عليه أكفانه. قال ابن القاسم وأشهب: ولا يثقلوا رجليه بشيء ليغرق، كما يفعل من لا يعرف. وقال سحنون: يثقل بشيء إن قُدر. واحتج من لم ير التثقيل بأنه ربما ألقاه البحر إلى الساحل فيدفنه المسلمون، وفي تثقيله قطع لما يرجى له من الدفن. وفِي الْجَهْرِ بالسَّلامِ قَوْلانِ هذا الخلاف إنما هو في حق الإمام، وأما المأموم فإنه يسر. والمشهور: الجهر. قال في المدونة: ويسلم إمام الجنازة واحدة عن يمينه يسمع نفسه ومن يليه، ويسلم المأموم واحدة يسمع نفسه فقط، وغن أسمع من يليه فلا بأس. وروي عن مالك أن الإمام يسر أيضاً. المازري: ووجهه أن صلاة الجنازة ركن جرد عن الصلاة المعهودة، فلم يجهر فيها بالسلام؛ كسجود التلاوة، وعلى هذا فيعرف المأموم انقضاء صلاته بانصراف الإمام. وقال أشهب: يسلم الإمام تسليمتين عن يمينه وعن يساره، ويسلم القوم كذلك. والمشهور أنه

لا يرد المأموم على الإمام، وهو مذهب المدونة. وروى ابن غانم في العتبية، وابن حبيب في الواضحة أنه لا يرد على الإمام إلا من سمعه. المازري: وأشار بعض المتأخرين إلى أنه يمكن إجراء هذا الخلاف على جهر الإمام وإسراره، فعلى الجهر يرد عليه وإلا فلا. وإِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ جَازَ أَنْ تُجْمَعَ فَيُجْعَلَ الذُّكُورُ الأَحْرَارُ البَالِغُونَ مِمَّا يَلِي الإمَامُ، الأَفْضَلُ فَالأَفْضَلُ ثُمَّ الصِّغَارُ ثُمَّ الأَرِقَّاءَ ثُمَّ الخَنَاثّى ثُمَّ أَحْرَارُ النِّسَاء ثُمَّ صِغَارُهُنَّ ثُمَّ أَرِقّاؤُهُنَّ كَذَلِك. قوله: (وإِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ) يريد: والأجناس مختلفة؛ لأنه سيتكلم على الجنس الواحد. وقوله: (جَازَ أَنْ تُجْمَعَ) يعني في صلاة واحدة. قال في الجواهر: ويجوز أن تفرد كل جنازة بصلاة. وقوله: (الأَفْضَلُ فَالأَفْضَلُ) قال في الجواهر: ويقدم بالخصال الدينية التي ترغب في الصلاة عليه، فإن تساووا في الفضل رجح بالسن، فإن تساووا أقرع بينهم إلا أن يتراضى الأولياء على أمر. وقوله: (ثُمَّ الصِّغَارُ) اعلم أن المراتب اثنا عشر، وهذه كيفيتها: أحرار ... أحرار ... خنثى ... خنثى ... خنثى ... خنثى ... نساء ... نساء إمام ... ذكور ... ذكور ... عبيد ... عبيد ... أحرار ... أحرار ... عبيد ... عبيد ... حرائر ... حرائر ... إماء ... إماء بالغون ... صغار ... بالغون ... صغار ... بالغون ... صغار ... بالغون ... صغار ... بالغات ... صغار ... كبار ... صغار [111/ب] وهذه الاثنا عشر ذكرها صحاب البيان هكذا. وذكر المازري أنه يقدم الخصي على الخناثي فتكون ست عشرة مرتبة، ونقل عن ابن القاسم تقديم بالغي العبيد على صغار الأحرار لجواز إمامتهم، ونقل أيضاً عنه تأخير صغار الذكور الأرقاء عن الحرائر، وهذا الترتيب من المستحبات. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحدٍ جَازَ أَيْضاً أَنْ تُجْعَلَ صَفّاً واحداً يعني: أن الجنائز إذا كانت جنساً واحداً جاز فيها واحداً جاز فيها ذلك، وجاز فيها أيضاً أن تجعل صفاً واحداً، ويقف الإمام عند أفضلهم، وعن يمين المصلي الذي يليه في الفضل؛ رجل

المفضول عند رأس الأفضل، ومن دونهما في الفضل عن شماله؛ رأٍه عند رجلي الأفضل، فإن كان رابعاً دون هذه الثلاثة جعل عن يساره رأسه عند رجلي الثالث في الذكر، ومقتضى كلام المصنف وصاحب الجواهر أن الصف مختص بالصنف الواحد، وكذلك قال اللخمي. وقال في البيان: إن كثرت جنائز الرجال أو النساء، أو الرجال والنساء، فإنهم يجعلون سطرين أو أكثر قولاً واحداً. وإن كانت الأسطر وتراً وهو الاختيار قام الإمام في وسط الأوسط منها، وإن كانت شفعاً قام فيها بين رجلي الذي عن يمينه، ورأس الذي عن يساره، ويكون الأفضل منهم الذي عن يمينه، ثم الذي يليه في الفضل عن شماله، ثم ينتقل إلى الصف الذي أمامه على هذا الترتيب، ثم إلى الذي بعده على هذا أبداً. وأما إذا قل عدد الجنائز، فكانوا اثنين، أو ثلاثة، أو نحو ذلك. وقال ابن حبيب: إلى ما دون العشرين. فكان مالك أول زمانه يرى الأحسن أن يجعل واحداً أمام واحد إلى القبلة؛ وهي رواية ابن كنانة، ثم رأى ذلك كله سواء أن يجعلوا سطراً واحداً من المشرق إلى المغرب، أو يجعل واحداً أمام واحد إلى القبلة، ولم يفضل إحدى الصورتين على الأخرى، وهذا الاختلاف قائم من المدونة. انتهى. ويُقَدَّمُ الأَفْضَلُ مِنْ أَوْلِيَائِهَا، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَالْقُرْعَةُ وهو ظاهر. وهو يشمل ما إذا اتحدت الجنائز، أو تعددت بدليل قوله: وفِي تَقْدِيمِ وَلِيِّ الذَّكَرِ وإِنْ كَانَ مَفْضُولاً قَوْلانِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَاتَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِي امَرَأَةُ عُمَرَ وابْنُهَا زَيْدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِي فَوْرِ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِيهِمَا ثلاثُ سُنَنٍ لَمْ يُوّرَّثَا، وحُمِلا مَعاً، وجُعِلَ الْغُلامُ مِمَّا يَلِي الإِمَامَ، وقَالَ الْحَسَنُ لابْنِ عُمَرَ: صَلِّ. لأَنَّهُ أَخُو زَيْدٍ ...... إذا اجتمعت جنازة رجل وجنازة أنثى فإن كان ولي الذكر أفضل فلا خلاف في تقديمه، وإن كان مفضولاً فالمنقول عن مالك تقديم ولي المرأة الأفضل. وقدم ابن

الماجشون ولي الرجل، واحتج بتقديم الحسن لعبد الله في الصلاة. ومنشأ الخلاف هل يرجح الولي نفسه أو الميت؟ وقول مالك أولى. ولو كان المعتبر فضل الميت لقدم ولي أفضل الذكرين وإن كان مفضولاً، وإنما يتم احتجاج عبد الملك؛ لو كان قوله: (لأَنَّهُ أَخُو زَيْدٍ) من كلام الحسن، وبه يتم أربع سنن، قال صاحب البيان وغيره: ولا حجة في القصة المذكورة، وإنما تحصل الحجة لو كان المقدم لعبد الله غير الحسن، كالخليفة أو غيره من الصحابة، وإلا فالحسن لكماله في الفضل يرى لعبد الله فضلاً عليه، ولا يرى لنفسه فضلاً، ويحضره في باله حينئذٍ سن ابن عمر وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالصلاح، وحضور المشاهد له في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وزهده في الخلافة بعد أن عرضت عليه مرتين. ابن راشد: وكلثوم مأخوذ من الكثلمة؛ وهي الحسن. وما ذكره من أن السنن ثلاثة ذكره غيره أنها خمس. قال: لأنهما دفنا في قبر واحد، وجعل الولد مما يلي القبلة. فرع: ولو سها الإمام فنوى إحدى الجنازتين، ونواهما من خلفه، فقال في العتبية: تُعاد الصلاة على من لم ينوها الإمام، دفنت أو لم تدفن. ويُقَامُ عِنْدَ وَسَطِ الْجِنَازَةِ، وفِي مَنْكِبَي الْمَرْأَةِ قِوْلانِ المشهور عند منكبيها. ومقابل المشهور قول ابن مسعود؛ ذكره في المدونة، والقول بأنه يقف عند وسط المرأة أيضاً لمالك. وكذلك روى البخاري عنه عليه الصلاة والسلام. وقال ابن شعبان: حيث وقف الإمام من الجنازة في الرجل والمرأة جاز. قال القابسي: والذي في المدونة عن ابن مسعود في إسناده نظر، وفيه رجل مجهول، عن إبراهيم، وإبراهيم لم يدرك ابن مسعود، وهو مخالف للحديث الذي أخرجه أهل الصحيح. ويقال وسط بسكون السين، وفتحها.

ويُجْعَلُ رَاسُهُ عَنْ يَمِينِ الْمُصَلَّى واضح ووَصَيٌّ الْمَيِّتِ أَوْلَى بالصَّلآةِ إِنْ قُصِدَ الْخَيْرُ وإِلا فَالْوَلِيُّ يعني: أن الوصية بالصلاة على الميت لها مدخل في ذلك، وزيادة التقدم على الأولياء، لكن بشرط أن يقصد الميت الخير في الموصى له وبركة دعائه فحينئذٍ يكون مقدماً على الولي، لا إن قصد مراغمة الولي لعداوة [112/أ] بينهما ونحوها. مالك وسحنون، وابن حبيب، وغيرهم: ويقدم الوصي على الولي. وما زال الناس يختارون بجنائزهم أهل الفضل من الصحابة والتابعين. وإِذَا اجْتَمَعَ الْوَلِيُّ والْوَالِي فَالْوَالِي الأَصْلُ –لا الْفَرْعُ- أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الْخُطْبَةِ فَقَوْلانِ لابْنُ الْقَاسِمِ وغَيْرِهِ ... لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤَمَّنَّ أحدُكُمْ في سُلْطانِه". ولا إشكال في هذا في الخليفة، وأما الفرع فلا إلا أن يكون صاحب الخطبة. فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وهو قول سحنون تقدمته حينئذٍز ولا يقدم أيضاً عندهما إذا كانت له الخطبة والصلاة دون أن يكون أميراً، أو قاضياً، أو صاحب شرطة، أو أميراً على الجند. وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن ذلك لكل من الخطبة إليه واصللاة، وإن لم يكن إليه حكم. قال في البيان: ولا يوجد ذلك لابن القاسم نصاً، وظاهر ما في سماع أبي الحسن عن ابن وهب أن القاضي أحق بالصلاة على الجنازة من الأولياء وإن لم تكن إليه الصلاة. وقال مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ: ليس للواحد من هؤلاء في الصلاة على الجنازة حق سوى الأمير الذي تؤدي إليه الطاعة. قال في البيان بعد ذكر هذه الأربعة الأقوال: ولا اختلاف في أنه لا حق في الصلاة على الجنائز لمن انفرد بالصلاة دون الخطبة والقضاء، أو بالحكم دون القضاء والخطبة والصلاة. انتهى.

ابن عبد السلام: والظاهر أن الأولياء إذا أحضروا الجنازة موضع الصلاة والخطبة فإنه يقدم الوالي، وإن لم يحضروها هنالك بل صلوا عليها في موضع في محل الدفن أو غيره فحضر الوالي الفرع فهم أولى منه. وإِذَاَ لَمْ يَكُنْ إِلا نِسَاءً صَلَّيْنَ أَفْذَاذاً عَلَى الأَصَحِّ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ عَلَى الأَصَحِّ يعني: إذا لم يحضر الميت إلا نساء فالأصح أنهن يصلين أفذاذاً، ومقابله نقله اللخمي عن أشهب أنهن يصلين جماعة، وهو إما على رواية ابن أيمن، وإما لأنهن محل ضرورة، وإذا قلنا بصلاتهن أفذاذاً فهل واحدة بعد واحدة أو مجتمعات؟ قولان: قال المصنف: أصحهما الأول. والذي يظهر الثاني؛ لأن فيما اختاره المصنف تأخيراً للميت والسنة تعجيله؛ ولأن صلاة واحدة بعد واحدة في معنى تكرير الصلاة على الميت، والمذهب خلافه. وتَرْتِيبُ الْوِلايَةِ كَالنِّكَاحِ تصوره ظاهر. فلو رد الأقعد الصلاة إلى أجنبي، وأبى ذلك من دونه، فقال ابن حبيب: لا كلام للأبعد كالنكاح. وقال أصبغ، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم: له الكلام. واحتج له بعض الناس بالحضانة. واللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّقِّ إِنْ أَمْكَنَ اللحد أفضل؛ لأنه الذي اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقوله: (إن أمكن) أي: بأن تكون تربةً صلبة لا تتهيل. واللحد معلوم، قال في الجواهر: وليكن في جهة القبلة. والشق: أن يحفر في وسط القبر قدر ما يسع الميت. ويُكْرَهُ بِنَاءُ الْقُبُورِ فَإنْ كَانَ لِلْمُبَاهَاةِ حَرُمَ، وأَمَّا الْبِنَاءُ لِقَصْدِ التَّمْييزِ فَقَوْلانِ يعني: أن البناء إما أن يكون لقصد المباهاة أو التمييز أو لا يقصد به شيئاً، فالأول: حرام، وهكذا نص عليه الباجي. والثالث: مكروه. والثاني: مختلف فيه بالجواز والكراهة.

قال ابن بشير: القولان حكامهما اللخمي. وأخذ الكراهة من إطلاقه في المدونة، والجواز في غيرها، قال: والظاهر أن القصد للتمييز غير مكروه، وإنما كره في المدونة البناء الذي لا تقصد به العلامة. وإلا فكيف يكره ما قصد به معرفة قبر وليه؟! ولم يصرح ابن بشير بتحريم القسم الأول، بل قال: والظاهر أنه محرم مع هذا القصد. ووقع لمحمد بن عبد الحكم فيمن أوصى أن يبنى على قبره بيتاً، أنه تبطل وصيته. وقال: لا تجوز وصيته وأكرهه. وظاهر هذا التحريم، وإلا لو كان مكروهاً لنفذت وصيته، وأجاز علماؤنا ركز حجر أو خشبة عند رأس الميت ما لم يكن منقوشاً. المازري: لأنه صلى الله عليه وسلم وضع بيده الكريمة حجراً عند رأس عثمان بن مظعون. وقال: "أعرف بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي". وكره ابن القاسم أن تجعل على القبر بلاطة ويكتب فيها. وأما تحويز موضع الدفن بناءً فقالوا: جائز ما لم يرفع فيه إلى قدر يأوي إليه بسبب ذلك أهل الفساد، وإن فعل ذلك أزيل منه ما يستر أهل الفساد ويترك باقيه كذا نقل ابن عبد السلام. وفي التنبيهات: اختلف في بناء البيوت عليها، إذا كانت في أرض غير محبسة، وفي المواضع المباحة، وفي ملك الإنسان فأباح ذلك ابن القصار، وقال غيره: ظاهر المذهب خلافه. انتهى. وأما الموقوف كالقرافة التي بمصر فلا يحل فيها البناء مطلقاً، ويجب على ولي الأمر أن يأمرهم بهدمها حتى يصير طولها عرضاً، وسماؤها أرضاً. وإِذَا حُفِرَ قَبْرٌ فِي مِلْكٍ أَصْلِيٍّ فَدُفِنَ مُتَعَدِّ فِيهِ فَلِلمالِكَ إِخْرَاجُهُ يعني: من حفر قبراً في أرض [112/ ب] مملوكة فتعدى أجنبي فدفن فيها، فإنه يخرجه المالك إن شاء. ابن هارون: وإنما يخرج بالفور، فإن طال لم يخرج.

وإِنْ كَانَ فِيمَا يُمْلَكُ فِيهِ الدَّفْنُ خَاصَّةً لَمْ يُخْرَجْ. وثَالِثُهَا: يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ حَفْرٍ أَوْ قِيمَةِ حَفْرٍ. ورَابُعهَا: مَا يُخْتَارُ عَلَيْهِمْ. يعني: إن كانت الأرض حبساً للدفن فحفر فيها رجل قبراً، وجاء آخر فدفن فيه، فإنه لا يخرجه ولا إشكال، واختلف فيما يجب عليه على أربعة أقوال: الأول: أن عليهم قيمة الحفر. والثاني: أن عليهم حفر قبر آخر مثله. والثالث: أن عليهم ما يختاره أهل الميت منهما. وإليه أشار بقوله: (وثَالِثُهَا: يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ حَفْرِ أَوْ قِيمَةِ حَفْرٍ) ففهم منه أن الأول وجوب القيمة، والثاني وجوب الحفر، والثالث أن عليهم ما يختاره أهل القبر. والقول بقيمة الحفر لابن اللباد، والقول بأنعليهم حفر قبر آخر مثله لسحنون، والقول بالأقل للقابسي، والقول بالأكثر للخمي قال: والقياس أن يكون عليه الأكثر. قال ابن بشير: وأصل المذهب القيمة. خليل: انظر هل يجوز ذلك ابتداء أو لا؟ والأقرب عدم جوازه؛ لأنه لا يدري هل يموت هنالك أو لا؟ وقد يموت بغيره، ويحسب غيره أن في هذا القبر أحداً فيكون غاصباً ذلك، وقد ورد أن من غصب شبراً من أرض طوقه سبع أرضين. وإِذَا دُفِنَ مَيِّتٌ فَمَوْضِعُهُ حَبْسٌ يعني: إذا دفن في مكان غير مغصوب فموضعه حبسٌ عليه، لا يجوز نقله عنه، ولا أن يتصرف فيه ولا يباع. ابن عبد السلام: ووقع في كتب أهل المذهب عن بعضهم أنه يجوز حرث البقيع بعد عشرة أعوام. ورفع أيضاً لبعضهم أنه إذا حرثت المقابر أخذ كرائها ممن حرثها وصرف في جهاز الموتى.

ولَوْ دُفِنَ فِي دَارٍ فَبِيعَتْ ولَمْ يُعْلَمْ فَالْخِيَارُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، واعْتَرَضَهُ عَبْدُ الْحَقِّ بأَنَّهُ يَسِيرٌ فِي الْقِيمَة، وأُجِيبَ بأَنَّهُ لا تُمْكِنُ إِزَالَتُهُ ..... يعني: إذا لم يعلم المشتري بذلك فهو عيب يوجب الخيار في الرد أو التماسك. واعترض ذلك عبد الحق فقال: موضع الحفر يسيرٌ، والعيب اليسير في الدار لا يوجب الرد كما سيأتي. ورده ابن بشير بأن العيب إذا لم تمكن إزالته صار ضرره كثيراً. وفِي دَفْنِ السَّقْطِ فِي الْبُيُوتِ قَوْلانِ المشهور الكراهة في الدور، وأجازه في الواضحة. والقولان: في كونه عيباً، حكاهما ابن بشير. والمنصوص لمالك أنه ليس بعيب. فرع: ولا بد في القبر من حفرة تحرس الميت عن السباع، وتكتم رائحته. ابن حبيب: يستحب ألا يعمق القبر جداً، وأن يكون عمقه على قدر الذراع فقط. قال: وبلغني عن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة، قال: احفروا لي، ولا تعمقوا، فإن خير الأرض أعلاها، وشرها أسفلها. وفي المبسوط عن مالك: لم يبلغني في عمق حفرة القبر شيء موقوف عليه، وأحب إلي أن تكون مقتصدة، لا عميقة جداً، ولا قريبة من أعلى الأرض. الباجي: ولعل ابن حبيب أراد بقوله: قدر الذراع الشقَّ الذي هو نفس اللحد، وأما نفس القبر فإنه يكون مثل ذلك وأكثر منه. ابن حبيب: ولا بأس أن يدخل قبره من ناحية القبلة، أو من ناحية الشرق، ومن ناحية القبلة أحب إلي؛ لأنه أمكن وأهيأ وأيسر على من تولاه. وفي المبسوط: لا بأس أن يدخل الميت في قبره من رأس القبر، أو رجليه، أو وسطه، ويضع الميت في قبره الرجال، فإن كانت امرأة يتولى ذلك زوجها من أسفلها، ومحارمها من أعلاها، فإن لم يكن فصالح المؤمنين، إلا أن يوجد من القواعد من له قوة على ذلك،

ولا مضرة عليهن فيه، ولا كشف عورة، فهي أولى به من الأجانب، وليستر عليها بثوب حتى توارى في لحدها، وليس لعدد من يلي ذلك حدٌّ، شفع أو وتر، ثم يوضع الميت على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، ويمد يده اليمنى مع جسده، ويحل العقدة من عند رأسه ورجليه، ويعدل رأسه بالتراب لئلا يتصوب، وكذلك رجلاه بحيث لا ينكب ولا يستلقى، ويرفق به في ذلك كله كأنه حي. واستحب أشهب أن يقال عند وضعه في اللحد: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم تقبله بأحسن قبول. قال: وإذا دعا له بغير ذلك فحسن. وإن تركه فواسع، ثم تنصب اللبن على فتح اللحد. وتسد الفرج بما يمنع من التراب. ابن حبيب: أفضل ما يسد به اللبن، ثم اللوح، ثم القراميد، ثم الآجر، ثم الحجارة، ثم القصب، ثم سن التراب خير من التابوت، ثم قال: يحثي كل من دنا حثيات. وروى سحنون أن ذلك غير مستحب، ثم يهال التراب عليه، ولا يرفع القبر إلا بقدر شبر، ولا يجصص، ولا يطين. وقال أشهب: ويسنم القبر أحب إلى، وإن رفع فلا بأس. قال محمد ابن مسلمة: لا بأس بذلك. قال: وقبور النبي صلى الله عليه وسلم [113/أ]، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مسنمة. قال في التنبيهات: والمعروف من مذهبنا جواز تسنيمها، وهو صفة قبره صلى الله عليه وسلم، وقبور أصحابه، وهو المنصوص في الأمهات، ولم ينص فيها على خلاف ذلك. ولأشهب ما يدل على جواز تعظيم القبر والزيادة فيه على التسنيم. انتهى. وفي الجلاب: يسطح ولا يسند، ويرفع من القبر قليلاً بقدر ما يعرف. ولا يدفن في قبر واحد ميتان إلا لحاجة، ثم يرتبهم في اللحد إلى القبلة بالفضيلة كترتيبهم إلى الإمام في الصلاة، والقبر يحرم أن يمشي عليه إذا كان مسنماً والطريق دونه، فأما إذا عفا فواسع، ولا تنبش عظام الموتى عند حفر القبور ولا تزاح عن مواضعها، ومن وافى قبراً عند حفره فليرده، وليرد

عليه ترابه، ولا يزاد من قبر على قبر وليتق كسر شيء من عظامه، ولا ينبش القبر إلا إذا كان شيء من الكفن مغصوباً وشح فيه ربه أو نسي معه مالاً في القبر. ولو دفن بغير غسل أخرج إن كان قريباً، وقيل: لا يخرج. والتعزية: سنة؛ وهي الحمل على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب. وذكر ابن حبيب ألفاظ التعزية عن جماعة من السلف، ثم قال: والقول في ذلك واسع، إنما هو على قدر منطق الرجل، وما يحضره من ذلك القول. وقد استحسن أن يقال: أعظم الله أجرك على مصيبتك، وأحسن عزاك عنها، وعقباك منها خيراً وغفر لميتك ورحمه، وجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه. وتستحب تهيئة الطعام لأهل الميت ما لم يكن اجتماعهن لنياحة وشبهها، والبكاء جائز من غير نياحة وندب من غير جزع، وضرب خد، وشق ثوب، فذلك حرام، ولا يعذب الميت بنياحة أهله عليه إلا إذا كان أوصى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. فرع: قال في البيان: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل ابن بيضاء في المسجد. وروى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له". فمنهم من أجاز الصلاة في المسجد وتأول: فلا شيء له بمعنى فلا شيء عليه، بمنزلة قوله تعالى: {وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وهو قول الشافعي وغيره، ومنهم من كره الصلاة فيه، ورأى أن ما جاء من الصلاة على سهيل أمر قد ترك، وأن حديث "لا شيء له" ناسخ له. قال في البيان: ولأنه متأخر. واستدل على ذلك بعمل الصحابة؛ وهو قول مالك في المدونة: ولا توضع الجنازة في المسجد، وإن وضعت قريباً لم يصل عليها من في المسجد، إلا أن يضيق خارج المسجد بأهله، وهو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من كره أن يصلى على الجنازة في المسجد؛ وأجاز إذا وضعت الجنازة خارجه أن تمتد الصفوف بالناس

في المسجد، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وعزاه لمالك، وقال: هو من رأيه لو صلى عليها في المسجد ما كان ضيقاً. قال في البيان: ولا فرق على المذهب في الكراهة بين أن يكون الميت فيه أو خارجاً عنه، وهو مذهب مالك في المدونة، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له". إذ لم يفرق بين أن تكون الجنازة فيه أو خارجه. انتهى. ولأصحابنا في تعليل الكراهة مسلكان: أولهما: أنه خلاف العمل. ثانيهما: أنه مبني على نجاسة الميت. والله أعلم. ****

كتاب الزكاة

الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ. الْمُخْرَجُ مِنْهُ: الْعَيْنُ، وَالْحَرْثُ، وَالْمَاشِيَةُ لا شك في وجوبها، والذي تؤخذ منه الزكاة ثلاثة كما ذُكر. فَشَرْطُ الْعَيْنِ -غَيْرُ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ- أَنْ يَكُونَ نِصَاباً مَمْلُوكاً حَوْلاً كَامِلاً، مِلْكاً كَامِلاً غَيْرَ مَعجُوزٍ عَنْ إِنْمَائِهِ ... أي: شرط وجوب الزكاة (الْعَيْنِ). فأخرج المعدن من العين؛ لعدم شرط الحول فيه، وكذلك الركاز؛ لأنه في بعض صوره تؤخذ منه الزكاة، أي؛ فيما إذا وجد بنفقة أو كبير عمل. هكذا كان شيخنا -رحمه الله تعالى- يقول، وبه تعلم أن قول ابن عبد السلام: وأما الركاز فلا معنى للاحتراز منه، إلا لو كان اسم الزكاة ينطلق على ما يؤخذ منه ليس بظاهر. قوله: (نِصَاباً). يريد أو ما هو أصل له، كدينار وماحد بيع آخر الحول بمائتي درهم أو اشترى به سلعة فبيعت بذلك، واحترزنا بالمملوك من غير المملوك، كالمال المغصوب بالنسبة إلى الغاصب، والمودع والملتقط بالنسبة إلى الحافظ، وبالحول الكامل من بعضه، وبالملك الكامل من العبد، والمديان بالنسبة إلى العين، وغير معجوز عن إنمائه من العين المغصوبة بالنسبة إلى المغصوب منه، ومن المدفون والموروث إذا لم يعلم به على ما سيأتي. فَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَاراً، وَالْوَرِقِ مِئَتَا دِرْهَمٍ بِالْوَزْنِ الأَوَّلِ هذا هو المعروف. وحكى الباجي وتبعه صاحب المقدمات عن ابن حبيب أن المعتبر وزن كل بلد، ولو كان أنقص من الوزن الأول. قال صاحب المقدمات [113/ب] وغيره: وهو بعيد جداً. وأشار الباجي إلى مخالفته للإجماع. ورد المازري ما فهمه الباجي عن ابن حبيب، وقال: لا يحسن عندي أن يظن بابن حبيب ولا غيره هذا؛ لأنه يؤدي إلى وجوب الزكاة في الأرباع والأثمان إذا جرت مجرى المثاقيل. وقد ذكر ابن حبيب إِثرَ ما نقله الباجي عنه ما يؤخذ منه اعتبار الوزن الأول.

فَإِنْ نَقَصَتْ وَزْناً لا يَحُطُّهَا، فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَثَالِثُهَا إِنْ كانَ يَسِيراً جِدّاً كَالْحَبَّةِ فَإِنْ حَطَّهَا فَلا زَكَاةَ ..... يعني: فإن نقصت العشرون أو المائتان فلا يخلوا؛ إما أن تنقص وزناً أو صفة، وعلى التقديرين فإما أن يحطها أولاً، وقد تكلم المصنف رحمه الله على الأقسام الأربعة. ومعنى الحط: كونها لا تجوز بجواز الوازنة، وعدم الحط: عكسه. واختلف الأشياخ في معنى قول مالك: تجوز بجواز الوازنة، فقال ابن القصار، والأبهري: أن تكون وازنة في ميزان وناقصة في آخر. وقال عبد الوهاب: بل أراد بالنقص اليسير كالحبة والحبتين في جميع الموازين مما جرت العادة بالتسامح في مثله في اليباعات. الباجي: وهو الأظهري عندي وعليه جمهور أصحابنا؛ لأنه على الوجه الأول ليس ثَمَّ نقص. ويدل عليه ما في الموازية: إذا نقصت نقصاً بيناً فلا زكاة فيها إلا أن تجوز بجواز الوازنة. انتهى. ابن زرقون: ويظهر لي أن قول ابن القصار، والأبهري في الموازية، وقول عبد الوهاب في المعدودة فلا يكون اختلافاً. الباجي: وحمل العراقيون قول مالك: تجوز بجواز الوازنة، على الدنانير والدراهم الموزونة. قال: والأظهر عندي أن يكون ذلك في المعدودة كالفرادى. وتقدير كلام المصنف: فإن نقصت وزناً غير حاط، فالزكاة على المشهور اتفاقاً، إلا أن الأغراض تحصل فيها كما تحصل بالكاملة. والثاني: لا تجب. وهو قول ابن لبابة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ". والثالث: إن كان غير الحاط يسيراً جداً فكالأول، وإلا فكالثاني، وهو لمالك في العتبية وغيرها.

وقوله: (فَإِنْ حَطَّهَا فَلا زَكَاةَ). أي: فإن كان النقص حاطاً لم تجب الزكاة، زاد ابن بشير: باتفاق. وحكى صاحب المقدمات في ذلك خلافاً، ولفظه: وأما إن لم تجز بجواز الوازنة، فلا تجب فيه الزكاة، قل النصاب أو كثر. وقيل: إن الزكاة تجب فيها إن كان النقصان يسيراً، وإن لم تجز بجواز الوازنة. انتهى. وهذا إذا كان التعامل بالوزن، وأما إذا كان التعامل بالعدد، فقال ابن بشير: لا يخلو أن ينتقص في العدد أو في الوزن، فإن نقصت في العدد، فلا خلاف في سقوطها، وإن نقصت في الوزن –بأن لم تجز بجواز الوازنة- فلا خلاف في سقوط الزكاة. وإن جازت؛ فثلاثة أقوال: أ؛ دها: أنها تجب فيها الزكاة، وهو ظاهر الموطأ. والثاني: أنها لا تجب فيها الزكاة، قاله ابن لبابة. والثالث لسحنون: الفرق بين أن يكون النقصان يسيراً لا تتفق عليه الموازين، أو كثيراً تتفق عليه الموازين، ونحوه لابن رشد. وحكى صاحب اللباب وغيره عن محمد بن مسلمة أنه قال: إذا نقص نصاب الوزن ثلاثة دراهم ففيه الزكاة. فَإِنْ نَقَصَتْ صِفَةً بِغِشِّ أَصْلِيِّ أَوْ مُضَافٍ لا يَحُطَّهَا كَالْمُرَابطِةِ فَكَالْخَالِصَةِ يعني: فإن لم تنقص وزناً بل نقصت صفة بسبب غش من أصل المعدن، أو مضاف لا يحظها، فإن جرى أمر الناس على ترك مراعاته. قال المصنف وغيره: كالدنانير المرابطية، وكذلك قال ابن بشير. وقوله: (فَكَالْخَالِصَةِ). أي: فحكمها حكم الخالصة. والأحسن لو قال: نقصت صفة برداءة في الأصل؛ لأن الغش حقيقة إنما يستعمل فيما كان من فعل الآدمي لا فيما كان من أصل الخلقة، وكأنه –والله أعلم- أطلقه مجازاً. تنبيه: ما ذكره المصنف في الغش المضاف نص عليه غير واحد. وأما ما ذكره في الغش الأصلي فأصله للباجي، وذكر أنه لم ير فيه نصاً. قال: وعندي أنه إذا كان فيه من النحاس

أو غيره المقدار اليسير الذي جرت عادة الناس به في دنانيرهم ودراهمهم الطيبة الموصوفة بالخالصة، أنه لا اعتبار به وإن أمكن تخليصه واستخراجه. فَإِنْ حَطَّهَا، فَالْمَشْهُوُ يُحْسَبُ الْخَالِصُ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ الأَكْثَرُ يعني: فإن حطها ذلك النقص، اعتبر الخالص منها خاصة وصار النقص كأنه في القدر، وهذا هو المشهور، وسواء كان مساوياً أو أقل أو أكثر، وعليه فيعتبر ما فيها من النحاس اعتبار العروض، قاله اللخمي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ". خرجه مسلم. والقول باعتبار [114/أ] الأكثر لابن الفخار، وعليه فتجب الزكاة في مائتين من فضة مصر؛ لأن فضتها أكثر لا فضة الإسكندرية. نعم يعتبر خالصها؛ هكذا صرح به الباجي وغيره ممن يوثق بنقله. أما الكثرة فتعتبر في جانب الوجوب لا السقوط. وكلام ابن بشير يوهم اعتبار الأكثر في جانب السقوط على هذا القول، وأنه لا تجب عليه الزكاة في مثل فضة الإسكندرية وإن كثرت، وليس بجيد. وقوله: (فَإِنْ حَطَّهَا). ظاهره النقص المضاف والأصلي وهو منقول في المضاف كما ذكر، والحق الباجي به الغش الأصلي، وتعقبه سند، فقال: الغش من أصل المعدن كالتبع. فَإِنْ كَانَتْ سَكَّةً أَوْ جَوْدَةٌ إِنْ تُصُوِّرَتْ تَجْبُرُ النَّقْصَ لَمْ تُعْتَبَرِ اتِّفَاقاً كما لو كانت عنده مائة وتسعون وسكتها أو جودتها تساوي مائتين، فإن تلك الجودة والسكة غير معتبرة اتفاقاً، وإنما ينظر إلى الوزن الحاصل بجودته وسكته، وكان هنا تامة، ومعنى (تُصُوِّرَتُ). أي: وجدت. وفاعل تصورت ضمير يعود على أحدهما لا على التعيين. أي: إن تصورت إحداهما. ورأى بعضهم عوده على الجودة فقط؛ لأن السكة موجودة، ولا يقال في الموجود إن وجد، بخلاف الجودة فإنها خفية، ورأيت من شيخنا ميلاً إليه وفيه نظر؛ لأن كلاً من السكة والجودة حاصل. فإن قلت: على هذا في قوله: إن

تصورت نظر؛ لأن الأصل في أن عدم الجزم بوقوع الشرط وهما حاصلان. قيل: لما قال المصنف: تجبر النقص اندفع هذا؛ لأن كون السكة أو الجودة جائزة ليس محقق. والله أعلم. وَما حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ مائة وخَمْسِينَ تُسَاوِي مِائَتَيْنِ قِرَاضَةً لا نَعْرِفُهُ هذا جواب عن سؤال مقدر توجيهه أن يقال: حكايتك الاتفاق ليس بصحيح؛ لأن الغزالي حكى عن مالك أنه إذا كان نقد البلد قراضة ومعه مائة وخمسون تساوي مائتين قراضة وجوب الزكاة. فأجاب عنه بأن ما حكاه لا يعرفه أهل المذهب، ولا يقال من حفظ مقدم؛ لأنا نقول أهل كل مذهب أقعد بمذهبهم إثباتاً ونفياً، إطلاقاً وتقييداً، ومن تأمل ما يحكيه أهل المذهب بعضهم عن بعض وجد الغلط كثيراً. وَفِي الصِّيَاغَةِ الْجَائِزَةِ قَوْلانِ يعني: أنه اختلف هل تلغى الصياغة فلا يعتبر إلا وزن المصوغ وهو المشهور، أو يعتبر المصوغ اعتبار العين، وتعتبر الصياغة اعتبار العرض، قولان. وعلى الأول فلا تفريغ، وعلى الثاني فيظهر أثره في المدين والمحتكر. وَالْحَرَامُ مُلْغَاةً اتِّفَاقاً لأن أخذ الزكاة عنها إقرار لها وهي لا تقر. وَعَلَى المشهورِ الْمَنْصُوصِ كَالْعَرْضِ، وَخُرِّجَ التَّكْميلُ عَلَى الْحُلِيِّ بأَحْجَارٍ لا تتخَلْصُ لهذه المسألة صورتان: إحداهما: ألا يكون المصوغ نصاباً، لكنه بقيمة الصياغة يكمل النصاب، فهذه لا يكمل بها اتفاقاً؛ وهو معنى قوله: (كَالْعَرْضِ). أي لا يكمل بها كما لا يكمل بالعرض، ويقع بعد هذا في بعض النسخ: ولا يكمل بها كالجودة، وهي تكرار؛ لأن ذلك معلوم من التشبيه بالعرض، وفي بعض النسخ: المنصوص كالجودة، وهي كالأولى.

الصورة الثانية: أن يكون المصوغ نصاباً فأكثر، كما لو كان زنة المصوغ ألفاً وقيمة الصياغة مائتين فهذه محل الخلاف. ومقابل المنصوص ما أشار إليه بقوله: (وَخُرِّجَ التَّكْمِيلُ). أي: خرج قول في الصورة الأولى بالتكميل من القول: بأن الحكم للأكثر من مسألة الحلي المزكى المنظوم بالجوهر وسيأتي. وهذا التخريج لابن بشير. ووجهه أن يقال: كما كمل بالعرض في مسألة الحلي فكذلك يكمل بالصياغة؛ لأنها جعلت كالعرض على أحد القولين، وهذا التخريج إنما يتم لو اتحد القائل؛ لجواز أن يكون من قال: بأن العرض يكمل به، لا يرى الصياغة كالعرض. وَيُكَمَّلُ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بالآخَرِ بالْجُزْء لا بالْقَيمَةِ اتِّفاقاً النقدان: الذهب والقضة. وقوله: (بالْجُزْء) أي بأن يجعل كل دينار بعشرة دراهم، ولو كانت قيمته أضعافاً، كما لو كانت عنده مائة درهم وعشرة دنانير، أو مائة وخمسون وخمسة دنانير. (لا بالْقَيمَةِ) كما لو كان عنده مائة وثمانون ودينار يساوي عشرين. وحكي عن ابن لبابة أن الذهب والفضة لا يجمعان في الزكاة، وعلى هذا فالاتفاق راجع إلى قوله: (لا بالقيمة). وخالفنا الشافعي في الجزء الأول فنفى الضم، وأبو حنيفة في الثاني فضم القيمة [114/ب]. فائدة: الدنانير خمسة: دينار الجزية، ودينار الزكاة، كل منهما عشرة ويعبر عنهما بديناري الزاي، ودينار النكاح، والدية، والسرقة، كل منهم اثني عشر ويعبر عنهم بدينار الدم. وَالْحُلِيُّ الْجَائِزُ إِنِ اتُخِّذَ لِلِّبَاسِ، فَلا زَكَاةَ وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ الحلي إن اتخذ للباس لمن يجوز له لبسه، فإن ذلك يلحقه بعرض القنية فليس فيه زكاة. قال في الجواهر: وإن كان على قصد استعمال محظور، كما لو قصد الرجل بالسوار أو الحلي

أن يلبسه، أو قصدت المرأة ذلك في السيف، لم تسقط الزكاة؛ لأن المحظور شرعاً كالمعدوم حساً. انتهى. وقوله: (وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ) مبالغة. أي: وإن كان الحلي مملوكاً لرجل وأعطاه لنسائه أو إمائه يلبسنه. وعارض الأبهري هذه المسألة بإيجاب الزكاة في النعم وإن لم تكن سائمة، ورأى أن الاتخاذ للاستعمال إن كان كافياً في إخراج ما أصله الزكاة إلى ما لا زكاة فيه وإلحاقه بالعرض، لم تجب فيه. وفرق بأن النعم تنمو بنفسها وإن لم تكن سائمة، بخلاف العين فإنه لا نماء فيها مع القنية. وظاهر المذهب سقوط الزكاة في الحلي الجائز ولو تكسر. واشترط بعض المتأخرين في هذا أن يكون التكسير لم يبلغ به إلى حد التهشم، وأما إن بلغ ذلك فهو كالتبر، وهو تأويل ابن يونس على المدونة. وَإِنِ اتُّخِذَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ كَانَ حَرَاماً فَالزَّكَاةُ كُلَّ عَامٍ كَالنَّقْدِ هذا لا خلاف فيه عندنا بوجوب الزكاة؛ لأن المانع من تعلق الزكاة كونه غير معد للنماء، وأما إن اتخذ للتجارة فهو معد للنماء، وذلك لأن جوهريته تقتضي وجوب الزكاة ما لم يعرض لاستعمال المباح؛ لشبهه إذ ذاك بعروض القنية. وقوله: (أَوْ كَانَ حَرَاماً) اسم كان عائد على الحلي. وَإِنِ اتُّخِذَ لِلْكِرَاء أَوْ لِصَدَاقٍ أَوْ لِعَاقِبَةٍ، فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ لا يُزَكَّى مَا لِلْكِرَاء ما ذكره المصنف هنا هو من أقسام القنية، ومعنى كلامه: أن الحلي الجائز إن اتخذ لأن يكرى، أو لأن يصدقه لامرأة يريد أن يتزوجها، وألحق به أن يشتريه لابنته إن تزايدت له، أو أمة يشتريها للتسري أو للإعارة، أو العاقبة، أي: يتخذ لحاجة إن عرضت. وأكثرهم لا يجعل في هذا القسم خلافاً في وجوب الزكاة؛ منهم ابن يونس، وابن شاس.

وجعله المصنف وابن بشير من محل الخلاف. وحكى المصنف ثلاثة أقوال: سقوط الزكاة، ووجوبها، والفرق بين ما اتخذ للكراء فتسقط، وبين غيره فتجب وهو المشهور، وهو مذهب المدونة. والباجي يرى أن الخلاف في الكراء إنما هو إذا اتخذه لذلك من لا يجوز له لبسه، كما إذا اتخذ الرجل حلي النساء للكراء، أو اتخذت المرأة السيوف ونحوها للكراء. وأما إن اتخذت المرأة حلي النساء، فلا يدخله خلاف في سقوط الزكاة. خليل: ولو قيل بعكس المشهور ما بعُد؛ لأن الكراء ضرب من التجارة. فرع: ذكر ابن حبيب خلافاً في المرأة إذا كان لها حلي تلبسه ثم لم تبق تلبسه، واختار هو الوجوب احتياطاً. وَإِذَا نَوَى بِحُلِيٍّ الِْنْيَةِ أَوِ الْمِيَراثِ التِّجَارَة، فَالمْشَهُورُ انْتِقَالُهَا بِخِلافِ الْعُرُوضِ لما كانت النية سبباً ضعيفاً ناسب أن تنقل إلى الأصل ولا تنقل عنه، فلذلك إذا كان عنده حلي قنية ونوى به التجارة ينتقل؛ لأن الأصل في الحلي وجوب الزكاة، إذ جوهريته تقتضي وجوب ذلك. ومقابل المشهور يرى أن النية لا تنقله كالعرض، فلا زكاة فيه إلا بعد حول من يوم قبض ثمنه، بناءً على أن نية القنية تأصل القنية في الحلي. ولا فرق في حلي القنية بين أن يكون حصل بعوض أو غيره، كما لو وهب له أو ورثه، ولعل هذا- والله أعلم- هو الذي لأجله عطف المصنف الميراث على القنية، وإلا فهو أحد أفراد القنية، وعلى هذا فهو من باب عطف الخاص على العام، وينبغي على هذا أنه إذا اشترى الحلي بنية التجارة ثم نوى به القنية، أن النية لا تؤثر؛ لكونها ناقلة عن الأصل. وقوله: (بِخِلافِ الْعُرُوضِ) أي: فإنها إذا كانت للقنية ونوى بها التجارة، فإنها لا تنتقل؛ لأن الأصل فيها عدم الزكاة والنية لا تنقل عن الأصل.

وَالْمَصُوغُ الْجَائِزُ حُلِيُّ النِّسَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُ، كَالأَزْرَارِ وَحِلْيَةِ الْمُصْحَفِ مُطلْقَاً لما ذكر أولاً أن الحكم مفترق بسبب الصياغة الجائزة وغيرها أخذ يبين ذلك وكلامه ظاهر. وقوله: (مُطلْقَاً) أي: بالذهب والفضة. وحكى ابن رشد عن ابن عبد الحكم كراهية تحليته بالذهب. فرع: وأما تحلية الكعبة والمساجد بالقناديل وعلائقها، والصفائح على الأبواب [115/أ] والجدار وما أشبه ذلك بالذهب والورق. فقال ابن شعبان: يزكيه الإمام لكل عام كالمحبس الموقوف من الأنعام، والموقوف من المال العين للقرض. قال: وأعرف في المال لإصلاح المساجد، والغلات المحبسة في مثل هذا اختلافاً بين المتأخرين في زكاة ذلك. قال: والصواب في ذلك عندي ألا زكاة في شيء موقوف على من لا عبادة عليه من مسجد وغيره. والله أعلم. انتهى. وروي في الجواهر عن ابن شعبان: يزكيه الإمام لكل عام كالمحبس الموقوف من الأنعام، والموقوف من المال العين للقرض. قال: وأعرف في المال لإصلاح المساجد، والغلات المحبسة في مثل هذا اختلافاً بين المتأخرين في زكاة ذلك. قال: والصواب في ذلك عندي ألا زكاة في شيء موقوف على من لا عبادة عليه من مسجد وغيره. والله أعلم. انتهى. وروي في الجواهر عن ابن شعبان: وما جعل في ثياب الرجال، وفي الجدار من تثبيت الورق، فإن كان يمكن أن يخرج منه قدر يفضل عن أجرة عامله، زُكي إن كان فيه نصاب أو كمل به النصاب، ذهباً كان أو ورقاً. وحلية غير المصحب من الكتب لا تجوز أصلاً. انتهى. وَالْخَاتَمُ الْفِضَّةُ لا الذَّهَبُ لِلرِّجَالِ ظاهر التصور. وَحِلْيَةُ السَّيْفِ الْفِضَّة، وَفِي الذّهَبِ قَوْلانِ تجوز حلية السيف اتصلت بالنصل كالقبضة أم لا كالغمد، والمشهور في الذهب الجواز، حكاه سند والتلمساني.

وَفِي حِلْيَةِ بَاقِي آلَةِ الْحَرْبِ. ثَالِثُهَا: يَجُوزُ فِيمَأ يُطَاعَنُ بِهِ وَيُضَارَبُ، لا فِيمَا يُتَّقَى بِهِ وَيُتَحَرزُ .... يعني: أنه اختلف في جواز تحلية ما عدا السيف من آلة الحرب على ثلاثة أقوال: الجواز، وهو لابن وهب قياساً على السيف بجامع الإرهاب. والمنع، وهو المشهور. والثالث: لابن حبيب. قال ابن شاس: وقال ابن حبيب: لا بأس باتخاذ المنطقة المفضضة والأسلحة كلها، ومنع ذلك في السرج واللجام والمهاميز وما يتقى به ويتحرز. انتهى. ويقع في بعض النسخ عوض قوله: (وَيُتَحَرزُ) يتحزم. وهي وإن كانت أولى لعدم التكرار بخلاف الأولى، فإن ما يتقى به يتحرز به؛ لكنها غير موافقة للنقل فتعين النسخة الأولى. (وما يطاعن به) الرمح وما في معناه. (وَيُضَارَبُ) الدبوس ونحوه. وَالْحَرَامُ مَا عَدَاهُ مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ والأَوَانِي أي: ما عدا المذكور. تنبيه: أجاز علماؤنا لمن قطع أنفه أن يتخذه من ذهب وغيره، وأن يربط أسنانه بخيوط الذهب. قال اللخمي: ويختلف في زكاة حلي الصبيان، فقال ابن شعبان: فيه الزكاة. قال: والظاهر من قول مالك أنه لا زكاة فيه؛ لأنه قال: لا بأس أن يحرموا وعليهم الأسورة. قال: وإذا جاز لهم لباسه لم يكن فيه زكاة. وعلى هذا فقول المصنف: (وَالْحَرَامُ مَا عَدَاهُ) ليس كما ينبغي، وفهم عياض المدونة على منع تحلية الصبيان، وسيأتي كلامه في الحج إن شاء الله تعالى. وأخرج ابن راشد حلي الصبيان من قول المصنف (حُلِيِّ الرِّجَالِ) فقال: واحترز بالرجال عن الصبيان.

والْحُلِيُّ الْمُزَكَّى مَنْظُوماً بِالْجَوْهَرِ إِنْ أَمْكَنَ نَزْعُهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، فَالْحُلِيُّ نَقْدٌ والْجَوْهَرُ عَرْضٌ .... لما قدم الكلام على الحلي بانفراده تكلم هنا عليه إذا اختلط بشيء من الجواهر. ومعنى كلامه أن لهذه المسألة صورتين: إحداهما: أن يمكن نزعه بغير ضرر. والثانية: أن لا يمكن إلا بضرر. فالأول يزكى النقد كل عام، والجوهر يزكى زكاة العروض من إدارة واحتكار، وهو معنى قوله: (فَالْحُلِيُّ نَقْدٌ والْجَوْهَرُ عَرْضٌ) و (مَنْظُوماً) حال من الضمير في المزكى، لا ما قاله ابن راشد: أنه خبر كان تقديره: والحلي المزكى إن كان منظوماً. وإِلا فَثَلاثَةٌ كَالْعَرَضِ، ويُتَحَرَّى ويُرَاعَى الأَكْثَرُ هذه هي الصورة الثانية. أي: وإن لم يكن نزعه إلا بضرر، وهو إما فساد أو خسارة أجرة على ذلك، ففي المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أن الحلي كالعرض سواء كان وزنه أكثر من قيمة الجوهر أو لا، وهو مذهب العتبية والموازية؛ لأنه لما خالطه الجوهر وهو عرض ولم يمكن نزعه أعطي حكمه، وعلى هذا فيقومه المدين كل عام، ويزكيه المحتكر لعام بعد البيع. القول الثاني: أنه يتحرى ما فيه ويزكيه، والجوهر على حكمه، وهو مذهب المدون. قال في البيان: ولم يختلف قول مالك في رواية ابن القاسم: أنه يتحرى في الحلي المنظوم بالجوهر، ورواه أيضاً ابن وهب. والثالث: أن الأقل منهما يعطى حكم الأكثر. ابن راشد: ولم أره معزواً. وحكاه صاحب اللباب، فقال: وقيل في هذا الأصل يراعى الأكثر، فإن كان الذهب والفضة الأكثر زكى جميع ذلك، وإن كان اللؤلؤ والزبرجد الأكثر لم يزك، وهذا القول رواية لابن القاسم منصوصاً في السيف والمصحف، والباب واحد، وروي عن مالك. انتهى.

خليل: ونقله أبو الحسن الصغير عن مالك في مسألة الحلي المنظوم من رواية ابن عبد الحكم، وحكاه أيضاً المازري رواية، وعليه فلو كان وزن الحلي مثلاً مائة وخمسين وقيمة [115/ب] الجوهر خمسين زكى، ولو كان بالعكس سقطت وصار حكمه كسائر العروض، والأولان يعمان جميع صور المسألة بخلاف الثالث، إذ قد يكونان متساويين، وهذا القول الثالث: هو الذي خرج منه في مسألة الصياغة. والْحَوْلُ شَرْطٌ إِلا فِي الْمَعَادِنِ والْمُعَشَّرَاتِ لما قدم الكلام على ما يتعلق بقوله نصاباً أتبعه بالكلام على الحول، أي الحول شرط في وجوب الزكاة إلا في شيئين: المعدن، والزرع؛ لأن الله سبحانه أوجب فيه الزكاة يوم الحصاد، وزمان الزراعة إلى يوم الحصاد يتنزل منزلة الحول. والمعدن ملحق بالزرع؛ لأنهما معاً خارجان من الأرض. قوله: (والْمُعَشَّرَاتِ) أي: ماله تعلق بالعشر، أي سواء كان فيه العشر أو نصفه. وَلوْ ضَاعَ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ وَلَمْ يُمْكِنِ الأَدَاءُ، فَقَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ كَالشُّرَكَاء أولاً، وَلِذَلك قَالَ: الْمُوجَبُ برُبُعِ عُشْرِ الْبَاقِي ..... لا شك إذا تلف النصاب أو جزؤه قبل الحول ولو بيوم في سقوط الزكاة. وكذلك إن تلف النصاب بعد الحول وقبل الإمكان. واختلف إذا تلف بعضه، وإليه أشار بقوله: (وَلوْ ضَاعَ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ). وقوله: (وَلَمْ يُمْكِنِ الأَدَاءُ) كما لو تعذر الوصول إلى المال بسبب من الأسباب. والمشهور: السقوط. وأوجبها ابن الجهم. ومنشأ الخلاف: هل الفقراء شركاء في النصاب بربع العشر أو ليسوا كذلك؟ وإنما المقصود إرفاقهم بشرط النصاب، ألا ترى أنه يجوز دفع العشر من غير النصاب ولا حق لهم في عين المال بخلاف الشركاء؛ ولذلك أدخل المصنف كاف التشبيه على الشركاء.

قوله: (وَلِذَلِكَ) أي: ولأجل أنهم كالشركاء. قال: من أوجب الزكاة في الباقي، قال: إنما يجب ربع عشر الباقي تحقيقاً للشركة. فالباء في (برُبُعِ) تتعلق بـ (قَالَ). وقال ابن راشد: هي تتعلق بمحذوف تقديره: ولذلك قال الموجب هم شركاء بربع عشر الباقي. وفي كلامه فائدة أخرى وهي: دفع وهم من يتوهم على الشاذ وجوب زكاة جميع النصاب. فَلَوْ أَخْرَجَهَا عِنْدَ مَحِلِّهَا فَضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْ يعني: ولو أخرج الزكاة بأن عزلها عند حولها فضاعت من غير تفريط لم يضمن. واحترز بقوله: (عِنْدَ مَحِلِّهَا) مما لو أخرجها قبله بيوم أو بيومين وفي الوقت الذي لو أخرجها فيه لأجزأته، وأما لو أخرجها بعد محلها وقد كان فرط في تأخيرها فإنه يضمن. قال في المدونة: ولو كان قد أخرجها بعد إبانها وقد كان فرط فيها فضاعت قبل أن ينفذها بغير تفريط، كان ضامناً لها. وزعم ابن راشد أن المشهور إذا ضاعت بغير تفريط لا شيء عليه، سواء أخرجها عند محلها أو بعده، وفيه نظر؛ لمخالفته للمدونة. وَيَجِبُ إِنْفَاذُهَا وَإِنْ ضَاعَ الأَصْلُ أي: إذا أخرجها بعد محلها ولم يفرط، فتارة تضيع الزكاة وهو في الفرع الذي قبل هذا، وتارة يضيع المزكي وهو هذا، فيجب عليه دفع الزكاة. أَمَّا لَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ مَحِلِّهَا مُفَرِّطاً فَضَاعَتْ ضَمِنَ لا إشكال في الضمان مع التفريط، وإذا ضمن بالتفريط بعد المحل فلأن يضمن إذا فرط قبله من باب أولى.

وَنَمَاءُ النَّقْدِ رِبْحٌ، وفَائِدةٌ وغَلَّةً ووقع في نسخة ابن عبد السلام: ونماء المال؛ لأنه قال: إنما أضاف النماء إلى المال وهو أعم من العين، مع أن كلامه في زكاة العين؛ لأن الغلة لا تدخل تحت نماء العين، وإن دخل بعض أنواعها لم يدخل جميع أنواعها، كغلة الرقيق والدواب وغير ذلك. قال: ثم جعل النماء جنساً لهذه الأنواع الثلاثة يوجب كونها غير جامعة؛ لأنها تدخل تحتها الفوائد التي يملكها الإنسان ابتداء؛ لأنها ليست نماء. انتهى. خليل: وقد يقال: إن النسخة التي قدمناها في متن كلام المصنف أرجح؛ لأن نسخة نماء النقد يرد عليها عدم دخول بعض الغلات وعدم دخول بعض الفوائد؛ أعني الفوائد المملوكة ابتداء كالموهوبة أو الموروثة، ونسخة نماء المال يرد عليها عدم دخول بعض الفوائد وعدم مساعدة السياق لها، فقد حصل في كل منهما اعتراضان ولا ترجيح. ولكن يرد على نسخة نماء المال نتاج الماشية، ولا يرد على نماء النقد؛ لأنه يؤخذ من كلام المصنف أن النتاج ليس واحداً من الثلاثة؛ لأنه شبه الربح به فلا يكون ربحاً، ولو كان فائدة أو غلة لاستقبل به وليس كذلك، ووجه حصر نماء النقد في الثلاثة الاستقراء؛ لأنَّا استقرأناه فوجدناه منحصراً فيها. وقال ابن عبد السلام: النماء: الزيادة، ثم لا يخلو إما أن يكون من جنس الأصل الذي يكثر به أو لا. الثاني: الغلة، والأول لا يخلو إما أن يلزم من طريانه وحدوثه تغير الأصل أو لا. والأول الربح، والثاني الفائدة، وفيه نظر؛ إذ يرد عليه ما أورده على [116/أ] المصنف، فإن قوله: إما أن يكون من جنس الأصل. لا يصدق على الفوائد التي يملكها الإنسان ابتداء، وتقديره النماء بالزيادة حسن، فإنه يندفع به ما قاله ابن راشد. الظاهر أنه أراد بالنماء، النماء الذي هو نقده، فأضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كمسجد الجامع. انتهى.

فَالرِّبْحُ يُزَكَّى لِحَوْلِ الأَصْلِ عَلَى الْمَعْرُوفِ كَالنَّتَاجِ لا كَالْفَوَائِدِ. وَرُويَ فِي مَسْأَلَةٍ مَا لَوْ أَخَّرَ خَاصَّةً كَالْفَوَائِدِ، وَقِيلَ: كَالأَصْلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لاَ قَبْلَهُ. يعني: أن الأرباح تزكى لحول أصلها، كان أصلها نصاباً أو لا؟ كما لو كان عنده دينار أقام عنده أحد عشر شهراً، ثم اشترى به سلعة باعها بعد شهر بعشرين، فإنه يزكي الآن، وهذا هو المعروف. وقوله: (كَالنَّتَاجِ) تشبيه إما لإفادة الحكم، وإما للاستدلال. وقوله: (لا كَالْفَوَائِدِ) أي فلا يستقبل. وقوله: (وَرُويَ) هو مقابل للمعروف، يعني أن ابن عبد الحكم روى عن مالك: فيمن كان عنده عشرون فحال حولها فلم يزكها حتى اشترى بها سلعة فباعها بعد حول آخر بأربعين، أنه يزكي العشرين للعامين ويستقبل بالريح، وهو تسعة عشر ونصف، وعلى المشهور يزكي عن أربعين بعد أن يزكي العشرين الأولى إن كان عنده عرض يساوي نصف دينار فأكثر، وإلا زكى عن تسعة وثلاثين ونصف. وجعل المصنف الشاذ غير المعروف؛ لأن ابن المواز وسحنون أنكراه وقالا: ليس ذلك بقول مالك ولا أصحابه. ابن راشد: وعجبت من إنكار ذلك، وقد قال ابن حبيب: اختلف في ذلك قول مالك. وحكى صاحب اللباب عن أشهب وابن عبد الحكم أنهما حكيا ذلك عن مالك ولم يخصاه بمسألة التأخير. انتهى. وقوله: (كَالأَصْلِ) يعني أن في المسألة قولاً ثالثاً، وهو أن يضم إلى أصله من يوم الشراء لا من يوم ملك؛ لأنه حصل بسبب الشراء فلا يضاف لما قبل ذلك.

وَعَلَى الْمَشْهُورَ فِي تَقْديرِهِ مَوْجُوداً مَعَ مَالٍ أُنْفِقَ بَعْدَ أَنْ حِالَ حَوْلُه مَعَ أَصْلِهُ حِينَ الشِّرَاءِ، أَوْ حِينَ الحصول، أَوْ حِينَ الْحَوْلِ، ثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، والمغيرةِ، كَذِي عَشَرَةٍ حالَ عَلَيهَا الْحَوْلِ، فَأَنْفَقَ خَمْسَةً ثَمَّ اشْتَرَى مَا بَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ....... يعني: وعلى المعروف من أن الربح يضم إلى أصله، اختلف في تقدير الربح موجوداً مع مال أنفق بعد أن حال حول المال المنفق مع أصل الربح على ثلاثة أقوال. وقوله: (كَذِي عُشُرَةٍ ....) إلخ. أي: كصاحب عشرة حال عليها الحول، فأنفق خمسة ثم اشترى سلعة باعها بخمسة عشر، أو اشترى قبل الإنفاق. فذهب المغيرة إلى وجوب الزكاة في الوجهين؛ لأنه يقدر وجود الربح مع المنفق حين الحول فيزكى؛ لأنا إن قدرنا عشرة الربح موجودة حين الحول كان مالكاً للعشرين. وقال أشهب بسقوطها في الوجهين؛ لأنه يقدر وجود الربح حين حصوله، وهذا إذ ذاك لم يحصل بيده إلا خمسة عشر. وقال ابن القاسم بسقوطها في الوجه الأول ووجوبها في الثاني؛ لأنه يقدر وجود الربح حين الشراء، فإذا تقدم الإنفاق على الشراء لم يكن معه عشرون بخلاف العكس. وقول ابن عبد السلام: وهذا البناء ليس بسديد؛ لأن المعروف أن نماء الأرباح على أصلها من غير نظر إلى يوم الشراء، فكيف يبنى عليه القول بعدم الضم، والقول بالضم من يوم الشراء فقط ليس بظاهر؛ لأن هنا مسألتان؛ إحداهما: ضم الأرباح إلى أصولها. والثانية: ضم الأرباح إلى ما أنفق بعد أن حال حوله مع أصله. فالمعروف إنما هو في الأولى دون الثانية، ألا ترى أنه لو باع بعشرين لاتفق ابن القاسم وأشهب والمغيرة على الزكاة.

وحاصل كلام المصنف: أن القائلين بأن الأرباح مضمومة إلى أصولها اختلفوا في ضم الربح وأصله إلى مال حال حوله مع الأصل، ولا منافاة في هذا الكلام، فإذاً كلام المصنف صحيح وبناؤه سديد، هكذا كان شيخنا رحمه الله تعالى يجيب. وقد ذكر الباجي هذه المسألة بعينها وذكر فيها الأقوال الثلاثة ووجه الأقال بما ذكره المصنف، فيسقط الاعتراض المذكور بالكلية، واعترض عليه ابن راشد في قوله: ثم اشترى؛ إذ لا تتأتى الثلاثة معها. قال: وإنما كان ينبغي أ، يقول: فلو اشترى وأنفق؛ لكون الواو لا تقتضي الترتيب. وَفِي رِبْحِ سَلَفِ مَا لاَ عِوَضَ لَهُ عِنْدَه. ثَالِثُهَا: إِنْ نَقَدَ شَيئَا مِنْ مَالِهِ مَعَه فَمِنَ الشِّرَاءِ وَإلّا اِسْتَقْبَلَ ..... صورة المسألة: رجل تسلف عشرين ديناراً، فاشترى بها سلعة أقامت حولاً ثم باعها بأربعين، ولم يكن عنده عوض للعشرين المتسلفة [116/ب]. والاتفاق أنه لا زكاة عليه في العشرين؛ لأنها عليه دين. واختلف في زكاة الربح، فقال ابن القاسم: يزكي. ورواه أشهب وعلي عن مالك، وسحنون عن ابن نافع؛ لأنه مالكٌ الأربعين عليه منها عشرون، وقال المغيرة: لا زكاة عليه فيها؛ لأنه إذا أسقطت الزكاة على أصل المال الذي أسند الربح إليه، فالربح أحرى. وقال مطرف: إن نقد من ماله فيها ديناراً أو أقل، لم يختلف قول مالك أنه يزكي الربح، وتغلب الزكاة حينئذٍ، وإن لم ينقد شيئاً فكالقول الثاني. وفِي رِبْحِ الْمُشْتَرَى بدَيْنِ يَمْلِكُ مِثلَهُ وَلَمْ يُنقّدْهُ ثَلاثَةٌ: الأَصْلُ، والشِّرَاءُ، وَالاسْتِقْبَالُ كما لو كان عنده عشرون ديناراً، فاشترى بها سلعة على أن ينقدها، فلم ينقدها حتى حال الحول فباع السلعة بأربعين، فاختلف في عشرين الربح على ثلاثة أقوال: الأول: أنه

يزكي لحول الأصل، رواه ابن القاسم. ابن بزيزة: وهو المشهور. والقول الثاني: أنه يزكي من يوم الشراء، قاله ابن القاسم. وإلى هذا رجع مالك، نقله صاحب النوادر. والقول الثالث: يستقبل بالربح، رواه أشهب عن مالك، وهذه الصورة منطبقة على كلامه؛ إذ يصدق على العشرين أنها ربح مشترى بدين يملك مثله ولم ينقده، ولم يخالف هذا الفرع الذي قبله إلا بملكه مثله. وقوله: (ثَلاثَةً) أي ثلاثة أقوال. وَيُسْتَقْبَلُ بِالْفَوَائِدِ بَعْدَ قَبْضِهَا، وَهِيَ مَا يُتَجدَّدُ لا عَنْ مَالٍ مُزَكَّى كَالْعَطَايَا وَالْمِيرَاثِ وَثَمَنِ سِلْعِ الْقِنْيَةِ .... لما تكلم على الربح أتبعه بالكلام على الفوائد، ولا خلاف في الاستقبال بها. واعلم أن الأموال الحادثة على ثلاثة أقسام، منها: ما حدث لا عن مال كالعطايا والميراث. ومنها: ما حدث عن مال غير مزكى كثمن سلع القنية. ومنها: ما حدث عن مال مزكى كثمن سلع التجارة. وبقي المتجدد عن غير مال، والمتجدد من مال غير مزكى. ووقع في بعض النسخ: وهو ماتجدد؛ أي: والمذكور كقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] أي مما ذكر. وَتُضَمُّ أُولاهُمَا نَاقِصَةً إِلَى الثَّانِيَةِ اتِّفَاقاً إذا استفاد فائدة بعد أخرى، فإما أن يكون كل منهما نصاباً أو ما دون النصاب، وإما أن تكون الأولى نصاباً والثانية دونه أو العكس، وضابط زكاتهما أن تقول: إن كانت الأولى نصاباً زكي كلُّ مالٍ على حوله ولم يُضم إلى الآخر، كانت الثانية نصاباً أو دونه، وإن كانت الأولى ناقصة تضم للثانية؛ كانت الثانية ناقصة أو كاملة. وإلى هاتين الصورتين الأخيرتين أشار بقوله: (وَتُضَمُّ أُولاهُمَا نَاقِصَةً) وسيتكلم رحمه الله على الأولتين.

فَلَوْ ضَاعَتِ الأُولَى أَوْ أَنْفَقَهَا بَعْدَ حَوْلٍ ثُمَّ حَالَ حَوْلُ الثَّانِيَةِ نَاقِصَةٌ، فَفِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا قَوْلانِ لابْنِ الْقاسِمِ وَأَشْهَبَ، بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ حَوْلٍ وَاحِدٍ يَجْمَعُهُمَأ أوْ لاَ .... كما لو ملك عشرة في المحرم وعشرة في رجب، فحال حول المحرمية ثم أنفقها أو ضاعت، ثم حال حول الثانية ناقصة عن النصاب، فهل تسقط الزكاة عنهما أو لا؟ فقال ابن القاسم بالسقوط؟ لأنه يشترط اجتماعهما في الملك وكل الحول، ويلزم من اجتماعهما في الحول اجتماعهما في الملك، ولذلك اقتصر المصنف على ذكر الحول في منشأ الخلاف. وقال أشهب بوجوب الزكاة فيهما؛ لأنه إنما يشترط اجتماعهما في الملك وبعض الحول؛ لأن أشهب يرى أن زكاة كل فائدة على حولها، وإنما أخرت زكاة الأولى خشية ألا تبقى الثانية، فإذا تبين البقاء زكيتا. واحترز بقوله: (ضَاعَتِ الأُولَى) مما إذا ضاعت الثانية، فإنهما يتفقان على سقوط الزكاة، و (بَعْدَ حَوْلٍ) مما إذا كان ذلك قبل حولها، فإنه لا خلاف في سقوط الزكاة؛ لفقدان الحول، وبنقصان الثانية مما إذا حال حول الثانية كاملة، فإنهما يتفقان حينئذٍ على وجوب الزكاة في الثانية ويختلفان في الأولى، وبهذه الفوائد يظهر أن قول ابن عبد السلام: تقييد المؤلف الثانية بالنقص مستغنى عنه؛ لأن كلامه في زكاة الأولى والثانية معاً. ليس بظاهر؛ لبيان ما احترز عنه. فَإِنْ كَانَتِ الأُولَى كَامِلَةً زُكِّيَتَا عَلَى حَوْلَيْهِمَا، فَإِنْ نَقَصَتِ الأُولَى قَبْلَ حَوْلِهَا فَكَالنَّاقِصَةِ .... قوله: (كَانَتِ الأُولَى كَامِلَةً) أي: سواء كانت الثانية كاملة أو ناقصة، وهما الصورتان الأوليان من الأربع صور المتقدمة. وقوله: (فَإِنْ نَقَصَتِ الأُولَى) كما لو كانت عشرين ثم صارت عشرة (فَكَالنَّاقِصَةِ).

فَلَوْ حَالَ حَوْلُ الأُولَى ثَانِياً نَاقِصَةً وَفِيهَا مَعَ [117/ أ] الثَّانِيَةِ نِصَابٌ، فَالْمَشْهُورُ بَقَاؤُهَا لا انْتِقَالُهَا إِلَى الثَّانِيَةِ .... يعني: لو حال حول الفائدة الأولى في ثاني عام ناقصة بعد أن حال حول الأولى وهي كاملة، وجبت فيها الزكاة، فالمشهور أن كل فائدة تزكى على حولها، فلا تنقل الأولى إلى الثانية؛ لأن حولها قد تقرر بوجوب الزكاة فيها، والشاذ لابن مسلمة تنتقل كما لو نقصت بعد حولها. خليل: وهو الظاهر خلافاً لما رجح ابن راشد وابن عبد السلام؛ لأنا إذا لم نقل بانتقال الأولى إلى الثانية لزم أحد أمرين: إما زكاة دون النصاب، أو زكاة مال قبل حوله، وكلاهما لا يصح؛ لأنهما إما أن يقولا بزكاة الفائدة الأولى مع قطع النظر إلى الثانية أو لا. فإن قالوا بها مع قطع النظر لزم زكاة دون النصاب، وإن قالوا بها لا مع قطع النظر لزم تزكية المال قبل حوله؛ إذ الفرض أن الثانية لم يحل حولها. والله أعلم. وَعَليْهِ لَوْ نَقَصَتَا مَعاً عن نِصَابٍ ثُمَّ رَبِحَ فِيهِمَ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا مَا يُكَمِّلُ بِهِ عِنْدَ حَوْلِ الأُولَى، رَجَعَ كُلُّ مَالٍ إِلى حَوْلِهِ وَقَبَضَ الرِّبْحَ إِنْ كَانَ فِيهِمَا، فَلَوْ كَانَ بَعْدَ شَهْرٍ فَمِنْهُ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى حَوْلِهِمَا، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ حَوْلِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَهُ رَجَعَتَا مَعاً مِنْهُ ..... أي: وعلى المشهور لو نقص مجموع الفائدتين عن نصاب فتجر في إحداهما، إما الأولى أو الثانية، فربح ما يكمل به النصاب عند حول الأولى، فإن كل مال يبقى على حوله؛ لأن كل مال مضموم إلى أصله. وإن كان التَّجْرُ فيهما معاً فكذلك، وفض ربحهما بالنسبة ليزكي ربح كل فائدة معها. كما لو بقيت كل واحدة منهما خمسة وتجر فيهما فصارتا عشرين. واعلم أن كمال النصاب في هذه المسألأة له خمس حالات: تارة قبل حول الأولى، وتارة عند حول الأولى، وتارة بين حول الأولى والثانية، وإليه أشار بقوله: (فَلَوْ كَانَ

بَعْدَ شَهْرٍ فَمِنْهُ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى حَوْلِهِمَا)، وتارة بعد حول الثانية، وتارة عنده، وإليهما أشار بقوله: (فَلَوْ كَانَ عِنْدَ حَوْلِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَهُ رَجَعَتَا مَعاً مِنْهُ)، والضمير في كان عائد على النصاب. وَلَوْ كَان بِيَدِه خَمْسَةٌ مَحْرَمِيَّةٌ ثُمَّ خَمْسَةٌ رَجَبِيَّةٌ فَتَجِرَ فِيهِمَا فَصَارَتَا أَرْبَعِينَ فِي الْمُحَرَّمِ فَضَّ الرِّبْحُ، فَيُزَكّي عِشْرِينَ فِي الْمُحَرَّمِ وَعِشْرِينَ فِي رَجَبٍ ... يعني: أفاد خمسة محرمية ثم خمسة رجبية، فتجر فيهما فصارتا أربعين في محرم السنة الثانية، فإنه يفض الربح عليهما، فتكون كل واحدة بربحها عشرين، فتزكى المحرمية في المحرم وينتظر بالرجبية حولها. فرع: أما لو تجر بخمسة منهما ولم يدر هل من الأولى أو من الثانية، فإنه يضم الأولى إلى الثانية، قاله ابن راشد. زاد ابن عبد السلام: ولو خلط الخمستين ثم أخذ منهما خمسة، فتجر فيها، فلا زكاة حتى تبلغ بربحها أربعين، فيزكي عشرين في المحرم وعشرين في رجب، إن كان أنفق الخمسة التي لم يتجر فيها قبل نضوض ربح هذه السلعة. وَالْمَضْمُومَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّالِثَةِ كَالأُولَى بالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِيَةِ يعني: أن الفوائد إذا تعددت فكانت ثلاثاً، فإن كانت الأولى نصاباً بقي كل مال على حوله، وإن كانت دون النصاب ضمت إلى الثانية ثم صارت هاتان المضمومتان كالفائدة الواحدة أولاً وتصير الثالثة كالثانية، فإن حصل من مجموع الأولى والثانية نصاباً كانا على حول الثانية والثالثة على حولها، وإلا ضم الجميع وزكي إن كان فيه نصاب، وقس على هذا فيما زاد.

وَفِي إِلْحَاقِ غَلَّةِ سِلَعِ التِّجَارَةِ بالرِّبْحِ أَوْ بالْفَوَائِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَيْنِهَا زَكَاةٌ قَوْلانِ يعني: وفي إلحاق ثمن الغلة الناشئة عن سلع التجارة بشرط ألا يكون في عين الغلة الزكاة بالربح أو بالفوائد قولان. المشهور: كالفوائد. ولذلك أدخل المصنف هذا الفرع في فصل الفوائد، وإلا ففصل الغلات أليق به. واحترز بقوله: (سِلَعِ التِّجَارَةِ) من غلة سلع القنية، فإن غلتها يستقبل بها اتفاقاً. واحترز بقوله: (إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَيْنِهَا زَكَاةٌ) مما لو كان في عينها زكاة، كما لو اغتل نصاباً من الثمر أو الحب، فإنه يزكيه زكاة الثمر اتفاقاً، ثم إن باعه استقبل بثمنه اتفاقاً، ودخل في قوله: إذا لم يكن في عينها زكاة. ما لا تجب في عينه زكاة أصلاً، أو تجب ولكنه دون النصاب. ابن عبد السلام: وبقي هنا شيء، وذلك أن فائدة الشرط: [117/ب] إنما هي في انتفاء المشروط؛ لانتفائه. والخلاف المذكور موجود في الأعراض وإن كانت في غلة سلع التجارة الزكاة كما بينه المصنف الآن في فصل الغلات، وإذا كان الخلاف موجوداً مطلقاً فلا فائدة في الشرط. انتهى. وفيه نظر؛ لأن المصنف لم يحكِ في فصل الغلات خلافاً فيما إذا كان في عينها زكاة. وَالْغَلَّةُ: النَّمَاءُ عَنِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ النماء: جنس يشمل الثلاث، وقوله: (عَنِ الْمَالِ) يخرج نوعاً من الفوائد كالعطايا والميراث، ودخل في كلامه الناشئ عن مال قنية أو تجارة، وأخرجهما بقوله: (مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ) إذ ثمن سلع القنية وثمن سلع التجارة إنما يحصل بعد المعاوضة، وعلى هذا فقول ابن عبد السلام: وقد أخرج المؤلف الفائدة بقوله: عن المال. فإن الفائدة وإن كانت نماء لكنها ليست ناشئة عن المال، وإنما حصلت بميراث أو عطية، ليس بظاهر.

كَمَنِ اشْتَرَى أُصُولاً لِلتِّجَارَةِ فَأَثْمَرَتْ، فَالْمَشْهُورُ كَفَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ غَلَّةُ دُورِ التِّجَارَةِ وَعَبِيدُهَا وَغَنَمُهَا ... تصوره ظاهر، ولا يقال: قوله: (فَالْمَشْهُورُ كَفَائِدَةٍ) يقتضي تعميم الخلاف كما أشار إليه ابن عبد السلام في الفرع السابق؛ لأنا نقول كلامه محمول على ما إذا لم يكن في عين الغلة زكاة، وأما لو وجبت في عينها زكاة فإنها تزكى، نص عليه غير واحد ولم يذكروا في ذلك خلافاً، وقد صرح ابن هارون بالاتفاق على ذلك. فرع: قال في النوادر: ومن الموازية قال مالك: وما اتخذته المرأة من الحلي لتكريه فغلته فائدة، وكذلك غلة ما اشتري للتجارة والقنية من رباع وغيرها. قال: وأما من اكترى داراً ليكريها، فما اغتل من هذه فليزكِّه لحول من يوم زكى ما تقدم من كراتها لا من يوم اكتراها، وهذا إذا اكتراها للتجارة أو للغلة؛ لأن هذا متجر، وأما إن اكتراها للسكنى فأكراها لأمر حدث له، فلا يزكي غلتها وإن كثرت، إلا لحول من يوم يقبضها. وقال أشهب: لا زكاة عليه في غلتها، وإن اكتراها للتجارة كغلة ما اشترى. التونسي: وقول ابن القاسم أبين؛ لأنه إنما اشترى منافع الدار لقصد الربح والتجارة، فإذا اكتراها فقد باع ما اشتراه بخلاف غلة ما اشترى. وَلوِ اشْتَرَاهَا مَعَهَا قَبْلَ طِيبِهَا، فَكَذَلِكَ كَالْعَبْدِ بِمَاله ثُمَّ يَنْتَزِعُهُ اعلم أن الثمرة لا يجوز بيعها قبل صلاحها إلا على القطع أو مع أصولها. ومعنى كلامه: أنه اشترى الثمرة مع الأصول الأول قبل طيب الثمرة وباعها بعد طيبها، بشرط ألا يكون نصاباً، أو قبل طيبها على القطع، فثمنها فائدة على المشهور. وذكر هذا الفرع لتوهم دخوله في الأرباح؛ لأن الثمرة قد باشرها العقد، فإذا باعها بثمن فكأنه نشأ عن

المال بعد المعاوضة له، فرفع هذا التوهم بقوله: (فَكَذَلِكَ) ووجهه أن مباشرة العقد للثمرة هنا كان بطريق التبع فلم تكن مقصودة فلم تحصل معاوضة، ويبين لك هذا أنه لو كانت الثمرة مأبورة حين العقد لزكى ثمنها لحول الأصل. ففي النكت قال بعض شيوخنا: إذا اشترى غنماً للتجارة عليها صوف تام يوم عقد البيع ثم بعد ذلك جزه فباعه، فهذا الصوف كسلعة ثانية اشتراها للتجارة، إن أقام هذا الصوف عنده حولاً زكى ثمنه، ولا يكون ثمنه غلة يستقبل بها حولاً. وكذلك النخل يشتريها وفيها ثمر مأبور يوم عقد البيع، هذا على مذهب ابن القاسم، وعلى قول أشهب يكون غلة، وإن كان الصوف يوم عقد البيع تاماً والثمر مأبوراً. ويؤخذ جواب ابن القاسم فيما وصفناه من مسألة كتاب العيوب إذا رد النخل والغنم بعيب، وكان يوم عقد البيع في النخل تمراً مؤبراً، وعلى ظهور الغنم صوف تام. انتهى. وذكر ابن محرز أن أهل المذهب قالوا أنه يستقبل بثمن الثمرة وإن كانت مأبورة يوم شراء الأصل. قال: والقياس أن يزكيه على مذهب ابن القاسم، فأشار إلى ما ذكره عبد الحق. وقوله: (كَالْعَبْدِ بِمَاله ثُمَّ يَنْتَزِعُهُ) تنظير. أي: كما أن العبد إذا اشتراه بماله ثم انتزعه المشتري، يكون ماله فائدة، فكذلك ثمن الثمرة. وَلوْ بَاعَهَا قَبْلَ طِيبهَا ضَمَّهَا كَالرِّبْحِ أي: باعها بأصولها كما لو اشتراها. وصرح المصنف بهذا دفعاً للتوهم، وهو أن يقال: لم لا يستقبل بما قابل الغلة؛ لأن الحكم في الغلات [118/أ] الاستقبال. فإن قلت: فهل يتناول ما إذا باعها مفردة قبل طيبها؟ فالجواب: لا. أما أولاً: فلأن قوله: (ضَمَّهَا) لا يصدق على الصورة المذكورة؛ لأن الضم إنما يكون حيث يكون هناك شيء يضم إليه. وأما ثانياً: فلأنه إذا باعها مفردة قبل الطيب، فلا شك أنها غلة سلع للتجارة، وقد قدم

المصنف أن غلة ما اشتري للتجارة فائدة على المشهور. وأيضاً فإنه لم يفرض صاحب النوادر وغيره المسألة إلا على الوجه الذي ذكرناه أولاً. تنبيه: وقع هنا في بعض النسخ ما نصه: فَإِنْ وَجَبَتْ زَكَاةٌ فِي عَيْنِهَا، زَكَّى الثَّمَنَ بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ تَزْكِيَتِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ ومعناها: فإن وجبت زكاة في عين الغلة، وهذا معنى قوله: (بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ تَزْكِيَتِهِ) أي: ما ذكر. ولو قال بعد تزكيتها لكان أحسن. والمشهور نقله ابن يونس عن مالك؛ لكنه إنما نقله فيما إذا اكترى أرضاً فزرع فيها للتجارة، وقيده هو فقال: يريد إذا اكترى الأرض للتجارة، واشترى طعاماً للتجارة، وزرعه فيها للتجارة. وأما لو اكترى أرضاً ليزرع فيها طعاماً لقوته، ثم بدا له فزرع فيها للتجارة، فإنه إذا زكى الحب ثم باعه، فإنه فائدة ويستقبل بثمنه حولاً من يوم باعه. انتهى. والشاذ لأشهب؛ لأنه يستقبل بثمنه، وكان الأحسن على تقدير ثبوت هذه النسخة أن تؤخر عن قوله: ولو اشترى أو اكترى أرضاً للتجارة، وزرعها للتجارة. وكذلك وقع في بعض النسخ. والله أعلمز ولَوِ اشْتَرَى أَوِ اكْتَرَى أَرْضاً لِلتِّجَارَةِ وَزَرَعَهَا لِلتِّجَارَةِ فَغَلْتُهَا كَالرِّبْحِ يريد: إذا كان الخارج دون النصاب كما تقدم. ومعنى كلامه: أنه إذا اشترى أرضاً للتجارة وزرعها قاصداً بها التجارة، أو اكتراها للتجارة وزرعها كذلك، فإن غلتها كالربح يزكى ثمنها لحول الأصل. واعلم أنه إنما فرض المسألة في المدونة في الكراء، وكذلك كل من تكلم عليها فيما رأيت كالتونسي، وابن يونس، واللخمي، وعياض، وابن بشير، ولم أر من سوى بين الكراء والشراء كما فعل المصنف. وكذلك ابن شاس إنما

فرضها في الكراء، ولهذا اعترض عليه ابن عبد السلام، وقال: قوله فيما اكترى صحيح، وأما فيما اشترى فليس كذلك؛ لأنه قدم أن غلة ما اشترى للتجارة المشهورة أنه كفائدة، فأشار إلى التناقض في كلامه. واختلف هل يشترط مع ذلك أن يكون البذر مشترى للتجارة؟ طريقان: ذهب إلى الاشتراط ابن شبلون وغير واحد من القرويين، ورأوا أنه متى ما دخل فصل من فصول القنية بقي حكمها في الزرع على حكم الفائدة؛ إذ الأصل في الغلات الاستقبال. وذهب أبو عمران إلى عدم الاشتراط. وظاهر كلام المصنف نفي الاشتراط، وكذلك هو ظاهر المدونة؛ لأن كلامه فيها مثل كلام المصنف. وصوب بعضهم ما ذهب إليه ابن شبلون. قال في التنبيهات بعد ذكر الطريقين: والمسألة إنما هي إذا كانت الأرض مكتراة للتجارة، وهو معنى مسألة المدونة على مذهب ابن القاسم، وأما على مذهب أشهب فعلى كل وجه من وجوه المسألة، الزرع غلة لا يزكى ثمنه حتى يستقبل به حولاً، قاله في المجموعة. إذا اكترها للتجارة واشترى قمحاً فزرعه فيها للتجارة وزكى الحب ثم باعه لحول أو أحوال، فلا يزكيه وليأتنف حولاً من يوم يقبضه مديراً كان أو غير مدير، وهذا على أصله في غلة ما اكترى للتجارة، وهو قول ابن نافع في المبسوط. كما قال أشهب: في الزرع سواء. وإليه ذهب سحنون فيما حكاه عنه فضل بن مسلمة، وإن كان الباجي وغيره قالوا: إذا اجتمعت الوجوه الثلاثة للتجارة، اكترى الأرض، واشترى الحب، والزراعة، فلا خلاف أنه يزكي الحب على التجارة، ولم يبلغ قائل هذا قول أشهب. انتهى. ويمكن أن يوجه كلام المصنف لو ساعدته الأنقال بأن يقال: غلة ما اشترى للتجارة قسمان: قسم لا يضم مع الشراء للتجارة: إخراج مال كغلة دون التجارة، فإن غلتها نشأت عن غير مال فصدق عليها أنها نماء عن المال من غير معاوضة به. وقسم يضم مع الشراء: إخراج مال وعمل وهو الزرع، إذ لابد أن يشتري بذراً ويعمل فيها فأشبه الربح؛ لأن غلتها كأنها نماء عن المال بعد المعاوضة.

وإِنْ كَانَ الأَمْرَانِ لا لِلتِّجَارَةِ اسْتَقْبَلَ بِثَمَنِهَا يعني بالأمرين الاكتراء والزرع، والاشتراء والزرع. وقوله: (لا لِلتِّجَارَةِ) يدخل فيه ما إذا نوى القنية أو لم ينو شيئاً، إذ الأصل القنية. وقوله: (بِثَمَنِهَا) أي: بثمن الغلة إذا لم يكن في عينها زكاة كما تقدم. ووقع في نسخة ابن عبد السلام: بثمنهما. قال: وثنى الضمير لأنه راجع إلى الأرض والزرع. وإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا للِتِّجَارَةِ، فَأَرْبَعَةٌ: الْمَشْهُورُ يُسْتَقْبَلُ بِالثَّمَنِ، والْحُكْمُ لِلأَرْضِ، والْحُكْمُ لِلبَذْرِ والْعَمَلِ، وَيَسْقُطُ عَلَى الثَّلاثَةِ .... يعني: وإن كان أحد الأمرين للتجارة فأربعة أقوال. وهذه المسألة فيها موجب وهو الذي للتجارة، ومسقط وهو الذي لغيره. ففي المشهور رجح المسقط؛ لأن الأصل عدم الزيادة. والقول الثاني: أن الحكم للأرض ولا ينظر إلى البذر والعمل وهو قول أبي عمران. فإن كانت الأرض للقنية استقبل بالثمن حولاً، وغلا زكى الثمن لحول من يوم زكى عين الطعام وإن كان فيه نصاب، وإن قصر عن النصاب زكى الثمن لحول من يوم زكى ما اكترى به الأرض. الثالث: أن الحكم للبذر والعمل. الرابع: لعبد الحميد: أنه يسقط الثمن على الثلاثة؛ الأرض والبذر والعمل. فلو كانت الأرض للتجارة واكتراها بمائتين والبذر للقنية واشتراها بمائة وكذلك العمل، وباع بثمانمائة، فإنه يزكى أربعمائة لحول الأصل ويستقبل بأربعمائة، هذا إذا لم يكن في عين الغلة نصاب. وفِي إِلْحَاقِ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْغَلَّةِ قَوْلانِ يعني: من اشترى عبداً للتجارة وكاتبه، فهل يلحق ما يأخذه من الكتابة بالثمن وكأنه اشترى نفسه فيزكى لحول ثمنه، أو بالغلة فيستقبل به؛ لأن هذا ليس بمعاوضة

حقيقة. ألا ترى أنه لو عجز ولو عن قليل أنه يرق ولا يعتق منه شيء، وهذا الثاني هو المشهور ولم يَحْكِ ابن يونس غيره، نعم حكى ابن بشير القولين، ولو كان العبد للقنية استقبل بثمنه اتفاقاً. ولما فرغ من الربح والفائدة والغلة تكلم على الدين، فقال: وَالدَّيْنُ إِنْ كَانَ أَصْلُهُ بيَدِهِ عَيْناً، أَوْ عَرَضَ زَكَاةٍ وَقَبَضَهُ عَيْناً زَكَّاهُ عِنْدَ قَبْضِهِ بَعْدَ حَوْلِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ زَكَاةً وَاحِدَةً إِنْ تَمَّ الْمَقْبُوضُ نِصَاباً بِنَفْسِهِ، أَوْ بِعَيْنٍ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَجَمَعَهُ وَإِيَّاهُ مِلْكٌ وَحَوْلٌ ....... يعني: أن الزكاة تجب في الدين بأربعة شروط: أولها: أن يكون أصله بيده عيناً، أو عرض زكاة. أي: عرض احتكار. وأما دين المدير، فسيتكلم المصنف عليه في بابه. ثانيها: أن يقبض، فلو لم يقبض لم يزكِّ. وفيه تنبيه على مذهب الشافعي فإنه أوجب الزكاة فيه وهو على الغريم. ثالثها: أن يكون المقبوض عيناً، فلو قبضه عرضاً لم تجب الزكاة فيه، إلا أن يكون مديراً. وقوله: (زَكَّاهُ عِنْدَ قَبْضِهِ) جواب الشرط، وهو بيان لكيفية زكاته. أي: إذا حصلت شروط زكاة الدين فإنما يزكى زكاة واحدة. وقوله: (بَعْدَ حَوْلِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ) أي: بعد مضي حول أصل الدين لا الدين، فلو كان عنده نصاب ثمانية أشهر ثم داينه شخص فأقام عنده أربعة أشهر ثم اقتضاه، زكاه إذ ذاك. رابعها: أن يتم المقبوض نصاباً بنفسه، أو بعين قبل القبض، أو معه أو بعده، يعني: حال حولها قبض القبض، أو مع القبض، أو بعد القبض. وقوله: (وَجَمَعَهُ وَإِيَّاهُ مِلْكٌ وَحَوْلٌ) شرط العين التي يتم بها المقتضى. والظاهر أن قوله: وجمعه وإياه ملك وحول. مستغنى عنه. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن يقال: إنما يتم

الاستغناء عنه على ما قدرت من أن قوله: قبل القبض أو معه. عائد على الحول، أي: حال حولها قبل القبض أو معه. وأما إذا قدرت بعين حصلت قبل القبض أو معه أو بعده فلا، وهو ظاهر. والواو في قوله: (ومعه) بمعنى (أو). وقد وقع التصريح بـ (أو) في بعض النسخ. والله أعلم. وقوله: (زَكَّاهُ عِنْدَ قَبْضِهِ) لا يلتئم مع قوله: (بعده) وإنما هو راجع إلى قوله: (قبل القبض أو معه). فإن قلت: لم لا جعلت قوله: (بَعْدَ حَوْلِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ) شرطاً؟ قيل: لأن الحول شرط في كل ما زكاه وليس خاصاً بالدين، ولا ينبغي أن يضاف من الشروط إلى الدين إلا ما كان خاصاً به. وَفِي إِتْمَامِهِ بالْمَعْدِنِ قَوْلانِ كما لو اقتضى من دينه عشرة وأخرج من معدنه عشرة، ففي التلقين: يضمان؛ لأن المعدن لما لم يشترط فيه الحول صار [119/أ] بمنزلة مال قد حل حوله، وهو الظاهر، واستحسنه المازري. ولم أر القول بعدم الضم، لكنه يأتي على ما فهمه ابن يونس من المدونة أن المعدن لا يضم إلى عين حال حوله عنده كما سيأتي. ثُمَّ يُزّكَّي مَا يَقْبِضُ مِنْهُ بَعْدُ وَإِنْ قَلَّ أي: بعد النصاب. وقوله: (وَإِنْ قَلَّ) أي: ولو كان درهماً. وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا لَمْ يُؤَخِّرْ قَبِّضَهُ فِرَاراً، وَخُولِفَ هذا راجع إلى قوله: (زَكَاةً وَاحِدَةً). أي: وقال ابن القاسم: يزكيه لكل حول إذا أخر قبضه لأجل الفرار من الزكاة. وقد ألزمه ابن يونس لأشهب من تعليله بأن الزكاة وجبت فيه وهو على الغريم، وإنما منعناه من إلزامه بها خشية ألا يقبض الدين.

وقوله: (وَخُولِفَ) يقتضي أنه انفرد بذلك، وذلك لأن العاقل لا يؤخر قبض دينه لأجل الزكاة، بل لو اشترى به أي شيء لكان استفاد به مقدار الزكاة وزيادة. واعلم أن مخالفة ابن القاسم ليست مطلقة، بل يتفق في بعض أنواع الدين على مثله. ففي المقدمات: الدين أربعة أقسام: أولها: أن يكون من ميراث، أو عطية، أو أرش جناية، أو مهر امرأة، أو نحو ذلك. فهذا لا زكاة فيه ويستقبل به حولاً بعد قبضه، وإن ترك قبضه فراراً. ثانيها: أن يكن من ثمن عرض أفاده، فهو كذلك إن باعه بنقد، وكذلك إن باعه بمؤجل، خلافاً لابن الماجشون. وإن أخر قبضه فراراً، فيتخرج على قولين: أحدهما: زكاته لماضي الأعوام. والثاني: أنه باقٍ على حكمه ويستقبل به. وثالثها: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بنقد للقنية، فإن باعه بنقد استقبل به، وإلى أجل زكاه لعام بعد قبضه. وإن أخر قبضه فراراً، زكاه لماضي الأعوام اتفاقاً. رابعاً: أن يكون الدين من كراء أو إجارة، فإن قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة فحكمه كالقسم الثاني. انتهى بمعناه. وقال ابن يونس –وهو في المدونة-: وكل سلعة أفادها الرجل بميراث، أو هبة، أو صدقة، أو اشتراها رجل للقنية –داراً كانت أو غيرها من السلع- فأقامت بيده سنين أو لم تقم، ثم باعها بنقد فمطل بالنقد، أو باعها إلى أجل فمطل الثمن سنين، أو أخره بعد الأجل، فليستقبل به حولاً بعد قبضه. انتهي. فانظر هذا مع ما حكاه صاحب المقدمات من الاتفاق في القسم الثالث، فإن ظاهره ينافيه؛ إلا أن يحمل كلام ابن يونس على ما إذا أخره غير قاصد الفرار. والله أعلم.

فَلَوْ تَلِفَ الْمُتِمُّ اعْتُبِرَ عَلَى الأَصَحِّ بِخِلافِ الْفَائِدَتَيْنِ، كَمَا لَوْ قَبَضَ عَشَرَةً لا يَمْلِكُ غَيْرَهَا فَضَاعَتْ ثُمَّ عَشَرَةً ... لو تلف الْمُتِمُّ، وهي العشرة الأولى في مثال المصنف بأن ضاعت أو سرقت، ففي المسألة قولان: القول بالزكاة وهو الذي صححه المصنف، عزاه صاحب النوادر وغيره لابن القاسم، وأشهب، وسحنون. والقول بعدم الزكاة لابن المواز. وجه القول الأول: أن العشرين قد اجتمعتا في الملك والحول، وإنما منع من الزكاة عن العشرة الأولى خشية ألا يقتضي غيرها. ووجه مقابل الأصح: القياس على الفائدتين. وهي المسألة التي أشار المصنف إليها بقوله: (بِخِلافِ الْفَائِدَتَيْنِ) وهو ما تقدم من قوله: (فلو ضاعت الأولى أو أنفقها بعد حول، ثم حال حول الثانية ناقصة، ففي سقوط الزكاة ...) إلى آخر. ابن عبد السلام: وقيل سقوطها هو الأصح؛ لأن النصاب ضاع بعضه قبل التمكن من إخراج الزكاة، إذ الضياع هنا قبل كمال النصاب. والجمهور ما عدا ابن الجهم على سقوط الزكاة فيما إذا ضاع جزء من النصاب بعد الحول وقبل التمكن، كما تقدم. انتهى. ويمكن أن يفرق بينهما بقوة تعلق الزكاة بالدين، إذ من العلماء من ذهب إلى وجوبها قبل القبض فكيف بعده؟ وقوله: (لا يَمْلِكُ غَيْرَهَا) ليس من باب الحصر بل تمثيل، إذ الحكم جار سواء ملك غيرها أو لم يملك، ولكن ليس فيه مع العشرة المقتضاة كمال النصاب. فَلَوْ أَنْفَقَهَا فَالِّرَوايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى الزَّكَاةِ يعني: فلو أنفق العشرة المفروض ضياعها في الفرع السابق، فالروايات متفقة على وجوب الزكاة؛ لأن العشرين قد اجتمعتا في الملك والحول مع الانتفاع بكل منهما. وأشار

بقوله: (فَالرِّوايَاتُ) إلى ما نقل ابن بشير، وابن شاس: أن بعض المتأخرين رأى أن الخلاف المتقدم جارٍ هنا أيضاً، وكان ينبغي على هذا أن يقول على المنصوص جرياً على عادته. وَفُرِّقَ للِشَّاذِّ بالتَّسَبُّبِ وَالانْتِفَاعِ (الشَّاذِّ) هو مقابل الأصح في قوله: (فَلَوْ تَلِفَ الْمُتِمُّ). أي: وفرق لمقابل الأصح في إيجابه الزكاة مع الإنفاق، وإسقاطه الزكاة في الضياع بالتسبب والانتفاع. وفي كلامه فائدتان: إحداهما: عدم [119/ ب] صحة التخريج. والثانية: أن الشاذ صحيح، وأن الأصح مشهور، إذ الشاذ إنما يقابله المشهور والله أعلم. وَفِي أَوَّلِيَّةِ حَوْلِ الْمُتِمِّ بَعْدَ تَمَامِهِ أَوْ حِينَ قَبْضِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَاَشْهَبَ صورتها: أن يقتضي عشرة في المحرم ثم عشرة في رجب، فهل ينتقل حول المحرمية المقتضاة أولاً إلى الرجبية كما في الفوائد- وهو قول ابن القاسم، وهو المشهور- أو لا ينتقل، بل حول كل واحدة من يوم اقتضائه وهو قول أشهب، ولا يخفى عليك توجيهها. وَلَوْ زَكَّى نِصَاباً أَوَّلاً ثُمَّ حَالَ حَوْلُهُ نَاقِصاً وَفِيهِ مَعَ الثَّانِي نِصَابٌ، فَكَالْفَائِدَتَيْنِ مِثْلُهُمَا ... يعني: لو قبض من دينه نصاباً فزكاه أول الأمر، ثم قبض من دينه دون النصاب فزكاه، ثم حال حول الثاني وليس في الأول نصاب لكن فيه مع المقتضى ثانياً نصاب، فهل يزكي المقتضى أولاً قبل الحول الثاني- وهو المشهور- أو ينتظر به حول الثاني؟ وفي بعض النسخ (أول) ظرف مقطوع عن الإضافة، وفي بعضهما (أولاً) ظرف متعلق بـ (زكى).

وقوله: (فَكَالْفَائِدَتَيْنِ) أي: أن الحكم في الاقتضاءين كالحكم في الفائدتين. وقد تقدم من قوله: (ولو حال حول الأولى ثانياً وفيها مع الثانية نصاب، فالمشهور بقاؤها لا انتقالها إلى الثانية). والضمير المجرور بـ (مثل) عائد على الفائدتين، وهو بدل أو عطف بيان. ولو حذف قوله: (وفيه مع الثاني نصاب) لفهم المعنى من التشبيه. ولَوِ اقْتَضَى دِينَاراً ثُمَّ آخَرَ، فَاشْتَرَى بكُلِّ سِلْعَةٍ بَاعَهَا بِعِشْرِينَ، فَإِنْ بَاعَهُمَا مَعاً، أَوْ بَاعَ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ اشْتِرَاءِ الأُخْرَى فَوَاضِحٌ، وإِلا فَطَرِيقَانِ: الأُولَى: يُزَكَّي الْمَبِيعَ أَوَّلاً مِنْهُمَا مَعَ الدِينَارِ الآخَرِ فَقَطْ. والثَّانِيَةُ: فِي تَزْكِيَةِ رِبْحِ الأُخْرَى قَوْلانِ عَلَى أَصْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاَشْهَبَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ مِنْ حِينِ الشَّراء أَوْ مِنْ حِينِ الحُصُولِ ... يعني: أن من له دين لا يملك غيره، أو يملك ما لا يكمل النصاب به، فاقتضى منه ديناراً ثم ديناراً آخر واشترى بكل واحد منهما سلعة باعها بعشرين، وظاهر كلام المصنف التسوية بين شرائهما في وقت واحد أو وقتين. وقوله: (فَإِنْ بَاعَهُمَا) أي: لبيعهما ثلاث حالات: الأولى: أن يبيعهما معاً. الثانية: أن يبيع إحداهما قبل شراء الأخرى. قال المصنف: (فواضح). أي: الحكم واضح. أي: يزكي في الصورة الأولى أربعين وفي الثانية إحدى وعشرين، ولا خفاء فيه. وقد نبه على الصورة الثالثة بقوله: (وإِلا فَطَرِيقَانِ) أي: وإن لم يبيعهما معاً ولا باع إحداهما قبل شراء الأخرى، بل باع إحداهما بعد أن اشترى الأخرى، وسواء بدأ بيع المشتراة أولاً أو آخراً، ففي المسألة طريقان:

الأولى: لأبي بكر بن عبد الرحمن، يزكي المبيع أولاً منهما مع الدينار والآخر فقط؛ أي: ثمن السلعة المبيعة والدينار الذي هو ثمن السلعة التي لم يبعها بعد. وأفلاد بقوله: (فقط) أنه على هذه الطريقة الأولى لا يزكي غير الإحدى والعشرين. والطريقة الثانية: يزكي الإحدى والعشرين اتفاقاً. وفي تزكية ربح الأخرى- أي: التسعة عشر- قولان: أحدهما: مثل الطريقة الأولى. والثاني: يزكي الأربعين. وبناها المصنف على أصل قول ابن القاسم وأشهب المتقدم في الربح مع المغيرة، هل يضم الربح من حين الشراء فيزكي الأربعين، أو من حين الحصول فلا يزكي غير الإحدى والعشرين؟ وبيان هذا أنك إذا قدرت ربح السلعة الثانية موجوداً مع أصله حين شرائها فيزكي؛ لأنه يكون مالكاً لأربعين. وإن قدرت الربح موجوداً مع أصله حين حصوله، والفرض أن أصله زكي، أي: الدينار، فيكون ربح مال قد زكي فيستقبل به، وهذه الطريقة لابن بشير، وذكر أن المشهور زكاة الأربعين، وتبعه صاحب الجواهر، وصاحب الذخيرة، واقتصر اللخمي على زكاة الأربعين. وَلَوْ وُهِبَ الدَّيْنُ لِغَيْرِ الْمِدْياَنِ فَقَبَضَهُ، فَفِي تَزْكِيَةِ الْوَاهِبِ قَوْلانِ كَالْمُحِيلِ الْمَلِيء ... القول بالوجوب لابن القاسم في الموازية والعتبية، ورأى أن قبض الموهوب له كقبض الوكيل، وبه علل محمد وأصبغ مسألة الإحالة قالا: لأن قبض المحال كقبض محيله. والقول بعدمها لأشهب، ولم ير قبض الموهوب له، والمحال كقبض الوكيل؛ لأنهما إنما قبضا لأنفسهما. خليل: ولعله الجاري على مذهب المدونة؛ لأنه نص فيها على عدم زكاة الواهب إذا وهب الدين للمدين، إلا أن يفرق بينهما بتحقق قبض العين في هبته، فيكون كالوكيل بخلاف المدين، وهذا هو الأقرب في كلام المصنف؛ لتقييده بغير المديان. محمد: والأول أحب إلينا. قال: وتؤخذ الزكاة منها لا من غيرها.

ابن محرز: قال شيخنا أبو الحسن: وإنما تؤخذ الزكاة إذا قال الواهب أردت هذا، وإن لم [120/أ] يكن أراد ذلك، فقد قال ابن القاسم في بائع الزرع بعد وجوب الزكاة: إن الزكاة على البائع إن لم يشترط ذلك على المشتري. وقال أشهب: ينقض البيع في حصة الزكاة، يريد إذا عدم البائع,. قال صاحب البيان: وتأول ابن لبابة على أصبغ أن الزكاة لا تجب على المحيل بنفس الإحالة حتى يقبضها المحتال بها؛ لقوله: فإن قبض المحال بها كقبضه. قال: مجمله على الخلاف لقول ابن القاسم، وهو تأويل فاسد، إذ لا وجه لمراعاة قبض المحتال فيما يجب على المحيل من الزكاة، وإنما يراعى قبضه في خاصة نفسه. ومعنى قول أصبغ: لأنه كقبضه، يريد أن الإحالة كقبضها؛ أي: قبضها من صاحبها. انتهى. ففهم عن ابن القاسم وجوب الزكاة وإن لم يقبض المحال الدين، وهو ظاهر لفظه في العتبية؛ لقوله: وسئل عن الرجل له على رجل مائة دينار وقد حال عليها الحول، فأحاله على الذي عليه المائة، أعلى المحيل بها فيها زكاة؟ قال: نعم يزكيها. قال أصبغ: لأنه كقبضه إياها من صاحبها. وصورة الإحالة: أن يكون لشخص عند آخر دين وعليه دين، فأحاله الذي له الدين على الذي له عنده الدين، ووصف المحيل بالملاء احترازاً مما إذا لم يكن ملياً، فإنه إذ ذاك لا زكاة عليه؛ لكونه مديناً غير مليء. وقوله: (الْمَلِيء) أي بقدر الدين، كما لو كان عنده من عروض القنية أو غيرها ما يجعله في الدين. وَعَلَى تَزْكِيَةِ الْمُحِيلِ، فَهُوَ نِصَابُ يُزَكِّيهِ ثَلاثَةُ إِنْ كَانُوا أَمْلِيَاءَ يعني: إذا قلنا بتزكية المحيل ما أحال به، فهو مال يزكيه ثلاثة رجال؛ أحدهم: المحيل. والثاني: المحال لأنه قابض لدينه، وكذلك المحال عليه؛ لأن الإنسان إذا كان عنده مال حال عليه الحول وهو مليء وعليه دين فلا يعطيه في دينه حتى يزكيه.

وقوله: (إِنْ كَانُوا أَمْلِيَاءَ) ظاهر، إذ لو كان أحدهما غير مليء بأن يكون مدياناً، لم يزكه. وهذه المسألة مما تلقى في المعاياة. فإن قلت: لا نسلم أنه يزكيه ثلاثة، وإنما يزكيه المحال والمحال عليه، وأما المحيل فإنما يزكى عنه؛ فجوابك أن معنى زكاه. أي: خوطب بزكاته ثلاثة. والله أعلم. إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ عَيْناً بِيَدِهِ فَكَالْفَائِدَة ِبَعْدَ قَبْضِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عَنْ سِلْعَةِ قُنْيَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ ... هذا راجع إلى قوله: (إن كان أصله بيده عيناً) وقوله: (عَيْناً) يريد أو عرض زكاة؛ لأن حكمهما واحد (فَكَالْفَائِدَة) أي: يستقبل به. قوله: (وَكَذَلِكَ ...) إلخ. أي أن الدين الذي ليس أصله عيناً ولا عرض زكاة قسمان: إن نشأ عن غير سلعة، كدية جرحه، ودية عبده ووليه، والميراث، استقبل به اتفاقاً. وإن نشأ عن سلعة قنية، فإن باعها بنقد استقبل به اتفاقاً. صرح بذل ابن بشير، وابن شاس. ابن عبد السلام، وابن هارون: وإنما الخلاف إذا باعها نسيئة، فالمشهور الاستقبال. وروى ابن نافع وجوب الزكاة، وسلك بالأجل نوعاً من التجارة، وقاله المغيرة وابن الماجشون، فليس الخلاف كما أطلقه المصنف. والله تعالى أعلم. وَلا زَكَاةَ فِي صَدَاقِ عَيْنٍ إِلا بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ قَبْضِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ غَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ، فَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ أَوِ الشَّجَرِ، فَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ وَإنْ لَمْ يَقْبضْهُ؛ لأَنَّ ضَمَانَهُ مِنْهاَ لا زكاة في صداق عين، أي: اتفاقاً. قال أشهب في المجموعة: ولو كانت الدنانير والدراهم معينة.

وقوله: (غَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ) أي: لأن ضمانها من الزوج. وقوله: (فَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ أَوِ الشَّجَرِ، فَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ) يريد بشرط النصاب؛ لأن لها التصرف التام بالبيع والهبة. وإِذَا اخْتَلَطَتْ أَحْوالُ الاقْتِضَاءِ، ضُمَّ الأخِيْرَ إلَى الأَولِ، وفي الفَوَائِدِ: الْمَشْهُورُ الْعَكْسُ. واسْتَحْسَنَ اللَّخْمِيُ حَولاً وَسَطاً، كَمَالٍ تَنَازَعَهُ اثْنَانِ ... يعني: إذا التبست أحوال الاقتضاء ولم تعلم أحواله، فإنه يضم الآخر منهما إلى الأول. مثاله: لو اقتضى أول المحرم نصاباً ثم صار يقتضي قليلاً قليلاً إلى رجب، ثم نسي في العالم الثاني حول كل مال، فإنه يجعل حول الجميع من المحرم احتياطاً للفقراء. وأما في الفوائد: فالمشهور العكس، يضم الأول إلى الآخر. وقال ابن حبيب: بل يضم الآخر إلى الأول كالاقتضاء، ورواه عن مالك. والفرق على المشهور أن الأصل في الدين أن يزكى بمرور الحول، ولذلك قال كثير من العلماء بالزكاة وهو على الغريم، لكن إنما منع من إخراجها على المذهب خوف عدم القبض، فإذا قبض كان ينبغي أن يرد إلى الحول الذي [120/ ب] كان عليه وهو على المديان، فإذا حصل الاختلاط رد الآخر إلى الأول؛ لأن الحول قد مر عليه بخلاف الفوائد فإن الأصل فيها عدم الزكاة، فيناسب ذلك ضم الأول إلى الآخر. ابن بشير: واستحسن اللخمي أن يجعل في الجميع حولاً وسطاً لا يبنى على أول الاقتضاءات والفوائد ولا على آخرها. انتهى. وما فهمه ابن بشير عنه هو الذي يؤخذ من كلامه في التبصرة، وكلام ابن عبد السلام يقتضي أنه خصص ذلك بالفوائد، وليس بظاهر. وَيُضَمُّ الاقْتِضَاءُ إلَى الفَائِدَة قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كما لو كان عنده عشرة فائدة حال حولها ثم اقتضى عشرة، وهذا ضم الاقتضاء إلى الفائدة قبله، أي: حال حولها قبل الاقتضاء.

وقوله: (أَوْ بَعْدَهُ) كما لو اقتضى عشرة ثم استفاد عشرة وكان لم يحل حولها، فإذا حل حولها والمقتضى باقٍ زكى الجميع. قال ابن القاسم: ولو اقتضى عشرة دنانير من دين حال حولها فأنفقها، ثم حال حول الفائدة فزكاها، ثم اقتضى خمسة من دينه، فإنه يزكي هذه الخمسة؛ لكونها مقتضاة بعد حول الفائدة، ولا يزكي العشرة الأولى؛ لكونها لم تجتمع مع الفائدة، لكن لو اقتضى خمسة أخرى بعد الخمسة التي قبضها، زكى العشرة السابقة؛ لحصول النصاب من دينه. المازري: وهذا يلهج به المدرسون، فيقولون: الفوائد تضاف إلى ما بعدها من الاقتضاءات ولا تضاف إلى ما قبلها، والاقتضاءات يضاف بعضها إلى بعض. ولو اقتضى من دين حال حوله خمسة فأنفقها، ثم استفاد عشرة فأنفقها بعد حولها، ثم اقتضى عشرة، فإنه يزكي العشرة الفائدة والعشرة التي بعدها من الاقتضاء؛ لإضافة الفائدة لما بعدها، ولا يزكي الخمسة الأولى؛ لكونها لا تضاف إلى الفائدة، فإذا اقتضى خمسة أخرى زكى حينئذٍ عن الخمسة الأولى وعن هذه الخمسة؛ لكمال النصاب من الدين. واختلف الأشياخ إذا اقتضى من دينه الذي حال حوله خمسة فأنفها، ثم استفاد عشرة فأنفقها بعد حولها، ثم استفاد عشرة أخرى فأنفقها بعد حولها، ثم اقتضى خمسة، فقال أبوبكر بن عبد الرحمن: يزكي هذه الخمسة؛ لأنها تستحق الإضافة لكل من الفائدتين، والفائدتان لا تضاف الخمسة الأولى إليهما، ولا تضاف إحداهما إلى الأخرى، وذهب غيره إلى عدم زكاة الخمسة الأخيرة؛ لأنها وإن وجب أن تضم لكل من الفائدتين لكونها بعدهما وإلى الخمسة السابقة لكون الاقتضاءات يضم بعضها إلى بعض، فإن كل واحدة من هذه الثلاثة لا تضم إحداهما إلى الأخرى.

فَإِنْ كَمُلَ باقْتِضَاءٍ قَبْلَ حَوْلِهَا تَفَرَّقَا، وقِيلَ كَالْخَلِيطِ الْوَسَطِ يعني: وإن كمل النصاب من اقتضاءين وفائدة والفائدة بينهما، تفرق الاقتضاء من الفائدة ولم يجمعا. قال ابن بشير وابن شاس مثاله: لو اقتضى عشرة ثم استفاد عشرة، ثم اقتضى خمسة بعد أن أنفق العشرة التي اقتضى أولاً. انتهى. وقال ابن هارون مثاله: لو اقتضى أولاً عشرة، ثم أفاد خمسة وأنفق العشرة المقتضاة واقتضى قبل حول الفائدة خمسة. انتهى. والمثال الأول هو الذي يتكلم الناس فيه، والقولان للمتأخرين؛ أحدهما: نفي الزكاة، وإليه أشار بقوله: (تَفَرَّقَا) أي: تفرق الاقتضاء من الفائدة، ومعنى (تفرقا) أي: بقيا على افتراقهما. والقول الثاني: وجوب الزكاة؛ لأن الخمسة المقتضاة آخراً قد اجتمعت مع كل من العشرتين في الملك والحول، فصارت بالنسبة إلى كل واحد منهما كخليط وسط. فإن قلنا: إن خليط الخليط خليط، جاء منه القول الثاني. وإن قلنا: إنه ليس كالخليط لم تجب الزكاة، وهو القول الأول. ابن بشير: لكن اختلفوا هل تجب الزكاة في الخمسة المقتضاة خاصة لأنها تزكى بالمالين، وسمعنى في المذكرات وجوب الزكاة في الجميع عند بعض الأشياخ. انتهى. وهذا القول الذي سمعه ابن بشير في المذاكرات هو مقتضى كلام المصنف، وأما الأول فلا؛ لأن مسألة الخليط الوسط لا خلاف أن الزكاة تجب في الطرفين والوسط، وإنما الخلاف في كيفية ذلك الوجوب. قال شيخنا رحمه الله: والقول بزكاة الخمسة مشكل، ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال. وفرض ابن عبد السلام المسألة أنه أنفق المقتضى أولاً قبل الاستفادة، فعلى فرضه يتفق ابن القاسم وأشهب على سقوط الزكاة؛ لأن العشرة الأولى لم تجتمع مع الفائدة

أصلاً، ويمكن أن تفرض على أنه أنفق بعد الاستفادة، فيختلف فيها على قولهما. فعلى قول ابن القاسم باشتراط الاجتماع في الملك وكل الحول، لا زكاة. وعلى قول أشهب باشتراط الملك وبعض الحول، تجب الزكاة. ولَوْ تَلِفَ الْمُقْتَضَى ثُمَّ حَالَ حَوْلُهَا، فَقَوْلانِ كَالْفَائِدَتَيْنِ [121/أ] كما لو اقتضى عشرة حال حولها، واستفاد عشرة لم يحل حولها حتى تلف المقتضى بأن سرق مثلاً، فابن القاسم يسقطها، وأشهب يوجبها. وقوله: (كَالْفَائِدَتَيْنِ) أي: كالمسألة المتقدمة، وهي قوله: فلو ضاعت الأولى أو أنفقها بعد حول، ثم حال حول الثانية ناقصة، والتعليل كالتعليل. وقوله: (تَلِفَ الْمُقْتَضَى) يريد وأحرى لو أنفقه، فنبه بالأخف على الأشد. ثُمَّ إِنِ اِقْتَضَى مَا يَكْمُلُ بِهِ إِحْدَاهُمَا، زَكَّاهُمَا، وفِي تَزْكِيَةِ مَا لا يَكْمُلُ بِهِ الْقَوْلانِ يعني: لو كان المقتضى آخراً تكمل به الفائدة نصاباً ولا يكمل به الاقتضاء الأول، أو بالعكس، زكاهما؛ أي: اللذين يكمل منهما النصاب. مثال الأولى: أن يقتضي أولاً خمسة عشر ثم يستفيد عشرة، ثم تهلك الخمسة عشر المقتضاة أولاً أو ينفقها، ثم يقتضي خمسة، فالمقتضى ثانياً يكمل النصاب المقتضى أولاً ولا يكمل الفائدة، فيزكي الاقتضاءين. ومثال الثانية: أن يكون الاقتضاء أولاً عشرة والفائدة خمسة عشر، والاقتضاء الأخير خمسة، فيزكي الفائدة مع الاقتضاء الأخير. وقوله: (وفِي تَزْكِيَةِ مَا لا يَكْمُلُ بِهِ الْقَوْلانِ) أي: الفائدة في الصورة الأولى، والاقتضاء في الصورة الثانية. والألف واللام في القولين للعهد، أي: قول ابن القاسم وأشهب: هل يشترط الاجتماع في الملك وكل الحول، أو في الملك وبعض الحول؟ فعلى

قول ابن القاسم: لا تجب الزكاة في الفائدة في الصورة الأولى، والاقتضاء في الثانية؛ لعدم الاجتماع في الملك وكل الحول. وعلى قول أشهب: يزكيهما؛ لأنه إنما يشترط الاجتماع في الملك وبعض الحول وقد حصل ذلك، ويحتمل أن يريد بالقول في أن خليط الخليط هل هو كالخليط أو لا؟ ويرجحه قرب هذين القولين؛ لكن الظاهر الأول؛ لأن وجوب الزكاة في الفائدة في المثال الأول إنما يتم إذا بنينا على أن خليط الخليط كالخليط، وعلى الاكتفاء في الملك وبعض الحول. والله أعلم. وإِنْ كَمُلَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، زَكَّى الْجَمِيعَ أي: وإن كمل باقتضاء الأخير كل واحد من الاقتضاء الأول والفائدة، زكى الفائدة والاقتضاءين، إذ الاقتضاء الثاني اجتمع مع كل واحد من الاقتضاء الأول والفائدة في الملك والحول. وبهذا يعلم أن المقتضى أولاً لا فرق فيه بين أن يضيع أو ينفقه، بخلاف الفوائد، والفرق بينهما ما قلناه من اجتماع الاقتضاءين هنا في الملك والحول، ومثاله: لو اقتضى عشرة ثم استفاد عشرة، فأنفق المقتضى أولاً أو ضاع ثم اقتضى عشرة، زكى الجميع. أي: الثلاثين. وَالْعَرَضُ الْمَمْلُوكُ بمُعَاوَضَةٍ بِنِيَّةِ التَّجَارَةِ إِنْ كَانَ أَصْلُهُ بِيَدِهِ عَيْناً أَوْ عَرْضاً للِتِّجَارَةِ وَرَصَدَ بِهِ السُّوق وَبِيعَ بالْعَيْنِ، فَكَالدَّيْنِ .. هذا شروع في زكاة العروض، ولا اختلاف في سقوط الزكاة عن عرض القنية. ابن بشير: وقد فهمته الأئمة من قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم زكاة في فرسه وعبده". وأما عروض التجارة، فالزكاة تتعلق بها عند الجمهور خلافاً للظاهرية. والتجارة قسمان: إدارة، واحتكار. وبدأ المصنف بالاحتكار، وشرط في تعلق الزكاة بعرض الاحتكار خمسة شروط:

الأول: أن يملك بمعاوضة، فلا زكاة في عرض الميراث والهبة. ثانيها: أن ينوي به التجارة، واحترز به من عدم نيتها، سواء نوى القنية أو لم ينو شيئاً، فإن الأصل فيه القنية. ثالثها: أن يكون أصل هذا العرض المحتكر إما عيناً أو عرض تجارة، فلو كان أصله عرض قنية، استقبل بثمنه. رابعها: أن يرصد به السوق، وهو أن يمسكه إلى أن يجد فيه ربحاً جيداً، احترازاً من المدير، فإنه لا يرصد الأسواق بل يكتفي بالربح القليل، وربما باع بغير ربح. خامسها: أن يباع بعين، فلو باعه بعرض، فلا زكاة. وقوله: (فَكَالدَّيْنِ) أي: فيزكيه لحوله أو أحواله زكاة واحدة، وهو جواب الشرط، والشرط وجوابه خبر المبتدأ، وهو العرض. والْقَمْحُ ونَحْوُهُ عَرْضٌ، بِخِلافِ نِصَابِ الْمَاشِيَةِ نحوه جميع الحبوب والثمار التي تتعلق بعينها الزكاة، وخص هذا النوع بالذكر- وإن كان من العرض- لأنه لما كانت الزكاة تتعلق بعينه قد يوهم ذلك خروجه من العروض. وقوله: (بِخِلافِ نِصَابِ الْمَاشِيَةِ) يعني: أن الماشية إذا قصرت عن نصاب فكالعروض، وإن كانت نصاباً زكيت من جنسها؛ لأن زكاتها من جنسها أصل فلا يعدل عنه. فَإِنْ نَوَى الْغَلَّةَ فَفِي ثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ قَوْلانِ يعني: فإن نوى بالعرض عند شرائحه أن يستغله، كما لو نوى إكراءه. وقوله: (فَفِي ثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ قَوْلانِ) أحدهما: سقوط الزكاة، وهو المشهور، وهو الذي رجع إليه مالك، وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب؛ لأن الغلة [121/ ب] موجودة في عرض القنية.

والقول بالوجوب هو قول مالك الأول، وبه أخذ ابن نافع؛ لأن الغلة نوع من التجارة، ولعل سبب الخلاف هل نية الغلة كالتجارة أم لا؟ فَإِنْ نَوَى التِّجَارَةَ والْقُنْيَةَ، فَقَوْلانِ يعني: فإن اشترى عرضاً ينوي الانتفاع بعينه، وهي القنية، وإن وجد ربحاً باعه، وهو التجارة، فهل ترجح نية القنية لأنها الأصل في العروض، أو ترجح نية التجارة احتياطاً للفقراء؟ ورجح اللخمي وابن يونس القول بالوجوب، وقاسه ابن يونس على قول مالك فيمن تمتع وله أهل بمكة وأهل بغيرها أنه يهدي احتياطاً. فَإِنْ نَوَى الْغَلَّةَ والتِّجَارَةَ أَوِ الْقِنْيَةَ، احْتَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الأَوْلَوِيَّة فِيهِمَا يعني: فإن نوى الغلة مع التجارة أو الغلة مع القنية، فإن في مجموع المسألتين قولين. وليس المعنى أن في كل واحدة قولين كما قال ابن عبد السلام؛ لما سيأتي. وقوله: (الْقَوْلَيْنِ) يحتمل أن يريد المتقدمين فيما إذا نوى التجارة والقنية، ويحتمل أن يريد القولين المتقدمين فيما إذا نوى الغلة فقط. وبيان الأولوية التي أشار إليها المصنف على الاحتمال الأول أن يقال: إذا قيل فيما إذا نوى القنية والتجارة بسقوط الزكاة تغليباً لنية القنية، فلأن يقال بسقوطها فيما إذا نوى الغلة والقنية من باب أولى، إذ الغلة أقرب إلى القنية من التجارة في سقوط الزكاة، وهذا بيان أحد القولين في إحدى الصورتين. وتقرير الأولوية في الصورة الأخرى أن يقال: إذا قيل بوجوب الزكاة فيما إذا نوى القنية والتجارة، فلأن تجب فيما إذا نوى الغلة والتجارة من باب أولى، إذ الغلة أقرب إلى التجارة من القنية في وجوب الزكاة.

وأما بيان الأولوية على الاحتمال الثاني، يعني أولوية القولين فيما إذا نوى الغلة في مسألة نية القنية والغلة، ونية التجارة والغلة على المعنى المتقدم، فهذا الذي يؤخذ من كلام ابن بشير فإنه قال: فإن نوى القنية والغلة، فعلى قول من يسقط الزكاة من المغتل يسقطها هنا، وعلى قول من يوجبها يجتمع موجب ومسقط، فقد يختلف قوله إلا أن يراعي الخلاف. وإن نوى الغلة والتجارة، فعلى مذهب من يزكي المغهتل تجب هنا بلا شك، وعلى مذهب من لا يزكيه يجتمع موجب ومسقط، فقد يختلف فيه إلا أن يراعي الخلاف فيوجب. انتهى. وإنما قلنا أن الأولوية إنما هي في مجموع المسألتين لا في كل مسألة بانفرادها؛ لأنه لا يمكن بيان أولوية القولين في كل من المسألتين؛ لأنها لا تخلو إما أن تجعل (أل) عائدة على القولين فيما إذا نوى التجارة والقنية، أو نوى الغلة فقط، والأول غير مستقيم؛ لأنه لا يصح أن يقال: إذا قلنا بالوجوب في نية القنية والتجارة، فلأن نقول به في مسألة القنية والغلة من باب الأولى؛ لأن الغلة أقرب إلى القنية في سقوط الزكاة. وكذلك لا يمكن أن يقال: إذا قلنا بالسقوط في القنية والتجارة، أن نقول به في مسألة الغلة والتجارة؛ لأن الغلة أقرب إلى التجارة في وجوب الزكاة. والثاني: أن بيان الأولوية من مسألة الغلة لا يصح أيضاً، وهو ظاهر لمن تأمله. ولم يحك اللخمي في مسألة من نوى القنية والغلة خلافاً في أن الزكاة تسقط، وحكى في مسألة من نوى الغلة والتجارة قولين: وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيئْاً، فَكَنِيَّةِ الْقُنْيَةِ قوله: (وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيئْاً) أي: لم ينو القنية ولا التجارة، وإنما كان كنية القنية؛ لأن القنية هي الأصل.

فَإِنْ كَانَ بمُعَاوَضَةٍ للِتِّجَارَةِ بعَرْضِ الْقُنْيَةِ، فَقَوْلانِ الباء في (بعَرْضِ) تتعلق بمعاوضة؛ يعني: فإن كان عنده عرض قنية فباعه بعرض ينوي به التجارة ثم باعه، ففي ثمنه إذا بيع قولان: قيل: يزكى لحول أصله، وهو المشهور وقيل: يستقبل به حولاً، بناء على أن الثمن هل يعطى حكم أصله الثاني فيزكى، أو أصله الأول فلا زكاة لأنه عرض قنية. وَالنِّيَّة تَنْقُلُ عَرْضَ التِّجَارَةِ إِلَى الْقُنْيَةِ وَلا تَنْقُلُ عَرْضَ الْقُنْيَةِ إِلَى التِّجَارَةِ لأن النية لما كانت سبباً ضعيفاً نقلت إلى الأصل ولم تنقل عنه، كالقصر في الصلاة لا ينتقل إليه بالنية، بخلاف الإتمام فإنه يكتفي فيه بنية الإقامة، وذكر ابن الجلاب رواية بعدم النقل في المسألة الأولى وأنه يزكي الثمن، وذكر في الجواهر في الثانية قولاً آخر بانتقال عرض القنية إلى التجارة بالنية، وعلى هذا فما ذكره المصنف هو المشهور في المسألتين. إِلا أَنْ يَكُونَ أولاً بمُعَاوَضَةٍ للِتِّجَارَة، فَقَوْلانِ هذا الاستثناء عائد إلى قوله: (ولا تنقل عرض القنية إلى التجارة) أي: أن النية لا تنقل عرض القنية للتجارة، إلا أن يكون هذا العرض المقتنى الذي نوى به التجارة ملكه أولاً، أي: قبل نية الاقتناء بمعاوضة على نية التجارة، ثم بنى على أن نية الاقتناء المتوسطة نسخت النية الأولى أم لا. فعلى النسخ لا تنقل، وهو قول ابن القاسم ومالك، والقول بالانتقال إلى التجارة [122/ أ] لأشهب. والله أعلم. وأَمَّا عَرْضُ الْمِيرَاثِ والْهِبَةِ ودَيْنُهُمَا، فَلا زَكَاةَ فِيهِمَا إِلا بَعْدَ حَوْلٍ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ عَيْناً بِيَدِهِ، ولَوْ نَوَى بهِ التِّجَارَةَ ... يعني: إذا ورث عرضاً أو وهب له، أو ورث ديناً أو وهب له، فلا زكاة عليه في شيء من ذلك، بل يستقبل به حولاً بعد قبضه.

وقوله: (فِيهِمَا) أي: في كل واحد منهما، ولذلك أفرد الضمير في صيرورته. وقوله: (عَيْناً) احترازاً مما إذا قبضه عرضاً، فإنه لا زكاة عليه فيه، وقوله: (بِيَدِهِ) احترازاً مما إذا داينه هذا الوارث أو الموهوب له لشخص وقبضه ذلك الشخص، فإنه لا زكاة عليه إلا بعد أن يصير بيده ويستقبل به حولاً. وقوله: (ولَوْ نَوَى بهِ التِّجَارَةَ) مبالغة، وهو ظاهر؛ لأن عرض القنية لا ينقل بالنية إلى التجارة. وَعَبْدُ التِّجَارَةِ يُكَاتَبُ فَيَعْجِزُ فَيُبَاعُ، مِثْلُهُ لَوْ لَمْ يُكَاتَبْ يعني: لو اشترى عبداً للتجارة وكاتبه ثم عجز، فإنه مثل عبد التجارة الذي لم يكاتب، فإذا بيع زكى ثمنه لحول أصله. ابن عبد السلام- بعد كلام المصنف-: يعني أن الكتابة كالاستغلال، وعجزه عنها ليس باستئناف ملك، لكن اختلف الشيوخ في العبد المأذون له في التجارة إذا كوتب ثم عجز، هل يعود بعد عجزه مأذوناً، أو يعود محجوراً عليه، أو يعود منتزع المال؟ والأول من هذه الأقوال هو الذي يشبه الحكم في الفرع الذي ذكره المؤلف. انتهى. وإِنْ لَمْ يُرصَدْ وكَانَ مُدَاراً، فَالزَّكَاةُ بِالتَّقْوِيمِ كُلَّ عَامٍ إِنْ نَضَّ فِيهِ شَيْءُ، ولَوْ دِرْهَمُ فِي أَوَّلِهِ، ولَوْ زَادَ بَعْدُ، بِخِلافِ حُلِيِّ التَّحَرِّي، ثُمَّ يُوْجَدُ أكثَرُ ... هذا هو القسم الثاني من التجارة وهو الإدارة. وقوله: (وكَانَ مُدَاراً) زيادة بيان، إذ الكلام في عرض التجارة، وهو إذا لم يرصد به السوق يلزم قطعاً أن يكون مداراً، وذلك كأرباب الحوانيت والجالبين للسلع من البلدان. وقوله: (بِالتَّقْوِيمِ) أي: يقومه ليخرج الزكاة عن قيمته، لكن بشرط أن ينض من أثمان العروض شيء ما. وقال ابن حبيب: لا يشترط النضوض، ورواه مطرف عن مالك – وسيأتي هذا القول من كلام المصنف- وهل يعتبر أن ينض له نصاب؟ المشهور: لا

يشترط ذلك، خلافاً لأشهب، وعلى المشهور، فالمشهور: لا فرق في ذلك بين أن ينض في أول الحول أو في آخره. وقال عبد الوهاب: يراعى النضوض في آخر الحول؛ لأنه وقت تعلق الزكاة. الباجي: وهو أظهر. قوله: (ولَوْ زَادَ) أي: المعتبر القيمة، ولو زاد ثمن العرض بعد ذلك، بخلاف حلي التحري؛ أي: الحلي المنظوم بالجواهر، إذا بنينا على القول بالتحري فتحريت زنته وزكيت، ثم فصل فوجدت زنته أكثر زكيت الزيادة. والفرق: أن الحلي علم فيه الخطأ قطعاً بخلاف العرض، لجواز أن يكون ذلك لارتفاع المسوق أو جودة بيعه. والله أعلم. ويُضَمُّ الْحُلِيُّ وزْناً مَعَهُ أي: المدير إذا كان يدير سلعاً وحلياً، فإنه يقوم العروض ويزكي الحلي بالوزن. أي: تعتبر الصياغة كما تقدم. فإن ظاهر المدونة عدم اعتبار الصياغة ولو كان مديراً، قاله في المقدمات. تنبيه: وقع في نسخة ابن راشد هنا ما نصه: وقيل لا يزكى حتى ينضَّ مقدار النصاب فيزكيه، ثم مهما نض شيء زكاه. وقال في كلامه عليه: هذا القول حكاه ابن بشير ولم يعزه، وهو شاذ، وحكاه ابن شاس فيما إذا كان مديراً بالعروض ثم وقع النضوض، وسيأتي. انتهى. وَأَوَّلُ الْحَوْلِ أَوَّلُ حَوْلِ نَقْدِهِ لا حِينَ إِدَارَتِهِ، خِلافاً لأَشْهَبَ كما لو ملك ألفاً في المحرم ثم أدار بها عروضاً في رجب، فأول حوله أول حول النقد – وهو المحرم- لا حين إدارته، خلافاً لأشهب. والمدونة ليس فيها التصريح بالأول؛ لأنه قال فيها: ويجعل المدير لنفسه شهراً يقوم فيه. وحملها الباجي على المعنى الذي ذكره المصنف، واللخمي على أنه يجعل له حولاً وسطاً؛ لأنه قال- بعد ذكر لفظ المدونة-: يريد أنه لا يجب عليه أن يقوم عند تمام الحول على أصل المال؛ لأن ما بيده إن كان عرضاً

فلا زكاة فيه. وكذلك إن كان دون النصاب، فلا يؤمر بالتقويم حينئذ؛ لأنه على يقين أنه لم تجب عليه زكاة جميع ذلك، فجاز له أن يؤخر التقويم على رأس الحول؛ لأن في إلزامه التقويم حينئذ ظلماً عليه، ولا يؤخر لحول آخر؛ لأن فيه ظلماً على المساكين، فأمره أن يجعل لنفسه حولاً يكون عدلاً بينه وبين المساكين. انتهى. المازري: ولعمري أن ظاهر الروايات مع شيخنا؛ لأن قوله: ثم يجعل لنفسه شهراً. لا تحسن هذه العبارة في شهر معلوم قد جعله الله للزكاة قبل أن يجعله، هذا وما قاله أبو الوليد أسعد بظاهر الشرع، لقوله: لا زكاةفي مال حتى يحول عليه الحول. فَلَوْ كَانَ مُدَاراً بالْعَرَضِ وَلا يَنِضُّ شَيْءُ، فَالْمَشْهُورُ: لا تَجِبُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ لاخْتِلاطِ [122/ ب] الأَحْوَالِ أَوْ لِصَيْرُورَتِهِ بِالإدَارَة كَالنَّقْدِ ... يعني: لو كان يدير العروض بعضها ببعض ولا يبيع بشيء من العين، فالمشهور عدم التقويم؛ بناء على اشتراط النضوض، والشاذ لابن حبيب. ولمالك من رواية مطرف وابن الماجشون، والأحسن أن يقول: فلو كان مديراً؛ لقوله بالعرض. وقوله: (بنَاءً) أي: سبب الخلاف هل كان الحكم بتقويم المدير أولاً في زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لما أمر من يبيع الجلود به لأجل اختلاط الأحوال عليه فيما يحصل له من النقد، فلا يزكى هذا إذ لا نقد، أو لأن العروض في حقه كالعين فيزكى. فاسم (كان) عائد على التقويم، والضمير في صيرورته عائد على العرض. وعَلَى الْوُجُوبِ فِي إِخْرَاجِ الْعَرَضِ قَوْلانِ هذا تفريغ على الشاذ. فقيل: يجوز له أن يخرج عرضاً، وهو القياس على هذا القول؛ لأن العرض صار في حقه كالعين، وهو قول مالك في رواية ابن نافع. وقيل: لابد من

إخراج العين رعياً للأصل؛ لئلا يبعد عنه بالكلية، وهو قول سحنون. وحكاه عبد الوهاب عن مالك أيضاً. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ نَضَّ شَيْءُ بَعْدَ الْحَوْلِ، قُوِّمَ الْجَمِيعُ حِينَئذٍ وَكَانَ أَوَّلَ حَوْلِهِ وَأُلْغِىَ الزَّائِدُ ... أي: وعلى سقوط التقويم إذا لم ينض له شيء، لو نض بعد الحول بستة أشهر مثلاً، فإنه يقوم حينئذ وانتقل حوله من ذلك الوقت وألغي الزائد على الحول. فرع: إذا قلنا بالمشهور أنه لا تجب الزكاة إلا بالنضوض، وأنها لا تجب إذا باع العرض بالعرض، فهل يخرج بيع العرض بالعرض عن حكم الإدارة؟ قال في الجواهر: لا يخرجه ذلك. وروى أشهب وابن نافع: أنه يخرج بذلك عن حكمها. وفهم صاحب الجواهر أن مقتضى هذا القول إلغاء الزائد إذا نض له شيء كالمشهور. ابن راشد: وفيه نظر. والذي حكاه ابن يونس واللخمي عن أشهب: أنه لا يقوم حتى يمضي له حول من يوم بيعه بذلك النقد. انتهى. وَفِي جَعْل الْبَوَارِ فِي عَرَضِ الإِدَارَةِ كَالنِّيَّةِ فِي نَقْلِهِ إِلَى حُكْمِ التِّجَارَةِ طَرِيقَانِ؛ الأُولَى: قَوْلانِ. الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ بَارَ الأَقَلُّ، فَقَوْلانِ ... يعني: إذا كسرت سلع المدير فلم يبعها فانتظر سوقها لذلك، فهل ينتقل إلى الاحتكار أو لا؟ طريقان. واعلم أنه لو نوى الاحتكار انتقل إليه؛ لأنه أقرب إلى الأصل. اللخمي: واختلف فيما بار، فقال ابن القاسم: يقوم ذلك. وقال ابن نافع وسحنون: لا يقوم، وهذا إذا بار الأقل، فإن بار النصف لم يقوم اتفاقاً. وقال ابن بشير: بل الخلاف مطلقاً بناء على أن الحكم للنية؛ لأنه لو وجد ربحاً ما لباع، أو للموجود وهو الاحتكار.

وطريق ابن بشير هي الطريق الأولى في كلام المصنف، وذكر ابن شاس أن قول ابن القاسم هو النص في المذهب، ثم ذكر قول ابن الماجشون وسحنون. وفِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ بِالْعَادَة ِأَوْ بِعَامَيْنِ قَوْلانِ أي: مدة البوار. والقول بالعادة لابن الماجشون، وهو الأظهر. والقول بعامين لسحنون وابن نافع وَإِذَا اجْتَمَعَ نَوْعَا الْعُرُوضِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فَعَلَى حُكْمَيهِمَا، وإِلا فَثَالِثُهَا يَتْبَعُ الأَقَلُّ الأَكْثَرَ إِنْ كَانَ أَحْوَطَ ... يريد بـ (نوعي العروض) أن يكون بعضها إدارة وبعضها احتكاراً، ثم إن تساويا فكل واحد على حكمه، فالمدار يقوم كل عام، والمحتكر يزكى لعام واحد بعد البيع. ابن بشير: ولا خلاف في ذلك. ونقل غيره قولاً بإعطاء الجميع حكم الإدارة مطلقاً، وهو تأويل ابن لبابة على المدونة، فإن كان أحدهما أكثر، فهل يتبع الأقل الأكثر أو لا يتبعه ويكون كل منهما على حكمه، أو يفرق، فيقال بالتبعية إن كانت أحوط للفقراء- أي: إن كان المدار أكثر- وبعدمها إن كان المحتكر أكثر، ثلاثة أقوال: والقول الألو: لابن الماجشون. والثاني: له أيضاً. ولمطرف قال في البيان: والثالث لابن القاسم وعيسى بن دينار في العتيبة. ابن رشد: وقد تأول ابن لبابة ما في المدونة على أنهما يزكيان جميعاً على الإدارة، كان الذي يدار هو الأقل أو الأكثر، وهو ظاهر ما في سماع أصبغ. انتهى. ونقل ابن يونس عن أصبغ: أنه يزكى الجميع للإدارة، وإن أدار نصفه أو ثلثه، إذا نوى في الباقي كذلك، وإن عزم ألا يدخله في الإدارة، فلا يزكيه حتى يبيع. قال: ولا معنى له. قال: وقول ابن الماجشون أعدل، وقول ابن القاسم أحوط.

وَلا يُقَوِّمُ الْمُدِيرُ مَاشِيَةَ التِّجَارَة ِويُزَكِّي رِقَابَهَا بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ يَوْمِ شِرَائِهَا، إِلا أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَهُ أَوْ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، فَيُزَكّي الثَّمَنَ لأَوَّلِ حَوْلِهِ ... يعني: إن [123/ أ] كان ما يديره نصاب ماشية، فإنه لا يقومها ويزكي رقابها؛ لأنه الأصل فلا يعدل عنه إلى غيره، وكذلك ثمرة الحوائط، فإن لم يكن فيها نصاب قومها كسائر سلعه. وقوله: (إِلا أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَهُ ..) إلى آخره. أي: قبل الحول أو قبل مجيء الساعي، فيزكي الثمن إذا مضى لأصله حول. ودَيْنُ الْمُدِيرِ إِنْ كَانَ للنَّمَاءِ مَرْجُوّاً، فَالْمَشْهُورُ كَسِلْعَةٍ لا كَالدَّيْنِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ إنْ كَان نَقْداً حَالاً زَكَّى عَدَدَهُ، وإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً زَكَّى قِيمَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ ... احترز بـ (النماء) من القرض، وسيأتي. وبـ (المرجو) مما على معدم، فإنه كالعدم على المشهور، خلافاً لابن حبيب في قوله: إنه يزكي قيمته. وقوله: (فَالْمَشْهُورُ كَسِلْعَةٍ) أي: من سلع الإدارة فيزكيه كل عام. ومقابل المشهور للمغيرة بأنه يزكيه كالدين بالنسبة إلى غير المدين، فيزكيه لحوله أو أحواله زكاة واحدة. وعلى المشهور: من أن يزكي كل عام، إن كان نقداً حالاً يزكي عدده. ابن راشد: وقيل يزكي قيمته كالمؤجل. انتهى. واحترز بـ (النقد) من العرض، وسيأتي. وأما المؤجل: فقال ابن بشير وغيره كالمصنف: أنه إنما يزكي قيمته على المشهور، خلافاً لابن حبيب في قوله: إنه يزكي عدده كالحال. وقال عياض: ظاهر المدونة تقويم جميع ما يرجى قضاؤه من الديون، وعلى هذا اختصرها أكثر المختصرين، ولم يفرقوا بين الحال وغيره، خلافاً لابن القاسم في رواية محمد وسماع أبي زيد. انتهى.

وكيفية تقويمه: أن يقوم بعرض، ثم العرض بنقد حالِّ؛ لأن الدين لا يقوم إلا بما يباع به، ومثاله: لو كان دينه ألف درهم، فيقال: لو بيع هذا الدين بقمح لبيع بمائة إردب، والمائة تساوي تسعمائة، فتخرج الزكاة عنها. ابن عبد السلام: وفي هذا الكلام لبس؛ لأنه ينبغي أن يكون المثبت والمنفي من باب واحد، وأيضاً فتشبيهه بسلع الإدارة يقتضي أنه يزكي زكاتها فيقوم مطلقاً. والمصنف قال: كسلعة ويزكى عدده. انتهى. وفيه نظر. أما قوله: (ينبغي أن يكون المثبت والمنفي من باب واحد) فممنوع، فإن العلماء يشبهون مسألة من باب بأخرى وهي في باب آخر وليقيد الشاذ. وأما قوله: (وأيضاً فتشبيهه) إلى آخره. قلنا: التشبيه في الزكاة لا في كيفيتها. وَفِي تَقْوِيمِ طَعَامٍ مَنْ بِيعٍ قَوْلانِ القول بالتقويم لأبي بكر بن عبد الرحمن، وهو الظاهر، وصوبه ابن يونس وغيره، ورأى في القول الآخر أن ذلك تقدير بيع وهو ممتنع، وهو قول الإبياني وفيه نظر؛ ٍلأنا نقوم أم الولد إذا قتلت، وكذلك الكلب وغيرهما. وإِنْ كَانَ لِغَيْرِ النَّمَاءِ كَالسَّلَفِ، فَطَريِقَانِ كَالدَّيْنِ، وقَوْلانِ عزا ابن بشير الطريقين للمتأخرين. عياض: وظاهر المدونة أن المدير يزكي جميع ديونه من قرض أو غيره. وعلى هذا حمل المسألة شيخنا القاضي أبو الوليد. وقال الباجي: لا خلاف في القرض أنه لا يزكى. وخرج اللخمي فيه خلافاً. انتهى. ونَصُّ اللخمي: ويختلف فيما أقرضه من مال الإدارة، فقال ابن حبيب: لا زكاة على المدير فيما أقرضه من مال الإدارة، يريد لأنه خرج به عن التجارة، وعلى أصل ابن القاسم: يزكيه إذا كان القرض أقل ماله. انتهى. وكلامه ظاهر التصور.

فرع: فإن أخر المدير ما أقرضه فراراً من الزكاة، فإنه يزكيه لكل سنة اتفاقاً، قاله عبد الحق في تهذيبه. ولا زَكَاة َعَلَى الْعَبْدِ وَشِبْههِ؛ لأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ كَامِلٍ، ولا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لأَنَّهُ إنْمَاءُ مِلْكٍ أَنْ يَمْلِكَ ... شبه العبد: كل من فيه عقد حرية. وقوله: (غَيْرُ كَامِلٍ) أي: من جهة أنه لا يتصرف فيه التصرف التام. وليس المراد بعدم الكمال كون السيد قادراً على انتزاع ماله – كما قال ابن عبد السلام- لعدم شمول العلة حينئذٍ المكاتب ومن في معناه ممن ليس للسيد انتزاع ماله، ولم يرد المصنف إجراء الخلاف بقوله: (لأَنَّهُ إنْمَاءُ مِلْكٍ أَنْ يَمْلِكَ) فإنه لا خلاف أنه لا تجب عليه، وإنما قصد بيان نقص ملك السيد، قاله ابن عبد السلام. وقال ابن راشد: كثيراً ما يجري ابن بشير وغيره خلافاً فيمن ملك أن يملك، هل يعد مالكاً أم لا؟ ويلزم القائل بأنه يعد مالكاً أن يقول بوجوب الزكاة هنا على السيد. فَإِنْ أُعْتِقَ اسْتَقْبَلَ حَوْلاً بالنَّقْدِ والْمَاشِيَةِ، كَمَا لَو انْتَزَعَهُ سَيِّدُهُ هذا ظاهر إذا مِلكُ العبد في العتق، والسيدُ في الانتزاع، إنما تَحقق بعد العتق والانتزاع، فيستقبل كل منهما حولاً؛ لأنه فائدة. ابن راشد: ويمكن أن يجري قول بالزكاة فيما إذا عتق العبد. ومسألة من عنده مائة لا يملك غيرها وعليه مائة فحال عليه الحول فوهبها له ربها، فقد قيل بوجوب الزكاة؛ لأن العيب كشف أن المانع من زكاتها ليس بمانع. انتهى. وأَمَّا غَيْرُهُمَا، فَعَلَى الْخِلافِ فِيمَا تَجِبُ بِهِ مِنَ الطِّيبِ، أَوِ الْيُبْسِ، أَوِ الْجُذَاذِ أي: وأما غير النقد والماشية- وهو الحب والثمار- فإن أعتق قبل الوجوب زكى، وإلا استقبل. وسيأتي الخلاف المذكور في [123/ ب] بابه إن شاء الله.

وتَجِبُ فِي مَالِ الأَطْفَالِ والْمَجَانِينِ اتِّفَاقاً عَيْناً، أَوْ حَرْثاً، أَوْ مَاشِيَةً لما في الوطأ عن عمر- رضي الله عنه-: اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة. وعن عائشة- رضي الله عنها-: أنها كانت تخرج الزكاة من مال يتيمين في حجرها. وصرح بالاتفاق لعدم صحة تخريج اللخمي، وإلا لقال على المنصوص. وتَخْرِيجُ اللَّخْمِيِّ النَّقْد الْمَتْرُوك عَلَى الْمَعْجُوزِ عَنْ إِنْمَائِهِ ضَعِيفٌ يعني: أن أموال اليتامى إن كانت تنمو بنفسها كالحرث والماشية، أو كان نقداً ينمو بالتجارة، وجبت فيه الزكاة ولا تخريج فيه. وإن كان نقداً غير منمَّى، فالمذهب وجوب الزكاة فيه أيضاً. وخرج اللخمي خلافاً من مسائل وهي: ما إذا سقط المال منه ثم وجده بعد أعوام، أو دفنه فنسي موضعه، أو ورث مالاً فلم يعلم به إلا بعد أعوام، فقد اختلف في هؤلاء هل يزكون لسنة واحدة، أو لجميع الأعوام، أو يستأنفون الحول. ورده ابن بشير بما حاصله أن العجز في مسألة الصغير من قبل المالك خاصة مع التمكن من التصرف، والعجز في هذه المسائل من جهة المملوك وهو المال، فلا يمكن التصرف فيه ألبتة. ويلزم اللخمي على تخريجه إسقاط الزكاة عن مال الرشيد العاجز عن التنمية، وإليه أشار بقوله: (ضَعِيفُ). ولا زَكَاةَ عَلَى الْمِدْيَانِ بِعَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ حَالِّ أَوْ مُؤَجَّل فِي الْعَيْن الْحَوْلِيِّ، بخِلافِ الْمَعْدِنِ والْمَاشِيَةِ والْحَرْثِ، ولَوْ كَانَ الدَّيْنُ مِثلَ صِفَتِهاَ ... لم تجب الزكاة على المديان لعدم كمال ملكه؛ إذ هو بصدد الانتزاع، ولكونه غير كامل التصرف كالعبد، ولما في الوطأ عن عثمان رضي الله عنه أن الدين يسقط الزكاة. قال صاحب اللباب: وقال ذلك بمحضر الصحابة- رضي الله عنهم- ولم ينكر عليه أحد.

وقوله: (بِعَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ) متعلق بالمديان؛ يعني: أن الدين المسقط للزكاة لا تبال به على أي حال كان، سواء كان عيناً أو عرضاً، حالاً أو مؤجلاً. وأخرج بـ (الْحَوْلِيِّ) المعدن، فإنه ملحق بالحرث، والفرق بين الحولية وغيرها، أن الحرث، والمعدن، والماشية من الأموال الظاهرة، وزكاتها موكولة إلى الأئمة يأخذونها قهراً. ومن شأن النفوس كراهية ما يؤخذ منها قهراً. فلو قلنا: إن الدين يسقط الزكاة عن الحرث والماشية، لعمل الناس الحيل في إسقاط المأخوذ على هذا الوجه، بخلاف العين فإنها تخفي وزكاتها موكولة إلى أمانة أربابها. وقوله: (ولَوْ كَانَ الدَّيْنُ مِثلَ صِفَتِهاَ) مبالغة؛ أي: أن الدين لا يسقط الزكاة عن الحرث والماشية ولو كان مديناً بمثلها، كما لو كان عنده أربعون شاة وعليه أربعون. فرع: لو كان عنده عبد وعليه عبد، فقال ابن القاسم: لا تجب عليه فيه زكاة الفطر. وقال أشهب: تجب. ولِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ والأَسِيرِ؛ لإِمْكَانِ دَيْنٍ أَوْ مَوْتٍ أي: ولأجل أن الدين يسقط الزكاة لا تجب الزكاة في مال المفقود والأسير؛ لاحتمال طروء دين عليهما. وقوله: (فِي مَالِ الْمَفْقُودِ والأَسِيرِ). يحتمل أن يريد بالمال العين؛ لأنها هي التي تقدم إسقاط الزكاة عنها، ويحتمل العموم وهو ظاهر لفظه، لكن يلزم عليه مخالفة النقل؛ إذ الزكاة إنما تسقط عن عينها، وأما ماشيتهما وزرعهما فيزكيان، قاله أبو القاسم في المجموعة هكذا نقل صاحب النوادر واللخمي وغيرهما.

اللخمي: فحمل أمرهما على الحياة فزكى ما كان النماء موجوداً فيه، وهو الماشية والحرث، وأسقطها من العين؛ لأنهما غلبا على تنميته. ولو حمل أمرهما على الوفاة لم يزكِ عينهما من ذلك؛ لإمكان أن يقع لكل وارث دون النصاب. انتهى. وعلى هذا فقول المصنف: (أَوْ مَوْتٍ). ليس كما ينبغي؛ لأنه إن أراد (أو موت) بالنسبة إلى عينهما، فقوله: (لِإمْكَانِ دَيْنٍ). يغني عنه، وإن أراد بالنسبة إلى جميع أموالهما، فهو خلاف النقل. والله أعلم. وفِي دَيْنِ الزَّكَاةِ قَوْلانِ القول بأن دين الزكاة كسائر الديون يسقط الزكاة عن العين الحولي لابن القاسم في المدونة، وهو المشهور. والقول بأنه لا يسقط لابن حبيب، ووجهه ضعف هذا الدين؛ لأن طالبه غير معين. فلو اجتمع عليه دين من الزكاة مائتان ولم يكن عنده غيرهما، فعلى المشهور يخرج المائتين ولا يبقى في ذمته شيء، وعلى القول الآخر يخرج أولاً خمسة، ثم يخرج الباقي ويبقى في ذمته خمسة. ولابن القاسم قول آخر في دين الزكاة: أنه أقوى من سائر الديون؛ لأنه جعله يسقط الزكاة. ولو كان له عرض يجعل فيه مثل مذهب ابن عبد الحكم في دين الآدميين. وعَلَيْهِمَا لَوْ أَخَّرَ زَكَاةَ نِصَابٍ فَصَارَ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعِينَ، ورَوَى أَشْهَبُ وابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَسْتَقْبلُ بالرِّبْحِ كُلِّهِ، وهُوَ غَرِيبُ ... أي: القولين في دين الزكاة، لو كان عنده عشرون ديناً حال حولها فلم [124/ أ] يخرج زكاتها واشترى بها سلعة باعها في الحول الثاني بأربعين. فعلى الإسقاط يخرج نصفاً عن العشرين الأولى، ثم يخرج عن تسعة وثلاثين، ونصف للعام الثاني، إلا أن يكون عنده عرض يساوي نصف دينار فيزكي الأربعين.

وعلى عدم الإسقاط يخرج عن ستين، وإن لم يكن عنده عرض. وروى أشهب وابن عبد الحكم: أنه يزكي عشرين للعام الأول، وعشرين للعام الثاني ويستقبل بالربح، وهذه المسألة هي المشار إليها في الربح بقوله: وروي في مسألة ما لو أخر خاصة كالفوائد. فرع: إذا كان عليه دين من كفارة لم تسقط الزكاة بلا خلاف أعلمه في المذهب. والفرق بينه وبين دين الزكاة، أن دين الزكاة تتوجه المطالبة به من الإمام العادل، وإن منعها أهل بلد قاتلهم عليها. والله أعلم. وفِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يُقْضَ بِهَا قَوْلانِ، بِخِلافِ الزَّوْجَةِ. وفِي نَفَقَةِ الأَبَوَيْنِ إِنْ قُضِيَ بِهَا قَوْلاَنِ. والإِسْقَاطُ بِهِ لأَشْهَبَ ... حاصله: أن النفقة بالنسبة إلى إسقاط الزكاة ثلاثة أقسام: الأول: نفقة الولد إن قضي بها؛ أي حكم بها حاكم أسقطت، وإن لم يقض بها، فمذهب المدونة وابن حبيب أنها لا تسقط؛ لأن العادة جرت بالمسامحة فيه بخلاف غيره. وقال أشهب: تسقط. ابن المواز: وبه أقول. وقيد بعض القرويين قول ابن القاسم في المدونة في الولد بما إذا كانت نفقته قد سقطت عنه ليسر حدث له ثم ذهب فرجعت النفقة عليه. فأما إذا لم يتقدم للولد يسر قط، فالأمر كما قال أشهب أن النفقة تسقط الزكاة؛ لأنها لم تزل واجبة كنفقة الزوجة التي لم تزل. عبد الحق: فقول أشهب على هذا التأويل ليس بخلاف، وإنما تكلم على وجه لم يتكلم عليه ابن القاسم، وهندي أن قول أشهب خلاف، فلا فرق على قول ابن القاسم بين أن يتقدم للولد يسر أو لا. انتهى. ونقل اللخمي عن ابن القاسم: أن نفقة الولد والأبوين لا تسقط الزكاة، وإن كانت بفريضة من القاضي.

القسم الثاني: نفقة الزوجة؛ وهي تسقط مطلقاً قضي بها أم لا؛ لأنها عوض عن الاستمتاع. وأيضاً فإن نفقة الزوجة إذا عجز الزوج طلقت نفسها عليه إذا شاءت بخلاف الولد والأب. القسم الثالث: نفقة الأبوين- وهي عكس نفقة الولد- إن لم يقض بها لم تسقط اتفاقاً، وإن قضي بها فمذهب المدونة أنها لا تسقط. وقال أشهب: تسقط ابن أبي زيد: ومعنى قول ابن القاسم أن الأبوين أنفقوا من عند أنفسهم، وأما لو أنفقوا واستسلفوا ليرجعوا عليه، لكان ديناً من الديون. وقال ابن محرز: معنى ما في المدونة أن نفقة الوالدين لا تسقط الزكاة إذا كانت بغير قضية أو بقضية وأنفقا بسؤال أو عمل، وأما لو قضي لهما، فقاما بما قضي لهما به عند الحول، لأسقط ذلك الزكاة. قال: وهذا معنى ما عند ابن المواز. انتهى. وقال أبو عمران: معنى ما في الكتاب أنهما لم يقوما بطلبها عند القاضي وأنفقا على أنفسهما من مال وهب لهما أو تحيلا فيه، ولو كانا استلفاه لسقطت به الزكاة. انتهى. وهذه مخالفة لما قال ابن أبي زيد في التحيل، وإنما كانت نفقة الوالدين أخف من نفقة الولد؛ لأن الوالد يسامح ولده أكثر من مسامحة الولد لوالديه. وفرق في المدونة بفرق آخر، فقال: لأن نفقة الأبناء لم تسقط عن الأب المليء مذ كانوا حتى يبلغوا، ونفقة الأبوين كانت ساقة عنه، وإنما تلزمه بالقضاء. وفِي الْمَهْرِ وشَبَهِهِ مِنَ الْمُعْتَادِ بَقَاؤه إِلَى مَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ قَوْلانِ أي: اختلف في الدين الذي جرت العادة بتأخيره إلى موت أو فراق، كمهر الزوجة ودينها في بعض الأحوال، والمشهور الإسقاط، ومقابله لابن حبيب. كذا نقل ابن شاس وابن رشد، وما شهراه هو مذهب المدونة. وقال ابن بزيزة: المشهور أن المشهر غير مسقط اعتباراً بالعادة، من حيث أنها لا تطلبه غالباً إلا وقت المشاحة أو الموت، ولأنها ليست عوضاً محققاً، وفيه نظر؛ لمخالفة ما شهره في المدونة.

وفِيَما يُقْبَضُ أُجْرَةً لِلْمُسْتَقْبَلِ قَوْلانِ أي: وفيما يقبض بعمل يعمله في المستقبل فمضى له حول واستوفى العمل، هل تسقط عنه الزكاة في العام الماضي ويستقبلبه لأنه الآن كما تم ملكه، أو تجب عليه لأنه انكشف أنه كان ملك المال من يوم القبض؟ وكان الأول أقرب إلى قواعد المذهب، ألا ترى أن عند الاختلاف في قبض الأجرة إنما يقضي بدفعها شيئاً فشيئاً إذا لم تكن عادة، ولا يقضي بدفعها للصانع إلا بعد تمام العمل على المشهور. وقال ابن راشد: الثاني أقيس؛ لأن تعذر المنافع أمر متوقع فلا تسقط الزكاة لأجله انتهى. قيل: [124/ ب] وهو الذي يأتي على مذهب المدونة في مسألة هبة الدين، كما سيأتي. فَإِنْ كَانَ عَرَضُ يُبَاعُ مِثْلُهُ فِي دَيْنِهِ كَدَارِهِ، وسِلاحِهِ، وخَاتَمِهِ، وثَوْبَيْ جُمُعَتِهِ إِنْ كَانَت لَهُمَا قِيمَةٌ، بخِلافِ ثِيَابِ جَسَدِهِ وما يَعِيشُ بِهِ الأَيَّامَ هُوَ وأَهْلُهُ، وبِخِلافِ عَبْدٍ آبِقٍ، وكَذلِكَ رِقَابُ مُدَبَّرِيهِ وقِيمَةُ الْكِتَابَةِ، وكَذَلِكَ دَيْنُهُ الْمَرْجُوُّ، فَالْمَشْهُورُ جَعْلُ الدَّيْنِ فِيهِ لا فِي الْعَيْنِ ... (كَانَ) هنا تامة. وقوله: (فَالْمَشْهُورُ) جواب الشرط؛ يعني: أن المديان إذا حصلت عنده عروض تباع عليه في فلسه وعنده من العين نصاب فأكثر، فالمشهور أنه يجعل الدين في ذلك العروض ويزكي العين. والشاذ لابن عبد الحكم: أنه يجعل الدين في العين؛ لأنه الذي لو رفع إلى الحاكم لم يقض له إلا به. وقوله: (يُبَاعُ مِثْلُهُ) احترازاً مما لا يباع في الدين، كثوبي جمعته إذا لم تكن لهما قيمة. ولمالك في الموازية في ثوبي جمعته إذا كان لباس مثلهما سرفاً، بيعا في الدين. وكذلك قيد عبد الوهاب الدار بما إذا كان لها قيمة. قال: وأما إذا كانت قريبة الثمن وكان ذا عيال ولم يكن لها خطب وبال فلا.

وقوله: (بِخِلافِ عَبْدٍ آبِقٍ). أي: أنه يجعل الدين في العرض ما لم يمنع من ذلك مانع له عادي؛ أعني: إذا كان الشيء قليل الثمن كثوبي الجمعة إذا لم تكن لهما قيمة، أو كثياب جسده، أو لمانع شرعي كالعبد الآبق. وما ذكره في الخاتم هو المشهور. وقال أشهب: لا يجعل فيه. وقوله: (وأَهْلُهُ) أي: زوجته وأولاده. وقوله: (الأَيَّامَ) أي: الشهر ونحوه، كما ذكر في باب الفلس. وقوله: (وكَذلِكَ رِقَابُ مُدَبَّرِيهِ ...) إلى آخره. أي: فيجعل الدين في هذه الأشياء، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وعَلَى الْمَشْهُورِ فِي مُرَاعَاةِ حَوْلِ الْعَرَضِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ يعني: وإذا فرعنا على المشهور من أن الدين يجعل في العرض، فهل يشترط في هذا العرض أن يمر له عنده حول أم لا؟ اشترطه ابن القاسم ولم يشترطه أشهب، إلا كونه مملوكاً في آخر الحول. محمد: واختاره ابن القاسم بناء على أن ملك العرض في آخر الحول منشئ لملك العين التي بيده، فلا زكاة عليه فيها، أو كاشف أنه كان مالكاً فيزكي. ويُقَوِّمُ وقْتُ الوُجُوبِ فِيهِمَا يعني: أن العرض في القولين- أي: عليهما – إنما تعتبر قيمته وقت وجوب الزكاة، وهو آخر الحول، وسواء زادت أو نقصت. ومِنْهُ جُعِلَ لابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلانِ أي: من أجل أن المعتبر في قيمة العرض إنما هو وقت الوجوب، أخذ لابن القاسم قول آخر بعدم مراعاة حول العرض، فإن زيادة قيمة العرض في آخر الحول على أوله لم يمر لها حول، فكما لم يشترط مرور الحول عليها كذلك لا يشترط في نفس العروض،

وأصل هذا التخريج لابن المواز، فإنه لما ذكر قول ابن القاسم أشار إلى المناقضة فيه، ورد بأن الزيادة المذكورة مضمومة إلى أصل الحول كما في أصل الحول في الأرباح. واعلم أن هذا التخريج على تقدير صحته لا يحتاج إليه، فإن القولين منصوصان لابن القاسم، نقلهما صاحب الجواهر وابن الجلاب. وعَلَيْهِمَا فِي الْمَوْهُوبِ هُوَ أَوْ مَا يُجْعَلُ فِيهِ قَوْلانِ أي: وعلى القولين في مراعاة حول العرض، اختلف إذا وهب له الدين، وهو معنى قوله: (الْمَوْهُوبِ هُوَ) أو وهب له عرض يجعل فيه الدين. فعلى قول ابن القاسم لا يزكي فيهما خلافاً لأشهب. وأبرز الضمير لصحة العطف؛ لأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل إلا بشرط الفصل. وفِي الرِّبْحِ قَوْلانِ يحتمل أن يريد- والله أعلم- المسألة المتقدمة؛ وهي قوله: (وفي ربح سلف ما لا عوض له عنده). وتقدير كلامه: وفي ربح ما استدانه وليس له عرض يجعل فيه الدين قولان، وقد تقدما وتقدم توجيههما. وقال ابن هارون: يعني: هل يجعل دينه فيه أم لا؟ والقياس أن يجعله؛ لأن حوله حول أصله. والقول بنفي جعله فيه بناء على رواية الاستقبال، أو على القول باشتراط الحول فيما يجعل فيه الدين. أَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ مِائَةُ مُحَرَّمِيِّةٌ، ومِائَةٌ رَجَبيَّةٌ، وعَلَيْهِ مِائَةٌ، فَالْمَشْهُورُ زَكَاةُ مِائَةٍ يعني: لو ملك مائة دينار في المحرم، ومائة دينار في رجب، وعليه مائة، فالمشهور يزكي أولاهما فقط؛ وهي المحرمية. وفي الواضحة: يزكي المائتين؛ لأنه إذا حال حول المحرمية جعل دينه في الرجبية، وإذا حال حول الرجبية جعل دينه في المحرمية، ورد بأنه

لو كان هذا المعنى صحيحاً لوجب مثله في المائتين إذا كان حولهما واحداً وليس كذلك، على أن اللخمي حكى قولاً بأنه يزكي المائتين وإن كان حولهما واحداً، وجعل في المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها الفرق، فإن كان حولهما واحداً زكى مائة، وإلا زكى مائتين. وفي قوله: (زكى مائة) نظر؛ لعدم نصه على أن المراد المائة الأولى، ومراده ما قدمناه. وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ [125/ أ] لثَلاثِ سِنِينَ بسِتِّينَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا بَعْدَ حَوْلٍ، فَرَابعُهَا: يُزَكَّى الْجَمِيعَ ... فرض المسألة في نفسه؛ لأنه لو فرضها في عبده ودابته لكان له شيء يجعله في دينه كله أو بعضه. واستغنى بذكره الرابع عن بقية الأقوال للحصر فيها. فيكون الأول: لا زكاة عليه في الجميع؛ لأن العشرين في السنة الماضية لم يتحقق ملكه لها إلى الآن، والأربعون إلى الآن دين عليه. قال في البيان: وهو الذي يأتي على مذهب مالك في المدونة في الذي وهب له الدين بعد حلول الحول على المال الذي بيده، أو أفاد مالاً، أنه يستقبل. والقول الثاني: عليه زكاة العشرين؛ لأنها تخص العام الأول. قال في المقدمات: وهو الذي يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم، وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في هبة الدين. ابن رشد: والقول الثالث لابن المواز: يزكي مع هذه العشرين تسعة عشر ونصف؛ لأنه إذا أخرج من عشرين نصف دينار بقي معه تسعة وخمسون ونصف، عليه منها أربعون، فتفضل له تسعة عشر ونصف، فيزكيها لسلامتها من الدين. وفي أخذ هذا من كلامه نظر. والله أعلم. قال ابن يونس: والصواب زكاة الجميع.

تنبيه: ما ذكرناه من أنه يزكي على القول الثاني عشرين، وعلى الثالث تسعة وثلاثين ونصف، كذلك قاله جماعة. خليل: وينبغي أن يقول يزكي أكثر من عشرين للسنة الأولى؛ لقرب سلامتها من العقد. كما قالوا: إذا اشترى عروضاً وسمى لكل عرض شيئاً ثم استحق بعضها، فإنهم قالوا: يقوم العروض وتسقط القيمة؛ لاحتمال أن يكون اغتفر بعضها لبعض. والله أعلم. وَلَوْ آجَرَ دَارَهُ كَذَلِكَ، فَخَامِسُهَا: تُقَوَّمُ سَالِمَةً. وَسَادِسُهَا: تُقَوَّمُ مَهْدُومَةً قوله: (كَذَلِكَ) أي: آجرها ثلاث سنين وقبضها ومر حول. وقرر الشراح الثلاثة هذه المسألة هكذا، ولابن بشير نحوه. وقال شيخنا- رحمه الله-: فيه نظر. ولا يمكن أن يأتي في هذه المسألة ستة أقوال؛ إذ الدار لا شك أنها عرض، وقد نص المصنف على ذلك أول كلامه في قوله: (كداره) وحينئذ إما أن يقول بجعل الدين في الدار، أو لا يجعله إلا في العين. فإن قلنا بالأول، فإنما يختلف هل يجعله في قيمتها سالمة أو مهدومة بناء على مراعاة الطوارئ، وإن قلنا بالثاني، فلا يأتي في المسألة إلا الأربعة الأقوال المتقدمة؛ إذ الدار عند هذا القائل كالعدم، فيكون كمن آجر نفسه. والقول بأنها تقوم مهدومة لابن القاسم. والقول بأنها تقوم سالمة لسحنون. قال عبد الحق في تهذيبه: يحتمل أن يكون موضع الخلاف في دار يخشى سقوطها في المدة، وأما إن لم يخشَ، فيتفق على تقويمها سالمة، ويحتمل أن يقيد قول ابن القاسم بما إذا خشي هدمها. وقول سحنون بما إذا لم يخشَ، ولا يكون بينهما خلاف. انتهى بمعناه. وَغَيْرُ الْحَوْلِيِّ وَإِنْ زُكَّيَ كَالْعَرْضِ (غَيْرُ الْحَوْلِيِّ) الحبوب والثمار. يعني: أن الحبوب والثمار إذا زكيت، فهي كالعرضو يجعل الدين فيها على المشهور. وقوله: (وَإِنْ زُكَّيَ) مبالغة تقتضي أن يجعل الدين فيه مع

عدم الزكاة من باب أولى، وهو كذلك إذا كان دون النصاب. واختلف إذا كانت نصاباً، فقال ابن القاسم: يزكي عينها ويجعل دينه فيها، وهو المشهور. وقيل: لا يجعل دينه فيها؛ لتعلق الزكاة بعينها. فإن قيل: كلامه قاصر؛ لأن كلامه لا يتناول الماشية، إذ هي حولية وهي مساوية لما ذكر في جعل الدين فيها. قيل: الجواب: المراد بالحول ما كان مرور الحول مع الملك التام كافياً في وجوب الزكاة فيه، والماشية وإن كان فيه الحول إلا أنه لا بد مع ذلك من قدوم الساعي، فصار مرور الحول غير كافٍ، فيدخل بهذا الاعتبار في غير الحولي، ولا يقال هذا غير تام؛ لأن هذا إنما يأتي إذا كان ثَم سعاة، وأما إذا عدموا فلا؛ لأنا نقول هذا الكلام خرج مخرج الغالب، فإن الغالب السعاة. وَالْمَعْدِنُ اتَّفَاقاً (الْمَعْدِنُ) مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف؛ أي: المعدن يجعل فيه الدين اتفاقاً، فهو من باب عطف الجمل، ولا يختلف فيه كما اختلف فيما قبله، وكذلك صرح ابن بشير وابن رشد بأنه غير مختلف فيه. وعلى هذا فقول ابن عبد السلام: وبقي في كلام المصنف إشكال من جهة أنه عطف المعدن على العرض الذي شبه به غير الحولي، والمعدن غير حولي. فيكون تشبيه الشيء بنفسه ليس بشيء، ولعله لم يثبت في نسخته اتفاقاً، وهي ثابتة في النسخ. ومراده بـ (المعدن): معدن العين، وإلا فغير العين عرض. وَالْمُكَاتَبُ كَالْعَرَضِ. وَفِي كَيْفِيَّة جَعْلِهِ، ثَلاثَة ُلابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَأَصْبَغَ فِي قِيمَةِ كِتَابَتِهِ أَوْ مُكَاتِبٍ أَوْ [125/ ب] عَبْدٍ ... يعني: أنه اختلف في المكاتب بالعرض؛ أي: فيجعل الدين فيه على المشهور. وعلى الجعل، فقال ابن القاسم: يجعل الدين في قيمة كتابته إن كانت بعرض قومت بالعين، وإن كانت بالعين قومت بعرض ثم قوم بالعين. وقال أشهب: في قيمته مكاتباً. وقال أصبغ: في قيمته عبداً.

وفرق المصنف بين القائلين وأقوالهم؛ لأنه أقرب إلى الاختصار من جميع ذلك، ورد الأول من الأقوال إلى الأول من القائلين، ثم كذلك إلى آخرها، وأظهرها قول ابن القاسم؛ لأنه إنما يملك الكتابة والرقبة ليس بقادر على التصرف فيها، وكذلك كونه مكاتباً. وَفِي الْمُدَبَّرِ قَبْلَ الدَّيْنِ قَوْلانِ هذا الكلام يحتمل معنيين: أحدهما: أن يجعل الدين فيه أولاً كالعرض ويكون كقوله: (والمكاتب كالعرض) - وأعاده ليرتب عليه ما بعده- وعلى هذا مشاه ابن عبد السلام. والثاني: أن يريد بأن القائلين بأن العرض يجعل فيه الدين. اختلفوا في المدبر على قولين: فمنهم من قال: هو كالعرض، ومنهم من قال: لا، ويكون على هذا الوجه خلافاً مركباً. وعلى هذا حمله شيخنا- رحمه الله- ويؤيده التفرقة بينه وبين المكاتب في قوله: (والمكاتب كالعرض وفي المدبر قولان). وأيضاً فلأن القول بأن الدين لا يجعل إلا في العين منقول عن ابن عبد الحكم. وهذا القول- أعني: أن المدبر لا يجعل فيه؛ أي: لا في رقبته ولا في خدمته- منقول عن سحنون. كذا نقله صاحب النوادر، واللخمي، وابن شاس وغيرهم. فاختلاف القائل دليل على ما قلناه. ويؤيد هذا قول ابن بشير في توجيه هذا القول، وهذا نظراً إلى أن بيعه لا يمكن من غير التفات إلى إمكان رجوعه إلى الرق. واحترز بقوله: (قَبْلَ الدَّيْنِ) من المدبر بعد الدين، فإنه لا يختلف في أنه يجعل الدين في رقبته؛ إذ التدبير باطل لسبق الدين عليه. وَعَلَى جَعْلِهِ، فَفِي كَوْنِهِ فِي قِيمَةِ رَقَبَتِهِ أَوْ فِي خِدْمَتِهِ قوَلْانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ فابن القاسم يقول: يجعل في قيمة رقبته. وأشهب يقول: يجعل في قيمة خدمته. قال ابن الجلاب: وبه أقول. وهو الجاري على قول ابن القاسم في المكاتب؛ لأنه إنما يملك

الخدمة، فكأنه راعى في المشهور قول من قال: يجوز بيعه. وعورض قول ابن القاسم هنا بقوله فيمن حنث باليمين بصدقة ثلث ماله، لا شيء عليه في المدبر وهلاً احتاط في ذلك كما احتاط في الزكاة. وفِي الْمُعْتَقِ إِلَى أَجَلٍ قَوْلانِ، وَعَلَى جَعْلِهِ فَفِي قِيمَةِ خِدْمَته القول بالجعل أظهر، والاحتمال في القولين هنا كما في المدبر. وَالْمُخْدَمُ: الْمَنْصُوصُ جَعْلُ دَيْنِ مَالِكِهِ فِي مَرْجِعِ رَقَبَتِهِ، وَدَيْنُ مَخْدَمِهِ فِي خِدْمَتِهِ إذا كان لشخص عبد فأخدمه لآخر- أي: أعطى خدمته له- فإن معطي الرقبة يجعل دينه في مرجع رقبته، هذا هو المنصوص. ابن بشير: وقد يختلف في ذلك؛ لترقب موته قبل الرجوع؛ يعني: لن الخدمة لا شيء له فيها، والرقبة لا يقدر على التصرف فيها؛ لأن رجوعها إليه محتمل لاحتمال موت العبد قبل ذلك، فيكون ملكه لها أضعف من رقبة المدبر، وقد تقدم فيه خلاف. وقوله: (وَدَيْنُ مَخْدَمِهِ فِي خِدْمَتِهِ) يعني: ويجعل الذي أخذ الخدمة دينه في قيمة الخدمة. ابن عبد السلام: وظاهر كلامه يقتضي أن في آخذ الخدمة خلافاً كما في معطيها. انتهى. وهو مبني على أن قوله: (ودين). معطوف على المضاف إليه في قوله: (جعل دين). ويمكن أن يكون مستأنفاً وهو الظاهر؛ ليكون موافقاً لابن شاس، فإنه قال: ويجعل المخدم دينه في مرجع رقبة العبد على المنصوص، ويجعل المخدم دينه في الخدمة، ومقتضى كلامه أن التخريج إنما هو في معطي الرقبة. وأيضاً فلا يظهر التخريج في جانب المخدم، إذ هو مالك للخدمة. وقد يقال: بل المنصوص عائد عليهما، ويعتمد في ذلك على ما قاله اللخمي. قال: وقال محمد: لو أخدم رجل رجلاً عبده سنين، أو أُخدم هو عبداً لغيره سنين أو حياته، لحسب في دينه ما يساوي تلك الخدمة أو مرجع ذلك العبد.

قال اللخمي: قوله: (يجعل في الخدمة) إذا كانت حياته ليس بحسن؛ لأن ذلك مما لا يجوز بيعه بنقد ولا بغيره، وأظنه قاس ذلك على المدبر، وليس مثله؛ لأن الجواز في المدبر مراعاة للخلاف في جواز بيعه في الحياة، ولا خلاف أنه لا يجوز للمخدَم أن يبيع تلك الخدمة حياته. وكذلك المرجع لا يجوز أن يجعل فيه الدين؛ لأن بيعه لا يجوز، وأما إن كانت الخدمة سنين معلومة، فيحسن أن يجعل الدين في قيمتها؛ لأنه يجوز بيعها، ويختلف فيه بعد ذلك؛ لأن حقه متعلق بحياة العبد. انتهى. وَفِي الآبقِ الْمَرْجُوِّ قَوْلانِ، وَعَلَى جَعْلِهِ فَعَلَى غَرَرِهِ أي: إن كان غير مرجو لم يجعل دينه فيه اتفاقاً. وأما المرجو، ففي المدونة: لا يجعل فيه، وعلله بعدم جواز بيعه؛ لأنه لا يعلم موضعه، أو يعلم ولكن [126/ أ] لا يقدر عليه، أو يقدر عليه بمشقة، وهو في هذه الوجوه كالعدم. وقال أشهب: يجعل في قيمة رقبته على غررها. وعارض التونسي قوله في المدونة في هذه المسألة بقوله في المدبر، فإنه قال: يجعل الدين فيه مع أنه لا يجوز بيعه. ولعل الفرق بينهما مراعاة الخلاف في بيع المدبر. وأقام بعض الشيوخ من تعليله في الآبق أنه لا يجعل الدين في الطعام الذي له من سلم لعدم جواز بيعه، وكذلك هنا ما لا يجوز بيعه كجلود الضحايا. وقال التونسي: ينبغي أن يجعل الدين في رأس مال السلم؛ لأنه قادر على توليته ولا يقدر على بيعه. وَالدِّيْنُ لَهُ كَالْعَرْضِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ جَعْلِهِ ثَلاثَةً، أَصَحُّهَا إِنْ كَانَ حَالاًّ مَرْجُوّاً فَبالْعَدَدِ، وَإِلا فَبِالْقَيمةَ ... يعني: أنه اختلف هل يجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له أم لا كالعرض. وإذا فرعنا على المشهور من أنه يجعل، فحكى المصنف تابعاً لابن بشير ثلاثة أقوال: أحدها: أنه

يراعى قيمة دينه. والثاني: عدده. والثالث: إن كان حالاًّ وكان على مليء روعي عدده. وإن كان مؤجلاً أو على غير مليء روعيت قيمته. ابن بشير: وهذا هو الأصل، ويمكن أن يكون تفسيراً للقولين. خليل: ولا أظن أحداً يوافقهما، إذ مقتضى كلامهما أن في المسألة قولاً باعتبار العدد مطلقاً، وينظر. ويعز وجوده في المذهب، ولم أره بعد البحث عليه، والذي رأيته إن كان الدين على معدم فهو كالعدم على المشهور. ولابن القاسم في العتبية: أنه يحسب قيمته. وإن كان على مليء، فقال ابن القاسم، وأشهب في المجموعة على ما نقله صاحب النوادر، والباجي: يجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له ويزكي ما بيده في الدين الذي يرتجى قضاؤه يحسب عدده. وقال سحنون: بل يجعل قيمة الدين الذي له في عدد الدين الذي عليه. أبو محمد: وما قال ابن القاسم في العتبية: أنه إذا كان الدين على غير مليء يحسب قيمته، يدل على أنه لو كان على مليء حسب عدده. قال: يريد إذا كان حالاًّ، وإن كان إلى أجل فينبغي أن تحسب قيمته؛ لأنه لو فلس بيع بقيمته. انتهى. وقال اللخمي والتلمساني: وإذا كان دينه على موسر، فلا يخلو إما أن يكون دينه والدين الذي عليه حالين أو مؤجلين، أو أحدهما حالاًّ والآخر مؤجلاً، وفي كل هذه الوجوه لا يختلف الجواب في الدين الذي عليه أنه يحسب عدده. وإنما يفترق الجواب في الدين الذي له؛ فإن كانا حالين جعل العدد في العدد، وإن كان دينه مؤجلاً جعل ما عليه في قيمته. وإن كان الدينان مؤجلين، فإما أن يحل دينه قبل الذي عليه، أو يحل الذي عليه قبل، فإن حل الدين الذي له قبل الذي عليه جعل العدد في العدد، وإن حل الدين الذي عليه قبل دينه جعل عدد ما عليه في قيمة دينه. والله أعلم.

وَالْقِرَاضُ غَيْرُ الْمُدَارِ مُوَافِقاً لِحَالِ رَبِّهِ لا يُزَكَّى قَبْلَ الانْفِصَالِ وَلَوْ طَالَ وَلَوْ نَضَّ، وَأَلْزَمَ اللَّخْمِيُّ كَوْنَهُ إِنْ نَضَّ كَالْمُدَارِ، وَأُجِيبَ بأَنَّهُ كَالدَّيْنِ ... يعني: أن مال القراض إذا كان العامل محتكراً فيه وكان رب المال محتكراً في بقيته- وهو مراده بالموافق لحال ربه- فلا يزكى ولو طال مقامه بيد العامل أحوالاً كثيرة، ولو نض المال كله. قوله: (وَأَلْزَمَ ...) إلى آخره. يعني: ألزم اللخمي من قال في المدار الموافق لرب المال بالتقويم كل عام، أن يقول في المحتكر إذا نض ماله أن يزكي قبل المفاصلة، بجامع أن العين في حق المحتكر كالعرض في حق المدير، ألا ترى أن المحتكر يزكي العين عند الحول كما يقوم المدير عروضه، بل تعلقها بالعين هو الأصل، وتعلقها بالعرض على خلاف الأصل؛ ولأن رب المال لو شاء المفاصلة لمكن من ذلك. وأجاب ابن بشير: بأن المال بيد العامل شبيه بالدين على الغريم؛ لتعلق حق العامل به، وفي الجواب نظر. فإنه لو كان صحيحاً للزم مثله في المدير؛ لتعلق حق الغير، ولأنه لا يصح قياسه على الدين؛ لأن الدين ضمانه من المديان، والقراض ضمانه من رب المال، والقراض محبوس للتنمية بخلاف الدين. وَفِي وُجُوبِهِ بَعْدَهُ لِسَنَةٍ أَوْ لِمَا مَضَى قَوْلانِ الضمير في (وُجُوبِهِ) عائد على الإخراج المفهوم من السياق. ولو قال: وجوبها ليعود إلى الزكاة لكان أحسن. والضمير في (بَعْدَهُ) عائد على الانفصال، والقولان لمالك. ابن راشد: والصحيح وجوبها لماضي السنين. ابن عبد السلام: وهو الأقرب؛ لأن العامل نائب عن رب المال في التجر، لكن ظاهر المذهب- الذي اقتصر عليه صاحب المقدمات وغيره- قصر الزكاة على عام واحد.

وَعَلَى مَا مَضَى يُرَاعَى مَا فِي يَدِهِ لِسَنَةٍ وَيَسْقُطُ الزَّائِدُ قَبْلَهُ، وَيُعْتَبَرُ النَّاقِصُ كَذَلِكَ ... يعني: إذا فرعنا على القول بأنه يزكي لماضي السنين، فيزكي ما حصل في السنة الأخيرة. وهذا معنى قوله: (يُرَاعَى مَا فِي يَدِهِ لِسَنَةٍ وَيَسْقُطُ الزَّائِدُ قَبْلَهُ) أي: ولا تعتبر الزيادة التي حصلت قبل الانفصال، كما لو كان في العام الأول [126/ ب] أربعمائة، وفي الثاني ثلاثمائة، وفي الثالث مائتين وخمسين، فإنه يزكي لعام الانفصال مائتين وخمسين، ثم يزكي ذلك للسنتين الأوليين إلا ما نقصه جزء الزكاة، وإلغاء الزائد لكونه لم يصل إلى رب المال ولم ينتفع به. وقوله: (وَيُعْتَبَرُ النَّاقِصُ كَذَلِكَ) أي: كما تلغى الزيادة التي قبل الانفصال كذلك يعتبر النقص قبله. أي: قبل الانفصال. مثاله: لو كان في العام الأول مائتان، وفي الثاني ثلاثمائة، وفي الثالث أربعمائة، فإنه يزكي لكل عام ما حصل فيه. وضابط هذا أن يقول: إما أن يتساوى الحاصل في سنة الانفصال مع ما قبله أو لا، فإن استوى زكى الجميع كسنة الانفصال، إلا ما نقصه الزكاة. وأما إن لم يستو، فإما أن يكون الحاصل قبل سنة الانفصال في جميع السنين أكثر منه في سنة الانفصال أو أقل، أو كان الحاصل في بعضها أقل، وفي بعضها أكثر. فإن كان الحاصل قبلها أكثر زكى لجميع السنين كسنة الانفصال، وإن كان في غير سنة الانفصال أقل زكى لكل سنة ما حصل فيها. وقد تقدم تمثيلها. وإن كان الحاصل في غير سنة الانفصال أقل أو أكثر، زكى الناقصة وما قبلها على حكمها، وزكى الزائدة على حكمها. مثاله: أن يكون في العام الأول خمسمائة، وفي الثاني مائتين، وفي الثالث أربعمائة، فإنه يزكي لعام الانفصال أربعمائة ثم مائتين للعامين الأولين.

وَفِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِرِبْحِ الْعَامِلِ قَوْلانِ التكميل لأشهب، وعدمه لابن القاسم بناء على أنه أجير أو شريك. ومثاله: لو أعطاه مائة وخمسين فصار مائتين. وَالْمُدَارُ مُوَافِقاً لِحَالِ رَبِّهِ، وَفِي تَزْكِيَتِهِ كُلَّ حَوْلٍ أَوْ جَعْلِهِ كَغَيْرِ الْمُدَارِ قَوْلانِ يعني: إذا كان العامل يدير في المال وكان رب المال يدير في بقية ماله، ففي تزكية كل حول قولان. أي: هل يقوم عروضه على حكم الإدارة ولا ينتظر المفاصلة- كما لو لم يكن قراضاً، وهو ظاهر المذهب- أو ينتظر المفاصلة؟ وعليه فحكى ابن بشير، وابن شاس في قصر الزكاة على سنة واحدة وإيجابها لما تقدم من السنين قولين، سببهما تشبيه بالدين، أو التفرقة بأن الدين لا نماء فيه وهذا ينمو لربه، وهذا أولى من قول ابن عبد السلام: أنه أراد بقوله: (أَوْ جَعْلِهِ كَغَيْرِ الْمُدَارِ) القول بوجوب الزكاة بعد المفاصلة لماضي الأعوام فقط. تنبيه: ما ذكرناه من الخلاف إنما هو إذا كان العامل حاضراً مع رب المال، وأما إن كان غائباً، فلا خلاف أنه لا يزكي حتى يرجع، مديراً كان أو غير مدير، قاله ابن رشد. وَعَلَى تَزْكِيَتِهِ، فَفِي كَوْنِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قَوْلانِ أي: وإذا قلنا بأنه يزكي كل عام ولا ينتظر المفاصلة، فاختلف من أين يؤدي الزكاة، هل من مال القراض أو من عند رب المال؟ ونسب اللخمي الثاني لابن حبيب، قال: وهو ظاهر قول مالك. لكن اللخمي إنما نقل ذلك في العرض، وأجرى في العين خلافاً. ولهذا قال ابن عبد السلام: ظاهر كلامه أن الخلاف منصوص، واللخمي إنما ذكره تخريجاً على الخلاف المعلوم في ماشية القراض وعبيد القراض في زكاة الفطر، وتبعه على ذلك ابن بشير. انتهى.

وَالْمُخَالِفُ مِنْهُمَا يَجْرِي عَلَى الْمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا مُدَارٌ يعني: فإن اختلف حال العامل ورب المال، فكان أحدهما مديراً والآخر محتكراً، فإن الحكم يجري على الخلاف فيما إذا كان لواحد مالان، أحدهما مدار والآخرة محتكر. وهي التي تقدمت. إن تساويا فعلى حكمهما، وإلا فثالثها: يتبع الأقل الأكثر إن كان أحوط. وأصل هذا الإجزاء لابن محرز، وسلمه ابن بشير على القول بأن العامل تابع لرب المال كالأجير، وكأنه أشار إلى أنه إذا قلنا أنه كالشريك لا يحسن. ابن عبد السلام: وليس كذلك، فإن رب المال لم يقل أحد أنه تابع للعامل، وإذا كان كذلك لم يكن بد من اعتبار ماله بيد العامل؛ إما لأنه كله ملكه، وإما لأنه له فيه شريك. وانظر إذا كان للعامل مال وهو فيه مخالف لما هو فيه عامل. والظاهر أنه لا يعتبر ما هو فيه عامل إلا على القول بأنه شريك. انتهى. وَأَمَّا رِبْحُ الْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهَا وَهُوَ نِصَابٌ، فَالْمَشْهُورُ عَلَى الْعَامِلِ أخذ- رحمه الله- يتكلم على زكاة ربح العامل، وجعل الأقسام ثلاثة: الأول: أن يكون العامل ورب المال من أهل الزكاة. أي: مسلمين، حرين، لا دين عليهما. فإن ناب العامل نصاباً، فالمشهور على العامل زكاته. والشاذ لمحمد: أن زكاة الجميع على رب المال، بناء على أنه شريك أو أجير، والتمثيل سهل. والخلاف هكذا منقول. ودعوى ابن عبد السلام أن الخلاف لفظي ليس بظاهر. وقد نقل غير واحد من الشيوخ القولين في أنه شريك أو أجير. ابن يونس: ولا تجب الزكاة على العامل عند ابن القاسم إلا باجتماع خمسة شروط: أن يكونا حرين، مسلمين، لا دين عليهما، وأن يكون في المال وحصة ربه من الربح ما فيه الزكاة، سواء ناب العامل نصاب أو دونه. ولابن القاسم في الموازية: أن [127/ أ] العامل لا يزكي حتى يكون عنده من الربح عشرون ديناراً. أبو إسحاق: وهذا ليس بالمشهور. والخامس: أن يعمل بالمال حولاً. انتهى بمعناه.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لَوْ تَفَاصَلا قَبْلَ حَوْلٍ مِنَ الْعَمَلِ، فَلا زَكَاةَ فِي رِبْحِ الْعَامِلِ كَفَائِدَةٍ إذا تفاصلا قبل مرور الحول، فقال ابن القاسم: يستقبل بالربح حولاً، وجعله المصنف مفرعاً على المشهور، وفيه نظر. بل قياس المشهور أن يبني العامل على ما مضى من الحول، قاله ابن رشد وابن عبد السلام. وبقول ابن القاسم احتج اللخمي للقول بأن الزكاة في الفرع الذي قبل هذا على رب المال، وهو يقوي كلاًّ منهما. ونص كلام ابن القاسم في المدونة: وإذا عمل المقارض بالمال أقل من حول، ثم اقتسما فزكى رب المال لتمام حوله، فلا يزكي العامل ربحه حتى يحول عليه الحول من يوم اقتسما، وفيما نابه فيه الزكاة. ونص أشهب في هذه المسألة على أنه يزكي لحول من يوم العمل. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ، فَالْمَشْهُورُ الوُجُوبُ أي: وإن كان نصيب العامل أقل من النصاب والمسألة بحالها، فالمشهور الوجوب أيضاً على العامل بقدر حصته. والمشهور مذهب المدونة، ففيها: وإن عملا بالمال سنة ثم اقتسما فناب رب المال بربحه ما فيه الزكاة، فالزكاة عليهما، كان في حظ العامل ما فيه الزكاة أم لا، والمشهور مبني على أنه أجير. ورأى في الشاذ- وهو في الموازية- أنه شريك. وهذا الفصل مضطرب؛ إذ يتحرون تارة ما يأتي على أنه شريك، وتارة ما يأتي على أنه أجير، والظاهر أنه أجير؛ لعدم تحقق الشركة. ولهذا قيل في حد القراض: إجارة على التجر في مال بجزء من ربحه، وهو قول الأكثر. ابن عبد السلام: وهو الأشبه، وهو الذي تشهد له المساقاة.

وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ فَقَطْ، فَلا زَكَاةَ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: وإن كان رب المال من أهل الزكاة دون العامل، لم يزك رب المال عن نصيب العامل وتسقط زكاته على المشهور، بناء على أنه كالشريك. والشاذ: أن رب المال يزكي نصيب العامل، بناء على أنه كالأجير. وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ فَقَطْ، فَلا زَكَاةَ عَلَى الْمَنْصُوصِ أي: وإن كان العامل من أهل الزكاة دون رب المال، فلا زكاة في نصيب العامل، بناء على أنه كالأجير. ونقل ابن محرز في ذلك الاتفاق. وخرج ابن بشير وجوب الزكاة على أنه شريك. وَمَاشِيَةُ الْقِرَاضِ تُزَكَّى مُعَجَّلاً اتِّفَاقاً، ثُمَّ فِيهِ بَعْدَ الْمُفَاصَلَةِ ثَلاثَةُ، مَشْهُورُهَا عَلَى رَبِّهِ وتُلْغَى كَالْخَسَارَةِ، وَعَلَى الْعَامِلِ رِبْحُهُ .. أي: أن الماشية ليست كالعين، بل تزكى قبل المفاصلة باتفاق؛ لأن الزكاة متعلقة بعينها، وكذلك النخل إذا أثمرت. ثم اختلف في الوجوب بعد المفاصلة على ثلاثة أقوال: مذهب المدونة: أنه على رب المال بناء على أن العامل كالأجير. والقول الثاني لابن عبد الحكم وأشهب: أنها تلغى كالخسارة. والقول الثالث: على العامل ربحه؛ أي قدر ربحه. وفي بعض النسخ: وعلى العامل بقدر ربحه. ويتضح الفرق بينهما بالمثال: لو كان رأس المال أربعين ديناراً فاشترى بها أربعين شاة وأخذ الساعي منها شاة تساوي ديناراً، ثم باع الباقي بستين ديناراً، فعلى المشهور تكون الشاة كلها على رب المال، ويكون رأس المال تسعة وثلاثين ويقتسمان إحدى وعشرين على ما اتفقا عليه، وعلى إلغائها كالخسارة ييقدر كما لو ماتت ويكون

رأس المال أربعين؛ لأن المال يجبر بالربح ويقسمان عشرين ولا شيء على العالم. وعلى الثالث يكون رأس المال تسعة وثلاثين، ويقتسمان الباقي ثم يأخذ رب المال من العامل ما ينوبه ويقسم الدينار على ستين جزءاً، يكون على العامل عشرة ونصف. وهذا القول ليس بمنصوص، بل خرجه اللخمي ولفظه- بعد أن ذكر القولين الأولين-: ويجري فيها قول أنها متى بيعت بربح فضت الزكاة، وكان على العامل منها بقدر ربحه- أي: مما تقدم في مال القراض العين- لأنه إذا ثبت أن الزكاة هناك عليهما فكذلك هنا. فرع: وأما عبيد القراض، فيخرج زكاة فطرهم. ابن حبيب: وهي كالنفقة ملغاة، ورأس المال العدد الأول. قال: وأما الغنم فمجتمع عليه في الرواية عن مالك من المدنيين والمصريين أن زكاتها على رب المال من هذه الغنم لا من غيرها، فتطرح فيه الشاة المأخوذة من أصل المال ويكون ما بقي رأس المال. قال: وهي تفارق زكاة الفطر؛ لأن هذه تزكى من رقابها والفطرة مأخوذة من غير العبيد. ابن يونس: واختلف أصحابنا في قول ابن حبيب هذا، فقال أكثرهم: هو وفاق للمدونة. وظهر لي أنه خلاف، والدليل على ذلك أن الإمام أبا محمد سوى بين ماشية القراض وعبيده في المختصر والنوادر. انتهى. فرع: إعطاء المال للتجر ثلاثة أقسام: قسم يعطيه قراضاً، وهو الذي ذكره المصنف. وقسم يعطيه لمن يتجر فيه بأجر، فهذا كالوكيل، فيكون حكمه حكم شرائه بنفسه. وقسم يدفعه على أن يكون الربح كله للعامل ولا ضمان عليه فيه، فهو عند ابن القاسم كالدين يزكيه لعام واحد. وقال ابن شعبان: يزكيه لماضي [127/ ب] الأعوام ولا شيء على العامل.

وَلا زَكاَةَ فِي الْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ، وَفِي زَكَاتِهِ لِعَامٍ كَالدَّيْنِ قَوْلانِ أي: لا زكاة على رب العين المغصوبة قبل رجوعها إليه اتفاقاً؛ للعجز عن التنمية، ثم إذا قبضه ففي المقدمات: يزكيه لعام واحد على المشهور كالدين. وقيل: لا زكاة عليه وهو كالفائدة. والأول أصح. وفي الموطأ: أن عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- أمر بزكاته لماضي السنين، ثم رجع فأمر بزكاته لعام واحد. وفرق في الشاذ بينه وبين الدين؛ لأن الدين إما مع النماء كما في سلع التجارة، وإما لأنه ترك النماء فيه اختياراً. وحكى ابن بشير الاتفاق على أنها لا تزكى لماضي الأعوام، وفيه نظر. فإن صاحب المقدمات حكى قولاً بوجوب الزكاة لماضي الأعوام. بِخِلافِ النَّعَمِ الْمَغْصُوبَةِ تَرْجِعُ بأَعْيَانِهَا عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَفِي تَزْكِيَتِهَا لِمَا تَقَدَّم أَوْ لِعَامٍ قَوْلانِ ... قوله: (بِخِلافِ) أي: أن المعروف أنها تزكى ولا يستقبل بها حولاً. والفرق بين الماشية والعين أن الماشية تنمو بنفسها. واحترز بأعيانها مما لو رد بدلها، وسيأتي. ومقابل المعروف مخرج على قول السيوري: أن الولد غلة. ومن القول بأن الغاصب لا يرد الغلة لمساواتها إذ ذاك للعين في عدم النماء. والمشهور أن الولد ليس بغلة، والمشهور أن الغاصب يرد الغلات، فهو مركب من شاذ على شاذ، على أنه لو كان على قولين مشهورين لم يتم؛ لجواز تعدد القائل، والأولى أن يقول على المنصوص. وقوله: (وَفِي تَزْكِيَتِهَا ..) إلخ. القولان لابن القاسم. وقال أشهب بأحدهما وهو الزكاة لعام. ابن عبد السلام: والصحيح زكاتها لماضي الأعوام؛ لأن زكاتها مردودة معها. والمشهور أيضاً أن غلتها مردودة فصارت كأنها لم تخرج من يد المالك.

وَثَمَرُ الشَّجَرِ الْمَغْصُوبِ يُزَكَّيهِ مَنْ حُكَّمَ لَهُ بِهِ لا شك أن الثمرة غلة، والمشهور أن الغاصب يردها؛ وعليه فالزكاة على رب الشجر. وأبهم المصنف بقوله: (مَنْ حُكَّمَ لَهُ بِهِ) لاحتمال أن يرفع الأمر لحاكم يرى أن الغلات للغاصب، ثم لا إشكال في وجوب الزكاة على رب الشجر؛ أي: إن حكم له بالغلة؛ لكونها نشأت عن ملكه، وإن حكم بها للغاصب، ففي وجوب الزكاة عليه نظر؛ لأنه لا تحل له الغلات حتى يرد الأصول، وإذا كان كذلك فلم يتحقق ملكه لها إلا بعد رد الأصول، فتكون فائدة فيستقبل به حولاً. غاية ما يقال: الحكم بها للغاصب كاشف لحصول الملك من أول الحول، وذلك لا يوجب الاتفاق على ذلك. ثم إذا حكم بها للمغصوب منه، فإن علم قدرها في كل سنة زكاها على حسب ما فيها، وإن جهل قدرها في كل سنة، فقيل: يقسم على عدد السنين بالسوية، فإن كان لكل سنة نصاب زكى الجميع، وإن كان لكل سنة دون النصاب فلا زكاة عليه، وإن كان لكل سنة نصاب إلا أن الغاصب أتلف بعض الغلاَّت فلم يبقَ ما يخص كل سنة إلا دون النصاب، وكان مجموع المردود على المغصوب منه أكثر من نصاب- كما لو أثمر الشجر في أربع سنين عشرين وسقاً ولم يوجد عند الغاصب إلا عشرة- فقال أبو حفص العطار فيما قيد عنه: إن القياس سقوط الزكاة، والاستحسان وجوب زكاة ما قبض، وذكره عن أبي بكر بن عبد الرحمن. وذكر عن ابن الكاتب: أنه يزكي مما قبض نصاباً، فإن فضل شيء نظر فيه، فإن كان أقل من النصاب فلا زكاة عليه حتى يكمل نصاباً، ثم هكذا. وَلا زَكَاةَ فِي الْعَيْنِ الْمَوْرُوثِ يُقِيمُ أَعْوَاماً لا يْعَلَمُ بِهِ، وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى الْمَنْصُوصِ أي: إذا ورث شخص مالاً ولم يعلم به ولا وقفه له الحاكم، وهو مراده بقوله: (وَلَمْ يُوقَفْ) فالمنصوص سقوط الزكاة. ويتخرج فيها قول آخر بوجوبها. ولعله من مسألة المغصوب والمدفون، بل هو المنصوص، كما سيأتي من كلام صاحب البيان.

فَإِنْ عَلِمَ بِهِ، فَقَوْلانِ أي: علم به ولم يوقف، بناء على أن علمه به يصيره بمنزلة المقبوض أم لا. قال في الجواهر: وإذا قلنا بالوجوب، فهل يزكيه لما تقدم، أو لعام؟ قولان. وذكر في البيان في هذه المسألة أربعة أقوال: الأول: أن على الورثة زكاة ما ورثوه من الناض من حين ورثوه، وإن لم يقبضوه ولا علموا به، صغاراً كانوا أو كباراً. الثاني لابن القاسم: لا زكاة عليهم فيه حتى يقبضوه ويستقبلوا به حولاً من يوم قبضوه وإن علموا به، صغاراً كانوا أو كباراً. الثالث لمطرف: إن لم يعلموا استقبلوا به حولاً بعد القبض، وإن علموا ولم يقدروا على التخلص ألبتة زكوه لعام واحد، وإن قدروا على التخلص إليه زكوه لماضي الأعوام. الرابع: أنهم إن لم يعلموا به زكوه لسنة واحدة، وإن علموا زكوه لماضي الأعوام، وهو مروي عن مالك. فَإِنْ وُقِفَ، فَثَالِثُهَا: كَالدَّيْنِ. وَالْمَشْهُورُ: لا زَكَاةَ إِلا بَعْدَ حَوْلٍ بَعْدَ قِسْمَتهِ وَقَبْضِهِ إِنْ كَانَ بَعِيداً. قال في التهذيب: وإذا باع القاضي داراً لقوم ورثوها وأوقف ثمنها حتى يقسم بينهم، ثم قبضوه بعد سنين، فليستقبل به حولاً بعد قبضه، [128/ أ] وإن بعث في طلبه رسولاً بأجر أو بغير أجر، فليحسب له حولاً من يقوم قبضه رسوله وإن لم يصل إليه بعد. انتهى. والقول بالزكاة لماضي السنين حكاه ابن يونس عن مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ وإن لم يعلم وصوبه؛ لأن يد المودع كيده، وسواء علم أو لم يعلم. والقول بعدم الزكاة هو مذهب المدونة كما ذكرنا. والثالث للمغيرة: يزكيه لعام كالدين، كذا نقل ابن يونس.

وانظر هذا النقل مع ما نقله ابن رشد عنه، فإنه قال: إذا قال بالزكاة لما مضى من الأعوام وإن لم يعلم به، فكيف إذا وقف، ولعل له قولين. قوله: (وَالْمَشْهُورُ: لا زَكَاةَ إِلا بَعْدَ حَوْلٍ بَعْدَ قِسْمَتهِ وَقَبْضِهِ) يستفاد منه شيئاً: أحدهما: تعيين المشهور في المسألة المتقدمة. وثانيهما: إفادة فرع آخر، وهو أنه لو كان له شريك، فهل يُنَّزل وقفه لهما كوقفه لأحدهما؟ المشهور: لا. فقوله: (المشهور لا زكاة إلا بعد حول بعد قسمته) إشارة لمسألة الشريك، وقوله: (وقبضه) إشارة إلى تعميم الحكم في الاستقبال هنا وفي وجوب المسألة المتقدمة. وقوله: (إِنْ كَانَ بَعِيداً) هو كقوله في المدونة وكذلك من ورث مالاً بمكان بعيد والله أعلم. وعلى هذا فقوله: (وَالْمَشْهُور) ليس خاصاً بمسألة الوقف، نعم هو أحد الأقوال الثلاثة المذكورة فيها. وَتُزَكَّى الْمَاشِيَةُ وَالْحَرْثُ مُطْلَقاً يعني: أن الماشية الموروثة، والحرث المورث قبل بدو صلاحه يزكيان من غير قيود الإيقاف والعلم؛ لأن النماء حاصل فيهما من غير كبير محاولة ففارق العين. وَفِي الضَّائِعِ يُلْتَقَطُ ثُمَّ يَعُودُ، ثَالِثُهَا: كَالدَّيْنِ يعني: أنه اختلف في العين الملتقطة ترجع إلى ربها بعد أعوام. فقيل: يزكى لكل عام؛ لأن الملتقط حافظ لها لربها كالوكيل، وهو لمالك في العتبية، والمغيرة، وسحنون. وقيل: لا زكاة عليه ويستقبل به حولاً؛ للعجز عن تنميته، وهو لابن حبيب. وقيل: يزكيه لعام واحد كالدين، وهو أيضاً لمالك. ورواه ابن القاسم، وابن وهب، وعلي بن زياد، وابن نافع. قال في العتبية: وإن كان الملتقط تسلفها لنفسه حتى تصير في ضمانه، فحكمها حكم الدين يزكيه زكاة واحدة لما مضى من السنين. قال: قلت لأشهب: هل يقبل قول الملتقط

أو المستودع أنه تسلفها؟ قال: نعم يسأل عن ذلك، فما قال قُبِلَ قولُه وكان في أمانته. وأما ما يلتقطه فلا زكاة عليه إن لم ينو إمساكه لنفسه، وإن نوى ذلك ولم يتصرف، ففي ضمانه له قولان: القول بعدم ضمانه لابن القاسم في المجموعة، فإن تصرف فيه ضمنه بلا خلاف. قال في البيان: فإذا دخلت في ضمانه بحبسه إياها لنفسه أو بتحريكها على الاختلاف المذكور، سقطت عن ربها الزكاة فيها اتفاقاً. وَفِي الْمَدْفُونِ، ثَالِثُهَا: إِنْ دَفَنَهُ فِي صَحْرَاءَ زَكَّاهُ، وَإِلا فَكَالدَّيْنِ. وَرَابعُهَا: عَكْسُهُ القول بزكاته لماضي السنين لمالك في الموازية. والقول بوجوبها لعام لمالك في المجموعة. ابن رشد: وهو أصح الأقوال. والقول الثالث: إن دفنه في صحراء زكاه للماضي؛ لتعريضه إياه للضياع، وإن دفنه في بيته زكاه لعام، لابن حبيب. والرابع عكس الثالث. ابن المواز: إن دفنه في بيته فطلبه فلم يجده، ثم وجده حيث دفنه، فعليه زكاته لماضي السنين. وإن دفنه في صحراء ثم غاب عنه موضعه، فليس عليه فيه إلا زكاة واحدة. ابن رشد: وله وجه؛ لأنه إذا دفنه في البيت فهو قادر عليه باجتهاده في الكشف عنه. وأجرى بعض المتأخرين قولاً بالاستقبال، قياساً على ما رواه ابن نافع عن مالك في الوديعة: أنه يستقبل بها حولاً بعد قبضها. وقال في البيان: وهو إغراق، إلا أن يكون معنى ذلك أن المودع غائب عنه فيكون لذلك وجه. وَالْمُخْرَجُ مِنَ النَّقْدَيْنِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَمَا زاَدَ فَبِحِسَابِهِ مَا أَمْكَنَ لا خلاف أن الواجب في النقدين ربع العشر. ومذهبنا ومذهب الجمهور، كالشافعي، وأحمد، وغيرهما: وجوب الزكاة فيما زاد على النصاب وإن قل، ولا يشترط بلوغه في الفضة أربعين درهماً وفي الذهب أربعة دنانير، خلافاً لأبي حنيفة. ووقع لبعضهم اختلاف عبارات، فقال بعضهم كالمصنف، وقال ابن أبي زيد في الرسالة: وما زاد

فبحساب ذلك وإن قل. ورأى بعض أشياخ ابن عبد السلام: أن ذلك اختلاف حقيقة وأن الإمكان في الأول هو أن الزائد يمكن قسمته إلى جزء الزكاة. وفي الثاني: لا يشترط ذلك، بل إن لم تمكن قسمته اشترى به طعاماً أو غيره مما تمكن قسمته على أربعين جزءاً. والظاهر أنهما بمعنى واحد. والله أعلم. وَفِي إِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنِ الآخَرِ، ثَالِثُهَا: يُخْرَجُ الْوَرِقُ عَنِ الذَّهَبِ، بِخِلافِ الْعَرَضِ وَالطَّعَامِ ..... يعني: أنه اختلف هل يخرج عن الورق ذهباً أو بالعكس على ثلاثة أقوال، وتصورها ظاهر. وظاهر كلامه [128/ ب] أن الخلاف في الجواز والمنع، وكذلك نقل ابن بشير، وبنى الأولين على أنه هل هو من باب إخراج القيمة فيمنع، أو لا فيجوز. ورأى في الثالث أن الورق أيسر على الفقير بخلاف العكس. ومذهب المدونة- وهو المشهور-: الجواز. ابن راشد: والمنع مطلقاً لم أقف عليه في المذهب. والذي حكاه الباجي وغيره: أن الجواوز لمالك، والتفصيل لسحنون، وابن لبابة. قال سحنون: إخراج الورق عن الذهب أجوز من العكس. وقال ابن محرز: لم يختلف علماؤنا في إخراج الدراهم عن الدنانير، ولم يروه من شراء الصدقة. واختلف في إخراج الذهب عن الورق، فأجازه مالك. وذكر عن ابن مزين، وابن كنانة أنهما كرها ذلك. انتهى. وعلى هذا فالخلاف إنما هو في الكراهة، ألا ترى قول سحنون: إخراج الورق عن الذهب أجوز، فحكم بالاشتراك في الجواز. وقوله: (بِخِلافِ الْعَرَضِ وَالطَّعَامِ) أي: فلا يجوز إخراج أحدهما عن الورق ولا عن الذهب؛ لأنه من باب إخراج القيمة، ولا يجوز إخراجهما ابتداء، كما سيأتي.

فرع: فإن أخرج عرضاً أو طعاماً رجع على الفقير به ودفع له ما وجب عليه، فإن فات في يد الفقير لم يكن له عليه شيء؛ لأنه سلطه على ذلك، وذلك إذا أعلمه أنه من زكاته، وإن لم يعلمه لم يرجع مطلقاً؛ لأنه متطوع، قاله مالك. وَعَلَى الإِخْرَاجِ مَشْهُورُهَا: يُعْتَبَرُ صَرْفُ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الصَّرْفِ الأَوَّلِ أي: وإذا فرعنا على أنه يخرج أحدهما عن الآخر، فاختلف: هل يعتبر صرف الوقت أو الصرف الأول- وهو كل دينار بعشرة- أو صرف الوقت على ما لم ينقص عن الصرف الأول، وهو قول ابن حبيب. والمشهور: اعتبار صرف الوقت مطلقاً، لا كما قال المصنف. وَإِذَا وَجَبَ جُزْءٌ عَنِ الْمَسْكُوكِ وَلا يُوجَدُ مَسْكُوكٌ وَأَخْرَجَ مَكْسُوراً، فَقِيمَةُ السَّكَّةِ عَلَى الأَصَحِّ. كَمَا لَوْ أَخْرَجَ وَرِقاً ... أي: إذا وجب في الزكاة جزء دينار مسكوك، فإن وجد ذلك الجزء مسكوكاً تعين إخراجه، وإلا فلا يخلو أن يريد إخراج الورق أو الذهب، فإن أراد الورق أخرج قيمة ما وجب عليه مسكوكاً اتفاقاً، حكاه ابن راشد. واختلف إذا أراد إخراج الذهب، هل يلزمه إخراج قيمة السكة. قال ابن حبيب: لا يلزمه ذلك؛ لأن الزكاة إنما تعلقت بالعين لا بالسكة، وأوجبه ابن القاسم. قال المصنف: وهو الأصح؛ لأنه لما ثبت للفقراء حق في السكة إذا أخرج ورقاً وجب أن يثبت مثل ذلك في الذهب. وأشار ابن عبد السلام هنا إلى أنه لا يحمل على المصنف أنه ذكر الخلاف في الورق لتشبيهه، قال: لأنه إنما يشبه بالخلاف حيث يذكره مجرداً عن الترجيح، مثل ما تقدم في الدم المسفوح، وأما إذا رجح بعض الأقوال كما حكم هنا بالأصحِّيَة فإنما يريد بالتشبيه بيان الوجه الذي من أجله كان ما اختاره راجحاً. والله أعلم.

وَلا يُكْسَرُ الْكَامِلُ اتِّفَاقاً، وَفِي كَسْرِ الرُّبَاعِيُّ وَشِبْهِهِ قَوْلانِ لأن في القطع فساد السكة على المسلمين، وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] أنهم كانوا يقطعون السكة. واختار ابن رشد، وابن عبد السلام عدم كسر الرباعي وشبهه؛ لأن العلة كونه مسكوكاً لا كاملاً. وَإذَا وَجَبَ مَسْكُوكٌ فَأَخْرَجَ أَدْنَى أَوْ أَعْلَى بِالْقَيمَةِ، فَقَوْلانِ يعني: إذا وجب مسكوك طيب، فأخرج عنه أردأ منه وهو أكثر وزناً بقيمة الطيب أو بالعكس. وحكى ابن بشير القولين عن المتأخرين. ونص ابن المواز في مسألة ما إذا أخرج أقل وزناً وأجود على عدم الإجزاء، ورأى أنه يخر القدر الواجب، وإن نظر إلى الفضل دخله دوران الفضل من الجهتين، هكذا نقله عنه ابن عبد السلام. ونقل ابن راشد عنه في الصورة الأخرى أنه قال: إذا أخرج أكثر وزناً وأردأ، فينبغي أن يجوز؛ لأنه يخرج من الرديء أكثر مما يخرج من الجيد، ولا ينبغي أن يقتصر في فرض المسألة على المسكوك كما فعله المصنف، قاله ابن عبد السلام. وَأَمَّا الْمَصُوغُ، فَيُخْرِجُ عَنْهُ الْمَكْسُوَر بِالْوَزْنِ لا بِالْقَيمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ إِذْ لَهُ كَسْرُهُ يعني: إذا كان عنده مصوغ وزنه مائة دينار مثلاً وبصياغته يساوي مائة وعشرة، فالمشهور: أنه يخرج عن المائة لا عن المائة والعشرة. ونقله اللخمي، فقال: وإذا كان الحلي للتجارة وهو غير مدين، فقيل: يخرج قيمة ما وجب عليه من ذلك مصوغاً، وقيل: يخرج الذهب دون الصياغة، فيخرج زنة ذلك الجزء ومثله في الجودة على أنه غير مصوغ. وقوله: (إِذْ لَهُ كَسْرُهُ) جواب عن سؤال مقدر توجيهه أن يقال: ما الفرق على المشهور بين هذه وبين ما إذا وجب جزء من المسكوك، والجامع أن كلاًّ منهما زيادة في

المعنى؟ أجاب بأن المصوغ لصاحبه كسره وإعطاء الجزء الواجب بعد الكسر فلم يكن للفقير [129/ أ] حق في الصياغة، بخلاف السكة؛ إذ ليس له كسرها فلم يأخذ الفقير مثل ما فاته بل دونه. فَإِنْ أَخْرَجَ وَرِقاً عَنْ مَصُوغٍ جَازَ، وَقُلْنَا: إِنَّهَا مُلْغَاةٌ، فَفِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا قَوْلانِ لابْنِ الْكَاتِبِ وَأَبِي عِمْرَانَ، وَأَلَّفَ الْقَبِيلانِ فَيهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَرِقَ كَالطَّعَامِ فِي جَزَاءٍ الصَّيْدِ، أَوْ لا حَقَّ لِلْمَسَاكِينِ فِي الصِّيَاغَةِ .... يعني: إذا فرعنا على المشهور من إلغاء الصياغة فيما إذا أخرج ذهباً مكسوراً عن مصوغ وأراد أن يخرج ورقاً، فهل لا بد حينئذ من إخراج قيمة الصياغة، وإليه ذهب ابن الكاتب. أو إنما له أن يخرج قيمة الجزء الواجب عليه غير مصوغ، كما له أن يخرجه مكسوراً، وإليه ذهب أبو عمران. ومنشأهما ما ذكره المصنف بقوله: (بنَاءً ..) إلخ. أي: أن ابن الكاتب ومن قال بقوله قاسوا المسألة على حكم جزاء الصيد؛ إذ المكلف مخير فيه بين أن يخرج المثل من النعم أو الطعام، فإذا اختار المثل أخرجه، وإن اختار إخراج الطعام فإنه يقوم الأصل لا المثل، فكذلك هذا يخير بين أن يخرج قطعة ذهب أو القيمة دراهم، فإن أخرج قطعة ذهب أجزأه، وإن أخرج القيمة رجع إلى الأصل وأخرج قيمة المصوغ. ورأى أبو عمران ومن قال بقوله: أنه لما ثبت أنه لا حق للفقراء في الصياغة بدليل إخراج ذلك الجزء غير المصوغ، وجب ألا تراعى قيمتها. قال ابن بشير: وهو أقيس. ورد القياس المذكور بالفرق، فإن الطعام والمثل من النعم بدلان عن الصيد فخير فيهما، فلا يقوم أحدهما بصاحبه، بل بالصيد الذي هما بدل عنه، بخلاف الفضة مع الذهب، فإن الذهب إذا خرج عن الذهب صار المخرج كأنه عين الواجب، إذ قد ثبت أنه لا حق للفقراء في الصياغة، فإذا أخرجت القيمة وجب أن يقوم غير المصوغ.

ورد بعضهم أيضاً القياس بوجه آخر: بأن هذا إلحاق باب له خصوصيات بباب له خصوصيات وهو غير جائز، وإلا لزم أن تجب قراءة الفاتحة بالوقوف بعرفة قياساً على الصلاة بجامع الفريضة. وقوله: (وَأَلَّف الْقَبِيلانِ) تنبيه على أن لكل من القائلين أتباعاً في هذه المسألة، فصار بأتباعه كالقبيل، وأن كل قبيل ألف تأليفاً في هذه المسألة. وقوله: (فَيهِمَا) أي: في القولين، وفي بعض النسخ: (فيها) فيعود على المسألة. وما ذكره المنصف من ذكر خلاف ابن الكاتب وأبي عمران في المصوغ الجائز تبع فيه ابن بشير. وإنما نقل ابن يونس كلامهما في المصوغ المحرم، فقال: واختلف ابن الكاتب وأبو عمران في زكاة آنية الفضة، ثم ذكر ما ذكرناه، ولم ينقل عنهما في المصوغ الجائز شيئاً، وإنما نقل فيه أن الشيخين- الشيخ أبا محمد، والشيخ أبا الحسن- سئلا عن الحلي الجائز إذا كان وزنه عشرين ديناراً، هل يخرج ربع عشره على أنه مصوغ، أو أنه إنما يلزمه ربع عشره تبراً، أو قيمة ربع عشره من الفضة على أنه مصوغ؟ فأجابا: بأنه يخرج ربع عشر قيمته على أنه مصوغ؛ لأن الفقراء شركاؤه بربع العشر فيأخذون قيمة ذلك، قَلَّتْ أو كثرت. ابن يونس: يريد فضة، وهو قول جيد. ولكن ظاهر الكتاب خلافه. وقول ابن عبد السلام: إن ابن بشير ذكر هنا خلافاً عن المتأخرين أن الصياغة هل هي كالعرض، فيسلك بها مسلكه في الإدارة والاحتكار، أم لا؟ ولعل المصنف يريد بقوله: (إِنَّهَا مُلْغَاةُ) هذا، لا ما قلناه من أنه بناه على المشهور في الفرع السابق، فإن كلام المصنف لا يمكن حمله على هذا؛ لأنه بعيد من كلامه. ثم لا ينبغي عزو هذا الكلام لابن بشير، فإن المصنف قد نقله أول الزكاة بقوله: (وفي الصياغة الجائزة قولان) وعلى الاعتبار المنصوص كالعرض.

زكاة المعدن والركاز

الْمَعْدِنُ وَالرِّكَازُ. فَأَمَّا الْمَعْدِنُ: فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَحُكْمُهُ لِلإِمَامِ اتِّفَاقاً .... (الْمَعْدِنُ) أصله الإقامة، يقال: عدن بالمكان؛ أي: أقام. ومنه جنات عدن؛ أي: جنات إقامة. و (الرِّكَازُ) مأخوذ من قولهم: ركزت الشيء؛ أي: دفنته. قال صاحب العين: الركاز يقال لما وضع في الأرض، ولما يخرج من المعدن من قطع الذهب أو الورق. ولا خفاء في الإتيان بالمعدن هنا؛ إذ المأخوذ منه زكاة. وأما الركاز: فلما قدمناه في أول الزكاة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما معاً في الحديث الذي هو أصل لهما. ثم تكلم المصنف على المعدن بقوله: (فَأَمَّا الْمَعْدِنُ ..) إلخ. أي: أن المعدن إذا وجد في أرض غير مملوكة لأحد كالفيافي وما انجلى عنه أهله، فيكون حكمه للإمام اتفاقاً، أي: النظر فيه إما بالإقطاع، وإما أن يوكل من يعمل فيه للمسلمين. فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيِّنٍ، فَقَوْلانِ: للإِمَامِ وَلِلْجَيْشِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ، أَوْ لِلْمُصَالِحِينَ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ، وَالْمَشْهُورُ: لِلإِمَامِ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةْ، وَلِلْمُصَالِحِينَ فِي أَرْضِ الصُّلْحِ يعني: أنه اختلف في المعدن الموجود في أرض مملوكة لكن مالكها غير معين على ثلاثة أقوال: [129/ ب] الأول: أنه للإمام في أرض العنوة والصلح، حكاه ابن حبيب عمن لقي من أصحاب مالك، هكذا حكاه الباجي وغيره. وقال ابن زرقون: انظر ما حكاه عن ابن حبيب في أرض الصلح، وإنما ذكر ابن حبيب هذا في فيافي أرض الصلح لا في أرضهم المتملكة، ولا خلاف أعلمه في معادن أرض الصلح المتملكة أنها لأهل الصلح. انتهى.

القول الثاني: أنه للمالكين وهم إما مسلمون؛ أي: الجيش الذين افتتحوا الأرض إن كانوا موجودين، أو لورثتهم إن ماتوا. وإما غير مسلمين، وهم المصالحون عن أرضهم أو ورثتهم. والقول الثالث: وهو المشهور أن النظر للإمام في أرض العنوة، وأن النظر في أرض الصالحين. وقوله: (لِلإِمَامِ) هو القول الأول. وقوله: (وَلِلْجَيْشِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ، أَوْ لِلْمُصَالِحِينَ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ) هو القول الثاني. وقوله: (وَالْمَشْهُورُ) هو القول الثالث. ومنشأ الخلاف بين الأولين هو ما علم، هل مالك ظاهر الأرض لا يملك باطنها أو يملك؟ وما شهره المصنف هو قول ابن القاسم في المدونة. خليل: ويناقش المصنف في حكاية الخلاف في أرض العنوة؛ إذ لا خلاف أن النظر فيها للإمام يقطعها لمن رآه. حكى الاتفاق ابن يونس وغيره. وكذلك حكى ابن يونس الاتفاق على ما ظهر من المعادن في أرض الحرب أن النظر فيه للإمام. وعلى هذا فحاصل المسألة: أن ما حكاه المصنف من الخلاف في أرض الصلح صحيح على كلام الباجي ولا يصح على كلام ابن زرقون، وأما ما حكاه من الخلاف في أرض العنوة فغير صحيح، وإن كان ابن رشد قرره على ظاهره. وحكى في المقدمات- بعد أن قرر أن الموجود في أرض الصلح لأهل الصلح- قولين: أحدهما: أن أهل الصلح إذا أسلموا رجع النظر في ذلك للإمام، قال: وهو مذهب المدونة. والثاني: أنه يبقى لهم ولا يرجع للإمام، وهو مذهب سحنون. فإن قلت: ما معنى قولكم: إن المالك غير معين مع الحكم لورثتهم، والوارث لابد أن يكون موروثه معيناً؟ فالجواب: أن المراد بعدم التعيين كونه ليس لشخص ولا لأشخاص قليلين، بل لجماعة

كثيرة كأهل الصلح والجيش، وحيئنذ فلا منافاة بين عدم تعيينهم وبين الحكم لورثتهم بالمعدن. وانظر إذا قلنا لورثتهم هل معناه على سبيل الإرفاق فيستوي فيه الذكر والأنثى، أو كالفرائض. والأول أظهر. وَإِنْ كَانَ لِمُعَيَّنٍ، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَيْناً فَلِلإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلِلْمَالِكِ تصور هذه الأقوال واضح، والقولان الأولان لمالك. والذي أخذ به ابن القاسم أن النظر فيه للإمام، قاله في المقدمات، وهو مذهب المدونة. والقول بأنه لمالك الأرض لمالك في الموازية. والثالث لسحنون وبكلامه هنا تعلم منه أن كلامه فيما تقدم شامل للعين وغيره. وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ دُونَ الْحَوْلِ كَالْحَرْثِ اختلف العلماء في المعدن، فقال أبو حنيفة: إنما يجب فيه الخمس، وقال مالك والشافعي: تجب فيه الزكاة. لكن مالكاً- رحمه الله- لم يشترط فيه الحول واشترطه الشافعي، واستدل في المدونة بحديث معادن القبلية وهو في الموطأ، وفيه: "فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة". قال ابن نافع في كتاب ابن سحنون: والقبلية لم تكن لأحد وإنما كانت بفلاة. ولا خفاء في دلالته على أخذ الزكاة لا الخمس، فإن قلت: لا دلالة فيه على عدم اشتراط الحول، وإذا لم تكن فيه دلالة فلابد من اشتراطه كما قاله الشافعي؛ عملاً بما رواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي من قوله: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". فجوابك: أن حديث المعادن خاص بالنسبة إلى حديث الحول. وقوله: "لا يؤخذ منها إلا الزكاة" يقتضي ظاهره عدم اشتراط الحول؛ لأن بمرور الحول لا تبقى بإضافة العين إلى المعدن فائدة، ولاسيما إن كان تجر فيها. ألا ترى أنك لا تقول: لا تجب في العين الموروثة والمتصدق بها أو نحو ذلك إلا الزكاة؛ لاشتراطك الحول في ذلك والله أعلم.

فرع: قال الباجي: يتعلق وجوب الزكاة في المعدن بنفس خروجه، ويتوقف الإخراج على التصفية. وقال غيره: إنما يتعلق به بالتصفية. وفائدة هذا الخلاف فيما إذا أنفق شيئاً بعد الإخراج وقبل التصفية. وَفِي ضَمِّ النَّاقِصِ إِلَى عَيْنٍ حَالَ حَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصاً قَوْلانِ مثاله: لو أخرج من معدنه عشرة وعنده مال حال حوله، نصاباً كان أو غيره، كما لو كان عنده عشرة. والقول بالضم لعبد الوهاب، والقول بعدمه خرجه اللخمي من قول سحنون. وضعف ابن يونس الضم، فإنه قال: وقول عبد الوهاب خلاف للمدونة؛ لأنه يلزم عليه لو أخرج من المعدن عشرة دنانير، ثم انقطع ذلك النيل وابتدأ آخر، فخرجت له عشرة أخرى منه والعشرة الأولى بيده أنه يضيف ذلك ويزكي؛ لأنه يقول: لو [130/ أ] كانت له عشرة دنانير حال حولها لأضافها إلى هذه العشرة التي حال حولها وزكى، فإضافتها إلى هذه المعدنية أولى، وهذا خلاف لقول مالك. انتهى. ومقتضى كلامه في المقدمات: أن هذه الصورة التي ألزمها ابن يونس لعبد الوهاب يتفق فيها على الزكاة، فإنه قال: إذا انقطع النيل بتمام العرق، ثم وجد عرقاً آخر في المعدن نفسه، فإنه يستأنف مراعاة النصاب. وفي هذا الوصف تفصيل، إذ لا يخلو ما نض له من النيل الأول أن يتلف من يده قبل أن يبتدئ النيل الثاني، أو أن يبقي بيده إلى أن يكمل عليه من النيل الثاني نصاب. فإن تلف من يده قبل أن يبدأ النيل الثاني، فلا خلاف أنه لا زكاة عليه؛ لأنه بمنزلة فائدة حال حولها وتلفت ثم أفاد ما يكمل به النصاب.

وأما إن تلفت بعد أن بدأ النيل الثاني وقبل أن يكمل النيل الأول، أنه لا زكاة عليه؛ لأنه في التمثيل كمن أفاد عشرة دنانير ثم أفاد بعد ستة أشهر عشرة دنانير أخرى، فحال الحول على العشرة الثانية وقد تلفت العشرة الأولى بعد حلول الحول عليها، فتجب عليه الزكاة عند أشهب، ولا تجب عند ابن القاسم. انتهى. فمقتضاه أنه لو بقي النيل الأول إلى أن كمل النصاب، لزكى بالاتفاق كما في الفوائد. وَالْعَمَلُ الْمُتَّصِلُ يُضَمُّ، وَلِذَلِكَ يُزَكَّى مَا اتَّصَلَ بَعْدَ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ، وَلَوْ انْقَطَعَ النَيْلُ ثُمَّ عَادَ لَمْ يُضَمَّ اتِّفَاقاً .... هذه المسألة على ثلاثة أوجه: إن اتصل النيل والعمل، ضم بعضه إلى بعض حتى يجتمع منه نصاب فيزكيه، ثم يزكي ما يخرج بعد ذلك وإن قل اتفاقاً. وقوله: (ولذلك) أي: ولأجل أن العمل المتصل، وكلامه واضح. الثاني: أن ينقطع النيل- أي: ما ينال منه- والعمل ثم يبتدئ الآخر، فلا يضم أحدهما إلى الآخر اتفاقاً. الثالث: أن يتصل العمل وينقطع النيل، فالمذهب عدم الضم، ولابن مسلمة أنه يضم، نقله عنه التلمساني. وعلى هذا فيحمل كلامه على ما إذا انقطع النيل والعمل ليصح الاتفاق، وليس من صور المسألة العكس أن ينقطع العمل ويتصل النيل، وحد الانقطاع: هو ما نقله صاحب النوادر، ولفظه من الواضحة: وإذا انقطع عرق المعدن قبل بلوغ ما فيه الزكاة وظهر له عرق آخر، فليبتدئ الحكم فيه، قاله مالك، وقاله ابن الماجشون. انتهى. وفي الموطأ نحوه. وظاهره: أنه لو انقطع العرق ثم وجد في تلك الساعة عرقاً آخر، أنه لا يضم أحدهما إلى الآخر.

وَفِي تَكْمِيلِ مَعْدِنٍ بِمَعْدِنٍ فِي وَقْتِهِ قَوْلانِ القول بالضم نسبه ابن يونس، وابن راشد لابن القاسم، ونسبه صاحب النوادر، والباجي، واللخمي، والتونسي، وصاحب المقدمات لابن مسلمة. قال ابن رشد: وهو عندي تفسير لما في المدونة؛ لأن المعادن بمنزلة الأرضين فكما يضيف زرع أرض الي أرض له أخرى فكذلك المعادن. قال ابن يونس: وهو أقيس. وعدم الضم لسحنون. وقوله: (فِي وَقْتِهِ) احترازاً مما إذا كانا في وقتين، فإنهما لا يضمان اتفاقاً. وقوله: (في وقته) هو كقول اللخمي. وأما المعدنان: فاختلف إذا ابتدأ في أحدهما فلم ينقطع نيله حتى عمل في الآخر وأدرك نيلاً، فذكر قولين. وكذلك قال في المقدمات. وَفِي ضَمِّ الذَّهَبِ إِلَى الْفِضَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْدِنُ وَاحِداً قَوْلانِ قال في الجلاب: ومن كان له معدنان ذهب وورق، ضم ما يخرج من أحدهما إلى الآخر وزكاه. قال الباجي: وهو الجاري على قول ابن مسلمة، وأما على قول سحنون فلا. ويبعد أن يوجدا في معدن واحد، وكذلك قال التلمساني. وَيُعْتَبَرُ الإِسْلامُ وَالْحُرِّيَّةُ بِخِلافِ الرِّكَازِ لقوله عليه الصلاة والسلام: "وفي الركاز الخمس" وأطلق. وَلَوْ أَذِنَ لِجَمَاعَةٍ، فَفِي ضَمِّ الْجَمِيعِ قَوْلانِ، وَعَلَيْهِمَا لَوْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَفِي وُجُوبِهَا قَوْلانِ ..... أي: إذا أعطى المعدن لجماعة يعملون على أن ما يخرج منه لهم. فقال سحنون: كالشركاء لا تجب إلا على حر مسلم. وقال ابن الماجشون: يضم الجميع ويزكيه رب المال، قال: والعبد كالحر، والكافر كالمسلم، وقاله المغيرة. وقد اتضع لك معنى قوله: (وَعَلَيْهِمَا لَوْ كَانُوا ...) إلخ.

وحاصل الخلاف: هل يعتبر كل واحد من العاملين، أو لا عبرة بهم وإنما العبرة برب المعدن، والظاهر أنهم كالشركاء. وَفِي دَفْعِهِ لِعَامِلٍ بِجُزْءٍ كَالْقِرَاضِ قَوْلانِ الجواز لمالك في كتاب ابن سحنون. وقد ذكر ابن رشد في مقدماته القولين، ونسب القول بالجواز لابن القاسم، قال: وهو اختيار فضل بن مسلمة، قال: لأن المعادن [130/ ب] لما لم يجز بيعها جازت المعاملة فيها على الجزء كالمساقاة والقراض. والقول الآخر: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه غرر، وهو قول أصبغ في العتبية، واختيار ابن المواز، وقول أكثر أصحاب مالك. فرع: وهل يجوز أن يدفع المعدن ربه للعامل بشيء معلوم ويكون ما يخرج منه للعامل بمنزلة من أكرى أرضه بشيء معلوم؟ قال ابن زرقون: روى ابن نافع عن مالك في كتاب ابن سحنون جوازه، ومنعه سحنون، وروي عن سحنون أيضاً الجواز. وعلى هذا لا يجوز أن يكري بذهب أو فضة، كما لا تكرى الأرض بطعام، ولا بما يخرج منها في المشهور. قال: ولا خلاف في الجواز إذا استؤجر العامل بأجرة معلومة وما يخرج منه لربه، وتكون زكاته حينئذ معتبرة على ملك ربه. انتهى. وَالْمُخْرَجُ مِنَ الْعَيْنِ خَاصَّةً رُبُعُ الْعُشْرِ لا إشكال في وجوب ربع العشر؛ لكون المأخوذ زكاة. وقوله: (خَاصَّةً) راجع إلى العين لا إلى ربع العشر؛ أي: إنما يخرج من العين خاصة. قال في المدونة: ولا زكاة في معادن الرصاص، والنحاس، والحديد، والزرنيخ وشبهه.

وَفِي النَّدْرَةِ الْمَشْهُورُ: الْخُمُسُ، وَثَالِثُهَا: إِنْ كَثُرَتْ (النَّدْرَةِ) ما يوجد في المعدن مجتمعاً. أبو عمران: الندرة: التراب الكثير الذهب السهل التصفية، مأخوذ من الندور. قال في التنبيهات: وهو بفتح النون وسكون الدال. المشهور فيها- كما ذكر- وجوب الخمس، نص عليه في المدونة والموازية. قال في المدونة: فأما الندرة من ذهب أو فضة، أو الذهب الثابت يوجد بغير عمل أو بعمل يسير ففيه كالركاز. وما نيل من ذلك بتكليف أو مؤنة، ففيه الزكاة. ولفظ الموازية قريب منه. قال ابن يونس: فظاهر هذا القول أنه يؤخذ منه الخمس وإن كانت أقل من عشرين ديناراً كالركاز. قال: ولو قال قائل: لا تكون ندرة ولا يؤخذ منها الخمس حتى تكون نصاباً لم أعبه؛ لأنه مال معدني. انتهى. والقول الثاني: وجوب الزكاة، رواة ابن نافع. وتفرقة الثالث ظاهرة. ابن عبد السلام: وينبغي أن يرجع في تفريق القليل من الكثير إلى العرف، ولا ينظر فيه إلى ما قاله ابن الجلاب رحمه الله. انتهى. خليل: وفيه نظر؛ لأن العرف إنما يرجع إليه في الأمور المعتادة التي جرى فيها عرف واستقر، وهذه نادية. ولم يذكر ابن الجلاب ما نسبه إليه في الندرة، وإنما ذكره في قليل الركاز، وسيأتي. فرع: إذا قلنا برواية ابن القاسم، فإن العمل المعتبر في تمييز الندرة من غيرها هو التصفية للذهب والتخليص لها دون الحفر والطلب، فإذا كانت القطعة خالصة لا تحتاج إلى تخليص، فهي القطعة المشبهة بالركاز وفيها الخمس، وأما إن كانت ممازجة للتراب وتحتاج إلى تخليص فهي المعدن، وتجب فيها الزكاة، حكاه الباجي عن الشيخ أبي الحسن.

وَمَصَرِفُهُ كَالزَّكَاةِ أي: لأنه زكاة، وإذا فرعنا على المشهور في الندرة، فمصرفها مصرف الخمس. وَأَمَّا الرِّكَازُ، فَعُلَمَاءُ الْمَدِينَة عَلَى أَنَّهُ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ يُوجَدُ بغَيرِ نَفَقَةٍ وَلا كَبِيرِ عَمَلٍ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا، فَالزَّكَاةُ .. معناه: في الموطأ. قال في الواضحة: والركاز: دفن الجاهلية خاصة. والكنز يقع على دفن الجاهلية ودفن الإسلام. وليس المراد بالنفقة وكبير العمل ما يتعلق بالإخراج، بل هو محمول عندهم على نفقة الحفر والتصفية. ابن عبد السلام: والضمير في (أَحَدُهُمَا) عائد على النفقة وكبير العمل، وليسا بمتلازمين؛ إذ قد يعمل مدة طويلة هو وعبيده ولا ينفق نفقة كثيرة. وَفِي غَيْرِ الْعَيْنِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ قَوْلانِ، وَرَجَعَ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ قال في المدونة: وما أصيب من دفن الجاهلية من الجوهر، والحديد، والنحاس وشبهه، فقال مالك مرة: فيه الخمس. ثم قال: لا خمس فيه. ثم قال: فيه الخمس. قال ابن القاسم: وبه أقول. انتهى. وما اختاره ابن القاسم هو اختيار مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وصوبه اللخمي وهو الظاهر؛ لأنه يسمى ركازاً بحسب الاشتقاق، لكن دفن غير العين نادر، فيكون منشأ الخلاف دخول الصور النادرة تحت اللفظ العام. وقوله: (وَرَجَعَ عَنْهُ) أي: رجع عن الخمس، وهو ظاهر. فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لِلْجَيْشِ، وَلا لِلْمُصَالِحِينَ، مَمْلُوكَةً أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَلِوَاجِدِهِ الْمَالِكِ اتِّفَاقاً، وَفِي غَيْرِ الْمَالِكِ الْمَشْهُورُ: لَهُمْ ... الأراضي ثلاثة: أرض عنوة، وأرض صلح، وأرض للمسلمين وهي قسمان: مملوكة لمعين، وغير مملوكة له. وتكلم هنا على القسم الثالث؛ يعني: إن كانت الأرض التي وجد

فيها الركاز غير مملوكة للجيش ولا للمصالحين، سواء كانت مملوكة لمعين أو لا، فإن وجده المالك للأرض [131/ أ] كان له اتفاقاً، وإن وجده غير المالك، فالمشهور أنه للمالك بناء على أن من ملك ظاهر الأرض يملك باطنها، وإليه أشار بقوله: (الْمَشْهُورُ: لَهُمْ) ومهما قال في هذا الفصل لهم، فالمراد المالك. وقيل: للواجد، بناء على عدم ملك باطنها. وقد أجروا جميع ما في هذا الباب على هذه القاعدة، وصحح بعضهم أن من ملك ظاهر الأرض يملك باطنها؛ لقوله عليه السلام: "من غصب قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين". وفهم من قوله: أنه إذا وجد في أرض غير مملوكة أنه يكون للواجد اتفاقاً؛ لأنه إذا كان للواجد على أحد القولين مع معارضة الملك، فلأن يكون للواجد مع عدم المعارضة من باب أولى، وكذا حكى الباجي عن مالك أنه للواجد في الأرض غير المملوكة. قال: ولا أعلم فيه خلافاً. ابن عبد السلام: هكذا يوجد في بعض النسخ وفيه قصور؛ لأن ظاهر قوله: (وَفِي غَيْرِ الْمَالِكِ) يقتضي أن التقسيم في المملوكة إما أن يجده المالك أو غيره، وتبقى غير المملوكة مسكوتاً عنها، ويوجد في بعض النسخ: (وإن كان في موات فلواجده، وفي ملك غير موات فلمالكه الواجد اتفاقاً، وفي غير المالك قولان) وهذا أحسن من الأول. انتهى. ويمكن أن يقال: ليس في كلامه قصور؛ لأنه يؤخذ منه حكم الواجد في أرض الموات كما ذكرنا، مع ما في هذا من تعيين المشهور، فهي أحسن. فَإِنْ كَانَتْ عُنْوَةً أَوْ صُلْحاً، فَالْمَشْهُورُ: لَهُمْ، وَقِيلَ: لِلْوَاجِدِ يعني: فإن كانت الأرض التي وجد فيها الركاز عنوة أو صلحاً، فالمشهور: لهم؛ أي: للجيش في العنوة، ولأهل الصلح في أرض الصلح. فإن لم يوجدوا وانقطع نسلهم كان

كمال جهل أصحابه. وقال مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع: للواجد، وفي كلامه إطلاق يقيده ما في التهذيب، قال فيه: وإن وجد بأرض الصلح، فهو للذين صالحوا على أرضهم ولا يخمس، وإن وجد في دار أحدهم فهو لجميعهم، إلا أن يجده رب الدار فيكون له خاصة، إلا أن يكون رب الدار ليس من أهل الصلح، فيكون ذلك لأهل الصلح دونه. وقال في الجلاب: وما وجد في أرض الصلح ففيه الخمس ولا شيء لواجده فيه. قال ابن القاسم: إلا أن يكون واجده من أهل الصلح فيكون ذلك له. وقال غيره: بل هو لأهل الصلح. فرع: فإن لم يوجد أحد ممن افتتحها ولا من ورثتهم، فيكون لجماعة المسلمين ما كان لهم وهو أربعة أخماسه، ويوضع خمسه موضع الخمس، قاله ابن القاسم في الموازية. قال اللخمي، وقال سحنون في العتبية: إذا لم يبق من الذين افتتحوها أحد، ولا من أولادهم، ولا من نسائهم، جعل مثل اللقطة وتصدق به على المساكين. انتهى. فرع: وحيث حكمنا به لأهل الصلح، فقال في الجلاب: يخمس. وقال في المدونة: لا يخمس. فرع: ولو وجد الركاز في موضع جهل حكمه، فقال سحنون في العتبية: هو لمن أصابه أي: ويخمس. فَإِنْ كَانَ مِنْ دِفْنِ الْمُصَالِحِينَ، فَلِمَالِكِهِ إِنْ عُلِمَ وَإِلا فَلَهُمْ ووقع في بعض النسخ هنا ما هذا لفظه: (فإن كان ملكاً عنهما، ففي المالك قولان، وفي غيره ثالثها: للواجد) ومعناها: فإن كان الموضع الذي وجد فيه الزكار ملكاً عنهما؛

أي: عن أهل العنوة أو الصلح بشراء منهم أو هبة، ووجده المشتري فهو له، وقيل: لمن انتقلت عنه، وهذا القدر كافٍ هنا. والله أعلم. وَإِنْ كَانَ مِنْ دَفْنِ الإِسْلامِ، فَلُقَطَةُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيِّ أي: وإن كان من دفن أهل الإسلام، ومراده ما كان محترماً بأهل الإسلام؛ ليعم دفن المسلم والذمي؛ لأن حرمة ماله تابعة لحرمة المسلمين. وقوله: (فَلُقَطَةُ لِمُسْلِمٍ) أي: فيعرف؛ لأن أحاديث اللقطة خاصة بالنسبة إلى أحاديث الركاز. ابن عبد السلام: قالوا وما لم تظهر عليه أمارة الإسلام أو الكفر حمل على أنه من دفن الكفر؛ لأن الغالب أن الدفن والكنز من شأنهم؛ أي: فيكون لواجده وعليه الخمس. وقال ابن رشد: إن لم توجد علامة الإسلام أو الكفر، أو كانت عليه وطمست، فقال سند: إنه يكون لمن وجده، قياساً على قول سحنون المتقدم، فيما إذا وجد في أرض مجهولة بجامع، أنه لا يعرف المالك. قال سند: وقال بعض أصحابنا: هو لقطة إذا وجد بأرض الإسلام تغليباً للدار. قال: والأول هو المشهور، وقد اتفقوا على أنه يخمس، ولو كان لقطه ما خمس. قال: وهذا إذا وجد بالفيافي في بلاد الإسلام، وأما إذا وجد في ملك أحد، فإنه له عندهم اتفاقاً، ولو كان لقطة لاختلف حكمه، وحكاه في البيان. انتهى كلام ابن راشد. خليل: وانظر كيف ذكر سند أولاً أن كونه للواجد مخرج على قول سحنون، ثم إنه قال: إنه المشهور. وَالْمُخْرَجُ: الْخُمُسُ لِمَصْرِفِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وِلا يُعْتَبَرُ الإِسْلامُ وَلا الْحُرِّيَّةُ ... المشهور لمالك في المدونة، قال فيها: يجب فيه الخمس قليلاً كان أو كثيراً وإن نقص عن مائتي درهم. والشاذ في كتاب ابن سحنون، ورواه [131/ ب] ابن نافع عن مالك،

ولم أر تحديد القليل بدون النصاب في الشاذ، ولهذا قال ابن الجلاب- لما ذكر الروايتين-: ويشبه أن يكون القليل ما دون النصاب، والشاذ مشكل. وَفِيهَا: كَرِهَ مَالِكٌ حَفْرَ قُبُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالطَّلَبَ فِيهَا، وَلَسْتُ أَرَاهُ حَرَاماً هذه وقعت هنا في بعض النسخ، وهذا الكلام في المدونة. وضمير (لَسْتُ) عائد على ابن القاسم، واختلف في العلة، فقيل: خمشية أن يصادف قبر نبي. وقيل: للنهي الوارد عن دخول قبور الكفار بغير اتعاظ، وطلب الكنوز من أمر الدنيا وهو ينافي الاتعاظ. وَمَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَلِوَاجِدِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ، وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ يعني: أن ما ألقاه البحر ولم يتقدم عليه ملك، فهو لمن وجده من غير تخميس. فلو رآه أولاً ثم سبق إليه آخر كان للسابق. وقوله: (وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ) من باب عطف الخاص على العام، وخصصهما لنفاستهما وللتنبيه على الخلاف فيهما. فقد حكي عن أبي يوسف: أنه أوجب في العنبر وكل حلية تخرج من البحر الخمس حين خروجها. قال ابن عبد البر: وقاله عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- وبه كان يكتب إلى عماله. فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكاً، فَقَوْلانِ، وَكَذَلِكَ مَا تُرِكَ بِمَضْيَعَةٍ عَجْزاً، وَإِنْ كَانَ لِحَرْبِيِّ فِيهِمَا فَلِوَاجِدِهِ بِغَيْرِ تَخْمِيسٍ ... أي: إذا لفظ البحر مالاً، وكان مملوكاً، فقيل: هو لواجده؛ لأنه مستهلك. وقيل: لمالكه؛ لأنه لم يتركه اختياراً. قوله: (وَكَذَلِكَ مَا تُرِكَ) أي: وكذلك يجري القولان فيما ترك بمضيعة عجزاً، ومن في البحر وعجز عنه ربه ومر تاركاً له. قال القاضي أبو بكر: إذا ترك الحيوان أهله بمضيعة عجزاً فقام عليه إنسان حتى أحياه، ففيه روايتان: إحداهما: أنه له، قال: وهو الصحيح؛ لأنه لو تركه لغيره بقوله فقبضه كان له، وكذلك إذا تركه بفعله، قال: وأما لو كان تركه بغير اختياره كعطب البحر، فهو لصاحبه وعليه لجالبه كراؤه ومؤنته. انتهى. يريد: أو يدعه لجالبه كما في نظائرها.

وقال في البيان في باب اللقطة: والصواب في الحيوان إذا تركه صاحبه بمضيعة هو على ثلاثة أوجه: الأول: أن يتركه على أن له الرجوع فيه إن أخذه آخذ. والثاني: أن يتركه على أنه لمن وجده. والثالث: أن يتركه ولا نية له. فأما إن تركه على أن له الرجوع فيه إن أخذه أحد وعاش عنده ولم يشهد على ذلك، فقيل: إنه يصدق في ذلك. وقيل: لا يصدق، إلا أن يكون إرساله إياه في أمن وماء وكلأ. واختلف إذا صدق في ذلك، هل بيمين أو بغير يمين على اختلافهم في يمين التهمة؟ قال: ولا خلاف أنه إذا أرسله في أمن وماء وكلأ أن له الرجوع فيه على ما ذكرناه. وأما إن تركه على أنه لمن أخذه، فلا سبيل له إلى أخذه ممن أخذه. وأما إن تركه ولا نية له، فقيل: كالأول. وقيل: كالثانية. قال في العتبية: ولا أجر للقائم على الدابة. قال في البيان: يريد إذا قام عليها لنفسه لا لصاحبها، ولو أشهد أنه إنما يقوم عليها لصاحبها؛ إن شاء أن يأخذها ويؤدي له أجر قيامه لكان له ذلك، ولو لم يشهد في ذلك وادعاه لصدق، وهل بيمين أو بغير يمين؟ يجري على الخلاف في توجيه يمين التهمة. قال: وأما النفقة فلا شك في رجوعه بها. انتهى. وقوله: (فَإِنْ كَانَ لِحَرْبِيِّ فِيهِمَا) أي: في الملفوظ وفيما ترك بمضيعة عجزاً وقوله: (بغير تخميس) أي: لأنه لم يوجَف عليه بخيل ولا ركاب. فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ بِقِتَالٍ هُوَ السَّبَبُ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَإِلا فَفَيْءٌ أي: أن أخذ مال الحربي على ثلاثة أقسام: الأول: إن أخذه بقتال هو السبب؛ أي: في أخذه، كما لو كان الحربي بحيث لا تؤمن منه الغلبة. والباء في (بِقِتَالٍ) للمصاحبة؛ أي: أخذه مصاحباً لقتال. الثاني: أن يأخذه بغير قتال.

زكاة النعم والإبل

الثالث: أن يأخذه بقتال ليس هو السبب، كما إذا تركوه وقاتلوا للدفع عن أنفسهم، وإلى حكم هاتين الصورتين الأخيرتين أشار بقوله: (وَإِلا فَفَيْءُ) النَّعَمُ شَرْطُهَا كَالْعَيْنِ، وَمَجِيءُ السَّاعِي إَنْ كَانَ، وَهِيَ: الإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ استعمل لفظة (النَّعَمُ) في الأنواع الثلاثة؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 94] وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام، وهي الأموال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو مذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد يجمع على نعمان، مثل جمل وجملان. والأنعام تذكر وتؤنث. انتهى. وقوله: (شَرْطُهَا كَالْعَيْنِ) أي: أن يكون نصاباً مملوكاً حولاً كاملاً ملكاً كاملاً، ولا يتأتى هاهنا اشتراط عدم العجز كما تقدم في العين؛ إذ الماشية تنمو بنفسها، فهو من باب صرف الكلام لما يصلح له. وَالْمَعْلُوفَةُ وَالْعَوَامِلُ كَغَيْرِهِا أي: المعلوفة في وجوب الزكاة كالسائمة، والعوامل كالهوامل في إجاب الزكاة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "في سائمة الغنم الزكاة" خرج مخرج [132/ أ] الغالب، ولا مفهوم له. وَفِي الْمُتَوَلِّدِ مِنْهَا وَمِنَ الْوَحْشِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَتْ الأُمَّهَاتُ مِنَ النَّعَمِ وَجَبَتْ صرح ابن شاس بالسقوط، وصححه ابن عبد السلام؛ لعدم دخول هذا النوع تحت الأنعام، ونسبه اللخمي لمحمد بن عبد الحكم، والتفصيل لابن القصار، ووجهه أن الولد في الحيوان غير العاقل تابع لأمه. وقال اللخمي: لا أعلمهم يختلفون في عدم تعلق الزكاة إذا كانت الأم وحشية. وقطع بعضهم بعدم الخلاف. وتبع المصنف في حكايته الثلاثة ابن بشير. وقد يقال: إن كلامه وكلام المصنف أولى؛ لأن المثبت أولى من المنفي.

وصورتها: أن تضرب فحول الظباء في إناث المعز أو العكس، وكذلك البقر. قال ابن بشير: وهذه المسألة اجتمع فيها موجب ومسقط. والضمير في (منها) عائد على النعم. الِإبِلُ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةُ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْساً وَعِشْرِينَ فَبِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتاً وَثَلاثِينَ فَبِنْتُ لَبُون، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتّاً وَأَرْبَعِينَ فَحِقَّةُ، فَإِذَا بَلَغَتْ إَحْدَى وَسِتِّينَ فَجَذَعَةُ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتاً وَسَبْعِينَ فَبِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَحِقَّتَانِ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمَائِةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةُ، إَلا أَنَّ فِيمَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلاثِينَ رِوَايَتَيْنِ: تَخْبِيرُ السَّاعِي، وِحِقَّتَانِ. وَرَأَى ابْنُ الْقَاسِمِ ثَلاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ ... هذا ظاهر، وليس فيه إلا الاتباع. وظاهر قوله: (فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةُ) أن الزائد على الخمس معفو لا شيء فيه، وهو خلاف ما رجع إليه مالك من أن الشاة مأخوذة عن الخمس مع ما زاد، ويظهر أثر ذلك في الخلطة. وقوله: (إَلا أَنَّ فِيمَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ ..) إلخ. يعني: أنه لا خلاف أن في مائة وعشرين حقتين؛ لنص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف أن في مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون. واختلف فيما بين العشرين والثلاثين؛ أي: من إحدى وعشرين إلى تمام تسعة وعشرين على ثلاثة أقوال، وتصورها من كلامه ظاهر. قال في المقدمات: والمشهور عن مالك تخيير الساعي بين أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون. ومنشأ الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم بعد حكمه بأن في المائة وعشرين حقتين، فما زاد ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، هل يحمل على زيادة العشرات، فيستمر فرض الحقتين إلى مائة وثلاثين، أو على مطلق الزيادة، فيؤخذ ثلاث بنات لبون؟ قال ابن بشير: واختلف المتأخرون في توجيه القول بالتخيير، فمنهم من رآه على الشك والتردد لاحتمال الحديث، ومنهم من رآه مبنياً على أنه مقتضى الحديث.

قال في التنبيهات: وبنت المخاض: هي التي كمل سنها سنة فحملت أمها؛ لأن الإبل سنة تحمل وسنة تربي، فأمها حامل وقد مخض بطنها الجنين، أو في حكم الحامل إن لم تحمل، فإذا كمل لها سنتان ووضعت أمه وأرضعت فهي لبون، وابنها المتقدم ابن لبون، فإذا دخل في الرابع فهو حق والأنثى حقة؛ لأنهما استحقا أن يحمل عليهما، واستحق أن يطرق منهما الذكر الأنثى، واستحقت الأنثى أن تطرق ويحمل عليها. وَعَلَى التَّخْبِيرِ، فَفِي ثُبُوتِهِ مَعَ أَحَدِ السِّنَّيْنِ قَوْلانِ أي: وإذا فرعنا على رواية التخيير، فهل التخيير ثابت سواء وجد ثلاث بنات لبون وحقتان أو فقد أحدهما، أو لا يكون إلا إذا وجدا أو فقدا. فحاصله: أن القائلين بالتخيير اتفقوا عليه إذا وجدا أو فقدا، واختلفوا إذا وجد أحدهما وفقد الآخر. والقول بالخيار مطلقاً لابن المواز، والأقرب خلافه؛ للأمر بالرفق بأرباب المواشي، وهو قول ابن عبدوس، ونحوه لمالك في المجموعة. ثُمَّ لا يُعْتَبَرُ إِلا الْعَشَرَاتُ أي: أنه بعد المائة والثلاثين لا يعتبر إلا العشرات. وضابط ذلك: أن الثلاثين ومائة فيها حقة وبنتا لبون، فكلما زادت عشرةً أزيلت بنت لبون وجعل مكانها حقة، فإذا صارت جميع بنات لبون حقاقاً وزادت عشراً، رد الكل بنات لبون وزيد على عدد الحقاق واحدة من بنات اللبون. ثم إذا زادت عشراً جعل مكان بنت اللبون حقة، ثم كذلك، ففي المائة والأربعين حقتان وبنت لبون، فإذا زادت عشراً فثلاث حقق، فإذا زادت عشراً، فإذا زادت عشراً فأربع بنات لبون، ثم كذلك. وَفِي الْمِائَتَيْنِ، ثَالِثُهَا: إِنْ وُجِدَا خُيِّرَ السَّاعِي وَإِلا خُيِّرَ رَبُّ الْمَالِ، وَرَابِعُهَا: الْمَشْهُورُ يُخَيَّرُ السَّاعِي إِنْ وُجِدَا أَوْ فُقِدَا لا أَحَدُهُمَا ..... الواجب في المائتين: إما أربع حقاق، أو خمس بنات لبون؛ لحصول نوع الوجهين اللذين علق الحكم عليهما، إذ فيهما خمسون أربع مرات وأربعون خمس مرات. ثم اختلف

هل يرجح جانب الساعي، قاله أصبغ، أو يرجح جانب رب المال، قاله عبد الوهاب؟ وقال مالك في الموازية: [132/ ب] إن وجد السِنَّانِ خير الساعي، وإن فقدا أو فقد أحدهما خير رب المال؛ لأن في تخيير الساعي عليه- والحالة هذه - ضرر، والمشهور أن الساعي مخير إن وجدا أو فقدا، فإن وجد أحدهما وفقد الآخر خير رب المال. فَإِنْ وُجِدَ ابْنُ اللَّبُونٍ فَقُطْ فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً لقوله في الحديث: "فإن لم توجد بنت المخاض فابن لبون ذكر". أما إن وجد بنت مخاض وابن لبون، فلا يؤخذ إلا ابنة المخاض؛ لأنها الأصل، وليس لصاحب الإبل أن يعطي ابن لبون، ولا للساعي أن يجبره على ذلك. واختلف إذا تراضيا فأخذه، فأجازه ابن القاسم في المدونة، ومنعه أشهب. اللخمي: والأول أصوب. وقد يكون في أخذه نظر للمساكين، إما لأنه أكثر ثمناً، أو لينحره لهم يأكلونه لكونه أكثر لحماً؛ لأنه أكبر سنا. لما ذكر ابن بشير القولين قال بعد القول بعدم الإجزاء: وهذا بناء على أن القيم تجزئ، أو على أن هذا قد يجب يوماً ما، ولم يخرج بالكلية عن النوع، فخالف القيم. انتهى. فَإِنْ فُقِدَا، كَلَّفَهُ السَّاعِي بِنْتَ مَخَاضٍ عَلَى الْمَنْصُوصِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى ذَلِكَ نَظَراً. وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ أَتَى بِابْنِ لَبُونٍ قُبِلَ ... يقع في بعض النسخ (فُقِدَا) بألف التثنية، والضمير على هذه عائد على ابن اللبون وابنة المخاض. ويقع في بعض النسخ (فقد) بغير ألف، والضمير حينئذٍ عائد على ابن اللبون؛ لأنه قد ذكر بنت المخاض بقوله: (وإن وجد ابن اللبون فقط) يعني: فإن حصل عنده خمس وعشرون وليست عنده بنت مخاض ولا ابن لبون، فإن الساعي يكلف بنت مخاض. والمنصوص أنها تتعين كما لو وجدا.

وقوله: (إِلاَّ أَنْ يَرَى ذَلِكَ نَظَراً) فيه نظر؛ لأنه قال في التهذيب: فإن لم يوجدا؛ أي: بنت مخاض وابن لبون، أجبر ربها على أن يأتي بابنة مخاض، إلا أن يدفع خيراً منها فليس للساعي ردها، فإن اتى بابن لبون لم يأخذه الساعي إلا أن يشاء، ويرى ذلك نظراً. فأنت تراه إنما جعل محل النظر بعد الإتيان به. ومقتضى كلام المصنف: أن للساعي أن يكلفه ذلك ابتداء، وليس كذلك، وقد اعترضه ابن عبد السلام كذلك. ونقل محمد عن أشهب: أنه ليس للمصدق أخذ ابن اللبون. وقوله: (عَلَى الْمَنْصُوصِ) إشارة إلى ما أخذه ابن المواز من قول ابن القاسم في التخيير، وذلك أن ابن القاسم استشهد على تعيين بنت المخاض إذا عدما بقول مالك في المائتين إذا عدم منهما الحقاق وبنات اللبون، أن يخير الساعي كما لو وجدا. والحكم إذا وجدت بنت المخاض: أنها تتعين، فيلزم مثل ذلك إذا عدما. قال اللخمي: فحمل محمد على ابن القاسم أنه يقول بالخيار؛ لاستشهاده بالمائتين، وليس الأمر كذلك، فقد بين ذلك في المدونة، وقال: عليه أن يأتي بابنة المخاض أحب أم كره. انتهى. وقوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ أَتَى بِابْنِ لَبُونٍ قُبِلَ) الظاهر أن مراده بهذا ما ذكره اللخمي، ولفظه: ويختلف إذا لم يلزم المتصدق ابنة مخاض حتى أحضر صاحب الإبل ابن لبون، فقال ابن القاسم: يجبر المصدق على قبوله، ويكون بمنزلة ما لو كان فيها، وعلى أصل أصبغ لا يجبر. انتهى. وَإِذَا رَضِيَ الْمُصَّدِّقُ سِنّاً أَفْضَلَ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً المصدق: بتشديد الصاد هو رب الماشية، وهو المراد هنا، وأصله المتصدق فقلبت التاء صاداً وأدغمت في مثلها، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 21] وأما بتخفيفها فهو الساعي، قاله الجوهري وغيره.

أي: إذا رضي رب الماشية بإعطاء سن أفضل مما عليه أجزأ اتفاقاً؛ لأنه أتى بالواجب وأحسن بالزيادة، وإذا بذل الأفضل لزم الساعي قبوله ولا خيار له، قاله في المدونة. وهذا أولى من كلام ابن عبد السلام، فإنه قال: وقول المؤلف: (فإن رضي المصدق ..) إلخ. ظاهره أنه لا يتم إلا برضا المصدق، والمذهب أنه لا يحتاج إلى رضاه، بل يلزمه قبول الأفضل إذا تطوع به رب المال، وهذا إنما يأتي إذا قرأنا المصدق بالتخفيف، وأما بالتشديد كما ذكرنا فلا. فَإِنْ أَعْطَى عَنِ الْفَضْلِ أَوْ أَخَذَ عَنِ النَّقْصِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَشْهُورِ قال في المدونة: ولا يأخذ الساعي دون السن المفروضة وزيادة ثمن ولا فوقها ويؤدي ثمناً. وظاهره المنع كما شهره المصنف. اللخمي: وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا بأس بذلك. وقال ابن القاسم في المجموعة: يكره، فإن فعل أجزأ. انتهى. ابن يونس: وقال أصبغ في الموازية: إن أعطى أفضل مما عليه وأخذ لزيادة الفضل ثمناً، فلا شيء عليه إلا رد الزيادة وبالعكس. فظاهره المنع كظاهر المدونة؛ لكن قال الباجي بعد ذلك: فإن فعل، فقال: ابن القاسم، وأشهب، وسحنون: يجزئه. ابن زرقون: يريد إن وقع لا أنه يجوز ذلك ابتداء. ولعل الخلاف هنا مبني على الخلاف في إخراج القيم، بل الإجزاء هنا أقرب؛ لكونه لم يخرج عن الجنس بالكلية. وحكى ابن بشير في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز ابتداء. والثاني: مكروه، وإن وقع أجزأ. والثالث: لا يجزئ، إلا أن يعطي أفضل ويأخذ ثمناً فيرد الثمن المأخوذ.

زكاة الغنم والبقر

قال: وهذا مع فوات المأخوذ، أما إن [133/ أ] كان قائماً فليسترده على هذا القول ويخرج الواجب. انتهى. تنبيه: ذكر غير واحد أن المشهور أن إخراج القيمة مكروه؛ لأنه غير مجزئ، كما سيقوله المصنف. ونص ابن يونس هنا على أن الصواب الإجزاء، وقال: هو من ناحية كراهة اشتراء المرء صدقته. وكذلك نص سند. وعلى هذا، فلا يبعد حمل كلامه في المدونة على الكراهة، وعلى هذا فيقرأ كلام المصنف (لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَشْهُورُ) بسكون الزاي، بمعنى: أنه لا يجوز ابتداء، لا (لم يجزِ) بكسر الزاي، بمعنى: أنه لا يجزئ، فإن النقل لا يساعد ذلك. فرع: لو أخرج بعيراً عن خمسة أبعرة بدلاً من الشاة الواجبة. قال في الجواهر: فأطلق القاضيان أبو الوليد، وأبو بكر القول بأنه لا يجزئ وقال أبو الطيب عبد المنعم القروي من أصحابنا: من أباه ليس بشيء؛ لأنه مواساة من جنس المال بأكثر مما وجب عليه. ابن عبد السلام: والصحيح الإجزاء. وَالْغَنَمُ فِي الشَّنَقِ الضَّانُ، إِلا أَنْ يَكُونَ جُلُّ غَنَمِ الْبَلَدِ الْمَعْزَ فَتُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ غَنَمُهُ مُخَالِفاً لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ ... (الشَّنَقِ): بالشين المثلثة من فوق وفتح النون- قاله في التنبيهات- قال مالك: وهو ما يزكى من الإبل بالغنم. والمعتبر في ذلك الضأن، إلا أن يكون جل غنم البلد المعز، فيؤخذ المعز حيئنذٍ إن كان غنمه معزاً اتفاقاً. وكذلك إن كان غنمه ضأناً على المشهور اعتباراً بجل غنم البلد. والشاذ: تؤخذ مما عنده، رواه ابن نافع عن مالك، وهو قول ابن حبيب، ونص ما نقله الباجي عنه. وقال ابن حبيب: إن كان من أهل الضأن فمنها، وإن كان من أهل المعز

فمنها، وإن كان عنده الصنفان خير الساعي. ومتقضى كلام المصنف: أنه إذا تساويا يؤخذ من الضأن؛ لأنه عين الضأن بقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ جُلُّ غَنَمِ الْبَلَدِ الْمَعْزَ). ابن عبد السلام: والأقرب في هذه الصورة تخيير الساعي. وكذلك قال ابن هارون وزاد: ويخير رب المال. وَأسْنَانُ الإِبِلِ: حُوَارٌ، ثُمَّ بِنْتُ مَخَاضٍ، ثُمَّ بِنْتُ لَبُونٍ، ثُمَّ حِقَّةٌ، ثُمَّ جَذَعَةٌ، ثُمَّ ثَنِيٌّ، ثُمَّ رَبَاعٌ، ثُمَّ سَدِيسٌ، ثُمَّ بَازِلٌ، ثُمَّ مُخْلِفٌ، ثُمَّ بَازِلُ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ، ثُمَّ مُخْلِفُ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ. فَالْحُوَارُ: اسْمُهُ قَبْلَ سَنَةٍ، فَإِذَا كَمُلَتْ فَبِنْتُ مَخَاضٍ، ثُمَّ كَذَلِك إِلَى آخِرِها ..... مرجع هذا إلى أهل اللغة. وما ذكره المصنف وإن كان في بعضه خلاف فهو المشهور وحاصل كلامه: أنه إذا ذكر (ثم) يقتضي أن بين كل سن والذي بعده سنة، وإن ذكر (أو) يقتضي التخيير في إطلاق ذلك عليه. فالحوار: اسمه قبل سنة، فإذا كملت فبنت مخاض، فإذا كملت الثانية فبنت لبون، ثم كذلك إلى آخرها. وانظر هل يطلق على الذي له عشر سنين أربع أسامٍ: بازل عام أو عامين، ومخلف عام أو عامين. وكلام الجوهري يقتضي أن سن الحوار لا يتصل بسن ابن المخاض بل بينهما سن الفصيل؛ لأنه جعل ولد الناقة يسمى حواراً إلى أن يفصل، فإذا فصل سمي فصيلاً، ثم يجعل ابن مخاض بعده مستدلاً بقول الفرزدق: وجدنا نهشلا فضلت فقيما كفضل ابن المخاض على الفصيل والمحتاج إليه في الزكاة الأربع الأول التي بعد السن الأول، ويحتاج في الضحايا إلى الثني، وذكر البقية استطراداً وتتميماً للفائدة مع عدم الطول.

الْبَقَرُ: فِي كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ ذَكَرٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَمُسِنَّةٌ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَتَبيعَانِ، ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ .... هذا ظاهر لم يختلف فيه عندنا. وتقييد التبيع بالذكر والمسنة بالأنثى تأكيداً. وقوله: (ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعُ ..) إلخ. هو كما قدمنا من الضابط في الإبل، ففي ستين تبيعان، فإذا زادت عشراً عوض عن أحدهما مسنة، فإذا زادت عشراً جعلا مسنتين، فإذا زادت عشراً كان الواجب ثلاثة أتبعة، ثم كذلك. تنبيه: ولا يصح هذا الضابط بعد المائة وعشرين؛ لأن في مائة وستين أربع مسنات، فلو صح أن يفعل ما تقدم؛ لوجب أن يكون في مائة وسبعين خمسة أتبعة، والخمسة الأتبعة تجب في مائة وخمسين؛ لأنها ثلاثون خمس مرات، فيلزم أن يكون عشرون بغير زكاة. وَالْمِائَةُ وَالْعِشْرُونَ فِيهَا كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الإِبلِ أي: أنه اختلف في المائة والعشرين من البقر؛ لإمكان عدها بالأربعين والثلاثين على أربعة أقوال، كما في المائتين من الإبل، وهو واضح. وَيُجْزِئُ التَّبِيعُ الذَّكَرُ، وَفِي أَخْذِ الأُنْثَى مَوْجُودَةً كُرْهاً قَوْلانِ قوله: (وَيُجْزِئُ التَّبِيعُ الذَّكَرُ) مستغنى عنه بما قدمه، لكن أعاده ليرتب عليه ما بعده. قوله: (وَفِي أَخْذِ الأُنْثَى) يعني: أنه اختلف هل للساعي أخذ التبعية الأنثى كرهاً أم لا؟ وسواء وجدا معاً أو وجدت التبعية فقط؟ وقد ذكر التلمساني الخلاف إذا لم يوجد في البقر إلا التبعية. وعلى هذا فتخصيص ابن عبد السلام فرض المسألة بوجودهما معاً ليس بظاهر، وإن كان ذكر [133/ ب] الخلاف في وجودهما يستلزم وجود الخلاف إذا

لم يوجد إلا التبعية، لكن هذا ليس من شأن الشراح، والمشهور: ليس للساعي الجبر (لما ورد من الرفق بأرباب المواشي، والشاذ لابن حبيب وهو مشكل. وَالَّتبِيعُ: الْجَذَعُ الْمُوَفِّي سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: سَنَةً. وَالْمُسِنَّةُ: الْمُوَفَّيَةُ ثَلاثاً، وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ الخلاف في المسنة مرتب على الخلاف في التبيع. والقول الثاني لعبد الوهاب، والأول لابن حبيب وابن المواز. ومقتضى كلامه أنه المشهور. وقال ابن بشير: وهو الصحيح عند أهل اللغة. ونقل ابن نافع في المجموعة: أن سنه ثلاث سنين. ونقل التلمساني في اللمع: أن المسنة ما أوفت أربعاً ودخلت في الخامسة. الْغَنَمُ: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَشَاتَانِ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ وَشَاةً فَثَلاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةً فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ ... هكذا ورد في الحديث. وَفِي الْمُجْزِئِ ثَلاثَةٌ: الْمَشْهُورُ الْجَذَعُ مِنْهُمَا جَمِيعاً مُطْلَقاً. ابْنُ الْقَصَّارِ: الْجَذَعَةُ الأُنْثَى. ابْنُ حَبِيبِ: الْجَذَعُ مِنَ الضَّأنِ، وَالثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ كَالضَّحِيَّة يعني: وفي أقل السن المجزئ في زكاة الغنم ثلاثة أقوال: المشهور: أنه الجذع منهما، أي: من الضأن والمعز. وقوله: (جَمِيعاً) تأكيد. وقوله: (مُطْلَقاً) أي: ذكراً أو أنثى. وقال ابن القصار: لا يجزئ الجذع منهما؛ أي: من الضأن والمعز، وإنما تجزئ الجذعة منهما. وقاس ابن حبيب هذا على الضحايا، فقال: إنما يجزئ الجذع من الضأن والثني من المعز، ولا يجوز أن يكون ذكراً؛ لأنه تيس، إلا أن يكون مسناً من كرائم المعز فيلحق بالفحول، ويجزئ إن طاع به ربه، هكذا نقل عنه جماعة، وكأن المصنف ترك هذا لما سيقوله: أن التيس من الشرار، وفيه ضعف؛ لأن التبيع يجزئ هنا ولا يجزئ في الأضحية. والثني: بالثاء المثلثة.

وَفِي الْجَذَعِ مِنَ الضَّانِ أَرْبَعَةٌ: سِتَّةٌ، وَثَمَانِيَةٌ، وَعَشَرَةٌ، وَسَنَةٌ. وَالثَّنِيُّ: ما دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ ... أي: وفي سن الجذع من الضأن والمعز أربعة أقوال: والقول بستة أشهر لابن زياد وأما الثاني فلم أره معزواً. والثالث لابن وهب. والقول بأنه سنة لأشهب، وابن نافع ويقع في بعض النسخ تشهيره. قال في الجواهر: وهو الذي صدر به في الرسالة، قال فيها: والجذع ابن سنة، وقيل: ابن ثمانية أشهر، وقيل: ابن عشرة أشهر. والثني من المعز: ما أوفى سنة ودخل في الثانية. وبقي هنا شيء؛ وهو أنه إذا كان المشهور في الجذع هو ابن سنة، فلا فرق بينه وبين الثني؛ لأنه إذا كان ابن سنة فقد دخل في الثانية. خليل: ويمكن أن يجاب عن هذا بوجهين: الأول: أن من قال الجذع ابن سنة، قال: إن الثني ما دخل في الثانية. وقد ذكر التلمساني هذا القول عن ابن حبيب، ويؤيده ما قاله غير واحد: أن التحاكم في هذا إلى أهل اللغة. والذي قاله الجوهري أنه يقال: الجذع لولد الشاة في السنة الثانية. قال: والثني الذي بلغ ثنيته، ويكون في الظلف والحافر في السنة الثالثة، وفي الخف في السنة السادسة. انتهى. والثاني: لعل مراد من قال الثني ما دخل في الثانية، الدخول البين، ويرجح هذا أن الشيخ أبا محمد نص في الرسالة على أن الجذع من الضأن ابن سنة، مع أنه قال: والثني من المعز ما أوفى سنة ودخل في الثانية. وَلا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ الأَمْوَالِ: كَالأَكُولَةِ، والَفحْلِ، وَالرُّبَّى، وَذَاتِ اللَّبَنِ. وَلا شِرَارُهُ: كَالسَّخْلَةِ، وَالتَّيْسِ، وَالْعَجْفَاءِ، وَذَاتِ الْعَوَارِ ... لما في الموطأ عنه عليه الصلاة والسلام من النهي عن حَزَرات أموال الناس، وهي الخيار. ولما في أبي داود: "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس الغنم، إلا أن يشاء المصدق".

و (الأَكُولَةِ) قال مالك: هي شاة اللحم تسمن لتؤكل، وسواء كانت ذكراً أو أنثى. و (الَفحْلِ) هو المعد للضراب. و (وَالرُّبَّى) بضم الراء وتشديد الباء ذات الولد. و (وَذَاتِ اللَّبَنِ) هي صاحبة اللبن الذي ينظر إليه غالباً. و (السَّخْلَةِ) الصغيرة. و (التَّيْسِ) الذي ليس معداً للضراب. و (الْعَجْفَاءِ) المريضة. و (الْعَوَارِ) بفتح العين هو العيب مطلقاً. قال ابن حبيب، وابن يونس: هو الذي في الحديث. قال: وأما بضم العين فهو العور، وكذلك ذكر التلمساني. وهكذا نقل صاحب الاستذكار قال: وقيل في ذلك بالضد. ابن يونس: وقيل بضم العين فيهما. قال في المدونة: وإن شاء المصدق أن يأخذ ذات العوار، أو التيس، أو الهرمة أخذها إن كانت خيراً. فَإِنْ كَانَتْ كَرَائِمَ كُلَّهَا، أَوْ شِرَاراً كُلَّهَا، فَالْمَشْهُورُ: يَاتِي بِمَا يُجْزِئُهُ. وَثَالِثُهَا: تُؤْخَذُ إِلا أَنْ تَكُونَ خِيَاراً. وَرَابعُهَا: تُؤْخَذُ إَلا أَنْ تَكُونَ سِخَالاً ..... إن كان في الغنم وسط فلا إشكال في أخذه، وإن لم يكن بل كانت خياراً كلها أو شراراً كلها، فذكر المصنف أربعة أقوال. والقول بأنه يأخذ منها مطلقاً [134/ أ] عزاه ابن بشير لابن عبد الحكم، لكن ذكر هو وغيره أن ابن عبد الحكم لم يصرح به، بل قال: لولا خلاف أصحابنا لكان بيناً أن يأخذ منها واحدة. وعلى هذا فعده قولاً مشكلاً لأنه لم يصرح به. والقول بأنها تؤخذ إلا أن تكون خياراً ذكره ابن بشير. والقول بأنها تؤخذ إلا أن تكون سخالاً، نسبه اللخمي لمطرف في ثمانية أبي زيد. ابن عبد السلام: والقول الرابع هو مذهب المدونة، إلا أن معناها عندي إذا تأمل أن المصدق إذا رأى الأخذ من الشرار فله ذلك، بشرط أن تكون كلها كذلك ولا يؤخذ من السخال حينئذٍ، والأول هو المشهور وهو أقرب إلى لفظ الآثار. ثم قال: وتبع المصنف في نقل هذا

الفرع ابن بشير، وطريق ابن شاس عنديأقربإلى التحقيق، فانظرها في كتابه. انتهى. وفيه نظر؛ لأنه قال فيها: وإذا كانت الغنم رُبَّى كلها، أو أكولة، أو ماخضاً، أو فحولة لم يكن للمصدق أن يأخذ منها شيئاً وليأت ربها بجذعة أو ثنية مما فيها وفاء، ويلزم الساعي قبولها، ولا يأخذ ما فوق الثني ولا ما تحت الجذع، ولا يأخذ إلا الثني أو الجذع إلا أن يشاء رب المال أن يعطيه الأفضل. ثم قال: وإن كانتالغنم كلها جربة، أو ذات عوار، أو سخالاً، أو كانت البقر عجاجيل كلها، أو الإبل فصلاناً كلها كلف ربها أن يشتري ما يجزئه، وإذا رأى المصدق أن يأخذ ذات العوار، أو التيس، أو الهرمة أخذها إن كان ذلك خيراً له ولا يأخ ذ من هذه الصغار شيئاً. هذا نص التهذيب. فقوله: إن القول الرابع مذهب المدونة. ليس كذلك؛ إذ قد نص فيها أنها إذا كانت كلها خياراً، أو شراراً أن الساعي لا يأخذ منها، بل يكلفه أن يأتي بما يجزئه، فهو موافق للمشهور الذي ذكره المصنف. ثم كيف يجعل ما في المدونة خلاف المشهور بقوله: مذهب المدونة كذا والأقرب المشهور. وقوله في التهذيب: وإذا رأى المصدق. لا يعارض كلام المصنف، بل هو مقيد له. وقوله: إن طريق ابن شاس عندي أقرب إلى التحقيق. فيه نظر؛ لأن في طريق المصنف وابن بشير زيادة أقوال، وقد ذكر الجميع اللخمي على أنه لا ينبغي أن يقال على نقل ابن شاس أنه طريقة، وانظر كلمه، فلولا الإطالة والخروج عن المقصود لأتيت به. والله أعلم. وَتُضَمُّ الْعِرَابُ وَالْبُخْتُ، وَالْبَقْرُ وَالْجَوَامِيسُ، وَالضَّانُ وَالْمَعَزُ إن ضمت البخت إلى العراب لأنها من جنسها، إذ لفظ الإبل صادق عليهما. وكذلك الجواميس مع البقر، والضأن مع المعز. ونقل ابن بزيزة عن ابن لبابة: أن الضأن والمعز لا يجمعان في الزكاة، وكذلك نقل عنه في المقدمات في أواخر الزكاة.

فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ شَاةً، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ خُيِّرَ السَّاعِي. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: الْقِيَاسُ أَخْذُ نِصْفَيْنِ، وَإِلا فَمِنَ الأَكْثَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِلا أَنْ يَكُونَا مُسْتَقِلَّيْنِ فَيُخَيَّرُ السَّاعِي .. أي: فإن اجتمع نوعا الغنم- الضأن والمعز- وكان الواجب شاة، فلا يخلو إما أن يكونا متساويين أو لا، فإن تساويا كعشرين وعشرين، وثلاثين وثلاثين خُير الساعي فمن أيها شاء أخذ. وقال اللخمي: القياس أخذ نصفين كمال تنازعاه اثنان، وليس ذلك بظاهر؛ لأن ذلك يوقع في مخالفة الأصول؛ لأنه إما أن يقول: يأخذ قيمة نصفين، أو يكون شريكاً. والأول يلزم منه أخذ القيم، والثاني يلزم منه الشركة وفيه ضرر على رب الماشية وإنما لم تشرع زكاة الأوقاص في الماشية- والله أعلم –لضرر الشركة. قوله: (وإلا) أي: وإن لم يكونا متساويين، فالمشهور: يأخذ من الأكثر مطلقاً. ابن عبد السلام: وهو متجه إذا كانت الكثرة ظاهرة. وأما إن كانت تزيد بشاة أو شاتين، فالظاهر أنهما كالمتساويين، وله نظائر في المذهب. وقال ابن مسلمة: إلا أن يكونا مستقلين؛ يعني: أن الحكم إخراج الزكاة من الأكثر، إلا أن يكون الأقل أربعين فيخير الساعي كأربعين وثمانين. وقال سند: يصح قول ابن مسلمة إن قلنا: إن الوقص لا تعلق للزكاة به وإنما الشاة مأخوذة عن النصاب. وإن قلنا: أنها هي عين الجميع، وجبت مراعاة الأكثر. انتهى. وهذا ظاهر؛ لأنا إذا قلنا: إن الزكاة ساقطة عن الأوقاص، فالساعي ليس بمنحصر في أن يجعل الوقص في الأكثر، بل له جعله في أيهما شاء؛ إذ من حجته أن يقول: لو انفرد هذا الأقل لوجبت فيه الزكاة. وعلى هذا فيخير، وهذا أولى من كلام ابن عبد السلام؛ لأنه قال: وهو- أي قول ابن مسلمة- غير صحيح على رأي من يسقط [134/ ب] الزكاة عن الأوقاص، وفيه نظر على الرأي الآخر.

وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ شَاتَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُتسَاوِيَيْنِ فَمِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إَنْ كَانَ فِي أَقَلِّهِمَا عَدَدُ الزَّكَاةِ وَهِي غَيْرُ وَقْصٍ فَمِنْهُمَا، وَإِلا فَمِنَ الأَكْثَرِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: مِنَ الأَكْثَرِ مُطْلَقاً، وَعَلَيْهِمَا خِلافُهُمَا فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِينَ ..... يعني: فإن اجتمعا وكان الواجب شاتين، فإن تساويا كأحد وستين ضأنية ومثلها معزاً فمنهما؛ أي: فمن كل صنف شاة وإن لم يتساويا، فإن كان الأقل وقصاً، كما لو كان معه مائة وإحدى وعشرون من الضأن وأربعون من المعز أو بالعكس، أو ليس فيه عدد الزكاة كمائة ضأنية وثلاثين معزاً أو بالعكس، أخذت من الأكثر وإن كان الأقل غير وقص وفيه عدد الزكاة كمائة ضأنية وأربعين معزاً أو بالعكس، فقال ابن القاسم: يؤخذ من كلِّ شاة. وقال سحنون: يؤخذ من الأكثر هنا، وفي ذينك القسمين: وهو معنى قوله: (مِنَ الأَكْثَرِ مُطْلَقاً) ومعنى كون الأقل فيه الزكاة: أن يكون أربعين فأكثر. ومعنى كونه غير وقص: أن يكون الأقل هو الموجب للشاة الثانية، بأن يكون أكثر النوعين مائة وعشرين فأقل. وحاصل هذا: أن سحنون قال: يؤخذ من الأكثر مطلقاً، وابن القاسم اشترط في الأخذ منهما شرطين: متى اختلا، أو اختل أحدهما أخذ من الأكثر، كما قاله سحنون وقوله: (وَعَلَيْهِمَا ...) إلخ. واضح. وذكر ابن رشد في مقدماته قولين: فيما إذا كان الصنف الثاني وقصاً تجب في عدده الزكاة، كأربعين ومائة وإحدى وعشرين؛ أي: هل تؤخذ الشاتان من الأكثر، أو يؤخذ من كلِّ شاة؟ فانظره. والوقص: بفتح الواو والقاف: نص على معناه الجوهري، وفيها لغة ثانية بالإسكان، قاله النووي في لغات التنبيه. وعند بعضهم: الإسكان من لحن الفقهاء.

وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ ثَلاثاً، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَمِنْهُمَا وَيُخَيَّرُ السَّاعِي فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ فِي أَقَلِّهِمَا عَدَدُ الزَّكَاةِ وَهِيَ غَيْرُ وَقْصٍ أُخِذَ مِنْهَا شَاةٌ وَإِلا فَمِنَ الأَكْثَرِ، وَقَالَ سُحْنُونُ: مِنَ الأَكْثَرِ ..... هذا ظاهر إذا فهمت ما تقدم، والتمثيل سهل. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ، فَالْحُكْمُ لِلمِئينَ، فَإِنْ جَاءَ مُوجِبٌ مِنْهُمَا فَكَالأُولَى يعني: وإن كان الواجب أكثر من ثلاث شياه، فالحكم بعد ذلك إنما هو للمئين؛ أي: في كل مائة شاة. وقوله: (فَإِنْ جَاءَ ..) إلخ. أي: فإن كانت المائة الرابعة أو الخامسة أو غيرها من النوعين، فأجر الحكم فيها على ما تقدم في المسألة الأولى، وظاهر كلامه أن قول ابن مسلمة يأتي هنا. وَأَلَزْمَ الْبَاجِيُّ ابْنَ الْقَاسِمِ مَذْهَبَ سُحْنُونَ فِي أَرْبَعِينَ جَامُوساً وَعِشْرِينَ بَقَرَةً قال الباجي في المنتقى: لما تكلم على مسألة (أَرْبَعِينَ جَامُوساً وَعِشْرِينَ بَقَرَةً) وذكر أن عليه تبيعاً من الجواميس وتبيعاً من البقر، وعلل ذلك بأن ما يجب فيه التبيع الثاني البقر فيه أكثر من الجواميس، فإن كان الجنمس الثاني نصاباً وهو أقل مما بقي من الجنس الأول بعد النصاب- وذلك مثل أن يكون له مائة وعشرون من الضأن وأربعون من المعز- فهل تؤخذ الشاة الثانية من الضأن أو المعز؟ قال ابن القاسم في المدونة: تؤخذ واحدة من الضأن وأخرى من المعز. وقال سحنون: تؤخذ الشاتان من الضأن. ثم قال: وفي هذا نظر على قول ابن القاسم في أربعين من الجواميس مع عشرين من البقر في المسألة المتقدمة. انتهى.

وعلى هذا فعبارته بـ (أَلَزْمَ) ليست بظاهرة؛ لأن الباجي لم يقطع بإلزام وإنما أشار إلى التماثل، وأن ظاهره التعارض بين المسألتين، ولكن المصنف- والله أعلم- تبع في هذه العبارة ابن بشير. ومراد المصنف أن الباجي ألزم ابن القاسم أن يقول في مسألة الغنم: أن تؤخذ الشاتان من المائة والعشرين من سألة الجواميس؛ لأن الشاة الأولى تجب في أربعين ويبقى له بعد ذلك من الضأن ثمانون، فيخرج الثانية منها لأنها الأكثر كالبقر مع الجواميس. وعلى هذا، ففي كلام المصنف إضمار تقديره: وألزم الباجي ابن القاسم مذهب سحنون في اجتماع الضأن والمعز من قوله في مسألة الجواميس والبقر، ولولا كلام الباجي الذي نقلته لكان يمكن حمل كلام المصنف على وجه آخر، وهو ظاهر لفظه، وهو أن يكون الباجي ألزم ابن القاسم أن يقول في أربعين جاموساً وعشرين بقرة بقول سحنون؛ أي: بأن يؤخذ التبيعان من الجواميس. ووجه الإلزام: أن ابن القاسم اشترط في الأخذ من الصنفين أن يكون في الأقل نصاباً، والبقر هنا ليست نصاباً، وفهم من كلام المصنف أن ابن القاسم يقول في مسألة الأربعين جاموساً وعشرين بقرة بالأخذ منهما؛ إذ لولا ذلك لم يقل: (وألزم) إذ لا يلزم الإنسان بما لم يقل به. وَأَلْزَمَهُ اللَّخْمِيُّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَتِسْعٍ وَثَلاثِينَ مِنْهُمَا أي: وألزم اللخمي ابن القاسم من الجواميس والبقر أن يقول فيمن له اثنان وثمانون ضأنية وتسع وثلاثون معزاً أو بالعكس، بأن يؤخذ من الضأن شاة ومن المعز أخرى؛ لأن التسع والثلاثين والبقر قد اشتركا في نقصهما عن النصاب، فإذا لم يشترط أن يكون في البقر نصاباً، فكذلك لا يشترط في التسع والثلاثين.

وَجَوَابُهُمَا: أَنَّ السِّتَّينَ مِنْهُمَا كَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الضَّانِ وَالْمَعَزِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَرْبَعِينَ وَثَلاثِينَ ..... يعني: وجواب الشيخين أن الثلاثين الثانية في باب البقر كالمائة الرابعة؛ لأن بالثلاثين الثانية والمائة الرابعة تقرر النصاب، وإذا تقرر ذلك ظهر لك أخذ تبيع من الجواميس وتبيع من البقر في المسألة المذكورة؛ إذ أنا إذا أخرجنا عن ثلاثين تبيعاً فضلت من الجواميس عشرة، فإذا ضمت إلى العشرين كانت العشرون أكثر. ألا ترى أن ابن القاسم وسحنون اتفقا على أنه إذا كانت له ثلاثمائة وأربعون من الضأن وستون من المعز تؤخذ ثلاثة من الضأن وواحدة من المعز؛ لأنا بعد الثلاث إنما ننظر إلى كل مائة بمفردها، وكذلك في الثلاثين الثانية ينظر إليها بمفردها. وأوضح المصنف هذا بمثال، وهو: إذا كان له أربعون جاموساً وثلاثون بقرة أو بالعكس، فإنه لا يختلف في أن الزكاة تؤخذ منهما لتقرر النصاب. ولو قيل بالأخذ من الأكثر للزم أخذ المسنة والتبيع من الأربعين. ويقع في بعض النسخ: (لم يختلف أيضاً) وهي تقتضي أنه لا يختلف في هذه ولا في المسألة الأولى، والصواب حذفها؛ لأن ابن يونس، وابن رشد نقلاً عن سحنون في أربعين جاموساً وعشرين بقرة أنه قال: يأخذ التبيعين من الأربعين، وضعفه ابن رشد. وَأَمَّا بنْتَا اللَّبُونِ وَالْحِقَّتَانِ فَكَالشَّاتَيْنِ، فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ، وَلا فِي خَمْسِينَ وَخَمْسِينَ، وَلا فِي سِتِّينَ وَثَلاثِينَ، وَلا فِي سِتِّينَ وَأَرْبَعِينَ، وَاخُتْلِفَ فِي أَرْبَعِينَ وَسِتَّ وَثَلاثِينَ وَفِي خَمْسِينَ وَسِتٍّ وَأَرْبَعِينَ ... يعني: إذا وجد في الإبل بنتا لبون أو حقتان، فالحكم فيهما كما تقدم في الشاتين. فإن تساويا- أي: البخت والعراب- أخذ من كل صنف. وإن لم يتساويا، فإن لم يكن في الأقل عدد الزكاة، أخذ من الأكثر عند ابن القاسم وسحنون، وإن كان في الأقل عدد الزكاة، فقال ابن القاسم: يؤخذ من كل صنف. وقال سحنون: يؤخذ من الأكثر مطلقاً.

ويتضح هذا بما ذكره المصنف بقوله: (فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ) أي: لم يختلف فيما إذا كان عنده أربعون منا لبخت واربعون من العراب أنه يؤخذ من كل صنف بنت لبون لتساويهما، ولا في خمسين وخمسين؛ أي: تؤخذ من كل صنف حقة. ولا في ستين وثلاثين؛ أي: تؤخذ بنتا لبون من الستين؛ لقصور الثلاثين عن سن بنت اللبون؛ إذ أقل ما تجب فيه بنت اللبون ستة وثلاثون. فهم من هذا أنه لا يشترط في الأقل سن آخر؛ إذ في الثلاثين بنت مخاض. ولا في ستين وأربعين؛ أي: تؤخذ الحقتان من الستين؛ لقصور الأربعين عن سن الحقة؛ إذ أقل ما تجب فيه ستة وأربعون. واختلف في أربعين وست وثلاثين؛ أي: فابن القاسم: يأخذ بنت لبون من كل صنف، وسحنون يأخذهما من الأربعين. وكذلك اختلف في خمسين وست وأربعين، فعند ابن القاسم: يأخذ من هذه حقة ومن هذه حقة، وسحنون يأخذهما من الخمسين. تنبيه: تقدم أن ابن القاسم شرط في الأخذ منهما في الغنم شرطين، وأحدهما لا يتأتى هنا؛ أعني قوله: (وهو غير وقص) وإنما يتأتى أن يكون الأقل ليس فيه عدد الزكاة؛ لأن الشرطين المتقدمين لو أتيا هنا للزم وجود كل منهما بدون الآخر كما تقدم، فيلزم أن يوجد مثال يكون الأقل فيه عدد الزكاة وهو وقص، وهو لا يمكن في بنتي اللبون والحقتين والله أعلم. وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ إِلَى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَأَجْرِهِ أَوَّلاً عَلَى الْخِلافِ الْمُتَقَدِّمِ ... أي: وإن كان عنده من البخت والعراب مائة وإحدى وعشرون إلى تسع وعشرين- كما تقدم- فأجر الكلام فيها أولاً على خلاف المتقدم؛ أي: هل الواجب حقتان أو

ثلاث بنات لبون، أو يخير الساعي؟ ثم إذا فرعنا على الحقتين، فالحكم فيهما كالشاتين، فإن تساويا أخذ من كل صنف، وغلا فإن كان في الأقل ست وأربعون سن الحقة أخذ منهما عند ابن القاسم، ومن الأكثر مطلقاً عند سحنون. وإن قلنا بالثلاث بنات لبون فكالثلاث شياه، فإن تساويا أخذ من كل صنف بنت لبون، ويخير الساعي في الثالثة، وإن لم يتساويا فإن كان في الأقل ست وثلاثون سن بنت اللبون أخذ من الأقل بنت اللبون عند ابن القاسم، وأخذت الثلاث من الأكثر عند سحنون. فإن لم يكن في الأقل ست وثلاثون فيتفق على الأخذ من الأكثر، وإن قلنا بالتخيير فالحكم ظاهر من القولين. وَمَاشِيَةُ التِّجَارَةِ إَذَا كَانَتْ نِصَاباً كَالْقِنْيَةِ، [135/ ب] وَلِذَلِكَ لا يُقَوِّمُهَا الْمُدِيرُ، وَما دُونَ النِّصَابِ كَالْعَرْضِ .. يعني: أن الإنسان إذا كانت عنده ماشية مشتراة للتجارة، فإنه يزكيها بعد مضي حولها كما يزكي ماشية القنية؛ لأن زكاتها من جنسها أصل، فلا يعدل عنه إلى التقويم الذي هو بدل. قوله: (وَلِذَلِكَ لا يُقَوِّمُهَا الْمُدِيرُ) أي: ولأجل أن حكم ماشية التجارة كالقنية لا يقومها؛ لكون الزكاة فيها من جنسها. واعترض عليه ابن عبد السلام؛ ولذلك لا يقومها المدير؛ لأنه يقتضي أن المانع من التقويم هو كون ماشية التجارة كالقنية وليس كذلك، وإنما المانع من التقويم كون الزكاة من جنسها أصل، فلا يعدل عنه إلى القيمة التي هي بدل، وليس بالقوي، فقد قررنا كلام المصنف تقريراً صحيحاً. وَمَنْ أَبْدَلَ مَاشِيَةً فِرَاراً مِنَ الزَّكَاةِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ اتِّفَاقاً، وَيُؤْخَذُ بِزَكَاتِهَا. وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ بِزَكَاةِ ثَمَنِهَا إِنْ كَانَ نَقْداً .. هذا فصل تكلم فيه- رحمه الله- على المبادلة وأقسامها، فقوله: (وَمَنْ أَبْدَلَ مَاشِيَةً ...) إلخ. يعني: أن من أبدل ماشية- إما بماشية، أو بعرض، أو بنقد- وقصد

بالمبادلة الفرار من الزكاة لم تسقط عنه الزكاة اتفاقاً؛ لأنه قصد أو فعل ما لا يجوز له، وإذا لم تسقط فالمشهور أنه يؤخذ بزكاة الماشية المقر بها؛ معاملة له بنقيض مقصوده. وقال ابن شعبان: تجب عليه زكاة الثمن؛ أي: النقد. وكذلك ينبغي على قوله: إذا أبدلها بماشية. انتهى. وقوله: (وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ) يوهم أن ابن شعبان قاله وهو قد رواه عن مالك. قال ابن يونس: وذكر عن ابن الكاتب أنه إنما يعد هارباً إذا باع بعد الحول ولا يراعى قرب الحنول، بخلاف المتخالطين؛ لأن الخليطين قد بقيت مواشيهم بأيديهم حتى حال الحول والذي باع ليس بيده شيء. قال ابن يونس: والصواب ألا فرق بين ذلك، وكذلك قال عبد الحق، بل قد يقال: إن هذه أولى؛ لأن الخليطين أرادا إسقاط شيء من الزكاة والفارُّ أراد غسقاط الزكاة كلها فكانت تهمته أقوى. خليل: والظاهر على رواية ابن شعبان أنه لا يشترط في زكاة الثمن أن يكون نصاباً، كما لا يشترط ذلك إذا باع تمراً لا يثمر، وهو خمسة أو سق، قلنا: يخرج من ثمنه. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِرَاراً، فَإِنْ أَبْدَلَهَا بِنَقْدٍ وَهِيَ لِلتِّجَارَةِ رُدَّتْ إِلَى أَصْلِهَا يعني: فإن لم يكن الإبدال فراراً من الزكاة وأبدلها بنقد وهي للتجارة، فإنها ترد إلى أصلها؛ أي: تزكى لحول الأصل وهو ظاهر؛ لأن الماشية في هذه الصورة سلعة من سلع التجارة وقد بيعت قبل تعلق الزكاة بها. قال محمد: وإن زكاها قبل البيع زكى الثمن إذا تم حول الغنم. قال: ولم يختلف في ذلك قول مالك ولا أصحابه. قال اللخمي: قال أشهب في مدونته: يستأنف بالثمن حولاً من يوم يقبضه. انتهى. وَإِنْ كَانَتْ لِلْقِنْيَةِ، فَفِي بِنَائِهِ إِذَا كَانَا نِصَابَيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أي: فإن كانت الماشية للقنية وأبدلها بنقد، فقال ابن القاسم: يبني، وإليه رجع مالك. وقال أشهب: يستقبل، وعنه رجع مالك. فرأى في الأول أنه قد انتقل من مال مزكى إلى

مثله. ورأى في الثاني اختلاف الزكاة، وهو لم يقصد بما فعل الفرار من الزكا’، ولم يحل على الذي بيده حول. واحتراز بقوله: (إِذَا كَانَا نِصَابَيْنِ) مما لو قصرت الماشية عن النصاب، فإنها حينئذ كالعرض، والفرض أنها للقنية فيجب الاستقبال بثمنها. وأخذ اللخمي من قول ابن مسلمة- فيمن باع بعيراً بأربعين شاة بعد ستة أشهر ثم جاءه المصدق، أنه يزكي الغنم- قولاً بعدم اشتراط أن تكون الماشية نصاباً. وأما إذا كانت الماشية نصاباً وباعها بدون النصاب، فإنه لا زكاة عليه اتفاقاً، نقله ابن هارون وغيره. وقال التونسي: ينبغي إذا كانت نصاباً فباعها بدون النصاب أن يضيف ذلك إلى ماله ويبني ولا يستأنف. بِخِلافِ عَيْنٍ اشْتَرَى بِهِ مَاشِيَةً عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: بخلاف ما إذا كان عنده نصاب من العين أقامه عنده بعض حول، كما لو أقام عنده ستة أشهر ثم اشترى به نصاباً من الماشية، فإن المشهور يستقبل بالماشية حولاً. وقال ابن مسلمة: يبني كما في التي قبلها، والفرق على المشهور أنه إذا كانت عنده ماشية وأبدلها بعين، فقد انتقل مما تعلق الزكاة به أقوى إلى ما تعلقها به أضعف، ألا ترى أن الماشية لا يسقط الزكاة عنها دين بخلاف العين، وإذا كان كذلك اتهم فناسب البناء، بخلاف ما إذا اشترى الماشية بنصاب من العين فإن الأمر بعكس ذلك، فلم يتهم فناسب الاستقبال. وفرق ابن رشد بأنه يتم في بيع الماشية بالعين بالهروب من الزكاة من الساعي، ولا تهمة عليه في اشتراء الماشية بالعين. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، فَفِي تَزْكِيَةِ الثَّمَنِ عَاجِلاً قَوْلانِ ... ولا حاجة إلى هذا الفرع؛ لأنه عين الفرع الذي تقدم، خلاف ابن القاسم وأشهب فيه، على أن هذا الخلاف إنما يأتي إذا بنينا على أن الساعي شرط وجوب، وأما إن قلنا: إنه

شرط أداء، فتجب عليه زكاة الماشية. ففيحصل لنا فيها ثلاثة أقوال: الزكاة عاجلاً، والاستقبال، وتؤخذ منه زكاة الماشية. فَإِنْ أَبْدَلَهَا بِنِصَابِ [136/ أ] مَاشِيَةٍ مِنْ نَوْعِهَا بَنَى عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الأُولَى نِصَاباً كَعِشْرِينَ جَامُوساً بِثَلاثِينَ بَقَرَةً ... أي: إن كانت عنده ماشية فأبدلها بماشية من نوعها كضأن بمعز، وبخت بعراب، وجواميس ببقر زكى ما أخذ لحول ما أعطاه، وإن كان ما أعطاه دون النصاب، كما ذكر من إبدال عشرين جاموساً بثلاثين بقرة نقداً، هذا هو المشهور، ووجهه ما تقدم في العين، بل هنا أقوى، والشاذ في كتاب ابن سحنون: أنه يستقبل؛ لأن المال لم يمر له حول. وَإِنْ كَانَتْ تُخَالِفُهَا اسْتَقْبَلَ كما لو أبدل بقراً بغنم، أو إبلاً ببقر، والاستقبال هو المشهور. وَأَخْذُ الْمَاشِيَةِ عَنْ الاسْتِهْلاكِ كَالْمُبَادَلَةِ بِهَا ابْتِدَاءً، وَقِيلَ: مَا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْعَيْنُ، فَيَكُونُ كَعَيْنٍ عَنْ مَاشِيَةٍ اشْتَرَى بِهَا مَاشِيَةً .. يعني: وإذا أخذ ماشية عن استهلاك ماشية، فحكمه حكم من أبدل ماشية بماشية، فإن كانت الثانية من جنس الأولى بنى على المشهور، وإن كانت من غير جنسها استقبل على المشهور. وأطلق المصنف الاستهلاك على ما هو أعم من تعييب الماشية وإذهاب عينها بالكلية. فقوله: (وَقِيلَ: مَا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْعَيْنُ) أي: وقيل: إن الحكم حكم إبدال الماشية إذا لم تتعين القيمة بأن تكون ماشيته باقية، ولكن تعيبت لأن ربها إذ ذاك مخير بين أخذها بعينها وقيمتها. وأما إن تعينت القيمة، فإن ذهبت عين الماشية، فتكون الماشية المأخوذة عن القيمة كماشية أخذت عن عين؛ أي: فيستقبل. وهو قول حمديس. هذا نقل ابن عبد السلام وفيه نظر؛ فإن الذي نقله ابن يونس، وابن راشد وغيرهما: أن حمديس

قال: إنما اختلف قول ابن القاسم في عيب يوجب له الخيار في أخذ العين أو القيمة، فتارة جعل المأخوذ عوضاً عن القيمة، وتارة جعله عوضاً عن العين، وأما لو ذهبت العين حتى لا تكون له إلا القيمة، فلا يختلف قوله أنه لا زكاة فيها. وعلى هذا فيتحصل في المسألة طريقان: الأولى: أن قول ابن القاسم: اختلف في ذلك سواء ذهبت العين أم لا، وهي طريقة الشيخ أبي محمد وسحنون. والثانية: طريقة حمديس، وقال في المقدمات: اختلف قول ابن القاسم إذا استهلك الرجل غنماً فأخذ منه غنماً تجب فيها الزكاة. فمرة قال: يزكيها على حول المستهلكة، ومرة قال: يستقبل بها حولاً. واختلاف قوله هذا إنما يصح إذا كانت قد فاتت بالاستهلاك فوتاً لا يوجب له تضمينه القيمة فيها، وأما إذا فاتت أعيانها، فلا خلاف أنه يستقبل بالغنم المأخوذة. قال: ولو كانت قائمة بيد الغاصب لم تفت بوجه من وجوه الفوت، لزكاها على حول الأولى بغير اختلاف أيضاً؛ لأن ذلك كالمبادلة. انتهى. أي: بغير اختلاف من قول ابن القاسم. قال في النكت- بعد أن ذكر ما ذكره حمديس-: وهذا إن ثبت الاستهلاك ببينة، وإن لم يثبت ذلك فيزكي الغنم التي أخذ؛ لأنه يتهم أن يكون إنما باع غنماً بغنم. وَأَخْذُ الْعَيْنِ كَالْمُبَادَلَةِ بِاتِّفَاقٍ أي: فإن أخذ عيناً عن الماشية المستهلكة، فإنه يكون كما لو أبدل ماشية بعين، فيبني على قول ابن القاسم، ولا يبني على قول أشهب. وقوله: (بِاتِّفَاقٍ) أي: أن الشيوخ اتفقوا على إجراء خلاف قول ابن القاسم وأشهب فيهما، ولولا الاتفاق لأمكن أن يقال: إن المبادلة أمر اختياري يوجب تهمة

من وقعت منه في مظان التهمة، وذلك يقتضي البناء بخلاف الاستهلاك فإنما يتركها كرهاً، فينبغي الاستقبال. وَفَائِدَةُ الْمَاشِيَةِ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ إِنْ صَادَفَتْ نِصَاباً قَبْلَهَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ، وَلَوْ بِيَوْمٍ قَبْلَ مَجِيء السَّاعِي. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَالنَّقْدِ. وَقِيلَ: كَالنَّقْدِ مَا لَمْ تَكُنْ سُعَاةً .. يعني: أن فائدة الماشية المشتراة أو الموهوبة أو غيرهما ليست كفائدة العين؛ لأن فائدة الماشية إن صادفت نصاباً قبلها ضمت الفائدة إلى النصاب الأول وزكيت على حوله، بخلاف فائدة العين فإنها إن صادفت نصاباً قبلها استقبل بها حولاً وبقي كل مال على حوله. أما إن لم تكن الماشية الأولى نصاباً، فإنه يستأنف بالجميع حولاً كالعين، وفرق بفروق: أحدها: أن زكاة الماشية موكولة إلى الساعي، فلو لم تضم الثانية إلى الأولى لأدى ذلك إلى خروجه مرتين وفيه حرج، بخلاف العين فإنها موكولة إلى أمانة ربها. ثانيها: أن الماشية لو بقي كل مال على حوله لأدى ذلك إلى مخالفة النصب التي قررها عليه الصلاة والسلام، مثال ذلك: أن يكون للإنسان أربعون شاة قد مضى لها نصف حول، ثم استفاد أربعين، ثم أربعين أخرى، فلو بقي كل مال على حوله لأدى أن يخرج عن مائة وعشرين ثلاث شياه، وهو خلاف ما نص عليه صلى الله عليه وسلم. ثالثها: لما كانت زكاة الماشية للسعاة، فلو لم نقل أن الفائدة تضم لادعى كل شخص أنه قد استفاد بعض ما بيده ليسقط الزكاة، بخلاف العين فإن التهمة منتفية؛ لأن زكاتها موكولة إلى أمانة ربها. وقوله: (َقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَالنَّقْدِ) ظاهر. [136/ ب] والقول بالتفرقة لابن أبي زيد وعده المصنف خلافاً، وعده بعضهم تفسيراً للمشهور، وهو ظاهر على

الفرق الأول والثالث لا على الثاني. هذا ظاهر في الفائدة التي هي من جنس الذي عنده، وأما لو كانت خلاف جنسه كإبل وغنم، كان كل مال على حوله اتفاقاً. وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْوَقْصِ، وَلِذَلِكَ اتُّفِقَ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي ثَمَانِينَ ثُمَّ فِي إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ ... يعني: أن الخلاف المذكور إنما هو إذا كانت الثانية غير وقص، وهذا الكلام لا حاجة إليه، ولعله إنما أتى به ليفرع عليه قوله: (وَلِذَلِكَ اتُّفِقَ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ) أي: أنه لا يؤخذ منه إلا شاة لحول الأولى، واختلف في ثمانين ثم في إحدى وأربعين، فعلى المشهور تجب عليه شاتان، وعلى قول ابن عبد الحكم تجب واحدة ويستقبل بالفائدة حولاً. وَلِذَلِكَ لَوْ نَقَصَ النِّصَابُ قَبْلَ حَوْلِهِ بِيَوْمٍ، ثُمَّ أَفَادَ مِثْلَهُ مِنْ يَوْمِهِ اسْتَانَفَ بِالْجَمِيعِ حَوْلاً .. أي: ولأجل شرطنا في الضم أن تكون الأولى نصاباً، لزم فيمن كان عنده نصاب فنقص قبل مجيء الساعي بيوم، أو قبل الحول بيوم إذا لم تكن سعاة ثم أفاد في يومه مثل- أي: نصاباً آخر- أن يستأنف بالجميع حولاً؛ لأن الماشية الأولى صارت دون النصاب، فلا تضم الثانية إليها. وَأَمَّا النِّتَاجُ فَيُضَمُّ مُطْلَقاً هذا متفق عليه، والأصل فيه قول عمر- رضي الله عنه- لعامله سفيان بن عبد الحكم: عُدَّ عليهم السخلة التي يحملها الراعي ولا تأخذها. وَالْمَاشِيَةُ تُرَدُّ بِعَيْبٍ أَوْ تُؤْخَذُ بفَلَسٍ فِي بِنَاءٍ رَبِّهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوِ اسْتِقْبَالِهِ قَوْلانِ يعني: أن من باع ماشية فأقامت عند المشتري فوجد بها عيباً فردها لذلك، أو أفلس المشتري بعد أن قعدت عنده مدة فأخذها البائع، كما لو ملك ماشية في المحرم فقعدت عنده

الخلطة

ثلاثة أشهر، ثم باعها فأقامت عند المشتري ثلاثة أشهر، ثم اطلع على العيب أو أفلس فردت إلى صاحبها. ففي كتاب ابن سحنون: يبني على ما مضى من الحول، وإن رجعت إليه بعد تمامه زكاها مكانها. قال ابن يونس: وعلى القول بأن الرد بالعيب بيع حادث يجب أن يستقبل به حولاً، يجعل القول بالاستقبال مخرجاً، وظاهر كلام المصنف أنه منصوص فتأمله. فرعان: الأول: إذا رجعت الماشية بإقالة، فقال ابن المواز: يستقبل بها حولاً. ابن يونس: لأن الإقالة بيع. انتهى. وقال غيره: إن قلنا: إنه حل بيع بنى. الثاني: إذا ردت الماشية لفساد البيع، جرى البناء والاستقبال على الخلاف هل الفسخ نقض للبيع من أصله، أو ابتداء بيع. الْخُلْطَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ..... يعني: دليلها في الحديث الصحيح وهو في البخاري وغيره، وكأن المصنف استدل على هذه المسألة لقوة الخلاف فيها، فإن أبا حنيفة نفى أن يكون للخلطة تأثير إلا مع عدم تبيين ما لكل واحد منهما، وحينئذ يصيران شريكين لا خليطين. ووجه الدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "يترادانها" ولو كانا شريكين لما ترادا شيئاً. قال اللخمي: ويصح التراجع بين الشريكين على أحد قولي مالك: أن الأوقاص غير مزكاة. فلو كانت الشركة في مائة وعشرين من الغنم؛ لأحدهما ثمانون وللآخر أربعون فأخذ منها شاة، لرجع صاحب الثمانين بقيمة سدس الشاة. واختلف الناس هل هذا نهي للملاك عن الجمع والتفريق المقللين للصدقة، أو هو نهي للسعاة عن الجمع والتفريق المكثرين للصدقة؟ والأول أقرب؛ لقوله: (خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) ومعنى التراد بالسوية؛ أي: على عدد الماشية. وفيه دليل لمن يقول أن الأوقاص مزكاة.

كَثَلاثَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ فَيَجْمَعُونَهَا، وَكَاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِائَةً وَشَاةً فَيُفَرِّقُونَهَا. (كَثَلاثَةٍ) مثال للنهي عن الجمع؛ لأنهم إذا جمعوها تجب عليهم شاة، وكان الواجب في الافتراق ثلاثاً. وقوله: (وَكَاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِائَةً وَشَاةً) مثال للنهي عن الافتراق؛ لأنهما إذا افترقا وجب على كل واحد شاة، وإذا جمعوها كان الواجب على كل واحد شاة ونصف. وَالْمَذْهَبُ أَخْذُهُمْ بِالأَوَّلِ. وَأَخَذَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْفِرَارِ قَوْلاً بِخِلافِهِ يعني: إذا اجتمعوا أو افترقوا خشية الصدقة، فالمذهب: أنهم لا ينتفعون بذلك ويؤخذون بما كانوا عليه. وخرج اللخمي قولاً بزكاة ما فروا إليه، من قول ابن شعبان فيمن باع ماشية فراراً أنه يؤخذ بزكاة العين؛ لأنه كما أخذهم في تلك بزكاة ما فروا إليه فكذلك في هذه. وفرق بوجهين: أحدهما وهو لابن بشير: أن الانتفاع في مسألة الخلطة ظاهر فيما انتقلا إليه، فوجب التمكن منه لحق الفقراء، ولا كذلك في مسألة [137/ أ] البيع؛ لجواز أن يكون زكاة الثمن مثل زكاة المبيع أو أكثر. ثانيهما: أن الفار في الخلطة قصده تقليل الزكاة لا رفعها، فنقيض قصده ألا يقلل، وأما الفار بالبيع فقصده رفعها بالكلية، فنقيض قصده ثبوت أصل الزكاة، ويكفي في ذلك ثبوتها في الثمن، ولعل المصنف لم يصح عنده تخريج اللخمي لاتضاح الفرق بينهما، فلذلك قال: (الْمَذْهَبُ) وإلا لقال: (على المنصوص) كعادته في مثل هذا. وَإِذَا لَمْ تَقًمْ قَرِينَةُ وَاتُّهِمَا فِيهِمَا لِلنَّقْصِ، فَالْمَشْهُورُ: اعْتِبَارُ قَرْبِ الزَّمَانِ، وَفِي الْقُرْبِ شَهْرَانِ وَشَهْرُ وَدُونَهُ ... هذا كما قال ابن بشير: وبأي معنى يحصل ظهور القصد إلى الفرار بالتفريق أو الجمع أما إن قامت قرينة حال تدل على القصد إلى ذلك، فينبغي أن يعول عليها ولا يلتفت إلى

الزمان. وأما إن لم تقم قرينة، فهل يرجع في ذلك إلى الزمان أم لا؟ قولان: المشهور أنه يستدل على أن ذلك بقرب الزمان، والشاذ أنه لا يستدل عليه بزمان أصلاً، بل ينظر إلى ما ظهر من قرينة الحال، ثم ذكر الثلاثة الأقوال التي ذكرها المصنف في حده. وفهم من قوله: (إِذَا لَمْ تَقًمْ قَرِينَةُ) أنه لو قامت قرينة على صدقهما من حسن السيرة والديانة في المعاملة لعمل عليها. وظاهر قولهما: أن الساعي إذا وجدهما اجتمعا لشهرين قبل الحول أو لشهر على القول الآخر وافترقا لذلك أنه يأخذهما بما كانا عليه قبل. والمنقول في المدونة: إن لم يخلطوا إلا في شهرين من آخر السنة فهما خلطاء، قال ابن القاسم فيها: والأقل من شهرين فهم خلطاء ما لم يقرب الحول جداً. وقال ابن المواز: وكذلك أقل من شهر ما لم يقرب الحول جداً. وقال ابن حبيب: لا تكون الخلطة بأقل من شهر. ابن راشد: فتأمل هذه النقول وطابقها بما في الأصل فظاهرها التنافر، إلا أن يريد بحكاية الخلاف في القرب الذي يكونون فيه خلطاء، وأما ما دون ذلك يستدل به على قصد الفرار فتتفق النقول، لكن ظاهر كلامه خلافه، فتأمله. وحكى ابن عبد البر في الكافي عن بعض أصحاب مالك: أنهما لا يزكيان زكاة الخلطة إلا أن يخلطا عاماً كاملاً. وَالاخْتِلافَ عِنْدَ الإِشْكَالِ كَأَيْمَانِ التُّهَمِ أي: إذا عدمت القرينة والزمان الدالان على الفرار وأشكل الأمر، فهل تتوجه اليمين على الملاك أو لا، أو يفرق بين المتهم فتتوجه، وبين غيره فلا تتوجه؟ ثلاثة أقوال. وهذا معنى قوله: (كَأَيْمَانِ التُّهَمِ). ابن عبد السلام: ومذهب المدونة في الزكاة عدم توجهها، وظاهره مطلقاً؛ لقوله في الزكاة الأول: ومن قدم بتجارة فقال: هذا الذي معي قراض، أو بضاعه، أو على دين، أو لم يحل على ما عندي الحول صدق ولم يحلف. ولا شك أن أرباب الخلطة من هذا.

خليل: وقد يقال: إنما قال مالك هذا في زكاة العين الموكولة إلى أمانة ربها، ولا يلزم منه موافقة الماشية لذلك؛ لأنها أشد. وَمُوجِبُهَا خَمْسَةُ: الرَّاعِي، وَالْفَحْلُ، وَالدَّلْوُ، وَالْمرَاحُ، وَالْمَبِيتُ (موجب) هنا بكسر الجيم اسم فاعل؛ أي: سببها، و (الرَّاعِي، وَالْفَحْلُ) معلومان و (الدَّلْو) نقل الباجي عن الأصحاب: أنه الماء الذي تشرب منه الماشية. وذكر صاحب التلقين عوض المراح المسرح. قال ابن بشير: ويكفي عنه اشتراط اتحاد الراعي. وجعل اللخمي بدل المبيت الحلاب. وَشَرْطُ الرَّاعِي: إَذْنُ الْمَالِكِينَ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَالافْتِقَارُ إِلَى التَّعَدُّدِ الراعي إن كان واحداً فهو من أسباب الخلطة، لكن يشترط أن يأذن له المالك، قاله غير واحد. قال الباجي: وإن كان لكل ماشية راعٍ يأخذ أجرته من مالكها، فلا يخلو أن يتعاونوا بالنهار على جميعها، أو لا يتعاونوا على ذلك، فإن كانوا يتعاونون بإذن أربابها فهي خلطة؛ فإن جميعهم رعاة لجميع الماشية، وإن كانوا لا يفعلون ذلك أو يفعلونه بغير إذن أرباب الماشية فليست بخلطة، هذا الذي أشار إليه أصحابنا. ويجب أن تكون في ذلك زيادة؛ وهي أن يكون إذن أرباب الأموال في التعاون على حفظها لكثرة الغنم. وإن كانت قليلة بحيث يقوى راعي كل واحد على ماشيته دون غيره، فليس اجتماعهم من صفة الخلطة. انتهى. وقول الباجي صحيح، واشتراطهم ذلك في الفحل يوضحه، وعلى هذا فهو تقييد، ولهذا تكون نسخة (قَالَ الْبَاجِيُّ) أحسن من النسخة الأخرى: (وقال الباجي) بإثبات حرف العطف؛ لأن إثباته يدل على أن قوله خلاف. والله أعلم.

وَشَرْطُ الْفَحْلِ: الاشْتِرَاكُ أَوْ ضَرْبُهُ فِي الْجَمِيعِ وَالافْتِقَارُ إِلَى التَّعَدُّدِ (الاشْتِرَاكُ) أي: مع الضرب، إذ من لازم الاشتراك الضرب في الجميع. وقوله: (أَوْ ضَرْبُهُ فِي الْجَمِيعِ) أي: وهو [137/ ب] لأحدهما. وفي كلامه فائدة؛ لأنه لو قال: وشرط الفحل الضرب، لتوهم أن شرطه الضرب مع الاشتراك، فنفى هذا التوهم. وبهذا التقرير يندفع قول ابن عبد السلام: جعله ضربه في الجميع قسيماً، لكون الفحل مشتركاً فيه وليس كذلك، بل لابد من ضربه في الماشية، سواء كان مشتركاً أو كان لأحد المالكين. وَالاشْتِرَاكُ فِي الْمَاءِ بِمِلْكٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ كَالدَّلْوِ قوله: (وَالاشْتِرَاكُ فِي الْمَاءِ) تفسير للدلو. أي: الماء الذي هو من أسباب الخلطة. فقوله: (الاشتراك) مبتدأ. وقوله: (بملك أو منفعة) خبره. فالملك كالبئر إذا اجتمعوا على حفرها، والمنفعة كالنهر. وقوله: (كَالدَّلْوِ) يعني بهذا الدلو: الآلة التي يرفع بها الماء. وكأنه قصد أن ينبه على أنه لا يشترط في الشرب أن يكون مملوكاً لهما، كما لا يشترط ذلك في الآلة التي يشال بها الماء. وقول ابن عبد السلام: إن قوله (كالدلو) هو الخبر. فيه نظر. وَالْمُرَاحُ: مَوْضِعُ إِقَامَتِهَا، وَقِيلَ: مَوْضِعُ الرَّوَاحِ لِلْمَبِيتِ تصوره ظاهر، وقد تقدم. وضبطه الجوهري: المراح بمعنى القول الأول بضم الميم، وبفتحها إذا كان بمعنى القول الثاني. والقولان اللذان ذكرهما المصنف حكاهما ابن بشير، وحكاهما أيضاً الباجي. وقال في التنبيهات: المراح: موضع المبيت. وهو بضم الميم.

وَالْمُعْتَبَرِ مِنْهَا: ثَلاثَةٌ. وَقِيلَ: أَوْ اثْنَانِ. وَقِيلَ: أَوِ الرَّاعِي نقل الباجي أنه لا خلاف في عدم اشتراط الخمسة. والقول بالثلاثة لابن القاسم في العتبية. وبالاثنين للأبهري. والقول بالاكتفاء بالراعي لابن حبيب وليس بخلاف؛ لأنهم مجتمعون بالراعي على أكثر صفات الخلطة، كذا نص عليه الشيوخ. ابن عبد السلام: وتأمل عطف الأقوال التي ذكرها بـ (أو) تجده غير صحيح. وَمُوجَبُهَا: حُكْمُ الْمَالِكِ الْوَاحِدِ فِي الوَاجِبِ، وَالسِّنِّ، وَالصِّنْفِ مِنْ ضَانٍ أَوْ مَعْزٍ (موجب) هنا بفتح الجيم اسم مفعول؛ أي: أن الذي توجبه الخلطة بالأسباب المتقدمة أن يكون المأخوذ من الملاك كالمأخوذ من المالك الواحد في الواجب، كثلاثة لكل واحد أربعون فتجب عليهم شاة. (السِّنِّ) كاثنين لك واحد ست وثلاثون من الإبل فعليهم جذعة. (وَالصِّنْفِ) كاثنين لواحد ثمانون معزاً وللآخر أربعون ضأنية، فعليهما شاة من المعز. وفي بعض النسخ عوض (المالك)، (حكم الملك) وهي واضحة. بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصَابُ فَأَكْثَرُ حَلَّ حَوْلُهُ يعني: أن ما تقدم من أن المالكين يكونان كالمالك الواحد مشروط بأن يكون لكل واحد نصاب فأكثر حل حوله، ولم يحفظ أكثر شيوخ المذهب في النصاب خلافاً. ونقل ابن رشد عن ابن وهب كمذهب الشافعي: أنهما يزكيان زكاة الخلطة وإن لم يكن لكل واحد نصاب إذا كان في المجموع نصاب، وهو منصوص في المبسوطة، وذكره ابن زرقون. وحقيقته: تصيير المتعدد كالمتحد.

وَأَنْ يَكُونَا مَعاً مِنْ أَهْلِهَا لا وَاحِدُ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: ويشترط أيضاً أن يكون المالكان معاً من أهلها. أي: مسلمين حرين. وإن كان أحدهما من أهلها فقط، فالمشهور أنه يزكي على حكم الإفراط. وذهب ابن الماجشون إلى أنه يزكي زكاة الخلطة ويسقط ما على الذمي والعبد. وَأَخَذَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الشَّاذِّ خِلافاً فِي النِّصَابِ وَالْحَوْلِ فِي أَحَدِهِمَا، فَيُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الآخَرِ إِلَى حَوْلِهِ، وَالْمَعْرُوفُ خِلافُهُ ... يعني: أن اللخمي خرج من قول ابن الماجشون في المسألة التي قبل هذه قولاً آخر بعدم اشتراط النصاب في ملك كل واحد، وعدم اشتراط حلول الحول على ملك كل واحد، ورأى أن قيام المانع في أحد الملكين كقيامه في أحد المالين، ورده ابن بشير بأن الذمي مخاطب بفروع الشريعة على قول، والعبد قد قيل: تتعلق الزكاة بماله، فمخالطهما لم يخرج عن كونه مخالطاً لأهل الزكاة، وأن من قصر ماله عن النصاب، أو زمان ملكه عن الحول فلا زكاة عليه اتفاقاً، فوجب بقاء حكمه في حال الخلطة على ما كان عليه قبلها، ثم لا يحتاج إلى هذا التخريج في النصاب فقط؛ لأنا قدمنا الخلاف في المذهب في اشتراط النصاب. وقوله: (فِي أَحَدِهِمَا) متعلق بقوله: (أَخَذَ) أي: خلافاً في أحدهما. وقوله: (فيزكي ...) إلى آخره. هو تفسير لتخريج اللخمي، وهو واضح. وَيَتَرَاجَعَانِ عَلَى الأَجْزَاءِ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَوْقَاصاً، كَتِسْعٍ ذَوْدٍ وَسِتِّ اتِّفَاقاً، وَكَذَلِكَ فِي مِثْلِ تِسْعِ ذَوْدٍ وَخَمْسٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ ... كان هنا تامة؛ أي: حصلت أوقاص. وحاصلها: إن حصلت الأوقاص من الطرفين كما مثل بست من الإبل وتسع، فلا خلاف في التراجع على الأجزاء، فإذا أخذ الساعي منها ثلاث شياه كانت بينهم على خمسة عشر جزءاً، على صاحب الستة ستة أجزاء، وعلى صاحب التسعة تسعة أجزاء. وإن انفرد الوقص من جهة كخمس وتسع، فعن مالك: إذا أخذ

الساعي منها شاتين روايتان: إحداهما: أن على كل واحد شاة. والثانية: أن الشاتين بينهما على أربعة عشر جزءاً، [138/ أ] على صاحب الخمسة خمسة أجزاء، وعلى صاحب التسعة تسعة أجزاء. والأولى أن يقال هنا: على صاحب التسعة ثلاثة أخماس، وعلى صاحب الستة خمسان؛ لأنه كلما أمكنت القسمة من عدد أقل كان أولى. ولكن ابن الجلاب فعل ما ذكرناه أولاً فاتبعناه تبركاً به. والرواية الثانية هي التي رجع إليها مالك بناء على أن الأوقاص مزكاة، وهي التي ذكر المصنف أنها المشهور، والأولى مبنية على أن الأوقاص غير مزكاة. وَفِي التَّقْوِيمِ يَوْمَ الأَخْذِ أَوْ يَوْمَ الْوَفَاءِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَالْمُسْتَهْلِكِ أَوْ كَالْمُسْتَسْلِفِ ... يعني: إذا أخذ الساعي من أحدهما وثبت لأحدهما الرجوع، فهل ينظر إلى قيمة ما أخذه الساعي يوم أخذه وهو قول ابن القاسم، أو يوم الوفاء وهو قول أشهب؟ والأول: بناء على أن الرجوع عليه كالمستهلك لنصيب خليطه، والقيمة إنما تؤخذ في الاستهلاك يوم التعدي. والثاني: بناء على أن المرجوع عليه كالمستسلف لنصيب خليطه. وإذا تسلف الإنسان شاة تساوي عشرين، ثم صارت تساوي عشرة، فليس له إلا شاة تساوي عشرة. وإلحاقه بالمستهلك أظهر؛ للأخذ كرهاً. وقد يقال: لما خالط غيره، فقد دخل على ذلك. ولعل هذا الوجه هو وجه القولين في الرد إلى هذين الأصلين، وإنما لم يجعله المصنف في القول الأول مستهلكاً حقيقة؛ لأنه لم يباشر ولم يأمر. فَإِنْ خَالَفَ السَّاعِي فَأَخَذَ وَلَيْسَا بِنِصَابٍ فَغَصْبٌ لا تَرَاجُعَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِالْجَمِيعِ نِصَاباً وَقَصَدَ غَصْباً فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ قَصَدَ غَصْباً بِالزَّائِدِ فَلا تَرَاجُعَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِتَأوْيلٍ تَرَاجَعَا، وَقِيلَ فِي الزَّائِدِ. أي: فإن خالف الساعي الشرع، فإن لم يكن جميع مال الخلطاء نصاباً كاثنين لكل واحد خمس عشرة شاة، فأخذ من أحدهما شاة فذلك غصب لا تراجع فيه. وإن كان

بالجميع نصاباً كما لو كان لكل واحد عشرون، فإن قصد بالأخذ الغصب فكذلك، وإن لم يقصد الغصب بل تأول في ذلك وأخذ بقول من ذهب إليه من العلماء تراجعا؛ لأن أخذ الساعي بالتأويل كحكم الحاكم في مسائل الاجتهاد لا ينقض ولا يرد. وقوله: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا) يعني: وإن كان أحد المالين نصاباً والآخر دون النصاب، كاثنين للواحد مائة وللآخر أحد وعشرون، فإن قصد غصباً بالزائد؛ أي: بالشاة الثانية فلا تراجع فيه لأنه ظلم، وإن لم يقصد الغصب بل قلد في ذلك إماماً وهو معنى قوله: (وَإِنْ كَانَ بِتَأوْيلٍ) فإنهما يتراجعان كما تقدم. وإذا قلنا بالتراجع فهل يتراجعان في جميع الشاتين، أو في الزائد وهو الشاة الثانية؟ قولان: فعلى الأول وهو قول محمد وسحنون: يقسمان الشاتين على مائة وأحد وعشرين جزءاً، يكون على صاحب المائة مائة، وعلى صاحب الإحدى وعشرين أحد وعشرون جزءاً. وعلى الثاني وهو قول ابن عبد الحكم: يكون على صاحب المائة شاة، ثم يقسم الثانية على مائة وإحدى وعشرين. وَعَلَيْهِمَا اخْتُلِفَ إِذَا أَخَذَ بِنْتَ لَبُونٍ مِنِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ وَأَرْبَعٍ، فَقِيلَ: يَتَرَاجَعَانِهَا، وَقِيلَ: قِيمَةُ مَا بَيْنَ السِّنَّيْنِ .... أي: وعلى القول في كيفية التراجع، اختلف في خليطين لأحدهما اثنان وثلاثون، وللآخر أربع، فعلى الأول يتراجعان في مجموع بنت اللبون، فإن كانت تساوي ستةً وثلاثين درهماً كان على صاحب الأربع أربعة دراهم، وعلى صاحب اثنين وثلاثين اثنان وثلاثون درهماً. وعلى الثاني يتراجعان الزائد على سن بنت المخاض؛ أي: يقتسمان الزائد على سن بنت مخاض على مجموع المال، فلو كانت بنت المخاض تساوي أربعة وعشرين لاقتسما اثنى عشر على مجموع الماشية؛ أي: على ست وثلاثين، فيكون على صاحب الأربع درهم وثلث.

وقال ابن عبد السلام في هذا القول الثاني: يقتسمان الزائد على سن بنت المخاض على ما بين السنين، وهو أحد عشر جزءاً. وما أراه إلا وهماً، وقد نص على ما قدمته الباجي، وصاحب البيان، وابن يونس، وابن شاس وغيرهم، ولتعلم أن النص إنما هو للمتقدمين في الغنم لا كما يُفْهِمُهُ كلام المصنف بقوله: (عَلَيْهِمَا) ثم أجرى المتأخرون مسألة الإبل عليها، ونص على ذلك ابن عبد السلام. وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ التَّنْصِيفَ فِي الزَّائِدِ قال اللخمي- بعد ذكر القولين المتقدمين-: هل يتراجعان المجموع أو الزائد؟ ويجري فيهما قول ثالث: أن الثانية تكون عليهما نصفين، قياساً على القول: إذا شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجع جميعهم، فقيل: تكون ديته عليهم أسداساً، وقيل: نصفين؛ لأن كل فريق يقول: لولا أنتم لم يرجم. قال ابن بشير: ولا يلزم ما قاله؛ لأن القول بأن في الدية شطرين نظر إلى أن الإحصان يستقل بالاثنين كاستقلال الزنا بالأربعة، فهم في المعنى كالمتشاطرين، وفي مسألة الخليطين لا شك أن لزيادة العدد تأثيراً في وجوب الزكاة في تأويل المصدق، فيقسم على الأعداد. وَفِي الزَّوْجُ يَسْتَحِقُّ [138/ ب] نِصْفَ مَاشِيَةِ بِعَيْنِهَا بِالطَّلاقِ كَالْخَلِيطِ أَوْ كَالْفَائِدَةِ، قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ بَقَاؤُهَا عَلَى مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِهَا الآنَ ... أي: إذا تزوج إنسان امرأة وأصدقها ماشية معينة كثمانين شاة، ثم طلقها قبل البناء فاستحق نصفها، قهل يقدر هذا الراجع كأنه لم يزل على ملكه فيزكيان زكاة الخلطة- وهو له في المدونة- أو إنما انتقل إلى ملكه الآن- قاله أشهب- فيستقبل الزوج بنصيبه؟ ثم لهما حالتان: حالة يقتسمان فيها قبل مجيء الساعي، وحالة لا يقتسمان فيها. فإذا اقتسما أخذ من الزوجة شاة وكذلك من الزوج على المشهور.

قال اللخمي: واختلف إن وجدهما لم يقسما، هل يجب فيها نصف شاة على المرأة، أو يكون عليها فيها شاة دون الزوج، أو تكون الشاة عليهما جميعاً، وانظره؟ ولفظ المدونة: ومن تزوج امرأة على ماشية بعينها فلم تقبضها حتى تم لها حول عند الزوج، فطلقها قبل البناء وقبل مجيء الساعي، فإن أتى الساعي ولم يقتسماها أو وجدهما قد تخالطا بعد اقتسام، فهما كالخليطين لا زكاة عليهما حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما فيه الزكاة. قال: ولا يكون للزوج فائدة إذا كان فيها شريكاً في نمائها ونقصها. وقوله: (بِعَيْنِهَا) احترازاً من التي في الذمة، فإن المرأة لا زكاة عليها إلا بعد حول بعد قبضها اتفاقاً. وَعَلَيْهِمَا خِلافُ الْغَلَّةِ، وَخِلافُ الْحَدِّ فِي وَطْئِهِ جَارِيَة الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فعلى الأول: يكون للزوج نصف الغلة ولا حد عليه. وعلى الثاني: تكون الغلة كلها للمرأة والحد عليه. وَأَمَّا الْخَلِيطُ لَهُ مَاشِيَةٌ بِخَلِيطٍ آخَرَ كَثَمَانِينَ، وَثَمَانِينَ لَهُ نِصْفُهَا هذه المسألة من حسان المسائل، وللناس فيها طرق وكلها لا ترفع الإشكال، وربما صعبت على كثير لاسيما من لفظ المدونة، وسأوضحها إن شاء الله تعالى. ابن هارون: يعني: أن من له ماشية خالط ببعضها إنساناً وبالبعض الآخر آخر، وهذا ظاهر من كلمه، فإنه قال: (وَأَمَّا الْخَلِيطُ) فأثبت له أنه خليط. وقوله: (لَهُ مَاشِيَةُ بِخَلِيطٍ آخَرَ) يستلزم أن تكون هذه الماشية غير الأولى. وقوله: (كَثَمَانِينَ ...) إلخ. أي: كرجل له ثمانون شاة خالط بأربعين إنساناً وبالأربعين الأخرى آخر، وما قاله ابن عبد السلام من أن كلامه أعم من أن يكون خالط كلاًّ من الطرفين بنصف الثمانين أو بأكثرها ليس بظاهر، بل يتعين الحمل على أنه خالط كل واحد بنصفها؛ لما تقدم أن شرط الخلطة أن يكون لكل واحد نصاب.

فَارَبَعَةٌ، كَالْخَلِيطِ الْوَاحِدِ فَشَاتَانِ عَلَيْهِ شَاةٌ أي: فأربعة أقوال ولذلك أتى بالتاء، ولو أراد روايات لقال: فأربع. الأول: أن الخليطين كالخليط الواحد، بناء على أن خليط الخليط كالخليط فيكون عليه شاة كاملة؛ لأن له نصف المائة والستين، وعلى كل واحد من الطرفين نصف شاة وعزاه ابن شاس، وابن راشد لابن القاسم وأشهب. قال ابن بزيزة: وهو أصح الأقوال وعزاه في البيان لابن حبيب، وابن الماجشون. قال: ولم يتكلم في المدونة على خليط الخليط، وإنما تكلم على الخليط إذا كانت له غنم لم يخالط بها، فاحتمل أن يكون مذهبه فيها خليط في الخليط كالخليط على ما في العتبية عن بعض المصريين، ويحتمل أن يكون على ما ذهب إليه ابن حبيب، ووالأول هو الذي حفظناه عن الشيوخ. انتهى. وسيأتي لفظ العتبية إن شاء الله تعالى. وَكَالْخَلِيطَيْنِ فَكَذَلِكَ هذا القول الثاني قد ذكره ابن رشد. ومعناه: أن كل واحد من الطرفين لا خلطة بينه وبين الطرف الآخر، بناء على أن خليط الخليط ليس كالخليط فيكونان خليطين، فيكون عليه مع كل من الطرفين نصف شاة، ويكون على كل من الطرفين نصف شاة، فيكون مجموع الواجب شاتين، وهو معنى قوله: (فَكَذَلِكَ) ومنشأ الخلاف تعارض أمرين كالمتناقضين؛ أحدهما: أن الخليط الأوسط يجب ضم بعض ملكه إلى بعض مع عدم الخلطة. والثاني: أن الطرفين ليس بينهما خلطة فلا يضم ملكهما بعضه إلى بعض. فمن غلب حكم الوسط جعل خليط الخليط كالخليط، ومن غلب حكم الطرفين أفرد ملك الوسط فجعله كمالين لمالكين.

وَالْوَسَطُ خَلِيطٌ لهُمَا مَعاً وَهُوَ مَعَ أَكْثَرِهِمَا، فَشَاةٌ وَثُلُثَانِ عَلَيْهِ ثُلُثَا شَاةٍ هذا هو القول الثالث. ومعناه: أن الوسط وهو صاحب الثمانين يعد خليطاً لكل من الطرفين بجميع الثمانين. وقوله: (وَهُوَ مَعَ أَكْثَرِهِمَا) الضمير في (هو) عائد على أحد الطرفين لا بعينه؛ أي: وكل واحد من الطرفين خليط للوسط بما خالطه به الوسط فقط، وإذا كان كذلك كان الواجب شاة وثلثين، على الوسط الثلثان وعلى كل طرف نصف؛ لأن الوسط إذا عد خليطاً لكل منهما بجميع الثمانين كان هو صاحب الأكثر؛ أي: صاحب الثمانين. فعليه ثلثا شاة وعلى كل طرف نصف؛ لأن كل واحد منهما إنما يعد مخالطاً للوسط بما خالطه به الوسط فقط وهو أربعون، والفرض أن له أربعين. وأبهم الضمير لعدم الالتباس؛ إذ لا يمكن حمله على [139/ أ] الوسط، وقد ذكر في البيان هذا القول كما تقرر ولم يعزه، وبهذا تعلم أن ما قاله ابن راشد- وقال ابن عبد السلام أنه قريب-: أن (أكثرهما) تصحيف في هذا القول وفي الذي بعده، وأنها مصحفة بـ (أحدهما) ليس بشيء، وجزاهم الله خيراً لقد أوضحا وبينا. وَالْوَسَطُ خَلِيطٌ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُمَا وَهُوَ مَعَ أَكْثَرِهِمَا، فَشَاةٌ وَثُلُثٌ عَلَيْهِ ثُلُثَا شَاةٍ ... هذا هو القول الرابع. ومعناه: أن الوسط يقدر خليطاً لكل واحد من الطرفين بجميع ماشيته، وأن الطرفين لا خلطة بينهما. وقوله: (لَهُمَا) أي: لأجل إدخال الرفق عليهما. وحاصله: أن هذا والقول الثالث يريان أن الوسط لا يزكي ماله إلا مجتمعاً، إذ من حجته أن يقول: إنما أزكي مالي مع واحد لأن على في التفريق ضرر. وكذلك اتفقا على أنه إنما يجب على الوسط ثلثا شاة ثم اختلفا. ففي الثالث هل يقدر أن كل طرف مخالط

للوسط بما خالطه به الوسط فقط، فيكون عليه نصف شاة. وفي الرابع يقدر أن كل طرف مخالطاً للوسط بجميع ماشيته، فيكون عليه ثلثا شاة رفقاً بالطرفين. وحاصل ما ذكره المصنف: أن خليط الخليط قيل كالخليط، وقيل: لا. وعلى الثاني فهل يزكي الوسط ماشيته مع هذا وهذا أم لا؟ وعلى الثاني فهل يقدر كل طرف مخالطاً للوسط بما خالط به الوسط فقط، أو بمجموع ماشيته؟ وهذا القول هو الذي يؤخذ من العتبية. قال فيها: قال بعض المصريين: ولو أن رجلاً له ثلاثون من الإبل ولثلاث نفر ثلاثون من الإبل لكل واحد عشرة، فجاءهم الساعي، فإنه يحسب على الذي له العشرة الثلاثين كلها التي هي لصاحبه؛ لأنها يجمعها على صاحبه فيأخذ من صاحب العشرة ما يصير على عشرته إذا جمعت كلها، وتفسير ذلك أن الساعي يبدأ بأحد ثلاثة نفر، فيقول له: إن لك عشرة من الإبل ولمخالطك مثلها فهذه عشرون، وله عند فلان وفلان عشرون فهذه أربعو،، فلابد من جمعها عليك فاعلم ما يصير عليك يا صاحب العشرة فأخذه بأربعين من الإبل فيهما ابنة لبون، فعليك يا صاحب العشرة ربعها، ثم يرجع إلى الثاني والثالث فيفعل بهما هكذا، ويأخذ من كل واحد ربع قيمة بنت اللبون، ثم يرجع إلى صاحب الثلاثين فيقول له: إن لك ثلاثين من الإبل ولأصحابك ثلاثين أخرى وأنت خليط لهم بإبلك ولابد أن أحسب عليك ما لأصحابك فاعرف ما يصير عليك إذا جمعته عليك وآخذه منك، فجميع إبلك إذا جمعتها ستون وفيها حقة، فعليك يا صاحب الثلاثين نصفها فَهاتِه. وفي المسألة قول خامس حكاه الباجي عن ابن المواز، وابن عبد الحكم، وأصبغ: أن الوسط عليه شاة وعلى كل واحد من صاحبيه ثلث شاة. وفهم ابن راشد أن هذا هو القول الثالث، وليس بصحيح؛ لأن المصنف نص على أن الوسط في القول الثالث ثلثي شاة.

وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَينَ الأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي وَسَطٍ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ خَالَطَ بِخَمْسَةٍ، وَعَشَرَةٍ ذَوِي خَمْسَةٍ، فَعَلَى الأَوَّلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَعَلَى الثَّانِي بِالْغَنَمِ ... هذا جواب عن سؤال مقدر؛ لأنه لما قال الواجب في الأول شاتاان وفي الثاني كذلك، كأن قائلاً قال له: فإذاً لا فرق بينهما. فأجاب بما ذكره وهو ظاهر، وهنا فرق آخر وهو أظهر، وهو أن المصنف سيذكر أن المشهور فيمن وجب عليه جزء شاة أخذ القيمة، وعلى هذا فيتخرج الوسط على القول الأول شاة وعلى الثاني قيمة نصف شاة. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةُ بِغَيْرِ خَلِيطٍ ثَانٍ سَقَطَ الرَّابِعُ يعني: سقط القول الرابع الذي في مسألة خليط الخليط، وتأتي الثلاثة الأول هنا: الأول: أن الجميع خليط فتجب شاة على صاحب الثمانين، وهو مذهب المدونة. ثانيها: أن على صاحب الأربعين نصف شاة، وعلى صاحب الثمانين شاة؛ لأن الساعي يأخذ منها شاة الثمانين المختلطة، ثم يأخذ من صاحب الثمانين على الأربعين التي لا خليط له فيها نصف شاة؛ لأنه لم يضيفه إلى الأربعين التي زكاها مع صاحبها. هكذا قرر هذا القول ابن راشد، وابن عبد السلام وغيرهما. ولولا هذا لأمكن أن يقال بوجوب الشاتين؛ لأن الثمانين المجتمعة فيها شاة، والأربعين الأخرى مقدرة الانفصال فتكون فيها أخرى. والقول الثالث: أن عليهما شاة، وسدساً عليه ثلثا شاة، وعلى صاحب الأربعين نصف شاة، وعزاه ابن راشد لابن الماجشون. قال سحنون: وهو أحب إلي. وَإِذَا وَجَبَ جُزْءٌ تَعَيَّنَ أَخْذُ الْقِيمَةِ لا جُزْءٍ عَلَى الْمَشْهُورِ إنما تعين أخذ القيمة لأجل الشركة، لما فيها من الضرر، ألا ترى أن الأوقاص إنما شرعت لرفع ضرر الشركة، والشاذ أنه يكون شريكاً في شاة؛ لأن أخذ القيمة خلاف الأصل.

وَالْمَشْهُورُ: اشْتِرَاطُ مَجِيءِ السَّاعِي إَنْ كَانَ لِلْعَمَلِ أي: أنه اختلف في مجيء الساعي هل هو شرط للوجوب كالنصاب، أو في الأداب لخصوصية الماشية على غيرها؟ والأول هو المشهور [138/ أ]. [139/ ب] وقوله: (إَنْ كَانَ) أي: إن كان ثَمَّ سعاة. يريد وتصل، وإلا وجبت بالحول الثاني اتفاقاً. واستدل المصنف للمشهور بعمل المدينة، واعترض بأن لا زيادة في العمل على خروجهم لقبضها، وذلك أعم من شرط الوجوب وشرط الأداء. ولأنهم كانوا يخرجون لقبض زكاة الحب، وليس خروجهم لذلك شرط في الوجوب، والقول الشاذ حكاه ابن بشير. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لَوْ مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، أَوْ أَوْصَى بِهَا، أَوْ أَخْرَجَهَا لَمْ تَجِبْ، وَلَمْ تُبَدَّ، وَلَمْ تُجْزِهِ ... أي: وإذا فرعنا على المشهور، فمات رب الغنم بعد الحول وقبل مجيء الساعي لم يجب على الوارث إخراجها عنه؛ لأنها لم تجب عليه، ولكن يستحب لهم إخراجها. ولو أوصى بها فهي من الثلث غير مبداة. قال مالك في المدونة: وإنما يبدأ في الثلث ما كان فرط فيه من زكاة العين، ولو أخرجها قبل مجيئه لم تجزه وكان للساعي أخذها منه. قوله: (لَمْ تَجِبْ) راجع إلى قوله: (لَوْ مَاتَ). قوله: (وَلَمْ تُبَدَّ) راجع إلى قوله (أَوْصَى بِهَا). قوله (لَمْ تُجْزِهِ) راجع إلى قوله (أَخْرَجَهَا). وعلى الشاذ: تجب في الفرع الأول وتبدي في الثاني. وظاهر قوله: وعلى المشهور أنها تجزئ على الشاذ، وهكذا قال اللخمي لكنه لم يطلق الخلاف، بل قال: إذا أخرج المزكي زكاته لغير الأئمة ولم يعلم ذلك إلا بقوله، فإن كان من أهل التهم لم تجزه بالاتفاق. قال: وإنما الخلاف إذا كان مخرجها عدلاً أو غير عدل وأخرجها ببينة، فوجه عدم الإجزاء ورود النص بجعل هذه إلى الأئمة. ووجه القول الآخر أن جعل ذلك للأئمة لم يكن لحق

لهم، وإنما هم فيها كالولاة يوصلونها إلى مستحقهأ، فمن أوصلها إليهم أجزأت. قال: والأموال الظاهرة والباطنة في ذلك سواء. انتهى. ولولا هذا لكان الظاهر أنها لا تجزئ على القولين؛ لأنا وإن لم نقل أن الساعي شرط وجوب فهو شرط أداء. وَعَلَيْهِ لَوْ مَرَّ السَّاعِي فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً ثُمَّ رَجَعَ وقَدْ كَمُلَتِ اسْتَقْبَلَ أي: وعلى المشهور، لو مر الساعي بإنسان فوجد ماشيته ناقصة عن النصاب، ثم رجع وقد كملت استقبل حولاً؛ لأن حول الماشية إنما هو مرور الساعي بها بعد الحول عليها. قال في العتبية: ولا ينبغي للمصدق أن يرجع لهأ، ولا أن يمر بها، ولا يمر على الماشية في العام الواحد إلا مرة. قال في البيان: لأنه لو كان يرجع إليها بعد أن مر بها لم يكن لذلك حد ولا انضبط لها حول، وهذا مما لا خلاف فيه. انتهى. قال في الموازية: وإذا لم يجد الساعي في الماشية نصاباً، ثم رجع فوجدها ولدت فبلغت النصاب، فلا يأخذ منها شيئاً. وقال ابن عبد الحكم: ما أدري ما وجه قول مالك في هذه المسألة وعليه أن يزكي. وصوبه اللخمي قال: لأنه نصاب حال عليه الحول، وإنما أمر الساعي بعدم الرجوع لكلفة ذلك عليه، فإذا تكلف ورجع فليأخذه بالزكاة. وَلَوْ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ زَادَتْ بِولادَةٍ، أَوْ نَقَصَتْ بِمَوْتٍ، فَأَصْبَحَ فَعَدَّ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ، فَالْمُعْتَبَرُ مَا وُجِدَ اتِّفَاقاً، وإِنْ كَانَ قَدْ صَدِّقَهُ فَفِي النَّقْصِ قَوْلانِ، كَمَا لَوْ ضَاعَ جُزْءُ الْعَيْنِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَفِي الزِّيَادَةِ طَرِيقَانِ: مَا صَدَّقَهُ فِيهِ، وقَوْلانِ ... أما إن لم يصدقه، فلأن كلامه كلا كلام. وأما إن صدقه، قال الباجي: وفي معنى التصديق أن يعد عليه ولا يأخذ، ففي النقص كما لو ضاع جزء من العين فلا زكاة عليه على المذهب. ابن يونس: وقد قيل ما عده المصدق فقد وجبت زكاته وإن هلك بأمر من الله تعالى ويأخذ مما بقي وليس ذلك بشيء. وقد قيل في العين يهلك بعضها أنه يخرج ربع

عشر الذي بقي؛ لأنهم كانوا شركاء معه بربع العشر، فيدخل هذا القول في الماشية وله وجه. انتهى. فظاهره أن في المسألة ثلاثة أقوال، وهذا القول الذي أشار إليه تجب زكاة ما بقي هو قول ابن الجهم كما تقدم، وهو يستفاد من تشبيه المصنف هذه المسألة بالعين. وقصر اللخمي القول بالسقوط على ما إذا كانت زكاتها من عينها. قال: أما إذا كانت زكاتها من غيرها، كما إذا سأله عن عدد إبله، فقال: هي عشرون. فإنه يأخذ أربع شياه وإن ذهبت كلها؛ ٍلأنه سلم ذلك إليه ليأخذ الزكاة من الذمة. ولا فرق على المشهور في النقص بين أن يكون بموت أو بذبح إلا أن يكون قصد بذبحها الفرار، نص عليه ابن المواز. وقوله: (وَفِي الزِّيَادَةِ طَرِيقَانِ) تصورهما ظاهر. وقد ذكرهما ابن بشير، ولعل منشأ الخلاف هل تصديقه كحكمه أم لا؟ وَتَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْهَارِبِ مِنَ السُّعَاةِ اتِّفاقاً المراد بتعلقها بالذمة: وجوب أدائها على ماضي السنين التي هرب فيها من حيث الجملة؛ لأنها تتعلق بالذمة كالدين لما سيأتي. فَإِنْ وُجِدَتْ نَاقِصَةً عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ إِلا فِي ذَلِكَ الْعَامِ كما لو فر بها وهي ثلاثمائة ثلاث سنين ثم وجده الساعي وهي مائة، فإنه يأخذ منه زكاة ما فر به كل عام كالعامين في هذا المثال فتؤخذ ست شياه عنهما، ويأخذ منه شاة عن العام الثالث؛ لأنه تبين صدقه فيه. ابن عبد السلام: وهذا بين إذا قدر [140/ أ] عليه، وأما إن جاء تائباً أو قامت له بينة، فينبغي ألا يأخذ منه إلا ما كانت عليه.

وَإِنْ وُجِدَتْ زَائِدَةً، فَفِي أَخْذِهِ عَنْ كُلِّ عَامٍ بما كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ بِمَا وُجِدَ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ فِي تَصْدِيقِهِ قَوْلانِ أي: فر بها وهي قليلة ثم قدر عليه وهي كثيرة، فهل يؤخذ كل عام بما كان ف ي يده، وهو قول ابن القاسم. قال الباجي: وهو قول أصحابنا إلا أشهب، فإنه قال: يؤخذ بالكثرة عما مضى من الأعوام. قوله: (وَعَلَى الْمَشْهُورِ) أي: قول ابن القاسم، فهل يصدق لأنه الأصل في الزكاة أم لا، لأن قرينة الهروب تدل على كذبه؟ قولان: الأول لسحنون، والثاني لابن الماجشون أما إن قامت له بينة عمل عليها بلا إشكال. وَلَوْ كَانَ الأَخْذُ لِبَعْضِ الأَعْوَامِ يُنْقِصُ النِّصَابَ أَوْ الصِّفَةَ؛ فَالْمَشْهُورُ نَقْصُهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْيَانِ الْمَاشِيَةِ أَوْ لا، فَلِذَلِكَ يَاخُذُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسَ سِنِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ شَاةً، وعَنْ خَمْسٍ خَمْسَ شِيَاهٍ، لأَنَّ زَكَاتَهَا مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ تَخَلَّف السُّعَاةُ مثال نقص النصاب: كما لو كان معه اثنان وأربعون شاة وفر خمس سنين، فإنه إذا أخذ لثلاث منها ينقص النصاب؛ لأنه إنما يبقى معه تسع وثلاثون شاة. ومثال نقص الصفة: أن ينقص سن الزكاة إذا فر وعنده سبعة وثلاثون بعيراً، فإنه إذا أخذ لسنتين نقص سن بنت اللبون. وقوله: (والمشهور ...) إلخ. ظاهر التصور. والشاذ لسحنون وأشهب: أن الزكاة متعلقة بذمته، والدين لا يسقط زكاة الماشية. قوله: (فَلِذَلِكَ) أي: فلاعتبار النقص يأخذ من خمس وعشرين خمس سنين. أي: فر بها خمس سنين بنت مخاض وست عشرة شاة، وعلى الشاذ يأخذ فيه عن كل سنة بنت مخاض. ابن راشد: والمنقول في هذه المسألة أن الساعي إن وجد فيها بنت مخاض وابن لبون يأخذه ويزكي ما بقي بالغنم، وإن لم يجد ذلك وكلفه شراء ذلك، فهل يزكي عن جميع الأعوام بالإبل، وهو

قول مالك في المجموعة، أو يكون الحكم كالأول، وهو ظاهر المدونة. انتهى. ونحوه للخمي، ولم يحك الباجي فيما إذا لم يكن فيها بنت مخاض إلا تزكيتها لسائر الأعوام بنت مخاض. لكن قال ابن زرقون: هذا هو قول عبد الملك في المبسوط، وقال ابن القاسم في المدونة: يزكي عن العام الأول بنت مخاض وعن سائر الأعوام بالغنم. قوله: (كَمَا لَوْ تَخَلَّف السُّعَاةُ) تشبيه في المجموع. وما ذكره الباجي الكلام الذي ذكرناه عنه إلا في المتخلف. وَإِذَا تَخَلَّفَ السُّعَاةُ أَعْوَاماً أَخَذَوا عَمَّا تَقَدَّمَ يريد: إذا بقي بيد أرباب الماشية ما يؤخذ منهم، إذ الأخذ لا يكون إلا من مأخوذ، ولولا قول مالك بعد قوله: أخذوا لماضي السنين. وذلك الأمر عندنا، لكان مقتضى كونه شرطاً في الوجوب ألا يأخذ الماضي. فرع: قال اللخمي: وإذا تخلفت السعادة لشغل أو أمر لم يقصدوا فيه إلى تضييع الزكاة، فأخرج رجل زكاة ماشيته أجزأت. وقال عبد الملك في الموازية: لا تجزئ والأول أحسن. فإن وجدت ناقصة عمل عليه فيما تقدم، أي: عمل على النقص فيما تقدم، فلو تخلف وهي مائتان أربعة أعوام فصارت اثنين وأربعين، فإنه يأخذ لثلاثة أعوام ثلاث شياه ويسقط ما عليه في العام الرابع؛ لنقص ما بيده عن النصاب. وَإِنْ وُجِدَتْ زَائِدَةً، فَالْمَشْهُورُ: اعْتِبَارُهُ أَيْضاً فِيمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ. والشَّاذُّ الْقِيَاسُ كما لو تخلف عنها وهي أربعون أربع سنين، ثم جاء فوجدها أربعمائة، فالمشهور: أنه يأخذ منه ست عشرة شاة اعتباراً للزائد فيما مضى من السنين، وبه قال ابن القاسم، وأشهب، ومحمد، وابن حبيب، وسحنون. وعلى المشهور عمل أهل المدينة. والشاذ لابن

الماجشون: أنها تؤخذ في كل عام على ما ذكر صاحبها أنها كانت عليه. هكذا نقله الباجي. قال ابن عبد الحكم: ومعنى قول مالك أنه يزكي ما وجد إذا لم يدَّعِ أرباب الماشية أنها كانت في الأعوام الماضية ناقصة. وقوله: والشاذ القياس؛ أي: لأن الفَارَّ إذا لم يؤخذ بالزيادة لماضي السنين مع تعديه فلأن لا يؤخذ بها من تخلف عنه الساعي مع عذره من باب الأولى. وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلاً دُونَ النِّصَابِ فَكَمُلَتْ بِوِلادَةٍ أَوْ بَدَلٍ، فَفِي اعْتِبَارِهِ أَعْوَامَ النُّصُبِ أَوْ إِلْحَاقِهَا بِالْكَامِلَةِ لَهَا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ كما لو كانت ثلاثين، فتخلف الساعي عنها ثلاث سنين، فجاء الساعي فوجدها خمسين بولادة أو أبدلها بها. فقال مالك، وابن القاسم: إنما يؤخذ عن الأعوام التي كان فيها نصاب. زاد الباجي في قولهما: وهو مصدق في ذلك. وألحقها أشهب بالكاملة. أما لو كمل النصاب بفائدة، فلا خلاف أنها لا تجب إلا من حين الكمال. نقل ذلك الباجي وغيره. ابن عبد السلام: وغير ذلك بعضهم. انتهى. فرعان: الأول: لو غاب عنها الساعي [140/ ب] وهي نصاب، ثم نقصت عن النصاب ثم عادت إلى النصاب، فإن عادت بولادة زكى الجميع لجميع الأحوال على ما هي عليه اليوم. قال محمد: لا آخذ بهذا، ويأخذ منها من يوم تمت ما فيه الزكاة ويسقط ما قبل ذلك. قال الباجي: وإن عادت بفائدة لم يزكها إلا يوم بلغت النصاب لا يوم مجيء الساعي. الثاني: قال اللخمي: لا خلاف فيما غاب عنه الساعي أنه يبتدئ في العام الأول واخلتف قول مالك- رحمه الله- في الفرار هل يبتدئ الساعي بالأخذ لأول عام، ثم للثاني، ثم للثالث؟ أو يأخذ أولاً عن العام الأول، كما لو فر بها وهي أربعون سنتين ثم جاء وهي أربعون، فعلى الأول: يأخذ للعام الأول شاة ولا شيء في الثاني؛ لنقصها عن

النصاب. وعلى الثاني: يأخذ شاتين. وقال بالأول ابن القاسم، وابن الماجشون، وسحنون في المختصر، وهو اختيار ابن المواز. وَإِذَا امْتَنَعَ الْخَوَارِجُ بِبَلَدٍ أَعْوَاماً وَظُهِرَ عَلَيْهِمْ، أُخِذَوا بِالزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وغَيْرِهِ. وقَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَقُولُوَا أَدَّيْنَا؛ لأَنَّهُمْ مُتَاوِّلُونَ بِخِلافِ الْهَارِبِ ... الخوارج هم الذين يرون ما رآه الخارجون عن علي رضي الله عنه أي: إذا امتنعوا وقدر عليهم أخذت منهم الزكاة لماضي الأعوام في العين، والحرث، والماشية، فإن زعموا أنهم أعطوها، فإنهم يصدقون في قول أشهب، إلا في ذلك العام الذي ظُهر عليهم فيه؛ يريد إذا ظُهر عليهم قبل الحول. ابن عبد السلام: وحمل الأشياخ قول أشهب على الوفاق لابن القاسم، وهو كذلك. ونص ابن المواز على أن المتغلبين على البلد ممن لا يرى رأي الخوارج يلحقون بالخوارج في حكم الزكاة. وَخُرُوجُ السُّعَاةِ أَوَّلَ الصَّيْفِ تَخْفِيفاً عَلَى الْقَبِيلَيْنِ أي: والمراد بالقبيلين السعادة وأرباب المواشي، لأنه لو خرج في زمان الربيع لوجد الناس مفترقين على المياه والمراعي، فيحصل للسعادة التعب ولأرباب المواشي؛ لأن بعضهم قد يحتاج إلى نقل ماشيته، وقد يحتاج إلى سن فيجد عنده غيره، بخلاف أول الصيف فإن المياه تقل فيجتمع الناس. قال الشافعي رضي الله عنه: يخرج أول المحرم، لأن الأحكام الشرعية إنما هي منوطة بالسنين القمرية. وعلق مالك- رحمه الله- الحكم هنا بالسنين الشمسية، وإن كان يؤدي إلى إسقاط سنة في نحو ثلاثين سنة لما في ذلك من مصلحة العامة. وَفِي أَخْذِهِمْ سَنَةَ الْجَدْبِ قَوْلانِ المشهور: الأخذ، والقول الآخر من كلام المصنف يحتمل وجهين: أحدهما: تركها لعام الخصب فتؤخذ، وهو قول مالك في الموازية ذكره اللخمي. والثاني: سقوطها بالكلية، وحكاه ابن رشد.

زكاة الحرث

وَإِذَا لَمْ تَكُنْ سُعَاةٌ وَجَبَتْ بِالْحَوْلِ اتِّفَاقاً فَتُزَكَّى كَالْعَيْنِ، ومَنْ لا تَبْلُغُهُ السُّعَاةُ كَذَلِكَ .... وهو ظاهر، وما حكاه المصنف من الاتفاق حكاه اللخمي. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُسْتَحَقّاً، فَفِي أُجْرَةِ النَّقْلِ قَوْلانِ مذهب العتبية أن الكراء عليه. ابن عبد السلام: والقول بأنه لا يلزمه هو الظاهر؛ إذ لا يلزمه أكثر من الجزء المقدر. وقريب من هذا اختلافهم في زكاة الحرث في مثل هذه الصورة، هل يكلفون بنقلها من أموالهم، أو يؤدي ذلك من الخمس، أو تباع في البلد الذي وجبت فيه ويشترون بثمنها من نوعها في البلد الذي تصرف إليه. الْحَرْثُ: وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ الْمُقْتَاتُ الْمُدَّخَرُ لِلْعَيْشِ غَالِباً. وَفِيها: لا زَكَاةَ إِلا فِي الْعِنَبِ، والزَّيْتُونِ، والتَّمْرِ، والْحَبِّ، والْقِطْنِيِّةِ. وَقِيلَ: الْمُقْتَاتُ. وقِيلَ: الْمَخْبُوزُ مِنَ الْحُبُوبِ. وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وكُلُّ ذِي أَصْلٍ مِنَ الثِّمَارِ، كَالرُّمَّانِ، والتُّفَّاحِ ... هذا هو النوع الثالث من أنواع المزكى، يعني: أنه اختلف فيما تجب فيه الزكاة، فمذهب المدونة مخالف لقول الجمهور؛ لأن ما قاله في المدونة يقتضي عدم الزكاة في التين للحصر. وقال القاضي أبو محمد: يلحق بما ذكره في المدونة كل مقتات مدخر، وإن لم يكن أصلاً للعيش غالباً. اللخمي: وليس بحسن؛ لأنه لو كان كما قاله لوجبت الزكاة في الجوز واللوز لأنهما مقتاتان مدخران ولا زكاة فيهما، ولأنهما لا يدخران للعيش غالباً. ابن راشد: وهذا القول الذي حكاه في الأصل في قوله: (وَقِيلَ: الْمُقْتَاتُ) لكنه أسقط وصف الادخار، والقاضي ذكره، ولعل الناسخ أسقطه أو أنه رأى الادخار من لوازم الاقتيات. ورأيت من حكى عن القاضي الاقتيات ولم يذكر الادخار، ولعله في الأصل عول عليه. انتهى.

وقوله: (وقِيلَ: الْمَخْبُوزُ) هذا القول لمالك في الموازية، ونصه على نقل اللخمي: وقال في كتاب محمد: كل ما كان من الحبوب يؤكل ويدخر ففيه الزكاة. انتهى. قال اللخمي: وعلى هذا القول لا تجب الزكاة في القطاني إذ لا تخبز إلا في المجاعات، وهذه طريقة اللخمي. وروى ابن بشير أن المذهب كله على نقل الجمهور، وأن هذه الأقوال تحويم على شيء واحد، وإن وقع خلاف في شيء فإنما ذلك خلاف في تحقيق العلة، أي: هل حصل فيه الوصفان أم لا؟ وقوله: (وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ...) إلخ. ظاهر التصور: تجب في الخوخ والأترج وغير ذلك. وروى ابن الماجشون هذا القول عن مالك. فَتَجِبُ فِي الْقَمْحِ، والشَّعِيرِ، والسُّلْتِ، والْعَلَسِ، والأُرْزِ، والدُّخْنِ، والذُّرَةِ، وكَذَلِكَ الْقَطَانِيُّ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وفِي التَّمْرِ، والزَّبِيبِ، والزَّيْتُونِ، والْجُلْجَلانِ لا خلاف في وجوبها في القمح والشعير، ورأيت قولاً شاذاً أن الزكاة لا تتعلق بالسلت، وأما العلس فالصحيح تعلقها به لأنه قريب في الخلقة من البر، وقد قال الجوهري: إنه ضرب من الحنطة. وحكى ابن عبد البر عن ابن عبد الحكم أنها لا تتعلق به، وحكاه ابن زرقون عن مطرف عن مالك. والعلس: هي الإشقالية، وهو حب مستطيل يشبه البر وهو باليمين. وأشار بمقابل المعروف إلى ما أخذه اللخمي من سقوط الزكاة في القطاني من القول بقصر الزكاة على المخبوز. وعلى هذا فلو قال على المنصوص لكان أحسن. وأما التمر فلا خلاف فيه، والزبيب ملحق به، وما ذكره في الزيتون والجلجلان هو المشهور. وأسقط ابن وهب الزكاة عنهما وعن كل ما له زيت. ابن عبد السلام: وهو الصحيح؛ لأنه ليس بمقتات. انتهى. وقد يقال أنه وإن لم يكن مقتاتاً فإن له مدخراً وهو مصلح للقوت. والجلجلان: هو السمسم. وعطف الجلجلان على القطاني يقتضي أنه ليس من القطاني، وهو المشهور.

قال في البيان: المشهور في المذهب أن الجلجلان والأرز ليسا من القطاني وإنما هما صنفان لا يضافان إلى غيرهما، ولا يضاف بعضهما إلى بعض، وكذلك الذرة والدخن، وقد روي عن مالك أن الأرز والجلجلان من القطاني، روى ذلك عنه ابن زياد. وأما الكرسنة، فمذهب ابن حبيب أنها صنف على حدة. وقال ابن وهب: لا زكاة فيها، واختاره يحيى بن عمر وهو الأظهر؛ لأنها علف وليست بطعام. انتهى. ولا تَجِبُ فِي الْقَضْبِ والْبُقُولِ يصح أن يقرأ بالضاد المعجمة، وهو نبت يشبه القرط وتأكله الدواب. وبالصاد المهملة هو قصب السكر، وكلاهما ذكره ابن الجلاب. ولا فِي الْفَوَاكِهِ كَالرُّمَّانِ، وكَذَلِكَ التِّينُ عَلَى الأَشْهَرِ فِيهِمَا مقابل الأشهر في الرمان ونحوه لابن الماجشون كما تقدم. ودليل المشهور ما قاله مالك في موطئه: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي سمعت من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه صدقة كالرمان، والفرسك، والتين، وما أشبه ذلك. والقول بوجوبها في التين لابن حبيب وهو الأقرب، وهو أولى من الزبيب؛ ولهذا قال ابن القصار: إنما تكلم مالك على بلده ولم يكن التين عندهم وإنما كان يجلب إليهم، وأما بالشام وغيره ففيه الزكاة. خليل: وتصريح المصنف وغيره بأن المشهور سقوط الزكاة عن التين يبعد كلام ابن القصار، ويبعده أيضاً أنه من المعلوم أنه جاء إلى مالك من الشام والأندلس، فيبعد أن مالكاً لم يسمع أنه مقتات هنالك.

وفِي حَبِّ الْفُجْلِ والْكَتَّانِ, والْعُصْفُرِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَثُرَ فَكَالزَّيْتُونِ والْجُلْجَلانِ أي: الفجل الأحمر: كذا ذكره ابن بشير، وابن شاس. وبذر الكتان معروف. وبذر العصفر: القرطم. ولا خفاء في تصور الأقوال من كلامه. ونص مالك في المدونة على وجوب الزكاة في حب الفجل. اللخمي: وقيل لا زكاة فيه. قال ابن يونس: واختلف قول مالك في حب القرطم وبذر الكتان، قال مرة: لا زكاة في ذلك، وبه أخذ سحنون. وقال مرة: فيهما الزكاة، وبه أخذ أصبغ. وروى عنه ابن القاسم: أن في حب القرطم من زيته، ولا زكاة في بذر الكتان ولا في زيته. انتهى. وهذه الرواية الثالثة في العتبية. وزعم في البيان أنه لم يختلف قول مالك في أن الزكاة لا تجب فيه. وحكى القول بالوجوب عن أصبغ، واختار اللخمي السقوط في بذر الكتان والقرطم؛ أي: أنهما ولو كان لهما زيت فهو كزيت اللوز. والقول الذي حكاه المصنف بالتفرقة رواه ابن حبيب. قال عنه في المجموعة: وما علمت أن في حب العصفر وبذر الكتان زكاة. قيل: إنه يعصر منه زيت كثير. قال: فقيه الزكاة إذا كثر. وألحق اللخمي ببذر الفجل بذر السلجم الذي يعمل بمصر، والجوز بخراسان. وفِيمَا لا يُثْمِرُ، ولا يُزَبِّبُ، ولا يُخْرِجُ زَيْتاً قَوْلانِ كبسر مصر وعنبها وزيتونها. والمشهور: وجوب الزكاة إلحاقاً بالغالب. ونص ابن وهب على السقوط في الزيتون الذي لا يخرج زيتاً. والنِّصَابُ: خَمْسَةُ أَوْسُقٍ ومَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ. وَالْوَسَقُ: سِتُّونَ صَاعاً. والصَّاعُ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وثُلُثٌ. والرَّطْلُ: مِائَةٌ وثَمَانِيَةٌ وعِشْرُونَ دِرْهَماً. والدِّرْهَمُ: سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ. والْمِثْقَالُ: اثْنَتَانِ وثَمَانُونَ حَبَّةً وثَلاثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ مِنَ الشَّعِيرِ الْمُطْلَقِ. اعلم أن تحرير ما ذكره كله موقف على تحرير الدرهم، وما ذكره فيه مخالف لما عليه الناس، وتبع فيه ابن شاس ابن عبد السلام، ونقله ابن شاس من كلام عبد الحق على

خلل في نقل ابن شاس- وأظنه كان في نسخته- ونقله عبد الحق من كلام ابن حزم وقد خالف فيه [141/ ب] الإجماع على ما نقله ابن القطان وغيره، بل قال جميعهم: إن جميع الدينار اثنتان وسبعون حبة، والدرهم سبعة أعشاره وهو خمسون حبة وخُمْسَا حبةٍ من الشعير. انتهى. ابن راشد: ووقع بيدي لبعض المتأخرين ما سأذكره. قال: اعلم- وفقنا الله تعالى وإياك لطاعته- أن درهم الكيل هو الذي تركب منه الأوقية، والرطل، والمد، والصاع، ولهذا سمي درهم الكيل؛ أي: الذي تحققت به المكاييل في الشرع وصح. فالنقل: أن زنته من حب الشعير خمسون حبة وخمسا حبة، تكون الحبة متوسطة غير مقشرة وقد قطع من طرفها ما امتد وخرج عن خلقها. ثم ذكر كلاماً طويلاً تركته لعدم الضرورة إليه، وانظره. قال ابن الجلاب: فمبلغ النصاب ألف وستمائة رطل بالبغدادي وأما مبلغه كيلاً، فقال القاضي أبو محمد: خمسون ويبة، وهي ثمانية أرادب وثلث إردب. وقال ابن القاسم في المجموعة: هي عشرة أرادب. خليل: وكأن هذا الإردب أصغر من الإردب المصري عندهم، وإلا فقد حرز النصاب في سنة سبع وأربعين أو ثمان وأربعين بمد معيرَّ على مد النبي صلى الله عليه وسلم فوجد ستة أرادب وثلث إردب وربع إردب بإردب القاهرة ومصر، وذلك بحضرة شيخنا رحمه الله. وما ذكره المصنف من أن المد رطل وثلث، قال في البيان: هو المشهور. قيل: بالماء وقيل: بالوسط من البر. وقيل: رطل ونصف. وقيل: رطلان. انتهى. وقال سند: رطل وثلث من الزبيب، أو الماء، أو العدس. فائدة: ذكر ابن عبد البر في الاستذكار، وابن رشد وغيرهما: أن مقدار الخمس أواقٍ التي أوجب فيها عليه الصلاة والسلام الزكاة مائتان وثمانون من دراهم الأندلس. ووقفت على تصنيف لبعض الأندلسيين أن هـ ذا الدرهم يسمى درهم الداخل؛ أي: لأنه دخل كل

أربعين من وزنهم في وزن مائة شرعية. وذكر أن المائتين وثمانين تبلغ عندهم ثمان عشرة أوقية، وطلبت تلك الأوقية فأتى لي من أثق به بأربع أواق وأخبرني أن الأوقية لم تتغير، فوزنتها فجاءت أحد وأربعين درهماً وربعاً، فكان مقدار النصاب على هذا العمل بدراهم مصر مائة وخمس وثمانين درهماً ونصف درهم وثمن درهم، ثم لم أكتف بذلك بل اعتبرت ذلك بالشعير فجاءت كذلك أو قريباً من ذلك، فاعلم هذه الفائدة، والله يجزي كلاً بحسب نيته. والله أعلم. ولا زَكَاةَ عَلَى شَرِيكٍ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّتُهُ نِصَاباً فِي عَيْنٍ، أَوْ حَرْثٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ هذا متفق عليه في العين والحرث. وقد تقدم خلاف ابن وهب في الماشية. فَلَوْ نَقَصَتْ حِصَّةُ أَحَدِ الوْرَثَةِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ مَا لَمْ تَجِبْ عَلَى المَيِّتِ يعني: إذا طابت الثمرة على ملك الوارث، فإن مات الموروث قبل طيبها فتنظر في حصة كل وارث، فإن كانت نصاباً زكاه وإلا فلا. وأما إن مات بعد طيبها اعتبر الجميع، فإن كان الجميع نصاباً زكي ولا التفات إلى ما يحصل لكل وارث، وهو معنى قوله: (مَا لَمْ تَجِبْ عَلَى المَيِّتِ). والْمُوصَى لَهُ مُعَيَّناً بِجُزْءٍ قَبْلَ طِيبِهِ أَوْ بِزَكَاتِهِ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ والنَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ الْمَسَاكِينُ، إِلا أَنَّ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ كما لو قال: ربع زرعي أو ثلثه لفلان قبل طيبه، أي: كانت الوصية بالجزء للمعين قبل الطيب. وقوله: (أَوْ بِزَكَاتِهِ) يحتمل أن يعود الضمير على الجزء، ويحتمل أن يعود على المزكى، والحكم فيهما واحد. وقوله: (أَوْ بِزَكَاتِهِ) أي: بمقدار زكاته؛ إذ الفرض أنه مات قبل الطيب. ولهذا قال في المدونة: ومن أوصى بزكاة زرعه الأخضر، أو بثمرة حائطه قبل طيبها، فهي وصية من الثلث غير مبدأ إن لم تلزمه، فلا تسقط هذه الوصية

عن الورثة بزكاة ما بقي له؛ لأنه كرجل استثنى عشر زرعه لنفسه وما بقي فللورثة. قوله: (كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ) أي: في صورتي الإيصاء بجزء والإيصاء بالزكاة، ولكونه كأحدهم تجب عليه نفقة جُزْءَيْهِ من سقي وعلاج. وقوله: (وكَذَلِكَ الْمَسَاكِينُ) أي: إذا أوصى لهم بجزء معين أو بالزكاة قبل الطيب، فإن كانت حصتهم خمسة أوسق فأكثر، قال في المدونة: زكاه المصق وإن لم يقع لكل مسكين إلا مد واحد، إذ ليسوا بأعيانهم وهم كمالك واحد، ولا يرجع المساكين على الورثة بما أخذ منهم المصدق. انتهى. وقال ابن الماجشون: لا يؤخذ من المساكين زكاة لأنها ترجع إليهم. وفيه نظر، لأن مصرف الزكاة أعم منهم. وقوله: (إِلا أَنَّ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ) أي: في الإيصاء للمساكين. والفرق أن المعين استحقه يوم الوفاء وله النظر فيه، وأما غير المعين فلا يتأتى فيه نظر، فكان لذلك قرينة دالة على إرادة الموصي بالجزء الموصى به بعد طيبه. ابن أبي زيد: فإن زادت النفقة على الثلث أخرج محمل الثلث. وإن لم يكن للميت مال قيل للورثة أنفقوا وقاسموهم، فإن أبوا دفعوه مساقاة، فيأخذ المساقي جزءه ثم يقتسمون ما بقي. واحترز المصنف بقوله: (بجزء [142/ أ] معين) مما لو أوصى بأوسق معينة، فإن الزكاة والنفقة في مال الميت بلا إشكال. والْمُعْتَبَرُ حَالُ كَمَالِهِ كَالرِّبَا يعني: أن المعتبر في قدر النصاب حال كماله، إلا أن الكمال يختلف، ففي الحبوب والثمار اليبس، وفي العنب كونه يبقى زبيباً. وحاصله: أن الخارص إنما يخرص الخمسة الأوسق باعتبار ما تصير الثمرة إليه إذا يبست. وقوله: (كَالرِّبَا) أي: كما أن المساواة المطلوبة في باب الربا إنما تعتبر إذا طاب الربوي وتناهى. وقد نص أهل المذهب على أن الثمر إنما يكال في الزكاة ويعتبر النصاب فيه إذا يبس. ووقع في السليمانية: في الزيتون أيضاً أنه يقدر نصابه بعد جمعه ويبسه، وأنكره

بعضهم وفرق بين الثمر وبينه؛ بأن الثمر لا تتم المنفعة به حالاً ومآلاً إلا إذا يبس، وأما الزيتون فالمنفعة فيه إنما هي في زيته وعصره بإثر جمعه، وقبل تجفيفه أحسن. وإنما يتأخر عصره لتعذر المعاصر وطلباً لجمع باقيه لا طلباً لزيادة وصف فيه. ومَا لا يُثْمِرُ يُقَدَّرُ تَثْمِيرُهُ لا عَلَى حَالِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ كبسر مصر. وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا كان عنده خمسة أوسق فقط. فعلى المشهور لا تجب فيه الزكاة للنقص إذا قدر تثميره، وعلى الشاذ تجب. والْمُعْتَبَرُ مِعْيَارُ الشَّرْعِ فِيهِ أي: والمعتبر في النصاب معيار الشرع في ذلك الشيء من كيل كالقمح، أو وزن كالزيت والعنب. وإن لم يكن للشرع معيار فبعادة محله، وهذا من قول ابن عبد السلام. يعني: أنه على القولين يعتبر فيه خمسة أوسق، فيقدر في المشهور يابساً، وفي الشاذ بسراً. وتُضَمُّ الأَنْوَاعُ بِاتِّفَاقٍ ولا تُضَمُّ الأَجْنَاسُ، والْمُعْتَبَرُ اسْتِوَاءُ الْمَنْفَعَةِ وتَقَارُبُهَا وإِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ ... أي: أن أنواع الثمر وغيره يضم بعضها إلى بعض باتفاق وتزكى إن كان في المجموع نصاباً. ابن عبد السلام: ولم يتعرض المصنف لنقل الاتفاق في عدم ضم الأجناس. ومنهم من يقول: تضم الأنواع والأجناس المتقاربة ولا يضم ما عداها؛ لأن هذا يرى أن القمح والشعير جنسان ولكنهما متقاربان، فلو نقل الاتفاق لأوردت عليه هذه العبارة. وقوله: (والْمُعْتَبَرُ اسْتِوَاءُ الْمَنْفَعَةِ وتَقَارُبُهَا) أي: والمعتبر في الحكم على الشيئين بأنهما نوعان تساويهما في المنفعة كالقمح والشعير، أو تقاربهما وإن لم يتأكد التقارب كالقمح والشعير.

والْمَنْصُوصُ أَنَّ الْقَمْحَ والشَّعِيرَ والسُّلْتَ جِنْسٌ، وفِي الْعَلَسِ مَعَهُمَا قَوْلانِ ومقابل المنصوص مخرج من قول السيوري وتلميذه عبد الحميد: أن القمح والشعير جنسان في البيوع، لكن لا أعلم أنه قاله في السلت. قال ابن حبيب: وضم العلس إليهما هو قول مالك وأصحابه إلا ابن القاسم. وعزا غيره عدم الضم لابن القاسم، وابن وهب، وأصبغ، والأقرب الضم. والأُرْزَ، والدُّخْنَ، والذُّرَةَ أَجْنَاسُ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: فلا تضم. والمشهور مذهب المدونة. والقول بالضم ذكره الباجي تخريجاً على قول ابن وهب أنها صنف واحد في الربا. وفِي الْقَطَانِيِّ: الْمَشْهُورُ الضَّمُّ- بِخِلافِ الرِّبَا- لِمَا ثَبَتَ مِنْ ضَمِّ الْعَيْنَيْنِ وإِنْ كَانَا فِي الرِّبَا جِنْسَيْنِ ... القطاني، والعدس، والحمص، واللوبيا، والباقلاء، والترمس، والجلبان، والبسيلة، وليست البسيلة هي الكرسنة كما زعم ابن راشد، فإن البسيلة اتفق على أنها من القطاني، واختلف في الكرسنة على ما صرح به المصنف في باب البيوع. قوله: (الْمَشْهُورُ الضَّمُّ) أي: أن المشهور في القطاني أنها جنس فتضم. ونص على الضم ولم ينص على الجنسية اتكالاً على ما قدمه أنه لا يضم إلا الأنواع قال في الجلاب: والقطاني نوع واحد يضم بعضها إلى بعض. وقال في الرسالة: والقطنية أصناف في البيوع. واختلف فيها قول مالك، ولم يختلف قوله في الزكاة أنها صنف واحد. وذكرنا عبارة الشيخين لتعلم أن قول ابن عبد السلام- يعني: أن القطاني أجناس، لكن الحكم في هذا الباب الضم- ليس بظاهر.

ابن راشد: والقول بعدم الضم أجراه القاضي أبو محمد من الخلاف في ضم بعضها إلى بعض في الربا، واختاره الباجي. انتهى. وظاهر كلام اللخمي: أن القولين منصوصان. واختلف هل هي في نفسها صنف واحد في الزكاة والبيع أو أصناف؟ فذكر القاضي أبو محمد عبد الوهاب فيها قولين: هل تجمع في الزكاة والبيع، أم لا. انتهى. وذكر ابن يونس أن ابن المواز قاله. فإن قيل: كيف تجمع القطاني في الزكاة وهي يجوز الواحد منها بالاثنين في غيره؟ قيل: والورق والذهب يجمعان في الزكاة، وقد يؤخذ في الدنانير أضعافه من الدراهم. وهذا معنى قوله: (بِخِلافِ الرِّبَا- لِمَا ثَبَتَ مِنْ ضَمِّ الْعَيْنَيْنِ) إلى آخره. وبه تعلم الجواب على إجراء عبد الوهاب. وإِنْ كَانَ مَا يَضُمُّ بَطْنَيْنِ، فَفِي اعْتِبَارِ فَصْلِ الْوَاحِدِ فِيهِمَا أَوْ زِرَاعَةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ حَصَادِ الآخَرِ قَوْلانِ ... يعني بالبطنين: زراعة أرضين؛ لأن الأرض الواحدة تزرع وتحصد ثم تزرع ثاني مرة؛ لأن هذا الثاني لا اختلاف في عدم ضمه، قاله ابن عبد السلام. مع أنه أقرب إلى أن يسمى بطناً من النوع الأول؛ لأن اختلاف البطن في الولادة إنما يستعمل غالباً مع اتحاد الأم لا مع تعددها. ولكن لا يصح [142/ ب] حمل كلام المصنف عليه؛ لقوله: (زِرَاعَةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ حَصَادِ الآخَر). ثوبه: (فَفِي اعْتِبَارِ) أي: أنه اختلف في موجب الضم هل هو زراعة أحدهما قبل حصاد الآخر، أو الاجتماع في فصل واحد من فصول السنة الأربعة؟ والأول قول ابن مسلمة، والثاني لمالك في كتاب ابن سحنون. قال اللخمي: وروى عنه ابن نافع أنه لا زكاة عليه حتى يرفع من كل واحد ما تجب فيه الزكاة، وهو أحسن. انتهى. وعَلَى الثَّانِي لَوْ كَانَ وَسَطاً ولا يَكْمُلُ النِّصَابُ إِلا بِالثَّلاثَةِ أَوْ بِاثْنَيْنِ، فَقَوْلانِ: تُضَمُّ الثَّلاثَةُ، ويُضَمُّ الْوَسَطُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْخَلِيطِ ... أي: وإذا فرعنا على أن الموجب زراعة أحدهما قبل حصاد الآخر، فلو حصل الزرع في ثلاثة مواضع وكان زرع الثاني قبل حصاد الأول، وزرع الثالث قبل حصاد الثاني،

قيل: تضم الثلاثة، بناء على أن خليط الخليط خليط. وقيل: بل يعتبر الوسط الأول والثاني، فإن اجتمع منهما نصاب زكاة وإلا فلا. والقولان مخرجان من الخلاف في خليط الخليط، قاله ابن راشد. فلو كان في الأول وسقان، والثالث وسقان، والوسط ثلاثة أوسق، زكى الجميع على القولين، بأنك إذا ضممت الوسط إلى الأول كانا خمسة أوسق، وإن أضفته إلى الآخر كانا خمسة أوسق، وإن كان الوسط وسقين والمسألة بحالها، وجبت الزكاة على القول بأن خليط الخليط كالخليط ولم تجب على القول الآخر، ولو كان الأول وسقاً، والثالث وسقين، والوسط ثلاثة زكى الوسط والآخر، ويختلف في الأول. والله أعلم. ويُضَمُّ الْمُفْتَرَقُ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى كَالْمَاشِيةِ لا خلاف فيه، قاله ابن عبد السلام. وتَجِبُ بِالطِّيبِ والإِزْهَاءِ والإِفْرَاكِ. وقِيلَ: بِالْحَصَادِ أَوْ بِالْجُذَاذِ. وقِيلَ: بِالْخَرْصِ فِيمَا يُخْرَصُ ... الطيب عام في جميع الثمرة، والإزهاء خاص بالتمر وهو طيب أيضاً، فهو من عطف الخاص على العام. والإفراك في الحب خاصة. وحاصل كلامه: أن في الحبوب قولين وفي الثمار ثلاثة. والأول قول مالك، قال: إذا أزهت النخل وطاب الكرم واسود الزيتون وأفرك الزرع واستغنى عن الماء وجبت فيه الزكاة، وإلى هذا أشار بقوله: (وتَجِبُ بِالطِّيبِ والإِزْهَاءِ والإِفْرَاكِ) والقول الثاني: أنها لا تجب في الزرع إلا بالحصاد، ولا تجب في التمر إلا بالجذاذ. ونسبه اللخمي، وابن هارون، وابن راشد لابن مسلمة. ابن راشد: واحتج بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وهو معنى قوله: (وقِيلَ: بِالْحَصَادِ أَوْ بِالْجُذَاذِ) والقول الثالث خاص بالتمر أنها لا تجب إلا بالخرص، وهو للمغيرة، ورأى الخارص في ذلك كالساعي. وترتيب هذه الأشياء في الوجود: هو أن الطيب أولاً، ثم الخرص، ثم الجذاذ. وأن الإفراك أولاً، ثم الحصاد. والله أعلم.

وعَلَيْهَا لَوْ مَاتَ رَبُّهَا أَوْ بَاعَ أَوْ عَتَقَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ أي: وتظهر ثمرة الخلاف في انتقال الملك بين هذه الأشياء، ولا فرق بين ما نص عليه وغيره، كالهبة، والصدقة، واستحقاق النصف بالطلاق ونحوه، ولا خلاف فيه. ويُخْرَصُ التَّمْرُ والْعِنَبُ إِذَا حَلَّ بَيْعُهُمَا بِخِلافِ غَيْرِهِمَا عَلَى الأَشْهَرِ، فَقِيلَ: لِحَاجَةِ أَهْلِهِ، وقِيلَ: لإِمْكَانِهِ وعَلَيْهِمَا فِي تَخْرِيصِ مَا لا يُخْرَصُ لِلْحَاجَةِ قَوْلانِ أما تخريص التمر، فصح عنه صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، وأما العنب فجاء فيه حديث عتاب بن أسيد رواه عنه سعيد بن المسيب ولم يذكره، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما تؤخذ زكاة النخل تمراً ولا يخرص غيرهما. قال في الموطأ: وعلى ذلك الأمر عندنا. ومقابل الأشهر إلحاق غيرهما، وصححه بعضهم في الزرع إذا لم تؤمن عليه أربابه وخيف منهم. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا خيف منهم وكَّل عليهم أمين ولم يخرص عليهم. وكذلك اختلف في الزيتون إذا لم تؤمن عليه أربابه هل يخرص أو يوكل عليهم أمين؟ واختلف في تعليل الخرص في التمر والعنب، فقال في المدونة، والموطأ: إن ذلك توسعة عليهم. أي: أن الحاجة داعية إلى أكلهما رطبين. قيل: بل لإمكان الحزر فيهما دون غيرهما. وعلى التعليلين اختلف في تخريص غيرهما إذا احتيج إليه، فيخرص على الأول دون الثاني. هكذا قال المصنف وفيه نظر؛ لأنه علل في المدونة بالأول فلو كان كما قال المصنف للزم أن يكون المشهور تخريص غيرهما إذا احتيج إليه وليس كذلك. قال في المدونة: ولا يخرص إلا العنب والتمر للحاجة إلى أكلهما رطبين. انتهى. والذي ينبغي أن يقال: إنما اعتبر في المدونة شدة الحاجة في غالب الأوقات والأزمان، والزيتون ونحوه ليس كذلك. وفي التعليل الثاني نظر؛ لأن الزيتتون والحب يجوز بيعهما إذ ذاك، ولو لم يمكن الحزر فيهما لم يجز بيعهما. والله أعلم.

ويُخْرَصُ نَخْلَةً نَخْلَةً ويَسْقُطُ نَقْصُهُ هذا صفة الخرص؛ أي: أن الخارص لا يخرص الحائط جملة واحدة وإنما يخرص نخلة نخلة؛ لأنه أقرب إلى الحزر. هكذا روى ابن نافع عن مالك. قاله ابن يونس والباجي. (ويَسْقُطُ نَقْصُهُ) من كل نخلة ما يظن أنه ينقص إذا جف. ووقع في بعض النسخ: (ويسقط سقطه)؛ أي: ما يرميه الهواء، وما يفسد [143/ أ]، وما يجف، وما يأكله الطير، وما يأكلونه ويعرونه. والنسخة الأولى أصح؛ لأن المشهور أنه لا يترك له شيء لا للأكل ولا للفساد. ونص عليه الباجي وابن راشد وغيرهما. ووقع في بعض النسخ: (ويخرص جملة). وقيل: يسقط بعضه، وهي موافقة للمنقول. والقول الشاذ حكاه ابن الجلاب، ولفظه: وعنه في تجفيف الخرص وترك العرايا والثنايا روايتان؛ إحداهما: أنه يجفف خرص التمرة على أربابها ويترك لهم ما يعرونه وما يأكلونه. والرواية الأخرى: أنه يخرص عليهم التمر كله ولا يترك منه شيء. فرع: قال في المدونة: ويحسب على رب الحائط ما علف، أو أكل، أو تصدق بعد طيبه. وقال في العتبية: فيما أكل الناس من زرعهم وما يستأجرون به مثل الْقَتِّ التي يعطي منها حَمْلُ الحِمْلِ بِقَتَّةٍ. قال مالك: أرى أن يحسبوا كل ما أكلوا أو استحملوا به، فيحسب عليهم في العشر. وأما ما أكلت منه البقر والدواب في الدراس إذا كانت في الدرس، فلا أرى عليهم فيه شيئاً. قال في البيان: أما ما أكل منه بعد يبسه وعلفه فلا اختلاف في أن عليه أن يحصبه. واختلف فيما تصدق به بعد اليبس إن كانت الصدقة على المساكين. ابن يونس: قال مالك في العتبية: لا يحسب عليه ما كان بلحاً، وليس هو مثل الفريك يأكله من زرعه، ولا الفول ولا الحمص الأخضر هذا يتحراه، فإن بلغ خرصه على اليبس خمسة

أوسق زكاه وأخرج عنه حباً يابساً من ذلك الصنف. قال في الموازية: وإن شاء أخرج من ثمنه. انتهى. ويَكْفِي الْخَارِصُ الْوَاحِدُ بِخِلافِ حَكَمَي الصَّيْدِ الأصل فيه إرساله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة لتخريص النخل، ولأنه حاكم، وأما حكما الصيد فإنهما يخرجان عن الشيء من غير جنسه فأشبه المقومين، فإنه لابد أن يكونا اثنين. قاله الباجي. وَلَوِ اخْتَلَفَ ثَلاثَةٌ، فَالرِّوَايَةُ: يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْجَمِيعِ كما لو قال أحدهم ستة، والآخر ثمانية، والآخر عشرة، فيؤخذ ثلث ما قال كل واحد فيكون عليه زكاة ثمانية. وإن كانا اثنين أخذ من قول كل واحد النصف، وإن كانوا أربعة أخذ من كل واحد الربع، ثم كذلك. ابن عبد السلام: ومذهب المدونة في هذا الأصل العمل بقول من زاد، كما في مقوم السرقة. خليل: وحاصله التخريج إذ لم ينص في المدونة في الزكاة على ما قال وفيه نظر؛ لأن الخارص كالحاكم فلا يلغي قوله، بخلاف التقويم فإنه شهادة والشهادة ترجح الزيادة، والمراد فيها المعرفة كالجرح والتعديل. والله أعلم. فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَعْرَفَ، فَبِقَوْلِهِ فَقَطْ يعني: أن الحكم المتقدم إنما هو إذا تساووا في المعرفة، وأما إن كان فيهم أعرف، فالعمل على قوله لغلبة الظن بصدقه. ولَوْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَالْمُعْتَبَرُ مَا بَقِيَ اتِّفَاقاً أي: لو خرص الخارص ثم أصابت الثمرة جائحة فالمعتبر ما بقي بعد الجائحة باتفاق، فإن بقي نصابُ ما زكاه، وإلا فلا زكاة على المشهور، خلافاً لابن الجهم.

ولَوْ تَبَيَّنَ خَطَأُ الْعَارِفِ، فَفِي الرُّجُوعِ إلَى َما تَبَيَّنَ قَوْلانِ، والْمَشْهُورَ: أَنَّهُمْ إِذَا تَرَكُوهُ فَالْمُعْتَبَرُ مَا وُجِدَ .. قيد المسألة بالعارف؛ لأن غيره يرجع إلى ما تبين بالاتفاق، قاله ابن بشير. والقول بأنه يرجع لما تبين من نقص وزيادة نقله الباجي عن ابن نافع. والقول بأنه لا يرجع لما تبين وإنما يعتمد على ما قاله الخرص حكاه التونسي. وقد اختلف في فهم المدونة على القولين؛ لأن فيها: ومن خرص عليه أربعة أوسق فوجد خمسة، أحب إلى أن يؤدي زكاتها لقلة إصابة الخارص اليوم. فحمل جماعة لفظة (أحب) على ظاهرها، وحملها بعض القرويين على الوجوب. ابن يونس: وهو صواب؛ لقوله في المجموعة: يؤدي زكاة ما زاد. قال في التنبيهات: والاستحباب ظاهر الكتاب؛ لقوله: أحب. وتعليله بقلة إصابة الخارص ولو كان على الوجوب لم يلتفت إلى إصابة الخارص ولا خطئه. انتهى. اختار التونسي، وابن يونس وغيرهما قول ابن نافع. أي: لأنه كالحاكم يحكم ثم يظهر أنه أخطأ. وقال مالك في العتبية: يخرج عن الفضل؛ يريد: واجب عليه، وهو أصح مما في المدونة؛ لأنه قال فيها: أحب إلي؛ لأن نهاية خرص الخارص أن يُجعل كحكم الحاكم، وهذا الاختلاف إنما هو إذا خرصه عالم في زمان العدل، وأما إن خرصه جاهل أو عالم في زمان الجور، فلا يلتفت إلى ذلك ويعمل صاحب المال على ما وجد. انتهى. ولم يجعل اللخمي الرجوع إلى الزائد في زمان الجور متفقاً عليه، بل جعل ذلك قولاً ثالثاً. وهذا- أعني كون هذا ثالثاً- هو ظاهر كلامه، وقد صرح أبو الحسن بذلك. واعلم أنالنقص إنما يتحقق مع قيام البينة، وأما مع عدمها فلا؛ لجواز أن يكون النقص لا كله أو غيره هذا ما وجدته. والمصنف شهر القول الثالث- والله أعلم من أين أخذه- ومعناه: أن أرباب الثمار إذا تركوها، فالمعتبر ما وجد من زيادة ونقص [143/ ب]. وإن

لم يتركوه، فالمعتبر ما خرصه الخارص وفيه إشكال؛ لأنه كيف يقال: إذا لم يتركوه وأكلوا منه، وزاد لا يخرج عن الزيادة، وإذا تركوه يؤخذ منهم ما زاد، والمتبادر إلى الذهن خلافه. وهذا إنما يأتي على المعنى الذي مشينا عليه كلام المصنف، وكذلك أيضاً مشاه ابن راشد، وابن عبد السلام. ويحتمل أن يكون المعنى: إذا تركوه الخراص، ويكون كقول مالك في العتبية فتأمل ذلك، وهو أقرب من الأول. وما ذكرناه من أن قوله: (والمشهور القول ثالث) هو ظاهر هنا. وظاهر كلام ابن عبد السلام: أنه فرع آخر. وجعل ابن عبد السلام مذهب المدونة: أنه يحمل على قول الخارص أولاً. خليل: وهو يأتي على رأي من حمل المدونة علىلاستحباب. والله أعلم. وَالْمُخْرَجُ: الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، كَالسَّيحِ، وَمَاءِ السَّمَاءِ، وَبِعُرُوقِهِ. وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِمَشَقَّةٍ، كَالدَّوَالِيبِ، والدِّلاءِ وَغَيْرِهِمَا. هو ظاهر. وَلَوِ اشْتُرِيَ السَّيْحُ لَهُ، فَالْمَشْهُورُ: الْعُشْرُ فوجه المشهور عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر". وما شهره المصنف نقله ابن أبي زمنين عن بعض أشياخه. ونقل ابن يونس مقابله عن عبد الملك بن الحسن، قال: وقال بعضهم: وهذا أعدل؛ لأن المشقة فيه كالسواني، ولا يقال أنه قياس يعود على النص بالإبطال، كما قال ابن بشير؛ لأنا نقول: إنما يلزم ذلك أن لو حكمنا بنصف العشر مطلقاً، أما إذا قلنا به في صورة فلا. فَلَوْ أَجْرَاهُ بِنَفَقَةٍ فَالْعُشْرُ. وَقِيلَ: إِلا الأُولَى الأول هو المشهور، والثاني للخمي. ومعنى (إِلا الأُولَى) أي: السنة الأولى، ففيه نصف العشر.

وَإِنْ سُقِيَ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَسَاوَيَا، فَقَوْلانِ: يُعْتَبَرُ مَا حَيَا بِهِ، وَالْقِسْمَةُ أي: القولان لمالك. قوله: (مَا حَيَا بِهِ) أي: الأخيرة. يشهد لذلك ما قالوه في الرجل يداين القوم في سقي زرعه ثم فلس، أنه يبدأ بآخرهم ديناً. قوله: (وَالْقِسْمَةُ) أي: يؤخذ ثلاثة أرباع العشر. قال ابن بشير: وهو القياس. وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَثَلاثَةٌ: الأَكْثَرُ، وَمَا حَيَا بِهِ، وَالْقِسْمَةُ هذه كلها روايات، وبالأول أخذ ابن القاسم. قال ابن شاس: وهو المشهور. قال ابن القاسم: الأكثر الثلثان وما قاربهما، فإن زاد على النصف يسيراً خرج نصفين. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَبِّ كَيْفَ كَانَ اتِّفَاقاً يعني: كيف كان طيباً كله، أو رديئاً كله، أو بعضه طيباً، وبعضه رديئاً. خليل: وفي الاتفاق نظر؛ لأنه قال في الجلاب: وتؤخذ الزكاة من وسط الحبوب والثمار المضموم بعضها إلى بعض في الزكاة، ولا يؤخذ من أعالي ذلك ولا من أدانيه. نعم نص اللخمي وابن شاس على ما قاله المصنف. وَفِي الثِّمَارِ، ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ إِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَمِنَ الْوَسَطِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِداً فَمِنْهُ ... أي: الأول من الثلاثة: يؤخذ الوسط مطلقاً كالماشية، وهو قول عبد الملك. ورواه ابن نافع عن مالك، وهو ظاهر الموطأ. والثاني: أنه يؤخذ مطلقاً، وهو قول أشهب؛ لأن الأصل إخراج زكاة كل مال منه. واستثنى الشرع أخذ الرديء من الماشية، فيبقى ما عداه على الأصل.

والثالث وهو المشهور، وهو مذهب الكتاب: إن كان نوعاً واحداً أخذ منه جيداً كان أو رديئاً، وإن كان مختلفاً فمن الوسط. وهذا إذا كانت الأنواع متساوية، وإن كان أحدهما أكثر كثرة ظاهرة، فقال عيسى ابن دينار: يؤخذ منه. قال في الجواهر: وروى أشهب أنه يؤخذ من كل واحد بقسطه. واعلم أنه في المدونة إنما ذكر أنه يؤخذ من الوسط مع الاختلاف في الثلاثة الأنواع، وأما إن اختلف النوع على صنفين، فقال في الجواهر: أخ ذ من كل صنف بقسطه ولا ينظر إلى الأكثر. وقال عيسى بن دينار: إن كان فيهما أكثر أخذ منه. وألزم الباجي ابن القاسم من قوله: في أنواع أنه يخرج من وسطها، أن يكون في الذهب والورق. كذلك إذا اجتمعت منه أنواع. وَفِيمَا لا يَكْمُلُ ولا يُزَبِبُ مِنْ ثَمَنِهِ قَلَّ الثَّمَنُ أَوْ كَثُرَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَقِيلَ: مِنْ جِنْسِهِ. وَقِيلَ: مَا شَاءَ .... أي: فيما لا يكمل. أي: كعنب مصر وزيتونها. القول المشهور: أنه يخرج من ثمنه؛ لأنه لما كان لا يدخر ولا يأكله أربابه غالباً بل يبيعونه نزل ثمنه منزلة كمال طيبه. والقول الثاني لابن الماجشون، ورواه ابن نافع عن مالك. والثالث لابن حبيب. وَفِي الزَّيْتُونَ وَنَحْوِهِ: الزَّيْتُ الْمَشْهُورُ. وَثَالِثُهَا: الْحَبُّ يُجْزِئُّ، وَالزَّيْتُ يُجْزِئُ تصوره ظاهر. ونحو الزيتون الجلجلان. ابن عبد السلام: المشهور هو الأصل، ولولا الزيت ما تعلقت بهذا النوع زكاة. والقول الثاني لابن كنانة، وابن مسلمة، وابن عبد الحكم وأسقطوا العصر عن مالكه، وهذه الطريقة في النقل أحسن من طريق من أفرد الزيتون عن الخلاف وقصر الخلاف على ما عداه. انتهى. وحكى قولاً بالتفرقة، فيجب الزيت في الزيتون والحب في غيره.

وَالْوَسْقُ بِالزَّيْتُونِ اتِّفَاقاً أي: وإذا قلنا [144/ أ] إنما تخرج من الزيت، فيعتبر في تعلق الزكاة أن يكون الزيتون ونحوه خمسة أوسق اتفاقاً؛ يعني: ولا يشترط في الزيت بلوغه نصاباً بالوزن. والباء في قوله: (بِالزَّيْتُونِ) يتعلق بمحذوف؛ أي يعتبر بالزيتون. فَلَوْ بَاعَ زَيْتُوناً لا زَيْتَ لَهُ فَمِنْ ثَمَنِهِ، وَمَا لَهُ زَيْتٌ مِثْلُ ما لزمه زَيْتاً، كَمَا لَوْ بَاعَ ثَمَراً أَوْ حَبّاً يَبُسَ .. هذا ظاهر، وإذا أراد أن يخرج الزيت يسأل المشتري عما خرج منه إن كان يوثق به، وإلا سأل أهل المعرفة. وما ذكره المصنف هو قول ابن القاسم، وحكى القاضي أبو محمد قولاً بأنه يخرج من ثمنه. فَإِنْ أَعْدَمَ الْبَائِعُ، فَفِي الأَخْذِ مِنَ الْمُبْتَاعِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ قال في المدونة: ومن باع زرعه بعد أن أفرك أو يبس، فليأت بما لزمه حباً ولا شيء على المبتاع، فإن أعدم البائع أخذ الساعي من المبتاع من الطعام إن وجده عنده بعينه، ثم يرجع المبتاع على البائع بقدر ذلك من الثمن. وقال أشهب: لا شيء على المبتاع؛ لأن البيع كان له جائزاً. قال سحنون: وهو عندي أصوب. انتهى. ورأى ابن القاسم أن البائع كالمتعدي في البيع؛ لأن الفقراء شركاؤه في الثمرة بالعشر أو نصفه، فهو كبيع الفضولي. وعكس ابن الجلاب نسبة هذا القول لأصحابنا، فلعل لكل منهما قولين. والله أعلم. وَلَوْ تَلِفَ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ فَكَالْعَيْنِ، إِلا أَنْ يُدْخِلَ الْجَمِيعَ بَيْتَهُ، فَإِنْ عَزَلَ عُشْرَهُ فِي أَنْدَرِهِ فَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ؛ إَذْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ ..... أي: لو تلف جزء من النصاب قبل التمكن من الأداء، فالجمهور على السقوط وقال ابن الجهم: يخرج عشر الباقي أو نصف عشره، كما قال في العين.

وقوله: (إِلا أَنْ يُدْخِلَ الْجَمِيعَ بَيْتَهُ) ظاهر التصور. ولنذكر كلامه في التهذيب فإنه أتم فائدة، قال فيه: ومن جذ ثمره أوحصد زرعه وفيه ما تجب فيه الزكاة فلم يدخله بيته حتى ضاع من الأندر أو الجرين، لم يضمن زكاته. وكذلك لو عزل عشره في أندره أو جرينه ليفرقه فضاع بغير تفريط فلا شيء عليه. وإن أدخل كله بيته قبل قدوم المصدق فضاع ضمن زكاته. قال مالك: وكذلك لو عزل عشره حتى يأتيه المصدق ضمنه؛ لأنه قد أدخله بيته. وقال ابن القاسم: إذا أخرجه وأشهد عليه فتأخر عنه المصدق لم يضمن. وبلغني أن مالكاً قال في ذلك: إذا لم يفرط في الحبوب لم يضمن. وقال المخزومي: إذا عزله أو حبسه المصدق فتلف بغير سببه فلا شيء عليه؛ إذ ليس عليه أكثر مما صنع، وليس عليه دفعه. انتهى. قال في التنبيهات: واختلف المتأولون والشارحون في تحقيق مذهب مالك في المسألة وصحيح قوله فيها؛ لأنه قال مرة: هو ضامن إذا أدخله منزله، ومرة قال: إذا أخرج زكاته قبل أن يأتيه المصدق فضاعت فهو ضامن. وقال في المال: إذا لم يفرط لم يضمن، ثم قال: إذا لم يفرط في الحبوب لم يضمن. فذهب بعض شيوخ القرويين إلا أنه يحتمل ألا يكون خلافاً، وأن الرواية المطلبة بالضمان ترد إلى المقيدة بإدخاله بيته، وأن ابن القاسم بزيادته الإشهاد غير مخالف له؛ إذ يحتمل أن يشهد ليسقط عنه الضمان ثم يأكله، وأن مقتضى قول ابن القاسم بالإشهاد سواء ضاع في الأندر أو بعد إدخاله بيته، وأن مالكاً سوى بين أن يشهد أو لم يشهد. والمخزومي يبرئه وإن لم يشهد، وإلى نحو هذا المأخذ ذهب أبو عمران. وحمله غيره من الأنلدسيين على أن قولي مالك مختلفان؛ أحدهما: على الإطلاق ومتى لم يفرط لم يضمن، أدخل ذلك منزله أم لا، أشهد أم لا كالدنانير. والآخر: يضمن متى أدخله منزله أشهد أم لا. وقول المخزومي موافق للأول. وقول ابن القاسم مخالف للقولين معاً ويشترط الإشهاد، وسواء ضاع عنده كله أو العشر لا ضمان عليه وإن أدخله

منزله، وإلى هذا نحا شيخنا أبو الوليد وتردد نظره في الساعي نفسه لو ضيع ذلك، هل يضمن إذا لم يدخله بيته للحوز أو لا يضمن كالدنانير، ولم يختلف إذا ضيع أو ف رط أنه ضامن، كما لا يختلف أنه إذا أدخله الحرز والتحصين للخوف عليه في أندره، وقد قاله التونسي. وإنما يقع الاختلاف إذا لم يتحققوا الوجه الذي أدخله له، هل يصدق بدعواه الحرز أم لا يصدق. انتهى. وَالْمَالُ الْمُحْبَسُ إِنْ كَانَ نَبَاتاً لِمُعَيَّنِينَ، فَالْمُعْتَبَرُ الأَنْصِبَاءُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِلا فَالْمُعْتَبَرُ الْجُمْلَةُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فَلا زَكَاةَ المال المحبس إن كان نباتاً أو غيره، ثم إما أن يكون على معينين كزيد وعمرو وبكر أم لا، كالفقراء والمساكين، فإن كان على معينين وجبت الزكاة فيه على كل من بلغت حصته نصاباً، هذا معنى قوله: (فَالْمُعْتَبَرُ الأَنْصِبَاءُ) أي: يعتبر نصيب كل واحد على انفراده. ومقابل المشهور لسحنون والمدنيين: أنه يعتبر جملته، فإن كانت نصاباً زكاه ولا التفات إلى ما يحصل لكل واحد. واعلم أن ما شهره المصنف نسبه في الجواهر لابن القاسم، ونسبه اللخمي [144/ ب] وغيره لابن المواز، ولم أر من صرح بمشهوريته مثل ما فعل المصنف، ولم يقع في المدونة التصريح بأحد القولين، ولفظها: وتؤدي الزكاة عن الحوائط المحبسة في سبيل الله، أو على قوم بأعيانهم أو بغير أعيانهم، وفهمها صاحب المقدمات على القول الشاذ في كلام المصنف، ونسب ما شهره المصنف للموازية، نعم اقتصر التونسي، واللخمي على ما شهره المصنف. وإذا بنينا على ما قاله المصنف من أن الاعتبار الأنصباء، فقيد اللخمي ذلك بما إذا كانوا يسقون ويكون النظر لهم؛ لأنها طابت على أملاكهم، وسواء كان الحبس شائعاً أو لكل واحد نخلة بعينها، وإن كان ربها يسقي ويلي ويقسم الثمرة زكيت إذا كان من جملتها خمسة أوسق. انتهى.

وعلى هذا فالمسألة مقيدة بما ذكره اللخمي ووقع في بعض النسخ. والمال إن كان يعرفه مالكه فالمعتبر جملته، وإلا فالمعتبر الأنصباء على المشهور، وهي موافقة للخمي. وقوله: (وَإِلا) أي: وإن لم تكن على معينين فالمعتبر الجملة؛ إن كانت نصاباً زكى، وكذلك إن كانت محبسة على مسجد أو مساجد زكيت على ملك المحبس إن كانت في مجلتها نصاباً، وإن لم ينب كل مسجد إلا وسق واحد، واستحسن اللخمي عدم الزكاة، قال: لأن المساجد غير مخاطبات بالزكاة. وقوله: (وَقِيلَ) هو قول ابن الماجشون. يعني: أن المشهور وجوب الزكاة وان حبست علي من يستحق الزكاة كالفقير؛ لانها تزكي علي ملك ربها وهم انما يستحقونها بعد الطيب، وسواء كانوا معينين أم لا. وقال ابن الماجشون: اذا كانت محبسة علي من يستحق الزكاة فلا زكاة؛ لأنها تصرف عليهم فلا فائدة في أخذها منهم وردها عليهم، وقاله طاووس ومكحول وفيه نظر؛ لأن مصارف الزكاة أعم ممن حبست عليه. والله أعلم. قال في المقدمات: واختلف في الحبس إذا كان علي ولد فلان، هل يحمل ذلك محمل المعينين أم لا؟ علي قولين مدونين في الوصايا وغيرها. وَتُزَكََّى الإِبِلُ المَوْقُوفَةُ مَنَافِعُهَا وَأَوْلادُهَا اتِّفَاقاً يريد: أنها تزكى على ملك المحبس إذا بلغت النصاب، كانت على معينين أو مجهولين. قال اللخمي: لو حبس أربعين شاة على أربعة نفر لكل واحد عشرة بأعيانها زكيت؛ لأنه إنما أعطى المنافع، والأعيان باقية على ملكه. وحكى ابن يونس الاتفاق كالمصنف، وقال: لا خلاف أن في الأمهات الزكاة؛ لأنها موقوفة لما جعلها له. قال في القسم: وإن وقفت الأنعام لتكون غلتها من لبن أو صوف ونحوها، يفرق على معينين أو غير معينين، فالزكاة في الأمهات والأولاد جميعاً وحولهما واحد؛ لأن ذلك كله موقوف.

وظاهر قوله: (وَأَوْلادُهَا) أن الأولاد موقوفة؛ لأن الأولاد معطوفة على المنافع، فيكون تقدير كلامه: الموقوف منافعها والموقوف أولادها، لكن قوله بعد ذلك: (وفي أولادها ما تقدم) لا يناسب ذلك. فالظاهر أنه إنما أراد: الإبل موقوفة لا أن يملك الموقوف عليه الأولاد. والله أعلم. وَفِي أَوْلادِهَا مَا تَقَدَّمَ أي: في البتات إما أن يكون على معينين أم لا. إلى آخره. وَتُزَكََّى الْعَيْنُ الْمَوْقُوفَةُ لِلسَّلَفِ، بِخِلافِ الْمُوصَى بِهِ لِيُفَرَّقَ عَلى الْمَشْهُورِ إذا وقف رجل دنانير أو دراهم وسمى السلف، فقال مالك: تزكى؛ لأنها باقية على ملك ربها. خليل: وفي النفس من زكاتها شيء، ويمكن أن يخرج فيها قول مما تقدم في المال المعجوز عن إنمائه، والعين الموصى بها لتفرق فلا زكاة فيها؛ لأنها خرجت عن ملك ربها بمجرد موته، وهي فائدة لمن تصير إليه، وهذا القول في الموازية. قال في المقدمات: وهو معنى المدونة. وظاهر كلام المصنف أن مقابل المشهور منصوص، والذي ذكره صاحب المقدمات- بعد أن ذكر المشهور- أنه خرج على قولين آخرين: أحدهما: أن الزكاة لا تجب فيها إذا كانت تفرق على غير معينين، وتجب في حظ كل واحد منهم إذا كانوا معينين، وذكر أنه خرجه على كل مذهب، ويرى في فائدة العين الزكاة بحلول الحول عليه قبل القبض. والثاني: أنها تجب في جملتها إن كانت تفرق على غير معينين، وفي حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين. وذكر أنه خرجه على ما في الموازية في الماشية الموقوفة لتفرق، فإنه نص فيها على أن الحكم كذلك، وذكر في الماشية قولين آخرين: أحدهما: أن الزكاة تجب في حظ

مصارف الزكاة

كل واحد منهم إن كانوا معينين، ولا تجب إن كانت تفرق على غير معينين. قال: وهو نص قول أشهب في الموازية، ومعناه ما في المدونة. والثاني: أنه لا زكاة فيها كانت تفرق على معينين أو غير معينين، قال: وهو أضعف الأقوال. وَمَصْرِفُ الزَّكَاةِ الثَّمَانِيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ..} وَلَوْ أُعْطِيَتْ لِصِنْفٍ أَجْزَأَ ... قال الله- عز وجل-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} [التوبة: 60]. قال مالك- رحمه الله-: اللام في قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ) لبيان المصرف لا للملك، نقله ابن راشد. وفي المجموعة: آية الصدقة ليس فيها قسم بل إعلام بأهلها، فلذلك لو أعطيت [145/ أ] لصنف أجزأ. وصرح ابن الجلاب بالجواز ابتداء. وقيد ابن عبد السلام هذا، فقال: ما عدا العامل وإلا فلا معنى لدفع جميعها له. انتهى. وكذلك قال ابن هارون. ولعل هذا إنما هو إذا أتى بشيء له بال، وأما إن حصلت له مشقة وجاء بالشيء اليسير، فينبغي أن يجوز إعطاء الجميع. والْمَشْهُورُ أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ، وَعَلَيْهِ فِيمَا اَخْتَلَفَا بِهِ مَشْهُورُهَا شِدَّةُ الْحَاجَةِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَسَاكِينَ، وَقِيلَ: سُؤَالُ الْفَقِيرِ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ بِهِ أي: والمشهور أن الفقير والمسكين صنفان كما في بقية الأصناف. وقيل: إنهما مترادفان وسوغ العطف الاهتمام بهذا الصنف، ألا ترى أن البداية به في الآية، وهو الذي حكاه في الجلاب. خليل: وتظهر ثمرة الخلاف إذا أوصىف بشيء للفقراء لا للمساكين أو بالعكس، وعلى المشهور اختلف فيما وقع الامتياز به على ثلاثة أقوال: المشهور أنه شدة الحاجة، ثم اختلف في أي الصنفين هي؟ فالمشهور أنها في المسكين. وقيل: في الفقير. وقيل: يمتازان بأن

المسكين لا يسأل الفقير يسأل، روااه المغيرة عن مالك. وقيل: إنما يمتازان بأن المسكين لا يعلم به بخلاف الفقير. وهي أقوال متقاربة؛ لأن عدم السؤال والعلم مظنة الحاجة. وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا: الإِسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّة اتَّفَاقاً، وَأَلاَّ يَكُونَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفْقَتُهُ مَلِيّاً أي: يشترط في الفقير والمسكين ثلاثة شروط: أن يكون حراً، فإن أعطى عبداً، أو أم ولد، أو مدبراً، أو معتقاً إلى أجل، أو معتقاً بعضه لم يجزئ إذا كان عالماً؛ لأنهم في معنى الموسر؛ لأن نفقتهم على من له الرق فيهم، فإن عجز عن الإنفاق عليهم بيع هذا وعجل عتق الآخر، قاله اللخمي. الثاني: أن يكون مسلماً. الثالث: ألا تجب نفقته على مليء وسواء كان اللزوم للمزكي أو غيره، وهذا هو المعروف. وقال ابن زرقون: أخبرني الفقيه أبو الفضل عياض- رحمه الله- أن أبا خارجة عنبسة بن خارجة روى عن مالك جواز إعطاء الرجل زكاته لمن تلزمه نفقته، قال: وأظنه روى ذلك عن شيخه أبي عبد الله بن عيسى فإني رأيته بخط بعض أصحابه عنه. ابن عبد السلام: ورأيت بخط الشيخ الصالح أبي العباس أحمد بن عجلان- رحمه الله- على هذا الموضع على كلام ابن زرقون ما معناه: أنه عارض هذا النقل بما نقله عياض في "الإكمال" من أنهم أجمعوا على أنه لا يدفعها إلى والديه وولده في حال يلزمه الإنفاق عليهم، ثم جمع الشيخ أبو العباس المذكور بين نقلي عياض بحمل رواية عنبسة على أن ذلك في حال لا تلزمه نفقتهم، ويرى أن فقر الأب ومن في معناه له حالان: الحال الأول: أنه يضيق حاله ويحتاج، لكن لا يشتد عليه ذلك، فهذا يجوز إعطاؤه من الزكاة ولا تلزمه نفقته، بل تبقى ساقطة عن ابنه كما كانت قبل ضيق حاله. والحالة الثانية: أن يشتد ضيق حاله ويصل في فقره إلى الغاية، وهذا يجب على ابنه أن ينفق عليه، ولا يجوز لابنه أن يدفع زكاته إليه. والله أعلم. انتهى كلام ابن عبد السلام.

فرع: قال اللخمي: إن ادعى أنه فقير صدق ما لم يكن ظاهره يشبه بخلاف لك، وكذلك إن ادعى أن له عيالاً للأخذ لهم، فإن كان من أهل الموضع كشف عن حاله، وإن كان معروفاً بالمال كلف ببيان ذهاب ماله، وإن كانت له صناعة فيها كفاية فادعى كسادها صدق. قال اللخمي: وأستحسن أن يكشف عنه، وإن لم يعلم هل فيها كفاية أم لا صدق، وإن ادعى أنه من الغارمين كان عليه أن يبين إثبات الدين والعجز عنه؛ لأنه براءة الذمة من الدين. وإن ادعى أنه ابن السبيل أعطي إذا كان على هيئة صفة السفر، قاله مالك في المجموعة. وقال: أين يوجد من يعرفه؟ وقال في الذي يقيم السنة والسنتين ثم أنه يدعي أنه لم يقم إلا أنه لم يجد ماي ذهب به أيعطى على أنه ابن السبيل؟ فقال: المجتاز أبين، وإن صدق هذا أعطي. انتهى. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ لا تَلْزَمُهُ وَلَكِنَّهُ فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ يعني: أنه يلحق الملتزم بالنفقة والكسوة بمن لزمته في الأصل، وسواء كان التزامه لها صريحاً أو بمقتضى الحال، كان من قرابته أم لا، قاله ابن عبد السلام. وييقع في بعض النسخ (ولكنه كف بها نفقة وكسوة) والمعنى واحد؛ لأن الضمير في (لَكِنَّهُ) في النسختين عائد على أحدهما لا بعينه؛ أي: الفقير والمسكين في نفقة الملتزم لذلك، وفي بعضها (نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ) ومعناهما واحد؛ لأن كلاً منهما محتمل المعنيين؛ أحدهما: ولكن الملتزم المنفق كف بإعطائه زكاته لمن التزم نفقته وكسوته ما كان التزمه من الإنفاق والإكساء. الثاني: ولكن المعطي للزكاة غير الملتزم كف بها نفقة الملتزم، وإنما لم يجز هنا؛ لأنه أعطاها لغني؛ إذ لو لم يعطها له لكان الملتزم لا يكف نفقته وكسوته.

فَإِنْ انْقَطَعَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَحَدِهِمَا جَازَ الضمير في (إِحْدَاهُمَا) عائد على النفقة والكسوة. والباء في (بِأَحَدِهِمَا) بمعنى (عن). كقوله تعالى: (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) {يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [المعارج: 1] [145/ ب]. والضمير في (بأحدهما) عائد على من تلزم نفقته بالأصالة أو بالالتزام؛ أي: فإن انقطعت النفقة أو الكسوة عن أحد الشخصين، فيجوز له أن يدفع له من الزكاة ما يعذر عليه من النفقة والكسوة، ويمكن أن تكون الباء للسببية، ويكون التقدير: فإن انقطعت النفقة أو الكسوة بسبب إعدام من تلزمه النفقة أو الملتزم جاز أن يعطى. ووقع في بعض النسخ: (عرض بأحدهما فأخذها جاز) وهي واضحة. وفي بعضها: (فإن انقطعت إحداهما بأخذها لم يجز) أي: فإن انقطعت النفقة والكسوة عمن يلزمه ذلك أو التزمه بسبب أخذ الزكاة لم تُجزئ من أعطاها؛ لأنه أعطاها لغني. والله أعلم. فَإِنْ كَانُوا قَرَابَةً لا تَلْزَمُهُ وَلَيْسُوا فِي عِيَالِهِ، فَثَلاثَةٌ: الْجَوَازُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالاسْتِحْبَابُ الكراهة: لمالك في المدونة، قال فيها: وأما من لا تلزمه نفقته من قرابة فلا يعجبني أن يلي هذا إعطائهم، ولا بأس أن يعطيهم من يلي تفرقتها بغير أمره، كما يعطي غيهم إن كانوا لها أهلاً. قال اللخمي: فكرهه فيها خوف أن يحمد عليها. والإباحة: رواها مطرف عنه في كتاب ابن حبيب أنه قال: لا بأس بذلك. قال: وحضرت لمالك يعطي زكاته قرابته. والاستحباب: رواه الواقدي عن مالك: قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول وهو ظاهر؛ لما روى المازري أنها صدقة وصلة. الباجي: ولم يختلف قول مالك في الجواز إذا ولَّى غيره إخراج زكاته.

وَفِيهَا مَنْعُ إِعْطَاءِ زوجةٍ. زَوْجَهَا، فَقِيلَ: بِظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ. وَفَرَّقَ أَشْهَبُ بَيْنَ صَرْفِهِ عَلَيهَا فِيمَا يَلْزَمُهُ وَغَيْرِهِ، وَفَرَّقَ ابْنُ حَبِيبٍ بَيْنَ صَرْفِهِ عَلَيْهَا مُطْلَقاً وَغَيْرِهِ .. ما نسب للمدونة من المنع كذلك قال اللخمي، فإنه قال: منع ذلك في المدونة. ونقل ابن القصار عن بعض شيوخه أن ذلك على وجه الكراهة، فإن فعلت أجزأها. قال في الجواهر: وقال أشهب: أكره ذلك، فإن فعلت ولم يرد ذلك عليها فيما يلزمه من مؤنتها حبيب بين صرفه عليها مطلقاً، أي: فيما يلزمه وفيما لا يلزمه، فلا يجزئ. وبين أن يصرف ما تعطيه في مصلحته فيجزئها. ونص ما قاله اللخمي عن ابن حبيب: إن كان يستعين بما تعطيه في النفقة عليها فلا يجزئها، وإن كان في يده ما ينفق عليها وهو فقير ويصرف ما تعطيه في مصلحه وكسوته أجزأها. قال اللخمي: فإن أعطى أحد الزوجين الآخر ما يقضي منه دينه جاز؛ لأن المنفعة في ذلك لا تعود إلى المعطي. وَفِيهَا: لا يُعْجِبُنِي أَنْ يُحْسَبَ دَيْناً عَلَى فَقِيرٍ فِي زَكَاتِهِ قوله (لا يُعْجِبُنِي) يحتمل المنع ويحتمل الكراهة، وإلى كُلِّ ذهب القائل، وقد صرح ابن القاسم بعدم الإجزاء؛ لأنه لا قيمة له. وقال أشهب: تجزئه؛ لأنه لو دفع إليه الزكاة جاز له أن يأخذها من دينه. انتهى. فانظر قوله: (لو دفع) هل هو مع عدم التواطؤ على ذلك أم لا وهو الظاهر. وأما على التواطؤ فلا ينبغي أن يقال بالإجزاء؛ لأنه لمن لم يعط شيئاً. خليل: ولو فصل مفصل فإن كان لا يمكنه الأخذ أصلاً فلا يجزئه، وإن كان يأخذه بلا مشقة فيجزئه، وإن كان إنما يأخذه بمشقة فيكره له ابتداء لأجل المحمدة، ويجزئه إن وقع لما بعد. والله أعلم.

وَفِي اشْتِرَاطِ عَجْزِ التَّكَسُّبِ قَوْلانِ المشهور: أنه لا يشترط، واشترطه يحيى بن عمر وهو أظهر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى". قال اللخمي: والصحيح على خمسة أوجه، فمن له صنعة تكفيه له ولعياله لم يعطَ، ولا فرق بين أن يكون غنياً بمال أو صنعته، فإن لم تكن فيها كفاية أعطي لتمام الكفاية، فإن كسدت فهو كالزمن، وإن لم تكن له صناعتة ولم يجد بالموضع ما يحترف به أعطى، وإن وجد بالموضع ما يحترف به لو تكلف ذلك فهو محل الخلاف، فيجوز له الأخذ بالقرآن ويمنع بالسنة. انتهى. وَفِي اشْتِرَاطِ انْتِفَاءِ مِلْكِ النِّصَابِ قَوْلانِ المشهور لا يشترط. وروى المغيرة عن مالك الاشتراط؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائهم فأردها على فقرائهم". فجعل المأخوذ منه غنياً مقابلاً للفقير الآخذ. وروي عن مالك أنه لا يجوز إعطاء من له أربعون درهماً. قال في المدونة: وقال عمر بن عبد العزيز: لا بأس أن يعطى منها من له الدار والخادم والفرس. قال مالك: يعطى من له أربعون درهماً. انتهى. خليل: والظاهر أنه يجوز الإعطاء للفقيه الذي عنده كتب قياساً على قول عمر، وقاله أبو الحسن الصغير. قال اللخمي: واختلف في معنى قوله- عليه الصلاة والسلام-: "لا تحل الصدقة لغني"ز فقيل: هو من كانت له كفاية وإن كان دون النصاب. وقيل: من كان له النصاب؛ لحديث: "أمرت أن آخذ الصدقة"، وقيل: المراد الكفاية. فمن كان له أكثر من نصاب ولا كفاية له فيه حلت له وهو ضعيف؛ لأنه تجب عليه الزكاة فلم يدخل في اسم الفقير، ولأنه لا يدري هل يعيش حتى يفرغ [146/ أ] ما بيده أم لا. ولا خلاف بين الأمة فيمن له نصاب وهو ذو عيال ولا يكفيه ما في يده أن الزكاة واجبة عليه، وهو في عدد الأغنياء. انتهى.

وَعَلَيْهِمَا اخْتُلِفَ فِي إِعْطَاءِ النِّصَابِ أي: وعلى القول بعدم اشتراط انتفاء ملك النصاب لا يعطى نصاباً، وعلى المشهور يعطى، وفي هذا البناء نظر؛ لأنه لا يلزم على القول بانتفاء النصاب ألا يعطى الفقير المحتاج نصاباً؛ لأن الفقر قائم به هنا، بخلاف المسألة الأولى، وأشار إليه ابن راشد، وابن هارون. ويدل على صحة هذا: أن التونسي تردد فيمن أعطى نصاباً من الماشية إلا أنه لا يكفيه لجميع السنة لرخص الماشية، هل يجوز له أن يعطى بعد ذلك ما يكفيه لسنته أم لا، إذا كان لا يدخل عليه في بقية سنته شيئ؟ قال: وأما إعطاؤه في مرة واحدة ما يكفيه لجميع السنة إذا لم يدخل عليه فيها شيء، فهو خفيف ولو كان أكثر من النصاب. وَالْعَامِلُونَ: جُبَاتُهَا ومُفَرِّقُوهَا وإِنْ كَانُوا أَغنِيَاءَ، ويَاخُذُ الْفَقِيرُ بِالْجِهَتَيْنِ إذ لو اشترط فيهم الفقر لرجعوا إلى الصنفين المتقدمين. قوله: (ويَاخُذُ الْفَقِيرُ بِالْجِهَتَيْنِ) أي: بجهة فقره وبجهة عمله، كما يرث ابن العم إذا كان زوجاً بالجهتين. ابن عبد السلام: وفي المذهب قول آخر: أنه إنما يأخذ بأكثر الوجهين، فإن كان الذي يستحقه بعمالته أكثر أخذه فقط. انتهى. وما ذكره المصنف من تفسير العاملين بالجباة والمفرقين هو المشهور. وروي عن مالك: أن العاملين هم سقاتها ورعاتها. وهل يجوز أن يستعمل العبد والنصراني؟ فقال محمد: لا يستعملان، إذ لا حق لهم في الزكاة، فإن استعمل استرجع منهما ما أخذاه وأعطيا أجرتهما من الفيء، وأجاز ذلك أحمد بن نصر قياساً على الغني، وعضد بما قاله ابن عبد الحكم: يعطى النصراني الجاسوس منها. وَالْمُؤَلََّفَةُ قلوبهم- الكُفَّارُ- يُعْطَوْنَ تَرْغِيباً للإِسْلامَ. وقِيلَ: مُسْلِمُونَ ليَتَمَكَنَ إِسْلامَهُمْ. وقِيلَ: مُسْلِمُونَ لَهُمْ أَتْبَاعُ كُفَّارُ لِيَسْتَالِفُوهُمْ. والصَّحِيحُ: بَقَاءُ حُكْمِهِمْ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ .... يعني: أنه اختلف في المؤلفة قلوبهم على ثلاثة أقوال: قيل إنهم كفار يألفون بالعطاء ليدخلوا في الإسلام. وقيل: إنهم مسلمون حديثو عهد بالإسلام فيعطون ليتمكن من

قلوبهم؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليه. وقيل: إنهم مسلمون لهم أتباع كفار ليعطوا أتباعهم استئلافاً لقلوبهم لينقادوا إلى الإسلام بالإحسان. ويؤيد الأول: قول صفوان ابن أمية: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي. رواه الترمذي. قوله: (والصَّحِيحُ: بَقَاءُ حُكْمِهِمْ) أي: أن الحكم يدور مع علتهم وجوداً وعدماً. وقيل لا يعطون؛ لأنه حكم تقرر في زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- والأحكام بعد التقرر لا ترجع، وفيه نظر. وَالرِّقَابُ: الرَّقِيقُ يُشْتَرَى ويُعْتَقَ، والْوَلاءُ لِلْمُسْلِمِينَ بِشَرْطِ الإِسْلامِ عَلَى الْمَشْهُورِ ما ذكر هو المشهور، وقال مالك في المجموعة: المراد بالرقاب إعانة المكاتبين في آخر كتابتهم بما يعتقون به، والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ بدليل الرقبة في الظهار وغيره، والمشهور اشتراط الإسلام؛ لأن الزكاة تقوية للمسلمين فلا يقوى بها كافر. وفِي إِجْزَاءِ الْمَعِيبَةِ قَوْلانِ القول بالإجزاء لابن حبيب، قال: يجزئه عتق الأعمى والمقعد. قاله أحمد بن نصر: والقول بعدم الإجزاء لأصبغ، وقاله ابن القاسم إلا في الخفيف. والأول أظهر؛ لأن المعيب أحوج إلى الإعانة. وَفِي الْمُكَاتَبِ، والْمُدَبَّرِ والْمُعْتَقِ بَعْضُهُ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَمُلَ عِتْقُهُ أَجْزَأَ وإِلا فَلا تصور كلامه ظاهر، وفي المدونة: لا يعجبني أن يعان بها مكاتب. وفي الموازية: ولا أن يعطى من الزكاة ما يتم به عتقه. ولم يبلغني أن أبا بكر ولا عمر ولا أحداً ممن يقتدي به فعل ذلك. يريد: ولأن الولاء لسيدهم، فيكون بمنزلة من أعتق عبداً وشرط الولاء لنفسه. ولم أر أصحابنا نصوا على الخلاف إلا في المكاتب. وَالْمَشْهُورُ: لا يُعْطَى الأَسِيرِ لِعَدَمِ الْوَلاءِ تصوره ظاهر. ومقابل المشهور لابن حبيب، وفيه نظر إلى المعنى.

وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهَا وأَعْتَقَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يُجْزِه عَلَى الْمَشْهُورِ، وعَلَى الإِجْزَاءِ الْوَلاءُ لِلْمُسْلِمِينَ ... أي: لو اشترى من الزكاة رقبة وأعتقها عن نفسه، إن نوى الولاء لنفسه فالعتق صحيح، والمشهور لا تجزئ؛ لأنه باشتراطه لم يخرج جميع الرقبة المشتراة بمال الزكاة، وهذا قول ابن القاسم. وقال أشهب: يجزئه وولاؤه للمسلمين؛ لأنه شرط وقع في غير محله. وَالْغَارِمين: مُدَانُو الآدَمِيِّينَ لا فِي فَسَادٍ ولا لأَخْذِ الزكَاةِ احترز بمدان الآدميين من حقوق الله، وسيأتي. قوله: (لا فِي فَسَادٍ) احترازاً من الذي استدان في شرب الخمر وشبهه، فلا يعان في مثل ذلك بالزكاة. وكذلك ما استدين للغصب والإتلاف إذا كان على وجه العمد، وإن كانت على وجه الخطأ دخلت فيما استدين لما يجوز. وقوله: (ولا لأَخْذِ الزكَاةِ) كما لو كان عنده كفايته فيتسع في الإنفاق ويتداين لأجل الزكاة فلا يعطى، ولو تداين على هذا لا لقصد أخذ الزكاة؛ فمقتضى [146/ ب] كلامه أنه يعطى. فَلَوْ نَزَعَ، فَقَوْلانِ أي: فلو تاب من استدان لسفه، فقيل: لا يعطى؛ لأن ذلك الدين أصله من فساد. وقال ابن عبد الحكم: يعطى وهو الأقرب؛ لأن المنع كان لحق الله، وهو مما تؤثر فيه التوبة. وَفِي مُدَانِ الزَّكَاةِ والْكَفَّارَةِ قَوْلانِ ذكر اللخمي أن ابن عبد الحكم حكى هذين القولين، فمن قال بالجواز رأى أن فيه براءة للذمة مع أنها ترجع إلى الفقراء. ابن عبد السلام: والقياس المنع؛ لأنها لا تقوى كدين الآدميين بدليل أنها لا يحاص بها في الفلس. وأيضاً مدين الزكاة إنما يتصور غالباً من تفريط، وذلك يلحقه بما استدين لسفه، وغالب الكفارات أن لها بدلاً بالصوم، فلا

ضرورة في دفع الزكاة إليهم إلا أن يعرض العجز عن الصوم، لكن من أجاز له الأخذ لم يشترط هذا.\ وَفِي دَيْنِ الْمَيِّتِ قَوْلانِ قال ابن حبيب: يقضي دينه منها. وقال ابن المواز: لا يقضي. والأول أصح، والميت أحق بالقضاء، قاله ابن راشد. وقال ابن حبيب: إنما كان امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من عليه دين قبل نزول الآية، فلما نزلت صار قضاء ذلك إلى السلطان. وَفِي اشْتِرَاطِ نفاد مَا بيَدِهِ مِنْ عَيْنٍ وفَضْلٍ قَبْلَ إِعْطَائِهِ قَوْلانِ، وفِيهَا فِيمَنْ بِيَدِهِ أَلْفٌ وَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَلَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ يُسَاوِيَانِ أَلْفَيْنِ، لا يُعْطَى حَتَّى يُوَفِّيَ الأَلْفَ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ فِي ثمنهما فَضْلٌ عَنْ سِوَاهُمَا يُغْنِيهِ لَمْ يُعْطَ .. القول بالاشتراك لمالك في المدونة. مثال العين: أن يكون بيده ألف وعليه ألفان، فالمشهور: لا يعطى حتى يوفى الألف. ومثال الفضل: لو كان له دار وخادم يساويان ثلاثة آلاف وعليه ألفان ويمكنه بيعهما واستبدال دار وخادم بألفين، فالمشهور: لا يعطى حتى يبيعهما ويستبدل ويؤدي الألف الفاضلة. قوله: (وفِيهَا فِيمَنْ بِيَدِهِ أَلْفُ ..) إلخ. هو ما تقدم. وإنما أعاده ليعين المشهور والقائل. وقوله: (وَإِنْ كَانَ فِي ثمنهما فَضْلُ عَنْ سِوَاهُمَا يُغْنِيهِ لَمْ يُعْطَ) ظاهر، كما لو كانت الدار والخادم والمسألة بحالها يساويان أربعة آلاف، فإنه يستبدل داراً وخادماً بألفين ويوفى ألفين في دينه. تنبيه: قوله: (وَفِي اشْتِرَاطِ نفاد مَا بيَدِهِ) لا يوافق المدونة؛ لأنه اشترط في المدونة أن يوفي، والنفاد أعم من الوفاء فانظره، لكن الظاهر أنه إنما أراد ما في المدونة بدليل استشهاده.

وَسَبِيلُ اللَّهِ الْجِهَادُ، فَتُصْرَفُ فِي الْمُجَاهِدِينَ وآلةِ الْحَرْبِ، وإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ عَلَى الأَصَحِّ ... يعني: أن المراد بقوله تعالى (وفِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجهاد لا الحج، كما ذهب إليه أحمد ابن حنبل لأن هذا اللفظ إذا أطلق تبادر الذهن إلى الغزو. وقوله: (عَلَى الأَصَحِّ) قال صاحب الطراز: هو المشهور؛ لأنا لو اشترطنا فقره لدخل في القسم الأول، ولأنه عليه الصلاة والسلام استثنى الغازي من الغني الذي تحرم عليه الصدقة. ابن عبد السلام: إلا أن مالكاً والشافعي كرها ذلك للغني، والعلة على طريق الأولى، ومقابل الأصح لعيسى ابن دينار قال: إذا كان غنياً ببلده ومعه ما ينفق في غزوه فلا يأخذ منها. تنبيه: لا يعطى الغازي إلا في حال تلبسه بالغزو، فإن أعطي له برسم الغزو ولم يغز استرد منه، ونص عليه اللخمي وغيره. وَفِي إِنْشَاءٍ سُورٍ أَوْ أُسْطُولٍ قَوْلانِ السور: هو المحيط بالبلد. والأسطول: المركب. والمشهور: المنع. وقال ابن عبد الحكم: يجعل منها نصيب للسلاح والمساحي والحبال مما يحتاج إليه في حفر الخندق، وفي المنجنيقات للحصون، وتنشأ منها المراكب للغزو، وتكرى منها النواتية وينشأ منها حصن وهو الظاهر؛ لأن السور والأسطور من آلة الحرب. والله أعلم وَابْنُ السَّبِيلِ: الْمُسَافِرُ، وتُشْتَرَطُ حَاجَتُهُ عَلَى الأَصَحِّ، فَإِنْ وَجَدَ مُسْلِفاً وَهُوَ مَلِيءُ يقلده، فَقَوْلانِ .. هذا هو النقل الصحيح لا ما نقله ابن عبد البر من أن المشهور ما روي عن مالك: أن ابن السبيل هو الغازي، وفيه ضعف؛ لعطف أحدهما على الآخر في الآية، على أنه يمكن رد أحدهما إلى الآخر بتأويل، بأن يكون مسافراً وانقطع في الطريق.

قوله: (وتُشْتَرَطُ حَاجَتُهُ عَلَى الأَصَحِّ) الأصح ظاهر. لأن المقصود إنما هو إيصاله إلى بلده، وإن كان غنياً فلا حاجة إلى إعطائه، بخلاف المجاهد فإن المقصود فيه الإرهاب وهو اختيار ابن وهب. وروى أصبغ عن ابن القاسم في الموازية: أنه يعطى منها ابن السبيل وإن كان غنياً في موضعه ومعه ما يكفيه. واخلتف إذا وجد مسلفاً وهو مليء ببلده؛ فلمالك في المجموعة، وكتاب ابن سحنون: لا يعط. وقال ابن القاسم في الموازية: يعطى، وقاله ابن عبد الحكم. قال اللخمي: وهو أحسن. ويشترط في إعطائه ألا يكون في سفر معصية. نص عليه اللخمي. وَفِي إِعْطَاءِ آل الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الصَّدَقَةَ، ثَالِثُهَا، يُعْطَوْنَ مِنَ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبِ، وَرَابعُهَا: عَكْسُهُ ... الإعطاء مطلقاً للأبهري؛ لأنهم منعوا في زماننا حقهم من بيت المال، فلو لم يجز أخذهم للصدقة ضاع فقيرهم، والمنع مطلقاً [147/ أ] لأصبغ، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع. ابن عبد السلام: وهو المشهور، وإلحاقهم به صلى الله عليه وسلم، والجواز في التطوع دون الواجب لابن القاسم، ورأى أن معنى ما رواه البخاري من قول رسول الله صلىى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لآل محمد" مقصور على الفريضة. ورأى في الرابع أن الواجب لا منة فيه بخلاف التطوع. وَبَنُو هَاشِمٍ آلٌ، ومَا فَوْقَ غَالِبٍ غَيْرُ آلٍ، وفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلانِ أي: حيث فرعنا على المنع فلا خلاف أن بني هاشم فما دونهم آلُ، وأما ما فوق غالب ليسوا بآل، وفي بني غالب فما دونهم إلى بني هاشم قولان، والقول بالاقتصار على بني هاشم لابن القاسم في الموازية، والآخر لأصبغ. قال التونسي: وعلى مذهب أصبغ لا

يجوز أن يأخذ الزكاة آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان إذ كانوا مجتمعين مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم في غالب. وعلى مذهب ابن القاسم: يجوز أن يأخذوها إذ لا يجتمعون معه عليه الصلاة والسلام في بني هاشم. انتهى. وهو صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، [147/ ب] وروي هذا عنه صلى الله عليه وسلم واتفقوا على صحته، واختلف فيما سوى ذلك. وَفِي مَوَالِيهِمْ قَوْلانِ أي: هل يلحقوا بالأهل أم لا؟ والمشهور: جواز إعطائهم. والشاذ لمطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وأصبغ. قال أصبغ: احتججت على ابن القاسم بقوله صلى الله عليه وسلم "مولى القوم منهم" فقال: قد جاء: "ابن أخت القوم منهم". وإنما تفسير ذلك في الحرمة والبر. وأخذ اللخمي بقول أصبغ؛ لحديث أبي رافع قال: بعث رسول الله عليه وسلم رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فقال: "إن الصدقة لا تحل لنا ولا لموالينا". وهو صحيح ذكره الترمذي في مسنده وفيه فائدة أخرى: أن الصدقة حلالُ لبني مرة فمن بعده إلى غالب خلاف قول أصبغ؛ لأن مخزوماً مجتمعاً معه صلى الله عليه وسلم في مرة. انتهى باختصار. وَلا تُصْرَفُ فِي كَفَنِ مَيِّتٍ، ولا بِنَاءٍ مَسْجِدٍ، ولا لِعَبْدٍ، ولا لِكَافِرٍ وهذا ظاهر، واختلف هل تدفع لأهل الهوى؟ فأجاز ذلك ابن القاسم، ومنعه أصبغ. وكذلك تارك الصلاة، ولعله على الخلاف في تكفيرهم.

الإِخْرَاجُ: والإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي مَحْضِ العِبَادَات. وَعَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ فِيمَا تَمَحَّضَ لِغَيْرِهَا كَالدُّيُونِ، والْوَدَائِعِ، والمغصُوبِ، واخْتُلِفَ فِيمَا فِيهِ شَائِبَتَانِ كَالطَّهَارَةِ، والزَّكَاةِ، والْمَذْهَبُ: افْتِقَارُهَا مِنْ قَوْلِهِ: فِيمَنْ كَفَّرَ عَنْ إِحْدَى كَفََّارَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ كَفَْرَ عَنْهَا غَلَطاً أَنََّهَا لا تُجْزِئُهُ، وأُخِذَ نَفْيُهُ مِنْ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنَ الْمُمْتَنِعِ كرهاً وتُجْزِئُهُ، ومِنَ الشَّاذِّ فِي أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ. وأَجَابَ ابْنُ الْقَصَّارِ بَأَنَّه يَعْلَمُ فَتَحْصُلُ النِّيَّةُ، وأُلْزِمَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ... لما ذكر الْمُخْرَجُ منه والمُخْرِجُ والمصرف ذكر كيفية الإخراج، وقدم النية لأنها أول الواجبات عند الإخراج. وحاصله: أن الفعل ثلاثة أقسام: قسم تمحض للعبادة: كالصلاة والإجماع على وجوب النية فيه. الثاني: مقابله كإعطاء الديون، ورد الودائع، والمغصوب فالإجماع أنه لا تجب فيه النية، أي: نية التقرب. وقلنا لا تجب فيه نية التقرب حتى لا ينتقض بما قاله ابن عبد السلام عن الشافعي: أن الحكم عندهم في رد الدين لابد فيه من نية، وأنه لو أعطى بغير نية لما برئت ذمته ولكان له أن يرجع. وقلت: لا تجب؛ لأنه لو نوى لأثيب، كما لو نوى إبراء ذمته وامتثال أمر الله وإدخال السرور على قلب صاحب الدين إلى غير ذلك، وهذا كما قالوا: إن الإمام لا تجب عليه نية الإمامة، لكن الأفضل أن ينويها ليحصل له فضلها. الثالث: ما اشتمل على الوجهين كالطهارة والزكاة؛ لأن الزكاة معناها معقول: وهي رفق الفقراء وبقية الأصناف، ولكن كونها إنما تجب في قدر مخصوص لا يعقل معناه. وكذلك الطهارة عقل معناها: وهي النظافة، لكن كونها في أعضاء مخصوصة على وجه مخصوص لا يعقل معناه. فاختلف في وجوب النية فيه، وقد بين ذلك بقوله (والْمَذْهَبُ ..) إلخ. وفي كلامه مناقشة؛ لأن قوله: (والمذهب) يقتضي أن ذلك منصوص وليس في المذهب ما يخالفه. وقوله: (مِنْ قَوْلِهِ: فِيمَنْ) يقتضي أن ذلك مستقراً مما ذكره، وهذا

الاستقراء لابن القصار، قال: فإذا افتقر إلى النية في تمييز أحد الفرضين عن الآخر، فأحرى في تمييز الفرض عن النفل، وأجيب بالفرق بين المحلين؛ لأن مسألة الكفارة وجدت فيها نية منافية، وهي: القصد إلى كفارة غير الكفارة المرتبة في الذمة، ولم يقع النزاع في هذا، وإنما وقع حيث لا نية، وإنما تتفق النيتان لو كفر واحدة ثم كفَّر ولم ينو شيئاً. وأجيب بأن جواب مالك بقوله: لا تجزئة عن اليمين الثانية. يؤخذ منه الاشتراط، إذ لو لم يشترط لم يفرق بين عدم النية والنية المنافية كالدين والوديعة. وأما استقراء نفي وجوب النية من مسألة الممتنع فواضح، وكذلك استقراؤه من القول بأن الفقراء كالشركاء؛ لأن الشريك إذا أعطى شريكه نصيبه لا يفتقر إلى نية. فأجاب ابن القصار عما أخذه من قول مالك بإجزاء الزكاة إذا أخذت من الممتنع، بأن قال: هو عالم بأخذها وعلمه بذلك كالنية. ورد بأن العلم بالأخذ أعم من نية التقرب، فلا يستلزمها، وبأنه يلزمه بأن يقول بعدم الإجزاء إذا لم يعلم بالأخذ بعقد النية وما يستلزمها عنده وليس كذلك. واختار ابن العربي في الزكاة المأخوذة كرهاً أنها تجزئ ولا يحصل الثواب. خليل: وأوضح من هذا في أخذ عدم اشتراط النية ما نص عليه مالك في المدونة في باب كفارة اليمين، أن من كفر عن أحد بعتق أو غيره بأمره أو بغير أمره أجزأه، كعتق عن ميت. والله أعلم. وَتُؤْخَذُ مِنَ الْمُمْتَنِعِ كُرْهاً وإِلا قَوتلَ أي: من امتنع من أداء [148/ أ] الزكاة تؤخذ منه كرهاً إن قدر عليه، وإن لم يقدر عليه إلا بقتال قوتل.

وَمَنْ قَدِمَ بِتِجَارَةٍ، فَقَالَ: قِرَاضٌ، أَوْ وديعة، أو بِضَاعَةً، أَوْ عَلَى دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ صُدِّقَ ولَمْ يَحْلِفْ، فَإِنْ أُشْكِلَ أَمْرُهُ، فَثَالِثُهَا: يَحْلِفُ الْمُتَّهَمُ كَأَيْمَانِ الْمُتَّهَمِ ... تصوره ظاهر. وَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ طَوْعاً لا يُجْزِئُ، وكُرْهَاً يُجْزِئُ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا تصوره ظاهر. قال في المدونة وغيرها: إنه من باب شراء الصدقة، والمشهور فيها أنه مكروه لا محرم. قال في المدونة: ولا يعطي فيما لزمه من زكاة العين عرضاً أو طعاماً، ويكره للرجل شراء صدقته، وبالجملة فإنه اضطرب في ذلك قول ابن القاسم، فقال مرة: تجزئ سواء كان طوعاً أو كرهاً، ذكره في العتبية، وشرط في الموازية الإكراه وأنه لو أعطاها طوعاً لم تجزئه. وذكر القول بالإجزاء مع التطوع في الموازية عن أشهب. وقال مرة: إذا كانوا يضعونها موضعها. وفرق مرة بين أن يخرج عن الحب عيناً فيجزئه، وبين أن يخرج عن العين حباً فلا يجزئه. وَإِذَا كَانَ الإِمَامُ جَائِراً فِيهَا لَمْ تجز دَفْعُهَا إِلَيْهِ طَوْعاً أي: إذا كان جائراً في تفريقها أو صرفها في غير مصارفها لم يجز دفعها إليه (طَوْعاً) لأنه من باب التعاون على الإثم، والواجب عليه حينئذ جحودها والهروب بها إن أمكن، وأما إذا كان جوره في أخذها لا تفرقتها- بمعنى: أنه يأخذ أكثر من الواجب- فينبغي أن يجزئه ذلك على كراهة دفعها إليه. وَإِنْ أُجْبرَ أَجْزَأَتْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَمَا إِذَا أَجْبَرَهُ الْخَوَارِجُ عَلَيْهَا فإن كان الإمام جائراً وأجبره على أخذها، قال في الجوااهر: فإن عدل في صرفها أجزأت عنه، وإن لم يعدل ففي إجزائها عنه قولان: قيل: ومنشأ الخلاف هل أخذ الإمام

تعد على الفقراء لأنه وكيلهم فتجزئ، أو على رب المال فلا تجزئ. وعين المصنف المشهور من القولين بالإجزاء وهو بين إذا أخذها أولاً ليصرفها في مصارفها، وأما لو علم أولاً أنه إنما أخذها لنفسه فلا، وأما الخوارج فإن كانوا يعدلون في أخذها وصرفها فالأمر أخف. فَإِنْ كَانَ عَدْلاً دَفَعَهَا إِلَيْهِ. وَفِي تَوليه لإِخْرَاجِ الْعَيْنِ قَوْلانِ، وفِيهَا: لا يَسَعُهُ إِلا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ ... أي: فإن كان عدلاً في أخذها وصرفها، فإنه يجب دفعها إليه وهو ظاهر. أما الماشية: فقد تقدم أن الساعي شرطاً في الوجوب، وأما غيرها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده كانوا يأخذونها من الناس فوجب التأسي بهم، وسواء العين وغيرها، وإن كان في العين قولان: هل يتولى إخراجها، أو إنما ذاك إذا لم يطلبها، وأما إن طلبها فلا يحل لأحد منعها، نص عليه في المدونة وغيرها، قاله ابن عبد السلام. وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ آخِذُهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بَعْدَ الاجْتِهَادِ وتَعَذَّرَ استرجاعها، فَقَوْلانِ كَالْكَفَّارَاتِ منشأ الخلاف هل الواجب الاجتهاد أو الإصابة. ابن عبد السلام: والمشهور عدم الإجزاء. وفرق بعضهم فقال بالإجزاء في الغني وبعدمه في العبد والكافر؛ لأنه ينسب إلى تفريط فيهما؛ لأن حالهما لا يخفى غالباً، وهذا إذا كان دافعها لهؤلاء ربها. ابن راشد: وأما إن كان المتولي لدفعها الإمام، فإنها تجزئ ولا غرم عليه ولا على ربها؛ لأنه محل اجتهاد، واجتهاده نافذ. قال صاحب المعونة: وإن كان الإمام عالماً فلم أجد فيها نصاً، والقياس أن الإمام للفقراء وتجزئ ربها، ثم إن وجدت الصدقة بأيديهم انتزعت، وإن كانوا أكلوها، فقال اللخمي: يغرمونها على المستحسن من القول؛ لأنههم صانوا بها أموالهم، وإن تلفت بأمر من الله وكانوا غروه من أنفسهم غرموها، فإن لم يغروا لم يغرموها، وإن لم توجد بيد العبد وكان قد غره بالحرية، فتردد في ذلك بعض الأصحاب هل تكون جناية

في رقبته أم لا؟ قال ابن يونس: الصواب أنها جناية في رقبته؛ لأنه لم يتطوع بدفعها له، وإنما دفعها لقوله: أنا حر. قال: ولا ينبغي أن يختلف في ذلك. وَالأَوْلَى الاسْتِنَابَةُ وقَدْ تَجِبُ الأولى للإنسان ألا يتولى تفرقة زكاته خوفاً من المحمدة، وقد تجب الاستنابة إذا علم من نفسه محبة المحمدة ويدخله الرياء، أو لكونه لا يعلم المصارف، أو لجهله المستحق. وَتُؤَدَّى بمَوْضِعِ الْوُجُوبِ نَاجِزاً أما إخراجها بموضع وجوبها، فنص في الجواهر أن نقلها غير جائز. وأما كونها ناجزاً، فنص ابن بشير، وابن راشد وغيرهما على أنه إذا وجد سبب الوجوب وشرطه وانتفاء المانع وجب الإخراج على الفور. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَوْ فَضَلَ نُقِلَ إِلَى الأَقْرَبِ وَلا يُدْفَعُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فإن لم يجد في بلده من يعطيه الزكاة أو وجده لكن فضل عنهم، فإنها أو ما بقي ينقل إلى أقرب المواضع، قاله مالك في المدونة، وهذا هو الأصل. ابن عبد السلام: وربما قالوا بمقدار ما يحل حولها عند وصولها، أو إنما يرسلها عند الوجوب؟ في المذهب قولان: الأول لابن المواز، والثاني للباجي. ثم إذا أرسلها ففي أجرة النقل قولان، واختلف أيضاً في الإمام إذا احتاج إلى نقلها، فقال مالك: يستأجر عليها من الفيء. وقال ابن عبد الحكم: تباع ويبتاع مثلها في موضع الحاجة. فَإِنْ أُدِّيَتْ بِغَيْرِهِ لِمِثْلِهِمْ فِي الْحَاجَةِ، فَقَوْلانِ أي: فإن نقلت من موضع الوجوب إلى موضع آخر مساو له في الحاجة.

ابن عبد السلام: المشهور [148/ ب] الإجزاء. انتهى. ونسبه الباجي لابن اللباد. وقال سحنون: لا تجزئه. وجه الأول عموم الآية، ولم يخص فيها فقيراً دون فقير. ووجه الثاني حديث معاذ، وفيه: "فترد على فقرائهم". فَإِنْ كَانُوا أَشَدَّ، فَقَالَ مَالِكٌ: تُنْقَلُ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لا تُجْزِئُ أي: وإن كان ثم بلد أشد حاجة من البلد الذي وجبت فيه الزكاة، فقال مالك في المدونة: فليعط الإمام أهل البلد الذي جيء فيهم ذلك المال ويوجه جله إلى الموضع المحتاج. فظاهره أنه لا بد من صرف شيء منه في بلد الزرع، وعلى هذا فيقرأ كلام المصنف (ينقل) بالياء المثناة من أسفل، وأما إذا قرئ بالتاء المثناة من فوق، فيقتضي أنها تنقل كلها فيصير مخالفاً للمدونة، وقول سحنون يستلزم تحريم النقل. قال ابن بشير: وأما إذا كان بأهل موضعها حاجة من غيرهم ليسو بمنزلتهم لم تجز. تنبيه: كلام المصنف يدل على منع النقل إذا كانت حاجة غيرهم مساوية أو أضعف الباجي: هو المشهور. وفي المجموعة: لا بأس أن يبعث الرجل ببعض زكاته إلى العراق، ثم إن هلكت في الطريق لم يضمن، وعلى رواية المنع يضمنها. فرع: فإذا قلنا: إنه لا يجوز نقلها من بلد إلى بلد إلا من عذر، فإنه لا بأس أن ينقل زكاته إلى ما يقرب ويكون في حكم موضع وجوبها؛ لأنه لا يلزمه أن يخص بذلك أهل بلد محلته ولا جيرانه، بل يجوز له أن يؤثر أهل الحاجة من أهل بلده، فكذلك ما قرب منها. وروى ابن نافع عن مالك: أن ذلك لمن يكون زرعه على أميال، فلا بأس أن يحمل من زكاته إلى ضعفاء عنده بالحاضرة. وقال سحنون: إذا كان مقدارُ لا تقصر فيه الصلاة، وأما ما تقصر في مثله الصلاة فلا تنقل إليهم الزكاة. انتهى.

وَلَوْ غَابَ عَنْ مَالِهِ وَلا مُخْرِجَ وَلا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ فَفِي وُجُوبهَا بِمَوْضِعِهِ قَوْلانِ يعني: إذا كان المسافر معه مال ناض زكاه، فإن كان له مال غائب عنه ببلده وليس لرب المال وكيل على إخراج الزكاة، ولا ضرورة على رب المال بإخراجها بالموضع الذي هو فيه، فهل يخرجها أم لا؟ قولان وهما لمالك، بناء على مراعاة المالك أو المال. قال صاحب تهذيب الطالب: فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: فإن كان ماله كله ناضاً حاضراً معه فلا شك فيه، ولا اختلاف أنه يزكى بموضعه، وهو وجه. والثاني: أن يكون بعض ماله ببلده وبعضه حاضر معه فيزكيه، وأما الغائب عنه ففيه الاختلاف. والوجه الثالث: أن يكون جميع ماله غائباً عنه ببلده، فهذا يكون فيه الاختلاف من قوله: هل يزكيه بموضع هو به أو يؤخره حتى يرجع إلى بلده. وإنما ذلك إذا كان رجوعه قريباً قبل الحول كما قال أشهب. انتهى. واحترز بقوله: (وَلا مُخْرِجَ) مما لو وكل من يخرجها عنه، فلا يؤمر حينئذ بالإخراج اتفاقاً؛ لئلا يخرج مرتين. قال اللخمي: ويلزمه إذا أراد سفراً بعيداً يعلم أنه لا يعود منه حتى يحل الحول أن يوكل من يخرج عنه. واحترز بقوله: (وَلا ضَرُورَةَ) من أن يكون على رب المال ضرورة في إخراجها، فإنه لا يلزمه إخراجها حينئذ بالاتفاق. وَفِي إِخْرَاجِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَسِيرٍ قَوْلانِ، وَحُدَّ بِشَهْرٍ، وَنِصْفِ شَهْرٍ، وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَثَلاثَةٍ .. ابن هارون: المشهور الجواز. والشاذ رواه ابن نافع عن مالك، وهو قول ابن نافع. قال: لا يجزئ قبل الحول ولو ساعة. خليل: وقوله: المشهور الجواز. إنما نقل صاحب الجواهر والتلمساني وغيرهما الخلاف في الإجزاء وهو أقرب؛ لأنه لا شك أن المطلوب ترك ذلك ابتداء، والجواز قد يوهم خلاف

ذلك، واختلف في حد القرب، فقيل: اليوم واليومان ونحو ذلك، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه العشرة الأيام ونحوها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والثالث: الشهر ونحوه، وهو رواية عيسى عن ابن القاسم. والرابع: الشهران ونحوهما، وهو قول مالك في المبسوط، هكذا ذكر ابن رشد في البيان والمقدمات. ابن راشد: والقول بنصف شهر لم أره معزواً. انتهى. ونقله اللخمي وصاحب التنبيهات ولم يعزواه وكان ينبغي أن يقول بنحو الشهر وبنحو الخمسة الأيام. فرعان: الأول: إن أخرجها قبل الحول فضاعت فإنه يضمن، قاله مالك في الموازية. قال محمد: ما لم يكن قبله باليوم واليومين، وفي الوقت الذي لو أخرجها فيه لأجزأته. قال في التنبيهات: قيل معنى تجزئه ولا يلزمه غيرها بخلاف الأيام، وذهب ابن رشد إلى أنه متى هلكت قبل الحول بيسير أنه يزكي ما بقي إن كانت فيه زكاة. قال ابن رشد: يأتي عندي على جميع الأقوال، وإنما تجزئ إذا أخرجها بالرخصة والتوسعة، وأما إذا هلكت ولم تصل إلى أهلها ولا بلغت إلى محلها، فإن ضمانها ساقط عنه، ويؤدي زكاة ما بقي عند حلوله إلا ما تؤول على ما قاله ابن المواز كاليوم واليومين. انتهى كلامه في التنبيهات. الثاني: ما ذكرناه من الإجزاء في التقديم اليسير. قال ابن العربي: هو خاص بالحيوان والعين، وأما زكاة الزرع فلا يجوز تقديمها؛ لأنه لم يملك بعد، نقله في الجواهر. وَفِيهَا: وَلَوْ زَكَّى دَيْناً أَوْ عَرضاً قَبْلَ قَبْضِهِمَا لَمْ يُجْزِه، وثَالِثُهَا: يُجْزِئ فِي الدَّيْنِ لا فِي الْعَرْضِ .... أي: ولو زكى عرض الاحتكار بعد الحول وقبل البيع، [149/ أ] أو ديناً بعد الحلول أو قبل القبض، فمذهب المدونة عدم الإجزاء فيهما؛ لأنه هنا قد يطول قبض الدين وبيع

صدقة الفطر

العرض. وقال أشهب: يجزئ فيهما قياساً على إخرجها قبل الحول بيسير. وقيل: يجزئ في الدين لا في العرض، لأن رب الدين له تسلط على قبضه، بخلاف البيع فإنه لا قدرة له عليه. صَدَقَةُ الْفِطْرِ الْمَشْهُورُ وُجُوبُهَا مقابل المشهور السنة، والمشهور أظهر؛ لما في الموطأ عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان. وحمل الفرض على التقدير بعيد، لاسيما وقد خرج الترمذي: بعث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في فجاج مكة ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم. وعلى الوجوب، فالمشهور أنها واجبة بالسنة، وقيل بالقرآن، وعلى وجوبها بالقرآن، فقيل بآية تخصها وهي: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]. وقيل بالعمومات. وَفِي وَقْتِهِ أَرْبَعَةٌ: الْمَشْهُورُ لَيْلَةُ الْفِطْرِ، وَطُلُوعُ فَجْرِ يَومه، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَا بَيْنَ الْغُرُوبَيْنِ. وَفَائِدَتُهُ: فَيمَنْ وُلِدَ أَوْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ بِيعَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ أي: في وقت الوجوب أربعة أقوال. المشهور: غروب الشمس من آخر ليل رمضان وهو مراده بقوله: (لَيْلَةُ الْفِطْرِ) وفي عبارته تسامح. وروي عن مالك: طلوع الفجر من يوم الفطر، وشهره الأبهري. وقال ابن العربي: هو الصحيح. وقيل: طلوع الشمس منه، حكاه القاضي أبو محمد عن جماعة من الأصحاب. قال: ابن الجهم: وهو الصحيح من المذهب. وأنكر بعضهم هذا القول، وقال: لا خلاف فيمن مات بعد الفجر أن الزكاة عليه. وصوب صاحب التنبيهات مقالة هذا المنكر. وروي من غروب الشمس ليلة الفطر إلى غروب الشمس من يوم العيد. وفي المذهب قول خامس: من غروب الشمس ليلة العيد إلى الزوال. وأقرب هذه الأقوال ما شهر المصنف؛ لقول الراوي: صدقة الفطر من رمضان. والفطر من رمضان أوله غروب الشمس. وقوله: (وَفِي وَقْتِهِ) فيه قصور، وأحسن من ذلك لو قال: (وفي زمان الخطاب) كما قال غيره ليعم الوجوب والسنة.

قوله: (وَفَائِدَتُهُ) أي: وفائدة الخلاف تظهر فيما ذكره وفيما يشابهه من الهبة، والصدقة، والميراث، والطلاق. وَالْمُسْتَحَبُّ: إِخْرَاجُهَا بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ الْغُدُوِّ إِلَى الْمُصَلَّى اتِّفَاقاً، وَوَاسِعُ بَعْدَهُ أي: أن الزمان الذي يستحب إخراجها فيه غير زمان الوجوب؛ لأنه اتفق على استحباب إخراجها بعد الفجر قبل الغدو إلى المصلى؛ لما خرجه مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى المصلى. وما حكاه من الاتفاق فيه نظر. فقد قال سند: إن ذلك عند من يرى الوجوب في الفجر، وأما على رأي من يرى أنه بطلوع الشمس، فإنه لا يستحب تقديمها على ذلك، وإنما يكون إخراجها قبله رخصة لا أنه أفضل، نقله ابن رشد. وَفِي تَقْدِيمِهَا بِيَوْمِين أو ثَلاثَةٍ قَوْلانِ وفي المدونة: وإن أداها قبل ذلك بيوم أو يومين فلا بأس. وقال في الجلاب: وقد يجوز إخراجها قبل يوم الفطر باليومين أو الثلاثة استحساناً. وقال ابن المواز: إذا أخرجها قبل يوم الفطر بيومين يجزئه. ويوم الفطر أحب إلينا، ولو أخرجها قبل يوم الفطر بيومين فهلكت لم يجزئه، وكذلك زكاة الأموال. قال التونسي: وفي هذا نظر؛ لأن الوقت لو كان مضيقاً كأوقات الصلاة لوجب ألا يجزئ منها شيء ولو قبل الحول بنصف يوم، كما لو صلى قبل الزوال فيجب متى أخرجها فضاعت في وقت لو أخرجها فيه لأجزأت أنها تجزئ في هذا. انتهى بتلخيص. ونسب اللخمي، والتلمساني عدم الإجزاء لابن مسلمة، وابن الماجشون. قال ابن يونس: وقال سحنون: إن أخرجها قبل الفطر بيوم لم يجزئه، وإنما كان ابن عمر يخرجها قبل الفطر بيومين إلى من يلي إخراجها، وأشار ابن يونس إلى أنه يمكن إن حمل كلام ابن

القاسم على ذلك. قال: ومن حمل كلام ابن القاسم على ظاهره يلزمه أن تجزئه ولو أخرجها أول الشهر، وذلك لا يجوز. انتهى. وفيه نظر. وليس ما قرب كغيره. وحمل اللخمي وغيره ما في المدونة على ظاهره، وقال: إن علم أنها قائمة بيد من أخذها إلى الوقت الذي تجب فيه أجزأته اتفاقاً. قال: لأن لدافعها إذا كانت لا تجزئ أن ينتزعها، فإن تركها كان كمن ابتدأ دفعها. وقال الباجي، وابن عبد السلام: المشهور عدم الإجزاء إلا أن يفرقها، وفيه نظر. وَالْمَشْهُورُ: وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ مَعَهَا. وَقِيلَ: مَنْ لا تجحِفْ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا. وَقِيلَ: أَخْذُ الزَّكَاةِ .... يعني: أنه اختلف فيمن تجب عليه على أقوال: المشهور: أنها تجب على كل من فضل عن قوته إن كان وحده، أو قوته وقوت عياله إن كان له عيال صاع، وهو في الجلاب وغيره، وقاله ابن حبيب. اللخمي: وهو موافق لما في المدونة. والثاني: لعبد الوهاب، قال: يخرج زكاة الفطر من لا تلحقه في إخراجها مضرة من فساد معاشه، أو جوعه، أو جوع عياله، فعلى هذا فلو فضل له من قوته صاع وأكثر وكان إذا أخرجها [149/ ب] يلحقه الإجحاف في معاشه لا يجب عليه إخراجها. والقول الثالث نقله اللخمي عن ابن الماجشون، ولفظه: وقال ابن الماجشون في المبسوط: الحد الذي تجب وتسقط به من حال اليسر والفقر، أن من كانت تحل له سقطت عنه. وقاله مالك في كتاب محمد: قيل له إن كانت له عشرة دراهم فأخرج زكاة الفطر أيأخذ منها، قال: أيخرج ويأخذ؟ لا، إذا كان هكذا فلا يأخذ، قيل: إذا كانت له عشرة دراهم فلا يأخذ منها، قال: ليس هذا حد معلوم. انتهى.

وقوله: (وَقِيلَ: أَخْذُ الزَّكَاةِ) فيه نظر؛ لأن هذا القول إنما ذكره ابن بشير وغيره تفريعاً على قول ابن الماجشون، وهو أنه إذا قلنا إنما تجب على من لا يحل له أخذها على قولين، وعلى هذا فالأولى: أن يسقط هذا القول هنا ويكتفي بما سيذكره في قوله: ومصرفها مصرف الزكاة. وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها. وقد ذكر صاحب البيان أن المذهب لم يختلف في أنه ليس من شرطها أن يملك المخرج نصاباً فتأمله. ويبين لك ما ذكرناه أن كلامه هنا ليس بجيد؛ لأنه لا يخلو إما أن يبنى على القول بأن مصرفها مصرف الزكاة، أو على القول بأن مصرفها الفقير الذي لم يأخذ منها، وأياً ما كان فيلزم عليه إشكال، أما الأول فيتداخل القول الثالث والرابع؛ لأن من لا يحل له أخذ زكاة المال لا يحل له أخذها وبالعكس، إذ مصرفها مصرف الزكاة. وأما على القول الثاني فيلزم أحد أمرين؛ إما أن يتداخل الثالث مع المشهور، وإما حصول غرابة في النقل، وذلك أنا إذا بنينا على القول بأن مصرفها الفقير الذي لم يأخذ منها، فإذا أخذ فقير صاعاً من زكاة الفطر ولم يكن عنده غيره، فهذا لا يحل له أخذ صاع ثان، وحينئذ إما أن تقول يجب عليه إخراجه أم لا، فإن قلت بعدم الإخراج لزم التداخل مع القول الأول، إذ يشترط أن يفضل له صاع عن قوته. وإذا قلنا بوجوب الإخراج ففيه إشكال من جهة المعنى، ويعز وجوده ولا يخفى وجه إشكاله. والله أعلم. فروع. الأول: إذا قدر على بعض الزكاة. قال صاحب الطراز: ظاهر المذهب أنه يجزئه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". الثاني: هل تسقط عنه الزكاة بالدين أم لا كالماشية، والقول الأول قول عبد الوهاب، والثاني لأشهب.

الثالث: إذا وجد من يسلفه وهو محتاج، قال في المدونة: يتسلف ويخرج. وقال محمد: لا يلزمه ذلك.\ والرابع: فإذا لم يكن له إلا عبد، فقال مالك: يخرج الزكاة، ورآه موسراً. ونقل أيضاً عنه أنه لا شيء عليه، فلم يره موسراً به. وَتَجِبُ عَلَيْهِ عَمنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً بِالْقَرَابَةِ وَالرق كالآبَاءِ والأبناء والْعَبِيدِ .... لما في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل مسلم. ومفهومه سقوطها عن غير المسلم. وفي الدارقطني عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير والكبير عمن تمونون. وقوله: (كالآبَاءِ والأبناء) راجع إلى القرابة. (والْعَبِيدِ) راجع إلى الرق. وَالْمَشْهُورُ: وَبِغَيْرِهِمَا، كَالزَّوْجَةِ وَخَادِمِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَلِية، وَزَوْجَةِ الأَبِ الْفَقِيرِ وَخَادِمِهِ .... مقابل المشهور في الزوجة لابن أشرس قال: لا يلزمه أن يخرج عنها. ابن عبد السلام: ومن أوجب ذلك ألحقها بالقرابة، كما قال المؤلف أنها قسم ثالث ومن أسقط ألحقها بالإجزاء، وتمسك الشاذ بأنها لو ألحقت بالقرابة لوجب مساواة حكمها فتسقط عن الزوج بملائها، ولعل هذا هو المعنى الذي أوجب جعل الزوجة قسماً ثالثاً، ووجب أداؤها عن زوجة الأب الفقير وخادمه وخادم الزوجة بحكم التبعية. وَإِنِ اشْتُرِيَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَرَجَعَ إِلَى أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ المرجوع إليه مبني على أنها تجب بالغروب لا بالفجر، ولعله في المرجوع عنه رأى الوجوب متسعاً فلذلك أوجبها على المشتري؛ لانتقال الملك إليه في وقت الوجوب.

وحكي عن أشهب قول ثالث بوجوبها على كل واحد منهما. وحكي أيضاً عنه رابع أنها تجب على البائع وتستحب على المشتري حكاهما في التنبيهات. وَالْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ، وَالأَمَةُ الْمُتَوَاضِعَةُ عَلَى الْبَائِعِ وذلك لأن عليه نفقتهما وضمانهما عليه وله غلتهما. قال سند: ومن قال إن الملك ينتقل بالعقد إلى المشتري جعل الزكاة على المشتري، فأشار إلى أن هذه المسالة تأتي على القاعدة المذكورة في بيع الخيار هل هو منحل حتى ينبرم، أو هو منعقد، وهذا إن قاله نصاً فواضح، وإن كان تخريجاً فيه نظر. ومراد المصنف: إن كان البيع فيهما قبل ليلة العيد. وَالْعَبْدِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ عَلَى الْمُشْتَرِي ما ذكره هو قول ابن القاسم؛ لأن ضمانه من المشتري. وقال أشهب: إنما تجب عليه إذا مضى يوم الفطر وقد فات، وإلا فهي على البائع. وروي عن أشهب في الموازية: أنه على كل واحد من البائع والمشتري زكاة. وقال ابن الماجشون: إن فاتت ولم يفسخ فهي من المشتري ولو لم يفت إلا بعد يوم الفطر. وَالْمُخْدَمُ يُرْجَعُ [150/ أ] إِلَى حُرِّيَّةِ عَلَى مَخْدُومِهِ. وَإِلَى رِقٍّ، ثَالِثُهَا: إِنْ طَالَتْ فَعَلَى الْمُخْدَمِ ... يعني: أن من أخدم عبده رجلاً ثم هو حر، فإن الزكاة على الرجل المخدم؛ لأن النفقة عليه ولم يبق لسيده منفعة، وإن كان يرجع إلى رق كما لو أخدمته رجلاً خمس سنين ثم هو بعد ذلك غير حر، فقال في المدونة: هي على مالك الرقبة إن قبل الوصية كما لو أخدم عبده رجلاً فصدقة الفطر عنه على سيده الذي أخدمه. انتهى. وفي الموازية: على مالك الخدمة في الوجهين إن كانت رقبته ترجع إلى السيد أو غيره. وفرق ابن الماجشون، فقال: إن قلت الخدمة فهي على مالك الرقبة، وإن طالت فهي على مالك المنفعة. ومنشأة الخلاف

النظر إلى الملك أو النفقة على أنه قد اختلف قول مالك في نفقة هذا العبد المخدم، هل على سيده أو على الذي له الخدمة. قال في التنبيهات: وروي أن نفقة المخدم من مال نفسه لا على السيد ولا على المخدم، وحكاها ابن الفخار، وهذا القول هو الذي ذكره أصحاب الوثائق أنها من كسبه وخدمته وما بقي للمخدم، إلا أن تكون الأيام قليلة فتكون نفقته على رب العبد. قال: وقيل إن الخلاف إنما هو في الكثيرة، وأما القليلة فهي على رب العبد، وهو مذهب سحنون. انتهى. وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ عَلَى الأَجْزَاءِ لا عَلَى الْعَدَدِ كما لو كان عبداً لثلاثة، لأحدهم نصفه وللآخر ثلثه وللآخر سدسه، فعلى المشهور: يجب على كل بقدر نصيبه. وقيل: تجب على العدد؛ أي: يجب على كل واحد ثلث صاع. وروي عن مالك: أن على كل واحد زكاة كاملة وأنكرها سحنون ولم يعرفها. وَفِي الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ ثَلاثَةٌ: الْمَشْهُورُ عَلَى السَّيِّدِ حِصَّتُهُ، وَعَلَيْهِمَا، وَعَلَى السَّيِّدِ الْجَمِيعُ .. كما لو كان نصفه معتقاً. فعلى المشهور: يجب على السيد نصف صاع ولا شيء على العبد. والقول الثاني لمالك في المبسوط: يؤدي السيد بقدر ما يملك ويؤدي العبد بقدر ما عتق منه، وحكاه ابن حبيب عن أشهب. والقول الثالث لعبد الملك: نظراً إلى أنه لو مات ورث جميع ماله. وَعَنِ الآبِقِ الْمَرْجُوِّ لأن الإباق لا يخرجه عن ملكه، واحترز بالمرجو من غير المرجو، فلا تجب زكاته حينئذ لأنه كالعدم.

وَعَلَى رَبٍّ الْمَالِ فِي عَبَيدِ الْقِرَاضِ. وَقَالَ أَشْهُبُ: تُسْقُطُ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ لا يخفى عليك تصوره. وَقَدْرُهَا: صَاعٌ مِنَ الْمُقْتَاتِ فِي زَمَانِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسُّلْتِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَالأَقِطِ، وَالذُّرَةِ، وَالأُرْزِ، وَالدُّخْنِ، وَزَادَ ابْنُ حَبِيبِ الْعَلَسَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: مِنَ السِّتِّ الأُوَلِ خَاصَّةً. تقديرها بالصاع في جميع الأنواع هو المعروف، وقال ابن حبيب: تؤدي من البر مدين لا صاعاً، وقوله: (الْمُقْتَاتِ فِي زَمَانِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي: في سائر الأقطار ولم يرد بلداً معيناً كما فهم ابن عبد السلام واعترض. وأما قصر أشهب الإجزاء على الستة الأول، فإنه يرى أن الاقتصار على ما جاء الحديث ب، وإن كان ليس في الحديث نص على البر والسلت لكنهما أطيب من الشعير، فينتظم فيهما قياس الأحرى بخلاف ما بقي، قاله ابن عبد السلام. واستحب أشهب الترتيب، نقل عنه ابن يونس أنه قال في المجموعة: أحب إلى أن تؤدي في البلدان من الحنطة، وأداء السلت أحب إلى من الشعير، والشعير أحب إلى من الزبيب، والزبيب أحب إلى من الأقط، والظاهر أن محمل الخلاف بين ابن حبيب والمذهب في العلس، وبين أشهب والمذهب في الثلاثة إذا كان العلس أو الثلاثة غالب عيش قوم، وغير ذلك موجود وكان الجميع سواء، فابن حبيب يرى الإخراج من العلس في الصورة الأولى، والمشهور يخرج من التسع، وأشهب يرى الإخراج من الستة. فَلَوِ اقْتِيتَ غَيْرُهُ كَالْقَطَانِيِّ، وَالتِّينِ، وَالسَّوِيقِ، وَاللَّحْمِ، وَاللَّبَنِ، فَالْمَشْهُورُ: يُجْزِئُ أي: فلو اقتيت ما ذكر، فهل يجزئ الإخراج منه؟ فالمشهور: أنه يجزئ؛ لأن في تكليفه غير قوته حرجاً عليه. ورأى في القول الآخر الاقتصار على ما ورد في الحديث، ورواه ابن القاسم عن مالك في القطاني أنه لا يخرج وإن كانت قوته.

وَفِي الدَّقِيقِ بِزَكَاتِهِ قَوْلانِ قال مالك: لا يجزئ إخراج الدقيق. قال ابن حبيب إنما ذلك للريع، فإن أخرج منه مقدار ما يخرج من صاع القمح أجزأ، وقاله أصبغ، وجعله بعضهم تقييداً. ووجه عدم الإجزاء: أن في الدقيق تحجيراً؛ لأن القمح يصلح لما لا يصلح له الدقيق، ولو جاز الدقيق لجاز الخبز. قوله: (بِزَكَاتِهِ) احترازاً مما إذا أخرجه بغير زكاته فلا يجزئه اتفاقاً. وَتخرُجُ عَنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ قُوتهُ دُونَهُ لا لِشُحٍّ فَقَوْلانِ يعني: أن التسعة المقدمة هي متعلق الوجوب من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل، فيتعين في حق كل بلد غالب قوتهم، فأهل مصر يتعين في حقهم القمح، وإن كان قوته أفضل فله أن يخرج من قوته، فإن أخرج من قوت الباد أجزأه، وإن كان يقتات الأدنى لعسر أخرج منه؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وإن كان مع الوجدان كالبدوي يأكل الشعير بالحاضرة وهو مليء فقولان، ومفهوم كلامه أنه لو فعل ذلك [150/ ب] شحاً لكلف أن يخرج من قوت البلد اتفاقاً. ومَصْرِفُهَا مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. وقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَمْ يَاخُذْ مِنْهَا. وَعَلَى الْمَشْهُورِ يُعْطَى الْوَاحِدُ عَنْ مُتَعَدِّدٍ .... ظاهر كلامه أنها تصرف في الأصناف الثمانية، وليس كذلك، فقد نص في الموازية على أ، هـ لا يعطى منها من يليها ولا من يحرصها. وظاهر كلامهم: أنه لا يعطى منها المجاهد، وأكثر كلامهم تعطى للفقراء والمساكين. وقوله: (وقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَمْ يَاخُذْ مِنْهَا) هو قول أبو مصعب. ونصه على ما نقل اللخمي: وقال أبو مصعب: لا يعطاها من أخرجها ولا يعطى فقير أكثر من زكاة إنسان وهو صاع. قال اللخمي: وهو الظاهر؛ لأن

الغرض إغناؤه في ذلك اليوم، كما قال عليه الصلاة والسلام، بخلاف زكاة المال، فإن القصد بها إغناء الفقير عما يحتاجه من النفقة والكسوة في المستقبل. وقد قيل: إنه يعطي ما يكفيه في السنة، وقد قيل: إنه لا بأس أن يعطي الزكاة من له نصاب لا كفاية له فيه، ولا أعلمهم يختلفون أنه لا يعطى زكاة الفطر من يملك نصاباً. انتهى. وإِذَا أَدَّى أهل الْمُسَافِر عَنْهُ أَجْزَأَهُ هذا ظاهر إذا كانت عادتهم تلك أو أوصاهم، وإلا فالظاهر عدم الإجزاء لفقد النية والله أعلم. * * *

كتاب الصيام

الصِّيَامُ وَاجِبٌ- كَرَمَضَانَ، وَالْكَفَّارَاتُ وَالنُّذُورُ- وَنَفْلٌ. وَرَمَضَانُ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعٍ، وَفِي تَكْفِيرِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ صَوْمِهِ كَمَا فِي الصَّلاةِ ... لا خلاف في وجوبه وهو في اللغة يطلق على الإمساك. وفي الشرع: إمساك عن شهوتي البطن والفرج يوماً كاملاً بنية التقرب. وشرع لمخالفة الهوى؛ لأن الهوى يدعو إلى شهوتي البطن والفرج، ولكسر النفس، ولتصفية مرآة العقل، والاتصاف بصفات الملائكة، ولينتبه العبد على مواساة الجائع. وقول ابن حبيب بالقتل كفراً في تارك الصلاة أقوى منه في الصوم؛ لأنه لا يوجد له من الأدلة هنا مثل الصلاة، ولأنَّا لا نعلم أحداً يوافقه في الصوم إلا الحكم بن عيينة، بخلاف الصلاة فإنه وافق في ذلك جماعة من الصحابة والتابعين. وَشَرْطُ صِحَّتِهِ الإِسْلامُ، ويستحب قَضَاءُ يَوْمِ إِسْلامِهِ جعله (الإِسْلامُ) شرط صحة مبني على خطاب الكفار، واستحب له أن يقضي (يَوْمِ إِسْلامِهِ)؛ لأنه لما أسلم في بعض النهار وخوطب بأحكام الإسلام، ولم يمكنه صيام ما بقي، لكون الصوم لا يتبعض، واستحب له القضاء ليحصل له ثواب ذلك اليوم، واختلف في إمساكه بقية ذلك اليوم، هل هو واجب أم لا؟ كما سيأتي. وَشَرْطُ وُجُوبِهِ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالنَّقَاءُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ جَمِيعَ النَّهَارِ الظاهر أن (جَمِيعَ النَّهَارِ) راجع إلى الحيص والنفاس ويشاركهما في ذلك البلوغ ولا يعود على العقل؛ لأن الإغماء إذا كان في أقل النهار وأوله سالم لا أثر له. ويحتمل عوده على الجميع ويكون ما ذكره في العقل جارياً على بعض الأقوال كما سيأتي. ويبعد هذا الوجه كون المصنف لم يذكر في الصورة المذكورة خلافاً. والله أعلم.

وجعل النقاء من الحيض والنفاس شرطاً في الوجوب يلزم منه أن يكون القضاء بأمرٍ جديد وهو الصحيح، خلافاً لعبد الوهاب في قوله: إنه شرط صحةٍ وتحقيقها في الأصول. ابن راشد: وفي كلامه تجوز؛ لأن الحيض والنفاس مانعان، فكان ينبغي أن يقول: الوجوب يتوقف على وجود الشرط وهو البلوغ والعقل، وعلى انتفاء المانع وهو الحيض والنفاس؛ لأن تأثير الشرط في العدم وتأثير المانع في الوجود. وَلا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُطِيقُ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخَلافِ الصَّلاةِ الفرق للمشهور أن الصلاة تتكرر كثيراً وأحكامها كثيرة فأمر ليتمرن، وإلا لكانت تشق عليه عند بلوغه بخلاف الصوم فإنه إمساك فقط وليس هو إلا مرة واحدة في العام والشاذ الاستحباب، رواه أشهب في المجموعة. واختاره ابن الماجشون وابن حبيب، ويؤمر بقضاء ما أفطر فيه، فإن عجز قضاه إذا قوي. وَمَنْ بَلَغَ عَاقِلاً وَقَلَّتْ سِنُو إطباقه فَالْقَضَاءُ اتِّفَاقاً، بِخِلافِ الصَّلاةِ، وَإِلا فَثَالِثُهَا: إِنْ قَلَّتْ وَجَبَتْ، وَالْمَشْهُورُ: الْقَضَاءُ ... لما تكلم على الشرط الأول وهو البلوغ تلكم هنا على الثاني وهو العقل، يعني: أن هذه المسالة على أربعة أقسام: الأول، أن يبلغ عاقلاً وتقل سنو إطباقه كالخمس فعليه القضاء اتفاقاً. وقاله اللخمي أيضاً. وقوله: (بِخِلافِ الصَّلاةِ) إشارة منه إلى أنه لا يعترض علينا في هذا الموضع بالصلاة فإن البابين مفترقان؛ ألا ترى أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ وذلك لمشقة التكرار في الصلاة. القسم الثاني: أن يبلغ مجنوناً وتكثر سنو إطباقه، القسم الثالث: أن يبلغ عاقلاً وتكثر سنو إطباقه.

القسم الرابع: عكسه، وإلى هذه أشار بقوله: (وَإِلا فَثَالِثُهَا) يعني أن في هذه الأقسام الثلاثة، ثلاثة أقوال: القضاء، وهو المشهور، قياساً على محل الوفاق، والثاني السقوط، والثالث: إن قلت السنون وجب، وإن كثرت لم يجب. وتبع المصنف في هذا المحل ابن بشير على أن ابن بشير لم يحك الخلاف إلا فيما إذا بلغ مطيقاً أو كثرت السنون لا فيما إذا بلغ مجنوناً [151/ أ] وكثرت، لكن يؤخذ مما حكاه اللخمي وغيره الخلاف فيه؛ لأنه حكى في القضاء ثلاثة أقوال: قول مالك وابن القاسم في المدونة عليه القضاء، بلغ صحيحاً أو مجنوناً، قلَّت السنون أو كثرت، وقيل: إن قلت كالخمسة ونحوها فالقضاء، وإن كثرت كالعشرة فلا قضاء؛ ذكره ابن حبيب عن مالك والمدنيين. الثالث حكاه ابن الجلاب عن عبد الملك فيما يظنه إن بلغ مجنوناً فلا قضاء عليه، وإن بلغ عاقلاً ثم جُنَّ وجب عليه القضاء، وأسقط أبو حنيفة والشافعي- رضي الله عنهما- القضاء عن المجنون وهو الظاهر. واحتجاج أهل المذهب بقوله- تعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 183] والمجنون مريض ليس بظاهر. ابن عطاء الله: لأن قوله تعالى في أول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 183] إنما توجه للعقلاء، ثم قال: والوجه عندي أن يقال: فهم من عادة الشرع أن من وجد في حقه سبب الوجوب وتأخر شرطه، أنه إذا وجد الشرط بعد ذلك وجب عليه القضاء، أصله الحائض. وَلا أَثَرَ لِلنَّوْمِ اتِّفَاقاً أي: في القضاء، ولو كان جميع النهار؛ لأنه ساتر للعقل غير مزيل له. وَأَمَّا الإِغْمَاءُ فَإِنْ كَانَ كُلَّ النَّهَارِ فَكَالْجُنُونِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِمَرَضِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَقَلَّهِ وَأَوَّلِهِ سَالِمُ فَكَالنَّوْمِ، وَإِلا فَقَوْلانِ، وَفِي النِّصْفِ وَالْجُلِّ: قَوْلانِ. يعني: أن الإغماء له صور: تارة يكون في جميع النهار، وتارة في أقله، وتارة في نصفه أو جله. فإن كان في جميع النهار فلا يصح صومه، وهو في هذه الصورة أشبه شيء بالمجنون.

وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِمَرَضِ) هو لابن الماجشون. ابن يونس: وقال ابن الماجشون: الإغماء الذي يفسد به الصوم من يغمى عليه قبل الفجر ويفيق بعده، وإنما ذلك إذا تقدمه مرض أو كان بإثره متصلاً، فأما ما قل من الإغماء ولم يكن بمرض فكالنوم، فلو طلع عليه الفجر ثم تخلى عنه فإنه يجزيه صومه، وعلى هذا ففي كلامه نظر؛ لأن ابن الماجشون لا يشترط في إيجاب القضاء أن يكون كل النهار، كما يؤخذ من كلامه، وإنما يشترط أن يكون قبل الفجر ثم يدوم إلى بعد طلوعه، وقد نقل ابن يونس وغيره عن ابن الماجشون: أنه إذا أغمي عليه بعد الفجر وأفاق قبل الغروب أن صومه صحيح. وقد نقل ابن عطاء الله الاتفاق على أنه إذا أغمي عليه جميع النهار أن ذكل كالجنون وإن كان في أقله، فإن كان في أوله، أي: عند طلوع الفجر سالماً فكالنوم، لا قضاء عليه. وحكى ابن بشير وابن عطاء الله على ذلك الاتفاق، وفيه نظر، وقد حكى بن يونس عن ابن عبد الحكم أنه يقول: القليل من الإغماء والكثير سواء وعليه القضاء. وحكاه القاضي عبد الوهاب في الإشراف عن القاضي إسماعيل، والقاضي أبي الحسن، ورأى هؤلاء الإغماء كالحيض. قوله: (وَإِلا) أي: وإن كان في أقله وأوله غير سالم فقولان: أشهرهما أن الصوم لا يصح لمقارنة الإغماء لوقت النية، وهو مذهب المدونة، زاد ابن حبيب: ولا يؤمر بالكف عن الأكل بقية نهاره. وفي سماع أشهب: الإجزاء نظراً إلى القلة. قوله: (وَفِي النِّصْفِ وَالْجُلِّ: قَوْلانِ) أي: مع سلامة أوله، ومذهب المدونة الإجزاء في النصف وعدم الإجزاء في الجل. وقال ابن حبيب: إن أغمي عليه النصف لم يجزه، وقاله ابن القاسم في الواضحة، وقال ابن وهب: في الجل يجزيه. وهو الذي يؤخذ من كلام أشهب؛ فإنه قال في المدونة بعد قوله فيها بعدم الإجزاء: هذا استحسان ولو اجتزى به ما عنف.

واعلم أن المصنف كان يمكنه أن يكتفي بقوله: (وَإِلا فَقَوْلانِ) عن قوله: (وَفِي النِّصْفِ وَالْجُلِّ: قَوْلانِ) والله أعلم. وَمَتَى انْقَطَعَ الْحَيْضُ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا حُكْمَ لَهُ، وَقِيلَ: إِنْ أَمْكَنَ الْغُسْلُ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: إِنْ اغْتَسَلَتْ .. شرع- رحمه الله- يتكلم على الشرط الثالث: يعني أن الحيض إذا انقطع قبل الفجر فلا حكم له في إسقاط الصوم ومنع صحته، سواء أمكن الغسل أم لا، اغتسلت أم لا، وقيل: إن اتسع الزمان للغسل قبل الفجر فالحكم كذلك، وإن لم يتسع فحكم الحيض باقٍ، ولا يصح صومها. نقله في الجلاب عن ابن الماجشون، ورواه ابن القاسم وأشهب عن مالك؛ وقيل: إن اغتسلت فحكم الحيض باقٍ سواء طهرت لزمانٍ يمكنها فيه الغسل أم لا، وهذا القول حكاه ابن شعبان، قال في الجلاب: وقال ابن مسلمة: تصوم وتقضي. فَإِنْ شَكَّتْ صَامَتْ وَقَضَتْ تصورها ظاهر، وهي في المدونة، وفيها نظر؛ لأنه ألزم الإمساك فيها بمجرد الشك، ولم يستصحب الأصل وهو الإباحة السابقة. ابن رشد: وهو بخلاف الصلاة، فإنه لا يجب عليها أن تقضي ما شكت في وقته، هل كان الطهر فيه؟ وما قاله بين، فإن الحيض مانع من أداء الصلاة وقضائها وهو حاصل، وموجب القضاء وهو الطهر في الوقت مشكوك فيه، وأما في الصوم فإنما يمنع من الأداء خاصة، ولا يمنع من القضاء؛ فلهذا وجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة. واعلم أنهم اختلفوا في تأويل قول الإمام: صامت وقضت، فمنهم من قال: يؤخذ منه أن الحيض لا يقطع النية بخلاف [151/ ب] السفر، ومنهم من قال: هذه رواية بجواز الصوم بغير نية كقول ابن الماجشون. الباجي: وليس في قول مالك ما يوجب هذا إلا أن لو قال: لا قضاء عليها، وأما إذا أوجبه فلا.

وَيُعْرَفُ رَمَضانُ بِأَمْرَيْنِ – أَحَدُهُمَا: الرُّؤْيَةُ إِمَّا بِالْخَبَرِ الْمُنْتَشِرِ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَرْطِهَا بِرْجُلَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ كَالْْفِطْرِ، وَالْمَوَاسِمِ إِنْ كَانَ ثَمَّ مُعْتَنُونَ بِالشَّرِيعَةِ، وَإلّا كَفَى الْخَبَرُ .... أى: يعرف دخول رمضان بأمرين: الأول، رؤية الهلال فى حق من رآه وغير الرائي يحصل له ذلك بأحد وجهين: الخبر المنتشر، وهو المستفيض المحصل للعلم أو الظن القريب منه. والشهادة على شرطها، أى فيعتبر فيها أن تكون من ذكرين حرين عدليين. وقوله (حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ)، مع قوله (عَلَى شَرْطِهَا): زيادة إيضاح. وهذا هو المشهور. وقال ابن مسلمة: شهادة رجل وامرأتين. وقال أشهب: شهادة رجل وامرأة فى المبسوط. وفيهما بعد قوله: (كَالْفِطْرِ). أى كعيد الفطر، فإنه لابد فيه من التعدد، والمواسم: كعرفة وعاشوراء ونحوهما. وقوله: (إِنَّ كَانَ ثَمَّ معتنون بِالشَّرِيعَةِ). أى هذا الذى ذكرناه من الشهادة إنما يكون إذا كان هناك قاض وجماعة من المسلمين يعتنون بأحكام الشريعة ومواقيت العبادة، إذ لا يتأتى النظر فى الشهادة ومن يشهد بها إلا مع ذلك. قوله: (وإلا) أى وإن لم يكن ثم معتنون بالشريعة، إما أنه لا إمام البتة، أو لهم إمام وهو يضيع أمر الهلال ولا يعتنى به، نقله الباجى وغيره عن عبد الملك، واعترض الشيخ أبو محمد قوله: ويحمل على ذلك من يقتدى به. وقال: كيف يحمل برؤية نفسه عليه غيره، ولو رآه الحاكم وحده لم يحمل الناس على الصيام. عبد الحق ويحتمل أن يكون قول عبد الملك، ويحمل عليه غيره. إنما هو راجع إلى ما ثبت عنده برؤية غيره لا برؤية نفسه. ابن عطاء الله: وظاهر قول سحنون أنه لابد من الشهادة بشرطها، كان ثم حاكم أم لا، لأنه قيل له فى المجموعة: أرأيت إن أخبرك الرجل الفاضل بأنه رأى الهلال؟ قال: ولو كان عمر بن عبد العزيز ما صمت ولا أفطرت.

ومنشأ الخلاف، اختلاف الأصوليين في أنه هل يخصص العام ويقيد المطلق بالعرف أم لا؟ لأنه روى النسائي، وأبو داود: "إن شهد عدلان فصوموا وأفطروا". ففهموه إذا قلنا بالمفهوم أنه إذا لم يشهد عدلان، فلا صوم، فهل يبقى هذا المفهوم على الإطلاق؟ أو يقيد بما إذا كان حاكم معتنيا وهو الغالب؟ فرع: فإن شهد اثنان فاحتاج القاضى إلى الكشف عنهما وذلك يتأخر فقال ابن عبد الحكم: ليس على الناس صوم ذلك اليوم، فإن زكوا بعد ذلك أمر الناس بالقضاء، وإن كان فى الفطر فلا شئ عليهم فى الصيام. وَإذَا نُقِلَ بِالانْتِشَارِ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَرْطِها عَنْهُمَا مِنْ بَلَدٍ لِزَمَ سَائِرَ الْبِلادِ، وَقِيلَ إِلا عَنْ حاكِمٍ مَخْصُوصٍ فَلا يَلْزَمُ غَيْرَ الْمُوَلَّى عَلَيهُمْ .... يعنى أن للنقل أربع صور: استفاضة عن استفاضة، فيلزم من بلغهم الصوم والقضاء. وشهادة عن استفاضة فكذلك. واستفاضة عن شهادة، أو شهادة عن شهادة، والحكم فيها واحد إن كانت الشهادة المنقول عنها ثبتت عند حاكم عام وهو الخليفة، وكذلك إن ثبتت عند حاكم خاص فالمشهور كذلك، وقال عبد الملك: لا يلزم ذلك إلا من تحت ولايته، وهذه الأربع صور تؤخذ من كلامه لأن قوله: (عَنْهُمَا)، عائد على الانتشار والشهادة. أى: نقل بالشهادة أو الانتشار عن الشهادة والانتشار. واعلم أن الاستثناء من قوله: (وَقِيلَ إِلا) متصل؛ لأن الشهادة المنقول عنها أعم من أن تكون عند حاكم أو عام أو خاص، وزعم ابن عبد السلام أنه منقطع وليس كذلك، ثم قال: وهذا الاختلاف إنما هو فيما ينقل عن الحاكم المخصوص. وأما ما ينقل عن الشهود أو الخبر المنتشر فلا تختص به جهة دون جهة.

فرع: وإذا أخبر الإمام بثبوت الرؤية عنده لزمه الصوم، نص عليه فى المقدمات. وَفِى النَّقْلِ بِالْخَبَرِ: قَوْلانِ يعنى: أنه اختلف هل يكتفى بخبر الواحد عن الإمام وعن الخبر المنتشر؟ كذا نقل الباجى وابن رشد وابن زرقون. ابن عبد السلام: وظاهر كلامه وعن الشاهدين، وليس كذلك فإن هذا الخلاف في النقل عن الإمام والخبر المنتشر لا عن الشاهدين. انتهى. ولفظ الباجي: وإذا ثبتت رؤية الهلال عند الإمام وحكم بذلك وأمر بالصيام، ونقل ذلك إليك العدل أو نقله إليك عن بلد آخر فقد قال أحمد بن ميسر الإسكندراني: يلزمك الصوم من باب قبول خبر الواحد العدل لا من باب الشهادة. قال الشيخ أبو محمد: وقول ابن ميسر صواب. كما ينقل الجل إلى أهله وابنته البكر مثل ذلك فيلزمهم تبييت الصيام بقوله. انتهى. ابن هارون: طعن أبو عمران في صحة ما نقله الشيخ أبو محمد وفي تشبيهه فقال: إنما الرواية عن ابن ميسر إذا وجه القوم رجلا فأخبرهم أنهم رأوا الهلال لزمهم الصوم بقوله. قال: وهذا لا حجة فيه لأنهم لما بعثوه صار كالمستكشف لهم، قال: وليس هذا كنقل الرجل إلى أهله وولده؛ لأنه القائم عليهم. ابن رشد وابن يونس: كلام [152/أ] أبى عمران لا معنى له، ولا فرق بين أن يخبرهم دون أن يبغثوه أو بعد أن يبعثوه. قال فى المقدمات: وإنما يفترق ذلك عندى فيما يحكم به الإمام، فإن الإمام إذا بعث رجلا وجب عليه أن يأمر الناس بالصيام إذا أخبره بالثبوت عند حاكمهم أو بؤية مستفيضة، وإن

أخبره بذلك من غير إرسال وجب عليه هو الصيام في خاصة نفسه، ولم يصح له أنه يأمر الناس بذلك حتى يشهد عنده شاهد آخر؛ لأنه حكم فلا يكون إلا بشاهدين. انتهى مختصرا. قيل: والمشهور خلاف ما قاله ابن ميسر، وأنه لا بد من شاهدين، وفى اللخمى: واختلف فى الصوم بشهادة الواحد. إذا أخبر عن رؤية نفسه، فمنع مالك أن يصام بشهادته لا على الوجوب ولا على الندب ولا الإباحة. وقال أحمد بن ميسر: إذا أخبر عما ثبت في البلد أو أخبر عن بلد آخر أنه ؤي به صيم بقوله. وأجاز ابن الماجشون في البلد نفسه إذا أخبر عن رؤية نفسه أو رؤية غيره. انتهى. وَيُقْبَلُ النَُقْلُ بِالْخَبَرِ إِلَى الأَهْلِ وَنَحْوِهِمْ عَنْهُمَا عَلَى الأَصَحِّ، وَخُرِّجَ قُبُولُ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ لِلْمَشَقَّةِ .... الضمير في عنهما. ابن عبد السلام: يعود على الخبر المنتشر وعلى الإمام. انتهى. ومقتضى كلام المصنف أن مقابل الأصح لا يكفى فى ذلك إلا شاهدان، وفيه بعد. ابن راشد: ولم أقف عليه. ويحتمل أن يكون (الأصح) عائدا على قومه: (ونحوهم) يريد بنحوهم من ليس تحت حكمه مثل من يقتدى به إذا كان الإمام يضيع أمر الهلال، وفيه قولان لعبد الملك وسحنون، وتقدما. فإن قيل: ما الفرق بين الشاهدين هنا والمؤذن الواحد، فإنه اتفق على قبول قوله، وكل منهما عدل مخبر بدخول الوقت؟. فجوابه: إن المؤذن مستند في إخبارره إلى أمر يطلع عليه غيره عادة ويشاركه فيه بل ويتقدم عليه، ولو أخطأ لكثر النكير عليه، بخلاف الهلال فإنه لا يعلم إلا بقوله، لا سيما مع توف دواعى الناس وحرصهم على رؤيته وبذلهم وسعهم، فهم كالمعارضين له. وما ذكره المصنف من التخريج والرد عليه ليس بالخفي.

ابن راشد: تنبيه: إذا حكم الحاكم بالصوم بشهادة شاهد لم يسع أحد مخالفته؛ لأن حكمه وافق محل الاجتهاد. انتهى. ولم ينقل ابن عطاء الله في هذا الفرع شيئا بل تردد فيه، وقال سند: لو حكم الحاكم بالصوم بالواحد لم يخالف. قال: وفيه نظر؛ لأنه فتوى لا حكم، ونص القرافى فى فروقه في الفرق الرابع والعشرين والمائتين على أنه لا يلزم المالكى الصوم فى هذا قال: لأن ذلك فتوى وليس بحكم. قال: وكذلك إذا قال الحاكم ثبت عندى أن الدين يسقط الزكاة. وبنى ذلك على قاعدة وهي أن العبادات كلها لا يدخلها حكم بل الفتيا فقط، وليس للحاكم أن يحكم أن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة وإنما يدخل الحكم في مصالح الدنيا. والله أعلم. فائدة: الشهادة يشترط فيها العدد والواية لا يشتط فيها ذلك مع أن الخبر يشملهما، والفرق أن الشهادة تتعلق بمعين فاشتط فيها العدد لقوة التهمة، بخلاف الرواية. وَفِى قُبُولِ الشَّاهِدَيْنِ فِى الصَّحْوِ فِى الْمِصْرِ الْكَبِيرِ – ثَالِثُهَا: إِنْ نَظَرُوا إِلَى صَوْبٍ وَاحِدٍ رُدَّتْ .... المشهور القبول، قاله ابن بشي وغيره. وقال سحنون: لا يقبلان للتهمة، والقول الثالث لم أر من صرح به، ولم يذكره ابن بشير، على أنه خلاف، بل قال بعد القولين: وهو خلاف فى حال إن نظر الكل إلى صوب واحد ردت. وإن انفردوا بالنظر إلى مواضع ثبتت شهادتهما؛ فلا ينبغى عده ثالثا. وَإِذَا قُبِلا فَعُدَّ ثَلاثُونَ فَلَمْ يُرَ فِى الصَّحْوِ، فَفِيهَا: قَالَ مَالِكٌ هُمَا شَاهِدَا سُوءٍ وإذا فعنا على المشهور فقبلا فعد الناس ثلاثين يوما ونظروا ليلة إحدى وثلاثين والسماء مصحية فلم ير فقال مالك فى المجموعة: هما شاهدا سوء.

اللخمى وغيره: يريد أنه قد تبين كذبهما؛ لأن الهلال لا يخفى مع كمال العدة قال مالك: وأى ريبة أكبر من هذه؟. ابن عبد السلام: وعلى هذا يجب أن يقضى يوم إذا كانت شهادة الشاهدين على رؤية هلال شوال وعد الناس ثلاثين يوما ولم يوا هلال ذى القعدة، وكذلك يفسد الحج إذا شهدا بهلال ذى القعدة انتهى. وقوله: (فَفِيهَا) عائد على المسألة، وفى بعض النسخ إسقاطها وكأنهم لم يوا المسألة في المدونة يستشكلونها فيسقطونها. وَيَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ عَدْلاً أَوْ مَرْجُوّاً رَفْعُ رُؤْيَتِهِ، وَفِى غَيْرِهِمَا قَوْلانِ أما الوجوب في حق العدل أو مرجو العدالة فواضح لرجاء انضمام آخر فتكمل الشهادة، وهل يجب على غيرهما؟ وهو قول ابن عبد الحكم رجاء أن يقتدى به غيره، ولعل ذلك يكثر فيؤدى إلى الانتشار أولا؟ وهو قول عبد الوهاب؛ للأنه يضع من نفسه بغير فائدة، ونقل اللخمى عن أشهب في غير العدل إن لم يكن حاله منكشفا وأشبه أن تقبل شهادته كان عليه أن يرفع، وإن كان منكشفا فأحب له ذلك، وليس بواجب عليه، وهذا قول ثالث بالاستحباب. وَيَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الإِمْسَاكُ أى: الثلاثة [152/ب] المتقدمة، العدل والمرجو وغيرهما لحصول سبب الوجوب وهو الرؤية. وَمِنْ أَفْطَرَ فَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَفِى الْمُتَأَوِّلِ قَوْلانِ يعنى: أن من أفطر من هذه الثلاثة منتهكا يجب عليه القضاء والكفارة اتفاقا، وإن تأول فقولان: المشهور وجوب الكفارة. وقال أشهب في المدونة والمجموعة: لا كفارة عليه، وهما خلاف في حال هل هو تأويل قريب أو بعيد.

وجعل المصنف وغيره قول أشهب خلافا، وإلى هذا ذهب ابن يونس، وذكر ذلك عند الكلام على التأويل المسقط للكفارة. ونقل أبو الحسن عن الشيوخ أنهم جعلوا قوله تقييدا. فرع: فإن صام هذا الرائى وحده ثلاثين ثم لم ير أحد الهلال والسماء مصحية؛ فقال محمد ابن عبد الحكم وابن المواز: هذا محال ويدل على أنه غلط. وقال بعضهم: أى ينبغى أن يعمل فى ذلك على اعتقاده الأول ويكتم أمره. وَلا يُفْطِرُ فى هِلالِ شَوَّالٍ ظَاهِراً وَلا خُفْيَةً، وَإِنْ أَمِنَ الظُّهُورَ عَلَى الأَصَحِّ أى: من انفرد بؤية هلال شوال ولم يكن له عذر يستتر به فى الفطر فلا يفطر ظاهرا؛ لأنه يعض نفسه للأذى مع إمكان تحصيل غرض الشرع بالفطر بالنية. وهل يجوز له الفطر خفية إذا أمن الظهور؟ قولان، أصحهما المنع؛ لأنه قد يتطرق اليه، وغرض الشرع حاصل بالنية. وهذا الأصح منصوص لمالك فى العتبية قال فى البيان: ومثله فى الموطأ والمدونة وغيرهما من الدواوين، وكذلك إن رأى هلال ذى الحجة وحده يجب عليه أن يقف وحده دون الناس ويجزيه ذلك من حجه. قال بعض المتأخين: وهو صحيح. انتهى. ولعل بعض المتأخرين المشار إليه هو أبو عمران، لكنه زاد: ثم يعيد الوقوف مع الناس. قيل له: فإن خاف من الانفراد قال: هذا لا يكاد ينزل ولم يقل شيئا. عبد الحق: ويحتمل أن يقال: يكون كالمحصر بعدو ويحل ثم ينشئ الحج من مكة مع الناس، ويحج معهم على رؤيتهم استحسانا واحتياطا، وإن أمكنه أن يأكل عند طلوع الفجر أو عند الغروب فحسن؛ لأنه إن ظهر عليه حينئذ لم ينسب إليه إلا الغلط. ومقابل الأصح لم أره منصوصاً، وخرجه اللخمى من مسألة الزوجين يشهد عليهما شاهدان بطلاق الثلاث، والزوجان يعلمان أنهما شهدا بزور فقد قيل: لا بأس أن يصيبهما خفية، والأكل مثله من باب أولى؛ لأن ما يكون من الواحد وهو الأكل، أخف مما يكون من اثنين وهو الجماع لأن التخفى فى الأكل أكثر من الجماع.

فرع: فإن ظهر على من يأكل وقال: رأيت الهلال؛ فقال أشهب: يعاقب إن كان غير مأمون، إلا أن يكون ذكر ذلك قبل وأذاعه، وإن كان مأمونا لم يعاقب وقدم إليه ألا يعود، فإن فعل عوقب، إلا أن يكون من أهل الدين أو الرضى، نقله اللخمى. فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يُخْفِيهِ كَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ أَفْطَرَ كان تامة، ونحو السفر المرض والحيض. أى فإن حصل لهذا المنفرد بالرؤية عذر يبيح الفطر في رمضان متعمدا أفطر، وهو ظاهر. وَمَتَى رُؤِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلِلْقَابِلَةِ عَلَى الأَصَحِّ يعني: إن رؤي الهلال بعد الزوال فالاتفاق على أنه للقابلة، قاله ابن عبد السلام، وإن رؤي قبله فالأصح أنه للقابلة أيضا. قاله مالك في كتاب ابن حبيب وشرح ابن مزين؛ فيستمر الناس على ما ابتدأوه من صيام في رمضان أو فطر في شعبان. وقال ابن وهب وعيسى بن دينار وابن حبيب: هو للماضية. وقيل: أما فى الصوم فللماضية، وأما فى الفطر فللقابلة، حكاه ابن غلاب. وظاهره أنه فى المذهب، وإنما حكاه ابن زرقزن عن بعض أهل الظاهر. وَإِذَا انْفَرَدَ عَدْلٌ فِي أَوَّلِهِ، وَعَدْلٌ بَعْدَ ثَلاثِينَ، فَفِي تَلْفيقِهِمَا قَوْلانِ بِخِلافِ مَا قَبْلَهُ أي: إذا شهد واحد برؤية هلال رمضان ثم آخر بهلال شوال، وبينهما ثلاثون يوما فهل تلفق الشهادة ويفطر الناس أم لا؟ قولان. بخلاف ما لو كان بين الرؤيتين تسعة وعشرين يوما فلا تلفق شهادتهما وإليه إشار بقوله: (بِخِلافِ مَا قَبْلَهُ). كذا قال ابن عبد السلام ونحوه لابن بشير.

وأصل هذه المسألة ليحيى بن عمر قال في المجموعة: وإذا شهد شاهد على هلال رمضان وآخر على هلال شوال لم يفطر بشهادتهما. الباجى: زمعناه عندى أن الشاهد الثانى رآه بعد ثلاثين يوما من رؤية الأول؛ لأن شهادة الثانى لا تصحح شهادة الأول؛ لأنه يحتمل ألا يكون الأول رأى شيئا ورأى الثانى هلال شوال لتسعة وعشرين خلت من رمضان. وأما إن رأى الثاني بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية الأول فإنه يجب أن يفطر بشهادتهما؛ لأن شهادة الثانى تصحح شهادة الأول على كل حال؛ لأنه محال أن يصدق الثاني ولا يصدق الأول. انتهى بالمعنى. ابن زرقون: قوله: يجب أن يفطر بشهادتهما وهم؛ لأن الأول لا يصحح شهادة الثاني إذا رآه بعد تسعة وعشرين من رؤية الأول، وإنما يصحح الثاني شهادة الأول، والصواب أن يقال: يقضى اليوم الذى شهد به الأول لأنهما اتفقا إنه من رمضان وإذا رآه الثاني بعد ثلاثين من رؤية الأول وجب أن يفطر لاتفاقهما أن ذلك اليوم من غير رمضان، ولم يجب قضاء اليوم الذى شهد به الأول لأنهما لم يجتمعا عليه فتأمله. والصواب قول يحيى بن عمر: لا تلفق الشهادتان بحال. انتهى. وذكر [153/أ] في المقدمات بعد أن ذكر قول يخيى بن عمر: وقال غيره من أهل العلم: يجوز، ومعنى ذلك إذا شهد الشاهد على هلال رمضان أنه رآه بعد ثلاثين يوما من رؤية الشاهد على هلال شعبان، إذ ليس في شهادة الشاهد الثانى تصديق للأول، وأما لو رآه الشاهد الثانى بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية الأول لوجب أن تجوز شهادتهما؛ لأن الشاهد الثانى يصدق الشاهد الأول، إذ لا يصح أن يصدق الشاهد الثانى إلا والأول صادق فى شهادته يريد بصيام التمام من شهادته، قال: وهو معنى خفي. ابن رشد: وليس هو عندي بين المعنى؛ لأنه كما يصدق هنا الشاهد الثانى الشاهد الأول من أجل أنه لا يرى الهلال ليلة التسعة وعشرين فكذلك يصدق في المسألة الأولى الشاهد الأول الشاهد الثانى من أجل أنه لابد أن يرى ليلة إحدى وثلاثين.

فالصحيح عندى لا فرق بين المسألتين وأنهما جميعا يتخرجان على قولين، وقد اختلف إذا اتفق الشاهدان على ما يوجبه الحكم، واختلفا فيما شهدا به، والمشهور أن شهادتهما لا تجوز. انتهى. خليل: وكذلك أشار غيره إلى أن هذه المسألة تتخرج على الخلاف فى تلفيق الشهادة فى الأفعال، والمشهور كما ذكر عدم التلفيق، والظاهر أنهما لا تجري عليهما بل هذه أولى بالقبول؛ لأن كلا من الشاهدين يصدق الآخر هنا فى مجموع شهادته، ولا كذلك في مسألة تلفيق الشهادة؛ لأن صورتها أن يقول شاهد مثلا: رأيته قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت. ويقول الآخر: رأيته قال إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته، فأنت ترى أن شهادة كل واحد لا تستلزم صدق ما شهد به الآخر بخلاف المسألة المتقدمة. ورد اللخمي المسألة إلى تلفيق الشهادة فى الأقوال لأنه قال: إن شهد واحد أنه رأى هلال رمضان ليلة الأحد وشهد الآخر أنه رآه ليلة الاثنين لم يلفق لأنهما يجتمعان أن يوم الاثنين يوم فطر لاحتمال أن يكون الشهر كاملا على رؤية الأول. وإن شهد الثانى أنه رآه ليلة الثلاثاء وهو صحو لم يفطر بشهادتهما. وإن كان غيم ضمت الشهادتين على أحد القولين فى ضم الأقوال لاتفاق الشهادتين أنه يوم فطر. انتهى. الثَّانِى: إِتْمَامُ ثَلاثِينَ، وَلَوْ غُمَّ شُهُوراً مُتَعَدِّدَةً، وَلا يُلْتَفَتُ إِلَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ اِتِّفَاقاً، وَإِنْ رَكَنَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْبَغْدادِيِّينَ .... أي: الأمر الثاني من الأمرين اللذين يعرف بهما هلال رمضان إتمام ثلاثين يوما ولو غم شهورا متعددة لما فى الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم. فاقدروا له" وتقديره لتمام الشهر الذى أنت فيه ثلاثين. وكذلك وقع مصرحا به فى بعض الروايات

رواها مالك والبخاري ومسلم، ولا يعتمد على قول المنجمين أن الشهر ناقص، وروى ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد على الحساب أنه لا يقتدي به ولا يتبع. عياض: ومعنى قوله: "غم عليكم"، ستر عليكم، من قولهم: غممت الشيء إذا سترته، ويكون من تغطية الغمام إياه وليس من الغم. وقال ابن أبي زمنين: معنى "غُم" التبس العدد من قبل الغم أو من قبل الشك في الرؤية، وليس هو من الغيم وإلا لقال: غيم. وقوله: (وَإِنْ رَكَنَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْبَغْدادِيِّينَ) إشارة إلى ما روي عن ابن شريح وغيره من الشافعية. وهو مذهب مطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير من كبار التابعين. ابن بَزِيزةَ: وهي رواية شاذة في المذهب. رواها بعض البغداديين عن مالك. ويحمل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" من التقدير بالحساب والتنجيم. وهذه تنقض الاتفاق، ونقل بعضهم مثلها عن الداودي. وَإِذَا كَانَ غَيْمٌ، وَلَمْ تَثْبُتِ الرُّؤْيَةُ فَذَلِكَ يَوْمُ الشَّكِّ فَيَنْبَغِي الإِمْسَاكُ حَتَّى يُسْتَبْرَأَ بِمَنْ يَاتِي مِنَ السُّفَّارِ وَغَيْرَهِمْ ... أي: أن يوم الشك الذي جاء النهي عن صيامه هو أن تكون السماء مغيمة ليلة ثلاثين ولم تثبت الرؤية، فصبيحة تلك الليلة هو يوم الشك. وفي كلامه تجوّز؛ لأن الإشارة بقوله: (فَذَلِكَ). لا تعود على شيء من كلامه. فَإِنْ ثَبَتَتِ الرُّؤْيَةُ وَجَبَ الإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ، وَلَوْ كَانَ أَفْطَرَ أَوْ عَزَمَ وجب الإمساك لثبوت رمضان والقضاء لعدم ثبوت النية الجازمة. وقوله: (لَوْ كَانَ أَفْطَرَ) راجع إلى الإمساك، وقوله: (أَوْ عَزَمَ) راجع إلى وجوب القضاء. فَلَوْ ثَبَتَتْ ثُمَّ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلاً بِهِ كَفَّارَةٌ بِخِلافِ غَيْرَهِ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: إذا وجب الإمساك بعد الثبوت، فمن أفطر بعد ذلك فإن تأول أن هذا اليوم لما لم يجزه يجوز له فطره فلا كفارة عليه، وإن لم يتأول وهو مراده بقوله: (بِخِلافِ غَيْرَهِ)،

فالمشهور وجوب الكفارة والشاذ سقوطها كالمتأول بناء على أن الكفارة معللة بانتهاك [153/ ب] حرمة الشهر، وقد حصل، أو بانتهاك إفساد صيام رمضان. وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمُسَافِرُ تَزُولُ مَوَانِعُهُمْ فَلا يَجِبُ الإِتْمَامُ لأَنَّهُ أُبِيحَ مَعَ الْعَلْمِ أَوَّلاً ... حاصله أن كل من أبيح له الفطر مع العلم بأن ذلك اليوم من رمضان، ثم زال عذره في أثناء ذلك اليوم، جاز له التمادي على الفطر، وقوله: (فَلا يَجِبُ). لا ينفي الاستحباب. وقد صرح ابن عطاء الله وابن عبد السلام بنفيه. وإطلاق المصنف المانع على الحيض والجنون صحيح. وعلى الصبا والسفر فيه مسامحة. واحترز بقوله: (أُبِيحَ أولاً) من طُرُوِّ العلم يوم الشك. وحكى اللخمي عن ابن حبيب في المغمي عليه مثل ما قاله المصنف من جواز تماديه على الفطر، قال: والذي يقتضيه المذهب لزوم الإمساك؛ لأنه صوم مختلف فيه هل يجزئ أم لا؟ وَلِذَلِكَ جَازَ وَطْءُ الْمُسَافِرِ يَقْدَمُ امْرَأَتَهُ تَطْهُرُ أي: ولأجل الضابط المذكور جاز للمسافر إذا قدم ووجد امرأته طهرت في يوم قدومه أن يطأها. واختلف إذا كانت نصرانية، فظاهر المذهب الجواز؛ لأنها ليست بصائمة. وقال ابن شعبان: لا يجوز وإن وجدها بإثر الطهر، لأنها متعدية بترك الإسلام. وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يطأها إذا كانت كما طهرت، كما لو كانت مسلمة، ولا يطأها إذا كانت طاهرة قبل قدومه، واستشكل قول ابن شعبان أنه لا يجوز وطؤها وإن وجدها بإثر الطهر، لأنها لو أسلمت يومئذٍ لجاز له وطؤها، فلا أثر لكفرها، وكأن ابن شعبان، لاحظ كون فطرها للكفر لا للحيض فمنعه أن يعينها عليه، ووقع في بعض النسخ (وامرأته) بزيادة الواو ولا حاجة إليها.

وَفِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ قَوْلانِ أي: اختلف في الكافر إذا أسلم في أثناء نهار رمضان هل يجب عليه الإمساك أو يستحب؟ عياض: والاستحباب لمالكٍ في المدونة. وهو قول ابن القاسم وأشهب وعبد الملك وابن حبيب وابن خويز منداد لأنه لما غفر الله له ما تقدم ساوى المجنون يفيق. الباجي: ومن قال من أصحابنا بخطاب الكفار، وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه أوجب عليه الإمساك. وعلى هذا فيكون ظاهر المذهب وجوب الإمساك، لكن قال عياض: وهو تخريج بعيد، ولو كان كذلك لما اختص باليوم الذي أسلم فيه مما قبله، ولا فرق بينه وبين ما سبقه لفوات صومه شرعاً كاليوم السابق، ولو كان على ما قال لكان القضاء والإمساك واجبين على القول بخطابهم. ولم يقل بوجوب ذلك أحد من شيوخنا، وإنما استحب الإمساك لتظهر عليه صفات المسلمين في ذلك اليوم. انتهى. ونقل اللخمي عن أشهب في المجموعة أنه قال: لا يمسك بقية اليوم. قال: وعلى قوله لا يقضيه وهو أحسن لجب الإسلام. عياض: وتخريج اللخمي ترك القضاء على القول بترك الإمساك واستحبابه على استحباب الإمساك، فيه نظر؛ لإإنه لا يطرد، إذ الحائض ممنوعة من الإمساك والقضاء واجب عليها، والناسي في الفرض مأمور بالإمساك وعليه القضاء، والمغمى والمحتلم لا يمسكان ولا يقضيان، والناسي لصومه يفطر في التطوع، مأمور بالإمساك ولا قضاء. فلا ملازمة بينهما. وفِيمَنْ أَفْطَرَ بِعَطَشٍ ونَحْوِهِ فَأَزَالَهُ: قَوْلانِ كَمُضْطَرِّ الْمَيْتَةِ يعني: أنه اختلف فيمن أدركته ضرورة فأزالها إما بشرب في العطش أو بأكل في الجوع هل له أن يستديم الأكل بقية النهار اختياراً ولو بالجماع؟ أجاز ذلك سحنون. وقال

ابن حبيب: يزيل ضرورته فقط، قال: وإن أكل بعد ذلك جهلاً أو تأويلاً أو تعمداً فلا كفارة، لأنه شبيه بالمريض. اللخمي: والأول أقيس، وفي أسئلة ابن رشد، لما سئل عن الرجل يصيبه العطش الشديد في رمضان فيفطر ويأكل بقية يومه ويجامع أهله: اختلف في هذا والصحيح أن عليه القضاء والكفارة إلا أن يفعل ذلك متأولاً، وقال عبد الملك: إن بدأ بالجماع كفّر وإن بدأ بالأكل لم يكفّر. وقوله: (كَمُضْطَر الْمَيْتَةِ). أي إن قلنا: يشبع ويتزود، وهو المشهور، جاز له التمادي. وعلى قول ابن حبيب إنما يأكل قدر سد رمقه يزيل به ضرورته. وَيُصَامُ نَذْراً أَوْ قَضَاءً أَوْ بعَادَةٍ أي: يصام يوم الشك (نذراً) أي ينذر يوماً فيوافقه أو أياماً فيوافق أن يكون يوم الشك بعضها، إلا أن ينذره من حيث أنه يوم الشك فإن ذلك لا يلزم لأنه نذر معصية. (أَوْ قَضَاءً) كمن عليه يوم من رمضان فيقضيه في يوم الشك (أَوْ بعَادَةٍ) كمن يسرد الصوم، أو يوافق يوماً جرت عادته أن يصومه كيوم الاثنين والخميس. وفي كلامه مناقشة؛ لأن قوله: (يُصَامُ نَذْراً) يوهم أن الفروع المتقدمة مختصة بيوم الشك؛ وليس كذلك بل هي عامة فيه وفي غيره. وَفِي صَوْمِهِ تَطَوُّعاً الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ المشهور: الجواز، وقصر النهي على من صامه للاحتياط. [154/ أ] قال في الموطأ: وعلى ذلك أهل العلم ببلدنا. والكراهة لمحمد بن مسلمة، هكذا نقل عنه ابن عطاء الله، ونقل اللخمي عنه أنه قال: إن شاء صامه وإن شاء أفطره. فلعل له قولين، ووجه الكراهة مخافة موافقة أهل البدع.

وَالْمَنْصُوصُ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ احْتِيَاطًا، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ أي: المنقول في المذهب النهي عن صيامه احتياطاً لما صححه الترمذي من حديث عمار ابن ياسر: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ولم يبين المصنف هل النهي فيه على الكراهة أو التحريم؛ وظاهر الحديث التحريم، وهو ظاهر ما نسبه اللخمي لمالك؛ لأنه قال: ومنعه مالك. وفي المدونة: ولا ينبغي صيام يوم الشك. وحملها أبو الحسن على المنع. الجلاب: ويكره صوم يوم الشك. وقال ابن عطاء الله: الكافة مُجْمِعون على كراهة صومه احتياطاً. وَخَرَّجَ اللخميُّ وُجُوبَهُ مِنْ وُجُوبِ الإِمْسَاكِ عَلَى مِنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ، وَمِنَ الْحائِضِ تَتَجَاوَزُ عَادَتَهَا .... هذا مقابل المنصوص: أي خرّج اللخمي وجوب صوم يوم الشك من مسألتين: الأولى: إذا شك في الفجر؛ فقيل: يجب عليه الإمساك، وقيل: يستحب. قال اللخمي: فيؤمر بالإمساك هنا على طريق الوجوب والاستحباب قياساً على الشك في الفجر، والجمع أن كل واحد من الزمانين مشكوك فيه، هل هو جزء الواجب؟ الثنية: الحائض يتجاوز دمها عادتها ولم تبلغ خمسة عشر يوماً. فخرج اللخمي على القول بأنها تحتاط بالصيام وتقضي أن يكون الحكم في يوم الشك كذلك، والجامع الشك في دخول الوقت في المحلين. وَهُوَ غَلَطٌ لِثُبُوتِ النَّهْي أي: أن التخريج المذكور غلط؛ لأن الجامع المذكور في الصورتين إن لم يكن صحيحاً فلا تخريج وإن كان صحيحاً منع من إجزاء الوجوب لثبوت النهي وهو حديث عمار بن ياسر ويكون حينئذٍ قياساً فاسد الاعتبار.

وانظر كيف جزم بالغلط وهو من باب تعارض القياس وخبر الواحد، وقد اختلف أهل الأصول في أيهما يقدم؟ وَلَوْ صَامَهُ احْتِيَاطاً ثُمَّ ثَبَتَ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ وَقَالَ أَشْهَبُ: كَمَنْ صَلَّى شَاكًّا فِي الْوَقْتِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْوَقْتُ .... أي: من صام يوم الشك احتياطاً ثم تبين أنه من رمضان لم يجزه لعدم النية الجازمة، وما نقله المصنف من العمل هو في الموطأ وتشبيه أشهب ظاهر. وَرَدَّهُ اللَّخْمِيُّ بِأَنَّ الصَّوْمَ بِالشَّكِّ مَامُورٌ بِهِ بِخِلافِ شَكِّ الْوَقْتِ أي: ورد اللخمي تشبيه أشهب، قال في التبصرة بعد تشبيه أشهب: وليس السؤالان سواء؛ لأن من شك في وقت الظهر مأمور أن يؤخر حتى لا يشك. ولا يقال له: احتط بتعجيل الصلاة في وقت يشك فيه، ومن شكّ في الفجر أو الهلال مأمور أن يعجل الإمساك. وَقَالَ: هِيَ مِثْلُ مِنْ تَطَهَّرِ أَوْ تَوَضَّأَ شَاكًّا ثُمَّ تَبَيّّنَ لَهُ الْوُجُوبُ، وَفِيهَا قَوْلانِ يعني: أن اللخمي لما رد على أشهب تشبيهه شبّه المسألة بمسألة أخرى مختلف فيها. قال بإثر الكلام السابق: وهو بمنزلة من شك في صلاة هل هي عليه أم لا؟ وشك هل أجنب أم لا؛ فاغتسل ثم تبين له أنه كان جنباً. انتهى. وَالصَّوَابُ مَعَ أَشْهَبَ إنما كان الصواب مع أشهب؛ لأن كلام اللخمي يستلزم أن يكون في الصيام قولاً بالإجزاء، وهو لا يجوز؛ لأن المنهي عنه لا يجزئ عن المأمور به، وكونه منهياً عنه ظاهر، لحديث عمار المتقدم، لكن هذا إنما يتم في يوم الشك لا في الشك في الفجر؛ فانظره. على أن اللخمي لم يصرح بيوم الشك في كلامه، ويمكن حمل قوله: ومن شك في الفجر أو الهلال على هلال شوال. نعم فهم ابن بشير عنه أنه أراد يوم الشك.

وَأَمَّا الأَسِيرُ وَنَحْوُهُ لا يُمْكِنُهُ رُؤْيَةٌ وَلا غَيْرُهَا فَيُكْمِلُ ثَلاثِينِ أي: أن الأسير ونحوه من محبوس وتاجر ببلد العدو، إن لم تمكنه رؤية ولا غيرها أي استخبار من ثقة كمل الشهور ثلاثين؛ أما إن أمكنه ذلك فحكمه حكم المطلق، فيعمل على ما تقدم، وهذا كله لا خلاف فيه، قاله ابن عبد السلام. فَإِنِ الْتَبَسَتِ الشُّهُورُ بَنَى عَلَى الظَّنِّ هذا ظاهر؛ لأنا متعبدون في المشتبهات بما يغلب على الظن، وناقش ابن هارون المصنف بأنه إذا وجب البناء على الظن فلا التباس، وإنما اللبس مع الشك. فَإِنْ فُقِدَ الظَّنُّ فَقَوْلانِ؛ كَمَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ أَوْ نَسِيَ يَوْمَ نَذْرِهِ صَامَ جَمِيعَ الشُّهُورِ، ويتَحَرَّى شَهْرًا ..... أي: فإن لم يجد أمارة تحصل له الظن فقولان، كالقولين فيمن التبست عليه القبلة. هل يصلي إلى أربع جهات أو يتحرى جهة؟ وكالقولين فيمن نذر يوماً معيناً من الجمعة ثم نسيه، هل يصوم جميع أيام الجمع أو يتحري؟ وظاهر كلامه أن القولين منصوصان؛ والذي ذكره ابن بشير: أن المتأخرين خرجوهما من هاتين المسألتين. وعلى ما ذكره ابن بشير، فالفرق ظاهر، لأن صيام جميع الشهور فيه مشقة [154/ب] عظيمة، بل يكاد يكون من باب تكليف ما لا يطاق، بخلاف المسألتين الأخيرتين، فقوله: (صَامَ جَمِيعَ الشُّهُورِ)، هو القول الأ, ل. وقوله: (ويتَحَرَّى) هو القول الثاني، وفيه مناقشة، لأن فرض المسألة أنه فاقد للظن، فكيف يتحرى؟ وإنما مراده يتخير، وأطلق رحمه الله التحري على التخيير لعدم اللبس.

فَإِنْ تَحَرَّى فَأَخْطَأَ بِمَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ بِمَا قَبْلَهُ لَمْ يُجِزْهِ الأَوَّلُ اتِّفَاقاً، وَفِي وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ قَضَاءً عَنِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي قَوْلاَنِ ... أي: وإذا قلنا يتحرى شهراً فاجتهد وصام شهراً، إما مع الظن وإما مع الشك على أحد القولين ثم انكشف له الحال، فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يعلم أنه صادفه؛ قال في البيان: وأما إن علم أنه صادفه بتحريه لم يجزئه على مذهب أشهب وابن القاسم، وأما إن بقي على شكه فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم، ويجزئه على مذهب ابن الماجشون وسحنون وأما إن أخطأ بما بعده فقال المصنف أجزأه. قال في البيان: بالاتفاق. وانظر كيف اتفقوا على الإجزاء إذا صادف شهراً بعده، مع قول ابن رشد: إن على مذهب ابن القاسم لا يجزئه إذا صادفه، وينبغي أن يكون عدم الإجزاء إذا صادف ما بعده أولى. وقد نقل الشيخ أبو محمد في النادر عن ابن القاسم الإجزاء إذا صادفه، وكذلك صدر صاحب الإشراف به ثم قال: وفيه خلاف. وأما إن علم أنه صام قبله كما لو صام شعبان فلا يجزئه في العام الأول اتفاقاً. ونقل في البيان الاتفاق كالمصنف، وعلى هذا فيقضي شهراً للعام الأخير اتفاقاً. واختلف هل يقع شعبان في السنة قضاء عن السنة الأولى؟ وشعبان الثالثة قضاء عن السنة الثانية؟ حكى المصنف وغيره في ذلك قولين، والإجزاء لعبد الملك؛ قال في البيان: والصحيح عدم الإجزاء. ابن راشد: وهو المشهور. ابن أبي زمنين: وهو الصواب عند أهل النظر. فرع: وإن قلنا بالإجزاء إذا وافق شهراً بعده، فالمعتبر عدد رمضان على المشهور كما سيأتي. وعلى هذا فإن وافق شوالاً لم يعتد بيوم العيد ثم إن كانا كاملين أو ناقصين قضى يوماً

واحداً وهو يوم العيد. وإن كان رمضان ناقصاً وشوال كاملاً لم يقض. وإن كان العكس قضى يومين. وكذلك إن صادف ذي الحجة لم يعتد بيوم النحر ولا بأيام التشريق ثم ينظر إلى ما بقي. تنبيه: قال الباجي: وهل تجزئ نية الأداء عن نية القضاء؟، يتخرج في ذلك وجهان على اختلاف أصحابنا في الأسير، إذا التبست عليه الشهور فصام شعبان أعواماً يعتقد أنه رمضان فذكر القولين. فهل يجزيه شعبان السنة الثانية عن رمضان السنة الأولى؟ وفهم عنه سند وابن عطاء الله، أنه قصد تخريج هذين القولين في الصلاة، واعترضا عليه، بأن قالا: لا نعرف في إجزاء نية الأداء عن نية القضاء خلافاً، فإن استيقظ، ولم يعلم بطلوع الشمس فصلى معتقداً أن الوقت باق صحت صلاته، وإن كانت بعد طلوع الشمس وفاقاً. خليل: وفي كل منهما نظر. لأنه لا يلزم من الاتفاق في الصلاة نفي التخريج فيها، ولو كان الخلاف في الصلاة لم يحتج إلى التخريج، ثم قال الباجي: وأما إجزاء نية القضاء عن نية الأداء، فيتخرج في ذلك أيضاً وجهان على اختلاف أصحابنا فيمن صام رمضان قضاء عن رمضان. خليل: وإنما يظهر التخريج على القول بالإجزاء، وأما القول بعدم الإجزاء فلا، لاحتمال أن يكون السبب في عدم إجزاء رمضان عن رمضان كون رمضان آخر لا يقبل غيره. والله أعلم. وَشَرْطُ الصَّوْمِ كُلَّهِ النِّيْةُ مِنَ اللِّيْلِ أي: فرضه، ونفله، مُعَيَّنه ومطلقه، لما رواه البخاري ومسلم من قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت

الصيام من الليل" رواه النسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة؛ ولا يقال: ليس بعمل، فلا يتناوله الأول، لقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه عز وجل: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به". وقول الطحاوي: إن الاستثناء في قوله عليه الصلاة والسلام: "إلا الصوم" منقطع، بعيد. وَلا يُشْتَرَطُ مُقَارَنُتَهَا لِلْفَجْرِ لِلْمَشَقَّةِ هذا ظاهر، ونص القاضي أبو محمد: على أنه يصح أن تكون مقارنتها للفجر، وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف، لأنه إنما نفى ذلك للمشقة، فدل على أن اقترانها بالفجر هو الأصل. وفي البيان: يصح إيقاعها في جميع الليل إلى الفجر. وقيل إيقاعها مع الفجر لا يصح. والأول أصح لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. وَالْمَشْهُورُ الاكْتِفَاءُ بِهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ رَمَضَانَ لِجَمِيعِهِ المشهور كما ذكر المؤلف، وبه قال أحمد بن حنبل. وجماعة. قال في البيان: وحكى ابن عبد البر عن مالك وجوب التبييت كل ليلة وهو شذوذ في المذهب. انتهى. وظاهره أن هذا القول منصوص وذكر [155/ أ] جماعة أن ابن عبد الحكم إنما تأوله من عموم قول مالك: لا صيام لمن لم يبيت الصيام. ولكن إن كان هذا هو النقل الصحيح ففي تأويل ابن عبد الحكم نظر؛ لأن قول مالك يكون كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" وهو لا يدل عند الإمام على وجوب التبييت كل ليلة. والله أعلم. ورأى في المشهور أن الشهر كله كالعبادة الواحدة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]؟ قال سند: ولهذا قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وظاهر الإتمام فعل لما

قد مضى. والشاذ إن ثبت ظاهر في النظر؛ لأن أيام الشهر عبادات متعددة، بدليل أن إفساد يوم لا يوجب إفساد ما مضى وبه قال أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما. فرع: ولا يجوز تقديم النية قبل الليل وهو قول الكافة، لحديث التبييت المتقدم. وما ذكره من الاكتفاء بنية واحدة إنما هو في حق الحاضر وأما المسافر فلا بد له من التبييت كل ليلة، قاله في العتبية؛ والمريض يلحق بالمسافر، وحكى سند قولاً ثانياً في المسافر بالاكتفاء بنية واحدة، وأشار اللخمي إلى أنه مخرج على القول بالاكتفاء بالواحدة في السرد. وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ أي: وكذلك يكتفي في الكفارات. يريد التي يجب تتابعها، كشهري الظهار وقتل النفس. ولو قال: ما يجب تتابعه كما في الجلاب لكان أولى ليعم غير الكفارات كما لو نذر شهراً أو نذر تتابع ما لا يجب تتابعه. وَفِي إِلْحَاقِ السَّرْدَ وَنَذْرِ يَوْمٍ مُعَيَّنِ – ثَالِثُهَا: يَلْحَقُ السَّرْدُ اللخمي: اختلف فيما لا يجب تتابعه كرمضان في السفر، وقضاء من أفطره لمرض أو سفر وما أشبه ذلك، وما لا تصح متابعته كيوم الخميس ويوم الاثنين على ثلاثة أقوال، فذكرها المصنف والقول بالاكتفاء لمالك في المختصر. أما المتتابع، فلأن تتابعه يحصل به الشبه برمضان وأما المتعين فلوجوبه وتكرره وتعين زمانه. والقول بأنه لابد من التجديد فيهما لابن القاسم. قال في البيان: وهو الصحيح، وهو مذهب مالك في المدونة؛ لأن ظاهر قوله فيها في المرأة تحيض في رمضان، ثم تطهر، أن الصيام لا يجزيها إلا أن تجدد النية الأولى في الصيام الثاني ولو لم يراع ما بينهما من الفطر لوجب أن لا يحتاج في أول رمضان إلى نية لتقدم النية

في صيامه قبل دخوله، وهذا لا يقوله أحد غير ابن الماجشون. ويدل على ما اخترناه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" فإنه يقتضي انه لا يصح تقديمها قبل ليلة صومه، فكيف يصح ما روي عن مالك أنه إذا نذر يوماً بعينه أن النية تجزئه قبل ذلك بأيام انتهى بمعناه. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَاشُورَاءَ كَغَيْرِهِ أي: فإنه لا يجزئ إلا بنية من الليل، والشاذ لابن حبيب صحة صومه بنية من النهار؛ لما في أبي داود: أن أسلم أتت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: "صمتم يومكم هذا"؟ قالوا: لا. قال: "فأتموا بقية يومكم واقضوه" أي يوم عاشوراء. عبد الحق: ولا يصح هذا الحديث في القضاء. ثم إن ابن حبيب لم يلحق سائر التطوعات بعاشوراء كما فعل الشافعي، على أنه يحتمل أن يكون هذا الحديث إنما كان في وقت كان عاشوراء فرضاً. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا يَحْتَاجُ الْمُعيَّنُ إِلَى نِيَّةٍ هذا القول راجع إلى ما تقدم من قوله: (وشرط الصوم كله النية من الليل) وما حكاه عن ابن الماجشون ابن عبد السلام، حكاه عنه القاضي وعن ابن المعذل. انتهى. وقوله: (الْمُعَيَّنُ) فيه عموم؛ وفي المقدمات: وقال ابن الماجشون في الواضحة أن أهل البلد إذا عمهم علم رؤية الهلال بالرؤية وبالشهادة عند حاكم الموضع يجزئ من لم يعلم وإن لم يبيت الصيام، وكذلك الغافل والمجنون؛ فكأنه لما رأى تعين صوم اليوم، أجزأه ما تقدم من نيته لصيام رمضان كناذر يوم من أيام الجمعة وعلى هذا لا يحتاج أن يعمهم على الرؤية. انتهى.

ونحوه حكاه الباجي عنه في المبسوط، وأشار في البيان إلى أنه يصح أيضاً على قوله: إذا تخلل رمضان مرض أو سفر من غير تجديد نية. ونقل عبد الحق عنه إذا أصبح في رمضان بعد أوله ينوي الفطر ناسياً أنه لا شيء عليه. ابن حبيب: بخلاف أول يوم. فَإِنَّ اِنْقَطَعَ التَّتَابُعُ بأَمْرٍ- فَالْمَشْهُورُ تَجْدِيدُهَا، وَثَالِثُهَا: يُجَدِّدُ غَيْرُ الْحائِضِ لِقَوْلِهِ فِي الشَّاكَّةِ: تَقْضِي لأَنَّها لا تَدْرِي أَطَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ أَمْ لا؟ فَلَمْ يَذْكُرِ النِّيَّةَ .... أي: إذا فرع على المشهور من عدم اشتراط التبييت في كل ليلة؛ فانقطع التتابع بفطر لمرض أو حيض أو سفر أو نسيان، فهل يلزمه تجديد النية؟ وهو المشهور، وعبر عنه في التنبيهات بالمعروف، أو لا يلزمه؟ أو يفرق بين من انقطع التتابع في حقها بالحيض فلا يلزمها تجديد؟ وبين غيرها فيلزمه؟ ابن رشد: والقول الثاني لم أره معزواً، واستقرأ ابن محرز الثالث من مفهوم الفرع الذي ذكره المصنف، إذ هو يقتضي بحسب مفهوم العلة، أنها لو تيقنت أن الدم انقطع عنها قبل الفجر، لما قضت، مع أنها لم تتقدم لها نية، وفيه ضعف؛ لأنه لا يلزم من السكوت عن النية [155/ب] عدم اشتراطها. وفرق بعض المتأخرين بين الحائض وغيرها بوجهين: أحدهما: أنها معولة في الغالب على وجود الحيض، فكأنها قاصدة في الأول إلى التبييت بعد انقضاء الحيض بخلاف المريض والمسافر. والثاني: أن زمان الحيض لا يصح صومه فأشبه الليل بخلاف المسافر والمريض، ولتعلم أن هذا القول ليس مأخوذاً من هذا الاستقرار فقط، كما يُشَعر به كلامه؛ فقد حكاه القرطبي في المفهم عن مالك، وحكاه في البيان عن ابن القاسم.

واعلم أن هذا الكلام إنما هو إذا طرأ الحيض بعد أن بيتت أول الشهر، وأما من دخل عليها رمضان وهي حائض، فلا يجزئها في أول يوم من طهرها دون تبييت إلا على رأي عبد الملك أن المتعين لا يحتاج إلى نية. وقول المصنف: تجديدها. يؤخذ منه ذلك إذ لا يقال: التجديد إلا بعد تقديمها. وانظر إذا أفطر متعمداً بغير عذر هل يلزمه التجديد اتفاقاً أو يجري فيه الخلاف؟ وعبارة ابن بشير: ولو طرأ في رمضان ما أباح الفطر فهل يفتقر إلى إعادة التبييت؟ في المذهب قولان. وَإِذَا رُفِضَتِ النِّيَّةُ بَعْدَ الانْعِقَادِ - فَالْمَشْهُورُ تَبْطُلُ كَمَا يَبْطُلُ قَبْلَهُ أما رفضها بعد الانعقاد فقد تقدم ذلك في كتاب الصلاة مع نظائره. وقوله (كَمَا يَبْطُلُ قَبْلَهُ) أي كما يبطل الصوم بترك النية قبل الفجر. وظاهر كلامه عزو هذا الفرع من الخلاف وقد صرح بذلك، ونص أشهب فيه على سقط الكفارة في رمضان، وأنه إن أكل بعد ذلك فعليه الكفارة. وَشَرْطُهُ الإِمْسَاكُ – فِي جَمِيعَ زَمانِهِ – عَنْ إِيصَالِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ إِلَى الْحَلْقِ أَوْ الْمَعِدَةِ مِنْ مَنَفَذٍ وَاسِعٍ- كَالْْفَمِ وَالأَنْفِ وَالأُذُنِ – يُمْكِنُ الاحْتِزَازُ مِنْهُ ..... عطف الإيصال إلى المعدة على الواصل إلى الحلق لتدخل الحقنة، فإن المشهور فيها القضاء كما سيأتي. وقال أيضاً: (إِيصَالِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ) ولم يقل: إيصال شيء؛ ليعم الحصى ونحوه لأنه لم يذكر في هذا الفرع مشهوراً، وكأنه قصد إدخال المتفق عليه والذي فيه مشهور وترك غيره لينبه على ما فيه.

وقوله: (يُمْكِنُ الاحْتِزَازُ مِنْهُ) صفة لطعام أو شراب، احترز به من غبار الطريق ونحوه على ما سيأتي، وقد تسامح في إطلاقه الشرط على الركن، إذ لا معنى للصوم إلا الإمساك والشرط خارج عن الماهية وكذلك الشرط الذي بعد هذا. وَإِيلاجِ الْحَشَفَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ هو مخفوض بالعطف على (إِيصَالِ)، ويتنزل منزلة الحشفة قدرها من مقطوعها. وَفِي نَحْوِ التُّرَابِ وَالْحَصَا وَالدَّرَاهِمِ قَوْلانِ يعني: أنه اختلف في الصائم يصل إلى جوفه شيء مما لا يستعمل في الغذاء كالنواة والذلة والفستقة هل يفسد بذلك صومه ويكون كسائر الغذاء يجب القضاء مع السهو، والقضاء والكفارة مع العمد؟ وهو قول ابن الماجشون، أو لا يفسد ولا شيء عليه؟ لأنه لما كان من غير جنس الغذاء ولا سيما الحصى صار وجوده كعدمه بل في وجوده مضرة. ونقله في الجواهر عن بعض المتأخرين. وفرق ابن القاسم في كتاب ابن حبيب فجعل الذرة كالطعام وأوجب في الحصاة واللوزة وما لا غذاء له القضاء في عمده: زاد التلمساني: إذا كان الصيام واجباً. وقال مالك في المختصر: يقضي ولا يكفر. قال الباجي بعد هذا: وروى معن عن مالك: الحصاة خفيفة. سحنون: معناه حصاة تكون بين الأسنان كقوله في فلقة الحبة للضرورة، وأما لو ابتدأ أخذها من الأرض فابتلعها عامداً لزمه القضاء والكفارة. انتهى. وقال ابن القاسم: يكفر في العمد ولا يقضي، وعلى هذا يقال: كل من لزمته الكفارة لزمه القضاء، إلا في هذه المسألة على هذا القول، ونقل عن ابن القاسم أيضاً في النواة يعبث بها فتنزل في حلقه: ولا قضاء عليه في النافلة ويقضي ويكفر في الفريضة، هذا مع أن القاعدة: أن كل ما أوجب الكفارة في الفرض يوجب القضاء في النقل. وقد خالف ابن القاسم في كل هذين القولين قاعدته.

وَفِي وُصُولِ مَا يَنْمَاعُ مِنَ الْعَيْنِ وَالإِحْلِيلِ وَالْحُقْنَةِ – ثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: يَقْضِي فِي الْحُقَنَةِ وَفِي الْعَيْنِ إِنْ وَصَلَ ... ذكر في العين والإحليل والحقنة ثلاثة أقوال: القضاء في الجميع، ونفيه في الجميع، والتفصيل. أما الحقنة ففي الجلاب عدم وجوب القضاء فيها، وأما العين فمذهب أبي مصعب نفي القضاء وإن تحقق. والمشهور مذهب المدونة يجب القضاء في الحقنةوفي العين بشرط الوصول، ولا يجب في الإحليل. خليل: وظاهر كلامه وجوب الخلاف في الإحليل وهو مما انفرد به، ولم يحك غيره فيه إلا نفي القضاء. عياض: والإحليل بكسر الهمزة ثقب الذكر من حيث يخرج البول. واحترز بقوله: (ما ينماع). مما لو احتقن بفتائل. عياض وابن بشير: فلا يختلف في سقوط حكمه، وكذلك الاكتحال بما لا يتحلل ولا يصل. وأما ما يتحلل فهل يوجب الاكتحال به القضاء؟ قولان، وهما خلاف في شهادة. ثم قال: وإذا قلنا بإسقاط القضاء فهل يجوز له ذلك [156/أ] ابتداءً أم لا؟ في المذهب قولان، فمن أجاز شهر بعدم الوصول ومن منع. فلعله راعى الخلاف. وقوله: (إِنْ وَصَلَ) - مع فرضه الوصول – حشوٌ. وقوله: (وَفِي وُصُولِ) يدل على أنه لو تحقق عدم الوصول لم يقض اتفاقاً. فرع: قال في تهذيب الطالب عن السليمانية فينم تبخر بالدواء فوجد طعم الدخان في حلقه، قال: يقضي يوماً بمنزلة من اكتحل أو دهن رأسه فيجد طعم ذلك في حلقه فيقضي. وقال أبو محمد: أخبرني بعض أصحابنا عن ابن لبابة أنه قال: من استنشق بخوراً لم يفطر، وأكره له ذلك.

فائدة: قال ابن حبيب في كتاب له في الطبِّ: كان علي وابن عباس ومجاهد والشعبي والزهري وعطاء والنخعي والحكم بن عيينة وربيعة وابن هرمز يكرهون الحقنة إلا من ضرورة غالبة، وكانوا يقولون: لا تعرفها العرب، وهي من فعل العجم وهي ضرب من عمل قوم لوط، قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك أنه كان يكرهها وذكر أن عمر بن الخطاب كرهها وقال: هي شعبة من عمل قوم لوط. قال عبد الملك: وسمعت ابن الماجشون يكرهها ويقول: كان علماؤنا يكرهونها. قال ابن حبيب: وكان من مضى من السلف وأهل العلم يكرهون التعالج بالحقن إلا من ضرورة غالبة، لا يوجد عن التعالج بها مندوحة انتهى. وسئل مالك في مختصر ابن عبد الحكم عن الحقنة؛ فقال: ليس بها بأس. قال الأبهري: وإنما قال ذلك لأنها ضرب من الدواء، وفيها منفعة للناس، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم التداوي وأذن فيه فقال: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً علمه من علمه وجهله من جهله، فتداووا عباد الله".انتهى. خليل: وظاهره معارضة القول الأول ويمكن تأويله على حالة الاضطرار إليها فيتفق القولان. وَالْجَائِفَةُ كَالْحُقْنَةِ مقتضى كلامه أن المشهور فيها القضاء، وليس كذلك، بل لا نعلم من قال فيها بالقضاء. قال في الرواية: لا قضاء عليه ولا كفارة، لأن ذلك لا يصل إلى موضع الطعام والشراب ولو وصل إليه لمات من ساعته. وَغُبَارُ الطَّرِيقِ، وَنَحْوُ الذُّبَابِ يَدْخُلُ غَلَبَةً مَعْفُوٌّ عنه عفى عن هذه للمشقة، ونقل الباجي عن ابن الماجشون في الذباب القضاء، قال: ولا أعلم أحداً أوجب في الغبار القضاء. ونقل التلمساني فيه الاتفاق أيضاً.

والـ (غَلَبَةً) بالغين المعجمة وفتح اللام والباء الموحدة. وقول ابن عبد السلام: الضمير المجرور بعلى يرجع إلى الحلق، أي يدخل على حلقه يدل على أنه قرأها بالعين المهملة والياء المثناة من أسفل، ولعله تصحيف. بِخِلافِ دَهْنِ الرَّاسِ، وَقَيِلَ إِلا أَنْ يَسْتَطْعِمَهُ تصوره واضح، وهو يقتضي أن المشهور سقوط القضاء ولو استطعمه. وكلام ابن راشد في مذهبه قريب منه. ونسب القول بالقضاء إذا استطعمه للسليمانية، ولم أر ما قدمه المصنف. واقتصر ابن شاس على الثاني. وَفِي غُبَارِ الدَّقِيقِ قَوْلانِ أطلق المصنف الخلاف، وفيه تقييدان أولهما: أن الخلاف إنما هو في صنّاعه نقل ذلك التلمساني وغيره بناء على أن الضرورة الخاصة هل هي كالضرورة العامة أم لا؟ ثانيهما: ظاهر إطلاقه يتناول الواجب والتطوع، والقضاء فيه إنما يعلم لأشهب، وهو إنما قال بالقضاء في الواجب سواء كان في رمضان أو غيره، ولا يقضي في التطوع. نقله عنه الباجي وغيره. قال الشيخ أبو محمد: ينبغي أن لا شيء عليه في غبار كيل القمح، ولابد للناس من هذا. انتهى. والفرق بينه وبين غبار الدقيق، أن غبار الدقيق يغذي، بخلاف غبار القمح، فإنه كغبار الطريق. وَغُبَارُ الْجَبَّاسِينَ دُونَهُ يريد: وهو مع ذلك مختلف فيه، صرح في الجواهر بهذا، وكونه دونه ظاهر. والْمَشْهُورُ أَلا قَضَاءَ فِي فَلْقَةٍ مِنَ الطَّعَامِ بَيْنَ الأسنان تُبْلَعُ المشهور مذهب المدونة. ولفظها: وإن ابتلع فلقة حب بين أسنانه مع ريقه أو دخل حلقه ذباباً أو ذرعه القيء في رمضان فلا شيء عليه، وإطلاق القول بالقضاء لأشهب.

نقله عنه ابن عبد الحكم، ونقل عنه ابن حبيب أنه قال: أحب إلي، وليس بالبين. فظاهره أنه ثالث، وقيد الشيخ أبو محمد قول أشهب بوجوب القضاء بأن يمكنه طرحها، وأما لو ابتلعها غلبة، فلا شيء عليه. وكذلك قال اللخمي: لا يفطر إذا كان مغلوباً، واختلف في غير المغلوب إذا كان ساهياً أو جاهلاً أو عالماً، فقال في كتاب أبي مصعب: إن كان ساهياً فعليه القضاء، وإن كان متعمداً فعليه القضاء والكفارة. وأجراه على حكم الكثير من الطعام. وقال في مختصر ابن عبد الحكم: إن كان جاهلاً فلا شيء عليه قال: وقد أساء. قال ابن حبيب: إن كانت بين أسنانه فال شيء عليه ساهياً أو عامداً أو جاهلاً وإن تناولها من الأرض كانت كسائر الطعام، عليه في السهو القضاء وفي [156/ب] الجهل والعمد القضاء والكفارة. قال: من قبل استخفاف بصومه، لا من قبل أنه غذاء. انتهى. قال ابن حبيب بإثر ما نقله اللخمي عنه: كذلك فسر من لقيته من أصحاب مالك. خليل: ولا ينبغي أن يختلف إذا أخذها من الأرض. وكلام المصنف يدل عليه لقوله: (بَيْنَ الأسنان). فأخرج ما إذا لم تكن بين الأسنان. لكن ظاهر كلام اللخمي أنه ليس تقييداً، بل حكاه على أنه قول ثالث. واستشكل ابن يونس قول بن حبيب وقال: لا معنى للتفرقة بين أن تكون في فمه أو يأخذها من الأرض؛ لأنها لم تكن في فمه إلا برفعها من الأرض فلا يغير الحكم طول إقامتها فيه كما لو كانت لقمة. وَالْمَضْمَضَةُ لِوُضُوءٍ أَوْ عَطَشٍ جَائِزٌ فَإِنْ غَلَبَهُ إِلَى حَلْقِهِ فَالْقَضَاءُ إِلا أَنْ يَتَعَمَّدَ فَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ .... هكذا وقع في كثير من النسخ، (جَائِزٌ). وهو على حذف مضاف، أي وفعل المضمضة.

ويقع في بعضها جائزة، ولا إشكال عليها. وأجاز أهل المذهب المضمضة للعطش مع كراهتهم للصائم ذوق الطعام ومجه. فلعل ذلك لشدة الضرورة للمضمضة. الباجي: ومعنى ما وقع لمالك من إجازة التمضمض وللعطشان أن يزول عنه طعم الماء ويخلص طعم ريقه. قال أشهب: ويباح للصائم مداواة الحفر بالمضمضة في النهار إن خاف الضرر بتأخيره إلى الليل. الباجي: فإن أفطر مغلوباً بأن وصل بغير اختياره فعليه القضاء، وإن تعمد ذلك فعليه القضاء والكفارة، وإن سلم فلا شيء عليه إلا ما قاله ابن حبيب في مداواة الحر: يقضي لأن الدواء يصل إلى حلقه. الباجي: والذي عندي أنه إن سلم فلا شيء عليه، وأطلق في المدونة كراهة مداواة الحفر ويمكن حمله على ما إذا لم يضطر، فيتفق كلامه مع أشهب. وَالسِّواكُ مُبَاحٌ كُلَّ النَّهَارِ بِمَا لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكُرِهَ بِالرَّطْبِ لِمَا يَتَحَلَّلُ، فَإِنْ تَحَلَّلَ وَوَصَلَ إِلَى حَلَقِهِ فَكَالْمَضْمَضَةِ .... نبه رحمه الله على خلاف الشافعي في إجازة ذلك قبل الزوال فقط. ابن عبد السلام: وحكى عن البرقي مثل قول الشافعي. انتهى. والمشهور أظهر لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك". رواه البخاري ومسلم. وليس فيما رواه مالك والترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم:"لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"، دليل على الكراهة؛ لأن الخلوف إنما هو ما يحدث من خلو المعدة وذلك لا يذهبه السواك، وقوله: (وَكُرِهَ بِالرَّطْبِ) قال ابن حبيب: يكره بالرطب للجاهل الذي لا يحسن أن يمج ما يجتمع منه.

الباجي: والذي يقتضيه مذهب مالك وأصحابه أنه يكره للجاهل والعالم لما فيه من التغرير. وقوله: (فَإِنْ تَحَلَّلَ وَوَصَلَ إِلَى حَلَقِهِ فَكَالْمَضْمَضَةِ). أي إن غلبه كنا عليه القضاء، وإن تعمد ذلك كان عليه القضاء والكفارة، وهذا مقتضى التشبيه. قال ابن حبيب: من جهل أن يمج ما اجتمع في فيه من السواك الرطب فلا شيء عليه. الباجي: وفيه نظر؛ لأنه يغير الريق، وما كان بهذه الصفة، ففي عمده الكفارة، وفي التأويل والنسيان القضاء فقط. انتهى. وحُكي عن ابن لبابة أنه إن استاك بالجوز في النهار، لزمه القضاء والكفارة، وإن استاك به ليلاً فأصبح على فيه فعليه القضاء فقط. وَشَرْطُهُ: الإِمْسَاكُ عَنْ إِخْرَاجِ مَنِيٍّ أَوْ قَيْءٍ أما شرطية الإمساك عن إخراج المني فظاهر وأما القيء؛ فلما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذرع الصائم القيء فلا إفطار عليه، وإن استقاء فعليه القضاء". وقال المصنف: (عَنْ إِخْرَاجِ) ولم يقل عن خروج ليسقط بذلك حكم الاحتلام والقيء الغالب فإنهما لا حكم لهما. وَفِي الْمَذْيِ وَالإِنْعَاظِ قَوْلانِ المشهور في المذي وجوب القضاء، وخالف ابن الجلاب فيه وفي الحقنة وفي القيء المستدعي فجعل القضاء في الجميع مستحباً والمشهور في الثلاثة الوجوب، ومنهم من فرَّق في المذي بين أن يكون عن لمس أو قبله أو مباشرة فيجب وبين أن يكون عن نظر فلا يجب؛ وهو قول ابن حبيب.

قال في التنبيهات بعد حكاية هذه الأقوال الثلاثة والمغيرة: لا يرى منه القضاء وإن كان من قبلة، والقول بالقضاء في الإتعاظ رواه ابن القاسم عن مالك في الحمديسية. ابن عبد السلام: وهو الأظهر، وبعدم القضاء رواه ابن وهب عن مالك، قال في التنبيهات: إنما الخلاف عد بعضهم إذا حصل عن ملاعبة أو مباشرة، وأما إن كان عن نظر أو لمس فلا شيء فيه. وأطلق في البيان الخلاف، ولفظه: وإن أنعظ ولم يمذ، ففي ذلك ثلاثة أقوال. فذكر القولين السابقين، قال: والثالث الفرق بين المباشرة وما دونها من قبلة أو لمس، فإن انعظ عن مباشرة فعليه القضاء، وإن أنعظ بما دونها فلا شيء [157/أ] عليه وهو قول ابن القاسم. وَالْمَبَادِئُ كَالْْفِكَرِ وَالنَّظَرِ وَالْقُبَلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلاَعَبَةِ إِنْ عُلِمَتِ السَّلامَةُ – لَمْ تَحْرُمْ، وَإِنْ عُلِمَ نَفْيُهَا حَرُمَتْ، وَإِنَّ شَكَّ فَالظَّاهِرُ التَّحْرِيمُ يعني: أن الحكم يختلف في مبادئ الجماع على أقسام ثلاثة: - فإن كان يعلم من نفسه السلامة من المني والمذي لم يحرم؛ ونفيه لا يقتضي الكراهة ولا الإباحة، وقد كرهوا ذلك في المشهور وجعلوا مراتب الكراهة تتفاوت بالأشدية على نحو ما رتب المصنف بالماذي؛ فأخفها الفكر المستلزم وأشدها الملاعبة، ثم إن ابن القاسم قال: شدد مالك في القبلة في الفرض والتطوع، ورأى ابن حبيب أنه شدد فيها في الفرض وأرخص فيها في التطوع في رواية ابن حبيب، وروي عن مالك التفرقة بين الشيخ والشاب، ولا شك أن من لا يُكرِّه القبلة، لا يُكرِّه ما قبلها، وقد يكرِّه ما بعدها. -وإن كان يعلم من نفسه عدم السلامة من المني والمذي: اللخمي: أو كان يسلم مرة ولا يسلم أخرى حرمت. -وإن شك في السلامة فقولان، الظاهر منهما التحريم احتياطاً للعبادة. وقيل: لا تحرم لأن الإباحة هي الأصل.

تنبيه: ما ذكره المصنف صحيح بالنسبة إلى القبلة والمباشرة والملاعبة، ولم يذكر اللخمي وابن بشير التفصيل الذي ذكره المصنف إلا في هذه الثلاثة، وأما بالنسبة إلى النظر والفكر فليس بحسن؛ أما أولاً: فلأن كلام المصنف في النظر والفكر يغني عما ذكره فيهما، وأما ثانياً: فلأن ابن بشير، نص على أن النظر والفكر إذا لم يستداما لا يحرمان بالاتفاق. وقد يجاب عن الأول بأن المصنف تكلم عن النظر والفكر باعتبارين: الأول: جواز الإقدام عليه، والثاني: فساد الصوم. وعلى الثاني فإن كلام ابن بشير محمول على ما إذا علم من نفسه السلامة وإلا فبعيد أن يقال بالجواز مع كونه يعلم أنه يمني أو يمذي. فَإِنْ فَكَّرَ أَوْ نَظَرَ فَلَمْ يُسْتَدِمْ فَلا قَضَاءَ أنْعَظَ أَوْ أَمْذَى لِلْمَشَقَّةِ تصوره ظاهر، وتقييده هنا بعدم الاستدامة يقتضي أن الخلاف الذي قدمه في المذي والإنعاظ مع الاستدامة. فإن قلت: هل يمكن حمل كلامه الأول على ما إذا حصل عن ملاعبة أو مباشرة، والثاني على ما إذا كان عن نظر؟ ويكون كلامه مبنياً على الطريقة التي ذكرها عياض؛ قيل: لأن المصنف لَّما قيد كلامه هنا بنفي الاستدامة دل ذلك على أنه لو استدام لكان الحكم على خلاف ذلك. وتلك الطريقة ليس فيها تفصيل. ابن راشد: وما ذكره المصنف من أنه أمذى من غير استدامة لا قضاء عليه مخالف للمدونة. قال فيها: وإن نظر إليها في رمضان وتابع النظر حتى أنزل فعليه القضاء والكفارة، وإن لم يتابع النظر فأمذى أو أمنى فليقض فقط. ونحوه في العتبية، نعم يوافق ما ذكره المصنف ما ف مختصر الواضحة: من نظر إلى زوجته أو أمته وأدام ذلك حتى أمذى فعليه القضاء،

وإن أمنى فعليه القضاء والكفارة. قال: ولو أنه نظر إليها على غير تعمد ثم صرف بصره عنها، فغلبته اللذة حتى أمذى فلا قضاء عليه. ولو أنه غلبه المني كان عليه القضاء، فلا كفارة إلا أن يديم نظره إليها كما فسرت لك. قال فضل: وكان ابن القاسم وابن وهب يرويان عن مالك في الذي نظر إلى أهله في رمضان على غير تعمد فيمذي أنه عليه القضاء. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن تذكر امرأته في رمضان فأمذى، فقال: إن لم يتبع نفسه ذكرها فأراه خفيفاً. قال فضل: كأنه لا يرى عليه قضاء، وهذا خلاف ما روي عنه في النظر. انتهى. فَإِنْ أَمْنَى اِبْتِدَاءً قَضَى إِلا أَنْ يُكْثِرَ أي: فإن أمنى مع أول الفكر أو أول النظر من غير استدامة فعليه القضاء، بلا كفارة إلا أن يكثر ذلك فيسقط القضاء أيضاً للمشقة، وهذا مذهب المدونة. قال ابن القابسي: إذا نظر نظرة واحدة متعمداً فأنزل كفَّر. واختلف في قوله هل هو موافق لما في المدونة أو يحمل ما في المدونة على ما إذا لم يتعمد النظر؟ وإليه ذهب صاحب النكت، وقال ابن يونس: يظهر لي أنه خلاف. الباجي: وقول القابسي هو الصحيح. فَإِنِ اِسْتَدَامَ قَضَى وَكَفَّرَ إِلا أَنْ يَكُونَ بِخِلافِ عَادَتِهِ فَفِي التَّفْكِيرِ قَوْلانِ أي: فإن استدام النظر أو الفكر حتى أمنى فعليه القضاء والكفارة إذا كانت تلك عادته، لأنه حينئذ مختار أي في استجلاب المني. وأما إن كانت عادته بخلاف ذلك فقال اللخمي وابن عبد السلام: الأظهر السقوط لانتفاء الانتهاك في حقه الموجب للكفارة. وحكى في البيان فيما إذا نظر أو تفكر قاصداً اللذة أو لمس أو قبل أو باشر فأنزل ثلاثة أقوال:

الأول: أن عليه القضاء والكفارة وهو قول مالك في المدونة في القبلة والمباشرة، والنظر والتفكر [157/ب] محمولان على ذلك. الثاني: أن عليه القضاء دون الكفارة، وهو قول أشهب وهو أصح الأقوال؛ لأن الكفارة إنما تجب مع قصد الانتهاك، وهذا لم يقصد إليه ولم يفعل إلا ما يسوغ له فغلبه الإنزال. الثالث: الفرق بين اللمس والقبلة والمباشرة، وبني النظر والتذكر فإن لمس أو قبل أو باشر فأنزل فالقضاء والكفارة وإن لم يتابع ذلك، وإن نظر أو تذكر فأنزل فعليه القضاء ولا كفارة عليه إلا أن يتابع ذلك حتى ينزل. وهذا القول هو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. انتهى. وَالْقُبْلَةُ مُطْلَقاً وَلَوْ واحِدَةً كَالْْفِكْرِ الْمُسْتَدَامِ قوله: (مُطْلَقاً) أي سواء كانت في الفم أو غيره في الزوجة أو الأمة، كان من عادته الإنعاظ أم لا، قصد الالتذاذ أم لا، ولا يريد بالإطلاق ما إذا كانت القبلة لوداع أو نحوه؛ فإن ذلك لا أثر له. وقوله: (كَالْفِكْرِ الْمُسْتَدَامِ) يعني إن لم ينشأ عنه مذي ولا إنعاظ فلا شيء عليه وإن أنعظ فقولان، وإن أمذى فعليه القضاء. ويدخل في قوله: (كَالْفِكْرِ الْمُسْتَدَامِ). إذا أمنى فيلزمه القضاء والكفارة، وقد صرح ابن بشير فقال: إن قبل والتذ بقبلته فلا شيء عليه إذ لا حكم للذة بانفرادها، وإن أنعظ فالقولان، وهما خلاف في حال هل ينكسر الإنعاظ من غير مذي؟ وإن أمذى أمر بالقضاء، وهل يجب؟ قولان، وإن أمنى وجب القضاء. وهل تجب الكفارة؟ أما إن استدام فهي واجبة لأنه قاصد لفعل يوجد معه المني غالباً. وإن لم يستدم فقولان. انتهى. والقول بعدم الكفارة مع عدم الاستدامة لأشهب، وبالكفارة لابن القاسم في المدونة وهما فبما إذا قبل أو باشر أو لامس مرة واحدة، وفي العتبية عن ابن القاسم والواضحة

عن مالك: لا شيء عليه في التقبيل وإن انتشر وأنعظ ما لم يمذ؟ فإن أمذى مضى على صيامه وقضاه؛ زاد في الواضحة: وإن أمنى قضى وكفَّر. وذكر ابن يونس أن ابن القاسم روى عن مالك في التعبية في القبلة أنه يقضي إذا أنعظ وإن لم يمذ وأنكره سحنون، وظاهر هذه الرواية وجوب القضاء، وقد قررها ابن رشد على ذلك، ونقل ابن عبد السلام هذه الرواية بالاستحباب ليس بظاهر. وَالْمُلاَعِبَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ مِثْلُهَا إِلا أَنَّ فِي الْمَنِىِّ الْكَفَّارَةَ من بِغَيْرِ تَفْصِيلَ خِلاَفاً لأَشْهَبَ كَالْْمَنِىِّ بِمُجَامَعَةِ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ .... أي: أن الملاعبة والمباشرة مثل القبلة، فإن أنعظ أو أمذى فقولان، إلا أن في المني الناشئ عنهما تجب فيه الكفارة من غير التفات إلى عادة المباشر خلافاً لأشهب فإنه فصل في ذلك. وقد نقل الباجي قول أشهب ولفظه: فإن قبل واحدة أو باشر أو لامس مرة واحدة فأنزل، فقال أشهب: لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم: عليه الكفارة في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه. انتهى. وقوله: (كَالْْمَنِىِّ بِمُجَامَعَةِ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ) هو تشبيه بالمشهور فقط، وقول ابن راشد أنه استدلال على قول أشهب لس بظاهر. وَمَاءُ الْمَرْأَةِ كَمَنِيِّ الرَّجُلِ أي في جميع ما تقدم. وَالْقَيْءُ الضَّرُورِيُّ كَالْْعَدَمِ، وَفِي الْخَارِجَ مِنْهُ مِنْ الْحَلْقِ يُسْتَرَدُّ قَوْلانِ كَالْبَلْغَمِ للحديث المتقدم، قال بعض الأصحاب: ولا فرق بين أني كون من علة أو من امتلاء، ولا بين أن يتغير أو يكون على هيئة الطعام.

وقوله: (وَفِي الْخَارِجِ مِنْهُ) أي القيء الضروري، فـ (مِن) الأولى للبيان والثانية لابتداء الغاية، أي أن ما جاوز الحلق فلا شيء فيه وإن رجع لكونه لا يمكنه طرحه. ابن حبيب: وما رجع من القيء إلى الجوف أو من اللهوات إلى الحلق قبل أن يستيقن وصوله إلى الفم فلا قضاء فيه. وقوله: (قَوْلانِ) قال اللخمي: اختلف فيمن ذرعه القيء إذا رجع إلى حلقه بعد انفصاله مغلوباً أو غير مغلوب وهو ناس. فروى ابن أبي أويس عن مالك في المبسوط: عليه القضاء إذا رجع شيء وإن لم يزدرده، وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا شيء عليه إذا كان ناسياً. وهذا اختلاف قول، فعلى قوله في المغلوب أنه يقضي يكون الناسي أولى بالقضاء، وعلى قوله في الناسي: لا شيء عليه، يسقط القضاء عن المغلوب. والصواب أن ينظر، فإن خرج إلى لسانه بحيث يقدر على طرحه ثم ابتلعه بعد ذلك فعليه القضاء، وإن لم يبلغ موضعاً يقدر على طرحه فلا شيء عليه. انتهى. ومقتضى كلامه أن العمد مبطل اتفاقاً. وقوله: (كَالْبَلْغَمِ) أي أن في البلغم إذا خرج من الحلق ثم رد قولين. والقول بأنه لا شيء فيه ولو وصل إلى طرف اللسان لابن حبيب، قال: وقد أساء. وهو بخلاف القلس لأنه طعام وشراب. وفي جهله وعمده القضاء. والكفارة في البلغم لسحنون، قال: إذا خرج من صدر الصائم أو من رأسه فصار إلى طرف لسانه وأمكنه طرحه فابتلعه ساهياً فعليه القضاء. والشك في [158/أ] الكفارة في عمده، وقال: أرأيت لو أخذها من الأرض متعمداً ألا يكفر؟ وفي المدونة عن مالك لا قضاء عليه في رمضان إذا ازدرد القلس بعد وصوله إلى فيه.

قال ابن القاسم: ثم رجع مالك فقال: إن خرج إلى موضع لو شاء طرحه ثم رده فعليه القضاء. واقتصر عليه في الجلاب. وَأَمَّا الْمُسْتَدْعَى فَالْمَشْهُورُ الْقَضَاءُ مقابل المشهور لابن الجلاب جعلُ القضاء فيه مستحب وقال: لأنه لو كان مفسداً للصوم لاستوى مختاره وغالبه كالأكل والشرب إذا قصده أو أكره عليه، والحديث المتقدم حجة للمشهور. وفي المسألة قول ثالث بسقوط القضاء في النفل ووجوبه في الفرض، وإنما فرق بين المستدعي وغيره؛ لأن المعدة تجتذب ما يخرج منها بالاستدعاء بخلاف غيره. فإِنِ اسْتُدْعِيَ لِغَيْرِ عُذْرٍ – فَفِي الْكَفَّارَة قَوْلانِ المشهور السقوط، والوجوب لابن الماجشون وسحنون، ولعل منشأ الخلاف هل استدعاء القيء انتهاك أم لا؟ فإن كان أول القيء ضرورياً وبقيت منه بقية أوجبت عليه غثياناً فاستقاء فنص مالك في المجموعة على وجوب القضاء وإليه أشار بقوله: لغير عذر. فإن مفهومه أنه وإن استقاء لضرورة لا تجب عليه الكفارة اتفاقاً. وَتُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلْتَغْرِيرِ، وَذَوْقُ الْمِلْحِ وَالطَّعَامِ وَالْعَلَكِ ثُمَّ يَمُجُّهُ لما روى: "أكتتم تكرهون الحجامة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا، إلا خيفة التغرير – أو كما قال– وهل هي مكروهة في حق الضعيف والقوي، وهي رواية ابن نافع ع مالك، ورواية عيسى عن ابن القاسم؟ التلمساني: وفي الموطأ: لا تكره إلا خيفة أن يضعف، ولولا ذلك لم تكره، وعلى هذا فلا تكره للقوي، وهو الصحيح. انتهى.

الباجي: وإن احتجم أحد على تغرير فسلم ثم احتاج إلى الفطر فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يتعمد الفطر. والكراهة أيضاً في ذوق الملح وما عطف عليه أيضاً للتغرير. وَزَمانُهُ مِنَ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ لا الْمُسْتَطِيلِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ هذا ظاهر. فَمِنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ نَاظِراً دَلِيلَهُ – فَثَلاثَةٌ: التَّحْرِيمُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالإِبَاحَةُ قال في المدونة: كان مالك يكره للرجل أن يأكل إذا شك في الفجر. وحمل اللخمي الكراهة على بابها. وحملها أبو عمران على التحريم، وهو مقتضى فهم البرادعي؛ لأنه اختصرها على النهي فقال: ومن شك في الفجر فلا يأكل. ونحوه في الرسالة والجواز لابن حبيب. قال: والقياس الجواز. واستحب الكفّ. ولا يؤخذ استحباب الكف من كلام المصنف. ابن عطاء الله: وهذه المسألة كمسألة من تيقن الطهارة وشك في الحدث، وعليها خرجها اللخمي. واختار اللخمي التحريم مع الغيم والإباحة مع عدمه. فَإِنْ أَكَلَ فَعَلِمَ بِطُلُوعِهِ فَالْقَضَاءُ مُطْلَقاً يعني: بالإطلاق سواء كان حين الأكل معتقداً أنه لم يطلع أو شاكاً. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ أي: إذا أكل وهو شاك، وبقي على شكه فعلى ما تقدم، أي فعلى تحريم الأكل يجب القضاء، وعلى الكراهة يتسحب، وعلى الإباحة لا يجب ولا يستحب. وَلَوْ طَرَأَ الشَّكُّ فَالْمَشْهُورَ الْقَضَاءُ وهذا كما قال في المدونة: ومن أكل في رمضان ثم شك أن يكون أكل قبل الفجر أو بعده فعليه القضاء.

ابن يونس: إذ لا يرتفع فرض بغير يقين، وهذا مما يرجح أن يكون المذهب وجوب الإمساك والقضاء في الأول؛ لأنه إذا كان يقضي إذا طرأ الشك مع كونه أكل معتقداً أن الفجر لم يطلع فلا يجب فيما إذا أكل شاكاً من بابٍ أولى. ولهذا يقع في بعض النسخ: فالمشهور القضاء (أيضاً) فإن زيادة أيضاً تقتضي أن المشهور في الفرع السابق وجوب القضاء. فَإِنَّ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ آكِلٌ أَوْ شَارِبٌ أَلْقَى وَلا قَضَاءَ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَقَدْ خُرِّجَ الْقَضَاءُ عَلَى إِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِيهِ قَوْلانِ ... أي: فإن كان الآكل يعتقد بقاء الليل، أو شك فطلع الفجر عليه والطعام في فيه فإنه يلقيه ولا قضاء على المنصوص. ومقابل المنصوص مخرج على القول بوجوب إمساك جزء من الليل، وفيه قولان كما ذكر المصنف. وأشار ابن بشير إلى ضعف هذا التخريج لاحتمال أن يكون هذا القائل يرى وجوبه لغيره أي للاحتياط، فلم يقم الدليل إلا على وجوبه لا على سائر أحكام ذلك الواجب، وإلا لزمت فيه الكفارة. وَإِنْ طَلَعَ وَهُوَ يُجَامِعُ نَزَعَ وَلا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي الْقَضَاءِ قَوْلانِ أما وجوب النزع فبين، ولو تمادى وجب القضاء والكفارة إجماعاً. قاله ابن عطاء الله. وهل تلزمه أيضاً إذا نزع الكفارة؟ ذكر المصنف تبعاً لابن بشير وغيره أن المشهور سقوطها. والقول بوجوبها لابن القصار، هكذا قيل. خليل: وقول ابن القصار على ما نقله عبد الحق وابن يونس ليس صريحاً في المخالفة لأنهما قالا: وقال ابن القصار: إذا طلع عليه الفجر وهو يولج فلبث قليلاً متعمداً ثم أخرجه أن الكفارة تلزمه مع القضاء.

ابن عطاء الله: وكذلك لو ابتدأ الإيلاج [158/ب] حال طلوع الفجر، الخلاف فيه واحد، فمن لم يوجب الكفارة قال: لم يطرأ الجماع على صوم ليفسده، إذ لم يدخل في الصوم قبله وإنما منع انعقاد الصوم. انتهى. ومنشأ الخلاف، هل النزع وطء أم لا؟ وإذا فرع على إسقاط الكفارة، فأسقط ابن القاسم القضاء أيضاً وأوجبه ابن الماجشون. فَإِنْ شَكَّ فِي الْغُرُوبِ حَرُمَ الأَكْلُ اتِّفَاقاً لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]؛ ولأن الأصل الاستصحاب. فَإِنْ أَكَلَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ فَالْقَضَاءُ أي: فإن أكل مع شكه في الغروب وبقى على شكه فالقضاء واجب؛ لأن الأكل كان محرماً عليه. فرع: قال في المدونة: ومن ظن أن الشمس قد غربت فأكل في رمضان ثم طلعت فليقض. قال في التنبيهات: والظن هنا بمعنى اليقين ولو كان على الشك لكفّر على ما ذكره أبو عبيد في مختصره، ولم يكفّر على ما ذكره الشك لكفر على ما ذكره أبو عبيد في مختصره. ولم يكفر على ما ذكره البغداديون كما لو أكل في الفجر شاكاً فلا كفارة عليه باتفاق. واختلف المشايخ في ترجيح القولين فمنهم من رجح مذهب البغداديين، وقد يستظهر هؤلاء بظاهر لفظه في المدونة، وإن كانت درجة الظن أرفع من درجة الشك، ويأتي بمعنى اليقين لكن تأوله بعضهم بمعنى الشك، ومنهم من رجح قول أبي عبيد، وفرق بين الوقتين؛ لأن أول النهار الأكل مباح فلا يحرم عليه إلا بيقين، ولا يصح حكم الانتهاك إلا بتيقن

تحريمه عليه. وآخر النهار إنما هو في حكم الصوم والفطر عليه حرام إلا بتيقن انتهاء النهار فهو منتهك إن لم يتيقن انقضاء النهار. وأراد بعض الشيوخ أن يجمع بني القولين، فقال: لعل البغداديين أرادوا بالشك هنا غلبة الظن فيستوي الفطر في الوقتين، وهذا يبعد؛ لأن الشك شيء وغلبة الظن شيء آخر غيره، وأحكامها مختلفة كأسمائهما وحدودهما. انتهى. وقال الشيخ أبو إبراهيم: من الناس من حمل ما في المدونة على المساواة بين الطلوع والغروب في إسقاط الكفارة. وإليه ذهب القاضي وابن القصار وغيرهما؛ لأنه غير منتهك لحرمة الشهر. ابن يونس: وهو الصواب انتهى. وانظر قول القاضي: اُتفق على سقوط الكفارة إذا شك في الفجر مع قول ابن عبد السلام: الأصح سقوطها. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ نَاظِرٍ فَلَهُ الاقْتِدَاءُ بِالْمُسْتَدِلِّ وَإِلا أَخَذَ بِالأَحْوَطِ هذا قسيم قوله: (ناظراً دليله). وحاصله أن الشك قسمان: ناظر وغير ناظر، فالناظر تقدم، وغير الناظر له الاقتداء. ابن عبد السلام: وظاهره ولو كان قادراً على الاستدلال خلاف ما قالوه في القبلة. ابن حبيب: ويجوز تقليد المؤذن العارف العدل، ويمكن أن يتأول كلامهم على أن من لا علم عنده، ولا فيه أهلية الاستدلال يجوز له أن يقتدي بمن فيه الأهلية. انتهى. ابن وهب عن مالك: فإن قال له واحد: تسحرت بعد الفجر، وقال آخر: قبله، فأرى أن يقضي. وقوله: (وَإِلا) أي: وإن لم تكن فيه أهلية ولم يجد من يقلده (أَخَذَ بالأَحْوَطِ) أي: فيترك الأكل.

وَيَجِبُ قَضَاءُ رَمَضانَ، وَالْوَاجِبُ بِالْفِطْرِ عَمْداً - وَاجِباً، وَمُبَاحاً، وَحَرَاماً، أَوْ نِسْيَانَاً، أَوْ غَلَطاً فِي التَّقْدِيرِ فَيَجِبُ عَلَى الْحائِضِ وَالْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِمَا .... عطفه الواجب على رمضان من عطف العام على الخاص. وقوله: (وَاجِباً، وَمُبَاحاً، وَحَرَاماً) تقسيم لقوله: (عَمْداً) أي: أن الفطر عمداً تارة يكون واجباً كفطر المريض والخاشي الهلاك والحائض، وتارة يكون مباحاً كالفطر في السفر، وقد يكون مندوباً كمن ظن من نفسه وهو مجاهد للعدو إن أفطر تحدث له قوة. وأضرب عن هذا القسم استغناءً بذكر الواجب والمباح. وقد يكون الفطر حراماً وهو واضح. وقوله: (أَوْ نِسْيَاناً، أَوْ غَلَطاً) قسيمان لقوله: (عَمْداً) والغلط في التقدير هو ما تقدم في لوع الفجر وغروب الشمس، أو غلط في الحساب أول الشهر أو آخره. وأُورد على المصنف أن ذكره الواجب ليس بجيد؛ لأن النذر المعين لا يقضي بالفطر الواجب عمداً كامرأة نذرت صوم شهر بعينه فحاضت فيه أو مرضت فإنها لا تقضي على المشهور. وَلَوْ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّهُ قَضَاهُ، فَلْيُتِمَّ – أَشْهَبُ: إِنْ قَطَعَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ أي: إذا ظن أن عليه يوماً فأصبح صائماً ليقضيه ثم تبين له أنه كان قضاه، فقال ابن القاسم يجب عليه إتمامه. ابن شلبون وابن أبي زيد: يريد: فإن أفطر فعليه قضاؤه، ويؤخذ الوجوب من كلام المصنف من وجهين: من الأمر، ومن مقابلته بقول أِهب: لا شيء عليه إن قطع. واعترض عبد الحق على حمل ابن شلبون وأبي محمد فقال: يظهر لي أن ما قالاه لا يصح على قول املك. وقد رأيت في المجموعة من رواية ابن نافع عن مالك فيمن جعل على نفسه صيام يوم الخميس فصام يوم الأربعاء يظنه الخميس، فقال: أحب إليّ أن يتم صومه، ثم يصوم يوم

الخميس، وإن أفطر يوم الأربعاء فأراه من ذلك في سعة. وهذا من قول مالك يشهد لقول أِهب؛ لأن ذلك اليوم إنما التزمه على الظن أنه عليه ولم [159/أ] يقصد صومه لنفسه، وإنما يستحب له أن يتمادى، فأما كونه أن يقضيه إن أفطر فبعيد. انتهى. وشبه أشهب ذلك بمن ذكر العصر فصلى منها ركعة ثم ذكر أنه صلاها فليشفعها بأخرى. وليس كمن قصد التنفل بعد العصر، وإن قطع فلا شيء عليه، وأُجيب بوجهين: أحدهما: لعل ابن القاسم لا يسلم الحكم في الفرع المشبه به. ثانيهما: أنه في الصوم لم يعتبر فعله؛ وإنما المعتبر عقده بخلاف الصلاة، فإن المعتبر فيها العقد والفعل، وفيه نظر. خليل: وأحسن من هذا أن يقال: لو أبطل الصوم لزمه إبطال العمل بالكلية، بخلاف الصلاة فإن إذا خرج عن نافلة لا يبطل العمل بالكلية. ولعلهم إنما قالوا: إذا قطع فلا شيء عليه لكونه لا يتنفل بعد العصر. وَفِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ بِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ نِسْيَانٍ- ثَالِثُهَا: يَقْضِي فِي النِّسْيَانِ، وَرَابِعُهَا: يَقْضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْيَوْمِ فَضِيلَةٌ، وَالْمَشْهُورُ لا يَقْضِي. أي: وفي قضاء (الْوَاجِبِ الْمُعَيِّنِ)، يريد: غير رمضان إذا كان الفطر لعذر كمرض أو نسيان أو حيض أربعة أقوال: الأول لمالك في المبسوط: وجوب القضاء إذا مرض، وقيس عليه الناسي. الثاني: سقوط القضاء، لأن الملتزم شيء معين وقد فات، وهو المشهور. الثالث لابن القاسم، يقضي في النسيان دون ما عداه؛ لأنه في النسيان كالمفطر. الرابع لابن الماجشون الفرق بين الأيام التي يقصد فضلها كعرفة وعاشوراء فلا يجب؛ لأن المراد عينها، وبين غيرها فيجب، أما لو أفطر لسفر لوجب عليه القضاء اتفاقاً، نقله ابن هارون.

وَيَجِبُ فِي النَّفْلِ بِالْعَمْدِ الْحرَامِ خَاصَّةً تقدمت نظائر هذه المسألة في الصلاة. فرع: ومن الواضحة قال ابن حبيب: لا ينبغي للصائم أن يفطر لعزيمة أو غيرها. وقد سئل عن ذلك ابن عمر فقال: ذلك الذي يلعب بصيامه. وسئل عن ذلك مالك فشدد القول فيه، ولقد قال لي مطرّف في الصائم في غير رمضان يحل بالرجل في منزله فيعزم عليه أن يفطر عنده، قال: لا يقبل ذلك، وليعزم على نفسه ألا يفعل، وإن حلف عليه بالطلاق أو بالمشيء أو بعتق رقبة حنثه ولم يفطر، إلا أن يكون لذلك وجه. وكذلك لو حلف عليه بالله حنثه ولم يفطر وكفّر الحانث عن يمينه؛ لأن الصائم نفسه لو حلف بالله أن يفطر لرأيت ان لا يفطر وأن يكفر، إلا الوالد والوالدة فإني أحب له أن يطيعهما وإن لم يحلفا عليه، إذا كان ذلك على وجه الرأفة منها عليه لإدامة الصوم وما أشبه ذلك. وقال لي مطرف: وسمعت مالكاً يقوله فيمن يكثر الصوم أو يسرده وأمرته أمه بالفطر. قال مالك: وقد أخبرت عن رجال من أهل العلم أمرتهم أمهاتهم بالفطر ففعلوا ذلك وافطروا. انتهى. ابن غلاب: وحرمة شيخه كحرمة الوالدين لعقده على نفسه ألا يخالفه، وأن لا يفعل شيئاً إلا بأمره، فصارت طاعته فرضاً، لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] انتهى. فإن قيل: لما لم تجيزوا للمتطوع الفطر ابتداءً؟ وما جوابكم عن حديث أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بشراب ثم ناولها فشربت فقالت يا رسول الله: أما إني كنت صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصائم المتطوع أمين على نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر".

قيل: إنما لم يجز له ذلك لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1ٍ] ولقوله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ولما في الموطأ وغيره، أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدى لهما طعام فأفطرتا عليه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة يا رسول الله: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه. فقال: "اقضيا مكانه يوماً آخر". ولو كان الفطر جائزاً لم يلزمهما القضاء؛ ولأن العمل على ما قلناه، ألا ترى أن قول ابن عمر: ذلك الذي يلعب بصيامه؟ وأما الجواب عن الحديث فقد قال الترمذي: إن في سنده مقالاً. ولو صح فهو مرجوح بما ذكرناه. وَفِي قَضَاءِ الْقَضَاءِ مَعَهُ قَوْلانِ أي: أي من لزمه قضاء يوم فأفطر في القضاء فهل يجب عليه قضاء يومين؟ لأنه أفسدهما؛ ولأنه لما دخل في القضاء وجب عليه إتمامه، ألا ترى أنه لو تبين ألا قضاء عليه لزمه التمادي عند ابن القاسم كما تقدم؟ أو إنما يجب عليه قضاء اليوم الأول لأنه الواجب في الأصل والقضاء ليس مقصوداً لذاته؟ وظاهر كلام المصنف أن هذا الفرع مخصوص بالتطوع؛ لأن ما قبله وما بعده إنما هو فيه، لكن القولين جاريين في الفرض والنفل نقلهما صاحب تهذيب الطالب وابن يونس. والعجب من قول ابن عبد السلام بعد كلام ابن يونس: وفيه نظر؛ لأن ما نقله في هذه المسألة إنما هو في النوادر، وليس فيها إلا الخلاف في النفل؛ لأن حاصله توهيم ابن يونس وليس بجيد، فإنه الثابت عند جماعة من الشيوخ، وقد عزا [159/ب] القولين ووجههما وقد حكاهما في البيان. وصاحب النوادر وإن لم يذكر في كتاب الصوم القولين في قضاء قضاء الواجب، فقد ذكرهما في كتاب الحج الثاني.

وقد عين المصنف المشهور في هذه المسألة في كتاب الحج فقال: المشهور ألا قضاء في قضاء رمضان. وَلَوْ أَكَلَ نَاسِياً حَرُمَ عَلَيْهِ الأَكْلُ ثَانِياً، وَفِي الْعَمْدَ قَوْلانِ أي: أن المتطوع إذا أفطر ناسياً لم يفسد صومه فذلك يحرم عليه الفطر، وأما إن أفطر في تطوعه عامداً فاختلف هل يجوز له التمادي؛ لأن الصوم قد فسد؟ ولا حرمة للزمان كرمضان. أو يمنع معاملةٌ له بنقيض مقصوده؟ فرع: وكالنسيان في سقوط القضاء المرض والإكراه وشدة الجوع والعطش والحر الذي يخاف منه تجدد مرض أو زيادته. وفي السفر روايتان: أحدهما، أنه عذر يسقط القضاء، رواها ابن حبيب. والثانية مذهب المدونة أنه ليس بعذر، ومن أفطر فالقضاء، ولذلك أوجب فيها القضاء على من تطوع بالصوم في السفر ثم أفطر، وفي الجلاب رواية أخرى بسقوطه. والله أعلم. وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ رَمَضَانَ عَلَى الْفَوْرِ اتِّفَاقاً، فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى رَمَضَانَ ثَانٍ مِنْ غَيْرِ عُذُرِ فَالْفِدْيَةُ اتِّفَاقاً ....... لا خلاف في عدم الوجوب قاله ابن عبد السلام، لكن المستحب التقديم، قاله أشهب. واختلف في المؤكد من نافلة الصيام كعاشوراء، هل المستحب أن يقضي فيه رمضان ويكره أن يصومه تطوعاً؟ وهو قوله في العتبية، أو المستحب أن يصومه تطوعاً؟ وهو قوله في سماع ابن وهب، أو هو مخير؟ ثلاثة أقوال، حكاها في البيان. أما ما دون ذلك من تطوع الصيام فالمنصوص كراهة فعله قبل القضاء. ابن عطاء الله: والفرق بين قضاء رمضان وبين الصلاة المؤقتة؛ فإنه لا يكره له قبل الفريضة إذا كان وقتها متسعاً. ويكره أن يتطوع بالحج قبل الفريضة، وبالصيام قبل القضاء؛ أن

الحج على الفور. وأن القضاء قد ترتب في الذمة، والصلاة لا قائل بأنها على الفور ولم تترتب في الذمة بعد. ألا ترى أنه لو مات قبل أن يصلي لا يعصي. واستحب مالك في المدونة تتابع القضاء، وبقية كلامه ظاهر. فَلَوْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ عِنْدَ تَعْيِينِ الْقَضَاءِ فَفِي الْفِدْيَةِ قَوْلانِ أي: لو لم يبق لمرضان. إلا قدر ما عليه فمرض أو سافر حينئذ وهو مراده بقوله: (تَعْيِينِ الْقَضَاءِ). والقولان مبنيان على أنه هل يعد هذا تفريطاً أم لا؟ قال في التنبيهات: واختلف في صفة المفرط الذي تلزمه الفدية على مذهب الكتاب، فذهب أكثر الشارحين إلى أنه إنما تلزمه إذا أمكنه ذلك في شعبان قبل دخول رمضان، فلم يفعله، فمتى سافر فيه أو مرضه أو بعضه فلا تلزمه فدية فيما سافر فيه أو مرضه، ولو كان فيما قبل من الشهور صحيحاً مقيماً، وهو مذهب البغداديين وأكثر القرويين في تأويل الكتاب. وهو معنى ما قال مالك في المبسوط. وهذب بعضهم إلى مراعاة ذلك في شهر شوال بعد رمضان الذي أفطره، فمتى مضت عليه أيام عدد ما أفطر وهو صحيح مقيم ولم يصم حتى دخل عليه رمضان آخر وجبت عليه الفدية، ولو كان في بقية العام لا يقدر على الصوم. وهذا المذهب أسعد بظاهر الكتاب لقوله في المسألة: إذا صحَّ شهراً [أو أقام في أهله شهراً] أو أوصى أن يطعم عنه أن ذلك في ثلثه مبدأ، ولا يبدأ إلا الواجبات، وبدأه على نذر المساكين، ونذر المساكين واجب، فجعله أوجب منه، فلولا أنه يجب بخروج شوال لكان قد أوصى بما لا يجب عليه وكان كسائر الوصايا التي لا تبدأ. انتهى. وعلى هذا فكان الأولى أن يقول: فلو مرض أو سافر بعد مضي أيام يمكنه فيها القضاء، والله أعلم.

وَفِيهَا: وَلَوْ تَمَادَى بِهِ الْمَرَضُ أَوِ السَّفْرُ فَلا إِطْعَامَ هذا ظاهر لا خلاف فيه، وهو قسيم قوله أولاً: فإن أخره إلى رمضان ثان من غير عذر. فرع: قال سند: إذا أمكنه القضاء فلم يقضيه حتى مات، فالمذهب أنه لا إطعام عليه في ذلك، وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي: عليه الإطعام. ابن راشد: وانظر قوله: والمذهب أن لا إطعام، فهو موافق لما حكامه العراقيون. وفي التبصرة: إذا صح شهراً قبل شعبان أو أقامه عند قدومه فلم يصمه حتى مات كان عليه الإطعام عند مالك. فهو خلاف ما قاله سند. وهِيَ: مُدٌّ بِمُدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه هو الذي عليه جمهور أصحابنا وقال أشهب: يطعم في غير المدينة ومكة مداً ونصفاً، هو قدر شبع أهل مصر. الباجي: وإنما ذلك منه على جهة الاستحباب. ابن عطاء الله: ويحمل أن يكون منه على جهة الوجوب. وَلا يُجْزِئُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ لِمِسْكِينٍ أي: أنه لا يجوز لمن على كفارات أيام، دفع أكثر من مد لمسكين واحد، ولا خلاف ي المذهب في ذلك، وخالف الشافعي في ذلك. ابن عبد السلام: وهو الظاهر. قال: وهو الظاهر إذا فرعنا على مذهبنا جواز إعطاء مسكين مدّين [160/أ] من عامين أو مدّين متغايري النسبة، وإن كان سببهما يوماً واحداً كالحامل مثلاً إذا أفطرت يوماً من رمضان ولم تقضه حتى دخل رمضان ثان، وكالمفطر متعمداً وترك قضائه إلى دخول رمضان ثان.

خليل: وقد يقال: بل الظاهر أنه مكروه قياساً على ما قاله في المدونة، ونقله المصنف في باب الظهار. وهو قوله: وإذ كفر عن يمين ثانية ولم يجد إلا مساكين الأولى، ففيها لا يعجبني أنه يطعمهم كانت مثلها أو مخالفتها كالظاهر واليمين بالله إلا أن تحدث الثانية بعد التكفير. وَفِي وَقْتِهَا قَوْلانِ، عِنْدَ الْقَضَاءِ، الثَّانِي، أَوْ بَعْدَهُ وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ أي: اختلف في الوقت الذي تجب فيه الكفارة على قولين: أحدهما أنه عندما يأخذ في القضاء أو بعده وهو مذهب الكتاب ليتفق الجابر النسكي والمالي. ابن حبيب: والمستحب فيه كلما صام يوماً أطعم مسكيناً، ومن قدّم الإطعام أو آخّره. أو فرّقه أو جمعه أجزاه. ووسع في المدونة في الإطعام إذا أخذ في القضاء في أوله أو أخره، وظاهره التخيير؛ وانظر هل هو موافق لقول ابن حبيب أم لا؟ ومعنى قوله: (الْقَضَاءِ، الثَّانِي) أي زمان القضاء الثاني؛ وذلك لأنه أضاف القضاء في الزمان الذي يقضي فيه إلى رمضان ثان، وترتبت بسبب ذلك الفدية فالزمان يقضي فيه بعد رمضان الثاني، هـ ومراده بقوله: (الثَّانِي) فالثاني صفة لمحذوف لا القضاء؛ إذ ليس ثم قضاء أول حتى يكون قضاء ثان، والقول الثاني لأشهب تعذر القضاء، فإذا مضى له يوم من شعبان أطعم عنه مداً. تنبيه: قال أشهب في المجموعة: ومن عجّل كفارة التفريط قبل دخول رمضان الثاني ثم لم يصم حتى دخل الثاني لم يجزه ما كفّر قبل وجوبه، فإن كان عليه عشرون يوماً فلمّا بقى لرمضان الثاني عشرة أيام كفر عن عشرين يوماً لم يجزه منها إلا عشرة، وشبهه اشهب بالمتمتع يصوم قبل الإحرام بالحج.

ابن عطاء الله: وهو بيّن؛ لأنه إخراج الشيء قبل وجوبه وقبل جريان سبب وجوبه. انتهى. وفي الجلاب: إذا قدّمه قبل القضاء أو أخره أجزأه، والاختيار أن يطعم مع القضاء. فرع: إذا مات، فإن أوصى بالفدية كانت في الثلث مقدمة على سائر الوصايا التي تبرع بها عتقاً أو غيره، وإن لم يوص لم يلزم الورثة، وذكر أبو الفرج في حاويه رواية بأنه يكفر عنه في الثلث، وإن لم يوص، قال في النوادر: وهي مخالفة لأصل مالك. وَلَوِ اِجْتَمَعَ نَحْوَ صَوْمِ التَّمَتُّعِ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ بُدِئَ بِالتَّمَتُّعِ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: لو وجب عليه قضاء صيام رمضان مع صيام الهدي، وهو مراده بنحو صوم التمتع ولم يقرب رمضان الثاني حتى يضيق ما بقي من الأيام عن عدد الهدي وأيام القضاء، وهو مراده بقوله: (وَلَمْ يَتَعَيَّنْ)، فإن المشهور أنه يبدأ بأيام الهدي. قال بعضهم: لأنه لما صام ثلاثة أيام في الحج فلو أتى بصيام القضاء قبل صوم التمتع وقعت التفرقة في صوم التمتع من غير ضرورة؛ وهذا أبين إذا صام الثلاثة في الحج، ومنهم من علل بعلة عامة تدل على قوة علم مالك بالأصول وهي أنه لما كان قضاء رمضان واجباً موسعاً، وصوم الهدي في قوله تعالى: (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) [البقرة: 196] واجباً مضيقاً، فإذا تعارض الموسع والمضيق كان تقديم المضيق أولى. ومقابل المشهور من كلامه يحتمل أن يردي به التخيير. ونقله اللخمي عن أشهب، ويحتمل أن يريد به تقديم القضاء لنهي دل على ما هو آكد منه، وقد ذكره ابن بشير. بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَعَيَّنَ أي: فإنه يبدأ بالقضاء اتفاقاً؛ لأن تأخير القضاء يوجب الفدية، وتأخير صيام التمتع لا يوجب شيئاً.

وَكُلُّ زَمَنٍ يُخَيِّرُ فِي صُوْمِهِ وَفُطْرَهِ وَلَيْسَ بِرَمَضَانَ فَمَحَلٌّ لِلْقَضَاءِ مراده بالتخيير صحة الصوم والفطر شرعاً لا التخيير الذي يقتضي التساوي؛ لأن التطوع مندوب. واحترز بقوله: (وَلَيْسَ برَمَضَانَ). من المسافر في رمضان، فإنه زمان يخير في صومه وفطره بالنسبة إليه، لكن لا يصح أن يقضي فيه؛ لأن رمضان لا يقبل غيره. بِخِلافِ الْعِيدَيْنِ أي: أنه لا يصح صومهما، فلا يقضي فيهما وهو زيادة إيضاح. وَأَمَّا الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: فَثَالِثُهَا: يُصَامُ الثَّالِثُ دُونَهُمَا أي: اختلف هل يقضي رمضان في الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر؟ فقيل: يقضي فيها. وقيل: لا، وهو المشهور، وقيل: يقضي في الثالث دون الأولين. ومقتضى كلامه أن الأقوال الثلاثة فيا لجواز ابتداء. واللخمي إنما نقلها في الأجزاء، وهو مقتضى تعليل ابن عطاء الله، فإنه قال: منشأ الخلاف النهي الوارد عن صيامها هل هو التحريم أو على الكراهة؟ أو يفرق؟ لأن الثالث لما كان للحاج أن يتعجل فيه صار كأنه من غير أيام التشريق. وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَهَا تَعْيِيناً أَوْ تَبَعاً أي: أن هذه الأقوال موجودة في ناذر صوم أيام التشريق، سواء نذرها تعيناً بأن يقول: لله علي أن أصوم أيام التشريق. أو تبعاً بأن ينذر سنة أو شهر ذي الحجة. وحكى المصنف الخلاف مطلقاً. ابن راشد: قال بعضهم: لا خلاف في المذهب أنه لا يجوز صوم اليومين الأولين عن نذر معين أو غير معين، وحكى الباجي وابن عطاء الله أن أبا الفرج قال في الحاوي: ومن نذر اعتكاف أيام التشريق اعتكفها وصامها. وهذا يصحح طريقة

المصنف، وللباجي طريقة ثالثة؛ لأنه قال: وأما آخر أيام التشريق فيصومه من نذره بلا خلاف، وأما من نذر صوم ذي الحجة، فقال ابن القاسم: يصومه. وقال ابن الماجشون: أحبُّ إلي أن يفطر ويقضيه، ولا أوجبه. وأما من نذر صوم عام معين، ففي المختصر لمالك لا يصوم الرابع. وفي المدونة ما يدل على أنه يصومه. انتهى. وانظر: لمّ ألزم هنا بالنذر في الأيام الثلاثة على أحد الأقوال مع أن القاعدة: أن النذر لا يلزم في المكروه؟ وهذا السؤال وارد على المشهور الذي ألزمه اليوم الثالث بالنذر مع أن صيامه مكروه. ويمكن أن يجاب عن المشهور بأن في صوم هذا اليوم جهتين: إحداهما أنه يوم ليس هو يوم عيد ولا يوم نحر عند مالك ولا يرمي المتعجل فيه الجمار. وهذا الجهة تضعف أن يكون من أيام التشريق التي ورد النهي عن صيامها. والثانية: أنه يوم ذبح عند بعضهم، ويطلق عليه اسم أيام التشريق، ويرمي فيه من لم يتعجل. وهو من هذه الجهة، يشمله عموم النهي عن صيام أيام التشريق فغلبنا الجهة الأولى لما أن اقتضى النذر وجوب صيامه إما تعيناً أو تبعاً لأن الوجوب مرجح على شائبة الكراهة احتياطاً لبراءة الذمة، ولما لم يعارض الكراهة ما هو أقوى منها غلبنا عليه الشائبة الأخرى، فقلنا: لا يصام تطوعاً. ولا يقال: إن اعتبار الجهتين من أصله باطل؛ لأن حديث زمعة دليل واضح على صحة القول به. وَلَوْ نَوَى الْقَضَاءَ بِرَمَضَانِ عَنْ رَمَضَانَ – فَثَالِثُهَا: لا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالأَوَّلانِ تَحْتَمِلُهُمَا الْمُدَوَّنَةَ لأَنَّ فِيهَا: وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الآخرِ؛ فَجَاءَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا .... تصور المسألة واضح والثلاثة الأقوال كلها لابن القاسم، والأولان لمالك. فوجه القول بأنه يجزيه عن القضاء ما رواه البخاري ومسلم: من قول صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما للكل امرئ ما نوى". ووجه عكسه كون رمضان لا يقبل غيره. وأما

عدم إجزائه عن الأداء فلكونه لم ينوه. ابن الجلاب: وهو الصحيح. قال ابن رشد: وهو الصواب عند أهل النظر كلهم. قوله: (وَالأَوَّلانِ تَحْتَمِلُهُمَا الْمُدَوَّنَةُ). الاحتمال على رواية الفتح فقط. وأما على رواية الكسر فلا تحتمل إلا الإجزاء عن رمضان الخارج. ورجّح ابن رشد رواية الكسر؛ لأن المسألة وقعت صريحة في اختصار المبسوط عليها. فروع: الأول: إذا بنينا على المختار عند الأكثر من عدم الإجزاء لهما فقال ابن المواز. يكفّر عن الأول مُدَاً لكل يوم ويكفر عن الثاني بكفارة العمد في كل يوم. أبو محمد: يريد: إلا أن يعذر يجهل أو تأويل؛ وقال أشهب: لا كفارة عليه؛ لأنه قد صامه ولم يفطره. أبو محمد: وهو الصواب. الثاني: لو نوى بصومه رمضان الداخل والخارج؛ فقال ابن حبيب: يجزئه عن الداخل، ولا يفسد صومه ما زاد فيها مما لا يجوز له من نية القضاء. وروى أشهب أنه لا يجزئه عن واحد منهما. قال في البيان: وهو بعيد. خليل: وقد يقال: هو الظاهر؛ لأنه قصد أن يكون بعض اليوم أداء وبعضه قضاء، ومثله غير واقع. الثالث: إذ كان في سفر في رمضان فنوى برمضان قضاء رمضان آخر فقال ابن القاسم: لا يجزئه. وقال محمد بن عبد الحكم: يجزئه، وهو أخفّ من الحضر لجواز الفطر له. فَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ عَنْ نذره وفريضته فَالْمَنْصُوصُ لا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وخَرَّجَهُمَا اللَّخْمِيُّ عَلَى الأُولَى .... أي: لو كان عليه نذر فصام رمضان أو بعضه عن نذره لم يجزه ذلك لا عن نذره ولا عن رمضان عن المنصوص، وخرّج اللخمي فيها القولين الأولين، ابن بشير: لعل ذلك لا يجزئ لبعد ما بين [الوجهين] بخلاف ما إذا قصد ما هو من جنس واحد.

وَفِيهَا: وَمَنْ نَوَى نَذْرَهُ وَحَجَّةُ الْفَرِيضَةِ أُجْزَأَهُ لِنَذْرِهِ فَقَطْ وهذه المسألة ذكرها المصنف في النذور، وذكر فيها أربعة أقوال: ولعله أتى بها ها هنا إشارة إلى طلب الفرق بينها وبين التي قبلها. ويمكن أن يفرق بينهما بأن رمضان لا يقبل غيره. فلذلك لا يجزئ عن القضاء الذي نواه، بخلاف الحج، فإن الزمان لا يتعين لحجة والفريضة. وَلا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ كلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ هذا ظاهر، ونص مالك وابن القاسم [161/أ] وأشهب على الاستحباب. قال أشهب: كل ما لم يذكر الله سبحانه التتابع فيه، فإن فرقه أجزأه وبئس ماصنع. وَيَجِبُ الْعَدَدُ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَصُومَ شَهْراً مُتَتَابِعاً، وَيَكُونُ أَكْمَلَ، فَيَجِبُ إِكْمَالُهُ يعني: أن المشهور وجوب قضاء ما أفطر مطلقاً صام في أول الشهر أو أثنائه لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. وروى ابن وهب إن صام بغير الهلال فكذلك، وإن صام بالهلال أجزأه ذلك الشهر سواء اتفقت أيامهما أو كان عدد القضاء أكمل أو أنقص. هكذا نقل صاحب النوادر وغيره. وكلام المصنف يقتضي أنه إذا كان رمضان تسعة وعشرين فصام شهراً فكان ثلاثين، وجب عليه إتمامه، وهو لا يدل على العكس، لاحتمال أن يقال: إذا كان رمضان أكمل يجب أن يكون القضاء كذلك، ويفرق بالاحتياط والنقل كما تقدم. وَلا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ أي: أن الكفارة من خصائص رمضان؛ إما لأن القياس لا يدخل باب الكفارات أو يدخله ولكن حرمة رمضان زائدة على حرمة غيره فلا يتحقق الجامع، هذا هو المشهور،

وقال ابن حبيب: إذا نذر صوم الدهر ثم أكل متعمداً فعليه كفارة من أكل في رمضان. قال: لأنه لا يجد له يوماً يقضيه إلا وصومه عليه واجب، كما لا يجد المفطر في رمضان يوماً فارغاً. وكذلك قال ابن الماجشون. قال فضل: ذكر ابن الماجشون في ديوانه الكفارة مجملة ولم ينص فيه على ما نص ابن حبيب من كفارة المفطر في رمضان، والذي يعرف لابن كنانة وغيره من أصحابنا أنه يكفر بمد عن اليوم الذي أفطر فيه. انتهى. وقال الشيخ الحافظ أبي الحسن بن المفضل بن علي المقدسي المالكي في كتاب بيان أحكام التطوع بالصيام في الشهور والأعوام من تأليفه فيما إذا نذر صوم الدهر ثم أفطر يوماً متعمداً قال: كافة الناس لا شيء عليه، وليستغفر الله. وقال ابن نافع وعبد الملك: عليه الكفارة. قال: هذا ما ذكره ابن العربي عنهما، وأما ابن الماجشون فقد نقل عنه غير واحد أنه قال: عليه كفارة المفطر في رمضان. وأما ابن نافع فلم أجد عنه في ذلك نقلاً، وأما سحنون فإنه قال: عليه إطعام مسكين. وَتَجِبُ بإِيلاجِ الْحَشَفَةِ، وَبِالْْمَنِيِّ، وَبِمَا يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ مِنْ الْفَمِ خَاصَّةً، وبالإصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَهُ عَلَى الأَصَحِّ .... أي: وتجب الكفارة بإيلاج الحشفة وإن لم يكن إنزال، يريد وكذلك مثلها من مقطوعها، وبالمني ولو بالقبلة وما في معناها، وبما يصل إلى الحلق من الفم. واحترز بقوله: (خَاصَّةً) من قول أبي مصعب، وسيأتي. وقوله: (وَبالإِصْبَاحِ بنِيَّةِ الْفِطْرِ)، وهو مذهب المدونة، وهو الصحيح، وروى أبو الفرج عن مالك: لا كفارة على من بيت الفطر ولم يأكل ولم يشرب حتى أمسى، قال بعض الشيوخ: وهذا الخلاف يجب أن يكون إذا نوى في أثناء الشهر، وأما لو نوى الفطر

في أول ليلة لوجب أن يكفر باتفاق؛ لأنه لم ينو الصيام ولم يزل عنه حكم الكفارة على المذهب نية الصوم بعد ذلك. ولو قال: على الصحيح، لكان أولى من قوله: (عَلَى الأَصَحَّ)، ومفهوم كلام المصنف: ولو نوى الصوم بعده؛ أنه لو لم ينو وجبت الكفارة من غير إشكال، وهو كذلك؛ لكنه ليس متفقاً عليه، فإن أبا الفرج نقل فيه رواية بالسقوط، وبه قال أِهب على ما فهمه بعض الشيوخ من كلامه في المدونة. ولنذكر ذلك ليتبين لك ذلك، قال فيها: قال مالك: ومن أصبح ينوي الفطر في رمضان فلم يأكل ولم يشرب حتى غابت الشمس أو مضى أكثر النهار فعليه القضاء والكفارة، قيل لابن القاسم: فإن نوى الفطر في رمضان إلا أنه لم يأكل ولم يشرب؟ قال: لا أدري هل أوجب مالك عليه مع القضاء الكفارة أم لا؟ وأحب إلي أن يكفر مع القضاء، ولو أصبح ينوي الفطر في رمضان ولم يأكل ولم يشرب ثم نوى الصيام قبل طلوع الشمس وترك الأكل وأتم صومه لم يجزه صوم ذلك اليوم. وبلغني عن مالك أن عليه القضاء والكفارة وهو رأيي. قال أِهب: عليه القضاء ولا كفارة عليه. انتهى. واختلف الشيوخ هل خلاف شهبٍ خاصٍ بالأخيرة أو هو عائد على الثلاث. وَبِرَفْعِ النِّيَّةِ نَهَاراً عَلَى الأَصَحِّ بناء على أن الصوم يرتفع. وهذه المسألة هي المسألة الثانية من مسائل المدونة المتقدمة آنفاً. ذَاكِراً مُنْتَهِكاً حُرْمَةَ رَمَضانِ فَلا كَفَّارَةَ مَعَ النِّسْيَانِ، وَالإِكْرَاهِ، وَالْغَلَبَةِ، وَقِيِلَ: إِلا فِي نِسْيَانِهِ الْجِمَاعَ وَإِكْرَاهِهِ .. ليس قوله: (ذَاكِراً مُنْتَهِكاً). مختصاً برفع النية، بل هو راجع إليه وإلى ما تقدم، وأخرج بالذاكر، الناسي. وبالمنتهك، المتأول والمكره.

ولما كان قوله: (فَلا كَفَّارَةَ مَعَ النِّسْيَانِ، وَالإِكْرَاهِ) نتيجة الكلام الأول، عطفه بالفاء الدالة على [161/ب] السببية. ومراد المصنف بالغلبة: من يغلب على الصيام ولا يقدر عليه بمرض أو نحوه. ويحتمل أن يريد بالغلبة ما يدخل عليه غلبة كالذباب والمضمضة ونحوهما. ويحتمل أن يريدهما معاً. وقوله: (وَقِيلَ) ... إلى آخره، يعني أن المشهور سقوطا لكفارة عن الناسي في رمضان لعدم انتهاكه، والقول الثاني لابن الماجشون وهو مروي عن مالك وجوبهما لترك الاستفصال في قضية المجامع لقوله: واقعت أهلي في رمضان. وأجيب: بأن قرينة الحال من ضرب الصدور ونتف الشعر يبين كون الوقاع عمداً. فإن قلت: ما حكاه المصنف من الخلاف في الإكراه، إما أن يريد به المرأة المكرهة أو الرجل المكره لها. فإن أراد الأول ففيه نظر. فإنا لا نعلم من قال بالوجوب في حقّها مع يسر الزوج. وإن أراد الثاني فسيقول: والمشهور وجوبها على المكره؛ فيصير تشهيره هنا مخالفاً لما سيشهره. فالجواب أنه لا يريد لا هذا ولا هذا، بل يريد أن الرجل المكره لا تجب عليه الكفارة على المشهور، قال في التنبيهات: واختلف في الرجل المكره على الوطء، فقيل: عليه الكفارة، وهو قول عبد الملك. وأكثر أصحابنا، أنه لا كفارة عليه، ولا خلاف أن عليه القضاء، والخلاف في حده، والأكثر إيجاب الحد عليه. وَفِي نَحْوِ التُّرَابِ وَفَلْقَةِ الطَّعَامِ عَلَى تَفْرِيعِ الإِفْطَارِ قَوْلانِ قد تقدم هذا بما فيه كفاية. فائدة: قال اللخمي: الجاهل كالمتأول في إسقاط الكفارة على المعروف من المذهب؛ لأنه لم يقصد انتهاك حرمة الصوم. قال: وجعله ابن حبيب كالعالم.

وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُهَا عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ عَنِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ غَيْرَهِمَا إِذَا أَكْرَهَهُنَّ ..... لا خلاف في وجوب الكفارة على المكره المذكور عن نفسه، والمشهور أنه تجب عليه أخرى عن المكرهة، وقال ابن عبد الحكم وسحنون ورواه ابن نافع عن مالك لا يلزمه عنها شيء وصحح؛ لأن وجوبها عليه فرع وجوبها عليها، وهي لا تجب عليها، وعلى المشهور فهل هي واجبة عليه بالأصالة؛ لأنه أفسد صومين؟ أو بالنيابة؟ المشهور، الثاني؛ فلذلك لا يكفر إلا بما يجزيها في التفكير، فلو كانت أمة لم يصح له التكفير بالعتق، إذ لا ولاء لها، نص عليه صاحب النكت وغيره. ولا يكفر عنها بصوم؛ لأن الصوم لا يقبل النيابة. ابن عطاء الله: وعليه يخرج قول المغيرة. وفي المجموعة: أنه إذا أكره زوجته ثم كفر عنها بعتق أن الولاء يكون لها وعليه، فإن أعسر كفرت عن نفسها، فإذا أيسر رجعت عليه إلا أن تكفر بالصوم. عبد الحق عن بعض شيوخه: وترجع بالأقل من مكيلة الطعام أو الثمن الذي اشترته به، أو قيمة الرقبة، أي ذلك أقل رجعت به. وعلى القول بالأصالة يجوز له أن يكفر بالعتق، ويكون الا لولاء له. وعورضت هذه المسألة بمن أكره شخصاً وصبّ في حلقه ماء فإنه نص في المدونة على أنه لا تجب عليه كفارة. نعم أوجبها ابن حبيب، وقد يفرق بينهما بأن المكره لزوجته أو أمته حصلت له لذة فناسب أن تجب عليه عنهما، وأما من صب في حلق إنسان ماء فلم يحصل له شيء. ويؤيده أنه لو أكره غيره على أن يجامع لم تكن عليه كفارة عند الأكثر كما تقدم. وفي مسائل القاضي إسماعيل عن مالك في قوله: لا غسل على المكرهة إلا أن تلتذ ولا عن النائمة. ابن القصار: فتبين بهذا أنها لا تكون مفطرة. يريد لا قضاء عليها، وهو خلاف المعروف عندنا. ونقل ابن راشد عن ابن حبيب أنه قال: إذا جامع زوجته نائمة عليها الكفارة. واختلف في الذي يقبل امرأته مكرهة حتى ينزلا، فقال ابن القابسي وابن شبلون: يكفر عن نفسه فقط، وعليهما القضاء.

وقال الشيخ أبو محمد وحمديس: يكفر عنها. وكل أول المدونة على ما ذهب إليه، ورجح مذهب ابن أبي زيد، لأن الانتهاك من الرجل حاصل فيهما. ومفهوم قوله: (إِذَا أَكْرَهَهُنَّ) أن الأمة يتصور في حقها الطوع والإكراه كالحرة. والذي في النوادر: قال بعض أصحابنا: إن وطئ أمته كفَّر عنها وإن طاوعته، لأن طوعها كالإكراه للرق؛ ولذلك لا تحد المستحقة، وإن كانت تعلم أن واطئها غير المالك. ابن يونس: إلا أن تطلبه هي بذلك، فتلزمها الكفارة، وتحد المستحقة إن لمتعذر بجهل. انتهى. وينبغي أن يلحق بالسؤال ما إذا تزينت، ولم أر في كتب الأصحاب خلاف ما نقله الشيخ أبو محمد. فرع: ويكفر العبد والأمة بالصيام إلا أن يضر ذلك بالسيد، فيبقى ديناً عليهما، إلا أن يأذن لهما السيد في الإطعام، وإن أكره العبد زوجته فقال ابن شعبان: هي جناية إن شاء السيد أسلمه أو افتكه بأقل القيمتين من الرقبة أو الإطعام، وليس لها أن تأخذ ذلك وتكفر بالصيام؛ إذ لا ثمن له. ابن محرز: ومعنى قول ابن شعبان: من الرقبة أي التي يكفر [162/أ] بها، لا رقبة العبد الجاني وهو خلاف ما حكاه أبو محمد في نوادره، وهو أِبه بالأصول مما حكاه أبو محمد. ويحتمل عندي أن يفديه السيد بالأكثر من الأمرين؛ لأن المرأة مخيرة فيما تكفر به. وهذا الوجه أقوى عندي من الأول؛ لأنه لاحظ ي الأول كون المكفر إنما يكفر بأخف الكفارات لا بأثقلها. انتهى معناه. خليل: وقوله خلاف ما حكاه أبو محمد إلى آخره، يريد لأن في عبارة الشيخ أبي محمد: يفديه بالأقل من ذلك أو من رقبته؛ فهذا يقضي قيمة العبد وليس حكم الجناية المتعلقة برقبة العبد هكذا بل يفتكه بأرش الجناية أو يسلمه، وعلى هذا ففي نقل أبي محمد نظر فاعلمه.

وَفِي مُكْرَهِ جِمَاعِ الرَّجُلِ قَوْلانِ يعني: اختلف في المكره غيره على أن يجامع، هل تجب على فاعل الإكراه كفارة أم لا؟ والأقرب السقوط؛ لأنه متسبب والمكره مباشر. وَلا كَفَّارَةَ فِيمَا يَصِلُ مِنْ أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ حُقْنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَقوْلُ أَبِي مُصْعَبٍ فِي الأَنْفِ وَالأُذُن بَعِيدٌ .... هذا كما قال ابن بشير وغيره: أنه لا خلاف في سقوط الكفارة فيما يصل إلى المعدة من غير الفم إلى ما قاله أبو مصعب فيما يصل من منفذ واسع واستبعد قوله بأن الكفارة معللة بالانتهاك، الذي هو أخص من العمد وهذا لا تتشوف النفوس إليه، وكأن أبا مصعب يراها معللة بالعمد ويرى هذا انتهاكاً. اللخمي: وقول أبي مصعب في السعوط وتقطير الدهن في الأذن والحشفة إن وصل شيء من ذلك إلى الجوف فعليه القضاء والكفارة، وإن وصل من العين فلا قضاء عليه ولا كفارة؛ يريد لأنها منفذ لطيف. فَإِنَّ تَأَوَّلَ بِوَجْهٍ قَرِيبٍ كَمَنْ نَسِيَ فَظَنَّ الْبُطْلانِ فَأَفْطَرَ ثَانِياً، وَكَمَنْ لَمْ تَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَتْ فَظَنَّتْ الْبُطْلانَ فَأَفْطَرَتْ، وَكَمَنْ قَدِمَ لَيْلاً فَطَنَّ الْبُطْلانَ فَأَصْبَحَ مُفْطِراً، وكَالْرَّاعِي عَلَى أَمْيَالٍ فَيُفْطِرُ بِظَنِّ السَّفَرِ، قَالَ اِبْنُ الْقَاسِمِ: كُلَّ مَا رَأَّيْتُهُ يسْأَلُ عَنْهُ وَلَهُ تَاوِيلُهُ، قَالَ: فَلا كَفَّارَةَ، إِلا الْمُفْطِرَةَ عَلَى أَنَّهَا تَحِيضُ فَتُفْطِرُ ثُمَّ تَحِيضُ، وَالْمُفْطِرَ عَلَى أَنَّهُ يَوْمَ الْحِمَى فَيُفْطِرُ يَحَمُّ، وَفِيهَا: وَفِي الْوَجْهِ الْبَعِيدِ مِثْلُهُمَا: قَوْلانِ – كَمَنْ رَآهُ وَلَمْ يُقْبَلْ. أي: فإن تأول المفطر فلا يخلو إما أن يكون تأويله قريباً أو لا؟ فإن كان قريباً أي مستنداً ولسبب موجود، لم تلزم الكفارة لما تقدم أنها معللة بالانتهاك وهو معدوم هنا.

وإن كان بعيداً أي لم يستند إلى سبب موجود لم تسقط الكفارة. ومثل القريب بأربع مسائل. والبعيد بثلاث، وكلها في المدونة. كما ذكر المسألة الأولى من الأربع، من أفطر ناسياً ثم أفطر بعد ذلك متعمداً معتقداً أن التمادي لا يجب عليه. ولم يذكر فيها خلافاً. وفيها ثلاثة أقوال، المشهور منها ما ذكره، وبه قال أشهب، والثاني لعبد الملك وجوبها. والثالث: الفرق لابن حبيب بين أن يفطر ثانياً بأكل أو شرب فتسقط، وبين أن يكون بجماع فتجب. أما إن أفطر مع علمه بأن الفطر لا يجوز له، فعليه الكفارة. قال سند وابن عطاء الله: اتفاقاً، إلا عند عبد الوهاب قال: لأن أكله الثاني لم يصادف صوماً. وصرح ابن الجلاب بأنه إذا قصد هتك الصيام والجرأة عليه، أن عليه الكفارة. المسألة الثانية: من انقطع حيضها قبل الفجر ولم تغتسل حتى طلع الفجر، فظنت بطلان صومها فأفطرت، قال أِهب في المجموعة: وكذلك من أصبح جنباً فظن أن صومه فسد فأفطر لا كفارة عليه. المسألة الثالثة: من قدم ليلاً من سفره مفطراً فظن أنه لا ينعقد له صوم في صبيحة تلك الليلة وتوهم أن من صحة انعقاد الصوم أن يقدم قبل غروب الشمس فأفطر. المسألة الرابعة: الراعي يخرج لرعي ماشيته على أميال فظن أن مثل ذلك سفر مبيح للفطر. وألحق ابن القاسم بهذه الأربعة من رأي هلال شوال نصف النهار فافطر، فأسقط عنه الكفارة لتأويله، ومن احتجم فظن الحجامة تفطر الصائم فأفطر. وقال أصبغ: هو تأويل بعيد. وألزم ابن حبيب فيه وفي المغتاب يفطر بعد ذلك الكفارة، وجعل في العتبية من القريب من تسحر قرب الفجر فظن أن ذلك اليوم لا يجزيه فأكل متأولاً فقال: لا كفارة عليه.

والاستثناء في قول ابن القاسم: إلا المفطرة، استثناء منقطع؛ لأن تأويلها وتأويل من ذكر المصنف بعد هذا لا يرفع الكفارة لبعده. ومعنى المسألة: أن المرأة إذا جرت لهاعادة الحيض في يوم معين فتصبح فيه مفطرة قبل ظهور الحيض ثم تحيض باقي ذلك النهار. وقوله: (وَالْمُفْطِرَ). عطف على (الْمُفْطِرَةَ).أي من به حمَّي الربع فيصبح يوم حماه مفطراً، ثم يحم، وجعل ابن عبد الحكم تأويل الحائض وصاحب الحمى تأويلاً قريباً. الصورة الثالثة مما مثل به المصنف، البعيد: من رأى هلال رمضان فأصبح مفطراً لكونه لم تقبل شهادته ظاناً أن حكم رمضان لا يتبعض في حق المكلفين. [162/ب] وقد تقدم هذا الفرع وما فيه. لكن في قوله: (وفي الْوَجْهِ الْبَعِيدِ)، نظر؛ لان مقتضاه أن القولين اتفقا على أنه بعيد، واختلف في وجوب الكفارة وليس كذلك بل من أسقط الكفارة رآه تأويلاً قريباً. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا إِطْعَامُ سِتَّيْنَ مِسْكِيناً مُدّاً مُدّاً كَإِطْعَامِ الظّهَارِ دُونَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَقِيلَ: عَلَى الأَوْلَى، وَقيِلَ: عَلَى التَّخْيِيرِ وَقِيلَ: عَلَى التَّرْتِيبِ كَالظِّهَارِ، وَقِيلَ: الْعِتْقُ أَوِ الصِّيَامُ لِلْجِمَاعِ والإِطْعَامُ لِغَيْرِهِ، وَفِيهَا: لا يَعْرِفُ مَالِكٌ إلا الإِطعَامِ لا عِتْقاً ولا صَوْماً ..... يعني: أنه اختلف في الكفارة الكبرى في رمضان هل هي مقصورة على الإطعام؟ أو هي على التخيير في الثلاثة، أو هي على الترتيب كالظهار، أو تتنوع؟ ومقتضى كلامه أن المشهور الحصر في الإطعام بدليل جعله الإطعام على سبيل الأولى مقابلاً له، وفيه نظر، فإن ذلك نص عليه غير واحد أن المعروف والمشهور من مذهبنا أنها على التخيير. ولفظ ابن عطاء الله: المعروف من مذهبنا أنها على التخيير لكن الأولى الإطعام؛ لأنه أعم نفعاً. ومنهم من علل استحباب الإطعام لكونه هو الوارد في الحديث.

واستحب مالك في كتاب ابن مزين البداية بالصوم ثم بالعتق، واستحب المغيرة البداية بالعتق، وقال ابن حبيب: العتق أحب إلي فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام هكذا نقل اللخمي، ونقل عياض عنه أنها عنده على الترتيب. ونقل الباجي عن المتأخرين من الأصحاب أنهم يراعون في الفضل الأوقات والبلاد؛ فإن كانت أوقات شدة فالإطعام أفضل، وإن كانت أوقات خصب ورخاء فالعتق أفضل. وقد أفتى الفقيه أبو إبراهيم من استفتاه في ذلك من أهل الغنى الواسع بالصيام لما علم من حاله أنه أشق عليه من العتق والإطعام، وأنه أردع له عن انتهاك حرمة رمضان. وتبع المصنف في القول الأول ابن بشير، وليس بجيد. والقول بأنها تتنوع لأبي مصعب، وهو ضعيف؛ لأن الحديث الذي هو أصل هذه الكفارات إنما كان في الجماع ووقع التكفير فيه بالإطعام. وقوله: (كَإِطْعَامِ الظِّهَارِ) كجنس ما يطعم في الظهار، ويحتمل أن يريد بالتشبيه أنه لا يجزئ أقل من المد، وقد نصَّ صاحب اللباب عليه، وذكر أنه قول مالك والشافعي، وليس التشبيه في القدر، فإن هذه بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك بمد هشام على المشهور. واحتج من قال بالترتيب بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت؛ فقال: ما لك؟ قال: واقعت أهلي وأنا صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ " قال: لا، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق من تمر فقال: "تصدق به" الحديث.

واحتج القائل بالتخيير بما في الموطأ قال: أمره النبي – صلى الله عليه وسلم – بعتق رقبة أو بصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً، مع أنه أقرب إلى البراءة الأصلية. وعلى كل منهما اعتراض، أما على الأول فلأن قوله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد)، وهل تجد لا تدل على الترتيب. وأما على الثاني فلاحتمال أن تكون أو للتفصيل. دلت الرواية الأخرى على أن المراد الترتيب، والأصح المشهور، فإن قوله: هل تستطيع؟ ليس فيه دليل على الترتيب، لا بالنص ولا بالظاهر، وقاله عياض. وحمل مطرف وابن الماجشون وابن حبيب وصاحب النكت وغيرهم. قوله في الكتاب: (لا يَعْرِفُ مَالِكٌ إلا الإطعَامِ) على معنى لا يعرف المستحب. وأخذوا من ذلك أن التصدق بالطعام أفضل من العتق، ومنهم من حمله على ظاهره، وخصص الإجزاء بالإطعام، ولعل المصنف وابن بشير ممن اعتمد على هذا. عياض: ولا يحل تأويله على مالك، لأنه خرق للإجماع. فائدة: أشار اللخمي إلى أن أصل المذهب أن من أتى مستفتياً صدق فيما يدعيه ولم يلزم بالكفارة، وإن ظهر عليه، نظر فيما يدعيه، فإن كنا مما يرى أن مثله يجهله، صدق، وإن كان أتى بما لا يشبه لم يصدق، وألزم الكفارة. وهذا فائدة قولهم: إن هذا ينوّي ولا ينوّي الآخر، أنه يجبر على الكفارة. ولو كان إخراج الكفارة إليه إذا ادعى ما لا يشبه، لم يكن للتفرقة وجه، وهذا القول هو الأصل في الحقوق التي لله سبحانه في الأموال؛ كما قيل بالجبر على الزكاة. وَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الأَيَّامِ، وَلا تَتَعَدَّدُ عَنِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، قِيلَ: التَّكْفِيرُ، وَفِي تَعَدُّدِهَا بَعْدَهُ قَوْلانِ ...... أما تعددها بتعدد الأيام فظاهر، وأما اليوم الواحد إذا كرر الإفطار قبل إخراج الكفارة فلا تتعدد اتفاقاً وأما بعد التكفير، فقال ابن عطاء الله: المعروف من مذهبنا أنه لا

تجب في اليوم الواحد كفارتان، وسواء وطئ قبل التكفير أو بعده. قيل وهو الصحيح؛ لأن الكفارة معللة بالانتهاك المستلزم للإفساد، والإفطار الثاني لا يستلزمها. والقول بتعددها [163/أ] نقله في النكت ع بعض شيوخه؛ قال: ومثل هذا في أصولهم كثير، من ذلك الذي يكرر ما يجب فيه الهدي من طيب أو لبس أنه تجزئة فدية واحدة. وكذلك الذي يكرر القذف فإنما عليه حد واحد، ولو قذف ثم كرر تكرر الحد عليه. وَيُكَفِّرُ وَلِيُّ السَّفِيهِ عَنْهُ، وَعَلَى التَّرْتِيبِ تَكُونُ كَالظِّهَارِ، وَفِي إِجْزَاءِ صِيَامِهِ فِيهِ مَعَ وُجُود الرَّقَبَةِ قَوْلانِ ..... أي: أن السفيه إذا فعل موجب الكفارة، كفّر عنه وليه؛ فإن قلنا بالتخيير أمره بالصيام لحفظ ماله، وإن لم قدر عليه أو أبى كفر عنه بالأقل من العتق أو الإطعام. عبد الحق: ويحتمل أن تبقى الكفارة في ذمته إن أبى من الصوم، قال: وهو الأبين. وإن قلنا بالترتيب، كان الأمر فيها كما إذا ظاهر، ثم أشار إلى حكمه في الظهار بقوله: (وَفِي إِجْزَاءِ صِيَامِهِ فِيهِ) أي في الظهار، مع وجود الرقبة قولان، أحدهما الإجزاء؛ لأن سفهه لا يزعمه عن تكرير الظهار، فلو ألزم العتق لأدى إلى إتلاف ماله، وهو قول محمد. والثاني: أنه لا يجزئ بل يتعين العتق وقوفاً مع النص، وهو ظاهر المذهب، وفرّق ابن كنانة بين أن يتكرر منه الظهار أم لا. وَيُؤَدَّبُ الْمُفْطِرُ عَامِداً فَإِنْ جَاءَ تَائِباً مُسْتَفْتِياً فَالظّاهِرُ الْعَفْوُ، وَأَجْرَاهُ اللَّخْمِيُّ عَلَى الْخِلافِ فِي شَاهِدِ الزُّورِ ... لا إشكال في تأديبه، فإن بنينا على قول ابن حبيب فذلك ردة نعوذ بالله منها. اللخمي: ويختلف فيمن أتى مستفتياً ولم يظهر في ذلك عليه، قال في المبسوط: لا عقوبة عليه، ولو عوقب لخشيت أن لا يأتي أحد ليستفتي في مثل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه

وسلم لم يعنف السائل ولم يعاقبه. ويجري فيها قول آخر، أنه يعاقب قياساً على شاهد الزور إذا أتى تائباً؛ ولمالك في كتاب السرقة: يعاقب. وقال سحنون: لا عقوبة عليه. والأول أحسن، ولو كان كذلك لسقط على المعترف بالزنا والسرقة. وأرى أن يُنظر السائل فإن كان من أهل الستر، ومن يُرى أن ذلك منه فلتة لم ترفع الشهادة عليه لما أُمر به من الستر، ومن كان مشتهراً تعرف منه قلة المراعاة لدينه رفعت عليه الشهادة وعوقب. انتهى. ويمكن الفرق بينهما بأن الشهادة تستلزم مشهوداً له وعليه، فقيل بالعقوبة على أحد القولين؛ لأنه يتهم في مبادرته خشية من إظهار حاله من جهة المشهود عليه، ولا كذلك المفطر. والله أعلم. ويسوغُ الْفِطْرُ لِسَفَرِ الْقَصْرِ بِالإِجْمَاعِ، وَمَشْهُورُهَا الصَّوْمُ أَفْضَلُ اشترط أهل المذهب في الإباحة البروز عن محل الإقامة قبل طلوع الفجر وسيأتي، والقول بترجيح الفطر لابن الماجشون والتساوي لمالك في المختصر في سماع أِهب. وتوجيه هذه الأقوال لا يخفى. والله أعلم. وَلا تَكْفِي نِيَّتُهُ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْفِعْلُ أي: لا تكفي نية السفر في إباحة الفطر حتى يقترن بها السفر، والضمير في يصحبها، عائد على النية، وفي بعض النسخ (تصحبه) وهو عائد على معنى النية وهو العزم. وَفِيمَنْ عَزَمَ فَأَفَطَرَ- ثَالِثُهَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ لَمْ يَاخُذْ فِي أُهْبَتِهِ، وَرَابِعُهَا: إِنْ لَمْ يُتِمَّ .... إذا بنينا على أنه لا يكتفي بمجرد العزم، فخالف وأفطر قبل الخروج، ففي المذهب أربعة أقوال: الأول: وجوب الكفارة لحصول الانتهاك وهو قول مالك والشافعي وأبي

حنيفة وسحنون. الثاني: لأشهب، سقوطها لإسناد الفطر إلى سبب وهو العزم. الثالث لابن حبيب: إن كان قبل أخذه في أهبة السفر فعليه الكفارة، سافر في يومه أو لم يسافر، وإن أفطر قبل خروجه وبعد أخذه في أهبة سفره وشرع في رحيله فلا كفارة عليه. ابن حبيب: وكذلك سمعت ابن الماجشون يقول: وأخبرنيه أصبغ عن ابن القاسم. الرابع: أن عليه الكفارة إن لم يتم السفر، وإن أتم بأن سافر فلا كفارة عليه، لأنه غرر وسلم، وإليه رجع سحنون وأشهب. فَلَوْ نَوَى فِي السَّفَرِ أَوْ سَافَرَ نَهَاراً، لَمْ يَجُزْ إِفْطَارُهُ عَلَى الأَصَحِّ بِخِلاَفِ طَارِئِ الْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ يَقْضِي التَّطَوُّعُ ... يعني: لو أصبح صائماً في السفر أو في الحضر ثم سافر فهل يجوز له أن يفطر أم لا؟ الأصح- وهو المشهور- عدم الجواز. والقول الثاني في المسألة الأولى لابن الماجشون، ولم يطلع ابن عبد السلام على القول الثاني في المسألة الثانية وقد ذكره الباجي، ولفظه: فإن خرج بعد الفجر بعد أن نوى الصوم فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجوز له الفطر وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال القاضي أبو الحسن: إن ذلك على الكراهة. وقال ابن حبيب: يجوز له الفطر وبه قال المزني وأحمد وإسحاق. وقوله: (بِخِلاَفِ طَارِئِ الْمَرَضِ) أي في أنه يباح له الفطر في الصورتين؛ لأن المرض غير اختياري أبداً (وَلِذلِكَ) أي: ويتحقق الفرق بين من ذكر وطارئ المرض يقضي المتطوع في الفرعين ولا يقضي من طرأ عليه المرض.

فَإِنْ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلاً فَلا كَفَّارَةَ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ- فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الأَوَّلِ لا الثَّانِي، وَرَابِعُهَا: الْعَكْسُ ... أي: فإن أفطر في الفرعين بتأويل فلا كفارة عليه، وما ذكره من إسقاط الكفارة في الفرع الأول مخالف لما نص عليه في العتبية؛ لأنه ذكر فيها أن موسى بن معاوية روى عن ابن القاسم عن مالك فيمن بيَّت الصيام في السفر ثم أفطر متأولاً بأكل أو جماع أن عليه الكفارة، لكن اعترضه التونسي وقال: لا ينبغي أن تكون عليه كفارة إذا تأول كما قال أشهب في المدونة. ابن عبد السلام: وظاهر المدونة عندي كما في العتبية، ولفظها: فإن أصبح في السفر صائماً في رمضان ثم أفطر لعذر فعليه القضاء فقط، وإن تعمد لغير عذر فليكفر، وإن لم يتأول فيهما فقيل تجب عليه الكفارة لالتزامه الصوم وفطره من غير عذر، وقيل: لا فيهما، مراعاةً للخلاف. والمشهور تجب فيما إذا نوى في السفر دون ما إذا نوى في الحضر ثم سافر – لأن طروء السفر مبيح – لم يكن بخلاف من أنشأ الصوم في السفر، فنه لم يطرأ عليه مبيح. والرابع عكس المشهور للمخزومي وابن كنانة؛ ووجهه أن حرمة اليوم في حق من أنشأ الصوم في الحضر أقوى؛ لأنه لا يجوز له حين الإنشاء إلا الصوم بخلاف من أصبح في السفر صائماً فإنه مخير في الفطر ابتداء. فَلَوْ طَرَأَ عُذْرٌ كَالتَّقَوِّي عَلَى الْعَدُوِّ أَوِ الْجهدِ، أُبِيحَ اتِّفَاقاً، وَقَالَ اِبْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ كَفّرَ فِي الْجَمِيعِ .... يعني: أن طروء الاحتياج إلى التقوي على العدو مبيح كالمرض بل أقوى منه. وقوله: (أَوِ الْجهدِ)، أي الشدة، ويقع في بعض النسخ (والجهاد) عوض الجهد.

(وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ أَفْطَرَ بالْجِمَاعِ كَفَّرَ في الْجَمِيعِ) أي في جميع المسائل فيما إذا طرأ عذر وفيما ذا طرأ السفر. ومقتضى كلامه أن قول ابن الماجشون منصوص في الجميع، والذي نقله ابن أبي زيد عنه إنما هو فيما إذا أصبح صائماً في السفر، لكن تعليله علام في الجميع. وفي قوله: (إِنْ أَفْطَرَ بِجِمَاع) إشارة إلى أنه إن جامع بعد أكل أو شرب لا شيء عليه وكذلك نص عليه ابن الماجشون في الواضحة. وَلَوْ صَامَ فِي السَّفَرِ غَيْرَهُ فَكَالْحَاضِرِ عَلَى الأَصَحِّ قد تقدم ما إذا صام رمضان الداخل قضاءً عن رمضان الخارج أو عن عذر، وعلى هذا فمراده بقوله: (غَيْرَهُ) ما إذا صام رمضان تطوعاً، هكذا فرض ابن شاس المسألة، وحاصله إن نوى التطوع في رمضان في الحضر لم يصح بلا خلاف، وكذلك إن كان مسافراً على الأصحّ؛ لتعين الوقت وحكى القاضي أبو بكر رواية بالانعقاد واستضعفها كثير. وَيَجُوزُ بِالْمَرَضِ إِذَا خَافَ تَمَادِيَهُ أَوْ زِيادَتَهُ أَوْ حُدُوثَ مَرَضِ آخَرَ، فَأَمَّا إِذَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ أَوِ الأَذَى الشَّدِيدَ وَجَبَ .... هو ظاهر التصور. قال في البيان: واختلف إذا خاف المريض قيل: له أن يفطر، وقيل: ليس له أني فطر لما يخاف من المرض، ولعله لا ينزل به فحكى الخلاف فيما دون النفس كما تقدم في التيمم. ونص اللخمي في المريض إذا خاف حدوث علة أخرى أو طول المرض إذ صام أ، هـ لا يصوم وإن صام أجزأه. وَالْحَامِلُ، وَالْمُرْضِعُ لا يُمْكِنُهُمَا الاسْتِئْجَارُ أَوْ غَيْرُهُ – كَالْْمَرِيضِ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ - خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيهِمَا ..... قوله: (أَوْ غَيْرُهُ) أي لا يقبل غيرها، وعدم إمكان الاستئجار إما لعدم المال أو المكان أو لعدم من يستأجر. ومقتضى كلامه أنه لو أمكنهما الاستئجار لزمهما الصوم.

وهو كذلك، والأجرة من مال الابن إن كان له مال؛ لأن رضاه بمنزلة أكله، فإن لم يكن له مال فهل يبدأ بمال الأب قبل مالها لأن الرضاع مكان الإطعام؟ فإذا سقط عن الأم لمانع جعل ذلك من ماله كطعامه. وإليه ذهب اللخمي ومال إليه التونسي، وقال: إنه أشبه. أو يبدأ بما لها؟ لأن رضاعه عليها إذا لم تكن مطلقة وهي قادرة على أن ترضعه وإليه ذهب سند. وقوله: (فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ) أي إن خافتا على أنفسهما أو ولديهما التلف أو الأذى الشديد وجب وإلا جاز. وَفِي وُجُوبِ الْفِديَةِ عَلَيْهِمَا – ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَهَا، ورَابِعُهَا: عَلَى الْحَامِلِ إِنْ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا دُونَهَا، وَخَامِسُهَا: إِنْ كَانَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشَهُرٍ الضمير في قوله: (دُونَهَا)، من القول الثالث يعود على الحامل، يعني أنه اختلف في وجوب الفدية على المرضع والحامل إذا أفطرتا على خمسة أقوال؛ فقيل: لا تجب عليهما. وقيل تجب عليهما بناءً على إلحاقهما بالمريض أولاً؟ والثالث وهو المشهور وجوبها على المرضع دون الحامل؛ لأن الحامل تخشى على نفسها فأشبهت المريض بخلاف المرضع فإنها إنما تخاف على غيرها. والرابع وجوبها على الحامل إن خافت على ولدها وسقوطها إن خافت على نفسها. والخامس لأبي مصعب. ونص ما نقله اللخمي عنه: وقال أبو مصعب: إذا خافت على ولدها قبل مضي ستة أشهر أطعمت، وإذا خافت في الشهر السابع لم تطعم؛ لأنها مريضة أي لأنها لا تتصرف إلا في [164/أ] الثلث كالمريض. وحاصل ما ذكره أن في المرضع قولين. المشهور منها الوجوب؛ وفي الحامل أربعة أقوال، ولذلك لو فصهلا كما فعل غيره لكان أحسن. ومقتضى كلامه أن الخلاف جار

فيهما سواء خافتا على أنفسهما أو ولديهما، لأنه أطلق في المرضع، وجعل التفصيل في الحامل قولاً مبايناً لغيره. ونحوه للخمي في الحامل. وقريب منه كلام الباجي فإنه قال: إذا خافت الحامل على ولدها من شدة الصيام، لا خلاف في إباحة الفطر واختلف الناس في الإطعام في ذلك. وعن مالك فيه روايتان: إحداهما، لا إطعام، والثانية عليها الإطعام، ويتخرج على هذه الرواية وجوب الإطعام على الشيخ الكبير. وقال ابن حبيب: إن أفطرت خوفاً على نفسها فلا إطعام. انتهى. وقال ابن عطاء الله في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما دون ولديهما أفطرتا ولم تطعما عند الجميع. ثم حكى الخلاف في الإطعام، وإذا خافتا على ولديهما فمقتضى كلامه أنهما إن خافتا على أنفسهما يتفق على عدم الإطعام، وإنما الخلاف إذا خافتا على ولديهما. وَالْكَبِيرُ لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ كَالْْمَرِيضِ وَلا فِدْيَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: أن الكبير الذي لا يطيق الصيام كالمريض في الجواز والوجوب، واختلف في وجوب الفدية عليه فروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يفتدي؛ فحمله في المشهور على الاستحباب. هكذا النقل لا كما يعطيه ظاهر لفظه من السقوط مطلقاً، هكذا قال ابن عبد السلام وهكذا صرح في الرسالة والجلاب بالاستحباب. والقول بالوجوب ذكره ابن شاس وابن بشير. فرع: وهل على المستعطش إطعام؟ روى ابن وهب وابن نافع عن مالك الإطعام عليه واجب. ابن حبيب: ويستحب له الإطعام. ابن يونس: قال أبو محمد: ومعنى المستعطش الذي لا يقدر أن يقضي إلا ناله العطش الشديد، وأما إن قدر فذلك عليه.

وَفِيهَا: لا يُصَامُ الْعِيدَانُ، وَأَمَّا الْيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلا يَصُومُهُمَا إلا الْمُتَمَتِّعُ، وَالْيَوْمُ بَعْدَهُمَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَالنَّذْرِ، وَلا يُقْضِى فِيهِ رَمَضَانُ، وَلا يُبْتَدَأُ فِيهِ كَفَّارَةٌ بِخِلافِ الإِتْمَامِ ...... تصور كلامه ظاهر. فائدة: أيام السنة تنقسم إلى ستة أقسام، منها ما يجب صومه وهو رمضان، ومنها ما يحرم صومه وهو العيدان، ومنها لايجوز إلا لشخص واحد وهما اليومان اللذان بعد يوم النحر، لا يصومهما إلا المتمتع الذي لاي جد هدياً، ومنها ما لا يجوز صومه إلا لثلاثة أشخاص: المتمتع، والناذر، ومن كان في صيام متتابع. وإليه أشار بقوله: (بِخِلافٍ الإتْمَامِ)، ثم إن بقية أيام السنة منها ما رغّب الشرع فيه بخصوصه كعرفة وعاشوراء، ومنها ما لم يرغب فيه، هكذا قال ابن رشد وغيره. وينبغي أن يزاد قسم سابع وهو يوم الشك؛ لأنه لا يصام على المشهور على وجه الاحتياط. وَكَرِهَ مَالِكٌ نَذْرَ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ بِشَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِ قوله: (أَوْ غَيْرِه). أي: سائر الطاعات (بشَرْطِ أَوْ غَيْرِه) أي: بتعليق، كقوله: إن شفى الله مرضي فعليّ صوم شهر. ومقتضى كلامه كراهة النذر مطلقاً، وسيأتي ما في ذلك في بابه إن شاء الله. وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِالطَّاعَةِ مِنْهُ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".

فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلاً لأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَفِي بَراءَتِهِ بِالأَقَلِّ قَوْلانِ، مِثْلَ نَذْرِ شَهْرٍ أَوْ نِصْفِ شَهْرٍ، وَفِيهَا: إِنْ صَامَ شَهْراً بِالْهَلاَلِ أَجْزَأَهُ نَاقِصاً، وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَيُكْمِلُ ..... اللفظ الصادر من الناذر إما أن تصحبه نية أم لا، فإن صحبته عمل عليها، وإلا فإن كان نصاً في مدلوله لزمه ذلك. وإن كان محتملاً لعدد كثير وقليل فهل تبرأ الذمة بالقليل؛ لأن الأصل براءة الذمة؟ أو لا تبرأ إلا بالكثير؛ لأن النذر قد تعلق بذمته فلا تبرأ منه إلا بيقين؟ قولان، ومثل ذلك بما إذا نذر شهراً أو نصف شهر فهل تبرأ ذمته بتسعة وعشرين يوماً بأربعة عشر يوماً؟ أو لا تبرأ إلا بثلاثين وخمسة عشر يوماً؟ وظاهر كلامه أن الخلاف جار سواء صام في أثناء شهر أو في أوله، ولذلك ذكر مسالة المدونة لتضمنها التفصيل. وفيه نظر؛ لأن الذي نص عليه غير واحد، أنه صام شهراً بالهلال فإن كان كاملاً لزمه إتمامه اتفاقاً. وإن كان ناقصاً أجزأه اتفاقاً. وإنما الخلاف إذا صام في أثناء الشهر، ومذهب المدونة إنما تجزيه ثلاثون. وقال محمد بن عبد الحكم: القياس أن تجزيه تسعة وعشرون. وانظر ما في الفرق بين هذه المسألة على المشهور وبين ما إذا نذر هدياً؟ فإن الشاة تجزيه مع أنها أقل الهدايا. ولعل مراد ابن عبد الحكم بالقياس هذا، وإليه أشار اللخمي. وأما نصف الشهر فإن ابتدأه بالهلال صام خمسة عشر يوماً اتفاقاً. وإن [164/ب] ابتدأه بعد مضي خمسة عشر يوماً فكان ناقصاً أكمل خمسة عشر على المشهور، وحكى ابن الماجشون عن بعض الأصحاب أن الأربعة عشر التي صامها نصف شهر، فوجه المشهور أن نصف الشهر خمسة عشر أو أربعة عشر ونصف، ومن وجب عليه نصف يوم وجب عليه تكميله كجزاء الصيد.

ووجه ما حكاه ابن الماجشون أن الناذر لما نذر نصف يوم وهو ليس طاعة لم يجب عليه الوفاء به. خليل: وانظر هل يتخرج على هذه المسألة من نذر نصف عبادة كما لو نذر نصف ركعة أو نصف حج؟ وذكر اللخمي في هذا الأصل خلافاً خرجه من مسألة ما إذا نذر اعتكاف ليلة، فابن القاسم يلزمه يومها، وقيل: لا يلزمه شيء. وَمِثْلَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا فَفِي قَضَاءِ مَا لا يَصِحُّ صُوْمُهُ قَوْلانِ. وَعَلَى الْقَضَاءِ فَفِي قَضَاءِ رَمَضَانَ قَوْلانِ، وَالصَّحِيحُ لا يَلْزَمُهُ وَفِيهَا: كَالْْوَقْتِ الَّذِي لا يُصَلِّي فِيهِ لَوْ نَذَرَ صَلاةَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وَكَمَا لَوْ نَذَرَ الْعِيدَيْنِ، وَكَأَيَّامِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي السَّفَرِ: لا أَدْرِي مَا هُوَ، ثُمَّ سُئِلَ عِمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ: يَقْضِي أَيَّامَ الذَّبْحِ إِلا أَنْ يَنْوِيَ ألا يَقْضِيَهَا .... أما لفظ مثل فمعطوف على قوله أولاً: (مِثْلَ نَذْرِ شَهْرٍ)، وفي بعض النسخ: (ومثله)، أي ومثل المثال السابق في احتمال أقل أو أكثر. ابن عبد السلام: ورأي المؤلف وغيره أن هذا الخلاف جار على الأصل المتقدم أي: وفي احتمال اللفظ أقل أو أكثر قال: ويحتمل أن يجري على الخلاف في النذر المعين إذا أفطر فيه ناسياً أو مرضاً إلا أن المانع من الصوم في الفرع الذي الكلام عليه شرعي، وفي العذر به خلاف آخر. انتهى. قال في المدونة: وإن كانت السنة بعينها صامها وأفطر منها يوم الفطر وأيام النحر، ويصوم آخر أيام التشريق. قال مالك: ولا قضاء عليه فيهن ولا في رمضان، إلا أن ينوي قضاء ذلك، كما لو نذر صلاة يوم بعينه، فليصل في الأوقات الجائزة فيها الصلاة، ولا يصلي في الساعات التي لا يصلي فيها، ولا شيء عليه فيها ولا قضاء.

ثم سئل عمن نذر صوم ذي الحجة فقال: يقضي أيام النحر إلا أن يكون نوى ألا يقضيها، قال ابن القاسم: والأول أحب إلي. انتهى. وذكرت لفظ المدونة لأن به يُتبين أكثر كلام المصنف. وقوله: (والصحيح لا يلزم فيهما). أي لا يلزم القضاء في الفرعين. وفي بعض النسخ: (فيها)، فيعود على المدونة، وفي بعض النسخ: (فيها) بغير واو، فيحتمل عوده على المدونة وعلى المسألة المشتملة على الفرعين قال في "النكت": وذهب بعض شيوخنا القرويين في ناذر سنة بعينها أنه لا يقضي رمضان على القولين جميعاً، وكذلك نذر صلاة يوم بعينه ليس عليه أن يقضي وقت صلاة الظهر والعصر على القولين، وإنما الخلاف في الوقت الذي لا يصلي فيه كبعد العصر فيقضي مثل ما يصلي في ذلك الوقت لو جازت الصلاة على التقدير على أحد القولين مثل أيام النحر التي اختلف قوله في قضائها، قال: لأنه صائم في رمضان وهو خارج عن نذره، والذي نذر صلاة يوم قد علم أنه لابد من صلاة الظهر والعصر، فذلك خارج، نذره. وما لا صلاة فيه- أعني بعد العصر – هو مثل أيام النحر التي هو فيها غير صائم. وقال غيره من شيوخنا، الخلاف يدخل فيما وصفنا. والله أعلم. ابن عطاء الله: والأظهر أن الخلاف جارٍ في ذلك كله. ولعل هذا هو الذي أشار إليه المصنف بقوله: (وَعَلَى الْقَضَاءِ) ... إلى آخره. وقوله: (وَكَمَا لَوْ نَذَرَ الْعِيدَيْنِ) ... إلى آخره، أي: ومما يرجح السقوط في الفرعين المتقدمين ما لو نذر العيدين وآخر أيام المرض فإن الحكم فيها السقوط، والجامع أن كلا النذرين معصية. وفي "المبسوط" في ناذر العيدين أن عليه القضاء إذا نذرها وهو يعلم بهما، لا إن لم يعلم. وما ذكره في المرض محمول على ما إذا لم يطق الصيام، وأما إذا أفطر قادراً عليه فيلزمه القضاء، قاله في المدونة.

وليس المراد بأيام المرض أن ينذر أياماً فيمرض فيها؛ لأن تلك قد تقدمت، وإنما المراد أن ينذر صيام أيام مرضه. والله أعلم. وقوله: (وَقَالَ مَالِكٌ فِي السَّفَرِ) ... إلى آخره. ابن عبد السلام: إنما ذكر في المدونة هذا فيمن نذرت الاثنين والخميس ما بقيت فحاضت أو مرضت فيهما فلا قضاء عليها. قال: وأما السفر فقال مالك: لا أدري ما هو. قال ابن القاسم فيها: كأنه أحب أن تقضي. ورده كلام ابن عبد السلام فإن ظاهر المدونة أن التوقف في السفر في السؤالين معاً قال: لأنه إن ذكر في التي نذرت بعينها أنها لا تقضي أيام الحيض والمرض، قال: وكذلك التي نذرت كل خميس والاثنين، وأما السفر فلا أدري ما هو؟ يعني في السؤالين. انتهى. قال ابن عطاء الله: واختلف في السفر مجرداً من غير ضرورة إلى الفطر هل هو عذر كما في رمضان؟ فجعله ابن حبيب عذراً يسقط القضاء، وقال مالك ليس بعذر يسقط القضاء، رواه عنه ابن عبد الحكم، والفرق بينه وبين رمضان، إنما توجه وجوبه على جميع الخلق فخفف عنهم فيه لما في الإيجاب العام من الحرج والمشقة، ثم أنه في رمضان لم يسقط الفرض بالكلية، بل جوز التأخير فقط، ولو جعل عذراً في النذر [165/أ] لأسقط القضاء. وهذا هو الظاهر، وعلى هذا فيلزم الإمساك في السفر؛ لأنه إنما يأتي غالباً على الاختيار. ابن عطاء الله: وقول ابن القاسم، كأنه أحب أن تقضي يحتمل أن يريد: أن القضاء غير لازم عنده، ولكنه استحبه ويحتمل أن يريد: أنه يستحب الحكم بوجوب القضاء أي: الذي يحبه، أنه ليس بعذر، وإن أفطر لأجله، فقد وجب عليه القضاء، ووجهه أنه أفطر مع القدرة على الصوم في نذره فوجب عليه القضاء كالحاضر. انتهى.

قوله: (ثُمَّ سُئِلَ عَمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ ذِي الْحِجَّةِ) هو أحد القولين في المسألة السابقة، وكلامه في المدونة أحسن من كلام المصنف. ويمكن أن يوجه هذا القول بأنه شبّه الصوم بالاعتكاف كما قال في من نذرَتْ اعتكاف شعبان فشرعَتُ فيه ثم حاضت فإنه قال: تقضي أيام حيضها إشارة إلى أنها عبادة واحدة فلا تتجزأ وقد صح بعضها فعليها تكميلها، ولو حاضت من أول شعبان اعتكفت إذا طهرت بقيته ولا تقضي أيام حيضها؛ لأن في المسألة الأولى اعتكفت بنية شعبان بجملته فقد لزمها كله بالشروع، فإذا حاضت ثم هرت كملت ما دخلت فيه. وفي هذه المسألة ليس عليها أن تنوي إلا بقية شعبان، فإذا نوت بقيته فقد انقضى اعتكافها بانقضائه. قاله ابن عطاء الله. أَمَّا لَوْ [لَمْ يُعَيِّنْ] قَضَى هذا مقابل قوله: (بعينها). يعني، أما لو نذر سنة أو شهراً ولم يعين قضى أيام السفر من غير خلاف. فرع: قال اللخمي: إذا قال لله علي أن أصوم هذه السنة، فإن سمّاها مثل سنة سبعين أو ثمانين صام ما بقي منها ولا قضاء عليه لما مضى. وإن قال: هذه السنة ولم يزد شيئاً، فالقياس أن لا شيء عليه إلا صيام ما بقي كالأول؛ وقال مالك في العتبية: في من حلف في نصف سنة إن فعل كذا أو كذا صام هذه السنة فقال: إن نوى باقيها فذلك له، وإن لم ينو شيئاً استأنف من يوم حلف اثني عشر شهراً. اللخمي: وفيه نظر؛ لأن قوله: هذه السنة. يقتضي التعريف، وهو بمنزلة القائل: لله علي أن أصلي هذا اليوم فلا شيء عليه إلا صلاة ماب قي منه.

وَمِثْلَ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ أَيَّامٍ وَلَمْ يَنْوِ التَّتَابُعَ - ثَالِثُهَا: يَلْزَمُ التَّتَابُعُ فِي السَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَلا يلزم في الأَيَّامِ، وَالْمَشْهُورُ: لا يَلْزَمُ ..... تصور المسألة ظاهر. والمشهور مذهب المدونة، والقول بلزوم المتابعة في الجميع لابن كنانة، والتفصيل لابن الماجشون. اللخمي: وهو أحسن؛ لأن العرف أن الشهر عبارة عن جملة متتابعة من الهلال إلى الهلال. وقول القائل: ثلاثون يوماً شهر، مجاز والعلاقة المشابهة. هذا معنى كلامه. وقوله: (وَمِثْلَ) معطوف على قوله أول الفصل: (مثل شهر). ابن عبد السلام: وهو من أمثلة احتمال اللفظ لأقل أو أكثر. وَلَوْ نَذَرَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلانٌ فَقَدِمَ لَيْلاً صَامَ يَوْمَهُ؛ فَإِنْ قَدِمَ نَهَاراً فَلا قَضَاءَ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: أن من نذر صيام يوم قوم فلان، ففان إن قدم ليلاً لزم الناذر صيام صبيحة تلك الليلة. ورأى اللخمي أنه لا شيء عليه؛ لأن الليل ليس محلاً للصوم. وإن قدم نهاراً فالمشهور سقوط القضاء؛ لأن وجوب القضاء مشروط بتقديم الوجوب أو تقديم سببه، وكلاهما منتف. وذهب عبد الملك وأشهب إلى وجوب القضاء. فرع: قال أشهب: ولو قدم نهاراً وكان قد بيت صومه تطوعاً أو لقضاء رمضان أو لغيره لم يجزه لنذره، ولا لما صامه له. وفي اللخمي: يجزيه عما صامه له؛ ولم يذكر قول أشهب، وإنما اقتصر على الإجزاء فقط. ابن الماجشون: ولو علم أنه يدخل نهاراً فبيت الصوم لم يجزه؛ لأنه صامه قبل وجوبه. قال عبد الملك وأشهب وأصبغ: وليصم اليوم الذي يليه.

وَلَوْ قَدَّمَ يَوْمَ عِيدٍ لَمْ يَقَضِ، وَخَرَّجَهُ اللَّخْمِيُّ عَلَى الأُولَى يعني: فلو قدم فلان يوم عيد فالمنقول في المذهب أنه لا قضاء على الناذر. وخرج اللخمي فيه القولين المتقدمين، والجامع أن كلا من الزمانين لا يصح صومه شرعاً. وقد يفرق بينهما بأن الزمان قابل شرعاً في المسألة الأولى، وإنما امتنع شرطه بخلاف العيد، فإنه لا يقبل الصوم بوجه. وَلَوْ نَذَرَ يَوْماً بِعَيْنِهِ فَنَسِيَهُ - فَثَلاثَةُ: يَتَخَيَّرُ، وَجَمِيعُهَا، وَآخِرُهَا أي: إذا نذر يوماً معيناً ونسيه فثلاثة أقوال: ونقلت كلها عن سحنون وآخر أقواله أن يصومها جميعاً واستظهر للاحتياط، ووافقه بأن القاسم على قوله أنه يصوم آخرها. قال ابن القاسم: وهو يوم الجمعة، لأن قبل يوم الجمعة لا يحقق عمارة ذمته وإنما يتحقق بالأخير، فإن وافقه فهو أداء وإلا فهو قضاء. وأنكر بعض المتأخرين كون الجمعة آخر أيام الجمعة وزعم أنه يوم السبت. وَأَجَازَ مَالِكٌ صَوْمَ الأَبَدِ وَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَى ذِي عَجْزٍ أَوْ مَضَرَّةٍ النهي هو حديث أبي قتادة أن رجلاً قال: يا رسول الله، كيف بمن صام الدهر؟ قال: "لا صام ولا أفطر" خرجه مسلم. قوله: (ذِي عَجْزٍ) إن أريد به العاجز عن الصيام فلا يبقى للنهي فائدة، وإنما ينبغي أن يحمل على من يلحقه عجز في الطاعات أو مضرة في بدنه. وروي عن مالك، ونقله في القسب عن علمائنا [165/ب] أن النهي محمول على من يصوم الأيام التي نهى الشرع عن صيامها. ابن عبد السلام: وإطلاق ابن حبيب في صيام الدهر أنه أحسن لمن قوي عليه بعيد.

وَقَدْ وَرَدَ صَوْمُ يوم عَرَفَةَ ويوم عَاشُورَاءَ، وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَصَوْمُ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَشَعْبَانَ روى مسلم أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي قتادة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". قيل: إنما كان يوم عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين لأن يوم عرفة يوم محمدي ويوم عاشوراء يوم موسوي عليه الصلاة والسلام والأفضل للحاج الفطر فطر يوم عرفة. وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام: كان مفطراً في حجّه فيه. وأما يوم التروية فروى ابن حبيب في واضحته انه عليه الصلاة والسلام قال: "صوم يوم التروية كصوم سنة" قيل: وهو حديث مرسل. ابن يونس: وروي أنه عليه الصلاة والسلام صام الأشهر الحرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. انتهى. ولم أره في شيء من كتب الحديث. بل يعارضه ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان. وهذا لفظ الموطأ. والذي جاء في الأشهر الحرم ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك" وقال بأصابعه الثلاثة فضمها وأرسلها.

وفي مسلم عنه عليه الصلاة والسلام:"أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم". وأما شعبان، فروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان. وعنها أيضاً أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياماً منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلاً وفي رواية مسلم، بعد إلا قليلاً بل كان يصومه كله. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان. وَكَرِهَ مَالِكٌ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَإِنْ وَرَدَ، لِلْعَمَلِ أشار بقوله: (وَإِنْ وَرَدَ، لِلْعَمَلِ)، لما في مسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر" قال في الموطأ: لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك. انتهى. وصرح صاحب الذخيرة بأن مالكاً استحب صيامها في غير شوال، ولم يأخذ مطرف وغيره بكراهة مالك وتعليله، وإنما كره مالك ذلك مخافة أن يلحقها أهل الجهل برمضان، فأما الرجل في خاصة نفسه يصمها لرغبته فلم يكن يكره ذلك. وفي الجواهر: واستحب مالك صيامها في غير ذلك الوقت لحصول المقصود به من تضاعف أيامها وأيام رمضان في كونها تبلغ عدة العام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك سنة". ومحمل تعيين محلها في شوال عقب الصوم على التخفيف في حق المكلف لاعتياده بالصوم لا لتخصيصها بذلك الوقت فلا جرم انه لو أوقعها في عشر ذي الحجة مع ما

روى في فضل الصيام لكان أحسن لحصول المقصود مع حيازة فضل الأيام المذكورة والسلامة مما اتقاه مالك رضي الله عنه. وَأَجَازَ مَالِكٌ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِداً، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ قال عليه الصلاة والسلام: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده". قوال: لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام. ودخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "أصمت أمس"؟ فقالت: لا. قال: "أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: "فأفطري". انفرد به البخاري، وانفرد مسلم بقوله:"لا تخصوا ليلة الجمعة" واجتمعا على ما سوى ذلك. وخرج الترمذي وغيره عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة، وصححه ابن عبد البر، وفي رواية الحافظ علي بن المفضل المقدسي: ما رأيته مفطراً يوم الجمعة. أبو عمر: وروي عن ابن عمر أنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطراً يوم الجمعة قط. وذكره ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ليث بن أبي سليم عن عمير بن أبي عمير عن ابن عمر قال: وروي عن ابن عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه. قال الحافظ: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [166/أ]: "من صام يوم الجمعة كتبت له عشرة أيام غر زهر من أيام الآخرة لا تشاكلهن أيام الدنيا". انتهى. وفي الموطأ: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدي به ينهي عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه أنه كان يتحراه. قيل: هو محمد بن المنكدر، وقيل: صفوان بن سليم.

وَوَرَدَ صَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ لا يُعَيِّنُ، وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ: الأَيَّام الْبِيض، وَاسْتَحَبَّ ابْنُ الْقَابِسِيِّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ أي: ورد صوم ثلاثة أيام مطلقة ومقيدة، فروت عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يبالي نم أي الشهر صام. وروى أبو الدرداء: الأيام البيض. وهي صبيحة ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر. وروي أنه كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام وهو يشهد للقابس. واختار بعضهم: الأول والحادي عشر والحادي والعشرين. واستحب ابن حبيب وغيره صوم السابع والعشرين من رجب؛ لأن فيه بعث النبي صلى الله عليه وسلم والخامس والعشرين من ذي القعدة؛ لأن فيه أنزلت الكعبة على آدم عليه السلام ومعها الرحمة وثالث المحرم؛ لأن فيه دعا زكرياء ربه فاستجاب له. ****

الاعتكاف

الاعْتِكَافُ: قُرْبَةٌ لم يبين ما رتبته في القُرَب، والظاهر أنه مستحب، إذ لو كان سنة لم يواظب السلف على تركه. قال في الرسالة: والاعتكاف من نوافل الخير. وكذلك قال في المقدمات. وحكمة مشروعيته التشبه بالملائكة الكرام في استغراق الأوقات في العبادة وحبس النفس عن شهواتها، وكف اللسان عن الخوض فيما لا ينبغي. ومما يدل على أنه قربة، ما وقع لمالك في العتبية من رواية ابن القاسم لما قيل له: من كان منزله من الفسطاط على ثلاثة أميال، أيعتكف في مسجد قريته؟ أم يسير إلى الجمعة؟ لأن قريته لا تجمع فيها الجمعة؟ قال: اعتكافه أولى من مسيره إلى الجمعة. مَالِكٌ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَداً مِنَ السَّلَفِ اِعْتَكَفَ غَيْرَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وإِنَّمَا تَرَكُوهُ لِشِدَّتِهِ .... هذا لمالك في المدونة، وفي المجموعة: ما زلت أفكر في ترك الصحابة رضي الله عنهم الاعتكاف مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يزل يعتكف حتى توفي، حتى أخذ بنفسي أنه كالوصال الذي نهى عنه وفعله، فقيل له: إنك تواصل، فقال: "إني لست كأحدكم". وَهُوَ لُزُومُ الْمُسْلِمِ الْمُمَيِّزِ الْمَسْجِدَ - لِلْعِبَادَةِ صَائِماً كَافّاً عَنِ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ - يَوْماً فَمَا فَوْقَهُ بِالنِّيَّةِ ..... قوله: (الْمُسْلِم). كالمستغني عنه بقوله: (لِلْعِبَادَةٍ صَائِماً). إذ علم أنهما لا يصحان من غير المسلم، ثم في قوله: (لِلْعِبَادَةِ) إجمال، إذ من العبادات ما لا يفعله المعتكف كما سيأتي، وقوله: (كَافَاً عَنِ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ). أي ليلاً ونهاراً.

فَيَصِحُّ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَالرَّقِيقِ أي: لدخولهم تحت المسلم المميز، ويدخل في الرقيق من فيه عقد حرية. وَإِنْ أَذِنَ لامْرَأَتِهِ أَوْ لِعَبْدِهِ فَدَخَلا فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُهُ لمّا كان الاعتكاف ليس بواجب وهو مستلزم للصيام، وكل منهما مستلزم منع الوطء ومقدماته، لم يجز للمرأة أن تعتكف إلا بإذن زوجها لما في الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه". وكذلك العبد؛ لأن اعتكافه يبطل حق السيد في خدمته. ومن أذن لامرأته أو لمملوكه فدخلا فيه فليس له قطعه، وهل له الرجوع بعد الإذن وقبل الدخول؟ ابن عبد السلام: في الأصل قولان. انتهى. والرجوع في كتاب ابن شعبان، وهو مفهوم المدونة لقوله: ومن أذن لعبده أو لامرأته في الاعتكاف فليس له قطعه عليهما إذا دخلا فيه. فاشترط الدخول. وقيد أبو عمران وعبد الحق واللخمي ما في المدونة بما إذا أذن لهما في الفعل، وأما لو أذن لهما في النذر فنذراه فليس له قطعه عليهما وإن لم يدخلا فيه. وَلا تَخْرُجُ لِلْعِدَّةِ إِلا بَعْدَهُ قال في المدونة: وإن طلّقها زوجها أو مات عنها لم تخرج حتى تتم اعتكافها، ثم تتم ما بقي من العدة في بيتها. قال ربيعة: وإن حاضت في العدة قبل أن ينقضي اعتكافها خرجت، فإذا طهرت رجعت لإتمام اعتكافها، وإن سبق الطلاق الاعتكاف فلا تعتكف حتى تحل. انتهى.

قال في العتبية: وكذلك المحرمة إذا دخلت في الإحرام ثم طلقت فإنها تتم إحرامها؛ قال في البيان: ولو سبق الطلاق أو الموت الاعتكاف أو الإحرام لم يصح لها أن تحرم ولا أن تعتكف حتى تنقضي العدة لأنها قد لزمتها فليس لها أن تنقضها. انتهى. والحاصل الترجيح بالسبقية. وقال أبو الحسن الصغير: إذا أحرمت بعد موت زوجها نفذت وهي عاصية، بخلاف المعتكفة فإنها لا تنفذ إذا أحرمت، وتبقي على اعتكافها حتى تتمه. إذ لو قيل أنها تخرج للحج إذا أحرمت لبطل اعتكافها لكونه لا يصح إلا في المسجد، بخلاف الإحرام فإنه [166/ب] إنما يبطل المبيت لا أصل العدة. انتهى. فانظره مع كلام صاحب البيان إلا أن يحمل قوله في البيان: لا يصح على معنى: لا يجوز. والله أعلم. وَإِنْ مَنْعَهُ نَذْرَاً فَعَلَيْهِ إِنْ أعْتقَ يعني: إذا نذر العبد اعتكافاً بغير إذن السيد فمنعه السيد منه بقي في ذمته متى أعتق قضى، وليس للسيد أن يسقطه مطلقاً. خلاف الدين لأن بقاء الدين عليه عيب يبخس ثمنه بخلاف النذر، ولأن الناس غرضاً في أن العبد إذا عتق يكون مستغنياً غير محتاج، حتى إن بعضهم ليعطيه شيئاً لهذا. وإذا كان مدياناً انتزع منه ما بيده، فيفوت غرض سيده، فلذلك كان لسيده أن يسقطه بخلاف الاعتكاف. وقوله: (فَعَلَيْهِ إِنْ أعْتقَ). ظاهره سواء كان نذره معيناً أو مضموناً، قيل: وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. وقال سحنون: إن كان النذر معيناً فمنعه السيد حتى انقضت الأيام فلا قضاء عليه. وَلا يُمَنَعُ الْمُكَاتَبُ الاعْتِكَافَ الْيَسِيرَ هو ظاهر.

وَالرِّدَّةُ وَالسُّكْرُ الْمُكْتَسَبُ مُبْطِلانِ قَارنا أَوْ طَرَأ فَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ فِي السُّكْرِ، وَفِي غَيْرِ الْمُكْتَسَبِ كَالْْجُنُونِ وَالإِغْمَاءِ الْبِنَاءُ ..... لأن الردة نقيض شرطه وهو الإسلام. والسكر كذلك لكونه مناقضاً للتمييز. واحترز بالمكتسب من غيره، فإنه كالمجنون يبني لعذره. وذكر المقارنة ليس بظاهر؛ لأن الإبطال يستدعي شيئاً متقدماً حتى بطل وهو معدوم. وَفِي إِبْطَالِهِ بِالْكَبَائِرِ الَّتِي لا تُبْطِلُ الصَّوْمَ كَالْْقَذْفِ وَالْخَمْرِ لَيْلاً: قَوْلانِ، بِخِلاَفِ الصَّغَائِرِ ..... لا خفاء في أن الكبائر المبطلة للصوم مبطلة للاعتكاف، لبطلان شرطه كالزنا واللواط وشرب الخمر نهاراً، وأما الكبائر التي لا تبطل الصوم فنص في المدونة على البطلان في حق من سكر ليلاً. وحمل بعضهم على هذا، والبغداديون كل كبيرة. وَالْمَسْجِدُ وَرِحَابُهُ سَوَاءٌ يعني في الإجزاء، واستحب في المدونة عجز المسجد؛ لأنه أخفى للعبادة وللبعد ممن يتشاغل بالحديث معه. اللخمي: واختلف فيما سوى سطح المسجد، ففي الكتاب يعتكف في عجز المسجد وفي رحابه. وقال ابن وهب عنه: لم أره إلا في رحبة المسجد. وقال في المجموعة: لم أره إلا في عجز المسجد، والقول الأول أحسن، واختلف إذا اعتكف في رحبة المسجد هل يضرب خباء يكون فيه؟ فأجاز ذلك في المدونة. وقال ابن وهب عنه لم أسمع أنه يضرب ما يبيت فيه والأول أحسن. وقد ضرب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الأخبية يعتكفن فيها. انتهى.

وخالف ابن لبابة في ثلاثة مسائل، فأجاز في غير المسجد بغير صوم، وأجاز المباشرة في غير المسجد، وهل الرحاب ما كان مضافاً إلى المسجد محجراً عليه وإن كان خارجاً عنه؟ وعلى هذا فليس لكل المساجد رحاب، وإليه ذهب سند والتملساني. أو هو صحته؟ وأما خارجه فلا يجوز الاعتكاف فيه، وإليه ذهب الباجي وصاحب اللباب، وهو الصحيح. بِخِلافِ السَّطْحِ عَلَى الأَشْهَرِ، وَبِخِلافِ بَيْتِ قَنَادِيلِهِ وَنَحْوِهِ ما ذكره في السطح ظاهر، ونحو بيت القناديل السقاية وبيت الخطابة، وإنما لم يجز الاعتكاف في هذه المواضع لكونها محجوراً عليها فصارت كالبيوت. وَفِي صُعُودِ الْمُؤَذِّنِ الْمَنَارِ ثَالِثُهَا: يُكْرَهُ كَالسَّطْحِ قال في المدونة: واختلف قوله في صعود المؤذن المنار فمرة قال: لا، ومرة قال: نعم. وجل قوله فيه الكراهة، وذلك رأي. وقوله: (كَالسَّطْحِ) ففيه أيضاً الأقوال الثلاثة. قال ابن يونس بعد ذكر الخلاف عن مالك في صعود المؤذن المنار: وكذلك اختلف قوله في سطوح المسجد. واستبعد ابن عبد السلام هذا الحمل بأنه لو أراده لقال: وفي صعود المؤذن السطح والمنار. وجعل قوله: (كَالسَّطْحِ) من تمام القول الثالث. وما ذكرناه أولى؛ لأنه أكثر. فائدة: وما ذكره من وجه الاستبعاد ليس بلازم. وظاهر كلامه جواز الآذان للمعتكف؛ لأنه إنما ذكر الخلاف في صعود المؤذن المنار، ومثله استقرأ عياض من المدونة. وحكي في المفهم عن مالك في جوازه ومنعه روايتين قال: والجميع على الجواز، وهذا فيما [167/أ] على المنار وأما في غيره فلا خلاف في إجزائه. انتهى.

ونحوه لعياض: وصرح اللخمي بجوازه في صحن المسجد، وقيده بما إذا لم يكن المؤذن الذي يرصد الأوقات. فَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ جُمُعَةٌ، وَهُوَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَفِي تَعْيِينِ الْجَامِعِ قَوْلانِ إن اعتكف أياماً لا تأتي فيها الجمعة، اعتكف في أي مسجد شاء، وكذلك إن كانت الجمعة، تأتي ولكنه ممن لا تلزمه الجمعة. وقيل: بل يكره الاعتكاف في غيره فقط. ومنشأ الخلاف: هل يبطل اعتكافه بخروجه إلى الجمعة؟ وهو المشهور على ما نقله الباجي وغيره أم لا يبطل مطلقاً ويخرج إلى الجمعة؟، وهي رواية ابن الجهم، وفرق ابن الماجشون فقال: إن دخل على ذلك ابتداء خرج، وبطل، بخلاف ما إذا اعتكف أولاً أياماً لا تأخذه فيها الجمعة، ثم خرج لمرض وعاد فجاءته الجمعة، فإنه يخرج ولا يبطل، هكذا نقل ابن زرقون وغيره. وَعَلَى صِحَّتِهِ فَفِي إِتْمَامِهِ فِي الْجَامِعِ أَوْ عَوْدِهِ قَوْلانِ يعين إذا فرعنا على الشهور بطل اعتكافه، وإن فرعنا على صحته فهل يتم في الجامع؟ وهي رواية عن مالك أو يرجع إلى المسجد الذي ابتدأ فيه؟ وهو قول عبد الملك، وقيد سند الخلاف بما إذا لم يعين الموضع ينذره، وأما لو عينه فيرجع. وَيَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِمَعِيشَتِهِ إِنِ احْتَاجَ وَلَوْ بَعْدُ المراد بحاجة الإنسان الغائط والبول واستحبوا أن يكون في غير منزله؛ لأن المنزل لا يخلو من شغل، ولمعيشته، أي: لما يأكله ويشربه.

وكره مالك في آخر قوليه أن يعتكف حتى يكون له من يكفيه ذلك أو يعدّ ما يكفيه. ولا يعتكف إلا من كان مكتفياً حتى لا يخرج إلا لحاجة الإنسان. وأول قوليه في المدونة الجواز، قال فيها: ولا يمكث بعد قضاء حاجته شيئاً. قال ابن القاسم في العتبية: ويخرج المعتكف لعيادة أبويه إذا مرضا ويتبدئ اعتكافه. ورأى ذلك واجب عليه لبرهما قال: ولا يخرج لجنازتهما. وفرّق الباجي بينهما بأنهما في الحياة يرضيان بزيارته ويسخطان بتركها. سند: وفيما قاله نظر، فإن ذلك من حقوقهما. قال: ويلزمه إذا مات أحدهما فإن عدم خروجه يسخط الآخر. وقوله: (وَلَوْ بَعْدُ) يعني إذا لم يجد إلا ذلك ولو وجد الأقرب ثم تعداه فذلك مكروه أو مفسد. بِخِلاَفِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالْحُكُومَةِ وَأَدَاءِ الشِّهَادَةِ وَصَلاَةِ الْجَنَائِزِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَلَّ الاشْتِغَالُ بِهِ فَقَوْلانِ .... أي: فلا يخرج لهذه لما يلزم من فوات شرطه، وهو المسجد من غير ضرورة. وفي الموطأ: عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي. وقوله: (فَإِنْ كَانَ في الْمَسْجِدِ) .. إلى آخره، كره مالك في المدونة الصلاة على الجنائز وإن انتهى إليه زحام المصلين عليها، قال فيها: ولا يعود مريضاً معه في المسجد إلا أن يصلي إلى جنبه فلا بأس أن يسلم عليه، ولا يقوم ليعزي ولا ليهني. والقول بالجواز لعبد الوهاب في المعونة والتلقين. ففي التلقين: ولا يتصدر للإقراء ولا لتدريس العلم ولا يمشي لعيادة مريض أو صلاة على جنازة إلا أن يقرب ذلك من موضعه أو يسأل في قليل من العلم. انتهى بمعناه.

وَيَخْرُجُ لِغُسْلِ جُمُعَتِهِ أَوْ لِجَنَابَةِ اِحْتِلامٍ، وَلا يَنْتَظِرُ غَسْلَ ثَوْبِهِ وَلا تَجْفِيفَهُ، وَلِذَلِكَ اِسْتُحِبَّ أَنْ يُعِدَّ ثَوْباً آخَرَ ... كلامه ظاهر التصور، وكلامه منصوص في المدونة، اللخمي: ويختلف ف خروجه لغسل الجمعة قياساً على الاختلاف في خروجه لصلاة العيدين؛ لأن كليهما سنة. وفي المجموعة: لا بأس أن يخرج ليغتسل لحر أصابه. وَيُكْرَهُ اِشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ وَكِتَابَتِهِ مَا لَمْ يَخِفَّ سئل مالك في المدونة أي جلس مجالس العلماء ويكتب العلم؟ فقال: لا يفعل إلا الشيء الحفيف والترك أحب إلي. ابن القاسم في النوادر عن مالك إجازة كتابة الرسالة الخفيفة أو قراءتها إذا احتاج. قال صاحب المقدمات وصاحب الجواهر: اختلف في العمل الذي يعمل في الاعتكاف؟ فقيل إنه الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله، دون ما سوى ذلك من أعمال البر، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنه لا يجيز للمعتكف عيادة المريض والمدارسة العلم ولا الصلاة على الجنازة وإن كان ذلك كله من أعمال البر. وقيل: أنه جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب؛ لأنه لا يرى بأساً للمعتكف في مدارسة العلم وعيادة المريض، يريد: في موضع معتكفه، وكذلك الصلاة على الجنائز على مذهبه إذا انتهى إليه زحام الناس. وقلنا الأعمال المختصة بالآخرة تحرزاً من الحكم بين الناس والإصلاح بينهم. انتهى. قال في الجلاب: ولا بأس أن يقرأ أو يقرئ غيره القرآن.

وَلا يَاخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلا يَحْتَجِمُ وَإِنْ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ لِحُرْمَةِ المسجِد هذا ظاهر، قال في المجموعة: ولا يخرج لمداواة [167/ب] علة بعينه وليأته من يعالجه وكره مالك في المدونة أن يخرج من المسجد ويأكل بين يديه، ولكن في المسجد، قال: ولا يأكل ولا يقيل فوق ظهر المسجد. وَالصَّوْمُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءٌ أي: أنَّ من شرطه الصيام وليس من شرط الصيام أن يكون له؛ لاعتكافه صلى الله عليه وسلم في رمضان. فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافاً؛ فَقَوْلانِ أي: فلو كان الاعتكاف منذوراً فهل يتعين له صوم فلا يجزئ في رمضان؟ أو هو كغيره؟ قولان، والأول لابن الماجشون وسحنون، والثاني لمالك وابن عبد الحكم بناء على أن الصوم ركن فناذر الاعتكاف ناذر لجميع أجزائه، أو شرط فناذر الاعتكاف غير ناذر له لخروجه عن الماهية. وَلَوْ طَرَأَ مَا يمنع الصوم فَقَطْ دُونَ الْمَسْجِدِ كَالْْمَرِيضِ إِنْ قَدَرَ وَالْحَائِضُ تَخْرُجُ ثُمَّ تَطْهُرُ، فَفِي لُزُومِ الْمَسْجِدِ ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ يَخْرُجَانِ، فَإِذَا صَحَّ وَطَهُرَتْ رَجَعَا تِلْكَ السَّاعَةَ وَإِلا ابتدآ .... الضمير في (يمنع) عائد على الصوم، أي إذا طرأ مانع يمنع الصوم خاصة دون المكث في المسجد فإنه يخرج، ولم يذكر المصنف فيا لخروج خلافاً، وفيه قولان. واقتصر على الخروج لأنه مذهب المدونة. وأما الحائض فإنها تخرج اتفاقا، ً وإنما ذكرها المصنف بطريق التبع ليفيد الخلاف فيها، إذ الخلاف فيها وفي المريض بالنسبة إلى العود سواء.

وقوله: (فَفِي لُزُومِ الْمَسْجِدِ) تنبيه على الأقوال، أي ففي لزوم العود إلى المسجد وعدم لزومه. وقوله: (يَخْرُجَانِ) توطئة لذكر الرجوع لا أنه المقصود. وتؤخذ بقية الأقوال من قوله: (رَجَعَا تِلْكَ السَّاعَةَ وِإلا ابتدأ) فالأول يرجعان، وإن لم يرجعا لم يبتدأ. والقول الثاني أنهما لا يرجعان حينئذ بل إلى الليل لفقدان الصوم. وهو قول سحنون، والثالث وهو المشهور يرجعان تلك الساعة وإلا ابتدأ. واعلم أن هذه المسألة تشكل على الناس؛ لأن غالب عادة المصنف أن القول الثالث يدل على القولين الأولين كما سبق؛ فيلزم على الغالب من عادته من قوله: (ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: يَخْرُجَانِ) أن يكون الأول يخرجان والثاني يمكثان وليس كذلك؛ لأن الحائض لا يمنك بقاؤها في المسجد. والجواب عن هذه: أنه هنا لم يجر على الغالب من عادته. وقد فعل ذلك في مواضع لا تخفي على من له اشتغال بهذا الكتاب. والحق أن كلامه في هذه المسألة مشكل. والله أعلم. فرع: إذا خرج الميض والحائض فهما في حرمة الاعتكاف، وقال ابن القاسم عن مالك في العتبية أنها إذا خرجت للحيضة فلها أن تخرج في حوائجها إلى السوق وتصنع ما أرادت إلا لذة الرجال من قبلة أو جسة ونحوهما. قال سحنون: لا أعرف هذا بل تكون في بيتها في حرمة الاعتكاف ولا تدخل المسجد. وَفِي البقاء يَوْمَ الْعِيدِ لِقَضَاءِ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ- قَوْلانِ كما لو نذر اعتكاف العشر الأواخر ثم مرض بعد دخوله فيه خمسة ثم صح فإنه يقضي بعد العيد الخمسة التي مرضها وهل يلزمه أن يقيم يوم العيد في المسجد؟ قولان؛ وهما معاً في المدونة والمشهور عدم اللزوم؛ قال فيها في المثال المذكور: فإذا صح قبل الفطر

بيوم فليرجع إلى معتكفه فيبني ولا يبيت يوم الفطر في معتكفه ويخرج، فإذا مضى يوم الفطر عاد إلى معتكفه. وقال ابن نافع عن مالك: يشهد العيد مع الناس ويرجع إلى المسجد ذلك اليوم لا إلى بيته. وعلى المشهور فلو صح المريض ليلة العيد فلا يأتي وكذلك فهم عياض وناقض المسألة بمسألة المريض المتقدمة يصح في بعض يوم، فإن المشهور أنه يرجع، وكذلك الحائض تطهر، ولا فرق، فإن الكل مفرطون، ونحو هذه المناقضة للتونسي. وأجيب عنها: بأن اليوم الذي طهرت فيه الحائض وصح فيه المريض يصح صومه لغيرهما بخلاف يوم العيد فإنه لا يصح صومه لأحد. وتقدير كلام المصنف: وفي لزوم المعتكف الذي بقي لقضاء ما بقي عليه. وفي بعض النسخ (وفي الباقين) بالياء والنون. وفي بعضها: (وفي البقاء) على المصدر. بِخِلافِ مَا لَوْ تَخَلُّلَ اِبْتِدَاءً عَلَى الأَصَحِّ هذه مسألة في الجلاب. قال فيه: ولو اعتكف خمساً من رمضان وخمساً من شوال خرج يوم الفطر من المسجد إلى أهله، وعليه حرمة العكوف كما هي، ثم عاد قبل غروب الشمس من يومه. وقال عبد الملك يقيم في المسجد يومه ولا يخرج إلى أهله ويون يومه ذلك كليل أيام الاعتكاف. وعلى هذا فمخالفة هذا الفرع اللذي قبله إنما هي على كلام المصنف فقط. وإلا فقد ذكرنا أن المشهور فيهما الخروج، وهذا أولى من قول ابن عبد السلام وابن هارون: معناه، أن الأصح في المذهب الفرق بين أن يتخلل المرض في أثناء الاعتكاف بعد مضي يوم فأكثر، وبين أن يتخلل قبل الدخول فيه، فالأول يجب عليه قضاء أيام المرض والثاني لا قضاء عليه. قاله ابن عبدوس وتأوله ابن أبي زيد على النذر المعين. انتهى باختصار.

فإن كلامهما غير منطبق على كلام المصنف، إذ لا يقال: تخلل لما كان في الابتداء ولأن الكلام في لزوم المسجد لا في القضاء، لكن في كلام المصنف على ما ذكرناه أولاً نظر، لأن مسألة ابن الجلاب مقيدة بالنذر، وذلك [168/أ] لا يؤخذ من كلام المصنف، ذكر ذلك عبد الحق في تهذيبه، قال: وإذا اعتكف في خمس بقين من رمضان نواها مع خمسٍ من شوال أو دخل في غيره ينوي عكوف عشرة أيام على أن يفطر منها بعد خمسة أيام يوماً هذه نيته، فإننا ننهاه عن ذلك قبل الدخول فيه، فإذا دخل لم يلزمه إلا الخمسة الأولى ولا تلزمه الأيام التي بعد فطره، أبو محمد: إلا أن يكون نذرها بلسانه. وَعَلَى اللُّزُومِ فَفِي خُرُوجِهِ لِلْعِيدِ قَوْلانِ الخروج لمالك كغسل الجمعة، وعدمه لسحنون كصلاة الجنازة وهو أقيس، لأن مكثه واجب وصلاة العيد سنة. وَالْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهمَا مُفْسِدَةٌ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً، وَلَوْ كَانَتْ حَائِضاً وَلا بَاس أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ فِي مَجْلِسِهِ، وَبِالطِّيبِ ...... قوله: (مَفْسَدَةً) أي عمداً أو سهواً أو غلبة. وقوله: (ولَو كانت حائضاً) ظاهر، ونص عليه في المدونة. وقوله: (وَلا بَاس أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ) قيده في المدونة بأن يغشاه في مجلسه وهو مقيد أيضاً بأن لا يطول التشاغل به، وسواء كان زوجاً أوولياً. والفرق بينه وبين المحرم أن المعتكف عنده وازع وهو الصوم والمسجد؛ ولأن الحج عبادة شاقة فاحتيط لها، ولأن الحج مسافر، فالغالب بعده على الأهل وذلك مظنة التذكر المؤدي إلى الفساد بخلاف المعتكف. ابن وهب عن مالك: ولا يكره للمعتكفة أن تتزين وتلبس الحي. وذكر حمديس أنها لا تتطيب، وفي المجموعة خلافه.

وَيَجِبُ الاسْتٍئْنَافُ لِجَمِيعِهِ بِالْمُفْسدِ عَمْداً وَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِغَيْرِهِ وَالْبِنَاءُ يعني: أن مفسد الاعتكاف إذا فعل على سبيل العمد مبطل لجميع الاعتكاف لأنه لما كانت سنة التتابع تنزل بذلك منزلة العبادة الواحدة، فذلك يفسد كله بفساد جزئه. قوله: (وبِغَيْرِهِ) أي فإن لم يكن عمداً، بل كان سهواً أو غلبة فإنه يجب القضاء متصلاً بآخره. وظاهر كلامه أن القبلة والمباشرة بل والوطء سهواً مما يقضي فيه ويبني، وليس كذلك؛ ففي المدونة: إن جامع في ليله أو نهاره ناسياً أو قبل أو باشر أو لامس فسد اعتكافه وابتدأه. وأما إن أفطر لمرض فإما أن يكون في نذر أو نفل. قال في المقدمات: والنذر في الاعتكاف على وجهين: أحدهما أن ينذر اعتكاف أيام بأعيانها، والثاني: أن ينذر أياماً بغير أعيانها، فالأول لا يخلو أن تكون من رمضان أو من غيره، فإن كانت من رمضان، فعليه قضاؤها إن مرضها كلها لوجب قضاء الصوم عليه. وإن مرض بعضها قضى ما مرض منها، ووصله، فإن لم يصل، استأنف، سواء كان مرضه من أولها قبل دخوله فيها أو لا. وكذلك إن أفطر ساهياً، وأما إن أفطر فيها متعمداً من غير عذر فعليه استئناف الاعتكاف مع الكفارة لفطره في رمضان. وإن كانت من غير رمضان فمرضها كلها أو بعضها فثلاثة أقوال: أحدها: عليه القضاء مطلقاً على رواية ابن وهب في الصوم، الثاني نفى القضاء مطلقاً؛ وهو مذهب سحنون. والثالث: التفرقة بين أن يمرض قبل دخوله في الاعتكاف فلا يلزمه قضاء وبين أن يمرض بعد دخوله فيلزمه؛ وهو مذهب ابن القاسم في المدونة على تأويل ابن عبدوس. واختلف إذا أفطر فيه ساهياً على قولين، أحدهما: لا قضاء عليه وهو مذهب سحنون، والثاني: عليه القضاء بشرط الاتصال، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة.

وأما الوجه الثاني وهو أن ينذر أياماً بغير أعيانها فيقضي ما مرض منها أو أفطر ساهياً يصل ذلك باعتكافه. ولا خلاف في هذا، وإن أفطر فيه متعمداً أفسده ووجب عليه قضاؤه لوجوبه عليه بالدخول فيه، انتهى باختصار. وإن كان الاعتكاف تطوعاً فإن أفطر فيه بمرض أو حيض فلا قضاء عليه، وإن أفطر ناسياً قال عبد الملك: عليه القضاء. وهذا ظاهر المدونة؛ لقوله: من أكل يوماً من اعتكافه ناسياً يقضي يوماً مكانه، فعمم. وكذلك قال بعضهم: إن مذهب المدونة القضاء مطلقاً، وحمل بعضهم المدونة على النذر المعين وأما التطوع فلا يقضي فيه بالنسيان. وهو قول عبد الملك أيضاً وابن حبيب وهو أصح. وانظر: ما الفرق على الأول بين الاعتكاف والصوم؟ تنبيه: قال ابن رشد على ما تأول عليه ابن عبدوس إشارة إلى مسألة المدونة التي قال فيها: فيمن نذر اعتكاف شعبان فمرضه فلا شيء عليه، وإن نذرته امرأة فحاضت فيه، فإنها تصل القضاء بما اعتكفته قبل ذلك، ففرق بينهما ابن عبدوس بما ذكره عنه. واختاره ابن أبي زمنين وقال بعضهم: إنما قال في الحائض تقضي بناء على قوله في ناذر ذي الحجة أنه يلزمه قضاء أيام الذبح وكذلك ظاهر قول سحنون، وحمل المسالة على الخلاف لقوله بعد ذلك: وهذه مختلطة والله أعلم. وَلا يُسْقِطُهُ الاشْتِرَاطُ الضمير عائد على القضاء أي إذا اشترط المعتكف أولاً [168/ب] أنه إن حدثت له ضرورة توجب القضاء فلا قضاء، لمي فده ذلك. قال في الموطأ: وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنّة وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون.

وحكى عن ابن القصار انه قال: إن اشترط في الاعتكاف ما يغير سنته فلا يلزمه الاعتكاف والأول هو المعروف. وَيَبْنِي مِنْ خَرَجَ لِتَعَيُّنِ جِهَادٍ أَوْ مُحَاكَمَةٍ عَلَى الأَصَحِّ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أي: أن المعتكف في الثغور إذا نزل العدو فخرج ليقاتل أو عينه الإمام أو أخرجه الحاكم مطلقاً لإقامة حد عليه أو غيره، هل يبني – وإليه رجع مالك – أو يبتدئ؟ قولان، وهما في المدونة. ابن هارون: وفي كلام المصنف إيهام أن مالكاً رجع في المسألتين وإنما تكلم في المدونة على مسألة الجهاد فقط. فرع: قال فيها: ولا ينبغي للحاكم إخراجه لخصومة أو غيرها حتى يتم اعتكافه إلا أن يتبين له أنه إنما اعتكف لوزا أو فراراً من الحقوق فيرى فيه رأيه. وَمَنْ أَخَّرَ لْبِنَاءَ بَعْدَ ذَهَابِ عُذْرِهِ ابْتَدَأَ عَلَى الأصح يعني: أن من كان حكمه البناء تركه فذلك يتنزل منزلة من قطع اعتكافه اختياراً. والله أعلم. وَما اِخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ اِخْتُلِفَ فِي الاسْتِئْنَافِ، وَما اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ صِيَامِهِ اِخْتُلِف فِي قَضَائِهِ .. حاصله أنه جعل الاستئناف هنا كالكفارة في رمضان والقضاء هنا كالقضاء في رمضان، فإن وجبت الكفارة باتفاق وجب استئناف الاعتكاف باتفاق. وإن اختلف فيها، فيختلف هنا في الاستئناف وكذلك القضاء. وليس ذلك صحيحاً؛ لأن المشهور سقوط الكفارة عن المجامع ناسياً والمكرهة ولا خلاف في وجوب الاستئناف.

عياض: وأما تقبيلها واللمس بها مكرهة فيجب أن يراعي وجود اللذة منها وإلا فلا شيء عليها. وأيضاً فإن الإنعاظ الناشئ عن القبلة والمباشرة والمذي فمختلف في قضاء الصوم فيهما ولاخلاف في وجوب قضاء الاعتكاف بهما. وَأَقَلُّهُ يَوْمٌ، وَقِيلَ: وَلَيْلَةٌ، وأكمله عَشَرَةٌ، وَفِي كَرَاهَةِ مَا دُونَهَا قَوْلانِ أما القولان الأولان فلعلهما مبنيان على أنه هل يجب استيعاب الليلة بالاعتكاف أم لا؟ وقوله: (وأكمله عَشَرَةٌ) نحوه لابن حبيب واللخمي. ولفظ اللخمي: أكثره. ابن حبيب: أعلاه. وعلى هذا فاعتكاف الزائد خلاف الأولى؛ لأنه ليس وراء الأكمل فضيلة تطلب، ونقل عن بعضهم كراهة الزيادة، وظاهر كلام صاحب الرسالة خلافه لقوله: وأقل ما وهو أحب إلينا من الاعتكاف عشرة أيام. وفي الجلاب: والاختيار أن لا يعتكف المرء أقل من عشرة أيام. قوله: (وفِي كَرَاهَةِ مَا دُونَهَا) قال في المقدمات: قال ابن القاسم: أقل الاعتكاف عشرة أيام، وذلك رأيي أن لا ينقص عن عشرة أيام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينقص منها. ولكن إن نذر من ذلك لزمه. وسئل مالك في "التعبية" عن الاعتكاف في يوم أو يومين، فقال: ما أعرف هذا من اعتكاف الناس. قال ابن القاسم: وسئل عنه قبل ذلك فقال: لم أر به بأسا. وأنا لست أرى به بأسا؛ لأن الحديث قد جاء: أدنى الاعتكاف يوم وليلة، ولم أر من صرح بالكراهة فيما دون العشرة. نعم قد يؤخذ من قول مالك أن أقله عشرة، ومما قاله أيضاً في "العتبية". التلمساني: قال الأبهري: لا بأس أن يعتكف الإنسان عشرة أيام أو أقل أو أكثر. وَمَنْ نَذَرَ اِعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لزمه يومها، فَقِيلَ: تَبْطُلُ الأول هو المشهور، وهو مذهب المدونة، والبطلان لسحنون؛ ولعل سبب الخلاف هل هو ناذر له بغير شرطه فيبطل؟ أو الأصل في الكلام الإعمال دون الإهمال؟

وَيَجِبُ تَتَابُعُهُ فِي الْمُطْلَقِ أي: إذا نوى التتابع أو عدمه فعلى ما نوى، وإن لم ينو شيئاً لزمه التتابع لأنه سنة. وَمَنْ دَخَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ اعَتَدَّ بِيَوْمِهِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ لا يُعْتَدُّ بِهِ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلانِ [169/أ] أي أن من دخل معتكفه قبل غروب الشمس اعتد بصبيحة تلك الليلة اتفاقاً، اختلف إذا دخل بينهما فالمشهور الاعتداد. وقال سحنون: لا يعتد به وحمل بعضهم قول سحنون على أنه ليس بخلاف، وأن المشهور محمول على النذر. وقول سحنون محمول على التطوع. ابن رشد: والظاهر أنه خلاف. ابن راشد وابن هارون: وظاهر كلامه أن الخلاف جار ولودخل بقرب غروب الشمس. وظاهر الرواية أن الخلاف لا يدخل هذه وإنما محله إذا دخل قبل طلوع الفجر. وانظر ما قاله الأصحاب هنا مع ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه. وَإذَا دَخَلَ وَنَوَى وَجَبَ الْمَنْوِيُّ بِخِلافِ الجُوَار، لا يَجِبُ إِلا بِاللَّفْظِ كَالنَّذْرِ لجوار مَكَّةَ أَوْ مَسْجِدٍ فِي بَلَدٍ سَاكِنٍ هُوَ فِيهِ .... أما قوله إذا دخل ونوى وجب المنوي فظاهر، وهو من ثمرة وجوب التتابع، لأن ذلك يصيره بمنزلة العبادة الواحدة. وأما الجوار فلا شك أن الجوار المنذور باللفظ واجب لأنه طاعة. وأما عقده بالقلب، فذلك جار على الخلاف في انعقاد اليمين بالقلب. وأما إن لم يكن إلا مجرد النية، فإن نوى يوماً أو أياماً لم يلزمه ما بعد الأول، وهل يلزمه اليوم المنفرد أو اليوم الأول فيما إذا نوى أياماً بالدخول فيها؟ حمل ابن يونس على المدونة اللزوم، قال: وكذلك إن دخل في اليوم الثاني لزمه، وقال أبو عمران: لايلزمه هذا الجوار وإن دخل فيه، إذ لا صوم فيه، لأنه إنما نوى أن يذكر الله

والذكر يتبعض، فما ذكر يصح أن يكون عبادة، وكذلك لو نوى قراءة معلومة فلا يلزمه جميع ما نوى؛ لأن ما قرأ منه يثاب عليه، بخلاف صوم اليوم الواحد الذي لا يتبعض، قال في المقدمات: وقوله أظهر. والجوار بضم الجيم: المجاورة. ابن رشد وعياض: وهو على قسمين: جوار مطلق وهو كالاعتكاف سواء في لزوم الصوم وغيره، ومقيد، وهو الذي ذكره في المدونة بقوله: والجوار كالاعتكاف إلا من جاور بمكة نهاراً وينقلب من الليل إلى أهله فلا يصوم فيه، ولا يلزمه بدخول ونية حتى ينذره بلفظه. وَمَنْ نَذَرَ اِعْتِكَافاً بِمَسْجِدِ الْفُسْطَاطِ فَلْيَعْتَكِفْ بِمَوْضِعِهِ بِخِلافِ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وإيلياء ..... هذه المسألة وقعت هنا في بعض النسخ، ومعناها أن من نذر أن يعتكف بمسجد مصر وهو في موضع آخر، فليعتكف موضعه. بخلاف ما لو نذر الاعتكاف في أحد المساجد الثلاثة لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". فرع: قال في المدونة: ومن نذر أن يصوم بساحل من السواحل بموضع يتقرب بإتيانه كمكة والمدينة لزمه الصوم بذلك الموضع، وإن كان من أهل مكة وإيلياء، قال في المستخرجة: ولو نذر مثل ذلك بمثل العراق وشبهها صام مكانه. ابن يونس: ولو نذر اعتكافاً بساحل من السواحل اعتكف بموضعه بخلاف الصوم، لأن الصوم لا يمنعه من الحرس والجهاد والاعتكاف يمنعه من ذلك، فاعتكافه بموضعه أفضل. ابن راشد: سؤال: إذا نذر أن يتصدق بهذا الدرهم المعين لم يجز له أن يمسكه ويتصدق بمثله، ولو أراد أن يمسكه ويخرج عنه ديناراً لم يجز، وها هنا إذا نذر أن يعتكف بمسجد الفسطاط اعتكف بمسجد موضعه، وإن كان بمكة اعتكف بمسجدها لأنه أتى بالأفضل- وأجاز مالك له أن يأتي بالمثل الأفضل – وفي مسألة الدرهم لم يجز له ذلك؟!

والجامع بينهما أن خصوص الدرهم لا يتعلق به غرض للفقراء، والحاصل لهم بالمعين حاصل لهم بغيره كما أن خصوص هذا المسجد لا اعتبار به، فإذا أتى بمثل ما نذره أو أفضل منه جاز، وهذا السؤال كثيراً ما أورده علي الفضلاء ولم يتحرر لي جواب أرضاه، فتأمله انتهى. وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهِ جَازَ الْخُرُوجُ هذا ظاهر ولا أعلم فيه خلافاً، إلا ما اختاره اللخمي، وحكاه بعضهم عن ابن لبابة من مكثه ليلة آخره، لقول أبي سعيد فلما كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبيحتها من اعتكافه. وَفِي خُرُوجِهِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ قَوْلانِ، وَعَلَى الْمَنْعِ فِي فَسَادِهِ بِالْخُرُوجِ أَوْ بِمَا يُضَادُّ الاعْتِكَافَ قَوْلانِ ..... المشهور أن يقيم لفعله عليه الصلاة والسلام، وعليه فقال ابن القاسم: ليس بواجب خلافاً لابن الماجشون فإنه رآه واجباً وأبطل الاعتكاف بخروجه أو بفعله ما يضاد الاعتكاف. ولعل منشأ الخلاف اختلاف الأصولين في فعله عليه الصلاة والسالم هل هو محمول على الوجوب أوعلى الندب؟ [169/ب] وَأَفْضَلُهُ الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَاِخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخامسَةِ"، فَقِيلَ بِظاهِرِهِ، وَالْمَنْصُوصَ: لِتِسْعٍ بَقِينَ أَوْ سَبْعٍ أَوْ خَمْسٍ .... لا خفاء في أفضلية العشر الأواخر لمواظبته عليه الصلاة والسلام عليها، ويشهد للمنصوص ما في مسلم عن أبي سعيد الخدري لما سئل عن معنى الخامسة والسابعة والتاسعة، قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون، فهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون، فهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها أربعة وعشرون فهي السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون التي تليها هي الخامسة. وخرج البخاري نحو ذلك مرفوعاً من

حديث ابن عباس والحديثان المذكوران مبنيان على أن الشهر ناقص، وكأنه اعتبر المحقق وألغى المشكوك. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ أَوْ فِي جَمِيع الشَّهْرِ في جميع السنة أَوْ كَانَتْ وَرُفِعَتْ ضَعِيفٌ .... لا شك في ضعف الأخير. ابن هارون: وأما الأول فليس بضعيف كما تقدم في العشر الأواخر. قال المؤلف: بل هو الصحيح عند الجمهور، أنها تدور في العشر الأواخر؛ لأن الأحاديث في هذا الباب صحيحة ولا يمكن الجمع بينها إلا على ذلك انتهى. وقد اختلف في ليلة القدر على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها إلا أنها غير معروفة ليجتهد في طلبها، ليكون ذلك سبباً في طلبها لاستكثار فعل الخير. وافتقر الذين ذهبوا إلى هذا على أربعة أقوال، أحدها: أنها في العام كله، والثاني: أنها في شهر رمضان، والثالث: أنها في العشر الأواسط وفي العشر الأواخر. والرابع: أنها في العشر الأواخر. والقول الثاني أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها معروفة، واختلف القائلون بهذا القول على أربعة أقوال: أحدها أنها في ليلة إحدى وعشرين على حديث أبي سعيد. والثاني: أنها في ليلة ثلاث وعشرين على حديث عبد الله بن أنيس الجهني. والثالث: أنها ليلة سبع وعشرين على حديث أبي بن كعب وحديث معاوية؛ وهي كلها أحاديث صحاح. والرابع: أنها ليلة ثلاث وعشرين أو ليلة سبع وعشرين. والقول الثالث أنها ليست في ليلة بعينها وأنها تنتقل في الأعوام، وليست مختصة بالعشر الأواخر. والغالب أن تكون في العشر الأواسط والعشر الأواخر. والغالب من ذلك أن تكون في العشر الأواخر، وإلى هذا ذهب مالك رحمه الله والشافعي واحمد وأكثر أهل العلم وهو أصح الأقوال. قاله في المقدمات.

كتاب الحج

الْحَجُّ وَاجِبٌ مَرَّةً، وَفِي الْفَوْرِ أَوْ تَوَسِعَتِهِ إِلَى خَوْفِ الْفَوَاتِ قَوْلانِ أما وجوبه فلا إشكال فيه. قال القرافي في ذخيرته وابن بزيزة ومُصَنَّف الإرشاد في عمدته: والمشهور الفور. وقال ابن الفاكهاني في باب الأقضية من شرح الرسالة: والمشهور التراخي، وبالجملة فالعراقيون نقلوا عن مالك الفور، ويرون أنه المذهب. والباجي وابن رشد والتلمساني وغيرهم من المغاربة يرون أن المذهب الترخي أخذاً له من مسألة الزوجة والأبوين، وذلك لأن أشهب روى عن مالك أنه سئل عمن حلف على زوجته ألا تخرج فأرادت الحج وهي ضرورة، أنه يقضي عليه بذلك، قال: ولكن لا أدري ما تعجيل الحنث ها هنا حلف أمس، فتقول هي: أنا أحج اليوم، ولعله يؤخر ذلك سنة. وفي كتاب ابن عبد الحكم: أنه يؤخر ذلك سنة. قالوا: ولو كان ذلك على الفور ما شك في تعجيل الحنث، وأجيب بأن مالك فهم عنها قصد إضرار؛ لقوله حلف أمس، وتقول هي: أحج اليوم، وإذا تأملت ذلك وجدت دلالته على الفور أقرب. وأشار المصنف إلى مسألة الأبوين بقوله: وَعُمْدَةُ الْمُوسِّعِ طَوْعُ الأَبَوَيْنِ، وَلا يَقْوَى لِوُجُوبِهِ أَيْضاً أي: وعمدة القائل بالتراخي ما وقع لمالك من رواية ابن نافع أن الولد لا يعجل على والديه في الفريضة، وليستأذنهما العام والعام القابل، فإن أبيا فليخرج، ولو كان على الفور لعجل عليهما؛ لأن التراخي معصية ولا طاعة للأبوين في المعصية. والجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا معارض بمثله، فقد نقل في النوادر رواية أخرى بالإعجال عليهما، ونص ما ذكره: قال مالك: ولا يحج بغير إذن أبوه إلا حجة الفريضة، فليخرج ويدعهما، وإن قدر أن يراضيهما حتى يأذنا له فعل، وإن نذر حجة لا يكابرهما ولينظر إذنهما عاماً بعد

عام ولا يعجل، فإن أبيا فليحج، ومن توجه حاجاً بغير إذن والديه، فإن بعد وبلغ مثل المدينة فليتمادى. انتهى. ثم ذكر رواية ابن نافع عن النص المتقدم. الثاني: وهو ما ذكره المصنف: أن طاعة الأبوين لما كانت واجبة على الفور بالاتفاق وكان الحج مختلفاً في فوريته قدم المتفق على فوريته. ولا يلزم من التأخير لواجب [170/أ] أقوى منه أن يكون الفور غير واجب. خليل: والظاهر قول من شهر الفور. وفي كلام المصنف ميل إليه؛ لكونه ضَّعَفَ حُجَةَ التراخي؛ لأن القول بالفور نقله العراقيون عن مالك، والتراخي إنما أخذ من مسائل، وليس الأخذ منها بقوي، وعلى التراخي فهو مقيد بخوف الفوات كما قال المصنف، وهو ستون سنة، قاله سحنون، زاد: ويفسق وترد شهادته. ومنهم من أشار إلى أن ذلك مغياً بظن العجز، وذلك ربما اختلف باختلاف الناس بكثرة المرض وقِلَتِهِ. قال في المقدمات: ولا أعلم أحداً قال يفسق وترد شهادته غير سحنون. وَيَجِبُ بِالإِسْلامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالتَّكْلِيفِ وَالاسْتِطَاعَةِ كلامه ظاهر. وذكرُ الإسلام من شرائط الوجوب مبني على أن الكفار غير مخاطبون بفروع الشريعة. قال في الذخيرة: والمشهور الخطاب. وَالْمُعْتَبَرُ الأَمْنُ وَالإِمْكَانُ غَيْرُ الْمُضِرِّ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ أي: والمعتبر في الاستطاعة وحصولها الأمن على نفسه وماله، وإمكان السير بغير مشقة فادحة تلحقه في باطنه أو ظاهره؛ بأن يحتاج إلى السؤال ولا عادة له به، أو إلى المشيء أو ركوب المُقَتَّبُ، ولا يقدر على ذلك إلا بمشقة عظيمة، ولا يعتبر مطلق المشقة وإلا سقط الحج عن أكثر المستطيعين.

ونقل عبد الحق عن بعض شيوخه: أنه يعتبر في الاستطاعة وجود الماء في كل منهل؛ لأنه لو كُلِّفَ بنقل الماء لشَقَ عليه ذلك. وهل المعتبر ما يوصل فقط أو يرجع؟ نص عليه اللخمي- وهو ظاهر الرسالة-: أن المعتبر ما يوصل فقط. اللخمي: إلا أن يعلم أنه إن بقي هناك ضاع وخشي على نفسه، فيراعي ما يبلغه ويرجع به إلى أقرب المواضع مما يمكنه التمعش فيه. ونقل ابن المعلي عن بعض المتأخرين من أصحابنا اعتبار الذهاب والرجوع، وهو الذي قاله التلمساني؛ لأنه قال: إن قلنا إنه على التراخي اعتبر ما ينفقه ذاهباً وراجعاً وما ينفقه على الأقارب والزوجة، وإن قلنا إنه على الفور لم يعتبر ما ينفقه على الزوجة والأقارب، وهو مذهب الشافعي، وهو أظهر، إذ على الإنسان حرج عظيم في إلزامه المقام بغير بلده. فَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِاِخْتِلافِ الأَشْخَاصِ وَالْمَسَافَاتِ، فَيَلْزَمُ الْقَادِرَ عَلَى الْمَشْيِ بِغَيْرِ رَاحِلَةٍ، والأَعْمَى بِقَائِدٍ مِثْلِهِ ... أي: ولأجل أن المعتبر في الاستطاعة الإمكان غير المضر يختلف الحال باختلاف أحوال الناس فليس من لا يقدر على المشي ولا يكفيه القليل من المال كغيره، وليس القريب كالبعيد، ولا زمان الخصب كزمان الجدب؛ ولهذا جعل اللخمي الاستطاعة على أربعة أقسام: فإن لم تكن له صناعة في سفره، ولا قدرة له على المشي، اعتبر في حقه الزاد والراحلة، وإن كانت له صناعة يعيش بها في سفره وهو قادر على المشي لم يعتبر في حقه، وباقي التفسير واضح. وقوله: (والأَعْمَى بقَائِدٍ مِثْلِهِ) أي: والأعمى إذا كان قادراً على المشي ووجد من يقوده مثل البصير في الوجوب، ولا إشكال في هذا.

فرع: قال مالك: إن الركوب لمن قدر عليه أفضل من المشي. الأبهري: لحجه صلى الله عليه وسلم راكباً؛ ولأنه أمكن ي أداء ما يلزمه من الفرائض؛ لأنه أقرب إلى الشكر والرضي، والمشي أقرب إلى العجز، ولما فيه من زيادة النقة المضاعف ثوابها. وقال اللخمي وغيره من المتأخرين: المشي أفضل. وَفِي السّائِلِ إِنْ كَانَتِ الْعَادَةَ إِعْطَاؤُهُ قَوْلانِ قوله: (وَفِي السَّائِلِ) أي: إن كانت عادته السؤال، واحترز به مما لم تكن عادته السؤال وهو لا يقدر على الوصول إلا بالسؤال. ففي البيان أنه لا خلاف أنه لا يجب عليه. واختلف هل يباح له أو يكره؟ والأول رواه ابن عبد الحكم، والثاني: رواه ابن القاسم. واحترز بقوله: (إِنْ كَانَتِ الْعَادَةَ إِعْطَاؤُهُ) مما لو كانت العادة عدم الإعطاء، فلا يلزمه حينئذ بالاتفاق. وقوله: (قَوْلانِ) هما روايتان، وروى ابن القاسم السقوط وزاد فيها الكراهة، وهو ظاهر المذهب وأظهر من جهة المعنى، وروى ابن وهب الوجوب. وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ هذا مقابل قوله أولاً: (من غير تحديد) وهذا قول سحنون وابن حبيب. قال في الجواهر: وتؤول على من بعدت داره. ودليله ما رواه أبو داود والترمذي: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الاستطاعة، فقال: "هي الزاد والراحلة". الترمذي: وتكلم بعض أهل العلم في راويه من قبل حفظه، وأجيب عنه أيضاً بأنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو لأنه فهم عن السائل أنه لا قدرة له إلا بذلك.

[170/ب] وقد سئل مالك، هل الاستطاعة الزاد والراحلة؟ فقال: لا، والله واحد يجد زاداً وراحلة ولا يقدر، وآخر يقدر أن يمشي راجلاً، ورب صغير أجلد من كبير ولا صيغة في هذا أبين مما قال الله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]. وَلا يُعْتَبَرُ بَقَاؤُهُ فَقِيراً، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى ضِيَاعِهِ أَوْ ضَيَاعٍ مَنْ يَقُوتُ يعني: إذا كان معه ما يكفيه لسفره لكنه إن سار بقي فقيراً- لا شيء له ولا لأهله- فالمشهور الوجوب من غير نظر إلى ما يؤول أمره إليه، وأمر أهله؛ لأنه يصدق عليه أنه مستطيع، وهذا قول ابن القاسم في العتبية؛ لأنه سئل عن الرجل تكون له القرية ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده في الصدقة؟ قال: نعم ذلك عليه. وقيده في البيان بأن لا يخشى عليهم الهلاك، وأما لو خشي عليهم لقَدَّمَهُم قال: وهذا على أنه على الفور، وأما على التراخي، فلا شك في تقديم الولد. والشاذ أنه لا يلزمه للحرج، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت". وذكر في البيان: أنه اختلف في الإنسان ليس عنده إلا ما يحج به أو يعطيه لزوجته نفقة، وإن خرج ولم يترك لها نفقة طلقت نفسها على قولين: فإن قلنا الحج على التراخي اعتبر ما ينفقه عليها. وإن قلنا على الفور كان أولى من النفقة؛ لأن نفقة الزوجة لم تتعين، فإن شاءت صبرت وإن شاءت فارقت، وكذلك ذكر التلمساني في الأقارب. وسئل مالك- رحمه الله – عن الرجل العزب لا يكون عنده إلا ما يتزوج به أو يحج؟ قال: يحج. ولا شك في هذا القول بأنه على الفور. ابن رشد: وعلى التراخي فالحج أولى، إن تزوج لم يفسخ وكان آثماً على الفور. وهذا كله ما لم يخش العنت، وإن خشي تزوج، قاله مالك في السليمانية. ولا يجوز أن يتزوج الأمة ليوفر المال للحج لوجود الطول.

وَيُعْتَبَرُ الأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَفِي سُقُوطِهِ بِغَيْرِ الْمُجْحِفِ قَوْلانِ لما ذَكر أن الاستطاعة هي الأمن والإمكان، وتكلم على الإمكان، أخذ يتكلم على الأمن فقال: ويعتبر الأمن على النفس ولا شك في ذلك. وأما المال فإن كان من لصوص فكذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى ضياع النفس من غير فائدة وإن كان من صاحب مكس، فإن كان ما يأخذه غير معين أو معيناً مجحفاً سقط الوجوب، وفي غير المجحف قولان، أظهرهما عدم السقوط وهو قول الأبهري، واختاره ابن العربي وغيره، والآخر حكاه ابن القصار عن بعض الأصحاب، وفي شرح الرسالة لأبي محمد عبد الصادق: وإن كان مع الرجل زاد وراحلة إلا أنه لا يستطيع من لصوص قال مالك: هو عذر بين، ثم رجع بعدما أفتى به زماناً، وقال: الحذر لا ينجي من القدر، ويجب عليه. ابن المواز: لم يقل ذلك مالك إلا في مدينة الرسول عليه السلام، وأما غيرها من الأمصار فهو مخير ن شاء أجاب أو ترك. انتهى باختصار. ابن عبد السلام: وقد تقدم أنه لا يعتبر بقاؤه فقيراً، وأنه يبيع عروضه، وأنه يترك ولده ي الصدقة، وذلك أنه لا يراعي ما يجحف فضلاً عما لا يجحف. خليل: وقد يفرق بأن في الإعطاء هنا إعانة للظالم على ظلمه وبغيه. وَإذاً تَعَيَّنَ الْبَحْرُ وَجَبَ، إِلا أَنْ يَغْلِبَ الْعَطَبُ أَوْ يَعْلَمَ تَعْطِيلَ الصَّلاةِ بِمَيْدٍ أَوْ ضِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَرْكَبْهُ أَيَرْكَبُ حَيْثُ لا يُصَلِّي؟! وَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ ... يعني: تعيين البحر، إما أن يكون في جزيرة كأهل الأندلس، وإما لتعذر السير في البر لخوف أو غيره. الباجي: وظاهر المذهب وجوبه على من لا سبيل له. وقال القاضي أبو الحسن: إن كان بحراً مأموناً يكثر سلوكه للتجارة وغيرها، فإنه لا يسقط فرض الحج،

وإن كان بحراً مخوفاً تندر فيه السلامة ولا يكثر ركوب الناس له، فإن ذلك يسقط فرض الحج. وقد روى ابن القاسم عن مالك في المجموعة: أنه كره الحج في البحر إلا لمثل أهل الأندلس الذين لا يجدون طيقاً غيره، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 37]. ولم يذكر البحر. سحنون: ولما يلحق الناس فيه من تضييع كثير من أحكام الصلاة. وفي البيان: وقد قيل: إن فرض الحج ساقط عمن لا يقدر على الوصول إلى مكة إلا في البحر؛ لقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ...} الآية. وهو قول شاذ ودليل ضعيف؛ لأن مكة ليست داخلة في نفس البحر، فلا يصل إليها أحد إلا راكباً أو راجلاً، ركب البحر ي طريقه أو لم يركب. وقوله: (إِلا أَنْ يَغْلِبَ الْعَطَبُ ... إلخ) أي فيحرم ركوبه إذا عرض الخوف على النفس أو المال. ومال الباجي إلى ركوبه وإن أدى ذلك إلى تضييع بعض أحكام الصالة، لما وقع الاتفاق عليه من ركوبه في الجهاد. وفُرِّقَ بأن المراد من الجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا [171/أ] والقيام بها أشرف من القيام بالصلاة؛ لأن عدم القيام بالتوحيد كفر. وعدم القيام بالصلاة ليس بكفر على المعروف. ويضدها تتبين الأشياء، والحج مع الصلاة بالعكس؛ إذ هي أفضل. وما ذكره الباجي في الجهاد فهو محمول- والله أعلم- على ما تعين منه، وأما إذا لم يتعين فبعيد أن يقال بركوبه إن أدى إلى تضييع بعض أحكام الصالة. وَالْمَرأَةُ كَالرَّجُلِ أي: فيما تقدم إلا ما سيذكره.

وَزِيادَةِ اِسْتِصْحابِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ، فَإِنْ أَبَى أَوْ لَمْ يَكُنْ فَرُفْقَةٌ مَامُونَةٌ نَسَاءٌ أَوْ رِجَالٌ تَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ ... للحديث الصحيح:"لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم". وروى: "لا يحل لامرأة". وروى: "فوق ثلاث".وروى: "مسيرة ثلاث". وروى:"يومين". وروي: "مسيرة ليلة". وروى: "مسيرة يوم". وروى: "بريداً". وقد حملوا هذا الاختلاف على حسب اختلاف السائلين واختلاف المواطن، فإن ذلك معلق بأقل ما يقع عليه اسم السفر. وقوله: (لامرأة) نكرة في سياق النفي فتعم، وهو قول الجمهور. وقال بعض أصحابنا: تخرج منه المُتجالَّة؛ لأنها كالرجل. ورد بأن الخلوة بها ممنوعة. وقاس العلماء الزوج على المحرم بطريق أولى. والمحرم يشمل النسب والصهر والرضاع، لكن كره مالك سرها مع ربيبها، إما لفساد الزمان، أو لضعف مدرك التحريم عند بعضهم – وعلى هذا يلحق به محارم الصهر والرضاع – وإما لما بينهما من العداوة فسفرها معه تعريض لضيعتها، وهذا هو الظاهر. وقد صرح ابن الجلاب وصاحب التلقين بجواز سفر المرأة مع محرمها من الرضاع في باب الرضاع. وقوله: (فَإِنْ أَبَى) أي: الزوج أو المحرم. (أَوْ لَمْ يَكُنْ) أي: أحدهما. (فَرُفْقَةً مَامُونَةً) ابن بشير وابن بزيزة: وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال: قيل: لا تسافر إلا بأحدهما للحديث، كانت ضرورة أو لا. وقيل: تسافر م الرفقة مطلقاً، والمشهور تسافر في الفريضة خاصة. ابن حبيب: وسواء كانت شابة أو عجوزاً. وقد نقل صاحب الإكمال الاتفاق على المنع في غير الفريضة، ونقل عن الشيوخ اختلافاً في فهم قول مالك: تخرج مع رجال ونساء. هل معناه أنها لا تخرج إلا بهما، أم في جماعة من أحد الجنسين؟ قال: وأكثر ما نقله اصحابنا عنه اشتراط النساء قال: وقد قال ابن عبد الحكم: لا تخرج مع

رجال ليسوا منها بمحرم، ولعل مراده على الانفراد دون النساء، فيكون وفاقاً لما تقدم. انتهى. وحمل سند قول ابن عبد الحكم على الكراهة. وَفِي رُكُوبِهَا الْبَحْرَ وَالْمَشْيِ الْبَعِيدِ لِلْقَادِرَةِ قَوْلانِ المنقول عن مالك في الموازية كراهة سفر النساء في البحر. وفي العتبية: نهى مالك عن حج النساء في البحر. وأشار اللخمي إلى أن هذا إنما يحسن في الشابة ومن يولد لها، وأما المتجالة ومن لا يولد لها فهي كالرجل. وقيد عياض ما وقع لمالك بما صغر من السفن؛ لعدم الأمن حينئذ من انكشاف عوراتهن، لا سيما عند قضاء الحاجة. قال: وركوبهن فيما كبر من السفن وحيث يخصصن بأماكن يستترن فيها جائز، والمنقول أيضاً عن مالك في الموازية كراهة المشي لهن، قال: لأنهن عورة في مشيهن، إلا لماكن قريب مثل مكة وما حولها. والقول بلزوم المشي خَرَّجَهُ اللخمي من مسألة المشي من قول مالك في المدونة فيا لحانث والحانثة، والمشي على الرجال والنساء سواء، وأخذ القول بجواز ركوبهن البحر مما ورد في السنة بجواز ركوبهن في الجهاد. خليل: وقد يفرق بين ذلك: أما المسألة الأولى فلأنها لو كلفت بالمشي في الحج لزم منه عموم الفتنة والحرج بخلاف النذر؛ لأنها صورة نادرة وقد ألزمت نفسها ذلك بيمينها، ألا ترى أن الإنسان إذا لم يكن عنده إلا قوت يوم الفطر لا يلزمه إخراجه في زكاة الفطر، ولو نذر إخراجه للزمه. وأما الثانية فيجاب عنها بما تقدم، والله أعلم. وَشَرْطُ صِحَّتِهِ الإِسْلامُ أي: ولا يشترط في صحته غيره.

فَيُحْرِمُ الْوَلِيُّ عَنِ الطِّفْلِ أَوِ الْمَجْنُونِ بِتَجْرِيدِهِ يَنْوِي الإِحْرَامَ لا أَنْ يُلَبِّيَ عَنْهُ، وَيُلَبِّي الطِّفْلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَيَطُوفُ بِهِ وَيَسْعَى مَحْمُولاً إِنْ لَمْ يَقْوَ، وَيَرْمِي عَنْهُ إِنْ لَمْ يُحْسِنْ الرَمْي، وَيُحْضِرُهُ الْمَوَاقِيتَ وَلا يَرْكَعُ عَنْهُ عَلَى الأَشْهَر ... أي: فبسبب أنه لا يشترط غير الإسلام صح من الصبي والمجنون، فيحرم وليهما عنهما بتجريد كل منهما ينوي الإحرام، وحاصله أنه يدخلهما في الإحرام بالتجريد، والتجريد فعل فيكون كلامه هنا موافقاً لما سيقوله، أن الإحرام لابد في انعقاده من قول أو فعل، ولا يقال: ذِكرُه التجيد مخالفاً لما في المدونة: وإذا أحج الصبي أبوه وهو لا يعلم ما يؤمر به – مثل ابن سبع سنين وثمانية – فلا يجرده حتى يدنو من الحرم؛ لأنه إنما قال: وإذا أحج، ولا دلالة له في ذلك على أنه أحرم به قبل ذلك، وهو كقوله في الجلاب: ولا بأس أن يؤخر إحرام الصبي عن الميقات إلى قرب الحرم. وقوله: (الطِّفْلِ) أي: ولم يتكلم؛ لقوله: [171/ب] (وَيُلَبِّي الطَّفْلُ الْذِي يَتَكَلَّمُ) وهو مذهب المدونة، ويؤيده ما رواه مسلم: أن امرأة أخذت بضبعي صبي، فقالت: يا سول الله، ألهذا حج؟ فقال: "نعم ولك أجر" وقال في الموازية: لا يحج بالرضيع، وأما ابن خمس سنين أو أربع فنعم. اللخمي: وعلى قوله هذا فلا يحج بالمجنون المطبق. عياض: وحمل الأصحاب قوله: لا يحج بالرضيع على كراهة ذلك لا على منعه. ابن عبد السلام: ووقع في كلام بعض شارحي الموطأ من المتأخرين: أن الحج لا يصح من المجنون نقلاً ولا فرضاً، وهو خلاف نص المدونة. قوله: وَيُلَبِّي الطِّفْلُ الْذِي يَتَكَلَّمُ) أي: الذي يؤتمر إذا أمر. وبقوله: (وَيَطُوفُ) إلى آخره. قاعدة: إن ما يمكن للصبي فعله بنفسه، وما لا يمكن فعله، فإن قبل النيابة فعل عنه وإلا سقط. واختلف هل يركع عه؟ فالمشهور: لا؛ لام ثبت أنه لا يصلي أحد عن أحد. ونقل حمديس عن ابن عبد الحكم أنه يركع عنه. والظاهر أنه لا يخرج منه قول بجواز

التلبية بجامع أن كُلاَّ منهما عبادة بدنية معجوز عنها؛ لأنه لما كان الركوع كالجزء من الطواف والطواف يقبل النيابة ناسب أن يركع عنه بخلاف التلبية، وفي قوله: (الْمَوَاقِيتَ) نظر؛ إذ الميقات واحد، ولعله يريد المشاعر كعرفة والمزدلفة ومنى. وَلا بَاسَ بِبَقَاءٍ خَلاخِلِ الذُّكُورِ وَأَسْوِرَتِهِمْ، وَكُرِهَ لِلذُّكُورِ حُلِيُّ الذَّهَبِ مُطْلِقاً هذا كقوله في المدونة: ولا بأس أن يُحرِم بالأصاغر الذكور وفي أرجلهم الخلاخل وعليهم الأسورة. وكره مالك للأصاغر الذكور حلي الذهب. ابن عبد السلام: وأخذ منها غير واحد جواز تحلية الذكور بالفضة، وانه يستخف في الصغير ما يمنع منه الكبير، وأخذهم ظاهر؛ لكنه مشكل في تفرقته بين الذهب والفضة. وقول المصنف: (مُطْلَقاً) أي: في الإحرام وغيره. قال في التنبيهات والكراهية معناه التحيم؛ لأنه قال عبد هذا فيه وفي الحرير: أكرهه لهم كما أكرهه للرجال. وهو حرام على الرجال عنده، فظاهره أنه لم يكره الخلاخل والأسورة لهم من الفضة، وذلك حرام على الذكور كالذهب؛ إلا الخاتم وحده وآلة الحرب انتهى. وقال التونسي: ظاهر جوابه أولاً جوازه في الجميع؛ إذ لم يفصل ذهباً ولا فضة، والأشبه منعهم من كل ما يمنع منه الكبير؛ لأن أولياءهم مخاطبون بذلك ويأتي على قياس قوله: جواز لباسهم ثياب الحرير. وقد نص على منعهم منه في الكتاب. انتهى. عياض: وظاهره التخفيف؛ إذ سئل عنه في الإحرام، ولو سئل عن جواز لبسهم له لعله كان لا يجيزه على أصله كما جاء في مسائل من صرف أواني الذهب والفضة. انتهى. ومقتضى قول ابن شعبان: أن تحلية الصغير لا تجوز؛ لأنه أوجب فيها الزكاة. ولو كان لبسها مباحاً لسقطت الزكاة. ويعضده مارواه الترمذي وصححه عنه عليه الصلاة والسلام: "حرام لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وحلال لإناثهم".

لا سيما وقد روى أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تحلى ذهباً أو حلياً أو حلى ولده مثل جزء بصيصة لم يدخل الجنة". وجزء البصيصة: هي الحبة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة. وَأَمَّا الْمُمَيِّزُ وَالْعَبْدُ فَعَنْ أَنْفُسِهِمَا يحرمان عن أنفسهما، وهو ظاهر. وَزِيَادَةُ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَلِيِّ إِلا إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ ضَيْعَةً كما لو كانت في الحضر ربع درهم في اليوم، وفي السفر نصفاً، فيكون على الولي الزائد؛ لأنه أدخل الصبي فيما لا ضرورة له به، إلا أن يخشى على الصبي الضيعة إذا ترك فالزيادة في مال الصبي إذا دَفَعَ عنه بالزيادة ضرراً، ولا إشكال مع تساوي النفقتين. وَالْفِدْيَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ عَلَى وَلِيِّهِ، وَثَالِثُهَا كَزِيادَتِهَا تصوره ظاهر، والقول بأن ذلك في مال الطفل حكاه في الجلاب عن بعض الأصحاب، والقول بأنها على الولي لمالك في الموازية، وحكاه ابن الجلاب أيضاً. أبو عمر في كاَفِيِه: وهو الأشهر عن مالك. والفرق للأشهر أن الولي مضطر إلى الخروج به لا إلى إحرامه، فكأنه هو الذي أوقعه في الغرم. وزعم ابن عبد السلام أن القول الثالث هو المروي عن مالك. قال في الجواهر: ولو طيب الولي الصبي فالفدية على الولي، إلا إذا قصد المداواة فيكون كاستعمال الصبي. وَلَوْ بَلَغَ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يُجْزِئُهُ عَنِ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يُعْتقَ إِلا أَنْ يَكُونَا غَيْرَ مُحْرِمَيْنِ فَيُحْرِمَانِ، وَلَوْ فِي لَيْلَةِ النَّحْر ..... أي: إذا أحرم الصبي بالحج وبلغ في أثنائه لزمه أن يتمادى على ما أحرم به ولا يجزئه عن فرضه؛ لأنه إنما انعقد نفلاً، وهذا هو المذهب، فقد ذكر صاحب اللباب عن مالك

عدم الإجزاء سواء جدَّدَ إحراماً أم لا، ونحوه للتلمساني، والقرافي، ونحوه في الاستذكار لقوله: واختلف في المراهق والعبد يحرمان بالحج، ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف، فقال مالك: لا سبيل إلى رفض إحرامهما ويتماديان ولا يجزئهما وعليهما حجة الإسلام. وقال الشافعي: يجزئهما عن حجة الإسلام ولا يحتاجان إلى تجديد إحرام. وقال أبو حنيفة: إن جدد الصبي قبل وقوفه بعرفة أجزأه لا إن لم يجدد، وأما العبد [172/أ] فلا يجزئه مطلقاً. انتهى بمعناه. ونص غير واحد على انه يلزمهما التمادي ولا يكون لهما رفض الإحرام. وفي الإكمال: اختلف العلماء فيمن أحرم وهو صبي فبلغ قبل عمل شيء من الحج. فقال مالك: لا يرفض إحرامه ويتم حجه، ولا يجزئه عن حجة الإسلام، قال: وإن استأنف الإحرام قبل الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام، وقال: يجزئه إن نوى في إحرامه الأول حجة الإسلام. انتهى. ولم أر من وافقه على الإجزاء فيما إذا استأنف الإحرام، ولا ما إذا نوى بإحرامه الأول الفرض. على أنه يمكن حمل قوله: وإن استأنف على أن يكون مراده إذا لم يكن محرماً، فانظره. وقوله: (وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يُعْتقَ) ظاهر. وكذلك قوله: (إِلا أَنْ يَكُونَا) ظاهر، وهو استثناء منقطع ولعله ذكره ليرتب عليه ما بعده. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَّلَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ قَبْلَهُ الضمير في: (قَبْلَهُ) عائد على البلوغ، يريد إذا أحرم بغير إذنه فله أن يحلله، لا سيما إذا كان يرجو بلوغه، فيحلله رجاء أني حج الفرض. وقوله: (وَكَذَلِكَ) راجع إلى قوله: (إلا أن يكونا) أي: فيحرم هذا الصبي الآخر ويجزئه عن فرضه، وأما لو أحرم بإذنه فليس له أن يحلله، وبهذا تعلم أن قول ابن عبد

السلام: تأمل هل يجوز له أن يحلله؟ وأي فائدة في ذلك إلا أن يخشى أن يدخل على نفسه فدية أو جزاء صيد – ليس بظاهر. وفِي الْعَبْدِ يُحَلِّلُهُ سَيِّدُهُ قَبْلَهُ إذا أحرم العبد بغير إذن سيده وحلله قبله – أي: قبل العتق- ثم أعتق فقولان؛ أي هل هو كالصبي فيحرم بفريضة، أو ليس هو كالصبي؛ لأنه مكلف فيقدم قضاء ما ترتب عليه إذا أعتق؛ لتسببه مع عدم إذن سيده؟ وفي معنى العتق الإذن له. ونسب اللخمي القضاء لابن القاسم وعدمه لأشهب. هكذا مَشَّى هذا المحل شيخنا رحمه الله تعالى وعلى هذا فالضمير في قوله: (قَبْلَهُ) عائد على العتق الذي فهم من قوله: وكذلك العبد يعتق. وجعل ابن راشد القولين: هل يمضي تحليل السيد العبد ويحرم بالفريضة كالصبي أو لا يمضي تحليله لأنه من أهل التكليف؟ قال: ولم يحك اللخمي إلا القول بأن إحرامه يبطل، ثم ذكر الخلاف الذي ذكرناه في أنه هل يجب عليه القضاء أم لا؟ وتمشية شيخنا أولى لمساعدة النقل لها. وحمل ابن عبد السلام القولين على أن المعنى أنه اختلف في العبد يحلله سيده قبل الوقوف بعرفة إذا أحرم بعد ذلك بحجة الإسلام هل يجزئه أم لا؟ قال: والقول بعدم الإجزاء هنا لا أعرفه، وإنما الخلاف هل يلزمه القضاء أم لا؟ انتهى. وليس بظاهر، والله أعلم. أما لو أحرم بإذن سيده فليس له تحليله، قاله في المدونة وغيرها. فرع: فلو أذن ثم بدا له قبل أن يحرم، فله ذلك عند مالك. اللخمي: وليس بالبين. سند: وظاهر المدونة عندي أنه ليس له الرجوع بعد الإذن. وَمَنْ نَوَى النَّفْلَ لَمْ يُجْزِئهِ عَنِ الْفَرْضِ كسائر العبادات، فلا ينقلب النفل فرضاً.

وَلا اسْتِنَابَةَ لِعَاجِزِ عَلَى الْمَشْهُورِ– وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ قال سند: اتفق أهل المذاهب أن الصحيح لا تجوز استنابته في فرض الحج، والمذهب كراهتها في التطوع، وإن وقعت صحت الإجارة، وحرمها الشافعي قياساً على الفرض. انتهى. وأما العاجز فحكى المصنف فيه ثلاثة أقاول: المشهور: عدم الجواز؛ أي: تكره. صرح في الجلاب بذلك وكلام المصنف لا تؤخذ منه الكراهة بل المنع. ابن هارون: وهو ظاهر ما حكاه اللخمي. والقول الثاني: الجواز مطلقاً، وهو مروي عن مالك. وقال ابن وهب وأبو مصعب: يجوز في حق الولد خاصة؛ لأن الرخصة وردت فيه. ونقل عن ابن وهب أنه أجاز أن يحج الرجل عن قرابته، ولم يخص الولد. ويقول ابن وهب الأول قال ابن حبيب؛ لأنه قال: قد جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لم ينهض ولمي حج، وعن من مات ولم يحج أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به، ويجزئه ن شاء الله، والله واسع بعباده وأحق بالتجاوز، وهذا لفظ النوادر عنه. واظهر قوله: يجزئه إن شاء الله؛ أنه يجزئه عن الفرض وهو خلاف ما قاله عبد الوهاب وغيره: لسنا نعني بصحة النيابة أن الفرض يسقط عنه بحج الغير. ابن القصار: وإنما للميت المحجوج عنه أجر النفقة إن أوصى أن يستأجر من ماله على ذلك، وإن تطوع عنه أحد بذلك فله أجر الدعاء وفضله. وهذا انتفاع الميت. وروى عن مالك أنه قال: لا أدري أيجزئه عند الله. وأخذ الباجي قولاً بسقوط الفرض من قول مالك فيمن أوصى أن يحج عنه بعد موته، أنه لا يستأجر عنه صبي ولا من فيه عقد حرية.

قال: فلولا أن الحج على وجه النيابة عن الموصى لما اعتبرت صف المباشرة للحج. خليل: وفيه نظر؛ لجواز أن يرى مالك ذلك مراعاة لقصده ومراعاة للخلاف، وكان الترتيب يقتضي أن لا يأتي بهذه المسألة هنا، بل بعد مسائلة النيابة، لكن لما ذكرنا قول ابن حبيب ذكرناها لذلك. ويُتَطَوَّعُ عَنْهُ بِغَيْرِ هَذَا – يُهْدِي عَنْهُ أَوْ يُتَصَدَّقُ أَوْ يُعْتِقُ هذا لمالك في المدونة ونصها: ومن مات وهو صرورة ولم يوص [172/ب] أن يحج عنه، فأراد أن يتطوع عنه بذلك ولد أو والد أو أجنبي فليتطوع بغير هذا: يهدي عنه، أو يتصدق، أو يعتق. وإنما كانت هذه الأشياء أولى؛ لوصولها إلى الميت من غير خلاف بخلاف الحج. فائدة: من الأشياء ما لا يقبل النيابة بالإجماع، كالإيمان بالله عز وجل، ومنها ما يقبلها إجماعاً كالدعاء والصدقة ورد الديون والودائع. واختلف في الصوم والحج، والمذهب أنهما لا يقبلان النيابة. وكذلك القراءة لا تصل على المذهب، حكاه القرافي في قواعده والشيخ ابن أبي جمرة، وهو المشهور من مذهب الشافعي، ذكره النووي في الأذكار. ومذهب أحمد وصول القراءة. ومذهب مالك كراهة القراءة على القبور، ونقله سيدي ابن أبي جمرة في شرح مختصر البخاري، قال: لأنا مكلفون بالتفكر فيما قبل لهم وماذا لقوا، ونحن مكلفون بالتدبر في القرآن قال الأمر إلى إسقاط أحد العملين. وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتَكُونُ لِمَنْ حَجَّ أَحَبَّ إِلَيَّ أي: إذا فرعنا على المشهور من عدم إجازة النيابة فأوصى بذلك فالمشهور تنفذ مراعاةً للخلاف. وقال ابن كنانة: لا تنفذ وصيته؛ لأن الوصية لا تبيح الممنوع، قال: ويصرف قدر الموصى به في هدايا. وقال بعض من قال بقوله: يصرفه في وجه من وجوه الخير. وفي

الموازية والواضحة: في امرأة أوصت أن يحج عنها إن حمل ذلك ثلثها، وإن لم يحمل أعتق به رقبة، فحمل ذلك ثلثها أيحج عنها؟ قال: أرى أن يعتق عنها ولا يحج. قيل له: فكل من أوصى أن يحج عنه أينفذ ذلك من ثلثه؟ قال: نعم. فضل: وهذه رواية سوء وكان سحنون ينكرها. وقوله: (وتَكُونُ لِمَنْ حَجَّ أَحَبَّ إِلَيَّ) أي: أن مالكاً قال: وإن كانت الوصية عنده مكروهة أن الوصية بها لمن حج أحب إليَّ من أن يوصي بها لمن لم يحج. وعلله عبد الوهاب بأنه يُكره عندنا أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام للذي سمعه يُحرم عن غيره: "حج عن نفسك ثم عن شُبْرُمة". أشهب: ولا بأس أن يستأجر الوصي صرورة إذا كان لا يجد سبيلاً إلى الحج، وأما من يجد سبيلاً إليه فلا ينبغي. وقال ابن القاسم: إذا جهلوا فآجروا صرورة ممن لا يجد السبيل أجزأه. وَإِنْ لَمْ يُوَصِ لَمْ يَلْزَمْ وَإِنْ كَانَ صَرُورَةً عَلَى الأَصَحِّ الخلاف راجع إلى الصرورة، وكلامه يقتضي أن الخلاف في اللزوم، وظاهر كلام ابن بشير وابن شاس: أن الخلاف إنما هو في الجواز وهو ظاهر، وكذلك قال ابن بريزة، ولفظه: المستنيب إما أن يكون حياً أو ميتاً، فإن كان ميتأً فإما أن يوصي أو لا يوصي، فإن لم يوصِ فلا يحج عنه على المشهور سواء كان صرورة أو غير صرورة. وَيُكْرَهُ لِلْمَرْءِ إِجَارَةَ نَفْسِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَتَلْزَمُ أي: إذا أنفذنا الوصية أو أجزناها ابتداءً فهل يجوز لأحد أن يؤاجر نفسه أو يكره؟ المشهور الكراهة. قال مالك: لأن يؤاجر الإنسان نفسه فيعمل اللبن والحطب- وفي رواية: وسوق الإبل- أحب إلي من أن يعمل لله عز وجل عملاً بأجر. ورأى في الشاذ أن هذا من باب الإعانة على الطاعة.

وَهِي قِسْمَانِ: قِسْمٌ بِمُعَيِّنٍ فَيُمَلَّكُ وَعَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ، وَقِسْمٌ يُسْمَّى الْبَلاغُ - وَهُوَ إِعْطَاؤُهُ مَالاً يَحُجُّ مِنْهُ – فَلَهُ الإِنْفَاقُ بِالْمَعْرُوفِ وَإذَا رَجَعَ رَدَّ مَا فَضَلَ قوله: (فَيُمَلَّكُ) أي: فيضمنه، ويكون الفضل له والنقصان عليه، وليس المراد بقوله: (فَيُمَلَّكُ) أنه يفعل به ما أراد؛ لأن مالكاً قال في السليمانية: لاينبغي للأجير أني ركب من الجمال والدواب إلا ما كان الميت يركب، لأنه كذلك أراد أن يوصي، ولا يقضي بها دينه ويسأل الناس، وهذه جناية، وإنما أراد الميت أن يحج عنه بماله والعادة اليوم خلاف ذلك، وأنه يصنع به ما أحب، ويحج ماشياً وكيف تيسر. انتهى. وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: ومثل هذا المساجد ونحوها يأخذها الوجيه بوجاهته، ثم يدفع منها شيئاً قليلاً لمن ينوب عنه، فأرى الذي أبقاه لنفسه حراماً؛ لأنه اتخذ عبادة الله متجراً ولم يوف بقصد صاحبها، إذ مراده التوسعة ليأتي بذلك الأجير منشرح الصدر. قال رحمه الله تعالى: وأما من اضطر إلى شيء من الإجارة على ذلك، فأنا أعذره لضرورته. وقوله في القسم الثاني: (فَلَهُ الإِنْفَاقُ بالْمَعْرُوفِ) قال مالك في الموازية: في مثل الكعك، والخل، والزيت، واللحم المرة بعد المرة، والثياب، والوَطَاء، واللحاف فإذا رجع رد ما فضل ورد الثياب، ولا يقال: إذا رد ما فضل يلزم منه البيع والسلف؛ لأن ما أنفقه أجرة وما رده سلف، لأنا نقول: المقبوض لا يتعين للإجارة إلا بالإنفاق بدليل أنه لو هلك لم يضمنه. ابن راشد: والبلاغ [173/أ] قسمان: بلاغ في الثمن وهو الذي ذكره المصنف. وبلاغ في الحج ومعناه: إن وفَّى بالحج كان له الثمن وإلا فلا شيء له، وإذا مات قبل إكمال الحج استرجع منه جميع الأجرة، ولايترك له شيء لما سار له، وهذا القسم ذكره الموثقون واللخمي.

فرع: فالإجارة وإن كرهها مالك مطلقاً فالمضمونة أحب إليه؛ لأنه إذا مات حوسب بما صار له وأخذ من تركته، وهو أحوط. ويَرْجِعُ بِمَا زَادَ عَنْهَا وَعَمَّا لَزِمَهُ مِنْ هَدْيٍ أَوْ فِدْيَةِ غَيْرَ مُتَعَمِّدِ حَجَّ أَوْ صُدَّ أَوْ أُحْصِرَ ابن راشد وابن عبد السلام وابن هارون: معناه أن الأجير يرجع- إذا لم تَكفِه النفقة – بما أنفقه زائداً عليها، ويحسب فيها الهدي إذا لم يتعمد إيجابه، كما لو لزمه سهواً أو اضطراراً، وإن تعاطى موجب الهدي فليس على الورثة شيء من ذلك. وقوله: (حَجَّ) أي: سواء تم حجه أو صد بعدو أو أحصر بمرض عن تمام الحج، ومثله من فاته الحج. قال شيخنا: بل المعنى أنه يرجع على الأجير بما زاد عن نفقته، كما لو اشترى هدية أو غيرها مما لا تعلق للحج به، وعلى هذا يضبط مبنياً لما لم يسم فاعله، ولو كان المراد أن الأجير يرجع لقال: بما زاد عليها. وقول ابن هارون أن (عَنْهَا) متعلق بـ (فضل)، وأنه من باب التنازع- بعيد. وَنَفَقَتُهُ بَعْدَ فُرْضِهِ من مَالِ الْمَيِّتِ مَا أَقَامَ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الإِحْرَامِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ فَإِنْ تَمَادَى فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ .... أي: ونفقة الأجير على البلاغ بعد فرضه، أي: بعد إحرامه، كقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ ....} [البقرة: 197] وليس المراد بعد أداء فرضه. فإن الإجارة قد تكون على طوع. وقوله: (مَا أَقَامَ) أي: مدة إقامته في الإحرام، ولو طال الزمان؛ لأنه على ذلك انعقدت الإجارة، وهذا مقيد بما إذا لم يكن العام المستأجر عليه معيناً، وأما المعين فتفسخ الإجارة سواء صد بعدو أو مرض، أو فاته الحج بخطأ العدد؛ أما من صدِ فظاهر؛ لأنه يمكن التحلل حيث كان. وأما المريض ومن فاته الحج، فهما وإن لم يمكنهما التحلل حتى يذهبا إلى مكة ويتحللان بعمل عمرة فلأن العام الذي استؤجرا عليه ذهب، وإنما يتماديان

لحق الله فيما يتحللان به من الإحرام، فكأن ذلك معصية وقعت بهما، قال معناه اللخمي. ووقع في نسخة ابن راشد: (مرضه) عوض (فَرْضِهِ). وقد ذكر في المدونة وغيرها المسألة كذلك، وهو أنه إذا أخذ المال على البلاغ فله نفقته ما أقام مريضاً في مال الميت، وإن أقام إلى حج قابل. وقوله: (وَلَوْ تَلِفَ قبله فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ) اعلم أنه لا شيء عليه مطلقاً سواء تلف قبله أو بعده؛ لأنه أمين، وإنما فصل المصنف في التلف للكلام على حكم الأجير، ورجع إذا تلف قبل الإحرام؛ لأنه إنما انعقدت الإجارة على ذلك المال ولم تنعقد على المال المطلق لعدم الدخول عليه، وله النفقة في رجوعه، إلا أن تكون الإجارة على نفقته من الثلث فيرجع في باقيه، وإن كان المدفوع أولاً جميع الثلث وعليه رَاضَوهُ فلا شيء عليه. انتهى. وإن تمادى على السير بعد تلفها، فنفقته عليه في ذهابه وفي رجوعه إلى المكان الذي ذهبت فيه النفقة. واختلف فيما ينفقه في رجوعه من موضع ضياعها على روايتين: إحداهما: أن نفقته على المستأجر وبها أخذ ابن القاسم. والثانية: أنها على الأجير وبها أخذ ابن حبيب وابن يونس. والأول أحسن؛ لأنه مضطر إلى ذلك والأجير هو الذي أوقعه فيه. فإن لم تضع النفقة لكنها فرغت من المؤن قبل الإحرام، فههنا لايرجع ويمضي ونفقته عليهم؛ لأن العقد باق وأحكامه باقية، قاله سند. فرع: وإذا تلف المال وكان في الثلث فضلة فقال ابن القاسم: ليس على الورثة أن يحجوا عنه. وقال أشهب: هو عليهم كالوصية بالعتق فيموت العبد بعد الشراء.

وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ وَلا مَالَ لِلْمَيِّتِ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمُسْتَاجِرِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَقَوْلانِ أي: وإن تلف المال المأخوذ على البلاغ بعد الإحرام فإنه يمضي في حجه لعدم ارتفاض الحج، ثم إن لم يكن للميت مال فالنفقة على المستأجر؛ لأنه هو الذي أوقعه في هذا، وهو مخطئ في تركه الإجارة المضمونة. ومذهب المدونة فيما إذا كان للميت مال أنه على الأجير أيضاً؛ للخطأ المذكور. والقول بأن ذلك من مال الميت لابن حبيب، وصوب القابسي وابن شبلون الأول. ووجه قول ابن حبيب: أن الولي قد يؤدي نظره إلى البلاغ، إما لرفق وإما لصلاح في الجير أو لهما. واعترض صاحب النكت قول ابن حبيب بأن الدافع إما أن يجعل متعدياً بتركه الإجارة الحقيقية أم لا؟ فإن كان متعدياً كان الرجوع [173/ب] في ماله مطلقاً، وإلا فلا يرجع عليه مطلقاً. أما إن أمرهم أن يستأجروا عنه على البلاغ فيرجع في بقية ثلثه إن لم يقسم باتفاق. قال صاحب البيان: وإن كان قسم فعلى الاختلاف في الذي يوصي أن يشتري عبداً من ثلثه فيعتق، فاشترى ولم ينفذ له العتق حتى مات وقد قسم الورثة ماله، فقد قيل: أنه يشتري له عبد آخر من بقية الثلث وهو ظاهر ما في المدونة وقبل: لا. وَلَوْ صُدَّ الأَجِيرُ أَوْ مَاتَ اسْتُؤْجِرَ مِنْ حَيْثُ اِنْتَهَى، وَلَهُ إِلَيْهِ قوله: (الأَجِيرُ) أي: سواء كان على الضمان أو على البلاغ. ففي الضمان له بحسب ما سار على قدر صعوبة الطريق وسهولتها وأمنها وخوفها لا بمجرد قطع المسافة؛ فقد يكون ربع المسافة يساوي نصف الكراء، هذا هو المشهور. ونقل ابن حبيب أن الأجير إذا مات بعد دخول مكة تكون له الأجرة كاملة. وضُعِّفَ؛ لبقاء ما اقتضاه العقد. وفي البلاغ: يرد ما فضل وقوله: (وَلَهُ إِلَيْهِ) أي: وللأجير مطلقاً المصدود أو الميت إلى الموضع الذي حصل له ذلك على ما تقدم. وقد ذكر في المدونة الأجيرين، وفسرهما ابن اللباد بما

قلناه، وحمل ابن عبد السلام المسألة على أجير البلاغ. وما ذكرناه أولى؛ لموافقة المدونة، ولكونه أعم فائدة، وجعل أيضاً الضمير في قوله: (له) عائد على الأجير ثانياً. أي: للأجير أيضاً النفقة ذاهباً وجائياً إلى حيث انتهى الأول، وفيه بُعْد. فَلَوْ أَرَادَ بَقاءَ إِجَارَتِهِ إِلَى الْعَامِ الثَّانِي مُحْرِماً أَوْ مُتَحَلِّلاً – فَقَوْلانِ هذا خاص بالإجارة المضمونة؛ أي: إذا صُدَّ في الإجارة على الضمان أو أُحصِر بمرض حتى فاته الحج، فأراد هو أو من استأجره أن يبقى على حكم الإجارة إلى العام الثاني محرماً أو متحللاً، فهل لهما ذلك أو لابد من الفسخ؟ قولان للمتأخرين: فمن رأى أنه لما تعذر الحج في هذا العام انفسخت فصار له دين في ذمته يأخذ عنه منافع متأخرة مَنَع؛ لأنه فسخ دين في دين. ومن رأى هذا النوع أخف من الإجارة الحقيقية ولم يقدر الانفساخ، لأنه إنما قبض الأجرة عن الحج وقد صار الأمر إليه –أجاز. واختار ابن أبي زيد الجواز، وأما في البلاغ فذلك جائز فيه؛ لأن ما أخذه الأجير ليس ديناً في ذمته، قال في البيان: وأما لو ترتب في ذمته مال لم يجز أن يصرف في الإجارة عند مالك وجميع أصحابه. وَلَوْ نَوَى عَنْ نَفْسِهِ انْفَسَخَتْ إِنْ عَيَّنَ الْعَامَ لأن ما استؤجر عليه لم يأت به والعقد لم يتناول العام الثاني. ومفهوم قوله: (إِنْ عَيَّنَ الْعَامَ) أنهما لو دخلا على عام غير معين لم تنفسخ الإجارة، وبذلك صرح ابن بشير وابن عبد السلام، وأشار ابن بشير إلى أنهما لو دخلا على السكوت أن الإجارة تنفسخ كما لو عين العام. وعلله ابن راشد بأن العام الأول يتعين. ونص صاحب البيان على خلافه وسيأتي لفظه. فرع: فلو أحرم عن الميت ثم صرفه إلى نفسه، قال في الذخيرة: لم يجز عنهما ولم يستحق الأجرة. وقال الشافعي: يقع عن الميت. وفي النوادر: إن نوى الأجير الصرورة

الحج عن نفسه أجزأه عن نفسه وأعاد عن الميت. رواه أبو زيد عن ابن القاسم، وروى عنه أصبغ: لا يجزئ عن واحد منهما، وقال أصبغ: وليرجع ثانية عن الميت. انتهى. فَلَوْ اِعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ حَجَّ فَكَذَلِكَ أي: فالحكم فيه الانفساخ لتعيين العام، أما إن لم يكن العام معيناً فلا تنفسخ. ففي المدونة: من أخذ مالاً ليحج به عن ميت من بعض الآفاق فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت من مكة لم يجزه ذلك عن الميت، وعليه أن يحج حجة أخرى كما استؤجر. زاد ابن القاسم في العتبية: لا أبالي شرطوا عليه الإحرام من ذي الحليفة أم لا يشترطوا. ولابن القاسم في العتبية والأسدية: إذا اعتمر عن نفسه وحج عن الميت من مكة أجزأه، إلا إن شرطوا عليه أن يحرم من ميقات الميت، ولا حجة للمستأجر عليه بذلك. واستبعده صاحب البيان. وقال ابن المواز: إذا كان خروجه عن الميت، وأحرم عن الميت من الميقات أجزأه ذلك، وإن أحرم من مكة فعليه البدل. واختلف في فهم المدونة، فنقل ابن يونس عن بعض شيوخه أنه قال: يلزمه أني حج عن الميت من الموضع الذي استؤجر منه لا من الميقات؛ لأنه لما اعتمر عن نفسه فكأنه خرج لذلك، ففهم أن مذهب المدونة على نفي الإجزاء. ابن يونس: وأرى أنه إن رجع وأحرم من ميقات الميت أنه يجزئه؛ لأنه منه تَعَدٍ، فعلى تأويل ابن يونس يكون في المسألة قولان. وعلى تأويل غيره يكون فيها ثلاثة أقوال والله أعلم. استشكل التونسي الإجزاء مطلقاً، قال: وكذلك أنه إذا اعتمر عن نفسه ثم حج عن الميت من الميقات فقد صارت هذه الحجة فيها نقص لما كان تمنعه عن نفسه بعمرة في أشهر الحج. فإن حج من [174/أ] مكة فيدخله مع ذلك نقص الإحرام من الميقات عن الميت. فلو قيل في هذه المسألة أنه يرجع عليه بقدر ما نقص ما بَعُدْ. انتهى باختصار. فروع: الأول: لو شر عليه القِرَان فأفرد، فالمذهب لا يجزئه؛ لإتيانه بغير المعقود عليه. وكذلك لو استؤجر على القران فتمتع، أو على التمتع فقرن، ذكره في الذخيرة.

الثاني: لو قدم الحج على العام المشترط فقال بعض الأندلسيين: يجزئه كما لو قدم دَيناً قبل محله، نقله ابن راشد. الثالث: لو شرط عليه ميقاتاً فأحرم من غيره، فظاهر المذهب لا يجزئه ويرد المال في الحج المعين إن فات، قاله في الذخيرة. الرابع: لو استؤجر رجل على الحج والزيارة فتعذرت عليه الزيارة- فقال ابن أبي زيد: يرد من الإجارة قدر مسافة الزيارة، وقيل: يرجع ثانية حتى يزور. وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الإِفْرَادَ بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ فَقَرَنَ اِنْفَسَخَتِ فَلَوْ تَمَتَّعَ أَعَادَ يعني: فلو شرط على الأجير الإفراد – بسبب أن الميت أوصى بذلك فخالف الأجير الشرط- فإن خالفه بقِران انفسخت الإجارة سواء كان العام معيناً أم لا، فإن خالفه فتمتع لم تنفسخ وأعاد وإن كان العام غير معين، هكذا قال ابن عبد السلام. وما ذكره المصنف من الإعادة في التمتع والانفساخ في القران نص عليه جماعة. ابن بشير: ولا يجزئه ما أتى به من تمتع أو قران بالاتفاق، إذا كان المشترط الإفراد هو الميت، وهو مراد المصنف احترازاً من الورثة. وفرق بين تمكين المتمتع من الإعادة وعدم تمكين القارن منها بأن عداء القارن خفي؛ لأنه في النية فلا يؤمن أن يفعل مثل ذلك، وعداء المتمتع ظاهر؛ فلهذا مكن من العود. وفيه نظر؛ لأنا لو راعينا أمر النية لم تجز هذه الإجارة لاحتمال أن يحرم عن نفسه، وقيل في الفرق إن القارن يشارك في العمل فأتى ببعض ما استؤجر عليه. والمتمتع أيضاً لا يجزئه وهو مخاطب بالإعادة، وقيل: لأن القارن استؤجر على عام بعينه، والمتمتع استؤجر على عام مضمون. واعترض بأنه إحالة للرواية عن ظاهرها.

فَلَوْ شَرَطَ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ فَقَوْلانِ أي: فلو شرط الورثة على الأجير الإفراد ولم يكن الميت أوصى به- فخالف الأجير ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يجزئ ما أتى به من تمتع أو قران؛ لأن قصد الميت حجة وقد حصلت. والثاني: أن ذلك لا يجزئ؛ لأن الوارث يتنزل منزلته ويتحصل فيما إذا اشترط عليه الورثة الإفراد فتمتع ثلاثة أقوال: قال ابن القاسم: لا يجزئ. ونقل عن مالك الإجزاء ابن يونس وغيره، وإليه رجع ابن القاسم. ونقل ابن حبيب: إن نوى العمرة عن الميت أجزأه، وإن نواها عن نفسه ضمن المال، ويتحصل فيما إذا اشترط عليه الورثة الإفراد فقرن ثلاثة أقوال: قال في الجلاب: قال ابن القاسم: لا يجزئ وعليه الإعادة. وقال عبد الملك يجزئ. وفرق ابن حبيب بين أن ينوي العمرة عن نفسه أو عن الميت كما تقدم. وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنِ السَّنَةَ فَفِي الْبُطْلانِ قَوْلانِ، وَعَلَى الصِّحَّةِ تَتَعَيَّنُ أَوَّلُ سَنَةٍ يعني: إذا وقع العقد على سَنةٍ غير معينة فقيل: لا يصح للجهالة، وقيل: يصح وهو أظهر، كما في سائر عقود الإجارة إذا وقعت مطلقاً، فإنها تصح وبحمل على أقرب زمان يمكن وقوع الفعل فيه. ابن شاس: والقولان للمتأخرين. وفي البيان: إن استؤجر على أن يحج في ذلك العام فلا يتعين في ذلك العام، كمن استأجر سَقَّاءً على أن يأتيه بِجِرَارٍ معينة في يوم معين، ثم أخلفَ السقاء فإنه لا تنفسخ، قال: وإن استأجره على الحج وسكت، فهو على أول سَنة. فإن لم يحج في أول سَنة لزمه فيما بعدها. وذهب ابن العطار إلى أن السنة تتعين بذكرها، ولا تصح الإجارة إلا بتعيينها. فأما قوله: إنها تتعين بذرها، فقد قيل ذلك، وهو الذي يدل عليه ما في الحج الثالث من المدونة. وأما ما ذهب إليه من أن الإجارة لا تصح إلا بتعيينها فليس بصحيح؛ فقد أجاز في سماع أبي زيد من العتبية الاستئجار على حجة مقاطعة في سنة بعينها.

وَفِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِذِمَّةِ الأَجِيرِ قَوْلانِ محل الخلاف إذا لم تكن قرينة في التعيين، وأما لو حصلت صير إليها. فعلى القول بأنها تتعلق بذمته له أن يستأجر من هو في مثل حاله، بخلاف القول الآخر. ابن بشير: والقولان للمتأخرين. والذي اختاره ابن عبد البر وغيره أنه يتعلق بنفسه. خليل: وقد يتخرج عليهما ما إذا مات الأجير في أثناء الطريق، فعلى تعلقها بنفسه تنفسخ، وعلى تعلقها بذمته يستأجر من ماله من يتم، ويكون الفضل له والنقصان عليه. وإلى ذلك أشار بعضهم. [174/ب] وَفِي تَعْيِينِ مَنْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ قَوْلانِ إِلا فِي ذِي حَالٍ يُفْهَمُ قَصْدُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا تَتَعَيَّنُ بَطَلَتْ لِغَيْرَهِ ...... تصوره ظاهر، وفي الجواهر نحوه، لأنه قال بعد أن ذكر الخلاف في تعيينه: وعليه يخرج الخلاف في امتناعه، هل يعوض بغيره أو تبطل الوصية؟ وفي الجلاب: ومن أوصى أن يحج عنه رجل بعينه فأبى أن يحج عنه، فإن كان الموصي لم يحج عن نفسه دفعت حجته إلى غيره، وإن كان قد حج بطلت وصيته ورد المال إلى ورثته. التلمساني: وقال ابن القاسم. وقال غير ابن القاسم: لا يرجع ميراثاً وهو كالصرورة؛ لأن الحج إنما أراد به نفسه بخلاف الوصية لمسكين معين. وإِذَا سَمَّى قَدْراً فَوُجِدَ بِدُونِهِ فَالْفَاضِلُ مِيرَاثٌ إِلا إذَا عَيَّنَ وَفُهِمَ إِعْطَاءُ الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: يَحُجُّ حِجَجَاً ..... قال في المدونة: ومن أوصى أن يُحَجَّ عنه بأربعين ديناراً فدفعوها إلى رجل على البلاغ وفضلت نمها فليرد إلى الورثة ما فضل، كقوله: اشتروا عبد فلان بمائة وأعتقوه فاشتروه

بأقل فالبقية ميراث. وكذلك إذا قال: أعطوا فلاناً أربعين ديناراً يحج بها عني فاستؤجر بثلاثين – كان الفضل ميراث. انتهى. وقال ابن المواز: إذا سمي ما يعطي فذلك كله للموصى له، إلا أن يرضي بدونه بعد علمه بالوصية، وهذا إذا قال: يَحُجُ بهذه الأربعين عني فلان أو قال رجل، وأما إذا قال: حجوا بها عني أو يحج عني بها فلتنفذ كلها في حجة أو حجتين أو ثلاث أو أكثر، ولو جعلت في حجة واحدة فهو أحسن. وكذلك لو قال: أعتقوا عني بهذه المائة، ولم يقل عبداً ولاسمي عدداً يعتق عنه بها. وإن قال: أعتقوا عبد فلان بهذه الأربعين، فإنها تدفع له إلا أن يعلم سيد العبد بالوصية ويرضى بالأقل. ابن بشير: واختلف المتأخرون في قول ابن المواز هل هو تفسير لكلام ابن القاسم أو خلاف؟ قال سند: إن كان الموصى له وارثاً لا يزاد على النفقة والكراء شيء. قاله في كتاب الوصية. وإن كان غير وارث فعلم ورضي بدونه فقد أسقط حقه، وإن لم يعلم: فرأى ابن القاسم أن المقصود الحج، وقال ابن المواز: يدفع الجميع له في الحج، وإذا قلنا يعطي الزائد فقال: أحجوا غيري وأعطوني الزائد لم يوافق؛ لأنه أوصى له بشرط الحج. قوله: إذَا عَيَّنَ وفُهِمَ إِعْطَاءُ الْجَمِيعِ) أي: فيعطي له؛ لأنه حينئذ وصية؛ يريد: ما لم يكن وارثاً. قوله: (وَقِيلَ، يَحُجُ حِجَجَاً) راجع إلى أصل المسألة؛ أي: إذا لم يفهم إعطاء الجميع. واعترض قياس ابن القاسم" عبد فلان" على "الحج" بأن القصد في الرقبة إنما هو فكاكها بخلاف الحج، فإنه يقصد فيه كثرة النفقة. فإن قيل: وكثرة الثمن مقصودة في الرقبة أيضاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: وقد سئل أي الرقاب أفضل؟ فقال: "أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها ... " الحديث- قيل هذا إنما يحسن في الرقبة غير المعينة، وأما المعينة فلا، والله أعلم.

فرعان: الأول: لو قال: حجوا عني بِثُلُثِي حجة واحدة فحجوا بدونه فبالباقي ميراث عند ابن القاسم، وعند أشهب: يخرجون في حجة أخرى، وفعلهم للأقل جائز، ولا يجزئهم عند سحنون، ويضمنون للمخالفة، نقله في الذخيرة. والثاني: إن أوصى أن يحج عنه بمال فتبرع أحد بالحج. فقال سند: يعود على قول ابن القاسم ميراثاً. وعلى قول أشهب يُستَأجَر به. تنبيه: قال في العتبية في رجل أوصى أن يحج عنه بثلثه فوجد ثلاثة ألف دينار ونحو ذلك- أنه يحج عنه حتى يستوعب الثلث. قال في البيان: لأنه لما كان الثلث واسعاً حُمِلَ على أنه لم يرد حجة واحدة، وإن كان ثلثه يشبه أن يحج به حجةً واحدة رجع ما بقي ميراثاً كما قال في المدونة في مسألة الأربعين ديناراً، قال: وليست هذه مخالفة للمدونة. ولو أوصى أن يحج عنه من ثُلثه لم يزد على حجة؛ لأن (من) للتبعيض. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بِهِ كُلِّهِ مِنْ مَحَلِّهِ – فَثَالِثُهَا إِنْ كَانَ صَرُورَةً حَجَّ عَنْهُ مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ مَكَّةَ وَإِلا فَمِيرَاثٌ .... أي: فإن لم يوجد من يحج عنه بما سمي من المال (مِنْ مَحَلِّهِ) أي: من محل الموصى. قال في البيان: فإن لمي سم من بلد كذا فلا اختلاف أنه يحج عنه من حيث وجد، وأما إن قال: حجوا بها عني من بلد كذا وبه مات فإن لم يوجد من يحج بها عنه من ذلك البلد قال ابن القاسم في العتبية: يرجع ميراثاً. وروي مثله عن أصبغ، وروي عن ابن القاسم أيضاً: أنه يستأجر له بها من حيث يوجد، إلا أن يبين أنه لا يحج بها عنه إلا من بلده. وحكى مثل ذلك ابن المواز عن أشهب، واختار هو الأول إن كان الميت حج، وقول أشهب إن لم يحج انتهى.

العمرة

وَالْعُمَرَةُ كَالْحَجِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي وُجُوبِهَا قَوْلانِ أي: في الاستطاعة وفي الإيجار عليها. والمشهور أنها سُنَّة. وقال ابن الجهم وابن حبيب بوجوبها. [175/أ] وَخُرَّجَ الإِشْهَادُ عَلَى الإِحْرَامِ إِذاَ لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ عَلَى الْخِلافِ فِي الأَجِيرِ عَلَى تَوْصِيلِ كِتَابٍ .... معناه: أن العرف إن جرى بالإشهاد على الإحرام على الغير أو بعدمه صير إليه. وإن لم يكن عرف فخرج أبو عمران في ذلك قولين من مسألة كتاب الرواحل وهي: أجير استؤجر على حمل كتاب إلى بلد فأتى بعد أيام يمكنه الوصول فيها والرجوع وعم أنه بَلَّغ الكتاب، فحكم له ابن القاسم بالأجرة. وقال غيره: لا يستحقها إلا بعد إقامة البينة. خليل: ويمكن الفرق بينهما أن الحج مبني على الأمانة المحضة بدليل تأمينه على النفقة بخلاف غيره. وحكي ابن عبد السلام القولين منصوصين في الحج للمتأخرين فلا احتياج إلى التخريج. فروع: الأول: من أوصى أن يحج عنه وكان صرورة فلا يَحُج عنه عبد ولا صبي إلا أن يأذن له في ذلك الموصي، قاله في المدونة. وقال ابن القاسم في الموازية: يدفع ذلك لغيرهما وإن أوصى لهما، أما إن ظن الموصي أن العبد حر وقد اجتهد، فلا يضمن على ظاهر المذهب. ومن حج ثم أوصى أن يحج عنه فلا بأس أن يحج عنه عبد أو صبي، إلا أن يمنع منذ ذلك. الثاني: إذا أوصى بمال وحج فإن كان صرورة فقال مالك في المدونة: يتحاصان، وقال في العتبية: تقدم حجة الفريضة. قال في البيان: والصحيح على مذهب مالك أن الوصية بالمال مبدأة بمال ميراث؛ لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد، فلا قرية في ذلك على أصله.

أفعال الحج

وإن كان غيره صرورة، ففي المدونة أن المال مبدأ. وفي العتبية: يتحاصان. ففي هذه قولان، وفي الأولى ثلاثة أقوال. انتهى. الثالث: لو قال: أحجوا فلاناً عني فأبى فلان إلا بأكثر من أجرة المثل زيد مثل ثلثها، فإن أبى أن يحج عنه إلا بأكثر من ثلثه، لم يزد على ذلك واستؤجر من يحج عنه غيره بعد الاستيناء ولم يرجع ذلك إلى الورثة إن كانت الحجة فريضة باتفاق، أو نافلة على قول غير ابن القاسم في المدونة خلاف قوله فيها، قاله في البيان. وَأَفْعَالُ الْحَجِّ وَاجِبَاتٌ؛ أَرْكَانٌ غَيْرُ مُنْجَبِرَةٍ، وَوَاجِبَاتٌ؛ غَيْرُ أَرْكَانٍ مُنْجَبِرَةٍ، وَمَسْنُونَاتٌ، وَمَحْظُورَاتٌ مُفْسِدَةٌ، وَمَحْظُورَاتٌ مُنْجَبِرَةٌ .... يعني: أن أفعال الحج مقسمة إلى ما ذكر، ولا ينبغي أن يذكر في أفعال الحج المحظور المفسد والمنجبر، ألا ترى أن الفعل المفسد للصلاة لا يقال فيه أنه من أفعالها. ابن راشد: لكنه قصد أني بين ما يصدر من الحاج، وأضاف المحظورات إلى الحج؛ لكونها تقع فيه، والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، وحينئذ يقال: الفعل الصادر من الحاج إما مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك. ومطلوب الفعل قسمان: واجب وغيره. ومطلوب الترك مفسد منجبر والله أعلم. الأولى أَرَبْعَةٌ: الإِحْرَامُ، وَوُقُوفُ عَرَفَةَ جُزْءاً مِنْ اللَيْلِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَطَوَافُ الإِفَاضَةِ، وَالسَّعْيُ، وَقَالَ اِبْنُ الْمَاجِشُونِ، وَجَمْرَةُ الْعَقَبَةِ ... قوله: (الأُولَى) أي: القسمة الأولى، وفي بعض النسخ: (الأول) أي: القسم الأول، وهو الواجبات الأركان. وزاد ابن الماجشون على الأربعة جمرة العقبة والوقوف بالمشعر الحرام، نقله في المقدمات. وحكى اللخمي عنه أنه لو ترك الوقوف بالمشعر الحرام لا شيء عليه، ولعل له قولين.

والدليل على ركنية السعي قوله عليه الصلاة والسلام: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". وضعفه بعضهم، لكن قال في الاستذكار: جوده الشافعي وغيره. وَيَرْجِعُ لِلَسَّعْيِ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِعُمْرَةٍ إِنْ أَصَابَ النِّسَاءَ المشهور مذهب المدونة، ولا فرق بين السعي كله أو بعضه، ومقابله رواية عن مالك: أنه لا يرجع إليه من بلده ويجزئه الدم. اللخمي اوبن بشير: وهذا مراعاة للخلاف؛ لأن أبا حنيفة لايرى ركنيته. أي: فلا يؤخذ منه أنه ليس بركن. وإذا رجع على المشهور، فإنه يطوف ثم يسعى؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد الطواف. وقوله: (بعُمْرَةٍ إِنْ أَصَابَ النِّسَاءَ) ليس متعلقاً بـ (يَرْجِعُ) بل بمحذوف تقديره: ويأتي بعمرة بعد طوافه وسعيه إن أصاب النساء؛ جبراً للخلل الذي وقع في الحج بسبب الوطء. أما إن لم يصب النساء فلا عمرة عليه، بل الهدي فقط. وَالْوَاجِبَاتُ الْمُنْجَبِرَةُ - وَقِيلَ: سُنَنٌ - فِيهَا دَمٌ كَالإِحْرَامِ بَعْدَ تَجَاوَزِ الْمِيقَاتِ، وَالتَّلْبيَةِ جُمْلَةً عَلَى الأَظْهَرِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ لِغَيْرِ الْمُرَاهِقِ خِلافاً لأَشْهَبَ، وَهُمَا مَعاً كَأَحَدِهِمَا، وَفِي سُقُوطِهِ عَنِ النَّاسِي قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ، وَرَكْعَتَيِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالإِفَاضَةِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَعَ الإِمَامِ قَبْلَ الدَّفْعِ لِلْمُتَمَكِّنِ، وَنُزُولِ المُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ عَلَى الأَشْهَرِ، وَرَمْيِ كُلَّ حَصَاةَ مِنَ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقِ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَالسَّعْيِ بَعْدَ الإِفَاضَةِ قَبْلَ سَفَرِ مُنْشِئ الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ، وَالْمَبِيتِ بِمِنَى كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيِهَا أَوْ جُلَّ لَيْلَةٍ. وقوله: (وَقِيلَ، سُنَنَّ) هو خلاف في الاصطلاح. أي: هل يُعتَبر عن "المنجبر بالدم" [175/ب] بـ"الواجب غير الركني" أو بـ "السنة"؟ ويظهر الفرق بينهما بالتأثيم وعدمه، قاله ابن عبد السلام. وقال الأستاذ الطرطوشي: وأصحابنا يعبرون عن هذه الخصال بثلاث عبارات: فمنهم من يقول: واجبات. ومنهم من يقول: وجوب السنن. ومنهم من

يقول: سنة مؤكدة. قال: ولم أر لأحد من أصحابنا هل يأثم بتركها أم لا؟ وأراد بالوجوب وجوب الدم، والأمر محتمل. وقوله: (كَالإِحْرَامِ بَعْدَ تَجَاوَزِ الْمِيقَاتِ) لا يريد أنه يجب عليه ترك الإحرام من الميقات ليحرم بعده، وإنما يريد أن الإحرام من الميقات واجب ليس بركن، فإذا ترك الإحرام من الميقات وجب عليه دم، وقد يجاب عنه بأن قوله: (كَالإِحْرَامِ) متعلق بقوله: (فِيهَا دَمْ) أي: من أمثلة ما فيه الدم الإحرام بعد تجاوز الميقات. وقوله: (وَالتَّلْبيَةِ جُمْلَةً عَلَى الأَظْهَرِ) أي: وكترك التلبية. وعلى الأظهر لو أتي بالتلبية وقتاً دون وقت فلا شيء عليه، لكن مقتضى كلام المصنف أنه لا فرق في ذلك بين أن يأتي بها أول الإحرام أو لا، وليس كذلك. قال في المدونة: وإن توجه ناسياً من فناء المسجد للتلبية كان بنيته محرماً، وإن ذكر من قرب ليَّ ولا شيء عليه، وإن تطاول ذلك به أو نسيه حتى فرغ من حجه فليهرق دماً. انتهى. فجعل تركها أول الإحرام مع التطاول بمنزلة تركها جملة في وجوب الدم، ومقابل الأظهر ذكره اللخمي فقال: واختلف إذا ابتدأ بالتلبية ثم قطع هل يكون عليه دم أم لا؟ فظاهر كلامه أن مقابل الأظهر سقوط الدم ولو ترك التلبية جملة ولم أره. وقوله: (وَطَوَافَ الْقُدُومِ) معطوف أيضاً؛ أي: وكترك طواف القدوم أو ترك السعي بعده لغير المراهق، وأما المراهق فلا خلاف في عدم وجوبها عليه وسقوط الدم عنه. وقوله: (خِلافاً لأَشْهَبَ) راجع إلى غير المراهق. وقوله: (وَهُمَا مَعاً كَأحَدِهمَا)؛ أي: وتركهما معاً كترك أحدهما. وقوله: (وَفِي سُقُوطِهِ)؛ أي: الهدي. قال في الجلاب: وإن ترك الطواف والسعي ناسياً والوقت واسع، فلا دم عليه عند ابن القاسم، والقياس عندي أنه يلزمه الدم بخلاف المراهق وكذلك قال الشيخ أبو بكر الأبهري. انتهى. قيل إن ابن الجلاب قاس ذلك على سائر مايترك من أفعال الحج الواجبة، فإنه قال: لا فرق في ذلك بين أن يتركها عمداً أو سهواً، ورأى ابن القاسم أن النسيان عذر فكان كالمراهق.

وقوله: (وَرَكْعَتَي طَوَافِ الْقُدُومِ وَالإِفَاضَةِ)؛ أي: ويجب الدم بترك كل من ركتي القدوم والإفاضة إذا بعد عن مكة جبراص؛ للتفرقة، وانظر كيف أوجبوا الدم في ركعتي طواف القدوم ولم يوجبه ابن القاسم في ترك الطواف نسياناً! وهما في الحقيقة تبع له. وقوله: (وَالْوُقُوفِ مَعَ الإِمَامِ) معطوف أيضاً؛ أي: وكترك الوقوف مع الإمام قبل الدفع للمتمكن، فإنه يجب عليه الدم. واحترز بالمتمكن من المراهق. ومن أسلم ليلة النحر فنه لا يجب عليه شيء. ومقتضى كلامه أنه لو وقف مع الإمام قبل الغروب ودفع قبله أيضاً ثم أُخبِرَ أنه لا يجزئه إلا بشرط أن يقف جزءاً من الليل فرجع ووقف مع الإمام - فإن الدم ساقط عنه؛ لوقوفه مع الإمام، وقد صرح بذلك في المدونة. ابن يونس: وقال أصبغ: أحب إلي أن يهدي من غير إيجاب، يتعمده ترك انتظار الدفع مع الإمام. وقوله: (وَنُزُولِ المُزْدَلِفَةَ) وهو معطوف، وهو قول مالك وابن القاسم، ونسب مقابله لابن الماجشون، وهو مما يقوي قوله: اختلف في ركنية الوقوف بالمشعر الحرام. خليل: والظاهر أنه لا يكفي في النزول إناخة البعير، بل لابد من حط الرحال. وقوله: (وَرَمْيِ كُلِّ حَصَاةٍ)؛ وفي ترك رمي كل حصاة هدي، وسيأتي. وقوله: (وَالْحَلْقِ)؛ أي: وكترك الحلق إلى أن يرجع إلى بلده. وقوله: (وَالسَّعْيِ بَعْدَ الإِفَاضَةِ) هو معطوف أيضاً. واعلم أن مُنشِئ الحج من مكة ليس مخاطباً بطواف القدوم ولا بالسعي أولاً، بلهو مأمور بأن يسعى بعد طواف الإفاضة، وهذا كقوله في الجواهر: ومن أنشأ الحج من مكة فطاف وسعى قبل خروجه إلى عرفات، ثم لم يسع بعد عرفات حتى رجع إلى بلده-فعليه دم. فقوله: (بَعْدَ الإِفَاضَةِ) يريد وقد طاف وسعى قبل خروجه، وإلا فقد ذكر أولاً أنه إذا ترك السعي يرجع له من بلده.

وقوله: (وَالْمَبيتِ بمِنّى كُلِّ لَيْلَةٍ .... إلخ) تصوره ظاهر، ومراده الليالي التي بعد عرفة، وأما التي قبل عرفة فلا دم في تركها، صرح به في المقدمات. وَمَسْنُونَاتٌ لَا دَمَ فِيهَا؛ وَهِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَتَتَبَيَّنُ بِالتَّفْصِيلِ هو ظاهر، والإشارة بـ (ذَلِكَ) راجعة إلى الأركان والواجبات المنجبرة. الإِحْرَامُ، وَيَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ مَقْرُوناً بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ كَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّوَجُّهِ عَلَى الطَّرِيقِ، لا بِنَحْوِ التَّقْلِيدِ أَوِ الإِشْعَارِ .... الإحرام: هو الدخول بالنية في أحد النسكين مع قول متعلق به كالتلبية أو فعل متعلق به كالتوجه على الطريق، ومقتضاه أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية [176/أ]، وكذلك صرح ابن بشير وابن شاس. وقال صاحب التلقين وصاحب المعلم وصاحب القبس وسند النية وحدها كافية. ولفظ التلقين: الإحرام هو اعتقاد دخوله في الحج وبذلك يصير مُحِرماً. ولفظ المعلم: وعند مالك والشافعي أن الحج يصح الدخول فيه بالنية وحدها كما ينعقد الصوم. وأخذه القرافي من المدونة لقوله فيها: إذا توجه ناسياً للتلبية كان بنيته محرماً، لكن تأول ذلك أبو عمران واللخمي لأنهما قالا: لأنه حصل منه نية وفعل، وهو التوجه. ورد بأنه إنما قال: بنيته، ولم يقل بالنية والتوجه. خليل: وهذا هو الظاهر. ولو سلم ما قاله الأولون فهي أيضاً مقارنة لفعل، وهو الكف عما ينافي الحج، والكف فعل على المختار عند أئمة الأصول. وقوله: (لا بِنَحْوِ التَّقْلِيدِ أَوِ الإِشْعَارِ) أي: إذا تجرد عن النية وليس المراد ما فهمه ابن عبد السلام أن الإحرام لا ينعقد بالنية مع التقليد والإشعار، واستشكله بأن قال: وفي عدم انعقاد النسك بجموع النية وتقليد الهدي وإشعاره نظر. وكيف يقال هذا وقد نقل

ابن يونس عن القاضي إسماعيل أنه قال في كتاب الأحكام: لا خلاف أنه إذا قلد وأِعر يريد بذلك الإحرام أنه محرم. وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيه مِنَ التَّسْمِيَةِ، وَقِيلَ: التَّلْبيَةُ كَتَكْبيرَةِ الإِحْرَامِ أي: والدخول بالنية أحب إلى مالك من التسمية. وروي عنه كراهة التلفظ، وعن ابن وهب: التسمية أحب إلي. وفي الموازية قال مالك: ذلك واسع سَمَّى أو ترك. وقال ابن حبيب: التلبية كتكبيرة الإحرام، فلا ينعقد إحرامه إلا بالتلبية كما لا تنعقد إلا بتكبيرة الإحرام. وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ عَلَى خِلافِ مُجَرَّدِهَا فِي الْيَمِينِ هذا يدل على أن اللخمي والمصنف لم يقفا على قول منصوص بالإحرام بمجرد النية؛ يعني: أن اللخمي خرج قولاً بإجزاء النية فقط في الحج من أحد القولين فيمن عقد على نفسه يميناً أو طلاقاً بالنية، وقد يظهر الفرق بأن هذا من العبادات والأصل فيها الاكتفاء بالنية بخلاف الطلاق؛ لأنه من حقوق العباد. ابن عبد السلام: وليس التخريج بذلك؛ لأن المراد بانعقاد الطلاق بالنية الكلام النفساني، والمرد بالنية في الحج غير ذلك. فرع: نقل سند أن الإحرام ينعقد منه وهو يجامع، ويلزمه التمادي والقضاء، ولم يحك في ذلك خلافاً. وَلَوْ رَفَضَ إِحْرَامَهُ لَمْ يَفْسُدْ وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ لأن هذه العبادة لما لزم التمادي في فسادها لم يؤثر رفض النية فيها؛ لأنه إذا كان الفعل القوي لا يمنع من التمادي فلأن لا يمنع منه النية بمجردها مع ضعفها أولى، قاله ابن عبد السلام.

قوله: (لاشَيْءَ عَلَيْهِ) أي: لا هدي ولا غيره. وَتَلْبيَتُهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمِّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، وَزَادَ عُمَرُ: لَبَّيْكَ ذََا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مَرْهُوباً مِنْكَ وَمَرْغُوباً إِلَيْكَ، وَزَادَ اِبْنُ عُمَرَ: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكِ وَالْعَمَلُ .... الضمير في (تَلْبيَتُهُ) ابن راشد: عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يؤخذ من الجواهر. وقال ابن عبد السلام: عائد على الإحرام. وقال ابن هارون: عائد على المُحرِم. وظاهر الموطأ أن زيادة ابن عمر على تلبية رسول الله لا على تلبية أبيه؛ لأنه في الموطأ لما ذكر تلبيته عليه الصلاة والسلام ذكر زيادة ابن عمر ولم يذكر زيادة عمر رضي الله عنهما. قال مالك: والاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل. وفي الاستذكار عن مالك كراهة الزيادة قال: وروي عنه أنه قال: لا بأسٍ أن يزيد فيها ما كان ابن عمر يزيده. انتهى. وكره في المدونة التلبية في غير الحج والعمرة، ورآه خرقاً ممن فعله؛ أي: حمقاً وقلة عقل. أبو الحسن: كيف يصح هذا وقد كانت الصحابة - رضوان الله عليهم - يجيبون بالتلبية، ولعله إنما كرهه إذا كان يلبي غير مجيب لأحد. انتهى. وقد يقال: إنما كره مالك قول لبيك اللهم لبيك، لا مجرد لبيك، لكن نص الشيخ سيدي ابن أبي جمرة عند كلامه عن حديث معاذ: وقوله لما ناداه عليه الصلاة والسلام: لبيك يا رسول الله وسعديك؛ فإن الإجابة بلبيك خاصة به عليه الصلاة والسلام. قال: ونص العلماء على أن جواب الرجل لمن ناداه بلبيك أنه من السفه وأنه جهل بالسنة، واستدل على ذلك بكون الصحابة لم يفعلوا ذلك فيما بينهم، وبكونه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك معهم. والتلبية معناها: الإجابة؛ أي: إجابة بعد إجابة. وقيل: اللزوم؛ أي: أنا مقيم على طاعتك وأمرك، من قولهم: لب بالمكان إذا أقام به. وفيه لغة ثالثة، وهي: اللب، وقيل:

المواقيت

لبيك: اتجاهي لك؛ أي: توجهي وقصدي، من قولهم: داري تلب دار فلان؛ أي: توجهها. وقيل: معناها المحبة، من قولهم: امرأة لبة، إذا كانت تحب ولدها. وقيل: معناها الإخلاص؛ أي: إخلاصي. ومنه لب الطعام ولبابه. وقيل: من قولهم: أنا ملب [176/ب] بين يديك؛ أي: خاضع. وقيل: من الإلباب؛ يعني: القرب. والمراد على كل قول من التلبية هنا التكثير. كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ...} [الملك: 4]. ومذهب يونس أنه اسم مفرد قلبت ألفه ياء، نحو: علّى ولَدَى. ومذهب سيبويه وغيره أنه تثنية. وروي: (إِنَّ الْحَمْدَ) بفتح الهمزة وكسرها. واختار الجمهور الكسر؛ لأن الفتح يدل على التعليل بخلاف الكسر، ورأى بعضهم أنها تدل أيضاً على التعليل في الكسر. وقال بعضهم: المفتوحة أصرح في التعليل. والأشهر نصب (النِّعْمَةَ)، ويجوز الرفع على الابتداء، وخبر (إِنْ) على هذين محذوف دل عليه ما بعده. واختار بعضهم الوقف على قوله: (الْمُلْكَ) ويبتدئ (لا شَرِيكَ لَكَ) ومعنى (سَعْدَيْكَ): ساعدت طاعتك يا رب مساعدة بعد مساعدة. وقال ابن الأنباري معناه: أسعدك الله إسعاداً بعد إسعاد. وقوله: (وَالْخَيْرُ كُلَّهُ بيَدَيْكَ) تأدب، وإلا فالخير وغيره بيد الله. و (الرَّغْبَاءُ) بفتح الراء والمد، وبضم الراء والقصر. وحكى أبو علي الفتح والقصر. وَلِلإِحْرَامِ مِيقَاتَانِ: زَمانِيٌّ وَمَكَانِيٌّ؛ فَالزَّمانِيُّ شَوَّالٌ وذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّة، وَقِيلَ: الْعَشْرُ مِنْهُ، وَقِيِلَ: وَأَيَّامُ الرَّمْيِ ... إطلاق الميقات على المكاني إنما هو بالحقيقة الشرعية؛ لأن في الحديث: "وقت لأهل المدينة" وإلا فحقيقة التوقيت تعلق الحكم بالوقت، ثم استعمل في التحديد مطلقاً؛ لأن التوقيت تحديد بالوقت، فيصير التحديد من لوازم التوقيت. واختلف في قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) فالمشهور أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله حملاً للَّفظ على حقيقته. وتصور كلامه واضح. ولا خلاف أن أولها شوال.

وَفَائِدَتُهُ دَمُ تَاخِيرِ الإِفَاضَةِ أي: فائدة الخلاف، فعلى المشهور لا يلزمه إلا بتأخيره إلى المحرم. وعلى العشر يلزمه إذا أخره إلى الحادي عشر. وهكذا قال الباجي وعبد الحق واللخمي وغيرهم. وليس كما زعمه ابن الحاج في مناسكه من أنه اختلاف عبارة، وأنه لا خلاف أنه لا يجب الدم إلا بخروج جميع الشهر. وَأَمَا الْعُمْرَةُ فَفِي جَمِيعِ السَّنَةِ إِلا فِي أَيَّامِ مِنَى لِمَنْ حَجَّ وَلا يَنْعَقِدُ إِلا أَنْ يَتِمَّ رَمْيُهُ وَيَحِلَّ بالإِفَاضَةِ فَيَنْعَقِدَ .... يعني: أن العمرة يجوز إيقاعها في جميع أيام السنة إلا في أيام منى لمن حج. ابن هارون: ونحو هذا لابن شاس، وليس بصحيح، بل لا يجوز له من بعد إحرامه بالحج إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق ولو كان متعجلاً. انتهى. وقد يقال: إنما اقتصر المصنف على أيام منى تنبيهاً منه بالأخف على الأشد؛ لأن الشافعي – رضي الله تعالى عنه – يرى أن من نفر نفراً جائزاً- أي: تعجل في يومين –يجوز له أن يحرم بالعمرة. والله أعلم. قال في الجلاب: ومن كان حاجاً فلا يعتمر حتى يفرغ من حجه. من رمي في آخر أيام التشريق، فلا يعتمر حتى تغرب الشمس، فإن احرم بعمرة بعد رميه وقبل أن تغرب الشمس لزمه الإحرام بها، ومضى فيها حتى يتمها. وإن أحرم بها قبل رميه لم يلزمه آداؤها ولا قضاؤها. انتهى. وصرح في المدونة بكراهة العمرة قبل أن تغيب الشمس من آخر أيام التشريق. ابن المواز: وإذا صح إحرامه بعد رميه فلا يحل حتى تغرب الشمس، وإحلاله قبل ذلك باطل. قال: وإن وطء قبل ذلك أفسد عمرته وقضاها وأهدى. قال في النكت: قال بعض شيوخنا من أهل بلادنا: ويكون خارج الحرم حتى تغيب الشمس؛ لأن دخول الحرم

بسبب العمرة عمل لها، وهو ممنوع من أن يعمل لها عملاً حتى تغيب الشمس. وقول المصنف: (وَيَحِلَّ بالإِفَاضَةِ) أي: أن العمرة لا تنعقد بمجرد انقضاء أيام الرمي، بل لابد مع ذلك من أن يطوف طواف الإفاضة، وكذا قال في المدونة، وحاصله: أنها لا تنعقد إلا بانقضاء شيئين: الرمي وطواف الإفاضة. وقوله: (لِمَنْ حَجَّ) يعني: أن العمرة إنما تمتنع في أيام التشريق في حق من حج؛ لكونه ملتبساً بأفعال الحج، وأما من لم يحج، فله إيقاع العمرة فيها. وَفِي كَرَاهَةِ تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلانِ المشهور الكراهة. وهو مذهب المدونة. والشاذ لمطرف إجازة تكرارها، ونحوه لابن المواز؛ لأنه قال: وأرجو أن لا يكون بالعمرة في السنة مرتين بأس. وقد اعتمرت عائشة رضي الله عنها مرتين في العام الواحد وفعله ابن عمر وابن المنكدر. وكرهت عائشة عمرتين في شهر. وكرهه القاسم بن محمد، وإنما كره مالك تكرارها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يعتمر في كل عام إلا مرة. وعلى المشهور فأول السنة المحرم، فيجوز لمن اعتمر في آخر ذي الحجة أن يعتمر في محرم، قاله مالك وابن القاسم ثم استثقله وقال: أحب إلي لمن أقام بمكة أن لا يعتمر بعد الحج حتى يدخل المحرم لقرب الزمان. مالك: ولا بأس أن يعتمر الصرورة قبل أن يحج. فَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ اِنْعَقَدَ عَلَى الأشْهَرِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى أَوْ وَاجِبٌ تصوره واضح. ومقابل الأشهر ذكره اللخمي ولم يعزه: أن الإحرام لا ينعقد ويتحلل منه بعمرة. قال: وقوله: يتحلل بعمرة استحسان. وهو بمنزلة من دخل في صلاة ثم ذكر أنه كان صلاها – فإنه يستحب [177/أ] له أن ينصرف على شفع.

ابن القاسم: وإن قطع فلا شيء عليه. عبد الحق: واعترض علينا مخالفنا في هذه المسألة بالإحرام بالصلاة قبل وقتها، وأصل الحج مباين للصلاة في أمور شتى. الأبهري: ولأن الحج إذا أحرم به قبل الوقت لا يمكن أن يفرغ قبله؛ لأن وقته عرفة بخلاف الصلاة. وبني المصنف عدم الانعقاد على الوجوب، وفيه بحث. وَالْمَكَانِيُّ لِلْمُقِيمِ – مِنَ الْحَاضِرِ وَغَيْرِهِ – مَكَّةَ فِي الْحَجِّ لا فِي الْعُمَرَةِ، وَفِي تَعْيِينِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَوْلانِ ... يعني: أن الميقات المكاني يتنوع بحسب الإقامة بمكة وغيرها، فالمقيم بمكة- من الحاضر وغيره؛ أي: الوافد – ميقاته في الحج مكة. وهل يستحب لهما الإحرام من المسجد الحرام أم؟ قولان: مذهب المدونة الاستحباب، وعليه فقال مالك في المدونة: لا يحرم من بيته، بل من جوف المسجد، قيل له: فمن عند باب المسجد؟ قال: لا، بل من جوف المسجد. وعن ابن حبيب: من أهَلَّ بالحج من مكة متمتعاً، والمكي يُهِلُّ بحجة إنما يهلان من باب المسجد؛ لأن المساجد إنما وضعت للصلاة. والقول الثاني: عدم الاستحباب، وهو ظاهر ما نقله اللخمي وغيره عن المبسوط أن مالكاً قال فيه: إن شاء أهَلَّ من مكة. وقوله: (وَفِي تَعْيينِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَوْلانِ) أي: في استحباب تعيين المسجد، إذ لا خلاف في عدم اللزوم. قاعدة: كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحِل والحَرم؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا يجوز للمكي أن يحرم من مكة؛ لأنه لو أحرم بها منها وهي تنقضي في الحرم لزم أن لا يجتمع في إحرامه حل وحرم. بخلاف الحج؛ فإنه يخرج إلى عرفة وهي حل، وإلى هذا أشار بقوله: (لا في الْعُمْرَةِ).

فَلَوْ خَرَجَا إِلَى الْحِلِّ جَازَ عَلَى الأَشْهُرِ، وَلا دَمَ؛ لأَنَّهُمَا زَادَا وَمَا نَقَصَا الضمير في: (خَرَجَا) عائد على الحاضر من أهلها ومن كان مقيماً بها؛ يعني: أن الآفاقي المقيم بمكة ومن هو من أهلها إذا أحرما من الحل بالحج جاز ذلك في أشهر القولين، وهذا الأشهر هو مذهب المدونة، قال فيها: وإذا أحرم بالحج من خارج الحرم مَكْيِّ أو متمتع فلا دم عليه في تركه الإحرام من داخل الحرم، وإن مضى إلى عرفات بعد إحرامه من الحل ولم يدخل الحرم وهو مراهق فلا دم عليه، وهذا زاد ولم ينقص. قال في المنتقي: "زاد ولم ينقص" هذا عندي فيمن عاد إلى الحرم، فأما مَنْ أهَّلَ مِنْ الحل وتوجه إلى عرفة قبل دخول الحرم أو أهل من عرفة بعد أن توجه إليها حلالاً مريداً للحج فإنه نقص ولم يزد. انتهى. قال في النكت: واستحب مالك لأهل مكة أو لمن دخلها بعمرة أن يحرم بالحج من المسجد الحرام وقال: إذا دخل مكة أحد من أهل الآفاق في أشهر الحج بعمرة وعليه نفس أحب إلي أن يخرج إلى ميقاته فيحرم منه بالحج، ولو أقام حتى يحرم من مكة كان ذلك له. عبد الحق: إنما استحب له ههنا أن يخرج إلى ميقاته، واستحب في السؤال الأول أن يحرم من المسجد الحرام، وإن كان قد دخل بعمرة في المسألتين؛ لأنه قد ذكرها هنا أن عليه نفساً، فلذلك أمره بالخروج إلى الميقات. ومعنى السؤال الأول: أنه في ضيق من الوقت ليس عليه نفس مثل هذا، فلذلك اختلف جوابه في السؤالين، وقد تأول متأول أن معنى السؤال الأول أنه قد دخل قبل أشهر الحج بعمرة فكان له حكم أهل مكة في إحرامهم من المسجد. والسؤال الثاني: أنه دخل في أشهر الحج، وهذا ليس بصحيح، كيف يصح أن يجعله كأهل مكة بدخوله قبل أشهر الحج وهو لو قرن أو تمتع كان الهدي عليه، ولم يكن كأهل مكة لدخوله قبل أشهر الحج؟! فلو كان كأهل مكة بدخوله قبل أِهر الحج وجب عنه دم التمتع. انتهى.

وعلى هذا فقول المصنف: (جَازَ) يقتضي بحسب الظاهر أن ترك الخروج أولى، لا سيما وقد قرر ابتداءً أن المقيم يحرم من مكة، وهو خلاف قول مالك: أنه يستحب له الخروج على ما قرره صاحب النكت إذا كان في الوقت سعة. ابن هارون: وقوله: (جَازَ عَلَى الأَشْهَرِ) يقتضي أن فيهما قولاً آخر بالكراهة أو المنع، ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا في الأولوية. انتهى. وَأَحَبُّ إِلَيَّ لَهُمَا إذاَ أَهَلَّ هَلاَلُ ذُو الْحِجَّةِ يعني: أن مالك استحب للمكي والوافد المقيم بها أن يحرما في أول هلال ذي الحجة؛ لما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه: (يا أهل مكة ما شأن الناس شُعثاً وأنتم مُذَّهِنون؟! أهلوا إذا رأيتم الهلال". وفيه أيضاً: أن ابن الزبير أقام بمكة تسع سنين يُهِلُّ بالحج لهلال ذي الحجة، وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك. وهذا هو المعروف. وروي عن مالك استحباب الإحرام يوم التروية ليتصل إحرامهم بمسيرهم. وَلا يَقْرِنُ إلا مِنَ الْحِلِّ عَلَى الْمَشْهُورِ مقابل المشهور لسحنون، وعبد الملك والقاضي إسماعيل، ووجه المشهور أنه لو أحرم بالقران من مكة لزم ألا يجتمع فيها حل وحرم؛ لأن خروجه لعرفة خاص بالحج، ورأى سحنون أن العمرة في القران مضمحلة، فوجب اعتبار الحج فقط. وَلِلآفَاقِيُّ مِنَ الْمَدِينَةِ ذُو الْحَلِيفَةِ، وَمِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةُ، وَمِنَ الْيَمَنِ: يَلَمْلِمُ، وَمِنْ نَجْدٍ قَرْنٌ. وَوَقَّتُ عُمَرُ لِلْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ، وَلِمَنْ بَيْنَهُمَا مَسْكَنُهُ قوله: (وَللآفَاقِيًُّ) معطوف على قوله: (للمقيم). وخَرَّج الصحيحان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [177/ب] وَقَّتَ لأهل

المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قَرْنُ المنازلِ، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان بين ذلك فمن حيث أنشأ الحج حتى أهل مكة من مكة". ابن راشد: ذو الحليفة ما بين مباه بني جشم على ستة أميال، وقيل: سبعة من المدينة وهو أبعد المواقيت من مكة على نحو عشرة مراحل أو تسعة، قاله النووي. وهو بضم الحاء المهملة وبالفاء. والجحفة بجيم مضمومة ثم حاء مهملة ساكنة قرية بين مكة والمدينة، سميت بذلك لأن السيول أجحفتها. عياض: وهي على ثلاث مراحل من المدينة، وتسمى أيضاً مُهْيعة بسكون الهاء عند أكثرهم وبعضهم يكسرها. وقَرْن بسكون الراء، ويقال: قرن المنازل وقرن الثعالب، وفتح الجوهري راءه. عياض وغيره: وهو خطأ. النووي: وأخطأ فيه خطأين فاحشين: أحدهما هذا، وعم أن أويساً القرني رضي الله عنه منسوب ليه. والصواب أنه منسوب إلى قبيلة يقال لهم: بنو قرن، هي على مرحلتين من مكة، وهو أقرب المواقيت لمكة. عياض: وأصل القرن الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير. وقال القابسي: مَنْ سَكَّنَةُ أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن فتح أراد الطريق الذي يقرب منه، فإنه موضع فيه طرق مختلفة بينه وبين مكة أربعين ميلاً. ويلملم جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة. ويقال فيه: ألملم بالهمز بدل الياء. وقوله: "هن لهن". كذا هو ثابت في أكثر الروايات. وعن بعض رواة مسلم والبخاري: "فهن لهم". وكذا رواه أبو داود وهو الوجه. وتخرج الرواية الأولى على أن المراد هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد أهلها، وقد تقدم ما يتعلق بقوله: وقت في المكان. قال ابن دقيق العيد: وقوله: (وَقْتَ) يحتمل أن يراد به التحديد؛ أي: حدد هذه المواضع للإحرام، ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحج أو العمرة.

ومعنى توقيت هذه الأماكن للإحرام أنه لا يجوز مجاوزتها لمن يريد الحج أو العمرة إلا محرماً، وإن لم يكن في لفظة (وَقَّتَ) تصريح بالوجوب، فقد ورد في غير هذه الرواية: "يُهِلُّ أهل المدينة" وهي صيغة خبر يراد به الأمر، وورد في بعض الروايات لفظة الأمر. انتهى. وأجمع العلماء على هذه المواقيت إلا ذات عرق، فإن الشافعي استحب لأهل العراق أن يُهلوا من العقيق. القرطبي: معتمداً في ذلك على ما رواه ابن عباس قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق". خرجه أبو داود، وفي إسناده يزيد بن زياد وهو ضعيف عندهم. واختلف في من وقت ذات عرق. ففي البخاري أنه من توقيت عمر. وروى مسلم وأبو داود والنسائي: أنه عليه الصلاة والسلام وقت لأهل العراق ذات عرق. القرطبي: وهو صحيح. وضعف الدارقطني كونها من توقيته عليه الصلاة والسلام، قال: ولم يكن عراق يومئذ، أي: في زمانه صلى الله عليه وسلم، قال في الإكمال: وهذا مما لا يعلل به الحديث، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما لم يكن في زامنه، وهذا يعد من معجزاته، واختار صاحب الاستذكار أنه من توقيته عليه الصالة والسلام. وقوله: (وَلِمَنْ بَيْنَهُمَا) أي: بين الميقات ومكة، فإن تعدى المنزل فهو كمن تعدى الميقات. قال مالك في الموازية: وهو بالخيار إن شاء أحرم من داره أو من مسجده. قال صاحب اللباب: والأحسن أن يحرم من المسجد؛ لأنه موضع الصلاة كأهل مكة. القرافي: والمذهب أن هذه المواقيت تحديد لظاهر الحديث، وقال ابن حبيب: فإذا أحرم قريباً منه فلا دم عليه.

وَمَنْ مَرَّ مِنْهُم بِمِيقَاتِ أَحَرَمَ مِنْهُ خَلا الشَّامِيِّ وَالْمِصْرِيِّ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ يَمُرُّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَهُ تَجَاوُزُهُ إِلَى الْجُحْفَةِ، وَالأَفْضَلُ إِحْرَامُهُ .... يعني: أن كل من له ميقات فمر بغيرهن فإنه يلزمه أن يحرم منه كالمصري يمر بيلملم، والعراقي بنجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن". ويستثني من ذلك مَنْ ميقاته الجحفة إذا مر بذي الحليفة فإن الأفضل له أن يحرم من ذي الحليفة؛ لأنه ميقاته صلى الله عليه وسلم، ويجوز له أن يؤخر الإحرام إلى ميقات الجحفة، وهو مذهبنا، خلافاً للجمهور في إيجابهم الإحرام من ذي الحليفة مطلقاً؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ومن أتى عليهن". والمحل محل نظر؛ لأن قوله:"ولمن أتى عليهن". عام يعم مَنْ ميقاته بين يديه وغيره. وقوله: "ولأهل الشام الجحفة" يعم من يمر بميقات آخر أم لا. ابن حبيب: ولو أراد الشامي والمصري والمغربي أن لا يمروا بالجحفة فلا رخصة لهم في ترك الإحرام من ذي الحليفة. أبو محمد: انظر لم ذلك وهم يحاذون الجحفة؟! وحمل اللخمي قول ابن حبيب على ما إذا لم يحاذ في مروره الجحفة. واختلف في المدني المريض هل يرخص له في تأخير الإحرام إلى الجحفة؟ فقال مالك في الموازية: لا ينبغي أن يجاوز الميقات فيما يرجو من قوة وليُحْرِم، فإن احتاج [178/أ] إلي شيء افتدى. وقال أيضاً: لا بأس أن يؤخر إلى الجحفة. اللخمي وغيره: والأول أقيس. ابن بزيزة: والمشهور الثاني للضرورة. وقال في الاستذكار: واختلف في مريد الحج والعمرة يجاوز ميقاته إلى ميقات أقرب منه- مثل أن يترك المدني الإحرام من ذي الحليفة ويحرم من الجحفة- فقال مالك: عليه دم. ومن أصحابه من أوجب عليه، ومنهم من أسقطه.

وَلَوْ مَرَّ الْعِرَاقِيُّ وَنَحْوُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ تَعَيَّنَتْ ذُو الْحُلَيْفَةِ نحو العراقي اليمني. وتعينت ذو الحليفة؛ لأن ما عدا المصري لا يتعداه لميقات له، والظاهر أنه يستغني عن هذه المسألة بقوله: ومن مر من جميعهم بميقات إلى آخره. ولا يقال تلك المسألة لا تدل على من مر بميقات وليس بينه وبين مكة سواه، لأنا نقول: الأمر الأول أعم، والله أعلم. وَأَوَّلَ الْمِيقَاتِ أفضل، وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُهُ، وَيَلْزَمُ أما فضل أول الميقات، فلما فيه من المبادرة لفعل الخير، وأما كراهة تقديمه، فهو الذي يحكيه العراقيون عن المذهب من غير تفصيل، وهو ظاهر المدونة. وفي الموازية: ولا بأس أن يحرم من منزله إذا كان قبل الميقات، ما لمي كن منزله قريباً فيكره له ذلك. الباجي: فوجه رواية العراقيين: أن توقِيْتَه عليه الصلاة والسلام هذه الأماكن للإحرام يمنع تقديمه عليه كميقات الزمان، ووجه ما في الموازية: أن التوقيت إنما هو لمنع مجاوزته لا لمنع تقديمه عليه. ففرقا في هذه الرواية بني القرب والبعد؛ لأن من أحرم بقرب الميقات لا يقصد إلا مخالفة التوقيت؛ لأنه لم يستدم إحراماً. وأما من أحرم على البعد فإن له غرضا ًفي استدامة الإحرام. ونقل اللخمي عن مالك قولاً بجواز الإحرام قبل الميقات مطلقاً. قال: وحمل الحديث في الإحرام من الميقات أنه تخفيف، فمن فعل فقد زاد خيراً. فائدة: حكى شيخنا رحمه الله عن بعض شيوخه أن الإحرام من رابغ من الإحرام أول الميقات، وأنه من أعمال الجحفة ومتصل بها. قال: ودليله اتفاق الناس على ذلك. قال سيدي أبو عبد الله بن الحاج: إنه مكروه، وراءه قبل الجحفة.

وَمِيقَاتُ الْمُحَاذِي مَا يُحَاذِيهِ مِنْهَا بِالتَّحَرِّي يعني: أن من لم يمر في طريقه بميقات، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات. والظاهر أنه إن كان يحاذي ميقاتين انه بمنزلة من يمر بميقاتين وقد تقدم. قال سند وصاحب الذخيرة: ومَنْ مَنزِله بين ميقاتين فميقاته منزله. قال مالك: وانظر هل معناه أنه محاذ لميقاتين، أو أنه بعد ميقات وقبل آخر، كأهل بدر؟ قال في النوادر: قال مالك: ومن حج من البحر من أهل مصر وشبههم، فليحرم إذا حاذى الجحفة. ومن كان منزله حذاء ميقات أحرم منه، وليس عليه أن يأتي الميقات. قال سند بعد هذا: وهذا حكم من سافر من أرض مصر في بحر القلزوم؛ لأنه يأتي على ساحل الجحفة ثم يجاوزه إلى جدة، ولم يكن السفر يومئذ من عذاب ولا عرفوه؛ لأنها كانت من أرض المجوس أما اليوم فمن سافر منها أحرم عند وصوله إلى البر ولا يلزمه أن يحرم في البحر محاذياً للجحفة لما فيه من التغرير وركوب الخطر بأن ترده الريح إلى البر فيبقى عمره محرماً حتى يتيسر له إقلاع سالم، وهذا من أعظم الحرج، وقد نفاه الله تعالى. وإذا ثبت الجواز فلا دم عليه؛ لعدم دليل يدل على ذلك، وإنما أوجبناه على من سافر من القلزوم؛ لأنه كان قادراً على البر والإحرام من نفس الجحفة، وواسع أن يؤخر إحرامه لما فيه من المضرة إن ترك البر وفارق رحله، أو أحرم في البحر على التغرير، فيؤخر هذا إحلاله حتى يأمن ويهدي، إلا انه لا يرتحل من جدة إلا محرماً؛ لأن جواز التأخير كان لضرورة وقد زالت، وهل يحرم إذا وصل البر لأنه مجاوز للميقات وهو حلال وقد زالت الضرورة، أو إذا ظعن من جدة؟ وهو الظاهر؛ لأن سنة من أحرم وقصد السير أن يتصل إحرامه بسيره، وروى ابن وهب في موطئه عن مالك: لا ينبغي لأحد يهل بحج أو عمرة ثم يقيم بأرض أهلَّ بها، ورواه ابن عبد الحكم أيضاً، ولان المحظور أن يقطع مسافة بعد الميقات وهو حلال من غير ضرورة، وهذا لا يكون إلا بالسير. انتهى باختصار.

ونقل ابن الحاج في مناسكه عن ابن نافع نحوه، فقال: وقال ابن نافع: لا يحرم في السفر، ورواه عن مالك. وَمَنْ أَرَادَ مَكَّةَ أحرم عِنْدَ مِيقَاتِهِ فَإِنْ جَاوَزَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهُوَ قَاصِدٌ لِحَجٍّ أَوْ لِعُمَرَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ .... يعني: أن من وصل إلى الميقات ونيته أن يدخل إلى مكة بأحد النسكين، فلا يجوز له أن يجاوزه إلا محرماً، وإن جاوزه غير محرم فقد أساء، وإساءته متفق عليها. فَإِنْ عَادَ قَبْلَ الْبُعْدِ فَلا دَمَ – إِنْ كَانَ جَاهَلاً – وَقِيلَ: مُطْلِقاً وَإِلا فَدَمٌ يعني: فإن عاد هذا الذي تعدى الميقات وهو قاصد لحج أو عمرة قبل البعد، فلا دم عليه إن كان جاهلاً لمنع المجاوزة، وهذا مقيد بما إذا رجع قبل أن يحرم، وأما إن أحرم فعليه الدم- ولو بقرب – خلافاً لابن حبيب، ولا يرجع، ولو رجع لم يسقط الدم عنه برجوعه على المعروف. [178/ب] وحكى بعضهم قولاً بالسقوط، ونظر ذلك بمن رجع بعد استقلاله قائماً، ففي سقوط السجود القبلي قولان. وبمن ركب بعض الطريق في المشي المنذور لمكة ثم مشى الطريق كلها ثانياً، هل يسقط عنه هدي تفريق المشي؟ قولان. ومن أردف الحج بعد سعي العمرة وقلنا لا يحلق- وعليه دم لتأخيره ثم حلق- ففي سقوط الهدي قولان. وبمن توجه ناسياً للتلبية حتى طال ثم رجع ولبى ففي سقوط الدم قولان. وبمن تعدى الميقات ثم أحرم ثم فاته الحج ففي سقوط الهدي قولان. وقوله: (وَقِيلَ: مُطْلَقاً)؛ أي أن المشهور أن الراجع من القرب إنما يسقط عنه الدم إذا كان جاهلاً، وإن كان عالماً فعليه دم. وقيل: لا دم عليه مطلقاً، سواء كان عالماً أو جاهلاً. وهكذا مشى ابن راشد هذا المحل وهو ظاهر كلامه، والقول الذي صدر به

مفهوم المدونة، ففيها: ومن جاوز الميقات ممن يريد الحج جاهلاً ولم يحرم، فليرجع ويحرم ولا دم عليه، إلا أن يخاف فوات الحج فليحرم من موضعه ويتمادى وعليه دم. انتهى. لكن فسرها أبو الحسن الصغير بالقول الثاني، فال: قوله: (جَاهِلاً) يريد أو عامداً، وإنما خرج كلامه مخرج الغالب أن الشخص لا يفعل ذلك إلا جهلاً. وفسر ابن عبد السلام القول الثاني بوجوب الدم مطلقاً، وجعل العالم يجب عليه الدم، وفي الجاهل قولان، وفيه نظر. فإن قيل: لم لا يحمل قوله: (وَقِيلَ) أنه عائد إلى قوله: (قَبْلَ الْبُعْدِ) ويكون المشهور عنده إنما يسقط عنه الدم إذا عاد قبل البعد، والشاذ أنه إذا عاد مطلقاً لا دم عليه. قيل: هذا غير صحيح؛ لأن المذهب أنه إذا عاد مطلقاً لا دم عليه كما سيأتي. وحمله بعضهم على أنه يريد بقوله: (وَقِيلَ: مُطْلَقاً) ما حكاه ابن يونس عن ابن المواز أنه يرجع ما لم يشارف مكة، فإن شارفها أحرم وأهدى. وهذا فيه بُعْدٌ من أوجه: أولها: أن هذا القول مقيد والمصنف جعله مطلقاً. ثانياً: ليس في كلامه ما يدل على الرجوع أصلاً. ثالثها: لو حملناه على هذا لزم مخالفة النقل؛ لأن كلامه حينئذ يدل على أن المذهب لا يرجع مطلقاً وليس كذلك، بل المذهب أنه يرجع مطلقاً كما ذكرناه عن المدونة. واعلم أن قوله: (فَإِنْ عَادَ) لا يقتضي أنه مطلوب بالعود ولا بعدمه، وقد تقدم من كلام المدونة أنه يرجع. وقوله: (وَإِلا فَدَمْ) يدخل إذا عاد بعد البعد. خليل: وتبع المصنف في هذه الأخيرة ابن شاس، فإنه صرح أنه إذا عاد بعد البعد فلا يسقط الدم عنه، وفي كلامهما نظر؛ لمخالفته لما حكيناه عن المدونة أناه إذا عاد لا دم عليه مطلقاً إلا أن يحرم، وكذلك قال في الإكمال ولفظه: ومن جاوز الميقات ونيته النسك بحج

أو عمرة رجع ما لم يحرم عند مالك ولا دم عليه. وقيل: يرجع ما لم يشارف مكة. انتهى. وكذلك هو ظاهر كلام اللخمي وغيره أنه لا دم عليه مع الرجوع. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ إِنْ أَحْرَمَ وَكَانَ صَرُورَةً مُسْتَطِيعٌ فدم، ورابعها: إِنْ كَانَ صَرورَةً، وَخَامِسُهَا: إِنْ أَحْرَمَ .... أي: وإن لم يقصد هذا الذي أراد دخول مكة حجاً ولا عمرة، فهل يلزمه دم أم لا؟ خمسة أقوال. وتصورها من كلامه لا يخفي عليك. والقول ينفي الدم مطلقاً هو الذي صدر به اللخمي وهو مذهب المدونة، ففيها: ومن جاوز الميقات وهو غير مريد الحج، فلا دم عليه وقد أساء فيما فعل حين دخل الحرم حلالاً. وهو لازم لمذهب أبي مصعب؛ لأنه أجاز دخول مكة حلالاً لمن لا يقصد أحد النسكين، قال: لقوله عليه الصلاة والسلام: "ممن أراد الحج والعمرة"؛ فعلق ذلك على الإرادة. اللخمي: وقال في الموازية: عليه الدم. قال أيضاً: فمن تعدى الميقات وهو صرورة ثم أحرم فعله الدم. ولم يفرق بين أن يريد دخول مكة أو لا. انتهى. ويؤخذ القول الرابع من كلام المصنف بلزوم الدم للصرورة مطلقاً سواء أحرم أم لا. فمن تأول ابن شبلون مسألة المدونة الآتية: فإن قيل: إنما تأويل ابن شبلون فيمن يريد دخول مكة. قيل: إذا لزم الصرورة الدم مع كونه لم يرد مكة، فأحرى أن يلزمه ذلك مع إرادة مكة. والقول الخامس: بوجوب الدم إذا أحرم، ذكره ابن الجلاب، فقال: ومن جاوز الميقات يريد دخول مكة حلالاً ثم أحرم بعد أن جاوزها، ففيها روايتان: أحدهما: أن عليه دماً، والأخرى: أنه لا دم عليه. انتهى. وحكاه صاحب تهذيب الطالب والله أعلم.

فَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَكَةَ وَهَو صَرُورَةٌ مُسْتَطِيعٌ فَقَوْلانِ يعني: فإن لم يرد مكة عند ميقاته بل أراد ما دونها، سواء أراد بعد ذلك مكة أم لا؛ فإن الخلاف جار بشرط أن يكون صرورة مستطيعاً، فإن اختل أحد هذين القيدين فلا دم، ويلزم على كلام المصنف أنه لم يرد حجاً ولا عمرة؛ لأن من لازم عدم إرادة مكة عدم [179/أ] إرادة الحج والعمرة. ابن شاس وابن راشد وابن هارون: ومنشأ الخلاف هل الحج على الفور أو على التراخي؟ وفي المدونة: ومن تعدى الميقات وهو صرورة فعليه دم. ابن راشد وغيره: يعني: إذا تعداه ثم احرم. واختلف في معناه: فحمله ابن شبلون على ظاهره من أنه لا دم على غير الصرورة، وأن الدم يلزم الصرورة، سواء تعداه مريداً لحج أو غير مريد؛ لأنه إذا كان صرورة فالحكم في حقه وجوب الحج، فصار كمن تعداه مريداً للحج. وقال أبو محمد: معناه أنه تعداه مريداً للحج، فصار كمن تعداه مريداً للحج. وقال أبو محمد: معناه أنه تعداه مريداً للحج، قال: والصرورة وغيره سواء لا دم عليه، إلا أن يجاوز مريداً للحج. ابن يونس: وقول أبي محمد هو الصواب. وقال في التنبيهات: وزعم ابن شبلون أن ما قاله ظاهر الكتاب من قوله في الذي يتعدى الميقات وهو صرورة ثم يحرم: "عليه الدم" فأيهم، ولم يقل مريداً للحج أو غيره، ثم قال: "أرأيت من تعدى الميقات ثم أحرم بعد تجاوزه وليس بصرورة أعليه الدم؟ قال: نعم إذا كان جاوزه حلالاً وهو يريد الحج فأحرم فعليه الدم". قال: فترفقته في السؤالين بين الصرورة وغيره يبين ذلك. قال: وذهب بعض الشيوخ إلى أنه خلاف من قوله في الصرورة. وتأويل ابن شبلون إنما يصح على القول بأن الحج على الفور، وإلا فلا وجه له. وَأَمَّا الْمُتَرَدِّدُونَ بِالْحَطَبِ وَالْفَاكِهَةِ فَلا وُجُوبَ إِحْرَامٍ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني: سواء كانوا من مكة أو قراها، كأهل جدة وقديد وعسفان ومر الظهران. وقوله: (بالْحَطَبِ وَالْفَاكِهَةِ) تمثيل. اللخمي وغيره: ويلحق بذلك الدخول للقتال الجائز، قاله ابن القصار.

وقوله: (فَلا وُجُوبَ إِحْرَامِ) قال اللخمي: ويستحب أن يدخلها أولاً محرماً ويسقط عنه فيما بعد ذلك. ابن هارون: وهذا مثل ما قيل في سجود التلاوة للمعلم والمتعلم أنه يسجد أولاً يسجد فيما بعد ذلك. وَكَذَلِكَ مِثْلُ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ ضي الله عنه؛ خَرَجَ إِلَى قُدَيْدٍ فَبَلَغَتْهُ فِتْنَةُ بِالْمَدِينَةِ فَرَجَعَ ... (وَكذَلِكَ) أي: في عدم وجوب الإحرام. وهذه القصة في الموطأ وهي لمالك عن نافع: "أن ابن عمر أقبل من مكة حتى كان بقديد جاءه خبر من المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام". ابن عبد السلام: فالموجب لرجوع ابن عمر، إما خوفاً أو بعض ما يريد إيصاله إلى المدينة رجع إلى مكة بسببه، قاله بعض شراح الموطأ. وظاهر كلام المؤلف: أن الموجب لرجوعه إنما هو الهروب من الفتنة، وهو الذي سر به الشافعي، وجعله أصلاً فيمن دخل مكة بحرب أو سلطان، أو من لا يقدر على دفعه. فرع: قال سحنون فيمن دخل مكة معتمراً فحل من عمرته ثم خرج لحاجة عرضت له في مثل جدة والطائف وهو ينوي الرجوع إلى مكة ليحج من عامه- ليس عليه أن يدخل بإحرام مثل ما قال مالك في المترددين بالحطب والفاكهة. قال: ولو خرج مسافراً لا ينوي العودة ثم بدا له فعليه الإحرام؛ لأن من خرج ينوي العودة صار حكمه حكم أهله. بِخِلافِ غَيْرَهِمْ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الأَشْهَرِ، وَإِنْ سَقَطَ الدَمُ عَلَى الأَشْهَرِ أي: بخلاف المترددين أو من رجع لفتنة كالتجار فالأشهر وجوب الإحرام عليهم إذا أرادوا دخولها، وروي عن مالك أنه غير واجب وهو مذهب أبو مصعب؛ لقوله صلى الله

عليه وسلم: "ممن أراد الحج والعمرة" فعلق ذلك بالإرادة، وإذا فرعنا على الأشهر، فهل يجب عليهم الدم؟ الأشهر سقوطه، وهو مذهب المدونة؛ لأن الدم إنما يجب لنقص في أحد النسكين. وفهم اللخمي من سقوط الدم عدم الوجوب، فإنه قال: وذكر أبو الحسن بن القصار عن مالك انه استحب أن يدخل حراماً، وإلى هذا يرجع قوله في المدونة؛ لأنه قال: إن فعل فلا هدي عليه. وذكر عبد الوهاب عنه أنه قال: عليه الدم. انتهى. وقال ابن بشير: بل مذهب المدونه على الوجوب، وسقط الدم مراعاة للخلاف، وتبع المصنف هنا ابن بشير، فلذلك قال: إنه يجب على الأشهر. وَلَوْ تَجَاوَزَ فَأَحْرَمَ فَفَسَدَ لَمْ يَسْقُطْ، وَفِي سُقُوطِهِ بِالْفَوَاتِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ يعني: إذا تجاوز الميقات مُرِيدَ الحج ثم أحرم وأفسده لزمه الدم؛ لأنه يلزم التمادي في فاسده. واختلف إذا فاته الحج وآل عمله إلى عمرة فقال ابن القاسم: الدم ساقط عنه؛ لأن الحج لم يتم والعمرة لم يردها، وإنما آل عله إليها بالسنة، فصار بمنزلة من تعدى الميقات غير قاصد لحج أو عمرة، وألزمه أشهب، لأن بإحرامه لزم الدم. فرع: قال في الجلاب: ومن جاوز الميقات لحاجة له دون مكة ثم عزم على الإحرام فليحرم من مكانه ولا شيء عليه. ولو تَجَاوَزَ الْعَبْدُ أَوِ الصَّبِيُّ فَأُعْتِقَ أَوْ بَلَغَ أَحْرَمَ عَنْ فَرِيضَتِهِ، وَلَوْ بِعَرَفَاتٍ لَيْلَتَهَا وَلا دَمَ، كَمَا لَوْ أسْلَمَ نَصْرَانِيٌّ ... يعني: أن من لا يخاطب بالحج من صبي أو عبد أو غير مسلم إذا مروا بالميقات فجاوزوه، ثم من بعد ذلك صاروا من أهل الوجوب فأحرموا بالحج، فلا دم عليهم لتعدي الميقات، وهو ظاهر.

أَمَّا لَوْ كَانَ أَحْرَمَ قَبْلَهُمَا بِإِذْنٍ مُعْتَبَرٍ فَلا الضمير في (كَانَ) عائد على أحد المتقدمين لا بعينه، وهما: العبد، والصبي. قوله: (قَبْلَهُمَا) [179/ب] أ]: قبل البلوغ والعتق. وقوله: (بِإِذْنٍ مُعْتَبَرٍ) أي: بإذن الولي وإذن السيد، واحترز به من إذن من لا ولاية له. وقوله: (فَلا) أي: فلا يأتي ما ذكرناه؛ لأنهما إذا أحرما بإذن معتبر لزمهما التمادي على ما أحرما به وبقي فرض الإسلام عليهما، وقد تقدم له هذا، وهو قوله: (ولو بلغ في أثنائه لم يجزئه) إلا أنه ذكره هنا لينبه على سقوط الدم. ووقع في نسخة ابن هارون: (أما لو أحرم قبلها) وفسرها فقال: (أَحْرَمَ) أي: العبد أو الصبي. (قبل). أي: قبل ليلة النحر. وَمَنْ مَرَّ مُغْمىً عَلَيْهِ أَحْرَمَ مَتَى أَفَاقَ وَلَوْ بِعرفَاتٍ لَيْلَتَهَا وَلا دَمَ وَإِنْ لَمْ يُفِقْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَاتَ وَلَوْ وَقَفَ بِهِ ... أي: لو أحرم به أصحابه فإحرامهم غير معتبر، بخلاف المجنون فإنه كالصبي. أما لو أحرم ثم طرأ له الإغماء ووقف به أجزأه عند ابن القاسم، خلافاً لأشهب. وَمِيقَاتُ الْعُمَرَةِ لِمَنْ بِغَيْرِ مَكَّةَ كَالْْحَجِّ، وَلِمَنْ بِمَكَّةَ مُطْلِقاً طَرَفُ الْحِلِّ وَلَوْ بِخَطْوَةٍ، وَإلا لَمْ تَصِحَّ ..... يعني: أن ميقات العمرة في حق الخارج منمكة كما تقدم في الحج، ولا فرق بينهما في جواز تقديم الإحرام ووجوب الدم بتعدي الميقات. وأما من هو بمكة مطلقاً، أي: سواء كان من أهلها أو من الوافدين فميقاته طرف الحل، ولو تجاوز بخطوة، وإلا لم تصح؛ أي: وإن لم يفعل ذلك بأن أحرم من الحرم لم تصح أفعال العمرة، وأما الإحرام بها فمنعقد.

فَلَوْ أَحْرَمَ وَطَافَ وَسَعَى خَرَجَ وَأَعَادَ، فَلَوْ حَلَقَ وَخَرَجَ أَعَادَ وَعَلَيْهِ دَمٌ عَلَى الأَصَحِّ هذا مما يدل على أن الإحرام بها من الحرم صحيح، يعني: فلو أحرم بالعمرة من الحرم صح هذا الإحرام، ولكن شرط صحة فعلها أن يتقدمه الخروج إلى الحل، فلذلك لو طاف وسعى قبل خروجه خرج ثم أتى بالطواف والسعي؛ لكونهما وقعا بدون شرطهما، وإن حلق أعادهما أيضاً وعليه دم؛ لكونه حلق وهو محرم. ومقابل الأصح لأشهب في الموازية، والأصح له أيضاً في غيرها. ابن بشير: ورأى بعضهم اللزوم، وهو الأصح. والذي في كتاب محمد: غلط؛ لأنه حلق قبل التحلل. انتهى. وقد يقال: إن هذا القائل يرى أن من شرط صحة انعقادها الخروج إلى الحل، وكذلك قال ابن راشد، وفيه نظر؛ لأن ظاهر كلام المصنف وغيره أنه مأمور بالخروج بالاتفاق، ولو كان إحرامه غير منعقد لم يلزم بالخروج. وَعَرَفَةُ حِلٌّ، وَالأَفْضَلُ الْجِعْرَانَةُ أَوْ التَّنْعِيمُ هذا يحتمل معنيين: أحدهما – وهو المتبادر -: أنه يكفي المعتمر في تصحيح عمرته أن يخرج إلى عرفة. والثاني: أن يكون جواباً ن سؤال مقدر، كأن قائلاً قال: ما الفرق بين جواز إنشاء الحج من مكة والعمرة؟ فأجاب بأنه لابد في كل من النسكين من الجمع بين الحل والحرم، وذلك حاصل في الحج بخروجه إلى عرفة، ولا كذلك العمرة، والاحتمال الأول أولى؛ لأن قوله: (وَالأَفْضَلُ الْجِعْرَانةُ أَوِ التَّنْعِيمُ) لا يناسب الثاني، وإنما كان الأفضل لموافقة فعله عليه الصلاة والسلام في إحرامه من الجعرانة، وأمره لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن يخرج بعائشة رضي الله عنها إلى التنعيم.

وَتَنْقَضِي الْعُمْرَةُ بِالطّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ اعلم أن العمرة هي: إحرام وطواف وسعي وحلق. والثلاثة الأوَل أركان، والرابع ينجبر بالدم. فقوله: (تَنْقَضِي الْعُمْرَةُ) أي: كمال العمرة، وإلا فالعمرة تصح بدون الحلاق. وَأَدَاؤُهُمَا عَلَى ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ الإِفْرَادُ بِالْحَجِّ وَهُوَ أُفْضَلُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، ثُمَّ الْقِرَانُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ فِيهِمَا ... الضمير في (أَدَاؤُهُمَا) عائد على الحج والعمرة، والإفراد وإن لم يكن مستلزماً للعمرة، لكنه إذا أتى بالعمرة بعد الحج فقد أتى بهما، وإن كان حجه إفراداً. والمذهب أن الإفراد أفضل. ومقابل المنصوص للخمي: أن التمتع أفضل منهما. وقال أشهب وصاحب التلقين بتقديم الثالث على الثاني خاصة، وإليه أشار بقوله: (وَقِيلَ: بالْعَكْسِ فِيهِمَا). وعن أشهب: القران أحب إليّ من التمتع، قال: وإن قدم وبينه وبين الحج طول زمان يشتد عليه فيه الإحرام ويخاف على أصحابه قلة الصبر فالتمتع أحب إلي. نقله التونسي. وظاهره أنه قول ثالث؛ لأنه جعله يختلف باختلاف الأحوال. واستدلت الأشياخ بما رواه مالك والبخاري وغيرهما: أنه عليه الصلاة والسلام أفرد الحج. واتصل عمل الخلفاء والأئمة بذلك. ولولا الإطالة لذكرت لك طرفاً مما ذكروه. وفي الاستدلال على أفضلية القران على التمتع من السنة عسر، وإنما رعوا فيه كون التمتع فيه ترخص بالخروج عن الإحرام. وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مَعاً، أَوْ يَدْخُلُ الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ فَتَنْدَرِجُ الْعُمَرَةُ فِي الْحَجِّ يعني: أن القران على وجهين: أحدهما: أن يحرم بالحج والعمرة معاً. قال علماؤنا: ويقدم العمرة في نيته؛ رادفاً الحج على العمرة دون العكس، فإن قدم الحج على العمرة فقال الأبهري: يجزئه. الباجي: ومعنى ذلك أنه نواهما جميعاً. والوجه الثاني: أن يحرم أولاً

بالعمرة ثم يردف الحج، لا يبقى للعمرة فعل ظاهر، وهو معنى قوله: (فَتَنْدَرِجُ الْعُمْرَةُ في الْحَجِ). فَإِنَّ شَرَعَ فِي الطَّوَافِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ كُرِهَ وَكَانَ [180/ أ] قَارِناً بِذَلِكَ خِلافا لأَشْهَبَ، وَقِيلَ: وَلَوْ رَكَعَ، وَقيِلَ: وفي السَّعْي .... حاصله إن لم يشرع في الطواف كان له الإرداف من غير كراهة، واختلف إن شرع، ففي المدونة: إذا طاف بالنية ولم يركع كره له أن يردف وإن فعل صار قارئاً. ومقتضى كلام المصنف أن بمجرد الشروع في الطواف يكره الإرداف عند ابن القاسم، وليس كذلك، بل هو جائز عنده وإن أتم الطواف ما لم يركع، قاله ابن يونس. وقوله: (خِلافاً لأَشْهَبَ) هكذا نقل الباجي عن أشهب وابن عبد الحكم أن بالشروع يفوت الإرداف. وفي الجلاب قال أشهب: إذا طاف من عمرته شوطاً واحداً ثم أحرم بالحج لم يلزمه إحرامه ولم يكن به قارناً، ومضى على عمرته حتى يتمها. واعلم أن أشهب إنما يقول بفوات الإرداف إذا طاف شوطاً بشرط أن يتمادى على كمال الطواف، وأما لو قطعه لصح عنده الإرداف، نقله اللخمي وعياض وغيرهما. واختلف قول مالك وابن القاسم إذا أتم الطواف ولم يركع، هل يردف أم لا؟ فإن أتمه وركع لم يردف. وعن مالك أنه يردف وإن كان في السعي ما لم يتم ويفرغ منه، أما لو أكمل سعيه فإن لا يكون مردفاً اتفاقاً. فرع: ومن النوادر في الموازية: ومن تمتع ثم ذكر بعد أن حل من حجه أنه نسي شوطاً لا يدري أمن عمرته أو من حجه. فإن لم يكن أصاب النساء رجع فطاف وسعى وأهدى لمتعته، وإن كان من العمرة صار قارئاً، قاله ابن القاسم وعبد الملك، وأشهب يوافقهما في هذه المسألة؛ لأنه وإن كان يرى أن المعتمر إذا طاف شوطاً لا يرتدف حجه،

لكنه إنما قال ذلك في الطواف الكامل، وهذا الطواف الذي نسي منه الشوط – وإن كان من العمرة –فقد فسد للتباعد، فيصير إرداف الحج قبل الطواف، ولو وطئ النساء، فإنه يرجع فيطوف ويسعى ويهدي لقراته ولتمتعه وعليه فدية واحدة ثم يعتمر ويهدي. وبقي من كلام محمد في هذه المسألة شيء ذكر فيه أنه إن كان الشوط من العمرة صار قارناً وأفسد قرانه وفعله في قولهم أجمعين، وهذا قول محمد: لا أعلم معناه إلا على قول عبد الملك الذي يرى أن يردف الحج على العمرة الفاسدة، فأما في قول ابن القاسم لا، إلا أ، يطأ بعد الإحرام بالحج وقبل رمي جمرة العقبة والإفاضة في يوم النحر. انتهى بمعناه. وَعَلَى الصِّحَّةِ يَكُونُ كَمُحْرِمِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَيَرْكَعُ إِنْ كَانَ كَمَّلَ الطَّوَافَ وَلا يَسْعَى وَعَلَى نَفْيِهَا فَكَالْعَدَمِ .... يعني: إذا فرعنا على صحة الإرداف على القول بالصحة، ويحتمل على الحكم بالصحة، ليندرج في كلامه حكم ما إذا أردف قبل الشروع في الطواف ويدل على هذا الثاني تشبيه بالمحرم من مكة. أي: فإن لم يكن طاف لم يطف ولم يسع ويؤخره ليأتي به مع طواف الإفاضة، وإن كنا طاف ولم يركع ركع تكميلاً له ولم يسع؛ لأن حكم من أنشأ الحج من مكة أن لا يسعى إلا بعد طواف الإفاضة، إذ لا طواف قدوم عليه. فإن طاف أشوطاً ولم يكمله فقال في المدونة: وإن أردف الحج قبل طواف العمرة فليتمه ولا يسعى، وقال ابن عبد السلام: لا يلزمه إتمامه وهو خلاف ظاهر المدونة. وقوله: (وَعَلَى نَفْيهَا فَكَالْعَدَمِ) أي: وإذا فرعنا على نفي صحة الإرداف، فيكون إحرامه الثاني كالعدم، فلا يلزمه قضاؤه ولا دم عليه. اللخمي: وحكى عبد الوهاب في هذا الأصل- أعني: إذا لم يصح إرداف الحج على العمرة، أو العمرة على الحج- قولين بوجوب القضاء وسقوطه.

وَشَرْطُ وُجُوبِ دَمِ الْقِرَانِ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ يعني: ولوجوب دم القران شرطان: أولهما أن يحج من عامه، واحترز بهذا مما لوفاته الحج، فإنه يتحلل بعمرة ولا دم عليه، وإن ترك الأولى في حقه- وهو التحلل – واستمر على إحرامه، لم يسقط عنه، والله أعلم. وَأَلاَّ يَكُونَ مِنَ الْحَاضِرِينَ، خِلافاً لِعَبْدِ الْمَلِكِ هذا هو الشرط الثاني، وهو ألا يكون من الحاضرين فإن كان حاضراً فلا دم عليه على المشهور قياساً على التمتع، وأوجبه ابن الماجشون، واختاره اللخمي؛ بناءً على أالدم لإسقاط أحد السفرين كالتمتع، فلا يجب؛ لأنه لا سفر عليه، أو لإسقاط أحد العملين، وذلك مشترك بين الحاضر وغيره، ويشترط أيضاً في القران صحة العمرة، فلا يرتدف الحج على العمرة الفاسدة على المشهور كما سيقوله المصنف عند كلامه على فساد العمرة. لَكِنْ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَهُمْ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ حَاضِرٌ بِعُمَرَةٍ ثُمَّ أَضَافَ الْحَجَّ، ثُمَّ أُحْصِرَ بِمَرَضِ تَحَلَّلَ بِعُمَرَةٍ وَقَضَى قَارِناً ... يعني: أن القارن الحاضر وإن خالف القارن غير الحاضر في الدم، فهما متساويان، ومن أجل أنه يفعل فعل الحاضر لو احرم بعمرة وأردف عليها الحج، ثم أحصر بمرض، تحلل بعمرة وقضى قارناً، وهو ظاهر. وَلا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِخِلافِ دَمِ التَّمَتُّعِ أي: ولا يشترط [180/ب] في دم القران الإحرام به في أشهر الحج، بل لو أحرم به قبلها كان قارناً بخلاف التمتع. وفي المدونة: ومن دخل قارناً فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة في غير أشهر الحج ثم حج من عامه- فعليه دم القران، ولا يكون طوافه حين دخل مكة لعمرة، بل لهما جميعاً، ولا يحل من واحدة منهما دون الأخرى؛ لأنه لو

جامع فيهما قضى قارناً. التونسي: فإن قيل: كيف أجزأ هذا الطواف عن الحج وهو في غير أشهر الحج؟ فكأنه وضعه في غير موضعه، إذ الحج محصور بأشهره، وقد قال ابن القاسم فيمن فاته الحج فبقي على إحرامه، فقال: أنا أطوف وأسعى للحجة المقبلة. فقال: لا يفعل، وأخاف ألا يكون ذلك مجزئاً عنه. قيل: الذي فاته الحج قادر على فسخ ما هو فيه، فلا يأتي بالسعي والطواف في غير أِهره، بخلاف مسألتنا، فإنه غير قادر على فسخ الإحرام. وقد يقال: هما سواء، وأن ابن القاسم يكره هذا كما كره ذلك. انتهى. وَلا يُدْخِلُ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، فَلَوْ أَدْخَلَ عَلَى الْحَجِّ عُمْرَةً أَوْ حَجّاً كَانَ لَغْواً فالأقسام أربعة: حج على حج، عمرة على عمرة، حج على عمرة وعكسه، فإدخال المتماثل لغو؛ لعدم الفائدة، إذ المقصود من الإحرام بالثاني حاصل بالأول. وكذا أيضاً إدخال العمرة على الحج؛ لأن الأضعف لا يرتدف على الأقوى. ومعنى (لَغَو) أي: لا ينعقد إحرامه، ولا يجب عليه القضاء. أَمَّا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمَرَةٍ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ أَضَافَ الْحَجَّ كَانَ قَارِناً، وَلَزِمَهُ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ وَلا دَمَ إِنْ كَانَ حَاضِراً ...... يعني: أن من أحرم بعمرة من مكة ثم أضاف الحج، فإنه يرتدف حجه على عمرته، كما لو أحرم بها من الحل، لكن لابد للذي أحرم بها من مكة من الخروج إلى الحل كما تقدم، ثم إن كان حاضراً فلا دم عليه، وإن لم يكن حاضراً فعليه دم. وزاد في المدونة: فإن أحرم بحجة بعدما سعى بين الصفا والمروة لعمرته وقد كان خرج إلى الحل – فليس بقارن؛ لأنه أردف الحج بعد تمام العمرة، وعليه دم تأخير الحلاق، والمكي وغيره في هذا سواء. أبو محمد: قوله: (وقد كان خرج إلى الحل). معناه: أنه خرج إليه بعدما أحرم بالعمرة وقبل أن يطوف لها ويسعى. وأما إن لم يخرج حتى فرغ من سعيه واحرم بالحج، فههنا يلزمه الحج ويصير قارناً ويخرج إلى الحل.

وَالتَّمَتُّعُ أَنْ يُفْرِدَ الْعُمَرَةَ ثُمَّ الْحَجَّ ظاهره: ثم يفر الحج، وفيه نظر؛ لأنه لو أتى بعمرة في أشهر الحج ثم احرم بحجة وعمرة معاً، كان متمتعاً قارناً اتفاقاً ووجب عليه دمان، دم لمتعته ودم لقرانه. وقال بعض القرويين: يحتمل أن لا يكون عليه إلا هدي واحد؛ لما ثبت في الشرع من قاعدة التداخل، فينبغي على هذا أن يكون تقديره، ثم ينشئ الحج. وَلِوُجُوبِ الدَّمِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: الأَوَّلُ: أَلا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِيِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، لأَنَّ الْحَاضِرَ لا يُرْبَحُ مِيقَاتاً لَكِنَّهُ يُفَعَلُ فِعْلَهُمْ .... الأصل في هذا الشرط قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فقوله: (ذَلِك) عائد على ما استيسر من الهدي عند مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه الهدي. والإشارة إلى جواز التمتع الذي دل عليه قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}. وعلل المصنف سقوط الدم عن الحاضر بكونه لم يربح ميقاتاً، بل أتى بالحج والعمرة من ميقاتهما، بخلاف الآفاقي، فإنه أسقط احد السفرين. وقوله: (لم يريح ميقاتاً) تبع فيها ابن شاس. وصوابه أن يقول: لم يربح سفراً، إذ لو رجع إلى الميقات لم يسقط عنه الدم عندنا، وإنما يسقط بالعود إلى بلده أو مثله، على أن بعض القرويين قال: لا يصح التعليل بإسقاط أحد السفرين؛ لأنه لو حل من عمرته في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى حج من عامه لم يكن متتعاً بإجماع. وهو قد أسقط أحد السفرين. قال: وإنما سمي متمتعاً لإحلاله الذي أحدثه فيما بين حجه وعمرته. والحاضر وإن سقط عنه الدم، فهو يفعل فعل الآفاقيين. ولمَّا علل سقوط الدم بالحضور بينه بقوله:

وَالْحاضِرُ مَنْ كَانَ وَقْتَ فِعْلِ النُّسُكَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ ذِي طُوىً عَلَى الأَشْهَرِ، وَلِذَلِكَ لا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ مِنْ مَكَّةَ، إِلا بَعْدَهَا، وَقِيلَ: وَمَنْ دُونَ الْقَصَرِ، وَالشَّاذٌّ: وَمَنْ دُونَ الْمَوَاقِيتِ، فَلِذَلِكَ لَوْ قدِمَ مُعْتَمِراً بِنِيَّةِ الإِقَامَةِ لَمْ يَكُنْ كَالْْحَاضِرِ عَلَى الأَصَحّ لا خلاف أن أهل مكة وذي طوى حاضرون، قاله ابن بشير. واستدل القاضي إسماعيل على كون أهل ذي طوى من الحاضرين لِمَا ذكره المصنف من أن المكي لا يقصر حتى يجاوزه، واختلف فيمن عداهم، فنقل ابن حبيب عن مالك وأصحابه أن الحاضر من كان على مسافة دون مسافة القصر. ابن بشير: وأما الثالث فحاكه اللخمي ولم يذكر قائله، والظاهر أنه ليس في المذهب. ولعل المصنف لهذا عبر عنه بالشاذ. قوله: (وَلِذَلِكَ ... إلخ) أي: ولأجل أن الحاضر نم كان وقت فعل النسكين من أهل مكة لو قدم آفاقي في أشهر الحج معتمراً بنية الإقامة ثم حج من عامه – أنه متمتع يجب عليه الدم؛ لأنه لم يكن وقت فعل العمرة من الحاضرين. قال في المدونة: وقد يبدو له، أي: في عدم الإقامة. اللخمي: والصواب أنه غير متمتع اعتباراً بنيته. ولو أحدث نية السفر بعد ذلك؛ لأنها نية حدثت بعد النية الأولى. وهذا هو مقابل الأصح. وإذا فرعنا على المذهب. فقال الباجي: إنما لا يكون متمتعاً من كمل استيطانه قبل أن يحرم بعمرة مثل أن يدخل معتمراً في رمضان [181/أ]، ثم يحل في رمضان من عمرته، ثم يستوطن مكة، ثم يعتمر في أشهر الحج، فإنه لا يكون متمتعاً، وهو بمنزلة أهل مكة، قاله أشهب ومحمد، وهو معنى قول مالك. وَالْخَارِجُ لِرِبَاطٍ أَوْ تِجَارَةً - وَلَوْ تَوَطّنَ غَيْرَهَا - ثُمَّ يَرْجِعُ بِنِيَّةِ الإِقَامَةِ فَيُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَلَوْ مِنَ الْمَوَاقِيتِ كَأَهْلِهَا كَانَ لَهُ أَهْلٌ أَمْ لا يعني: أن من كان بمكة وخرج بنية تجارة أو غزو أو غيرهما- يريد ولم يرفض سكناها كما سيأتي- فإن خروجه لا يؤثر في حضوره، وقوله: (وَلَوْ تَوَطّنَ غَيْرَهَا) مبالغة،

وعلى هذا فإطلاق المصنف التوطن على طول الإقامة مجاز لأن حقيقة التوطن الإقامة بنية عدم الانتقال. ويَبِينُ لك أن مراده بالتوطن ما قلناه ما وقع في بعض النسخ، وعليها تكلم ابن هارون عوض قوله: (وَلَوْ تَوَطِّنَ غَيْرَهَا)، (ولم يوطن غيرها) وشمل قوله: (الْخَارِجُ): الخارج من أهلها وغيرهم وهو صحيح. فقد قال مالك في العتبية والموازية: إنه ليس على من ترك أهله بمكة من أهل الآفاق وخرج لغزو أو تجارة إذا قدم في أشهر الحج متعة، كما ليس على أهل مكة متعة. قال محمد: معناه: أنه دخل للسكنى قبل أن يحرم للعمرة، وكذلك قال في البيان: معناه: أنه قدم قبل أشهر الحج، فترك أهله بها على نية الاستيطان بها، ثم خرج لتجارة أو غزو فقدم معتمراً في أِهر الحج، وكذلك لو سكنها بغير أهْلِ قبل أن يتمتع. قاله ابن المواز انتهى. وإلى هذا أشار بقوله: (كَانَ لَهُ أَهْلَ أَمْ لا؟). وَالْمُنْقَطِعُ إِلَيْهَا كَأَهْلِهَا، كَمَا أَنَّ الْمُنْقَطِعَ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهَا وَالدَّاخِلَ لا بِنِيَّةِ إِقَامَةٍ بِخِلاَفِهِمْ ..... أي: المنقطع إليها كالمجاور في سقوط الدم كأهلها. وقوله: (كَمَا أَنْ الْمُنْقَطِعَ ... إلخ) ابن هارون: أي كما أن أهل مكة إذا انقطعوا لغيرها والداخل إليها لا بنية الإقامة كغيرهم وحكمهم في وجوب الدم كسائر الآفاقين. وَذُو أَهْلَيْنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا. قَالَ مَالِكٌ: مِنْ مُشْتَبِهَاتِ الأُمُورِ، وَالاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ أَعْجَبُ إِلَيَّ، وَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِزِيادَةِ الإِقَامَةِ يعني: أن من كان له أهل بمكة وأهل بغيرها وكان يقيم مرة هنا ومرة هنا، فقدم مكة معتمراً في أشهر الحج – فقال مالك في المدونة: هاذ من مشتبهات الأمور والأحوط له أن يهدي. وقوله: (وَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بزِيَادَةِ الإِقَامَةِ) هو من كلام أشهب. ومعناه أنه إن كان

يسكن في أحدهما أكثر كان الحكم له. اللخمي وغيره: وهو صحيح ولم يتكلم مالك على مثل هذا وإنما تكلم على من تساوت إقامته فيهما وحمل التونسي قول أشهب على الخلاف. الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْعُمَرَةِ وَلَوْ أَخَّرَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ فِي رَمَضَانَ، وَأَكْمَلَ سَعْيَهُ بِدُخُولِ شَوَّالٍ وَإِلا لَمْ يَجِبُ إِلا أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْحِلِّ بِأُخْرَى بِشَرْطِهَا ... الشرط الثاني: أن يحصل بعض العمرة في أشهر الحج، ولا يشترط إيقاع جميعها بل لو أحرم بها في رمضان وأكملها في ليلة شوال لكان متمتعاً. وقوله: (وَإِلا لَمْ يَجبُ) أي وإن لم يقع بعض العمرة في أِهر الحج لم يجب الدم. وقوله: (إِلا أَنْ يُحْرِمَ) استثناء منقطع وتصوره ظاهر. وَالْمُعْتَبَرُ السَّعْيُ وَلَوْ بَعْضُهُ لا الْحَلْقُ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْحَلِقِ بِالْحَجِّ - لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَحَرُمَ الْحَلْقُ وَوَجَبَ دَمَانِ لِلْمُتْعَةِ وَتَاخِيرِ الْحَلْقِ، وَهُوَ هَدْيٌ لا نُسُكٌ بِخِلافِ الْحَلَقِ .... أي: المعتبر في البعض الذي إذا أوقعه في أشهر الحج يكون متمتعاً أن يكون ركناً، فلذلك لو لم يبق عليه إلا الحلق وأوقعه في أِهر الحج لا يكون متمتعاً. وقوله: (وَلِذَلِك لَوْ أَحْرَمَ) أي: لأجل أن المعتبر بعض السعي لا الحلق، لو احرم بالحج قبل حلقه لزمه الإحرام بالحج، لأنه لو كان الحلق هو المعتبر لزم ألا ينعقد الإحرام بالحج. وإذا لزمه الإحرام بالحج في المسألة المذكورة حرم الحلق ووجب عليه دمان: دمٌ لمتعته، ودمٌ لتأخير حلاقه في عمرته. وقوله: (وَهُوَ هَدْيٌ) أي: لأنه عن قص في العمرة؛ إذ الهدي: ما كان عن نقص في حج أو عمرة أو جزاء صيد. والنسك: لما تحصل به الرفاهية كالحلق.

فَلَوْ تَعَدَّى فَحَلَقَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ التَّاخِيرِ عَلَى الأَصَحِّ أي: إذا حرم الحلق، ووجب عليه دم لتأخير الحلق فلو بادر فحلق لزمته فدية لأجل حلقه في حجه وهل يسقط عنه دم تأخير الحلق؟ ابن يونس: قال بعض أصحابنا: لا يسقط عنه دم التأخير لأنه نقص لزمه كمن تعدى ميقاته ثم أحرم بالحج فلزمه دم التعدي، فلا يسقط عنه برجوعه إلى الميقات. وقال بعض أصحابنا: يتخرج هذا على روايتين كقولهم فيمن قام من صلاته من اثنتين فلما استوى قائماً رجع فجلس، قال ابن القاسم يسجد بعد السلام. وقال أشهب: قبل السلام. فعلى قول أشهب الذي رأى أن النقص مرتب عليه يجب ألا يسقط عنه دم تأخير الحلاق انتهى. ورأى بعض القرويين أن الموجب لإسقاط دم تأخير الحلاق إنما هو دخوله في دم الحلاق. ورده عبد الحق بأن الواجب في دم الحلاق نسك فلا يدخل في الهدي. الثَّالِثُ: أَلا يَعُودَ إِلَى أُفُقِهِ أَوْ مِثْلِهِ بِخِلافِ مَا لَوْ عَادَ نَحْوَ الْمِصْرِيِّ إِلَى نَحْوِ الْمَدِينَةِ المراد بالأفق: البلد، هكذا يؤخذ من كلام اللخمي. وإنما يسقط عنه الدم بالعودة إلى بلده لأنا إنما أوجبنا عليه الدم لإسقاط أحد السفرين، وإذا عاد لم يسقط شيء، وأطلق المتقدمون في هذا الشرط، وقيده أبو محمد بما إذا كان أفقه يدركه إن ذهب إليه ويعود فيدرك الحج من عامه، وأما مَنْ أُفُقُهً إفريقية ورجع إلى مصر فهذا عندي يسقط التمتع لأن موضعه لا يدرك أن يذهب إليه ثم يعود من عامه. ولا إشكال أنه إذا [181/ب] عاد إلى بلده أو ما قاربه في سقوط الدم عنه. وحكى الباجي الاتفاق على ذلك. والمشهور أنه لا يسقط عنه الدم بدون ذلك. وأسقطه ابن كنانة بعود الشامي والمصري والعراقي إلى نحو المدينة. وأسقطه المغيرة بمسافة القصر. والمشهور أنه لا فرق بين قطر الحجاز وغيره. وأشار ابن المواز على ما

فهمه ابن يونس وغيره إلى أنه إنما يسقط عنه الدم بالعود إلى مثل أفقه إذا كان أفقه غير أفق الحجاز وأما أفق الحجاز فلا يسقط عنه الدم إلا بعوده إلى نفس أفقه أو بالخروج عن أرض الحجاز بالكلية. ابن يونس: وكأن ابن المواز رأى أن الحجاز كله قريب، فلا يسقط عنه إلا بعوده إلى نفس أفقه. والقياس أنه إذا رجع إلى مثل أفقه أنه يسقط عنه الدم وإن كان بالحجاز انتهى بمعناه. وكذلك استشكله اللخمي فقال: ولا أعلم له وجهاً. الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَا عَنْ وَاحِدٍ عَلَى الأَشْهَرِ أي: تكون العمرة والحج إما عن نفسه وإما عن من استنابه. أما إن كان أحدهما عن نفسه والآخر عن غيره فالأشهر سقوط الدم؛ لأنه لم يحصل لأحدهما مجموع الحج والعمرة الذي هو حقيقة التمتع. وتبع المصنف ابن شاس، فإنه حكى القولين ولم يعزهما، ولم يعين المشهور منهما، ولم يحك صاحب النوادر وابن يونس إلا ما وقع في الموازية أنه تمتع؛ نظراً إلى تعدد ما أتى به، وهو مقتضى ما في المدونة؛ لأن فيها في الحج الثالث فيمن استؤجر على أن يحج فقرن ينوي العمرة عن نفسه والحج عن غيره، أنه لا يجزئه وعليه دم القران. ولا فرق بين القران والمتعة؛ لأن كل واحد منهما يجب به الدم على الآفاقي ويسقط عن المكي. الْخَامِسُ أَنْ يَكُوَنا فِي عَامٍ هو ظاهر لأنهما إذا لم يكونا في عام لم يحصل التمتع. ولا يقال: إن الشرط الثاني يغني عنه، لأن الخروج من العمرة في أِهر الحج يوجب أن يكونا في عام؛ لأنا لا نسلم أنه يغني عنه لاحتمال أن لا يحج من ذلك العام أو يحج عن غيره كما تقدم. فإن قلت: قال الباجي في شروط التمتع أن يقدم العمرة على الحج وأن يحل من عمرته قبل الإحرام بالحج وهو ظاهر؛ لأن من أتى بالعمرة بعد الحج ليس متمتعاً مع

صدق كلام المصنف عليه. ولو لم يحل من عمرته كان قارناً لا متمتعاً، والمصنف قد أخل بهما. فالجواب أن هاتين الصورتين خرجتا بقوله أولاً: والتمتع أن يفرد العمرة ثم الحج. فإن ثم تقتضي تأخير الحج. وإفراد العمرة تقتضي أنه لا يحرم بالحج إلا بعد فراغها. وأيضاً فلا يصدق على ما إذا أوقع العمرة بعد الحج أنه تمتع، على أن الباجي كان يمكنه أن يستغني بقوله: أن لا يحرم بالحج إلا بعد فراغها عن اشتراط تقديم العمرة. ولا يشترط في التمتع صحة العمرة لأن في الموازية: من افسد عمرته في الحج؛ يعني: في أشهر الحج ثم حل منها ثم حج من عامه قبل قضاء عمرته فهو متمتع، وعليه قضاء عمرته بعد أن يحل من حجه، وحجه تام، ذكره ابن يونس. وفي توجيه الباجي: أن التمتع لا يكون إلا بعمرة صحيحة مقصودة. فرع: قال مالك فيمن قدم قارناً فيغير أشهر الحج فطاف وسعى قبل أن يَهِل شوال: إنه متمتع. اللخمي: والقياس أنه ليس بمتمتع؛ لأن العمرة قد انقضت، ولم يبق عليه إلا أفعال الحج. ولا شركة للعمرة فيها إلا الحلاق. وقال مالك أيضاً: من قدم مراهقاً وهو قارن يحلق إذا رمى جمرة العقبة وإن لم يكن طاف. ابن راشد: قال ابن الجهم: يؤخر الحلاق حتى يطوف ويسعى؛ لأنه لم يطف للعمرة، فلم يبح له أن يحلق قبل طواف العمرة، اللخمي: وهو القياس. خليل: وفي إطلاق التمتع في هذه المسألة نظر لما تقدم من لفظ المدونة، ولعله أراد به القران والله أعلم. وَيَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ جَوَازَ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى خِلافِ الْكَفَّارَةِ .... يعني: أن المتمتع لا يجب عليه دم التمتع بإحرامه بالعمرة وإنما يجب عليه إذا أحرم بالحج، إذ التمتع إنما يتحقق حينئذ.

قال في الجلاب: والاختيار تقديمه في أول الإحرام ولم يراعوا احتمال الفوت لأن الأصل عدمه. اللخمي: واختلف إذا قلد وأشعر قبل الإحرام بالحج، فقال أشهب وعبد الملك في الموازية: لا يجزئه. وقال ابن القاسم: يجزئه. فلم يجزئه في القول الأول؛ لأن دم التمتع إنما يجب إذا أحرم بالحج، وإذا قلد قبل ذلك كان تطوعاً، والتطوع لا يجزئ عن الواجب. وأجزأ في القول الآخر قياساً على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة إذا قرب الحول، والذي تقتضيه السنة التوسعة في جميع ذلك انتهى. وكذلك ذكر في النوادر هذين القولين. فقول المصنف (وَخَرَّجَ اللّخْمِيّ) ليس بظاهر. وَإذاً أَحْرَمَ مُطْلَقاً جَازَ وَخُيِّرَ فِي التَّعْيِينَ يعني: أنه يجوز الدخول في النسك على سبيل الإبهام. ابن عبد السلام: لكنه لا يفعل شيئاً من الأركان إلا بعد التعيين انتهى. وفي الذخيرة: لو احرم مطلقاً ولم يعين حتى طاف فالصواب أن يجعله حجاً. ويكون هذا طواف القدوم؛ لأن طواف القدوم ليس ركناً في الحج، والطواف ركن في العمرة، وقد وقع قبل تعيينها انتهى. وإذا أحرم مطلقاً فقال مالك في الموازية: أحب إلي أن يفرد، والقياس أن يقرن وقاله [182/أ] أشهب، وقال: القياس أن يصرفه إلى عمرة. ورأى اللخمي أن التخيير إنما هو في حق المدني ونحوه، وأما أهل المغرب وغيرهم ممن لا يقصد إلا الحج فلا يلزمهم غيره. ابن عبد السلام: وما نقله المؤلف هو المذهب بلا شك ونقله غير واحد، وإن كان بعض شيوخ الحديث ممن تكلم على الحديث نقل عن المذهب خلافه. فرع: ولو أحرم بما أحرم به فلان وهو لا يعلمه جاز عند أشهب والشافعية؛ لقضية علي رضي الله عنه، قاله سند وصاحب الذخيرة. ونقل في المفهم عن مالك منع الإحرام بما أحرم به الغير خلافاً للشافعي.

ابن عبد السلام: وقال غير واحد من الشيوخ: إنه الأمر في الصلاة، فيجوز لمن دخل المسجد والناس في الصلاة ولا يدري بما هي أن يحرم بما أحرم به الإمام. وَلَوِ اخْتَلَفَ عَقَدُهُ وَنُطْقُهُ فَالْعَقْدُ عَلَى الأَصَحِّ كما لو نوى الإفراد فتلفظ بالقران أو بالعكس فالأصح اعتبار نيته، وليس في المذهب من صرح بالعمل على ما تلفظ به كما يعطيه كلام المصنف. وفي الجواهر ما يشير إلى اعتبار اللفظ، فروى ابن القاسم فيمن أراد أن يفرد فأخطأ أو تكلم بعمرة- فليس ذلك بشيء، وهو على حجه. قال في العتبية: ثم رجع مالك وقال: عليه دم، وقال ابن القاسم: ولعل الدم للخلل الواقع في الإحرام لعدم مطابقة لفظه لنيته أو لمراعاة خلاف عطاء؛ لأنه لا يجزئ الإحرام إلا بعد التسمية. وَلَوْ نَسِىَ مَا أَحْرَمَ بِهِ عَمِلَ عَلَى الْحَجِّ، وَالْقِرَانِ، كَمَا لَوْ شَكَّ أَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ فَإِنَّهُ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِجَوَازِ الْعُمَرَةِ، وَلا يَحْلِقُ لِجَوَازِ الْحَجِّ وَيَنْوِي الْحَجَّ لِجَوَازِ التَّمَتُّعِ فِيهِمَا، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَكُونُ قَارِناً ..... يعني: إذا أحرم بمعين ثم نسي ما أحرم به أهو عمرة أو إفراد أو قران؟ فإنه يعمل على الحج والقران. أي: يحتاط لهما بأن ينوي الحج إذ ذاك ويطوف وسعى بناءً على أنه قارن، ويهدي في القران ويأتي بعمرة لاحتمال أن يكون إنما أحرم أولاً بإفراد. وأصل هذه المسألة ما في الموازية: أنه لو نوى شيئاً ونسيه أنه يكون قارناً، وقاله أشهب في المجموعة. قال ابن ميسر والتونسي: وهو الصحيح، لكن بعد أن يلبي بالحج حتى يتم القران - إذا كان الواقع في نفس الأمر هو العمرة - فمن الشيوخ من يعده خلافاً، وليس يبين بل الظاهر أنه وفاق، وكلام المصنف يدل عليه؛ لقوله في آخر المسألة: (وَيَنْوِي الْحَجِّ فيهِمَا) وكذلك قال ابن بشير: إن قول ابن ميسر راجع في المعنى إلى قول أِهب. وقوله: (كَمَا لَوْ شَكَّ أَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ) تنظير؛ أي: إذا شك هل أحرم بإفرادِ أو تمتع؟ أي: بعمرة، وكان

سنن الإحرام

الأولى أن يقول: كما لو شك هل أحرم بإفراد أو عمرة؟ كما قاله غيره، فيحرم بالحج لاحتمال أن يكون أولاً أحرم بعمرة، وإلى نية الحج هنا، وفي المسألة المتقدمة أشار بقوله: (وَيَنْوِي الْحَجِّ فيهِمَا) وقوله: (يَطُوفُ وَيَسْعَى) ليس هو لأجل الأحوطية؛ إذ هما يشتركان فيهما الحج والعمرة، ولذلك كان الأولى ألا يقول هذا؛ إذ به يحصل تشويش في فهم المسألة، ولا يحلق لجواز الحج، فيكون قد حلق قبل جمرة العقبة. اللخمي: ويهدي لتأخير الحلاق. ومن ذهب إلى حمل كلام ابن ميسر على الخلاف. ابن راشد: لقوله بعد كلام المصنف: قال مالك في الموازية: إذا نسي ما أحرم به فهو قارن، وقاله أشهب. وقال غيره: يحرم بالحج ويعمل حينئذ على القران وهذا هوا لذي ذكره في الأصل انتهى. وأشار اللخمي إلى أن جواب أشهب إنما هو في حق أهل المدينة الذين يعرفون العمرة. وأما أهل المغرب فإنما يحرمون بالحج ولا يعرفون غيره. فرع: فإن شك هل أفرد أو قرن تمادي على نية القران وحده قاله اللخمي. وَسَنَنُ الإحرام الْغُسْلُ تَنْظِيفاً، وَلِذَلِكَ سُنَّ لِلْحائِضِ بريد: سواء كان الإحرام بحج أو عمرة. ابن حبيب: ومن اعتمر من التنعيم فأحب إلى أن يغتسل. ابن عبد السلام: واستدلال المصنف على أنه للنظافة لا للتعبد بأنه مسنون للحائض لايتم إلا على تقدير ألا يُشْرَع لتنظيف الجسد، وذلك لا يقول به أحد فيما تعلم. ولا امتناع في تعبد الحائض والنفساء به. ويلزم على مذهبه أيضاً أن لا يفتقر إلى نية. خليل: وقد يقال: معنى التنظيف كونه يندلك فيه ويتنظف بخلاف ما بعده من الاغتسالات فإنه يقتصر فيه على إمرار اليد.

سند: وإذا عدم الماء فلا يتمم له كغُسل الجمعة خلافاً للشافعي. ابن اللواز: وليس في تركه عمداً ولا نسياناً دم. سحنون: وقد أساء. ابن الكاتب: واختلف علماؤنا إذا أحرم بغير اغتسال هل يغتسل بعد إحرامه أم لا لأن الاغتسال قبل الإحرام وقد فات؟ فرع: ولو رجت الحائض الطهر فقال مالك: لا تُؤَّخِر الإحرام عن ذي الحجة. وَفِيهَا: وَلَوِ اغْتَسَلَ بِالْمَدِينَةِ لِلإِحْرَامِ ثُمَّ مَضَى مِنْ فَوْرِهِ أَجْزَأَهُ بِخِلافِ مَنِ اِغْتَسَلَ غُدْوَةً ثُمَّ رَاحَ عَشِيَّةً .... قوله فيها: (أَجْزَأَهُ) ليس فيه دليل على كراهة هذا أو جوازه ابتداءً، وإن كان بعضهم قال: ظاهره الكراهة. وحكى بعضهم قولين: الجواز من غير ترجيح. والثاني: لعبد الملك وسحنون [182/ب] استحباب الغسل بالمدينة على شرط الخروج في الحال إلى ذي الحليفة، ومال إليه ابن حبيب. عياض: وهو ظاهر المذهب وجعل بعضهم استحباب ابن الماجشون خلاف الكتاب. انتهى. واحتج ابن حبيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلى الظهر بالمدينة والعصر بذي الحليفة وبها بات وبها أمر أسماء أن تغتسل". قال مالك: ولا بأس لمن اغتسل بالمدينة أن يلبس ثيابه إلى ذي الحليفة فينزعها إذا أحرم. وفي الموازية: إذا اغتسل بكرة وتأخر خروجه إلى الظهر كرهته وهذا طويل. قال بعضهم: وظاهره أنه يجتزئ به. قال: وهو خلاف المدونة. وكأنهم راعوا هنا الاتصال كغسل الجمعة. فائدة: قال ابن بشير: استحب بعض أهل المذهب أن يقلم أظافره ويزيل ما على بدنه من الشعر الذي يؤمر بإزالته لا شعر رأسه فإن الأفضل له إبقاؤه طلباً للشعث في الحج. وإن ليده بصمغ أو غاسول فهو أفضل ليقتل دوابه انتهى.

وظاهر كلام مالك في الموازية وكلام غيره إباحة التلبيد لا استحبابه؛ لقولهم: لا بأس. قال مالك في المجموعة: وللرجل أن يكتحل قبل إحرامه. قال في المدونة: وأن يدهن بالزيت والبان غير المطيب وبالزئبق غير المطيب. قال مالك في الموازية: ولا بأس أن تمتشط المرأة رأسها قبل الإحرام بالحناء وبما لا طيب فيه ثم تحرم. وكذلك لها أن تختضب. ابن المواز: وإذا انتفض شعرها فلا بأس أن تعقده. وسئل مالك عن صاحب الإِبْرِيَةُ تكون برأسه يريد أن يجعل الخل فيها قبل أن يحرم، قال: لا يعجبني ذلك، وأخاف أن يقتل القمل. قيل: به ضرورة، أيجعله ويفتدي؟ قال: لا يفعله ويصبر حتى يحل أحب إلي، قاله في المجموعة والعتبية. وفي العتبية: في امرأة جعلت في رأسها زاووقاً في المدينة ثم أحرمت في ذلك اليوم، قال: أرى أن تفتدي مخافة أن يكون الزاووق قد قتل قملاً بعد الإحرام وثبت ذل في رأسها اليوم واليومين. وَهُوَ ثَلاثَةً للإِحْرَامِ، وَلِدُخُولِ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَائِضِ بِذِي طُوىً، وَلِوُقُوفِ عَرَفَةَ أي: والغسل ثلاثة: الأول: للإحرام وقد تقدم. والثاني: لدخول مكة. الباجي: والغسل في الحقيقة للطواف بديل عدم أمر الحائض به مع كونها تدخل مكة. وروي عن مالك: الحائض والنفساء يغتسلان لدخول مكة. والثالث: الغسل لوقوف عرفة. ويستحب تقديمه على الصلاة والوقوف. مالك: وغسل الإحرام آكد. وظاهر المذهب الاقتصار على هذه الثلاثة. وفي الجلاب: يغتسل لأركان الحج كلها، فعلى قوله يغتسل لطواف الإفاضة. وفي النوادر عن أشهب: لولا أنه لم يؤمر بالغسل لزيارة القبر ولرمي الجمار لأحببت ذلك، ولكن أخاف ذريعة استنانه أو إيجابه، ولو فعله أحد في خاصة نفسه رجوت له خيراً.

وقوله: (بذِي طُوىً) أي: ليتصل غسله بدخوله. ومن لم يأت على ذي طوى اغتسل من نحوها. والمعروف من المذهب في غسل دخول مكة غسل عرفة غسل الجسد والرأي. وعن ابن حبيب: أنه يغسل جسده دون رأسه. وذي طوى: قيل هو ربط من أرباط مكة. وهو بفتح الطاء مقصور. قاله الأصمعي، قال: والذي بطريق الطائف ممدود. وضبطه بعضهم بكسر الطاء وبعضهم بضمها. وَخُصُوصِيَّتُهُ لُبْسَ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ لِلرِّجَالِ أي: السّنَّةُ الثانية لبس إزار ورداء ونعلين، ومقتضى كلامه أن هذا اللباس هو السُنَّة. وكلام ابن شاس وصاحب الذخيرة مثله. وفي البيان: الاختيار للمحرم أن يحرم في ثوبين يَتَّزر بأحدهما ويضطبع بالآخر، وهو أن يشتمله ويخرج منكبه الأيمن ويأخذ طرف الثوب من تحت إبطه اليمن ويخرج طرفه الأيسر من تحت إبطه الأيسر فيلقبه على منكبه الأيمن، فإن كان قصيراً لا يثبت إلا بعقده في قفاه اتَّزَر به. وَيُصَلِّي رَكَّعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنِ اتَّفَقَ فَرْضٌ أَجْزَأَ، فَإِنْ كَانَ وَقْتَ نَهْيٍ انْتُظِرَ إِنْ أَمْكَنَ السُنَّةُ الثالثة أن يحرم إثر صلاة. والمستحب أن تكون نافلة؛ ليكون للإحرام صلاة تخصه. ويدل على الاستحباب قوله: (فَإِنِ اتَّفَقَ فَرْضٌ أَجْزَأَ) وفي المذهب قولٌ أنه لا رجحان للنافلة. ابن يونس: وإنما قلنا بالإجزاء إذا أحرم عقب فريضة؛ لأنه اختلف في إحرامه عليه الصلاة والسلام هل كنا عقب فريضة أو نافلة؟ فإن أحرم بغير صلاة فلا دم عليه.

وَيُحْرِمُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ إِذاَ رَكِبَ أَوْ تَوَجَّهَ وَيُقَلِّدُ هَدْياً إِنْ كَانَ مَعَهُ ثُمَّ يُحْرِمُ عَقِيبُهُ .... يعني: أنه لا يُحْرِمُ من المسجد بل إذا خرج منه، وهذا إذا كان ثَمَّ مسجد وإلا يفحرم بعد أن يركع. ولا يتوقف الإحرام على مشي راحلته على المشهور، بل بمجرد الاستواء خلافاً لابن [183/أ] حبيب. وكذلك الماشي يحرم من حين يخرج من المسجد متوجهاً للذهاب، ولا ينتظر أن يخرج إلى البيداء، قاله مالك فيا لمدونة. فإن قلت: فَلِمَ قال فيها إن الماشي لا يُحْرِمُ حتى يَشْرَعَ في المشي بخلاف الراكب فإنه يحرم بمجرد ركوبه؟ قيل: قال أبو عمر: إن الفرق بينهما أن الراكب لا يركب دابته إلا للسير، والراجل قد يقوم بحوائجه، فشروعه في المشي كاستوائه على دابته. عياض: ويهل مستقبل القبلة؛ لأنها إجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام؛ ولا تُجِبْ أحداً مولياً ظهرك عنه، قال مالك في العتبية والموازية: ويجبر الكري أن ينيخ بالمكتري بباب مسجد ذي الحليفة حتى يصلي ثم يركب. وليس له أن يقول: اذهب فصلّ ثم ارجع إليَّ. يريد لان العرف كان جارياً بذلك. قوله: (وَيُقَلِّدُ هَدْياً) يريد قبل أن يركع؛ ليتصل إحرامه بركوعه، وهذا هو مذهب المدونة. ولمالك في المبسوط تأخير التقليد والإشعار عن الركوع. وهذا في هدي التطوع. وأما هدي التمتع فقد تقدم أنه إنما يجب بإحرام الحج. ثُمَّ يُلَبِّي عِنْدَ الأَخْذِ فِي السِّيْرِ رَاكِباً أَوْ مَاشِياً رَافِعاً صَوُتَّهُ غَيْرَ مُسْرِفٍ إِلا النِّسَاءَ يعني: وبعد أن يحرم يلبي عند الأخذ في السير رافعاً صوته غير مسرف. أي غير معلٍ لصوته جداً لئلا يعقر حلقه. والمشهور أنه يرفع صوته بها في المسجد الحرام ومسجد

منى فقط. قيل: لأنهما بنيا للحج. وقيل: للأمن فيهما من الرياء. وعن مالك أنه يرفع في المساجد التي بين مكة والمدينة. وقوله: (إِلا النِّسَاءَ) مستثنى من قوله: (رَافِعاً صَوْتَّهُ) ابن عبد البر: أجمعوا أن السُنَّة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تُسْمِعَ نفسها. وَيُجَدِّدُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَسَمَاعِ مُلَبٍّ إِلَى رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: إِلَى بُيُوتِ مَكَّةَ، وَقِيلَ إِلَى الْحَرَمِ، وَإِنْ لَبَّى فَهُوَ فِي سَعَةٍ ..... قال في الجواهر: السُنَّةُ الرابعة أن يجدد التلبية. وقوله: (وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ) ويريد الفرض والنفل، قاله ابن المواز وابن حبيب وغيرهما. وتلبي الحائض والجنب. وفي تلبية من رجع لشيء نسيه في رجوعه روايتان. وقوله: (إِلَى رُؤْيَةِ الْبَيْتِ ... إلخ) هذا في حق المحرم بحج. وأما العمرة فسيأتي. ومقتضى كلامه أن المشهور أنه يلبي إلى رؤية البيت. وحكى ابن بشير أن المشهور قطعها إذا دخل بيوت مكة. خليل: وما شهره ابن بشير هو مذهب الرسالة لقوله فيها: فإذا دخل مكة أمسك عن التلبية. ومذهب المدونة خلاف ما شهره المصنف وابن بشير؛ لقوله فيها: ويقطع التلبية حين يبتدئ الطواف. وروى ابن المواز: إن كان أهَلَّ من الميقات قطع التلبية أوائل الحرم. وقوله: (فَإِنْ لَبَّى فَهُوَ في سَعَةٍ) أي: فإن لبى بعد مقتضى كل قول فهو في سعة. ثُمَّ يُعَاوِدُهَا بَعْدَ السَّعْيِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ إِلَى رَوَاحِ الْمُصَلَّى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى رَوَاحِ الْمَوْقِفِ أَوْ إِلَى الزَّوالِ لاَبْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَمُحَمَّدٍ، وَاِسْتَحْسَنَ اللَّخْمِيُّ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ..... كلامه صريح في أنه لا يلبي في السعي وهي رواية ابن المواز عن مالك. وروى أشهب يعاودها إذا فرغ من الطواف.

وقوله: (فِي الْمَسْجدِ) أي: الحرام. وقوله: (إِلَى رضوَاحِ الْمُصَلِّي,,,إلخ) يعني: وفي محل قطع التلبية ثلاث روايات: الأولى لابن القاسم في المدونة: إذا زالت الشمس وراح إلى الصلاة وهي التي رجع إليها مالك. قال في المدونة: وثبت مالك على هذا وعَلِمنا أنه رأيه. قال: لا يلبي الإمام يوم عرفة على المنبر ويكبر بين ظهراني خطبته. ابن الجلاب متمماً لهذه الرواية: إلا أن يكون أحرم بالحج من عرفة فيلبي حتى يرمي جمرة العقبة انتهى. ابن المواز: والعبد يعتق بعرفة فيُحْرِم ويلبي لأنه لا يكون إحرام إلا بتلبية، ثم يقطع التلبية مكانه. وكذلك النصراني يسلم. وذكر الباجي ما ذكره ابن المواز عن مالك. وذكر ابن الماجشون أن العبد والحر إذا أحرما من عرفة يلبيان لجمرة العقبة. الثانية لأشهب: إذا راح إلى الموقف واختاره سحنون. ثم الغالب في زماننا نداخل هاتين الروايتين لأنهم يصلون في موضع الوقوف ويتركون السُنَّة وهي الصلاة بمسجد عرفة. الثالثة لمحمد بن المواز: يقطعونها إذا زالت الشمس. قد علمت من كلامنا أن الأولى من الروايات راجعة إلى الأول من الرواة، والثانية إلى الثاني، ووجه في البيان الأولى فقال: وإلى عرفة غاية التلبية؛ لأن منها دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام الناس، ومن حكم المدعو أن يجيب الداعي حتى يصل إليه، ولا وجه لإجابته إياه إذا انصرف عنه. قال بعضهم: وعليه إجماع أهل المدينة. ابن محرز: وكان أبو علي بن خلدون يذهب إلى أن الروايات الثلاثة ترجع إلى قول واحد ويقول: إن رواحه إلى المسجد ورواحه إلى الموقف لا يكون إلا بعد الزوال. والصواب: أنها ترجع إلى قولين؛ لأن رواح الناس إلى الموقف بعد الصلاة في المسجد انتهى.

وحكى القاضي في إشرافه رواية أخرى أنه يلبي حتى يرمي جمرة العقبة. وإليه [183/ب] مال اللخمي لما في مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمي جمرة العقبة". وَالْمُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ يُلَبِّي فِي الْمَسْجِدِ أَيْضاً هو ظاهر التصور. وَالْمُعْتَمِرُ مِنَ الْمَوَاقِيتِ، وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ إِلَى رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَالْمُعْتَمِرُ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى بُيُوتِ مَكَّةَ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ ... يعني: أن من فاته الحج يعتمر ويكون حكمه في عمرته حكم من أحرم بها من الميقات. وما ذكره المصنف عكس ما نص عليه الجميع، فإنهم يقولون إن المحرم بالعمرة من المواقيت يقطع التلبية إذا دخل المحرم؛ لأن زمانه قد طال في التلبية. وقال في المدونة: وكذلك من فاته الحج أو أحصر بمرض حتى فاته الحج فإنه يقطع التلبية إذا دخل أوائل الحرم. وإن اعتمر من التنعيم أو الجعرانة فلا يقطع حتى يدخل بيوت مكة. وقال في الجلاب: إن احرم بها من الميقات قطع إذا دخل المحرم. وإن أحرم بها من الجعرانة، قطع إذا دخل بيوت مكة. وإن أحرم بها من التنعيم قطع إذا رأى البيت لتسويته فيها بين المحرم من الجعرانة والتنعيم. اللخمي: ورد مالك في المختصر المعتمر إلى الحج فقال: إن لبى حتى يدخل في المسجد فواسع. ابن بشير: وإنما تكلم مالك على إسقاط الحرج في ذلك لا على ما يؤمر به ابتداءً. وَلا يُلِحُّ وَلا يَسْكُتُ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يعني: لا يلح في التلبية حتى يعقر حلقه ولا يسكت حتى تفوت الشعيرة.

وَلَوْ أَفْسَدَهَ بَقِيَ عَلَى تَلْبيَتِهِ كَغَيْرِهِ أي: كغير المفسد لوجوب التمادي فيه. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ مِنْ ثِنْيَّةِ كَدَاءٍ - مَوْضِعٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ- يَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الأَبْطَحِ، وَالْمَقْبَرَةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ ثَنِيَّةِ كُدىً- مَوْضِعٌ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ - وَالنَّهَار أَفْضَل، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ فَيَطُوفُ لِلْقُدُومِ وَيَسْعَى (كَدَاءٍ) الأول مفتوح الكاف ممدود ومهموز غير منصرف لأنه علم. والثاني مضموم الكاف منون مقصور. ابن عبد السلام: هكذا ضبطه الجمهور وهو الصحيح. وقال بعضهم بالعكس انتهى. وضبط ابن شاس وابن راشد الثاني بضم الكاف، وفتح الدال وتشديد الياء على التصغير. وقال ابن الفاكهاني: لم أسمع الأول إلا بالمد والتنوين. وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة: المعروف في الثاني ضم الكاف والقصر. وثم موضع آخر يقال له: الكُدَيّ بضم الكاف وفتح الدال، وتشديد الياء وليس هو الثنية السفلى انتهى. والأصل في استحباب ما ذكره فعله عليه الصلاة والسلام. وقوله: (وَالْمَقْبَرَةُ عَنْ يَسَارِه) لعله في الزمان المتقدم. وأما اليوم فبعضها عن يساره، وبعضها عن اليمين. وقوله: (وَالنَّهَار أَفْضَل) لما رواه البخاري من حيث ابن عمر رضي الله عنه: "بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة" قال في المدونة وغيرها: وواسع أن يدخل ليلاً. اللخمي: قال محمد إن قدم بعد العصر أقام بذي طوى حتى يمسي ليصل بين طوافه وركوعه، وإن دخل فلا بأس بتأخير الطواف، فإن طاف أخر الركوع والسعي حتى تغرب الشمس، فيركع ويسعى إن كان بطهر واحد. فإن

انتقض وضوؤه توضأ وأعاد الطواف. ويقدم المغرب على ركعتي الطواف، فإن دخل قبل طلوع الشمس فالمذهب أنه لا يطوف، فإن طاف فلا يركع حتى تطلع الشمس. وجوز مطرف الركوع للطواف بعد الصبح. فعلى قوله يدخل فيطوف. انتهى. واستحب مالك للمرأة إذا قدمت نهاراً أن تؤخر الطواف إلى الليل. مالك: وما سمعت رفع اليدين عند رؤية البيت وعند الركن. واستحب ابن حبيب إذا رأى البيت أن يرفع يديه ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحيينا ربنا بالسلام. اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وتكريماً، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً. وَهُمَا وَاجِبَانِ قَبْلَ عَرَفَاتٍ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ غَيْرَ مُرَاهِقٍ وَلَوْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَاضِرٌ أَوْ غَيْرُهُ .... الضمير في: (هُمَا) عائد على الطواف والسعي، واحترز بقوله: (أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ) ممن أحرم من الحرم، فإنه لا طواف قدوم عليه لكونه ليس بقادم. وبقوله: (غَيْرَ مُرَاهقٍ) من المراهق فإنه يخرج لعرفات ولا دم عليه. قوله: (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ) أي: أنهما يجيبان على القادم ولو كان مكياً وخرج إلى الميقات. ومقتضى ما نقلوه عن أشهب أن طواف القدوم ليس بواجب؛ لأنه أسقط الدم عمن تركه عامداً، وحكى ابن عبد البر قولاً في المذهب بركنيته كطواف الإفاضة. وَأَمَّا مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ أَوْ أَرْدَفَ فِيهِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ لا يَسْعَى بَعْدَهُ، وَلَكِنْ بَعْدَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ كَالْْمُرَاهِقِ، وَأَمَرَ مَالِكٌ أَهْلَ مَكَّةَ وَكُلَّ مَنْ أَنْشَأَ الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ بِذَلِكَ .... سقط طواف القدوم في حق من أحرم بالحج من الحرم أو أردف فيه قبل عرفة لكونه ليس بقادم، ولما كان السعي مشروطاً بتقديم أحد طوافي الحج، وسقط طواف القدوم في حق من أحرم من الحرم تعيين تأخير السعي بعد طواف الإفاضة.

قوله: (وَلِذَلِكَ لا يَسْعَى بَعْدَهُ) أي: لو أوقع طوافاً فلا يسعى [184/أ] بعده لكونه ليس أحد طوافي الحج. وقوله: (وَأَمَرَ مَالِكٌ ... إلخ). الإشارة بذلك إلى تأخير السعي ليوقع بعد طواف الإفاضة. وَلَوْ سَعَى وَرَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ مُقْتَصِراً أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: لو سعى المحرم بالحج من الحرم أو المردف فيه بعد طواف أوقعه فإنه يؤمر بأن يعيده بعد طواف الإفاضة، فإن لم يعده واقتصر على سعيه الأول ورجع إلى بلده قال في المدونة: أجزأه سعيه الأول وعليه دم وذلك أيسر شأنه، وأما المراهق إذا قدم الطواف والسعي وأدرك فلا شيء عليه؛ لأنه أتى بما هو أصل في حقه. وَيَتْرُكُهُ الْمُرَاهِقُ وَالْحائِضُ، فَإِنْ كَانَ إِحْرَامُهُمَا بِعُمْرَةٍ أَرْدَفَا الْحَجَّ، وَصَارَا قَارِنَيْنِ، وَإِلا فَعَلَى مَا كَانَا ... يعني: أن المراهق والحائض يتركان طواف القدوم، ولا يسعيان إلا بعد طواف الإفاضة، فإن كانا أحرما بعمرة أردفا الحج ويصيران قارنين. وقوله: (وَإِلا فَعَلَى) أي: وإن لم يكونا أحرما بعمرة فإنهما يمضيان على ما كانا من إفراد أو قران. الباجي: ومتى يكون الحاج مراهقاً؟ قال أشهب: إن قدم يوم عرفة أحببت تأخير طوافه، وإن قدم يوم التروية أحببت تعجيله، وله في التأخير سعة، رواه أبو محمد في المختصر عن مالك، وإن قدم يوم عرفة فليؤخر إن شاء، وإن شاء طاف وسعى، وإن قدم يوم التروية ومعه أهله فليؤخر إن شاء، وإن لم يكن معه أهله فليطف ولْيَسْعَ، ومعنى ذلك أن الاشتغال يوم عرفة بالتوجه إلى عرفة أولى، وأما يوم التروية فمن كان معه أهله كان في شغل مما لابد للمسافر بالأهل منه والله أعلم.

واجبات الحج

فائدتان: الأولى: قال في البيان: لا خلاف عن مالك وأصحابه أن مكة فتحت عنوة، إلا أنهم اختلفوا هل مَنَّ على أهلها بها فلم تقسم كما لم يُسب أهلها لما عظم الله من حرمتها أو هل أقرت للمسلمين؟ وعلى هذا جاء الاختلاف في كراء بيوتها. فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: أحدها المنع. والثاني الإباحة. والثالث الكراهة في أيام المواسم خاصة انتهى. الثانية: في النوادر قال ابن حبيب: ويستحب أن تكثر من شرب ماء زمزم والوضوء به ما أقمت. قال ابن عباس: وليقل إذا شربه: اللهم إني أسألك علماً نافعاً وشفاء من كل داء. وقال وهب بن منبه: هي شراب الأبرار، طعام وطعم وشفاء من كل سقم. قال ابن عباس: هو لما شرب له، وقد جعله الله لإسماعيل ولأمه هاجر طعاماً وشراباً انتهى. ابن حبيب: ويستحب نقله إلى البلدان. وَوَاجِبَاتُهُ خَمْسَةٌ: الأَوَّلُ شُرُوطُ الصَّلاةِ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ إِلا الْكَلامَ، فَلَوْ طَافَ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ أَعَادَ ... أي: وواجبات الطواف، ولأجل أن الطواف كالصلاة في الستر كره مالك للطائف أن يعري عن منكبيه، وأن يطوف مغطياً الفم، والمرأة منتقبة. وقوله: (إِلا الْكَلامَ) هذا الاستثناء يحتمل الانقطاع ويحتمل الاتصال بناءً على ما قدمه في الصلاة أن ترك الكلام من شروطها، وإن كان في التحقيق إنما هو مانع. لأن الكلام مطلوب عدمه. أي: فيجوز للحاجة، ويكره إذا كان بغير ذكر ولا حاجة. مالك: وليقل الكلام في الطواف، وتركه في الواجب أحب إلي. وهل تكره القراءة فيه أو لا؟ روايتان. مذهب المدونة الكراهة. وروي تجوز إذا أخفاها في نفسه. وخصص ابن بشير الخلاف في القراءة الكثيرة. وأما اليسيرة فلا بأس بها. وإذا كرهت القراءة فالشعر أولى.

اللخمي: ولا ينشد في الطواف الشعر ويستخف البيتان والثلاثة إذا تضمن وعظاً أو تحريضاً على طاعة. قال في الجلاب: ولا يأكل ولا يشرب. اللخمي: إلا أن يضطره ظمأ. وكره مالك في المدونة أن يلبي فيه. وأجازه في كتاب محمد. واشترطت الطهارة لفعله عليه الصلاة والسلام، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف بالبيت صلاة" وهذا هو المشهور. اللخمي: إلا أن يضطره ظمأ. وكره مالك في المدونة أن يلبي فيه. وأجازه في كتاب محمد. واشترطت الطهارة لفعله عليه الصلاة والسلام، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف بالبيت صلاة" وهذا هو المشهور. اللخمي وغيره: وقال المغيرة: إذا طاف متوضئ يعد طوافه ما دام بمكة، فإذا خرج إلى بلده وأصاب النساء أجزأه ولا شيء عليه. ونقل عنه في الذخيرة أن الطهارة سُنَّة. وأنه إن طاف محدثاً فعليه شاة، أو جنباً فعليه بدنة. وَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ رَجَعَ لِلرُّكْنَي إِلا أنْ يَكُونَ طَافَ بَعْدَهُ تَطَوُّعاً فَيُجْزِئُهُ، وَفِي الدَّمِ نَظَرٌ ..... يعني: فإن طاف غر متطهر ولم يعده ورجع إلى بلده، فإنه - يرجع إليه إذا كان ركناً وهو طواف الإفاضة في الحج. وطواف العمرة. فأما طواف القدوم إذا طافه من غير وضوء وأوقع السعي بعده ول يعده فإنما يرجع للسعي. وما ذكره من الرجوع جار على المشهور من اشتراط الطهارة. وأما على قول المغيرة فليهد ولا شيء عليه. قوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ طَافَ) هو كقوله في المدونة: ومن طاف للإفاضة على غير وضوء رجع لذلك من بلده فيطوف للإفاضة إلا أن يكون قد طاف بعده تطوعاً يجزئه عن طواف الإفاضة. اللخمي: قال ابن عبد الحكم: لا يجزئه. وأصل المذهب أنه لا يجزئ التطوع عن الواجب، كمن تطوع بركعتين ثم ذكر أن صلاة الفجر، أو يصوم يوماً ثم ذكر أن عليه يوماً انتهى. ابن عبد السالم: وحمل بعضهم المشهور على أنه إنما كان ذلك نسياناً بخلاف العمد. وظاهر كلام غيره [184/ب] ولو كان على سبيل العمد. ويقرب من المشهور من قاله عبد الملك فيمن تطوع بالرمي وقد نسي جمرة العقبة، أن ذلك يجزئه. وهي

أشد من الطواف؛ لأن التقرب بالطواف مشروع على الإطلاق بخلاف الرمي، فإنه يتقرب به على وجه ما، في زمن ما. لا سيما وابن الماجشون يرى أن جمرة العقبة ركن انتهى. وقوله: (وَفِي الدَّمِ نَظَرٌ) ظاهر المدونة سقوطه. وقد صرح ابن يونس بذلك فقال عبد الكلام الذي حكيناه عن المدونة: يريد ولا دم عليه. ويمكن أن يقال بوجوب الدم للخلل الحاصل بعدم نية الوجوب. ولعل المصنف لما تعارض عنده ظاهر المدونة والخلل المذكور قال: (وَفِي الدَّمِ نَظَرٌ). فرع: وهل يجزئ طواف القدوم عن طواف الإفاضة؟ ظاهر المذهب عدم الإجزاء وهو مذهب ابن القاسم وغيره. وذكر ابن عبد البر في الكافي عن ابن عبد الحكم انه قال: إن طاف الذي أحرم من مكة وسعى قبل خروجه إلى منى، أعاد الطواف قبل أن يصدرن فإن صدر ولم يطف بالبيت فليهرق دماً. قال أبو عمر: فإن كان طواف الذي يحرم بالحج من مكة وسعيه في حين خروجه من مكة إلى منى ينوب عنده مع الدم عن طواف الإفاضة فيما ذكره ابن عبد الحكم عن مالك وكذلك ذكر أبو الفرج عنه، كان طواف القادم من الحل وسعيه أولى بذلك؛ لأنه وضع الطواف موضعه انتهى. وَيَرْجِعُ حَلاَلاً إِلا مِنَ النِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ؛ لأَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ بِمِنًى حَتَّى يَطُوفَ ثُمَّ يَعْتَمِرُ وَيُهْدِي، وَقَيِلَ لا عُمْرَةَ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَطَأَ، وَجلُّ النَّاسِ لا عُمْرَةَ عَلَيْهِ، وَلا حَلْقَ؛ لأَنَّهُ حَلْقٌ بِمِنًى ... قال في المدونة: والمفرد بالحج إذا طاف الطواف الواجب أول ما يدخل مكة وسعى بين الصفا والمروة على غير وضوء ثم خرج إلى عرفات فوقف الموقف ثم رجع إلى مكة يوم النحر فطاف طواف الإفاضة على غير وضوء ولم يسع حتى رجع إلى بلده فأصاب النساء والصيد والطيب ولبس الثياب - فليرجع لابساً للثياب حلالاً إلا من النساء

والصيد والطيب حتى يطوف ويسعى ثم يعتمر ويهدي، وليس عليه أن يحلق إذا رجع بعد فراغه من السعي لأنه قد حلق بمنى، ولا شيء عليه في لبس الثياب لأنه لما رمى جمرة العقبة حل له اللباس، بخلاف المعتمر؛ لأن المعتمر لا يحل له اللباس حتى يفرغ من السعي، ولا شيء عليه في الطيب؛ لأنه بعد رمي جمرة العقبة فهو خفيف، وعليه لكل صيد أصابه الجزاء، ولا دم عليه لتأخير الطواف الذي طافه حين دخل مكة على غير وضوء، وأرجو أن يكون خفيفاً؛ لأنه لم يتعمد ذلك وهو كالمراهق، والعمرة مع الهدي تجزئه من ذلك كله، وجل الناس يقولون لا عمرة عليه انتهى. وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر؛ لأنه جعل هذه المسألة مفرعة على تلك، وكأنه يقول: إذا طاف طواف الإفاضة على غير وضوء فإما أن يكون قد طاف بعده أو لا؟ فإن طاف بعده أجزأه وفي الدم نظر. وإن لم يطف بعده رجع. قوله: (وَيَرْجِعُ حَلالاً إلا منَ النِّسَاءِ ...) وما ذكر إلى آخره وهو في المدونة قد جعل كل مسألة مستقلة، ولم يذكر أنه يرجع حلالاً إلا من النساء والصيد والطيب إلى آخره، إلا في مسألة الراجع للسعي، لا في حق من طاف للإفاضة بغير وضوء. ولم يحسن المصنف سياقة المسألتين كما هما في المدونة، وقد قدمنا لفظ مالك في المدونة في المسألة السابقة، وذكرنا لفظه في هذه المسألة، ويبين لك ذلك أن قول المصنف في الأولى: (وَفِي الدَّمِ نَظَرٌ) يدل على أنه لا عمرة عليه. ابن عبد السلام: وكذلك هو الحكم، ولم يتعرض أحد ممن تكلم على المسألة فيما علمت على العمرة انتهى. وههنا لم يختلف في طلب العمرة على الجملة وإنما اختلف هل يؤمر بها على الإطلاق أو بشرط أن يطأ؟ وقد يجاب على هذه بأن المصنف إنما ذكر الخلاف في طلب العمرة إذا لم يطف بعده تطوعاً وإنما قال: (وَفِي الدَّمِ نَظَرٌ) إذا طاف بعده تطوعاً. والمصنف لم ينقل قوله: (وَيَرْجِعُ حَلالاً إِلا مِنَ النِّسَاء ... إلخ) عن المدونة. والظاهر أنه

لا فرق بين ما إذا طاف للإفاضة بغير وضوء، أو طاف للقدوم بغير وضوء ثم سعى بعده. وقد ظهر لك أن قوله: (ثُمَّ يَعْتَمِرُ وَيُهْدِي) وقيل: لا عمرة عليه إلا أن يطأ، وهو مثل لفظ المدونة. والظاهر قول جل الناس: لأن العمرة إنما كانت عليه لأجل الخلل الواقع في الطواف بتقديم الوطء عليه فأمر أن يأتي بطواف صحيح لا وطأ قبله وهوحاصل في العمرة، بخلاف ما إذا لم يطأ. وقوله: (وَلا حَلْقَ) يوهم أيضاً أنه من قول جل الناس، وليس كذلك بل هو المذهب، وإنما جاء هذا من تأخيرها عن حلها، ولو أتى بها في محلها كما فعل في المدونة لم يأت هذا. تنبيه: عارض التونسي قوله في المدونة: ولا دم عليه لتأخير الطواف الذي طافه بقوله: فيمن نسي الطواف أن عليه الدم، فإن كان قال هنا الدم خفيف وقد نص في المدونة على وجوب الدم على الذي طاف وسعى وفعل أفعال الحج كلها جُنُباً، فقال: يغتسل ويعيد الطواف والسعي وعليه الدم. أبو إسحاق: ولعمري هو الأشبه ولا فرق بين من نسي الطواف جملة أو طاف بلا وضوء لأنه كالعدم. وفرق أبو عمران بينهما بأن من طاف بلا وضوء أتى بصورة الطواف فكان أخف، لا سيما وأبو حنيفة لا يشترط الطهارة [185/أ]، ولأن صلاة المأموم بصلاة الإمام الناسي للجنابة صحيحة. وَكَذَلِكَ طَوَافُ الْقُدُومِ إِذَا كَانَ السَّعْيُ بَعْدَهُ إِلا أَنَّهُ يَطُوفُ وَيَسْعَى، وَنِسْيَانُ بَعْضِهِ كَجَمِيعِهِ، إِلا أَنَّهُ يَبْنِي مَا لَمْ يَطُلْ .... أي: وكذلك أيضاً يرجع إذا أوقع السعي بعد طواف القدوم بغير وضوء وقد تقدم أنه في الحقيقة إنما يرجع للسعي.

وقوله: (إلا أن يَطُوفِ ويَسْعى) أي: لأن من شرط السعي أن يتقدمه طواف. وقوله: (وَنِسْيَانُ بَعْضِهِ) أي: بعض الطواف الركني؛ أي: في وجوب الرجوع، وهذا هو ظاهر المذهب، وإليه رجع ابن القاسم بعدما كان يخفف الشوط والشوطين وكذلك إن شك في ذلك فليرجع. وقوله: (إِلا أَنَّهُ يَبْنِي) يعني على ما فعله إذا كان قريباً فإن تذكر في سعيه فإنه يقطع السعي ويكمل طوافه ويعيد الركعتين ثم يأتي بالسعي، فإن ذكر بعد إكمال سعيه فسيقول المصنف أنه يبتدئ الطواف على المشهور، وفي المدونة: إذا ن قريباً بنى وركع وأعاد السعي، وإن طال ذلك وانتقض وضوءه أو ذكر ذلك في طريقه او ببلده رجع فابتدأ الطواف، وإن كنا قد جامع فليرجع ويفعل كما وصفنا أي: فيمن طاف على غير وضوء قاله ابن يونس. وقد ذكر بعضهم أن الحكم في تفريق المتعمد كما في الناسي، فيفرق بين اليسير منه والكثير، فإن قيل: هل يصح أن يعود الضمير في قوله: (وَنِسْيَانُ بَعْضِهِ) على السعي؟ قيل: السياق يبعده؛ لأن الكلام الآن إنما هو في الطواف. أَمَّا طَوَافُ عُمَرَتِهِ فَيَرْجِعُ لَهُ مُحْرِماً كَمَا كَانَ فَيَحْلِقُ وَيَفْتَدِي مِنَ الْحَلْقِ الْمُتَقَدِّمِ إِلا أَنْ يَكَوُنَ مُعْتَمِراً وَقَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ سَعِيِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَارناً يعني: أنه إذا تذكر أنه طاف في عمرته بغير وضوء أو نسيه أو شوطاً منه بعد أن حلق فإنه يرجع محرماً؛ لأنه لم يتحلل، ويحلق؛ لأنه حلق أولاً في غير محله ويفتدي من الحلق المتقدم؛ لأنه أوقفه وهو محرم، إلا أن يكون أحرم بالحج بعد سعيه فإنه يصير قارناً؛ لأنه أردف الحج على العمرة قبل صحة طوافها، ويجب عليه دم القران والله أعلم.

وَلَوِ انْتَقَضَ فِي أَثْنَائِهِ تَطَهَّرَ وَاِسْتَانَفَ، وَلَوْ بَنَى كَانَ كَمَنْ لَمْ يَطُفْ خِلافاً لابْنِ حَبيبٍ ..... إنما كان إذا بنى بمنزلة من لم يطف لفقدان الشرط - وهو الطهارة- كالصلاة. وظاهر كلامه أنا خلاف ابن حبيب بعد الوقوع لا ابتداءً، وأنه هو الذي قال ذلك. والذي قاله ابن يونس أن ابن حبيب روى عن مالك أنه إذا أحدث في الطواف فليتوضأ ويبني. وظاهره أن له أن يفعل ذلك ابتداءً. ووجْهُهُ انحطاط رتبته عن الصلاة. ونقل صاحب النوادر والباجي عن ابن حبيب أنه قال: إن انتقض وضوءه قبل الركعتين ابتدأ الطواف إذا كان واجباً، وهو مخير في التطوع. فرع: فإن رعف وهو في الطواف بنى كما في الصلاة، قاله ابن حبيب. وَلَوْ طَافَ بِنَجَاسَةٍ طَرَحَهَا مَتَى ذَكَرَ وَبَنَى، فَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَفِي اسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا قَوْلانِ، بَنَاءً عَلَى أَنَّ وَقْتَهُمَا بَاقٍ أَوْ مُنْتَقِضٌ بِفَرَاغِهِمَا قوله: (طَافَ) أي: شرع في الطواف؛ لقوله: طرحها متى ما ذكر، وقوله: (طَرَحَهَا مَتَى ذكَرَ) يؤخذ منه خفة أمر الطواف بالنسبة إلى الصلاة؛ لأن المذهب في الصلاة القطع. قال أشهب هنا بقطع إن كانت النجاسة كثيرة كالصلاة. قال في البيان: وهو القياس أِهب: وإن لم يعلم إلا بعد الإكمال أعاد الطواف والسعي فيما قرب إن كان واجباً، وإن تباعد فلا شيء عليه ويهدي وليس بواجب، وإن كان متعمداً أعاد وإن بَعُدْ. عبد الحق: وقول أشهب: "إن كان كثيراً" إنما يصح في الدم خاصة. وقال ابن القاسم: إذا لم يذكر إلا بعد الفراغ منه فلا يعيد بمنزلة من صلى بنجاسة ثم رءاها بعد خروج الوقت. ويقلع الثوب ويصلي الركعتين بثوب طاهر.

قوله: (وَإنْ ذَكَر بَعْدَ رَكْعَتَي الطَّوَافِ فَفِي اسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا ... إلخ) واستحباب إعادتهما لابن القاسم. وابن المواز قال يعيدهما فقط دون الطواف إن كان قريباً ولم ينتقض وضوءه. فإن انتقض أو طال ذلك فلا شيء عليه كزوال الوقت. ونفي الإعادة لأصبغ، ورأي أن وقتهما قد خرج بالسلام. ابن يونس: والقياس عندي قول أصبغ. والاستحسان أني عيد ذلك بالقرب ما لم ينتقض وضوءه. ابن عبد السلام: وهذا الخلاف يشبه الخلاف في مصلي الفائتة بثوب نجس. اللخمي: وإن صلَّى الركعتين بثوب نجس لم يُعد على أصل ابن القاسم في عدم إعادة الطواف، وأنه بالفراغ منه بمنزلة ما خرج وقته. وفي كتاب محمد يعيد ما دام بمكة. فإن خرج إلى بلده أجزأه ولم يعدهما، ويبعث بهدي. وليس هو بالبين، وأرى أن يعيد ما دام بمكة، ما لم تخرج أيام الرمي لأنه في ذلك مؤد غير قاضٍ. ويختلف إذا خرجت أيام الرمي ولم يخرج ذي الحجة هل يعيد أم لا؟ فإن خرج ذو الحجة لم يعد لأن الركعتين تابعة للطواف. الثَّانِي أَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ كَالطَّهَارَةِ أي: الواجب الثاني أن يجعل البيت عن يساره. وهو معنى قولهم: لا يطوف منكوساً. وقوله: (وَهُوَ كَالطَّهَارَةِ) أي: فيرجع للركني من بلده إن نكس. وهذا هو المعروف. ابن شاس وغيره: وقيل إذا رجع إلى بلده لا تلزمه إعادة. ولعل قائل ذلك لم يره شرطاً في الصحة وهو بعيد. وَيَبْتَدِئُ مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ لفعله صلى الله عليه وسلم. ابن المواز: ولو [185/ب] بدأ في طوافه من الركن اليماني فليلغ ذلك ويتم إلى الركن الأسود. وإن لم يذكر حتى رجع إلى بلده أجزأه ويبعث بهدي، وكذلك إن بدأ بالطواف

من باب البيت إلى الركن الأسود. قيل: فلو ابتدأ الطواف من بين الحجر الأسود والباب، قال: هذا يسير يجزئه ولا شيء عليه. سند: والبداية عند مالك من الحجر الأسود سُنَّة، فلو بدأ بالركن اليماني تمادى إلى الحجر الأسود، فإن خرج من مكة أجزأه وعليه الهدي لقوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) وهو قد طاف. وَفِيهَا: وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ فِي اِبْتِدَاءِ الطّوَافِ إِلا فِي الْوَاجِبِ، وَحُمِلَ عَلَى التَّأَكُّدِ ... يعني: أن مفهوم قوله: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَلِمَ ... إِلا في الْوَاجِبِ) أن عليه ذلك في الواجب، فحمل الأشياخ هذا المفهوم على أنه يتأكد في الواجب أكثر من غيره، وإلا فالاستلام مطلقاً غير واجب، زاد في المدونة بعدما حكاه المصنف عنها: إلا أن يشاء، وهذه الزيادة إن عادت إلى غير الواجب فظاهر، وإن عادت إلى الواجب فهي مما يبين أنه ليس المراد وجوب الاستلام في أول الطواف. وفي الموطأ: أنه عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن عوف: "كيف صنعت في استلام الركن الأسود؟ " فقال: استلمت وتركت. فقال: "أصبت". الثَّالِثُ أَنْ يَطُوفَ خَارِجَهُ لا فِي مُحَوَّطِ الْحَجَرِ وَلا شَاذَرْوَانِهِ أي: فإن طاف في الحجر لم يجزه لكونه قد طاف ببعض البيت. والشاذوران: ما انبسط من أساس البيت ولم يرفع على استقامة. ولأجل أنهم جعلوا الشاذوران من البيت قال بعضهم: إذا قبل الحجر فليثبت رجليه ثم يرجع قائماً كما كان، ولا يجوز أن يقبله ثم يمشي مطأطئ الرأس؛ لئلا يحصل بعض الطواف وليس جميع بدنه خارج عن البيت. وأشار اللخمي إلى أنه لو تسور على آخر الحجر لأجزأه لأنه ليس من البيت. يريد لأن القدر الذي من البيت مقدار ستة أدرع.

دَاخِلَ الْمَسْجِدِ لا مِنْ وَرَائِهِ وَلا مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ وَشِبْهِهِ عَلَى الأَشْهَرِ إِلا مِنْ زِحَامٍ سند: ويستحب الدنو من البيت كالصف الأول. الباجي: وسنة النساء أن يكن وراء الرجال كالصالة. قال في المدونة: ومن طاف وراء زمزم أو في سقائف المسجد من زحام الناس فلا بأس به، وإن طاف في سقائف المسجد لغير زحام من حر يجده أو غيره أعاد الطواف. قال ابن أبي زيد: يريد ولا يرجع له من بلده. وقال ابن شبلون: يرجع. الباجي: وقول ابن أبي زيد أقيس، ولا دم عليه. وقال سحنون: لا يمكن أن ينتهي الزحام إلى السقائف، وإنما فرق في المدونة بين الزحام وغيره؛ لأن اتصال الزحام يُصَيِّرُ الجميع متصلاً بالبيت كاتصال الزحام بالطرقات يوم الجمعة. وقال أشهب: لا يجزئ من طاف في السقائف. وهو كالطائف خارج المسجد وخارج الحرم. ولابن القاسم نحوهما. وألزمهما اللخمي عدم الإجزاء في زمزم وقال: لأنه يحول بينه وبين البيت كما تحول اسطوانات البيت. وفرق القرافي بأن زمزم في بعض الجهات فلا يؤثر كالمقام أو حفير في الطواف. وفي الجواهر لا يطوف من وراء زمزم ولا من وراء السقائف، فلو فعل مختاراً أعاد ما دام بمكة، فإن رجع إلى بلده فهل يجزئه الهدي أم يلزم الرجوع؟ للمتأخرين قولان. انتهى. ونحوه لابن بشير وشبه زمزم قبة الشراب. وعلى هذا فقوله: (عَلَى الأَشْهَرِ) يحمل على ما ذكر قبل ذلك لا على الابتداء، وإن كان ذلك ظاهر كلامه. تنبيهات الأول: ابن هارون: لا خلاف أنه إذا طاف خارج المسجد في نفي الإجزاء. وعلى هذا فقوله: (عَلَى الأَشْهَرِ) عائد على زمزم وشبهه.

الثاني: لم يتكلم المصنف على ما إذا طاف في السقائف. وانظر كيف شهر المصنف الإجزاء في زمزم وشبهه. والخلاف فيه على نقل ابن شاس وغيره للمتأخرين. ولكون ابن القاسم وأشهب لم يتكلما على زمزم خرجها اللخمي على قولهما في السقائف كما تقدم. الثالث: قد تقدم أن الباجي قال بعد تصويب تأويل ابن أبي زيد بعدم الرجوع: ولا دم عليه، وهو مخالف لما حكاه ابن شاس من أحد القولين أنه يلزمه الدم؛ لأنه إذا لم يلزمه الدم مع طوافه في السقائف فلأن لا يلزمه ذلك إذا طاف وراء زمزم من باب أولى. الرَّابِعُ أَنْ يَطُوفَ سَبْعاً وَيُوَالِيَ، فَإِنْ ذَكَرَ فِي سَعْيِهِ أَنَّهُ نَسِيَ بَعْضَهُ قَطَعَهُ وَكَمَّلَ طَوَافَهُ وَأَعَادَ الرَّكْعَتَيْنِ وَسَعَى، فَإِنْ كَمَّلَ سَعْيَهُ ابْتَدَأَ الطَّوَافَ عَلَى الْمَشْهُورِ أما وجوب السبع ابتداءً فظاهر. ويرجع لشوط على المعروف كما تقدم. وقوله: (قَطَعَهُ وَكمََّلَ طَوَافَهُ وَأَعَادَ الرَّكْعَتَيْنِ) تقدم. وقوله: (فَإنْ كَمَّلَ سَعَْهُ ابْتَدَأَ الطَّوَافَ عَلَ الْمشْهُورِ) فيه نظر؛ لأنه يقتضي أن المشهور إذا ذكر بمجرد الفراغ من سعيه أنه يبتدئ والذي في المدونة أنه إنما يبتدئ إذا طال أمره بعد إكمال سعيه أو انتقض وضوءه. والقول بالبناء وإن فرغ السعي، ذكره بعضهم، ولعله يرى ذلك قريباً. فرع: قال مالك: وإن شك في الطواف بنى على الأقل كالصلاة. فَإِنْ أُقِيمَتْ فَرِيضَةٌ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ ثُمَّ يَبْنِي قَبْلَ تَنَفُّلِهُ ظاهر قوله: (فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ) أنه مخير. وكلامه يقتضي وجوب القطع، كقول الأبهري في تعليل البناء إذا قطع للفريضة: لأن الطواف بالبيت [186/أ] صلاة، ولا يجوز لمن في المسجد أن يصلي بغير صلاة الإمام المؤتم به إذا كان يصلي المكتوبة؛ لأن في ذلك خلاف عليه. وكذلك علل صاحب البيان وهو مقتضى كلام العتبية وهكذا أشار ابن عبد السلام وابن راشد إلى أن ظاهر نصوصهم وجوب القطع.

قال في الموازية: وإن بقي له طواف أو طوافان فلا بأس أن يتمه قبل أن تعتدل الصفوف، وأما المبتدئ فأخاف أن يكثر. قوله: (ثُمَّ يَبْنِيَ) ظاهر المدونة والموازية من حيث قطع. واستحب ابن حبيب أن يبتدئ ذلك الشوط، ولهذا كان المستحب أن يخرج على كمال الشوط قاله في الذخيرة. بِخِلافِ قِطَعِهِ لِجَنَازَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَبِخِلافِ نِسْيَانِ نَفَقَتِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ أي: الخلاف في البناء لا في القطع؛ لأنه لا يقطع للجنازة ابتداءً ولم أرَ في ذلك خلافاً. ومن النوادر قال مالك: ولا يصلي الطائف على جنازة. ابن القاسم: وإن فعل فليبتدئ. وقال أشهب: بل يبني. انتهى. وكذلك قال الباجي وغيره. وعلى هذا فالمشهور قول ابن القاسم. ووجهه أنها لما سقطت عنه بفعل الغير وعارضها وجوب الموالاة في طوافه صار كالقاطع من غير عذر. ولعل أشهب قاسها على الفريضة. وأخذ التونسي من التفرقة في المشهور بين الفريضة وصلاة الجنازة أنها ليست فرضاً لقوله فيها: ولا يخرج لشيء إلا لصلاة الفريضة. قال: إلا أن يريد فريضة تتعين عليه في نفسه، وفيه نظر. تنبيه: أجاز مالك في العتبية إذا كان في طواف التطوع أن يقطع ويصلي ركعتي الفجر. قال في البيان: خفف قطع الطواف النافلة كما استخف ترك الطواف الواجب لصلاة الفريضة. وقوله: (بخِلافِ نِسْيَانِ نَفَقَتِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ) أي: من المدونة وغيرها. قال في المدونة: ومن طاف بعض طوافه ثم خرج فصلى على جنازة أو خرج لنفقة نسيها فليبتدئ الطواف ولا يبني ولا يخرج من طوافه لشيء إلا لصلاة الفريضة. مالك: ثم يبني. ابن بشير: وأجراه اللخمي على القول في الجنازة وجعله أعذر في نسيان النفقة، ويمكن أن يفرق بينهما بأن صلاة الجنازة تشارك الطواف في كونها صلاة. وأشار ابن عبد السلام إلى أنه لا يرد تخريج اللخمي لحصول المشقة الناشئة عن فقد المال، ولهذا يقطع الصلاة لذلك. قال: لكون اللخمي لم يلاحظ هذا، وإنما لاحظ القياس على صلاة الجنازة.

انتهى. وفيه نظر؛ لأن جعل اللخمي كونه أعذر يدل على مراعاة المشقة المذكورة فتأمله. وقد علمت أن مذهب المدونة عدم الخروج للنفقة لقوله: ولا يخرج إلا لصلاة الفريضة. وأن القول بالبناء فيها مخرج على قول أشهب. خليل: ولو قيل بجواز الخروج للنفقة كان أظهر. كما أجازوا قطع الصلاة لمن أخذ له مال له بال وهي أشد حرمة. وجعل ابن عبد السلام الخلاف في القطع وليس بظاهر. الْخامِسُ رَكْعَتَانِ عَقِيبَهُ وَفِي وُجُوبَهُمَا - ثَالِثُهَا حُكْمُ الطَّوَافِ لا خلاف في مشروعيتهما ولا في عدم ركنيتهما وإنما الخلاف هل هما واجبان مطلقاً، وهو اختيار الباجي، أو هما سنة مطلقاً وهو قول عبد الوهاب؟ وقال الأبهري وابن رشد: حكمهما حكم الطواف في الوجوب والندب. الباجي وغيره: والأفضل أن يركعهما في المقام. ابن عبد البر: وإن لم يمكنه فحيث تيسر من المسجد ما خلا الحجر. زاد غيره: والبيت وظهره. قال جماعة: ويقرأ فيها بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإن قرأ بغيرهما فلا حرج. ونقله ابن يونس عن ابن حبيب. وَلا يَجْمَعُ أَسَابِيعَ ثُمَّ يُصَلِّي لَهَا لأن الركعتين كالجزء من الطواف، فلا يبتدئ طوافاً قبل كمال الأول، وإن شرع في ثان قبل أن يركع للأول قطع ما لم يكمله. وَلِذَلِكَ لا يَطُوفُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ إِلا أُسْبُوعاً، وَيُؤَخِّرُهُمَا إِلَى حِلِّ النَّافِلَةِ فَيَصْلُيهُمَا أَيْنَ كَانَ، وَلَوْ فِي الْحِلِّ .... يعني: ولأجل الركعتين بعد الطواف لكونهما كالجزء لا يطوف بعد الصبح وبعد العصر إلا أسبوعاً واحداً، وحاصله أنه لا يجمع بين أسبوعين فأكثر، كان في وقت

تحل فيه النافلة أم لا، لكنه إذا طاف في وقت تكره فيه النافلة يؤخر ركعتيه لوقت الإباحة فيصليهما بعد طلوع الشمس بعد الغروب بشرط أن لا ينتقض وضوءه، وسينبه المصنف على ذلك. واستحب مالك أن يركعهما بعد المغرب، وعن مالك أنه مخير. ابن رشد: والأظهر تعجيل الركعتين لاتصالهما، وأمرهما خفيف. وعن مطرف وابن الماجشون: من طاف بعد الصبح وهو في غلس فلا بأس أن يركع لطوافه حينئذ، وقد فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ابن عبد السلام: وأظنهما لا يقولان بذلك بعد العصر، وهو قريب من تفرقة ابن حبيب في سجود التلاوة بين الوقتين، قال في الموازية: ومن صلى العصر-يعني في منزله - ثم أتى المسجد فطاف قبل أن يصلي الإمام فلا يركع حتى تغرب الشمس، وإن كان يعيد مع الإمام. وقيل فيمن جاء مكة وعلم أنه لا يدرك الطواف إلا بعد العصر أحب إليَّ أن يقيم بذي طوى حتى يمسي. وقال أيضاً فيمن أفاض من منى فوجد الناس قد صلوا العصر: فإن خاف فوات [186/ب] الصلاة بدأ بالطواف ويركع ويصلي العصر. وفي هذا الفرع الأخير نظر. انتهى. وقوله: (حيث كان) لا يفهم منه أنه مخير بين أن يجلس أو يخرج، بل المستحب أن يركعهما في المسجد قاله الباجي. وفي الموازية: إن حانت الصلاة وهو في منزله أرجو أن يجزئه إن صلاها في منزله. ووقع في الموازية في موضع آخر: قال مالك: وإن طاف للإفاضة بعد الصبح فأصبح إلينا ألا ينصرف حتى يركع الركعتين في المسجد بمكة. وَكَذَلِكَ لَوْ نَسِيَهُمَا أي: فيفعلهما أين كان ما لم ينتقض وضوءه.

مَا لَمْ يُنْتَقَضُ وَضُوءُهُ، فَإِنِ اِنْتُقِضَ وَبَلَغَ بَلَدَهُ وَتَبَاعَدَ مِنْ مَكَّةَ رَكَعَهُمَا وَأَهْدَى مُطْلَقاً وَطِئَ أَم لَمْ يَطَا، فَإِنْ لَمْ يَتَبَاعَدْ رَجَعَ فَطَافَ وَرَكَعَ وَسَعَى .... أفاد بهذا أن ما ذكره مشروط ببقاء وضوئه. وحاصل كلامه أنه إن أخَّر الركعتين لأجل الوقت أو نسيهما، فإن لم تنتقض طهارته فالحكم أن يركعهما حيث كان ولو في الحل وإن انتقض وضوؤه فصورتان: الأولى: أن ينضم إلى ذلك التباعد من مكة أو بلوغ البلد والحكم أنه يركعهما ويهدي مطلقاً، سواء وطئ أو لم يطأ. والصورة الثانية: ألا يحصل أحدهما، فالحكم فيها أنه إن كان الطواف واجباً أنه يبتدئ الطواف بالبيت ويركع ويسعى، ولو كان قد سعى بعد ذلك. ابن حبيب: وهو مخير في التطوع. وفهم من كلام المصنف الوجوب من قوله: (وَسَعَى) فإن التطوع ليس بعده سعي. وما ذكره المصنف هو ما في المدونة، ولفظها: ومن طاف من غير إبان الصلاة أخر الركعتين، فإن خرج إلى الحل ركعهما فيه، وتجزئانه ما لم ينتقض وضوءه فإن انتقض قبل أن يركع وكان طوافه ذلك واجباً رجع فابتدأ الطواف بالبيت وركع؛ لأن الركعتين من الطواف توصلان به، فإن تباعد فليركعهما ويهدي ولا يرجع. أبو محمد: يريد وقد سعى؛ يعني: وإن لم يسعَ رجع لأجل السعي، ثم قال فيها: ومن دخل مكة حاجاً أو معتمراً فطاف وسعى ونسي ركعتي الطواف وقضى جميع حجه أو عمرته ثم ذكر ذلك بمكة أو قريباً منها رجع فطاف وركع وسعى. انتهى. عبد الحق: وقوله: (رَجَعَ فَطَافَ وَرَكَعَ وَسَعَى) يريد وقد انتقض وضوءه فإن لم ينتقض ركع فقط، كمن نسي شوطاً واحداً. فقول المصنف: (رجع وركع وسعى) موافق لما في المدونة. ونقل ابن المواز قولاً آخر أنه يركعهما ويعيد السعي ولا يعيد الطواف.

وقد تبين لك أن قوله: (انْتُقِضَ) لابد منه. وقول ابن عبد السلام: لا حاجة له، ليس بظاهر. وأن قوله: (وَبَلغَ بَلَدَهُ وتَبَاعَدَ) معناه: أن أحدهما لا على التعيين شرط، وبه تعلم أن ما وقع في بعض النسخ (أو بلغ بلده أو تباعد) لا يصح. بل لا يصح قوله: (بلغ بلده) إلا بالعطف بالواو، وقد ذكر اللخمي عن المغيرة أنه قال: إذا لم يركعهما حتى رجع إلى بلده أنه يرجع ويركعهما. تنبيه: وقد علمت من كلامه في المدونة أن كلام المصنف مقيد بالطواف الواجب وأما إن كانت الركعتان من طواف الوداع فليركعهما ولا هدي عليه. رواه ابن حبيب عن مالك. فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِراً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ فَيَفْتَدِي أي: فإن كان هذا الذي لم يتباعد ورجع وركع وسعى معتمراً فلا شيء عليه لعدم موجب الدم عليه، إلا أن يكون أحدث ما يوجب الفدية، كما لو لبس أو تطيب لوقوع ذلك منه قبل التحلل. قال في المدونة: ولو ذكر الركعتين بعد أن بلغ بلده أو تباعد من مكة فلا تبالي من أي طواف كانتا من طواف حجة أو عمرة قبل وقوف عرفه أو بعده، فليركعهما حيث بلغ ويهدي. وَإِنْ كَانَ حَاجّاً وَقَدْ قَضَى جَمِيعَ حَجِّهِ وَالرَّكْعَتَانِ مِنْ طَوَافِ السَّعْيِ قَبْلَ عَرَفَةَ - فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَإِلا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ .... يعني: أن الحاج إذا ذكر ركعتين من طواف القدوم بعد أن فرغ من حجه فعليه الهدي جبراناً. واحترز بقوله: (وَقَدْ قَضَى جَميعَ حَجِّهِ) مما لو ذكر قبل يوم التروية، فإنه يعيد الطواف ويركع ويسعى ولا دم عليه.

اللخمي: وإذا ذكر يوم التروية أو يوم عرفة كان كالمراهق يخرج ولا يطوف، ويستحب له إذا كان يوم التروية أن يطوف قبل أن يخرج. فإن خرج قبل أن يطوف فذكر وهو بعرفة أو بعد الوقوف فإنه إذا طاف طواف الإفاضة أضاف إليه السعي. واختلف في الدم هل يسقط ويكون كالمراهق أو ايسقط لأن النسيان فيه ضرب من التفريط؟ انتهى. قوله: (وَإِلا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ) أي: فإن لم يكونا من طواف القدوم، بل كانا من طواف الإفاضة فلا شيء عليه. وإطلاقه (لا شَيْءَ عَلَيْهِ) ليس بجيد بل ذلك مقيد بما إذا لم يخرج الشهر. وأما لو خرج لواجب عليه الدم. ويختلف إذا خرجت أيام الرمي، وهذا كله إنما هو إذا كان مقيماً بمكة. وأما لو تباعد ورجع إلى بلده فقد تقدم انه يركعهما حيث كان ويهدي. وهكذا قال اللخمي، وهو قريب منه للتونسي. وَكَذَلِكَ لَوْ انْتَقَضَ بَعْدَهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلاهُمَا وَلَمْ يُعِدِ الطّوَافَ جَهِلاً أي: وكناسيهما من انتقض وضوءه بعد [187/أ] الطواف فتوضأ وفعلهما ولم يعد الطواف جهلاً. نَعَمْ لَوْ أَكْمَلَ أُسْبُوعاً ثَانِياً نَاسِياً رَكَعَ لَهُمَا لِلاخْتِلافِ فِيهِ هذا راجع إلى قوله: (ولا يجمع أسابيع ثم يصلي لها) أي: فلو خالف ما أُمر به وأكمل أسبوعاً ثانياً لركع لهما. يريد سواء كان عامداً أو ناسياً قاله الباجي واللخمي وسند وابن عبد السلام. وكذلك لو أكمل ثالثاً ورابعاً. وقوله: (لِلاخْتِلافِ فِيهِ) الخلاف خارج المذهب. واحترز بقوله: (أَكْمَلَ) مما لو شرع ولم يكمل فنه يقطع. قاله في المدونة. وقوله: (رَكَعَ لَهُمَا) الباجي: وهو المشهور، قاله ابن كنانة. وروى عيسى عن ابن القاسم: يصلي ركعتين فقط. ووجهه أنه لما كان من

سنن الحج

حكم كل أسبوع أن تتعقبه ركعتان وحال بين الأسبوع الأول وركعتيه الأسبوع الثاني بطل حكمه، فيصلي ركعتين للأسبوع الثاني. انتهى. تنبيه: وقع هنا في بعض النسخ: (إلا أن يكون وطئ) وهي راجعة إلى قوله: (والركعتان من طواف السعي قبل عرفة، وإلا فلا شيء عليه) أي: لا شيء عليه إلا أن يكون وطئ فيكون عليه الهدي. ولم يتعرض المصنف للعمرة. وهي ساقطة إن بَعُدَ أو بلغ بلده، وإن كان بمكة أو بالقرب منها فهي عليه. وكذلك في كل طواف، نقله صاحب تهذيب الطالب وغيره عن ابن المواز. ويقع في بعض النسخ قوله: (إلا أن يكون وطئ) متصلاً بالكلام الأول وهو أظهر. وَسُنَنُهُ أَرَبْعٌ: الْمَشْيُ فَلَوْ رَكِبَ قَادِراً فَثَلاثَةٌ: الإِجْزَاءُ وَنَفْيُهُ وَالْمَشْهُورُ يُعِيدُ، فَإِنْ فَاتَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ .... احترز بقوله: (قَادراً) مما لو ركب لعجز فإنه يجوز. الباجي: ولا خلاف فيه، ولا يشترط فيه عدم القدرة بالكلية بل يكفي المرض الذي يشق معه المشي. والإجزاء لعبد الوهاب في إشرافه. والقول بعدم الإجزاء لمالك في الموازية. والمشهور مذهب المدونة. وتأوَّل الباجي ما في الموازية عليه. وقوله: (وَالْمَشْهُورُ يُعِيدُ) معناه إن كان قريباً، قاله في المدونة وغيره. انظر كيف جعل هذه الأقوال مرتبة على السنية، وهو قد قدم أن المسنونات لا دم فيها. ويحتمل أن يقال: لعل من يرى وجوب الدم يرى انه واجب ويكون المصنف تكلم على ما هو أعم من فرض المسألة.

الثَّانِيَةُ اِسْتِلامُ الْحَجَرِ بِفِيهِ وَلَمْسُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِ بِيَدِهِ وَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ بِغَيْرِ تَقْبِيلٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَوْطٍ فِيهِمَا، وَيُكَبِّرُ بِخِلاَفِ الرُّكْنَيْنِ الْلَذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ الاستلام: افتعال من السَّلام بالفتح كأنه حيَّاه. وقيل: بل من السَّلام بالكسر وهي الحجارة. عياض: والأول أبين لاستعماله في الركن وغيره. والأصل فيه ما أخرجه مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "لم أرَ النبي صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين". قال في المدونة: وليزاحم على استلام الحجر ما لم يكن آذى، ولا بأس باستلامه بغير طواف. انتهى. وزاد في المختصر: وليس الاستلام بغير طواف من شأن الناس، ولكن لا بأس به. الباجي: ومن سنة استلام الركن الطهارة. انتهى. ووجهه أنه كالجزء من الطواف، والطواف لا يفعل إلا بطهارة. وقوله: (ولَمْسُ الرُّكْنِ الْيَمَانيِ بيَدِهِ، وَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ بغَيْرِ تَقْبيلٍ) هو المشهور. وفي الموازية يقبل يده. وقوله: (وَيُكَبِّرُ) ظاهر أنه يجمع بين الاستلام والتكبير. والذي في المدونة: إذا دخل المسجد فعليه أن يبتدئ باستلام الحجر بفيه إن قدر وإلا لمسه بيده، ثم يضعها على فيه من غير تقبيل، فإن لم يصل كبَّر إذا حاذاه، ثم يمضي يطوف ولا يقف، وكل ما مر به إن شاء استلم أو ترك، ولا يقبل بفيه الركن اليماني، ولكن يلمسه بيده ثم يضعها على فيه من غير تقبيل، فإن لم يستطع لزحام كبَّر ومضى. انتهى. وقوله: (فِي أَوَّلِ كُلِّ شَوْطِ) ظاهره أن الاستلام في أول كل شوط سُنَّة. ومقتضى المدونة وغيرها أن الاستلام المسنون إنما هو في أول شوط فقط؛ لقوله فيما بعده: إن شاء استلم أو ترك. وصرح صاحب الجواهر وغيره باستحبابه فيما بعد الأول. وقوله: (بخِلافِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ) أي: للحديث المتقدم. وعلل غير واحد ذلك بأنهما ليسا على قواعد إبراهيم.

القابسي: ولو أدخل الحجر في البيت حتى عاد الركنان على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسالم لقبلا. قال في المدونة: ولا يكبر إذا حاذاهما. فرع: قال ابن وضاح وغيره: ويكون تقبيل الحجر من غير صوت. والصوت إنما يكون في قبلة الاستمتاع. وقال أبو عمران: هذا ضيق. وأشار إلى أنه لا فرق في ذلك بين الصوت وغيره. وَمَنْ مَرَّ بِالرُّكْنِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْتَلِمَهُ فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ فَقَطْ، فَإِنْ زُوحِمَ لَمَسَ الْحَجَرَ بِيدِهِ أَوْ بِعُودٍ وَوَضَعَهُ عَلَى فِيهِ. وَفِي تَقْبِيلِهِ روايتان، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ كَبَّرَ وَمَضَى فِيهِمَا، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ وَضْعَ الْخَدِّيْنِ عَلَيْهِ قوله: (وَمَنْ مَرَّ بالرُكْنِ) أي اليماني. وقوله: (يُكَبِّرُ فَقَطْ) لأنه إنما لم يقبله بعود. ومنشأ الخلاف في تقبيل اليد أو العود هل يتنزل ذلك بمنزلة الحجر أولا؟ ومذهب المدونة عدم التقبيل. والتقبيل في كتاب محمد. اللخمي: وهو حسن؛ لما خرجه مسلم عن أبي الطفيل، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه ولم يطوف بالبيت راكباً ويستلم الركن [187/ب] بمحجن ويُقبِّل المحجن" وما ذكره المصنف هو المعروف. وفي الاستذكار: من لم يقدر على استلام الحجر الأسود وضع يده على فيه ثم وضعها عليه ورفعها إلى فيه. انتهى. قيل: وهو غريب. وقوله: (فَإِنْ لَمْ يُصَلْ) أي: إلى التقبيل بفيه لمسه بيده أو بعود وكبر ومضى. أي: ولا يرفع يده. وما ذكره من إنكار وضع الخدين هو مذهب المدونة، وزاد انه بدعة. وروي عن ابن عباس أنه سجد عليه وقبله ثلاث مرات، وذكره ابن حبيب عن ابن عمر، وقال: من فعله في خاصة نفسه فذلك له. وتأوَّل إنكار مالك خيفة أن يعتقد وجوبه. قال بعض الشيوخ: وقوله مخالف لقول مالك.

الثَّالِثَةُ الدُّعَاءُ وَلَيْسَ بِمَحْدُودٍ. اِبْنُ حَبيبٍ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَاناً بِكَ وَتَصْدِيقاً بِكِتَابِكَ وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلْمَ. وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ لِلْعَمَلِ، وَفِي كَرَاهَةِ التَّلْبيَةِ قَوْلانِ ..... تصوره واضح. ولا يختص بالدعاء كما هو ظاهر كلامه بل وكذلك الذكر، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر المصنف عن ابن حبيب: وتصديقاً بكتابك. والذي له في الواضحة والنوادر وتصديقاً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ابن حبيب: وإن قلت: لا إله إلا الله والله أكبر فحسن. قال: ومما يستحب فيه. أي: في الطواف أن يقول: ربنا أتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم بسطت إليك يدي، وفيما لديك عظمت رغبتي، فاقبل مسألتي، وأقل عثرتي. وتقدم أن المشهور كراهة التلبية. الرّابعَةُ الرَّمَلُ وَلا دَمَ عَلَى الأَشْهَرِ لِلرِّجَالِ لاَ لِلنِّسَاءِ فِي الثَّلاثَةِ الأُوَلِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَكَانَ يَقُولُ: إِنْ قُرُبَ أَعَادَ ثُمَّ خَفَّفَهُ .... خرج مالك وغيره عن جابر بن عبد الله أنه قال: "رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم رَمَلَ من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أشواط" قال مالك في الموطأ: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. الجوهري: والرَّمَل أن يثب في مشيه وثباً خفيفاً يهز منكبيه وليس بالثوب الشديد، ولا دم في تركه على الأشهر. قال في المدونة: وكان مالك يقول: عليه الدم، ثم رجع وقال: لا دم عليه. وكان يقول في تارك الرَّمَل: إن قرب أعاد، وإن بعد فلا شيء عليه. ثم خففه ولم يرَ أنه بعيد. انتهى. وقوله: (لِلرِّجَالِ لا لِلنِّسَاءِ) ابن عبد البر: أجمعوا على أ، هـ لا رَمَل على النساء في طوافهن، ولا هرولة في سعيهن.

فرع: قال مالك في المدونة: ومن ذكر في الشوط الرابع أنه لم يرمل في الثلاثة الأشواط مضى ولا شيء عليه. ابن يونس: وينبني على قوله: (إِنْ قَرُبَ أَعَادَ) أن يبتدئه ويلغي ما مضى، وكذلك نص عليه في الموازية، وإن رمل في الأشواط السبعة فلا شيء عليه. وَأَمَّا طَوَافُ الإِفَاضَةِ لِلْمُرَاهِقِ وَنَحْوَهِ، وَطَوَافُ الْمُحْرِمِ مِنَ التَّنْعِيمِ وَشِبْهِهِ- فَثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: مَشْرُوعٌ دونَهُ ... يعني: أن طواف الإفاضة في حق المراهق ونحوه هو الطواف الأول. وقوله: (وَنَحْوِهِ) أي: الناسي أو من يحرم بالحج من مكة مكياً كان أو آفاقياً، أو أحرم بالحج من التنعيم (وَشبْهِهِ) أي: الجعرانة، فثلاثة أقوال: الأول: أنهم يؤمرون به كما يؤمرون بذلك في طواف القدوم، وهو لمالك في المدونة وبه قال ابن كنانة، وابن نافع. والقول الثاني: قال ابن عبد السلام: لم أعلمه بعد أن بحثت عنه في المذهب، وإنما حكاه ابن المواز عن ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى. ومثله في الموطأ أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة. قال ابن المواز بعد حكايته لهذا: والرَّمَل أحب إلينا. قال الباجي: فتأوله على المخالفة. ويحتمل أن يريد أنه كان لا يرمل في طوافه الذي يتطوع به قبل الخروج إلى عرفة. والقول الثالث: هو مذهب المدونة قال فيها: ويستحب لمن اعتمر من الجعرانة أو التنعيم أن يرمل إذا طاف بالبيت، وليس وجوبه عليه كوجوبه على من حج أو اعتمر من المواقيت. وهذا معنى قوله: (مَشْرُوعً دُونَهُ) أي: دون مشروعيته في طواف القدوم. ولعل

منشأ الخلاف هل يتنزل هذا منزلة طواف القدوم لكونه أول طوافه أو لا؟ واختلف في المعتمر، فنقل الباجي عن مالك في المختصر أن المعتمر يرمل مكياً أو غيره؛ لأنه قادم. قال في البيان: الخبب في طواف القدوم في الحج والعمرة لمن أحرم من الميقات باتفاق، ولمن أحرم من التنعيم أو الجعرانة باختلاف. وظاهر كلام اللخمي أن الخلاف في العمرة مخرج من قوله: أما العمرة فيرمل في الطواف بها إذا أحرم من الميقات، ويختلف إذا أحرم من التنعيم أو غيره من المواضع القريبة. وعلى هذا فينبغي أن يحمل قول المصنف: (الْمُحْرِمِ مِنَ التَّنْعِيمِ) على المحرم بحج أو عمرة. قيل: والرمل باتفاق بالنسبة إلى الطائفين على ثلاثة أقسام: قسم يرملون باتفاق وهم المحرمون من المواقيت. وقسم لا يرملون باتفاق وهم المتطوعون بالطواف والطائفون للوداع. وقم اختلف في رملهم وهم المراهقون والمحرمون من الجعرانة أو التنعيم والصبي والمريض والمحرم من مكة. انتهى. وَفِي الرَّمَلِ بِالْمَرِيضِ وَالصَّبِيِّ قَوْلانِ يريد إذا طيف بهما محمولين. ومذهب المدونة أنه يرمل بالصبي ويخب به في السعي، وقاله أصبغ. وروي عن ابن القاسم: لا يرمل به. والمنقول في الموازية في المريض أنه يرمل به. اللخمي: وعلى قول ابن القاسم في الصبي لا يرمل به وهو أحسن، وعلى هذا فالقول بعدم الرمل بالمريض إنما هو تخريج. ونسب ابن راشد لابن القاسم عدم الرمل بالمريض. خليل: ولو قيل يرمل الصبي دون المريض لأنه يتأذى بذلك غالباً لما بعد، وحكم من طاف عن غيره كحكمه، فإن كان عن رجل رمل، وإن كان عن امرأة فلا، قاله ابن عبد السلام.

وَمَتَى زُوحِمَ تُرِكَ أي: عن الرمل، قال في المدونة: وإذا زوحم عن الرمل ولم يجد مسلكاً رمل بقدر طاقته. ابن بشير: قال الأشياخ: وهذا إذا أمكنه المشي. وأما إذا كان واقفاً فلا يرمل؛ لأن الرمل حينئذ تحريك الأعضاء وليس هو المشروع. وَالطَّائِفُ بِصَبِيٍّ عَنْهُمَا ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ لا يُجَزِئُ عَنْهُمَا، وَيُجَزِّئُ السَّعِيُ عَنْهُمَا اتِّفَاقاً وَلَوْ حَمَلَ صَبِّيَيْنِ فِيهِمَا أَجْزَأَ .... أي: إذا طاف شخص بصبي ونوى بطوافه أن يكون عنه وعن الصبي. وهذا معنى قوله: (عَنْهُمَا) قال المصنف: فالمشهور أنه لا يجزئ عنه ولا عن الصبي. اللخمي وغيره: وهو قول مالك عند ابن شعبان. وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال أخر: الأول: قول عبد الملك أنه يجزئ عن الرجل ولا يجزئ عن الصبي. والثاني: لابن القاسم أنه يجزئ عن الصبي ولا يجزئ عن حامله، وقاله أصبغ، إلا أنه قال: إن أعاد عن الصبي فهو أحب إلي. والثالث: لابن القاسم أيضاً أنه يجزئ عنهما واستحب أن يعيد الحامل عن نفسه. فيحتمل أن يكون مراد المصنف بالقولين الآخرين اللذين لم يبينهما القولين اللذين ذكرهما أولاً، ويجوز أن يكون أراد أحدهما مع الرابع وفيه بعد؛ لأنه حينئذ لا يعلم مراده بالقول الثاني. تنبيه: لم أرَ من شهر القول بعدم الإجزاء كما ذكر المصنف. والذي نسبه ابن راشد للمدونة أنه يجزئ عن الصبي وحده، قال: وهو جارِ على قول مالك فيمن حج عن فريضته ونذره أنه يعيد الفريضة. خليل: وفيه نظر. ولا يؤخذ من المدونة حكم المسألة بعد الوقوع، وإنما يؤخذ منها المنع من ذلك ابتداءً ولا يطوف به. أي: بالصغير إلا من قد طاف عن نفسه

لئلا يُدخل في طواف واحد طوافين، والطواف بالبيت كالصلاة. انتهى. وإنما أجزأ السعي عن الصبي والحامل بالاتفاق لخفة أمر السعي؛ إذ لا تشترط فيه الطهارة، ولأن الطواف بمنزلة الصلاة فلا يصح الاشتراك فيه. وقال التونسي: ما كان ينبغي أن يكون بين الطواف والسعي فرق ظاهر؛ لأنهما واجبان. انتهى. وقوله: (وَلَوْ حَمَلَ صَبِّيَيْنِ) فطاف بهما وسعى بهما أجزأ عن الصبيين في الطواف والسعي. فَلَمْ يَكْرَهْ مَالِكٌ الطَّوَافَ بِالنَّعْلَيْنِ وَالْخُفَّيْنِ بِخِلافِ دُخُولِ الْبَيْتِ وَرقي مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحِجَرِ كَالطَّوَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ ..... أي: أن مالكاً رأى للبيت ومنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة حرمة على المسجد الحرام فأجاز الطواف بالخفين والنعلين، وكره أن يدخل البيت أو يرقى المنبر بهما. وأجاز في المدونة دخول الحِجْرِ بهما كالطواف. وكره ذلك أِهب قال: وكراهتي لذلك في البيت أشد. حمديس: وهو الجاري على أصل مالك في كونه يراه من البيت. وكره مالك أن يجعل نعليه ي البيت إذا جلس يدعو، قال: وليجعلهما في حجره. قيل لمالك: الصعود بالنعلين إلى الكعبة؟ قال: إن بعض الحجية ممن قدم علينا يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطلع على الكعبة بالنعلين. ونقل التونسي عن مالك أنه كره الصعود بهما. فرع: قال سند: استحب دخول البيت لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك. انتهى. مطرف: ويستحب إذا فرغ أن يقف بالملتزم للدعاء. مالك: وذلك واسع. والملتزم ما بين الركن والباب، ويقال له: المتعوذ أيضاً، ولا بأس أن يعتنق ويلح بالدعاء عنده ويتعوذ به، ولا يتعلق بأستار الكعبة، ولا يولي ظهره للبيت إذا عاد ويستقبله.

خليل: وليحذر مما يفعله بعض الجهلة من جبذ الحِلَقِ التي في الشاذوران. وربما يقول بعضهم: هي العروة الوثقى، وعماي فعله بعضهم من جبذ الحلق التي بباب الكعبة وضربها على الباب، والله أعلم. فإِذَا فَرِغَ مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَرَاحَ إِلَى السَّعْيِِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَخَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهَا حَتَّى يَبْدُوَ له الْبَيْتُ إِنْ قَدَرَ، وَالْمَرْأَةُ إِِنْ خَلا، فَيَدْعُوَ، وَفِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ رَاغِباً أَوْ رَاهِباً قَوْلانِ، وَتَرْكَ الرَّفْعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْهِ غَيْرَ اِبْتِداءِ الصَّلاةِ ثُمَّ يَمْشِي إِلَى الْمَرْوَةِ وَيَرْقَى عَلَيْهَا وَيَدْعُو اللهَ تعالى ... قال مالك: لا يخرج إلى الصفا والمروة حتى يستلم الحَجَرْ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه. قال في المدونة: ولم يَجُدَّ مالك من أي باب يخرج. سند: والناس يستحبون الخروج من باب الصفا لكونه أقرب. وعلى هذا فقوله: (وَخَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا) من باب الإرشاد لما هو أقرب لا لأنه مستحب. قوله: (فَرَقَى عَلَيْهَا) قال في المدونة: ويستحب أن يصعد منه ومن المروة أعلاها. ولا يعجبني أن يدعو قاعداً عليهما إلا مِنْ علة، ويقف النساء إلا من بها ضعف أو علة، ويقفن أسفلهما وليس عليهن أن [188/ب] يصعدن إلا أن يخلو الموضع فيصعدن، فذلك أفضل لهن. ولم يحدَّ مالك في الدعاء، وإن رفع يديه عليهما وفي وقوف عرفة فرفعاً خفيفاً. وترك الرفع في كل شيء أحب إلى مالك إلا في ابتداء الصلاة. انتهى. والقول بالرفع لابن حبيب، وعدمه لابن القاسم. ابن حبيب: ويرفعهما وبطونهما إلى الأرض وهو صفة الرهب. وقال الباجي: إن دعاء التضرع والطلب إنما هو برفع اليدين وبطونهما إلى السماء وهو صفة الراغب. فقول المصنف: (وَفِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ ... إلخ) يقتضي أنه يرفع واختلف في صفة الرفع.

وقوله: (وترك الرفع ... إلخ) يقتضي عدم الرفع. فيؤخذ منه الفرعان والله أعلم. وثبت أن صلى الله عليه وسلم رقى على الصفا حتى رأى البيت فاستقبل الكعبة، فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم دعا مثل ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا. رواه مسلم وغيره. وَيُسْرِعُ الرِّجَالُ لا النِّسَاءُ فَوْقَ الرَّمَلِ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ كَذَلِكَ إِلَى الصَّفَا سَبْعاً يُكْمِلُ بَِرابِعَةِ الْمَرْوَةَ ..... تصوره ظاهر. وما ذكره من أن الخبب في السعي فوق الرمل نص عليه غيره. وقال في المدونة: ومن رمل في جميع سعيه بين الصفا والمروة أجزأه، وقد أساء، وإن لم يرمل في بطن المسيل فلا شيء عليه. وَلَوْ ابتَدَأَ بِالْمَرْوَةِ أَلْغَاَهُ لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعله إذا كان بياناً للواجب محمول على الوجوب اتفاقاً. * * * انتهى المجلد الثاني من كتاب التوضيح للشيخ خليل بن إسحاق الجندي ويليه المجلد الثالث وأوله وَهَيْئَتُهُ مِنْ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ، وَالتَّرَقِّي، وَالدُّعَاءُ وَالإِسْرَاعُ

وَهَيْئَتُهُ مِنْ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ، وَالتَّرَقِّي، وَالدُّعَاءِ وَالإِسْرَاعِ سُنَنٌ هذا أيضًا ظاهر. وفي المبسوط لمالك وجوب الدم على من ترك الخبب في السعي ثم رجع عنه. وَوُقُوعُهُ بَعْدَ طَوَافٍ شَرْطٌ، وَقِيلَ: بَعْدَ طَوَافٍ وَاجِبٍ، وَفِيهَا: يَنْوِي فَرْضِيَّتَهُ وَإِلا أَعَادَ فَإِنْ رَجَعَ وَتَبَاعَدَ وَجَامَعَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ، فَإِنْ تَبَاعَدَ فَكَتَبَاعُدِ الرَّكْعَتَيْنِ يعني: أن مِنْ شَرطِ السعي أن يتقدمه طواف. واختلف هل من شرطه أن يكون واجبًا أو يكفي أيّ طواف كان؟ وصَدَّرَ المصنف بأنه يكفي أي طواف كان؛ لقوله في المدونة: فإذا طاف حاج أول دخوله لا ينوي به تطوعًا ولا فريضة لم يجزئه سعيه إلا بعد طواف ينوي به طواف الإفاضة، فإن لم يتباعد رجع فطاف وسعى، فإن فرغ من حجه ثم رجع إلى بلده وتباعد وجامع النساء أجزأه ذلك وعليه دم. والدم في هذا خفيف. انتهى. فتخفيفه للدم يقتضي أن ذلك ليس بشرط. وقال ابن عبد السلام: وإلى الاشتراط يرجع مذهب المدونة، وهو المنصوص في المذهب. انتهى. وفيه نظر؛ لأنه لو كان مذهب المدونة الاشتراط للزمه الرجوع؛ إذ الشرط يلزم من عدمه العدم. على أن سندًا اعترض على البراذعي في قوله: ولم ينو فرضًا ولا تطوعًا لم يجزئه. وقال: إنما قال في الكتاب: ولم ينوِ حجًا ثم سعى فلا أحب له سعيه إلا بعد طواف ينوي به الفرض، فإن رجع إلى بلده أو جامع رأيته حجًا مجزئًا عنه، وعليه الدم. وعارض التونسي بين هذه المسألة - في كونه جعل عليه الدم - وبين ما إذا طاف للإفاضة على غير وضوء ثم طاف بعده تطوعًا فإنه قال فيها في المدونة: يجزئه طواف التطوع. ولم يقل عليه دم. وليس بينهما فرق في التحقيق؛ أي: لأنه في كلا المسألتين قد وقع تطوع عن واجب؛ لهذا خرج بعضهم قولاً بعدم الإجزاء من قول ابن عبد الحكم فيمن طاف للوداع ثم ذكر

أنه لم يطف للإفاضة، ويمكن أن يجاب عنه بأنه إنما قيل بالإجزاء هناك؛ لأنه لما أتى بالتطوع بعد الواجب كانت نيته أن يكون على أكمل الحالات، فلذلك أجزأه بغير دم بخلاف هذه المسألة والله أعلم. وقوله: (فَإِنْ رَجَعَ وَتَبَاعَدَ) أي: ولم يصل إلى بلده، وإذا وجب بمجرد التباعد فأحرى إذا وصل بلده. وقوله: (وَجَامَعَ) ليس هو على معنى الشرط، ويبين لك ذلك. كلام سند المتقدم. وقوله: (فَإِنْ تَبَاعَدَ فَكَتَبَاعُدِ الرَّكْعَتَيْنِ) يريد فعليه هدي، وهو مما يبين أن قوله: (وجامع) ليس شرطًا. وَإِنْ فَرَّقَهُ تَفْرِيقًا مُتَفَاحِشًا فَفِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ لَهُ قَوْلانِ وَقَالَ مُحَمَد: إِنْ تَبَاعَدَ أَهْدَى .... أي: فرق بين أجزاء السعي، وعليه اقتصر ابن راشد وابن هارون وابن عبد السلام ويحتمل أن يريد: فرَّق بين السعي وركعتي الطواف، والأول أقرب. انتهى. وفي قوله: (مُتَفَاحِشًا) دليل على أنه لو كان غير فاحش لم يؤثر وكذلك قال في المدونة. ولفظها: وإن جلس بين ظهراني سعيه شيئًا خفيفًا فلا شيء عليه. وإن طال فصار كتارك ما كان فيه فليبتدئ ولا يبني. وإن صلى على جنازة قبل أن يفرغ من السعي أو باع أو اشترى أو جلس مع أحد، أو وقف معه يحدثه لم ينبغِ له ذلك، فإن فعل منه شيئًا بنى فيما خف ولم يتطاول وأجزأه. انتهى. وقوله: فصار كتارك ما كان فيه فليبتدئ. أبو محمد: يريد الطواف والسعي. ابن يونس وغيره: وظاهر قول ابن حبيب أنه يبتدئ السعي [189/ أ] فقط. وإلى تأويل أبي محمد وقول ابن حبيب أشار المصنف بقوله: (فَفِي ابْتِدَاء الطَّوَافِ لَهُ قَوْلانِ) وقال أشهب: إن طال جلوسه فلم يستأنف وأتم سعيه فلا شيء عليه. فهذا ما يتعلق بتفريق

أجزاء السعي. وأما تفريق الطواف من السعي فذكر سند أن اتصاله بالطواف سنة، وقال مالك: وإن طاف ليلاً وأخره حتى أصبح أجزأه إن كان بوضوئه، وإن انتقض أعاد الطواف والسعي والحلاق، وإن خرج من مكة أهدى وأجزأه. الباجي: فإن لم يعد حتى رجع فالظاهر من المذهب أن عليه الدم. وفي الموازية فمن طاف ولم يخرج للصفا حتى طاف سبعًا أو سبعين أحب إلى أن يعيد الطواف ثم يسعى، فإن لم يعد الطواف رجوت أن يكون في سعة. وقول ابن عبد السلام: إن قول محمد الذي حكاه عن المؤلف إنما يتبين إذا قلنا إنه يعيد الطواف -ليس بظاهر، بل الظاهر أنه مفرع على الإعادة، وانظر هل قول محمد منصوص في مسألة تفريق أجزاء الطواف، أو في تفرقته من السعي؟ فإني لم أتحققه الآن. فرع: فإن أقيمت عليه الصلاة وهو في السعي فلا يقطع، بخلاف الطائف؛ لأن الطائف لما كان في المسجد فلو لم يقطع خالف الإمام. قاله مالك في العتبية والموازية. وَنُِهيَ عَنِ الرُّكُوبِ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَشَدَّ النَّهْيِ أي: نهى مالك، وهو محمول على القادر. قال مالك في الموازية: وإن سعى راكبًا من غير عذر أعاد سعيه إن كان قريبًا، وإن تباعد ذلك أو طال أجزأه وأهدى. نقله ابن يونس، ونقله الباجي عن ابن القاسم. ونقل ابن راشد عن محمد أنه قال: إن لم يعد أجزأه ولا دم عليه. فَإِنْ تَرَكَهُ مُحْرِمٌ بِحَجٍّ مِنَ الْحِلِّ غَيْرَ مُرَاهِقٍ وَلا حَائِضٍ وَلا نَاسٍ إِلى طَوَافِ الإِفَاضَةِ، فَالدَّمُ عَلَى الأَشْهَرِ .... الضمير في (تَرَكَهُ) يعود على السعي. وذكر لوجوب الدم على الأشهر خمسة قيود:

فاحترز بالحج من العمرة، إذ لا إفاضة فيها. فإن قيل: إذا لم يكن فيها إفاضة فلا حاجة إلى الاحتراز عنها؛ لأن قوله: (إِلى طَوَافِ الإِفَاضَةِ) يخرجها. قيل: احترز بذلك مما لو أردف عليه الحج قبل السعي. وبقوله: (مِنْ الْحِلِّ) مما لو أحرم بالحج من الحرم، فإنه لا قدوم عليه. وبـ (غير المراهق) من المراهق فإنه معذور في سقوط الطواف عنه. وبقوله: (وَلا حَائِضٍ) ممن طرأ عليها الحيض قبل تمام الطواف. وقوله: (ولا ناسٍ) يريد وفي حكمها المغمي عليه، وهو على قول ابن القاسم الذي يعذر الناسي، والأشهر مذهب المدونة، ومقابله لأشهب في الموازية. فَإِنْ تَرَكَهُ إِلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ فَفِي الإِجْزَاءِ وَيَجِبُ الدَّمُ قَوْلانِ يعني: فإن تركه من حَصُلَت فيه القيود المذكورة إلى طواف الوداع، وظاهر كلامه أن القولين منصوصان، والذي ذكره اللخمي وتبعه غير واحد أنهما مخرجان من القولين في إجزاء طواف التطوع عن الإفاضة. ولفظ اللخمي: يجزئه عند مالك؛ لأنه يرى أن طواف التطوع في الحج يجزئ عن الواجب، ولا يجزئ عند محمد بن عبد الحكم. وقول المصنف: (فَيَجِبُ الدَّمُ) أي: على القول بالإجزاء. وأما على القول بعدمه فيلزمه الرجوع. ابن عبد السلام: وعلى الإجزاء فيحتمل أن يحب الدم بالاتفاق، ويحتمل أن يدخله الخلاف فيمن تركه إلى طواف الإفاضة. فَإِنْ تَرَكَهُ أَوْ شَوْطاً مِنْهُ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍٍ صَحِيحَيْنِ أَوْ فَاسِدَيْنِ رَجَعَ إِلَيْهِ مِن بَلَدِهِ أي على المشهور كما تقدم. وروى ابن القاسم أنه خففه في ترك الشوط والشوطين ثم رجع فقال: وكذلك الشك. وحكى عبد الحق أن القاضي إسماعيل قال: حُكي عن مالك فيما إذا تركه وتباعد وتطاول الأمر وأصاب النساء أنه يهدي فقط. وحكى ابن عبد البر أنه قال: كان مالك يشدد في السعي بين الصفا والمروة ولم يبلغ فيه الفرض. وقد بلغني أنه ربما لين في ذلك. وقد حكى في الإكمال عن بعض أصحابنا أنه تطوع.

سند: ويجزئ السعي بدون الصعود، ولا يجب إلصاق العقبين بالصفا على المذهب. ابن المعلى: وبعض الدرج محدث فليحذر أن يخلفها وراءه فلا يتم سعيه، وليصعد ليستيقن، وهو سنة. وقال بعض أصحابنا: يجب أن يرقى بقدر قامته. وَالمُسْتَحَبُّ فِيهِ شُرُوطُ الصَّلاةِ أي: طهارة الحدث والخبث وستر العورة، وأما استقبال القبلة فغير ممكن. واستحب مالك لمن انتقص وضوؤه أن يتوضأ ويبني، فإن لم يتوضأ فلا شيء عليه، وكذلك إن أصابه حقن فإنه يتوضأ ويبني. وَفِي الْحَجِّ ثَلاثُ خُطَبٍ؛ فِي السَّابِعِ بَعْدَ صَلاةِ الظُّهْرِ وَاحِدَةٌ لا يَجْلِسُ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَاحِدَةٌ يَجْلِسُ فِي وَسَطِهَا لا خلاف عندنا أنها ثلاث، الأولى: بالمسجد الحرام يوم السابع بعد صلاة الظهر على المشهور. وقال ابن الموز: بعد الزوال. والمشهور أنها واحدة، وذلك مستلزم لعدم الجلوس في أثنائها. وقال ابن حبيب عن مطرف: إن خطب الحج كلها ثنتان يجلس بينهما، فمن رآها واحدة نفى الجلوس، ومن رآها اثنتين أثبته، لا كما هو ظاهر كلام المؤلف أنها واحدة، والخلاف إنما هو في الجلوس. والثانية: يوم عرفة بعد الزوال. التونسي: وقيل: [189/ ب] خطب قبل الزوال أو صلى بعده أجزأه. وفي النوادر عن ابن حبيب: يخطب بعد الزوال أو قبله بيسير بقدر ما يفرغ من الخطبة وقد زالت. ابن أبي زيد: وفيه نظر؛ لأن ابن حبيب قال: إذا زالت الشمس فراح إلى مسجد عرفة، وقال هنا: يخطب مقدار أن تزول الشمس بعد الخطبة، وقال: يؤذن إذا جلس الإمام في الخطبة، والأذان لا يجب إلا بعد الزوال فيجزئه.

الباجي: وموضع الخلاف بين أشهب وابن حبيب أن ابن حبيب يرى أن يؤتى بها قبل الزوال، وأشهب يمنع من ذلك وريى أن يعيدها إلا أن تفوت بفوات الصلاة. قال: وإنما جاز ذلك لأنها ليست للصلاة بل لتعليم الحاج. واتفقوا على الجلوس في خطبة عرفة. ابن حبيب: ويفتتح الخطب الثلاث بالتكبير كالأعياد، ويكبر في خلال كل خطبة. ابن الحاج: ويلبي في أثناء الخطبة الأولى. وحسن أن يفتتحها بالتلبية ولا يلبي في الخطبتين الآخرتين. البلنسي: والخطب ثلاثة أقسام: قسم ينصت فيه وهو خطبة الجمعة. وقسم لا ينصت فيه وهو خطب الحج كلها. وقسم اختلف فيه، وهو خطب العيدين والاستسقاء. واستحب مالك الإنصات فيهما. فرع: وهل يجلس في أول هذه الخطب؟ حكى الباجي: في الجلوس في أول كل خطبة ما عدا الجمعة قولان. وَيُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَهُوَ فِيهَا، وَقِيلَ: بَعْدَ فَرَاغِهَا، وَقِيلَ: سَوَاءٌ، وَقِيلَ: فِي جُلُوسِهِ، فَقِيلَ له: قَبْلَ أَنْ يَاتِيَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ؟ فَقَالَ: مَا أَظُنُّهُمْ يَفْعَلُونَ هَذَا ... الأول حكاه في الإكمال عن مالك. فقال: قال مالك: وأذانه في آخر الخطبة حتى يكون فراغ الإمام من الخطبة مع فراغ المؤذن من الأذان، والقول بأنه بعد الخطبتين لمالك في الصلاة. الثاني من المدونة. وقوله: (قِيلَ: سَوَاءٌ) أي: إن شاء أذن في الخطبة أو بعد فراغها وهو قوله في الحج الثاني من المدونة. ابن محرز: قال شيخنا أبو الحسن: معناه: إن شاء أذن في الخطبة الثانية؛ لأنه قد فرغ من تعليمهم في الأولى. وقال صاحب تهذيب الطالب: ما ذكره في الصلاة يريد أنه هو

المستحب، وتخييره في الحج يريد أن ذلك واسع، وليس ذلك باختلاف قول. وعلى هذا ففي تقديم المصنف القول الأول نظر. وقوله: (وَقِيلَ: فِي جُلُوسِهِ) أي: بين الخطبتين، وهو قوله في الواضحة، وحكى في الإكمال خامسًا عن مالك أن الأذان قبل الخطبة والإمام على المنبر كالجمعة. وقولهم: (مَا أَظُنُّهُمْ يَفْعَلُونَ هَذَا) نحوه في المدونة. ابن راشد: يريد الصحابة. خليل: ويحتمل أن يريد أمراء وقته. ابن عبد السلام: اختلف قول مالك في محل الأذان. فقال: والإمام يخطب. وقال أيضًا: إذا مضى صدرًا من الخطبة. والأول هو مرادف المؤلف بقوله فيها. ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا وَقَصْرًا، وَجَمْعُ الإِمَامِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ بأَذَانٍٍ وَإِقَامَةٍ لِكُلِّ صَلاةٍ وَفِي الأَذَانِ لِلْعَصْرِ قَوْلانِ .... قوله: (جَمْعًا وَقَصْرًا) أي: بعرفة. والقصر سنة، وإلا فليس بمسافة القصرة في حق المكي وأهل مزدلفة ونحوهم، وقد تقدمت مسألة الأذان للجمع في باب الأذان بأتم ما ذكره هنا. وَيُتِمُّ أَهْلُ عَرَفَةَ لأنهم حاضرون، وضابطه أن أهل كل مكان يتمون به، ويقصرون فيما سواها، فيتم أهل عرفة بعرفة ويقصرون بمنى ومزدلفة. ويتم أهل مزدلفة بها ويقصرون في عرفة ومنى، ويتم أهل منى بها ويقصرون في عرفة ومزدلفة.

وَخُطْبَةٌ الْحَادِيَ عَشَرَ بِمِنىَ بَعْدَ صَلاةِ الظُّهْرِ كَالأُولَى، وَيُتِمُّ أَهْلُ مِنَى، وَيَذْكُرُ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ مَا يَفْعَلُ إِلَى الأُخْرَى .... قوله: (كَالأُولَى) أي: فلا يجلس على المشهور. (وَيَذْكُرُ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ مَا يَفْعَلُ إِلَى الأُخْرَى) فيذكر في الأولى خروجهم إلى منى وأنهم يصلون بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم يغدون إذا بزغت الشمس إلى عرفة، ويحرضهم على النزول بنمرة فإنهم يتركون ذلك في زماننا غالبًا، ويعلمهم في الثانية وقوفهم ودفعهم ونزولهم بمزدلفة ومبيتهم بها ودفعهم منها بعد أن يصلوا الصبح بها إلى المشعر الحرام، ورمي جمرة العقبة والحلق والنحر والإفاضة. ويعلمهم في الثالثة حكم مبيتهم بمنى وكيفية الرمي وما يلزمهم فيه وما يجوز لهم من التأخير والتعجيل وهذا ظاهر. لكن في دخول الثالثة في كلامه نظر؛ لأن قوله: (إِلَى الأُخْرَى)، يقتضي أن بعدها غيرها. والله أعلم. وَالصَّلَوَاتُ سِرِّيَّةٌ وَلَوْ وَافَقَتْ جُمُعَةً، وَيُصَلِّيهِما الْمُنْفَرِدُ أَيْضًا جَمْعًا وَقَصْرًا أي: في يوم عرفة، وأيام منى، وأما من أدركه وقت الجمعمة بمكة يوم التروية –من مكي أو غيره ممن أقام بها أربعة أيام– فعليهم أن يصلوا الجمعة قبل أن يخرجوا، قاله مالك في الموازية. ابن القاسم: ومعناه: أنه ممن يلزمه إتمام الصلاة. أصبغ: وأما المسافر فمخير، وأ؛ ب إلي أن يصلي الجمعة لفضيلة المسجد الحرام. وقال محمد: أحب إلى خروجه إلى منى. وإنما تكلم مالك على من يقفل حتى يأخذه الوقت. وقيل: إن الرشيد جمع مالكًا وأبا يوسف، فسأل أبو يوسف مالكًا عن إقامة الجمعة بعرفة فقال مالك: لا يجوز؛ لأنه عليه الصلاة [190/ أ] والسلام وافق الجمعة بعرفة في حجة الوداع ولم يصلها. فقال أبو يوسف: قد صلاها؛ لأنه خطب خطبتين وصلى بعدهما ركعتين: فقال مالك: أجهر فيهما بالقراءة كما يجهر في الجمعة؟ فسكت أبو يوسف وسلم.

قوله: (وَيُصَلِّيهِما الْمُنْفَرِدُ) أي: الظهر والعصر يوم عرفة جمعًا وقصرًا أيضًا. وهل له الجمع في رحله إذا قدر على الجمع مع الإمام؟ أجازه مالك. وكان ابن القاسم ربما صلى في رحله، وربما صلى مع الإمام. وقال ابن حبيب: لا يترك الجمع مع الإمام ألبتة؛ للسنة. وَيَخْرُجُ إَلَى مِنَى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ الثَّامِنُ بِمِقْدَارِ مَا يُدْرِكُ بهَا الظُّهْرَ فيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ لِوَقْتِهَا قَصْرًا ويَبَيِتُ بِهَا ولا دَمَ فِي تَرْكِهِ سُمي الثامن يوم التروية؛ لأنهم كانوا يعدون الماء له بالروايا. وقيل: لأن قريشًا كانت تحمل الماء للحاج ويسقونهم. قوله: (لِوَقْتِهَا) أي: ولا يجمع. ويسقط الدم في تركه؛ لأن المقصود به تقريب المسافة فقط لا فعل نسك. ابن حبيب: وإذا مالت الشمس يوم التروية فطف بالبيت سبعًا ثم اخرج إلى منى وأنت تلبي، وإن خرجت قبل ذلك فلا حرج، وإذا خرجت من منى فلا تجاوز محسرًا حتى تطلع الشمس على ثبير. مالك: ويخرجون بقدر ما إذا بلغوا منى صلوا الظهر، وهي السنة ولا أحب التراخي عن ذلك إلا لعذر. وَكُرِهُ التَّقَدُّمُ إِلَى مِنَى قَبْلَ ذَلِكَ أَوِ التَّقَدُّمُ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ يَوْمِهَا، وَكَذَلِكَ تُقَدِّمُ الأَبْنِيَةُ خِلافَاً لأَشْهَبَ .... لمخالفة السنة، والإشارة بـ (ذَلِكَ) عائدة إلى قوله: (وَيَخْرُجُ إِلَى مِنَى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) ولا تعود إلى قوله: (بِمِقْدَارِ مَا يُدْرِكُ بهَا الظُّهْرَ) لأنه نص في المدونة على ذلك، قال فيها: وكره مالك التقدم إلى منى قبل يوم التروية، وإلى عرفة قبل يوم عرفة، وأن يقدم الناس أبنيتهم. انتهى.

وأجاز أشهب في المجموعة تقدم الأبنية. وأجاز ابن المواز للضعيف ومن به علة أو بدابته أن يغدو إلى عرفة قبل طلوع الشمس. وَيَغْدُو مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى عَرَفَةَ، ثُمَّ يَقِفُ بِهَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلاةِ أي: فإذا جاء إلى عرفة نزل بنمرة. ابن حبيب: وإذا زالت الشمس راح منها إلى مسجد عرفة. ابن المواز: قال ابن شهاب: ويعجل بالصلاة يوم عرفة. وكذلك قال الباجي وغيره: إنه يستحب أن يصلي الظهر والعصر بإثر الزوال. قاله أشهب وسحنون وابن حبيب. فإذا تمت الصلاة فخذ في التهليل والتكبير والتحميد. وَوُقُوفُهُ طَاهِرًا مُتَوَضِّئًا أَفْضَلُ، وَيَدْعُو إِلَى الْغُرُوبِ، وَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْقِيَامُ، وَلا يَجْلِسُ إِلا لِكَلالٍ .... أي: طاهر من الجنابة. ولا يريد بقوله يدعو خصوصية، بل يهلل ويكبر كما ذكرنا عن أشهب وسحنون وابن حبيب. ابن شعبان: ويكثر من ذكر لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ابن حبيب: وإذا سألت فابسط يديك وإن رهبت واستغفرت وتضرعت فحولهما، ولا تزال كذلك مستقبل القبلة بالخشوع والتواضع والتذلل وكثرة الذكر بالتهليل والتكبير والتحميد والتسبيح والتعظيم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء لنفسك ولأبويك والاستغفار إلى غروب الشمس. (وَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ) لفعله عليه الصلاة والسلام؛ ولأنه يستعين به على مواصلة الدعاء. قالوا مالم يشق الوقوف على الدابة، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ ظهور

الدواب كراسي. والكِلاَلُ: التعب. قال في الموطأ: يقف راكبًا إلا أن يكون به أو بدابته علة، فالله أعذر بالعذر. وَالْوَاجِبُ مِنَ الْوُقُوفِ الرُّكَنِيِّ أَدْنَى حُضُورٍ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ وَجُزْءٍ مِنْ عَرَفَةَ حَيْثُ شَاءَ، سِوىَ بَطْنِ عُرَنَةَ .... المراد بالوقوف الطمأنينه بعرفة ولو جالسًا. وقوله: (الرُّكَنِيِّ) إشارة إلى أن الوقوف نهارًا ليس بركن. ويجبر بالدم على المشهور خلافًا لسحنون. ولذلك أوجب مالك في الموازية الدم على من دفع قبل الغروب، إلا أنه لم يخرج منها إلا بعده، وأسقطه عمن دفع بعده، وقبل الإمام قال: مع الإمام أحب إلى ما لم يتأخر. قال: وإن دفع قبل الغروب، فإن رجع ووقف قبل الفجر أجزأه، ولا هدي عليه. وقال أصبغ: أحب إلينا أن يهدي. تنبيه: استقرأ اللخمي من قول يحيى بن عمر في أهل الموسم: ينزل بهم ما نزل بالناس سنة العلوي، وهروبهم عن عرفة قبل أن يتموا الوقوف أنه يجزئهم ولا دم عليهم، عدم ركنية الوقوف ليلاً. وقد يقال: لا يلزم هذا للضرورة الحاصلة هنا. لكن استدل له بما رواه الترمذي صححه وغيره عن عروة ابن مضرس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إنى جئت من جبل طيئ أَكْلَلْتُ راحلتي وأتعبت نفس، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد أتم حجه وقضى تفثه". ابن عبد البر: أجمعوا أن قوله: "نهارًا" لم يرد به ما قبل الزوال. قال القاضي إسماعيل: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "نهارًا" أن الوقوف بالنهار لا يضر، ولم يرد الاقتصار على

النهار. وقال أبو الفرج: فيه حذف معطوف، أي: ليلاً أو نهارًا وليلاً، وسكت عن أن يقول: وليلاً؛ لعلمه مما تقدم من فعله [190/ ب] فكأنه أراد بالنهار اتصال الليل به. قال: ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو. ورد بأنه كان يلزم منه وجوب الجمع بينهما ولم يقل به أحد. قوله: (وَجُزْءٍ مِنْ عَرَفَةَ) قال في الجلاب: وليس لموضع من عرفة فضيلة على غيره. وقال ابن حبيب: ويستند إلى الهضاب من سفح الجبل، وحيث يقف الإمام أفضل، وكذلك قال أشهب: أحب موقف عرفة إلى ما قرب من عرفة، ومن المزدلفة ما قرب من الإمام. قال في الجلاب: ويكره الوقوف على جبل عرفة. قوله: (سِوىَ بَطْنِ عُرَنَةَ). ابن حبيب: عرنة ليست من عرفة إنما هي من الحرم، وعرفة خارجه. وعلى هذا فقوله: (سِوىَ بَطْنِ عُرَنَةَ) استثناء منقطع. وحكى سند الاتفاق على أن وادي عرنة ليست من عرفة. ولا يجزئ الوقوف به. وحكى ابن المنذر عن مالك أنه قال: من وقف به حجه تام وعليه دم. ونحوه في الجلاب؛ لأنه قال: يكره الوقوف به، ومن وقف به أجزأه وقوفه. قال: وبطن عرفة: هو المسجد الذي يصلي فيه الإمام. عياض وغيره: وعرنة بضم العين والراء، وذكره ابن دريد بفتح الراء وهو الصواب. وذكر ابن عبد السلام فيها ضم العين وتسكين الراء. وَوَقَفَ مَالِكٌ أَنْ لَوْ وَقَفَ بالْمَسْجِدِ، وَفِيهِ لأَصْحَابِه قَوْلانِ، وَكَرِهَ بُنْيَانَهُ، وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ بَنِي هَاشِمٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَائِط الْقِبْلِيَّ عَلَى حَدِّ عُرَنة .... أي: في مسجد عرفة للشك هل هو من عرفة أو من الحرم؟ وكذلك توقف ابن عبد الحكم. وفيه لأصحابه قولان في الإجزاء وعدمه، والإجزاء لمحمد وعدمه لأصبغ. ورآه من بطن عرنة. والإجزاء لابن مزين. وكره في المدونة بنيانه. قال في الموازية: لأنه

يضيق على الناس. والمراد بقوله: (بَعْدَ بَنِي هَاشِمٍ) بعد مصير الدولية لهم ولم يرد بعد انقراضهم وقاله ابن عبد البر. وما حكاه من أن الحائط هذا المسجد القبلي على حد عرنة مثله. حكاه ابن المواز، وزاد: ولو سقط لسقط في عرنة. اللخمي: وعليه فيجزئ الوقوف به، ووقع هنا نسختان (على حد عرفة) وأخرى (عرنة) وهما بمعنى؛ لأن الحائط القبلي إذا كان على حد عرفة فهو حد لعرنة. وَفِي اشْتِرَاطِ الْوُقُوفِ قَوْلانِ، وَفِي الْمَارِّ قَوْلانِ قد تقدم أن المراد بالوقوف الطمأنينة بعرفة على أي وجه كان. ابن عبد السلام: وعلى هذا فالخلاف حقيقة إنما هو في الاكتفاء بالمرور، فلا ينبغي لمن مذهبه الاختصار أن يجعلهما مسألتين إحداهما ثمرة على الأخرى. انتهى. ولم يبين مالك الحكم في هذه المسألة في المدونة. وحكى ابن يونس فيها قولين: الأول: لابن القاسم في المدونة من رواية الدباغ: يجزئه إذا نوى بمروره الوقوف، زاد محمد: ولو تعمده إذا عرفها، وإن لم يعرفها بطل حجه. الثاني: نقله ابن المنذر في كتاب الأشراف عن مالك وغيره من العلماء أن من مر بعرفة ليلاً قبل الفجر وهو لا يعلم أنها عرفة أن ذلك يجزئه. التونسي وابن محرز وغيرهما: وقول محمد: "إذا عرفها" ينبغي ألا يحتاج إلى معرفتها على مذهب ابن القاس؛ لأنه يرى أن من وقف بها مغمى عليه أجزأه. اللخمي: والأول أحسن. ولم أرَ قولاً بعد الإجزاء مطلقًا كما هو ظاهر كلام المصنف. وكذلك جعل سند محل الخلاف إذا لم يعرفها، فقال: من مر بعرفة وعرفها أجزأه. وإن لم يعرفها فقال محمد: لا يجزئه، والأشهر الإجزاء، لأن تخصيص أركان الحج بالنبية ليس شرطًا.

وَفِي اشْتِرَاطِ عِلْمِهِ بعَرَفَةَ قَوْلانِ، وَفِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْجَاهِلِ بِهَا– ثَالِثُهَا: لابْنِ الْقَاسِمِ لا يُجْزِئُ الْجَاهِلُ .... فرأى في القول بالاشتراط أنه لا بد من العلم لستشعر بالقربة، وهو قول محمد، ورأى في آخر أن القصد الوقوف وقد حصل. وهو يأتي على ما حكاه ابن المنزر عن مالك كما تقدم. والقولان المتقابلان في المغمى عليه والجاهل مبنيان على اشتراط العلم وعدمه. ابن عبد السلام: والمشهور يجزئ المغمى عليه. ومفهوم قوله: (قَبْلَ الزَّوَالِ) أنه إذا كان بعده أنه يجزئه. وفي اللخمي: قال مالك فيمن أتى عرفة وهو مغمى عليه، ودفعوا به على حالته، قال– يجزئه. وروى مطرف وابن الماجشون إن أغمي عليه قبل الزوال لم يجزأه، وإن أغمي عليه بعده فإن كان ذلك قبل أن يقف أجزأه لو اتصل به الإغماء حتى دفع به، وليس عليه أن يقف ثانيًا إن أفاق في بقية ليلته، وهو كالذي يغمى عليه في رمضان قبل الفجر فلا يجزئه، وإن طلع عليه الفجر وهو في عقله ثم أغمى عليه بعد ذلك لم يضره. وقال في مختصر ما ليس في المختصر: إن وقف صحيحًا ثم أغمي عليه بعد ذلك أجزأه، وإن وقف مغميًا عليه فلم يقف حتى طلع الفجر لم يجزأه. انتهى. وَالْوَقْتُ بَاقٍ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَوْ أَنْشَأَ الإحرام فِيهَا أَجْزَأَهُ لما أخرجه النسائي والترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن يعمر قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه ناس من نجد فأمروا رجلاً فسأله عن الحج، فقال: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك حجه". وروى الترمذي: (قبل طلوع الفجر). تنبيه: وإذا غربت الشمس فقد حصل الوقوف الركني، والأفضل ألا يدفع قبل الإمام. قاله في المدونة. قوله: (وَلَوْ أَنْشَأَ الإحرام فِيهَا أَجْزَأَهُ) [191/ أ] ظاهر.

فَلَوْ قَرُبَ مِنْهَا قُرْبَ الْفَجْرُ فَذَكَرَ صَلاةً يُفِيتُهُ فِعْلُهَا- فَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ قُرْبِهِ جِدّاً وَغَيْرِهِ، وَفَرَّقَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بَيْنَ الْمَكِّيِّ والآَفَاقِيِّ، وَقِيلَ: يُصَلِّي إِيمَاءً .... اعلم أن القاعدة أن المُضَيَّقَ في الشرع مقدم على ما وسع فيه، والموسع فيه في زمان محصور كالصلاة مقدم على ما غياه بالعمر كالكفارات، وما يجب على تاركه القتل مقدمًا على ما ليس كذلك، وعلى هذا فتقدم الصلاة على الحج في المسألة المفروضة، وهي إذا قرب من عرفة قبل الفجر، وذكر صلاة إن تشاغل بها فاته الوقوف، وإن ذهب للوقوف لم يمكنه فعل الصلاة. وإلى هذا أشار بقوله: (يُفِيتُهُ فِعْلُهَا) أي يفيت الوقوف فعلها، وتقديم الصلاة هو المشهور لما ذكرناه من عظم أمرها في الشرع واستحقاقها للوقت بالذكر. وقال اللخمي: تقدم عرفة مطلقًا لما في فوات الحج من المشاق. وفرق محمد بن المواز بين قربه من عرفة فيمضي إليها وبعده فيصلي لحصول الشك حينئذ في إدراك عرفة. وزاد المصنف بعد قوله: (قُرْيهِ) لفظة (جِدّاً) وليست هذه الزيادة في النوادر. وفرق ابن عبد الحكم بين المكي ونحوه فيصلي، وبين الآفاقي فيمضي لعرفة، هكذا صرح في النوادر بأن ما حول مكة كحكمها عند ابن عبد الحكم، ووجهه ظاهر. وقال عبد الحميد: يصلي إيماءً كالمسايف. واعترضه ابن بشير بعدم تحققق الجامع؛ لأن المشقة في الأصل خوف تلف النفس، وفي الفرع خوف تلف المال سلمناه، ولكن قياسًا على الرخص. وأجيب على الأول بأن الأسفار الشاقة مع بعد المسافة يخشى فيها على النفس والمال، ففي الفرع ما في الأصل وزيادة. وعلى الثاني بأن القياس على الرخص المختلف في قبوله إنما هو إذا كان الأصل المقيس عليه منصوصًا، أما إذا كان اجتهاديًا فلا نسلمه. تنبيه: وقول المصنف: (ذكر صلاة) هكذا عبر جماعة كثيرة من أهل المذهب، وهو ظاهر في أنها فائتة. وإذا كان هذا في الفائتة فأحرى لو ذكر العشاء، وفرضها ابن بشير في العشاء.

وَلَوْ وَقَعَ الْخَطَأُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ فَفِي الإِجْزَاءِ قَوْلانِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الثَّامِنَ لا يُجْزِئُ، وَالْعَاشِرَ يُجْزِئُ وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ .... أي: إذا وقع الخطأ في يوم عرفة إما بالتقديم أو بالتأخير ففي المسألة ثلاثة أقوال: الإجزاء فيها، وعدمه، والمعروف التفصيل فيجزئ العاشر ولا يجزئ الثامن. وما ذكره المصنف من الخلاف في الصورتين موافق للخمي، فإنه حكى الخلاف في العاشر، ونحوه في البيان، وحكى الثلاثة التي ذكرها المصنف. وذهب ابن الكاتب إلى أن المذهب يتفق على الإجزاء في العاشر. قال في البيان: وعلى التفرقة أكثر أهل العلم. وهو قوله مالك والليث والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن سيرين وعثمان البتي. والفرق أن الذين وقفوا يوم النحر فعلوا ما تعبدهم الله به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إكمال العدة دون اجتهاد، بخلاف الذين أخطئوا قبل، فإنه باجتهادهم وشهادة من شهد بالباطل. انتهى. وعلى الإجزاء اقتصر مالك في العتبية على أنه إذا كان وقوفهم يوم النحر مضوا على عملهم، ويتأخر عمل الحج كله الباقي عليهم يومًا، ويكون حالهم كحال من لم يخطئ وقيد في الاستذكار هذا الخلاف بجماعة أهل الموسم، وأما المنفرد فلا يلزمه إذا فاته الوقوف ما يلزم من فاته الحج. فرع: من ردت شهادته في الهلال، فقال سند: يلزمه الوقوف كالصوم. وقاله الجمهور. وقال محمد بن الحسن: لا يجزئه حتى يقف مع الناس، وسلم الصوم، فيكون حجة عليه. وقد تقدم هذا من كلام صاحب البيان في الصوم. وَيُفِيضُ بَعْدَ الْغُرُوبِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ وَيَبِيتُ بِهَا، وَيُكْرَهُ الْمُرُورُ بِغَيْرِهَا بَيْنَ الْمَازَمَيْنِ، وَيُصَلِّي بِهَا الإِمَامُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءُ جَمْعًا وَقَصْرًا، وَيُتِمُّ أَهْلُ مُزْدَلِفَةَ (وَيَبيتُ بِهَا) للسنة (وَيُكْرَهُ الْمُرُورُ بِغَيْرِهَا بَيْنَ الْمَازَمَيْنِ) لمخالفة فعله صلى الله عليه وسلم. وكلامه ظاهر.

والمأزمان: قال في التنبيهات: مهموز مكسور الزاي ومفتوح الميمين مثنى. قيل لمالك في المدونة: فإن أتى المزدلفة قبل الشفق؟ قال: هذا ما لا أظنه يكون، ولو كان ما أحببت له أن يصلي حتى يغيب الشفق، وهكذا قال ابن القاسم وابن حبيب: لا يصلي حتى يغيب الشفق. وقال أشهب: إن وصل قبل مغيب الشفق صلى حينئذ. قال مالك في العتبية: وإذا أتى المزدلفة فلا بأس أن يبدأ بحط الرحل الخفيف قبل الصلاة وأما حط المحامل والزوامل فلا أرى ذلك، وليبدأ بالصلاة ثم يحط. وقال أشهب: حط رحل من أتى المزدلفة بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى غير ذلك؛ لثقل دابته ونحوه، فإذا صلى المغرب حط رجله – إن شاء – قبل صلاة العشاء وإن لم يكن بدابته ثقل؛ لأن ذلك قريب لا تفاوت فيه بين الصلاتين، ولا يتعشى قبل المغرب وإن خفف عشاءه، وليصل المغرب ثم يتعشى قبل صلاة الشعاء إن كان عشاؤه خفيفًا، وإن كان عشاؤه فيه طول فليؤخره حتى يصل العشاء أحب إلى. وفي الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بها ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله [191/ ب] ثم أقيمت صلاة العشاء فصلاها، ولم يصل بينهما شيئًا. وروى ابن مسعود: لما نزل صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة صلى بهم المغرب ثم وضعوا رحالهم وتعشوا ثم صلوا العشاء. وَمَنْ لَمْ يَقِفْ إِلا بَعْدَ دَفْعِ الإِمَامِ صَلْى كُلَّ صَلاةٍ لِوَقْتِهَا، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَرْجِعْ قَبْلَ الثُّلُثِ أَوِ النِّصْفِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ .... قوله: (كُلَّ صَلاةٍ) أي: من المغرب والعشاء (لِوَقْتِهَا) وهو قول ابن المواز قال في النوادر: ووجهه أن الجمع إنما ورد في حق من وقف مع الإمام. قال ابن القاسم: إن طمع أن يقف ويرجع إلى مزدلفة في ثلث الليل رأيت أن يؤخر إلى مزدلفة فيجمع بينهما. ابن بشير: وعلى القول بأن وقت العشاء إلى نصف الليل يؤخر إن كان يدرك قبله، وهو معنى قوله: (أَوِ النِّصْفِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) ونقل عن مالك قول ثالث: أنه يجمع بينهما سواء راح أو لم يرح كمن وقف مع الإمام.

تنبيهان: أولهما: انظر كيف صدر المصنف بقول ابن المواز. الثاني: تخريج ابن بشير ليس بظاهر؛ لأن القائل بالنصف هو ابن حبيب، ولا يعلم له التفصيل الذي قاله ابن القاسم هنا. ولا بد في التخريج من اتحاد القائل، وقد تقدم هذا المعنى. وَأَمَّا مَنْ وَقَفَ وَعَجَزَ جَمَعَهُمَا بَعْدَ الشَّفَقِ حَيْثُ كَانَ تصوره ظاهر ونحوه في المدونة وغيرها. فَلَوْ قَدَّمَهُمَا قَبْلَهَ أَعَادَ الْعِشَاءَ، وَفِي إِعَادَةِ الْمَغْرِبِ فِي الْوَقْتِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ قوله: (قَدَّمَهُمَا) يعني: المغرب والعشاء. (قَبْلَهَ) قبل الشفق. وفي بعض النسخ (قبلهما) أي: الشفق والمزدلفة. وفي بعضها (قبلها) أي المزدلفة. اللخمي: واختلف فيمن صلى المغرب قبل المزدلفة أو جمع الصلاتين بعد مغيب الشفق وقبل المزدلفة، ثم ذكر القولين اللذين حكاهما المصنف. واتفق على إعادة العشاء إذا صلاها قبل الشفق؛ لكونه صلاها قبل وقتها. واختلف في إعادة المغرب، فقال ابن القاسم: يعيدها في الوقت. وقال ابن حبيب: أبدًا. واحتج ابن القاسم في المدونة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة أمامك". يريد فكأنه قد قدمها عن وقتها، وقال أشهب: لا يعيدها؛ لأنها وقعت في وقتها، والجمع إنما هو رخصة وتخفيف. ثُمَّ يَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ، فَلَوْ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا فَالدَّمُ عَلَى الأَشْهَرِ، فَلَوْ دَفَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا دَمَ لا خلاف أن السنة النزول بمزدلفة والمبيت بها، فإن نزل بها ثم دفع منها قال في المدونة: في أول الليل أو وسطه أو آخره، وترك الوقوف مع الإمام أجزأه ولا دم عليه. ولفظ المدونة أحسن من لفظ المصنف؛ لأن قوله: (فَلَوْ دَفَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا دَمَ) مجمل.

قوله: (فَلَوْ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا فَالدَّمُ عَلَى الأَشْهَرِ) هو قول مالك وغيره. والقول بسقوط الدم منقول عن بعد الملك. وهو مما يبين لك أن قوله: اختلف في الوقوف بالمشعر الحرام هل هو ركن أم لا؟ ابن هارون: واختلف عن مالك في القدر المستحق من الزمان بمزدلفة هل هو الليل كله أو جله أو أقل زمان؟ على ثلاثة أقوال. حكاه ابن خويزمنداد. انتهى. خليل: والظاهر أنه لا يكفي على المذهب في سقوط الدم بالنزول إناخة البعير فقط، بل لا بد مع ذلك من حط الرحال، وكلام الباجي يدل عليه. ولفظه: والفرض من المبيت بها النزول بها والمقام مقدار ما يرى أنه مقام. انتهى. فرعان: الأول: قول ابن المواز يستحب ليلة المزدلفة كثرة الصلاة والذكر، وكان ابن عمر يطيل التهجد. والثاني: إن أتى المزدلفة بعد الفجر فقال أشهب: عليه الدم لتركه المبيت، وإن كان من ضعفه الرجال والنساء والصبيان، وقال ابن القاسم: إذا أتاها بعد طلوع الفجر ونزل بها فقد أدرك ولا شيء عليه، وليقف بالمشعر الحرام ما لم يسفر جدًا وإن دفع الإمام. وَيَرْتَحِلُ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ مُغَلِّسًا ثُمَّ يَقِفُ قَلِيلاً عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو، وَلا وُقُوفَ بَعْدَ الإِسْفَارِ، وَلا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ .... أي: ويرتحل من المزدلفة بعد أن يصلي الصبح أول وقتها إلى المشعر الحرام. ابن حبيب: وهو ما بين جبلي المزدلفة، ونحوه لسعيد بن جبير. قال ابن أبي نجيح: ما صب من محسر في المزدلفة فهو منها، وما صب منها في منى فهو منها. ابن حبيب: ويقال للمزدلفة أيضًا جَمْعٌ: وكلها موقف، ويرتفع عن بطن محسر، وكذلك روى عنه الصلاة والسلام. ونص اللخمي وصاحب المفهم وغيرهما على

أنه ليس من المزدلفة. ابن حبيب: ويقف الإمام حيث المنارة التي على قزح. قال: وترفع يديك بالدعاء والذكر والرغبة إلى الله تعالى، وتكثر من التهليل والتكبير وتفعل في الدفع من المشعر من الذكر والسكينة مثل فعلك في الدفع من عرفة. سحنون: ويكون وجهك إذا وقفت أمام البيت. وقوله: (وَلا وُقُوفَ بَعْدَ الإِسْفَارِ) قالوا قصدًا لمخالفة المشركين؛ لأنهم كانوا لا يدفعون إلا بعد طلوع الشمس. وظاهر كلامه جواز التمادي بالوقوف إلى الإسفار. نحوه في الموازية والمختصر. وفي المدونة: لا يقف أحد بالمشعر إلى طلوع الشمس أو الإسفار، ولكن يدفعون قبل ذلك. قوله: (وَلا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ) لأنه خلاف السنة. قال في المدونة: وإذا أسفر ولم يدفع الإمام دفع الناس وتركوه، ومن بات بالمشعر الحرام فلم يقف حتى [192/ أ] دفع الإمام فلا يقف بعده، ولا يتخلف عنه. ويستحب للرجل أن يدفع بدفع الإمام ولا يتعجل قبله. وَوَاسِعٌ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا أَوْ يَتَأَخَّرُوا، ثُمَّ يُسْرِعُ فِي وَادِي مُحَسَّرٍ خرج مسلم عن أم حبيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل. ولعل ذلك خوفًا من الزحمة، ولبطئهن في السير. (وَيُسْرِعُ فِي وَادِي مُحَسَّرٍ) أي: الراكب بدابته والماشي في مشتيه، وهو قدر رمية الحجر وذلك للسنة. قيل: لأنه موضع نزول العذاب على أصحاب الفيل. ثُمَّ يَاتِي مِنَى فَيَرْمِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ وَضْعِ رَحْلِهِ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا عَلَى حَالِهِ بسَبْعِ حَصَيَاتٍ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَنْحَرُ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ كذا ورد عنه عليه الصلاة والسلام. وكان صلى الله عليه وسلم حالة الرمي راكبًا.

قال مالك في الموازية: وتستقبلها ومنى عن يمينك والبيت عن يسارك وأنت ببطن الوادي. والحلاق أفضل من التقصير إلا المتمتع فإن التقصير في العمرة أفضل له؛ ليبقى على الشعث في إحرام الحج. ولا فرق على المشهور بين المفرد والقارن. وقال ابن الجهم: إن القارن المكي لا يحلق حتى يطوف ويسعى، ويلزمه أن يقول بذلك في المراهق والحائض وكل من أخر سعيه إلى الإفاضة. فَلَوْ ضَلَّتْ بَدَنَتُهُ طَلَبَهَا إِلَى الزَّوَالِ وَإِلا حَلَقَ وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ مِنْ إِفَاضَةٍٍ وَوَطْءٍ وَغَيْرِهِ .... لما كان المطلوب تقديم النحر على الحلق لقوله تعالى: ?وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ([البقرة: 195] لزم إذا ضلت بدنته أن يطلبها إلى الزوال؛ لأن تأخير الحلق بعد الزوال بلا عذر مكروه. وكذلك قوله في المدونة: ومن ضلت بدنته يوم النحر أخر الحلاق وطلبها ما بينه وبين الزوال، فإن أصابها وإلا حلق وفعل ما يفعل من لم يهد من الإفاضة ووطء النساء وحلق الرأس ولبس الثياب، كانت هذه البدنة مما عليه بدلها أم لا؟ انتهى. قال في البيان: وإذا خشي زوال الشمس حلق مخافة أن يؤخر إلى بعد الزوال ولا يجد الهدي فتفوته الفضيلتان جميعًا: الحلاق قبل الزوال، والذبح قبل الحلاق. فَلَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْي فَالْفِدْيَةُ عَلَى الأَصَحِّ، وَإِلا فَلا فِدْيَةَ عَلَى الأَصَحِّ قد تقدم أن السنة تقديم الرمي ثم النحر ثم الحلق، فلو قدم الحلق على الأول فالفدية على الأصح؛ لأنها حلق قبل التحلل وهو مذهب المدونة. ومقابل الأصح حكاه ابن بشير وأشار إلى الاستدلال له بما رواه البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في

حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. قال: "اذبح ولا حرج". وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. فقال: "ارمِ ولا حرج". فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا وقال: "افعل ولا حرج". وإذا بنينا على الأصح فإنه يُجرِي الموسى على رأسه بعد أن يرمي. رواه ابن المواز عن مالك؛ يريد: لأن ذلك الحلق الأول غير معتد به، ولذلك افتدى منه. وقوله: (وَإِلا فَلا فِدْيَةَ عَلَى الأَصَحِّ) أي: وإن لم يقدم الحلق على الرمي بل قدم الثاني على الاول فنحر قبل الرمي، أو الثالث على الثاني فحلق قبل النحر، فالأصح لا شيء عليه للحديث المتقدم. وكلام المصنف يقتضي أن الخلاف في الصورتين، ولم أره إلا في الثانية، وهي إذا حلق قبل النحر. وحكى اللخمي مقابل الأصح عن ابن الماجشون وأطلق فيه كالمصنف. وقال الباجي: إن قدم الحلق قبل الذبح فإما أن يقدم الحلق خطأً أو جهلاً أو عمداً. فإن كان ذلك خطأً أو عمداً فروى ابن حبيب عن ابن القاسم لا شيء عليه، وهو المشهور. وقال ابن الماجشون: عليه الهدي. وبه قال أبو حنيفة، ووجَّه الأول بالحديث. وروى ابن الماجشون أن معنى ذلك لا إثم عليه؛ لأن الحرج يطلق على الإثم دون الهدي. ولابن القاسم أن يقول: هذا موضع تعليم لما يجب على السائل، فلو وجب الهدي لذكره. وأما إن كان على وجه العمد فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر. والظاهر من المذهب المنع من ذلك، والترتيب مشروع مستحب، وأقل ما يحمل النحر. والظاهر من المذهب المنع من ذلك، والترتيب مشروع مستحب، وأقل ما يحمل عليه فعله عليه الصلاة والسلام في حجة الاستحباب. انتهى باختصار. ثُمَّ يَاتِي مَكَّةَ لِلإفَاضَةِ وَكُرِهَ أَنْ يُسَمَّى طَوَافُ الزِّيَارَةِ، أَوْ يُقَالَ: زُرْنَا قَبْرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..... يعني: وبعد أن يفعل الثلاثة المذكورة يأتي مكة فيطوف طواف الإفاضة. وأما كراهة مالك أن يقول طواف الزيارة أو زرنا قبره صلى الله عليه وسلم فقيل: لأن الزيارة تقتضي التخيير. وقيل: إنما كره هذا الاسم لما ورد: "لعن الله زوَّارات القبور". ورده في الشفاء بما

ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها". وقوله: "من زار قبري" وقيل: إنما ذلك لما قيل: إن للزائر فضلاً على المزور. ورده في الشفاء بأنه ليس كل زائر بهذه الصفة، وقد ورد في حديث أهل الجنة وزيارتهم لربهم. وقيل: الكراهة لاستعمال لفظ القبر؛ لأنه ورد في الحديث [192/أ] "اللهم لا تجعل قبري وثناًَ يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". فحمل إضافة هذا اللفظ إلى القبر، والتشبيه بفعل أولئك قطعاً للذريعة وحسماً للباب، ولم يرده، ورده بعضهم بأن سنداً نقل عن مالك الكراهة، ولو أسقط القبر، وكان شيخنا رحمه الله يقول: يمكن أن يقال إنما كره مالك ذلك خوفاً من التبجح بالعبادة والسمعة؛ لأنه قد ورد: "من زارني ميتاً فكأنما زارني حياً". خليل: وفي قول أبي عمران: إنما كره مالك أن يقول الناس ذلك بينهم بعضهم لبعض- إشارة إلى ذلك. فرع: فإن قدم الإفاضة على الرمي فروى ابن القاسم عن مالك الإجزاء مع الهدي، وبه أخذ ابن القاسم. وعن مالك: لا يجزئه، وهو كمن لم يُفِضْ. وقال أصبغ: أحب إلي أن يعيد الإفاضة، وذلك يوم النحر آكد. واختلف إذا رمى ثم أفاض قبل الحلاق، فقال مالك: يجزئه، وقال أيضاً يعيد الإفاضة بعد الحلاق. وقال في الموطأ: أحب إلى أن يهرق دماً، وإن قدم الإفاضة على الذبح أجزأته الإفاضة. اللخمي: ويجري فيها قولاً آخر أنه يعيد. خليل: والصحيح والله أعلم لا شيء عليه في شيء من ذلك لما رواه الترمذي وصححه من حديث علي- رضي الله عنه-: أفضت قبل أن أحلق. فقال: "احلق أو قصر ولا حرج". وفي بعض طرق الدارقطني من حديث ابن عمر: أفضت قبل أن أرمي: فقال: "ارم ولا حرج".

وَهذَا أَوْلَى مِنَ التَّأخِير يعني: وتعجيل الإفاضة أولى، وهذا كما قال في الجلاب: ولا بأس بتأخير الإفاضة إلى آخر أيام التشريق، وتعجيلها أفضل، ولا يؤخرها عن ذلك. فإن أخرها إلى المُحَرَّم فعليه دم. وقال في الذخيرة: وله تأخير السعي إلى وقت تأخير الإفاضة انتهى. وقد اختلف هل أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً أو نهاراً؟ ففي مسلم من حديث جابر الطويل: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر. النووي: وفيه محذوف تقديره: فأفاض وطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر، فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه. وفي مسلم أيضاً من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمني. النووي: ووجه الجمع بينهما أنه عليه الصلاة والسلام طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى انتهى. وخرج أبو داود من حديث عائشة وابن عباس: أنه عليه الصلاة والسلام أخر الطواف يوم النحر إلى الليل. ورواية جابر عندهم أرجح؛ لأنه ضبط في الحج ما لم يضبطه غيره. فَلو أَخَّرَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ وَالسَّعْيَ بَعْدَمَا انْصَرَفَ مِنْ مِنَي أَيَّاماً فَلْيَطُفْ وَلْيُهْد هذا تصوره في حق المراهق وشبهه ممن لا تخاطب بالسعي أولا كالمحرم من مكة. ابن عبد السلام: والدم إما لأجل التفرقة بين الأركان أو لأنه أتى ببعض الأركان في غير أشهره. انتهى.

وليس هذا خاصاً فيمن تركهما معاً، بل لو ترك الطواف فقط. والظاهر في التعليل هو الثاني؛ لأنه لو كان التعليل أولاً صحيحاً لزم في حق من أخر طواف الإفاضة عشرة أيام مثلاً الدم، وليس كذلك على المشهور. ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مِنَى لِلْمَبِيتِ، وَيَبِيتُ بِمِنَى ثَلاثَ لَيَالٍ، والْمُتَعَجِّلُ لَيْلَتَيْن تصوره ظاهر. وفي قوله: (لِلْمَبِيتِ) إشارة إلى أنه لا يلزم الرجوع على الفور، نعم هو راجح. وفي الموازية والعتبية فيمن أفاض ثم أراد أن ينتقل بطواف أو طوافين قال: ما هو من عمل الناس، وأرجو أن يكون خفيفاً، وإن سمع الأذان فواسع أن يخرج أو يقيم حتى يصلي. زاد في الموازية: وإن أقيمت الصلاة فله أن يبيت ليصلي. قال عنه أشهب: وإن أفاض يوم الجمعة هل يقيم حتي يصلي الجمعة؟ قال: أحب إلى أن يرجع إلى منى. قال مالك في الموازية: وللرجل أن يطلع على أهله بمكة أيام منى ليصيب منهم وينظر في ظهر له ما لم يختلف كل يوم أو يطيل الإقامة. واستثنى أهل المذهب من لزوم المبيت بمني الرعاة ومن ولي السقاية. أما الرعاة فيأتي الكلام عليهم. وأما من ولي السقاية، فإنه صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس في المبيت بمكة. ابن حبيب: وإنما ذلك رخصة من أجل السقاية. وقد روي عن ابن عباس ضي الله عنه في الرجل الذي يكون له متاع بمكة يخشى عليه الضيعة إن بات بمني أنه لا بأس أن يبيت عنده بمكة. الباجي: وليس فيه دليل على أنه لا يلزمه دم؛ لأن ذلك عذر يخصه. والذي يقتضيه مذهب مالك أن عليه الهدي حسب ما روى عنه ابن نافع فيمن حبسه مرض فبات بمكة أن عليه الهدي. ولا يجوز المبيت دون جمرة العقبة؛ لأنه ليس من مني. وفي الموطأ عن عمر أنه كان يرحل الناس من ورائها، وفيه أيضاً أنه قال: لا يبيتن أحد من

الحاج ليالي منى من وراء العقبة. وعن مالك في الموازية: إن بات جل ليلة من وراء العقبة فليهد هدياً. وروي عنه أنه لا دم عليه حتى يبيت الليلة كلها بغير مني. يَرْمِي كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَفِيهَا: أَكْبَرُ .... الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع. وهو بالخاء والذال المعجمتين قاله الجوهري وعياض والنووي. وقال ابن هارون: الحذف [193/أ] بالحاء المهملة، وكانت العرب ترمي بها في الصغر على وجه اللعب، تجعلها بين السباية والإبهام من اليسرى ثم تقذفه بالسبابة من اليمنى. وزاد الليث: أو تجعلها بين سبابتيك. سند: واختلف في قدر حصى الحذف، فقيل: مثل الباقلاء. وقيل: مثل النواة. وقيل: دون الأنملة طولاً وعرضاً. ويكره الحجر الكبير لئلا يؤذي الناس، والصغير مثل الحمصة والقمحة لا يرمى بهما؛ لأنهما في حكم العدم. وأكبر من حصى الحذف أبرأ للذمة؛ لأن فيه الواجب وزيادة، والحجر الكبير يجزئ عند الجميع؛ لوقوع الاسم عليه لكنه مخالف للسنة، واستحب مالك أن تكون حصى الجمار أكبر من حصى الحذف قليلاً. سند: وكان القاسم بن محمد يرمي بأكبر من حصى الحذف. واستشكل الشافعي استحباب مالك كونها أكبر، مع ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بمثل حصى الحذف، وأجيب عنه بوجهين أحدهما للباجي: أنه لم يبلغه الحديث، والثاني لعبد الملك وغيره: أنه بلغه لكن استحب الزيادة على حصى الحذف؛ لئلا ينقص الرامي من ذلك. وَلَقْطُهَا أَوْلَى مِنْ كَسْرِهَا مِنْ حَيْثُ شَاءَ للسُنَّة. قال غير واحد: وله أن يأخذ حصى الجمار من منزله بمني أو حيث شاء، إلا جمرة العقبة فإنه يستحب أخذها من المزدلفة، قاله ابن القاسم وابن حبيب وغيرهما. قال ابن الحاج في مناسكه: أستحب له أخذها من واد محسر. ونص اللخمي وغيره على أنه ليس من مزدلفة.

قوله: (حَيْثُ شَاءَ) متعلق بمحذوف دل عليه لقطة الأول تقديره: يلتقطها من حيث شاء، ولا يصح تعليقه بـ (لَقْطُهَا) لأنه مصدر لا يجوز أن يخبر عنه قبل تمام صلته. وَيُكْرَهُ مَا رُمِيَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَقََطَتْ مِنِّي حَصَاةٌ فَلَمْ أَعْرِفْهَا، فَأَخَذْتُ حَصَاةً مِنَ الجِمَارِ فَرَمَيْتُ بِهَا فَقَالَ لِي مَالِكٌ: إِنَّهُ لَمَكْرُوهٌ وَلا أرى عَلَيْكَ شَيْئاً قوله: (يُكْرَهُ). ابن بشير: هو المشهور. وقيل: له الأخذ من الجمار. فإذا قلنا إنه لا يرمي من المَرمي به وخالف ورمى به فهل يعيد أو يجزئه؟ قولان انتهى. وقال ابن شعبان: لا يجزئه. يريد ويعيد انتهى. وأطلق ابن بشير القول بأن له أن يأخذ الحصى من الجمرة. وفي الباجي: ولا يرمي من الجمار بما قد رُمي به، هذا هو المشهور من المذهب، وروى ابن وهب عن مالك فيمن سقطت منه حصاة أنه يأخذ من موضعه حصاة فيرمي بها في مكان الذي سقطت منه، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن تيقن أنها الحصاة التي سقطت منه فليأخذها، وأنه يكره أن يأخذ من الجمار التي رمي بها، وإني لأَتَّقِيه، وإن أخذ منها حصاة وهو لا يتيقن أنها الحصاة التي سقطت منه فأرجو أن يكون خفيفاً. وقد روى ابن المواز عن أشهب فيمن نفذت منه حصاة وأخذ حصاة من عند الجمار ورمى بها أنه لا يجزيه انتهى. فقيد القول بحصاة. وقال التونسي: إذا رمى بحصاة رُمي بها أعاد ما لم تذهب أيام منى، فإن ذهبت فلا شيء عليه. وما حكاه المصنف عن ابن القاسم هو مذهب المدونة، ولا يؤخذ منه الجواز ابتداءً. وقول مالك في آخره إنه مكروه، صريح في الكراهة. وأشار اللخمي إلى أن محل الخلاف إذا رمى بها غيره، وأما لو كرر الرمي بحصاة واحدة سبعاً لم يجزه. وقال سند: يكره ما رمي به غيره. وإن رمى بما رمى به هو قال بعض المتأخرين هنا: لا يجزئه بخلاف ما رمى بع غيره. ولم يوجد هذا الفرق إلا للمزني من الشافعية، وعلل ذلك ابن شعبان وغيره بأنه كماء توضئ به مرة. وقيل: لِما نقله ابن عبد البر عن ابن عباس وأبي سعيد وغيرهما: أن ما يقبل من الحصى يرفع. والمشاهدة تدل على ذلك لقلة الجمار، ومثله لا يقال بالرأي. ابن يونس: والأول أصح، وعلى كل واحد منهما بحث لا يخفى عليك.

سَبْعاً فِي كُلِّ جَمْرَةٍ حَصَاةً بَعْدَ حَصَاةٍ مُتَتَابِعَةً بِالتَّكْبِيرِ مَاشِياً، فَلَوْ رَمَى أَكْثَرَ اعْتَدَّ بِوَاحِدَةٍ، فَذَلِكَ مَعَ الأُولَى سَبْعُونَ حَصَاةً، وَالْمُتَعَجِّلُ: تِسْعٌ وَأَرْبَعُونَ ..... (سَبْعاً) مفعول بـ (يرمي) المتقدم، ويحتمل أن يكون حالاً من النكرة المخصصة بالنعت وهي قوله قبل: (إحدى وعشرين حصاة) وقوله: (حَصَاةً بَعْدَ حَصَاةٍ) حال من (سبع) و (مُتَتَابِعَةً) نعت لـ (سبع) وقوله: (ماشياً) أي: في الثلاثة أيام استحباباً، وإلا فقد تقدم أنه يرمي جمرة العقبة على حاله التي جاء عليها من ركوب أو مشي. وقال في الجواهر: ويستحب أن يأتي بالجمار في الأيام الثلاثة ماشياً ذاهباً وراجعاً. كما فعل صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رمى حصاة كبر. قال في المدونة: وإن لم يكبر أجزأه. قيل له: فإن سبح مع كل حصاة؟ قال: السنة التكبير. مالك: ويرفع صوته بالتكبير عند الجمار. وقوله: (فَلَوْ رَمَى أَكْثَرَ) أي: من واحدة، رمية واحدة فإنما يحتسب بواحدة؛ لأنه تعبد، فمن خالفه كأنه لم يأت به. وقوله: (فَذَلِكَ .... إلخ) ظاهر التصور. وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ حَجَراً، وَرَمْياً عَلَى الْجَمْرَةِ أَوْ مَوْضِعِ حَصَاهَا، فَلَوْ وَضَعَها لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى مَحْمَلٍ وَنَحْوِهِ فَوَقَفَتْ فَنَفَضَهَا غَيْرُهُ لَمْ تُجْزِهِ ... قال في الذخيرة: ولا يختص بجنس بل ما يسمى حصىً، حجراً أو رخاماً. وظاهر [193/ ب] المذهب، منع الطين والمعادن كالحديد والزرنيخ. سند: قالت الشافعية: لو رمى بحَجَر نجس أجزأه. قال: وليس ببعيد عن المذهب، لكنه يكره. وقد قال مالك: ليس عليه غسلها. ونقل ابن الحاج عن مالك الإجزاء في الحَجَرِ النجس. وقوله: (وَرَمْياً) قال في المدونة: وإن وضع الحصاة وضعاً أو طرحها لم يجزئه. وفي طرر أبي إبراهيم عن أشهب إجزاء الطرح إذا نوى به الرمي.

قوله: (عَلَى الْجَمْرَةِ أَوْ مَوْضِعِ حَصَاهَا). الباجي وغيره: الجمرة اسم لموضع الرمي، سميت بذلك باسم ما يرمى فيها، والجمار الحجارة. وقال سند: جمرة العقبة جبل معروف، والجمرة اسم للكل. وعلى هذا فقول المصنف: (الْجَمْرَةِ أَوْ مَوْضِعِ حَصَاهَا) ليس بجيد. إذ الجمرة اسم للجميع، لكن الظاهر أنه أراد بالجمرة البناء، وبـ (مَوْضِعِ حَصَاهَا) ما سفل من ذلك، ويحمل كلامه على ما إذا رمى البناء ثم وقعت على الحصى، وأما لو وقعت في شقوق البناء ففي إجزاء ذلك نظر؛ لأنه مخالف للسنة، وسيدي خليل الذي بمكة- رضي الله عنه- يفتي في ذلك بعدم الإجزاء، ورأيت من شيخنا ميلاً إلى الإجزاء؛ لأن البناء متصل بالجمرة، ولعل الذي اعتمد المصنف عليه هنا قوله في المدونة: وإن رمى حصاة فوقعت قرب الجمرة، فإن وقعت موضع حصى الجمرة وإن لم تبلغ الرأس أجزأه. سند: وإن وقعت دون الجمرة وتدحرجت إليها أجزأه؛ لأنه مِنْ فعله، فإن شك في وصولها فالظاهر عدم الإجزاء. ولو وقعت دون المرمى على حصاة فطارت الثانية في المرمى لم يجزه. وكذلك لو رمى لغير الجمرة قصداً فوقعت فيها لعدم النية. ولو قصد الجمرة فتعدتهالم يجزه لعدم الاتصال. ولو تدحرجت من مكان عال فرجعت إليها، فالظاهر عدم الإجزاء؛ لأن الرجوع ليس من فعله انتهى. وقوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى مَحْمَل ... إلخ) هو كقوله في المدونة: وإن وقعت في محمل رجل فنفضها صاحب المحمل لم يجزه، ولو أصابت المحمل ثم مضت بقوة الرمية الأولى حتى وقعت في الجمرة أجزأه. وَالْعَاجِزُ يَسْتَنِيبُ وَعَلَيْهِ الدَّمُ المراد بالعاجز من يعجز بنفسه، ولم يكن له من يحمله. قال في المدونة: وإذا قدر على حمل المريض وهو يقوى على الرمي ويوجد من يحمله حُمِلَ ورمى بيده. ولا يرمي الحصاه

في كف غيره ليرميها ذلك عنه، وإن لم يقدر على حمله أو لم يستطع الرمي عنه غيره ثم يتحرى المريض وقت الرمي فيكبر لكل حصاة تكبيرة، وليقف الرامي عنه عند الجمرتين للدعاء، وحَسَنٌ أن يتحرى المريض ذلك الوقت فيدعو وعلى المريض الدم؛ لأنه لم يَرْمِ وإنما رمى عنه غيره انتهى. ولأشهب في الموازية: أنه لا دم عليه. ولابن القاسم في الموازية: لا يقف الرامي عن المريض عند الجمرتين خلاف ما في المدونة. وروى ابن عبد الحكم في مختصره إن كان المريض يرجو الراحة في أيام التشريق فليؤخر الرمي فيهما بينه وبين غروب الشمس من آخر يوم من أيام منى، وإن لم يرج ذلك ولا له من يحمله استناب من يرمي عنه. الباجي: وهو يحتمل الوفاق للمدونة، وأنه إن وجد من يحمله وهو يطيق الرمي عَجَّل، وإن لم يجد من يحمله ولم يَرجُ إفاقة استناب، وإن رجاها لم يعجل، ويحتمل الخلاف ويكون فيما إذا رجا الإفاقة قولان. الأبهري: وإنما وجب الدم على مذهب المدونة لعدم تحقق العذر؛ لأنه لا يقدر، ولو تحامل لقدر، وأنكره الباجي؛ لأن بعض الناس لا يشك أحد في عدم قدرته. الأبهري: ويرجع في عدم القدرة إلى غلبة ظنه. ونص اللخني على أنه إن خشي زيادة مرضه أنه يستنيب. بِخِلافِ صَغِيرٍ لا يُحْسِنُ الْرَمِيُّ فَيَرْمَي عَنْهُ وَلا دَمَ، فَإِنْ لَمْ يُرْمَ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَرْمِ مَنْ يُحْسِنُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحَجَّهُمَا .... قوله: (بِخِلافِ صَغِيرٍ) إنما لم يلزم الدم؛ لأن المخاطب بالرمي في الحقيقة هو الولي، بخلاف المريض فإنه هو المخاطب بسائر الأركان، وفي حكم الصغير المجنون. والضمير في (أَحَجَّهُمَا) عائد على الصغير الذي لا يحسن الرمي والصغير الذي يحسنه. وهل يقف الرامي عن الصبي في الجمرتين الأولتين؟ ذكر ابن بشير وغيره قولين. اللخمي: ويختلف في الوقوف عن المجنون والمغمى عليه قياساً على الصبى. واقتصر التونسي على القول بالوقوف عن الصبى، وإنما حكى الخلاف في المريض.

فَإِنْ صَحَّ قَبْلَ الْفَوَاتِ صَارَ كَالنَّاسِي قال في المدونة: فإن صح ما بينه وبين غروب الشمس من آخر أيام الرمي أعاد ما رمى به عنه كله في الأيام الماضية وعليه الدم، ولو رمى عنه العقبة يوم النحر ثم صح آخر ذلك اليوم، أعاد الرمي ولا دم عليه انتهى. وهذا معنى قوله: (كَالنَّاسِي) أي فإن كان يوم جمرة العقبة فلا شيء عليه وإلا فعليه دم. وذكر في النوادر خلافاً في الناسي، وروى ابن وهب فيمن نسي الرمي يوماً أو يومين ثم ذكر أنه يرمي في اليوم الثالث لليومين الماضيين ويهدي. ابن وهب: إلا أن تخرج أيام الرمي، فيهدي كما لو تعمد وإن لم تخرج، وقال ابن حبيب: إن نسي الجمار إلى بعد يوم النحر رمى أي ساعة ذكر، ولا دم عليه، إلا أن يذكر ذلك بعد الصدر وزوال أيام منى فليهدي، فإن ذكر بعد أن صدر قبل غروب الشمس رجع ورمى وعليه دم؛ لأنه رمى ما بعد الصدر. ابن عبد السلام: وانظر هل يتخرج في الناسي قول أشهب الذي تقدم في المريض؟ والأقرب عدم ذلك؛ لأن المريض بذل وسعه وليس الناسي كذلك. وحيث قلنا إنه يقضي فيرمي الجمرة الأولى عن اليوم الأول ثم الثانية ثم الثالثة ثم عن اليوم الثاني ثم الثالث كذلك. ولا يرمي للأولى ثلاث مرات. فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يََقْدِرُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَفِي اسْتِنَابَتِهِ قَوْلان هذان القولان ذكرهما ابن بشير، ولعلهما ما ذكرناه عن المدونة والمختصر، ويكون كلامه إنما يأتي على أن ما في المختصر مخالف للمدونة. والظاهر أنه إذا رجا الصحة قبل الغروب من أول يوم لا يختلف في تأخيره وعدم استنابته.

وَيَبْتَدِأُ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مِنىَ فَيَرْمِيهَا مِنْ فَوْقِهَا ثُمَّ يَتَقَدَّمُ أَمَامَهَا فَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ، وَفِي رَفْعِ يَدَيْهِ قَوْلانِ، وَضَعَّفَ مَالِكٌ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي جَمِيعِ الْمَشَاعِر، وَالاسْتِسْقَاءِ وَقَدْ رُئِيَ رافعاً يَدَيْهِ فِي الاسْتِسْقَاءِ وَقَدْ جَعَلَ بُطُونَهُمَا إِلَى الأَرْضِ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ الرَّفْعُ فَهَكَذَا، وَيُكّبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَحْمَدُ اللهُ تَعَالَى وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو بِمِقْدَارِ إِسْرَاعِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يُثَنِّي بِالْوُسْطَى كَذَلِكَ؛ إِلا أَنَّ وُقُوفَهُ أَمَامَهَا ذَاتَ الشِّمَالِ ثُمَّ يُثَلِّثُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ كَذَلِكَ إِلا أَنَّهُ يَرْمِيهَا مِنْ أَسْفَلِهَا فِي بَطْنِ الْوَادِي وَلا يَقِفُ لِلدُّعَاءِ فَتِلْكَ السُّنَّةُ ... هذه الكيفية مستندها الاتباع. وفي البخاري عن ابن عمر أنه يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات يكبر في إثر كل حصاةٍ ثم يتقدم حتى يسهل فيقدم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى فيأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة ويرفع يديه، ويقوم طويلاً ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وروى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، أنه حج مع ابن مسعود، فرءاه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات؛ الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وَفِي رَفْعِ يَدَيْهِ قَوْلانِ) مذهب المدونة عدم الرفع، وفي الحديث الأول دليل على رفع. قوله: ثم (يُثَنِّي بِالْوُسْطَى كَذَلِكَ) أي يرميها من فوقها كالأولى. قال في الجواهر: والذكر والدعاء؛ أي: في الثانية كفعله عند الجمرة الأولى. واختار ابن حبيب أن يكون وقوفه دون الأول؛ لفعل ابن مسعود رضي الله عنه انتهى. وذكر غيره أن ابن مسعود كان يقف في الأولى مقدار قراءة سورة الفاتحة مرتين, وفي الثانية مرة. وفي الموطأ

عن عمر وابنه رضي الله عنهما أنهما كانا يقفان عندهما قدر ما يقرأ الرجل السريع سورة البقرة، وما ذكره من أنه يقف في الثانية ذات الشمال هو الذي ذكره الباجي ونسبه لمالك في المختصر، واقتصر عليه ابن الجلاب وصاحب الكافي والتونسي، وهو الذي ذكره ابن يونس وعزاه لابن المواز. وقال اللخمي: إذا رمى الأولى والوسطى تقدم أمامها. وقال محمد في الوسطى يتقدم أمامها ذات الشمال. ابن عبد السلام: قال غير واحد من الشيوخ: إن مذهب مالك وقوفه في الوسطى كوقوفه في الأولى. والميل ذات الشمال هو مذهب ابن المواز، وإن لم يقف ولم يدع فلا حرج عليه. وقوله في جمرة العقبة: (يَرْمِيهَا مِنْ أَسْفَلِهَا). ابن المواز: ومن لم يصل لزحام الناس فلا بأس أن يرميها من فوقها، وقد فعله عمر لزحام الناس. ثم رجع مالك فقال: لا يرميها إلا من أسفلها، فإن فعل فليستغفر الله سبحانه. وقوله: (وَلا يَقِفُ لِلدُّعَاءِ فَتِلْكَ السُّنَّةُ) ظاهر. الباجي: ويحتمل أن يكون ذلك من جهة المعنى أن موضع الجمرتين الأولتين فيه سعة للقيام لمن يرمي. وأما جمرة العقبة فموضعها ضيق، ولذلك لا ينصرف الذي يرميها من طريقة؛ لأنه يمنع الذي يأتي للرمي، وإنما ينصرف من أعلى الجمرة. وَيُكْثِرُ الْحَاجُّ بِمِنىَ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى وَقْتاً بَعْدَ وَقْتٍ ابن حبيب: وأفضل ذلك أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد. زفي الموطأ أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه خرج الغد من يوم النحر حين ارتفع النهار شيئاً، فكبر، فكبر الناس بتكبيره، ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار، فكبرن فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبر، فكبر الناس بتكبيره، حتى يتصل التكبير، ويبلغ البيت، فيعلم أن عمر قد خرج يرمي. قال في النوادر: وبين منى ومكة ستة أميال.

وَأَهْلُ مَكَّةَ فِي التَّعْجِيلِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الأَصَحّ القولان لمالك. روى عنه ابن القاسم أنه قال: لا أرى ذلك لهم، إلا أن يكون لهم عذر من تجارة أو مرض. ابن القاسم في العتبية: وقد كان قال لي قبل ذلك: لا بأس به، وهم كأهل الآفاق وهو أحب إلى. ودليله عموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. فرع: ولا خلاف في جواز التعجيل لأهل الآفاق إن لم يبيتوا بمكة. وكذلك إن باتوا بها على المشهور خلافاً لابن الماجشون وابن حبيب في قولهما: ومن بات منهم بمكة فقد خرج من سنة التعجيل، ووجب عليه أن يرجع فيرمي مع الناس في اليوم الثالث. ابن حبيب: وإن لم يرجع فعلية الدم. ابن راشد: وعلى قول ابن حبيب يلزمه دم آخر؛ لأجل ترك المبيت، ونحوه للباجي. وَرَمْيُ الثَّالِثِ، وَمَبِيتُ لَيْلَتِهِ سَاقِطٌ عَنِ الْمُتَعَجِّلِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَرْمِي عَقِيبَ رَمْيهِ فِي الثَّانِي ..... تصوره ظاهر. قال في النوادر بعد قول ابن حبيب: وليس هذا قول مالك ولا أعلم من ذهب إليه من أصحابنا انتهى. وذكر بعض أصحابنا المتأخرين أنه يدفن الحصى إذا تعجل وليس بمعروف. وَقَالَ مَالِكٌ: لا يُعْجِبُنِي لإِمَامِ الْحَاجِّ أَنْ يَتَعَجَّلَ هذا لمالك في الموازية [194/ ب] وهو ظاهر؛ لأنه متبوع فلو تعجل لتبعه أكثر الناس، ويقتدي به من لم تكن نيته التعجيل فيؤدي إلى تضييع إحياء تلك الشعيرة في اليوم الثالث.

وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فِي الثَّانِي فَلا يَتَعَجَّلُ لأن الليلة إنما أمر بالمقام فيها من أجل رمي النهار، فإذا غربت الشمس فكأنه التزم رمي اليوم الثالث، ولأنه لا يصدق عليه أنه تعجل في يومين. قال في النوادر: ومن الموازية: فإذا جاوز العقبة ثم غربت الشمس فلا شيء عليه، وإن شاء طاف ليلاً وانصرف، ومن أفاض وليس شأنه التعجيل فبدا له بمكة أن ينفر فذلك له ما لم تغرب عليه الشمس بمكة، فإن غابت فليقم حتى يرمي من الغد، ولو رجع إلى منى ثم بدا له قبل الغروب أن يتعجل فذلك له وهي له وهي السنة. ومنه ومن العتبية ابن القاسم عن مالك: ومن تعجل فأتى فأفاض وانصرف وكان ممره على منى فلم ينفر عن منى حتى غابت الشمس فلينفر ولا يضره. قال في كتاب محمد: وكذلك لو لم يكن ممره، إلا أنه نسي بها شيئاً فرجع به فغابت عليه الشمس فيها فلينفر ولا يضره انتهى. وَأُرَخِّصُ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَنْصَرِفُوا بَعْدَ جَمْرَةِ يَوْمِ النَّحْرِ وَيَاتُونَ ثَالِثَةً فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَيَرْمُونَ بِاللَّيْلِ .... يعنى: ويجوز لرعاة الإبل إذا رموا جمرة العقبة أن يخرجوا عن منى إلى رعيهم، ويقيمون ليلتهم وغدوهم، ثم يأتون من الغد في اليوم الثالث من يوم النحر، فيرمون لليوم الذي مضى وليومهم الذي هم فيه ثم يتعجلون إن شاءوا أو يقيمون. وقال محمد ابن المواز: ويجوز لهم ذلك ويجوز لهم أن يأتوا ليلاً ويرمون ما فاتهم ذلك. وَلِلرَّمْيِ وَقْْتُ أَدَاءٍ وَقَضَاءٍ وَفَوَاتٍ، فَأَدَاءُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَاللَّيْلُ قَضَاءٌ لا أَدَاءٌ عَلَى الْمَشْهُورِ فَلَوْ رَمَى قَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَ وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَأَفْضَلُهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ ..... مراده بـ (أَدَاءٍ) ما له أن يؤخره فيه ولا يلزمه دم، وبـ (القضاء) ما لا يجوز له التأخير إليه، وإن فعل فعليه دم، وبـ (الفوات) ما لا يرمي فيه بوجه. وفي جعل الفوات وقتاً للرمي نظر.

وقوله: (فأداء جمرة العقبة من طلوع الشمس إلى الغروب) ظاهر (والليل قضاء على المشهور) فيلزم الدم. والقولان في المدونة. والمشهور هو اختيار ابن القاسم. ابن يونس: ولم يختلف قول مالك فيمن ترك جمرة العقبة إلى الليل أن عليه الدم، وإنما اختلف قوله إذا ترك بعضها وقاله غير واحد من القرويين. وقال بعضهم: يدخله الاحتلاف. والأول أبين. وأما يوم ثاني النحر فسواء ترك جمرة واحدة أو الثلاث أن اختلاف قول مالك هل يدخله في وجوب الدم عليه أو لا؟ وهو في الأمهات بين. ووقع في بعض المختصرات إنما اختلف قول مالك في ترك جمرة واحدة فقط انتهى. وقوله: (وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ) أي: لا فرق بينهم وبين الرجل. وقوله: (وَأَفْضَلُهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوّالِ) ابن عبد البر: أجمعوا أن وقت الاختيار في جمرة العقبة من طلوع الشمس إلى زوالها وأنه إن رماها قبل الغروب فلا شيء عليه، إلا أن مالكاً قال: يستحب له إن ترك جمرة العقبة حتى أمسى أن يهرق دماً يجيء به من الحل. ابن عبد السلام: ولا يريد بقوله: أمسى ما بعد الغروب بل العَشِي، وذلك لأنه أعقبة بقوله: واختلفوا إذا رماها بعدما غابت الشمس. ووقع لابن القاسم في العتبية: إذا زالت الشمس يوم النحر فقد فات الرمي إلا لمريض أو ناس، وهو محمول على فوات وقت الفضيلة. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَمِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ، فِي اللَّيْلِ الْقَوْلانِ وَأَفْضَلُهُ عَقِبَ الزَّوَال تصوره ظاهر. و (ال) في القولين راجعة إلى أنه في الليل هل هو قضاء أو لا؟ وقوله: (عَقِبَ الزَّوَالِ) أي: قبل صلاة الظهر، قاله في الموازية والواضحة. ابن المواز: ولو رمى بعد أن صلى الظهر أجزأه. زاد في الواضحة: وقد أساء.

وَالْقَضَاءُ فِي الْجَمِيعِ إِلَى آخِرِ الرَّابِعِ، وَإِلا فَاتَ وَلا قَضَاءَ لِلرَّابِعِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: قَضَاءُ كُلِّ يَوْمٍ ثَانِيَةٌ ..... يعني: أن من ترك جمرة أو أكثر سواء كانت جمرة العقبة أو غيرها حتى خرج وقتها- قضاها بعد ذلك أن تغرب الشمس من اليوم الرابع. وإن لم يقض حتى غربت الشمس من الرابع فقد فات القضاء. وهذا معنى قوله: (وَإِلا فَاتَ) وهذا هو المشهور. وقال أبو مصعب: من نسي جمرة رماها متى ما ذكر كمن نسي صلاة. وعلى قوله فإنما يكون للرمي وقتان؛ وقت أداء ووقت قضاء. وقوله: (وَقَالَ الْبَاجِيُّ: قَضَاءُ كُلِّ يَوْمٍ ثَانِيَةٌ) ووقع هكذا في بعض النسخ بنون وياء بعد الألف، وفي بعضها: (تالية) بلام وياء بعد الألف. ونقل ابن الأنباري أنهما بمعنى واحد. ابن عبد السلام: وفيه نظر يمنع من ذكره عدم وجود هذا الكلام في المنتقى تصريحاً أو تلويحاً وكذلك قال ابن هارون: أنه لم يره، وإنما حكى الباجي في المنتقى المشهور، ولعله اطلع عليه في غير المنتقى. خليل: ويمكن أن يكون النظر الذي أشار إليه ابن عبد السلام هو أنه باللام يكون المراد الليل لتلوه اليوم، وبالنون اليوم الآتي بعد يوم الفوات والله أعلم. فَمَتَىَ بَدَأَ بِالْحَاضِرَةِ أَتَى بِالْمَنْسِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي يَوْمِهَا، وَأَعَادَهَا، وَلا يُعِيدُ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الصَّلاةِ .... مثاله: لو نسي الجمرة الأولى في ثاني النحر ورمى اليوم الثالث واليوم الرابع، فإنه يأتي بالمنسية والجمرتين اللتين في يومها (وَأَعَادَهَا) أي: المفعولة في اليوم الرابع (ولم يعد ما بينهما) أي: بين المنسية [195/أ] والحاضرة، وهى جمار اليوم الثالث لخروج وقته. ومثاله في الصلاة لو نسي الصبح، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم ذكر الصبح، فإنه يصلي الصبح، ويعيد المغرب والعشاء؛ لبقاء وقتهما، ولا يعيد الظهر والعصر لخروج وقتهما، وفي قوله: (فِي يَوْمِهَا) فائدة؛ لأنه لو اقتصر على قوله: (وَمَا بَعْدَهَا) لتوهم في

المثال المفروض أنه يعيد جمرات اليوم الثالث. وعلى هذا فقوله: (وَلا يُعِيدُ مَا بَيْنَهُمَا) يجري مجرى البيان، لقوله: (فِي يَوْمِهَا) والضمير في (بَعْدَهَا) وفي (يَوْمِهَا) عائد على (المنسية) والضمير في (أَعَادَهَا) عائد على الحاضرة. والإشارة بقوله: (كَمَا فِي الصَّلاةِ) إلى مجموع شيئين إعادة الحاضرة وعدم إعادة ما بينهما. وما ذكره من عدم إعادة رمي اليوم الثالث هو المشهور. وفي الجواهر قول أنه لا يعيد. فإن قلت: لِمَ يُعِيدُ ما بعد المنسية من يومها والفرض أنه مفعول قد خرج وقته، ألا ترى أنه لا يعيد في الصلاة ما فعله بعد المنسية من ذلك اليوم إذا خرج وقته؟! فالجواب أن هذا مبني على وجوب الترتيب في رمي الجمار مطلقاً، ولو كان الإخلال به على سبيل السهو. التونسي: وانظر إذا نسي حصاتين من الأولى فذكر من الغد وقد رمى ولم يكن للغروب إلا اليسير، فرمى الحصاتين ورمى الثانية والثالثة ولم يبق من النهار ما يعيد فيه من رمي يومه هذا إلا جمرة واحدة يجعلها الأخيرة وهي العقبة لتأكدها أو يكون لمَّا أدرك بعض الوقت صار كأنه مدرك لجميعها، إذا قدرنا أن الجمار كلها كجمرة واحدة، كمن صلى ما فاته وبقي له قدر ركعة أنه يقضي العصر كلها، أو يقال: لا يلزمه شيء؛ لأنه لما لم يدرك الجمار الثلاث قبل غروب الشمس أشبه ما لو ذكر ذلك بعد الغروب، إذ الرمي لا يكون في هذا المعنى بالليل، فانظر في ذلك. فائدة: قد تقدم أن للرمي ثلاثة أوقات. ويزاد على ذلك رابع، وهو وقت استدراك لحصول الترتيب وهو ما نحن فيه. وَإِذَا نَسِيَ الأُولَى أَوِ الْوُسْطَى أَعَادَ مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَشْهُور يعني: إن نسي الجمرة الأولى أو الوسطى فالمشهور أنه يأتي بما نسيه ويعيد ما بعده. وتبع المصنف في ذكر القولين وتعيين المشهور، ابن بشير قال: وسبب الخلاف هل

الترتيب من باب الأولى أو من باب الأوجب؟ وعلى هذا فيتفق على الأمر بالإعادة، وإنما يختلف هل ذلك على الوجوب أو الاستحباب؟ وهكذا قال ابن راشد. وهذا الفرع محمول على ما إذا ذكر في يوم الجمرة المنسية؛ لأنه قد تقدم الكلام على ما إذا خرج الوقت ولأنه فرض هذا الفرع في الجواهر كذلك. خليل: ولم أر في ابن يونس واللخمي والبيان إلا وجوب الإعادة، وهو مبني على وجوب الترتيب في الجمار. واقتصر الباجي على وجوب الترتيب، فقال: الترتيب بين الجمار واجب كركعات الصلاة. فَلَوْ كَانَتْ حَصَاةً لم يَكْتَفِ بِرَمْيِ حَصَاةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَثَالِثُهَا إِنْ كَانَ في يَوْمِ الْقَضَاء اكْتَفَى .... أي: فلو كان المنسي حصاه من إحدى الثلاث، وقد ذكر من يومه أو من الغد لم يكتف برمي حصاة على المشهور بل لابد من إعادة الجمرات كلها. وقيل: يكتفي برمي حصاة، ويعتد بست في الجمرة الأولى بناءً على أن الفور في الجمرة واجب أو مستحب. وذكر المصنف أن المشهور عدم الاكتفاء، وفيه نظر، وقد صرح الباجي وابن بشير بأن الاكتفاء هو المشهور، وكذلك قال ابن راشد وغيره، وبه صرح في الجواهر. قوله في القول الثالث: (إِنْ كَانَ في يَوْمِ الْقَضَاء اكْتَفَى) عكس المنقول، وممن نقل العكس الباجي وابن بشير وابن شاس وابن راشد، وابن عبد السلام. ووقع في بعض النسخ: (إن كان يوم القضاء لم يكتف) وهو الصواب، وهو قول ابن القاسم في المدونة. ووجهه أنه لو قيل بالاكتفاء في يوم القضاء يلزم أن يكون بعض الجمرة أداء وبعضها قضاء، بخلاف يوم الأداء. فإذا تقرر هذا علمت أن الترتيب والفور هنا على العكس من الوضوء؛ لأن الترتيب هنا واجب والفور ليس بواجب والله أعلم.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ مَوْضِعَهَا أَعَادَ جَمَرَاتِ الْيَوْمِ كُلَّهَا إِلا الأُولَى، فَإِنَّهُ تُجْزِئُهُ حَصَاةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ: وَالأُولَى .... يعني: أن من ترك حصاة ينقسم إلى قسمين، الأول: أن يذكر من أي جمرة هي، وقد تقدم حكمه. والثاني: أن لا يعرف من أي جمرة هي، والكلام الآن فيه، والقولان في المدونة ونصها: قال ابن القاسم: وإن ذكر أنه نسي حصاة من أول يوم لا يدري من أي جمرة، فقال مالك: يرمي الأولى بحصاة ثم يرمي الوسطى والعقبة بسبع سبع، وبه أقول. ثم قال: يرمي كل جمرة بسبع سبع انتهي. وما شهره المصنف هنا صحيح. وقد صرح الباجي وغيره بمشهوريته. وهو يخالف ما شهره المصنف في الفرع السابق. ابن بشير: وتردد اللخمي هل يجري هذان القولان في المسألة الأولى إذا علم موضعها أو لا؟ وهو مقتضى الكتاب. والفرق أنه إذا علم الموضع قصد بتلك الحصاة سد ذلك الموضع. وأما إذا لم يعلم لم تحصل له صورة يعول فيها على الترتيب فأعاد الجميع انتهى. خليل: وفيه نظر، والظاهر أن لا فرق في ذلك؛ لأنه إذا رمى الأولى بحصاة، فإن كانت منها فقد حصل له ما يعول عليه في الترتيب، وإن لم تكن منها فالأولى تامة لا خلل فيها قاله ابن راشد. فرعان: الأول: قال الأبهري: ومثل هذا الفرع من بقيت في يده حصاة لا يدري موضعها. الثاني: وروى ابن المواز عن ابن القاسم أنه إن رمى الأخيرة، ثم الوسطى، ثم الاولى أعاد الوسطى ثم الأخيرة، ولو رمى الأولى ثم الأخيرة [195/ب] ثم الوسطى أعاد الأخيرة. التونسي: لم يضره تفرقته بين الأولى والثانية بما فعل من رمي الأخيرة؛ لأنه يتصل عمله برمي الثانية بعد الأولى لإدخاله بينهما الثالثة. فانظر هل تكون تفرقته بين الأولى والثانية

كتفرقته بين عمل الأولى إذا رمى بعض الثانية قبل تمام الأولى، على القول الذي يقول في هذا أنه يبتدئ لدخوله في الثانية قبل تمام الأولى انتهى. ابن يونس: قال ابن المواز: وإن رمى الجمار كلها، بحصاة حصاة كل جمرة حتى أتمها بسبع سبع فليرم الثاينة بست ثم الثالثة بسبع انتهى؛ لأن الأولى صحت، ولأن التفريق الواقع بين حصياتها يسير، وصح من الثانية واحدة وهي الأخيرة التي رماها بعد تمام الأولى، وأبطل الست لوقوعها قبل تمام الأولى وكذلك أبطل الثالثة كلها لوقوعها قبل كمال الثانية، والترتيب بين الثلاث شرط ولم يحصل. وَفِيهَا: وَلَوْ رَمَى بِخَمْسٍ خَمْسٍ ثُمَّ ذَكَرَ فِي يَوْمِهِ اعْتُدَّ بِالْخَمْسِ الأُوَلِ خَاصَّةً وَكَمَّلَ وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ .... وهذا مما يدل على أن المشهور في المسألة المتقدمة وهي قوله: (فلو كانت حصاة لم يكتف برمي حصاة) غير ما شهره المصنف. وقوله: (فِي يَوْمِهِ) احترازاً من خروجه، فإنه يلزمه حينئذ. وقوله: (اعْتُدَّ بِالْخَمْسِ) أي: فيكمل تلك الجمرة بحصاتين ثم يأتي بالجمرتين بعد ذلك، وما ذكره في المدونة مبني على سقوط الفور، وبالجملة فهذا الفرع مشارك للفرع المتقدم، فليجر عليه والله أعلم. وَلَوْ رَمَى كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعٍ سَبْعٍ- عَنْهُ وَعَنْ صَبِيٍّ- أَجْزَأَه يعني: إذا رمى عنه بسبع، ثم رمى عن صبي بسبع، أو بالعكس، ثم فعل في الجمرتين الأخيرتين هكذا، فإن ذلك يجزئه، هكذا قاله عبد الملك، قال: وقد أساء. ولو رمى رمياً واحداً عنه وعن الصبي فذكر سند أنه يختلف إذا رمى إنسان عنه وعن مريض هل يجزئ عن نفسه، وعن المرمي عنه، أو لا يجزئ عن واحد منهما؟

خليل: ولعله أشار إلى تخريج هذا على الخلاف فيمن طاف بصبي ينوي به عنه وعن الصبي، وأشار غيره إلى أنه لا يدخله الخلاف الذي في الطائف عنه وعن الصبي، قال: لأنهما هناك طافا معاً أحدهما محمول والآخر بنفسه، وأما هنا فقد وجب عليهما سبعاً سبعاً، لِكُلٍ جمرة، فلما اشتركا في فعل واحد بطل، وقد اقتصر في الجلاب على أنه لا يجزئ عن الرامي ولا عن المرمي عنه. وَلَوْ كَانَتْ حَصَاةً حَصَاةً عَلَى الْمَشْهُور يعني: أن المشهور الإجزاء. ولو رمى عنه حصاة ثم عن الصبي. حصاة، وكذلك إلى الآخر. والشاذ لابن القاسم وهو خاص بالصورة الثانية. قال: ويعتمد بحصاة من الأولى. ابن يونس: وقوله غير صحيح؛ لأنه تفريق يسير انتهى. وقول ابن المواز المتقدم فيما إذا رمى الجمرات الثلاث بحصاة حصاة قريب من المشهور والله أعلم. وَفِي تَرْكِ الْجَمِيعِ أَوْ جَمْرَةٍ أَوْ حَصَاةٍ هَدْيٌ ابن عبد السلام: ما قاله المؤلف من لزوم الهدي هو ظاهر المذهب. وحكى ابن المواز عن مالك فيمن ذكر بعد أيام منى- ذبح شاة، فإن ذكر جمرة ذبح بقرة. محمد: وإن كانت الجمار كلها فبدنة انتهى. ولفظ المدونة: وإن ترك رمي جمرة أو الجمار حتى مضت أيام منى فحجه تام وعليه بدنه، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة، فإن لم يجد صام. وأما في حصاة فعليه دم انتهى. وعلى ما قاله ابن عبد السلام يكون كلامه في المدونة محمول على الأول. وقال عبد الملك فيمن ترك حصاة إلى ست فشاة، وإن كانت سبعاً فهو كالجميع فعليه بدنه.

فرع: ولا يبطل الحج بفوات شيء من الجمار. وقال عبد الملك: من ترك رمي جمرة العقبة أول يوم ورماها من الليل أو من الغد بغير نية لقضاء ما نسي –فإنه يجزئه، وإن لم يرمها في شيء من أيام الرمي، بطل حجه، وخالف في ذلك أصحابه. وقال عنه ابن حبيب: إن لم يرمها يوم النحر حتى أمسى فعليه دم ويرميها في ليلته، وإن ذكرها في اليوم الثاني أو قبل انقضاء أيام منى رماها وعليه بدنة، فإن لم يذكر حتى زالت أيام منى بطل حجه. وَيَجِبُ الدَّمُ مَعَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ ابن شاس: ولا خلاف في وجوب الدم مع فوات القضاء، ولا في سقوطه مع الأداء، ويختلف في وجوبه وسقوطه مع القضاء انتهى. والقولان لمالك. وحكى الباجي وغيره قولين آخرين؛ أحدهما: التفرقة فإن ذكر قبل النفر فرمى فلا دم عليه، وإن ذكر بعد النفر رجع فرمى وعليه دم، قاله ابن حبيب. والثاني: إن تعمد ذلك فعليه الدم، وإن كان ناسيا فلا دم، قاله ابن وهب. وَلِلْحَجِّ تَحَلُّلانِ أَحَدُهُمَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالصِّيْدَ، وَيُكْرَهُ الطِّيبُ فَلَوْ تَطَيَّبَ فَلا فِدْيَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ .... يعني: أن للحج تحللين أصغر وأكبر. فالأصغر رمي جمرة العقبة، ويتحلل به إلا من النساء والصيد والطيب لكن يجتنب الأولين على الوجوب، وأما الطيب ففي المدونة: وأكره لمن رمى جمرة العقبة أن يتطيب حتى يفيض، فإن فعل فلا شيء عليه لما جاء فيه. ومقابل المشهور بوجوب الفدية إنما يتحقق إذا كان المنع منه على جهة التحريم. قال في المدونة: فإذا رمى جمرة العقبة فبدأ فقلم أظفاره وأخذ من لحيته أو شاربه واستحد أو طلى

بالنورة قبل حلق رأسه فلا بأس بذلك، ويستحب له إذا حل من إحرامه أن يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره من غير إيجاب، وفعله ابن عمر انتهى. [196 / أ] وَالْحِلاقُ أَوِ التَّقْصِيرُ تَحَلُّلِّ وَنُسُكٌ يعني: أن الحلاق والتقصير يجمع أمرين، وهما النسك والتحليل. ومعنى كونه نسكاً أنه عباده يطلب إيقاعها في الحج، ويظهر كونه نسكاً بما قاله مالك فيمن لم يقدر على حلق رأسه ولا على التقصير من وجع به فعليه هدي بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة، فإن لم يجد صام، ويظهر كونه تحللا بأنه لا يجوز الوطء قبله، ولو بعد طواف الإفاضة. وَالْحَلْقُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنىً أَفْضَلُ وَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى بَلَغَ بَلَدَهُ حَلَقَ وَأَهْدَى لا إشكال أن الحلق بمنى يوم النحر أفضل. وفي أبي داود أنه عليه الصلاة والصلاة رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذبح ثم دعا بالحلاق. وكلام المصنف هنا كقوله في المدونة: والحلاق يوم النحر بمنى أحب إلي وأفضل، وإن حلق بمكة في أيام التشريق أو بعدها، أو حلق في الحل أيام منى فلا شيء عليه. فإن أخر الحلاق حتى رجع إلى بلده جاهلاً أو ناسياً حلق أو قصر وأهدى انتهى. التونسي: وقوله: فإن أخر ذلك حتى بلغ بلده فعليه دم. يريد أو طال ذلك. وقيل: إن خرجت أيام منى ولم يحلق فعليه هدي. ابن يونس: وقال أشهب: إن حلق في أيام الرمي فلا شيء عليه، وإن حلق بعدها أحببت له أن يهدي. فإن قلت: هل يقيد وجوب الدم بما إذا أخره إلى الحرم كطواف الإفاضة؟ قيل: لا؛ لأن الباجي نقل عن ابن القاسم ما بنفي هذا التقييد، ولفظه: قال ابن القاسم: إذا تباعد ذلك بعد الإفاضة أهدى. وليس لذلك حد، وإن ذكر هو بمكة قبل أن يفيض فليرجع حتى يحلق ثم يفيض.

فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ فِعْلِهِ أَهْدَى بِخِلافِ الصَّيْدِ يعني: فإن وطئ قبل الحلاق فعليه هدي ولو طاف طواف الإفاضة. وقوله: (بِخِلافِ الصَّيْدِ) يعني: بخلاف ما لو قتل صيداً بعد الإفاضة، وقبل الحلق، فإنه لا يجب عليه جزاؤه؛ لأن تأخير الحلاق لا يمنع من قتل الصيد. وَالآخَرُ بِطَوَافِ الإِفَاضَةِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ إِنْ حَلَقَ يعني: والتحلل الثاني يكون بطواف الإفاضة، ويحل له ما بقي وهو النساء والصيد والطيب، ولا يضر بقاء الجمار والمبيت اتفاقاً. وقوله: (إن حلق) ظاهر، وقد تقدم. فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ بِخِلافِ الصِّيْدِ عَلَى الْمَشْهُورِ قوله: (بِخِلافِ الصِّيْدِ) أي: فلا جزاء فيه إذا أصابه قبل الحلق. والشاذ في الجزاء. فإن قلت: ظاهر ما حكاه أولاً أنه لا جزاء في الصيد اتفاقاً وحكى هنا الخلاف، فالجواب: قال ابن رشد: حسن الخلاف هنا لبقاء أيام الرمي وهي محل للخلاف، وهناك قد خرجت أيام الرمي، فصار في حكم القضاء فضعف لذلك. ولا يَتِمُّ نُسُكُ الْحَلْقِ إِلا بِجَمِيعِ الرَّاسِ عَلَى المَشْهُورِ لفعله عليه الصلاة والسلام سند: والخلاف في استيعاب الرأس حلقاً كالخلاف في استيعابه مسحاً في الوضوء. وَالتَّقْصِيرُ يُجْزِئُ وَهُوَ السُّنَّةُ لِلْمَرأَةِ، وَسُنَّتُهُ فِي الرَّجُلِ أَنْ يَجُزَّ مِنْ قُرْبِ أُصُولِهِ، وَأَقَلَّهُ أَنْ يَاخُذَ مِنْ جَمِيعِ الشَّعَرِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ فَكَالْعَدَمِ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: أن الحلاق للرجل أفضل، ويكفيه التقصير. والمرأة سُنَتُهَا التقصير ويكره لها الحلاق، هكذا حكى البلنسي في شرح الرسالة. وحكى اللخمي أن الحلق للمرأة ممنوع؛ لأنه مُثلَة لها. أما الصغيرة فيجوز لها الحق والتقصير.

اللخمي: وكذلك الكبيرة إذا كان برأسها أذى والحلاق صلاح لها. وقوله: (وَسُنَّتُهُ فِي الرَّجُلِ أَنْ يَجُزَّ مِنْ قُرْبِ أُصُولِهِ) كذا نص عليه مالك في الموازية؛ لأن فيها: قال مالك: ليس تقصير الرجل أن يأخذ من طرف شعره، ولكن أن يجز جزاً، وليس مثل المرأة، وإن لم يجزه وأخذ منه فقد أخطأ ويجزئه. الأبهري: ومعنى ذلك أن يأخذ منه ما يقع عليه اسم التقصير، وليس كذلك بأن يأخذ اليسير من شعر رأسه. الباجي: وفيه نظر؛ وذلك لأنه منع أن يفعل من ذلك ما تفعله المرأة يقع عليه اسم التقصير ولو كان الذي يأخذه من أطراف شعره لا يقع عليه اسم التقصير لم يجزه، وقد قال مالك إنه يجزئه، وإنما أراد المبالغة في ذلك على وجه الاستحباب. انتهى. وظاهر قوله في المدونة: وإذا قصر الرجل فليأخذ من جميع شعر رأسه، وما أخذ من ذلك أجزأه خلاف ما في الموازنة. وقد صرح التونسي وابن يونس بأن ما في الموازنة مخالف لما في المدونة، وكلام المصنف ظاهر في موافقة الموازية. قوله: (فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ فَكَالْعَدَمِ عَلَى الْمَشْهُورِ) ابن عبد السلام وابن هارون: القول بالإجزاء لم نجده منصوصاً. وقد تقدم قول سند أن الخلاف في استيعاب الرأس حلقاً، كالخلاف في استيعابه مسحاً في الوضوء، وهذا يحتمل التخريج والنص. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ؛ لِتَصْمِيغٍ أَوْ يَسَارَةٍ أَوْ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْحَلْقِ أي: فإن لم يمكن التقصير؛ لتصميغ– وهو أن يجعل الصمغ في الغاسول ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام – أو لقصر الشعر جداً، أو عدم الشعر تعين الحلق، بأن يمر الموسى على رأسه. قال في المدونة: ومن ضفر أو عقص أو لبد فعليه الحلاق. التونسي: الحلاق على هؤلاء واجب. وفي قوله المصنف: (إن لم يمكن لتصميغ نظر) لإمكان أن يغسله ثم

يقصر، وإنما علل علماؤنا تعين الحلاق في حق هؤلاء بالسنة. ويحقق لك ذلك أن المرأة لو لبدت فليس عليها إلا التقصير، قاله في الموازية. وَقَالَ فِي الْمَرأَةِ تَاخُذُ قَدْرِ الأُنْمُلَةِ أَوْ فَوْقَهَا، أَوْ دُونَهَا قَلِيلاً هكذا رواه ابن حبيب عن مالك. وَالنُّورَةُ تُجْزِئُ، وَقِيلَ لا هذا هو مذهب المدونة. وقال أشهب: لا تجزئ؛ لأن المحل محل تعبد، فيقتصر فيه على ما ورد واختاره اللخمي. تنبيه: قال مالك في الموازية في صفة الحلاق: والشأن [196 / ب] أن يغسل رأسه بالخطمي والغاسول، وكره ابن القاسم ذلك للمعتمر، وليس بخلاف؛ لأن الحاج قد تحلل بالرمي والمعتمر لم يحصل له تحلل. ابن حبيب: وإذا بدأ باليمين، ويبلغ الحلاق –يريد: وبالتقصير – إلى عظم الصدغين، منتهى طرف اللحية. ابن راشد: وفيه نظر؛ لأنه من ناحية الخلع. وَمَنْ رَجَعَ مِنْ مِنىً نَزَلَ بِأَبْطَحِ مَكَّةَ حَيْثُ الْمَقْبَرَةُ فَيُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَوَسَّعَ مَالِكٌ لِمَنْ لا يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، وَكَانَ يُفْتِي بِه سِرّاً قال مالك: إذا رجع الناس نزلوا الأبطح فصلوا به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قيل: هو مستحب عند جميع العلماء. ونقل ابن عبد السلام عن بعض الشيوخ أنه قال: اختلف قول مالك في التحصيب هل هو مشروع أم لا؟ وينبني على ذلك هل يقصر الصلاة به أو يتم؟ انتهى. ويقال له أيضاً: المحصب. وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نزل الأبطح ليس بسنة، إنما نزله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج". وروى أحمد في مسنده أنه عليه الصلاة والسلام صلى به الظهر

والعصر والمغرب والعشاء ثم هجع هجعة ثم دخل مكة. والنزول بالمحصب إنما هو لغير المتعجل، وأما من تعجل فلا. رواه ابن حبيب عن مالك. وإذا وافق يوم نفره يوم جمعة فلا أحب للإمام أن يقيم بالمحصب وليدخل مكة ليصلي الجمعة بأهل مكة. قوله: (وَوَسَّعَ مَالِكٌ لِمَنْ لا يُقْتَدَي بِهِ فِيهِ) أي في تركه، وأما من يقتدي به فلا يجب للسنة (وَكَانَ يُفْتِي بِه سِرًاً) أي: لمن لا يقتدي به؛ لأنه يريد أن لا تشاع عنه الفتوى بذلك خيفة أن يسمع الناس فيتركوه. وجوز مالك تقديم الأثقال إلى مكة؛ لأنها في حكم السفر المباح، بخلاف تقدمها إلى منى يوم التروية أو يوم عرفة. وَإِذَا عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدْرِ، وَلا يَرْجِعُ فِي خُرُوجِه الْقَهْقَرَي حُرّاً أَوْ عَبْداً، حُرّاً أَوْ عَبْداً، ذَكَراً أَوْ أُنْثَى، كَبِيراً أَوْ صَغِيراً ... ظاهره أنه يسمى بالاسمين. ابن عبد السلام: والأول أشهر، وكره مالك في الموازية من رواية أشهب أن يقال له طواف الوداع، قال: وليقل الطواف. ويسمى طواف الصدر، إما لكونه يصدر بعده السفر، وإما لكونه يعقب الصدر من منى. ابن السيد: ويقال: وداع بفتح الواو وكسرها. وكأن الوداع بالكسر مصدر وادع وبالفتح الاسم. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت" وليس من شرط الأمر به أن يكون في أحد النسكين بل يؤمر به كل من أراد سفراً، مكياً كان أو غيره. ونبه بقوله: (وَلا يَرْجِعُ فِي خُرُوجِه الْقَهْقَرَي) على خلاف من استحب ذلك. ودليل المذهب الاتباع. قوله: (حُرّاً أَوْ عَبْداً) أي: يؤمر بطواف الوداع العبد والحر والصغير والكبير والذكر والأنثى. وفي الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت فإن آخر النسك الطواف بالبيت.

وَلَوْ عَرَّجَ بَعْدَهُ عَلَى شُغْلٍ خَفِيفٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَمْ يُعِدْهُ، أَمَّا لَوْ أَقَامَ وَلَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَعَادَ ... لأن تعريجه لأجل الشغل الخفيف من ضروريات السفر وكلامه ظاهر. وروي عن مالك إن ودع وأقام إلى الغد فهو في سعة أن يخرج. وَلَوْ بَرَزَ بِهِ الْكَرِيُّ إِلَى ذِي طُوَى فَأَقَامَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ أي: وإن كنا نحكم لذي طوى بأنها من مكة؛ لأنه وداع في العادة؛ إذ قد عهد في السفر أن يقيم المسافر بطرف البلد ثم يسري منه. وَيَرْجِعُ لِلْوَدَاعِ مَا لَمْ يَبْعُدْ، وَرَدَّ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ مثل هذا المالك في المدونة. الباجي: وروي عن مالك فيمن نسي الوداع حتى بلغ مر الظهران لا شيء عليه. ابن القاسم: ولم يحدّ مالك فيه حداً. وأرى إن لم يَخَفْ فوات أصحابه ولا منعه كريه فليرجع، وإلا مضى ولا شيء عليه، ورد عمر رجلا للوداع من مر الظهران. فحذف المصنف المفعول. الباجي: ولعل الذي رده عمر من الظهران، رأي به من القوة على ذلك المكرى، وبين مكة ومر الظهران ستة عشرة ميلا. وقيل: ثمانية عشر. وَلا دَمَ فِي تَرْكِهِ لأنه مستحب. وَيَكْفِي طَوَافُ الْعُمْرَةِ وَالإِفَاضَةِ إِذََا خَرَجَ مِنْ فَوْرِهِمَا لأن الغرض أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف وقد حصل. وهذا كما قلنا: إن داخل المسجد يكتفي بصلاة الفرض، واحترز بقوله: (إِذََا خَرَجَ مِنْ فَوْرِهِمَا) مما لو أقام بعد ذلك فإنه يؤمر بالوداع.

وَمَنْ خَرَجَ لِيَعْتَمِرَ مِنْ نَحْوِ الْجُحْفَةِ وَدَّعَ بِخِلافِ نَحْوِ التَّنْعِيمِ ما ذكره من توديع من خرج إلى الجحفة وشبهها هي رواية ابن القاسم. الباجي: وقال أشهب ليس عليه وداع، وأما من أراد أن يخرج إلى الحل كالتنعيم والجعرانة، فليس عليه طواف الوداع. الباجي: لأن هذا المكان مع قربه إنما يخرج منه للعودة إليه. التونسي: ولو خرج ليقيم ودع. تنبيه: قال الباجي: وقول عمر: إن آخر النسك الطواف بالبيت يحتمل أن يريد أنه آخر النسك الذي تَلَّبَس به الحاج والمعتمر، ويحتمل أن يريد أنه آخر النسك يُعمَل؛ لأنه بعد انقضاء كل نسك وعند فراق البيت، وإلى الأول يتوجه قول أشهب، وأما قول ابن القاسم فمبني على التأويل الثاني. فقد قال أشهب فيمن أفاض ثم عاد إلى منى للرمي ثم صد فليودع، فإذا طاف هذا الطواف الذي هو آخر نسكه ثم أقام أياماً ثم أراد الخروج فليس عليه أن يودع إلا أن يشاء. فجعل طواف الوداع من جملة حجه [197 / أ] على معنى أنه وداع للنسك وليس لمفارقة البيت. وقد قال ابن القاسم فيمن اعتمر إن خرج فليس عليه طواف وداع، وإن أقام فذلك عليه. فجعل الوداع نسكاً كاملاً لمفارقة البيت انتهى. وما قاله مالك وابن قاسم أظهر؛ لسقوطه عن المكي والمقيم انتهى. وَيُحْبَسُ الْكَرِيُّ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِلإِفَاضَةِ لا لِلْوَدَاعِ مَا يُحْكَمُ فِيهِ بِحَيْضِهَا، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الأَمْنِ، فَأَمَّا الآنَ فَيُفْسَخُ .... يعني: إذا حاضت المرأة أو نفست قبل الإفاضة أو الوداع، فإنه يحبس الكري على أن يقيم بسببها لأجل طواف الإفاضة لا الوداع مدة ما يحكم لها بالحيض مع الاستظهار، فيحبس على المبتدئة خمسة عشر يوماً، وعلى المعتادة عادتها والاستظهار.

ابن المواز: واختلف في قول مالك في الحائض، قال مرة يحبس عليها خمسة عشر يوماً وتستظهر بيوم أو يومين، وقال مرة: شهراً ونحوه. اللخمي: وليس هذا بالبين؛ لأنها إذا جاوزت الخمسة عشر أو سبعة عشر يوماً كانت في معنى الطاهر، تصوم وتصلي ويأتيها زوجها، ولا فرق بين الحائض والنفساء. وروي عن مالك في الموازية: لا يحبس على النفساء؛ لأنه يقول: لم أعلم أنها حامل بخلاف الحيض فإنه من شأن النساء. ويحبس عليها في النفاس ستين يوماً. واستحسن في سماع أشهب أن تعينه في العلف، وأما الحامل فلا. التونسي: وحبس الكري إنما يكون في موضع الأمن وأما الخوف فلا يلزمه. وإلى هذا أشار بقوله: (وَقِيلَ: كَانَ ذَلِك فِي الأَمْنِ) وقال اللخمي: ما قاله مالك محمول على عادتهم من الأكرية ما بين مكة والمدينة؛ لأن الرفاق لا تتغير وهي مارة وراجعة، وأما غير ذلك من السفر إلى مصر والشام فإن للجمال أن لا يتأخر، حكاه ابن شاس عن ابد اللباد، وبعضهم عن الشيخ أبي محمد. وينبغي أن يكون تقييداً، وعلى الجبر فيحبس عليها أيضاً من كان ذا محرم منها إلى أن يمكنها السفر قاله الباجي وغيره. وأما الرفقة فقال مالك: إن كان عذرها اليوم واليومين وما أشبه ذلك حبسوا عليها. وإن كان أكثر من ذلك لم يحبسوا. قال مالك في العتبية: وإذا اشترطت عليه عمرة في الحج فحاضت قبلها فلا يحبس على هذه كريها ولا يوضع من الكراء شيئاً. قال في الذخيرة: لأن المقصود الحج. قال في الجواهر: فرع: إذا قلنا برواية ابن القاسم فتجاوز الدم مدة الحبس فهل تطوف أو يفسخ الكراء؟ قولان انتهى. والظاهر أنها تطوف ولا وجه للفسخ؛ لأن مدة الحبس هو أقصي مدة الحيض والنفاس والله أعلم.

الْمَحْظُورُ الْمُفْسِدُ الْجِمَاعُ، وَهُوَ مُفْسِدٌ قَبْلَ الْوُقُوفِ مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ إِجْمَاعاً، وَالنِّسْيَانُ عِنْدَنَا كَالْعَمْدِ ... لمَّا ذكر أفعال الحج أخذ يذكر المحظور المفسد والمحظور المنجبر؛ يعني: أن الإجماع انعقد على أن الوطء إذا وقع قبل الوقوف عمداً يفسد الحج ويوجب الهدي والقضاء، والإجماع على أن الإفساد يستلزم المنع من ذلك بالإجماع، وبقوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ([البقرة: 198]. والنسيان عندنا كالعمد في الإفساد خلافاً للشافعي رضي الله تعالى عنه. فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ إِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مَعاً فِي يَوْمِ النَّحْرِ، أَوْ قَبْلَهُ فَسَدَ، وَإِلا فَلا .... أي: فإن وقع الوطء بعد الوقوف فله أربع صور: أولها: أن يقع قبل الإفاضة ورمي جمرة العقبة يوم النحر أو قبله، أي: ليلة المزدلفة. الثانية: أن يقع قبلها بعد يوم النحر. الثالثة: أن يقع بعد جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة. الرابعة: بالعكس وذكر في الجميع ثلاثة أقوال: الأول: يفسد في الجميع ونسبه ابن عبد السلام لمالك. خليل: ولم أر من نسب لمالك الفساد إذا وطئ بعد طواف الإفاضة وقبل جمرة العقبة، وإنما هو منسوب لعبد الملك وغيره. فنقل اللخمي عن عبد الملك الفساد وإن خرجت أيام منى، وعن ابن وهب وأشهب: إن وطئ يوم النحر بعد الإفاضة وقب الرمي أفسد. ومقتضى كلام الباجي وغيره أنهما وافقا المذهب على عدم الإفساد إذا وطئ قبل الجمرة بعد يوم النحر. اللخمي: لأن الإفاضة قبل الرمي لا تجزئ عندهما فصار بمنزلة من

وطئ قبل الرمي والإفاضة، وكذلك لم أرد من نسب له الفساد إذا وطئ قبلهما بعد يوم النحر، وإنما نقل عن مالك الفساد إذا وطئ قبل طواف الإفاضة وبعد رمي جمرة العقبة رواه أبو مصعب. والقول بأنه لا يفسد في الجميع ذكره ابن الجلاب والقاضي أبو محمد عن مالك. والمشهور مذهب المدونة إن وطئ قبلهما في يوم النحر أو قبله فسد حجه. قوله: (وَإِلا فَلا) أي: وإن لم يطأ قبلهما بل بينهما أو قبلهما بعد يوم النحر لم يفسد. وحاصله أنه يفسد في الصورة الأولى دون البواقي. ولأبي مصعب قول رابع: إن وطئ قبلهما بعد طلوع الفجر فعليه الهدي والعمرة، وإن كان قبل طلوع الفجر فسد. فإن قلت: ما الفرق على المشهور بين ما إذا وطئ قبلهما يوم النحر أو قبله وبين ما إذا وطئ قبلهما [197 / ب] بعده؟ قيل: لأنه لما خرج يوم النحر صارت جمرة العقبة قضاء وصار الطواف كالقضاء لخروجه عن وقته الفاضل المقدر له شرعاً، والقضاء أضعف من المقتضى. ألا ترى أن من أفطر في رمضان عليه القضاء والكفارة، وإذا أفطر في قضاء رمضان فإنما عليه القضاء فقط. وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الإِفَاضَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ أَتَى بِهِمَا مَعاً ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ بَعْدَ أَيَّامِ مِنىً، وَقِيلَ: هَدْيٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الطَوَافِ وَقبْلَ الرَّمْيِ فَهَدْيٌ لا عُمْرَةٌ عَلَى المَشْهُورِ، وَقِيلَ: وَعُمْرَةٌ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرَ إِنْ فَاتَ الرَّمْيُ .... يعني إذا لم نقل بالإفساد فلا خلاف أن عليه هدياً. واختلف في العمرة على ثلاثة أقوال:

الأول: أن عليه عمرة، كان وطؤه قبل كمال الطواف أو بعده. قاله ابن حبيب. الثاني: لا عمرة عليه كان قبل الطواف أو بعده، وهو قول القاضي إسماعيل. الثالث: وهو المشهور ومذهب المدونة إن كان قبل الإفاضة أو بعدها كما لو نسي شوطاً، أو قبل ركعتي الطواف – فعليه العمرة، وإن كان بعد ذلك فلا عمرة عليه. وقوله: (أَتَى بِهِمَا) أي: بالطواف وركعتيه. وقوله: (بَعْدَ أَيَّامِ مِنىً) ظرف للعمرة المأتي بها والهدي، أما العمرة فلما تقدم أنها لا توقع إلا بعد أيام منى، وأما الهدي فليتفق الجابر النسكي والمالي. وقد صرح في المدونة بأنه بنحر الهدي في عمرته، وإنما فرق على المشهور لأنه إذا وطئ قبل كمال الطواف وقع في الطواف خلل فأمر بالعمرة، ليوقع طوافاً صحيحاً في إحرام صحيح بدلا من ذلك الطواف، وأما الهدي فإنه للتحلل الواقع في الإحرام. وقوله: (عَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرَ إِنْ فَاتَ الرَّمْيُ) ظاهر التصور. وَفِي قَضَاءِ الْقَضَاءِ الْمُفْسِدِ مَعَ الأَوَّلِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَمُحَمَّدِ يعني: أنه اختلف هل يجب عليه إذا أفسد قضاء الحج أن يأتي بحجتين: إحداهما قضاء عن الحجة الأولى، والثانية قضاء عن القضاء المفسد ثانياً؟ وبه قال ابن القاسم؛ لحرمتهما معاً، قال: وعليه هديان. ولم يوجب ابن المواز إلا قضاء الأول؛ لأنه الذي في ذمته والقضاء مقصود له لنفسه، وهو قول ابن وهب وعبد الملك ورجحه عبد الحق واللخمي وغيرهما. واختلف ابن وهب وعبد الملك في الهدي، فقال ابن وهب: عليه هديان وقال عبد الملك: هدي واحد. وَالْمَشْهُورُ أَنْ لا قَضَاءَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ قد تقدمت هذه المسألة وكأنه أتى بها هنا طلباً للفرق.

ابن راشد: ونبه بقوله: (وَالْمَشْهُورُ أَنْ لا قَضَاءَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ) على أن المشهور هنا القضاء، والفرق بينهما أن الحج لما كانت كلفته شديدة شَدَّدَ فيه بقضاء القضاء سداً للذريعة لئلا يتهاون فيه. وفرق آخر: أن القضاء في الحج على الفور وإذا كان على الفور صارت حجة القضاء كأنها حجة معينة في زمان معين، فيلزمه القضاء في فسادها كحجة الإسلام، وأما زمان قضاء الصوم فليس بمعين. وفرق أصبغ بفرق آخر فقال: لأن الحج عمل، فإذا أفسده فعليه قضاؤه وليس كذلك انتهى بمعناه. ابن هارون: ولم ينقل خلافٌ أنه إذا أفسد قضاء صلاة أنه ليس عليه إلا صلاة واحدة. وَيُفْسِدُ الْعُمْرَةَ أَيْضاً إِذَا وَقَعَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ، وَأَمَّا قَبْلَ الْحَلْقِ فَيَنْجَبِرُ بِالْهَدْيِ عَلَى الْمَشْهُورِ ..... لأنه إذا وطئ قبل الركوع فقد وطئ قبل كمال أركانها. ابن راشد: وسكت هنا عن السعي اكتفاء بذكر الطواف لأنه ركن كما أن الطواف ركن، فإذا فسدت بالوطء قبل كمال الطواف فسدت في أثناء السعي. وإنما وقع الخلاف إذا وطئ بعد السعي وقبل الحلق انتهى. وقد صرح ابن عبد البر في الكافي بفساد العمرة إذا وقع قبل كمال السعي. وقوله: (وَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ) ظاهر لا خلاف فيه. ومقابل المشهور القائل بالفساد قبل الحلق رواية عن مالك. ومبنى الخلاف على أن الحلاق في العمرة ليس بركن، أو هو ركن. وَيُنْحَرُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا أي: في الحج والعمرة. ابن شاس: وينحر في حجة القضاء على المشهور. وفي إجزائه قبله خلاف انتهى. فوجه المشهور أنه أمر بالتأخير ليتفق الْجَابِرُ النُّسُكِيُّ وَالْمالِيُّ. والشاذ أنه ينحر في الحجة الفاسدة والعمرة الفاسدة. ابن عبد السلام: وهو القياس لأنه إذا وجب

جبراناً وجب مع مجبوره انتهى. الباجي: ووقع في العتبية والموازية لمالك من رواية أشهب أن الهدي لا يكون إلا في حجة القضاء. فرع: فإن عجله قبل القضاء فقال ابن الماجشون فيمن عجل هدي الفساد قبل القضاء أنه يجزئه، وإن كان أحب إلينا أن يكون مع حجة القضاء. ويحتمل على قول أصبغ في هدي الفوات أن لا يجزئه انتهى كلام الباجي. وَالْجِمَاعُ وَالْمَنِيِّ فِي الإِفْسَادِ عَلَى نَحْوِ مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ فِي رَمَضَانَ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ فَالْهَدْيُ لا غَيْرُ، وَرَوَى أَشْهَبُ مَنْ تَذَكَّرَ أَهْلَهُ حَتَّى أَنْزَلَ فَهَدْيٌ فَقَطْ لا خلاف في الإفساد بالجماع، والإنزال كذلك على المعروف. وقيل: لا يفسد الحج إلا ما يوجب المهر والحد. واختار اللخمي التفصيل؛ إن كان الإنزال عن أمر الغالب أن ينزل عنه، أو متردد هل يكون أو لا – أفسد. وإن كان الغالب ألا [198/أ] ينزل فأنزل لا يفسد وعليه الهدى. وإنما قال: (عَلَى نَحْوِ) لأن الوطء ناساً لا يفسد الصوم بخلاف الحج. وكأن المصنف يشير إلى أن ما يوجب الكفارة هناك يوجب الفساد هنا، وما يوجب القضاء في الصيام يوجب الهدي هنا. ولا فرق عندنا في الإفساد بين أن يكون المني عن وطء فيما دون الفرج أو قبلة أو مباشرة. وفي المدونة: وإذا أدام المحرم التذكر للذة حتى أنزل أو عبث بذكره فأنزل أو كان راكباً فهزته الدابة واستدام ذلك حتى أنزل أو لامس أو قبل أو باشر فأنزل أو أدام النظر للذة حتى أنزل فسد حجه، وعليه الحج من قابل والهدي، وكذلك المحرمة إذا فعلت ما يفعل شرار النساء من العبث بنفسها حتى أنزلت. ابن بشير: وقد أخذ المتأخرون من هذا أن الاستمناء باليد حرام، لقوله: شرار النساء، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ

مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ([المؤمنون: 5–6]. فإنما نفى اللوم عمن احتفظ عن غير هذين فدل ذلك على أن ما عداه يتعلق اللوم به. ويؤخذ من قول المصنف (عَلَى نَحْوِ) أنه إن أمنى ابتداء من غير مداومة النظر والتذكر أن عليه الهدي. وكذلك قال أحمد بن ميسر. قال مالك في العتبية والموازية: ولا يفسد حجه، وأنه إن استدام النظر أو التذكر حتى أمنى أنه يفسد. وكذلك روى ابن القاسم عن مالك في العتبية والموازية. ولهذا عطف عليه قوله: (وَرَوَى أَشْهَبُ مَنْ تَذَكَّرَ أَهْلَهُ حَتَّى أَنْزَلَ فَهَدْيٌ فَقَطْ) أي فلا عمرة. محمد: وبرواية ابن القاسم أقول، فأما القبلة والمباشرة والجسة والضمة فينزل لمكانه فقد أفسد حجه. محمد: وقد قال مالك: من قَبَّلَ امرأته فلم ينزل شيئاً فليهد بدنة، وإن غمزها بيده فأحب إلي أن يذبح في ذلك وكلما تلذذ به. اللخمي: ولم يختلف إذا لم يكرر النظر ولا التذكر فأنزل ألا يفسد. وعلى هذا إذا قبل مرة أو غمز وشأنه ألا ينزل عند ذلك فأنزل ألا يفسد. وفرق مالك بين الصوم والحج، فقال فيمن نظر أو تذكر ولم يدم فأنزل: عليه القضاء ولا كفارة عليه. وإن أدام ذلك كان عليه القضاء والكفارة. وقال في الحج: إذا لم يدم لم يفسد. ولا فرق بين الموضعين، فإما أن يقال في الجميع لا شيء عليه أو أن ذلك عليه، إلا أن يحمل قوله في قضاء الصوم على الاستحباب ليسارة قضاء الصوم انتهى. واعترض سند قوله: "وعلى هذا ألا يفسد إذا قبل مرة .... إلخ" وقال: هو تخريج فاسد؛ لأن النظر قد يقع فجأة وكذلك الفكر وتغلب اللذة في الإنزال، بخلاف القبلة فإنها لا تكون إلا عن اختيار. وَإِذَا قَضَى فَارَقَ مَنْ أَفْسَدَ مَعَهُ الْحَجَّ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أَمَةٍ مِنْ حِينِ الإحرام إِلَى التَّحَلُّلِ مثله في المدونة وهو يدل على اختصاص هذا الحكم بتلك المرأة. وقال اللخمي: لا فرق بين تلك المرأة وغيرها زوجة كانت أو سُرِّية؛ لأن لا يؤمن أن يأتي مثل فعله أولاً انتهى.

وعلل بعضهم ذلك بأن ذلك معاقبة؛ إذ لم يرعيا العبادة، وروى مالك في موطئه عن علي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجمها". ومعنى (مِنْ حِينِ الإحرام) أي: بحجة القضاء، وفيه تنبيه على قول من ذهب من العلماء خارج المذهب إلى المفارقة بينهما من حين الإفساد إلى التحلل، أي طواف الإفاضة. مالك في العتبية: ولا يجتمعان في منزل ولا يتسايران لا في جحفة ولا منى. ابن القصار: ولم يبين مالك هل ذلك واجب أو مستحب، وعندي أنه مستحب، واقتصر ابن الجلاب على أنه مستحب. ابن بشير: ظاهر الكتاب الوجوب؛ معاقبة. وفصل اللخمي؛ إن صدر ذلك من جاهل بالتحريم فهو مستحب، وإن صدر من عالم بالتحريم فهو واجب ويجبر على الافتراق. وَمَنْ أَكْرَهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ أَحَجَّهَا، وَكَفَّرَ عَنْهَا، وَإِنْ نَكَحَتْ غَيْرَهُ زاد في المدونة وإن طاوعته فذلك عليها دونه. ابن القاسم في الموازية: وعلى الزوج الثاني الإذن لها في الحج. فإن قلت: قد تقدم في الصوم قول بأنه لا يُكَفَّرُ عن المكرَهة، فهل يجري هنا؟ قيل: قال غير واحد: لا. والفرق أن الصوم إذا قضته ليس فيه غرامة مال بخلاف الحج، ولأن الوطء في الحج نسياناً يفسد بخلاف الصوم فإنه لا يوجب الكفارة على المشهور. فرع: وإن لم يكن مع الزوج شيء وهي ملية فلابن القاسم في العتبية: ليس عليها حج. وله في الموازية: إذا لم يجد الزوج ما يُحَجُّها به ولا ما يهدي عنها فلتفعل هي ذلك وترجع به عليه. قال بعضهم: بالأقل من ثمن الهدي أو قيمته، وإن صامت في الهدي لم ترجع بشيء؛ إذ الصوم لا عوض له، ولو أطعمت في فدية الأذى لرجعت عليه بالأقل من النسك أو الإطعام. التونسي: وانظر لو كان النسك بالشاة أرفق لها حين نسكت وهو معسر ثم أيسر، وقد غلا النسك ورخص الطعام، فقال: إنما أغرم الطعام إذ هو الآن أقل قيمة من النسك الذي نسكت هي به.

ابن يونس: وإذا فَلَّس الزوج فلزوجته محاصة غرمائه بما وجب لها من ذلك، ويوقف ما يصير لها حتى تحج به وتهدي، وإن ماتت قبل ذلك رجعت حصة الإحجاج إلى الغرماء، وأنفذ الهدي عنها انتهى. أما الأمة فطوعها كالإكراه؛ لأنها لا تستطيع المخالفة، رواه ابن القاسم في العتبية والموازية. عبد الملك: ولو باعها لكان ذلك عليه لها. ابن بشير: المنصوص [198/ب] جواز البيع. وقال اللخمي: يمنع على قول سحنون في منع بيع العبد المحرم، وقاس التحجير في المال على التحجير في الحال انتهى. ابن المواز: وإن باعها ولم يبين فهو عيب ترد به وفي السليمانية: إذا لم يُحِجَّها فليبعها ممن يحجها. ول ينص أصحابنا هنا إلا على أن طوع الأمة كالإكراه. قال في البيان: ويأتي على قول ابن الماجشون في الذي زوج ابنته رجلاً فحبسها وأرسل إليه أمته فوطئها أنها تحد، إلا أن تدعي أنها ظنت أنها زوجة، ألا يكون عليها الحد، هنا أن يحجها، إلا إذا كانت طائعة، ويكون ذلك عليها إذا عتقت. على أن ابن عبد السلام نقل في طوع الأمة قولين هل كالإكراه أم لا؟ وظاهره أنهما منصوصان. وَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ فِي قَابلٍ تَطَوُّعاً كَانَ أَوْ فَرْضاً أما وجوب المضي في الفاسد فهو الذي عليه أكثر الفقهاء خلافاً لداود. وقوله: (عَلَى الْفَوْرِ) في الحج عن العام القابل. وأما العمرة فعند التحلل؛ لجوازها في جميع السنة. فَإِنْ لَمْ يُتِمَّهُ ثُمَّ أَحْرَمَ لِلْقَضَاءِ فِي سَنَةٍ أُخْرَى فَهُوَ عَلَى مَا أَفْسَدَ، وَلا يَقَعُ قَضَاؤُهُ إِلا فِي ثَالِثِهِ ... لأن إحرامه للثاني لم يصادف محلاً. وكلامه ظاهر.

وَلا يَقَعُ قَضَاءُ التَّطَوُّعِ عَنِ الْوَاجِبِ يعني: إذا تطوع قبل حجة الفريضة ثم أفسده وجب عليه قضاؤه، ولا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام؛ لأنه بالإفساد ترتبت في ذمته حجة. وعليه حجة الفريضة. وحجة واحدة لا تجزئه عن اثنين. وَلا يُرَاعَى زَمَانُ إِحْرَامِ الْقَضَاءِ وَيُرَاعَى الْمِيقَاتُ– إِنْ كَانَ الشَّرْعِيَّ– وَإِنْ تَعَدَّاهُ فَدَمٌ، وَتُرَاعَى صِفَتُهُ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَمَتُّعٍ وَقِرَانٍ أي: فيجوز أن يحرم مثلاً بالقضاء يوم التروية من كان أحرم أولاً من شوال، ويراعي الميقات، فمن كان أحرم أولاً من الجحفة أو غيرها أحرم ثانياً منه. قال في المدونة: إلا أن يكون إحرامه في الأولى أبعد من الميقات، فليس عليه أن يحرم في الثانية إلا من الميقات. وعن هذا احترز بقوله: (إِنْ كَانَ الشَّرْعِيَّ) ولو كان أولاً تعدى الميقات، فظاهر قول مالك أنه يحرم من المكان الذي كان أحرم منه. وتأوله اللخمي على أنه كان أحرم منه بوجه جائز كالذي يجاوزه غير مريد، فأما من تعداه أولاً لغير عذر فيؤمر الآن أن لا يتعداه إلا محرماً، وكذلك قال الباجي والتونسي إنه إذا تعداه أولاً فلا يتعداه ثانياً إلا محرماً. وأما مراعاة الصفة فظاهر؛ لأنه إنما يقضي ما أفسد. وَيُجْزِئُ التَّمَتُّعُ عَنِ الإِفْرَادِ لا عَكْسُهُ، وَقِيلَ: وَالْقِرَانُ عَنِ الإِفْرَادِ يعني: فلو أوقع تمتعاً قضاء على الإفراد أجزأه؛ لأنه إفراد وزيادة. قوله: (لا عَكْسُهُ) أي: فلا يجزئ الإفراد عن التمتع. وتبع المصنف هنا ابن بشير لأنه قال: مقتضى الروايات عدم الإجزاء. والذي في النوادر عن الموازية: من تمتع فأَفسَد حجه فقضاه مفرداً – فإنه يجزئه وعليه هديان، هدي التمتع وهدي الفساد قال: وذكره عيسى في العتبية عن ابن القاسم، قال: ويعجل هدي التمتع ويؤخر هدي الفساد إلى حجة القضاء، وكذلك العمرة.

قوله: (وَقِيلَ: وَالْقِرَانُ) هذا هو قول عبد الملك، واقتضى كلام المصنف بذكر الواو شيئين. أولهما: أن المشهور عدم إجزاء القران عن الإفراد، وبذلك صرح ابن بشير وابن شاس. وثانيهما: أن عبد الملك يوافق على إجزاء التمتع عن الإفراد، لكن لا أذكر أن ابن الماجشون قال بهذا. فرع: قال في النوادر ومن غير العتبية: من حج قارناً فأفسد بالوطء فقضاه مفرداً أو متمتعاً لم يجزأه، وعليه في هذا دمان؛ دم للقران، ودم للتمتع، ويقضي أيضاً قابلاً قارناً ويهدي أيضاً هديين. تنبيه: قال في المدونة: وإذا طاف القارن أول ما دخل مكة وسعى ثم جامع فليقض قارناً. سحنون: ولم لا يكون قد تمت عمرته حين طاف وسعى؛ لأن الطواف والسعي كانا للحج والعمرة جمعياً. اللخمي: ومعارضة سحنون صحيحة، ولا ينبغي أن يكون عليه من العمرة شيء؛ لأنها تمت بفراغه من السعي فلم يبق إلا الحلاق منع منه بقاؤه على الحج، وإنما أفسد بوطئه بعد ذلك الحج وحده انتهى. ابن راشد: وفيه نظر؛ لأن الحج إذا فسد فسد طوافه وذلك بعينه للعمرة، ولا يصح أن يكون الطواف فاسداً بالنسبة إلى الحج صحيحاً بالنسبة إلى العمرة، فالممنوع المركب إذا بطل جزء منه سرى البطلان لبقيته. وَهَدْيُ الْقِرَانِ الْمُفْسَدِ كَالصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْمُتْعَةُ بَعْدَ إِحْرَامِ الْحَجِّ وَلا يُؤَخِّرَانِ إِلى الْقَضَاء ... قد تقدم أنه يتمادى في الفاسد من الحج والعمرة كالصحيح. ومن نتيجة ذلك وجوب دم القران والمتعة، ولا يؤخر الهدي إلى القضاء.

وَلا يُرْتَدَفُ الْحَجُّ عَلَى الْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ المشهور مذهب المدونة. ومقابله مذهب عبد الملك. ومعنى كلامه أن من أفسد عمرته وأمرناه بالتمادي فلا يردف عليها الحج على المشهور. وعليه قال ابن المواز: يتم عمرته الفاسدة ثم يقضيها، قال: وإن أحرم بالحج قبل أن يقضيها لزمه، وعليه قضاء عمرته بعد ذلك. ورأى عبد الملك أن العمرة الصحيحة إذا لم تمنع الإرداف فأحرى الفاسدة التي إحرامها كالعدم لولا ما قام الدليل عليه من المضي فيها. وَمَنْ أَفْسَدَ قَارِناً ثُمَّ فَاتَهُ الْحَجُّ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: عَلَيْهِ أَرْبَعُ هَدَايَا إِذَا قَضَى وَقَالَ أَصْبَغُ: عَلَيْهِ ثَلاثَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ .... يعني: إذا أحرم قارناً ثم أفسده وفاته فإن عليه هدياً للفساد، وآخر للفوات، وآخر للقران الثاني، واختلف في هدي القران الأول، فأوجبه ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه واختاره ابن المواز، وأسقطه في رواية أصبغ. اللخمي: وهو أحسن. وصححه المصنف؛ لأن القران الأول آل عمله إلى عمرة لم يردها، فصار بمنزلة من تعدى الميقات ثم أحرم بالحج وفاته الحج وآل عمله إلى عمرة، وقد تقدم أن ابن القاسم قال بسقوط الدم. وفي قوله: (وَقَالَ أَصْبَغُ) إيهام أن القول لأصبغ، وليس بظاهر بل رواه ابن القاسم كما ذكرنا. ووقع في بعض النسخ: (وقال أصبغ عنه) ولا إشكال عليها. وليس يعني بقوله: (أَرْبَعُ هَدَايَا إِذَا قَضَى) أنه ينحر جميعها في القضاء؛ لأن المصنف قد نص في المسألة المتقدمة على أن هدي المفسد لا يؤخر إلى القضاء. وَإِنْ وَطِئَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَاحِدَةً أَوْ نِسَاءً فَهَدْيٌ وَاحِدٌ بِخِلافِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ يعني: أنه إذا أفسد حجه ثم تكرر منه الوطء في امرأة أو نساء فليس عليه إلا هدي واحد للفساد الواقع بأول وطء، إذ الفاسد لا يقبل التعدد. وانظر هل يتخرج فيها قول

آخر بتعدد الهدي إذا وطئ ثانياً بعد أخراج الهدي من الشاذ في الصوم القائل بتعدد الكفارة إذا وطئ بعد إخراج الكفارة؟ وقوله: (بِخِلافِ الصَّيْدِ) أي: فإنه يتعدد لأنه عوض عما أتلفه. وقوله: (وَغَيْرِهِ) أي: فدية الأذى؛ لأنها عوض عن الترفه وهو يقبل التكرار. وَلَوْ أَفْسَدَ ثُمَّ حَلَقَ وَتَطَيَّبَ مُتَأَوِّلاً أَوْ جَاهِلاً فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ بِخِلافِ الصَّيْدِ وَبِخِلافِ الْمُتَعَمَّدِ ... لأن موجبات الفدية إذا ظن الإباحة فيها أو عزم على التكرار فيها – فليس فيها إلا فدية واحدة، فكذلك إذا أفسد ثم حلق وتطيب متأولاً لأن الإحرام قد سقطت حرمته بالفساد فلم يكن عليه إلا فدية واحدة، وسواء فعل ذلك في مجلس أو مجالس. قوله: (مُتَأَوَّلاً أَوْ جَاهِلاً) يحتمل أن يكون بمعنى؛ لأن المتأول جاهل بالحكم، ويكون ذكرهما إتباعاً للفظ المدونة، ويحتمل أن يريد بالمتأول من رأى في ذلك مذهب المخالف. قوله: (بِخِلافِ الصَّيْدِ) تقدم، وقوله: (وَبِخِلافِ الْمُتَعَمَّدِ) أي: يريد إذا لم يعزم أولاً على التكرار كما سيأتي. وَيُكْرَهُ مُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ كَالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلَّذَّةِ وَالْغَمْزَةِ وَشِبْههَا وَفِي وُجُوبِ الْهَدْيِ: قَوْلانِ، وَرُوِيَ: مَنْ قَبَّلَ فَلْيُهْدِ فَإِنِ الْتَذَّ بِغَيْرِهِ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذْبَحَ ... المراد بالكراهة هنا التحريم. الباجي: كل ما فيه نوع من الالتذاذ بالنساء يمنع منه المحرم، ثم ما كان منه لا يفعل إلا للذة كالقبلة ففيها الهدي على كل حال، وما كان يفعل للذة وغيرها مثل لمس كفها أو شيء من جسدها فما أتى من ذلك على وجه اللذة فممنوع، وما كان لغير لذة فمباح انتهى بمعناه. ابن عبد السلام: ولا نجدهم يختلفون في القبلة هنا كما يختلفون في الصيام فليس أحد منهم يجيز القبلة في الإحرام لشيخ ولا لمتطوع.

قوله: (وَفِي وُجُوبِ الْهَدْيِ: قَوْلانِ) قد تقدم أن الباجي قال يجب الهدي في القبلة على كل حال. وكذلك قال ابن عبد البر في الكافي: ومن قبل أو باشر ولم ينزل فعليه دم وتجزئه شاة انتهى. وينبغي أن يقال: إن أمذى فعليه الهدي وإلا فلا. ويحتمل أن تعرى القبلة من الخلاف ويكون الخلاف فيما عداها، ويكون محل الخلاف إذا أمذى. وأما إذا لم يحصل مذي فقد غر وسلم، فانظر ذلك. قوله: (وَرُوِيَ) أي: في الموازية، وهي ظاهرة التصور. ولا شك عليها أن الملاعبة ونحوها أشد من القبلة. وَيُكْرَهُ أَنْ يَرَى ذِرَاعَيْهَا لا شَعْرِهَا، وَيُكْرَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا فِي الْمَحْمَلِ، وَلِذَلِكَ اتُّخِذَتِ السَّلالِمُ، وَلا بَاسَ بِالْفُتْيَا فِي أُمُورِهِنَّ ... هذا كله منصوص لمالك في الموازية وهو ظاهر. وكره مالك في الموازية والعتبية للمحرم أن يقلب جارية للابتياع أو لغيره. قال أشهب عن مالك في الكتابين: وله إذا أمن أن يمسك امرأته ورب رجل لا يأمن. الْمَحْظُورُ الْمُنْجَبِرُ مَا تَحْصُلُ بِهِ الرَّفَاهِيَةُ؛ من لِبَاسٍ مَخِيطٍ وَشِبْهِهِ وَتَطَيُّبٍ وَتَزَيُّنٍ وَإِزَالَةِ شَعْثٍ ... لا خلاف أن هذا غير مفسد للإحرام وإن استديم. وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لِبَاسُ الْمَخِيطِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَاطَةِ وَالنَّسْجِ وَالتَّلْبِيدِ كَالدِّرْعِ، وَاللِّبَّادُ مِثْلُهُ، وَالزِّرُّ، وَالتَّخَلُّلُ، وَالْعَقْدُ مِثْلُهُ .... الأصل في هذا ما رواه مالك وغيره: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس القمص ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا

الخفاف، إلا ألا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً مسه الزعفران ولا الورس". زاد مسلم من رواية ابن عباس رضي الله عنه: "وإن لم يجد الإزار فليلبس السراويل" وأخذ به الشافعي ولم يأخذ به مالك لسقوطه من رواية ابن عمر رضي الله عنه. قال في الموطأ: لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم السراويل. ابن عبد السلام: وعندي أن مثل هذه الأحاديث التي نص الإمام عليها أنها لم تبلغه، إذا قال أهل الصحة أنها صحيحة يجب على مقلدي الإمام العمل بمقتضاها كهذا الحديث، وحديث إذن الإمام لأهل العوالي إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة. فإن ظاهر كلام الإمام فيها أن المانع من العمل بمقتضاها هو أنها لم تبلغه أو بلغته ولكن قام عنده دليل آخر أرجح منه، ومثل هذا يرجح تقليد غير الإمام في العمل بمقتضى هذا الحديث الخاص [199 / ب]، وأما الوجه الأول فالأقرب أنه لا يجوز تقليده؛ لأن الاعتقاد الجازم أو الظن القوي أنه لو بلغه ذلك الحديث لأخذ به انتهى باختصار. وقوله: (بِاعْتِبَارِ الْخِيَاطَةِ) أي: إنما يحرم اللبس باعتبار ما خيط له سواء كان معمولاً على قدر البدن أو عضو، فلذلك لو ارتدى بقميص جاز؛ لأنه لم يلبسه باعتبار ما خيط له. وقوله: (وَالنَّسْجِ ..... إلخ) أي: ويقوم مقام الخياطة النسج كما يوجد في بعض البرانيس بغير خياطة. ابن هارون: وأراد بالنسج صنعة الدرع من الحديد؛ لأن العرب تسمي ذلك نسجاً. وبالتلبيد أن يصنع من اللبد قميصاً بغير خياطة، فيصرف الأول إلى الأول والثاني إلى الثاني.

وقوله: (وَالزِّرُّ ... إلخ) أي لو عمل للثوب أزراراً أو خلله عليه أو عقده كان في معنى الخياطة. وَلَوِ ارْتَدَى بِقَمِيصٍ أَوْ جُبَّةٍ جَازَ لأنه وإن كان مخيطاً لكنه لا باعتبار الخياطة. وفي كراهة الارتداء بالسراويل روايتان. الباجي: ووجه الكراهة عندي قبح الزي كما كره لغير المحرم لبس السراويل مع الرداء. وَفِي الْقِبَاءِ وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ كُمّاً وَلا زِرّاً – الْفِدْيَةُ لأنه لبس معتاد. ولذلك لو جعل أسفله على كتفه لم تجب. وفي كلامه قلب لأن الكم يدخل فيه. وما ذكره المصنف ليس فيه مخالفة للمدونة كما قال ابن عبد السلام: ولفظها: وأكره أن يدخل منكبيه في القباء وإن لم يدخل يديه في كمه ولا زره عليه؛ لأن ذلك دخول فيه ولباس له؛ لأن قوله: "ولباس له" يوضح أن المراد بـ "الكراهة" التحريم، ولأن فيها: ويكره للمحرم لبس الجوربين، ثم قال: ويكره للمرأة أن تتبرقع وتلبس القفازين. مع أن في ذلك الفدية، فدل على أنه يطلق الكراهة ويريد بها التحريم والله أعلم. وَجَمِيعُ الأَلْوَانِ وَاسِعٌ إِلا الْمُعَصْفَرَ المُفَدَّمَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَصْبُوغُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَلَوْ غُسِلَ وَبَقِيَ أَثَرُهُ، بِخِلافِ الْمُوَرَّدِ وَالْمُمَشَّقِ لا غَيْرِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَكُرِهَ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الإحرام ... يعني بالتوسعة: الإباحة. والمذهب استحباب البياض. وقوله: (إِلا الْمُعَصْفَرَ المُفَدَّمَ) هو القوي الصبغ وهو ممنوع للرجال كما ذكر المصنف، فإن لبس الرجل المفدم فالمشهور وجوب الفدية عليه. وروى أشهب عن مالك سقوطها. اللخمي: ولم يره من الطيب المؤنث. قال غير واحد: وهو على هذه الرواية

مكروه، وأما المرأة فالمشهور أنه ممنوع في حقها كما ذكر المصنف. وروى ابن حبيب لا بأس أن تلبس المحرمة المعصفر المفدم ما لم ينتفض عليها شيء منه. مالك: وإن غسل المفدم جاز لأنه يصير مورداً. وقوله: (وَالْمَصْبُوغُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ) هو منصوب؛ لأنه معطوف على المعصفر فهو ممنوع. قال في الاستذكار: لا خلاف أنه لا يجوز للمحرم لبس ثوب صبغ بورس أو زعفران. والوَرْسِ نبت باليمن ورائحته طيبة، وصبغه ما بين الصفرة والحمرة، فإن غسل حتى يذهب منه ريح الزعفران فلا بأس به عند جميعهم. وروى ابن القاسم عن مالك كراهة ما بقي من لونه شيء انتهى. قال في المدونة: وإن ذهب لونه كله جاز. وعلى هذا فقوله: (وَلَوْ غُسِلَ وَبَقِيَ أَثَرُهُ) هو على رواية ابن القاسم، لكن ابن القاسم إنما روى الكراهة، وظاهر كلام المصنف أنه ممنوع. فإن قلت: لم لا تحمل الكراهة فيما رواه ابن القاسم على المنع ويدل على ذلك قوله في المدونة: وما صبغ بالورس والزعفران، فإن الكراهة فيما رواه ابن القاسم على المنع ويدل على ذلك قوله في المدونة: وما صبغ بالورس والزعفران فإن مالكاً كرهه، ثم قال: وما صبغ بالورس والزعفران وغسل وبقي أثر لونه، فإن مالكاً كرهه أيضاً، فعبر بالكراهة قبل الغسل وبعده. قيل: قد نص اللخمي على أنه لا فدية عليه إذا لبسه بعد الغسل، وذلك يدل على أن الكراهة بعد الغسل على وجهها والله أعلم. وقوله: (بِخِلافِ الْمُوَرَّدِ وَالْمُمَشَّقِ). الباجي: وأما المورد بالعصفر والمصبوغ بالمغرى أو الممشق. ابن المواز: والأصفر بغير زعفران ولا ورس فليس بممنوع لبسه للمحرم؛ لأنه ليس فيه طيب ولا يفعل غالباً إلا إنقاء للثوب، فيكره للإمام، ومن يقتدى به أن يفعله لئلا يلبس على من لا يعرف فيقتدي به في لبس المصبوغ الممنوع لبسه، رواه محمد عن أشهب انتهى. وعلى هذا فقوله: (بِخِلافِ الْمُوَرَّدِ وَالْمُمَشَّقِ) أي: فيجوز إلا لمن يقتدى

به فيكره. وفهم من كلام الباجي أن المورد هو المصبوغ بالعصفر صبغاً غير قوي، وهذا هو المعروف. ابن راشد: وقال منذر بن سعيد هو الذي صبغ بالورد. وقوله: (لا غَيْرِهِ) عائد على ما ذكره من الألوان، المفدم والمزعفر والمورس. أي: فلا يمنع غير هذه الألوان. وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) عائد على (الْمُعَصْفَرَ المُفَدَّمَ) يعني: أن جميع الألوان واسع، إلا المعصفر المفدم فإنه ممنوع على المشهور. ومقابل المشهور قول أشهب المتقدم. وفي كلامه قلق. فإن قلت: هل يصح أن يريد بمقابل المشهور ما تقدم عن أشهب كراهة ما صبغ بغير زعفران ولا ورس لمن يقتدى به كما قاله ابن هارون؟ فالجواب: لا؛ لأن كراهة ذلك لمن يقتدى به ليس مخالفاً للمذهب، وإنما ساقه الأشياخ على أنه وفاق للمذهب، وأن المذهب كراهة ما صبغ بغير ورس ولا زعفران لمن يقتدى به، والأصل فيه ما رواه مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى طلحة بن عبيد الله وعليه [200 / أ] ثوب مصبوغ وهو مُحرِم، فقال عمر: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر فقال عمر: أيها الرهط إنكم أئمة يقتدى بكم فلو أن رجلاً جاهلاً رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام: فلا تلبسوا أيها الرهط شيئاً من هذه الثياب المصبغة. قال في الاستذكار: ولم يختلف في جواز لبس المصبوغ بالمدر. خليل: يريد في حق من لا يقتدى به والله أعلم. ومن هنا تعلم أن تمشية ابن راشد ليست بجيدة؛ لأنه قال: قوله: (بِخِلافِ الْمُوَرَّدِ وَالْمُمَشَّقِ لا غَيْرِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ) يعني: أن هذين يجوز الإحرام فيهما ولا يلحق بهما غيرهما من الألوان على المشهور بل الإحرام فيما عداهما مكروه؛ لأن المستحب أن يحرم في البياض. انتهى. لأنه لم يختلف في جواز المصبوغ بالمدر على ما نقل ابن عبد البر، ولا يكره الإحرام في غيرهما، نص عليه ابن الجلاب واللخمي وغيرهما.

وقوله: (وَكُرِهَ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الإحرام) أي: (الْمُعَصْفَرَ المُفَدَّمَ) وكذا في المدونة. وأما المعصفر غير المفدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام، نص على المورد في المدونة، وعلى المزعفر في غيرهما. قال مالك: ولا بأس بالمزعفر لغير المحرم وكنت ألبسه. وقال في الحديث في النهي عن أن يتزعفر الرجل، هو أن يلطخ جسده بالزعفران. اللخمي: وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصبغ ثيابه كلها والعمامة بالزعفران. وفي قوله: "لا يلبس المحرم شيئاً مسه ورس ولا زعفران" دليل على الجواز لغير المحرم انتهى. وأما كراهة المعصفر فلما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوبان مصفران فقال: "إن هذين من ثياب الكفار فلا تلبسهما". وفي بعض الطرق: "ألا كسوتهما بعض أهلك؟ فإنه لا بأس بهما للنساء". ومن العتبية والموازية قال مالك: من أحرم في ثوب فيه لمعة من الزعفران فلا شيء عليه وليغسله إذا ذكر. ومن الموازية: لا ينام المحرم على مصبوغ بورس أو زعفران، من فراش أو وسادة إلا أن يُغَشِّيه بثوب كثيف فإن فعل ولم يغشه افتدى إن كان صبغاً كثيراً. والمعصفر أخف من ذلك. ولا أحب أن ينام على ذلك لئلا يعرق فيصيبه، إلا الخفيف لا يخرج على جسده. ولا يتوسد مرفقة فيها زعفران، وكره أن ينام على خشبة مزعفرة قد ذهبت الشمس بصباغتها حتى يغشيها بثوب أبيض. وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُغَطِّيَ رَاسَهُ- لا وَجْهَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ- بِمَا يُعَدُّ سَاتِراً، وَفِيهَا: لِمَا جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَطَّى مَا دُونَ عَيْنَيْهِ، وَتَطَاوَلَ .... أما تغطية الرأس فلا خلاف في منعها. وذكر المصنف أنه لا يحرم على الرجل تغطية وجهه على المشهور، ولم أدر من أين شهره. فقال ابن بشير: يمنع الرجال من لبس المخيط

وتغطية الوجه والرأس. وقال ابن شاس: وإحرام الرجل في وجهه ورأسه. قال ابن عبد البر: لما تكلم على ما ورد عن عثمان: أجمعوا على أنه لا يُخَمِّر المحرم رأسه واختلفوا في تخمير وجهه، وأخذ مالك بقول ابن عمر ورأى الإحرام في الوجه والرأس، وبه قال محمد بن الحسن، وأجاز عثمان وابن عباس وابن عوف وابن الزبير وزيد بن ثابت وسعيد وجابر رضي الله عنهم للمحرم أن يغطي وجهه. ثم قال: فإن فعل على قول مالك، فقال مالك: من غطى وجهه افتدى. وسئل ابن القاسم عن ذلك فقال: لم أسمع من مالك فيه شيئاً، ولا أرى عليه فدية لِمَا جاء عن عثمان انتهى. وقال الباجي: إلى المنع ذهب مالك، وإنما ذكر فعل عثمان ليكون للمجتهد طريق إلى الاجتهاد وقال القاضي أبو الحسن: إن ذلك مكروه وليس بحرام. وحكى القاضي أبو محمد في ذلك لمتأخري أصحابنا قولين: الكراهة والتحريم. قال أبو حنيفة: يتعلق الإحرام بالوجه كتعلقه بالرأس. وقال الشافعي: لا تعلق له بالوجه. والدليل على ما نقوله ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال في الرجل الذي وقصته ناقته وهو محرم: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثيابه، ولا تخمروا وجهه، ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي" ودليلنا من جهة المعنى أن هذا شخص يتعلق به حكم الإحرام، فلزمه كشف وجهه كالمرأة انتهى. وكذلك قال اللخمي: منع تغطية الوجه في المدونة، وقال: إن فعله فعليه الفدية. وقال أبو مصعب وابن القصار وعبد الوهاب: لا شيء عليه. والأول أحسن، واستدل بالحديث المذكور، قال: وذكره مسلم انتهى. وهذا كله يدل على أن المذهب وجوب الفدية بتغطية الوجه. ووقع في المدونة في الحج الأول: ويكره للمحرم أن يغطي ما فوق الذقن، فإن فعل فلا شيء عليه لما جاء عن عثمان. وفي الثالث: ولا بأس بتغطية الذقن للرجل والمرأة. وفي الثالث أيضاً: لو قام فغطى رجلٌ وجهه أو رأسه أو طَيَّبَه أو حلق رأسه ثم انتبه فلينزع ذلك وليغسل

الطيب عنه ولا شيء عليه، والفدية على من فعل به ذلك. وأوجب الفدية على مغطي وجه النائم وأسقطها عمن غطى الذقن أو ما تحت العينين لفعل عثمان، وهكذا رأيته في نسخ عديدة (أو رأسه) وعليها تكلم بعضهم. ابن عبد السلام بعد ذكره هذا المحل: فمن الشيوخ من حمل المدونة على القولين كما أشار المؤلف. ومنهم من حمل قوله "على ما فوق [200 / ب] الذقن "أنه لم يرد تغطية جميعه، وأن الفدية في ذلك، وهذا الوجه أقرب إلى لفظ المدونة. والوجه الآخر أن الموجب لسقوط الفدية عما فوق الذقن مراعاة فعل عثمان، وهو موجود بعينه في تغطية جميع الوجه. انتهى. تنبيه: إن ما في الموطأ: عن عثمان أنه غطى وجهه، لا ما ذكره المصنف، والله أعلم من أين أخذه. وَيَجُوزُ تَوَسُّدُهُ وَسَتْرُهُ بِيَدِهِ مِنْ شَمْسٍ أَوْ غَيْرِهِ وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ مِمَا لا بُدَّ له مِنْهُ مِنْ خُرْجِهِ وَجِرَابِهِ وَغَيْرِهِ ... لما ذكر أولاً أن المنع إنما هو إذا غطاه بما يعد ساتراً، ذكر ما احترز عنه. ومعنى (تَوَسُّدُهُ) أن يضع خده على الوسادة قال في العتبية: ويكره أن يكب وجهه على الوسادة من الحر. سند: وإذا لطخ رأسه بالطين افتدى كالعمامة. وسواء غطى جميعه أو بعضه، ولأجل أن ما ذكره المصنف لا يعد ساتراً أجاز مالك في العتبية لمن أذاه الغبار أو مر بجيفة أن يحط يده على أنفه. اللخمي: وإن حمل زاده على رأسه وهو من أهل الغنى بخلاً افتدى.

فَإِنْ حَمَلَ لِغَيْرِهِ أَوْ لِتِجَارَةٍ فَالْفِدْيَةُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَكُونَ عَيْشُهُ ذَلِكَ هذا الذي احترز عنه بقوله: (ما لا بد منه) والظاهر أن قول أشهب تقييد؛ لأنه إذا كان ذلك عيشه صار ضرورة كخرجه وجرابه. وهو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر؛ لقوله: ولا يرخص له في حمل التجارة. قال أشهب: إلا أن يكون عيشه ذلك. وقال ابن بشير: إن حمل على رأسه شيئاً. فإن كان مختاراً افتدى. وإن كان مضطراً فإن كان لا يجد حاملاً أو لأنه سبب معاشه. فها هنا قولان: وجوب الفدية وسقوطها انتهى. وَيَجُوزُ اسْتِظْلالُهُ بِالْبِنَاءِ وَالأَخْبِيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا يَثْبُتُ، وَفِي الاسْتِظْلالِ بِشْيَءٍ عَلَى الْمَحْمِلِ- وَهُوَ فِيهِ- بِأَعْوَادٍ والاسْتِظْلالِ بِثَوْبٍ على عَصَاً قَوْلانِ .... قال في الاستذكار: أجمعوا أن للمحرم أن يدخل تحت الخباء، وأن ينزل تحت الشجرة. واختلفوا في استظلاله على دابته وعلى المحمل، فمنعه مالك وأحمد، وقال ابن عمر: أَضحِ لمن أحرمت له. وبعضهم يرفعه عنه. قال مالك: وإن استظل في محمله افتدى. وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعي وغيرهما انتهى. وحكى غيره أيضاً جواز الاستظلال بالفسطاط والقبة وهو نازل. قال مالك: ولا يعجبني أن يستظل يوم عرفة بشيء. وذكر المصنف الاستظلال بشيء على المحمل (وَهُوَ فِيهِ) أي والمحرم فيه، يريد سواء كان سائراً أو نازلاً قولين، وكذلك ذكر غيره. واحترز بقوله: (فِيهِ) لأنه كالخباء المضروب، ومَنعُهُ للسائر ونحوه ليحيى ابن عمر. وظاهر المذهب المنع كما حكاه ابن عبد البر. وقال اللخمي: إن لم يكشف ما على المحارة افتدى. ولهذا قال مالك: إذا كان الرجل عديلاً للمرأة لا يستظل هو وتستظل هي وقاله ابن القاسم. وروي عن مالك: لا يعجبني أن يجعلا عليهما ظلاً، وعسى أن يكون في ذلك بعض السعة إن اضطرا إلى ذلك.

ابن الحاج في مناسكه: وله أن يرفع فوق رأسه شيئاً يقيه من المطر، واختلف هل له أن يرفع شيئاً يقيه من البرد؟ فوسع في ذلك مالك في رواية ابن أبي أويس في المدونة، ولم ير ذلك ابن القاسم في المدونة أيضاً. وليس له أن يضعه على رأسه من شدة الحر انتهى. والأقرب جواز ذلك لما في مسلم وأبي داود والنسائي عن أم الحصين قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً، وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر رفع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. ونقل ابن العربي والمازري عن الرياشي أنه قال: رأيت أحمد بن المعذل الفقيه في يوم شديد الحر، وهو ضاح للشمس، فقلت: يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه ولو أخذت بالتوسعة، فأنشأ يقول: ضحيت له كي أستظل بظله ... إذ الظل أمسى في القيامة قالصا فيا أسفى أن كان سعيك باطلاً ... ويا حسرتي إن كان حجك ناقصا أَمَّا لَوِ اسْتَظَلَّ بِظِلٍ جَانِبِهَا سَائِراً أَوْ نَازِلاً جَازَ وَلا فِدْيَةَ الضمير في (جَانِبِهَا) عائد على المحارة المفهومة من السياق. وهذا هو المشهور ومنع سحنون أن يستظل بظل المحمل وهو سائر. ونقل ابن بشير في الاستظلال بالبعير قولين. وَيَجُوزُ أَنْ يَشُدَّ مِنْطَقَتَهُ إِلَى جِلْدِهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ لا لِغَيْرِهِ وَله أَنْ يُضِيفَ نَفَقَةَ غَيْرِهِ، فَإِنْ شَدَّهَا لا لِذَلِكَ أَوْ شَدَّهَا عَلَى إِزَارِهِ فَالْفِدْيَةُ ... قوله: (لا لِغَيْرِهِ) أي: لا يبتدئ شدها للغير، وله أن يضيف نفقة غيره بعد شدها لنفسه، وانظر لو شدها ابتداءً له ولغيره، والأقرب سقوط الفدية؛ لان نفقة غيره تبع كما لو أضاف نفقة غيره بعد نفقته. وحمل ابن عبد السلام: كلام المصنف على انه لا يجوز أن يشدها لنفقته ونفقة غيره. ولم أرد ذلك لغيره. (وإِنْ شَدَّهَا لا لِذَلِكَ) أي: لا لنفسه (أَوْ شَدَّهَا عَلَى إِزَارِهِ) فعليه الفدية.

اللخمي: وإذا ذهبت نفقته حيث أضاف نفقة الغير إلى نفقته فإنه يرد نفقة غيره، وإلا افتدى. وإن ذهب صاحبها وهو عالم افتدى، وإن لم يعلم فلا شيء عليه، ويبقيها معه. وقد قال ابن القاسم فيمن أودع صيداً وهو حلال فأحرم وقد [201 / أ] غاب صاحبه – فلا يرسله ويضمنه إن فعل وكذلك النفقة انتهى. واحترز بذكر النفقة مما لو شدها لشيء كالتجارة، فإنه يفتدي قاله ابن حبيب. ابن يونس: كما ليس له أن يحمل للتجارة على رأسه. فَإِنْ شَدَّهَا فِي فَخِذِهِ أَوْ عَضُدِهِ فَمَكْرُوهٌ وَلا فِدْيَةَ عَلَى الْمَشْهُور ما ذكره من الكراهة نحوه في المدونة، والمشهور مذهبها. اللخمي: وقال أصبغ: أما العضد فعليه الفدية، والأول أحسن، وكذا نقل صاحب النوادر والتونسي وابن يونس، وهو ظاهر في أن أصبغ إنما يخالف في العضد. وَالاحْتِزَامُ لِلْعَمَل جَائزَ، وَلِغَيْرِهِ الْفِدْيَةُ تصوره ظاهر. وكذلك الاستثفار ممنوع إذا كان لغير ضرورة، وإن فعل فعليه الفدية. ابن الجلاب: وقد اختلف قوله في ذلك عند الركوب والنزول والعمل فكره ذلك مرة وأجازه مرة أخرى. قيل: لا فدية فيه إن كان لضرورة بالاتفاق. وَفِي فِدْيَةِ تَقَلُّدِ السَّيْفِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ قَوْلان فهم من كلامه أنه إن تقلده لضرورة فلا فدية عليه. وهو المشهور. وفي الجلاب: عليه الفدية، وأما إن كان لغير ضرورة فقال مالك ومحمد: لا شيء عليه؛ لضعفه عن شبه اللبس. ابن هارون: وهو أصح لاتفاقهم على سقوط الفدية إذا لبسه لضرورة. ولو كان من ناحية المخيط لافتدى. وقال ابن وهب وأصبغ بالوجوب، هكذا نسب اللخمي إلى أصبغ وجوب الفدية، ونسب ابن يونس إليه عدم الوجوب.

التونسي: وإذا كان في عنقه كتاب فلينزعه إذا أحرم. وألحق اللخمي المنطقة بالسيف. ابن بشير: وليس المذهب كذلك؛ لأنه لا يحصل به من الانتفاع مثل ما يحصل من المنطقة بل فيها تفصيل؛ فإن لم يضطر إليها ولبسها فلا خلاف في المذهب في وجوب الفدية، وإن اضطر إليها فهل يفتدي؟ أما إن شدها من فوق إزاره فإنه يفتدي؛ لأنه كلباس المخيط، وإن شدها من تحت الإزار فقولان: أحدهما وجوب الفدية؛ لأنه في معنى المخيط. والثاني نفيه؛ لأنه لا تحصل بها منفعة. فأشبهت تقليد السيف. انتهى. وَمَنْ عَصَّبَ جُرْحَهُ أَوْ رَاسَهُ افْتَدَى أي: سواء فعل ذلك لضرورة أم لا. اللخمي: وقال في مختصر ما ليس في المختصر فيمن أصاب إصابعه شيء فوضع عليها حناء أو لفها بخرقة: فلا شيء عليه وهذا أحسن، ولا يدخل هذا في معنى النهي عن لبس المخيط. ونقل غيره في العبية نحو ما في المختصر، ونقل فيه ربطها عوض لفها. وفصل في الموازية في التعصيب بين الخرق الصغار والكبار، كما تقدم في اللصق. وفرق التونسي بينهما بأن التعصيب والربط أشد من اللصق، إذ لا بد فيهما من حصول شيء على الجسم الصحيح بخلاف اللصق، وأقاموا مما في العتبية جواز الإحرام بالخاتم ليسارة ما يستره. ابن راشد: وهو خلاف ما يظهر من الحج الأول حيث أجاز للصبيان الذكور الإحرام وعليهم الأسورة والخلاخل، فإن مفهومه أن ذلك ممنوع في حق الكبار. وَلَو أَلْصَقَ عَلَى جُرْحِهِ خِرَقاً كِبَاراً افْتَدَى، وَلَوْ جَعَلَ قُطْنَةً فِي أُذُنَهِ أَوْ قِرْطَاساً عَلَى صُدْغَيْهِ لِعِلَّةٍ افْتَدَى ... قوله: (كِبَاراً) أي: ولا فدية في الصغار لعموم الحرج. وجعل في الموازية قدر الدرهم كثيراً. ولا إشكال في عدم وجوب الفدية في الخرق على ما في مختصر ما ليس في المختصر.

قوله: (وَلَوْ جَعَلَ قُطْنَةً .... إلخ) ظاهر التصور. وعورض إيجابهم الفدية في الأذن مطلقاً بمسألة الخرق، وأجيب بأن ذلك لكثرة انتفاعه بسد الأذن فأشبه الكبير. وَفِي الْخَاتَمِ: قَوْلان قال في مختصر ما ليس في المختصر لا بأس به. اللخمي وابن راشد: والمعروف من قول مالك منعه؛ لأنه بإحاطته للأصبع أشبه المخيط ولذلك أجازوه للمرأة، وحكى ابن بشير قولين في الفدية إذا قلنا بالمنع. فرع: ومن العتبية والموازية: ولا بأس أن يتخذ خرقة يجعل فيها فَرجَهُ عند النوم. وهو بخلاف لفها عليه للمني والبول هذا يفتدي، وإن استنكحه ففدية واحدة تجزئه إذا استدامه، ولو اعتمر بعد حجه افتدى لذلك فدية ثانية. وَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا بِنِقَابٍ وَشِبْهِهِ وَكَفَّيْهَا، وَلَوْ سَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ مَسْدُولٍ مِنْ فَوْقِ رَاسِهَا مِنْ غَيْرِ رَبْطٍ وَلا إِبْرَةٍ وَنَحْوِهَا جَازَ، قَالَ: وَمَا عَلِمْتُ رَايَهُ فِي تَجَافِيهِ أَوْ إِصَابَتِهِ .... صحح الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا تنتقب المرأة في الإحرام ولا تلبس القفازين". قوله: (وَلَوْ سَتَرَتْهُ .... إلخ) يريد بشرط أن تقصد الستر. قال في المدونة: والمحرمة إذا غطت وجهها مثل الرجل، ووسع لها مالك أن تسدل رداءها من فوق رأسها على وجهها إذا أرادت ستراً، فإن لم ترد ستراً فلا تسدل.

ابن القاسم: وما علمت أن مالكاً كان يأمرها إذا أسدلت رداءها أن تجافيه عن وجهها، ولا أنه كان ينهاها عن أن يصيب الرداء وجهها إذا أسدلته. وقول ابن القاسم: وما علمت أن مالكاً كان إلى آخره. يقتضي أنه فهم عن مالك التخفيف في الإصابة بخلاف ما اقتصر عليه المصنف بقوله: (وَمَا عَلِمْتُ رَايَهُ فِي تَجَافِيهِ أَوْ إِصَابَتِهِ) فإنه ظاهر في نفي العلم مطلقاً، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. وقوله في المدونة: إذا أرادت ستراً احترازاً مما لو فعلته لحر أو برد فإن فيه الفدية، نص عليه في الموازية وغيرها. قال في المدونة: وإن رفعته من أسفل وجهها افتدت؛ لأنه لا يثبت حتى تعقده، بخلاف السدل. وقوله: (مِنْ غَيْرِ رَبْطٍ) يعني: فإن ربطته أو غرزته بإبرة ونحو ذلك افتدت. وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ، وَالْقُفَّازَيْنِ، فَإِنْ عَدِمَ النَّعْلَيْنِ أَوْ وَجَدَهُمَا غَالِيَيْنِ قَطَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ... تصوره ظاهر مما تقدم. قال في المدونة: وليشتر النعلين وإن زيد عليه في الثمن يسيراً، وأما إن تفاحش الثمن فما عليه أن يشتريهما، وأرجو أن يكون في سعة. ابن يونس: وإن لم يشتريهما في الزيادة اليسيرة وقطع الخفين ولبسهما [201 / ب] فليفتد؛ لأنه كالواجد للنعلين. وقال ابن حبيب: إنما رخص في قطع الخفين في قلة النعال، وأما اليوم فقد كثرت فلا تعدم، فلا رخصة فيهما، ومن فعله افتدى وقاله ابن الماجشون. ابن يونس وغيره: وهو خلاف قول مالك. والصواب قول مالك للحديث. ابن هارون: وليس في قول ابن حبيب ما يقتضي المخالفة. وإنما حكى حال وقته أن النعال كثرت فلا تعدم ولا تغلا، وهذا مما لا ينازعه فيه أحد، فإن تغيرت الحال في بعض الأوقات فعدمت النعال أو غلت غلاءً فاحشاً لم يقل أيضاً ابن حبيب ولا غيره أن الفدية تجب عليه في هذه الحالة انتهى. أما لو لبس الخف لضرورة بقدميه وهو يجد نعلين فإنه يفتدي، قاله ابن القاسم.

فإن قلت: قد قالوا هنا لا قدية، وإذا لم يجد إزاراً ولبس سراويل فعليه الفدية فما الفرق؟ قيل: لأنه في الخفين حصلت له الغرامة بالقطع فلم تجمع عليه غرامتان بخلاف السراويل. ولهذا ينبغي إذا اشتراهما مقطوعين أن لا تسقط عنه الفدية. وَلِلْمَرْأَةِ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ، وَفِي الْقُفَّازَيْنِ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَشْهُور أما لبس الخفين للمرأة فظاهر، إذ هي مأمورة بستر جسدها كله إلا وجهها وكفيها، والمشهور أن عليها في القفازين الفدية للحديث المتقدم. وقال ابن حبيب: لا أبلغ بهما الفدية، لما جاء فيهما من الرخصة عن عائشة رضي الله عنها. والقفازان ما يعمل على صفة الكف من قطن ونحوه؛ ليقي الكف الشعث. فرع: كره مالك في المدونة للمرأة لبس القباء في الإحرام وغيره لحرة أو أمة؛ لأنه يصفهن. وَيَحْرُمُ التطَّيبُ، وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِ مُؤَنَّثِهِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ وَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ ..... أما الطيب فمجمع على تحريمه من حيث الجملة. ومقتضى كلامه أن الطيب كله محرم الاستعمال، غير أن في المؤنث منه الفدية، وفيه نظر؛ لأن حكمه بحرمة الطيب مطلقاً مناف لما سيقول. ويكره شم الريحان وغيره من المؤنث. نعم قوله: (من غير المؤنث) يقتضي أن بعض المذكر حرام لإتيانه بـ (مِن) للتبعيض، وهو صحيح. فإن المذكر قسمان مكروه ولا فدية فيه، وهو كالريحان. وقسم محرم وفيه الفدية، وهو الحناء، نص عليه في المدونة وسيأتي. ابن راشد وغيره: والمؤنث ما يظهر ريحه وأثره، والمذكر ما يظهر ريحه ويخفى أثره. وَلا يَتَطَيَّبُ قَبْلَهُ بِمَا تَبْقَى بَعْدَهُ رَائِحَتُهُ يعني: لا يتطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده.

ابن عبد البر: وهذا مذهب عمر، وابنه، وعثمان رضي الله عنهم، وبه قال عطاء، ومحمد بن الحسن، واختاره الطحاوي. وروى ابن عبد الحكم عن مالك: ترك الطيب عند الإحرام أحب إلينا. وعلى المذهب فقال الباجي: إن تطيب لإحرامه فلا فدية عليه؛ لأن الفدية إنما تجب بإتلاف الطيب في وقت هو ممنوع من إتلافه، وهذا أتلفه قبل ذلك، وإنما يبقى منه بعد الإحرام الرائحة وليس ذلك بإتلاف، فتجب فيه الفدية. ورأيت لبعض القرويين أن عليه الفدية؛ لأن استدامته بعد الإحرام كابتداء التطيب، فإن كان أراد بذلك أنه ممنوع في الحالتين فهو صحيح، وإن كان أراد به وجوب الفدية فهو غر صحيح؛ لأنه الفدية إنما تجب بإتلاف الطيب أو بلمسه، وأما الانتفاع بريحه فلا تجب به فدية وإن كان ممنوعاً، وكذلك لا تجب الفدية على من مر بالعطارين فشم ريح الطيب. وَيُكْرَهُ شَمُّ الرَّيْحَانِ وَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَشِبْهِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُؤَنَّثِ وَلا فِدْيَةَ إنما كره ذلك لأن الرائحة الطيبة تهيج شهوة النساء، ولم يحرم؛ لأنه لا يساوي الطيب المؤنث. و (مِنْ) من قوله: (مِنْ غَيْرِ الْمُؤَنَّثِ) للبيان، واحترز من بعض المذكر وهو الحناء فإن فيه الفدية كما تقدم. وَفِي مَسِّهِ وَلَمْ يَعْلَقْ، أَوْ إِزَالَتِهِ سَرِيعاً قَوْلان وفي مس المؤنث فلم يعلق أو عَلِقَ ولكنه أزاله سريعاً قولان بوجوب الفدية وعدمها. ومذهب المدونة اللزوم قال فيها: وإن مس الطيب بيده افتدى، لصق بيده أم لا. وقيده التونسي بالمسك والكافور وشبههما قال: وأما مثل البان والرياحين أو دهن البنفسج أو الورد فليس في مسه فدية. ولكن إن دهن به أو استعط فعليه الفدية انتهى. والقول بسقوط الفدية لابن القصار فيما إذا أزاله سريعاً، وأحرى أن يقوله فيما إذا لم يعلق.

وَمَنْ خَضَبَ بِحِنَّاءٍ أَوْ وَسْمَةٍ افتدى، وَلَوْ خَضَبَ الرَّجُلُ أُصْبُعَهُ مِنْ جُرْحٍ بِرُقْعَةٍ صَغِيرَةٍ فَلا فِدْيَةَ ... قال في المدونة: وإن خضب رجل رأسه أو لحيته بحناء أو بوسمة أو خضبت المحرمة يديها أو رجليها أو رأسها أو طرفت أصابعها بحناء فليفتديا. وإن خضب الرجل أصبعه بحناء لجرح أصابه، فإن كانت رقعة كبيرة افتدى. وإن كانت صغيرة فلا شيء عليه. وإن داوي بما في طيب برقعة صغيرة أو كبيرة فليفتدى. بخلاف الحناء؛ لأن الحناء إنما هو طيب مثل الريحان ليس بمنزلة المؤنث من الطيب. انتهى. والوسمة: نبت من الشجر كالكزبرة يدق ويخلط مع الحناء، وسميت وسمة من الوسامة وهي الحسن؛ لأنها تحسن الشعر. وَاسْتُخِفَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ خَلُوقِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي نَزْعِ الْيَسْيرِ، وَلا تُخَلَّقُ الْكَعْبَةُ أَيَّامَ الْحَجِّ، وَيُقَامُ الْعَطَّارُونَ مِنَ الْمَسْعَى فِيهَا .... يعني: أنه استخف ما يصيب الإنسان من خلوق الكعبة كثيراً أو يسيراً ومعنى استخفافه عدم وجوب الفدية به، ثم المصيب إن كان كثيراً فلا بد من نزعه، وإن ترك فعليه الفدية. وعن الكثير احترز بقوله: (وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي نَزْعِ الْيَسْيرِ) منه، وإنما لا تخلق الكعبة أيام الحج لكثرة المزدحمين عليها. والضمير المجرور بفي عائد على أيام الحج. وَفِي الْفِدْيَةِ فِي أَكْلِ مَا خُلِطَ بِالطِّيبِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ رِوَايَتَانِ، وَفِي الْخَبِيصِ الْمُزَعْفَرِ إِنْ صَبَغَ الْفَمَ قَوْلانِ ... يعني: أن الطعام المخلوط بالطيب قسمان غير مطبوخ ومطبوخ بالنار. فالأول فيه روايتان بوجوب الفدية وعدمها. والمشهور الوجوب. قال في المدونة: ويكره له أن يشرب شراباً فيه كافوراً، أو يأكل الدقة مزعفرة، فإن فعل افتدى. وكره في المدونة لغير

المحرم أن يشرب الماء الذي فيه الكافور للسرف. وبعدم الفدية قال أشهب. والثاني: إن لم يصبغ الفم فلا فدية وإن صبغ فقولان. ابن بشير: والمذهب نفيها؛ لأنه أطلق في المدونة والموطأ والمختصر الجواز في المطبوخ، وأبقاه الأبهري على ظاهره، وقيده عبد الوهاب بغلبة الممازج. الأبهري: بشرط أن لا يعلق باليد ولا بالفم منه شيئاً. الباجي: بعد ذكر ما قلناه: وإذا ثبت ذلك فإن المعاني المعتبرة في استهلاك الطيب على ما ذكره الأبهري: اللون والرائحة. وذكر ابن المواز: اللون والطعم، ويحتمل أن يعتبرا جميعاً الثلاث صفات على حسب ما يعتبر في المياه، ويحتمل أن يعتبر كل واحد منهما ما انفرد بذكره، دون ما ذكره الآخر، فيكون قول الأبهري أن الطيب مقصود الرائحة دون الطعم، ويكون وجه قول محمد أنه لما انتقل إلى حكم الطعام اعتبر فيه الطعم. وَيُكْرَهُ التَّمَادِي فِي الْمُكْثِ بِمَكَانٍ يَعْبَقُ فِيهِ رِيحُ الطِّيب تصوره ظاهر. وكره ابن القاسم في الموازية أن يخرج في رفقة فيها أحمال الطيب. ابن القاسم في العتبية: وأحب إلي أن يجعل يده على أنفه إذا مر بطيب. وَلَوْ بَطَلَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ لَمْ يُبَحْ كذا في ابن شاس. ابن عبد السلام: لأن حكم المنع قد ثبت فيه والأصل استصحابه، كالبول إذا ذهبت رائحته. وَلا فِدْيَةَ فِي حَمْلِ قَارُورَةِ مِسْكٍ مُصَمَّمَةِ الرَّاسِ وَنَحْوِهَا أي: لأنه لا رائحة لها حينئذ. ابن عبد السلام: ولعل مراده بنحوها قارورة المسك إذا كانت غير مشقوقة، وفيها للشافعية وجهان.

وَفِعْلُ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَالضَّرُورَةُ وَالْجَهْلُ فِي الْفِدْيَةِ سَوَاءٌ إِلا فِي حَرَجٍ عَامٍّ كَمَا لَوْ غَطَّى رَاسَهُ نَائِماً أَوْ أَلْقَتِ الرِّيحُ الطِّيبَ عَلَيْهِ فَلَوْ تَرَاخَى فِي إِزَالَتِهِ لَزِمَتْهُ الفِدْيَةِ .... يعني: أنه لا فرق في مذهبنا بين العمد وغيره. وقوله: (فِي حَرَجٍ عَامٍّ كَمَا لَوْ غَطَّى رَاسَهُ نَائِماً) أي: فلا فدية لعدم إمكان التحرز. وأيضاً فلم ينتفع بذلك. ولزوم الفدية مع تراخيه في الإزالة بعد استيقاظه ظاهر. سند: لو وقعت على رأسه نورة فحلقته افتدى لبقاء ذلك بعد اليقظة. وانظر قوله: (حرج عام) وإلقاء الريح الطيب عليه في غاية النزور والقلة. وَلَوْ أَلْقَاهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ، وَتَلْزَمُ الْمُلْقِيَ حَيْثُ لا تَلْزَمُهُ وَلَكِنْ بِغَيْرِ الصِّيَامِ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ افْتَدَى الْمُحْرِمُ. وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلانِ، وَيَتْبَعُهُ بِالأَقَلِّ مَا لَمْ يَفْتَدِ بِصِيَامٍ يعني: لو ألقى غيره الثوب على رأسه أو ألقى الطيب عليه وهو نائم فكذلك لا شيء عليه إلا أن يتراخى فتلزمه. قوله: (وَتَلْزَمُ الْمُلْقِيَ حَيْثُ لا تَلْزَمُهُ) يعني: أن النائم إذا بادر إلى النزع فلا تجب عليه فدية، وتجب على الملقي، وإن لم يبادر لزمته، ولم تلزم الملقي. وما ذكره من المبادرة هو قوله في المدونة. وقال أشهب: لا شيء عليه. وهذا ظاهر في اللباس وأما الطيب إذا أزاله حين استيقظ، فأجراه اللخمي على الخلاف بين مالك وابن القصار، فيمن تطيب وأزاله بالقرب وقد تقدم. خليل: وفيه نظر؛ لأن النائم أعذر. قوله: (وَلَكِنْ بِغَيْرِ الصِّيَامِ) أي: حيث لزمت الملقي فلا يصوم، وهو ظاهر؛ لأنه في معنى الصوم عن الغير. أشهب: وأما لو حلق رأسه أو قصر شاربه فالفدية على النائم لبقاء الانتفاع به بعد الإحرام. عبد الحق وابن يونس: وهو خلاف المدونة في التفرقة بين ما لا يبقى أو يبقى.

وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَجِدِ) أي: الفاعل ما ينسك به أو يطعم (افْتَدَى الْمُحْرِمُ) وهل ذلك مندوب أو واجب؟ قولان: ابن المواز: وإن كان الفاعل عديماً ولم يقدر عليه، فليفتد هذا المحرم عن نفسه، وظاهره الوجوب. ابن يونس: وهذا على رأيه فيمن أكره زوجته وهو محرم أن عليها أن تحج قابلاً وتهدي وتتبعه بالأقل من ثمن الطعام أو النسك. ولابن القاسم في العتبية أن الزوج إذا كان عديماً وهي مليئة ليس عليها حج، فعلى هذه الرواية ليس على النائم المطيب إذا كان الفاعل عديماً فدية؛ لأن الفدية إنما تعلقت بغيره وهذا أبين. انتهى. ونحوه لعبد الحق. وزاد أن الصواب لا شيء عليه. وقوله: (مَا لَمْ يَفْتَدِ بِصِيَامٍ) أي: إذا قلنا أن الملقي عليه يفتدي فإنه يتبعه بالأقل من الطعام والنسك، إلا أن يفتدي بصيام فلا رجوع له على الملقي، إذ لا ثمن له. فرع: فإن كان الذي طيب النائم محرماً، فقال ابن القاسم: تجب على الفاعل فديتان: فدية لمسه، وفدية [202/ب] التطيب للنائم. وقال ابن أبي زيد: ليس عليه إلا فدية واحدة كما لو طيب نفسه. ابن يونس وغيره: والأول أصوب. وَيَحْرُمُ تَرْجِيلُ الرَّاسِ وَاللِّحْيَةِ بِالدُّهْنِ بَعْدَ الإحرام لا قَبْلَهُ بِخِلافِ أَكْلِهِ، وَالأَصْلَعُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ ... الترجيل هو التسريح بالدهن، وإنما حُرِّم لما فيه من الزينة. وقوله: (بِالدُّهْنِ) أي: وإن لم يكن مطيباً. وإنما جاز قبل الإحرام؛ لأن أثره لا يبقى بعده، أو لا يبقى منه إلا اليسير، بخلاف أكله فإنه جائز. (وَالأَصْلَعُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ) أي: في منع دهن الرأس إلحاقاً له بالغالب.

فَإِنْ دَهَنَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ لِعِلَّةٍ بِغَيْرِ طِيبٍ فَلا فِدْيَةَ، وَإِلا فَالْفِدْيَةُ لعلة من شقوق ونحوها فلا فدية لعموم الحرج. والمراد باليدين باطن الكفين، وأما ظاهرهما فليفتد، نقله ابن حبيب عن مالك. قوله: (وَإِلا) يدخل فيه ثلاث صور؛ أن يدهنهما لا لعلة، أو لعلة وفيه طيب، أو يدهن غيرهما. وما ذكره المصنف قريب مما في التهذيب قال فيه: وإن دهن قدميه وعقبيه من شقوق فلا شيء عليه، وإن دهنهما لغير علة أو دهن ذراعيه أو ساقيه ليحسنهما لا لعلة افتدى. واقتصرها ابن أبي زمنين على الوجوب مطلقاً فقال: ليحسنهما أو من علة افتدى. ونقل صاحب النوادر والباجي عن ابن حبيب عدم الفدية في دهن الجسد بغير الطيب مطلقاً. ابن عبد الحكم: وإن قطر في أذنيه بدهن غير مطيب لوجع به فلا بأس، وكذلك لو جعله في فيه. وَفِي إِزَالَةِ الْوَسَخِ الْفِدْيَةُ، وَفِي مُجَرَّدِ الْحَمَّامِ قَوْلان لا خلاف في المذهب في وجوب الفدية بإزالة الوسخ قاله ابن عبد السلام. وحكى اللخمي في وجوب الفدية بالغسل في الحمام ثلاث روايات: الأولى: الوجوب، ورجحها هو وغيره؛ لأن صب الماء فيه على الجسد مظنة إزالة الوسخ. والثانية: أنها إنما تجب إن تدلك. والثالثة: إنما تجب مع التدلك وإزالة الوسخ هذا هو معنى كلامه. والثالثة هي ظاهر المدونة؛ لقوله فيها: وأكره للمحرم دخول الحمام؛ لأنه ينقي الوسخ، وإن دخله افتدى إذا تدلك وأنقى الوسخ. ابن عبد السلام: وألحق بعضهم بالتدلك صب الماء فيه بعد العرق، ونقل سند عن ابن حبيب جواز دخوله للتدفي.

وَفِي غَسْلِ رَاسِهِ بِسِدْرٍ أَوْ خَطْمِيٍّ الْفِدْيَةُ بِخِلافِ غَسْلِ يَدَيْهِ بِالحَرْضِ وَنَحْوِهِ تصوره ظاهر. والخطمي هو: بزر الخبيز. والحرض: الأشنان. وَفِي الْكُحْلِ الْمُطَيَّبِ الْفِدْيَةُ عَلَى الأَشْهَرِ، وَغَيْرِ الْمُطَيَّبِ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ مِنْ حَرٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَلا فِدْيَةَ، وَإِنْ كَانَ لِزِينَةٍ فَالْفِدْيَةُ، وَقِيلَ: إِلا فِي الرَّجُلِ .... أي: الكحل المطيب فيه قولان، والأشهر وجوب الفدية، ولم أر مقابله. وغير المطيب على وجهين إن كان لضرورة من (حريقة) أو برد فلا شيء فيه، وإن لم يكن لضرورة فالمرأة عليها الفدية، وفي الرجل قولان المشهور وجوبها. وقال عبد الملك: لا تجب عليه؛ لأنه لاحظ له في الزينة، نقله ابن الجلاب. وحكى ابن راشد الاتفاق على الوجوب في المرأة. التلمساني: واتفق العلماء على منع المرأة من الكحل إذا كان بغير ضرورة؛ لأن ذلك زينة لها. وحكى عبد الوهاب وابن بشير قولا بسقوط الفدية عنها وأنه مكروه. وَلهَا لُبْسُ الْحُلِيِّ وَالْخَزِّ وَالْحَرِيرِ لأن حكم المرأة بعد الإحرام كحكمها قبله؛ أعني في اللباس، إلا في ستر وجهها وكفيها، وظاهر كلام القاضي أنها ممنوعن من التزين بالحلي. ابن عبد السلام: ولكنه شيء انفرد بنقله. انتهى. ونقل سند اختلافا بين أصحابنا في تحريم الزينة كالكحل والحلي للنساء. وَيَحْرُمُ الْحَلْقُ وَالْقَلْمُ وَإِبَانَةُ الشَّعَرِ مُطْلَقاً بِخِلافِ الْحِجَامَةِ، وَإِنْ كُرِهَتْ إِلا لِضَرُورَةٍ (الْحَلْقُ) أي: من أي موضع كان. وذكر الحلق وإن كانت الإبانة تعمه؛ لأنه محل النص، وهو قوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (. وقوله: (وَالْقَلْمُ) أي: وتقليم الأظافر، فإن قلم أظفار يديه أو رجليه ابن القاسم: أو ظفر يد واحدة أو ظفرين من يد من غير كسر. قال أشهب: أو قص من كل يد واحدا

فعليه الفدية. وفي الظفر الواحد تفصيل سيأتي. وما ذكره من كراهة الحجامة إلا لضرورة هو المشهور. وقال سحنون: هي جائزة إذا لم يزل بسببها شعرة في الرأس خيفة قتل الدواب. قال في الكتاب: وإن اضطر محرم إلى الحجامة جاز لمحرم آخر أن يحجمه، ويحلق موضع الحجامة إذا أيقن أنه لا يقتل دواباً. أبو إبراهيم: قف على حلق القفا لحجامة أو غيرها. وكره ذلك مالك في جامع العتيبة، ولم يره حراما. وقد نبه الباجي في المنتقى على إجازة ذلك من غير كراهة من هذا الموضع في جامع الموطأ. وحكى ابن بشير إذا حلق للحجامة قولين في الفدية: أحدهما: وجوب الفدية للحلق. والثاني: نفي الوجوب لجواز الحجامة. قال: وهل تجب لحلق الرأس أو شيء منه الفدية أو إطعام طعام؟! أما إن انتفع بإزالة الشعث فالفدية واجبة، وأما إن لم ينتفع بذلك فقولان: أحدهما وجوب الفدية. والثاني: وجوب إطعام شيء من الطعام. وهذا مراعاة لقتل الهوام التي تكون في الشعر. انتهى. وما نقله من سقوط الفدية غريب. قال في الموطأ: ولا بأس أن يبط المحرم خراجه ويفقأ دمله، ويقطع عرقه إذا احتاج إلى ذلك. وَأَمَّا التَّسَاقُطُ بِالتَّخْلِيلِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَوْ بِالرِّكَابِ، أَوْ بأُصْبُعِهِ فِي أَنْفِهِ فَلا فِدْيَةَ .... تصورة ظاهر. قال في المدونة: وهذا خفيف، ولا بد للناس منه. وفي الموازية: لو سقط شيء من شعر رأسه بحمل متاعه فلا شيء عليه، وكذلك إن جر يده على لحيته، فتسقط منه الشعرة والشعرتان. ابن القاسم: ولو اغتسل فتساقط من ذلك شعر كثير فلا شيء عليه وإن كان تبردا، وإن قتل بذلك قملا برأسه، فلا شيء عليه في [203/أ] الجنابة، وعليه الفدية في التبرد. أصبغ: وهذا فيما له بال من الدواب. وأما في مثل الواحدة فليطعم ثمرات أو حفنات من سويق أو كسرات. قال في المختصر: ومن شأنه قرض

أظفاره أو لحيته بأسنانه فعليه فدية واحدة، وكذلك قال في العتبية. ابن القاسم: يريد مالك في ظني وإن كان مرارا. وَلا يَغْمِسُ رَاسَهُ فِي الْمَاءِ خِيفَةَ قَتْلِ الدَّوَابِّ قال في المدونة: وأكره له غمس رأسه في الماء خيفة قتل الدواب، وإن فعل أطعم شيئا من طعام. وأكره للصائم الحلال غمس رأسه في الماء، فإن فعل لم يقض إلا أن يدخل الماء حلقه. انتهى. وأجازه ابن وهب وأشهب وعليه أكثر العلماء. أشهب: وما يخاف في الغمس يخاف في صب الماء، وكان ابن وهب وأشهب يتغاطسان في الماء وهما محرمان؛ إرادة مخالفة ابن القاسم. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ربما قال لي عمر ونحن محرومون: تعال نتغاطس لننظر أينا أطول نفسا. قال في الجلاب: ويجوز له أن يغسل رأسه تبردا. وحكى عن مالك كراهة الغسل إلا من ضرورة. فرع: كره مالك في العتبية لمن اغتسل أن يجفف رأسه بثوب، قال: ولكن يحركه بيده. قال في البيان: وإنما كره ذلك مخافة أن يجففه بشدة فيقتل بذلك دواب جسده، ولو جففه برفق لا يخشى معه القتل لم يكره. وَجَائِزٌ أَنْ يُبْدِلَ ثَوْبَهُ أَوْ يَبِيعَهُ بِخِلافِ غَسْلِهِ خِيفَةَ قَتْلِ دَوَابِِّهِ إِلا فِي جَنَابَةٍ فَيَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ وَحْدَهُ .... قوله: (وَجَائِزٌ أَنْ يُبْدِلَ ثَوْبَهُ أَوْ يَبِيعَهُ) مثله في المدونة، قال مالك وابن القاسم: لا بأس أن يبيع ثيابه لقمل أذاه فيها أو غيره. وقال سحنون: إذا باع الثياب فقد عرض القمل للقتل. قال في البيان: أجاز مالك ذلك. كما يجوز له أن يتركه ويلبس غيره. ورأى سحنون أنه إذا باعه فقد عرض القمل للقتل كما لو طرد صيدا من الحرم إلى الحل. وليس

هو مثله؛ لأن الصيد أخرج إلى غير مأمن. والقمل يجوز قتله قبل البيع وبعده لغير المحرم. مالك: ولا بأس أن ينقل القملة من ثوبه أو بدنه إلى مكانها. ابن الحاج: وسئل مالك عن المحرم يجد عليه البقة وما أشبهها فيأخذها فتموت. قال: لا شيء عليه في هذا. وقوله: (بِخِلافِ غَسْلِهِ خِيفَةَ قَتْلِ دَوَابِِّهِ) أي: فيكره. كذا في الموازية، لا كما يعطيه ظاهر لفظه أنه ممنوع. وفي معنى الجنابة سائر النجاسات. قال في المدونة: ولا يغسل ثوبه بالحرض خشية قتل الدواب. ابن يونس: زاد في رواية الدباغ عن مالك: وإن فعل افتدى. وقال ابن القاسم: يتصدق بشيء لموضع الدواب. وظاهر كلام المصنف أنه لا يغسله للوسخ، ونحوه في مناسك ابن الحاج. والذي في الموازية جوازه. ابن الحاج: ولا يجوز له أن يغسل ثوب غيره من محل أو محرم؛ لأنه لا ضرورة تدعوه لذلك كما في ثوبه. وقوله: (بِالْمَاءِ وَحْدَهُ) قال في الموازية: وإن مات فيه بعض الدواب فلا شيء عليه. وَتَكْمُلُ الْفِدْيَةُ عَلَى مَا يُتَرَفَّهُ بِهِ وَيَزُولُ بِهِ أَذىً؛ كَالْعَانَةِ، وَمَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَنَتْفِ الإِبِطِ وَالأنْفِ .... أي: تجب الفدية بكل ما يجمع الترفه ويزيل الأذى، وتصوره ظاهر. أَمَّا لَوْ نَتَفَ شَعَرَةً أَوْ شَعَرَاتٍ أَوْ قَتَلَ قَمْلَةً أَوْ قَمَلاتٍ أَطْعَمَ حِفْنَةً بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَحهَا بِخِلافِ الْبُرْغُوثِ وَالْقُرَادِ وَنَحْوِهِ ... أتى بقملات وشعرات بجمع المؤنث السالم ليدل على القلة؛ لأنه للشعرة فأقل. وما ذكره المصنف قريب مما في المدونة. وظاهر ما حكاه في النوادر خلافه، قال: ومن الموازية من نتف شعرا من أنفه، أو حلق من رأسه لضرورة أو لموضع المحاجم ناسياً أو جاهلا-

افتدى، وكل ما كان لإماطة أذى– وإن قل– ففيه الفدية، وما كان لغير إماطة أذى ولا لمنفعة– جاهلاً أو ناسياً– فعليه للشعرة أو الشعرات قبضة من طعام. انتهى. ويمكن حمل ما في المدونة على ما إذا نتف الشعرة والشعرات لغير إماطة الأذى، فيتفق ما فيها وما في الموازية. واختلف إذا قتل الكثير من القمل، فقال مالك: عليه الفدية. قال في البيان: ما ورءاه من إماطة الأذى. وقال ابن القاسم: يطعم كسرة. ولأجل أنه ممنوع من قتل الدواب قال مالك: لا يشد في حك ما خفي من جسده، وله ذلك فيما يراه، وإن أدمى جلده. قوله: (حِفْنَةً) كذا في المدونة. وفي الموازية: قبضة، وهي الحفنة، (بِخِلافِ الْبُرْغُوثِ) أي فله طرحه، وكذلك القراد ونحوه؛ لأنه يعيش بالأرض. التلمساني: واختلف في البراغيث، فقال في الموازية: لا بأس بقتلها. وذكر ابن الحارث عن مالك أنه يطعم عنها إذا قتلها. تنبيه: إذا ثبت منع قتل القمل فهل ذلك من باب إلقاء التفث أو من باب قتل الصيد؟ الباجي: ولم أر فيه نصا. قال: وعندي يحتمل الوجهين: فيشبه الصيد؛ لأنه يحرم قتل القملة توجد بالأرض، ويشبه من جهة أنه لا يجوز إلقاؤها عن الجسد إلقاء التفث؛ إذ الصيد يجوز له إلقاؤه عن نفسه، وثبت له الشبهان، ويحتمل أن يمنع من الطرح لما فيه من تعريضه للقتل، فكان كمن أزال فرخ صيد من موضعه. ثم إن قلنا: هو من باب الصيد تعلقت الفدية بقليله كما تتعلق بكثيره، وأن قلنا: إنه من باب إلقاء التفث تعلقت بكثيره دون قليله كالشعر انتهى المعنى. خليل: وقوله: إن قلنا إنه من باب الصيد تعلقت الفدية بقليله مشكل؛ لأنه لا نعلم في المذهب في قتل [203/ب] قملة أو قملات قولاً بوجوب الفدية أصلاً. وقد قال مالك: لا بأس أن يفلي الحلال في الحرم، وكذلك قال ابن راشد: ظاهر المذهب أن قتل القمل ليس من باب الصيد.

وَفِي تَقْرِيدِ بَعِيرِهِ يُطْعِمُ عَلَى الْمَشْهُورِ، بِخِلافِ الْعَلَقِ وَنَحْوِهِ تقريد البعير: هو إزالة القراد عنه وظاهر كلام المصنف أن القولين في مجرد التقريد. ابن عبد السلام: والذي حكاه غيره أن القولين إنما هما إذا قتل القراد. قوله: (بِخِلافِ الْعَلَقِ) أي: وسائر الحيوان إلا القراد والحلم ونحوه مما هو من دواب جسده. الباجي: وكذلك للإنسان أن يطرح عن جسده القراد والنمل ونحوهما مما ليس من دواب جسده. الباجي: ولا يقتل شيئا من ذلك، فإن قتله فقد قال مالك: يطعم، وقال مرة: أحب إلي أن يطعم. وإن ابتدأ الإنسان شيء بالضرر فقتله فقد قال مالك: في محرم لذغته ذرة فقتلها وهو لا يشعر أرى أن يطعم شيئا وكذلك النملة. انتهى. وَلَمْ يُحِدَّ مَالِكً فِيمَا دُونَ إِمَاطَةِ الأَذَى أَكْثَرَ مِنْ حِفْنَةٍ تصوره ظاهر. فرع: كره مالك في العتبية للمرأة المحرمة النظر في المرآة خيفة أن يدعوها النظر فيها إلى إزالة شعث، قال: وليس من شأن المحرم تسوية الشعر، فإن فعل فلا شيء عليه، وليستغفر الله، وإن نظر فيها لوجع فلا بأس. وكره مالك في العتبية إنشاد الشعر إلا ما خف. وأجاز ذلك ابن حبيب، ما لم يكن فيه خنا، أو ذكر النساء. وَلَوْ قَلَّمَ ظُفْراً وَاحِداً لإِمَاطَةِ الأَذَى افْتَدَى، وَإِلا فَحِفْنَةٌ، أَمَّا لَوِ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ فَقَلَّمَهُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ .... يعني: أن لتقليم المحرم الظفر الواحد ثلاثة أحوال: إن قلمه لإزالة شعث، بإن استبشع طوله فعليه الفدية كاملة وهذا هو المشهور. وفي الجلاب: يطعم مسكينا. وعن أشهب: يطعم شيئا. وإن انكسر فقلمه لذلك لم يكن عليه شيء.

التونسي: وعلى هذا لو انكسر له ظفران أو ثلاثة فقلمهما لذلك ما كان عليه شيء قال: ولم يجعله إماطة أذى بإزالة المكسور كما قال إذا نتف شعرة من عينه أن ذلك إماطة أذى، وإن لم يكن لأحد الأمرين، وإليه أشار بقوله: (وإلا فحفنة) من طعام. فرع: إن قلم أظفاره لأجل أن بأصابعه قروح لا يقدر على مداواتها إلا بتقليم أظفاره، فإن ذلك جائز، وعليه الفدية، قاله مالك. وَلَوْ فَعَلَ الْحَلالَ بِالحَرَامِ مَا يُوجِبُ الفِدْيَة بِإِذْنِهِ فَعَلَى الْحَرَامِ، وَمَكْرُهَاً أَوْ نَائِمَاً فَعَلَى الْحَلالِ .... اعلم أن الأقسام أربعة، تكلم المصنف على ثلاثة وترك الرابع لوضوحه وهو فعل الحلال بالحلال. الأول من الثلاثة: إذا فعل الحلال بالحرام ما يوجب الفدية بإذنه أي: بإذن المحرم. ابن عبد السلام: وفي معناه عندي أن لا يأمره ويبتدئ ذلك الحلال من نفسه فيتركه الحرام اختيارا. مثال ذلك ما لو حلق رأسه، أو قلم أظفاره أو طيبه. وقوله: (وَمَكْرُهَاً أَوْ نَائِمَاً فَعَلَى الْحَلالِ) أما المكره فواضح، وأما النائم فمراده إذا لم يتراخ النائم في الإزالة بعد الاستبقاظ، وأما لو تراخى لزمت النائم كما تقدم. وَلَو حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَاسَ حَلالٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَفْتَدِي، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حِفْنَةٌ؛ لِمَكَانِ الدَّوَابِّ، وَلَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ .... هذا هو القسم الثاني، وهو عكس الذي قبله. وحمل البغداديون قول مالك على ظاهره. ابن عبد السلام: وحمله التونسي على الحفنة، فيكون وفاقا لقول ابن القاسم. انتهى. خليل: والذي في العتبية حمل كلام مالك على ظاهره، وتردد ابن يونس في حمل كلام مالك على الخلاف أو الوفاق، وحمله الباجي واللخمي على الخلاف. ولفظ اللخمي: فإن لم

يكن برأس الحلال قمل فلا شيء عليه، وإن كان يسيرا أطعم شيئا من طعام، وإن كان كثيراً فقال مالك: يفتدي. وقال ابن القاسم: يتصدق بشيء من طعام. واختلف في تعليل الفدية، فقال بعض البغداديين: هي للحلاق. وقال عبد الحق: هي للدواب. سند: وهو الأظهر، وإلى الأول ذهب صاحب البيان، قال: ووجه حمل قوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ (على عمومه في رأسه ورأس غيره. وتأول أيضاً ما وقع في العتبية: أن رجلا أعطى جارة له إزاراً له تفليه من القمل وهو محرم، وجرايته محرمة –أن عليه الفدية؛ على أن ذلك لأجل أنه أماط بذلك عن نفسه أذى، لا من ناحية قتل الدواب. قال: وقد قال يحيى عن ابن القاسم: إنما قال ذلك مالك احتياطاً، ولو أطعم شيئاً من طعام أجزأه. انتهى. وقال التونسي: نص مالك في القمل إذا كثر أن فيه فدية الأذى وإن قتله في رأس حلال، وهو مشكل؛ لأنه لم يمط عن نفسه أذى ولا عن محرم، وإنما أماطه عن حلال، وهو لو أماط الأذى عن حلال لم يلزمه شيء، كما لو قلم أظفار حلال أو حلق شعره في موضع يتيقن أنه لا دواب فيه. قال: فصارت الفدية لقتل الدواب خاصة. وقد كان يجب ألا يكون في ذلك فدية، وإنما في ذلك جزاء ما قتل، ويحتاج حينئذ إلى حكومة، كما يحكم في الجراد والذر والنمل؛ لأنه لا بد في ذلك من حكومة. فما الفرق بين القمل إذا لم يمط به أذى عن نفسه وبين الذر والجراد؟ انتهى. قوله: (وَلَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ) ظاهر، وهو يرجح من تأول أن الفدية للقمل لا للحلق، إذ لو كانت للحلق لوجبت هنا للقلم. وَلَوْ حَجَمَ مُحْرِمٌ مُحْرِماً فَحَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْمَحْجُومِ، وَعَلَى الْحَالِقِ حِفْنَةٌ؛ لِمَكَانِ الدَّوَابِّ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَلا دَوَابَّ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ .... هذا هو القسم الثالث، وتصوره [204/ أ] ظاهر.

وَلَو لَبِسَ وَتَطَيَّبَ وَحَلَقَ وَقَلَّمَ فِي فَوْرِ وَاحِدٍ فَفِدْيَةٌ تُجْزِئهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ تَرَاخَتْ لَتَعَدَّدَتْ كَمَا لَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ الْيُمْنَى الْيَوْمَ وَالْيُسْرَى غَداً .... يعني: إذا تعددت موجبات الفدية في فور فالمذهب أنها تجزئ فدية واحدة كسجود السهو، وكما لو بال وغاط ولمس. وقال اللخمي: إن كانت نيته أولا فعل جميعها فعليه فدية واحدة، وإن كانت نيته أحدها ثم حدثت نية أخرى بعد أن فعل– فمذهب المدونة أن عليه فدية واحدة، ويتخرج فيها قول بالتعدد مما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وهذا والله أعلم مراده بمقابل المشهور، ولهذا كان الأولى أن يقول: على المنصوص. ابن عبد السلام: ويمكن أن يخرج فيها الخلاف مما قاله ابن الماجشون وابن المواز فيمن لبس مئزرا فوق مئزر أن عليه فديتين، ولا إشكال في تعددها مع التراخي. وَلَوْ تَدَاوىَ لِقُرْحَةٍ بِمُطَيِّبٍ مِرَاراً فَكَذَلِكَ إِلا أَنْ يَنْوِيَ التَّكْرَارَ فَفِدْيَةٌ وَإِنْ تَرَاخَى يَتَعَدَدَ قوله: (فَكَذَلِكَ) أي: فتتعدد، إلا أن ينوي التكرار. وتقرر لنا من هنا أن موجبات الفدية إن تعددت في فور فليس فيها إلا فدية واحدة. وكذلك إذا لم تكن في فور ولكن نوى بها التكرار. وإنما يلزم تعددها إذا لم تكن في وقت واحد ولم ينو التكرار. وَلَوْ لَبِسَ لُبْسَاتٍ فَكَذَلِكَ فإن كان في وقت واحد ففدية واحدة، وإن تراخى تعددت، إلا أن ينوي التكرار. وَلَوْ قَدَّمَ لبس الثَّوْبَ ثُمَّ لَبسَ السَّرَاوِيلَ فَفِدْيَةٌ وَإِنْ تَرَاخَى، ولَوْ عَكَسَ الأَمْرَ وَتَرَاخَى تَعَدَّدَتْ .... اعلم أن أصحابنا إنما يوجبون الفدية باللباس إذا حصل به انتفاع من حر أو بر. ولهذا قال مالك: من ابتاع خفين فقاسهما في رجليه وهو محرم فال شيء عليه. ولهذا لم

يوجبوا على من لبس سراويل بع القميص، أو لبس العمامة بعد القلنسوة، أوجبة بعد القميص – إلا فدية واحدة؛ لاتحاد أمر المنفعة، ولو عكس تعدد؛ لأنه انتفع بالقميص ثانيا غير ما انتفع به أولا، وينبغي أن تقيد الأولى بما إذا كان السراويل لا يفضل عن الثوب. والى ذلك أشار المازري في مسألة القلنسوة والعمامة، وأما إذا نزل فتتعدد الفدية؛ لأنه انتفع ثانيا بغير ما انتفع به أولا، بل قال اللخمي: القياس أن يكون عليه في السراويل والجبة فدية ثانية، قال: وقال محمد فيمن ائتزر بمئزر فوق مئزر أن عليه فديتين، إلا أن يبسطهما ثم يأتزر بهما. وذكر ابن عبدوس عن عبد الملك مثله. وإن لبس قميصا وهو صحيح ثم مرض ثم صح ففدية واحدة. محمد: وإن لبسه لمرض ثم صح وتمادى على لبسه فعليه فديتان؛ يريد لأن نيته كانت أن يلبسه للمرض خاصة. وقد بعد ما بين النية الأولى والثانية، والقياس على أصله أن لا شيء عليه في التمادي؛ لأنه بانقضاء المرض تمادى في اللباس فأشبه ما قرب فعل بعضه من بعض. ولذلك إن تطيب وهو صحيح ثم مرض ثم صح وهو عيه ففدية واحدة. وكذلك إن استعمل ذلك لمرض ثم صح وهو عليه ولم يغسله كان عليه على قول محمد فديتان، وإن وصف له طيب فاستعمله ثم أصاب طيب آخر بقرب الأول ففدية واحدة، وإن تباعد ما بينهما وذهبت رائحة الأول ففديتان، وكذلك إن لم تذهب رائحة الأول حتى استعمل الثاني؛ لأنه لو لم يستعمل الثاني ذهبت رائحة الأول قبل ذلك. انتهى. ثُمَّ حَيْثُ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسٍ أَوْ خُفٍّ فَيُعْتَبَرُ انْتِفَاعُهُ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ دَاوَمَ كَالْيَوْمِ فَإِنْ نَزَعَهُ مَكَانَهُ فَلا فِدْيَةَ .... موجبات الفدية قسمان: منها ما يقع الانتفاع به كحلق الشعر والطيب وهذا تجب فيه الفدية من غير تفصيل، ومنها ما لا ينتفع به إلا بعد طول فلا تجب فيه الفدية إلا بالانتفاع. وتصور كلامه ظاهر. وذكر اللخمي وغيره قولين في وجوب الفدية إذا صلى بثوب صلاة، بناء على أنه هل يعد طولا أم لا؟

وَلا إِثْمَ عَلَى ذِي عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ يعني: أن وجوب الفدية لا يستلزم وجوب الإثم، بل كل من وجبت عليه الفدية إن فعل موجبها لعذر لم يكن عليه إثم، وكان عليه الفدية فقط. وإن لم يكن لعذر فعليه الإثم والفدية. والأصل في هذا قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (. تنبيه: وربما ارتكب بعض العوام شيئا من المحرم وقال: أنا أفتدي متوهما أنه بالفدية يتخلص من الإثم وذلك خطأ صريح وجهل قبيح، وذلك بمنزلة من يقول: أنا أشرب الخمر والحد يطهرني، قال مالك في الموازية: ولا ينبغي أن يتعمد المحرم ما فيه الفدية من غير ضرورة ليسارة الفدية وأنا أعظه عن ذلك. وَيَحّرُمُ بِكُلٍّ مِنَ الإحرام لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَو الْحَرَمِ صَيْدُ الْبَرِّ كُلِّهِ؛ مَاكُولاً أَوْ غَيْرَهُ مُتَأَنَّساً أَوْ غَيْرَهُ مَمْلُوكاً أَوْ مُبَاحاً فَرْخاً أَوْ بَيْضاً أو غَيْرَهُمَا .... واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ([المائدة: 95] فقيل: وقد أحرمتم بحج أو عمرة، وقيل: وقد دخلتم في الحرم. وقيل: هما مترادفان، فإنه يقال: أحرم فلان إذا دخل في الحرم، وهذا القول هو الذي اعتمد عليه الفقهاء، ولهذا قال المصنف: (بِكُلٍّ مِنَ الإحرام) و (الْحَرَمِ). واحترز بقوله: (صَيْدُ الْبَرِّ) من صيد البحر فإنه حلال. وطير الماء حرام كغيره. قال في المدونة: والضفدع وترس الماس من صيد البحر. أشهب: وقد قيل: في الضفدع يطعم شيئاً. الباجي: راعى في هذه الرواية قول ابن نافع أنه لا يؤكل إلا بذكاة، قال: وكذلة على قوله في السلحفاة لا تؤكل إلا بذكاة، ولا يجوز للمحرم

اصطيادها. قال في المدونة: وهذه السلحفاة التي تكون [204 / ب] في البراري هي من صيد البر، إذا ذكيت أكلت ولا تحل إلا بذكاة ولا يصيدها المحرم. والجراد عندنا من صيد البر، نص عليه في المدونة. ونبه بقوله: (مَاكُولاً أَوْ غَيْرَهُ) على خلاف الشافعي رضي الله عنه في قصره ذلك على المأكول. وَاسْتُثْنِيَ الْفَارَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدْأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ الاستثناء في السنة فقد روي في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم؛ الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" ولمسلم: "خمس فواسق". بالإضافة من غير تنوين. ابن دقيق العيد: وبين الإضافة والتنوين فرق دقيق في المعنى، ذلك أن الإضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل، وربما أشعر بالتخصيص، بخلاف الحكم في غيرها بطريق المفهوم، وأما مع التنوين فإنه يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى، وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك وهو القتل معلل بما جعل وصفا وهو الفسق، فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب، وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص. انتهى. وفي الصحيح أيضاً: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحداة". فأقسط في هذا الحديث العقرب، وزاد الحية فوجب جمعهما معاً لصحة الحديثين. ابن عبد السلام: وزاد في هذا لفظ الأبقع، وهل لفظ الغراب مطلق، فيكون الأبقع مقيد له، أو عام، فيكون هذا على وفقه لا مخصصاً؟ في ذلك نظر. والأقرب هو الثاني. وقد ذهبت فرقة إلى أن النهي مقصور على الغراب الأبقع انتهى.

قال في الذخيرة: ويلحق بالفأرة ابن عرس، وما يقرض الأثواب من الدواب، ويلحق بالعقرب الرتيلا. وهل يقتل الوزغ؟ قال مالك: لا بأس بقتل الحلال الوزغ في الحرم. مالك: ولو تركت لكثرت وغلبت. الباجي: فجعل مالك رحمه الله أذاها في كثرتها؛ لأن لها أذى بإفساد ما تدخل فيه. مالك: وسمعت أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتلها، وللمحرم أن يقتلها في الحل والحرم. الباجي: ومعنى ذلك أنه لا يكون غالبا إلا في البيوت وحيث يقتله ويدفع مضرته الحلال ومدة الإحرام يسيرة. وحمل مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقتله على الحلال سواء كان في الحرم أو غيره. مالك: وإذ قتله المحرم أطعم كسائر الهوام. وقال اللخمي: القياس أن يقتل قياسا على العقرب، وكذلك مال ابن عبد البر إلى جواز قتله، قال: وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الوزغ وسماه فريسقا. وقد أجاز مالك قتل الأفعى وليست من الخمس. وَهُوَ الأَسَدُ وَالنَّمِرُ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يَعْدُو، وَقِيلَ: الإِنْسِيُّ الْمُتَّخَذُ يعني: أنه اختلف في تفسير الكلب العقور، فالمشهور أنه كل عاد من السباع. ابن عبد السلام: والشاذ أنه الكلب الأنسي. وتبع المصنف في نقله الشاذ ابن بشير وابن شاس، وأظن أنهما رأيا ما في اللخمي وهو قوله: وظاهر قول أشهب أنه الأنسي؛ لأنه قال: يقتل الكلب وإن لم يعقر. انتهى. زاد في النوادر وإن كان كلب ماشية. وليس في هذا اللفظ ما يدل على الحصر؛ لاحتمال أن يقول أشهب: يقتل مع ذلك الأسد والنمر ونحوهما، بل نص أشهب وهو في النوادر قبل الكلام الذي حكاه اللخمي ومتصل به على أنه يقتل صغار السباع، وهو يقتضي أنه قائل بقتل السباع. والأشبه ما قاله بعضهم على أنهم اتفقوا على دخول السباع تحت لفظ الكلب العقور، واختلفوا في الكلب والمشهور عدم دخوله، واحتج من قال إن المراد بالكلب العقور هو الأسد ونحوه بما رواه

الترمذي وحسنه أنه عليه الصلاة والسلام قال في عتبة بن أبي لهب: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك"، فعدا عليه الأسد فقتله. انتهى كلام ابن عبد السلام باختصار. خليل: وقد يقال إن معنى قول ابن بشير وابن شاس والمصنف في الشاذ أنه الأنسي المتخذ أنه يلحق بذلك السباع من باب أولى، ويكونوا استغنوا بالأخف عن الأشد، وعلى هذا فيستوي كلامهم مع ما نقله الباجي. ولم يختلف قول مالك في الأسد والنمر والفهد أنه يجوز قتلها. واختلف قوله في الذئب، فروى ابن عبد الحكم إباحة ذلك، ومنعه مالك مرة. ولا يقتل المحرم ضبعاً ولا ثعلباً ولا هراً وحشياً ولا إنسياً، ولا قرداً، ولا خنزيراً برياً أو بحرياً. وعن مالك: وفدى ذلك كله. وروي عن مالك قتل القرد والخنزير، ووقف مع محمد في خنزير الماء. ابن حبيب: ولا يقتل الدب، فإن قتله فعليه جزاؤه. مالك: ولا بأس بقتل البراغيث. وقال أيضا: إن أطعم لذلك شيئا فهو أحب إلي. وَفِي الْغُرَابِ وَالْحِدْأَةِ غَيْرِ الْمُؤْذِيَيْنِ قَوْلانِ كَصِغَارِهِمَا وَمَا آذَى مِنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ كَغَيْرِهِمَا .... منشأ الخلاف في الغراب والحدأة غير المؤذيين هل النظر إلى اللفظ فيقتلان أو إلى المعنى فلا يقتلان؟ الباجي: وقد اختلف قول مالك رحمه الله في إباحة قتلهما ابتداء. وظاهر مذهبه ما أثبته في الموطأ وهو الأشهر عنه –إباحة قتلهما. وروى عنه أشهب منع ذلك للمحرم. وفي الجواهر: المشهور أن الغراب والحدأة يقتلان. وإن لم يبتدئا بالأذى. وروى أشهب المنع وقاله ابن القاسم. وقيل: إلا أن يؤذيا فيقتلان، وإن قتلهما من غير أذى فلا شيء عليه. ومراد المصنف بـ (غَيْرِ الْمُؤْذِيَيْنِ) من لم يفعل الإذاية، لا من لم يؤذ ألبتة؛ لعدم تحقق ذلك. قوله أيضا: (كَصِغَارِهِمَا) أي: [205/أ] فيها أيضا القولان. ابن راشد وغيره: والمشهور القتل؛ لعموم الحديث. وقال ابن هارون: المشهور في الصغار المنع.

وقوله: (وَمَا آذَى مِنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ كَغَيْرِهِمَا) أي: فالقولان أيضاً في قتل الطير إذا أذى. قال الباجي: لا خلاف في المذهب أنه لا يجوز قتل سباع الطير غير ما في الحديث ابتداء، ومن قتلها فعليه الفدية، فإن ابتدأت بالضرر فلا جزاء على قتلها على المشهور من المذهب فيمن عدت عليه سباع الطير أو غيرها. وقال أشهب: عليه في سباع الطير الفدية وإن ابتدأت بالضرر. وقال أصبغ: من عدا عليه سبع من الطير فقتله وداه بشاة. ابن حبيب: هذا من أصبغ غلط. واختج ابن القاسم في المبسوط أن الإنسان أعظم حرمة من الصيد، فإن قتله الإنسان دفاعا عن نفسه فلا شيء عليه. انتهى. وهذا يؤخذ من كلام المصنف؛ لأن قوله: (مَا آذَى) يدل ظاهرة على أنه فعل الإذاية، ولم أر ما حكاه من الخلاف فيما آذى من غير طير والمنقول عدم جواز القتل. وَعَلَى أَلا يَقْتُلَ الْجَمِيعَ فَفِي الْجَزَاءِ قَوْلانِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: مَنْ عَدَا عَلَيْهِ سَبُعٌ مِنَ الطَّيْرِ وَقَتَلَهُ فَدَاهُ بِشَاةٍ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هَذَا غَلَطٌ، وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، وَإلا فَلا خِلافَ .... أي: إذا فرعنا على عدم القتل في الجميع؛ أي: في الغراب والحدأة غير المؤذيين والصغار وما عدا من الطير فهل عليه جزاء تحقيقا للمنع أم لا؛ للاختلاف في ذلك؟ وعين في الجواهر في مسألة الطير المؤذي غير الغراب والحدأة – ينفي الجزاء. ويشكل قول أصبغ من وجهين: الأول: أنه يجوز دفع الصائل من الآدمي ولا شيء فيه عليه، فكيف بهذا؟! الثاني: تخصيصه بشاة والقياس أن تكون فيه القيمة، وحمل بعض المتأخرين قول أصبغ على أنه كان قادرا على الدفع بغير القتل، وأما لو تعين القتل في الدفع فلا يختلف فيه. وما حكاه المصنف عن أصبغ كذلك حكاه الباجي وغيره، وقد تقدم لفظ الباجي، وما ذكره ابن عبد السلام هنا ليس بظاهر.

وَيُقْتَلُ صِغَارُ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَفِي صِغَارِ الْكَلْبِ قَوْلانِ الضمير في (غَيْرِهِمَا) عائد على (الغراب والحدأة) ومراده صغار الفأرة والحية والعقرب؛ لأن صغار هذه الأشياء تؤذي كما تؤذي كبارها. وقوله: (وَفِي صِغَارِ الْكَلْبِ قَوْلانِ) زاد بعضهم الكراهة ونسبه لابن القاسم وابن حبيب. ومذهب المدونة عدم القتل. ابن القاسم: وإن قتلها لم يفدها. وقال أشهب: يفديها، وكان الأولى أن يذكر صغار الكلب مع صغار الغربان والأحدية ويذكر في الجميع قولين. فرع: نص عبد الوهاب على أن الزنبور مما يجوز للمحرم قتله. ونص في الجلاب على أنه يطعم إن قتله. فيحتمل أن يكون خلافا. ويحتمل أن يكون كلامه في الجلاب على ما إذا قتله في عشه، وكلام عبد الوهاب على ما إذا ابتدأ بالضرر. وقد ذكر إسماعيل القاضي أنه اختلف في الزنبور. وَيَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ تَسَببُّبٍ أَوْ بَقَاءِ يَدٍ، وَتَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ كَقَتْلِهِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ لِحَاقَهُ بِجِنْسِهِ بِغَيْرِ نَقْصٍ فَلا جَزَاءَ وَيُنْقِصُ فِيمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ قَوْلانِ، وَإِنْ شَكَّ فَقَوْلانِ .... أي: ويلزم الجزاء بقتل ما لا يجوز قتله بمباشرة أو تسبب أو بقاء يد عليه، وتعريضه للتلف موجب للجزاء كقتله. ففي المدونة: من طرد صيدا فأخرجه من الحرم فعليه جزاؤه. وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يظن أنه ينجو هناك؛ لأن أشهب نص على أن من أخذ صيدا من الحرم وطرحه في الحل أنه لا شيء عليه إذا كان مما ينجو بنفسه. ابن يونس: ونحوه لابن القاسم. انتهى. لكن حكى التونسي في إخراج الصيد قولين؛ أولهما: الجزاء وأطلق، ثم قال: وقيل: إذا أخذه من الحرم ثم أطلقه في الحل وكان ينجو بنفسه ولو كان في الأندلس أنه لا جزاء

عليه، وفيه نظر؛ لأنه أخذه من محل أمن إلى محل يقصد اصطياده فيه، لا سيما إن تحققنا أنه لا يبلغ الحرم لبعد المسافة. انتهى. وكذلك يلزم الجزاء إذا نتف ريشه وغاب عنه. فإن أمسكه متى نسل ريشه وتحقق لحاقه بالصيد من غير نقص فلا شيء عليه على المشهور. وقال بان حبيب: يطعم مسكيناً. وقال محمد: يتركه حيث نتف ريشه ويخرج جزاءه، واختلف إذا تيقن لحاقه بنقص هل يلزمه ما بين القيمتين؟ المشهور وهو مذهب المدونة لا شيء عليه؛ لأن الجزاء كالكفارة، فكما لا يلزم بعض الكفارة في أبعاض الإنسان لا يلزم بعض الجزاء في أبعاض الصيد، ولفظها: وليس في جراح الصيد إذا تيقن أنها سلمت من ذلك الجرح – شيء. وقال ابن المواز: يلزمه ما بين القيمتين قياساً على سائر الممتلكات، فيقوم مثلا صحيحا بعشرين مدا، وبالعيب بخمسة عشر، فيخرج خمسة. وحمل اللخمي وغيره قول ابن المواز على الخلاف. ابن يونس: ويحتمل الوفاق، ويحمل قول ابن القاسم لا شيء عليه إذا تيقن أنه سلم، أي: سلم بغير نقص. ابن عبد السلام: والظاهر الخلاف. وكلام المصنف إنما يتم عليه. قوله: (وَإِنْ شَكَّ فَقَوْلانِ). ابن هارون: مذهب محمد الوجوب وهو ظاهر المدونة فإنه قال: من جرح صيداً وهو محرم فغاب مجروحاً فعليه جزاؤه. والقول بالسقوط لابن الماجشون؛ لأن الأصل برازة الذمة. [205/ب] وهذا الخلاف إنما هو إذا لم تنفذ مقاتله. وفي اللخمي: إن جرح صيداً ثم نجا بنفسه، فإن أنفذ مقاتله كان له حكم الميت وفيه الجزاء. وإن أصاب موضعا الغالب حياته لم يجب جزاؤه، وإن أشكل أمره فقولان. فرع: قال في الذخيرة: وإن قلنا بالجزاء فليؤخر لئلا يكفر قبل موت الصيد، فإن أخرج جزاءه مع الشك ثم عطب بعد ذلك ففي الجلاب: عليه جزاءان.

التلمساني: لأنه أخرج الجزاء قبل وجوبه عليه. وَالتَّسَبُّبُ كَشَبَكِةٍ، أَوْ إِرْسَالِ كَلْبٍ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِي إِمْسَاكِهِ أَوْ رِبَاطِهِ، أَوْ تَنْفِيرِ صَيْدٍ قوله: (كَشَبَكِةٍ) أي: كنصب شبكة، أو شرك لأجل الصيد، فوقع فيها صيد فعطب. وأما إذا نصب الشبكة لذئب أو سبع فسيأتي. وقوله: (أَوْ إِرْسَالِ كَلْبٍ) أي: على الصيد. وسمى المصنف ما ذكره تسبباً؛ لأنه لا يباشر القتل، وتصور كلامه ظاهر. وَالتَّسَبُّبُ الاتِّفَاقِيُّ كَمَا لَوْ رَآهُ الصَّيْدُ فَفَزِعَ فَمَاتَ أَوْ فَرَّ فَعَطِبَ فَفِي الْجَزَاءِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ .... مراده بـ (الاتِّفَاقِيُّ) ما لا يقصد معه الصيد ألبتة، لكن أدى إلى هلاك الصيد. واختار ابن المواز والتونسي قول أشهب وهو أظهر. ولا تكون حرمة الصيد أعلى من حرمة الآدمي. التونسي: إلا أن يريد ابن القاسم أنه نكب عن الطريق ومشى في طريق الصيد حتى عرض نفسه لرؤية الصيد. اللخمي وغيره: وقال أصبغ: لا شيء عليه إلا أن يكون من المحرم حركة يفر بها؛ يريد حركة على الصيد، وأما حركته لشغله فلا شيء عليه. انتهى. وظاهره أنه ثالث، وفيه نظر. ووافق ابن القاسم على سقوط الجزاء إذا حفر بئر الماء. قيل: وهي مناقضة لا شك فيها، وحكى بعضهم في مسالة البئر قولا بالجزاء في مسألة البئر وهو ضعيف. وَلَوْ قَتَلَهُ غُلامُهُ ظَانّاً أَنَّهُ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ فَالْجَزَاءُ عَلَى السَّيِّدِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَى الْعَبْدِ أَيْضاً إِنْ كَانَ مُحْرِماً .... كلامه في المدونة أبلغ من كلام المصنف. قال فيها: وإذا أمر المحرم عبده أن يرسل صيدا كان معه فظن العبد أنه أمره بذبحه فذبحه فعلى السيد الجزاء، وقال أشهب:

الأحسن إلا شيء على السيد كان العبد حلالا أو حراما؛ لأن الخطأ من العبد. ابن هارون: وهذا هو الذي أشار إليه بقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) وكان حقه أن يقول على المنصوص؛ لأن هذا ليس بقول للمتقدمين. وقوله: (وَعَلَى الْعَبْدِ أَيْضاً إِنْ كَانَ مُحْرِماً) ظاهر، وهو في المدونة، وتأول ابن الكاتب ما قاله مالك من وجوب الجزاء على السيد بأن السيد هو الذي تسبب لعبده في أخذ الصيد، قال: وأما إن صاده العبد بغير إذنه فلا شيء على السيد؛ لأنه لم يفعل إلا خيراً إذ نهى عبده عما يحل. وقال ابن محرز: وهو تأويل يحيل المسألة؛ لأنه إذا تسبب له السيد في الصيد فسواء قتله العبد بأمر ظنه من أمر السيد أو كان هو الذي تعدى فقتله. قال: والظاهر أن مالكاً أوجب الجزاء لأمره الذي أخطأ به العبد، كان من السيد في أصل صيده تسبب أم لا. وَلَوْ نَصَبَ شَرَكَاً أَوْ حَفَرَ بِئْراً خَوْفاً مِنْ ذِئْبٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ هِرٍّ فَاتَّفَقَ فَالْجَزَاءُ بِخِلافِ فُسْطَاطِهِ أَوْ بِئْرٍ لِمَاءٍ .... ما ذكره من وجوب الجزاء إن نصب شركاً مخافة من ذئب أو سبع على نفسه أو على غنمه هو مذهب المدونة. وقال ابن القاسم فيها: لأن مالكاً قال فيمن حفر بئراً في منزله لسارق فإنه يضمن ما وقع فيها من سارق أو غيره، وقال سحنون: لا جزاء عليه في الصيد؛ لأنه فعل ما يجوز له، بخلاف السارق. وقال أشهب: إذا كان في موضع يتوقع فيه الصيد فعليه الجزاء، وإلا فلا. ابن المواز: وهو أحب إلينا. وقال اللخمي أيضا: هو أحسن، لكن لا شيء عليه إذا كان موضعا لا يخاف على الصيد منه، وإن خيف عليه ونصب ليدفع الذئب والسبع عن غنمه أو نفسه فالجزاء إن قدر على صرفه بغير ذلك، وكذلك إن لم يقدر على أصل مالك أن المضطر للصيد يأكل الميتة؛ لأنه إذا لم يبح ذلك في صيانة نفسه

لم يبح في صيانة المال. وأرى أن يمنع إن خشي تلف الشاة أو الشاتين لا تلف الكثير. انتهى باختصار. ورد بأن مسألة المضطر التي تكلم عليها مالك إنما هي في حق واجد الصيد والميتة أيهما يقدم، لا في حق من لا يجد إلا أحدهما وخشي علي نفسه، فلا شك أنه يأكل ما وجد. وقوله: (بِخِلافِ فُسْطَاطِهِ) أي: فلا شيء عليه. وهكذا في المدونة. ونقل ابن الجلاب فيها عن ابن القاسم وجوب الجزاء، وه وضعيف. وَلوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى أَسَدٍ فَقَتَلَ صَيْداً فَقَوْلانِ مذهب المدونة الوجوب. والقول لعدم الجزاء لأشهب. اللخمي: وهو أبين. ومنشأ الخلاف النظر إلى الإرسال وهو فاعله أو إلى قصده ونو لم بقصد الصيد؟ وَلَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ عَلَى صَيْدٍ عَصَى، فَإِنْ قَتَل فَفِي الْجَزَاءِ ثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ عَلَى الْقَاتِلِ إِنْ كَانَ مُحْرِماً .... لا خلاف في وجوب الجزاء على القاتل إن كان محرماً ولا في سقوطه عنه إن كان حلالاً، وإنما الخلاف في الدال. ومذهب المدونة السقوط وهو المشهور، صرح بذلك الباجي وغيره، خلاف ما شهره المصنف. ابن عبد السلام: والذي شهره المصنف لا يعلم في المذهب إلا من ابن بشير، والقول بوجوب الجزاء على الدال سواء دال حلالاً أو حراماً مروي عن أشهب، وروي [206/أ] عنه في الموازية إن كان المدلول محرما فعلى كل واحد منهما الجزاء، وإن كان حلالاً فليستغفر الله المحرم والدال، ولا شيء عليهما. واعترضه التونسي وقال: الأشبه إنه إنما يسقط عن الدال إذا كان حلالاً، فأما الحرام فيجب عليه عنده الجزاء، كما قال إذا دل محرم محرما. فإذا وجب على المحرم إذا دل محرماً، كان إذا دل حلالاً أولى؛ لئلا يبقى الصيد بلا جزاء انتهى.

وهذا هو الذي لاحظ في القول الذي زعم المصنف أنه المشهور، وقال ابن وهب: إذا دل محرم حلالا فداه أحب إلي. وفي أخذ الأقوال من كلام المصنف نظر. قال الباجي: ولو أعان المحرم الحلال بمناولة رمح أو سوط، فقد أساء ولا جزاء عليه على المشهور من المذهب، وحكى ابن المواز عن أشهب في ذلك من الخلاف ما تقدم، أي: ما حكاه عنه في المدونة. وَلَوْ رَمَى مِنْ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ فَالْجَزَاءُ، وَالْعَكْسُ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ لا إشكال في وجوب الجزاء في الفرع الأول؛ لأنه قتل الصيد في الحرم. وأما العكس فرأى في المشهور أنه صائد في الحرم، والشاذ لابن الماجشون وأشهب قالا: لا جزاء عليه ويؤكل؛ اعتبارًا بمحل الصيد كالأول. ابن الماجشون: ويجوز ذلك ابتداء. انتهى. وهو ضعيف؛ لأن المحرم يصدق على من بالحرم. قال في المدونة: ولو رمى الصيد في الحل وهو في الحل فهرب الصيد فأدركته الرمية في الحرم فقتلته فعليه الجزاء، ولا خفاء إذا كانا معا في الحرم في الوجوب، ولا في سقوطه إذا كان في الحل إلا بقربه، فالمشهور سقوط الجزاء. وقال ابن عبد الحكم: ما قرب من الحرم فله حكمه، ولابن الماجشون: كل ما يسكن بسكون ما في الحرم ويتحرك بتحريكه فله حكم الحرم، وهو كمذهب ابن عبد الحكم إلا أن فيه تحديد القرب، وعلى المشهور فهو ممنوع ابتداء، إما منعاً وإما كراهة بحسب فهم قوله عليه الصلاة والسلام: "الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه". وَلَوْ قَطَع السَّهْمُ هَوَاءَ أَطْرَافِ الْحَرَمِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَاكُلُهُ أي: وهما معاً في الحل.

وقوله: (لا يَاكُلُهُ) أي: وعليه الجزاء، وهكذا حكى اللخمي عن ابن القاسم. وقال أشهب: يؤكل ولا جزاء عليه. ووقع في بعض النسخ تصريح بهذين القولين، ونصها: فقال ابن القاسم: لا يأكله وعليه الجزاء، وقال أشهب: يأكله ولا جزاء عليه. ابن عبد السلام: ووافق أشهب عبد الملك بشرط البعد من الحرم، ولا أدري كيف يتصور البعد في رمية السهم. وَلَوْ تَخَطَّى الْكَلْبُ طَرَفَ الْحَرَمِ فَلا جَزَاءَ إِلا إَذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ سِوَاهُ قوله: (فَلا جَزَاءَ) أي: وليست كالرمية؛ لأن الكلب إذا كان له طريق للصيد من غير الحرم لم يكن صاحبه منتهكاً حرمة الحرم، وتبع المصنف هنا ابن شاس. وقال اللخمي بعد أن ذكر القولين المتقدمين في السهم: وإرسال الكلب كإرسال السهم، وأنه لا جزاء في الجميع ويؤكل أحسن؛ لأن المنع إنما يكون في الصيد إذا كان في الحرم، قال وإن رمى صيداً في الحل والصيد ثم في الحل ثم تحامل فمات في الحرم، فإن كان أنفذ مقاتله في الحل أكل، واختلف إذا لم تنفذ مقاتله، فقال أشهب في العتبية: يؤكل. وقال أصبغ في الموازية: لا يؤكل، ولا جزاء عليه. وقول أشهب أَبْيَن؛ لأنه إنما مات من تلك الرمية بالحضرة فكانت مقتلاً، وليست بمنزلة من ضرب رجلاً فلم تنفذ مقاتله حتى قتله آخر، فإن الثاني يقتل به؛ لأن الضرب من رجلين وهذه ضربة واحدة وهي التي قتلته. انتهى. التونسي: والأشبه إذا لم ينفذ مقاتله في الحل فمات في الحرم أن عليه الجزاء ولا يؤكل. وقد اختلف إذا وقعت الضربة وهو عبد ثم أعتق فمات: فقيل: دية (حريقة) ولا قود في ذلك وهو قول ابن القاسم. وقيل: قيمة عبد وهو قول أشهب. وأما لو أنفذ مقاتله في الحل ثم مات في الحرم فالقياس ألا جزاء عليه، إلا ما روي عن ابن القاسم فيمن ضرب رجلا فأنقذ مقاتله ثم ضربه آخر فقتله، قال: يقتل الثاني ولا قتل على الأول انتهى. وكلام اللخمي يرد على هذا التخريج.

وَلَوْ أَرْسَلَهُ بِقُرْبِ الْحَرَمِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَتَلَهُ فَالْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ بَعِيداً فَلا جَزَاءَ لأنه مع القرب منتهكا حرمة الحرم بخلاف البعد. الباجي: والبعد ما يغلب على ظنه أن الكلب يدركه قبل، أو يرجع عنه. الباجي وغيره: ولا يؤكل الصيد في الوجهين؛ لأنه يحرم بحرمة الحرم. فإن أرسله بقرب الحرم فقتل قبل أن يدخل فقال مالك وابن القاسم: لا جزاء عليه. وقال ابن عبد الحكم: عليه الجزاء. أبو إبراهيم: ولو جرى الصيد من الحل وأدخله في الحرم ثم خلا عنه حتى خرج الصيد من غير أن يخرجه، ثم أتبعه فقتله في الحل، فينبغي أن يؤكل كمسألة العصير يصير خمرا ثم يتخلل. وَلَوْ أَصَابَهُ عَلَى فَرْعٍ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ فَقَوْلانِ أي: والفرع في الحل. ومذهب المدونة سقوط الجزا؛ لأنه صاد في الحل. زاد فيها: ولا بأس بصيده ويؤكل، وتوقف فيها مالك ولم يجب فيه بشيء، والجزاء لعبد الملك؛ لأن ما تقدم أن ما قارب الحرم فله حكمه، وعكس هذه المسألة يجب عليه الجزاء اتفاقا. سند: وإن كان بعض الصيد في الحرم وبعضه في الحل ففيه الجزاء وقاله الشافعي. وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ فَأَحْرَمَ زَالَ مِلْكُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ وإِلا ضَمِنَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ فِي الرُّفْقَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْرَمَ فَمِلْكُهُ بَاقٍ .... لما ذكر أولاً أن الجزاء يلزمه بالمباشرة والتسبب وبقاء اليد وتكلم على الأولين أردف ذلك بالكلام على الثالث. ومعناه: أنه إن أحرم وبيده صيد، سواء كان في قفص أو غيره، أو في رفقته – وجب عليه إرساله إن كان معه في رفقة. واختلف هل يزول ملكه عنه بمجرد الإحرام؟ المشهور وهو مذهب المدونة أنه يزول.

ابن القصار والأبهري: إنما يجب عليه الإرسال فقط، ولا يزول ملكه عنه. وتظهر ثمرة الخلاف لو أفلته أحد منهم هل تلزمه قيمته أم لا؟ فعلى المشهور لا تلزم، وكذلك لو أفلته صاحبه، وأخذه غيره قبل أن يلتحق بالوحش وبقي بيد آخذه حتى حل صاحبه من إحرامه – فعلى المشهور هو لآخذه، وكذلك لو أبقاه بيده ثم حل هل يلزمه إفلاته؟ فعلى المشهور يلزم، وكذلك لو ذبحه بعد الإحلال فعلى المشهور يلزمه جزاؤه. ابن راشد: ويشكل على هذا الحلال يدخل الحرم بصيده فإنه يملكه، ولا فرق بين الحلال يحرم وبيده صيد أو يدخل الحرم وهو بيده؛ لأن الحرم في المنع كالإحرام. وقد يفرق بينهما أن الإحرام قريب بخلاف الحلال في الحرم فإنه يطول ويؤدي ذلك إلى المشقة، لا سيما في حق من هو من أهل مكة ونحوهم والله أعلم. وأورد على هذا المشهور أيضا الخمر يؤمر من هي بيده من المسلمين بإراقتها فيمسكها حتى تتخلل بنفسها فلا تجب إراقتها على المشهور. وقوله: (أَمَّا لَوْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْرَمَ فَمِلْكُهُ بَاقٍ) هكذا في المدونة. وقيده بعضهم بما إذا لم يحرم من موضعه، وأما إذا أحرم منه فيجب عليه أيضا إرساله، وأبقاه التونسي وابن يونس على ظاهره، قالا بعد قول ابن القاسم: وسواء أحرم من منزله أو ميقاته، خلاف ما تأول بعضهم أنه إن كان إحرامه من منزله وجب عليه إرسال ما عنده من الصيد كما في القفص. والفرق أن القفص حامل له وينتقل بانتقاله فهو كالذي في يده، وما في البيت ليس في يده وهو مرتحل عنه وغير مصاحب له فافترقا. فرعان: الأول: لو أحرم وبيده صيد وديعة رده لصاحبه إن كان حاضراً. ابن حبيب: ويطلقه صاحبه إن كان محرماً. فإن كان غائباً أبقاه بيده حتى يقدم صاحبه. قال في الموازية: وإن أرسله ضمنه ولو استودعه إياه حلال وهو محرم لم يجز له أن يقبله منه، فإن قبله وجب عليه إطلاقه وغرم لربه قيمته.

الثاني: لو وهب له صيد فقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبوله بعد إحرامه ولا شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه لعموم قوله تعالى: (حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً (. ولحديث ابن جثامة الذي رواه مالك: أنه أحدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي، قال: "إنا لم نرده عليك، إلا أنا حرم". واختلف في المحرم يشتري الصيد، فقيل: الشراء فاسد، وقيل: صحيح وعليه أن يرسله. ابن عبد البر: وروي في هذا الحديث أنه أهدي له لحم حمار وحشي، وفي رواية عضدا من لحم صيد. انتهى. وبصحة الشراء قال ابن حبيب، قال: وإن رده على الحلال فعليه جزاؤه. قال الباجي: قوله: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً هكذا رواه الزهري عن عبد الله بن عباس، وهو أثبت الناس فيه وأحفظهم عنه. انتهى. وكذلك ذكر ابن راشد أنه لا يجوز للمحرم قبول الصيد. وقال الباجي: مسألة ومن أهدي له صيد في حال إحرامه فقبله لم يكن له رده – على قياس المذهب؛ لأنه قد ملكه بالقبول على قول ابن القصار وقد خرج عن ملك الواهب، وإن لم يدخل في ملك الموهوب له على مذهب القاضي أبي إسحاق فليس له أن يرده على واهبه إن كان حلالاً. وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ كَالْعَمْدِ فِي الْجَزَاءَ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: أنه لا فرق على المشهور في وجوب الجزاء بين أن يقتل الصيد عمداً أو خَطَأً أو نسياناً. وقال ابن عبد الحكم: لا جزاء في غير العمد ولا في العمد إذا تكرر، وإنما يجب بالأول، واحتج بمفهوم الآية. والجواب أنها خرجت مخرج الغالب.

وَلَوْ أَكَلَهُ فِي مَخْمَصَةٍ ضَمِنَهُ أي: أن المحرم إذا اضطر إلى الصيد فإنه يجوز له أكله. وقوله: (ضَمِنَ) أي: عليه جزاؤه، ونحوه لعبد الوهاب وابن شاس وغيرهما، وهو الأصل. وحكى اللخمي وابن راشد قولين آخرين: أحدهما: أنه لا يجوز لعموم النهي. والثاني: أنه يجوز ولا جزاء. وهما كالقولين فيمن أشرف على الموت فأعطاه رجل ما أحياه من الخمر. فرع: في الموطأ أن المحرم المضطر يأكل الميتة ولا يصيد، قال: لأن الله تعالى لم يرخص للمحرم في أكل الصيد ولا في أخذه في حال، وأرخص في الميتة للضرورة. وقال محمد بن عبد الحكم: لو نابني ذلك لأكلت الصيد وتركت الميتة، وقيد الأول بما إذا لم تكن الميتة متغيرة يخشى على نفسه منها، وأما الميتة مع ما صيد لأجل المحرم، فروى محمد عن مالك: يأكل الصيد ويؤدي جزاءه أحب إلينا. الباجي: يريد لأن القائلين بأن هذا مباح أئمة مشهورون، فكان أولى من أكل ما اتفق [207/أ] على أنه ميتة. أَمَّا لَوْ عَمَّ الْجَرَادُ الْمَسَالِكَ سَقَطَ الْجَزَاءُ بالاجْتِهَادِ بِخِلافِ مَا لَوْ تَقَلَّبَ عَلَى جَرَادٍ أَوْ ذُبَابٍ أَوْ غَيْرِهِ .... قوله: (بالاجْتِهَادِ) أي: إذا تحفظ منه. وهذا كقوله في الجواهر: فلا شيء عليه إذا لم يتعمده. وكذلك قال في المختصر: لا شيء على الناسي فيه إذا لم يتعمد وقتله. قال: ولو أطعم مساكين لم أر بذلك بأساً.

وفي رواية ابن وهب في الذباب يطأ عيه، ولا يمتنع من ذلك لكثرته فليطعم مسكيناً أو مسكينين. وقال بعد ذلك: لا شيء عليه في مثل هذا الغالب. ابن عبد الحكم: وهو أ؛ ب إلينا. قوله: (بِخِلافِ مَا لَوْ تَقَلَّبَ) أي: ولم يكثر فعليه ضمانه. وفي المدونة: وإذا وطئ الرجل ببعيره على ذباب أو ذر أو نمل فتلهن فليتصدق بشيء من الطعام. وقال في الموازية: قبضة من طعام، وقال محمد: بحكومة، وإن أخرج بغير حكومة أعاد. وقال ابن رشد: ظاهر المدونة لا حكومة في الجراد. أما لو قتلت الدابة شيئا بنفسها من غير تسبب منه فلا شيء عليه. خليل: انظر كيف أوجبوا عليه هنا الضمان وأسقطوا عنه الفدية فيما إذا ألقت الريح الطيب عليه، مع أن التغلب على ما ذكر أكثر من رمي الريح الطيب عليه، ولعل ذلك لعظم ما يترتب على الطيب، ولأن قتل الجراد من باب قتل الصيد وهو لا فرق فيه بين العمد والخطأ. وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُشْتَرِكِينَ جَزَاءٌ كَامِلٌ نبه بهذا على خلاف الشافعي في قوله: إنه ليس على الجميع إلا جزاء واحد. ومنشأ الخلاف هل هو من باب الكفارة أو من باب الفدية؟ واستدل الشافعي بقوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ (وقولنا أظهر؛ لأن الله تعالى سماه كفارة فقال: (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ (. وقوله: (الْمُشْتَرِكِينَ) أي: في قتل الصيد الممنوع بالإحرام والحرم. وحكى في الذخيرة قولا كمذهب الشافعي فإنه قال: إن المشهور أن الجزاء من باب الكفارة. وقيل: إنه من باب قيم المتلفات، وهو أحد الأقوال لنا وللعلماء انتهى.

فإِنْ أَمْسَكَهُ مُحْرِمٌ لِيُرْسِلَهُ فَقَتَلَهُ مُحْرِمٌ فَعَلَى الْقَاتِلِ، فَإِنْ قَتَلَهُ حَلالٌ فَعَلَى الْمُمْسِكِ، وَيَغْرَمُ الْحَلالُ لَهُ الأَقَلَّ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ أَمْسَكَهُ لِلْقَتْلِ فَقَتَلَهُ مُحْرِمٌ فَهُمَا شَرِيِكَانِ، فَإِنْ قَتَلَهُ حَلالٌ فَعَلَى الْمُمْسِك. يعني: أن المحرم إذا أمسك صيدا فإما أن يمسكه ليرسله أو يقتله. والأول إن قتله حرام سواء كان محرما أو حلالا في الحرم، وجب الجزاء على القاتل فقط؛ لأن الممسك لا يمسكه للقتل، وإنما فعل ما يجوز له. وإن قتله حلال وجب على الممسك جزاء لئلا يخلو الصيد عن الجزاء. قوله: (وَيَغْرَمُ الْحَلالُ لَهُ الأَقَلَّ) أي: إذا ألزمنا الممسك الجزاء فإن الحلال القاتل يغرم للممسك الأقل من قيمة الصيد أو الجزاء. وقال سحنون: لا شيء عليهما، أما الحلال فواضح، وأما الممسك فلأنه فعل ما يجوز له. اللخمي: وهو القياس. وإن أمسكه للقتل فإن قتله حرام فعلى كل واحد منهما الجزاء لأنهما شريكان في قتله، وإن قتله حلال فعلى الممسك فقط. وحكى اللخمي عن أشهب فيما إذا أمسكه ليقتله: فإن قتله في يده حلال في الحرم فعلى كل واحد منهما الجزاء، ويغرم الحلال قيمته للمحرم، وإن كان في الحل غرم له قيمته والجزاء على المحرم وحده، قال: وقال محمد: على القاتل القيمة ما لم تكن أكثر من الجزاء فلا يلزمه إلا الجزاء؛ لأن المحرم يقول: كنت أقدر على السلامة بإطلاقه، فعليك ما أدخلت علي قتله. انتهى والله أعلم. وَمَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ ذَبَحَهُ فَكَالْمَيْتَةِ لِلْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَلا جَزَاءَ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ .... قوله: (وَمَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ) أي: مات بصيده، (أَوْ ذَبَحَهُ) يعني: من الصيد وإن لم يصده فهو في الوجهين كميتة لا يحل أكله لحلال ولا حرام. ومن أكل منه فلا شيء عليه؛

لأنه أكل ميتة ولا شيء على آكلها، وهذا هو المشهور. ووقع في رواية أشهب توقف في وجوب الجزاء إذا أكل المحرم من الصيد بعد ذبحه، أو أكل منه محرم آخر، وهذا هو مذهب الجمهور. وذهب جماعة إلى أنه ليس بميتة، ودليلنا قوله تعالى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ (والنهي يدل على الفاسد. وما رواه البخاري ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا، فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم، فيهم أبو قتادة فقال: "خذوا ساحل البحر حتى نلتقي". فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذا رأوا حمر وحش، فحمل أبو قتادة على الحمر، فقعر منها أتانا، فنزلنا وأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك فقال: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " قالوا: لا. قال: "كلوا ما بقي من لحمها". وفي رواية: "هل معكم منه شيء؟ " فقلت: نعم، فناولته العضد فأكله. فيه دليل على أنه لو أمره أحد أن يحمل، أو أشار إليها لم تؤكل. وفي أبي داود: "صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم". زاد الترمذي: "وأنتم حرم". فإن قلت: يشكل مذهب الجمهور بالشاة المغصوبة يذبحها الغاصب؛ لأنها ليست عندهم بميتة، فلا فرق بينهما وبين الضب يذبحه المحرم. فالجواب: أن النهي في الصيد [207/ب] عن القتل، والذبح يستلزمه، بخلاف القصب. ولأنه لما كان قصد الشارع الزجر عن قتله كان جعله ميتة على من صاده موافقا لذلك؛ إذ لو لم يجعل ميتة لتذرع الناس إلى إمساك الصيد وقتله ويعطون جزاؤه لخفة أمره؛ لأن طالبه غير معين، ولا كذلك المغصوبة، فإنها صورة نادرة، وطلبها معين. وقوله: (وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ) أي: محرم، ولا جزاء على أكله بعد كسره. وانظر هل يحكم لقشر البيض بالنجاسة أم لا؟

وَيَاكُلُ الْمُحْرِمُ مَا صَادَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَلالٍ تصوره ظاهر ودليله حديث أبي قتادة المتقدم. وحكى الباجي على ذلك الاتفاق. وظاهر كلام ابن رشد حصول الخلاف في هذه الصورة ولفظه: وفي جواز أكل المحرم لحم ما صاده الحلال من الحل أربعة أقوال: أهدها: أن ذلك جائز من غير تفصيل. والثاني: أن ذلك لا يجوز من غير تفصيل. والثالث: أنه لا يجوز إلا أن يكون صيد له. والرابع: أن ذلك جائز إلا أن يكون صيد له أو لغيره من المحرمين. انتهى. ولعله أراد الخلاف خارج المذهب، فإن الخلاف الذي ذكره منقول خارج المذهب، ويتفق نقله مع الباجي والله أعلم. فَإِنْ صَيدَ أَوْ ذُبِحَ لِمُحْرِمٍ فَلا يَاكُلْهُ مُحْرِمٌ وَلا غَيْرُهُ، فَإِنْ أَكَلَهُ الْمُحْرِمُ عَالِماً، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي صِيدَ لَهُ، وَقَالَ أَصْبَغُ: لا جَزَاءَ، وَغَيْرُ هَذَا خَطَأٌ .... أي: سواء صيد لمحرم معين أو غير معين، رواه ابن المواز عن مالك. وكون الحرمة عامة في حق من صيد له أو لم يصد له، حلالا كان أو حراما هو مذهب علي رضي الله عنه. وفي الموطأ عن عثمان رضي الله عنه: إنما يمتنع الصيد إذا صيد لمحرم في حق من صيد له من المحرمين فقط. قال في المدونة والمبسوط: ولم يأخذ مالك بحديث عثمان رضي الله عنه. قوله: (أَوْ ذُبِحَ لِمُحْرِمٍ) لا يتناول من مراده الإحرام قبل إحرامه؛ لأن المحرم حقيقة من صدر منه الإحرام. وذكر الباجي فيما للمحرم وتمت ذكاته قبل إحرامه روايتان بالجواز والكراهة. وذكر أن الجواز رواه ابن القاسم وأشهب، وأن الكراهة أيضا رواها ابن القاسم. وقال: الجواز أظهر.

قوله: (وإن أكل .... الخ) أي: إذا بنينا على أن ما صيد أو ذبح لمحرم لا يأكل منه حلال ولا حرام، فأكل منه محرم، فقال ابن القاسم: إن كان عالما أنه صيد من أجله أو من أجل محرم غيره فالجزاء عليه. وإن لم يعلم فلا شيء عليه وإن صيد من أجله. وبه قال أشهب؛ لأن أكله مع علمه لصيده كرضاه به. والقول الثاني رواه محمد عن مالك: أن عليه الجزاء بشرط أن يكون هو الذي صيد له برضاه، وتتميمه الفساد. ابن عبد البر: ولم يختلف قول مالك في المحرم يأكل من صيد يعلم أنه صيد من أجله أن عليه جزاء ذلك الصيد. والقول الثالث لأصبغ: فلا جزاء على الآكل؛ لأنه لم يقتله والله عز وجل إنما أوجب الجزاء على القاتل، ولأن غاية أمره أن يكون أكل ميتة، ولا جزاء في أكلها. ولما اتضح هذا لأصبغ صرح بخطأ ما عداه. وظاهر كلام المصنف نفي الخلاف إذا أكله المحرم غير عالم سواء صيد من أجله أم لا، وإنما ذلك إذا أكله محرم ولم يصد من أجله. وأما إن أكله من صيد لأجله فذكر اللخمي فيه ثلاثة أقوال يفصل في الثالث بين أن يكون عالما أو غير عالم. وَلَيْسَ الإِوَزُّ وَالدَّجَاجُ بِصَيْدٍ؛ فَلِذَلِكَ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ وَالْحَلالُ فِي الْحَرَمِ بِخِلافِ الْحَمَامِ وَإِنْ لَمْ تَطِرْ؛ لأَنَّهَا مِمَّا يَطِيرُ .... لما انقضى كلامه في الصيد والصائد أخذ يتكلم في المصيد، وذكر أنه يجوز ذبح الإوز والدجاج؛ أي: لأنه إنما يحرم الصيد. قال في العتبية: ولا بأس أن يأكل بيض الدجاج والإوز، ولا يأكل بيض الحمام. قال في المدونة: وكره مالك أن يذبح المحرم الحمام الوحشي وغير الوحشي والحمامة الرومية التي لا تطير وإنما تتخذ للفراخ؛ لأنها من أصل ما يطير. انتهى. وهذه الكراهة تحتمل أن تكون على بابها، فإن فعل فلا جزاء، وهو مذهب مالك في كتاب ابن حبيب، ويحتمل أن تكون للمنع، فإن فعل فعليه الجزاء وهو قول مالك في الموازية وقول أصبغ.

فرع: قال ابن القاسم: فإن أصاب المحرم حماما وحشيا بعد أن دجن وداه. قال مالك: ولا يذبح فراخ برج له، ولا بأس بما ذبح أهله منه ولا يأكل هو ما ذبحوا له منه. أشهب: ولا بأس أن يأكل ما ذبحوا منه لأنفسهم وهو محرم. وَيَجَوُزُ أَنْ يَذْبَحَ الْحَلالُ فِي الْحَرَمِ الْحَمَامَ، وَالصَّيْدَ يُدْخِلُهُ مِنَ الْحِلِّ وَلَمْ يَكْرَهُهُ إِلا عَطَاءٌ ثُمَّ رَجَعَ .... لأنهم لو منعوا ذلك لشق عليهم لطول أمرهم. ولهذا قال سند: وأما العائد بالصيد إلى الحرم وهو عابر سبيل فلا يذبح فيه؛ لعدم الضرورة. ابن القاسم: ويجب عليه إرساله، فإن أكله بعد خروجه من الحرم وداه. وقال في العتبية: إنه لا بأس أن يذبح أهل مكة الحمامة الرومية التي تتخذ للفراخ. ابن رشد: فيه دليل على أنهم لا يذبحون سائر الحمام وسائر الطير الوحشي وسائر الصيد إذا دخلوا به من الحل، قال: وهو خلاف المعلوم من المذهب، والأولى أن لو قال: يدخلهما من الحل؛ لأن العطف بالواو. وكلامه يوهم عوده على الصعيد فقط وليس كذلك. وَيَحْرُمُ قَطْعُ مَا يَنْبُتُ لا مَا يُستَنْبَتُ فِي الْحَرَمِ إِلا الإِذْخِرَ وَالسَّنَا، وَيُكْرَهُ اخْتِلاؤُهُ لِلْبَهَائِمِ لِمَكَانِ دَوَابِّهِ لا رَعْيُهُ .... الأصل في هذا ما رواه البخاري ومسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحمة الله إلى يوم القيامة، وأنما لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل [208/أ] لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها". فقال العباس: إلا الإذخر؛ فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: "إلا الإذخر". والعضد: القطع. والخلى: مقصور بفتح الخاء: الحشيش إذا كان رطباً.

واختلاؤه: قطعه. والإذخر: نبت معروف طيب الرائحة. والقين: الحداد. زاد أهل المذهب: السنا لشدة الحاجة إليه في الأدوية ورأوه من قياس الأولى؛ لأن حاجة الناس إليه أكثر من حاجة أهل مكة إلى الإذخر. وقوله: (مَا يَنْبُتُ) أي: بنفسه من عند الله. وقوله: (لا مَا يُستَنْبَتُ) أي: بعلاج كشجر الرمان وغيره. والبقل كله كالكرات والخس والسلق وشبهه، فيجوز قطعه. وقوله: (إِلا الإِذْخِرَ وَالسَّنَا) مستثنى من قوله: (وَيَحْرُمُ). وقوله: (وَيُكْرَهُ اخْتِلاؤُهُ) نحوه في المدونة ولفظها: وأكره أن يحتش في الحرم حلال أو حرام خيفة قتل الدواب، وكذلك الحرام في الحل، وإن سلموا من قتل الدواب فلا شيء عليهم. وأكره لهم ذلك. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخبط، وقال: "هشوا وارعوا". مالك: والهش: تحريك الشجر بالمحجن ليقع الورق، ولا يخبط ولا يعضد. وَلَوْ نَبَتَ مَا يُسْتَنْبَتُ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالنَّظَرُ إِلَى الْجِنْسِ أي: لو نبت بنفسه ما جرت عادته ألا ينبت إلا بفعل الآدمي جاز قطعه، ولو استنبت ما كان ما عادته أن ينبت بنفسه كالبقول البرية وأم غيلان لم يجز قطعه، وهذا معنى قوله: (فَالنَّظَرُ إِلَى الْجِنْسِ) ونحو هذا في الجواهر، قال الباجي: ما غرس مما ينبت بنفسه فإنه يجوز قطعه عندي، وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يجوز ذلك، ووجه الإباحة أنه بمنزلة المتأنس من الوحش، فإن المحرم لا يمنع منه، قال: وإن كان مما يستنبت جاز، سواء نبت بنفسه أو بفعل آدمي، وهو كالمتأنس من الحيوان إذا توحش، فإن المحرم لا يمنع من صيده. انتهى.

قال في الذخيرة: ويكره له قطع شجر غير الحرم إذا دخل في الحرم؛ لأنه ينفر بذلك الصيد منه، ورخص مالك في قطع العصا والعصوين من غير شجر الحرم. انتهى. والذي في النوادر: ومن الموازية: قال مالك: لا بأس أن يقطع في غير الحرم من الشجر مثل العصا والعصوين والقضيب لحاجته. قال مالك: ولا يخبط في الحرم لبعيره، ولا بأس أن يتفلى الحلال بالحرم. وَلا جَزَاءَ فِي جَمِيعِهِ يعني: أنه لا جزاء في قطع ما ذكرنا أنه لا يجوز قطعه، وإنما عليه الاستغفار خلافا لأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما. وَالْمَدِينَةُ مُلْحَقَةٌ بِمَكَّةَ فِي تَحْرِيمِ الصَيْدِ والشَّجَرِ وَلا جْزَاءٍ عَلَى الْمَشْهُورِ ما ذكره من إلحاق المدينة بمكة نبه به على خلاف أبي حنيفة. ودليلنا ما في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاها ويقتل صيدها" أي: بين الحرار الأربع. ابن حبيب وغيره: وإنما ذلك في الصيد، وأما في قطع الشجر فبريد في بريد، وقاله مالك. والمشهور ما ذكره المصنف في نفي الجزاء في قتل صيدها، إما لأن الكفارات لا يقاس عليها، وإما لأن حرمة المدينة عندنا أشد فكانت كاليمين الغموس. والشاذ لابن نافع. واستدل في الذخيرة للمشهور بإجماع أهل المدينة، ولو كان فيه جزاء لعلم بالضرورة عندهم لتكرره. اللخمي: وعلى قول ابن نافع يحرم أكله. قال أشهب في الموازية: سئل مالك عن أكله، فقال: ليس كالذي يصاد بمكة، وإني لأكرهه. وفي الذخيرة: اختلف قول مالك في تحريم أكل هذا الصيد، وهو الأظهر سدا للذريعة، وقال مرة: يكره.

وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ حَدَّدَ مَعَالِمَ الْحَرَمِ بَعْدَ الْكَشْفِ، وَحَدَّ الْحَرَمَ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، يَنْتَهِى إِلَى التَّنْعِيمِ، وَمِنَ الْعِرَاقِ ثَمَانِيَةٌ إِلَى الْمَقْطَعِ، وَمِنْ عَرَفَةَ تِسْعَةٌ، وَمِمَا يَلِي الْيَمَنَ سَبْعَةٌ إِلَى أَضَاةَ، وَمِنْ جُدَّةَ عَشَرَةٌ إِلَى مُنْتَهَى الْحُدَيْبِيَّةِ، وَيُعْرَفُ الْحَرَمُ بِأَنَّ سَيْلَ الْحِلَّ إِذَا جَرَى نَحْوَهُ وَقَفَ دُونَهُ ... وقوله: (وَقَالَ مَالِكٌ ... إلخ) هو لمالك في المدونة. وقوله: (وَحَدَّ الْحَرَمَ) هو كذلك في النوادر، ولفظه: ومن غير الموازية لغير واحد من أصحابنا: أن حد الحرم مما يلي المدينة نحو أربعة أميال إلى منتهى التنعيم. وما يلي العراق ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال إلى موضع يقال له: أضاة. ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية. قال مالك: والحديبية في الحرم. انتهى. الباجي: وفيه نظر والذي عندي أن بين مكة وعرفة ثمانية عشر ميلاً، وهو نحو ما بين مكة والحديبية، وبين مكة والجعرانة، وبين مكة وحنين، وهذه مسافات متقاربة، ولو كان بين مكة والحديبية عشرة أميال لم يكن بين مكة وجدة ما تقصر فيه الصلاة، وقد قال مالك: إن بينهما ثمانية وأربعين ميلا وتقصر فيه الصلاة، وإنما يقع الاختلاف لاختلاف الناس في الحزر في قدر الميل، والذي حكى ابن حبيب أنه ألف باع وكل باع بذراعين، وأهل الحساب وكثير من الناس [2008/ب] معتمدون على أن كل باع أربعة أذرع. وأما التنعيم فإني أقمت بمكة وسمعت أكثر الناس يذكرون أنها خمسة أميال ولم أسمع في ذلك اختلافا مدة مقامي بها، ولو كان بين مكة والتنعيم أربعة أميال لوجب أن يكون بين مكة والحديبية على هذا التقدير قريب من خمسة عشر ميلاً؛ لأنه أزيد من ثلاثة أمثالها. انتهى.

قال في النوادر: وقال ابن القاسم: ومزدلفة في الحرم، وسمعت بأن الحرم يعرف بأن لا يجري سيل من الحل فيدخل الحرم، وإنما يخرج السيل من الحرم إلى الحل وهو يجري من الحل، فإذا انتهى إلى الحرم وقف ولم يدخل ليه، ولا يدخل الحرم إلا سيل الحرم. الْمَوَانِعُ مِنْهَا حَصْرُ الْعَدُوِّ وَالْفِتَنُ، وَهُوَ مُبِيحٌ لِلتَّحَلُّلِ، وَنَحْرِ الْهَدْيِ فَيَنْحَرُ وَيَحْلِقُ حَيْثُ كَانَ وَيَرْجِعُ، فَإِنْ أَخَّرَ حِلاقَهُ إِلَى بَلَدِهِ حَلَقَ وَلا دَمَ، إِلا أَنْ يَرْجُوَ زَوَالَهُ فِيمَا يُدْرِكُ فِيهِ الْحَجَّ ... قوله: (الْمَوَانِعُ) أي: من الحج. وهي خمسة كما سيأتي وهي: العدو وفي معناه الفتن والمرض وحبس السلطان ومنع السيد والزوج، وزاد ابن شاس منع الأبوين. وكأن المصنف أسقطه؛ إما لأنه مختلف فيه وإما لأنه لا يمنع من إتمام النسك وإن منع منه ابتداء – بخلاف العدو والمرض وحبس السلطان ومنع السيد فإنها تمنع ابتداء ودواماً. واختلف في الزوجة هل تمنع الدوام أم لا؟ قوله: (وَهُوَ) أي: الحصر في العدو والفتن مبيح للتحلل من النسك موجب لنحر الهدي إن كان معه، إلا أن يرجو الزوال كما قال المصنف. فرع: فإن قدر على التقرب لمكة ومنع منها فقال الباجي: له عندي أن يحل بموضعه. اللخمي: فالمعنى: وللمحصر بالعدو خمس حالات يصح الإحلال في ثلاث ويمنع في وجه، ويصح في وجه إذا اشترط الإحلال. وأما الثلاثة: فإن يكون العدو طارئا بعد الإحرام أو متقدما ولم يعلم أو علم وكان يرى أنه لا يصده، وقد أحرم النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون بمكة، وهو يرى أنهم لا يمنعونه، فلما منعوه حل، والرابع: أن يعلم منعهم إياه فهذا لا يجوز له الإحلال.

واعترضه ابن بشير وقال: ظاهر المذهب أن له التحلل كيف كان الأمر. وفيه نظر فقد نقل الباجي عن ابن المواز عن مالك أن من علم بالحصر لا يحرم، فإن فعل فليس له حكم المحصور. ابن هارون: وما رأيت خلافا كما نقله الباجي واللخمي انتهى. واقتصر التونسي على أنه إذا أحرم بعد علمه بالحصر أنه لا يحل إلا بالبيت. وكذلك نقل سند ابن القاسم أنه إذا أحصر ثم أحرم فلا يحله إلا البيت؛ لأنه ألزم نفسه ذلك بعد العلم بالمنع كالمسافر يصبح صائما في السفر. الخامس: أن يشك في ذلك فهذا إن منعوه لم يحل إلا أن يشترط الإحلال كما فعل ابن عمر. خليل: وظاهر المذهب أن شرط الإحلال لا ينفع؛ لأن الازري لما تكلم عن حديث ضباعة الذي في مسلم، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لها: "حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني". زاد النسائي: "فإن لك على ربك ما استثنيت". قال جمهور الفقهاء إن ذلك لا ينفع، وحملوا حديث ضباعة على أنها قضية في عين خصت لهذه المرأة. قال صاحب الإكمال: لا يرى مالك وأبو حنيفة الاشتراط نافعا خلافا لأحمد. وعن الشافعي القولان. وتأوله آخرون على معنى النية بالتحلل بعمرة، وقد جاء ذلك مفسراً في بعض الروايات. قال الأصيلي: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح. قال النسائي: لا أعلم أسنده عن الزهري غير معمر، وقد أنكر الزهري الاشتراط. انتهى. النووي: وهذا الذي عَرَّض به القاضي وقال به الأصيلي من تضعيف الحديث غلط فاحش جدا نبهت عليه لئلا يغتر به؛ لأن هذا الحديث مشهور في صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة. وفي ذكر مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية. وقوله: (ولو أَخَّرَ حِلاقَهُ إِلَى بَلَدِهِ حَلَقَ وَلا دَمَ) مثله في المدونة؛ لأن الحلاق لما وقع في غير زمانه ومكانه لم يكن نسكاً بل تحللاً فقط.

وَفِيمَا يُكْتَفَى بِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ؛ الظَّنُّ وَالشَّكُّ وَالْعِلْمُ، وَرَوَى أَشْهَبُ يَنْتَظِرُ حَتَّى لَوْ خُلِّيَ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ .... أي: وفيما يكتفى به في جواز الإحلال ثلاثة أقوال؛ قيل: يكتفى بالظن لأن الأحكام في الغالب تناط به، وقيل: بالعلم؛ لأنه لما دخل فيه لزمه فلا يخرج إلا بيقين. ابن راشد: وهذه الأقوال لم أقف عليها على هذه الصور، ففي التبصرة: مذهب ابن القاسم أنه إذا كان على إياس من انكشاف العدو حل مكانه، وإن كان يرى أنه يذهب قبل ذلك أو يشك أمسك إلى وقت ذهاب العدو ولم يدرك فحينئذ يحل، فعلق الإحلال بالإياس، وذلك قد يحصل بالعلم وبغلبة الظن، وأما الشك فلا. وقد صرح بأنه يمسك إذا شك. وقال أشهب: لا يحل إلى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة. وقال ابن بشير: إن تيقن دوام العدو إلى أن يفوته الحج فههنا قولان؛ المشهور أنه يحل، وإن تيقن زوال المانع أو شك فلا يجوز له التحلل بلا خلاف. فحكى الاتفاق في الشك، فتأمل هذا الموضع [209/أ] فإنه عندي مشكل. وقال ابن هارون: وما علمت من قال إنه يباح له التحلل بالشك غير المؤلف. انتهى. واعلم أنه وقع في المدونة موضعان؛ الأول أنه إذا يئس أن يصل إلى البيت فيحل بموضعه حيث كان. قال في التهذيب: وقال في موضع آخر: لا يكون محصورا حتى يفوته الحج ويصير إن خلي لم يدرك الحج فيما بقي من الأيام. فذهب ابن يونس إلى أن الأول راجع إلى الثاني، قال: وقاله بعض شيوخنا. وقال غيره: بل ذلك اختلاف قول، والأول أبين. انتهى. قوله: (وَرَوَى أَشْهَبُ) قد تقدم وجهه أن الحج لما كان معلقاً بوقت وكان الإمساك عن الوطء والطيب وغيره طاعة، وقد التزم المحرم بالحجِ الإمساكَ عن هذه الأشياء إلى وقتٍ كان عليه أن يبقى على تلك الطاعة إلى ذلك الوقت.

اللخمي: ويلزم على قوله أنه إن أحرم بعمرة وهو على بعد ألا يحل إلا في الوقت الذي يحل فيه لو لم يحصر. ابن عبد السلام: وأما قول المؤلف: (وروي أيضا: ينتظر حتى لو خلي لم يدرك الحج) فهو في الحقيقة غير القول الذي اعتبر فيه العلم. انتهى. وفيه نظر؛ لأن علمه يمقام العدو قد يكون قبل ما لو خلي لم يدرج الحج. فرع: قال في المبسوط فيمن حل له الإحلال فلم يفعل حتى أصاب النساء. إن كان نوى أن يحل فلا شيء عليه، وإن نوى أن يقيم على إحرامه لقابل فقد أفسد حجه وعليه أن يقضي حجته تلك. وَلَوْ وَقَفَ وَحُصِرَ عَنِ الْبَيْتِ فَفِيهَا: تَمَّ حَجُّهُ، وَلا يُحِلُّهُ إِلا الإِفَاضَةَ وَعَلَيْهِ لِجَمِيعِ فَائِتِهِ مِنَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنىً– هَدْيٌ كَمَا لَوْ نَسِيَ الْجَمِيعَ، وَقِيلَ: لا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يَنْتَظِرُ أَيَّاماً فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ الإِفَاضَةُ وَإِلا حَلَّ .... نحوه في المدونة، ولم يبين فيها هل حصر بمرض أو عدو؟ وحملها سحنون على أنه بمرض وذكره عن مالك، ومثله في الواضحة، وكذلك في موضع من كتاب محمد، وفي موضع آخر منه: بعدو. ابن أبي زيد: ورواية بعدو أصوب. وقال غيره: لو كان بعدو لما لزم الهدي؛ لأن مذهب ابن القاسم سقوط الهدي عمن أحصر بعدو، وأجيب بأن ذلك إنما هو في حق من لم يقف بعرفة. وقوله: (وَلا يُحِلُّهُ إِلا الإِفَاضَةَ) أي: لا يزال محرماً ولو أقام سنين –حتى يطوف للإفاضة؛ إذ لا يتم الحج إلا به، وعليه لجميع فائته من الرمي والمبيت بمزدلفة ومنى – هدي، كما لو نسي الجميع، وقال التونسي في هذه المسألة: الأشبه أن يخير بين أن يبقى على

إحرامه أو يحل ويبطل حجه ويكون عليه الحج إن كان ضرورة، قال: ولا يكون أسوأ حالا ممن حصره العدو قبل وقوف عرفة. وقوله: (وَعَلَيْهِ لِجَمِيعِ فَائِتِهِ ... إلخ) هو مذهب المدونة. وقوله: (كَمَا لَوْ نَسِيَ الْجَمِيعَ) هو كذلك في المدونة. خليل: ولو قيل: إذا نسي الرمي والمبيت بالمزدلفة بالتعدد ما بَعُدَ؛ لتعدد الموجبات كما في العمد. وكأنهم لاحظوا أن الموجب واحد لا سيما وهو معذور. ابن راشد: والقائل بإسقاط الهدي قاسه على التحلل قبل الوقوف. وما ذكره عن الباجي هو كذلك في المنتقى، وهو يقتضي أنه حمل مسألة العدو. فَإِنْ حُصِرَ عَنْ عَرَفَةَ فَقَطْ لَمْ يَحِلَّ إِلا أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَلا يَكْفِي طَوَافُ الْقُدُومِ وَلا هَدْيَ عَلَيْهِ ... لما كان حصر العدو على ثلاثة أقسام: الأول: أن يحصر عن البيت والوقوف. والثاني: أن يحصر عن البيت فقط وتكلم المصنف عليهما. وأتبع ذلك بالكلام على القسم الثالث وهو أن يحص عن عرفة فقط. وإنما لم يحل إلا بالبيت لقدرته عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". ولم يكفه طواف القدوم والسعي بعده؛ لكونه لم ينو بهما التحلل، وهذا مذهب المدونة. وقال عبد الملك: يكفيه طوافه وسعيه أولاً، وذكر ابن بشير خلافاً فيمن صد بعدو بعد أن طاف طواف القدوم ولم يقف بعرفة هل يجوز له التحلل أم لا؛ لأنه لم يأت التحلل إلا فيمن صد عن البيت قبل الوصول إليه؟

وَلا قَضَاءَ عَلَى مَحْصُورٍ لأنه معذور، ولا خلاف في ذلك عندنا، وأوجب أبو حنيفة القضاء وذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما صد عن عمرة الحديبية ووقع الصلح على أن قاضي أهل مكة على تمكينه في العام القابل، فاعتمر هو وأصحابه في العام المقبل وسميت عمرة القضاء. والمالكية يقولون: إنما سميت عمرة القضاء؛ لمقاضاته عليه الصلاة والسلام، والحنفية تقول: لأنها قضاء والله أعلم. وَلا تَسْقُطُ الْفَرِيضَةُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: تَسْقُطُ والأول هو القياس كسائر الفرائض ووافق ابن الماجشون أبو مصعب وسحنون ورأوا أنه قد أتى بالمقدور وبذل وسعه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كما قالوا لسقطت الفريضة ولو أحصر قبل الإحرام، وقد وافقوا على أنها لا تسقط. وحكى المازري أن الداودي ذكر في كتاب النصيحة عن أبي بكر الثعالبي أن الفريضة تسقط وإن صد قبل أن يحرم. المازري: وأظن أنه حكاه عن رجل آخر من أصحابنا، وكان بعض شيوخنا يستبشع هذا القول. عياض: والذي رأيته في كتاب النصيحة للداودي ما هذا نصه: إن من صد بعد إحرامه لم تسقط عنه حجة الفريضة. وقال أبو مصعب: إنه يجزئه عن حجة الفريضة. وزاد ابن القرطي: إذا صد أجزأه عن حجة الفريضة، وإن لم يكن أحرم. وهو بعيد في النظر. انتهى قوله. ولم أره ينسب القول إلى الثعالبي ولا غيره سوى ابن شعبان، والثعالبي هو أبو بكر تلميذ [209 / ب] ابن شعبان فقيه مصر في وقته. انتهى. وَلا يُوجِبُ تَحَلُّلُ الْمَحْصُورِ دَماً خِلافاً لأَشْهَبَ أي: بعدو. ومنشأ الخلاف هل قوله تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ([البقرة: 196] يتناول المحصور بعدو أم لا؟ وقد اختلف في ذلك أئمة اللسان فنقل أبو عبيدة عن

الكسائي أنه قال: أحصر في المرض وذهاب النفقة. وحصر في العدو والسجن؛ لقول ابن عباس: لا حصر إلا في العدو. وقال الفراء: العرب تقول: أحصر بالمرض وحصره العدو، ولا يقال: حصره إلا في العدو. وقال ابن فارس في المجمل: ناس يقولون: حصره المرض وأحصره العدو عكس الأول، وحكى ابن قتيبة وغيره في المرض وجهين. ابن بشير وابن هارون وابن راشد: والأول هو المشهور عن أهل اللسان، ورجح اللخمي وغير واحد قول أشهب؛ لأن الآية نزلت بسب عمرة الحديبية، قاله ابن عبد البر وغيره، وأجيب بأن الهدي لم يكن لأجل الحصر، وإنما كان بعهم ساق هديا فأمره بذبحه ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهدي لحصرهم، قاله التونسي وابن يونس. وضعف قول أشهب بقوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (والمحصور بعدو يحلق رأسه حيث كان. فرع: قال ابن الماجشون: إذا كان العدو منع من طريق فليس عليه أن يأخذ طريقاً آخر يسلكه في الانتقال حيث لا يسلك بها، ولا يركب المخاوف، وإن لم يجد إلا هذا فهو محصور، وإن وجد طريقا مأمونة معلومة وهي أبعد فليس بمحصور إن بقي من المدة ما يدرك فيه الحج. وَلا يَجُوزُ قِتَالُ الْحَاصِرِ مُسْلِماً كَانَ أَوْ كَافِراً، وَلا إِعْطَاءُ مَالٍ لِلكَافِرِ نحوه لابن شاس. ابن عبد السلام: وسواء كان بمكة أو بالحرم. وأما إعطاء المال على أن يخل بين الناس وبين مكة فلا يجوز إن كان كافراً، ومفهوم كلامه أنه يجوز إن كان مسلما، والأصل في منع القتال ما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام، قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة".

وفي حديث أبي شريح، وهو في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً". قال سند: إن كان العدو المانع كافراً أو لم يبدأ بالقتال فهو بالخيارين التحلل والقتال؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقاتل من صده مع علوه على الصاد، وإن طلب الكافر مالاً على الطريق كره له دفعه نفيا للمذلة. وإن كان الصاد مسلماً فهو كالكافر في القتال؛ لأنه ظالم. انتهى. ابن هارون: والصواب قتال الصاد انتهى. وفي الكافي: وأما من أحصر بعدو غالب من فتنة أو غيرها فلهم قتال العدو ولهم تركه والتربص، فإن كشف الله عنهم ذلك ورجوا إدراك حجهم نهضوا، وإن يئسوا من زوال العدو نحر من كان معه هدي وحلق كل واحد منهم، وسواء كان ذلك في الحل أو في الحرام. انتهى. وفي الإكمال قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة". هو محمول عند أهل العلم على حمله لغير ضرورة ولا حاجة، فإن كان خوف أو حاجة إليه جاز، وهو قول مالك والشافعي وعطاء وعكرمة، وكرهه الحسن البصري تمسكاً بظاهر الحديث. وحجة الآخر دخوله عليه الصلاة والسلام عام القضية بما شرطه من السلاح، ودخوله يوم الفتح وعلى رأسه المغفر. عليه إذا احتاج إليه وحمله الفدية، ولعل هذا في حاجته إلى المغفر والدرع وشبههما فلا يكون خلافا، ثم قال: وقول الكافة أن هذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله عليه الصلاة والسلام: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" فخص بما لم يخص به غيره. وقال القاضي في كتاب الجهاد: ولم يختلف في دخول النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان حلالا بدخوله والمغفر على رأسه، ولأنه كان دخلها محارباً حاملاً للسلاح هو وأصحابه، ولم يختلفوا في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يختلفوا أن من دخلها لحرب بعده أو لغيره أنه لا يحل له دخولها حلالاً. انتهى فانظره. وحكى الخطابي أنه إنما حل له تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وغيره، والصواب في مذهب الشافعي جواز القتال.

النووي: والجواب عن الأحاديث المذكورة ما أجاب ب الشافعي في كتاب سير الواقدي أن معناه تحريم نصب القتال وقتالهم بما يعلم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن صلاح الحال بدون ذلك. وَالْحَصْرُ عَنِ الْعُمْرَةِ كَالْحَجِّ أي: في جواز التحلل منها بتحقق المانع أو ظنه كما تقدم. والحصر في العمرة هو الأصل؛ لأن ذلك محل النص، والحصر فيها إنما يكون عن البيت. قال في الذخيرة: قال ابن القاسم: وليس للعمرة حد بل يتحلل وإن لم يخش الفوات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام صد وهو محرم بعمرة ولم يتأخر، وقال عبد الملك: يقيم ما رجا إدراكها ما لم يضره ذلك. انتهى. وقوله: (إدراكها) أي: بزوال العدو، وصرح بذلك الباجي. فإن استوطن العدو فإنه يجوز له الإحلال عنده. الباجي: إلا أن ترجى إباحة الطريق، فإن التوقف في ذلك [210/أ] ومحاولته يجري مجرى زواله. وَفَوَاتُ الْوُقُوفِ بِخَطَأِ الْعَدَدِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ، غَيْرِ الْعَدُوِّ وَلا يُحِلُّهُ إِلا الْبَيْتُ –وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ– فَيَتَحَلُّلُ بأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى إِهْلالِهِ الأَوَّلِ وَلا يَعْتَدُّ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْحَصْرِ، وَيُعِيدُهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ إِحْرَامٍ ... يعني: أن من فاته الوقوف بعرفة (بِخَطَأِ الْعَدَدِ) أي: فإن علموا أول الشهر ثم نسوه– وقد تقدم حكم ما إذا كان بسبب خطأ أهل الموسم في الرؤية – أو فات الوقوف بمرض (أَوْ غَيْرِهِ) أي: من عدم رفيق، أو مركوب، أو عدم الدليل على الطريق. وقوله: (لا يُحِلُّهُ إِلا الْبَيْتُ وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ) أي: ويجب التمادي على إحرامه. قوله: (فَيَتَحَلُّلُ بأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى إِهْلالِهِ الأَوَّلِ) أي: من غير أن يجدد إحرامها، لما تقدم أن العمرة لا ترتدف على الحج، ولا يعتمد بما فعله من طواف وسعي قبل الفوات؛ لأنه لم ينو به التحليل. خليل: وإذا ثبت أنه لا يجدد لعمرته إهلالا يحصل له أجر عمرة. وأيضا فقولهم: إنه لو وطئ فيها ليس عليه بدلها يدل على ذلك والله أعلم.

والفرق بين العدو والمرض، وما ذكر معه أن العدو أمر غالب عام والمرض خاص، ولأن المرض وغيره، قد يمكنه إتيان البيت بوجه ما، والله سبحانه أعلم. وَلا يُجَدِّدُ إِحْرَامَهَا إِلا مِنْ أَنْشَأَ الْحَجَّ، أَوْ أَرْدَفَهُ فِي الْحَرَمِ قوله: (إِحْرَامَهَا) أي: العمرة؛ أي: إذا أحرم بالحج من الحرم أو أردفه فيه فإنه يحتاج إلى تجديد إحرام، هذا مقتضى كلام المنصف، وليس كذلك، وإنما يؤمر أن يخرج إلى الحل فيلبي منه ويدخل إلى العمرة، ويحج قابلاً ويهدي، ظن أن مراده بقوله:"يلبي" تجديد الإحرام. ابن عبد السلام: وليس ذلك مراده ولا ذهب إليه أحد من الشراح فيما علمت، وإنما أمر بالخروج لما علم من غير موضع أن كل نسك لابد أن يجمع فيه بين الحل والحرم. وَلَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهِ، فَيُجْزِئُهُ وَلا دَمَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ فَفِي الْهَدْيِ قَوْلانِ ... الضمير في قوله: (وَلَهُ) عائد على من فاته الحج بأحد الوجوه المتقدمة. وظاهر كلامه أنه مخير في البقاء على إحرامه، ونص في المدونة والعتبية على استحباب التحلل. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فاته الحج فليهل بعمرة وعليه الهدي قابلاً". وقوله: (وَلا دَمَ) أي: على من بقي على إحرامه. وقوله: (وَقِيلَ: مَا لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةُ) راجع إلى قوله: (وَلَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهِ) وحاصله أنه مخير ما لم يدخل مكة، فإذا دخلها فهل له التمادي؟ قولان. والقول الثاني من كلام المنصف هو مذهب المدونة والموازية، قال في المدونة في أول الحج الثالث: وإنما له أن يثبت على إحرامه ذلك إلى قابل ما لم يدخل مكة، فإذا دخلها فليطف بالبيت ويسعى ويحل من إحرامه ذلك ولا يثبت عليه. سند: يريد أنه يكره له

التمادي على الإحرام خشية ارتكاب المحظورات. وألحق اللخمي بمكة في استحباب التحلل ما إذا كان قريبا منها. وما صدر المصنف به حكاه ابن نافع عن مالك. وقوله: (فَيُجْزِئُهُ) يعني: إن بقي على إحرامه وحج من قابل أجزأه عن حجة الإسلام. وهذا هو مذهب المدونة. وقال ابن وهب: لا يجوز له البقاء على الإحرام وإن بقي فلا يجزئه عن حجة الإسلام. ابن راشد: والأول أصح؛ لأن إحرامه إنما كان عن حجة الإسلام وقد بقي على ذلك الإحرام حتى حج. وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَحِلَّ فَفِي الْهَدْيِ قَوْلانِ) مذهب المدونة السقوط ومذهب العتبية الوجوب؛ إما لأنه لتأخبر أفعال الحج عن وقته، وإما على سبيل الاحتياط إذا الغالب عدم الوفاء بحق الإحرام مع طول المقام ولهذا قال بعضهم: إذا أهدى لا يأكل منه؛ لاحتمال أن يكون أماط أذى، والدم إذا كان لإماطة الأذى لا يؤكل منه. فَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلا يَتَحَلَّلُ، فَإِنْ تَحَلَّلَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَمْضِي وَلا يَكُونُ مُتَمَتِّعاً؛ لأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْ بِعُمْرَةٍ، وَقَالَ أَيْضاً: لا يَمْضِي، وَقَالَ أَيْضاً: يَمْضِي وَيَكُونُ مُتَمَتِّعاً .... يعني: فإن أراد البقاء على إحرامه ثم بدا له أن يحل فذلك له ما لم تدخل أشهر الحج من العام لمقبل، فلا يتحلل؛ لسيارة ما بقي، فإن تحلل فهل يصح تحلله؟ قال ابن القاسم أولاً: يمضي تحلله ويصح. وقال أيضاً: لا يمضي تحلله؛ بناء على أن الدوام كالابتداء فلا يمضي أو لا فيمضي؟ وإذا قلنا أن تحلله يمضي وحج ذلك العام فهل يكون متمتعا؟ قولان لابن القاسم أيضاً، والأقرب أنه ليس بتمتع؛ لأن المتمتع من تمتع بالعمرة إلى حج، وهذا إنما تمتع من حج إلى حج، وعلى قول ابن القاسم أنه يكون متمتعا يجب عليه دم التمتع؛ لأنه استمتع بتحلله كما في العمرة.

التونسي: وعلى هذا القول أنه إنما يجب عليه الهدي إذا حج من عامه، فإن لم يحج من عامه فلا. وفي هذا نظر؛ لأنه قد انتفع بالتحلل الذي حل به من الإحرام، فيجب أن يكون عليه الدم بكل حال، حج من عامه أو لم يحج، كما لو حل قبل أشهر الحج لكان عليه دم التحلل وإن لم يكن ممتعا. انتهى. وهذه الثلاثة الأقوال في المدونة. ولم يختلف قول ابن القاسم فيها ثلاث مرات إلا في هذه المسألة. فَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ بَعْدَ الإِفْسَادِ أَوْ قَبْلَهُ فَلا يَبْقَى وَيَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ مِنَ الْحِلِّ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ فِي قَابِلٍ، وَدَمُ الْفَوَاتُ لا دَمُ قِرَانٍ. وَمُتْعَةٌ لِلْفَائِتِ بِخِلافِ الْمُفْسِدِ وَشُبِّهَتْ بِمُتَعَدِّي المِيقاتِ يُحْرِمُ ثُمَّ يَفُوتُ أَوْ يَفْسُدُ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَكَالأَصْلِ ... يعني: فإن اجتمع في الحج فوات وإفساد، سواء كان الإفساد أولاً أو ثانياً فلا يجوز له البقاء هنا على إحرامه؛ لأن فيه تماديا على الفساد، ويتحلل بعمرة من الحل؛ يريد إذا كان أحرم بالحج من مكة أو أردفه فيه، ولو كان إحرامه من الحل لم يخرج إليه كما تقدم. قوله: (وَيَجِبُ الْقَضَاءُ) ظاهر كما في سائر صور الإفساد والفوات، ثم لا يخلو إما أن يكون ما فاته أو أفسده إفرادا أو تمتعا أو قرانا، فالإفراد لا يحتاج فيه إلا إلى هديين، أحدهما للفوات والثاني للفساد. ابن عبد السلام: هذا مذهب المدونة، وقيل: يسقط عنه دم الفساد إذا جامع ثم فاته الحج. انتهى. وإن كان قراناً أو تمتعاً فقال المصنف: لا شيء عليه في ذلك القران أو التمتع، يكون عليه إذا قضى ثلاث هدايا؛ هدي للفساد وهدي للفوات وهدي للقران أو التمتع الثاني. وما حكاه من سقوط دم القران الفائت هو في الموازية من رواية أبي زيد عن ابن القاسم. وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يسقط حكاه الباجي. ونسب اللخمي القولين لابن القاسم قال: والسقوط أحسن؛ لأنه آل أمره إلى عمرة ولم يتم القران. وحكى ابن يونس عن ابن القاسم في سقوط دم المتعة قولين أيضاً، وقال في البيان: مذهب المدونة أن الفوات.

لا يسقط عنه دم القران إن كان قارنا ولا دم إن وطيء قبل أن يفوت الحج، قال في الحج الثالث فيمن وطيء ثم فاته الحج أن عليه هديين، والتمتع مقيس عليه. وقوله: (بِخِلافِ الْمُفْسِدِ) أي: فإنه يجب عليه القران والتمتع. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك. انتهى. والفرق أن الفوات يبيح القطع فتذهب صورة القران والتمتع في الصورة والحكم، بخلاف الإفساد فإنه يجب معه التمادي فتبقى صورتها ظاهرة، فلذلك وجب ترتب أثرها وهو الهدي كما في الصحيح. قوله: (وَشُبِّهَتْ) أي: وشبهت هذه المسألة في سقوط الدم في الفوات دون الفساد، بما تقدم من أن المشهور سقوط دم التعدي عنه إذا فاته الحج، بخلاف ما إذا أفسدته، فإنه لا يسقط عنه الهدي، وهذا التشبيه لابن يونس وغيره. هذه المسألة تقدمت من كلام المصنف وذكر فيها عن ابن القاسم أن عليه أربع هدايا. وأن أصبغ قال: عليه ثلاث وهو الصحيح. لكن بين هنا أنه لا فرق بين تقدم الفوات على الإفساد أو العكس. وقوله: (وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَكَالأَصْلِ) ظاهر وقد تقدم. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُحْصَرِ هَدْيٌ حَبَسَهُ مَعَهُ إِلا أَنْ يَخَافَ عَلَيْهِ فَلْيَبْعَثْ بِهِ فَيُنْحَرَ بِمَكَّةَ أي: المحصر بمرض؛ لأن حكم هدي المحصر بالعدو قد تقدم أنه يذبحه حيث كان، وأمر بحبسه لاحتمال أن يصح إنه يبعثه إذا لا مانع للهدي. قال في الذخيرة: وإن قدر المحصر – أي: بعدو – على إرسال الهدي أرسله وإن تعذر نحره في الحل.

وَلا يُجْزِئُ هَدْيٌ مَعَهُ عَنِ الْفَوَاتِ بَعَثَهُ أَوْ تَرَكَهُ يعني: أن ما قلده المحرم أو أشعره قبل أن يفوته الحج لا يجزئه عن دم الفوات سواء بعثه أو تركه عنده؛ لأنه بالتقليد وجب فلا يجزئ عن واجب آخر. وقد اختلف قول مالك فيمن ساق هديا في عمرة ثم أردف الحج أو فرغ من عمرته وتمتع هل يجزئه ذلك الهدي عن تمتعه وقرانه؟ والذي رجع إليه في المدونة في مسألة التمتع – الإجزاء وكذلك قال في المدونة في امرأة دخلت مكة بعمرة فحاضت قبل أن تطوف، وخشيت فوات الحج، أنها تردف الحج على العمرة، ويجزئها عن دم القران ما ساقته أولا قبل إردافها. خرج بعضهم خلافاً في تعيين الهدي بالتقليد والإشعار من هذه المسألة، وعلى هذا فلا يبعد أن يختلف في مسألة الفوات والله أعلم. وَيُؤَخَّرُ دَمُ الْفَوَاتِ إِلَى الْقَضَاءِ، وَفِي إِجْزَائِهِ قَبْلَهُ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَكَانَ مَالِكٌ يُخَفِّفُهُ ثُمَّ اسْتَثْقَلَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ لَمْ يُجِزْئُهُ مَا أُهْدِيَ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ قال في المدونة: ولا ينحر الهدي إلا في حجة القضاء، فإن اعتمر بعد أن فاته الحج فنحر هدي الفوات في عمرته أجزأه. وقد كان مالك يخففه ثم استثقله. قال ابن القاسم: ولا أحب له أن يفعل إلا بعد القضاء، وإن فعل أجزأ، ثم ذكر ما ذكره المصنف عنه. ونقل ابن يونس عن أشهب عدم الأجزاء إن قدمه. إنما أمر بتأخير الهدي لحجة القضاء ليتفق الجابر النسكي والجابر المالي. ورأى بعض الشيوخ أن ما استدل به ابن القاسم مصادرة على المطلوب، وأن من يقول بعدم الإجزاء إذا تقدم يخالف في مسألة الميت. وَلَوْ أَفْسَدَ ثُمَّ فَاتَ، أَوْ فَاتَ ثُمَّ أَفْسَدَ قَبْلَ تَحَلُّلِ الْعُمْرَةِ أَوْ فِيهَا فَقَضَاءٌ وَاحِدٌ وَهَدْيَانِ، وَلا بَدَلَ لِعُمْرَةِ التَّحَلُّلِ ... تصور كلام واضح.

وقوله: (فَقَضَاءٌ وَاحِدٌ) أي: للحج. (وَهَدْيَانِ) أي: هدي للفوات وآخر للفساد. ولا بدل لعمرة التحلل. أي: لا يقضيها لأنها ليست عمرة في الحقيقة بدليل أنه لا يحرم لها، وإنما هي تحلل بطواف وسعي. وَلا تُفِيدُ الْمَرِيضَ نِيَّةُ التَّحَلُّلِ أَوَّلاً بِتَقْدِيرِ الْعَجْزِ يعني: أن المريض إذا أحرم وشرط أنه إن حصل له عجز يتحلل – فلا تفيده تلك النية، وكذلك أيضاً إن شرطت المرأة عند إحرامها أنها إن حصل لها حيض تحللت– لم يفدها ذلك الشرط؛ لأنه شرط مخالف لسنة الإحرام. وَحَبْسُ السُّلْطَانِ كَالْمَرَضِ عَلَى الْمَنْصُوصِ لا كَالْعَدُوِّ، وَثَالِثُهَا إِنْ كَانَ حُبِسَ لِحَقٍّ فَكَالْمَرَضِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كُنْتُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِئَةٍ فَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ اتُّهِمُوا بِدَمٍ فَحُبِسُوا بالْمَدِينَةِ مُحْرِمِينَ، فَقَالَ: لا يُحِلُّهُمْ إِلا الْبَيْتُ يعني: أنه اختلف إذا حبس السلطان قوماً محرمين فالمنصوص أي: المنقول عن مالك في المدونة أن ذلك كالمرض؛ أي: لا يحلهم إلا البيت. ولو قال: المشهور لكان أولى؛ لأن الغالب من عادته ألا يجعل مقابل المنصوص منصوصاً. ووجه المشهور أن هذا خاص ببعض الناس فكان كالمرض. والقول بأنه كالعدو نقله ابن بشير عن المتأخرين. والقول الثالث نقله في البيان عن مالك، ولم يجعله خلافاً للأول، بل ساقه على أنه وفاق، وهو اختيار ابن يونس، وقطع ابن القصار بأنه كالمرض إذا سجنوا بحق وتردد إذا سُجِنوا بباطل. اللخمي: ولا فرق بين حصر بدَينٍ أو بدم، وما حكاه ابن القاسم هو كذلك في المدونة وغيرها، وهو القول الأول من كلام المصنف. زاد في النوادر فيه عن مالك: أو يثبت عليهما ما ادعى عليهما فيقتلان. ابن رشد: وهو تمام المسألة. وإنما ردهما مثل المريض لأنهما حبسا بالحكم الذي أوجبه الله تعالى، فكان بمنزلة المرض الذي هو عند الله. انتهى.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام ابن رشد أن الظلم الموجب لتحلل المحبوس بالعدو وإلحاقه به، وهو أن يكون ظلماً وعداءً في ظاهر الحال، ولا يحتاج أن يكون ظلماً في نفس الأمر، حتى أنه إن حبسه بتهمة ظاهرة فهو كالمرض وإن كان يعلم من نفسه أنه بريء. قال: وفيه عندي نظر. وإنما كان ينبغي أن يحال المرء على ما يعلم من نفسه؛ لأن الإحلال والإحرام من الأحكام التي بين العبد وربه، ولا مدخل فيها للولادة، فمن علم من نفسه البراءة جاز له التحلل، ولو كان سبب التهمة ظاهر. وَمَنْعُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ الْمُحْرِمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ إِذَا تَمَكَّنَ بِإذْنٍ أَوْ عِتْقٍ فَيَجِبُ الْهَدْيُ، وَقِيلَ: كَالْحَصْرِ ... يعني: أن العبد إذا أحرم بغير إذن سيده فله أن يحلله ويجب على العبد القضاء إذا أذن له سيده أو عتق على المشهور، ويجب الهدي. ابن المواز: ويحتاج فيه لإذن السيد. ابن عبد السلام: وقد يقال: إذن السيد في القضاء يستلزم الإذن في توابعه. وقال أشهب وسحنون: لا قضاء عليه. التونسي واللخمي: وهذا أبين؛ لأن السيد قد رد إحرامه من أصله. وإليه أشار بقوله: (وَقِيلَ: كَالْحَصْرِ) أي: كحصر العدو عن حج التطوع، والفرق للمشهور أن العبد لما أحرم بغير إذن سيده مع علمه بأن السيد يمنعه صار بمنزلة من علم بالحصر ثم أحرم، ومثل ذلك لا يعذر، ولا يحلله إلا البيت. اللخمي وغيره: ويستحب للسيد ألا يحلله إذا كان السيد محرما. ابن الجلاب: ويستحب لمن استأذنه عبده في الحج أن يأذن له إذا لم يضر به ذلك. ومن خرج بعبده إلى مكة فاستأذنه في الإحرام فليأذن له، وإن نقص ذلك من ثمنه، وإن لم يفعل فلا شيء عليه. سند: وينعقد إحرام العبد بغير إذن سيده عند الفقهاء كافة، خلافا لأهل الظاهر؛ قياساً على الصوم والصلاة، ثم يجب على العبد الموافقة على التحليل، فإن لم يوافق وكمل الحج أثم ولا هدي عليه. وتحليله يكون بالنية والحلاق؛ لأن رفض النية وحده يبطل الإحرام. انتهى.

قيل لأشهب: فهل يمنعه سيده أن يحل من ذلك في عمرة؟ قال: إن كان قريباً فلا يمنعه، وإن كان بعيدا فإما أن يبقيه على إحرامه إلى قابل، وإما أن يأذن له في فسخه في عمرة. قال في المدونة: وعلى العبد الصوم لما حلله السيد، إلا أن يهدي عنه سيده طاو يطعم. وقال يحيى: لا أعرف في هذا إطعاما، وإنما هو هدي أو صيام؛ أي: لأن الإطعام إنما هو في فدية الأذى. ورأى في المشهور أنه لما أحرم مع علمه بأن للسيد أن يحلله صار العبد كأنه قاصد التحليل، فصار كفدية الأذى. اللخمي: ثم لا يخلو العبد في الإحرام الذي أحله منه السيد من أربعة أوجه: إما أن يكون متطوعا به، أو منذورا في حج عام بعينه، أو منذورا مضمونا، أو نوى حجة الإسلام وهو يظن أن ذلك عليه؛ فإن نوى تطوعا بغير نذر أو نذر حج ذلك العام لم يلزمه القضاء إن أذن له السيد أو عتق في عام آخر. وإن أذن له أو عتق في ذلك العام الذي أحله منه وهو يدرك الحج ندب إلى الوفاء به وليس بواجب. وإن كان منظوراً مضموناً فأحرم ينوي قضاء ذلك النذر ثم رد إحرامه – كان عليه القضاء متى عتق؛ لأن السيد إنما رد ذلك الإحرام ولم يرد النذر ولا العقد المتقدم قبل الإحرام. واختلف هل للسيد إن يرد عقده للنذر؟ فأجاز ذلك ابن القاسم، ومنعه أشهب، وهو أحسن؛ لأن ذلك العقد لا يضر للسيد ما دام العبد ملكه ولا يحط من الثمن إن باعه. وإن أحرم ينوي حجة الإسلام وظن أن ذلك عليه، لم يكن عليه شيء مادام في الرق. وإن أذن له السيد فإن عتق أتى بحجة الإسلام فقط. وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاذُونِ لَهُ كَالْمَرأَةِ فِي التَّطَوُّعِ، وَيُقْضَى لَهُمَا عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ عَيْبٌ إِلا أَنْ يَقْرُبَ الإِحْلالُ وَلَهُ بَيْعُهُ إِنْ قَرُبَ الإِحْلالُ ... المراد بالمأذون: المأذون له في الحج لا المأذون له في التجارة [211/ب]، فإن المأذون له في التجارة هنا كغيره، ويدل على أن مراد المصنف بالمأذون ما ذكرناه؛ قوله أولاً: (عبده المحرم بغير إذنه) يعني: أن السيد إذا أذن لعبده في الحج فليس له منعه، كالمرأة في التطوع إذا أذن لها زوجها فيه فليس له منعها.

(وَيُقْضَى لَهُمَا) أي: للعبد والمرأة (عَلَيْهِمَا) أي: على السيد والزوج. ولا إشكال على هذا إن أحرما، وأما قبل الإحرام فنص مالك على أن له أن يمنع العبد. اللخمي: وليس بالبين. وقال سند: ظاهر الكتاب يقتضي أنه ليس له منعه بعد الإذن وإن لم يحرم. قوله: (فِي التَّطَوُّعِ) ولم يقل في حج التطوع؛ ليشمل الإحرام بالحج والعمرة. وهل يجوز بيع الرقيق محرماً؟ أجاز ذلك في المدونة، قال فيها: وليس للمشتري إحلاله. قال سحنون: لا يجوز بيعه ويفسخ. قال: ومتى يأخذه، بعد الحج أو قبله؟ ألا ترى أن ابن القاسم يقول: إذا آجر عبده شهراً لم يجز له بيعه. اللخمي: وقد يفرق بين السؤالين، لأن العبد المحرم منافعه لمشتريه، وفي الإجازة منافعه قد بيعت، فيستخف من كان في الإحرام لهذا، ثم اختار الصحة إن كان المشتري محرماً، ولو كان الموضوع بعيدا؛ لأنه خارج معه، والفساد إن كان غير محرم إلا أن يكون الموضع قريباً والأيام يسيرة. وعلى الصحة فإن علم المشتري أولاً بذلك فلا مقال له، وإن لم يعلم فذلك عيب يوجب الخيار. وهو معنى قوله: (وَهُوَ عَيْبٌ). وقوله: (إِلا أَنْ يَقْرُبَ الإِحْلالُ) أي: فليس بعيب، وكذلك قال في المدونة. وينبغي أن يكون الحكم إذا باعه السيد قبل أن يعلم بالإحرام، ثم رده عليه المشتري – أن يكون له تحليله كما قالوا إذا تزوج العبد بغير إذن سيده. وقوله: (وَلَهُ بَيْعُهُ إِنْ قَرُبَ الإِحْلالُ) ابن بشير: وإذا أحرم العبد بإذن سيده فأراد السيد أن يبيعه فهل له ذلك؟ أما إن لم يبق من مدة الإحرام إلا اليسير فله بيعه، وإن بقي الزمان الكثير فقولان انتهى. وكأنه فهم أن خلاف سحنون مقيد بما إذا طال الزمان. وظاهر ما حكاه اللخمي عنه العموم. قوله: (وَلَهُ بَيْعُهُ إِنْ قَرُبَ الإِحْلالُ) ظاهره أنه ليس له ذلك إن لم يقرب، وهو خلاف مذهب المدونة. وإن أراد أنه يجوز له بيعه من غير بيان فهو مشكل، ولم أر من

صرح بذلك. وإن أراد أنه يتفق على جواز بيعه إذا قرب الإحلال ويختلف إذا بعد كما قال ابن بشير، فكلامه ينبئ عن هذا. وَما لَزِمَ الْمَاذُونَ عَنْ خَطَأٍ أَوْ ضَرُورَةٍ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الإِخْرَاجِ وَإلا صَامَ بِغَيْرِ مَنْعٍ، فَإِنْ تَعَمَّدَ فَلَهُ مَنْعُهُ وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ فِي عَمَلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ ... يعني: أن السيد إذا أذن لعبده في الحج ولزمه دم أو صوم فإن لزم ذلك لعذر؛ كمن مرض حتى فاته الحج أو فاته الوقوف بخطأ في العدد، أو في الهلال أو بخطأ في الطريق، أو قتل صيداً خطأ، أو لبس، أو تطيب لضرورة التداوي، فإن أذن له سيده في إخراج الهدي والفدية بالنسك أو الإطعام فعل، وهذا هو الجاري على المشهور من إجزاء الكفارة بالإطعام مع الإذن. وإن لم يأذن له صام وإن أضر به في عمله، وإن تعمد موجب الهدي أو الفدية – فلا شك – إن أذن له في الإخراج أنه يفعل، وإن لم يأذن له فأراد الصوم فإن لم يضر ذلك بالسيد فله ذلك، إلا إن أضر به على المشهور خلافا لابن وهب وابن حبيب، ورأوا أنه لما أذن له في الحج فقد أذن له في توابعه. فَلَوْ أَفْسَدَ فَفِي وُجُوبِ الإِذْنِ لَهُ فِي الْقَضَاءِ قَوْلانِ لأَصْبَغَ وَأَشْهَبَ أي: في القضاء، رأى أصبغ أن ذلك عليه؛ لأنه من آثار إذنه. ابن المواز: والصواب قول أشهب؛ لضرر السيد. قال في الموازنة: وإن أذن له ففاته الحج فعليه القضاء والهدي إذا أعتق. وَمَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْمُحْرِمَةَ فِي التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَمَنْعِ الْعَبْدِ فِي الْقَوْلَيْنِ أي في التطوع بغير إذنه، فيجب عليها أن تطيعه وتتحلل. وقوله: (فِي الْقَوْلَيْنِ) أي: هل يلزمها القضاء إذا أذن لها أو فارقته أو لا يلزمها؟ فالتشبيه إنما هو في القضاء؛ إذا لم يتقدم له قولان إلا في ذلك. وقيد اللخمي الخلاف بالنذر المعين والتطوع، قال: ويلزمها القضاء في المضمون قولاً واحداً.

فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ أَثِمَتْ، وَلَهُ مُبَاشَرَتُهَا بِخِلافِ الْفَرِيضَةِ عَلَى الأَصَحِّ أي: فإن لم تقبل ما أمرها به من التحلل أثمت لمنعها حينئذ حقه عدواناً، وله حينئذ مباشرتها كارهة. وأما الفريضة فلا يحلها منها على أصح القولين. فرع: روي عن مالك وابن القاسم في التي تركت مهرها لزوجها ليأذن لها: ترجع عليه بمهرها؛ لأنه يلزمه أن يدعها. وقال ابن القاسم في رواية أبي جعفر إن كانت عالمة أن لها أن تحج وإن كره فالعطية ماضية، وإن كانت جاهلة رجعت عليه. واختار يحيى بن عمر وابن يونس، وهو يحتمل الوفاق. وجزم في البيان بالموافقة، قال: ولو أعطته مهرها على أن يحج بها لم يجز؛ لأنه فسخ دَيْنٍ في دَيْنٍ، قاله ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب السلم. وفي سماع عيسى من الصدقات والهبات ما يعارض ذلك فقف عليه. ومقابل الأصح مقتضى كلام ابن يونس أنه منصوص؛ لقوله: فصار في المرأة إذا أحرمت بفريضة بغير إذن زوجها قولان. قول بأن له أن يحللها، وقول إنه ليس له ذلك. وقال بعضهم: هو مأخوذ من مسألة المدونة التي ذكرها المصنف. ولعل هذا هو المعتبر عمد المصنف، ولذلك عقب ذلك بمسألة [212/أ] المدونة إشارة إلى ما أخذ من مقابل الأصح، والله أعلم. وَفِيهَا: وَلَوْ حَلَّلَهَا مِنْ فَرِيضَةٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ، فَقِيلَ: عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَذِنَ لَهَا فِي عَامِهَا أَجْزَأَهَا عَنِ الْفَرِيضَةِ وَالْقَضَاءِ؛ لأَنَّهَا قَضَتْ وَاجِباً بِوَاجِبٍ، بِخِلافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُدْخِلُ تَطَوُّعَاً مَعَ وَاجِبٍ– يَعْنِي إِذَا حَلَّلَهُ ثُمَّ عُتِقَ– وَقِيلَ: فِي اعْتِقَادِهِمَا أَوْ تَعَدِّياً مِنْهُ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَذِنَ– يَعْنِي بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ الْفَاسِدِ أَوْ عَلَى تَمْكِينِهِ بَعْدَ ظُلْمِهِ- وَقِيلَ: قَبْلَ الْمِيقَاتِ ... قال في المدونة: قيل: فإن أحرمت المرأة بفريضة بغير إذن زوجها فحللها ثم أذن لها من عامها بحجة فحجت أيجزئها حجها عن حجة الفريضة والقضاء؟ قال: أرجو ذلك.

وأما إن أحرم عبد بغير إذن سيده فحلله ثم أعتقه فحج ينوي القضاء وحجة الإسلام أجزأته للقضاء لا للفريضة، كما لو نذر عبده فقال: إن أعتق الله رقبتي فعلي المشي إلى بيت الله في حجة. ثم أعتق فإنه يحج حجة الإسلام ثم النذر بعدها، ولا تجزئه حجته حين أعتق عنهما؛ لأنه أدخل تطوعا مع واجب. ولو كان حللها من تطوع لكانت كالعبد. انتهى. فتعلق مقابل الأصح بقوله: (وَلَوْ أَذِنَ) بقوله: (وَالْقَضَاءِ) ورأى أن جعل الإذن له وإطلاق القضاء على فعلها يدلان على التحلل سائغ، وهو تأويل ابن أبي زيد. وقوله: (بِخِلافِ الْعَبْدِ .... إلخ) ظاهر التصور من لفظ المدونة، والقائلون بالأصح اختلفوا على تأويلين؛ أولهما: أن ذلك التحلل الذي دل عليه لفظ المدونة إنما كان من اعتقاد الزوج والزوجة أنه الحكم الشرعي في المسألة، أو على سبيل التعدي من الزوج، وجعل عداءه في ذلك تحيلاً لشبهه به. فقوله: (وَلَوْ أَذِنَ) يعني: بناء على اعتقاده الفاسد، أو على تمكينه بعد ظلمه. قال المصنف: (وَهُوَ الصَّوَابُ) وهو يرجع في المعنى إلى تأويلين. وكذلك قال ابن عبد السلام: وقرره ابن هارون على أنه تأويلان حقيقة، والأول أولى؛ لقوله: (هُوَ الصَّوَابُ) فأعاد الضمير مفردا. وعلى هذا التأويل فتحللها باطل ولم تزل بعد محرمة. ابن المواز: وعليها من الفدية وغيرها ما على المجرم، وإن وطئها فسد حجها وتتمه وتقضي ويجزئها ذلك عن حجة الإسلام، وتهدي في القضاء، وترجع بالهدي على الزوج ولو فارقها فتزوجت غيره قبل القضاء فنكحها باطل؛ لأنها محرمة، ولو تزوجت بعد تمام الفاسد وقبل القضاء جاز؛ لأنها حلت ثم تقضي بعد ذلك. ابن يونس: وقال بعض شيوخنا: ونفقتها في قضاء ما أفسد عليها على الزوج من كراء ونحو ذلك. التأويل الثاني: أنها أحرمت قبل الميقات زماناً أو مكاناً. وصوب المصنف الأول؛ لبقاء لفظ المدونة على ظاهره، فإن قلت: كيف جعل القول بتحليلها أولاً صحيحاً؛ لجعله إياه مقابلاً للأصح، ثم قال ثانياً: وهو الصواب فيلزم أن يكون مقابل الأصح غير صواب وذلك تهافت؟

فالجواب: أن الوجه الذي صححه منه المصنف غير الذي أبطله؛ إذا تصحيحه من جهة النقل، وتخطئه من جهة فهم المدونة. فرع: إذا أحرمت المرأة بالحج سقطت النفقة عن زوجها، واختلف الأشياخ هل تسقط سقوطا كلياً أو إنما يسقط عنه الزائد على النفقة في الوطن؟ فمن رأى النفقة في مقابل الاستمتاع أسقطها جملة؛ لأن الزوج ممنوع من الاستمتاع، ومن نظر إلى وجوب الحج على المرأة ولا مندوحة لها عن الإحرام أسقط الزائد عن نفقة الحضر كالمرض. وإلى الثاني ذهب عبد الحق وابن يونس. وَلَوْ أَحْرَمَتْ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَلَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ لما ذكر في التأويل المتقدم الإحرام قبل الميقات بين حكمه فذكر أن المشهور له تحليلها؛ لأنها منعته حقه عدواناً. وقيد اللخمي هذا بما إذا خرج معها واحتاج إليها، وأما إن خرجت دونه أو خرج وأحرم معها فليس له تحليلها. ومقابل المشهور ليس بظاهر ولم أره. فرع: فإن كانت الزوجة أمة فلا تتطوع إلا بإذن سيدها وزوجها عند مالك. وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ الْمُسْتَطِيعَةِ مِنَ السَّفَرِ لَهُ عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوْ قُلْنَا عَلَى التَّرَاخِي كَأَدَاءِ الصَّلاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ ... الضمير في: (لَهُ) عائد على حج الفرض. والأولى أن لو قال: "ولو قلنا على التراخي على الأصح" لأن الخلاف إنما هو على التراخي، كذلك قال ابن بشير وغيره، وكلامه يوهم أن الخلاف جارٍ على الفور والتراخي. وذكر ابن بشير الأصح ومقابله عن المتأخرين، وقال: ونَزَّلوا عليه المبادرة إلى قضاء رمضان، والمبادرة إلى أداء الصلاة. انتهى.

دماء الحج

وعلى هذا فقوله: (كَأَدَاءِ الصَّلاةِ) تشبيه لإفادة الحكم، وقد يقال: الحج أولى بالمبادرة، لأنه قد لا يتيسر في غير ذلك الوقت لكثرة عوائقه إلا أن زمانه يطول غالباً. وَمَنْعُ الْمُحْرِمِ الْمُوسِرِ مِنَ الْخُرُوجِ لِلدَّيْنِ لا يُبِيحُ لَهُ التَّحَلُّلَ وَلا يُمْنَعُ الْمُعْسِرُ وَلا الْمُؤَجَّلُ عَلَيْهِ ... لأنه ظالم بعدم أدائه ليسره، بل لو كان معسراً ولم يثبت عسره عند الإمام فلا يجوز له التحلل على المنصوص كما تقدم؛ لأنه خاص، فكان كالمرض. وقوله: (وَلا يُمْنَعُ الْمُعْسِرُ وَلا الْمُؤَجِّلُ عَلَيْهِ) نحوه في الجواهر. وقوله: (الْمُعْسِرُ) يريد: ثبت إعساره. وقوله (الْمُؤَجِّلُ) يريد: ولا يحل في غيبته، وأما لو حل فله منعه إلا أن يقيم وكيلاً، وليس هذا خاصاً بسفر الحج. فرع: من الموانع السفه، قال سند: قال مالك: ولا يحج السفيه إلا بإذن وليه إن رأى وليه في ذلك نظرا أذن له وإلا فلا. وإذا حلله وليه فلا قضاء عليه. دِمَاءُ الْحَجِّ هَدْيٌ وَنُسُكٌ؛ فَالْهَدْيُ: جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَمَا وَجَبَ لِنَقْصٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، كَدَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ وَغَيْرِها، وَما نَوَى بِهِ الْهَدْيَ- مِنَ النُّسُكِ، وَإِلا فَلَيْسَ بِهَدْيٍ ... جمع الدماء إما باعتبار الأشخاص، وإما باعتبار الأنواع؛ لأن الهدي ثلاثة أقسام: جزاء الصيد، وما وجب لنقص حج أو عمرة كما مثل، وما نوى به الهدي من النسك. وقوله: (دِمَاءُ الْحَجِّ) يريد: وكذلك العمرة، بل جزاء الصيد لا خصوصية له بحج أو عمرة فإنه يخاطب به كل من صاد في الحرم. والفرق بين الهدي والنسك من أوجه:

منها: أن النسك على التخيير والهدي على الترتيب. ومنها: أن النسك لا يختص بزمان ولا بخلاف الهدي. ومنها: أن الصوم يدخل في جميع أفراد النسك أصالة بخلاف بعض أفراد الهدي، وهو جزاء الصيد، فإنما يدخله نيابة عن أمداد الطعام. وَالنُّسُكُ مَا وَجَبَ لإِلْقَاءِ التَّفَثِ وطَلَبِ الرَّفَاهِيَةِ مِنَ الْمَحْظُورِ الْمُنْجَبِرِ تصوره ظاهر. قوله: (مِنَ الْمَحْظُورِ) (مِنَ) للتبعيض؛ لأنه قدم أن من المحظور المنجبر ما لا تجب به الفدية كإزالة شعرة أو شعرات. وَحُكْمُ الْجَمِيعِ فِي السِّنِّ وَالْعَيْبِ كَالأُضْحِيَةِ وهو ظاهر. تنبيه: المذهب في الضحايا أن الذكر أفضل من الأنثى. ونص مالك في العتبية في الهدي على أن الأنثى كالذكر، قال في البيان: ذهب مالك إلى أن الذكر والأنثى في الإبل سواء، وأن الذكر منهما يسمى بدنة كما تسمى الأنثى. قال: ومن العلماء من يرى أن الأنثى أفضل. ولا فضل للأنثى في ذلك على الذكر عند مالك، وإنما الفضل عنده في الأعظم بدنا ذكراً كان أو أنثى. وَيُعْتَبَرُ الْوُجُوبُ حِينَ التَّقْلِيدِ وَالإِشْعَارِ عَلَى الْمَشْهُورِ لا وَقْتَ الذَّبْحِ, فَلَوْ قَلَّدَ هَدْياً سَالِماً ثُمَّ تَعَيَّبَ أَجْزَأَهُ، وَفِي الْعَكْسِ لَمْ يُجْزِئْهُ، عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا ... أي: ويعتبر ما ذكره من السن والسلامة حين التقليد والوجوب على المشهور، وهو مذهب المدونة، ومقتضى كلامه أن الشاذ منصوص، وهو ظاهر كلام ابن بشير وابن شاس. وقال اللخمي: الهدي يجب بالتقليد والأشعار إذا سيق عن وصم في حج أو

عمرة، فإن فلس أو مات لم يكن لغرمائه ولا لورثته عليه سبيل، ويختلف إذا كان نذراً أو تطوعاً، والمعروف من المذهب أنه كالأول يسقط ملك صاحبه بالتقليد والإشعار. وقال في إمرأة ساقت هدياً تطوعاً ثم أردفت الحج وأوقفته ونحرته بمنى عن قرانها - أنه يجزئها، ولم يوجبه بالتقليد والأشعار، ولو وجب وسقط ملكها عنه ما صح أن يجزئ عن واجب. انتهى. وكلامه يقتضي أنه لم يختلف فيما سيق لوصم، وإنما الخلاف في النذر والتطوع، وأن القول بعدم التعيين مخرج من مسألة المرأة لا منصوص. ابن بشير: وهذا الذي قاله اللخمي ظاهر، إلا أن يقال: إنما أجزأها مراعاة للخلاف، أو لأنها بالإرداف امتنعت من نحره فقد انصرف بالشرع عما قصده به أولا، فوجب أن يجزئ إذا صرف إلى الواجب. انتهى. وفيه نظر. والتظاهر ما قاله اللخمي. قوله: (فَلَوْ قَلَّدَ هَدْياً سَالِماً ثُمَّ تَعَيَّبَ أَجْزَأَهُ) تصوره ظاهر وهو المشهور ومذهب المدونة. والشاذ لم يجزم به الأبهري، والذي هو منسوب إليه بل قال: إنه القياس. لكن صرح اللخمي بأنه خلاف فقال: وإذا سيق الهدي عن واجب لم تبرأ الذمة إلا ببلوغه لقوله تعالى: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ (فإن ضل أو سرق أو هلك أو عطب قبل بلوغه لم يجزأه. واختلف إذا نزل به عيب ثم بلغ محله فقال مالك: ينحره ويجزئه. وقال الأبهري: القياس أنه ألا يجزئه كموته. وقول الأبهري يؤخذ منه أنه لا يجب بالتقليد والإشعار. أو نقول: وإن وجب عنده، تكنه لا يستقل هديا إلا أن يدوم كماله إلى وقت نحره. انتهى. والمراد بالوجوب في قوله: (وقت الوجوب) ليس هو أحد الأحكام الخمسة، بل تعيينه وتمييزه من غيره ليكون هديا، والمراد بالتقليد هنا أعلم منه في الفصل الذي يأتي؛ لأن المراد به هنا إنما هو تعيين الهدي وإخراجه سائراً إلى مكة، ألا ترى أن الغنم يعمها هذا الحكم وهي لا تقلد كما سيأتي.

وعلى هذا فالمراد بالوجوب والتقليد هنا متقارب، ويبين لك ذلك ما وقع في بعض النسخ: (ويعتبر حين الوجوب) وهو حين التقليد، وهكذا قال ابن هارون: ووقع لأشهب أن من ساق شيئا من الغنم إلى مكة لم يكن سوقه هديا وإن نواه حتى يوجبه في نفسه. ابن محرز: وهو يشبه ما قاله القاضي إسماعيل أن الأضحية تجب بقبول أو فعل، والله أعلم. وَلا يَبِيعُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ هذا الفرع وقع في بعض النسخ، أي: إن قلنا أنه لا يجزئه لأجل عيب كان به عند التقليد والإشعار، وسواء ذهب أو بقي فقلده معتقداً السلامة ثم أطلع على عيب فهل يجوز له بيعه لأنه قلده على أنه يجزئه، أو ليس له ذلك لأنه قصد [213/أ] أن يكون لله تعالى؟ ابن عبد السلام: ووقع في الموازية ما يمكن أن يكون مراد المصنف، وإذا عطب هديه الواجب قبل محله فلا يبيع من لحمه في البدل، وليأكل إن شاء. ابن حبيب: وأجازه له ابن الماجشون البيع منه كالأكل؛ لأن عليه بدله. وَلا يُجْزِئُ عَنْ فَرْضٍ، وَيَسْتَعِينُ بِالأَرْشِ وَثَمَنِ الْمُسْتَحَقِّ فِي هَدْي الْفَرْضِ، وَفِي التَّطَوُّعِ يِجْعَلُهُ فِي هَدْيٍ إِنْ بَلَغَ، وَإِلا فَصَدَقَةٌ، وَقِيلَ: مِلْكٌ كَالْعَبْدِ يُعْتَقُ ... الهدي أربعة أقسام؛ إما أن يكون لنقص في نُسُكِهِ، أو تطوعاً، أو منذوراً معيناً، أو مضموناً. فإن كان لنقص في الحج أو مضموناً ثم أطلع بعد التقليد والإشعار على عيب مانع للإجزاء أو استحق ذلك الهدي من يده فلا شك أن ذلك لا يجزئه ويجب عليه البدل. وإنما النظر فيما يأخذه عن العيب وفي ثمن الهدي المستحق. وذكر المصنف أنه يستعين بالأرش وثمن المستحق في هدي غيره، وإن قصر ذلك عن التعويض تمم من عنده، وإن لم يكن العيب مانعا للإجزاء فقال اللخمي: يجزئه الهدي، ويستحب أن يجعل ما أخذه عن العيب في هدي.

وقول المصنف: (الْفَرْضِ) مخفوض بدل أو عطف بيان على قوله: (المستحق) وفي بعض النسخ: (في غير الفرض) أي: في غير هدي الفرض الذي استحق أو تعيب. وإن كان الهدي تطوعا فإن بلغ ما أخذه ثمن هدي اشترى به هديا، وإن لم يبلغ تصدق به على المشهور، وهو مذهب المدونة، ولابن القاسم في الموازنة: يفعل به ما شاء. واقتصر اللخمي عليه. وألحق الواجب المعين بالتطوع فقال: إن كان المستحق معينا منذورا أو متطوعاً به لم يكن عليه بدله، وكان له إذا رجع بالثمن أن يسن عبه ما شاء؛ لأنه لم يوجب ثمنا ولا تطوع به، وإنما أوجب عينا أو تطوع به فاستحق كمن أعتق عبدًا أو نذر عتقه فأعتقه ثم أستحق فرجع بالثمن، فأنه يصنع به ما أحب. وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (كَالْعَبْدِ يُعْتَقُ) وما ذكره المصنف من جعل الثاني مخالفا للأول هو طريق جماعة، وذهب ابن شاس وابن يونس وغيرهما إلى أنهما متفقان، وأنه في القول الأول إنما قال يتصدق به لأنه لأخرج ذلك الثمن أولاً وقصد أن يشتري به هديا، وإنما قال في الثاني يفعل بالأرش ما شاء؛ لأنه قصد ذلك الهدي بعينه، وكذلك قالوا في الرقبة إن قصد عينها، قالوا: وهو غالب حال الإنسان أنه إنما أعتقها لما يرى فيها من صلاح أو غير ذلك، فإذا حصل عتقها فلا يلزم بالأرش؛ لأن المقصود حصل، بخلاف الهدي فإن الغالب فيه عدم القصد إلى تعيينه، قالوا: ولو قصد القربة بالثمن في شراء الرقبة لم يرجع إليه الأرش. وبهذا الفرق فرق من جعل ما وقع لابن القاسم في العتبية مخالفاً للهدي. وفرق ابن المواز بينها بعتق المعيب ولا يهدي المعيب، ولم يرتضه بعض القرويين. فرع: وحكم أرش الجناية كحكم أرش العيب، قال في المدونة: ومن جنى على هدي التطوع فأخذ له أرشا فليصنع به ما يصنع من رجع بعيب أصابه كالهدي المقلد.

الهدي

ابن المواز: وأحب إلي في الجناية أن يتصدق به في التطوع والواجب. أبو محمد: يريد محمد إن لم يكن فيه ثمن هدي. ابن يونس: يريد ولا يلزمه بدله في الواجب إذا كانت الجناية لا يجزئ بها الهدي؛ لأنها إنما طرأت عليه بعد الإشعار، فهي كالعيب يطرأ بعد الإشعار، وإن كان القياس فيها لا تجزئ؛ لأن الهدي الواجب لو هلك بعد الإشعار وقبل أن يبلغ محله لم يجزأه، فكذلك كان ينبغي إن هلك بعضه، يحكم للبعض بحكم الجميع، وكذلك قال الأبهري إن القياس أن لا يجزئ. ابن يونس: ولكن قد قاله مالك وأصحابه، فلا يعدل عنهم. التونسي: ولو جنى عليه جناية لم تتلف نفسه غير أنها نقصته نقصا كثيراً إلا أنه يمكن وصوله حتى ينحر في محله - ما أغرمه إلا ما نقص؛ لأنه جاز عن صاحبه. ولو كانت الجناية تؤدي إلى عدم وصوله إلى محله لكان كأنه قتله، وعليه جميع قيمته. وانظر إذا أدى الجاني قيمته هل للجاني بيع لحمه إذا نحره لأنه خشي عليه الهلاك، وهو يقول: لست أنا الذي تقربت به، وإنما جنيت عليه فلزمتني قيمته، والمعتدى عليه يشتري بما أخذ من عوضه. انتهى. مِنْ سُنَّةِ الْهَدْيِ فِي الإِبلِ التَّقْلِيدُ وَالإِشْعَارُ، وَفِي الْبَقَرِ التَّقْلِيدُ بِخِلافِ الْغَنَمِ عَلَى الأَشْهَرِ ... روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلدها، ثم بعث بها إلى البيت فما حرم عليه شيء كان له حلالاً. واتفق على تقليد الإبل وإشعارها إذا كانت لها أسنمة، فإن لم يكن لها أسنمة فقال اللخمي وصاحب الجواهر: أطلق في الكتاب أنها تشعر. وقال في كتاب محمد أنها لا تشعر؛ لأن الإشعار تعذيب فيقتصر به على ما ورد. وأما البقرة فتقلد ولا تشعر إلا أن

يكون لها أسنمة لتحقق مشابهتها حينئذ للإبل, وعن ابن حبيب أن البقر والإبل [213/ب] تشعر وإن لم تكن لها أسنمة, وأما الغنم فلا تشعر باتفاق, والمشهور أنها لا تقلد خلافاً لابن حبيب, ودليله ما رواه مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: أهدى النبى صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنماً فقلدها. ابن رشد: والاختيار البداية بالتقليد قبل الإشعار؛ لأنها تكون أسكن للتقليد. وقوله: (وَمِنْ سُنَّةِ الْهَدْيِ) يريد أن ذلك خاص بالهدى دون فدية الأذى. وَالتَّقْلِيدُ تَعْلِيقُ نَعْلٍ فِى الْعُنُقِ, وَقِيلَ: مَا تُنْبتُهُ الأَرْضُ, وَقِيلَ: مَا شَاءَ, وَتُجْتَنَبُ الأَوْتَارُ قوله: (تَعْلِيقُ نَعْلٍ) هذا يجزئ والأفضل نعلان. قاله فى المدونة والموطأ وغيرهما. وقوله: (وَقِيلَ: مَا تُنْبتُهُ الأَرْضُ) فيه نظر. وههنا مسألتان: الأولى: استحباب تعليق نعلين والواحدة تجزئ. والثانية: بم يعلق به؟ ابن بشير: والمشهور استحباب التعليق بما تنبته الأرض. وقال ابن حبيب: لا مزية له على غيره. واختاره اللخمى لما فى بعض طرق الحديث المتقدم أن قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من عهن. مالك: وأحب إلى أن يفتل فتلاً؛ لحديث عائشة رضى الله عنها. وقوله: (وَتُجْتَنَبُ الأَوْتَارُ) لما يخشى أن تتعلق بشئ فتؤذى الهدى لرقتها وقوتها. الباجى: وقول مالك: "أحب إلى ما تنتبه الأرض" لعله أراد به أحب إليه من الأوتار التى هى من القعب والجلد, وإن كان العهن أحب إليه, ويحتمل أن يريد أن نبات الأرض أحب إليه من ذلك كله, وحمل حديث النبى صلى الله عليه وسلم على الجواز. وحكى فى الجواهر قولاً بكراهة التقليد بالنعال والأوتار. وفى ابن بشير: ولا يقلد بالنعال ولا بالأوتار.

وَالإِشْعَارُ أَنْ يُشَقَّ مِنَ الأَيْسَرِ, وَقِيلَ: مِنَ الأَيْمَنِ مِنْ نَحْوِ الرَّقَبَةِ إِلَى الْمُؤَخَّرِ مُسَمِّياًً ثُمَّ يُجَلِّلُهَا إِنْ شَاءَ المشهور أن الإشعار من الجانب الأيسر, وعن مالك من الأيمن, واختاره صاحب المعونة. وقال ابن المواز: الإشعار من أى الشقين شاء. ابن عبد البر: واستحب أكثر أهل العلم فى الجانب الأيمن؛ لما فى مسلم أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك. وروى كالمشهور حديث لكن قال ابن عبد البر: إنه حديث منكر وروى أن ابن عمر كان يشعرها من الجانبين شاء. والمشهور أنه من نحو الرقبة إلى المؤخر. قال ابن حبيب: يشعرها طولاً. وقوله: (مُسَمِّياًً) أى يقول: بسم الله والله أكبر. ونص مالك على استحباب ذلك. الأبهرى وابن رشد وغيرهما: السنة أن يستقبل هو والهدى حال الإشعار - القبلة, ويشعر بيمينه وخطام بعير بشماله, فإذا فعل ذلك وقع إشعاره فى الشق الأيسر. ابن رشد: ولا يكون فى الأيمن إلا أن يستدبر القبلة أو يمسك له غيره. وقوله: (ثُمَّ يُجَلِّلُهَا) أى: بعد التقليد والإشعار. وهذا كقول مالك فى المدونة: يقلد هديه ثم يشعره ثم يجلله إن شاء ثم يركع ثم يحرم. ابن عبد البر: والسنة اتصال ذلك كله, وظاهرها ككلام المنصف عدم استحباب التجليل. وفى البيان: يستحب العمل به, ومن الاستحباب فيه إن كانت الجلال مرتفعة ألا يشق عن الأسنمة, وأن يؤخر تجليلها إلى عند الغدو من منى إلى عرفة. انتهى. وإنما تجلل البدن دون البقر والغنم. قاله مالك فى المبسوط. ولا يقلد ولا يشعر إلا من ينحر, فلا تقلد امرأة وهى تجد رجلاً يقلد ويشعر لها, قاله فى العتيبة.

والمستحب عند مالك شق الجلال عن الأسنمة إلا أن تكون مرتفعة عن الأسنمة. وَيَاكُلُ مِنْهَا كُلِّهَا وَيُطْعِمُ– كَالأُضْحِيَّةِ– الْغَنِيَِّ وَالْفَقِيرَ, إِلا جَزَاءَ الصَّيْدِ وَنُسُكَ الأَذَى, وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ بَعْدَ مَحَلِّهِ, بِخِلافِ نَذْرِ الْهَدْيِ, وَأَمَّا قَبْلَهُ فَيَاكُلُ أَوَ يُطْعِمُ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ, وَلا يَبِيعُ شَيْئاً, وَإِلا هَدْيُ تَطَوُّعٍ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ؛ لأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ, فَإِنَّ الْجَمِيعَ مُخْتَصٌّ بِالْفَقِير أى: ويأكل من سائر الهدايا واجبها وتطوعها إلا أربعة أشياء. قوله: (وَيُطْعِمُ كَالأُضْحِيَّةِ) لأن كل هدي يجوز له الأكل منه يجوز له أن يطعم منه الغنى والفقير والذمى. واعلم أن الهدى على أربعة أقسام: منه ما يؤكل منه قبل بلوغ المحل وبعده, وهو كل ما وجب لنقص فى حج أو عمرة. وأشار المصنف إلى هذا القسم بقوله: (ويأكل من الهدايا كلها) لأنه لما استثنى الأربعة علم أن ما عداها يؤكل منه. ومنه ما لا يؤكل منه لا قبل بلوغ المحل ولا بعده, وهو نذر المساكين المعين, ولا يؤخذ هذا القسم من كلام المصنف. ومنه ما يؤكل منه قبل البلوغ لا بعده, وهو ثلاثة أشياء: جزاء الصيد وفدية الأذى, ونذر المساكين المضمون, وأشار المصنف إلى هذا القسم بقوله: (إِلا جَزَاءَ الصَّيْدِ وَنُسُكَ الأَذَى, وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ بَعْدَ مَحَلِّهِ) يريد نذر المساكين غير المعين كما ذكرنا. والرابع هدى التطوع, لا يأكل منه إذا عطب قبل المحل, ويأكل منه بعد بلوغه. وإليه أشار بقوله: (وَإِلا هَدْيُ تَطَوُّعِ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ) ولأجل أن هذا عكس الثلاثة فصله عنها. وقال: (وإلا) وإنما قلنا من سائر الهدايا لقوله تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا (

[214/أ] وخصص جزاء الصيد؛ لأنه قيمة متلف, وفدية الأذى؛ لأنه بدل عن الترفه, ولأنه لما كان فى فدية الأذى وجزاء الصيد مخيرا بين الدم والطعام ابتدأ ثم أهدى, صار كأنه بدل عن الطعام, فكما لا يأكل من الطعام, لا يأكل من بدله. وفى المبسوط من رواية ابن نافع عنه: لا ينبغى أن يأكل من الجزاء أو الفدية, فإن جهل فأكل فلا شئ عليه, وفى المدونة من رواية داود بن سعيد أن مالكاً سئل عن الرجل يأكل من الفدية أو من جزاء الصيد وهو جاهل, قال: لا شئ عليه, وليستغفر الله. وما ذكره المصنف أيضاً من المنع فى نذر المساكين هو المشهور. وفى الموازية عن مالك قول باستحباب ترك الأكل منه فقط. قوله: (بِخِلافِ نَذْرِ الْهَدْيِ) كقوله: "لله على هدى" ولم ينوه للمساكين- فإنه يأكل منه قبل وبعد. فإن سماه للمساكين وهو مضمون أكل منه قبل, ولا يأكل منه بعد. وإن كان منذوراً معيناً ولم يسمه للمساكين وقلده وأشعره من غير نذر أكل منه بعد ولا يأكل منه قبل. انتهى. قوله: (وَأَمْا قَبْلَهُ فَيَاكُلُ أَوَ يُطْعِمُ عَلَى الْمَشْهُورِ) يعنى: وأما قبل بلوغ المحل فالأكل جائز من الثلاثة؛ لأن عليه بدلها, وهو معنى قوله: (لأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ) ابن هارون: انظر قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) فإنى لا أعلم فى جواز أكلها قبل البلوغ خلافاً. وقال ابن عبد السلام: الذى يفهم من كلامه أن نذر المساكين لا يؤكل منه بعد البلوغ, واختلف فى ذلك قبل البلوغ. والذى حكاه غيره أن الأمر بالعكس؛ إن كامن قبل بلوغ المحل يجوز الأكل منه, واختلف فى جواز الأكل بعد المحل, وهذا أقرب لكثرة من نقل ذلك. انتهى. وقوله: (وَلا يَبيعُ شَيْئاً) أى: من الثلاثة, وفى معناها هدى التطوع إذ عطب قبل محله لنية القربة فيها. ابن يونس: قال مالك: ولا يبيع من ذلك لحماً, ولا جلداً, ولا جلالاً,

ولا خطاماً, ولا قلائد ولا يستعين بذلك فى الثمن. وقال عبد الملك فى الهدى يعطب قبل بلوغ المحل: له أن يبيعه. قوله: (فَإِنَّ الْجَمِيعَ مُخْتَصٍّ بِالْفَقِيرِ) ظاهره العموم فى الأربعة المستثناة على الوجه الذى ذكره, وهو صحيح, وإلا فى هدى التطوع إذا عطب قبل محله فإن إباحته غير مختصة بالفقير, وهو مباح لكل من كان مباحا له لو بلغ محله إلا سائقه, وتأكل منه الرفقة, لما فى الصحيح: "وخل بين الناس وبينه". وفى حديث آخر فى الصحيح: "ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك". ولم يقل به الجمهور للحديث الأول, وأخذ به أبو ثور, وهو ظاهر لقبول زيادة العدل. وَفِى هَدْىِ الْفَسَادِ قَوْلان المشهور جواز الأكل؛ لأنه لنقص فى حج أو عمرة, والشاذ فى الموازية, وخرج اللخمى عليه منع الأكل فيما سيق لو صم فى حج أو عمرة. وفيه نظر؛ لاحتمال أن يقال بذلك فى الفساد فقط ردعا له. وَيَنْحَرُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ وَتُلقَى قَلائِدَهُ فِى دَمِهِ, وَيَرْمِى جُلِّهَا وَخِطَامَهَا, وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَإِنْ أَمَرَ أَحَداً بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ, وَسَبِيلُ الرَّسُولِ كَصَاحِبهَا, وَلا يَضْمَنُ ... لما فى الموطأ فى الذى بعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه قال: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بدنة عطبت من الهدى انحرها, ثم الق قلائدها فى دمها, ثم خل بينها وبين الناس يأكلونها". قال: وهو هدى تطوع.

قوله: (فَإِنْ أَمَرَ أَحَداً بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ) كقوله فى المدونة: فإن أكل أو أمر بأكلها أو أخذ شيئا من لحمها فعليه البدل. قوله: (وَسَبِيلُ الرَّسُولِ كَصَاحِبهَا) أى: أنه يستوى مع صاحبها فى عدم الأكل وعدم الأمر بالأكل, لكنه لا يضمن إن فعل؛ لأنه أجنبى. وَمَنْ أَطْعَمَ غَنِيّاً أَوْ ذِمِّيّاً مِنَ الْجَزَاءِ أَوْ الْفِدْيَةِ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ, وَلَوْ جَهِلَهُمْ كَالزَّكَاةِ, وَلا يُطْعِمُ مِنْهَا أَبَوَيْهِ وَنَحْوَهُمَا كَالزَّكَاةِ, وَالذِّمِّىُّ فِى غَيْرِهِمَا خَفِيفٌ وَقَدْ أَسَاءَ ... اللخمى: كل هدى جاز له الأكل منه جاز له أن يطعم منه الغنى والذمى. وكل هدى لم يجز له الأكل منه فلا يجوز له أن يطعمهما. ولا المسلم الفقير الذى تلزمه نفقته كالزكاة. قوله: (فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ) أى: على ما سيأتى. قوله: (وَلَوْ جَهِلَهُمْ كَالزَّكَاةِ) هو كقوله فى المدونة: ومن أطعم الأغنياء من الجزاء والفدية فعليه البدل جَهِلَهُم أو عَلِمَهُم كالزكاة. ولا يطعم منها ولا من جميع الهدى غير مسلم, فإن فعل أبدل الجزاء والفدية, ولا يبدل غيرهما, وهو خفيف وقد اساء. ولا يتصدق بشئ من الهدى على فقراء أهل الذمة ولا يطعم من الجزاء ابويه وزوجته وولده ومدبره ومكاتبه وأم ولده؛ كما لا يطعمهم من الزكاة. ابن يونس: وإنما قال: يبدل الجزاء والفدية دون غيرهما؛ لأن الفدية وجزاء الصيد إنما هما للمساكين كالزكاة, فلم يجز أن يعطى منهما إلا ما يعطى من الزكاة. ولابن القاسم فى الموازية: أن تجزئه الفدية والجزاء. ونقل اللخمى عن الموازية أنه إذا أطعم غنياً مجتهداً أنه يجزئه. وخرج عليه الإجزاء فى الذمى.

قال: ويختلف إذا علم أنه غنى أو ذمى وجهل الحكم هل يجزئه؟ وحمل قول المصنف: (وَالذِّمِّىُّ فِى غَيْرِهِمَا خَفِيفٌ) على أنه يريد نذر المساكين. قال: وهو موافق لقوله: (إن ترك الأكل منه استحساناً) قال: وعلى القول الآخر يكون كالجزاء. ابن عبد السلام: وتخصيص اللخمى قوله فى المدونة: " والذمى فى غيرهما خفيف بنذر المساكين" ليس بقوى وحمل قول المنصف: (الذِّمِّىُّ فِى غَيْرِهِمَا خَفِيفٌ) على العموم, قال: ولا وجه لقصر ذلك على نذر [214/ب] المساكين, وإنما هو ما أشار إليه مالك فى الضحايا بأن هذه القربات لا ينبغى أن يطعم منها أهل الذمة. قوله: (خفيف) أى: بالنسبة إلى البدل ولا يريد جواز الإقدام لقوله: (وَقَدْ أَسَاءَ). وَخِطَامُ الْهَدَايَا كُلِّهَا وَجِلالُهَا كَلَحْمِهَا, وَفِى هَدْيِ الْفَسَادِ قَوْلان أى: فإن كان اللحم خاصاً بالفقير فكذلك الجلال والخطام وإلا فلا. والخلاف فى جلال هدى الفساد مبنى على الخلاف فى اللحم. فَإِنْ أَكَلَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ – فَرَابعُهَا الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ قَدْرُ أَكْلِهِ مِنْ نَذْرِ الْمَسَاكِينِ إِنْ كَانَ مُعَيَّناً؛ لأَنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ, وَقِيلَ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ, وَعَلَى قَدْرِ أَكْلِهِ – فَثَلاثَةٌ؛ مِثْلُ اللَّحْمِ وَقِيمَتُهُ طَعَاماً وَقِيمَتُهُ ثَمَناً ... مما ليس له أى من الأربعة المذكورة. وحكى المصنف خمسة أقوال: الأول: يتضمن قدر أكله مطلقاً؛ لأنه كالغاضب. الثانى: يضمن الهدى كله مطلقً ونقلها فى الجلاب عن مالك, وبالأول قال عبد الملك. والثالث لمالك أيضاً: الفرق, فعليه فى نذر المساكين مطلقاً قدر أكله, وعليه فى الثلاثة بدل الجميع.

والرابع كالثالث لكن الفرق فى نذر المساكين بين المعين وغيره, فجعل نذر المساكين غير المعين ملحقا بالثلاثة. وقوله: (لأَنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ) أى: لأن أمره خفيف. وذكر المصنف أن هذا هو المشهور, وذلك لأنه وقع فى الكتاب لفظتان؛ جمعة مرة مع جزاء الصيد والفدية, ومرة قال: (يطعم قدر ما أكل). التونسى: فكان بعض مشايخنا يتأول ذلك على أنه إن كان معيناً أطعم قدر ما أكل. وإن كان مضموناً كان عليه البدل. انتهى. وكذلك حمل ابن يونس المدونة عليه فقال بعد قول ابن القاسم فيها: وإن أكل مما نذره للمساكين فلا أدرى ما قال مالك فيه, وأرى أن يطعم المساكين قدر ما أكل لحماً, ولا يكون عليه البدل؛ لأن نذر المساكين لم يكن عليه عند مالك فى ترك الأكل بمنزلة جزاء الصيد وفدية الأذى. وإنما استحب مالك ترك الأكل منه. يعنى نذر المساكين بعينه, ولو كان مضموناً لكان عليه بدله كله. انتهى. فلأجل هذا شهر المصنف الرابع والله أعلم. وحمل الباجى ما فى المدونة على الخلاف, وانظر قول ابن القاسم فى نذر المساكين: وإنما استحب مالك ترك الأكل منه, فإنه لا يقتضى تحريم الأكل والله أعلم. ومقتضى كلام ابن عبد البر فى الكافى أن الأشهر فى الجميع إبدال الهدى كله. ولفظه: وكل من أهدى هدياً لا يجوز له الأكل منه, فإن أكل منه ففيه قولان: أحدهما: أنه يبدل الهدى كله. والآخر: أنه لا يبدل إلا ما أكل منه, والأول أشهر عند مالك, وقد روى عن مالك أنه إن أكل من نذر المساكين شيئاً لم يكن عليه إلا مقدار ما أكل. وإن أكل من جزاء الصيد وفدية الأذى لم يجزأه وأتى بفدية كاملة. ثم قال فى هدى التطوع إذا عطب قبل محله: فإن أكل أو أطعم أو تصدق فالأشهر عن مالك أنه إن أكل منه شيئاً ضمنه كله. انتهى. والقول الخامس: لا شئ عليه, وهو لمالك أيضاً من رواية ابن نافع وقد تقدم.

قوله: (وَعَلَى قَدْرِ أَكْلِهِ) يعنى: إن أوجبنا عليه الهدى فلا تفريغ, وإن قلنا: قدر ما أكل فنقل الباجى عن بعض الأصحاب أنه لحم. ابن محرز: وهذا إن عرف وزنه, وإلا فقيمته. وعن ابن الماجشون: قيمته طعاماً يتصدق به. ابن بشير: والأول أصح. والقول بالثمن للتونسى. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ وَلَدِ الْهَدِيَّةِ عَلَى غَيْرِهَا, وَلا عَلَيْهَا وَلا تَرَكَهُ لِيَشْتَدَّ فَكَهْدِي تَطَوُّعٍ عَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ ... قوله: (فَكَهْدِي تَطَوُّعٍ عَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ) أى: ولو كانت أمه واجبة, وإنما كان كهدى التطوع؛ لأنه ليس مضموناً, والحكم فى ترتيب الوجوه التى ذكرها المصنف على نحو ما وقعت لفظه؛ يطلب أولاً الحمل على غير أمه إن أمكن ذلك وإلا حمل عليها – قاله فى المدونة – لأن المذهب كراهة ركوب الهدى إلا مع الضرورة, وعليه أن ينفق عليه فى حمله وبقائه, فإن أضاعه حتى هلك ضمنه. أشهب: فإن باعه أو ذبحه يريد بغير ضرورة فعليه بدله هدياً كبيراً تاماً, وهذا كله إذا ولد بعد التقليد, وأما قبله بعد نية الهدى فاستحب مالك أن ينحر معها؛ لأنه حينئذ كولد الأضحية, بخلاف ما كان بعد التقليد, فإنه يجب ذبحه لتعين الهدى بالتقليد والإشعار. وَلا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا, وَلا شِيْءَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا أَوْ بوَلَدِهَا, فَيَغْرَمُ مُوجِبَ فِعْلِهِ, وَاسْتَحْسَنَ أَلا يَرْكَبَهَا إِلا إِنِ احْتَاجَ, وَلا يَلْزَمُ النُّزُولُ بَعْدَ الرَّاحَةِ عَلَى الْمَشْهُور قال فى المدونة: ولا يشرب من لبن الهدى شيئاً ولا ما فضل عن ولدها, فإن فعل فلا شئ عليه؛ لأن بعض من مضى أرخص فيه بعد رى فصيلها. وظاهره المنع ابتداء. ونص ابن القاسم فى الموازية على الكراهة. محمد: إلا أن تتضرر بترك الحلاب فتحلب بقدر ذلك. وحكى بعضهم قولاً بالإباحة. وأجاز مالك شربه للضرورة.

ابن القاسم: ومن أضر بولد بدنته حتى مات فعليه بدله مما يجوز فى الهدى, وإليه [215/أ] أشار بقوله: (فَيَغْرَمُ مُوجِبَ فِعْلِهِ). وقوله: (وَاسْتَحْسَنَ أَلا يَرْكَبَهَا إِلا إِنِ احْتَاجَ) ظاهر, وهو كذلك فى المدونة, وعن مالك من رواية ابن نافع إباحة الركوب ابتداءً ما لم يكن ركوباً فادحاً. وقوله: (ولا يلزمه النزول) ظاهر. والشاذ: يلزمه النزول بعد الراحة لمالك أيضاً, واقتصر عليه فى الجلاب, وهما كالقولين فى المضطر إلى أكل الميتة هل يشبع ويتزود أو يسد الرمق فقط؟ التونسى: وإن نزل لحاجة أو لليل لم يركبها أيضاً حتى يحتاج إلى ذلك كأول مرة. مالك: وإذا ركبها فلا يركبها بمحمل ولا يَحْمِلُ عليها زاداً ولا شئ يتبعها به. وَيَنْحَرُهَا صَاحِبُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً أَوْ مُقَيَّدَةً هذه صفات مستحبة فى نحر الهدى؛ أولها: أن يتولى نحرها صاحبها اقتداء به عليه الصلاة والسلام. ومنها: أن تكون قائمة معقولة, لقوله تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا (أى: سقطت وتقيد أو تعقل لئلا تشرد. وخرج مسلم أن ابن عمر مر على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة, سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة باليسرى قائمة على ما بقى من قوائمها. واستحب مالك إذا كثرت أن تُجْعَل صفاً, وكذلك إن كانت واحدة أن تصف يداها. مالك: ولا تعرقب بعد النحر إلا أن يخاف أن تغلب ويضعف عنها. قال: ولينحرها باركة أحب إلي من أن تعرقب, وليربطها بحبل ويمسكها رجلان, رجل من كل ناحية وهى قائمة مصفوفة أحب إلى من أن ينحرها باركة. وأجاز مالك أن ينحر قَبلَ الإمام.

فَإِنْ نَحَر مُسْلِمٌ هَدْيَ غَيْرِهِ عَنْهُ مقلداً أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَاذَنْ، بِخِلافِ الأُضْحِيَّةِ؛ لأَنَّ الْهَدْيَ إِذَا قُلِّدَ لَمْ يَرْجِعْ مِلْكاً وَلا مِيرَاثاً, وَالأُضْحِيَّةُ تُبْدَلُ بِخَيْرٍ مِنْهَا ... نحوه فى المدونة, وتصوره ظاهر. وقوله: (مُسْلِمٌ) احتزازاً من الذمى فإن مالكاً نص على أنه لا يجزئه وعليه البدل. ابن يونس: وقال أشهب: يجزئه إن كان ذمياً. وقوله: (عَنْهُ) احتزازاً مما لو ذبح عن نفسه كما سيأتى, وفى النوادر عن أشهب قول بعدم الإجزاء, ونصه: قال ابن القاسم عن مالك: ومن نحر هدى غيره ونحر غيره هديه فذلك يجزئهما, ولا يجزئ فى الضحايا. وقال أشهب: لا يجزئ فى الهدى ويضمن كل واحد لصاحبه, وذكره عن مالك, وكذلك فى المستخرجة. انتهى. فَإِنْ نَحَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَدِّياً أَوْ غَلَطاً – فَثَالِثُهَا يُجْزِئُ فِى الْغَلَط يعنى: فإن قصد الذابح بالذبح عن نفسه؛ إما تعدياً – سواء وكله على ذبحه أو لم يوكله – أو غلطاً فاختلف هل يجزئ صاحبه على ثلاثة أقوال: قال محمد: يُجْزِئُ؛ لو جوبه بالتقليد, ونص على الإجزاء فى الغنم. قال: وقد جاء فى الحديث: "ربك أعلم بمن أنزلها من الجبل". وقال أشهب: لا يجزئ. والقول الثالث هو المشهور ومذهب المدونة؛ إذ الغالط قصد بفعله القربة على الجملة بخلاف المتعدى. والمشهور أنها لا تجزئ عن الذابح. وروى أبو قرة عن مالك أنها تجزئه وعليه قيمتها لربها.

وَلَوِ اسْتَحْيَا الْمَسَاكِينُ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ, وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعاً المطلوب ألا يعطى الهدى إلا بعد نحره, فإن دفعه للمساكين قبل نحره ونحروه أجزأه, وإن استحيوه فعليه بدله واجباً كان أو تطوعاً؛ أما فى الواجب فظاهر؛ لأن الذمة لم تبرأ. وأما فى التطوع فهو كمن أفسده بعد الدخول فيه فيجب عليه قضاؤه. وَلا يَشْتَرِكُ فِى هَدْيٍ, وَقِيلَ: إِلا فِى هَدْيِ التَّطَوُّع الأول قوله فى المدونة, والثانى قوله فى الموازية. وَلَوْ هَلَكَ أَوْ قُتِلَ أَوْ سُرِقَ قَبْلَ نَحْرِهِ وَجَبَ بَدَلُهُ فِى الْوَاجِبِ دُونَ التَّطَوُّعِ, وَلَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ نَحْرِ الْبَدَلِ وَجَبَ نَحْرُهُ إِنْ كَانَ مُقَلِّداً, وَإِلا فَلَهُ بَيْعُهُ, وَقَبْلَ نَحْرِ الْبَدَلِ يَنْحَرْهُمَا إِنْ كانَا مُقَلَّدَيْنِ, وَإِلا بِيعَ الآخَرُ, وَلَوْ سُرِقَ بَعْدَ نَحْرِهِ أَجْزَأَهُ قوله: (وَجَبَ بَدَلُهُ فِى الْوَاجِبِ) لأن الذمة لم تبرأ, بخلاف النذر المعين فإنه لا يجب بدله كالتطوع. قوله: (وَجَبَ نَحْرُهُ) ظاهر؛ لأنه وجب بالتقليد, وذلك يمنع من عوده إلى ملك ربه. قوله: (وَإِلا) أى: وإن ضل قبل التقليد فنحر البدل ثم وجده فعليه بيعه لعدم التقليد. قوله: (وَقَبْلَ نَحْرِ الْبَدَلِ ... إلخ) يعنى: وله إذا وجد هديه قبل نحر البدل أربعة أحوال؛ إما أن يكونا مقلدين أو غير مقلدين, وإما أن يكون الأول دون الثانى أو بالعكس, ففى الأول يجب نحرهما لتعيينهما بالتقليد وفى الثانى يخير, لكن يستحب له أن يذبح أفضلها. وفى الآخرين يجب عليه ذبح المقلد وله بيع ما لم يقلده. وقوله: (وَلَوْ سُرِقَ بَعْدَ نَحْرِهِ أَجْزَأَهُ) أى: لأنه بالنحر بلغ المحل, وتفريقه أمر زائد على الواجب لا يضر تركه.

وَجَزَاءُ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْييرِ؛ مِثْلُهُ أَوْ إِطْعَامٌ أَوْ صِيَامٌ؛ فَالْمِثْلُ مُقَارِبُهُ مِنَ النَّعَمِ فِى الْقَدْرِ وَالصُّورَةِ, وَإِلا فَالْقَدْرُ, فَفِى النَّعَامَة بَدَنَةٌ ... الأصل فيه وفى كونه على التخيير قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً (والمراد بالمثل فى الآية هنا ما يقارب الصيد فى الصورة والقدر, وإلا فالقدر [215/ب] كاف, فلذلك قلنا: إن فى النعامة بدنة لمقاربتها لها فى القدر والصورة. وَلا نَصَّ فِى الْفِيلِ, فَقَالَ ابْنُ مُيَسَّرٍ: بَدَنَةٌ خُرَاسَانِيَّةٌ ذَاتُ سَنَامَيْنِ, وَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ: الْقِيمَةُ وَقِيلَ: قَدْرُ وَزْنِهِ لِغَلاءِ عِظَامِهِ ... أى: ولا نص لمالك ولا لأصحابه المتقدمين, واختلف من بعدهم, فقال ابن ميسر: فيه بدنة خراسانية ذات سنامين؛ لأنها أعظم ما يقدر عليه من النعم, قال: وإن لم توجد البدنة الخرسانية, فعليه قيمته طعاماً. والثالث أقرب إلى الثانى لما نبه عليه بقوله: (لِغَلاءِ عِظَامِهِ) الرغبة فى عظام الفيل كالرغبة فى فراهة البازى وشبهه وهى ملغاة هنا. قال بعضهم: صفة وزنه ان يجعل فى مركب فينظر إلى حيث ينزل فى الماء ثم يملأ بالطعام حتى ينزل ذلك القدر. ابن راشد: والظاهر أنه يتوصل إلى وزنه بالعيار. وَفِيهَا: وَكُلُّ صَيْدٍ لَهُ نَظِيرٌ مِنَ النَّعَم كأنه أتى بهذا ترجيحاً لقول ابن ميسر؛ إذ العموم شامل له. وأعظم النعم هى البدنة ذات السنامين وبهذا اللفظ تمسك ابن ميسر. ولفظ المدونة: ولا يبلغ بشئ من الصيد دمين, وليس شئ من الصيد إلا وله نظير من النعم. وقد يقال: الظاهر أنه لم يتعرض فى هذا اللفظ للفيل لقلة وجوده هناك.

وَفِى حِمَارِ الْوَحْشِ وَالإيَّلِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ, وَفِى الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَالظَّبْىِ شَاةٌ, وَفِى نَحْوِ الضَّبِّ وَالأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ الْقِيمَةُ طَعَاماً ......... الإيَّل: قريب من البقرة فى القدر طويل القرن. وما ذكره المصنف من الضب والأرنب واليربوع هو مذهب المدونة. وروى ابن وهب أن فى الضب شاة. وَفِى حَمَامِ مَكَّةَ شَاةٌ بِغَيْرِ حَكَمَيْنِ, وَالْحَرَمُ مِثلُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَفِى حَمَامِ الْحِلِّ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الطَّيْرِ ... هذا لقضاء عثمان رضى الله عنه, وأسقطوا الحكمين؛ لأنه من باب الديات قال مالك وعبد الملك: فإن لم يجد فصيام عشرة أيام, ولا يخرج فى ذلك طعاماً. وقال أصبغ: فى حمام مكة – إن شاء – شاة, وإن شاء قدر ما يشبع الشاة من الطعام, وإن أحب صام لكل مد يوماً. والعلة فى تغليظ جزاء الحمام, أن حمام مكة يألف الناس فشدد فيه حتى لا تتسرع أيدى الناس إليه. فإن قيل: لم أخذتم بقضاء عثمان هنا ولم تأخذوا بقضاء عمر – رضى الله عنهما – فى اليربوع بجفرة؟ قيل: لأن الله سبحانه قال فى جزاء الصيد: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ (فسماه هديا ولا يهدى إلا الجذع من الضأن والثنى من غيره, ولم يختلف أن فى حمام الحل قيمته طعاماً, والحرم مثل مكة على المشهور. والشاذ لابن القاسم: فيه حكومة. وَفِى إِلْحَاقِ الْقَمَرِيِّ الْفَوَاخِتِ وَشِبْهِهَا بالْحَمَامِ قَوْلانِ, وَفِيهَا: الْيَمَامُ مِثْلُ الْحَمَام منشأ الخلاف هل تسمى هذه الأشياء حماماً أم لا؟ مذهب المدونة كما ذكره المصنف الإلحاق, وعدم الإلحاق لابن الماجشون. وَفِى الصَّغِيرِ مَا فِى الْكَبِيرِ, وَفِى الْمَعِيبِ مِثْلُ مَا فِى السَّلِيمِ, وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ قياساً على الدية, وقال اللخمى: يقوم على هيئته من الصغر والكبر على المستحسن من القول.

وَفِى الْجَنِينِ عُشْرُ دِيَةِ الأُمِّ, فَإِنِ اسْتَهَلَّ فَكَالْكَبِيرِ, وَفِى الْمُتَحَرِّكِ قَوْلان قوله: (عُشْرُ دِيَةِ الأُمِّ) أى: كما فى الآدمى. والمراد بـ (دِيَةِ الأُمِّ): جزاؤها. ولولا القياس على الآدمى لكان ينبغى أن يكون فى الجنين ما نقص من الأم. وقد نص فى الموازية فى جنين البهيمة إذا تعدى عليه أن عليه ما نقصها, واختلف فى جنين الأمة, هل فيه عشر قيمة أمه, أو ما نقصها؟ والقول بوجوب العشر فى المتحرك لابن القاسم. والقول بأن فيه دية كاملة لأشهب, ولم يقيد الحركة هنا بالكثرة بخلاف ما قدمه فى باب الجنائز احتياطياً, ألا ترى أنهم اعتبروا فى هذا الباب الشك, فقد أوجب ابن القاسم فى البيضة تنكسر عن فرخ شك فى حياته – الجزاء. ابن المواز: إذ لعل الكسر قتله, إلا أن يوقن أنه ميت قبل الكسر بالرائحة فلا شئ عليه. وَالْبَيْضُ كَالْجَنِينِ, وَقِيلَ: حُكْومَةٌ, وَقِيلَ: كَالأُمّ الأول مذهب المدونة, زاد فيها: إلا أن يوقن أنه ميت قبل ذلك بالرائحة ونحوها. ابن يونس: يريد فلا يكون عليه شئ. ومعنى (الحكومة) فى القول الثانى أن يُقَوَّمَ بالطعام, فيختلف بكبر البيضة وصغرها ورجاء السلامة لها. وقوله: (وَقِيلَ: كَالأُمِّ) أى: نظراً إلى المال واختلف فى بيض النعام, فقال مالك: فيه عشر دية أمه كان فيه فرخ أم لا. قال ابن نافع: لا آخذ به بل أتبع ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم, فقد سأله محرم عن ثلاث بيضات نعام أصابهن, فقال "صم لكل بيضة يوماً". وقال أصبغ بالأول إن كان فيها فرخ, وبالثانى إن لم يكن. وقال ابن وهب: إن لم يكن فيها فرخ صام يوماً أو أطعم مسكيناً.

قال فى المدونة: وإن أفسد محرم وكر طير فلا شئ عليه, إلا أن يكون فيه بيض أو فراخ فعليه فىلبيض ما على المحرم فى الفراخ؛ لأنه لما أفسد الوكر فقد عرض البيض والفراخ للهلاك. ومن هنا أخذ القول الثالث فى كلام المصنف. وفى رواية الدباغ: فعليه فى البيض ما على المحرم فى البيض والفراخ, فجمع عليه الأمرين وهو ضعيف وفى توجيهه تكلف. ابن يونس: ووجهه أنه لما احتمل أن يفسد البيض قبل أن يفقس, واحتمل أن يفقس ثم يهلك لفقد العش, ولم يدر [216/أ] كيف كان فساده وجعل عليه كلا الأمرين احتياطياً, وذكر أبو محمد فى رواية أخرى: فعليه فى البيض ما على المحرم فى البيض, وفى الفراخ ما على المحرم فى الفراخ, وهى أحسن, وانظر هل يتخرج القول الثالث الذى ذكره المصنف فى البيض فى الجنين؟ وَالطَّعَامُ عِدْلُ الصَّيْدِ لا عِدْلَ مِثْلِهِ مِنْ عَيْشِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ طَعَامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ, لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ بِمُدِّ الْنَبىِّ صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... هذا هو النوع الثانى؛ أى يقال: كم يساوى هذا مثلاً من الطعام, لا عدل مثله, وهو الشاة, خلافاً للشافعى, لنا أن الطعام جزاء عن الصيد فوجب اعتبار الطعام به. ابن العربى فى أحكامه: واختلف علماؤنا متى تعتبر القيمة؛ فقيل: يوم الإتلاف, وقيل: يوم القضاء, وقيل: يلزم المتلف أكثر القيمتين من يوم الإتلاف إلى يوم القضاء. والأول أصح. قوله: (مِنْ عَيْشِ ذَلِكَ الْمَكَانِ) أى: من غالب عيش مكان الإصابة من بر أو شعير أو تمر أو غير ذلك مما يجزأ فى كفارة اليمين, وهذا نحو ما قاله فى المدونة. ويقوم بالحنطة, وإن قوم بشعير أو تمر أجزأ إذا كان ذلك طعام أهل ذلك الموضع, ويتصدق على المساكين بمد النبى صلى الله عليه وسلم, وقيل له: أيقوم الصيد بشئ من القطانى أو الزبيب أو الأقط وهو عيش ذلك الموضع؟ قال: يُجْزِئُ فيه ما يُجْزِئٌ فى كفارة اليمين. واختصارها أبو محمد فقال: وأما القطنية فلا. ويُجْزِئٌ فيها من الحبوب ما يُجْزِئٌ فى كفارة

اليمين. وقال أشهب فى كتابه: ولا بأس أن يخرج فى تقويم الصيد وفى كفارة اليمين القطنية إذا كان هو معاشه وقوت عياله. وَيُقَوَّمُ بالطَّعَامِ عَلَى حَالِهِ حِينَ الإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى فَرَاهَةٍ وَجَمَالٍ وَتَعْلِيمٍ ولا صغَرٍ وَلا عَيْبٍ ... إنما لم يعتبر شئ من هذه الصفات؛ لأن الجزاء من باب الكفارة, والكفارة لا تختلف بذلك. وَلَوْ كَانَ بَازِيّاً مُعَلَّماً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مُعَلَّماً لِمَالِكِهِ مَعَ الْجَزَاءِ إنما وجب ذلك جمعاً بين حق الله تعالى وحق الآدمي، وهذا هو المشهور. وقيل: لا جزاء عليه؛ لأنه لا يغرم القيمة مرتين. وَقِيلَ: يُنْظَرُ كَمْ يُشْبِعُ كَبِيرُهُ فَيُخْرِجُ مَا يُشْبِعُهُمْ مِنَ الطَّعَامِ, وَعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ قُوِّمَ الصَّيْدُ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ قُوِّمَ بِطَعَامٍ أَجْزَأَ ... هذا راجع إلى قوله أولاً: (يقول بطعام) يعنى: أنه اختلف فى صفة التقويم؛ فالمشهور ما تقدم. وقال يحيى ابن عمر: ينظر كم يشبع ذلك الصيد ثم يخرج قدر ما يشبعهم طعاماً فإن كان صغيراً ينظر إلى ما يشبع كبيره؛ لأن الصغير والكبير سواء, ووجهه أن من الحيوان ما لا قيمة له كالضبع فوجب اعتباره مقداره وإلا أهدرنا دمه. وتكلم المصنف على الصغير؛ لأنه يؤخذ منه حكم الكبير. الباجى: وبه قال ابن القاسم وسالم. قوله: (وَعَلَى الْمَشْهُورِ) يعنى: فى اعتبار القيمة لا الشبع. ولو قوم الصيد بدارهم ثم قومت الدراهم أجزأ. والأولى التقويم بالطعام؛ لأنه أقل عملاً فيقل فيه الخطأ. وإطلاق المصنف التقويم على الدراهم مجاز. وفى المدونة: يشترى بها طعاماً.

وَالْمُعْتَبَرُ فِى التَّقْوِيمِ مَحَلُّ الإِتْلافِ, وِإِلا فَالأَقْرَبِ إِلَيْهِ, وَفِى مَكَانِهِ ثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ وَمُحَمَّدٍ, حَيْثُ يُقَوَّمُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقٌّ, وَيُجْزِئُ حَيْثُ شَاءَ إِنْ أَخْرَجَ عَلَى سِعْرِهِ, وَيُجْزِئُ إِنْ تَسَاوَى السِّعْرَانِ, وَفِى الْمَوَطَّأِ: يُطْعِمُ حَيْثُ أَحَبَّ كَالصِّيَامِ, وَفِيهَا: قَالَ مَالِكٌ: أَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَيُطْعِمُ بِمِصْرَ؛ إِنْكَاراً ... يعنى: أن الصيد تعتبر قيمته حيث أصاب الصيد إن كانت له هناك قيمة, وإن لم تكن له هناك قيمة اعتبر أقرب الأمكنة إليه كسائر المتلفات. الباجى: ويجب أن يراعى أيضاً ذلك الوقت؛ وذلك الإبان لأن القيمة قد تختلف باختلاف الأوقات. وهذا على الظاهر من المذهب. وأما على قول يحيى فلا يراعى شئ من هذا. قوله: (وَفِى مَكَانِهِ) أى: فى مكان إخراج الطعام ثلاثة أقوال. وقد علمت أن قاعدة المصنف فى مثل هذا أن يرد الأول من الأقوال إلى الأول من القائلين والثانى إلى الثانى والثالث إلى الثالث؛ فابن القاسم يقول: إنه يخرج حيث يُقَوَّم عليه الصيد؛ أى: حيث يحكم عليه إن كان به مستحق, فإن لم يكن فالأقرب إليه. وأصبغ يقول: يُجْزِئُ حيث شاء, بشرط أن يخرج على سعر بلد الحكم. الباجى بعد قول أصبغ: وقال ابن المواز: إن أصاب الصيد بمصر فأخرج الطام بالمدينة أجزأه؛ لأن سعرها أغلى. وإن أصاب الصيد بالمدينة فأخرج الطعام بمصر لم يجزأه إلا أن يتفق سعراهما. وقال ابن حبيب: إن كان الطعام ببلد الإخراج أرخص اشترى بثمن الطعام الواجب عليه ببلد الصيد طعاماً فأخرجه, وإن كان ببلد الإخراج أغلى أخرج المكيلة الواجبة عليه, وهذا يقرب ظاهره من قول ابن المواز. انتهى. وكلام المصنف لا يؤخذ منه هذا, ونقل الباجى عن ابن وهب أنه يخرج قيمة الطعام الذى حكم به عليه حيث أصاب الصيد, فيشترى به طعاماً حيث يريد إخراجه, سواء كان أرخص من بلد إصابة الصيد أو أغلى.

قوله: (وَفِى الْمَوَطَّأِ: يُطْعِمُ حَيْثُ أَحَبَّ كَالصِّيَامِ) ليس فيه بيان على أى وجه يخرج. ولذلك جعل الباجى قول أصبغ ومحمد وابن وهب مفرعاً عليه. قوله: (وَفِيهَا: قَالَ مَالِكٌ: أَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَيُطْعِمُ بِمِصْرَ؛ إِنْكَاراً) فسره ابن القاسم فى المدونة بأنه يريد: فإن فع لم يجزأه, ثم كلام الباجى واللخمى وغيرهما يقتضى أنه مطلوب مطلوب أولاً بأن يخرج بمحل [216/ب] التقويم, فإن أخرج بغيره فالخلاف, وكلام المصنف لا ؤخذ منه ذلك؛ لإيهامه أن الخلاف ابتداء, لكن قوله: (وَيُجْزِئُ حَيْثُ شَاءَ .... وَيُجْزِئُ إِنْ تَسَاوَى السِّعْرَانِ) بين أن كلامه إنما هو فى الإجزاء. وتحصيل المسألة أن يطلب ابتداءً أن يخرج بمحل التقويم, فإن أخرجه فى غيره فمذهب المدونة عدم الإجزاء, ومذهب الموطأ الإجزاء, وعليه فثلاثة أقوال كما تقدم. ابن عبد السلام: واختلف الشيوخ فى كلام ابن المواز فمنهم من جعله تفسير للمدونة, ومنهم من جعله خلافاً, وهو الذى اعتمده المصنف. وَالصِّيَامُ عَدْلُ الطَّعَامِ؛ لِكُلِ مُدٍّ أَوْ كَسْرِهِ يَوْمٌ, وَلا يُخْرِجُ مِثْلاً وَلا طَعَاماً وَلا صِيَاماً إِلا بِحَكَمَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ بِذَلِك دُونَ غَيْرِهِ, يُخَيِّرَانِهِ فِيمَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِاجْتِهَادِهِمَا لا بِمَا رُوِىَ ... الأصل فيه الآية المتقدمة. قوله: (فَقِيهَيْنِ بِذَلِك) أى: لا يشترط أن يكونا فقيهين على الإطلاق؛ إذ كل من ولى أمراً فإنما يشترط فيه العلم بذلك وما يطرأ عليه. وقوله: (دُونَ غَيْرِهِ) أى ليس هو أحدهما لقوله تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ (والإنسان لا يحكم لنفسه. وفى الموطأ أن رجلاً جاء إلى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فقال: إنى أجريت أنا وصاحب لى فرسين نستبق إلى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ فأصبنا ظبياً ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعالى حتى أحكم أنا وأنت. قال: فحكمنا عليه

بعنز, فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم فى ظبى حتى دعا رجلاً يحكم معه, فسمع عمر رضى الله عنه كلام الرجل فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا. قال: هل تعرف هذا الرجل الذى حكم معى؟ فقال: لا. فقال عمر: لو أخبرتنى أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ (وهذا عبد الرحمن بن عوف. قوله: (يُخَيِّرَانِهِ فَيمَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ) أى: من الثلاثة؛ لأن الله سبحانه وتعالى خيره, فإذا اختار شيئاً من ذلك حكما عليه باجتهادهما لا بما روى عن السلف, ثم لا يخرجان باجتهادهما عن جميع ما روى؛ أى: إذا اختلف الصحابة فى شئ فلا يخرج عن جماعتهم, قاله مالك, أما ما اتفق عليه الجميع أو ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز له العدول عنه, وليس له أن يختار بعض الكفارة ويصوم عن بعضها, قاله فى المدونة. وإنما وجب فى كسر المد يوم كامل؛ لأنه لا سبيل إلى الغاية ولا إلى تبعيض الصوم. فَإِنِ اخْتَلَفَا ابْتَدَأَ غَيْرُهُمَا فَإِنْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّناً نُقِضَ, وَيَصُومُ حَيْثُ شَاءَ, وَالأَوْلَى أَنْ يَكُونَا فِى مَجْلِسٍ ... لأنهما إذا اختلفا لم يحصل حكمان. قال فى الموازية: وليس له أن يأخذ بقول أرفقهما. اللخمى: وجعله بمنزلة من أخرج بقول واحد. ويجوز إذا ابتدأ غيرهما أن يكون أحدهما أحد الأولين. وصورة الخطأ البين كما قال فى المدونة أن يحكما فى شئ فيه بدنة بشاة أو بالعكس. ونقض هنا كما ينقض حكم الحاكم إذا خالفا النص أو الإجماع أو القواعد أو القياس الجلى. ونص ابن عبد الحكم على أنهما لو حكما بما روى عن عمر رضى الله عنه أن فى الغزال عنزاً وفى الأرنب عناقاً, وفى اليربوع جفرة- لم ينقض. قل: ولا أقول فى شئ قضى به عمر رضى الله عنه- يرد.

اللخمى: وقال مال فى غير موضع: إن قضى قاض بمختلف فيه مضى ولم يرد وإن خالف رأيه. قوله: (وَيَصُومُ حَيْثُ شَاءَ) ظاهر. والأولى التعجيل لبراءة الذمة. قوله: (وَالأَوْلَى أَنْ يَكُونَا فِى مَجْلِسٍ) أى ليطلع كل واحد منهما على حكم صاحبه, وهكذا قال ابن المواز. وَفِيهَا: وَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْدَ ذَلِكَ- وَثَالِثُهَا: مَا لَمْ يَلْتَزِمْ يعنى: أنه نص فى المدونة على أنه إذا اختار خصلة من الثلاثة فله أن ينتقل بعد ذلك إلى غيرها؛ لأنه ليس كحكم الحاكم, ألا ترى إلى تخيير الله له ابتداءً, وأبقى الأكثر المدونة على إطلاقها. وحكى ابن شعبان عن مالك أنه ليس له ذلك, ويلزمه ما حكما به عليه, كما لو حكم عليه قاض فى حق من الحقوق. وحمل ابن الكاتب المدونة على أنه ألزم نفسه ذلك قبل أن يعرف ما هو, ولو عرف مبلغ ذلك فالتزمه لم يكن له أن يعدل إلى غيره. ابن محرز: وهو الصواب كالمكفر عن يمينه إذا التزم الكفارة بأحد الأجناس الثلاثة فإنه يلزمه أن يكفر به, ولا يكون له أن يعدل إلى غيره, ولا ينبغى عذه ثالثاً؛ لأنه راجع إلى تحقيق فهم المدونة. وَفِدْيَةُ الأَذَى عَلَى التَّخْيِيرِ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ حَيْثُ شَاءَ مِنْ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فِى الثَّلاثةِ؛ وَالنُّسُكُ شَاةٌ فَأَعْلَى, وَالطَّعَامُ سِتَّةُ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامِ الْيَمِينِ, وَالصِّيَامُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ, وَفِى إِبَاحَةِ أَيَّامِ مِنىً قَوْلانِ, وَلا يُجْزِئُ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا لَمْ يَبْلُغْ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ ... لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (.

والمذهب أنه يفعلها حيث شاء. اللخمى: وحمل مالك هذه الخصال على التراخى, وعلى القول أن الأوامر للفور عليه أن يأتى بها بمكة. ومذهب الحنفى والشافعى أن النسك لا يكون إلا بمكة, وإليه ذهب ابن الجهم, وخالف فيه مالكًا وأصحابه. قوله: (مِنْ طَعَامِ الْيَمِينِ) يعنى أنه [217/أ] يُخْرِجُ مُدَّين من الجميع, هذا مذهب المدونة. وفى الموازية: إذا اختار الإطعام فأطعم الذرة نظر مجراه من مجرى القمح, فيزيد من البذرة بمثل ذلك. قال فى المختصر: وكذلك الشعير. وفرق بعض القرويين بين فية الأذى والظهار, فى أنه يخرج هنا من الشعير وغيره مُدين كالبر على المشهور, وفى الظهار يخرج من الشعير وغيره عدل البر, بأن الفدية منصوص على مقدارها بالسنة, والظهار ليس فى مقداره نص, وإنما قيل فيه بمد هشام اجتهاداً. قوله: (وَفِى إِبَاحَةِ أَيَّامِ مِنىً قَوْلانِ) مذهب المدونة الجواز قياساً على التمتع بجامع التعلق بالنسك. والكراهة فى كتاب محمد لأنها لم تقيد بالحج كالهدى. قوله: (وَلا يُجْزِئُ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ) لأنهما لا يبلغان المدين, بخلاف اليمين بالله؛ لأن الواجب فى اليمين مد, وهما أكثر منه. قوله: (مَا لَمْ يَبْلُغْ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ) ذكره فى النوادر عن أشهب, وحمله المصنف وغيره على الوفاق, قال فى النوادر: وإذا افتدى لشىء قبل أن يفعله ثم فعله لم يجزه. وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ فَعَلَى التَّرْتِيبِ هَدْيٌ ثُمَّ صِيَامٌ لا طَعَامٌ يعنى: وما خرج عن جزاء الصيد وفدية الأذى, وهو ما وجب لنقص فى حج أو عمرة كتعدى الميقات وترط الجمار والمبيت ليلة من ليالى منى أو طواف القدوم وغير ذلك.

وَالأَوْلَى الإِبلُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الْغَنَمُ, فَمَنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لأن المقصود هنا كثرة اللحم, بخلاف الأضحية, فإن المقصود فيها طيب اللحم؛ لإدخال المسرة على الأهل. ودليلنا فى المحلين أن أكثر هداياه صلى الله عليه وسلم الإبل, وضحى بكبشين. قوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ) لقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (وهذا وإن كان فى المتعة فقد ألحق به العلماء كل نقص. فَإِنْ كَانَ عَنْ نَقْصٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْوُقُوفِ كَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ وَلِتَعَدَّى الْمِيقَاتَ صَامَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنْ أَخَّرَهَا إِلَيْهِ فَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَقِيلَ: مَا بَعْدَهَا, وَصَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنىً إِلَى مَكَّةَ, وَقِيلَ: إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ, فَإِنْ أَخَّرَهَا صَامَ مَتَى شَاءَ, وَالتَّتَابُعُ فِى كُلٍّ مِنْهَا لَيْسَ بِلازِمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ, وَإِنْ كَانَ عَنْ نَقْصٍ بَعْدَ الْوُقُوفِ كَتَرْكِ مُزْدَلِفَةَ أَوْ رَمْيٍ أَوْ حَلْقٍ أَوْ مَبِيتٍ بِمِنىً أَوْ وَطءٍ قَبْلَ الإفَاضَةِ أَوِ الْحَلْقِ صَامَ مَتَى شَاءَ .... يعنى: أن موجب الهدى لا يخلو إما أن يكون سابقاً على وقوف عرفة أم لا؟ فإن كان سابقاً كالأمثلة التى ذكرها المصنف صام ثلاثة أيام فى الحج من حين يحرم بالحج إلى يوم النحر؛ أى: ما بين إحرامه ويوم العيد وقت موسع له, فإن أخرها إلى يوم النحر صام أيام التشريق وهى الثلاثة التى تلى يوم النحر. وقيل: لا يصوم الثلاثة؛ للنهى عن صيامها, وإنما يصوم ما بعدها. ومثله نقل ابن بشير وابن شاس. ولم يحك الملخمى إلا أنه يصومها, وذكر الخلاف قول مالك إذا دخل عليه الدم بأمر الوقوف, فرأى مرة أنه يصوم أيام التشريق كالمتمتع, ورأى أنه لا يصومها وأن الرخصة لمن وجب عليه الدم. قيل: ولم يحك ابن بشير وابن شاس فى هذا خلافاً.

ابن هارون: والصواب ما ذكره اللخمى أن الخلاف فى القسم الثانى دون الأول. وحكى فى البيان أن الخلاف مطلقا –وبه تصح الطريقتان- فقال: اختلف فيمن يجب عليه صيام ثلاثة أيام فى الحج إذا لم يجد هدياً ممن لا يجب عليه صيامها فى الحج على أربعة أقوال: أحدها: أن الذى يجب عليه ذلك المتمتع والقارن خاصة, وهو قول أصبغ, قال: ولا يجب الصيام فى الحج على غيرهما ممن أفسد حجه أو أفسد الحج وشبههم إلا استحسانا لا إيجاباً. والثانى: أن الذى يجب عليه ذلك المتمتع والقارن والمفسد لحجه والذى فاته الحج, هؤلاء الأربعة لا غير, وهو قول ابن القاسم فى العشرة. والثالث: أن ذلك يجب على هؤلاء الأربعة وعلى كل من وجب عليه الهدى لشىء تركه من أمر الحج من يوم إحرامه إلى حين وقوفه بعرفة. والرابع: أن ذلك يجب على هؤلاء الأربعة وعلى كل من ترك من أمر الحج ما يوجب الدم, كان ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة من ترك النزول بالمزدلفة, وهذان القولان الثالث والرابع قائمان من المدونة, وفائدة هذا الاختلاف هل لمن فاته الصوم من حين أحرم إلى يوم عرفة أن يصوم أيام التشريق أم لا؟ فمن أوجب عليه أن يصومها فى الحج أو جب عليه أن يصومها فى أيام التشريق إذا لم يصمها قبل ذلك؛ لأنها من أيام الحج. ومن لم يوجب عليه أن يصومها فى الحج لم يجز أن يصومها فى أيام التشريق للنهى عن صيامها على مذهبه, فإن وجب عليه الهدى على القول الرابع من ترك الرمى فى اليوم الأول أو الثانى من أيام التشريق صام بقية أيام التشريق. انتهى. قوله: (والقولان قائمان من مذهب المدونة) لأن فيها موضعين, أحدهما قوله: وكل هدى وجب على من تعدى ميقاته أو تمتع أو قرن أو أفسد حجه أو فاته الحج أو ترك الرمى أو النزول بالمزدلفة, فإنه إن لم يجد هدياً صام ثلاثة أيام فى الحج فعمم. والموضع الثانى قوله: وإنما

يصوم الثلاثة [217/ب] الأيام فى الحج المتمتع والقارن ومن تعدى الميقات أو أفسد حجه. وأما من يلزمه ذلك لترك جمرة أو لترك نزول مزدلفة, فليصم متى شاء. وقوله: (وَصَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ ... إلخ) يعنى: أن المراد بالرجوع فى قوله تعالى: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (الرجوع من منى إلى مكة, سواء أقام بمكة أو لا, كذا فسره مالك فى المدونة وهو المشهور من المذهب. وقال فى الموازية: إذا رجع إلى أهله إلا أن يقيم بمكة. اللخمى: وهو أبين وليس المراد أن يصوم فى الطريق؛ لأنه فى سفر, وقد أباح الله تعالى للمسافر فطر رمضان, وهو فرض معين عظيم الحرمة انتهى. وقال ابن عبد السلام: المشهور أظهر؛ لأن المذكور فى الآية الحج لا السفر. فالرجوع إنما هو إذا رجع من الحج لا من السفر. قوله: (فَإِنْ أَخَّرَهَا صَامَ مَتَى شَاءَ) نحوه لمالك. قوله: (وَالتَّتَابُعُ فِى كُلٍّ مِنْهَا) أى: من الثلاثة والسبعة ليس بلازم, بل هو مستحب على المشهور خلافاً لابن حارث. وفى بعض النسخ: (والتتابع فى كل منهما) وهى أحسن؛ لأن المتقدم الثلاثة والسبعة. قوله: (وَإِنْ كَانَ عَنْ نَقْصٍ بَعْدَ الْوُقُوفِ ....... صَامَ مَتَى شَاءَ) وهو القسم الثانى. قوله: (صَامَ مَتَى شَاءَ) أى: ولا يصوم أيام التشريق. ابن عبد السلام: وفى معنى ما وجب بعد الوقوف ما وجب يوم عرفة. فرعان: الأول: إن صام السبعة قبل وقوفه بعرفة, فقال اللخمى: الظاهر من المذهب نفى الإجزاء, وأرى الإجزاء؛ لأن التأخير توسعة. انتهى. ونقل ابن عبد السلام عن ابن وهب وابن حبيب التفريق بين الثلاثة والسبعة رخصة, ولمن شاء أن يصوم جميع العشرة فى الحج. وصرح بأن قولهما خلاف مذهب الأكثرين.

الثانى: الترتيب بين الثلاثة والسبعة مطلوب, فقد قال مالك: إن نسى الثلاثة حتى صام السبعة, فإن وجد هدياً فأحب أن إلى أن يهدى وإلا صام. التونسى: فإن قيل: لم لا يترك منها ثلاثة يجتزىء الصائم بها؟ قيل: لأنه أوقعها فى موضع يصلح أن يكون للسبعة؛ لأن السبعة إنما تكون إذا رجع من منى, وإذا رجع إلى بلده على أحد التأويلين, فكأنه أوقعها فى غير موضعها, ولأنه لو وجد الهدى بعد صيامها لأهدى, فلو كان يجتزىء بثلاثة منها ما أمره أن يرجع إلى الهدى؛ لأنه يقول: لو صام يوما واحدا ثم وجد الهدى لكان مخيراً, فكيف بعد صيام ثلاثة أيام؟! الباجى: وقول مالك هذا يقتضى الترتيب بينهما إما واجب وإما مستحب. وقال أصبغ فيمن نسى الثلاثة حتى صام السبعة: يعيد حتى تحصل السبعة بعد الثلاثة. ابن يونس: لعله يريد أنه يعيد صوم سبعة أيام ويحتسب من السبعة بثلاثة, كمن قدم السورة على أم القرآن, وكمن أطعم فى كفارة الصوم ثلاثين مُدَّين فإنه يجزئه أن يطعم غيرهم مداً مداً ويحتسب بمد مد مما أطعم الأولين. انتهى. ابن عبد السلام: وهو كلام حسن؛ لأن حقيقة الصوم فى الثلاثة والسبعة واحدة, وإنما يفترقان بالكثرة والقلة. خليل: وعلى تفسير ابن يونس يكون قول أصبغ مخالفا لقول مالك لاعتداده بالثلاثة المتقدمة. وَكَذَلِكَ صِيَامُ هَدْيِ الْعُمْرَةِ, وَكَذَلِكَ مَنْ مَشَى فِى نَذْرٍ إِلى مَكَّةَ فَعَجَزَ الإشارة بذلك عائدة إلى النقص المتأخر عن الوقوف؛ يعنى: وكذلك إذا وجب لنقص فى العمرة فإنه يصوم متى شاء. ويستحب تتابعه, وكذلك من مشى فى نذر فعجز وركب فى بعض الطريق فإنه يرجع مرة ثانية ليمشى أماكن ركوبه على ما سيأتى, ويلزمه هدى لتفريق المشى, وإن لم يجد صام أى متى شاء؛ لأن الصوم مرتب على ما هو كأجنبى عن الحج والعمرة, وهو المشى والله أعلم.

وَمَنْ أَيْسَرَ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ أَوْ وَجَدَ مُسَلِّفاً وَهُوَ مَلِىءٌ بِبَلَدِهِ لَمْ يُجْزِأهِ الصَّوْمُ لم يجزأه الصوم إذا أيسر قبل أن يصوم؛ لأن الله سبحانه إنما شرعه لغير الواجد, لقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَام (وإذا وجد مسلفاً وهو ملي ببلده, فلا عذر له فى ترك السلف. ابن المواز: فإن لم يجد من يسلفه فليصم ثلاثة أيام فى الحج ولا يؤخر الصيام ليهدى ببلده, فإن صام أجزأه. فإن قيل: وَلِمَ لا يؤخرها كما لو حنث فى يمين فإنه لا يصوم إذا كان غنياً ببلده؟ قيل: لأن وجوب الكفارة على التراخى ووجوب الهدى ليس كذلك, ألا ترى أن القادر عليه فى الحال لا يؤخره بخلاف الكفارة, ولا يؤخذ من هذه المسئلة –وهى مسألة المدونة- جواز السلف على أن يقبض ببلد آخر؛ لأن هذه لم يشترط فيها ذلك, والمنع إنما هو للشرط, وهَبْهُ مفهوماً من قرينة الحال, لكن عقود المعروف يفتقر فيها مثل ذلك, قاله ابن عبد السلام. فَلَوْ شَرَعَ قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُهْدَى إِنْ كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أى: فلو شرع قبل اليسر ثم أيسر, وفى معناه حصول السلف أجزاه الصيام, ولم يلزمه الهدى؛ لأنه دخل فيه بوجه جائز, ويستحب له أن يهدى إن كان بعد يومين؛ ليرجع إلى الأصل, وما ذكره المصنف هو فى المدونة كذلك, وحدد باليومين؛ لأن الثلاثة جمع فهو كثير, ولأن الله تعالى جعلها أحد قسمى العشرة فكانت كالنصف. فإن قيل: يلزم عليه أن يستحب قطع الصلاة إذا طرأ عليه الماء بعد أن دخل فيها بالتيمم. فالجواب: أن المصلى لو أمرناه بالانتقال إلى الأصل لزم إبطال ما مضى [218/أ] من صلاته, بخلاف الصوم, فإنه يحصل له أجر اليومين المتقدمين. وروى ابن عبد الحكم عن مالك فى مسألة الهدى أنه مخير إذا دخل فى الصوم بين التمادى عليه وبين القطع.

وَلَوْ مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَالْهَدْيُ مِنْ رَاسِ مَالِهِ, وَقَالَ سَحْنُونٌ: إِنْ شَاءَ الْوَرَثَةُ. وَلا يَصُومُ عَنْهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا قَبْلَهَا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ ... أى: المتمتع إذا مات قبل استيفاء الحج, فإن مات بعد رمى جمرة العقبة, فقال ابن القاسم: يجب عليه الهدى من رأس ماله أكثر أفعال الحج مع حصول أحد التحللين. وقال سحنون: لا يلزم ذلك الورثة من ثلث ولا من رأس مال بل إن شاءوا, ألا ترى أن المالك تجب عليه الزكاة وقد عرف ذلك ثم يموت ولم يفرط فى إخراجها –أنه إن أوصى بها كانت من رأس المال, فإن لم يوص بها لم تكن فى ثلث ولا فى رأس مال, إلا أن يشاء الورثة ذلك. وفرق فى البيان بأن الهدى لو أهدى لم يخف؛ إذ من شأنه أن يُقَلَّدَ ويشعر ويساق من الحل إلى الحرم, وليس ذلك مما يفعل سراً كالزكاة. قال: فتفرقة ابن القاسم أظهر من مساواة سحنون؛ ألا ترى أنهم لا يختلفون فى وجوب إخراج الزكاة من الزرع الذى يموت عنه صاحبه وقد بدا صلاحه, وإن لم يوص بإخراج الزكاة للعلم بأن صاحبه لم يؤد زكاته. وأشهب يرى إخراج زكاة المال الناض على الورثة واجباً, وإن لم يوص الميت بإخراجها إذا مات عند وجوبها ولم يفرض. انتهى. ولا يصوم عن الميت أحد إذا مات معسراً؛ لأنه لا يقبل النيابة عندنا. وإن مات قبل رمى جمرة العقبة؛ أى: وبعد الوقوف, فلا يلزمه على المشهور. ولا يقال: الشاذ هو الجارى على قول ابن القاسم؛ لأن المعتبر إن كان جميع الأركان فلا بد من طواف الإفاضة, فلا يلزم من الوجه الأول شىء, وإن كان المعتبر جل الأركان فيجب فيهما, ولا وجه لاعتبار جمرة العقبة؛ إذ ليست من الأركان؛ لأنا نمنع قوله لا وجه لاعتبارها؛ لأنه قبلها لم يحصل له شىء من التحللين وحينئذ تكون العلة عند ابن القاسم مركبة من معظم الأركان وحصول أحد التحللين والله أعلم.

وَلا يُلَفَّقُ الوَاجِبُ مِنْ صِنْفَيْنِ الواجب هدى التمتع وفدية الأذى وجزاء الصيد, فلا يصح نصف الإطعام ونصف الصيام. وينبغى على قول ابن القاسم بتلفيق كفارة اليمين بااله تعالى, أن يلفق هنا, قاله ابن عبد السلام. وَلا تُعْطَى قِيمَةٌ قوله: (وَلا تُعْطَى قِيمَةٌ) نقل بعضهم الاتفاق على عدم الإجزاء, ولا يأتى القول بالإجزاء فى الزكاة؛ لأن المقصود هنا إراقة الدماء. مالك: ومن لم يجد هدياً فتصدق بثمنه فلا يجزئه. وَلا يُجْزِئُ نَحْرَ هَدْيٍ إِلا نَهَاراً بَعْدَ الْفَجْرِ فِى أَيَّامِ النَّحْرِ بِمِنىً, وَلَوْ قَبْلَ الإِمَامِ وَقَبْلَ الشَّمْسِ بِخِلافِ الأُضْحِيَّةِ ... قال صاحب الكمال وغيره: لا يصح عندنا النحر بمنى إلا بثلاثة شروط متى انخرم منها شرط لم يصح النحر بها: أولها: أن يكون الهدى قد وقف به بعرفة. الثانى: أن يكون النحر فى أيام منى. الثالث: أن يكون النحر فى حجة لا فى عمرة, قال: ولا يجوز النحر إذا اجتمعت هذه الشروط بمكة ولا بغيرها. قوله: (نَهَاراً بَعْدَ الْفَجْرِ) أى: فلا يجزىء ليلاً على المشهور. قوله: (وَلَوْ قَبْلَ الإِمَامِ وَقَبْلَ الشَّمْسِ بِخِلافِ الأُضْحِيَّةِ) ظاهر؛ لأن الإمام فى العيد لمَّا كان يصلى بالناس ناسب أن يتوقف الذبح على ذبحه, بخلاف الحج إذ لا صلاة عيد عليهم.

وَمَكَانُهَا بمِنىً بَعْدَ أَنْ يُوقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلاً عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا كون منى محل للنحر متفق عليه لفعله عليه الصلاة والسلام. قوله: (بمنى) لأن المراد بقوله تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (, وقوله تعالى: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ (: منى. واتفق العلماء على عدم إرادة البيت, والمسجد الحرام. قوله: (فِيهِمَا) ابن عبد السلام: أى: فى اشتراط الوقوف وأخذ جزء من الليل. وأجاز ابن الماشجون نحر الهدى وإن لم يوقف به بعرفة. ابن هارون: وأما اشتراط كون الوقوف بالهدى ليلاً فلا أعلم فيها خلافاً؛ لأن كل من اشترط الوقوف بعرفة جعل حكمه حكم ربه, فيما يجزئه من الوقوف. وعلى هذا يشكل قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا) لأن ظاهره الخلاف فى الأمرين, فى شرطية الوقوف, وفى كونه ليلاً. ويحتمل أن يكون إشارة فى اختصاص النحر بمنى فى تلك الأيام, وفى شرطية الوقوف, وهو أشبه؛ لوجود الخلاف فيهما, فقد قال مالك: إذا نحر بمكة فى أيام منى لا يجزئه. وقال فى المدونة: يجزئه ذلك وإن فعله عمداً. انتهى. واعلم أن منى كلها منحر, وأفضل ذلك عند الجمرة الأولى, رواه ابن المواز عن مالك. ولا يجوز النحر بعد جمرة العقبة مما يلى مكة؛ لأنه ليس من منى. وَإِنْ بَاتَ فِى الْمَشْعَرِ فَحَسَنٌ. وَسُئِلَ عَنْ إِخْرَاجِهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنىً فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ مَالِكٍ ... أى: إن باب بهديه فى المشعر فحسن. والضمير فى (سُئِلَ) عائد على ابن القاسم وفى الذخيرة: فيستحب له أن يوقفه المواقف التابعة لعرفات.

فَلَوْ فَاتَ وَقْفُهَا بِعَرَفَةَ أَوْ فَاتَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ بِمِنىً تَعَيَّنَتْ مَكَّةُ أَوْ مَا يَلِيهَا مِنَ الْبُيُوتِ, وَالأَفْضَلُ الْمَرْوَةُ, وَأَجْزَأَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَشْهُورِ, وَرَجَعَ عَنْهُ. وَثَالِثُهَا: يُجْزِئُ فِى الوَاجِبُ إِنْ فَاتَتَ أَيَّامُ النَّحْرِ ... أى: ولو فات وقف الهدايا بعرفة؛ يريد: ولو لم تفت أيا منى, (أَوْ فَاتَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ بِمِنىً) يريد ولو [218/ب] وقف بها عرفة. (تَعَيَّنَتْ مَكَّةُ أَوْ مَا يَلِيهَا مِنَ الْبُيُوتِ) لأن الأصل فى الذبح إنما هو مكة لقوله تعالى: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ (واستثنى بالسنة ما وقف به بعرفة. والأفضل المروة لما فى الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بمنى: "هذا المنحر وكل منى منحر". وقال فى العمرة: "هذا المنحر" يعنى المروة "وكل فجاج مكة وطرقها منحر". ابن يونس: قال مالك فى الموازية: وكل ما محله من الهدى مكة فلم يقدر أن يبلغ به داخل بيوت مكة ونحره فى الحرم لم يجزأه, إنما محله مكة وما يليها من بيوت الناس. انتهى. وهذا معنى قوله: (مَكَّةُ أَوْ مَا يَلِيهَا مِنَ الْبُيُوتِ) قال مالك فى العتبية: ولا يجوز أن ينحره عند ثنية المدنيين وقد نحر النبى صلى الله عليه وسلم هديه عند الحديبية فى الحرم, فأخبر الله تعالى أن ذلك الهدى لم يبلغ محله. قال فى البيان: ومعنى نحر الرسول صلى الله عليه وسلم هديه بالحديبية فى الحرم نحر هديه فى الحرم إذ كان بالحديبية؛ لأن الحديبية فى الحل, لكنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ممنوعاً من دخول الحرم, فبعث هديه من الحديبية إلى الحرم فنحر به, فصح لمالك بذلك الحجة لما ذهب إليه من أن محل الهدى من الحرم مكة القرية نفسها لا جميع الحرم, لإخبار الله تعالى أنه لم يبلغ محله, بقوله تعالى: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ (. وقد ساق فى النوادر هذه الرواية على وجه فاسد على ما تأوله, فقال: روى أشهب عن مالك فى العتبية أن الحديبية فى الحرم. قال ابن القاسم: ولا يُجْزِئُ النحر بذى طوى بل حتى يدخل مكة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "وكل فجاج مكة وطرقها

منحر". أبو الحسن وغيره: والفجاج والطرق مترادفان. قال فى الإكمال: واختلف عندنا فيما خرج عن بيوتها من فجاجها؛ أى: هل يجزىء النحر بذلك أم لا؟ قوله: (وَأَجْزَأَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَشْهُورِ) أى: فى الوجهين؛ لأن مكة هى المنحر الأصلى, ولأن المكان ليس مقصوداً لذاته. (وَرَجَعَ عَنْهُ) أى: ورجع مالك عن الإجزاء. والمشهور ومقابله لمالك. قال فى التهذيب: ومن ضل هديه الواجب بعدما أوقفه بعرفة فوجده بعد أيام منى فلينحره بمكة. قال لى مالك مرة: لا يجزئه, وبه أقول. انتهى. فهذه هى الصورة الثانية من كلام المصنف. وفى مختصر ابن أبى زيد فيمن ضل هديه قبل أن يقف به بعرفة ثم وجده بمنى فقال: اختلف فيه قول مالك, فقال مرة: لا يجزئه وينحره ويهدى غيره. وقال مرة يجزئه نحره بمكة. وظاهر قول المصنف: (وَرَجَعَ عَنْهُ) أن الرجوع فى المسألتين, وإنما الرجوع فى الوجه الثانى. قوله: (وَثَالِثُهَا) أى: فى المسألة قول الثالث لأشهب بالتفصيل؛ إن فاتت أيام النحر أجزأه نحره بمكة, وإن فات وقفه بعرفة لم يجزأه. وَمَا فَاتَ وُقْفُهَا بِعَرَفَةَ أَخْرَجَ إِلَى الْحِلِّ مُطْلَقاً هذا ظاهر؛ لأن كل هدى لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم. قوله: (مُطْلَقاً) أى من أى جهة كانت. وَمَا جَدَّدَهُ بَعْدَهَا إِنْ كَانَ أَدْخَلَهُ مِنَ الْحِلِّ أَجْزَأَهُ, وَإِلا أَخْرَجَهُ ثُمَّ يَدْخُلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَلالاً فَإِنْ جَدَّدَهُ بَعْدَهَا غَيْرَ وَاجِبٍ فَلَهُ نَحْرُهُ بِغَيْرِ إِخْرَاجٍ ... أى: أن ما أوجبه المحرم بعد عرفة فإن أدخله من الحل أجزأه؛ لحصول الجمع, وإن لم يدخله من الحل فلابد من الخروج به؛ ليحصل الجمع.

قوله: (وَلَوْ كَانَ حَلالاً) يحتكل ولو كان الفاعل حلالاً كما لو قتل بعد الإحلال صيداً فى الحرم, ويحتمل ولو كان المبعوث معه الهدى حلالاً وتكون فائدته أنه لا يشترط فى المبعوث معه أن يكون حراماً. قوله: (فَإِنْ جَدَّدَهُ بَعْدَهَا غَيْرَ وَاجِبٍ) أى: كما لو قصد أن ينحره للمساكين, وليس المراد هدياً غير واجب؛ لأن الهدى مطلقاً –واجباً أو تطوعاً- لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم. قال فى المدونة: ومن اشترى شاة يوم النحر أو بقرة أو بعيراً ولم يوقفه بعرفة ولم يخرجه إلى الحل فينوى به الهدى, وإنما أراد أن يضحى بذلك فليذبحها ضحوة وليست أضحية؛ لأن أهل منى ليس عليهم أضاحى, وكل شىء فى الحج هدى. ابن يونس: ولا هو هدى؛ لأنه لم بنو به الهدى ولا جمع له بين حل وحرم كالهدايا. التونسى: لأنه لما أراد التقرب بها ولم يرد أن تكون شاة لحم –أمر أن يتبع بها سنة الأضاحى مع كونها ليست بأضحية, وإلا فشاة لحم تذبح فى كل وقت, وهذا كله يبين لك أن مراد المصنف بقوله: (نَحْرُهُ بِغَيْرِ إِخْرَاجٍ) ما ذكرناه. وَلا يُجْزِئُ مَا أوَقَفَهُ غَيْرُكَ إِلا مَا تُيَسِّرُهُ هَدْيَاً أَوْ يَضِلُّ مُقَلَّداً فَيَقِفُهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجِدُهُ يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا لَوْ نَحَرَهُ قَبْلَ أَنْ تَجِدَهُ فِيهِمَا ... لأن الوقوف به عبادة, وهى لا يكتفى فيها بفعل الغير. وشمل قوله: (غيرك) التجار ونحوهم. ولو كان إيقاف التجار صحيحاً لما أجاز لهم البيع. قوله: (إِلا مَا تُيَسِّرُهُ) ظاهر. قوله: (أَوْ يَضِلُّ مُقَلَّداً ... إلخ). نحوه فى المدونة. ابن يونس: ولو وقفه الأجنبى عن نفسه. وتأولها غيره على أن الأجنبى لما وقف بالهدى الضال نوى به صاحبه وإلا لم يجزأه. قوله: (كَمَا لَوْ نَحَرَهُ قَبْلَ أَنْ تَجِدَهُ فِيهِمَا) أى: فى المسير والضال بعد الوقوف فإنه لا يجزئه. قال جكاعة: ومن وجد بدنة ضالة فى ايام منى لم ينحرها إلا فى اليوم الثالث؛ إذ لعل ربها أن يأتى. فإذا خيف خروج أيام النحر نحرها عن ربها وأجزأته؛ لأنها

[219/أ] بالتقليد وجبت. اللخمى: وإن عجل النحر فى أول يوم أجزأه وإن وجده بعد ايام منى لم يعجل بالنحر إلا أن يخشى ضيعته أو سوء حفظه فينحره بمكة, وإن نحره عن نفسه عمداً أو خَطَأً فثالثها المشهور يُجْزِئُ فى الخطأ كما تقدم. ومذهب ابن القاسم الإجزاء هنا بخلاف الضحايا, وخالفه أشهب فى الهدى مع قوله فى الضحايا: إن صاحب الأضحية إن ضَمَّنَ ذابحها قيمتها أنها تجزىء عن الذابح, وصوبه ابن المواز وجعل ذلك بمنزلة من اشترى شاة للأضحية ثم ذبحها فاستحقها رجل بعد الذبح وأجاز البيع أنها تجزىء عن الذابح. التونسى: وهذا بين؛ لأن المشترى كان ضامناً, والمستحق إنما يجيز البيع الذى كان قبل الذبح. قال فى المدونة: ومن أوقف هديه بعرفة ثم ضل عنه فوجده رجل فنحره بمنى أجزاه. ابن يونس: قال يحيى: هذا إذا أوقفه ثم ضل منه غروب الشمس, وأما إن ضل منه قبل غروب الشمس ثم وجده بمنى فنحره بها لم يجزأه. فرع: قال فى الذخيرة: وفى الكتاب: إذا بعث بهدى تطوع مع رجل حرام, ثم خرج بعده حاجاً, فإن أدرك هديه لم ينحره حتى يحل, وإن لم يدركه فلا شىء عليه. وإن كان هذا الهدى قد ارتبط بإحرام الأول, فإن ذلك الحكم ينقطع كما لو أحصر الرسول وأمكن ربه الوصول, ولأن الأصل أقوى من الفرع, والموكل متمكن من نزع الوكيل. سند: فلو كان الرسول دخل بحج, ثم دخل ربه بعمرة, قال فى الموازية: يؤخره حتى ينحره فى الحج؛ لأن النحر فى الحج أفضل من العمرة لجعل الشارع له زماناً معيناً, وما اعتنى الشرع به يكون أفضل. وإن سيق الهدى فى عمرة ودخل ربه بعمرة فأراد تأخيره حتى يحج من عامه, فقال مالك: لا يؤخره؛ لقوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (. وَأَمَّا مَنِ اعْتَمَرَ وَسَاقَ هَدْياً مِنْ نَذْرٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَوْ جَزَاءٍ فَإِنَّهُ يَنْحَرُهُ بَعْدَ السَّعْيِ ثُمَّ يَحْلِقُ نَزَّلُوا السعى فى العمرة منزلة الوقوف فى الحج.

قوله: (ثُمَّ يَحْلِقُ) أى: أن الحلق فى العمرة يكون بعد الذبح كالحج؛ لقوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (. قوله: (يَنْحَرُهُ بَعْدَ السَّعْيِ) أى: بمكة, وكذا قال فى المدونة. عياض: وإن نحره بمنىً أجزأه عند مالك. انتهى. وعنه: إن ساقه الرجل لعمرته فنحره بمنىً فلا يجزئه وإن أوقفهه بعرفة. قال: وجزاء الصيد إذا ساقه معه فى عمرته فلا ينحره إلا بمكة لا بمنى. فَإِنْ أَخَّرَهُ لِخَوْفِ فَوَاتٍ أَوْ حَيْضٍ صَارَ قَارِنَاً وَأَجْزَاَهُ لِقِرَانِهِ أى: أن المعتمر إذا خشى إن تشاغل بعمل العمرة فاته الحج, وكذلك المعتمرة تخشى فوات للحيض – فإنهما يحرمان بالحج ويكونا قارنين. وليس مراد المصنف أن يبين حكم القرآن فإنه تقدم, وإنما مراده أن يبين حكم الهدى. ابن عبد السلام: ويجب أن يعود الضمير من قوله: (أَجْزَاَهُ) على هدى التطوع خاصة لا على كل ما تقدم من النذر والجزاء ليوافق المنقول؛ لأن الهدى إذا وجب بالتقليد فلا يُجْزِئُ عما وجب بعد ذلك, على أن فى هدى التطوع نظر؛ لأنه لما قلد صار كالواجب لتعيينه بالتقليد, واعتذر بعضهم عن هذه والذى بعدها بأن الحج قد تجزىء بعض أفعاله بنية التطوع عن الواجب كما فى ناسى الإفاضة ثم طاف بعد ذلك تطوعاً, وفيه نظر؛ لأن من قال بالإجزاء إذا ترك واجباً وأتى بعده بتطوع يشبهه فى الصورة, فإنما رأى ذلك؛ لأن نيته عنده تستلزم نية الواجب, بخلاف من تطوع بأمر قبل حصول الواجب فإن نيته انعقدت قبل ذلك. وبعضهم بأنه مبنى على أن الهدى لا يجب بالتقليد والإشعار, وفيه نظر؛ لأنه خلاف المشهزر. وبعضهم بأنه مبنى على تقديم الكفارة قبل الحنث. فَإِنْ أَخَرَ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالتَّمَتُّعِ أَجْزَأَهُ, وَثَالِثُهَا: إِنْ سَاقَهُ لِلتَّمَتُّعِ أَجْزَأَهُ أى: إذا ساق هدياً تطوعاً فى عمرة ثم حج من عامه, فاختلف هل يُجْزئُ هدى التطوع عن هدى التمتع على ثلاثة أقوال. وتصورها من كلامه ظاهر, وينبغى أن يخرج من هذه الخلاف فى التى قبلها, ولا ينبغى عد الثالث خلافاً؛ لأن عبد الحق وغيره تأول القول بالإجزاء عليه, فقال: معنى مسألة المتمتع الذى أخر نحر هديه إلى يوم النحر- أنه

ساق الهدى؛ ليجعله عن تمتعه, فلما وجب بالتقليد والإشعار قبل أن يتعلق عليه الدم للمتعة حمله محمل التطوع فى أحد القولين, فلذلك لم يجزاه عما وجب عليه. وقال مرة: يجزئه إن كان تطوع الحج يجزىء عن واجبه فى غير وجه, فكيف بهذا الذى لم يقصد التطوع وإنما قصد الواجب, وينبغى لو كان إنما ساقه على طريق التطوع لا للمتعة ألا يجزئه عن متعته على القولين والله أعلم. وَأَمَّا النُّسُكُ فَلا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلا نَهَارٍ وَلا مَكَانٍ كَطَعَامِهَا وَصِيَامِهَا إِلا أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْياً فَيَكُونَ مِثْلَهُ ... المراد بالنسك: فدية الأذى, وعطف النهار على الزمان؛ لأنه قد يسبق للذهن من الزمان, الزمان الخاص, وهو أيام النحر. وما ذكره من جواز ذبح النسك ليلاً, نص عليه ابن المواز, قال: والنهار أولى. [219/ب] قوله: (إِلا أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْياً) ظاهر, ولأجل أن المراد بالنسك الفدية. قال: كطعامها وصيامها, ويجوز فيها غير الغنم كالهدى قاله أهل المذهب. وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَهُ أَوْ أُضْحِيَتَهُ غَيْرُهُ وَيُجْزِئُهُ, إِلا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَلا يُجْزِئُهُ, وَحَسُنَ أَنْ يَقُولَ مَعَ التَّسْمِيَةِ: اللهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ تَقَبَّل مِنْ فُلان ... لأنه قربة. قوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْلِمٍ) هو المشهور خلافاً لأشهب وقد تقدم. وقوله: (وَحَسُنَ أَنْ يَقُولَ) أى: المستناب. وقد ذكر المصنف فى الذبائح أن الذابح إن شاء قال: اللهم تقبل منى. وَالأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ, وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَالْمَعْدُودَاتُ, الثَّلاثَةُ بَعْدَهُ وَهِىَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ... سميت المعلومات؛ لأنها معلومة للذبح, والأخرى معدودات؛ لأن الجمار تعد فيها. وعلى هذا فاليوم الأول معلوم غير معدود, والرابع معدود غير معلوم. واليومان المتوسطان معلومان معدودان.

الصيد

الصَّيْدُ جَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ لعله ذكر هذا الباب إثر كتاب الحج لقوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ([المائدة:2]. وحكمة مشروعيته لمن حل من الإحرام التنبيه على أن العبد إذا امتثل أمر ربه وحبس نفسه عما نهى عنه, فإن المولى سبحانه وتعالى يكرمه ويحل له ما حرم عليه, ترى أن الخمر فى الدنيا حرام, فمن حبس نفسه عنها فى الدنيا فإن الله سبحانه يبيحها له فى الآخرة. والإجماع على جوازه لمن كان عيشه ذلك. والمشهور أن الصيد للهو مكروه, وأباحه ابن عبد الحكم, وروى ابن الماجشون ومطرف أن مالكاً استخف ذلك لأهل البادية إذ لا غنى لهم عنه, وكرهه فى حق أهل الحاضرة. ولا إشكال أنه تعرض له من حيث الجملة الأحكام الخمسة. الصَّائِدُ, وَالْمَصِيدُ بِهِ، وَالْمَصِيدُ. الصَّائِدُ: كُلُّ مُسْلِمٍ يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ إِلَى الاصْطِيَادِ فَلا يَصِحُّ مِنَ الْكِتَابِىِّ عَلَى الْمَشْهُورِ, وَالْمَجُوسِيِّ اتِّفَاقاً بِخِلافِ صَيْدِ الْبَحْرِ ... أى: أركانه ثلاثة, ثم تكلم على الأول وذكر أن المشهور منع صيد الكتابى, واحتج على ذلك فى المدونة بقوله تعالى: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ (وفيه نظر؛ لأنه قد اختلف فى المراد بهذه الآية, فقيل: المراد بها إباحة الصيد, وقيل: منعه, واختاره اللخمى وغيره, وأن المراد الامتناع فى حال الإحرام, والابتلاء والاختبار أن يصبر عنه. ولقوله تعالى: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ (ولقوله سبحانه: (فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ([المائدة: 94]. والأقرب أم مراد المصنف بالشاذ الإباحة؛ لأنها التى تقابل المنع حقيقة. وهو قول ابن وهب وأشهب, واختاره الباجى, وابن يونس, واللخمى؛ لأنه من طعامهم إذ كل أمة تصيد, وقد أباح الله طعامهم, ويحتمل أن يريد الكراهة, وهو قول مالك فى الموازية وقول ابن حبيب وابن بشير. ويمكن حمل المدونة على الكراهة.

ولا يصح من المجوسى باتفاق. مالك: ولا يؤكل صيد الصابىء ولا ذبيحته. مجاهد: وهم قوم بين اليهود والمجوس, ووجه مخالفة صيد البحر ظاهر؛ إذ ميتته حلال. وَلا مِنَ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ هذا راجع إلى قوله: (يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ)؛ لأن الصيد يحتاج إلى نية, ولا تصح منهم, والمشهور أن المرأة والمميز كالبالغ, وكرهه أبو مصعب. وَشَرْطُهُ أَنْ يُرْسِلََهُ فَلَوِ انْبَعَثَ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ لَمْ يُؤْكَلْ, وَلَمْ تُفِدْ تَقْوِيَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ شرط إباحة الصيد الإرسال؛ لما رواه البخارى ومسلم وغيرهما عن عدى بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنى أرسل الكلاي المعلَّمَة فيمسِكْنَ علىَّ, وأذكر اسم الله عليه فقال: "إذا أرسلتَ كلبكَ المعلَّم فذكرتَ اسم الله عليه فكُلْ ما أمسك عليك", قلت: وإن قتلن, قال: "وإن قتلْنَ ما لم يشركها كلب ليس منها" قلت له: فإنى أرمى بالمعراض الصيد فأصيب, فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكُلْه, وإن أصابه بعرضه فلا تأكله". وفى رواية: "إلا أن يكون الكلب أكل منه, لإإن أكل فلا تأكل فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه, وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل؛ فإنما سَمَّيتَ على كلبك ولم تسم على غيره", وفيه "إذا أرسلتَ كلبكَ المعلَّم فاذكر اسم الله عليه, فإن أمسك عليك فأدركته حيّاَ فاذبحه, وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أَخْذ الكلب ذكاته", وفيه أيضاً: "إذا رميتَ بسهمك فاذكر اسم الله عليه" وفيه: "فإن غاب عنك يوماً أو يومين", وفى رواية: "اليومين والثلاثة, فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت, وإن وجدته غريقاً فى الماء فلا تأكل, فإنك لا تدرى الماء قتله أم سهمك". والمشهور –كما ذكر- أنه لا تفيد تقويته إذا انبعث أولاً من نفسه, وأجاز أصبغ أكل ما يبتدىء الكلب طلبه إذا اتبعه ربه بالإشلاء, والتحريض, والتسمية.

ابن المواز: لا يعجبنى, ومنشا الخلاف: هل التقوية أم لا؟ ولابن الماجشون قول ثالث: إن زادته التقوية قوة أكل وإلا فلا, وفى بعض النسخ عوض (تَقْوِيَتُهُ) (تفويته) بالفاء, وفى بعضها (تَوثقته) بالثاء المثلثة والمعنى متقارب. فَلَوْ أََرْسَلَهُ وَلَيْسَ فِى يَدِهِ [220/أ] فَفِيهَا: يُؤْكَلُ ثُمَّ رَجَعَ, وَاخْتِيرَ الأَوَّلُ, وَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ قَرِيباً أُكِلَ ... الأوَّلان كما ذكر فى المدونة, ومنشأ الخلاف: هل ذلك إرسال أم لا؟ وإنما رجع مالك إلى عدم الأكل لجواز أن يكون الكلب قد رأى الصيد, فوافق انبعاثه من نفسه إشلاء صاحبه. واختار ابن القاسم فيها والتونسى واللخمى الأكل, ورأوا أنه لا فرق بين أن يكون الجارح فى يده أو معه؛ لأنه إنما انبعث بإشلائه. والثالث لابن حبيب. وَلَوْ أَرْسَلَهُ ثُمَّ ظَهَرَ تَرْكٌ ثُمَّ انْبَعَثَ لَمْ يُفِدْ, وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يُخرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْ أَرْسَلَ يَقْتُلُ بِهِ اثْنَيْنِ فَصَاعِداً ... يعنى: او أرسل الجارح فانبعث على الصيد, ثم ظهر منه ترك لما أرسل عليه بتشاغله بميتة أو كلب وقف معه ثم انبعث ثانياً حتى أخذه فإنه لا يؤكل, ولا إشكال فى هذا إن كان تشاغله كثيراً. اللخمى: ويختلف فيه إذ كان الاشتغال الخفيف, وظاهر المدونة أنه لا يؤكل؛ لأنه قال فيها: إذا وقف الكلب مع كلبه يشمه, أو على جيفة فأكل منها, أو عجز الطائر فسقط على موضع, أو عطف راجعاً, فقد خرج عن ذلك الإرسال, ولم يفرق بين قليل ذلك ولا كثيره. وقال: إذا أرسل على جماعة فأخذ اثنين منها إنهما يؤكلان, ولم يرَ اشتغاله قطعاً للثانى, وقد قيل: لا يؤكل الثانى. والصواب أن الشىء اليسير لا يقطع عن حكم الأول. انتهى.

وفرق المازرى وابن بشير بما حاصله أنه فى الأول تَشَاغَل بغير ما أرسل له, بخلاف الثانى, زاد المازرى: ويؤكل. هذا قول ابن القاسم: أن من أرسل كلبه على جماعة صيد ولم يرد واحداً منها دون الآخر فأخذها كلها فإنه يؤكل ما أخذ, وقد يكون من الكثرة بحيث لا يأتى عليها إلا بعد طول. واللخمى أشار إلى ارتفاع الخلاف مع طول الزمان. وَيُسَمِّي عِنْدَ الإِرْسَالِ فَلَوْ تَرَكَهَا عَامِداً مُتَهَاوِناً أَوْ غَيْرَ مُتَهَاوِنٍ لَمْ يُؤْكَلْ عَلَى الْمَعْرُوفِ, وَناسِياً تَصِحُّ ... للحديث المتقدم, وما ذكره من الفرق بين النسيان والعمد هو مذهب المونة, واختلف أصحابنا فى تأويله, فمنهم من حمله على التحريم, ثم افترق هؤلاء على فرقتين: الأولى: أن التسمية سنة, وحرم الأكل مع العمد؛ لئلا يستخف بالسنن وهو تأويل عبد الوهاب. الثانية: أنها واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان, ومنهم من حمله على الكراهة وهو اختيار الأبهرى وابن الجهم, وهذا هو مقابل المعروف, ونقله صاحب افكمال عن مالك نصّاً فقال: وحكى منذر بن سعيد عن مالك فى ترك التسمية عمداً أنها لا تؤكل. وحكى ابن يونس عن اشهب ثالثاً فقال: وقال أشهب: إن التسمية مستخفّاً بها فلا يؤكل, وأما من لا يعلم ما عليه فى تركها فإنها تؤكل. ابن بشير: وإن تركها ناسياً لم يضر اتفاقاً, وقد تقدمت هذه المسألة عند الكلام على إزالة النجاسة. فَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِىٌّ كَلْباً أَوْ مَجُوسِيٌّ كَلْبَ مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْكَلْ بِخِلافِ مَا لَوْ أَرْسَلَ مُسِلْمٌ كَلْبَ مَجُوسِي ... لأنه إذا اجنمع المسلم والمجوسى على كلب واحد فقد حصل مبيح ومحرم, فغلب المنع, كما لو أرسل جارحاً معلَّماً وآخر غير معلم, ولم يدر أيهما قتله.

وقوله: (أَوْ مَجُوسِيٌّ كَلْبَ مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْكَلْ) ظاهر لأن العبرة بالصائد لا بالكلب, والكلب آلة بمنزلة السكين, واصطياد المجوسى بمنزلة ذبحه بسكينة, وكذلك العكس. فرع: فلو أرسل المسلم والمجوسى كلبين, فأخذ الصيد حيّاَ, فقال ابن حبيب: يحكم للمسلم بذبحه ويأخذ نصفه, فإن قال المجوسى: أنا لا أكل ذبيحة المسلم, فنقل الشيخ ابو محمد عن بعضهم أنهما يؤمران ببيعه وقسم ثمنه, إلا أن يكون بموضع لا ثمن له, فيمكن المسلم من ذبحه؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. الْمَصِيدُ بِهِ سَلاحٌ يَجْرَحُ, وَحَيَوَانٌ مُعَلَّمٌ لما انقضى كلامه عن الركن الأول أتبعه بالثانى, واشترط الجرح فى السلاح؛ لما تقدم من حديث عدى فى المعراض: "وإن أصاب بعرضه فلا تأكل". والمعراض: عصاة فى رأسها حديدة, وقد يكون بغير حديدة, وقيل: عود رقيق الطرفين غليظ الوسط, وخرج بهذا الشرط البندق وما فى معناه, والشرك والحبالة, فلا يؤكل الصيد بشىء من ذلك, إلا أن يوجد مجتمع الحياة فيذكى. واشترط التعليم لقوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ([المائدة: 4] وللحديث المتقدم. ابن حبيب وغيره: والتكليب: التعليم, ولا يختص بالكلب, بل ذلك جارٍ فى كل ما يقبل التعليم. ابن شعبان: ولو كان نسوراً, وابن عِرس. ابن حبيب: النمر والنمس لا يقبلان لتعليم. وقيل: المراد بالتكليب التسليط.

وَفِي التَّعْلِيمِ طَرِيقَانِ. اللَّخْمِيُّ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الأَوَّلُ: إِذَا أُشْلِيَ أَطَاعَ، الثَّانِي: إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، الثَّالِثُ: وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ إِنْ كَانَ كَلْبَاً، الرَّابِعُ: مُطْلَقاً، مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُعَلَّمُ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازِيٍّ هُوَ الَّذِي إِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ، وَإِذَا أُرْسِلَ أَطَاعَ، وَقَدِ اعْتُرِضَ بِأَنَّ الطَّيْرَ لا يَنْزَجِرُ حَتَّى حُمِلَ عَلَى إِذَا أُشْلِيَ، وَبِقَوْلِهِ: وَلَوْ غَلَبَتْهُ الْجَوَارِحُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَلاصِهِ مِنْهَا أَكَلَ ..... تصور الأربعة من كلامه ظاهر، والأول من الأربعة لم ينقله اللخمي، وإنما خرجه من قوله في المدونة: إذا أدرك كلبه أو بازيه ولم يستطع إزالة الصيد عنه حتى فات بنفسه أنه يؤكل. وفي نقل المصنف الثاني نظر، ولم أره في اللخمي ولا غيره، [220/ب] وإنما ذكره اللخمي والمازري وغيرهما عن أشهب في هذا القول عوض قول المصنف: (إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ). اللخمي: وهو نحو قول ابن القاسم- أي: في المدونة- لقوله: (وَالْمُعَلَّمُ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازِيٍّ هُوَ الذِي إِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ، وَإِذَا أُرْسِلَ أَطَاعَ). المازري: وهو المشهور. والقول الثالث لابن حبيب وابن الماجشون. والقول الرابع لابن القاسم في الواضحة. ووافقه المازري في طريقته، واستضعف القول الأول من المدونة قال: لأنه لم يقصد بيان حكم التعليم فيتعلق بما قال هنا، وإنما قصد بيان العذر بالعجز في التذكية عن صفة ويمكن أن يكون لم يقدر الصائد على تخليصه، ليس لأجل أن الكلب لم يطعه، بل لمانع منع الكلب من غلبة الصيد أو لغير ذلك من الأسباب، وأيضاً فإنه وإن عصى في هذه المرة واحتمل ما أشرنا إليه فلا يخرج بالمعصية مرة واحدة عن كونه معلَّماً، كما لا يكون معلماً بطاعته مرة واحدة، بل حتى يتكرر منه ويصير معلماً، ونفى التحديد في هذا مذهبنا خلافاً لأبي حنيفة في تعليقه ذلك بمرتين. انتهى. وعلى كلام اللخمي فما لابن القاسم في الواضحة خلاف ما قال في المدونة.

عياض: ويحتمل الوفاق؛ لأن الإشلاء يستعمل في معنيين للإغراء والدعاء، كماأن الزجر يأتي لمعنيين الإغراء والكف. انتهى. وفيه بعد لأنه يلزم عليه عطف الشيء على نفسه؛ إذ على قوله أن الدعاء بمعنى الإشلاء وقول المصنف من قوله: (وَالْمُعَلَّمُ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازِيٍّ) أي أن هذا الرابع أخذ من قول مالك في المدونة: والمعلم من كلب أو بازي، فجمع بين الكلب والبازي في شرط الانزجار وتبع المصنف في قوله أن الرابع مأخوذ من لفظ المدونة. ابن بشير: والذين في اللخمي أنه منصوص كما قدمته. والاعتراض بأن الطير لا يمكن فيه الانزجار لابن حبيب، والجواز بحمل الزجر على الإشلاء لابن أبي زيد قال: وقد يقال الزجر إشلاء، كما يقال: أزجرت التنور: إذا أوقدته. وقد قال مالك في المدونة فيمن أدرك كلابه تنهش في الصيد ولم تنفذ مقاتله فمات بنفسه قبل أن تمكن ذكاته: إنه يؤكل، ولم يجعل الانزجار شرطاً. وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (وَلَوْ غَلَبَتْهُ الْجَوَارِحُ .... إلخ)، وكأن المصنف استبعد قول أبي محمد، ألا ترى إلى قوله: (حَتَّى) وعادته في ذلك أن يشير إلى استبعاد؛ لأن ما قال ابن أبي زيد مخالف لظاهر اللفظ، ويلزمه منه التكرار؛ لأنه عطف فيه الإشلاء على الانزجار وبقي هنا شيء، وهو إن كان المراد بالدعاء في الثالث والرابع "بعد إمساك الصيد" فهو الانزجار، وإن كان المراد "قبل الإرسال" فلا معنى له لأن ذلك تفعله الكلاب بطباعها وعلى هذا فالظاهر أن المراد بالدعاء "بعد الإرسال" و"قبل الإمساك"، وبالانزجار "بعد الإمساك". عياض: و (البازي) بياء بعد الزاي، وحكى بعضهم "باز" بغير ياء. و (أشلي) بضم الهمزة وشين معجمة ساكنة ومعناه في الكتاب وعند الفقهاء: أُرسل وأُغري، وقال بعض أهل اللغة: إنما الإشلاء الدعاء. وصوب بعضهم الوجهين فيه، والزجر: الكف والإمساك، وهو المشترط في التعليم وذهب بعضهم أيضاً إلى أن الزجر يقع بمعنى الإغراء، فأشار إلى ما قاله ابن أبي زيد.

وَالثَّانِيَةُ: هُوَ ما يُمْكِنُ فِي الْقَبيلَيْنِ عَادَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ يعني: أن الطريقة الثانية هو ما يمكن في القبيلين، والقيلان هما: السباع والطير، وهذه طريقة ابن بشير. قال بعد كلام اللخمي: وهذا الذي حكاه أبو الحسن ليس بخلاف، وإنما صحح المصنف هذه الطريقة؛ لأن الله جل ثناؤه لم يشترط غير التعليم ولم يدل دليل على وجه خاص، وما يكون كذلك فإنما يكون محمولاً على العرف، ألا ترى أن الناس يوصف بعضهم بالتعليم وبعضهم بعدم التعليم، وهذه الطريقة وإن كانت ظاهرة في المعنى إلا أن الرواية لا تساعدها. وَلا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الأَكْلِ فِي الطَّيْرِ وَلا فِي الْوَحْشِ عَلَى الْمَشْهُورِ أما الطير فلا يشترط فيه عدم الأكل اتفاقاً؛ لأنه لابد له من الأكل غالباً، وأما الوحش فالمشهور كذلك، والقول الشاذ ذكره أبو تمام، ووجهه ما تقدم في حديث عدي: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه"، وحمل في المشهور ذلك على الكراهة؛ لما في أبي داود عنه عليه الصلاة والسلام: "فكل وإن أكل منه" جمعاً بين الأدلة. المازري: وأشار ابن المواز في الاعتذار عن حديث عدي إلى أن حديث الأكل صحبه العمل، وقال به الصحابة رضوان الله عليهم: علي، وابن عمر، وسعد بن أبي الوقاص، وغيرهم رضي الله عنهم، وما صحبه العمل أولى، وأشار ابن حبيب إلى أن حديث عدي قد روي من طريق على معنى حديث الأكل. وقال الباجي: حمل شيوخنا حديث عدي على ما إذا أدركه ميتاً من الجري أو الصدم فأكل منه، فإنه صار إلى صفة لا تعلق للإمساك بها. ويبين هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أمسك الكلب فكل وإن أَخْذ الكلب ذكاته".

وَشَرْطُ الرَّمْيِ: أَنْ يَنْوِيَ اصْطِيَادَهُ، وَإِلا لَمْ يُؤْكَلْ إِلا بالذَّبْحِ، فَلَوْ رَمَى حَجَراً فَإذَا هُوَ صِيدَ لَمْ يُؤْكَلْ كَشَاةٍ لا يُرِيدُ ذَبْحَهَا فَوَافَقَ الذَّبْحَ .... الرمي أحد نوعي الذكاة، فيفتقر إلى النية باتفاق. وخصص [221/أ] المصنف الرمي؛ لأن كثيراً ما يُرمى على غير قصد، قوله: (وَإِلا) أي: وإن لم ينوِ الذكاة، وهو أعم من ألا ينوي شيئاً أو ينوي عدم الاصطياد. وقوله: (إِلا بالذَّبْحِ) ظاهر. وقوله: (كَشَاةٍ لا يُرِيدُ ذَبْحَهَا) أي: بل أراد قطع شيء من عنقها، وهو ظاهر. وَفِيهَا: وَإنْ أَكَلَ الْكَلْبُ أَكْثَرَهُ أَكَلَ بَقِيَّتَهُ مَا لَمْ يَبِتْ، وَاسْتُشْكِلَ تصوره ظاهر، والاستشكال إن كان بسبب أكل الجارح من الصيد فقد تقدم ما فيه، وإن كان لأجل عدم اشتراط المبيت، فسيأتي. وَإِذَا رَمَى بِحَجَرٍ لَهُ حدٌّ، وَلَمْ يُوقِنْ أَنَّهُ مَاتَ بِحَدِّهِ لَمْ يُؤْكَلْ عَلَى الأَصَحِّ القاعدة في هذا ونحوه أنه إذا حصل ما يقتضي الإباحة وما يقتضي عدمها كهذه المسألة فإن الإصابة بالحد والإصابة بغيره غير مبيحة، فإن تيقن أنه مات بالمبيح أكل اتفاقاً، وإن شك لم يؤكل اتفاقاً، وإن ظن أنه مات بالمبيح فالمشهور عدم الأكل. وعلى هذا ففي قوله: (وَلَمْ يُوقِنْ) نظر؛ لإيهامه دخول الخلاف في الشك. وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ الْمُعَلَّمِ الذّبْحُ كَغَيْرِ الصَّيْدِ، وَلَوِ اشْتَرَكَ مَعَ مُعَلَّمٍ فَظُنَّ أَنَّ الْمُعَلَّمَ الْقَاتِلُ فَقَوْلانِ .... أما المسألة الأولى فظاهرة؛ لأن شرط الإباحة وهو التعليم منتفٍ، وأما الثانية فأجراها على القاعدة المتقدمة.

الْمَصِيدُ: الْوَحْشُ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ الْمَاكُولُ فَلَوْ نَدَّتِ النَّعَمُ فَأَمَّا غَيْرُ الْبَقَرِ فَلا تُؤْكَلُ إِلا بِالذَّكَاةِ، وَكَذَلِك الْبَقَرُ خِلافاً لابْنِ حَبِيبٍ ..... لما فرغ من الكلام على الصائد والمصيد به، أتبعه بالكلام على ما يصاد، ومراده أنه إذا اجتمعت القيود الثلاثة اتفق على جواز أكله بالعقر، ومتى ذهب شيء منها أمكن ألا يفيد فيه العقر اتفاقاً. كما لو أمكن ذبح الصيد وأمكن أن يكون مع خلاف كما في مقابل المأكول، فإنه سيأتي في صيد السباع قولان. وقوله: (فَلَوْ نَدَّتِ ... إلخ) راجع إلى القيد الأول وهو الوحش؛ يعني إذا ندت الإنسية فإن كانت غير بقر لم تؤكل بالعقر اتفاقاً، وكذلك البقر على المشهور، خلافاً لابن حبيب، وقال ابن حبيب: لأن البقر لها أصل في التوحش يرجع إليه؛ أي: لشبهها ببقر الوحش. ورد بأن الشاة لها أيضاً أصل وهو الظباء. فإن قلت: ففي مسلم: وأصبنا نهب إبل فند منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم شيء منها فاصنعوا به هكذا". وهو يدل على جواز الكل مطلقاً، فالجواب ليس فيه أن السهم قتله، بل حبسه، ونحن نقول به. وَأَلْزَمَ اللَّخْمِيُّ ابْنَ حَبِيبٍ مِمَّا وَقَعَ فِي مَهْوَاةٍ الْقَوْلَ بِهِ وَفَرَّقَ لِتَحْقِيقِ التَّلَفِ هذا الإلزام للتونسي وتبعه عليه اللخمي وغيره، ومعناه أن اللخمي ألزم ابن حبيب أن يقول في الإبل والبقر إذا ندت فلم يقدر عليها أن تذكى بالعقر، من قوله في الشاة وغيرها إذا وقعت في مهواة أنها تطعن حيثما أمكن ويكون ذكاة لها. والجامع بينهما العجز عن الوصول إلى الذكاة في المحلين. وفرق صاحب الْمُعْلِم وابن بشير بأن الواقع في مهواة يتحقق تلفه لو ترك، فلعل ابن حبيب أباح ذلك صيانة للأموال، بخلاف النَّادِّ فإنه قد يتأنس ويتحيل على أخذه، ابن عبد السلام: وفيه نظر؛ لأن البعير إذا ند أقوى شبهاً بالوحش مما وقع في مهواة، ولو قيل بالعكس في مثل هذا لكان له وجه.

وَلَوْ صَادَ الْمُتَوَحِّشُ مُتَأَنِّساً فَالذَّكَاةُ هذا راجع إلى قوله: (الْمَعْجُوزُ عَنْهُ) وهذا ظاهر؛ لأنه إنما كان يؤكل بالعقر للعجز عن الذكاة، وقوله: (فَالذَّكَاةُ) أي: ذكاة المقدور عليه، فإن توحش هذا بعد أن تأنس أكل بالعقر لرجوعه إلى أصله. وَكَذَلِكَ لَوِ انْحَصَرَ وَأَمْكَنَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ أي: وكذلك لو انحصر المتوحش وأمكن أخذه بغير مشقة، فإنه لا يؤكل إلا بذكاة الإنسي. وفهم من قوله: (بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ) أنه لو أمكن أخذه بمشقة جاز صيده، وهو كقول أصبغ فيمن أُرسل على وكر في شاهق جبل أو في شجرة، وكان لا يصل إليه إلا بأمر يخاف منه العطب، جاز أكله بالصيد. ومن النوادر: وإذا طردت الكلاب الصيد حتى وقع في حفرة ولا مخرج له منها أو انكسرت رجله منها، فتمادت الكلاب فقتلته فلا يؤكل؛ لأنه أسير. محمد: وهذا إذا كان لو تركته الكلاب لقدر بها على أخذه بيده، ولو لجأ إلى غار لا منفذ له أو غَيْضَة فدخلت إليه الكلاب فقتلته لأكل، ولو لجأ إلى جزيرة أحاط بها البحر فأطلق عليه كلابه أو تمادت الكلاب فقتلته، فأما في الجزيرة الصغيرة التي لو اجتهد طالبه لأخذه بيده، ولا يكون له في الماء نجاة، فلا يؤكل، وإن كان له في الماء نجاة أو كانت جزيرة كبيرة يجد الروغان فيها حتى يعجز طالبه- على رجليه أو على فرس- أن يصل إليه بيده إلا بسهم أو كلب، فإنه يؤكل بالصيد. بِخِلافِ مَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْباً ثُمَّ ثَانِياً فَقَتَلَهُ الثَّانِي بَعْدَ إِمْسَاكِ الأَوَّلِ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِيهِمَا، وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، وَفَرَّقَ بِأَنَّ بَقَاءَ إِمْسَاكِ الأَوَّلِ مَوْهُومٌ .... قال صاحب الجواهر بعد ذكره أن الصيد إذا انحصر بموضع لا يؤكل بالعقر: وينخرط في هذا المسلك أن يرسل على الصيد كلباً ثم كلباً، فيمسكه الأول ثم يقتله الثاني؛

إذا كان إرساله بعد أن أمسكه الأول، فإن كان إرساله قبل أن يمسكه الأول فالمنصوص أنه يؤكل. واستقرأ أبو الحسن مما تقدم في الواقع في موضع لا نجاة له أنخ لا يؤكل. انتهى. وقد علمت أن هذه المسألة على صورتين، وأن الصورة الأولى لم يذكر فيها ابن شاس واللخمي وغيرهما خلافاً، وقد نص أصبغ فيها على عدم الأكل، وأن [221/ب] التخريج إنما هو في الثانية، فيحمل كلام المصنف عليها. وقوله: (وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ إِحْدَاهُمَا) أي: كلاًّ منهما على الأخرى؛ أي: خرج من مسألة الإرسال جواز الأكل في الانحصار، ومنها عدم الأكل في الإرسال بجامع القدرة، ويدل على أن مراد المصنف: أن اللخمي خرج من المسألتين قوله: (عَلَى الْمَنْصُوصِ فِيهِمَا)، فإن المنصوص إذا كان في كل واحدة، كان التخريج كذلك، والفرق المذكور للمازري، ولم يجزم ابن بشير به، بل قال: يحتمل أن يكون الأمر كما قال أو يفرق بأن إرسال الثاني مأذون فيه، وإذا أمسكه الأول فليس نحن على ثقة من أنه يداوم إمساكه حتى يأتي صاحبه، بخلاف أن يحصل في موضع يعلم أنه لا نجاة له منه. وقوله: (بَقَاءَ) يقتضي أنه أمسكه قبل أن يرسل الثاني، ولا يصح؛ لما قلناه أن هذه الصورة متفق فيها على عدم الأكل، ومراده أن إمساك الأول موهوم، وعلى هذا فالأَوْلى لو أسقط لفظة بقاء. وَمَا ندَّ مِنَ الْوَحْشِ وَاسْتَوْحَشَ أُكِلَ بالصَّيْدِ هذا ظاهر. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَقَالَ اللَّخْمِيُّ: صَيْدُهَا لِجُلُودِهَا كَذَكَاتِهَا. وَفِيهَا قَوْلانِ، وَقِيلَ: مَبْنَى الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ .... هذا راجع إلى قوله: (مأكولاً) يعني: وأما الصيد المحرم الأكل، فقال اللخمي: مَن أجاز تذكيتها لأجل جلودها وهو المشهور أجاز اصطيادها له، ومَن منع منع، فالضمير في

(وَفِيهَا) عائد على التذكية. ورأينا أن نأتي بكلام اللخمي لما فيه من الفوائد ولفظه: النية في الاصطياد راجعة إلى حال الصيد من جواز أكله ومنعه. والصيد أربعة: حلال، وحرام، ومختلف فيه بالكراهة والتحريم، ومكروه. فالأول: الغزلان وبقر الوحش والإبل، وما أشبه ذلك، والطير ما لم يكن ذا مخلب، فلا يحل اصطياد هذه إلا بنية الذكاة. والثاني: الخنزير يجوز رميه بنية قتله لا لغير ذلك، وليس ذلك من الفساد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لينزلن فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير"، على هذا مذهب مالك أنه يجوز قتله ابتداء إلا أن تصيب الإنسان حاجة إليه تبيح أكله، فيستحب له أن ينوي الذكاة، قاله أبو بكر الوقار. والثالث: الأسد والنمر والفهد والذئب والدب. فعلى القول أنه حرام يكون الحكم فيه حكم الخنزير، إلا أن ينوي الانتفاع بجلده فينوي ذكاته. وعلى القول أنه مكروه يكون بالخيار على أن يرميه بنية ذكاته على كراهة في ذلك، أو بنية القتل إن لم يرد أكله. والرابع: الثعلب والضبع هما عند مالك أخف، وهو بالخيار بين أن يرميه بغير نية الذكاة، وإن شاء نوى الذكاة إن كان يريد أكلهما. انتهى. واعترضه ابن بشير وقال: إنما تصح الذكاة للجلود على القول بالكراهة لا على التحريم، واعترض أيضاً قوله في الضبع والثعلب: إن شاء رماها بنية القتل فقال: إن أراد مع خوف الأذى منهما فظاهر، وإلا فلأي شيء يقتلهما بغير فائدة. وإلى كلام ابن بشير أشار بقوله: (وَقِيلَ: مَبْنَى الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ) أي: إذا قلنا بالكراهة جاز الاصطياد لأخذ الجلد، وإن قلنا بالتحريم فلا. ابن عبد السلام: وقوله: (على القولين) المتبادر إلى الذهن أنهما القولان المنصوصان في جواز ذبحهما لأخذ جلودهما لا المخرَّجان في صيدها. والأقرب بعد التأمل أنه أراد المخرجين لا المنصوصين.

وهو الذي أشار إليه غير اللخمي. وعلى الاحتمال الأول يكون إطلاق القولين عليهما حقيقة، وعلى الثاني يكون مجازاً. وَإِذَا ظَنَّ مُحَرَّماً فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مُبَاحٌ فَالذَّكَاةُ هذا الفرع ظاهر؛ لفقد النية التي هي شرط. وقوله: (فَالذَّكَاةُ) أي: ذكاة الإنسية، وأطلق المصنف تبعاً للمدونة. والمحرم: الخنزير ونحوه، وقسمها اللخمي على ثلاثة أوجه فقال: إن كان يظن أنه سبع فتبين أنه حمار وحش كان على ثلاثة أوجه، فإن لم ينو ذكاته وإنما قصد قتله لم يؤكل هذا، وإن قصد ذكاته إلا أنه يجهل الحكم فيه، أو لأنه يعتقد أنه مكروه جاز أكله، وإن نوى ذكاة جلده خاصة لكان جلد هذا ذكيّاً، ويختلف في لحمه؛ فعلى القول أن الذكاة تتبعض وأن شحوم ما ذبحه اليهود حرام لا يؤكل اللحم، وعلى القول أنها لا تتبعض وأن الشحوم داخلة في الذكاة، وإن لم ينوها الذابح، يكون جميع هذا ذكيّاً. انتهى ونحوه للمازري. فَإِنْ ظَنَّ مُبَاحاً فَإِذَا هُوَ مُبَاحٌ غَيْرُهُ فَقَوْلانِ، وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: خِلافٌ فِي حَالِ إِنْ قَصَدَ الذَََّكَاةَ مُطْلَقاً صَحَّ وَإِلا فَلا ... الجواز لأشهب، والمنع لأصبغ، واختار التونسي واللخمي وابن يونس وغيرهم الأول؛ لأن الذكاة في الجميع واحدة وقد قصدها. وتردد التونسي: هل يجزئ على هذا ما لو ذبح كبشاً يظنه نعجة بعد أن قطع أن الأصوب من القولين قول أشهب. المازري: وهذا أبعد من اختلاف النوعين كالأرنب والظبي؛ لأن النوع واحد في الذكر والأنثى، وإنما يختلف في الصور والطباع. وقد قيل: إن الغالط في بعض صفات الموصوف لا يكون جاهلاً به على خلاف فيه مذكور في كتب الأصول، بخلاف الغالط في الذات وصفاتها.

ابن راشد وشيخنا: وكلام ابن بشير يرفع الخلاف؛ لأن له ثلاثة أحوال: إن قصد عموم الذكاة في المظنون وغيره أكل ما صاده بالاتفاق، وإن قصده بعينه دون غيره لم يؤكل الغير بالعقر اتفاقاً، وإن قصد شيئاً ولم يتعرض لغيره بنفي ولا [222/أ] إثبات فهو محل الخلاف. وَلَوْ أَرْسَلَهُ وَلا ظَنَّ صَحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ ابن راشد وابن عبد السلام: معناه إذا أرسله على بعد، ولم يتبين جنسه من أي المباحات هو بعد قطعه أنه ليس بمحرم. ابن راشد: ولم أقف على هذه المسألة. انتهى. وقد ذكر اللخمي، ولم يذكر فيها خلافاً، ولفظه: ولو رمى وهو يرى أنه صيد ولا يعرف أي صنف هو لجاز أكله، وليس من شرط الجواز أن يعلم جنسه. ويحتمل أن يريد به ما ذكره ابن بشير ولفظه: وإذا أرسل ولم يقصد شيئاً، وإنما قصد ما يأخذه فهل يكتفي بذلك وتصح ذكاة ما أخذه؟ فيه قولان: أحدهما: الصحة، والثاني: عدمها، وهذا يشعر بالخلاف في وجوب التعيين وعدمه. وإلى حمل كلام المصنف على هذا ذهب ابن هارون. وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحمله على وجه آخر؛ وهو إذا أرسل كلبه في غار لا يدري هل فيه صيد أم لا؟ وقد ذكر ابن الجلاب مسألة الغار ونص فيها على الأكل. وصرح المازري بأن المشهور لا يشترط رؤية الصيد بل يجوز الإرسال على ما وراء أَكَمَة، وما في مغارة خلافاً لأشهب. وحكى صاحب البيان وجماعة من الشيوخ في الغار والغَيْضَة ثلاثة أقوال؛ قال أصبغ وابن المواز بالأكل فيهما، وقال سحنون: لا يؤكل فيهما. وفرق ابن القاسم فقال: يؤكل ما في الغار، ولا يؤكل ما في الغيضة لاحتمال أن يدخل الصيد فيها بعد الإرسال، وذلك مأمون في الغار. وتمشية شيخنا أولى، وظاهر كلام ابن هارون ليس بعيداً منه، والله أعلم.

وَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى شَيْءٍ فَأَخَذَ غَيْرَهُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى جَمَاعَةٍ وَنَوَى مَا أَخَذَ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا أَكَلَ وَإِنْ تَعَدَّدَ، وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ .... لم يؤكل غير المرسَل عليه لعدم النية، وكذلك قال ابن القاسم: إذا أرسله على جماعة ينويها، ولم ينو غيرها، أنه لا يؤكل ما أصاب من غيرها. وما ذكره من الأكل فيما إذا أرسله على جماعة ونوى ما أخذ منها أو من غيرها- هو المشهور. وخالف ابن المواز في الكلب فقال: إن أخذ اثنين أو أكثر في مرة واحدة أُكِل ما أخذ، وإن أخذ واحداً بعد واحد لم يؤكل إلا ما أخذه أولاً. ووافق على السهم أنه يؤكل جميع ما قتله. والفرق عنده أن الكلب يفتقر إلى إرسال ثانٍ بعد الأول، بخلاف السهم. وقوله: (أَوْ مِنْ غَيْرِهَا) كقول مالك: إذا أرسله على جماعة ونوى إن كان وراءها غيرها فهو عليها مرسل، فليؤكل ما أخذه من سواها. ونقل عن أشهب أنه لا يؤكل ما وراء تلك الجماعة. فائدة: ينشأ من هنا قاعدة؛ وهي: إن كان الصيد معيناً أكل، كان المكان محصوراً أم لا، وإن لم يكن الصيد معيناً وكنا المكان محصوراً كالغار والغيضة فثلاثة أقوال كما تقدم، وإن لم يتعين الصيد ولا انحصر المكان كما لو أرسل كلب على أي صيد وجده بين يديه فلا خلاف في المذهب أن ذلك لا يجوز، قاله المازري وابن هارون وابن عبد السلام. فإن قلت: ينتقض هذا الاتفاق مما نقلته عن مالك أنه إذا أرسله على جماعة ونوى إن كان وراءها غيرها فهو مرسل عليه. فالجواب: لعل مالكاً إنما أجاز تبعاً للمعين أولاً، والله أعلم. وَلَوِ اضْطَرَبَ الْجَارِحُ، فَأُرْسِلَ وَلَمْ يُرَ فَقَوْلان بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ كَالْمُحَقَّقِ أَوْ لا أي: أن الغالب إنما يضطرب لرؤية الصيد، فإذا اضطرب وأرسله وقتل صيداً، فقولان وهما لمالك، أحدهما: جواز الأكل للغالب. والثاني: المنع لكونه لم يرَ شيئاً. وفي

العتبية لابن القاسم: لا أحب له أن يأكله، ولعله يضطرب على صيد فيأخذ غيره. قال في البيان: وهذا إذا نوى ما اضطرب عليه خاصة، وأما لون واه وغيره فإنه يؤكل على معنى ما في المدونة في الذي يرسل كلبه على جماعة منا لصيد وينوي إن كان وراءها جماعة أخرى ولم يرها، فأخذ مما لم يرَ، أنه يأكله. قال: ومن الناس من حمل هذه الرواية على الخلاف؛ لما في المدونة مثل قول أشهب: أنه لا يصح أن ينوي إرساله ما لم يره. والتأويل الثاني أظهر. وَمَهْمَا أَمْكَنَتِ الذَّكَاةُ تَعَيَّنَتْ، وَإِلاَّ كَفَى عَقْرُهُ وَجَرْحُهُ بخِلافِ صَدْمِهَا أَوْ عَضِّهَا مِنْ غَيْرِ تَدْمِيَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ بسَيْفٍ فَلَمْ يُدْمِهِ ... لأنه إنما جاز العقر لعدم القدرة على الذكاة الأصلية. قوله: (وَإِلاَّ كَفَى عَقْرُهُ) أي: وإن لم تمكن الذكاة، وذلك إذا مات قبل إدراكه ولم يفرط في تناول الآلة كما سيأتي. ونص ابن المواز على الأكل إذا أدمته في أذنه. عياض: ولا خلاف متى أدمته أنه يؤكل. ومقابل المشهور لابن وهب وأشهب، ومنشأ الخلاف: هل يحمل قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكَّنَ عَلَيْكُمْ ([المائدة: 4] على عمومه، أو يحمل على الغالب؛ لأن الغالب أنه إنما يكون الإمساك مع تدميته. وقوله: (كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ بسَيْفٍ)؛ أي فتأتِّي فيه القولان. المازري: وقد ذكر ابن المواز عن أشهب إباحة الأكل إذا مات الصيد بصدمة الكلب أو ضربة السيف ولم يجرح، ومحمله عندي بحد السيف لا بعرضه، وابن المواز أطلق الحكاية. انتهى. لأنه إذا أصابه بالعرض في معنى المعراض إذا أصابه بغير حده. وقد نص في الحديث على عدم أكله. اللخمي وصاحب التنبيهات: وإن مات من غير فعل كخوف أو سقوط وما [222/ب] أشبه ذلك لم يؤكل اتفاقاً.

التونسي: ولم يذكروا خلافاً في الذي مات في الجري من طلب الكلب له، وفي ذلك نظر. وفي التنبيهات: ولا خلاف إذا مات بسببها ولم تمسه، من انبهار أو سقوط وشبهه، أنه لا يؤكل. وفهم اللخمي خلافاً إذا أُنيبَتْ ولم تدمِ ولم تجرح، وجمعها مع مسألة الضرب والصدم، ولا يصح تنييب إلا بإدماء وإن قل، وهو مقتضى قوله في الكتاب في موضع آخر: إن لم تُنَب ولم تدمِ، ثم لم يذكر الإدماء في سائر المواضع. وحكى صاحب الذخيرة عن أشهب جواز الأكل إذا مات الصيد انبهاراً، ولعله حكاه عنه إلزاماً من قوله في الصدم والعض. ويدخل في قوله: (وَمَهْمَا أَمْكَنَتِ الذَّكَاةُ تَعَيَّنَتْ) لو أدرك الصيد حيّاً ولم يقدر على خلاصه. قال في البيان: ولو ذكى الصائد الصيد والكلاب تنهشه، وهو لا يقدر أن يخلصه منها لأكل باتفاق. انتهى. خليل: وفي هذا الاتفاق نظر، فإن من يشترط في التعليم الانزجار لا يرى أكل الصيد هنا، وهكذا قال اللخمي، والله أعلم. وَالْمَنْفُوذُ مَقَاتِلُهُ يَضْطَرِبُ حَسَنٌ أَنْ تُفْرَى أَوْدَاجُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ أُكِلَ إنما استحسن ذلك إراحة له. وقد اختلف في الحيوان الذي يؤكل إذا بلغ إلى حد الإياس، فأجاز ابن القاسم ذبحه إراحة، وقيل: بل يعقر ولا يذبح؛ لئلا يكون تشكيكاً للعوام في إباحة أكله، ومنع من ذلك ابن وهب. فَلَوْ تَرَاخَى فِي اتِّبَاعِهِ فَإِنْ ذَكَّاهُ قِيلَ: إِنْ تُنْفَذْ مَقَاتِلُهُ أُكِلَ بالذَّبْحِ لا بالصَّيْدِ وَإِلا فَلا، إِلا أَنْ يَتَحَقََّقَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَراخَ لَمْ يُفِدْ، وَهَذَا يَظْهَرُ فِي السَّهْمِ .... يعني: أنه يجب على الصائد اتباع جارحه رجاء أن يدركه حيّاً فيذبحه. ابن عبد السلام: وظاهر ما حكاه ابن القصار عن مالك من جواز أكله إذا لم يتبعه ووجده ميتاً أن اتباعه من باب الأولى. وقوله: (أُكِلَ بالذَّبْحِ لا بالصَّيْدِ) ظاهر.

قوله: (وَإِلا فَلا) أي: وإن يدركه قبل إنفاذ المقاتل لم يؤكل إلا أن يتحقق أنه لو لم يتراخً لم يلحقه فيؤكل بالعقر وإن تراخى. وربما يظهر في بعض الجوارح في سرعة جريه وشدة بطشه، وهو في السهم أظهر كما قال المصنف. وَلَوْ غَابَ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيْتاً فِيهِ أَثَرُ كَلْبِهِ أَوْ سَهْمِهِ أَكَلَهُ مَا لَمْ يَبِتْ، فَإِنْ بَاتَ لَمْ يَأكُلْهُ وَلَوْ أُنْفِذَتْ مَقَاتِلُهُ، قَالَ مَالِكَّ: وَتِلْكَ السُّنَّةُ. وَعُورِضَ بنَقْلِ خِلافِهِ وَانْفِرَادِهِ .... اللخمي: وإذا أرسل على صيد ثم أتَّبعه وأعجزه حتى توارى عنه، ثم وجده قتيلاً، فهو على أربعة أوجه: يجوز أكله في وجهين: إذا عرف أنه الصيد المرسل عليه وإن لم يكن بازيُّه معه ولا فيه سهمه، أو وجد فيه سهمه أو معه بازيَّه أو كلبه، فإن لم يعرفه ولا وجد فيه سهمه ولا معه بازيَّه لم يؤكل، وهذا هو قول مالك عند ابن حبيب. ومثله إذا وجد معه بازيَّه ولم يعرفه، ويقربه صيد يشككه فيه، فقال ابن القاسم في العتبية: لا يؤكل. يريد إذا كان الاثنان قتيلين. وإن كان مع آخر حي أكل الميت؛ لأن الغالب أن المرسل أخذ ما رآه، وكذلك سهمه، إلا أن يتركه على التنزه. وهذا في البازي والكلب، وأما السهم فلا لأنه لا يتأتى منه التنقل. قوله: (فَإِنْ بَاتَ لَمْ يَاكُلْهُ) هو المشهور. قال في المدونة: وإن بات لم يأكله وإن أنفذت مقاتله الجوارح أو سهمه وهو فيه بعينه. قال مالك: وتلك السنة. وفي هذه المسألة غير مذهب المدونة أربعة أقوال: أولها لأصبغ وابن عبد الحكم: يؤكل وإن بات كان المصيد به جارحاً أو سهماً. وثانيها لابن المواز: إن كان بسهم ووجد في مقاتله أُكل، وإن كان بجارح لم يؤكل. وثالثها لمالك في مدونة أشهب: يكره، هكذا حمله اللخمي على ظاهره، وحمله بعضهم على التحريم.

ورابعها: حكاه اللخمي والمازري عن ابن الماجشون: إن وجده من الغد منفوذ المقاتل أُكل في السهم والجارح، وإن لم يجده منفوذ المقاتل لم يؤكل، وعلى هذا فالخلاف مطلق أنفذت مقاتله أم لا. وقصر ابن رشد الخلاف على ما إذا وجده من الغد منفوذ المقاتل. وعورض ما قاله مالك بنقل خلافه، وقد تقدم في حديث عدي الأكل بعد الثلاث، وفي بعض طرقه: كُلْهُ ما لم ينتن. وقوله: (بانفراده)، ابن عبد السلام: أي انفرد بنقل ما نسبه إلى السنة، وليس بصحيح؛ لأنه يوافقه في ذلك حديثان: الأول: ذكره أبو داود في مراسيله، قال: جاء رجل بصيد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رميته من الليل، فأعياني ووجدت سهمي فيه من الغد، وقد عرفت سهمي، فقال: "الليل خلق من خلق الله عظيم، لعله أعانك عليه شيء انبذها عنك". الثاني: ورد قريب منه في بعض طرق عدي انتهى بالمعنى. والظاهر أن المراد بالانفراد عدم الموافق له في مقالته: لأنه لم ينقل غيره ما نقل، فإنه لا عبرة بذلك. ونقل مالك وحده كافٍ في الثبوت. وَإِنْ لَمْ يَبِتْ وَلَكِنَّهُ تَرَكَهُمَا وَرَجَعَ لَمْ يَأَكُلْهُ؛ إِذْ لَعَلَّهُ لَوْ طَلَبَهُ كَانَ يَدْرِكُ ذَكَاتَهُ الضمير في (تَرَكَهُمَا) راجع إلى الصيد والجارح أو السهم، ولم يأكله لتفريطه. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى خَلاصِهِ مِنْهَا فَذَكَّاهُ وَهُوَ فِي أَفْوَاهِهَا لَمْ يُؤْكَلْ إِلا أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ذَبْحِهِ ... لأنه لما قدر عليه تعينت الذكاة، واستثناء المصنف اليقين يمنع ما [223/أ] إذا ظن أنه مات من الذكاة، وهو المشهور كما تقدم. وقال في المدونة: ولو قدر على خلاصة منها فذكاه وهو في أفواهها تنهشه فلا يأكله؛ إذ لعله من نهشها مات، إلا أن يوقن أنه ذكاه وهو مجتمع الحياة قبل أن تُنفِذ هي مقاتله، فيجوز أكله وبئس ما صنع.

فرع: قال في المدونة: قال مالك رحمه الله: ومن رمى صيداً في الجو، فسقط فأدركه ميتأً، فأصاب السهم لم ينفذ مقاتله لم يؤكل؛ إذ لعله من السقطة مات. وكذلك إن رمى صيداً في الجبل فتردى من الجبل فمات لم يؤكل. ابن القاسم: إلا أن يكون قد أنفذت مقاتله بالرمية. وحمل بعض الشارحين على مالك أنه لا يؤكل الصيد ولو ذكاه وهو متيقن الحياة، خلاف ما نص عليه ابن القاسم. ابن عبد السلام: وهو بعيد؛ لأن مالكاً علل منع الأكل بالشك، ولا شك مع اليقين. قال هذا الشارح: إذا ذبح البهيمة في جوف الماء أكلت. وقال ابن نافع: لا تؤكل، فألزم مالكاً التناقض بين المسألتين، ورأى أن قياس قوله في الصيد على ما فهمه: أنه لا يؤكل ما ذبح في الماء، وهذا الإلزام أيضاً ضعيف على تقدير تسليمنا له ما فاته في الكتاب، والفرق أن نهيش الكلاب أسرع قتلاً من الماء؛ لأن النهشة الواحدة تنفذ المقاتل، فلم يستويان. انتهى بمعناه. ومن هذا المعنى لو رماه فسقط في ماء. وفي الموازية والعتبية عدم الأكل فيمن رمى بسهم مسموم، قال: إذ لعل السم قتله أو أعان على قتله، وأخاف على مَن أكله. وَلَوِ اشْتَغَلَ بآلَةِ الذَّبْحِ وَهِيَ فِي مَوْضِعٍ يَفْتَقِرُ إِلَى تَطْوِيلٍ فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَوْ فِي كُمِّهِ وَشِبْهِهِ فَمَاتَ أُكِلَ .... يعني: أن الصائد كما يلزمه أن يجدَّ في اتباع الصيد كذلك يلزمه أن يُعدَّ آلة الذبح في محل متيسر، وإن استصحبها في محل لا يصل إليه إلا بتطويل فلا يؤكل الصيد لتفريطه. ابن عبد السلام: وخالف عبد الملك في اشتراط حمل السكين. وذكروا من مواضع الاستعداد اليد والكم والخف والحزام، ومن مواضع التفريط الخرج ويد غيره. محمد: إلا أن يموت في قد رما لو كانت شفرته في يده لم يدرك ذكاته فيؤكل.

فَلَوْ مَرَّ إِنْسَانٌ وَأَمْكَنَتْهُ الذَّكَاةُ فَتَرَكَهَا فَفَاتَ فَالْمَنْصُوصُ: لا يُؤكَلُ وَيَضْمَنُهُ الْمَارُّ، وَقِيلَ: فِي ضَمَانِ الْمَارِّ قَوْلانِ بنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْكَ كَالْفِعْلِ أَوْ لا أي: إذا رمى صيداً أو أرسله عليه، فمر به إنسان وهو يتخبط وأمكنته الذكاة فلم يذكه حتى جاء صاحبه فوجده مات، لم يأكله لأن المار يتنزل منزلة ربه في كونه مأموراً بذكاته، فلما لم يذكه صار ميتاً. وإلى هذا أشار بقوله: (فَالْمَنْصُوصُ: لا يُؤْكَلُ وَيَمْنَهُهُ الْمَارُّ) أي: المنصوص لابن المواز. وأجرى ابن محرز وغيره من المتأخرين في تضمينه قولين، على الخلاف في الترك: هل هو كالفعل أم لا؟ أي: هل تركه كفعل التفويت أم لا؟ قيل: وعلى نفي الضمان فيأكله صاحبه. واختار اللخمي نفي الضمان، قال: وإن كان يجهل أنه ليس له أن يذكيه كان أبين في نفي الضمان، ولو مر بشاة يخشى عليها الموت، فلم يذبحها حتى ماتت، لم يضمن شيئاً؛ لأنه يخشى ألا يصدقه ربها أنه خاف عليها الموت فيضمنه، وليس كالصيد؛ لأنه يراد للذبح. انتهى. واحترز بقوله: (وَاَمْكَنَتْهُ الذَّكَاةُ) مما إذا لم يره، أو رآه ولكن ليس معه ما يذكيه به، فإنه يؤكل ولا ضمان عليه، وكذلك قال اللخمي. وَحُمِلَ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَتَرْكِ تَخْلِيصِ مُسْتَهْلَكٍ نَفْساً أَوْ مَالاً بيَدِهِ أَوْ شَهَادَتِهِ أَوْ بِإمْسَاكِ وَثَيقٍ، أَوْ بِتَرْكِ الْمُوَاسَاةِ بخَيْطٍ لِجَائِفَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِتَرْكِ الْمُوَاسَاةِ الْوَاجِبَةِ بفَضْلِ طَعَامٍ أَوْ مَاءٍ لِحَاضِرٍ اوْ مُسَافِرٍ أَوْ لِزَرْعٍ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمُوَاسَاةِ بعُمُدٍ أَوْ خَشَبٍ فَيَقَعُ الْحَائِطُ قَبْلَ رَمِّهِ، أَمَّا لَوْ قَطَعَ وَثِيقَةً فَضَاعَ مَا فِيهَا ضَمِنَ، وَلَوْ قَتَلَ شَاهِدَيْ حَقٍّ احْتَمَلَ ... أي: وحمل على هذا الخلاف فروع. وقوله: (بيَدِهِ) متعلق (تَخْلِيصِ)، و (نَفْساً) منصوب على التمييز تقديره: كترك تلخيص مستهلك من نفس أو مال بيده أو بشهادته، وتصور الفروع المذكورة ظاهر. وأما تقطيع الوثيقة فقال ابن بشير: لا يختلف في ضمانه،

قال: ودون هذا في المرتبة أن يقتل شاهديه اللذين يشهدان بالحق له، فإن هذا لم يتعدَّ على نفس الشهادة، وإنما تعدى على سببها، فهو بلا شك أضعف من الأول. وقوله: (احْتَمَلَ) أي: الخلاف بالضمان قياساً على الوثيقة وعدمه؛ لأنه قد لا يقصد قتلهما لإبطال الحق بالعداوة ونحوها، وقد نص متقدمو أهل المذهب على أن المرأة إذا قتلت نفسها كراهة في زوجها، وأرادت سخ نكاحها أن الصداق لا يسقط. وكذلك إذا قتل سيد الأمة المتزوجة أمته. ونص في المدونة في كتاب حريم البئر على مسألة منع الماء، وأوجب فيه الدية، فقال في مسافرين مروا بماء فمنعهم أهله الشرب منه: أن للمسافرين قتال أهل الماء، وإن لم يقدر المسافرون على دفعهم حتى ماتوا عطشاً فدياتهم على عواقل المانعين، والكفارة على كل نفس منهم على كل رجل من أهل الماء، مع وجيع الأدب، واختلف حيث قلنا: تجب المواساة [223/ب] بطعام او نحوه مما ذكر هل بعوض أم لا؟ على قولين: مذهب المدونة ثبوته إذا كان معهم ثمن؛ لأن الواجب الإعطاء، ولم يقع الدليل على نفي الثمن. ابن يونس: ولا يشترطوا عليهم في ثمنه. قال أِهب: في مثل هذا لا شيء عليهم إذا لم يكن معهم ثمن. وذكر اللخمي خلافاً هل يُتبعون إذاأيسروا أو لا؟ واستظهر بعضهم نفي العوضية؛ لأنه الأصل في الواجب. بعض القرويين: إنما كانت الدية على عاقلة المانعين إذا مات المسافرون عطشاً؛ لأنهم لم يقصدوا قتلهم، وإنما تأولوا أن لهم منع مائهم، وذلك مما يخفى على بعض الناس. ولو قصدوا منعهم بعد علمهم بأن ذلك لا يحل، وأنهم إن لم يسقوهم ماتوا لأمكن أن يقتلوا بهم. وخرج اللخمي ذلك على الخلاف فيمن تعمد شهادة الزور في شهادته حتى قُتل بها المشهود عليه، فقد قيل: يقتل الشاهد، ومذهب المدونة: لا قتل عليه.

وَلَوْ غَصَبَ مَا صَادَ بِهِ، وَفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لِلْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ عَبْداً فَلِمَالِكِهِ اتِّفَاقاً، وَإِنْ كَانَ كَالسَّيْفِ وَالشَّبَكَةِ وَالْحَبْلِ فَلِلْغَاصِبِ اتِّفَاقاً، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَالْفَرَسُ كَالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ جَارِحاً فَعَلَى قَوْلَيْنِ، بنَاءً عَلَى التَّشْبيهِ بهِمَا أي: إذا فرعنا على المشهور فإنه لا غلة للغاصب، وإنما هي لرب المغصوب. وقوله في العبد: (فَلِمَالِكِه اتِّفَاقاً) معنى ذلك أنه ليس واجباً له على التعيين، وإنما هو مخير فيه أو في تركه وأخذ قيمة عمله، نص عليه ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون. وألحق ابن القاسم الجارح بالعبد، وألحقه أصبغ وسحنون بالفرس. واختار اللخمي وابن رشد قول ابن القاسم؛ لأن الجارح هو الكاسب، وحكم الصائد تبع فكان الحكم لأقواهما سبباً، ويكون للغاصب بقدر تعبه. فرع: قال ابن شعبان في رجلين أرسل أحدهما كلبين على صيد، وأرسل الآخر عليه كلباً واحداً، فإن الصيد يكون بينهما نصفين. وكذلك لو كان الكلب الواحد لرجلين؛ لواحد ثلثه وللآخر ثلثاه، فأرسلاه على صيد، فإن الصيد يكون بينهما نصفين. اللخمي: وليس هذا أصل المذهب، بل المذهب قسمة الصيد على عد الكلاب المرسلة، أو على نسبة الأجزاء في الكلب الواحد، كالعبد والدابة فإن منافعهما تقسم على قدر الإملاك في كل واحد منهما. المازري: وهذا الذي أنكره على ابن شعبان، ورأى أنه ليس أصل المذهب، ليس كما ظن رحمه الله فقد اختلف في الكلب إذا غصب فصيد به، ففي أحد القولين أن الصيد للغاصب والكلب في حكم الآلة، فعلى هذا يكون الذي قاله ابن شعبان له وجه، وذلك إذا جعلنا فعل الكلب واقتناصه في حكم التبع، والصيد إنما حصل بالصائد فلذلك لم يعتبر تعدد الكلاب، والله أعلم.

وأَمَّا لَوْ طَرَدَ طَارِدٌ الصَّيْدَ قَاصِداً أَنْ يَقَعَ فِي الْحِبَالَةِ وَلَوْلاهُمَا لَمْ يَقَعْ فَبَيْنَهُمَا بحَسَبِ فِعْلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَهُوَ عَلَى إِيَاسٍ فَلِرَبِّهَا، وَعَلَى تَحْقِيقِ بغَيْرِهَا فَلَهُ ... أي: إذا نصب شخص حِبالة، وهي الشرك، وفي معناه جميع ما ينصب للصيد من حفرة وغيرها، فطرده شخص ليقع في الحِبالة ولولا الطارد والناصب لم يقع، فالصيد بينهما بحسب فعليهما، فيقال: إذا كانت أجرة الناصب تساوي نصف درهم وأجرة الطارد تساوي درهماً فللطارد ثلثاه، وللناصب ثلثه. وقال أصبغ: يكون للطارد خاصة وعليه للناصب أجرة الحبالة. كمن رمى بسهم رجل فصاد به أو كلبه أو بازيِّه. عبد الحق: وهو القياس. وإنما استحسن ابن القاسم الشركة؛ لأن المبتغي من جميعهم هو الاصطياد، بخلاف التعدي على سهم الغير أو بازيه. قال في البيان: ولو قيل إن الصيد يكون للناصب، ويكون عليه للذين طردوا الصيد أجرة مثلهم إلا أن يشاء أن يسلم الصيد إليهم، قياساً على قول ابن القاسم في الذي يتعدى على كلب رجل أو بازيه، فيصيد به صيداً لكان قولاً. وقوله: (وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ) أي: إن لم يقصد الطارد إيقاعه في الحبالة وكان آيساً من أخذ الصيد، ثم اتفق وقوع الصيد في الحبالة، فهو لربها. قوله: (وَعَلَى تَحْقِيقٍ)؛ يعني: وإذا كان الطالب أعيي الصيد، وتحقق أخذه ولم يرد إيقاعه فيها، فلما أشرف على أخذه وقع في المنصب، فهو للطارد. اللخمي: ثم ينظر في أجرة الحبالة؛ فإن كان الطارد لم يردها لم يكن عليه أجرة لأنه كان في غنى عنها، وإن كان عالماً ورده إليها كان عليه الأجرة لأنه قصد الانتفاع بها. وفي البيان: انظر لو كانوا لما طردوه وأعيوه، وهم لا يريدون إيقاعه في المنصب، فلما أشرفوا على أخذه قصدوا إيقاعه في المنصب ليخفَّ عنهم في أخذه بعض التعب، فلم يقع في ذلك في العتبية ولا في الواضحة بيان. والذي ينبغي في ذلك أن يكون لهم ويكون عليهم لصاحب

المنصب قيمة انتفاعهم، وكذلك ينبغي أن يكون الجواب لو طردوا صيداً إلى دار رجل فأخذوه فيها. وقد حكى عبد الحق في ذلك عن بعض شيوخه قولين: أحدهما: أنه لا حق لصاحب الدار في ذلك؛ لأن الدار لم تُتخذ للصيد. والثاني: أن يكون معهم شريكاً [224/أ] فيه كالمنصب، وكلا القولين عندي بعيد، وما قلناه أولى. انتهى. وقال ابن حارث: اتفق ابن القاسم وأِهب في الذي ينظر إلى صيد، فيتبعه ويطرده حتى يضطره إلى دار رجل، أنه للذي يطرده إلى دخول الدار، ولا شيء فيه لصاحب الدار. واختلفا إذا لم يطرده للدار، وكان الصيد هو الذي دخل دار الرجل، فقال ابن القاسم: هو لصاحب الدار خاصة. وقال أِهب: هو للذي كان يتبعه خاصة. انتهى. وَيُمَلَّكُ بالصَّيْدِ، وَلَوْ نَدَّ الصَّيْدُ لِصَاحِبِهِ فَصَادَهُ ثَانٍ، فَثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: إِنْ طَالَ وَلَحِقَ بِالْوَحْشِ فَلِلثَّانِي .... يملك الصائد بالاصطياد؛ لأنه مباح في الأصل، فلو ند بعد أن صيد فصاده آخر فقال اللخمي والمازري وصاحب الجواهر: إن كان تأنس عند الأول وأخذه الثاني قبل أن يتوحش كان للأول اتفاقاً. اللخمي: واختلف إذا كان أخْذُ الثاني له بعد أن توحش، أو كان ندوده قبل أن يتأنس على ثلاثة أقوال: فقال مالك هو للآخذ، وبه أخذ ابن القاسم. وقال مرة: إذا نَدَّ بعد أن تأنس كان للأول ولو توحش، وإن نَدَّ قبل أن يتأنس عند الأول فهو للثاني، وبه أخذ ابن الماجشون. وقال ابن عبد الحكم: هو للأول وإن لم يتأنس عنده، ولا يزول ملكه عنه وإن قام عشرين سنة. وهو أبين لأن الأول قد تقدم ملكه عليه بنفس أخذه، وانفلاته لا يزيل ملكه بمنزلة لو كان عبداً فأبق. انتهى. وفي الجواهر: مذهب الكتاب أنه للثاني في الصورتين. وعلى هذا فإطلاق المصنف الخلاف ليس بجيد، وكذلك ما شهره مخالف لمذهب الكتاب على ما قاله في الجواهر، ولا أخذ به ابن القاسم على ما قاله اللخمي. وفي بعض النسخ إسقاط المشهور وهو أولى،

لكن في أخذ الصورتين من لفظ المدونة نظر؛ لأن الذي فيها: وإذا دجن عندك صيد ثم ند فصيد بحدثان ما عند ولم يتوحش فهو لك، وإن لم يؤخذ بحدثانه وقد لحق بالوحش، فهو لمن صاده ظبياً كان أو بازيّاً أو غيره. انتهى. فأنت تراه لم يتكلم على ما إذا لم يتأنس عند الأول بشيء، سواء لحق بالوحش أم لا، ولهذا عين المازري المشهور فيما إذا تأنس ولحق بالوحش، فقال: إن لحق بالوحش وصار من جملته بعد التانس فالمشهور من المذهب أنه للثاني. وقال ابن عبد الحكم: إنه للأول. واختلف أيضاً إذا لحق بالوحش قبل أن يتأنس عند الأول، فقال محمد بن عبد الحكم: هو للأول. وقيل: هو للثاني وفي الذخيرة: اتفقوا على الحربي يؤسر ثم يأبق إلى بلاد الحرب ثم يؤسر أنه للأول، وهو شديد الشبه بالصيد. وفرق بعض أصحابنا بأن الحربي له من يمنعه، والصيد بقي دون مانع كموات الأرض إذا حيي ثم خرب. انتهى. وحكى في الجواهر قولاً رابعاً، فقال بعد ذكر الثلاثة: وقيل: إن طال مقامه عن الأول فهو للثاني، وإن لم يطل فهو للأول. واعلم أن قول المصنف في القول الثالث: (طَالَ) ليس بظاهر؛ لأنه يقتضي أنه إنما يكون للثاني لمجموع الطول والتوحش، ومذهب المدونة الاكتفاء بالتوحش، ولهذا لم يذكر صاحب الجواهر الطول في القول الثالث، وحيث حكمنا به للأول فالمنصوص أنه يغرم للثاني أجر تعبه في تحصيله، واعترض بمسألة الآبق، فإنهم لم يجعلوا له جُعلاً إلا بشرط أن يكون شأنه طلب الإباق. خليل: وقد يفرق بأن ملك الثاني للصيد قوي بدليل أنه له على بعض الأقوال، وهو لم يدخل إلا على تملكه، فإذا لم يقض له به فلا أقل من أن يأخذ أجر تعبه، بخلاف العبد لأنه إن أخذه دخل على أنه لغيره فهو متبرع.

وَعَلَيْهِ فِي تَعْيِينِ مُدَّعِي الطُّولِ قَوْلانِ ظاهره، وعلى الثالث في كلامه: وإنما جعله في الجواهر مفرعاً على الرابع، وإنما جاء هذا والله أعلم من إتيان المصنف بقوله: (طَالَ) في القول الثالث، ولهذه المسألة صورتان: إحداهما: أن يقول الثاني: ندَّ منك عن بعد، ويقول الأول: بل ند عن قرب. والثانية: أن يقول الأول: ند مني عن قرب، ويقول الثاني: لا أدري. ونص في الجواهر على أن الخلاف فيهما متحد، وأن مذهب ابن القاسم أنه للثاني فيهما، ومذهب سحنون أنه للأول فيهما، وسبب الخلاف تعارض أصلين؛ وهما: وضع اليد، واستصحاب الملك الأول. وحمل ابن عبد السلام كلام المصنف على الأول، وحمله ابن هارون على الثانية. وما قاله ابن عبد السلام أظهر؛ لأن الأول في الصورتين لا يدعي الطول. والمصنف قال: (مُدَّعِي الطُّولِ)، وذلك لا يمكن إلا إذا ادعى الثاني الطول. فَلَوْ نَدَّ مِنْ مُشْتَرٍ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: مِثْلُهَا، وَقَالَ ابْنُ الْكَاتِبِ: لِلْمُشْتَرِي يعني: أن المسألة الأولى مفروضة فيما إذا ند من صائد، وأما لو ند من مشتر فقال ابن المواز: هو للآخر. وهكذا نقل التونسي واللخمي عنه. وكلام المصنف يوهم أن محمداً قال: إن الأقوال السابقة تأتي هنا، وقد أجراه ابن عبد السلام على ظاهره من أن محمداً أجرى الأقوال. وقال ابن الكاتب: بل يكون هذا للأول على كل حال قياساً على من أحيا ما دثر مما أحياه غيره بعد أن اشتراه، بخلاف الصورة الأولى فإنه بمثابة من أحيا ما دثر مما أحياه غيره من غير شراء. ابن عبد السلام: وفي التشبيه نظر؛ لأن الشراء إن كان من مالك كان ذلك مانعاً من إلحاق [224/ب] مسألة الصيد بها، وإن كان ممن حجر فالموات لا يستحق بالتحجير فلا أثر للتحجير عندنا بالبيع في غير محل.

خليل: وفي كلامه نظر، والظاهر أن ابن الكاتب لم يرد ما ذكره، بل مراده: من اشترى ممن ملك بإحياء ثم دثرن ولا شك أنه كالصيد، والله أعلم. وَلَوْ رَأَى وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ صَيْداً فَبَادَرَ غَيْرُهُ فَلِلْمُبَادِرِ، فَإِنْ تَنَازَعُوا وَكُلِّ قَادِرٌ فَلِجَمِيعهِمْ لأن الصيد إنما يملك بوضع اليد عليه لا بالنظر. وأما الثانية فإنما جعل لهم قطعاً للنزاع ولعدم ترجيح بعضهم. وَمَا قُطِعَ مِنَ الصَّيْدِ إِنْ كَانَ نِصْفَهُ أَوْ كَثِيراً مِنْهُ أُكِلَ، وَإِنْ كَانَ يَسِيراً لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ قَتَلَ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخِلافِ الرَّاسِ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَهُ حاصله: إن قطع النصف أو الأكثر أكل الجميع، وإن قطع الأقل فهو على قسمين: إن أمكن أن يعيش معه لم يؤكل المقطوع اتفاقاً، وأما بقيته فتؤكل بلا خلاف. والأصل فيه ما رواه الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما أُبِينَ من حيٍّ فهو ميِّت"، وإن لم يمكن أن يعيش معه فهو أيضاً على قسمين: إما أن يكون عدم الحياة من نفس القطع، وفيه قولان: المشهور: أنه لا يأكله، وفي الجلاب الأكل، قال: وإن قطع رأسه أو وسطه أو ما لا حياة له بعده جاز أكله. وإما أن يكون بسبب منفصل كما لو قطع خطمه، فإن كان ذلك سبباً للموت لا من نفس القطع، بل لأنه سبب للجوع اللازم عن القطع ولو قدر أن يجعل في حلقه ما يتغذى به لعاش، فهو ملحق بما لا يكون عنه موت. ابن عبد السلام: وهذه طريقة البغداديين، ومال إليها كثير من المغاربة، وجمهور المتقدمين على أن اليسير لا أثر له إلا أن يكون الرأس. ابن هارون: فإنه يؤكل اتفاقاً. انتهى. وفي الموازية قال مالك وربيعة: ومن رمى صيداً فأبان وركيه مع فخذيه فلا يؤكل ما أبان منه وليأكل باقيه، وكذلك لو قطع يديه أو رجليه. وفي

العتبية عن ابن القاسم: كل ما ضربه من الوركين إلى الرأس فجزَّ له جزتين فليؤكل جميعه، ولو أبان فخذيه ولم تبلغ ضربته إلى الجوف فلا يؤكل ما أبان منه ويؤكل ما بقي. زاد ابن حبيب: وإن أبين العجز مع ذلك. قال في البيان: والصواب أكل الجميع وإن أبين العجز؛ لأنه معنى ما في الموازية أنه لم يبلغ الجوف، وحمله بعضهم على الخلاف، وأن مذهب ابن القاسم اعتبار وصول القطع إلى الجوف، فيحصل في معنى القطع نصفان، ولا يشترط ذلك على ما في الموازية، ومرادهم بالبائن: ما أُبين بالكلية أو بقي معلقاً بالجلد أو مع يسير من اللحم، وأما لو بقي بحيث يعلم أنه يلتحم فإنه يؤكل جميعه. نص على ذلك في الموازية. فائدة: قال اللخمي: فعل الجارح من الكلاب والبزاة بالصيد ذكاة بتسعة شروط: ثلاثة في الجارح: وهو أن يكون معلماً، وخرج بإرسال من هو في يده، ومضى لما أرسل عليه ولم يشتغل عنه، وثلاثة في المرسل عليه: وهو أن يكون الصيد في موضع لا يقدر على أخذه إلا بذلك، أو يراه البازي أو الكلب ليس في غيضة ولا أكمة، ويكون موته من جراحته ليس من صدمته، ولا خوف منه، وثلاثة في المرسل، وهو أن يكون جاء في طلبه لم يرجع عنه، وأن تصح ذكاته، وأن يكون مسلماً. فهذه جملة متفق عليها، وإن انخرم منها شيء لم يؤكل، وفي بعضها خلاف. * * *

الذبائح

الذَّبَائِحُ جمع ذبيحة. الجوهري: والذَّبيح: المذبوح والأنثى ذبيحة، وثبتت التاء لغلبة الاسمية. والذبح مصدر ذبحت الشاة، والذِّبح بالكسر: ما يذبح قال الله تعالى: (وَفَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 107]. وقال غيره: والذَّبح في اللغة: الشق، وفي الشرع: شق خاص، فيحتمل أن يكون من باب التواطؤ ويحتمل أن يكون من باب الاشتراك. وحكمه مشروعية الذبح إزهاق النفس بسرعة واستخراج الفضلات. ولما قضى الله تعالى على خلقه بالفناء وشرف بني آدم بالعقل أباح لهم أكل الحيوان؛ قوة لأجسامهم وتصفية لمرآة عقولهم، وليستدلوا بطيب لحمها على كمال قدرته تعالى، وليتنبهوا على أن للمولى بهم عناية؛ إذ آثرهم بالحياة على غيرهم. وَالإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَإِبَاحَةِ الْمُذَكِّي الْمَاكُولِ، وَالنَّظَرُ فِي الذَّابِحِ، وَالْمَّذْبُوحِ، وَالآلَةِ، وَالصِّفَةِ ... ذكر المصنف هذه المقدمة؛ لأنه إذا كانت الإباحة متوقفة على الذكاة يجب الاعتناء بها، والمراد بالمأكول: المباح، فيصير تقدير كلامه: وإباحة المذكي المباح، وذلك غير سديد. وقوله: (وَالنَّظَرُ فِي الذَّابِحِ ... إلخ) يعني أن أركان هذا الباب أربعة، ثم شرع فيها الأول فالألو. وَتَصِحُّ ذَكَاةُ الْمُسْلِمِ الْمُمَيِّزِ، فَيَخْرُجُ الْمَجْنُونُ، وَالسَّكْرَانُ، وَالْمُرْتَدُّ عَنِ الإِسْلامِ، وَالْمَجُوسِيُّ، وَالصَّابِيُّ .... أي: تصح ذكاة المسلم المميز باتفاق، وأخرج بالمسلم المرتد والمجوسي والصابئ، ولا فرق في المرتد بين أن يرتد إلى دين أهل الكتاب أو لا.

وقال اللخمي: ينبغي أن تصح ذكاة المرتد إلى أهل الكتاب؛ لأنه صار من أهل الكتاب، وإن صار غير معصوم الدم كالحربي، وأباح أهل المذهب ذبيحة السامرية، وهم صنف من اليهود وإن أنكروا البعث، لكن إنما ينكرون بعث الأجساد ويقرون ببعث الأرواح، وهذا عليه جماعة من اليهود، ومنعوا ذبيحة الصابئين؛ لأنهم بين النصرانية [225/أ] والمجوسية. ابن بشير: وقليل من رأيت يطلع على مذهبهم، لكن الذي يتحصل منه أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة. وعن مجاهد أن الصابئين بين اليهود والمجوس، وعن قتادة أنهم يعبدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات، وينبغي لمن نزل به شيء من أمرهم أن يبحث عن معتقدهم. وقال الطرطوشي: لا تؤكل ذبيحة الصابئ، وليست بحرام كتحريم ذبائح المجوس. ابن المواز: وتؤكل ذبيحة النصراني العربي والمجوسي إذا تنصر، ولهذا قال المصنف: (وَالْمُرْتَدُّ عَنِ الإِسْلامِ) ليفهم أن الارتداد عن غيره غير مؤثر. وأخرج المصنف بقوله: (الْمُمَيِّزِ) الصبي غير المميز، والمجنون، والسكران، فلا تصح ذكاتهم؛ لأن الذكاة تفتقر إلى نية بإجماع، والنية لا تصح منهم. وفي البيان: ستة لا تجوز ذبائحهم، وستة تكره، وستة يختلف في ذبائحهم. أما الستة الذين لا تجوز ذبائحهم: الصغير الذي لا يعقل، والمجنون في حال جنونه، والسكران الذي لا يعقل، والمجوسي، والمرتد، والزنديق. والثانية: الصغير المميز، والمرأة، والخنثى، والخصي، والأغلف، والفاسق. والثالثة: تارك الصلاة، والسكران يخطئ ويصيب، والبدعي الذي يختلف في تكفيره، والعربي النصراني، والنصراني يذبح للمسلم بأمره، والعجمي يجيب إلى الإسلام قبل البلوغ.

وَتَصِحُّ مِنَ الصَّبيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْمَرْأَةِ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَلَى الأَصَحِّ يعني: أن الصبي المميز والمرأة إن اضطر إلى تذكيتهما جازت وصحت، فإن لم يضطر فظاهر المذهب أن في صحة تذكيتهما قولين، والقول بعدم الصحة غير معلوم في المذهب. ابن عبد السلام: والذي حكاه غيره أن الخلاف إنما هو في الكراهة، ونفي الكراهة مذهب المدونة، والكراهة لمالك في الموازية. ابن بشير: وفي المذهب رواية بعدم الصحة، وهي محمولة على الكراهة. وعن مالك: تذبح المرأة أضحيتها ولا يذبح الصبي أضحيته، فرأى بعضهم أن هذا يدل على أن ذبيحة الصبي أشد كراهة. وحكى اللخمي عن أبي مصعب قولاً آخر بالكراهة مطلقاً، وإن كان من ضرورة. وَفِي الصَّبيِّ وَالْمَجُوسِيِّ يُسْسلِمُ أَوْ يَرْتَدُّ قَوْلانِ تقديره: أو الصبي المسلم يرتد، وحذف ذلك لقرينة الارتداد؛ لأنه إنما يستعمل عرفاً في المرتد عن الإسلام. ومنشأ الخلاف إن نظرنا إلى حالهم وقت الذبح أكلنا ذبيحة الذي أسلم ولم نبح ذبيحة المرتد، وإن راعينا الأصل انعكس الحكم. ومذهب المدونة عدم أكل ذبيحة من ارتد قبل البلوغ، وذكر المصنف في باب الردة أن الأصح الحكم بإسلام المميز. وَأَمَّا الْكَافِرُ الْكِتَابيُّ بَالِغاً أَوْ مُمَيِّزاً، ذَكَراً أَوْ أُنْثَى، ذِمِّيّاً أَوْ حَرْبيّاً مِمَّنْ لا يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ إِنْ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ مَا يَسْتَحِلُّهُ فَمُذَكَّى .... في المدونة: ورجال الكتابيين ونساؤهم وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح سواءٌ في إجازة أكلها، ولا شك على القول بكراهة ذبيحة الصبي المميز والمرأة المسلمَين في كراهة ذكاتهما هنا.

واحترز بقوله: (مِمَّنْ لا يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ) ممن يستحلها وسيأتي حكمه. وعدل المصنف عن أن يقول: الشراء من ذبائحهم، والأصل في هذا أن الله تعالى أباح لنا طعامهم. وَمَا لا يَسْتَحِلُّهُ إِنْ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا كَذِي الظُّفُرِ فَمَشْهُورُهَا التَّحْرِيمُ، وَإِلا فَالْعَكْسُ يعني: أن في المسألتين ثلاثة أقوال: التحريم فيهما؛ لأنه ليس من طعامهم فلا يحل لنا، ولأن الذكاة تفتقر إلى نية وهم لم ينووها. والثاني: الإباحة فيهما، وهو قول ابن وهب وابن عبد الحكم نظراً إلى وجوب الذكاة: قد انتسخ شرعهم بشرعنا، والمشهور الفرق. فما ثبت تحريمه عليهم بشرعنا فهو حرام كذي الظفر، وما لم يثبت تحريمه بشرعنا فهو جائز، كالذي يجدونه فاسد الرنة ويسمى الطريقة. وزاد ابن بشير قولاً ثالثاً فيما ثبت تحريمه بشرعنا بالكراهة، وهو يؤخذ من بعض النسخ، كقول المصنف: (فَمَشْهُورُهَا التَّحْرِيمُ). وذكر في المدونة في الطريقة قولين: مرة على الكراهة ولمي حرمه، وعلى هذا ففي قوله: (وَإِلا فَالْعَكْسُ) نظر؛ لأنه يقتضي أن المشهور الجواز، إذ هو عكس التحريم حقيقة، والذي رجع إليه مالك الكراهة. ورأى صاحب البيان أنه لا يحل لنا أكل ما ذبحوه من ذي الظفر بلا خلاف، وأن ما وقع مما يوهم خلاف ذلك فهو راجع إليه. فرع: اختلف في شحوم اليهود، فحكى اللخمي فيها الثلاثة الأقوال التي تقدمت فيما ثبت تحريمه عليهم بشرعنا، وزاد رابعاً بالفرق وبجواز الشحم لأن الذكاة لا تتبعض، بخلاف ما ثبت تحريمه بشرعنا. والقول بتحريمه لمالك في كتاب محمد، ونسب لابن القاسم وأشهب في المبسوط الجواز. وهو قول ابن نافع.

ابن شاس: والمشهور من قول ابن القاسم كراهته، وهو الذي اقتصر عليه ابن الجلاب. ابن حبيب: لا يؤكل من طعامهم ما حرم الله عليهم، فمنه كل ذي ظفر؛ الإبل وحمر الوحش والنعام والإوز، وكل ما ليس بمشقوق الظلف ولا منفرج القائم، وشحوم البقر والغنم الشحم الخالص كالثَّرْب والكِلاء وما لصق بالقَطِنَة وما أشبهه من الشحم المحض. وَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ فَإِنْ غَابَ عَلَيْهَا لَمْ تُؤْكَلْ كالفرنج فإنهم يستحلونها، ويلحق بمن عُلم منه استحلال الميتة من شك فيه، قاله في الجواهر. ومفهوم قوله: (فَإِنْ غَابَ) أنه لو لم يغب عليها لأبيح لنا الأكل وبذلك صرح الباجي [225/ب] وصاحب الذخيرة. والقياس: ألا تؤكل على ما قاله الباجي في تعليل ما حرم على أهل الكتاب، من أن الذكاة لابد فيها من النية، وإذا استحل الميتة فكيف ينوي الذكاة؟ وإن ادعى أنه نواها فكيف يصدق؟! انتهى. ونقل ابن العربي الجواز فيما قتلوه، وإن رأينا ذلك لأنه من طعامهم. واستبعد؛ لأن معنى طعامهم: الحلال لهم، وأهل شرعهم مطبقون على تحريم ذلك. وَإِنْ ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ لِمُسْلِمٍ فَفِي الصِّحَّةِ قَوْلانِ إذا ذبح الكتابي ذبيحة لمسلم، ففي جواز أكلها ومنعها قولان لمالك. وَما ذُبِحَ لِعِيدٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كُرِهَ بخِلافِ مَا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ قوله: (لِعِيدٍ أضوْ كَنِيسَةٍ) يريد لعيسى أو لجبريل، زاد ابن حبيب: أو للصليب. ابن المواز: لأن مالكاً خاف أن يكون داخلاً في عموم قوله تعالى: (أُهِلَّ بِهِ لِغَيّرِ اللهِ ([البقرة: 173ِ، ولم يحرمه لعموم قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلُّ لَكُمْ ([المائدة: 5]، والكراهة ظاهر المذهب.

وقال سحنون وابن لبابة: هو حرام، ورأياً أنه مما أُهل به لغير الله، وأجازه ابن وهب من غير كراهة ورآه من طعامهم. وأما الذبح للأصنام فلا خلاف في المذهب في تحريمه. نقله ابن عبد السلام؛ لأنه مما أُهل به لغيره الله. وسئل مالك عن الطعام يتصدق به النصراني عن موتاهم، فكره للمسلم قبوله، قال: لأنه يُعمل تعظيماً لشركهم. ابن القاسم: وكذلك من أوصى منهم أن يباع من ماله شيء للكنيسة، فلا يجوز للمسلم أن يشتريه. ابن شهاب: ولا ينبغي الذبح للعوامر من الجان، (وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح للجان". وَكَرِهَ مَالِكٌ الشِّرَاءَ مِنْ ذَبَائِحِهمْ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لا يَكُونُوا جَزَّارِينَ وَلا صَيَارِفَةً، وَيُقَامُونَ مِنَ الأَسْوَاقِ كُلِّهَا ... هذا مختصر من المدونة؛ لأنهم لا ينصحون المسلمين، ولأن مصارفتهم قد توقع في الربا. مطرف وابن الماجشون: وينهي المسلون عن الشراء منهم، ومن اشترى منهم لم يفسخ شراؤه وهو رجل سوء، إلا أن يكون ما اشترى منهم مثل الطريقة وغيرها مما لا يأكلونه فيفسخ شراؤه. وكره مالك في العتبية بيع الجزرة من النصراني وهو يعلم أنه يريدها للذبح في أعيادهم. قيل لمالك في العتبية: أيكري المسلم الدواب والسفن إلى أعيادهم؟ قال يجتنبهم أحب إلي. وفي المدونة في باب الإجارة: ولا يكري إبله وسفينته لهذا. قال في البيان: وهذا كما قال؛ لأن ذلك مكروه ليس بحرام، قال: وروي عن مالك إجازة البيع لهم لأعيادهم، وهذا على القول بأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، فلا يكون قد أعانهم على معصية، وأما الكراهة فتأتي على خطابهم.

فرع: من العتبية: سمعت مالكاً يقول: أكره جبن المجوس؛ لما يجعل فيه من أنافح الميتة، وأما السمن والزيت فلا أرى به بأساً. قال في البيان: لفظة "أكره" فيها تجوز، وفي موضع آخر منها سئل مالك عن جبن الروم فقال: ما أحب أن أحرم حلالاً، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأساً، وأما أني أحرمه على الناس فلا أدري ما حقيقته! قد قيل لي: نهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير وهم نصارى، وما أحب أن أحرم حلالها، وأما أن يتقيه الرجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأساً. انتهى. وكذلك قال التونسي: ما كان من عمل المجوس فلا يؤكل حتى يتيقن حلاله، وما كان من عمل أهل الكتاب فهو على الإباحة حتى تتبين نجاسته. ونقل عن مالك أنه قال: أحب إلي غسل آنية النصراني وأن تسألهم عما قربوا إليك من الطعام وطيبه، وأما القدور التي يطبخون فيها فأحب أن يغلي فيها الماء حتى يذهب ودكها لأكلهم الميتة والخنزير. ولا يؤكل جبن المجوس لعملهم فيه أنفحة الميتة إلا ما لم يغيبوا عليه، وأما اللبن والزبد فإن كانت آنيتهم نظيفة فكل، وإن شككت فدع. وقد مال صاحب الذخيرة إلى تحريم قديد الروم وجبنهم، قال: لا يختلف اثنان ممن باشر وسافر أن الإفرنج لا تتوقى الميتة، ولا تفرق بينها وبين الذكية، وأنهم يضربون الشاة حتى تموت، ويسلون رؤوس الدجاج. وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن الروم كتاباً وهو الذي عليه المحققون، فلا ينبغي لمسلم أن يشتري من حانوت فيه شيء منه؛ لأنه ينجس الميزان والبائع والآلة.

الْمّذْبُوحُ: الأَنْعَامُ – الْجَلاَّلَةُ وَغَيْرُهَا – وَما لا يَفْتَرِسُ مِنَ الْوَحْشِ مُبَاحٌ، وَالْخِنْزِيرُ حَرَامٌ هذا هو الركن الثاني، والمراد بالأنعام: الإبل والبقر والغنم، وما ذكره في الجلالة هو المشهور. وفي اللخمي في باب الطهارة: واختلف في الحيوان يصيب النجاسة هل ينقله عن حكمه قبل أن يصيب تلك النجاسة؟ فقيل: هو على حكمه في الأصل في أسآرها وأعراقها ولحومها وألبانها وأبوالها، وقيل: ينتقل، وجميع ذلك نجس. انتهى. وقد نقل عن ابن حبيب الكراهة. وفي البيان: اتفق العلماء على أكل ذوات الحواصل من الجلالة واختلفوا في ذوات الكرش، فكره جماعة من السلف أكل الجلالة منها وشرب ألبانها؛ لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الجلالة وألبانها"؛ ولا خلاف في المذهب أن أكل لحم الماشية والطير التي تتغذى بالنجاسة حلال جائز. وإنما اختلفوا في الألبان والأعراق والأبوال. انتهى. ابن عبد السلام: وكلام اللخمي [226/أ] هو الصحيح. انتهى بمعناه. وقوله: (وَما لا يَفْتَرِسُ مِنَ الْوَحْشِ مُبَاحٌ) كالغزلان وبقر الوحش وكلامه ظاهر. وَأَمَّا مَا يَفْتَرِسُ مِنَ الْوَحْشِ فَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ، وَثَالِثُهَا: مَا يَعْدُو حَرَامٌ كَالأَسَدِ وَالنِّمِرِ، وَالآخَرُ مَكْرُوهٌ كَالضَّبُعِ وَالْهِرِّ .... التحريم مذهب الموطأ لما خرجه مالك وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام". (وَالْكَرَاهَةُ) هي التي يحكيها العراقيون عن المذهب، وهو ظاهر المدونة لقوله: ولا أحب أكل الضبع والثعلب ولا الذئب ولا الهر الوحشي ولا الإنسي ولا شيء من

السباع. لقوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ في مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحَمَ خِنزِيرٍ ([الأنعام:145]. ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "أكل كل ذي ناب من السباع" على أنه مصدر أضيف إلى الفاعل فيكون كقوله تعالى: (وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ ([المائدة: 3]، والظاهر في الضبع الإباحة لما في الموطأ عن عمر أن فيه كبشاً وذلك يدل على أنه صيد لا سبع. والقول الثالث حكاه ابن حبيب عن المدنيين من أصحاب مالك. ولصاحب الإكمال طريقة أخرى وهو أنه لا يختلف المذهب فيما لا يعدو أنه مكروه، وليس بحرام. والافتراس لا يختص بالآدمي فالهر مفترس باعتبار افتراس الفأر، والعداء خاص بالآدمي فهو أخص. وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَمْسُوخٌ كَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ وَالضَّبِّ فَفِي الْمَذْهَبِ الْجَوَازُ لِعُمُومِ الآيَةِ، وَالتَّحْرِيمُ لِمَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَمْسُوخٌ .... وفي بعض النسخ (فثالثها الجواز) أي: ثلاثة أقوال: التحريم، والإباحة، والكراهة، وزاد ابن شاس مع ما ذكره المصنف الدب والقنفذ، والذي حاكه اللخمي وابن بشير قولان: الإباحة والتحريم، والكراهة إنما حكاها ابن شاس على الباجي في القرد. والقول بتحريمه في الواضحة، وهو قول ابن المواز، قال: لا يحل ثمن القرد ولا كسبه، وما سمعت من مالك ولا أصحابه فيه شيئاً. قال: وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن ثمنه. وجلب من الشام إلى المدينة قرد فأمر به عمر أن يخرج إلى الموضع الذي جلب منه. وقال ابن شعبان: لا يباع، وقد سئل عنه مالك، فقال: ليس من بهيمة الأنعام. وقد أجاز بعض أصحابنا أكله إذا كان يرعى الكلأ.

وقال الباجي: الأظهر عندي من مذهب مالك وأًحابه أنه ليس بحرام لعموم الآية، قال: وإن كانت كراهة فلا اختلاف فيه. وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بين العلماء أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه. انتهى. وحكى ابن المنذر عن مالك كراهة أكل القنفذ، والصحيح في الضب الجواز؛ لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتى بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه"، قال خالد: فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر. والمحنوذ: المشوي. وفي بعض طرق مسلم أنه قال: "لا أدري لعله من القرون التي مسخت". ومن هنا تعلم أن الصحيح في جميع ما ذكره المصنف الإباحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علل ذلك بقوله: "لعله من القرون التي مسخت". وأكل بحضرته، ولأن الله تعالى لما مسخه زالت حرمته، ولا تبعد الكراهة على أصل المذهب مراعاة للخلاف. وَفِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ، وَفِي الْخَيْلِ ثَالِثُهَا: الْجَوَازُ، وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى الْمَنْعِ بقَوْلِهِ تَعَالَى: ... {لِِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .... المشهور في البغال والحمير المنع، والكراهة أيضاً مروية عن مالك. الطرطوشي: وانعقد مذهب مالك- في إحدى الروايتين وهي رواية العراقيين- أن من الفيل إلى النملة عدا ما استثنته الآية إما مكروه أو مباح، ونحو هذه العبارة نقلها صاحب البيان عن ابن بكير.

وظاهر الموطأ في الخيل الحرمة؛ لأنه قال: أحسن ما سمعت في الخيل زينة، والبغال والحمير أنها لا تؤكل لقوله تعالى: (وَالخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَركَبُوهَا وَزِينَةً ([النحل: 8]. انتهى. أي لأن الله تعالى ذكرها في سياق الامتنان، وذلك يوجب ذكر جميع منافعها، ولو كانت تؤكل لذكره كما ذكره في الأنعام، ولما اقتصر فيها على الركوب والزينة فهم أن ذلك هو تمام المقصود منها. وَفِيهَا: وَيَجُوزُ أَكْلُ الضَّبِّ وَالأَرْنَبِ وَالوَبْرِ وَالْضَرَابِيبِ وَالْقُنْفُذِ، وَلا أُحِبُّ أَكْلَ الضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَالذِّئْبِ، وَالْهِرِّ الْوَحْشِيِّ وَالإِنْسِيِّ، وَلا شَيْءٍ مِنَ السِّبَاعِ ... ذكر هذه المسألة لاشتمالها على فوائد منها: إفادة المشهور في بعض المسائل المتقدمة كالضب والثعلب، ومنها إباحة القنفذ والوَبُر، ومنها التنبيه على أن ظاهر المدونة في السباع الكراهة؛ لقوله: (لا أُحِبُّ). والمراد بالقنفذ قنفذ البر؛ لأن البحري سيأتي، والضب شبيه بالتمساح إلا أنه أصغر منه، والأرنب دابة قدر الهر، إلا أن في أذنيها طولاً. عياض: الوَبْر بسكون الباء بواحدة، وآخره [226/ب] راء وواوه مفتوحة: دويبة نحو الهر. وقال ابن عبد السلام: هو بفتح الباء من دواب الحجاز. انتهى. وفي الجوهري: الوبر بالتسكين دويبة أصغر من السنور كحلاء اللون، لا ذنب لها. عياض: والضرابيب بالضاد جمع ضرب على وزن تمر، وهو حيوان ذو شوك كالقنفذ كبير. وَلا بَاسَ بأكْلِ الْيَرْبُوعِ، وَالْخُلَدِ، وَالْحَيَّاتِ إِذَا ذُكِّيَ ذَلِكَ اليربوع أكبر من الفأرة، رجلاه أطول من يديه.

عياض: والخلد بضم الخاء وفتح اللام، كذا ضبطناه في الكتاب، وبفتح الخاء وسكون اللام وفتحها أيضاً، وبكسر الخاء وسكون اللام، وهو فأر أعمى. التونسي: ويكره أكل الفأر والقرد، وأجاز في المدونة أكل اليربوع والخلد؛ وهو فأر أعمى، وأظن له ناباً، لعله لا يفترس. قوله: (وَالْحَيَّاتِ إِذَا ذُكِّيَ ذّلِكَ) كذا في المدونة وزاد فيها: إذا ذكيت في موضع ذكاتها. وصفة ذكاتها: أن يقطع من جهة رأسها شيء وكذلك من عند ذنبها دفعة واحدة، ولو بقي منها شيء ولو جلدة لم تؤكل؛ إذ السم يسري في ذلك (المحلين)، وذلك في سبيل علم الطب. ابن حبيب: ويكره أكلها لغير ضرورة. وَيُؤْكَلُ خَشاشُ الأَرْضِ، وَذَكَاتُهُ كَالْجَرَادِ وهذا كقوله في المدونة: ولا بأس بأكل خشاش الأرض وهوامها، وذكاة ذلك كذكاة الجراد. وقال الباجي: أكل الخشاش مكروه. وفي ابن بشير: المخالفون يحكون عن المذهب جواز أكل المستقذرات، والمذهب خلافه. ابن هارون: وظاهر المذهب كما ذكر المخالف، والأفصح في الخشاش فتح الخاء وفيها أيضاً ضمها وكسرها، وهو الدود والبعوض. وَفِيهَا: وَإِنْ وَقَعَ الْخَشَاشُ فِي قِدْرٍ أُكِلَ مِنْهَا، وَاسْتَشْكَلَ لأَكُلِهِ حَتَّى قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: سَقَطَ لا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي وَلَمْ يَتَحَلَّلْ ... قد تقدمت هذه المسألة في باب الطهارة. وَدُودُ الطَّعَامِ لا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ الطَّعَامِ تصوره ظاهر، فإن قلت: روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم "أوتي بتمر عتيق فجعل يفتشه، يخرج منه السوس" وذلك يدل على التحريم والكراهة، فالجواب: يجوز أن

يكون ذلك لإعافة نفسه ذلك صلى الله عليه وسلم كما فعل في الضب. فإن انفرد عن الطعام فلا شك أنه من جملة الخشاش، وقد تقدم حكمه. وَالضَّفَادِعُ مِنْ صَيْدِ الْمَاءِ، وَتُؤْكَلُ مَيْتَةُ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَتْ تَعِيشُ فِي الْبَرِّ أَرْبَعَةَ أَيَّامِ، وَتُرْسُ الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ ... قد تقدمت هذه أيضاً في الطهارة بما فيها من الخلاف. وَأَمَّا الْحَلَزُونُ فَكَالْجَرَادِ أي: أنهما من صيد البر فيفتقران إلى الذكاة، وهذا هو المشهور كما سيأتي من كلام المصنف. والقول بأن الجراد لا يفتقر إلى الذكاة لمطرف، قيل: لأنه نثرة حوت كما روي عن كعب. وقيل: لأنه لا نفس له سائلة بناءً على أن ما هذا صفته لا يفتقر إلى الذكاة، وضعف اللخمي الأول بأن كونه نثرة حوت لا يعرف إلا من قول كعب الأحبار عن كتبهم، ولا خلاف انه لا يجب علينا العمل بمثل هذا ولا تُعُبِّدنا به، ولأنه الآن من صيد البر فيه يخلق وفيه يعيش فلم يكن لاعتبار الأصل فيه وجه. وقد حكم عمر رضي الله عنه على المحرِم فيه بالجزاء. وعلى الافتقار فقال ابن وهب: أخذه ذكاته، فيفرق بين ما يؤخذ حيّاً وميْتاً، والمشهور: لابد أن يفعل فيه فعل، فإن كان هذا الفعل مما يعجِّل موته به فهو ذكاته باتفاق. قال في البيان: وذلك كقطع رؤوسها، وإلقائها في النار والماء الحار. وإن كان مما لا يعجل قال في البيان: كقطع أرجلها وأجنحتها وسلقها في الماء البارد، فسحنون لا يرى ذلك ذكاة. ومذهب المدونة أن ذلك ذكاة، ولفظها: ولا تؤكل ميتة الجراد ولا ما مات منه في الغرائر. ولا يؤكل إلا ما قُطع رأسه أو سُلق أو قُلي أو شُوي حيّاً، وإن لم يقطع رأسه ولو قطعت أرجله وأجنحته فمات من ذلك لأُكل. انتهى.

يريد ولا تؤكل الرجل المقطوعة ولا اليد ونحوها، فإن سلق منها حي مع ميت، أو قطعت أرجلها أو أجنحتها ثم سلقت معها، فقال أشهب: يطرح جميعه وأكله حرام. وقال سحنون: تؤكل الأحياء بمنزلة خشاش الأرض يموت في قدر. مالك: وذكاة الحلزون بالسلق أو ينقر بالإبر والشوك حتى يموت، ويسمي الله تعالى كما يسمي عند قطع رؤوس الجراد. عياض: والحلزون بفتح الحاء واللام. وَالطِّيْرُ كُلُّهُ مُبَاحٌ مَا يَاكُلُ الْجِيَفَ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ: لا يُؤْكَلُ كُلُّ ذِي مَخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَلا كَرَاهَةَ فِي الْخُطَّافِ عَلَى الْمَشْهُورِ المشهور كما ذكر إباحة جميع الطيور، وروى ابن أبي أويس عن مالك أنه لا يؤكل كل ذي مخلب من الطير. هكذا حكى بعضهم هذا القول. وقال في الإكمال: وحكى عن ابن أبي أويس كراهة أكل كل ذي مخلب. وفي مسلم وأبي داود "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير". والقولان في الخطاف لمالك والأصل الإباحة. ابن بشير: ولعل هذا لأنه لا كثير لحم فيها، فدخلت في باب تعذيب الحيوان لغير فائدة. وَأَمَّا ذَوَاتُ السُّمُومِ فَتَحْرُمُ لِسُمُومِهَا فَإِنْ أُمِنَتْ حَلَّتْ، وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ كُلُّهُ مُبَاحٌ تصوره ظاهر، قال في الإكمال: جميع ما في البحر مباح عند مالك على اختلاف أشكاله وأسمائه. ابن الجلاب: ويجوز أكل الحوت طافياً كان [227/أ] أو راسياً، والطافي: ما مات وطفا على وجه الماء؛ أي: ارتفع. ونص مالك في الموازية على أن من باع حوتاً طافياً ولم يبيِّن أن للمشتري الرد؛ إذ لعله ممن لا يرى أكله.

وَفِي خِنْزِيرِ الْبَحْرِ قَوْلانِ، وَوَقَفَ مَالِكٌ فِيهِ وَكَرِهَ تَسْمِيَتَهُ خِنْزِيراً ظاهر كلامه أن القولين بالجواز والمنع، وكذلك قال ابن بشير، والأقرب الإباحة؛ لأنه لو كان الشبه مقتضياً للمنع لحرم إنسان الماء، وإنما يعرف ذلك عن الليث، وفي المدونة: وتوقف مالك أن يجيب في خنزير الماء، فقال: أنتم تقولون: خنزيراً. ابن القاسم: وأنا أتَّقيه ولا أراه حراماً. وفي الجلاب: يكره أكل كلب الماء وخنزيره. وقال في الجواهر: وفي كراهة خنزيره وكلبه خاصة خلاف، ورأى غير واحد أن توقف الإمام حقيقة قالوا: لعموم قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ([المائدة: 96] وعموم قوله تعالى: (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ) [المائدة: 3]، ورأى بعضهم أن الإمام غير متوقف فيه حقيقة وإنما امتنع عن الجواب إنكاراً عليهم تسميته خنزيراً لغة، ولذلك قال: أنتم تسمونه خنزيراً، يعني أن العرب لا تسميه خنزيراً. وَفِي حِلِّ حِمَارِ الْوَحْشِ يَدْجُنُ وَيُعْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلانِ، لابْنِ الْقَاسِمِ، وَمَالِكٍ لا خفاء في إباحة حمار الوحش قبل تأنسه، وحديث أبي قتادة في الصحيحين يوضحه، فإذا تأنس وصار يُحمَل عليه فقال ابن القاسم: لا يكون ذلك ناقلاً والإباحة باقية، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: لا يؤكل. وتقدير كلامه: وفي حل حمار الوحش. وفي بعض النسخ تقديم مالك فيقدر: وفي منع حمار. ويرجح الأول بأنه لو تأنسه ناقلاً للزم في الحمار الإنسي إذا توحش أن ينتقل إلى الإباحة، ولا خلاف ان ذلك لا ينتقل وفيه نظر لمراعاة الاحتياط، والله أعلم. الآلَةُ: وَتَجُوزُ بكُلِّ جَارِحٍ مِنْ حَجَرٍ أَوْ عُودٍ أَوْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِه، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ سِكِّينٌ هذا هو الركن الثالث، وظاهره أنه لا رجحان للحديد على غيره؛ لقوله: (وَلَوْ كَانَ مَعَهُ سِكِّينٌ).

ابن عبد السلام: وهو قول في المذهب وليس مذهب المدونة، وفي البيان: مذهب المدونة الجواز بغير الحديد إذا لم يجده. ونص الشيخ أبو محمد على من ذبح بغير سكين- وهي معه – على إساءته. وفي مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته"، وروى الدارقطني عن سالم عن أبيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشِّفار وأن توارى عن البهائم، فإذا ذبح أحدكم فليجهز". فأمره صلى الله عليه وسلم بحد الشفار دليل على أن الأَوْلى لمن كان معه الحديد ألا يذبح بغيره، وكره ربيعة أن يذبح الشاة وأخرى تنظر، وخفف ذلك مالك واحتج بالبدن. وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، واختار ابن حبيب قول ربيعة، ورأى صف البدن عند نحرها من سنتها، قال: وليس ذلك في الذبائح. ابن حبيب: ولا بأس بالذبح بشفرة لا نصال لها، والرمح والقدوم والمنجل الأملس الذي يؤبر به، فأما المضرس الذي يحصد به فلا خير فيه لأنه يتردد، وإن قطع كقطع الشفرة فلا بأٍ به. ولكن ما أراه يفعل ذلك، وشرط ابن القصار ي صفة ما يذكى به أن يفري الأوداج والحلقوم في مرة واحدة، قال: وما كان من ذلك لا يفريه إلا في دفعات فلا يجوز، وإن كان حديداً، قالوا: وإن لم يكن تساعده السكين حين الذبح وأدخلها من تحت الغَلْصَمَة وقطع العروق فإنها لا تؤكل. مَا عَدَا السِّنَّ وَالظُّفُرَ الْمُتَّصِلَيْنِ لأَنَّهُمَا نَهْشٌ وَخَنْقٌ وفي بعض النسخ: (وفي السن والظفر ثالثها: يجوز بهما منفصلين لأنه نهش وخنق). الجواز مطلقاً رواه ابن وهب عن مالك في المبسوط، واختاره ابن القصار. والمنع مطلقاً.

رواه ابن المواز، وقال ابن القصار: إنه حقيقة مذهب مالك. الباجي: وهو الصحيح. والثالث: التفصيل يجوز بهما منفصلين ولا يجوز بهما متصلين، حكاه ابن حبيب عن مالك. واختاره ابن رشد، وقال في بيانه: هو الصحيح. وروى عن مالك أنه أجازه بالعظم وكرهه بالسن. قال صاحب الإكمال: وهو المشهور. وفي البخاري ومسلم عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غداً، وليست معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ فقال:"ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فَكُل، ليس السِّنَّ والظُّفُرَ، وسأحدثكم عن ذلك؛ أما السن فعظم وأما الظفر فمُدَى الحبشة" فهذا قد يحتج به للمنع مطلقاً، وقد يقال: في قوله: "مدى الحبشة" تنبيه على أن التذكية تجوز بهما منفصلين؛ لأن الحبشة إنما يذكون بالظفر خنقاً، ألا ترى أن مدى الحبشة وهي السكاكين يجوز الذبح بها. ويقال: نهس ونهش. عياض: نهشت اللحم ونهسته بالمعجمة والمهملة إذا أخذته بأسنانك عن العظم، وقال بعضهم: بالسين المهملة بأطراف الأسنان وبالمعجمة بجميع الفم. الصِّفَةُ: إِنْ كَانَ صَيْداً فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَغَيْرُهُ: ذَبْحٌ، وَنَحْرٌ، فَالنَّحْرُ فِي الإِبِلِ، وَفِي الْبَقَرِ الأَمْرَانِ، وَالذَّبْحُ فِي غَيْرِهِمَا .... هذا هو الركن الرابع، وكلامه ظاهر، واستحب مالك ذبح البقر لقوله تعالى: [227/ب] (أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ([البقرة: 67]. الباجي: والخيل في الذكاة كالبقر يعني على القول بجوازه. اللخمي: وكذلك البغال والحمير على القول بكراهتهما، وفي غيرهما الذبح يدخل فيه الطير جميعه ولو كان طويل العنق كالنعامة. ابن المواز: وإن نحرت النعامة لم تؤكل.

الأبهري: وإذا نحر الفيل جاز الانتفاع بعظمه، وعلله الباجي بأنه لا يمكن فيه إلا ذلك. فَإِنْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ أَوْ بالْعَكْسِ لَضَرُورَةٍ أُكِلَ كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي مَهْوَاةٍ، وَلِغَيْرِ ضَرَورَةٍ فَالْمَشْهُورُ التَّحْرِيمُ، وَثَالِثُهَا: تُؤْكَلُ الإِبِلُ ... إذا نحرت الغنم ونحوها مما فيه الذبح فقط، أو ذبحت الإبل وهو معنى قوله: (أَوْ بالْعَكْسِ)، فإن كان ذلك لضرورة، كما لو وقع بعير في مهواة ولم يصل إلى لَبَّتِهِ، جاز ذلك باتفاق، وإن لم ينك لضرورة فثلاثة أقوال: مذهب المدونة: عدم الأكل. عبد الوهاب: واختلف أصحابنا: هل يحمل قول مالك على التحريم أو الكراهة؟ ولما كان ظاهرها التحريم قال المصنف: (فَالْمَشْهُورُ التَّحْرِيمُ). ومذهب أشهب: أن ذلك يؤكل كله. والقول بالتفصيل لابن بكير. ابن عبد السلام: وهو الأقرب؛ لأن الذبح يتضمن النحر وزيادة، لأنه قطع مجموع الودجين والحلقوم. والنحر لا يتضمن الذبح؛ لأنه إنما يشترط قطع الحلقوم مع ودج واحد. خليل: وفيما ذكره نظر، فقد قال الباجي: لم أر أحداً من أصحابنا ذكر مراعاة معنّى في النحر غير اللَّبَّة. وقال اللخمي: لم يشترطوا في النحر الودجين والحلقوم كما قالوا في الذبح. وظاهر المذهب أنه حيثما طعن بين اللبة والمنحر أجزأ إذا كان في الودج. انتهى. وقال: والنحر لا يشترط فيه قطع شيء من الحلقوم ولا الودجين؛ لن محله اللَّبَّة وهو محل تصل فيه الآلة إلى القلب فيموت بسرعة. فرع: نص مالك على أنه إذا نحر ما يذبح أو بالعكس ناسياً لا يعذر قال في البيان: وقيل: إنَّ عدَمَ ما ينحر به ضرورة تجيز ذبحه. وقد قيل: إن الجهل في ذلك ضرورة.

وَمَا وَقَعَ فِي مَهْوَاةٍ فَعُجِزَ عَنْهُ فَطُعِنَ فِي جَنْبٍ أَوْ كَتِفٍ وَنَحْوِهِ لا يُؤْكَلُ عَلَى الْمِشْهُورِ .... المشهور مذهب المدونة والماوزية، ومقابله لابن حبيب. وَمَحلُّ النَّحْرِ اللَّبَّةِ، وَمَحَلُّ الذَّبْحِ الْحَلْقُ مذهب أكثر الشيوخ أن النحر خاص باللَّبَّة، ومذهب ابن لبابة واللخمي أنه يصح فيما بين اللبة والمنحر، وأخذ اللخمي ذلك مما في المبسوط أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعث منادياً ينادي: النحر في الحلق واللبة. ومن قول مالك في المدونة: ما بين المذبح واللبة منحر ومذبح، فإن نحر فجائز وإن ذبح فجائز. اللخمي: ولا يتجزئ في ذلك بالطعن في الحلقوم بانفراده دون أن يصيب شيئاً من الأوداج؛ لأن ذلك مما لا يسرع معه الموت، وإنما يجزئ من ذلك ما كان يسيح معه الدم ويسرع بالموت. لما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكل". ورد في البيان قول اللخمي، أما قول عمر فإن المراد بالنحر الذكاة، وعبر عن الذكاة بالنحر؛ لأنه جُلُّ عملهم في ذلك اليوم كما سمي ذلك اليوم يوم النحر. وأما مالك رحمه الله فلم يرد أن ما بين اللبة والمذبح هو موضع النحر والذبح مع القدرة، وإنما أجاز ذلك إذا لم يصل إلى المذبح ولا إلى المنحر بسقوط البهيمة في البئر؛ مراعاة لقول من أجاز نحرها حيث أمكن من جنب أو غيره، وهذا بَيِّن من مراده في المدونة. ابن عبد السلام: وكلام ابن رشد راجح. وَتُنْحَرُ الإِبِلُ قِيَاماً مَعْقُولَةً. وَيُسْتَحَبُّ فِي الذَّبْحِ الضَّجْعُ عَلَى الأَيْسَرِ لِلْقِبْلَةِ، وَيُوضِحُ مَحَلَّ الذَّبْحِ وَيُسَمِّي هذا كله على الاستحباب، ما عدا التسمية فقد تقدم الكلام عليها.

محمد: والسنة: أخذ الشاة برفق وتضجع على شقها الأيسر إلى القبلة، ورأسها مشرف، وتأخذ بيدك اليسرى جلد حلقها من اللحي الأسفل بالصوف وغيره، فتمده حتى تبين البشرة، وموضع السكين في المذبح حيث تكون الخرزة في الرأس، ثم تُسمي الله، وتُمِرُّ السكين مرّاً مجهِزاً من غير ترديد ثم ترفع ولا تخنع، ولا تضرب بها الأرض ولا تجعل رجلك على عنقها. وفي نسبة الأخير إلى السنة نظر؛ لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما ضحى بكبشيكن وضع رجله على صفاحهما. واستحب إضجاعها على الشق الأيسر؛ لأنه أمكن للذبح، ولذلك روي عن ابن القاسم أنه إذا كان أعسر أن يضجعها على شقها الأيمن. ابن حبيب: ويكره للأعسر أن يذبح، فإن ذبح واستمكن أكلت. فَإِنْ تَرَكَ الاسْتِقْبَالَ أُكِلَتْ وَلَوْ عَمْداً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ فَكَالصَّيْدِ، وَإِنْ كَبَّرَ مَعَهَا فَحَسَنٌ، وَإِنْ شَاءَ زَادَ فِي الأُضْحِيَّةِ: اللْهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي، وَإِلا فَالتَّسْمِيَةُ كَافِيَةٌ، وَأُنْكِرَ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ ... مقابل المشهور في الاستقبال لابن حبيب يراه كالتسمية. والمشهور أظهر؛ لأنه لم يأتِ في الاستقبال ما أتى في التسمية. قال في المدونة: وبلغ مالكاً أن الجزارين يدورون حول الحفرة ويذبحون فنهاهم عن ذلك وأمرهم بتوجيهها إلى القبلة. وقد تقدم حكم التسمية في باب الصيد. قال في المدونة: وليقل: بسم الله والله أكبر، وليس بموضع صلاة على النبي صلى [228/أ] الله عليه وسلم، ولا يذكر هنا إلا الله عز وجل. وإن شاء قال في الأضحية بعد التسمية: اللهم تقبل مني، وإلا فالتسمية كافية. وأنكر مالك قوله: (اللُّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ)، وقال: هذا بدعة. وقال ابن حبيب: أما قوله في الأضحية: اللهم تقبل مني، فلابد منه، وإن شاء قال: اللهم منك وإليك. قال في البيان: أي منك الرزق وبك الهدى ولك النسك. وحكاه عن علي بن أبي طالب رضي الله

عنه وهو قول سحنون قال: وإنما كره مالك التزام ذلك على وجه كونه مشروعاً في ذبح النسك كالتسمية، فمن قال على غير هذا الوجه في بعض الأوقات أجزئ على ذلك إن شاء الله تعالى. ابن حبيب: وإن قال: بسم الله فقط، أو الله أكبر فقط، أو لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو لا حول ولاقوة إلا بالله، من غير تسمية أجزأه. وكلٌّ تسمية ولكن ما مضى عليه الناس أحسن؛ وهو: بسم الله والله أكبر. وَإّذَا أَفْرَى الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ وَالْمَرِيءَ فَاتِّفَاقٌ (أَفْرَى) رباعي؛ أي: إذا قطع. و (الودجان) عرقان في صفحتي العنق. و (الْحُلْقُومَ): القصبة التي هي مجرى النفس. عياض: والمرئ بفتح الميم وكسر الراء وهمزة آخره، وقد يشدد آخره ولا يهمز: مبلغ الطعام والشراب وهو البلعوم. وقوله: (فَاتِّفَاقٌ) حكى عياض فيه الإجماع. وَإِنْ تَرَكَ الْمَرِيءَ صَحَّتْ عَلَى الْمَشْهُورِ والمشهور مذهب المدونة، ومقابله رواه أبو تمام عن مالك. فَإِنْ تَرَكَ الأَوْدَاجَ جُمْلَةً لَمْ تُؤْكَلْ لأن المقصود الأعظم وهو إنهار الدم لم يحصل. وَإِنْ تَرَكَ الأَقَلَّ فَقَوْلانِ يحتمل أن يريد بالأقل أحد الودجين؛ أي: اختلف إذا قطع الحلقوم وودجاً وترك ودجاً. والقولان روايتان. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد به إذا حصل القطع في كل ودج وبقي منهما أو من أحدهما يسير، وفي ذلك قولان للمتأخرين: المنع لعبد الوهاب، والإباحة نقلها بعضهم عن ابن محرز، والذي في تبصرته: إن بقي اليسير من الحلقوم أو

من الأوداج لم تحرم. والأقرب في الوجه الأول عدم الأكل لعدم إنهار الدم، والأكل في الثاني. وحمله ابن هارون على أن المعنى: إن ترك الأقل من الحلقوم. وفيه قولان: ذكر في النوادر عن ابن حبيب أنه إن قطع الأوداج ونصف الحلقوم فأكثر أكلت، وإن قطع منه الأقل لم تؤكل. وروى يحيى مثله عن ابن القاسم في الدجاجة والعصفور، إذا أجهز على أوداجه ونصف حلقومه أو ثلثيه فلا بأٍ بذلك. وقال سحنون: لا يجوز حتى يقطع جميع الحلقوم والأوداج. وَإِنْ تَرَكَ الْحُلْقُومَ تُؤْكَلْ، وَأَخَذَ اللَّخْمِيُّ خِلافَهُ مِنْ قَوْلِهِ: يُجْزِئُهُ إَذَا فَرَى الأَوْدَاجَ أي: إذا قطع الودجين وترك الحلقوم لم تؤكل، نص على ذلك في المدونة وغيرها. وأخذ للخمي عدم اشتراط الحلقوم من ثلاث مسائل مما وقع لمالك في كتاب الصيد، إذا أدرك الصيد وقد أفرى الكلب أو البازي أوداجه فقد فرغ من ذكاته. ومما وقع في المبسوط لمالك إذا ذبح فقطع الأوداج فوقعت في ماء أنه لا بأس بأكلها. ولو كان قطع الحلقوم شرطاً لما اكتفى بقطع الودجين، ومن أحد القولين في عدم اشتراط الغَلْصَمَة: وذلك أن آخر الحلقوم هو الجوزة، فلو كان قطع الحلقوم شرطاً لما أجزأ القطع خارجاً عنه. وأجيب عن الأولين بأنه لما كان من لازم قطع الودجين في الغالب الحلقوم اكتفى بقطعهما للغالب، ولأن الجارح لما قطع ودجي الصيد في المسألة الأولى حلت ذكاته؛ إذ يكفي في ذكاة الصيد إنفاذ المقاتل، وقطع الودجين أحد المقاتل. وأما الثالث فلازم إلا أن يقال: قطع ما فوق الجوزة يتنزل منزلة القطع في الحلقوم لاتصاله به. وَفِي قَطْعِ نِصْفِ الْحُلْقُومِ قَوْلانِ قد تقدمت القولان، لكن مفهومه يقتضي لو قطع البعض أُكل، وقد تقدم أن الخلاف فيهما سواء، وأن القولين في الطير وغيره. ونص ابن القاسم على الأكل فيما إذا

قطع نصف حلقوم الطير كما تقدم. ابن عبد السلام: وبعض من لقيناه يقول: لا يلزم ابن القاسم الذي اغتفر بقاء نصف الحلقوم في الطير أن يقول مثله في غيره؛ لما علم عادة من صعوبة استئصال قطع الحلقوم في الطير دون غيره. ومقتضى الرسالة عدم الأكل في هذه المسائل كلها؛ لقوله: والذكاة: قطع الحلقوم والأوداج لا يجزئ أقل من ذلك، قيل: وهو المشهور. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَقْطَعِ الْجَوْزَةَ وَأَحَازَهَا إِلَى الْبَدَنِ، فَثَالِثُهَا: يُكْرَهُ أي: يكون في المسألة قولان بالأكل وعدمه. وفي بعض النسخ: (ولو لم يقطع الجوزة وحازها إلى البدن فثالثها: يكره) أي: قول بالجواز، وقول بالمنع، وقول بالكراهة، والمنع لمالك وابن القاسم وغيرهما. التلمساني: وهو المشهور. وعلله ابن المواز بأنه لم يقطع شيئاً من الحلقوم. والجواز لابن وهب وأِهب وابن عبد الحكم وأبي مصعب. وأنكر أبو مصعب الأول، وقال: هذه دار الهجرة والسنة، وبها كان المهاجرون والأنصار والتابعون، وكانوا يعرفون الذبح لم يذكروا عقدة ولم يعينوها. والقول بالكراهة حكاه ابن بشير ولم يعزه. وأفتى بعض القرويين بأكله [228/ب] للفقير دون الغني، وليس بسديد. ابن عبد السلام: وقعت هذه المسألة بتونس قبل هذا التاريخ، فاستشار القاضي فيها جماعة من الفقهاء، فأشاروا بجواز بيعها إذا بيَّن البائع ذلك. والجوزة: الغلصمة. تنبيه: وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يقطع من الجوزة شيئاً ووقع القطع فوقها، وأما إن بقي في الرأس دائرة أكلت اتفاقاً، قاله ابن عبد السلام، وإن بقي في الرأس أقل من دائرة- فإما أن يكون النصف أو أقل – أجزأه على القولين في قطع بعض الحلقوم. فرع: فإن استأجر جزاراً، فذبح له شاة فغلصمها، ضمن قيمة الشاة في قول مالك وابن القاسم، ولا يضمن في قول غيرهما، حكاه ابن أبي زيد.

وَإِنْ رَفَعَ الآلَةَ وَرَدَّهَا فَإِنْ طَالَ لَمْ تُؤْكَلْ، وَإِلا فَقَوْلانِ، وَعَنْ سُحْنُونٍ: إِنْ رَفَعَ مُخْتَبِراً أُكِلَتْ بخِلافِ مُعْتَقِدِ التَّمَامِ، قَالَ ابْنُ الْقَابِسِيِّ: الْعَكْسُ أَصْوَبُ ... قوله: (فَإِنْ طَالَ لَمْ تُؤْكَلْ) لم أرَ في ذلك خلافاً، وهو مقيد بما إذا لو تركت لم تعش، وأما إن كانت حين الرفع لو تركت لعاشت أكلت، قاله ابن القصار؛ لأن الثانية ذكاة مستقلة. ابن عبد السلام: ولا إشكال في عدم الأكل إذا أعاد بعد البعد إذا كان ذلك عمداً أو بتفريط، وأما إن كان عن غلبة، وكثيراً ما يجري في العقر في البقر، فينبغي أن يجري الكلام فيه على عجز ماء المتطهر. انتهى. وعن أبي محمد صالح أنه قال: إن سقطت السكين من يد الذابح أو رفعها قهراً أو خائفاً ثم أعادها فإنها تؤكل. وإن لم يطل فأربعة أقوال: جواز الأكل وهو مذهب ابن حبيب واختيار اللخمي؛ لأن ما طلب فيه الفور يغتفر فيه التفريق اليسير، وعدم الأكل حكاه اللخمي والباجي عن سحنون، والقول الثالث: تأول بعضهم قول سحنون عليه. وحكى ابن يونس عن سحنون ثلاثة أقوال: عدم الأكل، والكراهة، والتفصيل المذكور. وحكى عنه أيضاً أبو بكر بن عبد الرحمن: قلت للشيخ أبي الحسن القابسي: يجب أن تعكس هذه التفرقة إن رفع يده وهو شاكٌّ في تمام الذبح، والآخر رفع يده موقناً، كقولهم فيمن سلم من اثنتين وكان على اليقين أنها أربع ثم أيقن أن سلم من اثنتين أنه لا يضره، ويتم باقي صلاته، فإن سلم على الشك أبطل صلاته، فصوب الشيخ ما قلته. فتحصل لنا في المسألة خمسة أقوال. وَلَوْ ذَبَحَ مِنَ الْعُنُقِ أَوْ الْقَفَا لَمْ تُؤْكَلْ وَلَوْ نَوَى الذَّكَاةَ قوله: (مِنَ الْعُنُقِ) أي: من صفحة العنق وعدم الأكل فيها واضح؛ إذ لا يصل إلى موضع الذبح إلا بعد أن ينخعها، وكذلك لو ذبح في ظلام وظن أنه أصاب وجه الذبح

ثم تبين له خلاف ذلك، نص عليه في النوادر محمد. وأما من أراد أن يذبح من الحلقوم فأخطأ فانحرف، فإنها تؤكل. وَمَا شُكَّ هَلْ مَوْتُهُ مِنَ الذَّكَاةِ لَمْ يُؤْكَلْ عَلَى الْمَشْهُورِ قد تقدمت قاعدة هذا في باب الصيد. ابن راشد وغيره: وحكايته الخلاف مع الشك وهم. وقد حكى ابن بشير الاتفاق في الشك أنها لا تؤكل. بخِلافِ أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلِهَا أَوْ تُحَرِّكَ ذَنَبَهَا، وَفِي الْمُوَطَّأِ: أَوْ تَطْرِفْ بعَيْنِهَا أَوْ يَجْرِي نَفَسُهَا ... اعلم أن الذبيحة تارة تكون صحيحة، وتارة تكون مريضة، فالصحيحة يستدل على حياتها بسيلان الدم وإذا استدل على حياتها بالسيلان فالحركة أولى؛ لأن الباجي قال: لا يمكن عندي في الصحيحة أن تتحرك ولا يسيل دمها، فلا معنى لذكره. وأما المريضة فإن لم ييأس من حياتها عملت فيها الذكاة. ونص اللخمي على أنها ملحقة بالصحيحة وإن يئس منها، فكذلك على الصحيح قاله مالك. وفي مختصر الوقار: لا تصح ذكاتها. والأول أحسن لما في الصحيحين والموطأ أن أمة لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً بسَلع فأصيبت شاة منها فأدركتها، فذكتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "كلوها". وفيه خمس فوائد: ذكاة النساء والإماء بالحجر، وما أشرف على الموت، وذكاة غير المالك بغير وكالة. وحكى صاحب الاستذكار في ذلك الإجماع قال: أجمعوا أن المريضة التي لا ترجى حياتها، أن ذبحها ذكاة إن كانت فيها الحياة حين ذبحها، وعلم ذلك بما ذكر من الحركات. وأجمعوا على أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يداً ولا رجلاً أنه لا ذكاة فيها. انتهى. وعلى القول بأن الذكاة تعمل فيها فإن تحركت وسال دمها أكلت، وإن

كان السيلان فقط لم تؤكل؛ لأنه يسيل منها بعد الموت وقبل أن تبرد فلا يكون دليلاً على حياتها، بخلاف الصحيحة لحصول موجب الشك في المريضة دون الصحيحة. وإن تحركت ولم يسل دمها فالمنصوص أنها تؤكل. وخرج عدم الأكل من المنخنقة وأخواتها. والمعتبر من الحركة في هذا الباب ما عدا حركة الاختلاج. هكذا حكى ابن شاس وابن بشير، وحكاه ابن يونس عن ابن حبيب. وفي اللخمي: وأما الاختلاج الخفيف وحركة العين فترك أكلها أحسن؛ أن الاختلاج والتحرك الخفيف يوجد من اللحم بعد خروج النفس ولا يحتاج إلى حصول جميع أنواع الحركة، بل يكفي واحد منها، ولا فرق بين حركة الأعالي والأسافل كما ذكر المصنف. وأشار [229/أ] اللخمي إلى أن حركة الرجل والذنب أقوى من حركة العين؛ لأن الحياة أول ما تنعدم من الأسافل. الباجي: وقول مالك: ونفسها يجري. يعني: تتردد على حسب النفس، وأما خروج الريح من الجسد عند الموت فليس من جريان النفس. وظاهر جواب مالك: أن عدم الحركة بعد تمام الذكاة لا يمنع صحتها إذا صادفت نفساً يجري وعيناً تطرف حين الذكاة. وحكى في المقدمات في وقت مراعاة الحركة ثلاثة أقول: أحدها: أنها لا تراعي إلا أن توجد بعد تمام الذبح، والثاني: أنها تراعي وإن وجدت مع الذبح، والثالث: تراعي وإن وجدت قبل الذبح. وَالْمَوْقُوذَةُ وَمَا مَعَهَا وَغَيْرُهَا مِمَّا أُنْفِذَتْ مَقَاتِلُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَافِي الْحَيَاةَ الْمُسْتَمِرَّةَ، لا تَنْفَعُ ذَكَاتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ قوله: (وَمَا مَعَهَا) أي: في الآية الكريمة. والمنخنقة: هي ما اختنقت بحبل ونحوه. الجوهري: وشاة موقوذة قتلت بالخشب. والمتردية: التي سقطت في مهواة أو من شاهق، والنطيحة معلومة، وما أكل السبع؛ أي: بعضها، وهذه المسألة على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون حياتها مرجوة فلا خلاف في إعمال الذكاة فيها. والثاني: أن تكون قد أنفذت مقاتلها فلا تفيد الذكاة فيها باتفاق، على رأي بعض الشيوخ. والثالث: إن يئس منها، لكن لم تنفذ المقاتل، فحكى الباجي وغيره قولين. وفي البيان يتحصل في المنخنقة وأخواتها إذا سلمت مقاتلها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تذكي وتؤكل على أنها لا تعيش من ذلك، أو أشكل أمرها كالمريضة سواء، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، على القول بأن الاستثناء في الآية متصل. والثاني: أنها لا تذكي ولا تؤكل، عُلم أنها لا تعيش أو أشكل أمرها، بخلاف المريضة، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل. والثالث: الفرق بين أن يعلم أنها تعيش أو يشكل أمرها، وهو الذي يقوم مما في العتبية وهو على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل، وحمل التونسي التي أشكل أمرها محمل التي رجيت حياتها. وحكى اللخمي قولين مع إنفاذ المقاتل إذا لم يكن ذلك المقتل في موضع الذكاة. ابن عبد السلام: وللشيوخ فيما أنفذت مقاتله طريقان، منهم من يزعم أنه لا خلاف منصوص في المذهب في عدم تأثير الذكاة فيها، وإنما يتخرج الخلاف فيها من أحد قولي ابن القاسم فيمن أنفذ مقاتل رجل، ثم أجهز الآخر عليه، هل يقتل الأول أو الثاني؟ فمن يرى قتل الثاني دون الأول يلزمه أن يقول هنا بصحة الذكاة. وقدح في ذلك بعضهم بأنه يجوز أن يكون القتل الثاني لحقن الدماء؛ لئلا يتجرأ عليها، بخلاف الحيوان البهيمي. ومنهم من يذكر الخلاف في ذلك وينسبه لابن القاسم، ولعله أخذه مما ذكرناه، وبعضهم ينسبه لابن وهب وغيره. انتهى. وفي التنبيهات روى ابن القاسم الأكل بالذكاة وإن انتثرت الحشوة، وبه كان يفتي بعض الفقهاء الأندلسيين من متقدمي أصحابنا، وهو إبراهيم بن حسين بن خالد، وحاج في ذلك سحنون، وأعجب ذلك ابن لبابة من قوله.

وَفِيهَا: وَإِذَا تَرَدَّتِ الشَّاةُ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا أَوْ أَصَابَهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهَا لا تَعِيشُ مِنْ ذَلِكَ فَلا بَأسَ بأَكْلِهَا ظَنّاً مِنْهُ أَنَّ دَقَّ الْعُنُقِ لا يُنَافِي الْحَيَاةَ الْمُسْتَمِرَّةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ نَخَعَهَا ... لعله أتى بهذه المسألة استشهاداً للشاذ، وتنبيهاً على الجواب عنه لكونه مخالفاً لما شهره. وتأويل المصنف بقوله: (ظَنّاً مِنْهُ ... إلخ) بعيد؛ لقوله فيها: (أَوْ أَصَابَهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهَا لا تَعِيشُ) معه، فصرح فيها بضد التأويل. وأما استدلاله بقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ نَخَعَهَا) فليس فيه دليل على ما أراد بل الذي يؤخذ منه التفرقة بين دق العنق، وما أنفذت مقاتله بانقطاع نخاعه. فائدة: الباجي: والمقاتل المتفق عليها خمسة: انقطاع النخاع، وانتثار الدماغ، وفري الأوداج، وانفتاق المصران، وانتثار الحشوة. واختلف في اندقاق العنق من غير انقطاع نخاعه، فروى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه من المقاتل، وروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس بمقتل حتىي قترن به انقطاع النخاع. انتهى. واختلف أيضاً في انشقاق الأوداج من غير قطع، والخلاف مبني على خلاف في شهادة، والقول بأن ذلك ليس مقتلاً لابن الحكم. وأما كسر عظام الظهر فليس مقتلاً، قال صاحب البيان وغيره: وخرق المصران لا يكون مقتلاً إلا إذا كان في مجرى الطعام قبل أن يتغير، وأما إن كان في مجراه بعد التغير فليس بمقتل. والفرق أن الأول لا يحصل معه الانقطاع بالغذاء والثاني يحصل معه ذلك فلم يكن مقتلاً. عياض: وعد شيوخنا قطع المصران وانتثار الحشوة وجهين من المقاتل. وقال: وهو عندي راجع إلى معنى واحد، وهو أنه إذا قُطع المصران أو شق انتثرت الحشوة من الثفل، وهو بين في المدونة في كتاب الديات، وفي هذه المسألة قال: يشق أمعاءه فينثرها، وإن كان من

قال ذلك من شيوخنا ذهبوا إلى أن انتثار الحشوة خروجها من الجوف عند [229/ب] شق الجوف، فمجرد شق الجوف ليس بمقتل عند جميعهم، والحشوة إذا انتثرت منه ولم تنقطع عولجت ورُدَّت وخِيطَ الجوف عليها، وهذا مشاهد معلوم فليس نفس انتثارها بمقتل. فكيف وقد ذهب بعض التمأخرين من شيوخنا إلى أن شق الأمعاء إنما يكون مقتلاً إذا كان في أعلاه وحيث يكون ما فيه طعاماً، وذلك المعدة وما قاربها؛ لأنه إذا انشق هناك وانقطع خرج منه الغذاء ولم ينفذ إلى الأعضاء، ولا يتغذى الجسم فيهلك. وأما ما كان أسفل وحيث يكون فيه الثفل فليس بمقتل. وما قاله صحيح مشاهد، وإليه يرجع عندي ما روي عن ابن القاسم وغيره، ولا يكون جميع ما جاء من ذلك خلافاً إذا نزل هذا التنزيل وإن كان ظاهره الخلاف. وأما قرض المصران أو إبانة بعضه من بعض فمقتل لا شك فيه، بخلاف شقه فإنه لا يلتئم بعد انقطاعه بالكلية ويتعذر وصول الغذاء إلى ما بان منه، وتتعطل تلك الأعضاء تحته، ولا يجد الثفل مخرجاً من داخل الجوف فيهلك صاحبه. انتهى. ابن رشد: وقد كان الشيوخ يختلفون في البهيمة تذبح وهي حية صحيحة في ظاهرها، ثم يوجد كرشها مثقوباً، قال: ولقد أخبرني من أثق به أنها نزلت برجل من الجزارين في ثور فرفع الأمر إلى صاحب الأحكام ابن مكي فشاور في ذلك الفقهاء، فأفتى الفقيه ابن رزق أن أكلها جائز وأن للجزار بيعها إذا بيَّن ذلك، وأفتى ابن حمدين أن أكلها لا يجوزو وأمر أن تطرح في الوادي، فأخذها الأعوان ليذهبوا بها إلى الودي، فسمعت العامة والضعفاء أن الفقيه ابن رزق أجاز أكلها فتغلبوا على الأعوان وأخذوها من أيديهم وتوزعوها فيما بينهم، وذهبوا بها لمكانة الفقيه ابن رزق رحمه الله في نفوسهم من العلم والمعرفة. قال ابن رشد: والذي أفتى به هوا لصواب عندي. ابن عبد السلام: وقد أخبرني غير واحد مما أثق به أن كثيراً ما يعتري عندهم البقر بعض الأدواء، فيعالج بأني شق ما يقابل الكرش ثم يشق الكرش، فيخرج منه حينئذٍ ريح فيكون ذلك سبب برء الثور أو البقرة من ذلك الداء، فينبغي أن ينظر في ذلك.

وَلَوْ تَرَامَتْ يَدُهُ فَأَبَانَ الرَّاسَ وَلَوْ عَمْداَ أُكِلَتْ لأَنَّهُ نَخَعَهَا بَعْدَ تَمَامِ الذَّبْحِ. وَكَذَلِكَ يُؤْكَلُ مَا قُطِعَ بَعْدَ تَمَامِ الذَّبْحِ، وَكُرِهَ تَعَمُّدُهُ قَبْلَ مَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ سَلْخُهَا وَنَخْعُهَا .... أي: إذا تمت الذكاة فلا عبرة بما يفعله بعد ذلك، لكن كره مالك ذلك؛ لما فيه من تعذيبها. وحكى ابن نافع أنه كره أكلها إذا نخعها، ولو لم يتعمد، وأما إذا قصد ابتداء إبانة الرأس، فقال ابن القاسم وأصبغ: تؤكل ولو تعمد ذلك أولاً. وقال ابن الماجشون ومطرف: لا تؤكل. وتأول على المدونة القولين، ونصها: ومن ذبح فترامت يده إلى أن أبان الرأس أكلت إن لم يتعمد ذلك. والبحث فيه قريب ممن أمر بمسح رأسه فغسله. وَذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ إِنْ كَانَ كَامِلاً بشَعْرٍ، وَإِنْ خَرَجَ حَيّاً فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ إِلا أَنْ يُبَادَرَ فَيَفُوتَ فَقَوْلانِ ... يعني: أن الجنين لا يفتقر إلى ذكاة مستقلة، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" رواه أبو داود. وخالفنا أبو حنيفة فرأى أن الجنين يفتقر إلى ذكاة مستقلة. واحتج أصحابنا عليه بهذا الحديث، فإن إخباره صلى الله عليه وسلم عن ذكاة الجنين بذكاة أمه يؤخذ منه ما ذكرناه. فإن قيل: لا نسلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة أمه" خبر بل الخبر محذوف والتقدير: مثل ذكاة أمه، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قيل: الحذف خلاف الأصلن فإن قيل: يعضده رواية من روى "ذكاةَ أمِّهِ" بالنصب؛ إذ التقدير: أن يذكي ذكاةٌ مثلَ ذكاة أمه، ثم حذف "مثل" وما قبله، وأقيم مقامه المضاف إليه. قيل: هذا مردود. أما أولاً: فلأن بعضهم أنكر رواية النصب، وجعل الروايات متفقة على الرفع. وأما ثانياً: فلا نسلم هذا التقدير الذي قدرتموه؛ لأن فيه حذف الموصول وبعض صلته، وهو "أن" والفعل بعدها وذلك لا يجوز، وإنما النصب على إسقاط حرف الجر

وهو "في" كما رواه مالك عن ابن المسيب أنه كان يقول: ذكاة ما في بطن الذبيحة ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره. أو الباء ويكون التقدير: ذكاة الجنين حاصلة بذكاة أمه. ولا شك أن هذا أولى من تقدير الخصم لقلة الإضمار. وكان هذا هو السبب المقتضي لعدل المصنف عن لفظ الحديث، وكأنه أشار إلى تقديره، والله أعلم. وقوله: (إِنْ كَانَ كَامِلاً بشَعْرٍ) قال أهل المذهب: لابد من اجتماع تمام الخلق ونبات الشعر، ولا يكفي أحدهما. وفسر الباجي تمام الخلق بكمال خلقه، أما لو خلق ناقص يد أو رجل وتم خلقه على ذلك لم يمنع ما نقص منه من ذكاته. قال في الاستذكار: وروي قول مالك عن جماعة منهم علي، وابن عمر، وابن المسيب، وابن شهاب، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وقتادة: أنه إذا تم خلقه ونبت شعره أكل، وإن لم يتم خلقه لم يؤكل. وقال [230/أ] عبد الله بن كعب بن مالك: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا نبت شعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وقوله: (فإن خَرَجَ حَيّاً فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ) ظاهره لأنه قد استقل بحكم نفسه، وأما إذا بودر ففات فالقول بمنع أكله نقله ابن بشير وابن شاس، ونقله ابن عبد الغفور عن ابن كنانة إذا كان مثله لا يعيش لو ترك. قال: ونحوه عن ابن القاسم. ونقله الباجي عن يحيى ابن سعيد، والمنقول عن مالك: أن ذكاة مثل هذا مستحبة، وهو قريب من الإباحة. حكى ابن المواز عن مالك: إن سبقه كره أكله. ونحوه في المبسوط. فرع: وأما إن ألقته الشاة أو نحوها حيّاً فنص مالك وابن كنانة وأصبغ وابن حبيب على أنه إن كان مثله يحيا أكل بالذكاة، وإن كان مثله لا يعيش أو شك في حياته لم يؤكل وإن ذكى؛ لأن موته يحتمل أن يكون من الإزلاق.

وَأَمَّا مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالْجَرَادِ فَالْمَشْهُورُ: يَفْتَقِرُ وَيَكْفِي قَطْعُ رُؤُوسِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا وَكَذَلِكَ الْحَرْقُ وَالسَّلْقُ عَلَى الْمِشْهُورِ، وَِقيلَ غَيْرُ الْجَرَادِ يَفْتَقِرُ باتِّفَاقٍ ... حاصله أن في غير الجراد طريقين، وقد تقدم الكلام على ذكاة الجراد. وما حكاه من الخلاف في السلق نحوه لابن بشير، وهو خلاف ما تقدم من كلام صاحب البيان أنه متفق عليه. * * *

كتاب الأضحية

الأُضْحِيَّةِ فِي وُجُوبِهَا قَوْلانِ عياض: الأضحية بضم الهمزة وتشديد الياء وأضحية أيضاً بكسر الهمزة، وجمعها أضاحي بتشديد الياء. ويقال الضحية بفتح الضاد المشددة وجمعها ضحايا. ويقال: أضحاة وجمعه أضاحٍ وأضحى سميت بذلك؛ لأنها تذبح يوم الأضحى ووقت الضحى، وسمي يوم الأضحى من أجل الصلاة في ذلك الوقت. كما سمي يوم التشريق على أحد التأويلين، أو لبزور الناس فيه عند شروق الشمس للصلاة. يقال: أضحى الرجل إذا برز للشمس، والشمس تسمى الضحى والضحاء ممدود، أو من الكل منها ذلك اليوم. يقال: تضحَّى القوم إذا تغذوا. وقد تسمى الأضحية من هذا المعنى، وسمي يوم الأضحى لذبح الأضاحي فيه. والمشهور أنها سنة، وللشيوخ في نقل حكمها ثلاث طرق: أولها: أن المذهب كله أنها سنة. وما ذكر في الروايات مما يوهم خلاف ذلك فراجع إليه. ثانيها: أن المذهب على قولين: السنة والوجوب. ثالثها: يزاد إلى هذين القولين ثالث بالاستحباب. فرع: والمشهور أن الضحية أفضل من التصدق. قال في المدونة: ولا يدع أحد الضحية ليتصدق بثمنها. ابن حبيب: وهي أفضل من العتق؛ لأن إحياء السنة أفضل من التطوع. وعن مالك: التصدق أفضل. لأَنَّ فِيهَا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَدَرَ أَنْ يُضَحِّيَ، وَفِيهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أُضْحِيَّةٌ فَأَخَّرَهَا حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ أَثِمَ، وَحُمِلَ عَلَى أَنْهُ كَانَ أَوْجَبَهَا ... لما ذكر في الأضحية قولين ذكر كلامه في المدونة لكونه يتضمن القولين؛ لأن قوله: (يُسْتَحَبُّ) نص في عدم الوجوب. وقوله: (أَثِمَ) ظاهر في الوجوب؛ إذ الإثم من خصائصه. وأجيب بثلاثة أوجه:

أولها: أن التأثيم أو الاستغفار في كلامهم ليس خالصاً بالوجوب، بل يطلقون التأثيم كثيراً على ترك السنن، وربما أبطلوا الصلاة ببعض السنن، ويقولون: تارك بعضها يستغفر الله، كما قال مالك في المدونة في تارك الإقامة. ثانيها: وهو الذي ذكره المصنف أنه محمول على أنه كان أوجبها، وسيأتي بماذا تجب. ثالثها: أن التأثيم من قول ابن القاسم واجتهاده، وما ذكره من الاستحباب من قول مالك فلا تناقض فيه لاختلاف القائل. واعلم أن هذا الكلام ليس له هنا كبير جدوى؛ لأن القولين منصوصان خارج المدونة، وكلامه يوهم أنه للقولين أصل من كلامه في المدونة وليس كذلك. وَتَجِبُ بِالْتِزَامِ اللِّسَانِ أَوْ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِيهِمَا كَالتَّقْلِيدِ وَالإِشْعَارِ فِي الْهَدْيِ، وَبِالذَّبْحِ ... لما ذكر أن مسألة المدونة حملت على الوجوب أخذ يبين بماذا تجب، وذكر أنها تجب بثلاثة أمور: اثنان مختلف فيهما، والثالث متفق عليه. فالأولان: الأول منهما: التزام اللسان؛ أي: مع النية وإلا فاللفظ وحده يكفي. والثاني: النية مع الشراء، ولا يريد خصوصية الشراء بل فعل مع النية أي فعل كان، وذكر أن هذا هو المعروف. وفي الجواهر: إذا قال جعلت هذه الشاة أضحية تعينت. وحكى القاضي أبو الوليد في المذهب قولاً بأنها لا تجب إلا بالذبح. انتهى. وفي قوله: "حكى الباجي" قولاً. نظرٌ؛ لأنه المذهب عند الباجي، ففي الباجي: ولا تتعين الأضحية بشرائها لذلك على سبيل الوجوب، وإنما تتعين على سبيل الوجوب بالذبح. وقال إسماعيل: وقبل فري الأوداج؛ لأنه قد وجد منه النية والفعل. وقد قال إسماعيل وجماعة من شيوخنا: تتعين بالنية والقول باللسان، وتجب بذلك كما تجب

بالذبح، ويكون ذلك فيها كالإشعار والتقليد في الهدي. انتهى. وفي البيان: لا تجب عند مالك بالتسمية. وقد قال إسماعيل القاضي: إذا قال: "أوجبتها أضحية" تعينت. [230/ب] وهو بعيد. ولا تتعين عند مالك إلا بالذبح، قال: وقال إسماعيل: لا يلزمه بدلها إذا تعينت. وفي المقدمات: لاتجب إلا بالذبح بخلاف الهدي الذي يجب بالتقليد والإشعار. وقد روى ابن القاسم عن مالك في العتبية ما يدل على أنها تجب بالتسمية قبل الذبح فقال: لا تُجَزُّ الضحية بعد أن تسمى، فإن فعل انتفع بصوفها ولم يبعه. وقال سحنون: أشهب: لا بأس ببيعه إذا جزه قبل الذبح، وخفف ذلك. أصبغ: وهو الذي يأتي على أنها لا تجب إلا بالذبح، وهو المشهور في المذهب. انتهى. فصرح بأن المشهور عدم تعيينها بالتسمية، وحمل في البيان رواية ابن القاسم على الاستحباب. وفي التنبيهات: وقولُه في المدونة- في الذي إذا ذبح أضحيته، فاضطربت فانكسرت رجلها أو أصابت السكين عينها-أنها لا تجزئه ظاهرٌ بين أنها لا تتعين بالنية والقصد والتسمية إلا بذكاتها؛ إذ ليس في التعيين أوضح من إضجاعها للذبح، خلاف ما ذهب إليه البغداديون من أنه إذا عينها أضحية تعينت كالهدايا، ولم يجز له بدلها، ولم يضره ما حدث بها من عيب. انتهى. وقال ابن يونس بعد قول إسماعيل: وهذا القول أحسن غير أن ظاهر قول مالك خلافه. وقد قال في الموازية فيمن اشترى أضحيته سليمة وأوجبها، فلم يذبحها حتى نزل بها عيب لا تجوز به في الضحايا: أنها لا تجزئه بخلاف الهدي بعد التقليد والإشعار، وذلك أن الضحايا لا تجب إلا بالذبح. انتهى. وفي الذخيرة: المشهور أنها لا تتعين إلا بالذبح أو بالنذر. وعلى هذا قول المصنف المعروف ليس بجيد؛ لأن المعروف خلافه. وقوله: (وَبِالذَّبْحِ) معطوف على قوله: (بالْتِزَامِ اللِّسَانِ) أي: وتجب بالذبح، وهذا هو الثالث ولا خلاف فيه.

وَإِذَا لَمْ يُوجِبْهَا جَازَ بَدَلُهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا لا بِدُون وَلعَلَّهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَإِلا فَمُقْتَضَاهُ جَوَازُ التَّرْكِ ... قوله: (بخَيْرٍ مِنْهَا) يريد: أو مثلها، ولفظ التهذيب: وله أن يبدل أضحيته بمثلها أو بخير منها. قلت: فإن باعها واشترى دونها، ما يصنع بها وبفضلة الثمن؟ قال: قال مالك: لا يجوز أن يستفضل من ثمنها شيئاً، وأنكر الحديث الذي جاء في مثل هذا. وتعقب على البرادعي بأنه لم يقل في الأم: يبدلها بمثلها، وإنما قال: لا يبدلها إلا بخير منها، وإن كان إبدالها بمثلها جائزاً لكن لا ينبغي للمختصر أن يزيد شيئاً، ولعل المصنف إنما اقتصر على قوله: (بِخَيْرٍ مِنْهَا) لهذا، وينبغي أني كون إبدالها بخير منها مستحبّاً. وقول المصنف: (وَلَعَلَّهُ) أي: ولعل منعه إبدالها بدون على الكراهة. قوله: (وَإِلا فَمُقْتَضَاهُ) يحتمل أمرين: أولهما: وإلا فبمقتضى مشهور المذهب جواز تركها رأساً. والثاني: وإلا فبمقتضى عدم إيجابها جواز الترك، ووقع في بعض النسخ: (البدل) عوض (التَّرْكِ). وأشار ابن عبد السلام إلى أنه لم يصرح في المدونة بما أراده المصنف من أنه كره لمن باع أضحيته أن يستفضل بعض ثمنها؛ لاحتمال أن يكون تكلم على من عين ثمناً ليشتري به أضحية ثم اشترى بدون ذلك الثمن واستفضل بقيته، بل هذا أولى من الأول، وفيه جاء حديث حكيم بن حزام الذي أشار إليه في المدونة والعتبية، ولأجل الاحتمال المذكور، واختصر البرادْعي المسألة على الجواب والسؤال، وهكذا الغالب من حاله في مثل هذا. وقد يقال: إن الكراهة فيما ذكره المصنف على الاحتمالين؛ لأنه إذا كره أن يستفضل من الثمن الذي أخرج ثمناً للأضحية، فلأن يكره بيع الأضحية ليستفضل من ثمنها من باب الأولى. انتهى. وحديث حكيم المشار إليه هو ما خرجه الترمذي: أنه صلى الله عليه

وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشترى أضحية فاربح فيها ديناراً، فاشترى أخرى مكانها، فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضحِّ بالشاة وتصدق بالدينار". ابن القاسم: وأنكر مالك هذا الحديث. وَلَوْ مَاتَ اسْتُحِبَّ لِوَرَثَتِهِ، بِخِلافِ مَا أَوْجَبَ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ استحب للورثة الذبح؛ لأن فيه تنفيذ قصد الميت كما في سائر القرب التي مات ولم ينفذها. ابن عبد السلام: قال بعضهم: ولا خلاف في ذلك. انتهى. وفي الجواهر: استحب ابن القاسم أن يذبح عنه، ولم يره أشهب. انتهى. وانظر هل قول أشهب ينقض الاتفاق، أو الاتفاق راجع إلى الاستحباب من حيث الجملة. وخلاف أشهب إنما هو راجع إلى الاستحباب عن الميت. وقوله: (بِخِلافِ مَا أَوْجَبَ) أي: فيجب عليهم ذبحه بناء على ما قدمه من أنها تجب، لا على المشهور. ثُمَّ فِي جَوَازِ قِسْمَتِهَا أَوِ الانْتِفَاعِ بشَرِكَةٍ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْييزُ حَقٍّ أَوْ بَيْعٍ .... الباجي: وتورث الأضحية بعد الذبح، ولورثته أكلها. ولاخلاف بين أصحابنا أنهم يمنعون من بيعها؛ لأنها إنما تنقل إليهم على حسب ما كان للمضحي فيها، وأما قسمتها فروى مطرف وابن الماجشون عن مالك وعيسى عن ابن القاسم إجازة ذلك، ومنع منه في كتاب محمد، قال: لأنه يصير بيعاً بناء على اختلاف قول مالك وأصحابه في قسمة القرعة هل هي بيع أو تمييز حق؟ وأما قسمة التراضي فبيع، وهكذا فرض التونسي المسألة بعد [231/أ] الذبح، ونسب لابن القاسم أنها تؤكل، ولاتقسم على المواريث، ولأشهب القسم، قال: وقول ابن القاسم أِبه؛ لأنه قد وجبت قربة بالذبح، واتفق على

أنها لا تباع في الدين، فأشبهت الحبس، فينتفع بها الورثة، غير أنهم جعلوا لجميع الورثة من زوجة وغيرها في ذلك حقّاً؛ لأن الميت هكذا قصد، ولا يصح أن يزيد بعض الورثة في فرضه على الانتفاع بها، ويكون على هذا حظ الأنثى مثل حظ الذكر إذا تساويا في الأكل. وأشهب يقسمها على المواريث، ولا يقضي منها دينه، وكيف يصح ميراث قبل قضاء الدين؟ انتهى. وإذا كان الخلاف إنما نقله الأشياخ إذا مات بعد الذبح علمت أن كلام المصنف ليس كما ينبغي؛ لأن كلامه إنما هو فيما قبل الذبح، وقد أجراه ابن عبد السلام على ظاهره، فقال: يعني إذا مات بعدما أوجبها أضحية، وضحى بها الورثة عنه واستحب لهم ذبحها، أو مات بعد ذبحها فاختلف. وذكر القولين، ولم أر القولين إلا فيما ذكرته، وكذلك ذكر اللخمي وابن يونس وابن شاس وغيرهم. وَتُبَاعُ مُطْلَقاً فِي الدَّيْنِ كَمَا يُرَدُّ الْعِتْقُ وَالْهَدْيُ مراده بالإطلاق سواء أوجبها أم لا، وهذا ما لم تذبح، فإن ذبحت لم تبع، نص عليه مالك في المختصر والواضحة وابن القاسم في العتبية. التونسي: وإذا كان للغرماء بيعها قبل ذبحها فلم لا يبيعون اللحم؟ لأنه يصير متعدياً بالذبح وقد أحاط الدين بماله فأشبه ما لو أعتق وقد أحاط الدين بماله، فللغرماء رد عتقه، وإن كانوا عاملوه على أن يضحي، فليس لهم بيعها قبل الذبح. فانظره. وما ذكره المصنف في الهدي- أي: بعد تقليده- نقله الباجي عن ابن القاسم، وقيده ابن زرقون بالدين القديم قبل التقليد. الباجي: والفرق بين تقليد الهدي وذبح الأضحية أن التقليد لا يضمن به الهدي، والذبح تضمن به الأضحية فكان ذلك فوتاً فيها.

وَما أَخَذَهُ عَنْ عَيْبٍ لا تُجْزِئُ بِهِ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ أي: إذا اشترى أضحيته ووجد بها عيباً لا تجزئ معه أضحيته، فأخذ شيئاً عن ذلك العيب فإنه يصنع به ما شاء. قال في العتبية: ويبدل مكانها إن كان في أيام النحر، وإن فاتت فهو كمن لم يضحِّ. فالضمير في (بِهِ) عائد على (مَا)، وفي بعض النسخ: (صنع بها) فيعود الضمير على الأضحية، والنسخة الأولى أحسن؛ لأن فرض المسألة فيما أخذه عن عيب لا في الأضحية، إلا أن يقال: ذكر الأضحية يستلزم الحكم في العيب؛ لأنه إذا صنع بالأضحية ما شاء فأحرى المأخوذ عن عيب وفيه نظر. ويلزم عليه أيضاً مخالفة المذهب؛ لأن المنقول عن مالك عدم جواز بيعها لكونها خرجت مخرج القرب، وإنما هو قول أصبغ، ووجهه أنه إنما التزامها أضحية، والفرض أنها لا تجزئ كما لو ضلت ووجدها بعد أيام النحر. ولو ذبحت قبل ذبح الإمام فقال ابن القابسي: لا يجوز بيعها ولو كانت لاتجزئ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في العناق: "هي خير نسيكتك"، فسمي ما أجزاه وما لم يجزه نسكاً. ومن الشيوخ من قال بجواز البيع، وإنما أطلق على ما لم يجزه نسكاً باعتبار قصد الذابح. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ذبح قبل الإمام فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء". ونص ابن القاسم على منع بيع ما ذبح من الأضاحي يوم التروية، وأنكر ابن رشد بعد تسليمه مذهب ابن القاسم. ونص ابن حبيب على منع بيع شاة أضجعت للذبح فانكسرت رجلها أو أصابتها السكين في عينها. ونص التونسي على منع البيع في قح من جهل فضحى بذات عيب، أو وجد بها عيباً بعد أن ضحى بها، واضطرب الأندلسيون فيمن اشترى أضحيته فذبحها فوجدها عجفاء لا تنقي، هل له في ذلك مقال ويردها مذبوحة إن شاء، أو ليس له ردا ويأخذ قيمة العيب خاصة؟ ووقع في بعض النسخ: (صنع بهما ما شاء) فيكون الضمير عائداً على الأرش والأضحية، وهو ظاهر مما تقدم.

وَعَنْ عَيْبٍ تُجْزِئُ بِهِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فَكَلَحْمِهَا، وَفِي أَمْرِهِ بذَلِكَ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَةِ قَوْلانِ هذا كقول ابن بشير: وإن كانت تجزئ به. فأما هي تبقى أضحية، وأما المأخوذ؛ فإن أوجبها على ما قلناه تصدق به، أو أكله كما يصنع بلحمها بعد الذبح، وإن لمي وجبها فهل يؤمر بالصدقة، أو يفعل به ما شاء؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه كالجزء فيؤمر بالصدقة أو الأكل، والثاني: أنها لا تجب، فيصنع به ما شاء. ابن راشد: وكذلك إذا أتلفها الأجنبي فأخذ منه قيمتها، فيختلف: هل عليه أن يشتري به غيرها، أو يفعل به ما شاء؟ انتهى. والذي نص عليه ابن القاسم في الواضحة من رواية أصبغ، وهو قول أصبغ: أنه إذا وجد عيباً تجزئ بمثله بعد الذبح، أنه يتصدق بالثمن. ابن القاسم: وذلك بخلاف ما يرجع به من قيمة عيب بعبد قد أعتقه، هذا يصنع به ما شاء، وإن كان عيباً لا تجزئ بمثله؛ أي: في الرقاب الواجبة. ابن يونس: يريد إذا كان تطوعاً لأنه يجوز عتق المعيب دون الضحية به، وظاهر قول ابن القاسم أنه يتصدق به خاصة، [231/ب] ولا ينتفع به كلحمها. ابن عبد السلام: وهذا خلاف ما قال المؤلف، إلا أن يتأول كلامه على حذف مضاف؛ أي: فكثمن لحمها إذا بيع كما سيأتي. خليل: والظاهر أنه لا يريد هذا المحذوف؛ لأنه يغلب على الظن أنه تبع هنا. ابن بشير: ولأنه حذف ما لا دليل عليه. فإن قيل: ما الفرق بين الأضحية والعبد على قول ابن القاسم؟ فجوابه من وجهين: أولهما: أن المقصود في الضحية إنما هو القربة فإذا أخرج فيها ثمناً لم يرجع فيه، بخلاف العبد فإنه قد يراد لمعنى فيه فالمقصود فيه إنما هو فكاك رقبته وقد حصل. وثانيهما: ما أشار إليه بعضهم من أن ذلك خلاف سؤال؛ لأنه في الأضحية أخرج الثمن لقصد القربة، وفي مسألة العبد إنما اشتراه ليملكه وبعد الشراء أعتقه، ولو اشتراه

بنية العتق لكان كالضحية فيتصدق بالأرش، كما أنه لو اشترى الشاة ليملكها ثم ضحى بها لم يؤمر بالصدقة بقيمة العيب. قال في الوجيز: وإن ابتاع أضحية فلما ذبحها ظهر على عيب دلس به البائع، فقال أبو عمران: يرجع عليه بقيمة العيب. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: يردها عليه ويرجع بالثمن كله ويشتري به أضحية، فإن فضل منه شيء فعند ابن المواز يتصدق به، وعند أشهب يأكله. انتهى. وَحُكْمُ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَوَلَدِهَا كَذَلَِكَ أي: فيفرق بين ما أوجبه وما لم يوجبه. وتبع المصنف ابن بشير في هذا والنقل لا يساعدهما. ففي المدونة: لم أسمع من مالك في لبنها شيئاً، إلا ما أخبرتك أنه كره لبن الهدي، وقد روي في الحديث: "لا بأس بالشرب منه بعد ري فصيلها"، فإن لم يكن للأضحية ولد فأرى ألا يشربه، إلا أن يضر بها فليحلبها وليتصدق به، ولو أكله لم أرَ عليه شيئاً، وإنما أنهاه عنه، كما أنهاه عن جز صوفها قبل ذبحها. ابن عبد السلام: وظاهرها الكراهة إذا لم يكن لها ولد، وهي أحرى إذا كان لها ولد. وعن مالك له شربه بخلاف لبن الهدي؛ لأن الأضحية لم تجب بعدُ بخلافه. اللخمي: وقال أِهب في مدونته: يصنع باللبن ما شاء، وله أن يحرمه ولدها. ولمالك في المبسوط: التفرقة؛ فيكره شربه إذا كان لها ولد، ويجوز إذا لم يكن. هذا تحصيل القول في اللبن. وأما الصوف ففي المدونة: لا يجوز جز صوفها قبل الذبح، ولا يبيع من أضحيته لحماً ولا جلداً ولا شعراً ولا غيره. ابن المواز: إلا في الوقت الذي ينبت مثله قبل الذبح. اللخمي: وحكم الصوف بعد الذبح كحكم الأضحية، وأما قبله فاتفق ابن القاسم وأشهب على أنه ليس له أن يجزه؛ لأن فيه جمالاً لها، واختلفا إذا فعل فقال ابن القاسم: ينتفع به ولا يبيعه. وقال أشهب وسحنون: يبيعه. والأول أحسن؛ لأنه قد نواه مع الشاة

لله عز وجل. واستحب أني بيع تلك الشاة إذا جز صوفها، ويشتري غيرها كاملة الصوف؛ لأن ذلك الذي فعل نقص من جمالها. قال صاحب البيان وابن زرقون: وقول ابن القاسم: استحباب؛ لأنها لا تجب عنده إلا بالذبح. وقد صرح التونسي بذلك فقال: استحب ابن القاسم ألا يبيعه. وعلى هذا فقوله: لا يجوز ليس معناه أنه حرام، بل معناه: لا يباح. نقل الباجي وابن يونس عن أشهب جواز الجز قبل الذبح، ونحوه لابن نافع. ابن عبد السلام: ومذهب ابن نافع كراهة شرب لبنها، وهو اختلاف قول. وقال عبد الحميد: إن اشترى شاة ونيته أن يجز صوفها للبيع وغيره، جاز ذلك سواء جزه قبل الذبح أو بعده، وهو تقييد لقول من منع من ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا تحصيل القول في الصوف. وأما الولد فإن خرج بعد الذبح فسيأتي، واختلف إن خرج قبله؛ فالمشهور استحباب ذبحه كما سيأتي، وقال ابن وهب: يجب ذبحه. وقال ابن حبيب: إن شاء ذبحه وإن شاء تركه. وقال أشهب: لا يذبحه ولا يجوز. هكذا نقله التونسي والباجي واللخمي. الباجي: يريد لأن سن الأضحية معتبر وهو معدوم في السَّخْلَة، وهكذا قال ابن شاس وغيره. وقول ابن عبد السلام: ورأيت لفظة "لا يجوز" مضروباً عليها في نسخة صحيحة من النوادر؛ إن أراد بذلك مجرد الإخبار دون أن يقصد تضعيف نقل هذا القول فظاهر، وإن أراد تضعيف نقله فليس بجيد؛ لأن أئمة المذهب قد نقلوا ذلك، فيجب الرجوع إليهم. ونقل ابن يونس عن ابن المواز أن قال: واستحب أشهب ألا يذبح معها. وَفِيهَا: وَلا يَجِبُ ذَبْحُهُ إِنْ خَرَجَ قَبْلَ ذَبْحِهَا؛ لأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهَا لَوْ هَلَكَتْ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُمْحَى، وَالأَوَّلُ الْمَشْهُورُ ... ظاهر كلامه أنه اختلف قول مالك، فكان أولاً يقول بعدم الوجوب، ثم أمر بمحوه ورجع إلى وجوب الذبح، وليس كذلك، بل الذي أمر بمحوه وإبقائه شيء واحد. قال في

التهذيب: إذا ولدت الأضحية فحسن أن يذبح ولدها معها، وإن تركه لم يكن ذلك عليه واجباً؛ لأن عليه بدل أمه لو هلكت. ابن القاسم: ثم عرضتها عليه فقال: امح واترك، إن ذبحه معها فحسن. ابن القاسم: ولا أرى ذلك عليه واجباً. واستشكل الشيوخ هذا الموضع؛ لأن الذي أمر بمحوه هو قوله: "لا أرى ذلك عليه واجباً"، والذي أبقاه هو قوله: "إن ذبحه معها فحسن" سواءٌ في [232/أ] الدلالة على عدم الوجوب، وأشار التونسي إلى أن اقتران عدم الوجوب دليل على ضعف ذلك الاستحسان، بخلاف ما إذا أبقى قوله: "فحسن أن يذبح معها ولدها" مجرداً عن عدم وجوب الذبح، فإنه قد يفهم منه تأكيد ذلك الاستحسان، وهذا التأكيد هو الذي رجع إليه مالك، والمعنى الآخر هو الذي رجع عنه، وهو الذي اختاره ابن القاسم. فلذلك أثبت اللفظ الدال عليه، فقال: لا أرى ذلك عليه واجباً. فائدة: ممحوات المدونة أربع: هذه، ونكاح المريض إذا صح قبل الفسخ، كان مالك أولاً يقول: يفسخ، ثم أمر بمحو الفسخ، والثالثة: إذا حلف ألا يكسو امرأته، فافتكَّ لها ثياباً من رهن، فقال مالك أولاً: يحنث، ثم أمر بمحوه، وقال: لا يحنث. قال ابن القاسم: وأرى إن لمتكن له نية أن يحنث. الرابعة: من سرق ولا يمين له أو له يمين شَلاَّء، فقال مالك: تقطع رجله اليمنى، ثم أمر بمحوه وأمر أن تقطع يده اليسرى. أَمَّا لَوْ ذُبِحَتْ فَكَلَحْمِهَا أي: إذا خرج الولد بعد الذبح فحكمه حينئذٍ كلحمها. ابن هارون: وهذا متفق عليه؛ لأنه كالجزء منها.

وَلَوْ أَصَابَهَا عِنْدَهُ عَوَرٌ وَنَحْوُهُ لَمْ تُجْزِهِ، بِخِلافِ الْهَدْيِ بَعْدَ التَّقْلِيدِ لا إشكال في هذا على القول بعدم الإيجاب، وأما على قول القاضي إسماعيل: إذا أوجبها فلا، كما تقدم. ابن رشد: وهو بعيد؛ لأنه يلزم عليه إن ماتت قبل أن يذبحها أن تجزيه، ولا يكون عليه أن يعيد ضحية أخرى. انتهى. ولولا النقل لأمكن أن يقال هنا بوجوب البدل ولو قلنا بالتعيين، والفرق بين الإيجاب ي الضحية والتقليد أن التعيين في الهدي ليس من جهة المكلف، وإنما هو شيء أمر به المكلف فصار بذلك كأنه وجب معيناً، والأصل في المعين عدم البدل، وأما التعيين في الأضحية، فإنما جاء من قبل نفسه فلا يسقط ما طلبه الشارع من طلب شاة سليمة من العيوب، ويوضح لك هذا أنه لو اشترى بعيراً وتلفظ بأن يجعله هدياً، ثم أصابه عيب قبل تقليده، فإنه لا يجزيه؛ لأن ذلك ليس مما طلبه الشارع منه، ولقائل أن يلتزم ذلك على قول القاضي. قد قال ابن شاس: وإن قال ابتداء: جعلت هذه الشاة ضحية وهي معينة، فهل تصرف إلى مصارف الضحية، أو يعوض بها سليمة؟ فيها الخلاف المتقدم في الهدي، وكذلك لو قال: لله عليَّ أن أضحي عرجاء، فهل تلزمه سليمة أولا تلزمه إلا العرجاء؟ فيه الخلاف المتقدم. وَكَذَلِكَ لَوْ ضَلَّتْ إِلَى أَنِ انْقَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَوَجَدَهَا صَنَعَ بهَا مَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَسَهَا إِلا أَنَّ هَذَا إِثْمٌ .... يعني: ولكونها لا تتعين يكون الحكم كذلك، فالإشارة بذلك إلى عدم التعيين اللازم من وجوب بدلها إذا طرأ بها عيب. قال في المدونة: وإن وجدها في أيام النحر فليذبحها، إلا أن يكون قد ضحى ببدلها فيصنع بها ما شاء. قيل: وينبغي على قول القاضي إسماعيل الذي يرى أنها تجب بالنية. والقول: أن يذبحها إذا وجدها في أيام النحر ولو كان ضحى

بغيرها، قال هذا القائل: وكذلك إذا مضت أيام النحر، وتقدم الكلام على قوله: (إثم) وفي بعض النسخ (ولذلك) باللام. وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ جُزْؤُهَا فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ قَوْلانِ ظاهر قوله: (فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ) أنه لا فرق في العوض بين أن يكون من الجنس أو من غيره. وظاهره أن القولين فيها بالجواز والمنع، ولم أرَ في الجنس قولاً بالجواز، بل القولان فيه بالكراهة والتحريم. ففي اللخمي: قال يحيى بن عمر في رجلين أمرا رجلاً أن يذبح لهما فاختلطا بعد الذبح: أنهما يجزيان من الضحية ويتصدقان بهما، ولا يأكلان منهما شيئاً. وقال محمد بن المواز في رؤوس الأضاحي تختلط عند الشواء: أكره لك أن تأكل متاع غيرك، ولعل غيرك لا يأكل متاعك. محمد: ولو اختلطت برؤوس الشواء لكان خفيفاً؛ لأنه ضامن كمن ضمن لحم الأضاحي، وقد قيل: ليس له طلب القيمة. اللخمي: فعلى قول محمد يجوز إذا اختلطت الشاتان أن يأكلاهما؛ لأنه إنما كره أكل الرأس لإمكان أن يكون الآخر تصدق به ولم يأكله، فلا تأكل أنت متاعه، وهذا استحسان. واعترض عبد الحق قول يحيى وقال: ما أرى المنع من أكلها، وهي شركة ضرورية تشبه شركة الورثة في أضحية مات صاحبها. وأما القولان في أخذ العوض من غير الجنس، فلم أر فيه قولاً بالمنع نعم هو يلزم على قول يحيى؛ لأنه إذا منع أخذ العوض من الجنس فالمنع في غيره أولى. وعن ابن القاسم: استحب لمن سرقت رؤوس أضاحيه ألا يغرمه شيئاً. وكأنه رآه بيعاً. وقال ابن الماجشون وأصبغ: له أخذ القيمة ويصنع بها ما شاء، ألا ترى أن من حلف ألا يبيع ثوبه فيغصبه غاصب، أن له أن يأخذ قيمته. وما احتج به من قوله: "ألا ترى أن من حلف .... إلى آخره" ليس متفقاً عليه، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وقال عيسى بن دينار: أحب إلي أن يأخذ الثمن من السارق، ويتصدق به، ونحوه لابن القاسم فيمن

أعطى جلداً للدبَّاغ، فادعى السرقة، إن كان يثق به فلا يأخذ منه شيئاً، وإن كان يتهمه أخذ منه قيمته وتصدق بها. ومنشأ الخلاف: هل القيمة بيع أم لا؟ [232/ب] واستشكل في البيان قول من قال باستحباب التصدق بأن أخذ القيمة إن لم يكن بيعاً فلا وجه لاستحباب التصدق بها، وإلا فلا يجوز ذلك، وإن تصدق بها لأنه لا يجوز أني بيع الإنسان شيئاً من أضحيته ليتصدق بثمنه. وَأَمَّا قَبْلَهُ فَالْمَنْصُوصُ إِذَا قُسِمَتْ فَأَخَذَ الأَقَلَّ بَدَّلَهُ بِمُسَاوِي الأَفْضَلِ، وَقُيِّدَ بِالاسْتِحْبَابِ ... أي: وأما إن اختلطت قبل الذبح إن تساويا فواضح، وإن لم يتساويا فمن أخذ الأفضل ذبحه، ومن أخذ المفضول استحب له أن يبدله بما يساوي الأفضل. وإليه أشار بقوله: (بِمُسَاوِي الأَفْضَلِ). ومعنى (الْمَنْصُوصُ) المنقول، وليس مراده بذكر المنصوص التنبيه على خلاف، ولأجل أن مراده بالمنصوص المنقول قال: (وَقُيِّدَ) وهو ظاهر. ابن بشير: والإبدال بالمساوي ظاهر إذا عينها، وأما إذا لم يعين فإنما ذلك على طريق الاستحباب. انتهى. ونقل ابن يونس عن ابن عبد الحكم أن الضحايا إذا اختلطت فال بأس أن يصطلحا فيها؛ يأخذ كل واحد كبشاً ويجزيه. فقد يقال: هذا مخالف لكلام المصنف؛ لأن ظاهره سواء كانا متساويين أو لا، وعلى هذا فهمه بعضهم، ويحتمل أن يكون أراد المتساويين فلا يكون مخالفاً، والله أعلم. فَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ غَالِطاً لَمْ تُجْزِئْ مَالِكَهَا، وَالْمَشْهُورُ: وَلاَ الذَّابِحَ، وَثَالِثُهَا: إِنْ فَاتَتْ قَبْلَ تَخْييرِ مَالِكَهَا أَجْزَأَتْ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِ اخْتَارَ مَالِكُهَا الْقِيمَةَ أَجْزَأَتْ كَعَبْدٍ أُعتِقَ عَنْ ظِهَارٍ فَاسْتُحِقَّ إنما لم تجز مالكها لعدم نيته ونية موكله. خليل: ولم أرَ في ذلك خلافاً. وأما الذابح ففي إجزائها عنه أقوال:

المشهور: لا تجزئ لوقوع القربة في غير محل، وهو أحد قولي أشهب. والثاني: أنها تجزيه، وهو أحد قولي أشهب؛ لأن أخذ القيمة يحقق له الملك بناء على أن المرتقبات إذا وقعت، هل يقدر حصولها الآن أو من الأول؟ والثالث لابن حبيب: إن كانت على وجه لا يكون لمالكها إلا أخذ قيمتها أجزأت؛ لأنه حينئذٍ يصير كأنه ضحى بملكه، وإن بقي لربها فيها خيار لم تجزئ؛ لأن ذابحها كأنه إنما ملكها بعد الذبح. وأما قول ابن المواز أنها تجزئ إذا أخذ ربها قيمتها، فهو تفسير لقول أشهب، وهو كذلك في المدونة؛ إذ لا يمكن أن يقول أشهب بالإجزاء إذا اختار ربها أخذ لحمها. ولذلك لم يعده المصنف رابعاً. وكذلك أيضاً أشار ابن المواز إلى أن قول ابن القاسم بعدم الإجزاء إنما هو إذا أخذ لحمها، وأما إذا أخذ قيمتها فإنها تجزيه. ابن المواز: وإن أسلمها وأخذ قيمتها، فابن القاسم يقول: لا تجزئ الذابح، ولا له بيع لحمها، ويأكله أو يتصدق به، وقاله أصبغ. وهذه من كتب المجالس لم تتدبر، وأحب إليَّ أن تجزئ عنه، كعبد اشتراه وأعتقه عن ظهار، ثم استحق بعد أن شهد شهادات، ونكح وطلق فأجاز ربه العتق، فإنه يجزئ معتقه وتنفذ شهادته وجميع أحكامه، وإن نقض عتقه بطلت أحكامه. وقد يفرق للمشهور بأن مشتري العبد كالمالك حقيقة عند الفقهاء، ويعطونه جميع أحكامه، وقد ضمنه بدفعه الثمن بخلاف الغالط، ولهذا قال عبد الحق: ولو اشترى الأضحية وذبحها ثم استحقت، فأجاز ربها البيع، لأجزأته وصارت كالعتق سواء لفعله ذلك بشيء ضمنه بالعوض الذي وداه. واختلف لو غصب شاة وذبحها وأخذ ربها القيمة منه، هل تجزئه لأنه ضمنها بالغصب أم لا؟ لأن هذا ضمان عداء وذلك ضمان ملك. عبد الحق: والأول أبين على طرد العلة.

ابن عبد السلام: وحيث أخذها مالكها مذبوحة تصرف فيها كيف شاء. انتهى. ولا يقال إن قول ابن المواز موافق لقول ابن الحبيب؛ لأنه يظهر الفرق بينهما إذا لم تفت، واختار مالكها القيمة، فعلى قول ابن حبيب لا تجزئ، بخلاف قول محمد. وَشَرْطُهُا: أَنْ تَكُونَ مِنَ النِّعَمِ، وَفِيمَا تَوَلَّدَ مِنَ الأُنْثَى مِنْهَا قَوْلانِ احترز بالنعم من الطير والوحش. والنعم: الإبل والبقر والغنم. ابن شعبان: ولا يختلف المذهب أن الإناث إذا كانت من غير النعم لا تجزئ، وإن كانت منها فقولان. قال: والذي أقول به الجواز؛ لأن أكثر الأحكام على أن الولد تابع لأمه. وانظر هل يتخرج قول بجواز الضحية إن كانت الأم وحشية من القول بوجوب الزكاة في ذلك كما تقدم في الزكاة. وَالأَفْضَلُ الضَّانُ ثُمَّ الْمَعْزُ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ الإِبِلِ عَلَى الْبَقَرِ أَوْ الْعَكْسِ قَوْلانِ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ ذُكُورِهَا أَوِ التَّسَاوِي قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ الْفَحْلُ وَالْخَصِيُّ وَالاقَرَنُ وَالأَبْيَضُ أَفْضَلُ ... الغنم في الضحايا أفضل؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وبها فدي الذبيح ولد إبراهيم عليه السلام، وهو أصل مشروعية الأضحية. ونقل الحفيد عن أشهب وابن شعبان أن الإبل أفضل من الغنم كمذهب الشافعي. والخلاف فيما بين البقر والإبل خلاف في حال، هل هذا أطيب أم هذا؟ والظاهر طيب البقر، وهو قول الجلاب وعبد الوهاب في المعونة، واستقرأه صاحب البيان من العتبية. والقائل بأن الإبل أفضل هو ابن شعبان. وظاهر المذهب تفضيل الذكور. وفي المبسوط الذكر والأنثى في الضحية والهدي سواء. وكذلك الفحل على الخصي، وهو مذهب الرسالة، وحكى ابن بزيزة قولاً بأن الخصي أفضل من الفحل لطيب لحمه. وإناث الجنس الفاضل أفضل من ذكور الجنس

الذي يليه، وإناث المعز أفضل من ذكور [233/أ] البقر. وعلى هذا فالمراتب اثنتا عشرة مرتبة ولا تخفى عليك. وخرج مسلم وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي فقال: "يا عائشة هلمي المدية"، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "اشحذيها بحجر"، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش وأضجعه ثم قال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد"، ثم ضحى به. زاد النسائي: ويأكل في سواد. ولهذا قال ابن وهب: استحب جماعة من الصحابة والتابعين الضحية بكبش عظيم سمين أقرن أملح، ينظر في سواد ويسمع في سواد ويشرب في سواد، والجمهور على اختيار التسمين، وفي البخاري عن أبي أُمامة: كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة. وكره ذلك ابن شعبان لئلا يتشبه باليهود. وروى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أٌرنين أملحين. والأقرن أن يكون ذا قرون. ابن عبد البر: وأجمع الجمهور أنه لا بأس أن يضحي بالخصي إذا كان سميناً، قالوا: والأقرن الفحل أفضل من الخصي الأجم، إلا أن يكون الخصي الأجم أسمن فهو أفضل. وكذلك قال ابن حبيب: الخصي السمين أفضل من الفحل المهزول. والأملح قيل: هو كلون الملح فيه طاقات سود. وقيل: هو الأسود تعلوه حمرة. وقيل: هو المتغير الشعر بالسواد والبياض كالشهبة. وقال ابن الأعرابي: هو النقي البياض. وهو يوافق ما ذكره المصنف من تفضيل الأبيض. ويحتمل أن يكون مراد المصنف بالأبيض ما تقدم أن الصحابة استحبوه، ويكون أطلق عليه أبيض باعتبار غالبه. وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّانِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِه لما خرجه مسلم وأبو داود والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن".

وَأَكْمَلُهُ الْجَوْدَةُ وَالسَّلامَةُ مُطْلَقاً، وَلا تُجْزِئُ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، والْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضَلَعُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الْتِي لا تُنْقِي؛ أي: لا مُخٌّ فِيهَا، وَقِيلَ: لا شَحْمَ .... لا إشكال في أفضلية الكامل، وكره مالك تغالي الناس في الضحايا، وكره لرجل يجد بعشرة دراهم أن يشتري بمائة درهم. وفي الموطأ وغيره عن البراء بن عازب: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينقى في الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع"، وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم "العرجاء البيِّن ضلعها، والعوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعجفاء التي لا تُنْقِي". ابن عبد البر: وهذه العيوب مجمع عليها. عياض: وضلعها بفتح الضاد واللام. أبو الحسن: وروي بالظاء المشالة؛ أي عرجها، وهي التي لا تلحق الغنم. ابن حبيب عن مالك: وأما العرج الخفيف إذا لم يمنع أن تسير بسير الغنم فلا يمنع الإجزاء. والبين عورها هي التي ذهب بصر أحد عينيها، وإن كان بعينيها بياض على الناظر يسير لا يمنعها أن تبصر، أو كان على غير الناظر لم يمنع الإجزاء. قال محمد عن مالك: وإن كان على الناظر فهي العوراء. الباجي: وكذلك عندي لو ذهب أكثر بصر عينيها. ابن عبد السلام: وظاهر كلام أشهب انه إن نقص نظرها شيئا ًلم يَجز أن يضحي بها. وأما البين مرضها فهو وصف ظاهر، وهو الذي عمم به الفقهاء أكثر الأحكام. وإن وقع خلاف في بعضها فلتحقيقه هل هو كثير أو لا؟ ولا خلاف في إلحاق ما هو أشد من هذه العيوب بها كالعمى وقطع اليد والرجل. كما لا خفاء في عدم إلحاق ما ليس بمساوٍ لها.

مالك: ولا يجوز الدبر من الإبل. ابن القاسم: يريد بذلك الدبرة الكبيرة، وأن المجروح بتلك المنزلة إن كان جرحاً كبيراً، يريد: فيلحق بالمرض. محمد: ولا تجزئ يابسة الضرع كله، وإن أرضعت ببعضه فلا بأس. وفي المبسوط: لا تجزئ البكماء. والنتَّن في الفم مما يُنَّقى، قال في الذخيرة: لنقصان الجمال واستلزامه تغر اللحم أو بعضه. والأكثر على أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقي"؛ أي: لا مخ في عظامها، وهو المنقول عن أهل اللغة. وقال ابن حبيب: هي التي لا شحم فيها، وفسرها ابن الجلاب وغيره بالوجهين. وَكَذَلِكَ قَطْعُ الأُذُنِ وَالذَّنَبِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِنَاءً عَلَى التَّعْدِيةِ أَوِ الْقَصْرِ الشاذ لابن القصار وعبد الوهاب، ورأيا أن إشارته صلى الله عليه وسلم بيده وتلفظه بالعدد الخاص كالحصر. والأحسن لو قال: ونحوهما، ولعله يريد بذلك الثدي. وَيُغتَفَرُ الْيَسِيرُ، وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثِ، وَفِي الثُّلُثِ قَوْلانِ، وَفِيهَا: وَمَا سَمِعْتُ مَالِكاً يُوَقِّتُ نِصْفاً مِنْ ثُلُثٍ ... هذا تفريع منه على الأشهر، وحاصله أنه يغتفر ما دون الثلث، ولا يغتفر ما زاد عليه، (وَفِي الثُّلُثِ قَوْلانِ) وظاهر كلامه أن هذا في الأذن والذنب، ولابن بشير نحوه وهو صحيح، أما الأذن فقد نص ابن حبيب فيه على أن الثلث كثير. وقال ابن المواز: النصف عندي كثير من غير أن أجد يه حداً. فأخذ منه غير واحد أن الثلث يسير. وأما الذنب فنص ابن المواز وابن حبيب على كثرة الثلث فيه. وحكى التونسي قولاً بيسارته. وفي البيان بعد أن ذكر أن ما دون الثلث من الأذن يسير باتفاق، وأن النصف كثير باتفاق: وإنما اختلف في الثلث والذنب والأذن فيما يستحق سواء. وقال الباجي: الصحيح [233/ب] أن ذهاب ثلث الأذن يسير، وذهاب ثلث الذنب كثير؛ لأن الذنب لحم وعصب، والأذن

طرف جلد لا يكاد يستضر به، لكن ينقص الجمال كثرته. وما ذكره المصنف عن المدونة ظاهر أنه في الأذن والذنب وليس هو كذلك فيهما بل هو خاص بالأذن. وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَرْقَاءِ وَالشَّرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ بَيَاناً لِلأكْمَلِ عَلَى الأَشْهَرِ النهي المشار إليه خرجه ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، ولا يضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. فالمقابلة هي التي قطع من جهة أذنها من قبل وجهها وترك معلقاً، وإن كان قطع من جهة قفاها فهي المدابرة، والشرقاء هي المشقوقة الأذن، والخرقاء: المثقوبة الأذن. هكذا فسر أهل اللغة وأصحابنا. الباجي: وأما القطع ي الأذن أو الأذنين كالمقابلة والمدابرة والخرقاء والشرقاء، فقال ابن القصار: لا يمنع الإجزاء إلا الاستحباب، وهذا قول مطلق. والمذهب على أن الكثير يمنع الإجزاء. ابن بشير: وحمل ابن القصار النهي المذكور على منع الكلام، وهو على قوله المتقدم يقصر منع الإجزاء على العيوب المذكورة. وفي الرسالة: ولا المشقوقة الأذن إلا أن يكون يسيراً وكذلك القطع. وفي المدونة: ولا بأس في الأذن بمثل الميسم أو شق يسير أو قطع يسير. وأما جدع الأذن أو شقها فلا يجوز، وما سمعت مالكاً يوقت في الأذن نصفاً ولا ثلثاً. وعلى هذا ففي قول المصنف: (بيان الأكمل) على الأشهر نظر، ولا يقال: لعل كلام المصنف محمول على اليسير؛ لأنا نقول: لم يحكوا في اليسير خلافاً. وَيُغْتَفَرُ كَسْرُ الْقَرْنِ مَا لَمْ يَكُنْ مُمْرِضاً كَالدَّامِي هكذا قال في المدونة والرسالة. قال في الرسالة: وإن لم يَدْمَ فذلك جائز. وقال أشهب: لا يضحي بكسير القرن إن كان يَدْمَى، فإن فعل أجزأه. وينبغي أن يكون هذا الخلاف راجعاً إلى تحقيق العلة؛ لأن المعتبر إنما هو المرض المبين.

التونسي: وإذا استؤصل قرناها وقد برئت أجزأت. وفي كتاب ابن حبيب: لا تجزئ. والصواب الأول؛ لأن ذلك ليس نقصاً في الخلقة ولا في اللحم؛ لأن النعاج لا قرن لها. وعلى الإجزاء أكثر الشيوخ، وفهم أبو عمران وغيره المدونة عليه. وَلَوْ كَانَتْ بغَيْرِ أُذُنٍ أَوْ ذَنَبٍ خِلْقَةً وَهِيَ السَّكَّاءُ وَالْبَتْرَاءُ فَكَقَطْعِهِمَا أي: فلا يجزيان، وقوله: (السَّكَّاءُ) راجع إلى المخلوقة بغير أذن، و (الْبَتْرَاءُ) راجع إلى المخلوقة بغير ذنب. وَالصَّمْعَاءُ جِدّاً كَالسَّكَّاءِ بخِلافِ الْجَمَّاءِ، وَالْبَشَمُ وَالْجَرَبُ كَالْمَرَضِ الصمعاء والسكاء ممدودان، والصمعاء الصغيرة الأذنين. أي: فإن كانت صغيرة الأذنين جداً فلا تجزئ كما لو كانت بغير أذنين، وهكذا قال الباجي؛ لأن الأذن إذا كانت من الصغر بحيث تقبح به الخلقة تمنع الإجزاء. فإن قلت: ما ذكره المصنف مخالف للمدونة لقوله فيها: ولا بأس بالجلحاء وهي الجماء، والسكاء وهي صغيرة الأذنين. ابن القاسم: ونحن نسميها الصمعاء. قيل: ليس هو خلاف؛ لأن المصنف إنما تكلم على الصمعاء جداً لا على مطلق الصمعاء. والجماء: التي لا قرن لها. ابن بشير: ولا خلاف فيها. وحكى بعضهم فيها الإجماع. والبشم: التخمة، ومعنى كون البشم والجرب كالمرض أنه إن كان بيِّناً لم تجزئ وإلا أجزأت. وَفي السِّنَّ الْوَاحِدَةِ وَالاثْنَتَيْنِ قَوْلانِ، بخِلافٍ الْكُلِّ وَالْجُلِّ عَلَى الأَشْهَرِ معناه: إن ذهب جميع الأسنان أو جلها ففيه قولان، أشهرهما أنه لا يجزئ، والقول بالإجزاء مبني على قول من قصر العيوب على الأربعة الواردة في الحديث، وعليه فلا إشكال في الإجزاء في السن والسنين، وأما على الأشهر فاختلف في الإجزاء في السن

والاثنتين كما ذكر المصنف، لكن في كلامه إجمال؛ لأن محل الخلاف إنما هو إذا كان من كبر، ويتبين بكلام اللخمي، قال: فلا تجزئ إذا كانت ذاهبة الأسنان بكسر أو شبهه، وتجزئ إذا كان من إثغار. واختلف إذا كان لكبر. فقال مالك في كتاب محمد: تجزئ. وقال ابن حبيب: لا تجزئ. والأول أبين. واختلف في السن الواحدة ففي كتاب محمد: لا بأس بها. وفي المبسوط: لا يضحي بها. ومجمل قوله على الاستحباب؛ لأنه من العيوب الخفيفة. انتهى. وقد صرح في البيان بالاتفاق على الإجزاء في التي سقطت أسنانها لإثغار، وبالاتفاق على عدم الإجزاء في التي كسرت أسنانها. وَفِي الْهَرَمِ كثِيراً قَوْلانِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلا نَصَّ فِي الْمَجْنُونَةِ، وَأُرَاهُ كَالْمَرَضِ الخلاف في الهرم خلاف في حال هل هو من المرض المانع أو لا؟ وقال سحنون: في التي أقعدها الشحم أنها تجزئ. وفي جعل الباجي الجنون كالمرض إشارة إلى تفريق اللخمي بين الدائم فيمنع، وبين غيره فلا يمنع. وحكى ابن بزيزة في المجنونة خلافاً بين المتأخرين. الْمَامُورُ: مُسْتَطِيعٌ حُرٌّ مُسْلِمٌ غَيْرُ حَاجِّ بمِنّى، بخِلافِ الرَّقِيقِ وَمَنْ فِي الْبَطْنِ، وَالْمُسْتَطِيعُ مَنْ لا تُجْحِفُ بِمَالِهَ ... يعني: أن المأمور بالأضحية من اجتمعت فيه شروط أربعة. وقوله: (بِخلافِ الرَّقِيقِ) راجع إلى قوله: (حُرٌّ)، والمراد بالرقيق: الْقِن ومن فيه شائبة حرية كأم الولد والمدبر والمكاتب، واستحسن مالك الضحية لهم إذا أذن لهم [234/أ] السيد. ومن في البطن كالعدم. مالك في الموازية: ولا يعجبني أن يضحي عن أبوين الميتين. قوله: (وَالْمُسْتَطِيعُ مَنْ لا تُجْحِفُ بِمَالِهِ) تصوره ظاهر.

ابن بشير: وتحرز بالاستطاعة من الفقير، فإنها لا تلزمه، ولا يؤمر بها من تجحف بماله، وإن كان قادراً على شرائها، ولا يتحصل في المذهب حد المال المقتضي للأمر بها، لكن النظر إلى الإجحاف وعدمه. انتهى. وسئل مالك: أيضحي عن الصغير له ثلاثون ديناراً بنصف دينار؟ فقال: نعم. ابن حبيب: يلزم من ماله في يده من وصي أو غيره أن يضحي عنه منهن ويقبل قوله في ذلك كما يقبل في النفقة سواء. واحترز بـ (غير الحاج بمنى) من الحاج بمنى، فإن سنته الهدي فقط، ولا تشرع له الأضحية على المشهور، وظاهر ما في المبسوط لابن القاسم وما لأشهب في غيره أن المشروعية باقية. وقولنا: الحاج بمنى يخرج من لم يحج من أهل منى. قال في البيان: وفي المبسوط لابن كنانة: إنه لا يضحي أحد بمنى. ظاهره: وإن لم يكن من الحاج وهو شذوذ. وَيُضَحِّي عَنِ الصَّغِيرِ، وَلا يَشْتَرِكُ فِيهَا لَكِنْ لِلْمُضَحِّي أَنْ يُشْرِكَ فِي الأَجْرِ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ بخِلافِ غَيْرِهِمْ يضحي عن الصغير؛ لاجتماع الأوصاف المتقدمة فيه، وهذا إن كان له مال، وإن لم ينك فقال ابن حبيب: يلزم الإنسان أن يضحي عمن تلزمه نفقته من ولد ووالد. وفي العتبية ذلك غير لازم. ونص في المدونة على أنه لا يلزمه أن يضحي عن الزوجة. محمد عن مالك: وله أن يدخلها. ابن حبيب: وإن لم يفعل فذلك عليها بخلاف الفطرة. والفرق بين زكاة الفطر والأضحية أن زكاة الفطر من توابع النفقة، بخلاف الضحية فإنها قربة. والإنسان لا يلزمه أن يتقرب عن الغير. وقال ابن دينار: يلزمه أن يضحي عن زوجته إن لم يدخلها. قوله: (وَلا يَشْتَرِكُ فِيهَا) قال في البيان: وروى ابن وهب عن مالك الاشتراك في هدي التطوع، ويلزم ذلك

في الأضاحي على القول بعدم وجوبها. وقوله: (لَكِنْ ... إلخ) أي أن هذه الشركة جائزة، وهو الاشتراك في الأجر دون الشركة في ثمنها. ولا فرق في ذلك بين أن يكونوا سبعة أو أكثر. وقوله: (مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ أَقَارِبهِ) يريد الساكنين معه أشار إلى ذلك في المدونة. ابن حبيب: وله أن يدخل في أضحيته من بلغ من ولده، وإن كان غنياً، وأخاه وابن أخيه وأقاربه إذا كانوا في نفقته وبيته. الباجي: فأباح ذلك بثلاثة أسباب: القرابة، والمساكنة، والإنفاق. محمد: إن شاء أدخل في أضحيته أم ولده، ومن له فيه بقية رق، ولا يدخل يتيمه في أضحيته ولا يشرك بين يتيمين في أضحية وإن كانا أخوين، والجد والجدة كالأجانب. الباجي: يريد أن الجد والجدة ليسا في نفقته، ولو كانا على ذلك لجاز عندي على ما تقدم في الأقارب. وعندي أنه لا يصح التشريك لأهل بيته وإن لم يعلمهم بذلك. ولذلك يدخل فيها صغار ولده، وهم لا يصح منهم قصد القرابة. انتهى. ابن عبد السلام: وفيه نظر لأن شرط حصول الثواب على القربة النية، وأما الصغار فإنها تسقط عنهم لعدم القصد مع أنها عبادة مالية، والوالي هو المخاطب بها كالزكاة. انتهى. وقال محمد- بعد قوله: أنه لا يدخل الجد والجدة وهما كالأجنبيين-: لا يضحي إلا عن كل واحد بشاة، إلا أن تكون زوج الجد يدخلها في شاة، كما لو بعثها إلى الجد فذبحها الجد عنه وعن زوجته. ابن ميسر: وذلك بإذن الجد. وَالأَوْلَى ذَبْحُهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنِ اسْتَنَابَ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الْقُرْبَةُ جَازَ لأنها قربة. ابن يونس وابن راشد: والمرأة في هذا كالرجل. وقد كان أبو موسى الأشعري يأمر بناته أن يذبحن نسكهن. محمد: إلا من ضرورة أو ضعف.

ابن حبيب: أو كبر أو رعشة. وظاهر كلام مالك أنه إن استناب لا يطلب بالإعادة؛ لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم استناب عليّاً رضي الله عنه في نحر بقية بدنه في الهدايا. محمد: قال مالك: إن أمر مسلم غيره من غير عذر، فبئس ما صنع وتجزيه، وقال ابن حبيب: أحب إليَّ أن يعيد إن وجد سعة. وفي مختصر ابن عبد الحكم قولُ أنه لا تجزيه إذا استناب مسلماً غيرُ مميز. فَلَوْ قَصَدَ الذَّبْحَ عَنْ نَفْسِهِ فَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلانِ أي: فلو قصد المستناب الذبح عن نفسه، فقال مالك: تجزئ ربها، وقال أصبغ: لا تجزئ مالكها، وتجزئ عن الذابح ويضمن قيمتها، كمن تعدى على أضحية رجل فذبحها عن نفسه. وقال الفضل بن سلمة: لا يجزئ عن واحد منهما. ورد في البيان قول الفضل بأن الذابح لم يتعد في ذبحه، فوجب أن تكون النية نية ربها الحاضر، كمن أمر رجلاً أن يوضيه. وفرق بأن الذابح مذكَّ للشاة بلا شك، بدليل أنه لا يصح أن يكون مجوسيّاً، وكل مذكَّ لابد له من النية بحضور ربها، وصف طردي بخلاف مسألة الوضوء. وَلا تَصِحُّ اسْتِنَابَةُ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ كِتَابيّاً عَلَى الْمَشْهُورِ أي: إن كان غير كتابي فلا تصح اتفاقاً وفي الكتابي قولان؛ مذهب المدونة: لا تجزئ؛ لأنها قربة فلا تصح منه، والقول بالإجزاء لأشهب اعتباراً بنية المالك، فإن أمر رجل رجلاً يظن أنه مسلم فذبح، ثم تبين أنه نصراني، فعن مالك أنه يعيد، فإن نحر اليهودي أو النصراني من نفسه، فإن تَزَيَّا بزِيِّ المسلمين الذين [234/ب] يذبحون ضمن ذلك وعاقبه السلطان. وَفِي تَارِكِ الصَّلاةِ قَوْلانِ بناء على فسقه فتصحن أو كفره فلا تصح.

وَالاسْتِنَابَةُ بالْعَادَةِ فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ تَصِحُّ عَلَى الأَصَحِّ كَالْقَرِيبِ الاستنابة تكون بالتصريح، وقد تقدمت، وبالعادة كمن ذبح أضحية ولده أو والده، وجرت عادته القيام بأموره، ثم كلام المصنف يحتمل معنيين: أحدهما: الخلاف في القريب وغيره، وعليه مشاه ابن راشد، وهكذا حكى اللخمي الخلاف في القريب وغيره. ويحتمل أن يكون القريب لا خلاف فيه. وفي غير القريب قولان، وهذا مقتضى كلام ابن بشير؛ لكونه جعل استنابة القريب بالعادة كالاستنابة باللفظ. ابن عبد السلام: وهذا ظاهر كلام المصنف. ونقل ابن عبد السلام هذه الطريقة، ولكن لم يعزها لابن بشير، ونقل طريقة ثالثة: أن الخلاف إنما هو في القريب. وكلام الباجي يقتضي أنه لا خلاف في المسألة لا في القريب ولا في غيره، وذلك لأنه وقع في المدونة بالإجزاء في القريب، ونقل عن أشهب عدم الإجزاء، فتأول الإجزاء بما إذا كان القريب مفوضاً إليه، وقول أشهب فيما إذا لم يكن مفوضاً إليه، ووقع لابن القاسم في الموازية في غير القريب قولان، قال: لو أن جاراً لي انصرف من المصلى فذبح أضحيتي إكراماً لي، فرضيت بذلك لم يجز، وقال أيضاً: إذا كان لصداقة بينهما ووثق به أنه ذبحها عنه أجزأته، فتأول ما وقع من الإجزاء على أنه كان فوض إليه. قال: وأما إن ذبحها عنه بمجرد الصداقة، فالظاهر من المذهب أنه لا تجزئه لأنه متعدَّ، ولو شاء أن يضمنه لضمنه، إلا أن تكون هذه رواية بالإجزاء في التعدي، أنه إذا لم يرد صاحبها تضمينه فله وجه، وعلى هذا فمناط الحكم في القريب وغيره القيام بجميع الأمور، وأن من كان قائماً بجميع الأمور أجزأ ذبحه قريباً كان أو لا، ومن لم يكن قائماً بالجميع لم يجز ذبحه مطلقاً. وهذه الطريقة رابعة، وتصحيح المصنف الصحة في غير القريب ليس بحسن لكونه مخالفاً للمدونة. قال فيها: ومن ذبح أَحيتك بغير أمرك، فإما ولدك أو بعض عيالك ممن فعله ليكفيك مؤنتها، فذلك مجزئ عنك، وأما على غير ذلك فلا يجزئ، ونظير هذه المسألة ما لو زوج ابن أو أخ أخته البكر بغير إذن الأب، فقال في المدونة: يجوز إن كان قد فوض إليه القيام بجميع أموره.

وَيَاكُلُ الْمُضَحِّي وَيُطْعِمُ نِيئاً وَمَطْبُوخاً وَيَدَّخِرُ وَيَتَصَدَّقُ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهَا جَازَ وَإِنْ تَرَكَ الأَفْضَلُ ... المذهب كما قال أنه لو أكلها كلها أو تصدق بها كلها كان تاركاً للأفضل، وكذلك إن اقتصر على اثنين منها. وقال ابن المواز: التصدق بجميعها أفضل. وحكى عبد الوهاب رواية شاذة بوجوب الأكل. ابن حبيب: ويستحب أن يكون أول ما يأكل يوم النحر من أضحيته. وقال عثمان وابن المسيب وابن شهاب: يأكل من كبدها قبل أن يتصدق. يُكْرَهُ لِلْكَافِرِ عَلَى الأَشْهَرِ، وَفِي تَحْدِيدِ الصَّدَقَةِ اسْتِحْبَاباً ثَلاثَةٌ: الثُّلُثُ، وَالنِّصْفُ، وَالْمَشْهُورُ: نَفْيُ التِّحْدِيدِ ... القولان لمالك في العتبية في النصرانية تكون ظئر الرجل. والأشهر هو اختيار ابن القاسم، ووجهه أنها قربة فلا يعان بها الكافر. وعن مالك التخفيف في الذمي دون غيره كالمجوسي، وأشار ابن حبيب إلى أن من أباح ذلك إنما هو في الذي يكون في عيال الرجل. وأما البعث إليهم فلا يجوز وكذلك فسره مطرف وابن القاسم وابن الماجشون، وقاله أصبغ. وعكس ابن رشد فجعل محل الخلاف في الكراهة والإباحة إنما هو في البعث. وأما من كان في عياله وأقاربه أو ضيفه، فلا خلاف في إباحة طعامهم. فيتحصل من الطريقتين ثلاثة أقوال، والله أعلم. قوله: (وَفِي تَحْدِيدِ الصَّدَقَةِ ... إلخ) تصوره واضح. وَيُرَدُّ الْبَيْعُ، وَإِجَارَةُ الْجِلْدِ كَالْبَيْعِ خِلافاً لِسُحْنُونٍ، وَإِذَا فَاتَ فَثَلاثَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَلَحْمِهَا، وَكَمَالِهِ ... قوله: (يُرَدُّ الْبَيْعُ) يدل بالالتزام على المنع منه ابتداء وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء؛ لما في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه

قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال نحن نعطيه من عندنا. وكذلك لا يجوز أني دبغ بعض الجلود ببعض نص عليه ابن المواز. ومنع مالك من أن يدهن أحد شراك النعل التي يصنعها بدهن الأضحية؛ لأنها بالدهن تحسن ويكون لذلك حصة من الثمن. واختلف فيمن تصدق عليه أو وهب له لحم، فمنعه مالك من البيع؛ لأن قصاراه أني تنزل منزلة الأصل بالقياس على الوارث. وقال أصبغ: يجوز له البيع كالصدقة على الفقير، والزكاة. ابن غلاّب: وهو المشهور. قوله: (وَإِجَارَةُ الْجِلْدِ كَالْبَيْعِ ... إلخ) قال التونسي: وأجاز سحنون أن يؤاجر جلد أضحيته، وكذلك جلد الميتة، وفيه نظر؛ لأن بيع جلدها لا يجوز، واستئجارها انتهاك لأعيانها، فيؤدي ذلك إلى بيعأعيانها شيئاً فشيئاً. انتهى. وقيد ابن أبي زيد قول سحنون في جلد الميتة بأن مراده بعد الدبغ. وقوله: (فإن فات) أي: فات المبيع من لحم أو غيره فثلاثة أقوال: الأول لابن القاسم وابن حبيب: أنه يتصدق به. والثاني لسحنون: [235/أ] أنه يصرف الثمن فيما يصرف فيه المثمون، ويجعل ثمن الجلد في ماعون، وثمن اللحم في طعام. الثالث لابن عبد الحكم: انه مال من أمواله يصنع به ما شاء. والتصدق بالثمن على قول ابن القاسم إنما هو إذا تولى المضحي البيع بنفسه أو أمر بذلك غيره، وأما لو تولاه غيره بغير أمره، كما لو باعه أهله وفرقوا ثمنه، فنص ابن القاسم في العتبية على أن ذلك لا يلزمه. قال في البيان: ومعناه إذا صرفوا الثمن يما له غنى عنه، وأما إن صرفوه فيما لا غناء له عنه، فعليه أن يتصدق به. ابن عبد السلام: وما قاله صحيح، ومعناه يتصدق بالأقل من الثمن، أو مما صرفوه، كما قالوا ذلك في المحجور يبيع شيئاً، ويصرفه في مصالحه، ثم ينقض البيع. وينبغي إذا سقط عن المضحي التصدق بالثمن ألا يسقط عن الأهل الذين تولوا البيع.

الْوَقْتُ: وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلاثَةٌ، وَمَبْدَؤْهَا يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ صَلاةِ الإِمَامِ وَذَبْحِهِ فِي الْمُصَلَّى، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَهُ أَعَادَ ... لا خلاف عندنا أن أيام النحر ثلاثة؛ يوم النحر ويومان بعده، وهو مذهب علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، ذكره في الموطأ. ومذهبنا مراعاة ذبح الإمام؛ لما في مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بهم يوم النحر بالمدينة، فسبقه رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد. وقوله: (وَذَبْحِهِ فِي الْمُصَلَّى) أي: السنة أن يخرج الإمام أضحيته إلى المصلى؛ ليعلم الناس ذبحه، وأما إن لم يذبح الإمام فالمعتبر صلاته. فَإِنْ لَمْ يُبْرِزْهَا فَفِي الذَّبْحِ قَبْلَهُ قَوْلانِ، وَلَوْ تَوَانَى الباجي: إن أظهر إمام المصلى ذبح أضحيته بإثر الصلاة فمن ذبح قبله فالمشهور عن مالك أنه لا يجزيه، وإن لم يظهر فحكى المصنف في إجزاء الذبح قبله قولين تبعاً لابن بشير، فقال: إن لم يبرزها وثواني فالمشهور عدم الإجزاء؛ لما ثبت من وجوب الاقتداء به. والثاني: الإجزاء لأنه إنما يقتدي به، إذا اقتدى بفعله صلى الله عليه وسلم في إبراز الضحية. انتهى. وعدم الإجزاء مذهب الموازية، ففيها: ون ذبح أحد قبله في وقت لو ذبح الإمام بالمصلى لكان هذا قد ذبح قبله لم يجزه. وقيد ابن يونس بأن لا يتوانى، وأما إن توانى بعد وصوله إلى داره فمن ذبح في وقت لو لم يتوانَ الإمام وذبح في داره لكان هذا ذابحاً بعده أجزأه. ونحوه لصاحب البيان قال: إلا أن يتوانى بعذر من اشتغال بقتال عدو أو غيره، فينتظرونه ما لم يخرج وقت الصلاة بزوال الشمس. وقال ابن راشد: وقوله: (وَلَوْ ثَوَانَي) يقتضي أن الخلاف في الإجزاء وعدمه إذا ذبح قبل الإمام سواء توانى الإمام في

الذبح أم لا. ولم أقف على ذلك، فإن القائل بعدم الإجزاء قال: إن توانى الإمام في الذبح، فإن الذابح قبله يجزئه. ابن رشد: وقال أبو مصعب: إن لم يخرج الإمام أضحيته إلى المصلى، فليس على الناس أن ينتظروه حتى يرجع إلى منزله. ومن ذبح بعد القدر الذي كان يذبح فيه في المصلى فضحيته جائزة. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَذَبْحُ أَقْرَبِ الأَئِمَّةِ إِلَيْهِ عَلَى التَّحَرِّي، فَإِنْ تَحَرَّى فَأَخْطَأَ أَجْزَأَ عَلَى الْمَشْهُورِ .... أي: فإن لم يكن لهم إمام فإنهم يتحرون أقرب الأئمة إليهم، والفرق على المشهور بين هذا الفرع والذي قبله أن الإمام إذا لم يكن عندهم يعسر الاطلاع على ذبحه، والشاذ رواه أشهب عن مالك. وَالإمَِامُ الْيَوْمَ الْعَبَّاسِيُّ أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ نحوه للخمي، وأشار إلى أن المتغلبين يكونون كمن لا إمام لهم. وقال التونسي: الإمام المعتبر ذبحه الذي يقيم الحدود والجمعة والأعياد. وقال ابن رشد: المراعي في ذلك الإمام الذي يصلي صلاة العيد بالناس، إذا كان مستخلفاً على ذلك. وَلا يُرَاعَى قَدْرُ الصَّلاةِ فِي الْيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ المشهور رواه ابن حبيب عن مالك وقاله الباجي؛ وهو قول ابن المواز قال: وتذبح إذا ارتفعت الشمس وحلت النافلة، ولو فعل ذلك بعد الفجر أجزأه. وقال أصبغ: إذا طلع الفجر جاز الذبح في هذين اليومين. فإذا تقرر هذا علمت أن من لا يراعي وقت الصلاة لا يراعي طلوع الشمس إلا استحباباً، ولا يؤخذ هذا من كلام المصنف. وتشهير المصنف هو الصحيح وإن كان ابن بشير جعل الشاذ هو المشهور.

وَيُرَاعَى النَّهَارُ عَلَى الْمَشْهُورِ قد تقدم هذا. وَالأَوَّلُ أَفْضَلُ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى أَوَّلِ مَا بَعْدَهُ قَوْلانِ أما أفضلية النصف الأول من الأولى فمجمع عليه لفعله صلى الله عليه وسلم، واختلف هل النصف الثاني منه أضل من أول اليوم الثاني وإليه ذهب ابن المواز، أو أول الثاني أفضل؟ وهو قول مالك في الواضحة، بل صرح بكراهة ما بعد الزوال، قال: وكذلك الثاني يذبح فيه من ضحى إلى زوال الشمس، فإن فاته أمر بالصبر إلى ضحى اليوم الثالث. ابن يونس: وحكى لنا بعض فقهائنا القرويين قال: سمعت أبا الحسن ينكر قول ابن حبيب هذا، وقال: بل اليوم الأول كله أفضل من اليوم الثاني والثاني أفضل من الثالث. ورواية ابن المواز واختياره أحسن من هذا، والذي [235/ب] عند ابن المواز هو المعروف. ولو قال المصنف: وفي أفضلية ما بعد الزوال على أول ما بعده أو العكس لكان أحسن؛ لأن كلامه ليس بنص في أن القول الآخر يقتضي أفضلية أول الثاني لاحتمال فهم التساوي. ورأى القابسي واللخمي أن هذا الخلاف جارٍ أيضاً فيما بين آخر الثاني وأول الثالث. وقال ابن رشد: لا يختلف في رجحان أول اليوم الثالث على آخر الثاني. فائدة: نقل الباجي أن الأبهري وابن القصار رويا أنه يستحب لمن أراد أن يضحي إذا رأى هلال ذي الحجة ألا يقص شعراً، ولا يقلم ظفراً حتى يضحي، قالا: ولا يحرم ذلك عليه. قال: وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: ليس في ذلك استحباب. وقال احمد وإسحاق: يحرم عليه الحلق. ودليلنا على الاستحباب حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى هلال ذي الحجة فأراد أنا يضحي فلا يأخذ من شعره، ولا من

العقيقة

أظفاره حتى يضحي". رواه مسلم والترمذي وأبو داود. الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. وهذا نهي، والنهي إذا لم يقتض التحريم حمل على الكراهة. ودليلنا على نفي الوجوب حديث عائشة المتقدم في كتاب الحج: فَتلْتُ قلائدَ هدي رسول الله صلى الله عليه وسل بيدي، ثم بعثت مع أبي فلم يحرم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أحله الله له. ولا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسل ضحى في ذلك العام. الْعَقِيقَةُ: ذِبْحُ الْوِلادَةِ، وَأَصْلُهُ شَعَرُ الْمَوْلُودِ ينبغي أن تضبط الذال من (ذِبْحُ) بالكسر؛ ليكون المراد ما يذبح، ويحتمل الفتح على إرادة المصدر؛ لأن ذلك يستلزم مذبوحاً. الجوهري: والعقيقة: صوف الجذع، وشعر كل مولود من الناس والبهائم عقيقة. ويقال: عقيق أيضاً، وعقة بالكسر، ومنه سميت الشاة التي تذبح عن المولود يوم سابعه عقيقة. انتهى. ثم نقل من الشعر إلى ما يذبح من باب إطلاق السبب على المسبب، أو من باب إطلاق أحد المتلازمين على الآخر، صوار حقيقة شرعية في المذبوح للولادة. وأنكر أحمد ابن حنبل رضي الله عنه أن تكون العقيقة مأخوذة مما تقدم، وقال: إنما العقيقة: الذبح نفسه، وهو قطع الأوداج والحلقوم، ومنه قيل لقاطع رحمه عاق. وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى مِمَّا يُجْزِئُ في الأُضْحِيَةِ الضمير في (هُوَ) عائد على الذبح؛ أي: ولا يبلغ السنية. وحكى صاحب البيان عن ابن حبيب أنها سُنة، وحكاه بعض الأندلسيين عن مالك. ووقع لمالك في العتبية فيمن لم يكن عنده يوم الأضحى إلا شاة أنه يعق بها ولا يضحي، فظاهره أن العقيقة آكد، إلا أنهم تأولوه، ففي البيان معناه إذا رجا أن يجد أضحية في بقية أيام الأضحى، وإلا فليضح بها؛ لأن الضحية أوجب عند مالك وجميع أصحابه؛ لأنه قيل: إنها سنة واجبة، وقيل:

مستحبة. ولو كان ذلك في آخر أيام الأضحى لكانت الضحية أولى، قاله العتبي وابن حبيب، وهو قياس ما قلناه. وقوله: (لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى) أي: يكفي لكل واحد منهما شاة، ونبه على خلاف الشافعي فإنه جعل للذكر شاتين. ودليلنا ما رواه أبو داود عن أبي معمر عبد الله بن عمر عن عبد الوارث عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن كبشاً وعن الحسين كبشاً"، قال بعض المحدثين: وهو صحيح. وقال بعضهم: سنده صحيح. وروى الترمذي عن عائشة وصححه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة"، وخرجه النسائي من حديث أم كرز، وبه قال الشافعي، قيل: وهو أولى لأن سماع أم كرز منه صلى الله عليه وسلم كان عام الحديبية وهو متأخر عن حديث ابن عباس. وقوله: (مِمَّا يُجْزِئُ في الأُضْحِيَةِ) ظاهر. وَفِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ قَوْلانِ قال صاحب البيان وصاحب الجواهر: المشهور أنها كالضحية في أجناسها. قال ابن شعبان: لا يعق بشيء من الإبل والبقر. وروى مثله في العتبية؛ لأن المذكور في أحاديث هذا الباب إنما هو الغنم. وَوقْتُهُ السَّابعُ، وَلا يُعَدُّ مَا وُلِدَ فِيهِ بَعْدَ الْفَجْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ لا خلاف عندنا أن وقته السابع. قال مالك في العتبية: وحد ذبح العقائق ضحوة وهي سنة الذبح في الضحايا وأيام منى، وهي ساعة الذبائح. (وَلا يُعَدُّ مَا وُلِدَ فِيهِ بَعْدَ الْفَجْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ) يعني: إن ولد قبل الفجر اعتد بذلك اليوم، وإن ولد بعده فالمشهور ألا يحتسب به. وقيل: إن ولد قبل الزوال حسب

ذلك اليوم، وإن ولدبعده لم يحسب، وهذا القول رجع عنه مالك، وقال أصبغ: يلغى ذلك اليوم وإن حسب سبعة أيام من تلك الساعة إلى مثلها أجزأ. قال في البيان: وهو قول حسن. وظاهر كلامه أن مقابل المشهور الاعتداد به وإن ولد قبل الغروب. وهذا القول هكذا إنما نقله اللخمي وصاحب البيان عن عبد العزيز بن أبي سلمة. ويحتمل أن يريد بمقابل المشهور قول أصبغ. وظاهر كلام المصنف تعرية الوجه الأول- أعني: إذا ولد قبل الفجر- عن الخلاف. وحكي في البيان عن ابن الماجشون أنه لا يحتسب إلا من غروب الشمس الآتي بعد الولادة، سواء كانت الولادة ليلاً أو نهاراً. وفِي [236/أ] الذَّبْحِ لَيْلاً وَبَعْدَ الْفَجْرِ مَا فِي الأُضْحِيَّةِ أي: فلا يجزئ ليلاً على المشهور. وقوله: (وَبَعْدَ الْفَجْرِ) نص مالك في المبسوط على عدم الإجزاء إذا ذبحها قبل طلوع الشمس وأخذه ابن رشد من العتبية. وقال ابن الماجشون: يجيزيه إن كان بعد طلوع الفجر. قال في البيان: وهو أظهر؛ لأن العقيقة ليست منضمة إلى صلاة فكان قياسها على الهدايا أولى من قياسها على الضحايا. وهذا الخلاف يأتي على المشهور في المسألة السابقة وعلى الشاذ. وقولُ ابن عبد السلام: إنما يتمشى على غير المشهور، وأما على المشهور من إلغاء جزء من النهار فلا، ليس بظاهر. ويجزئ ذبحها أيضاً ليلاً على الشاذ، أنها لا تفوت بغروب الشمس من السابع وأنها تذبح فيما قرب، قاله مالك في العتبية. فَإِنْ فَاتَ فَفِي السَّابِعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ قَوْلانِ أي: فات السابع الأول فالمشهور الفوات. وروى ابن وهب عن مالك أنها تذبح في السابع الثاني، فإن لم تذبح فيه ففي الثالث، وجعلها ثلاثة أسابيع كما أن أيام الذبح في الضحية ثلاثة. وفي مختصر الوقار أنها تذبح في السابع الثاني فقط، وفي العتبية أنه إذا فات

السابع الأول فلا يعق عنه إلا أن يكون قريباً. قال في البيان: هو خلاف المشهور. فيتحصل في المسألة أربعة أقوال. وَفِي كَرَاهَةِ عَمَلِهَا وَلِيمَةً قَوْلانِ الكراهة لمالك وابن القاسم في العتبية، علله مالك بمخالفة العمل. والقول بالجواز حكاه ابن راشد عن ابن حبيب، وعلله ابن بشير بأنه طعام سرور فأشبه الولائم. وقال ابن عبد السلام: الذي أجازه هو ابن حبيب في ظاهر كلامه، وإطعامها للفقراء أضل، ويجوز إطعامها للأغنياء، ولو أكلوها ولم يطعموا أحداً لأجزأتهم وقد فاتهم الأفضل. ابن حبيب: ويحسن أن يوسع بغير شاة العقيقة؛ لإكثار الطعام ودعاء الناس. وتأول بعضهم أن مراد ابن حبيب دعاء الناس إنما هو على المزيد على العقيقة لا على العقيقة نفسها. وكذلك حكاه بعضهم عن ابن حبيب نصّاً. وعلى هذا فلا يكون في المسألة خلاف. ابن راشد: والسُّنة أن يطعم الناس منها في مواضعهم كالأضحية. وَفِي كَرَاهَةِ التَّصَدُّقِ بزِنَةِ شَعْرِهِ ذَهَباً أَوْ فِضَّةً قَوْلانِ الكراهة حكاها ابن مزين. ابن عبد السلام: والقول بالإباحة ذكره ابن الجلاب. انتهى. ولفظه: وليس على الناس التصدق بوزن شعر المولود ذهباً أو فضة فإن فعل فلا بأس به. ونص صاحب الرسالة وغيره على الاستحباب. وَلا بَاسَ بِكَسْرِ عِظَامِهَا كَالضَّحِيَّةِ عبد الوهاب: ويجوز كسر عظامها لا أنه مستحب ولا مسنون، ولكن تكذيباً للجاهلية في تحرجهم من ذلك، وتفصيلهم إياها من المفاصل. وفي الحفيد: إن الكسر مستحب لمخالفة الجاهلية.

وَلا يُلَطَّخُ الْمَوْلُودُ بِدَمِهَا قال في الرسالة: وإن خلق رأسه بِخَلوق بدلاً من الدم الذي كانت تفعله الجاهلية، فلا بأس بذلك. فرع: قال مالك في العتبية: من مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه. ابن يونس: ولا تسمية عليه فيه. ابن وهب: فذكرت له الحديث في السقط يقول لأبيه يوم القيامة:"تركتني من غير اسم" فلم يعرفه. وقال ابن حبيب: أحب إلي إن مات قبل السابع أن يُسمَّى. وكذلك السقط يُسمَّى لما روي من رجاء شفاته. قيل لمالك في العتبية: أيكره أن يسمى أحد قبل السابع؟ فقال: ما رأيت أحداً يسمِّي قبل السابع، إنما يعق عنه ويسمِّي يوم السابع. ابن يونس: وكره مالك الختان يوم يولد الصبي أو في سابعه، وقال: هو من فعل اليهود، ولم يكن من عمل الناس إلا حديثاً. وكان لا يرى بأساً أن يفعل لعله يخاف على الصبي. مالك: وحد الختان من وقت يؤمر بالصلاة من سبع سنين إلى عشر. * * *

الأيمان والنذور

الأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ: وَالْيَمِينُ الْمُوجِبَةُ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ باللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرُ لَغْوٍ وَلا غَمُوسٍ، مِثْلُ: وَاللهِ وَالرَّزَّاقِ، وَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِه، وَاِرَادَاتِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَكَلامِهِ، وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَقِدَمِهِ، وَوُجُودِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَجَلاللَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَعَهْدِهِ، وَمِيثَاقِهِ، وَذِمَّتِهِ، وَكَفَالَتِهِ، بخِلافِ مَا تَحَقَّقَ لِلْفِعْلِ كَالْخَلْقِ، وَالرِّزْقِ، وَكُرِهَ الْيَمِينُ بـ (لعَمْرُ اللهِ)، وَأَمَانَةِ اللهِ؛ إِذْ لَمْ يَرِدْ إِطْلاقُهُمَا، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ قَصَدَ الصِّفَةَ ... وسمي الحلف يميناً؛ لأنهم كانوا إذا حلفوا وضع أحدهم يمينه في يمين صاحبه وقيل: اليمين: القوة. وسمي العضو يميناً لوفور قوته على اليسار. ومنه قوله تعالى: (لأخَذَنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ([الحاقة: 45] أي: بالقوة، قال في الذخيرة: فعلى هذا يكون التزام الطلاق والعتاق وغيرهما في تقدير المخالفة يميناً بخلاف التفسير الأول. والحلف بكسر اللام وسكونها. والنذور: جمع نذر، وقد يجمع على نذر، وهو في اللغة عبارة عن الالتزام، وقيل: هو التزام بشرط. ابن بشير: والأول أشهر. وهل الحلف من حيث هو مباح، وإليه ذهب الأكثر، أو أرجع الترك؟ قولان للشيوخ. ابن عبد السلام: والصحيح نقلاً ونظراً الإباحة. وقلنا: من حيث هو؛ لأنه قد يعرض له الوجوب والندب والتحريم. ولا خلاف في جواز الحلف بأسماء الله تعالى سواء دلت على الذات فقط أو مع صفة، كقوله: والله والرحمن والعزيز والقدير، وأما صفاته فالمعروف [236/ب] من المذهب جواز الحلف بها، وخرج للخمي من قوله في الموازية فيمن حلف فقال: لعمر الله، فقال: لا يعجبني أن يحلف به أحد. ومن كراهة مالك أيضاً الحلف بأمانة الله، ومن رواية علي في مسألة الحلف بالقرآن وألفاظ وقعت لهم في هذا الباب تقتضي الخلاف في الأيمان بالصفات.

واعلم أن الكفارة إنما تجب في عزة الله وأمانة الله إن قصد بذلك صفته تعالى، وأما إن أراد ما جعله الله تعالى في عباده من العزة والأمانة كقوله تعالى: (سُبّحَنَ رَبِكَ رَبِ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ ([الصافات: 180] فإنه لا كفارة عليه، نص عليه أشهب، ولا يجوز حينئذٍ الحلف بهما وقاله ابن سحنون في العزة فقط. وقاله محمد في العهد. قال في الذخيرة: أمانة الله: تكليفه؛ لقوله تعالى: (إِنَّا عَرَضّنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوتِ وَالأَرْضِ ... ([الأحزاب: 72] وتكليفه: كلامه القديم، وعمر الله تعالى: بقاؤه، وهو استمرار وجوده، وعهد الله: إلزامه؛ لقوله تعالى: (وَأوْفُوا بِعَهّدِيّ ([البقرة: 40] أي: بتكاليفي، فذمته: التزامه فيرجع إلى خبره، وخبره: كلامه، وكذلك كفالته وميثاقه راجعان إلى الكلام. عياض: لعَمْرُ بالفتح والضم: الحياة والبقاء، إلا أنه إذا استعمل في القسم لم يكن فيه غير الفتح ولم يحك المصنف في عهد الله خلافاً. ابن حارث: واتفقوا على وجوب الكفارة إذا قال: عليَّ عهد الله، واختلفوا إذا قال: وعهد الله. قال في المدونة: تجب. وقال الدمياطي: لاتجب. اللخمي: والعهد على أربعة أوجه تجب الكفارة في وجه، وتسقط في اثنين، واختلف في الرابع فإن قال: علي عهد الله، فعليه الكفارة، وإن قال: لك عهد الله، أو أعطيك عهداً، فلا كفارة عليه. واختلف إذا قال: أعاهد الله، فقال ابن حبيب: عليه كفارة يمين. وقال ابن شعبان: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يحلف بالعهد إذ قولُه: أعاهد الله، عهدٌ منه وليس بصفة الله. ابن حبيب: وإذا قال: أبايع الله، فعليه كفارة يمين. اللخمي: وعلى قول ابن شعبان لا شيء عليه. ابن حبيب: "أيْمُ اللهِ" يمين. وفي الموازنة لمالك: إذا قال:"لعَمْرُ اللهِ" أو "ايْمُ اللهِ"، أخاف أن يكون يميناً. اللخمي: فتردد هل هي يمين أم لا؟ ابن عبد الحكم: وإن قال "لاها الله" فهي يمين كقوله "تالله"، وإن قال: "الله علي راعٍ" أو "كفيل"، فليس في ذلك كفارة. قال في الموازية: قال بعض أصحابنا في

"معاذ الله": ليست يميناً إلا أن يريد بها اليمين. وقيل في "معاذ الله" و"حاشا لله": إنهما ليستا بيمين بحال. انتهى. وفي اللخمي قول: إنهما يمين، التونسي: والأشبه في "معاذ الله" و"حاشا لله" أنهما ليستا بيمين. وقال ابن حبيب: وقول الرجل للرجل علي عهد الله أو لك علي عهد الله إن فعلت كذا فلا كفارة عليه في هذا ولا رخصة في تركه. انتهى. وهو يخالف الاتفاق الذي حكاه ابن حارث. وقوله: (وَكُرِهَ الْيَمِينُ بـ (لعَمْرُ اللهِ)) أي: كره مالك في الموازية الحلف بعمر الله، وظاهر المدونة جواز الحلف به ففيها: الحلف بجميع أسماء الله تعالى وصفاته لازم كقوله: والعزيز والسميع والعليم، ثم قال: أو قال: وعزة الله، وكبريائه، وقدرته، وأمانته، أو قال: لعمر الله، هي كلها أيمان تكفر ولعل المراد بالكراهية- على ما في الموازية-المنع؛ لأن الصحيح أن أسماء الله تعالى توقيفية، بل أشار ابن عبد السلام إلى أن هذا ليس هو محل للخلاف؛ لأن لعمر حقيقة في حق الحادث، وكذلك الأمانة فهما مجملان، وإنما محل الخلاف ما كان صريحاً وظاهراً في معناه، وكان معناه صحيحاً، وهذا البحث إنما هو على ما علل به المصنف. ابن بشير: ويحتمل أن تكون الكراهة للتردد الذي قدمناه عن أشهب في الأمانة؛ أي: من إرادة صفة الله تعالى، أو الأمانة التي جعلها الله تعالى في عباده. تنبيه: لا فرق بين أن يقول: والله، أو وحق الله، فإن ذلك كله يمين، نص عليه في العتبية، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يلزمه حكم اليمين إذا قال: وحق الله. وَالْمَشْهُورُ: الْكَفَّارَةُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُصْحَفِ، وَأُنْكِرَتْ رِوَايَةُ ابْنِ زِيَادٍ، وَقِيلَ: الْحَقُّ إِنْ أُرِيدَ الْحَادِثُ لَمْ تَجِبُ ... مقابل المشهور رواية ابن زياد، ونقلها في النوادر في المصحف، واللخمي في القرآن والمصحف، والمنكر لها ابن أبي زيد؛ لأنها توهم القول بخلق القرآن. قال: وإن صحت

حملت على أنه أراد جرم المصحف، قال غيره: ومراده فعل العباد في القرآن؛ كما قال: يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً. وقوله: (وَقِيلَ: الْحَقُّ) هو كلام ذكره بعضهم جمعاً بين القولين، وهو صحيح في نفسه، ولكنه خارج عن محل الخلاف، فإنه إن قصد القديم لزمته الكفارة باتفاق، وإن قصد الحادث لم تلزمه باتفاق. ابن بشير وغيره: وإنما محل الخلاف حيث لا نية، أو كانت ونسيها، ولا فرق على المشهور بين أن يحلف بالمصحف أو بالقرآن أو بالكتاب، أو بما أنزل الله، رواه ابن المواز. ولا فرق بني أني حلف بالقرآن، أو بسورة منه أو آية، رواه ابن حبيب، وفي العتبية عن ابن حبيب لزوم الكفارة في الحالف بالتوراة والإنجيل، وهو جارٍ على المشهور. وَالنَّذْرُ لا مَخْرَجَ لَهُ مِثْلُ: عَلَيَّ نَذْرٌ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لما في مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين"، ولا يمكن حمله على نذر معين؛ لأنه لو نذر طاعة معينة لزمه الإتيان بها، لما في الصحيح: "من نذر أن يطيع الله [237/أ] فليطعه" فتعين حمله على ما لا مخرج له. وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وقِيلَ: حَرَامٌ أي: اليمين بغير الله وصفاته كالحالف بالكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم، والأظهر من القولين التحريم؛ لما في الموطأ والصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". ولمالك ومسلم: "ومن كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت". وأيضاً يدخل في كلام المصنف اليمين بالطلاق والعتاق، وقد نصوا على تأديب الحالف بهما ولا يكون الأدب في المكروه إلا أن يقال: إطلاق الأيمان عليهما مجاز ألا ترى أن حروف القسم لا تدخل عليهما.

فرع: ابن حبيب: كره مالك أن يقول الرجل: رَغِمَ أنفي لله، أو يقول الصائم: والذي خاتمه على فمي. وَأمَّا الْيَمِينُ بِنَحْوِ اللاتِ وَالْعُزَّى وَالأَنْصَابِ وَالأَزْلامِ فَإِنِ قَصَدَ تَعْظِيمَهَا فَكُفْرٌ، وَإِلا فَحَرَامٌ ... تصوره ظاهر. وفي مساواة الأنصاب والأزلام واللات والعزى في تكفير الحالف إذا قصد التعظيم نظر. ومقتضى كلام المصنف أنه إذا لم يقصد باللات والعزى التعظيم أنه ليس بكفر. وكذلك نص ابن بشير وأشار ابن دقيق العيد في شرح العمدة إلى نفي ما ذكره المصنف من عدم قصد التعظيم، قال: لأن الحلف بالشيء تعظيم له. وَلا كَفَّارَةَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ باللهِ، وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ فَيَتَبَيَّنُ خِلافُهُ مَاضِياً أَوْ مُسْتَقْبَلاً، وَقِيلَ: مَا يَسْبِقُ إِلَيْهِ اللِّسَانُ بغَيْرِ قَصْدٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا الْقَوْلانِ ... الأصل في هذا قوله تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بَمَا عَقَّدتُمُ الأَيْمَانَ ([المائدة: 89]، والمشهور أن اللاغية هي أن يحلف على الشيء يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، هكذا قال مالك في الموطأ وقال القاضي إسماعيل والأبهري: هي ما يسبق إليه اللسان من: والله، ولا والله. رواه مالك في الموطأ عن عائشة. وجوز الباجي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن اللغو لا يكون إلا في اليمين. والثاني: أن اللغو قول الرجل: لا والله، وبلى ولله، فيما يعتقده ثم يتبين خلافه. والثالث: أن يريد ما يجري على اللسان من غير قصد فقول المصنف: (وَعَنْ عَائِشَةَ ... الْقَوْلانِ) يقتضي أن ذلك مروي عن عائشة مفسر وصرح ابن بشير بذلك.

خليل: ورأيت ابن بطال حكى في باب الأيمان عن عائشة رضي الله عنها مثل ما حكاه المصنف، ولفظه: وروي عن ابن عباس أن لغو اليمين: أن يحلف الرجل على الشيء يعتقد أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على غير ذلك، وروي هذا القول عن عائشة رضي الله عنها ذكره ابن وهب عن عمر بن قيس عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها. ابن عبد السلام: ولم يوجد لها كقول مالك بعد البحث عنه. ابن راشد: وإن كان ذلك مروياً عنها فيحمل لفظه على ظاهره، وإلا حمل أن فيه إضماراً؛ أي: وعن الأشياخ في تفسير قول عائشة رضي الله عنها القولان. وقوله: (مَاضَياً أَوْ مُسْتَقْبَلاً) مثال الماضي: والله ما جاء زيد، وهو يعتقد ذلك. ومثال المستقبل: والله ما يأتي زيد غداً، وهو يعتقده. وعبر المصنف بالاعتقاد ومالك في الموطأ وابن القاسم باليقين، والظاهر أن المراد بهما واحد. وقال بعض البغداديين: اللغو: أن يحلف على الشيء يظنه. ابن يونس: يريد بالظن هنا اليقين، وهو يرجع إلى قول مالك. ولاَ فِي الْغَمُوسِ؛ وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَعْلَمُ خِلافَهُ أي: ولا كفارة في الغموس، وسواء تعلقت بالماضي أو بالمستقبل، فالماضي واضح، والمستقبل كما لو كانت يمينه على ما لا يصح وجوده، أو قد علم أنه لا يوجد كقوله: والله لأقتلن فلاناً غداً، ولان قد علم أنه ميت، أو لأطلقن النساء اليوم، أو لا تطلع الشمس. ولم يجزم التونسي بحصولها في المستقبل بل قال: الأشبه أنها غموس. ومثل بما ذكرناه ابن عبد السلام: وأكثر كلام الشيوخ يقتضي انحصار اللاغية في الماضي والحال وأنها لا تتناول المستقبل، وذكر أيضاً عن بعض الشيوخ حصر اليمين الغموس في الماضي. وقيل لها: غموس؛ لأنها تغمس صاحبها في النار، وقيل: في الإثم، وهو الأظهر لأنه سبب حاصل. مالك: وهي أعظم من أن تُكفَّر. ابن حبيب: وهي من الكبائر.

وَفِيهَا: وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَا شَكَّ فِيهِ فَتَبَيَّنَ خِلافُهُ فَغَمُوسٌ، وَإِلا فَقَدْ سَلِمَ نص التهذيب: ومن قال: والله ما لقيت فلاناً أمس، وهو لا يدري ألقيه أم لا؟ ثم علم بعد يمينه أنه كما حلف بر، فقد خاطر وسلم، وإن كان على خلاف ذلك أثم، وكان كمتعمد الكذب وهو مخالف لقوله: (وَإِلا فَقَدْ سَلِمَ)؛ لأن قوله: (وَإِلا) يدخل فيه صورتان: الأولى: أن يعلم صدق ما حلف عليه. والثانية: أن يبقى على شكه، وهذه الثانية غموس على كلامه في المدونة. التونسي: وقال في الذي حلف لقد لقيني فلان أمس، وهو شاك حين يمينه، ثم تحقق أنه لقيه قد بر، وإن لم يتحقق ذلك أنه لم يلقه، فقد أثم. وفي هذا نظر؛ لأن يمينه على الشك وهي معصية، فإذا كشف الغيب أن الأمر كما حلف عليه لم يسلم من إثم الجرأة على اليمين ي أمر لا يتحققه. اللخمي: وأرجو أن يكون إثم الشاك أخف من إثم متعمد الكذب. ابن عبد السلام: وحمل غير واحد لفظ المدونة على أنه وافق البر في الظهر؛ لأن إثم جرأته بالإقدام على الحلف شاكاً سقط [237/ب] عنه. لأن ذلك لا يزيله إلا التوبة وهو ظاهر في الفقه إلا أنه بعيد من لفظ المدونة. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظَّنَّ كَذَلِكَ أي: يلحق بمسألة المدونة، ويفعل فيه كما فعل في مسألة المدونة إذا حلف مع ظن صدق ما حلف عليه، والجامع أنه في كلا المسألتين أقدم على الحلف غير جازم. ونسبة المصنف هذا الكلام لنفسه تقتضي أنه لم يره لغيره. وقد نقله في النوادر عن ابن المواز قال: وكذلك الحالف على شك أو ظن فإن صادف ذلك كما حلف عليه فلا شيء عليه، وقد خاطر، فعطفه الظن على الشك دليل على أنه أراد حقيقته العرفية، وهو مقتضى كلام ابن يونس فإنه قال: وأما قولهم في الغموس وهو أن يحلف على أمر يظنه يريد: وهو لا يوقنه،

وقاله محمد، وما قاله المصنف هنا إنما يأتي على القول الثاني الذي ذكره في كتاب الشهادة؛ لقوله: وما يحلف فيه بتاً يكتفي فيه بظن قوي كخطه، أو خط أبيه، أو قرينة من خصمه وشبهه. وقيل: المعتبر اليقين. وانظره مع قول سليمان صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "والله لأطوِّفنَّ الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف بهن، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان". فإنه حلف صلى الله عليه وسلم على ما يظنه، ولا يجوز أن يكون معتمده في يمينه الوحي، وإلا ما تخلف ما حلف عليه، وهذا كله إذا أطلق اليمين، وأما إن قيدها- فقال: في ظني أو ما أشبه ذلك- فلا شيء عليه. وَلا لَغْوَ فِي طَلاقٍ وَلا غَيْرِهِ، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي حَالِفٍ عَلَى نَاقَةٍ أَنَّهَا فُلانَةُ فَظَهَرَ خِلافُهَا .... لأن الله تعالى لما قال: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ([البقرة: 225] وكانت الحقيقة الشرعية في اليمين إنما هي الحلف بالله تعالى؛ ولذلك تدخل عليه حروف القسم – كانت الآية الكريمة خاصة باليمين بالله تعالى. وأما الطلاق والعتاق والصدقة فليست يميناً شرعياً، وإنما هي التزامات، ولذلك لا تدخل على ذلك حروف القسم، ولأن الحلف بذلك ممنوع فشدد عليه، وحكى في ذلك الاتفاق. واستشهد المصنف بقضاء عمر بن عبد العزيز وتصوره واضح. وقوله: (فتبين خلافه) يريد ناقة أخرى، وبذلك فسره أبو الحسن. ابن عبد السلام: ووقع لابن الماجشون ما ظاهره أن اللغو يجري في غير اليمين بالله. ففي المبسوط: في أخوين كانا شريكين، اشترى رجل من أحدهما ثوباً، فدفع الثمن إلى أخي البائع وهو يظنه البائع، ثم لقيه البائع فسأله عن الثمن، فقال: قد دفعته إليك، فقال: والله

ما أخذت منك شيئاً، فقال: امرأتي طالق ن لم أدفع إليك الثمن. فقال: وحيك لعل أخي. فسئل أخوه، فقال: نعم دفع إلي، فقال: ما كنت ظننت إلا أني دفعت إليك، فقال مالك: هو حانث. وقال ابن الماجشون: لا شيء عليه، إنما أصل يمينه أنه دفع إليك الثمن فيما رأى، وأنه لم يحبسه عنك، فكيف يحنث ههنا؟! خليل: ويمكن أن يقال: ليس في هذا ثبوت اللغو في غير اليمين بالله؛ لأنه لما كان الأَخَوان في هذه المسألة شريكين، ومن دفع إلى أحد الشريكين فقد برئ من الآخر؛ إذ كل من الشريكين وكيل عن الآخر وهو إنما حلف على البراءة، فلا يلزم من الحكم في هذه المسألة بعدم الحنث أن يكون كذلك في غير هذه المسألة، وهذا ظاهر من تعليل ابن الماجشون، والله أعلم. وَمَنْ قَالَ لِشَيْءٍ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلا الزَّوْجَةَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ .... تصوره ظاهر، ولا أعلم فيه خلافاً عندنا. قال في المدونة: قال زيد بن أسلم: إنما كَفَّر النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه أم ولده؛ لأنه حلف بالله لا يقربها. وَكَذَلِكَ هُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ سَارِقٌ، أَوْ زَانٍ، أَوْ يَاكُلْ الْمَيْتَةَ، أَوْ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ، أَوْ دَعَا عَلى نَفْسِهِ إِنْ فَعَلَ، وَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ ... لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف بملة سوى الإسلام كاذباً فهو كما قال". قال في الاستذكار: وهو حديث صحيح النقل وليس على ظاهره، وكأنه صلى الله عليهوسلم أراد النهي عن موافقة هذا اللفظ. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف منكم باللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله، ومن قال: تعال قامرك فليتصدق"، وهو حديث صحيح ثابت. انتهى. وقال الباجي: معنى الحديث: "من حلف بملة غير الإسلام فهو

كما قال"؛ يعني: معتقداً لذلك، ولذلك أمر من حلف باللات والعزى بالتهليل، لنفي الكفر. انتهى. وعلى هذا فيطالب بالشهادة والاستغفار. وَلَوْ قَالَ: أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ وَلَمْ يَنْوِ باللهِ وَلا بِغَيْرِهِ فَلا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ حاصله: إن قصد بالله؛ يريد: أو تلفظ بالله لزمته الكفارة، نص عليه التونسي وصاحب الجواهر. وحكى الباجي الاتفاق عليه مع التلفظ وفيه نظر؛ لأن سحنون حكى في السليمانية أنه اختلف فيمن قال: أشهد بالله أو أقسم بالله، هل هي يمين أم لا؟ وخرج اليمين فيما إذا نوى بالله ولم يلفظ بها خلافاً مما إذا عقد اليمين بقلبه. واستشكل بأن هنا لفظًّا فكان أقوى، وإن قصد بغيره لم يلزمه، وإن لم يقصد [238/أ] شيئاً فالمشهور أنه لا يلزمه؛ لأن الأصل براءة الذمة، وقيل: يلزمه لأن أصل اليمين إنما هو بالله، ولم أقف عليه بعد البحث عنه، وإنما هو معزو لأبي حنيفة، وقاله ابن عبد السلام. والمشهور مذهب المدونة وألحق فيها بهما "أشهد"، واقتصر في الأمهات على الثلاث وزاد البرادعي "أعزم". أبو الحسن: وليس بجيد لأن "أعزم" ليست يميناً حتى يقول بالله. انتهى. ونص ابن يونس على ما قاله أبو الحسن، لكن نص التونسي على مثل ما في التهذيب وزاد فيها: وإن قال الرجل: أعزم عليك بالله ألا فعلت كذا، فيأبى، فهو كقوله: أسألك بالله لتفعلن كذا، فامتنع فلا شيء على واحد منهما. وفي الجلاب والكافي: ومن قال لرجل: أقسم عليك لتفعلن كذا وكذا، فإن أراد مسألته فلا شيء عليه، وإن أراد عقد اليمين على نفسه حنث بترك المقسَم عليه ما علقه به. فإنه قلت: ما الفرق على ما في التهذيب بين أعزم بالله، وأعزم عليك بالله؟ قيل: لأن الأولى حلف فيها على نفسه فكانت منعقدة، والثانية: إنما سأل فيها غيره.

ابن حبيب: ومن قال لرجل: أعزم عليك بالله، فهو كقوله: أسألك بالله، فينبغي له أن يجيبه ما لم يكن معصية، وكذلك إن سئل بالرحم؛ لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ الْذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ([النساء: 1]. التونسي: وأما قوله: أقسمت عليك بالله لتفعلن، ففي كتاب ابن حبيب: إن لم يفعل فهو حانث، وفي كتاب محمد: إن قال: أعزم عليك ألا تفعل، فلا شيء عليهما. التونسي: فما الفرق بين أقسمت عليك بالله لتفعلن، وبين عزمت عليك بالله لتفعلن؟ وَلَوْ قَالَ: أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ جَميعِ الأَيْمَانِ: قَوْلانِ القول بكفارة اليمين لابن وهب، والقول بلزوم الأيمان لابن القاسم، قال: إن لم تكن له نية لزمه طلاق نسائه، وعتق رقيقه، والصدقة بثلث ماله، ويمشي إلى الكعبة في رواية عيسى إلا أن يكون قد عزل الطلاق والعتاق، فليكفر ثلاث كفارات. الباجي: يريد- والله أعلم- الصدقة والمشي وكفارة الأيمان، وحمل بعضهم الكفارات على ظاهرها. ومنشأ الخلاف: النظر إلى المحلوف به، أو إلى ما يترتب على الحالف. وقول ابن القاسم أٌرب؛ لأن صورتها لى ما في العتبية وغيرها: على أشد ما أخذ أحد على أحد، وذلك التزام، وليست اليمين بالله ولا غيرها مما يلتزم وإنما يلتزم ما يترتب على الأيمان، والمرتب على الأيمان بالله تعالى ليس أشد، فوجب العدول إلى مايترتب على أِشد الأيمان، لكن في كلامه نظر؛ لأن الظاهر أن مراده بجميع الأيمان: الأيمان اللازمة، في قوله: (الأيمان تلزمه). ابن عبد السلام: ولا نعلم أحداً من المتقدمين والمتأخرين بعد البحث عن أقوالهم أوجب في أشد ما أخذ أحد على أحد كفارة ظهار ولا صوم سنة. خليل: وفي المفيد عن بعضهم إلزام كفارة الظهار.

وَلَوْ قَالَ: الأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ –وَلا نِيَّةَ تَخصصٍ – فَالْجَمِيعُ اتِّفَاقاً، وَفِي لُزُومِ طَلْقَةٍ أَوْ ثَلاثٍ قَوْلانِ، وَيَلْزَمُهُ عِتْقُ مَنْ يَمْلِكُ حِينَ الْحِنْثِ، وَالْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللهِ، وَصَدَقَةُ ثُلُثِ الْمَالِ، وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَفَّرَةُ ظِهَارٍ، وَصَوْمُ سَنَةٍ إِنْ كَانَ مُعْتَادَ الْيَمِينِ بِهَا ... الطرطوشي: ليس لمالك ولا لأصحابه في هذه المسألة قول يؤثر، وإنما تكلم فيها المتأخرون وفيها أربعة أقوال في المذهب: نقل عن الأبهري أنه لا يلزمه إلا الاستغفار، وعن الطرطوشي وابن العربي والسهيلي أن عليه ثلاث كفارات. الطرطوشي: ولا يدخل في يمينه طلاق ولا عتق إلا أن ينوي ذلك أو يكون العرف جارياً به، قال: ولا فرق بين أن يقول: اليمان تلزمني، أو لازمة لي، أو جميع الأيمان أو الأيمان كلها تلزمني. وعن ابن عبد البر أن عليه كفارة يمين. وعلى هذا فالاتفاق الذي ذكره المصنف تبعاً لابن بشير ليس بجيد. وقوله: (وَلا نِيَّةَ تَخصصٍ) يقتضي تصديقه لو ادعى تخصيصاً ونص على ذلك أبو عمران، وقال الباجي: لا خلاف في تصديقه فيام لا يحكم عليه به من صوم ومشي وعتق غير معين. وأما الطلاق والعتق المعين فيجري الخلاف فيه على الخلاف في مسألة الحلال عليَّ حرام. انتهى. وستأتي هذه المسألة المخرج عليها قوله: (وَفِي لُزُومِ طَلْقَةٍ أَوْ ثَلاثٍ قَوْلانِ) الباجي: اختلفوا في الطلاق الواجب بذلك فقال أبو عمران: وأكثر من بلغنا قوله من أهل إفريقية: تلزمه طلقة. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن ومعظم أهل بلدنا: تلزمه ثلاث، وهو الأظهر على أصل مالك. قال أبو بكر: لأنه يلزمه من كل نوع من الأيمان أوعبها ولذلك أوجبنا عليه الحج ماشياً دون العمرة لما كان ذلك أوعب، وإذا قلنا بطلقة فهل هي بائنة أو رجعية؟ حكى بعضهم في ذلك قولين، والذي كان يفتي به الشيخ أبو محمد: لزوم الثلاث وهو الصحيح عند التونسي واللخمي وعبد الحميد والمازري وغيرهم، حتى إن

السيوري أفتى بنقض حكم حاكم أفتى بالواحدة، وحكى ابن بشير قولاً بالفرق بين أن يكون قصد بقوله: "الأيمان تلزمني" العموم فتلزمه الثلاث، وإن لم يكن له مقصد في ذلك لزمته واحدة. وقوله: (وَيَلْزَمُهُ [238/ب] عِتْقُ مَنْ يَمْلِكُ) يريد: وكذلك الطلاق. الباجي: وإن لم يكن عنده امرأة أو مملوك لم يلزمه فيمن يتزوج في المستقبل ولا من يشتري في المستقبل، وعليه عتق رقبة لا أكثر. ابن زرقون: وقولُهُ: "إذا لم يكن عنده مملوك لا يلزمه عتق رقبة" غيرُ معروف من أقوال من تكلم على هذه المسألة، وفيه نظر؛ فقد نقل صاحب الجواهر عن الأستاذ أن المتأخرين أجمعوا على أنه إن لم يكن عنده رقيق أن عليه عتق رقبة. وقوله: (وَالْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللهِ) يعني: في حج. كما تقدم عن أبي بكر بن عبد الرحمن. ونقل في البيان عمن أدرك من الشيوخ: في المشي في حج أو عمرة. وفي قوله: (يتق من يملك حين الحنث) نظر. وأهل المذهب أنه إنما يلزمه من كان مملوكاً يوم اليمين؛ إذ المعروف من المذهب فيمن حلف إن فعل كذا فعليه التصدق بثلث ماله، أنه إنما يلزمه الثلث حين اليمين، ولم أرَ أحداً وافق المصنف على قوله وقد اعترض عليه ابن هارون في ذلك. قوله: (وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَفَّارَةٌ ظِهَارٍ) ابن هارون: يوهم أن عليه عتق رقبة أخرى غير ما ذكر من العتق أولاً، وليس كذلك بل لم يوجبوا عليه إلا صوم شهرين متتابعين. وكان الشيخ أبو محمد لا يوجب في ذلك كفارة ظهار، وتبعه في ذلك جماعة. وحكى ابن عتاب عبن بعضهم إيجاباً واستشكل ابن زرقون وغيره إيجابها؛ لأن يمين الظهار غير معهودة ولا متعارفة. وكذلك قال ابن راشد: وفي كفارة الظهار نظر؛ لأنها إنما لزمت في الظهار لكونه أتى بلفظ الظهار وهو نكر من القول وزور، وهذا اللفظ بعينه لم ينطق به. وقال: وإن كان مرادهم أن هذا اللفظ استعمل مكان كل لفظ من ألفاظ الأيمان فيلزمه أن يعتزل زوجته حتى يكفر، ولاتلزمه الكفارة حتى عزم على العودة.

قوله: (إِنْ كَانَ مُعْتَادَ الْيَمِينِ بهَا) أي: الحلف، قاله ابن بشير. وينبغي في غير الصوم أيضاً أنه لا يلزم إلا بالعادة ولهذا قال ابن عبد السلام: ينبغي للمفتي أن ينظر إلى عرف زمانه وبلده. ابن راشد: وهذا إشكال أوجب توفيقي عن الفتوى في هذه المسألة، ولا سيما إذا سألني من لا يفهم ما يراد بها، وسمعت عن بعض المفتين أنه إذا جاءه من لم يعرف مدلول هذا اليمين فيقول له: لا يلزمك شيء، وكان غيره يقول: إذا سمعت غيرك يحلف بها ما الذي يسبق لذهنك فيها؟ فيقول لهم إنه يلزمه الطلاق الثلاث، فيقول له: طلق امرأتك بالثلاث، وهذه الطريق عندي أنسب وهذا ظاهر. وقد ذكر القرافي فيه قاعدة وهي: أن الحكم المرتب على العرف والعادة يتغير بتغير العرف والعادة، عندنا بمصر الحلف بالطلاق واليمين بالله والعتق دون سواهما، وأكثرهم لا يعرف الظهار. المتيطي: قال ابن عتاب: ويلزم الحالف بهذه اليمين الأدب. قال أبو الأصبع: وهو صحيح وقد ذكر ابن حبيب أن هشام بن عبد الملك كتب أن يضرب من حلف بطلاق أو عتاق عشرة أسواط، واستحسن ذلك مالك، وكذلك الحالف بالمشي إلى بيت الله من تكرر حلفه بذلك وعرف به كان جرحة في شهادته ولو بر. وَإِذَا كَرَّرَ الأَيْمَانَ بغَيْرِ الطَّلاقِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمْ تَتَعَدَّدْ، وَلَوْ قَصَدَ التَّكْرَارَ عَلَى الْمَشْهُورِ مَا لَمْ يَنْوِ كَفَّارَاتٍ أَوْ يَقُلْ: عَلَىَّ عَشْرُ كَفْارَاتٍ أَوْ عُهُودٍ أَوْ نُذُورٍ وَنَحْوِهِ فَعَدَّدَ مَا ذَكَرَ، وقِيلَ: إِنِ اتَّحَدَ الْمَعْنَى فَتَأكِيدٌ مِثْلُ: وَاللهِ، وَالسَّمِيعِ، وَالْعَلِيمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى تَكَرَّرَ اللُّزُومُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ بَشِيرٍ مِثْلُ: وَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالإِرَادَة .... حاصله: إن نوى التأكيد لم يلزمه إلا كفارة واحدة بالاتفاق، وإن نوى كفارات متعددة لزمه ذلك اتفاقاً، وإن قصد الإنشاء ولم يقصد كفارات فالمشهور أنها لا تتعدد ولو كان في مجلسين، رواه ابن القاسم عن مالك، وكذلك قال ابن المواز.

وظاهر قوله: (وإذا كرر اليمين على شيء واحد لم تتكرر)، وإن قصد التكرار على المشهور أنه لا فرق أن يكون المحلوف به اسماً من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، وهو صحيح، وإن كان أكثر الشيوخ لم يحفظ قولاً بتكرير الكفارة في الأسماء ففي الاستذكار عن مالك فيمن قال: والله والرحمن، عليه كفارتان. وإن قال: والسميع والعليم والحكيم عليه ثلاث كفارات. قال: وقد تقدم قوله: من حلف بالله مراراً ثم حنث عليه كفارة واحدة، ففرق بني تكرار اسم واحد وبين الأسماء المختلفة. انتهى. وفي الموازية: لو قال: والله ثم والله فكفارة واحدة، وكذلك لو قال: والله والله. وقال ابن عبد الحكم: تتعدد في الواو مع واو القسم أعني: إذاقال: والله ووالله ووالله، وإن قال: والله والله والله، فعليه كفارة واحدة هذا معنى كلامه. وحكى جماعة في تعدد الكفارة بالصفات ثلاثة أقوال: المشهور كما ذكر المصنف عدم التكرار. والتكرار حكاه ابن يونس عن بعض المتأخرين وتأوله بعضهم على المدونة، والصحيح عندهم تأويلها الأول، والثالث الفرق فإن كانت الصفة الثانية هي الأولى في المعنى لم تتعدد كمن حلف بالعزة والجلال والعظمة؛ لأن ذلك يرجع إلى صفة واحدة وهي القدرة، وكمن حلف بغضب الله ورضاه وسخطه ورحمته؛ لأن ذلك يرجع إلى الإرادة. وإن كانت الصفة الثانية غير الأولى تعددت كالعلم والقدرة. وسب هذا القول صاحب التنبيهات لجماعة المتأخرين، ونسبه صاحب البيان للتونسي [239/أ] قال: ويلزم عليه إذا قال: والعالم والقادر والمريد، أن يكون عليه ثلاث كفارات لتضمُّن كل اسم منه صفة تخالف ما يفيده الآخر، ورأى بعضهم هذا الخلاف إنما هو في هذا الوجه، لا فيما إن كانت الصفات راجعة إلى منى واحد، فقوله: (وَإِنْ قَصَدَ التَّكْرَارَ عَلَى الْمَشْهُورِ) ظاهر مما ذكرناه، ورأى مقابل المشهور أنه لا فرق بين أن يقصد تعدد الكفارة أو ما هو مستلزم لتعددها، ابن عبد السلام: وهو الأقرب.

وقوله: (لَمْ يَنْوِ كَفَّارَاتٍ أَوْ يَقُلْ: عَلَيٌّ عَشْرُ كَفَّارَاتٍ) ظاهر متفق عليه، وقوله: (وقِيلَ: إِنِ اتَّحَدَ الْمَعْنَى فَتَاكِيدْ) مثل: والله والسميع والعليم، وهو قول المتأخرين والتونسي كما تقدم، وما نسبه المصنف لاختيار ابن بشير هو اختيار أبي عمران وابن يونس فإن قلت: فما الفرق بين المشهور من أن اليمين بالله لا تكرر فيها الكفارة، وبين المشهور في الطلاق؟ فإن المشهور فيه الحمل على التأسيس إلا أن ينوي التأكيد، قيل: لأن المحلوف به هنا شيء واحد يستحيل التعدد عليه بخلاف الالتزامات، ولذلك قيل بعدم التكرار في الظهار؛ لأن مدلول الظهار الثاني تحريم المرأة، وقد حصل بالظهار الأول. فرعان: الأول: إذا كرر اليمين لا على ما حلف عليه أولاً، ولكن على ما هو مستلزم له. ففي العتبية عن مالك فيمن حلف لأفعلن كذا فقيل له: إنك ستحنث، فقال: لا والله لا احنث، إن حنث عليه كفارتان، وقال ابن القاسم في المبسوط: ليس عليه إلا كفارة واحدة. عياض: وقول مالك أولى؛ لأن مقصود اليمين الأولى على فعل شيء والثانية على فعل شيء غيره، وهو الحنث فتأمله. الثاني: إذا قال: علي أربعة أيمان، ففي العتبية عليه أربع كفارات. أبو محمد: وأعرف أن ابن المواز قال: عليه كفارة واحدة إلا أن تكون له نية. وَالاسْتِثْنَاءُ بمَشِيئَةِ اللهِ لا يَنْفَعُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ بِاللهِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ المراد بالمشيئة: أن يقول: لا أفعل كذا إن شاء الله، فإن فعل فلا كفارة عليه، وحكى في الاستذكار الإجماع على إسقاط الكفارة به إذا كان متصلاً، واختص الاستثناء بالمشيئة بالمستقبل؛ لأن الماضي إما لغو وإما غموس، ولاتعلق للكفارة بواحد منهما ولا خلاف عندنا أن الاستثناء بالمشيئة في غير اليمين بالله تعالى لا يفيد. نعم في حكم اليمين بالله تعالى النذر المبهم.

فرع: ابن راشد: وهل يقوم مقام الاستثناء "إلا أن يشاء الله" في إسقاط الكفارة ما إذا قال: إلا أن يقضي الله أو يريد الله؟ قال ابن القاسم في العتبية: من حلف على أمر ليفعلنه إلا أن يقضي الله أو يريد الله ليس بثنيا، وقال عيسى: هو نثيا. قال في البيان: وهو القياس والنظر الصحيح؛ لأن قضاء الله ومشيئته وقدرته هي إرادته فلا فرق بين الجميع. ووجه قول ابن القاسم أن الحالف بالله ألا يفعل فعلاً أو ليفعلنه قد علم أنه لا يفعله، ولا يترك فعله إلا بقضاء الله وقدرته، وعلى هذا انعقدت يمينه وهي نيته وإرادته إن كان من أهل السنة، فكان الأصل ألا ينفعه الاستثناء؛ إذ لا زيادة فيه على ما نواه. خرج من ذلك الاستثناء بالمشيئة بالسنة والإجماع فبقي ما عداه على الأصل. ورأى أصبغ أن قوله:"إلا أن يقضي الله" ثنيا، بخلاف "إلا أن يريد الله" أو يرى غير ذلك. قال: ولا وجه له. القرافي: وينبغي أن يبني الخلاف هنا على الخلاف في الأسباب الشرعية، هل يقاس عليها إذا عقل معناها أم لا؟ كما قيل في قياس النبش على السرقة واللواط على الزنى. وَأَمَّا الاسْتِثْنَاءُ بإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِشَرْطِهِ فِي الْجَمِيعِ، وَشَرْطُهُ في الْجَمِيعِ الاتِّصَالُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ اخْتِيَاراً، وَإِنْ طَرَأَ قَصْدُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَصْلٌ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَلا تُفِيدُ نِيَّةُ الاسْتِثْنَاءِ إِلا بِتَلَفُّظِهِ، وَلَوْ كَانَ سِرّاً بحَرَكَةِ لِسَانِهِ وَلا بِتَلَفُّظِهِ سَهْواً، أَوْ تَبَرُّكاً حَتَّى يَنْوِيَهُ ... أي: وأما الاستثناء بإلا وسائر أدوات الاستثناء المذكورة في علم العربية فتنفع في الجميع بشرطه، ثم فسر شرطه فقال: (وَشَرْطُهُ في الْجَمِيعِ ... إلخ). ابن عبد السلام: ومراده بالجميع: جميع أدوات الاستثناء. خليل: ويحتمل جميع الأيمان، وحاصل ما ذكره ثلاثة شروط أو شرط مركب من ثلاثة أجزاء:

الأول: أن يكون متصلاً من غير قطع اختياراً، واحترز بالاختيار ما لو انقطع بسعال ونحوه، فنه لا يضر. قوله: (ولو طَرَأَ) يعني: أنه لا يشترط فيه أن ينوي قبل الفراغ من اليمين، بل لو طرأ قصده بعد تمام اليمين واتصل نفعه على المنصوص. ومقابله لابن المواز اشترط أن يكون منوياً قبل تمام الحلف ولو بحرف. والمشهور أظهر. فإن الاستثناء إما حل لليمين كما ذهب إليه ابن المجشون، وإما رفع للكفارة كما ذهب إليه ابن القاسم، وقيل: لاحل ولا رفع. وزاد في البيان ثالثاً: أن الاستثناء من العدد لابد أن يعقد عليه يمينه بالنية، ولا يجوز أن يستدركه، وإن وصله بيمينه أو قبل آخر حرف من كلامه. الشرط الثاني: أن يكون الاستثناء ملفوظاً به، فلا تكفي فيه النية وحدها، ولا يشترط في النطق الجهر ولذلك قال: (وَلَوْ سِرّاً بحَرَكَةِ لِسَانِهِ) واعلم أن الاستثناء على ضربين: أحدهما: إخراج بعض [239/ب] ما اقتضاه اللفظ وهو الاستثناء بإلا وأخواتها. قال في البيان: والمشهور فيه أنه لابد من حركة اللسان، وروى أشهب أن النية تجزئ، وخصص صاحب الجواهر هذا الخلاف بما إذا كانت اليمين لا يقضي فيها بالحنث أو كانت مما يقضي فيها ولم تقم عليه بينة، وأما إن كانت مما يقضي فيها بالحنث وقامت عليه بينة فالحكم بما قالته البينة. وثانيهما: استثناء يخرج به جميع الجملة في بعض الأحوال؛ كقولك: والله لأعطين القرشيين ثلاثة دراهم إن كان كذا، أو إلا أن يكون. قال في البيان: فهذا لا بد فيه من تحريك اللسان قولاً واحداً، وكذلك حكى ابن المواز الاتفاق على اشتراط اللفظ إذا كان الاستثناء بإن أو إلا أن. وقوله: (وَلَوْ سِرّاً بحَرَكَةِ لِسَانِهِ) لا إشكال فيه إن كانت اليمين متبرعاً بها، وأما إن كانت في حق واجب، فقال ابن القاسم في العتبية: إذا حرك لسانه بالثنيا فله ثنياه، وإن لم يعلم بذلك مستحلفه. قال: وليس عليه أن يعلم مستحلفه. وأنكر ذلك سحنون،

وقال: لا ثنيا له وإن حرك لسانه؛ لأن اليمين على نية المستحلف، ونحوه عن أصبغ وغيره، وهذه المسألة مبنية على أن اليمين على نية الحالف والمستحلف، وسيأتي ذلك. الشرط الثالث: أن يكون منوياً، فلو تلفظ به سهواً لم يفد، وقوله: (حَتَّى يَنْوِيَهُ) أي: حتى ينوي الاستثناء بما تلفظ به، فلذلك لو نوى التبرك لم يفد شيئاً. وَجَاءَ فِي الْحَلالِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى إِخْرَاجَ الزَّوْجَةِ ثَالِثُهَا: إِنْ قَصَدَ الْخُصُوصَ أَفَادَ وَإِلاَّ فَلا ... اعلم أن ههنا حقيقتين: الأولى: الاستثناء بالنية: وهو أن يقصد بلفظه أولاً العموم، ثم يخرج منه شيئاً بإلا أو إحدى أخواتها، وقد تقدم ذكره. وذكرنا ما فيه من الخلاف: هل يكتفي فيه بالنية، أو لابد من اللفظ؟ الثانية: المحاشاة: وهي أن يعزل في أصل عقد بيمينه شيئاً قاله في الجواهر. وحكى اللخمي وصاحب الذخيرة أنه لم يختلف أن المحاشاة تكفي فيها النية، ونقل ابن العربي في أحكامه عن أشهب أنه لا تكون المحاشاة إلا بقلبه ولفظه، كمادخلت في لفظه، قال: والصحيح الأول. وكان شيخنا رحمة الله يزيد هنا حقيقة ثالثة، وهي التخصيص بالنية ويذكر في إفادتها للخلاف قولين، وهي كالاستثناء في كونه قصد أولاً بلفظه العموم، غير أن الاستثناء أخرج فيه البعض بأحد أدوات الاستثناء، وفي التخصيص بإخراج البعض بغيرها. إذا تقرر هذا فاختلف في القائل: الحلال على حرام، ونوى إخراج الزوجة، ولذلك صورتان: إحداهما: أن يقصد أولاً بلفظه العموم ثم يخرج الزوجة. الثانية: أن يقصد ابتداء الخصوص. وحكى المصنف في الصورتين ثلاثة أقوال:

الأول: يفيده وهو المشهور، وقول ابن القاسم ومقابله نقله أِهب ولم يعزه. الثاني: إن قصد أولاً الخصوص أفاد وإن قصد العموم لم يفد. ونسب ابن عبد السلام الثاني لابن مسلمة، والثالث لأشهب. وحاصل هذا القول التفرقة؛ فيفيد في المحاشاة، ولا يفيد في الاستثناء. وقد عملت أن المشهور في المحاشاة والاستثناء متعاكس؛ لأنه قد تقدم أن المشهور في الاستثناء أنه لا يفيد بمجرد النية، والمشهور هنا على ما ذكره الباجي أنه يفيد. واعلم أن هذه المسألة إنما أتى بها الأشياخ على أنها من باب المحاشاة، ألا ترى إلى قول الباجي المشهور أنه يفيد، ولو كان من باب الاستثناء لم يكن المشهور الإفادة. وزاد ابن يونس ثالثاً في المحاشاة: يحنث المستحلف دون المتبرع. وإذا تقرر لك أن كلام المصنف شامل لصورتي المحاشاة والاستثناء، وان المشهور فيهما متعاكس، عملت أن قول ابن عبد السلام: "المشهور أنه يفيد" ليس بظاهر؛ لأنه يقتضي أن المشهور الإفادة في الصورتين. اللخمي: واختلف أيضاً إذا قال: كل الحلال على حرام، فقال مالك: يدخل فيه زوجته إلا أن يحاشيها بقلبه. وقال أشهب: لا تنفعه المحاشاة بالنية، إلا أن يحاشيها بلسانه. ونقل الباجي وغيره عن أشهب صحة المحاشاة بالنية إذا لم يأت بلفظة كل. الباجي: ولا فرق بين زيادة لفظة "كل" وترك زيادتها؛ لأن قوله: الحلال على حرام عموم ومن قال: ليس للعموم لفظ موضوع ينبغي أن تكون لفظة "كل" تقتضي العموم، فإما أن يكون أشهب ينفي العموم في الألف واللام التي للجنس، ويثبته في "كل"، وإما أن يثبت العموم فيهما، ويجعل للقاصد قرينة تمنع الاستثناء بالنية دون اللفظ. وعلى هذا يصح أن يجري قوله في الأيمان اللازمة، إذا ثبتت فيها لفظة "كل"، أو عريت عنها. انتهى. وعلى هذا فالخلاف جارٍ سواء أتى بلفظه "كل" أم لا. ونقل ابن عبد السلام عن بعض الموثقين أنه لايرى أن الخلاف حاصل مع الإتيان بلفظة "كل".

فرع: وإذا قبلنا قوله في المحاشاة، فيقبل وإن قامت عليه بينة. قال الشيخ أبو بكر: يحلف، وقيل: لا يمين عليه، وأما إن استحلف فقال مالك في الموازية: لا تنفعه نيته سواء استحلفه الطالب، أو ضيق عليه حتى يحلف، أو خاف ألا يتخلص إلا باليمين. وقال مطرف عن مالك: يصدق في المحاشاة وإن استحلف لاختلاف [240/أ] الناس في الحرام، وإن كانت اليمين بغير الحرام لم تنفعه النية، واليمين على نية المستحلف. واستشكل ابن راشد القول بلزوم الطلاق مع دعواه المحاشاة قال: كيف يلزم بطلاق زوجته وهو لم يُرِدْها، قال: والذي عندي وسمعته من شيخي القرافي أن الخلاف إنما هو في نية لفظ المحاشاة. انتهى. أي: في نية لفظ حاشا. هكذا أشار إليه في آخر كلامه، وفيه نظر. وَمَنْ حَلَفَ لا حَدَّثَ إِلا فُلاناً، وَنَوَى وَفُلاناً مِثْلُهَا ظاهره أنه تأتي فيه الثلاثة الأقوال، والقول الثالث يمكن إثباته هنا بأن يفرق بين أن يكون العطف منوياً من أول الكلام أم لا. وقول ابن عبد السلام: الثالث لا يأتي هنا؛ لأن الفرض أن الحالف لم يرد الخصوص في ابتداء يمينه وإنما عول بالإخراج بإلا في نيته – ليس بظاهر؛ لأن المخرج بإلا ليس فيه كلام إنما الكلام في المعطوف عليه، وكذلك قال ابن هارون: إن الثلاثة يمكن إتيانها هنا، وظاهر كلامه أن الثلاثة المتقدمة منصوصة هنا، والمنصوص هنا لابن المواز أن نيته تنفعه في الطلاق والعتاق، إلا أن تكون على يمينه بينة. وَفِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَلَى حِنْثٍ جَازَ المشهور أنها تجوز قبل الحنث، لكن استحب مالك في المدونة كونها بعده، والقول بعدم الإجزاء لمالكن وتأوله بعضهم على الاستحباب، ولا يؤخذ من كلام المصنف أن هذا القائل يرى عدم الإجزاء؛ لأن كلامه إنما هو في الجواز. والثالث حكاه ابن بشير ولم يعزه، ونسبه ابن عبد السلام لابن القاسم في الموازية وفيه نظر. والذي نقله ابن يونس عن

ابن القاسم في الموازية إنما يرجع إلى الإجزاء مطلقاً. وحكى في الكافي رابعاً: لا يجزئ تقديم الصوم؛ لأن عمل البدن لا يقدم ويجزئه في غيره. وقد تجاذب المجيز والمانع قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها فيكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير". هكذا رواه مالك. وروي بـ "ثم" مع تقديمه "فليكفر" ومع تأخيره. قال في الاستذكار: وأكثر الأحاديث حديث عائشة رضي الله عنها وأبي الدرداء وعدي بن حاتم وابن عمر وأنس وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهم قالوا فيه: "فليأت الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه" بتبدية الحنث. انتهى. وقال أبو داود: الأحاديث كلها: "وليكفر عن يمينه" وإلا ما لا يعبأ به، وتجاذبوا قوله تعالى: (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّرَتُهُ ([المائدة: 89] أي: فحنثتم، فإذاً لابد في سبب الكفارة من اجتماع الحلف والحنث. ابن بشير: بعد ذكر الثلاثة التي ذكرها المصنف: والرابع: أنه إن كانت الثانية يمينه بالله تعالى وما في معناه فله ذلك، وإن كانت بغيره فليس له ذلك. قال: وإن حلف على فعل – يعني له ولم يؤجله- فلا يتبين حنثه إذا كان على حنث إلا بموته، وأما إن حلف على فعل غيره، أو ما يرجع إلى فعل غيره، ففيه قولان: أحدهما أنه كالأول. والثاني: أن له أن يحنث نفسه وتفيده الكفارة؛ لأن هذا معرض للحنث بموت المعلق به اليمين فإن ضرب أجلاً فإن مر الأجل فقد وجب الحنث، وإن لم يمر فهل له تقديم الكفارة؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أن له ذلك أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليكفر عن يمينه"، ويقيس سائر الأيمان على اليمين بالله تعالى، والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه في الأجل على بر. والثالث: الفرق بين اليمين بالله تعالى فيقدمن وبين غيرها فلا يقدم. انتهى. والظاهر أن المصنف إنما تكلم على اليمين بالله تعالى فقط.

وَالْبِرُّ: لا فَعَلْتُ، وَإِنْ فَعَلْتُ، وَالْحِنْثُ: لأَفْعَلَنَّ، وَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ لما ذكر البر والحنث في القول الثالث، وكان كثير من أحكام الأيمان يتوقف على معرفتهما، أشار إلى صيغهما، فذكر أن للبر صيغتين: لا فعلت، وللحنث صيغتين: لأفعلن، وإن لم أفعل. وذكر المصنف صيغهما ولم يذكر حقيقتهما؛ لأن ذكر الصيغة تؤخذ منه الحقيقة. فإنه إذا كان صيغة البر: لا فعلت، وإن فعلت، علم أن البر هو أن يكون الحالف بإثر حلفه موافقاً لما كان عليه من البراءة الأصلية وكذلك يعلم من صيغة الحنث أن الحنث أن يكون الحالف بحلفه مخالفاً لما كان عليه من البراءة الأصلية ولا إشكال أن في صيغة الحنث حرف شرط كقوله: "والله إن لم أتزوج لا أقيم في هذه البلدة"، وأما "إن" في صيغة البر فنص ابن عبد السلام على أنها حرف نفي كقوله: "والله إن كلمت فلاناً" معناه: والله لا أكلم فلاناً؛ لأن "كلم" هنا وإن كان ماضياً فمعناه: الاستقبال؛ إذ الكفارة لا تتعلق إلا بالمستقبل. فإن قلت: فما صرف الماضي هنا إلى الاستقبال؟ قيل: الإنشاء إذ الحلف إنشاء، وقد ذكره النحويون من صوارف الماضي إلى الاستقبال. وقول ابن عبد السلام: أن "إن" في صيغة البر هنا للنفي إن أراد به: إذا لم يكن هناك جزاء فمسلم، وإلا فهي مع الجزاء شرط؛ كقولك: والله إن كلمت فلاناً لأعطينك مائة، أو والله إن دخلت الدار فلا أكلمك أو نحو ذلك. وَمَنْ ضَرَبَ أَجَلاً فَعَلَى بِرٍّ إِلَيْهِ يعني: في [240/ب] صيغة البر والحنث كقولك: والله لأضربن فلاناً بعد شهر؛ لأنه لما كان له ترك الفعل إلى ذلك الأجل كان كالحالف على النفي.

وَفِيهَا: وَلَوْ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ أَجْزَأَ، كَمَنْ حَلَفَ بعِتْقِ رَقَبَةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَلا يَطَأُ فَأَعْتَقَ لإِسْقَاطِ الإِيلاءِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُجْزِئُهُ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ بَعْدَ الْحِنْثِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَالَ أَيْضاً: لا يُجْزِئُهُ إِلا فِي مُعَيَّنَةٍ ... أتى بهذا بياناً للمشهور من الأقوال السابقة، وما نقله من التشبيه نحوه في ظاهر المدونة قال: وإن كفَّر قبل حنثه أجزأه كمن حلف بعتق رقبة ألا يطأ امرأته، فأخبر أن الإيلاء عليه، فأعتق إرادة لإسقاط الإيلاء، فقال مالك: أحب إلي أن يعتق بعد الحنث ولو أعتق قبله أجزأه ولا إيلاء عليه. عياض وابن عبد السلام: والمشهور المعروف في كتاب الإيلاء أنه لا يجزئه في غير المعين، بخلاف اليمين بالله تعالى؛ لأن الإجزاء في اليمين بالله تعالى إما لظاهر الآية أو الحديث أو لجريان سبب الكفارة وهو عقد اليمين، وإما لالتزامات كقوله: إن وطئتك فعلي عتق رقبة أو صوم شهر أو صدقة دينار. فلم يأت فيها من الرخصة ما في اليمين بالله تعالى، ولا جرى سبب وجوبها، وإنما هي التزامات موقوفة على شروط فلا تجب إلا بعد حصول تلك الشروط. ونص ما في الإيلاء: ويكتب إلى الغائب، وإن كان ببلده مسيرة شهر أو شهرين، فيوقف أيضاً في موضعه، فإما عجل الكفارة، أو إيقاع ما ذكرنا من المعينات من عتق أو طلاق أو صدقة، وإلا طلق على كل واحد. انتهى. والقولان أيضاً لمالك في الموازية. ابن عبد السلام: وظاهر كلام الجمهور أن الخلاف المذكور في مسألة الإيلاء حاصل حقيقة. وقال الشيخ أبو محمد: إن الخلاف فيها إنما هو فيما بين المرأة وزوجها؛ لأنها تقول: لعل هذه الرقبة معتقة عن كفارة أخرى، وأما فيما بينه وبين الله فقد برئت ذمته، فعلى هذا لو صدقته المرأة أنها عن الإيلاء لما لزمه شيء إذا وطئها بعد ذلك. والجمهور على حصول الخلاف ظاهراً وباطناً كما قلنا. انتهى.

قوله: (وَقَالَ أَيْضاً: لا يُجْزِئُهُ إِلا فِي مُعَيَّنَةٍ) هذا أيضاً موافق لما في كتاب الإيلاء، ولا خلاف في الإجزاء في المعينة. وهذا كله إذا كانت يمينه على بر، وأما إن كانت على حنث كقوله: عليَّ عتق رقبة لأفعلن كذا. ابن عبد السلام: المشهور في المذهب أن له تقديم العتق وأن له أن يحنث نفسه متى شاء، كانت الرقبة معينة أم لا. وَلا تَجِبُ إِلا بالْحِنْثِ طَوْعاً أما أنها لا تجب إلا بالحنث طوعاً فمتفق عليه وظاهر، وتقييده بالطوع يقتضي أنه لا يحنث بالإكراه مطلقاً، وهو قول في المذهب، والمشهور أن الحالف إن كانت يمينه على حنث، يحنث بالإكراه. ففي البيان: من حلف ألا يفعل فعلاً فأكره على فعله، فلا يحنث بلا اختلاف، وإنما اختلف إذا حلف ليفعلن فعلاً فمنع من فعله وحيل بينه وبينه المشهور أنه حانث، إلا أن يكون نوى إلا أن يغلب. وقال ابن كنانة. لا حنث عليه. انتهى. واستشكل المشهور غير واحد من الشيوخ. قال في المدونة: ومن حلف ليأكلن هذا الطعام أو ليلبسن هذه الثياب، أو يركب هذه الدابة، أو يضرب عبده غداً، فماتت الدابة أو العبد، وسرقت الثياب والطعام قبل غد، فلا حنث عليه بالموت؛ لأنه كان على بر بالتأجيل، ويحنث بالسرقة إلا أن يكون نوى أن تسرق. وقوله: لأنه كان على بر. هذه العلة يشترك فيها جميع المسائل التي ذكرها، وإنما يريد: لأنه كان على بر ولم ينسب إليه تفريط بخلاف السرقة فإنه ينسب إليه تفريط، كما قال صاحب تهذيب الطالب وغيره: لأن الفعل في السرقة والغصب ممكن، وإنما منعه السارق والغاصب. وقال أشهب: لا يحنث في السرقة ونحوها.

وَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ: إِطْعَامُ عَشََرَةِ مَسَاكِينَ أَحْرَارٍ مُسْلِمِينَ مُدّاً مُدّاً، وَقَالَ أَشْهَبُ: وَثُلُثاً، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَنِصْفاً، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبةٍ، ثُمَّ صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُرَتَّبَةٍ بَعْدَهَا، وَتَتَابُعُهَا مُسْتَحَبّ، وَالطَّعَامُ كَالْفِطْرِ .... ما ذكره من التخيير في الثلاثة الأول وترتيب الرابع هو نص الآية الكريمة، واحترز بالأحرار من العبيد ومن فيه علقة رق، وقال في المدونة: وإن أعطى غنياً ولم يعلم به لم يجزه وفي الأسدية: من أعطى من زكاة أو كفارة لغني ولم يعلم به أجزأه. واحترز بالمسلمين من الكفار فإنه لا خلاف أنهم لا يعطون. ولا خلاف أن المدينة يعطي فيها المد. مالك في المدونة: وأما سائر البلاد فإن لهم عيشاً غير عيشنا، فليخرجوا وسطاً من عيشهم، كما قال الله تعالى. قال ابن القاسم: حيثما أخرج مدّاً بمده صلى الله عليه وسلم أجزأه، وظاهر قول مالك أنه لابد من الزيادة على المد في غير المدينة كقول ابن وهب وأشهب، إلا أن مالكاً لم يحد الزيادة، وحمل أبو الحسن قول ابن القاسم على أنه خلاف لمالك ولذلك قال اللخمي: إن قول مالك أبين منه. وفي الرسالة أن المد يجزئ مطلقاً وكلام المصنف لا يؤخذ منه أن خلاف أشهب وابن وهب خاص بغير المدينة، بل نقل ابن عبد السلام عنهما أنهما يقولان بالزيادة في مصر وما قاربها في سَعة [241/أ] القوت. الباجي: وإنما يشترط المد إذا رفع إليهم الطعام، وأما إذا أطعموا بإدام فالمشهور شبعهم لو نقص عن المد. وقوله: (ثُمَّ صِيَامُ) هو نص الآية. قال في المدونة: ولا يجزئه الصوم وله مال غائب، وليتسلَّف، وإن كان له مال وعليه دين مثله أجزأه الصوم، ولا يجزئه الصوم إن كان يملك داراً أو خادماً وإن قل ثمنها كالظهار. أشهب: وقيل: إن كان مجيء الدين قريباً انتظر، وإن وجد من يسلفه تسلف، ولو كفَّر بالصيام ولم ينتظر دينه أجزأه.

التونسي: ولم يبين في المدونة هل ماله قريب الغيبة أو بعيدها؟ فأما القريب فصواب، وأما البعيد فهو ابن السبيل يجوز له أخذ الزكاة، فما الذي يمنع أن يكفر بالصوم؟ لا سيما إن أمكن أن يذهب ماله، وعند أشهب في البعيد الغيبة أنه يكفر بالصوم. انتهى. وكذلك حمل اللخمي المدونة على الإطلاق، وأخذ من قوله في المدونة: "ويتسلف" أن الكفارة على الفور. اللخمي: وأصل ابن القاسم أنه ينتظر وإن بعد؛ لأنه قال في المظاهر: لا يجزئه إلا الصوم، وإن طال مرضه. وقال أشهب: يجزئه الإطعام إن طال مرضه. فناقض اللخمي ما له هنا بما في الظهار. أبو الحسن: وتأول بعض الشيوخ معنى قوله هنا: "فليتسلف إن أراد" فيقوم منه أن الكفارة على التراخي ويطابق ما في كتاب الظهار. ابن المواز: قال مالك: لا يصوم الحانث حتى لا يجد قوته، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيها. وقال ابن مزين عن ابن القاسم: إن كان له فضل عن قوت يوم ما يطعم أطعم، إلا أن يخاف الجوع وهو في بلد لا يعطف عليه فيها فليصم، واستحب التتابع في الصيام لكونه أقرب لبراءة الذمة. وقوله: (وَالطَّعَامُ كَالْفِطْرِ) أي: وجنس الطعام كجنس زكاة الفطر، وهكذا قال الباجي، ولم أر أصحابنا يفرقون بين البابين، وظاهر مسائلهم المساواة، ابن عبد السلام: وتحقيق النقل أن هذا الباب وباب زكاة الفطر متقاربان لا متساويان. فَإنْ أَعْطَى خُبْزاً غَدَاءً أَجْزَأَهُ مِنْ غَيْرِ إِدَامٍ عَلَى الأَصَحِّ إجزاء الغداء والعشاء عليه جمهور العلماء. وقال الشافعي: لا يجزئ، وهو ظاهر قول يحيى بن يحيى: لا أعرف في هذا غداءً ولا عشاءً. قال في المدونة: ولا يجزئ غداءً دون عشاء ولا عشاء دون غداء ويطعم الخبز مأدوماً بزيت ونحوه. وظاهره اشتراط الإدام وكذلك قال ابن عبد السلام: مذهب المدونة اشتراطه، ويحتمل أن يكون على الأولى فلا يكون

مخالفاً لما صححه المصنف، وعلى عدم المخالفة حمله ابن هارون. وقال بعضهم: ومقدار الخبز رطلان بالبغدادي. وباشتراط الإدام قال ابن حبيب، قال: ولا يجزئه الخبز قفاراً. اللخمي: وفي كتاب ابن مزين: يجزئه. والأول أحسن لقوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89]. عياض: والقفار بتقديم القاف وفتحها وتخفيف الفاء: الذي لا إدام معه. ابن حبيب: والإدام: زيت أو لبن أو لحم أو قطنية أو بقل، وقال: ابن عباس: أعلاه اللحم وأوسطه اللبن وأدناه الزيت. والإطعام إما بتمكين كلٍّ بمفرده أو بتمكينهم فيأكلونه. التونسي: وتكون العشرة يقرب أكل بعضهم من بعض خوفاً أن يكون فيهم من يأكل كثيراً وآخر يسيراً، ولأنه لا يعطي المريض أو الصبي أو الرضيع إلا قدر ما يأكله الكبير. وَيَجُوزُ لِلصَّغِيرِ الأَكْلُ وَلا يُنْقَصُ، وَفِيمَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بالطَّعَامِ قَوْلانِ حاصله: أن الصغير على قسمين: إن استغنى بالطعام أعطي، وإن لم يستغنِ به فقولان: مذهب المدونة أنه يعطي، ففي كتاب الظهار منها: ويطعم الرضيع من الكفارة إذا كان قد أكل الطعام، ويعطي ما يعطي الكبير، والقول بأنه لا يعطي حكاه ابن بشير ولم يعزه وللتونسي نحوه فإنه قال: وأما الرضيع فلا يطعم لأنه ليس في حد من الطعام له غذاء. انتهى. وحكى بعض المتأخرين قولاً بأن الصغير يعطي ما يكفيه خاصة، وإن لم يأكل الطعام، ومفهوم كلام المصنف أنه لا يعطي، وهو مفهوم ما نقلناه عن المدونة. وأجاز في العتبية إطعام الصغير وأطلق لكن قيده ابن رشد فقال: معناه إذا كانوا قد بلغوا أن يأكلوا الطعام. قاله ابن القاسم عن مالك في ظاهر المدونة. وكلام الباجي يدل على إعطائه؛ وذلك لأنه لما ذكر قول أصبغ: وله أن يعطي الصغير من الطعام المصنوع ما يأكل الكبير. وذكر تفسير ابن المواز بأنه إذا كان فطيماً قال: يريد لأنه إذا كان يرضع لم يتغذَّ بالطعام المصنوع، ولا يتأتى بيعه في الأغلب فكان حكمه أن يدفع إليه حنطة يتأتى له بيعها وانتفاعه بها في غير القوت.

وَالْكِسْوَةُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ سَاتِرٌ لِلرَّجُلِ، وَثَوْبٌ وَخِمَارٌ لِلْمَرْأَةِ قال في المدونة: وإن كسا في الكفارة لم يجزه إلا ما تحل الصلاة فيه؛ ثوب للرجل، ولا تجزئ عمامة وحدها، وللمرأة درع وخمار، وفي معنى الثوب الإزار الذي يمكن الاشتمال به، قاله ابن حبيب، فإن لم يمكنه الاتِّزار به، فقال الباجي: لم أرَ لأصحابنا نصّاً والأظهر أنه لا يجزئه. وقال غيره: يتخرج من إجازة مالك الصلاة بسراويل الإجزاء. وَفِي جَعْلِ الصَّغيرِ كَالْكَبيرِ فِيمَا يُعْطَاهُ قَوْلانِ القول بأنه كالكبير لمالك في العتبية، وهو قول ابن القاسم ومحمد، والقول بأنه يعتبر الصغير في نفسه نقله ابن المواز عن أشهب [241/ب] قال: ويعطي كل من الصغير والصغيرة ثوباُ قدره. وحكاه صاحب البيان عن ابن حبيب وأشار إلى أن معنى ذلك إذا لم يقصد إلى أصغرهم لتخف عنه الكفارة وإنما تحرى الصواب وقصد الحاجة. وظاهر ما حكاه اللخمي عن ابن الماجشون في الواضحة أن الصبية التي تؤمر بالصلاة تعطى ثوب رجل من غير خمار، وهكذا نقل الباجي عن ابن حبيب صريحاً. اللخمي: وروى ابن المواز عن ابن القاسم أنه لا يعجبه كسوة الرضيع بحال. وكان يقول: من أُمر بالصلاة منهم فله أن يكسوه قميصاً مما يجزئه. قال محمد: تفسيره: كسوة رجل. اللخمي: ومفهوم قول ابن القاسم غير هذا أنه يكسوه في نفسه. وهكذا قال الباجي: أن ابن القاسم يريد: إن كان دون كسوة رجل. تنبيه: إذا تقرر ما ذكرناه علمت أن النقل اختلف عن ابن حبيب؛ لأن صاحب البيان نقل عنه غير ما نقله الباجي كما تقدم. وَلا يُشْتَرَطُ وَسَطُ كِسْوَةِ الأَهْلِ عَلَى الأَصَحِّ لأن الله تعالى إنما شرطه في الإطعام، ولأن الكسوة تتفاوت كثيراً بخلاف الإطعام.

ابن راشد: والقول بمراعاة ذلك لم أقف عليه، لعله قاسه على الإطعام وفيه بعد. انتهى. وحكاه ابن بشير عن اللخمي فقال: ورأى اللخمي لزوم الوسط كالإطعام، ولم أرَ ذلك في التبصرة، بل نص فيها على خلاف ذلك. اللخمي: واختلف ي المراد بالأهل في قوله تعالى: (فَكَفَّرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ([المائدة: 89] هل المراد بالأهل أهل المكفر، أو أهل البلد الذي هو فيه؟ وفي المدونة: يخرج من عيش أهل البلد. وفي كتاب محمد: من عيش المكفر وهو أحسن؛ لأن إطلاق الأهل على أهله حقيقة وعلى أهل البلد مجاز فإن كان يأكل القمح لم يجزه الشعير ولو كان ذلك عش أهل البلد، وإن كان يأكل الشعير أجزاه وإن كان عيش أهل البلد القمح. ابن حبيب: إلا أن يكون فعل ذلك مع سعة، ومثله يأكل القمح فلا يجزئه الشعير. انتهى. وحكى غيره قول ابن حبيب عن أصبغ وجعله خلافاً لقول محمد. وإذا أخرج شعراً فليخرج منه مبلغ شبع القمح. وَالْعِتْقُ كَالظِّهَارِ سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وَلَوْ أَطْعَمَ وَكَسَا وَأَعْتَقَ عَنْ ثَلاثٍ فَإِنْ نَوَى كُلَّ وَاحِدَةٍ عَنْ يَمينٍ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً، وَإِنْ شَرَّكَ لَمْ يُجْزِئْهُ مِنَ الْعِتْقِ شَيْءٌ؛ لأَنَّهُ لا يَتَبَعَّضُ، وَفِي غَيْرِه قَوْلانِ، وَعَلَى التَّبْعِيضِ يَبْنِي عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَعَلَى نَفْيهِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَبْنِي عَلَى سِتَّةٍ، وَقَالَ اللَّخْمِي: يَبْنِي عَلَى تِسْعَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ ... يعني: إذا كفر عن ثلاث كفارات بعتق وكسوة وإطعام، فلا خلاف في الإجزاء، سواء عين كل كفارة ليمين أو لا. (وَإِنْ شَرَّكَ) أي: جعل العتق عن الثلاث، وكذلك الإطعام والكسوة، فالعتق لا يجزئه اتفاقاً لكونه لا يتبعض.

واختلف في الإطعام والكسوة وهو مبني على أنه هل يجزئه في الكفارة الواحدة أني كون بعضها كسوة وبعضها إطعاماً؟ والمشهور: لا يجزئه، وأجازه ابن القاسم في الموازية. ومنشأ الخلاف: هل التخيير في الجمل يقتضي التخيير في الأبعاض أم لا؟ ثم فرع المصنف على كل من القولين: فذكر أنه على القول بالتبعيض يبني على ثمانية عشر؛ لأنه قد ناب كل كفارة ثلاثة وثلث من الإطعام ومثلها من الكسوة والثلاثة لا تجزئ فتبطل. وكذلك لو قصد التشريك في كل مسكين لم يصح له شيء اتفاقاً، إلا أن يعلم أعيان المساكين فيزيد كل واحد ثلثي مد، وإنما بنى على ثمانية عشر؛ لأنه يصح لكل كفارة ستة. وعلى نفي التبعيض، فقال ابن المواز: يبني على ستة: ثلاثة من الإطعام وثلاثة من الكسوة. وكذا في النوادر زاد فيها: ثم يكسو سبعة ويطعم سبعة ويكفر عن اليمين الثالثة بما شاء، قوال اللخمي: يبني علىتسعة؛: لأنه قد تبين أنه قد صح له من كل من الإطعام والكسوة تسعة، وما ذكره عن اللخمي هو قول جميع الشيوخ، وقد نص عليه فضل بن سلمة والتونسي. خليل: وكان شيخنا رحمة الله يوجه قول ابن المواز بما معناه: إن قاعدة ابن المواز: لايبتدئ كفارة من نوع الأولى قبل أن تكمل الأولى فيلزم أن يبني على ثلاثة من الإطعام وثلاثة من الكسوة، وهذا كما قال ابن القاسم: لو صام أربعة أشهر عن ظهارين، ثم ذكر أنه أفطر يومين لا يدري اجتماعهما أو افتراقهما، فإنه قال: يصوم يومين ثم يقضي أربعة أشهر، وعلل صوم اليومين لاحتمال أن يكون اليومان من الكفارة الأخيرة فلا ينتقل عنها ويشرع في غيرها حتى يكملها، وكذلك من ذكر سجدة في آخر صلاته لا يدري من أي ركعة هي فإنه قال: يسجد الآن لاحتمال أن تكون من الأخيرة، والله أعلم.

وَالْعَدَدُ مُعْتَبَرٌ فَلا يُجْزِئُ مَا تَكَرَّرَ لِوَاحِدٍ إِلا فِي كَفَّارَةٍ ثَانِيَةٍ وَجَبَتْ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا، فَلَوْ وَجَبَتْ قَبْلَهُ فَقَوْلانِ .... يعني: أنه يجب في الإطعام والكسوة استيعاب عشرة مساكين، ولذلك لا يجزئه ما تكرر لواحد. ابن بشير: وهل يكرر الإعطاء لواحد من كفارات؟ أما إن وجبت الكفارة الثانية بعد إعطاء الأولى فلا خلاف في جوازه، وأما إن وجبت قبله ففيه قولان: الإجزاء قياساً على الأولى، وعدم الإجزاء كالكفارة الواحدة. فحكى الخلاف في [242/أ] عدم الإجزاء وهو ظاهر كلام المصنف. ولم أرَ القول بعدم الإجزاء في غيره وهو بعيد. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المدونة وغيرها أن المنع من ذلك على سبيل الكراهة وهو أشد ما يمكن، ولهذا قال ابن أبي زيد: إنما كره مالك ذلك؛ لئلا تختلط النية في الكفارتين، وأما إن حصلت النية في كل كفارة فجائز وصوبه أبو عمران. فَلَوْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ نِصْفاً كَمَّلَ الْعَشْرَةَ مِنْهُمْ وَإِلا اسْتَانَفَ، وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَنَحْوُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِيهَا: لا يُعْجِبُنِي وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْكَفَّارَتَانِ كَيَمِينٍ وَظِهَارٍ ... قوله: (وَإِلا) أي: لم يكمل استأنف. واختلف شراح المدونة هل من شرط التكميل إبقاء ما دفعه إليهم بأيديهم إلى حين التكميل؟ قوله: (وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ) أي: فيشترط فيها العدد وإن أعطى لمائة وعشرين كمل الستين منهم. وقوله: (وَفِيهَا ... إلخ) أي: لم يعجبه في المدونة أن يدفع لمسدين مُدَّيْن من كفارتين وإن اختلف موجبها، وبهذا يضعف تأويل ابن أبي زيد المتقدم؛ إذ كفارة الظهار متميزة عن كفارة اليمين بالله تعالى فلا اختلاط.

وَالنَّذْرُ، والطَّلاقُ، وَالْعِتْقُ- عَلَى صِفَةٍ فِيهِنَّ – تُسَمَّى يَميِناً، وَهيَ فِي التَّحْقِيقِ: تَعْلِيقٌ كقوله: إن فعلت كذا فعلي نذر كذا، أو فامرأته طالق أو فعبده حر، وقوله: (عَلَى صِفَةٍ) أي: على حصول شرط. وقوله: (تُسَمَّى) أي: في اصطلاح الفقهاء. وقوله: (وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ: تَعْلِيقَّ) أي: التزام شيء على حصول شرط. وَالْيَمِينُ باللهِ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، وَهِي وَغَيْرُهَا عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلْفِ فِيمَا كَانَ عَلَى وَثِيقَةِ حَقَّ عَلَى الأَظْهَرِ مِنْ شَرْطٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ وَنَحْوِهِ أَوْ تَاخِيرِ أَجَلٍ بدَيْنٍ، وَفِيمَا سِوَاهَا ثَالِثُهَا: إِنْ سُئِلَ فِيهَا فَعَلى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، وَإِلا فَعَلى نِيَّتِهِ .. حاصله أن من حلف فإما أن يكون على وثيقة حق أو لا. فالأول: المعتبر فيه نية المحلوف له، وهو مراده بالمستحلِف. وقول المصنف: (عَلَى الأَظْهَرِ) يقتضي أن في المسألة قولين، سواء كانت يمينه بالله أو بالطلاق أو بالعتق وهو صحيح، وقد حكاهما التونسي وصاحب الكافي. والقول بأنه على نية المستحلف تحصيل مذهب مالك. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: يصح تخصيص ما حلَّفه عليه ولكنه ظالم للمحلوف له، وقال بعضهم: لا يصح حتى يحرك لسانه، وفي التونسي: إذا كان إنما حلف في حق أو وثيقة وادعى النية وكانت يمينه طلاقاً أو عتقاً لم يصدق؛ لأن يمينه في الحق والوثيقة على نية المحلوف له، وقيل: يصدق. وأما إن كانت يمينه بالمشي إلى بيت الله وقال: أردت المسجد، فقيل: لا يصدق أيضاً؛ لأن يمينه في الحق والوثيقة على نية المستحلِف، وقيل: ينوي لأن هذا مما لا يقضي عليه به. انتهى. خليل: وتقدم لابن القاسم أنه إذا حرك لسانه بالثُّنيا فله ثنياه، وإن لم يعلم بذلك مستحلِفه، وهو مما يصح أن يكون مقابل الأظهر وهذا خلاف طريق صاحب المقدمات وابن زرقون فإنهما حكيا الإجماع على أن النية لا تنفع إذا قطع بها حقّاً لغيره للحديث الصحيح:

"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار"، قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك"، قالها ثلاثاً. والثاني: وهو الذي لا يكون على وثيقة حق، إما أن يكون بالله تعالى أو لا؛ فإن كانت بالله تعالى فعلى نية الحالف، وإلا فثلاثة أقوال: الأول: أن اليمين على نية المحلوف له رواه ابن القاسم عن مالك، وبه قال ابن وهب وسحنون وأصبغ وعيسى. والثاني: أنه على نية الحالف وهو قول ابن القاسم. والثالث: التفصيل لابن الماجشون وسحنون: إن كان مستحلفاً فعلى نية المحلوف له، وإن كان متطوعاً فعلى نية الحالف، وخصص المؤلف هذا الخلاف بما عدا اليمين بالله تعالى، وهو خلاف طريقة صاحب المقدمات وابن زرقون؛ فإنهما عمما الخلاف وزادا قولين آخرين أولهما عكس الثالث: إن حلف متطوعاً فالمعتبر نية الغير لأنه إنما حلف لأجله، وإن استحلفه فله نيته لأنه كالمكره، وثانيهما: إنما يفرق بين أن يكون مستحلفاً أو متطوعاً فيما يقضي به عليه وأما غير ذلك فعلى نية الحالف، رواه أصبغ عن ابن القاسم. وما تقدم عن مالك أن للحالف نيته في "الحلال عليه حرام"؛ لاختلاف العلماء فيها بخلاف غيرها- قول سادس. والضمير في قوله: (سِوَاهَا) عائد على قسمي اليمين بالله؛ أي: وسواء كانت على وثيقة حق أو لا، وعلى اليمين بالطلاق والعتق والنذر فيما كان على وثيقة حق، ويحتمل أن يكون الضمير في (سِوَاهَا) عائد على اليمين بالطلاق والعتاق إذا لم يكن على وثيقة حق، وأما اليمين بالله فقد أخذنا حكمها مطلقاً فلا حاجة إلى إعادتها. وفي بعض النسخ (سواهما) بضمير التثنية فيجعل اليمين بالله مطلقاً قسماً واحداً، ويجعل ما كان على وثيقة حق مطلقاً قسماً واحداً، ويجعل ما كان على وثيقة حق مطلقاً قسماً واحداً، مثال اليمين التي على وثيقة حق، كما لو استُحلِف من عنده وديعة

فأنكرها وحلف ما له عنده وديعة، ونوى حاضرة معه، وكما مثل المصنف بقوله: (مِنْ شَرْطٍ فِي نِكَاحٍ) كما إذا عقد النكاح على أنه إن تسري عليها فعليه التصدق بثلث ماله، ثم تسري عليه حبشية، وقال: نويت من غير الحبش، فلا تفيده تلك النية. ونحو البيع الأكرية وسائر العقود. وقوله: (وَتَاخِيرِ أَجَلٍ بدَيْنٍ) [242/ب] أي: من كان له دين على غريم فطالبه، فطلب الغريم التأخير وحلف ليقضينه إلى أجل، فاليمين على نية الطالب لا الغريم. ثُمَّ الَّتِي عَلَى نِيَّتِهِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بالْحِنْثِ مُطْلَقاً وَهُوَ الطَّلاقُ وَالْعِتْقُ دُونَ مَا سِوَاهُمَا، فَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ النِّيَّةَ وَثَمَّ مُرَافَعَةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ أَوْ إِقْرَارٌ لَمْ تُقْبَلْ نِيَّتُهُ، فَإِنْ تَسَاوَيَا قُبِلَتْ بِيَمِينٍ ... يعني: أن اليمين التي على نية الحالف، على ما تقدم على ضربين: الأول: أن تكون فيما يقضي فيه بالحنث، وهو الطلاق والعتق خاصة، والكلام الآن فيه. والثاني: ما لا يقضي فيه بالحنث كاليمين بصلاة أو صيام، وسيأتي الكلام عليه. وقوله: (مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بالْحِنْثِ مُطْلَقاً) يحتمل أن يعود على الطلاق، ويحتمل أن يعود عليه وعلى العتق، ومعناه الإطلاق في الطلاق؛ أي: سواء كان منجزاً أو معلقاً والزوجة في الملك أو قبله واحدة أو أكثر، وفي العتق سواء كان منجزاً أو معلقاً كاملاً أو مبعضاً أو آيلاً إليه كالتدبير ونحوه، إلا أنه يشترط في ذلك أن يكون في رقبة معينة، وغير المعينة لا يقضي بها كما إذا قال: إن فعلت كذا فعليَّ عتق رقبة، فإنه إذا حنث لا يقضي عليه بها. وقوله: (دُونَ مَا سِوَاهُمَا) أي: من سائر القرب والعطايا كالصلاة والصوم والهبات والصدقات.

وقوله: (فَإِنْ خَالَفَ) يقتضي أن اللفظ ليس نصّاً في مدلوله؛ إذ لو كان كذلك ما افترق الحكم. وإذا ثبت أن اللفظ لابد أن يكون محتملاً، فإن كانت النية موافقة لظاهر اللفظ قبلت في القضاء والفتيا، وهذا مأخوذ من كلامه بالمفهوم. ابن المواز: وأم ما تقبل فيه النية في القضاء والفتيا فمثاله أن يحلف لزوجته بطلاق من يتزوج في حياتها، أو يكون ذلك شرطاً في أصل نكاحها، فتَبِين منه، ثم يتزوج ويقول: نويت ما كانت تحتي فيصدق، ومثل الذي يعاتب زوجته في دخول بعض قرابتها إليها، فتحلف بحرية عبدها لا دخل علي أحد من أهلي، فلما مات قالت: نويت ما كان حيّاً، فذلك لها في القضاء وإن قامت عليها بينة، وإن كانت نيته مخالفة لظاهر اللفظ كما إذا قال لامرأته- بعد أن طلقها طلاقاً رجعياً-: إن راجعتك فأنت طالق، وقال: إنما أردت رجعتها في العدة؛ لأن ظاهر لفظه أنه لا يرتجعها أبداً، فلا يقبل منه ما ادعاه من نية إذا رفع الأمر إلى الحاكم، وهو مراده بقوله: (وَثَمَّ مُرَافَعَةٌ) وقامت عليه بينة أو أقر بذلك. وحاصله أن الرفع لابد منه في عدم القبول بشرط أن يكون مع ذلك أحد شيئين: إما البينة أو الإقرار لما يجب على الحكام من إجراء الأمور على ظواهرها، وسيأتي إذا لم تكن مرافعة. خليل: والمثال الذي ذكره ابن راشد كذلك ذكره ابن المواز، وفيه نظر؛ لأن العرف ند الناس في المراجعة إنما هو في العدة فكان ينبغي أن تقبل نيته مطلقاً؛ وكأنهم أخذوا المراجعة بالمعنى اللغوي. وقوله: (فَإِنْ تَسَاوَيَا) أي: أمكن أن يكون قصد باللفظ الصادر عنه ما ادعى أنه نواه، وأمكن ألا يقصد على حد سواء قبلت نيته في القضاء وأحرى في الفتيا، وهذا يتصور في تقييد المطلق أو تبيين أحد محامل المشترك. ابن راشد: ومثال الأول أن يقول: أحد عبيدي حر، ويقول: أردت فلاناً، ومثال الثاني: أن يقول: عائشة طالق، وله زوجتان اسم كل واحدة منهما عائشة. ووقع في بعض النسخ بإثر (قبلت بيمين)

(وهو مما تردد فيه الشيوخ)، وهو من أيمان التهم. ابن عبد السلام: والأقرب هنا توجيهه احتياطاً لحق الله تعالى. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَكَانَ احْتِمَالاً قَرِيباً قُبِلَتْ مِثلُ: لا أَفْعَلُ كَذَا وَيُرِيدُ شَهْراً، أَوْ لا آكُلُ سَمْناً وَيُرِيدُ سَمْنَ ضَأَنٍ، أَوْ لاَ وَطِئْتُهَا وَيُرِيدُ بقَدَمِي ... هذا قسيم قوله: (وَثَمَّ مُرَافَعَةٌ ... إلخ) لأن الإشارة بذلك إلى المرافعة مع البينة أو الإقرار؛ أي: وإن لم تكن مرافعة قبلت نيته؛ إذ لا يحتاج إلى اليمين في صحة ذلك؛ لأن النظر في توجيه الأيمان مما يختص بالحكام. قال في البيان في باب طلاق السنة: ولا خلاف في عدم اليمين هنا، والأمثلة الثلاثة التي ذكرها المصنف أعني قوله: (لا أَفْعَلُ كَذَا وَيُرِيدُ شَهْراً، أَوْ لا آكُلُ سَمْناً وَيُرِيدُ سَمْنَ ضَانٍ، أَوْ لاَ وَطِئْتُهَا وَيُرِيدُ بقَدَمِي). كذلك ذكرها ابن المواز وزاد: إذا قال لامرأته: أنت طالق أو أنت طالق ألبتة إن راجعتك، فأراد أن يتزوجها بنكاح جديد وقد خرجت من العدة، وقال: إنما نويت ما دامت في عدتها، فإن كانت على يمينه بينة لم أُدَيِّنه، وإن لم تنك عليه بينة دَيَّنته، وقيل: إنما معنى هذا إذا جاء مستفتياً بلا مخاصمة ولا مرافعة، أما إذا جاء بالمرافعة فسواء كانت على أصل يمينه بينة أو لم تكن، والإقرار كالبينة. وكذلك من قال: حليمة طالق وكانت له جارية وزوجة تسميان بذلك، وقال: نويت جاريتي، فله نيته في الفتوى. وإما في القضاء فإن قامت عليه بينة، أو حلف به على وثيقة حق فلا تنفعه نيته. وأكثر هذا في المدونة. انتهى. وعلى هذا فقوله: (فإَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَكَانَ احْتِمَالاً قَرِيباً .... إلخ) أحد شي المسألة المتقدمة؛ أعني قوله: (وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ النِّيَّة) لأن الجميع قد خالف [243/أ] فيهما ظاهر اللفظ النية، وهناك روفع إن قامت عليه بينة أو إقرار، وهنا لم يرافع وكان الأولى أن يؤخر قوله: (وَإنِْ تَسَاوَيَا قُبِلَتْ) لأن هذه المسألة على ثلاثة أقسام: منها ما يقبل في الفتيا دون القضاء، وهو ما خالفت النية فيه ظاهر اللفظ، ومنها ما

يقبل في الفتيا والقضاء، وهو ما إذا تساويا كما تقدم، ومنها ما لا يقبل في الفتوى ولا في القضاء وهو ما إذا قال: امرأتي طالق وأمتي حرة ويريد الميتة. وسيأتي هذا القسم الثالث من كلام المصنف. ثم في تعبير المصنف بقوله: (وَكَانَ احْتِمَالاً قَرِيباً) نظر لإيهامه أنه غير الوجه الأول، فإن قلت: هل ما ذكر المصنف في قول الحالف: لا وطئتها، وقال: أردت بقدمي مخالف لما قاله في المدونة في باب الإيلاء ونصه: وإن قال: والله لا أطؤك فلما مضت أربعة أشهر وقف وقال: أردت لا أطؤها بقدمي، قيل له: إن وطئت بان صدقك وأنت في الكفارة، اعلم إن شئت فكفره وإن شئت فدع. قيل: لا مخالفة بينهما؛ لأن المصنف إنما قبل منه النية حيث لا مرافعة، وكلامه في المدونة مع المرافعة، وإنما ذكرت هذا؛ لأن ابن عبد السلام زعم أن ما ذكره المصنف في هذا المثال بعيد لرجحان لفظ الوطء عرفاً في الجماع، ثم استشهد على بعده بحكمه على ذلك في المدونة بحكم المولي، ثم في قوله: "لرجحان لفظ الوطء عرفاً في الجماع" نظر؛ لأن هذه المسائل كلها مما خالف فيها ظاهر اللفظ النية. فرع: قال في المدونة فيمن حلف لا يبيع عبده فأمر غيره ببيعه: أنه يحنث ولا ينوي. وقال محمد: ينوي، وفيها فيمن حلف ليضربن عبده فأمر من ضربه: بر، وإن حلف لا يضربه فأمر من ضربه حنث، إلا أن ينوي ضربه بنفسه. اللخمي: فنواه في الضرب إذا أمر من ضربه؛ لأن من السادات من يطمَّع عبده بمثل ذلك لئلا يهرب، أو غير ذلك من العذر، وإلى هذا أشار التونسي وتأول مسألة البيع على أن يمينه كانت مما يقضي عليه فيه بالحنث، فإنه قال: فإن حلف ليضربن عبده فأمر غيره بضربه بر؛ لأن الناس إنما يقصدون بهذا إيلام العبد لا أنه يضربه بيده. وإن حلف لا ضربته فأمر غيره فضربه حنث لأن القصد عدم الإيلام وقد وجد. وإن حلف لا باع ولا

اشترى، فأمر غيره ففعل، قال: يحنث، ولعله يريد إذا كانت يمينه بالطلاق وعليه بينة، وإن كان ظاهر كلامه في المدونة خلافه. انتهى. وحكى في التنبيهات عن بعضهم أنه جعل ما قاله في البيع مخالفاً لما قاله في الضرب، والأول أظهر، والله أعلم. بخِلافِ امْرَأَتِي طَالِقٌ، وَجَارِيَتِي حُرَّةٌ وَيُرِيدُ الْمَيْتَةَ، وَمِثْلُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ الْكَذِبَ ... أي: فلا تقبل نيته في الحكم ولا الفتوى نص على ذلك في المدونة؛ لأنه إن أراد الإنشاء فواضح إذ الإنشاء يستدعي وجود محل الطلاق والحرية، والميتة لا تصلح لذلك، وإن أراد الخبر فهو إخبار بما لا فائدة فيه. ابن عبد السلام: إلا أن تعرض هنالك قرينة حالية أو مقالية توجب صدقه فيصدق، كما في غير مسألة. انتهى. وأما "أنت حرام" فمحمول على الإنشاء، ولا يحتمل الإخبار إلا ببعد، وإذا كان محمولاً على الإنشاء فلا يقبل منه دعوى الكذب؛ فإنه من عوارض الخبر فقط. ونص في المدونة على مسألة "أنت حرام" في كتاب التخيير. فِي مِثْلِ الْحَلالُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَيُرِيدُ غَيْرَ الزَّوْجَةِ-قَوْلانِ قد تقدمت، وكأنه إنما كررها لمناسبتها المحلين، وأما المحل المتقدم فلأنها كالاستثناء بالنية. وأما هنا فلمخالفة ظاهر اللفظ النية، وقد يفعل المصنف مثل ذلك في كتابه كما في السبي بهدم النكاح، فإنه ذكره في الجهاد والنكاح وغير ذلك من الأمثلة. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَبِسَاطُ الْيَمِينِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَعْرُوفِ يعني: فإن عدمت النية، ولم يضبطها الحالف، وكانت اليمين مما ينوي فيها، فإنه ينتقل إلى البساط، وهو السبب الحامل على اليمين، وليس بانتقال عن النية في الحقيقة، وإنما هو لما كان مظنة النية عدل إليه تحريماً على النية. ومقابل المعروف تقديم مقتضى اللفظ

على البساط حكاه اللخمي واعترضه ابن بشير وقال: لا ينبغي أن يختلف في تقديم البساط قال: ولا يحلف حالف معتقداً لليمين إلا وله نية وإنما يمكن أن ينساها فيكون البساط دليلاً على ما قصد وفيه نظر. وفي المقدمات: اختلفوا إذا لم تكن له نية، وكانت ليمينه بساط، وعرف من مقاصد الناس في أيمانهم خلاف ظاهر لفظه، هل تحمل يمينه على البساط، أو ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم، أو على ظاهر لفظه؟ ثلاثة أقوال معلومة في المذهب والأشهر منها مراعاة البساط، ثم القصد العرفي، ثم ظاهر لفظه في اللغة؛ فإن كان محتملاً في اللغة لوجهين فأكثر فعلى أظهر محتملاته، وإن لم يكن أحدهما أظهر جرى ذلك على الاختلاف في المجتهد تتعارض عنده الأدلة، فقيل: يأخذ بما شاء، وقيل: بالأثقل، وقيل: بالأخف، ولأجل تقديم البساط قلنا فيمن حلف لا يشرب ماءاً لمن امتنَّ عليه بما يأخذ منه: أنه يحنث ولو بخيط [243/ب] يخيط به. فَإِنْ فُقِدَا حُمِلَ عَلَى الْقَصْدِ الْعُرْفِيِّ، وَقِيلَ: عَلَى اللُّغَوِيِّ، وَقِيلَ: عَلَى الشَّرْعِيِّ أي: النية والبساط والمشهور تقديم العرفي ثم اللغوي، وهذه الأقوال حكاها ابن بشير، ثم أشار إلى أنه لا ينبغي أن تحمل هذه الأقوال على الخلاف، وإنما ينبغي أن يراعى في كل حالف ما يغلب عليه، والمشهور أظهر إن جاءت الأقوال على الخلاف؛ لأن العرف غالب قصد الحالف، قال في المقدمات بعد ذكر الخلاف في تقديم البساط والفظ: وهذا في المظنون وأما المعلوم كقوله: والله لأقودنَّ فلاناً كانقياد البعير، أو لأرينه النجوم في النهار، فهذا يعلم أن القصد به خلاف اللفظ، فيحمل على ما يعلم من قصده بلا خلاف. فائدة: قال القرافي وغيره: العرف المعتبر هو العرف القولي وأما العرف الفعلي فلا اعتبار به، مثال القولي: والله لا ركبت دابة والعادة أنه تطلق الدابة على الحمار. ومثال الفعلي: أن

يحلف لا آكل خبزاً، وعادت أكل خبز البر، فإنه يحنث بخبز الشعير والذرة، وإن لم يأكله قطُّ. وقال ابن عبد السلام: ظاهر مسائل الفقهاء اعتبار العرف وإن كان فعلياً. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لا يُقْضَى فِيهِ بالْحِنْثِ فَنِيَّتُهُ إِنْ كَانَ قَرِيباً ثُمَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ هذا هو الضرب الثاني؛ يعني: وإن كانت اليمين بغير العتق والطلاق، فإن كانت بالله تعالى أو صيام أو صدقة قبلت منه نية الاحتمال القريب المخالف لظاهر اللفظ والمساوي، ومفهوم كلامه أنه لا يفهم منه إرادة الاحتمال البعيد، والذي ذكره التونسي قبول نيته في هذا القسم مطلقاً، فقال: إن لم يكن بساط حملت يمينه على ظاهر ألفاظ الحالف، إلا أن يدعي نية فيصدق فيما نوى فيه فيما بينه وبين الله تعالى. انتهى. وهذا هو الظاهر لأنه إنما حمل على الظاهر فيما يقضي فيه بالحنث؛ لما يجب على الحكام من إجراء الأمور على ظواهرها، ولا نظر للقاضي هنا. وقوله: (ثُمَّ َعَلَى مَا تَقَدَّمَ) أي: فإن عدمت نظر إلى البساط ثم للقصد العرفي، ثم الشرعي. وَإِذَا كَانَ اللََّفْظُ شَامِلاً لِلْمُتَعَدِّدِ مُحْتَمِلاً لأَقَلَّ وَلأَكْثَرَ حَنِثَ بالأَقَلِّ، وَبِالبَعْضِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَمْ يَبَرَّ إِلا بالْجَمِيعِ اتِّفَاقاً، مِثْلَ: لا أَكَلْتُ رَغِيفاً، وَلا كَلَّمْتُهُ، وَلاَ جَامَعْتُكُنَّ وَلأُجَامِعُكُنَّ مراده أن اللفظ إذا دل على جمع فإنه يدل على أقل الجمع ويحتمل أكثر، وليس مراده العدد؛ لأنه نص لا احتمال فيه، ومثل بمثالين ليعود الأول منهما على الأول، والثاني على الثاني. ابن راشد: وهذه العبارة منتقدة؛ لأن لفظ الرغيف إنما يتناول المجموع وإطلاقه على البعض مجاز، بل من باب التعبير بالجزء عن الكل، وما دل حقيقة لا يقال فيه إنه محتمل لأقل أو أكثر والذي ينبغي أن يقال إذا كان اللفظ ظاهراً في الأكثر محتملاً في الأقل. ابن عبد السلام: وقد يقال إنما يرد هذا إذا كان الاحتمال إنما يقع مع التساوي، وليس بظاهر، بل الاحتمال تارة يكون راجحاً وتارة يكون مرجوحاً، وتارة يكون مساوياً وكلام

المصنف المتقدم يوضحه. والمشهور- كما قال- أنه يحنث بالبعض، ومقابل المشهور حكاه في الكافي عن ابن لبابة أنه لا يحنث إلا بالجميع وخرجه ابن الجلاب على قوله: أنه لا يبر إلا بالكل وهو قول الشافعي، وأما في البر فذكر المصنف الاتفاق على أنه لايبر إلا بالجميع وخرج فيه ابن الجلاب قولاً ببراءته بالبعض من الحنث بالبعض، ووُجِّه المشهور بوجوه: أولها: أن القصد العام في الحالف على عدم لأكل التجنب، ومن فعل البعض لم يتجنب. ثانيها: أن الحالف على عدم الأكل يجري مجرى التحريم، والتحريم يقع بأدنى سبب ألا ترى أن الأم تحرم بالعقد، وتحرم المرأة به على آباء الزوج وأبنائه، والحالف على الأكل يجري مجرى الإباحة وهي لا تحصل إلا بالنهاية إذ لا تحل المبتوتة بالعقد، وإنما تحل بالوطء. وهذا الدليل للشيخ أبي محمد، ورُدَّ بعدم اطراده فإن البنت لا تحرم بالعقد على أمها، وأجيب بأن الغالب التحريم بالأقل، فوجب الحمل عليه. ثالثها: أنَّا اجتمعنا نحن والشافعي على أنه إذا قال: والله لا كلمت زيداً ولا عمراً ولا خالداً أنه يحنث بكلام واحد، ولا فرق بين هذا وقوله: والله لا كلمت زيداً وعمراً وخالداً، ولا تكرار حرف النفي وهو مضمر مع الواو فلا فرق بين إظهاره وإضماره، وهذا الدليل للمصنف ذكره القرافي ورد بأنا لا نسلم أن إعادة حرف النفي من باب التأكيد، بل من باب التأسيس فإنه مع حذفه يحتمل الحلف على كلامهم مجتمعاً ومفترقاً، ومع ثبوته يتناول اليمين كل واحد من الأمرين، فوجب الحنث بفعل كل واحد منهما، وهو الذي ذكره في معنى حرف النفي نص عليه السهيلي، فمن الجائز أن يذهب الشافعي ومن وافقه في عدم التحنيث بالبعض إلى هذا المذهب، قال في المقدمات فيمن حلف لا يأكل هذا الرغيف: حنث بأكل بعضه إلا إذا كانت له نية أو بساط يدل على إرادة استيعاب جميعه. ومن حلف ليأكلن هذا الرغيف لم يبر إلا بأكل جميعه إلا أن تكون له نية أو بساط يدل على إرادة البعض. انتهى.

واختلف الشيوخ هل يرتفع الخلاف إذا أتى بلفظة كل، وهي طريقة ابن بشير، أو هو باقٍ؟ وإليه ذهب الأكثر وهي الصحيحة. فإن مالكاً نص في الموازية على الحنث بالبعض فيمن حلف قال: والله لآكل [244/أي هذا القرص كله، وللتحنيث بالبعض قال ابن القاسم بالحنث فيمن قال امرأته طالق إن صلى ركعتين أنه إن صلى ركعة واحدة أو أحرم ثم قطع، وكذلك يمينه: لا أصوم غداً فبيت الصيام حتى طلع الفجر، فقد حنث وإن أفطر. وكذلك قال أصبغ في الحالف لا يلبس لامرأته ثوباً فلما أدخل طوقه في عنقه عرفه نزعه، أو حلف لا ركب دابة فلان، فأدخل رجله في الركاب واستقل عن الأرض وهمَّ أن يقعد على السرج ثم ذكر فنزع، فروى ابن وهب أنه حانث، قال: ولو ذكر حين استقل من الأرض ولم يستو عليها فلا شيء عليه لأنه لا يبر إلا بالجميع. قال في الموازية في الحالف ليقرأن القرآن اليوم أو سورة كذا فقرأ ذلك ثم ذكر أنه أٍقط حرفاً: فإن علم أنه يسقط مثل ذلك فلا حنث عليه وله ما نوى، وإن جاء بما لا يعرف من الخطأ الكثير أو ترك سورة فهو حانث، وقال مالك فيمن حلف ليتزوجَنَّ على امرأته امرأة يمسكها سنة، فتزوج امرأة أمسكها أحد عشر شهراً ثم ماتت، فقال: يتزوج غيرها ويبتدئ السنة. وقال سحنون: يجزئه أن يحسبها بقية السنة. وَالتَّمَادِي عَلَى الْفِعْلِ كَابْتِدَائِهِ فِي الْبرِّ وَالْحِنْثِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، فَيَنْزِعُ الثَّوْبَ، وَيَنْزِلُ عَنِ الدَّابَّةِ، وَلا يَحْنَثُ فِي دَوَامِهَ فِي لا أَدْخُلُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ: إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ وَهِيَ عَلَيْهِ ... قوله: (بحَسَبِ الْعُرْفِ) أي: ينظر إلى العرف؛ فإن كان دوام الفعل كابتدائه في العرف، كاللبس في الثوب والركوب في الدابة، حنث لأن الدوام كالإنشاء في العرف، ومثاله في البر لو قال: لألبسنَّ هذا الثوب أو لأركبن الدابة، فإنه يبرأ بالدوام، ولا يشترط في ذلك الدوام في كل الأوقات بل بحسب العرف فلذلك لا يحنث بالنزول ليلاً، ولا في

أوقات الضرورات ولا بنزع الثوب ليلاً، وإنما لم يحنث إذا حلف ألا يدخل هذه الدار وهو فيها بدوامه فيها؛ لأن المكث فيها لا يسمى دخولاً عرفاً، ومقابل المشهور لأشهب. وقوله: (وَكَذَلِكَ: إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ) مثاله لو قال: إذا حاضت فعلي صدقة دينار أو والله إذا حاضت لأدخلن الدار، فلا يلزمه ذلك بحيض هي عليه، وإنما يلزمه بحيض مستأنف، وأما لو علق الطلاق على الحيض بأن يقول إذا حضت فأنت طالق، فإنه ينجز على المشهور كما سيأتي. وَالنِّسْيَانُ فِي الطَّلاقِ كَالْعَمْدِ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَخُرِّجَ الْفَرْقُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ حَلَفَ بالطَّلاقِ لَيَصُومَنَّ يَوْمَ كَذَا فَأَفْطَرَ نَاسِياً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ ... اليمين إن قيدت كما لو قال: والله لا أدخل الدار عمداً، أو لا أدخل الدار إلا أن أنسى، فالاتفاق على أنه لا يحنث بالنسيان، وإن أطلقت فالمعروف من المذهب الحنث بالنسيان. وذهب السيوري وابن العربي في جمع من المتأخرين إلى عدم الحنث، وخرج أيضاً من قول مالك في العتبية في الحالف بالطلاق ليصومن يوماً معيناً، فأصبح فيه صائماً، ثم أفطر فيه ناسياً أنه لا شيء عليه، فظاهره أنه لا حنث عليه، وكذلك فهمه جماعة من المتأخرين وإليه أشار بقوله: (وَخُرِّجَ الْفَرْقُ) أي: بين العمد والنسيان في أنه يحنث في العمد دون النسيان، ورد لعله يريد: لا قضاء عليه، وهو أحد الأقوال في النذر المعين كما تقدم. وَلا يَتَكَرَّرُ الْحِنْثُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِثْلُ: كُلَّمَا، وَمَهْمَا، وَفي مَتَى مَا اضْطِرَابٌ، أَوْ قَصَدَ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الْقَصْدُ الْعُرْفِيُّ كَمَنْ حَلَفَ لا يَتْرُكُ الْوِتْرَ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ التَّرْكِ، وَكَمَنْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ ... أي: إذا وقع الحنث بأول الفعل ثم فعل ذلك مرة ثانية لم يتكرر عليه الحنث، وهذا كقوله في المدونة: ومن حلف أن لا يكلم فلاناً عشرة أيام وكلمه فيها حنث، ثم كلمه فيها مراراً قبل أن يكفر لم يلزمه إلا كفارة واحدة. انتهى.

وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ لَفْظِّ) يعني: أنه إذا كان لفظٌ يدل على التكرار حنث بالتكرار كـ"كلما" و"مهما"، ومذهب المدونة في "متى ما" و"إذا ما" و"أبداً" أنها لاتقتضي التكرار إلا أن ينوي بها معنى "كلما". وجعل ابن بشير "متى ما" مثل "كلما" وإليه أشار بقوله: (وَفِي مَتَى مَا اضْطِرَابٌ). وقوله: (أَوْ قَصَدَ إِلَيْهِ) معطوف على قوله: (مَا لَمْ يَكُنْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ) أي: لا يحكم فيه بالتكرار ما لم يكن لفظ يدل عليه أو قصد إليه، أو يكون مقصوده العرفي كمن عوتب في تركه الوتر فحلف إن تركه فعليه التصدق بدينار، فإنه يلزمه التصدق كلما تركه؛ لأن العرف يقتضي بهذه اليمين أن يكون الوتر له عادة. وقوله: (وكمن قال لزوجته) معطوف على قوله: (كَمَنْ حَلَفَ لا يَتْرُكُ الْوِتْرَ) والمأخذ فيهما واحد؛ لأن قصد المرأة لايتم إلا بذلك، وحكى في البيان في مسألة الوتر وشبهها قولين وبناهما على اختلاف الأصولين في الأمر المقيد بصفة: هل يقتضي تكراره بتكرار الصفة أم لا؟ ابن عبد السلام: ولو قصد التكرار بما لا يقتضيه، كما لو قصده بان، فهو شبيه بما لو قصد طلاقاً باسقني الماء. هَذَا فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ فِي الأَيْمَانِ وَلْنَذْكُرِ الْفُرُوعَ تَانِيساً عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَالْبسَاطِ يعني أن ما قدمه هو أصل المذهب وهو كافٍ لمن اقتصر عليه، ولكن قصد المصنف أن يذكر فروعاً يتأنس بها، وتستعمل تلك الأصول فيها ليظهر لك بالفعل ما كان حاصلاً بالقوم، ثم إن هذه الفروع [244/ب] إنما احتيج إليها إذا فقدت النية والبساط، وأما إن وجدا فالعمل عليهما، وعن سحنون: إذا لم يكن لليمين بساط فاهرب عنها. فَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ غَرِيمَهُ غَداً فَقَضَاهُ الآنَ بَرَّ بِخِلافِ طَعَامٍ يَاكُلُهُ غَداً وَنَحْوِهِ هكذا قال في المدونة، زاد فيها: إذ الطعام قد يخص به اليوم، والغريم إنما القصد فيه القضاء.

اللخمي: وقد يتصور في الطعام ما يتصور في القضاء، كما لو طلب من مريض شرب دواء واستنجز منه ذلك، فوعد إلى غد فتوثق منه باليمين، ثم وجد في نفسه طلباً له، ويتصور في القضاء أيضاً ما يتصور في الطعام، وذلك إذا كان الّمطْل مقصوداً في العرف. خليل: وينبغي على القول بتقديم مراعاة الفظ على البساط والمقصد العرفي أن يحنث هنا، والله أعلم. وَمَنْ حَلَفَ لا يَاكُلُ فَشَرِبَ سَوِيقاً أَوْ لَبَناً حَنِثَ بخِلافِ الْمَاءِ. هكذا قال ابن بشير وابن شاس وعللاه بأن القصد العرفي في التضييق على نفسه، حتى لا يدخل في بطنه طعام، واللبن والسويق من الطعام. قالا: ولو كان قصده الأكل دون الشرب لم يحنث. وفي العتبية عن ابن القاسم في الحالف لا يتعشى لا حنث عليه في السحور، وقول ابن عبد السلام في هذا الفرع والذي قبله: أن الجواب فيهما على اعتبار البساط ليس بظاهر؛ لأن الفرض كما قال المصنف عدمهما. وَمَنْ دَفَنَ مَالاً فَبَحَثَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْهُ فَحَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّكِ أَخَذْتِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ حَيْثُ دَفَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الأَصَحِّ ... عبر ابن عبد السلام عن الأصح بالمشهور، وعدم الحنث لمالك في الواضحة، وبه قال ابن دينار، وقال في العتبية بالحنث فيمن وضع دراهم في بيته فلم يجدها، فاتهم بها زوجته وحلف بالطلاق ما أخذها غيرك، ثم وجدها تحت مصلاه كان رفعها ونسي. وأشار اللخمي إلى أنه اختلاف. خليل: ومنشأ الخلاف: هل يراعى المقصد العرفي فلا يحنث أو ظاهر اللفظ فيحنث؟ فإن قلت: فلم لا جعلت المنشأ: هل يراعي بساط اليمين فلا يحنث أو ظاهر اللفظ فيحنث كما فعل اللخمي وغيره؟ قلت: لأن كلام المصنف ينافيه؛ إذ فرض المسألة مع عدم النية

والبساط. وكلام ابن بشير يقتضي أن الخلاف إنما هو منصوص فيما إذا وجده تحت مصلاهن وقوله: ومن هذا القبيل أن يدفن مالاً ثم ينساه فيبحث عليه فلا يجده، ويحلف لزوجته أنكِ أخذتِهِ ثم يجده حيث دفنه، أنه لا حنث عليه. قالوا: لأن قصده أنه من يأخذه غيرها، ومقتضى اللفظ وجوب الحنث. وحكوا قولين فيمن رفع مالاً ثم نظره، فلم يجده فحلف لزوجته كالأول، ثم وجده عند مصلاه. أحدهما: الحنث نظراً إلى مقتضى اللفظ، والفرق بين هذه والأولى: حصول التفريط في هذه. والثاني: لا حنث عليه نظراً إلى المقاصد، وكلام المصنف يأتي على كلام اللخمي، والله أعلم. وَمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدُ عَدَداً سَمَّاهُ، فَجَمَعَ أَسْوَاطاً وَضَرَبَهُ بِهَا لَمْ يَبَرَّ عَلَى الأَصَحِّ لأن القصد من هذه اليمين الإيلام وذلك غير حاصل. ونص مالك فيمن حلف يضربن عبده مائة سوط، فضربه خمسين بسوط له رأسان على الحنث. اللخمي: والقياس أن يبر بمنزلة ما لو ضربه رجلان خمسين وكان ضربهما معاً. ولعل هذا مقابل الأصح، ولم أر غيره، وفي قياس اللخمي نظر؛ لأن الألم في ضرب الرجلين أكثر بخلاف السوط الذي له رأسان. واحتج له ابن بشير بقوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِهِ وَلاَ تَحْنَثّ ([ص: 44] وهو يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولو ثبت ذلك لجاز أن يكون ذلك خاصاً بتلك المرأة، وعلى المشهور يستأنف المائة في مسألة الجمع، ويجتزئ بخمسين في مسألة مالك في الرأسين، قاله التونسي.

وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ غَرِيمَهُ إِلَى أَجَلٍ فَقَضَاهُ فَاسْتُحِقَّ بَعْدَهُ، أَوْ بَعْضُهُ، أَوْ وُجِدَ مَعِيباً أَوْ زُيُوفاً حَنِثَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ .... ما ذكره المصنف هو كذلك في المدونة، ولا إشكال في الحنث إذا كان الدافع عالماً بذلك حين القضاء، وأما إن لم يعلم ففي المدونة: يحنث. قال المصنف: (وَهُوَ مُشْكِلٌ) لأن القصد أنه لا يماطل، وقد فعل. اللخمي: والحنث على مراعاة الألفاظ ولا يحنث على القول الآخر؛ لأن قصده ألا يلدَّ، قيل: وإنما يحنث إذا استحق العين بعد الأجل، إذا قامت البينة على عين الدنانير والدراهم على القول بأنها تتعين، وأما على القول بأنها لا تتعين، أو لم تقم بينة فلا حنث عليه مطلقاً، أما إذا استحقت بعد الجل فلم يأخذها المستحق، فقال ابن كنانة: لا يحنث، وقال ابن القاسم: يحنث، وقال: وكل شيء لو قام صاحبه أخذه مكانه ووفاه ساعته أنفذ. وصرح ابن بشير بالاتفاق على الحنث إذا لم يحز المستحق وفيه نظر، فقد ذكر في البيان ثالثاً: أنه لا يحنث وإن لم يحز المستحق؛ لأن الأجل ما مضى إلا وقد قضى الغريم حقه، ودخل في ضمانه. التونسي: وكذلك يجري القولان لو باعه بالدين بيعاً يجب نقضه لفساد، فينقض بعد الأجل، أو رد بعيب، قال: وقد اختلف فيمن حلف ليبيعن عبده إلى أجل فباعه وانقضى الأجل فرد بعيب، فقيل: قد بر لأن الأجل قد مضى، وقد كان قبل أن يرد معيباً، وقيل: يحنث لأنه لما نقض فكأنه لم يبعه وقد فات الجل فلا يقدر على بيعه إلا [245/أ] أن يرد عليه قبل مضي الأجل فيبيعه في بقية الأجل. وقيل: إن كان عالماً بالعيب حنث إن مضى الأجل، يريد لأنه لما دلس دخل على أن البيع لم يتقرر بخيار المشتري، وإن لم يدلس بر.

فرع: قال ابن القاسم في المجموعة فيمن اشترى ثوباً على أن يدفع كل يوم قيراطاً وحلف على ذلك، ففسدت الفلوس وصارت فلسين بفلس، وكان الفلس فلساً – قال: يعطيه كما كانت؛ لأنه على ذلك حلف. وَلَوْ قَضَاهُ عَنِ الْعَيْنِ عَرْضاً لَمْ يَحْنَثُ، وَكَرِهَهُ الضمير في كرهه عائد على مالك، والكراهة رجع إليها مالك، ففي المدونة: ولو أعطاه قضاء من حقه عرضاً يساوي ما عليه لو بيع لبر، ثم استثقله مالك. ابن القاسم: وبأول قوليه أقول. واختلف في علة الكراهة، فقال اللخمي: لأن الظاهر في اللفظ يقتضي إعطاء العين. وقيل: خشية ألا تفي قيمة العرض به. التونسي بعد ذكر القولين: ومثل ذلك لو أقاله وكانت سلعته التي رجعت إليه تساوي الآن ما بيعت به لأن ذلك كأخذ العرض. تنبيه: وهذا إذا حلف ليقضين فلاناً حقه، وأما إن حلف ليقضين فلاناً دنانيره، فهو أقوى في الكراهة نص عليه اللخمي وغيره، ونقله ابن بشير عن جماعة الأشياخ. فَلَوْ وَهَبَهُ لَهُ حَنِثَ لعدم حصول القضاء. اللخمي: وهذا على مراعاة الألفاظ، وأما على مراعاة القصد فلا يحنث؛ لأن القصد ألا يكون منه لدد، وعلى الحنث فهل يحنث بنفس قبول الهبة، وإن لم يحل الأجل، وإليه ذهب ابن حبيب وأصبغ، أو لا يحنث حتى يحل الأجل ولم يقضه الدين؟ ولو قضاه إياه بعد القبول وقبل حلول الأجل، لم يحنث، وهو ظاهر قول مالك وأشهب.

فرع: قال ابن القاسم في العتبية في الحالف على قضاء الحق ثم شهد له عدلان بالقضاء: لا ينتفع بذلك في اليمين حتى يقضيه ثم يرد إليه، وكذلك إذا طلبه غريمه بمال عنده، وقد كان قضاه قبل اليمين فأنكر الطالب، فحلف المطلوب ليقضينه في غد، ثم ذكر الطالب أنه كان قضاه أو أبرأه قال: لا يبرأ حتى يقضيه، ثم يرد إليه. قال مالك في العتبية: ومن استلف من أخيه دراهم، وحلف ليقضينه إلى شهر، فمات المسلف والمستلف وارثه، فاستحسن أن يأتي الإمام فيقضيها له ثم يردها إليه، وعن ربيعة ومالك أن الوراثة كالقضاء، ذكره ابن عبدوس وكله محافظة على اللفظ وإلا فالبساط يقتضي عدم الحنث. وَلَوْ بَاعَهُ بِهِ بَيْعاً فَاسِداً، فَإِنْ فَاتَتْ قَبْلَ الأَجَلِ وَفِيهِ وَفَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ تَفُتْ فَقَوْلانِ .... أي: فاتت بما يفوت به البيع الفاسد، ولم يحنث مع الفوت إذا كانت قيمتها مساوية؛ لأن المبتاع ملكها حين الفوت ولزمته قيمتها، فتلك القيمة المساوية للدين قضاء عنه وإن لم تكن مساوية حنث؛ لكونه لم يقضه. وإليه أشار بقوله: (وإلا حنث) وإن لم تفت حتى مضى الأجل، فقال سحنون: يحنث، وقال أشهب وأصبغ: لايحنث، وبه قال اللخمي إذا كانت القيمة مساوية. نظراً إلى أنه قد حصل بيده عوض حقه، ورأى سحنون أن العوضية الشرعية لم تحصل. وَلَوْ غَابَ بَرِّ بقَضَاءِ وَكِيلِهِ، وَإِلا فَالْحَاكِمُ، وَإِلا فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ أي: فلو غاب المحلوف على قضائه بر الحالف بإعطائه الدين لوكيل صاحبه، سواء كان وكيلاً مفوضاً أو على التقاضي. وأما وكيل الضيعة ففي المدونة: وإن قضى وكيلاً له في ضيعة ولم يوكله رب الحق بتقاضي دينه أجزأه.

عياض: ظاهره سواء كان بالبلد سلطان أو لم يكن؛ وعلى هذا الظاهر اختصرها بعضهم، واختصرها آخرون بأنه لا يبر بدفعه إليه إلا عند عدم السلطان أو الوصول إليه. وقد حكى محمد القولين جميعاً. انتهى. وألحق أبو عمران الصديق الملاطف بوكيل الضيعة. وأشار ابن عبد السلام إلى أن كلام المصنف إنما يحمل على الوكيل المفوض أو على التقاضي، ولا يصح حمله على كل وكيل ليدخل وكيل الضيعة؛ لأن كلامه يقتضي تقديم الوكيل على الحاكم، وهو لا يصح لفظاً ولا معنّى. أما الأول: فلأن وكيل الضيعة مخصوص، والاتفاق على أن الوكيل المخصوص لا يتعدى نظره القدر الذي جعل له النظر فيه، وأن حكمه فيما عدا ذلك كحكم الأجنبي؛ فإذا أطلق لفظ الوكيل حمل على الوكيل الذي جعل له ذلك إما بخصوصية كالوكيل على التقاضي، وإما بما يتناوله مع غيره كالمفوض إليه. وأما الثاني: فلو كان الأمر كما ذكره لما صح الدفع إلى الحاكم إلا عند عدم وكيل الضيعة كما في الوكيلين المذكورين، ولا نعلم خلافاً أن وكيل الضيعة متأخر عن وجود الحاكم العدل، إلا ما أشار إليه بعض الأندلسيين في فهم المدونة، وفيه نظر. انتهى. وقوله: (وَإِلا فَالْحَاكِمُ) أي: وإن لم يكن أحد الوكيلين أو كان وغاب، فالحاكم يريد سواء كان عدلاً أو مجهول الحال فإنه يقضيه، ويبرأ من الدين ويبر في يمينه، نص عليه محمد. وإن كان معلوم الجور يخشى منه أكل المال، وعلم ذلك الدافع، بر في يمينه لا من الدين. محمد: وإن لم يعلم ذلك من الإمام فلا ضمان عليه. اللخمي: وأرى أن يضمن ولا يبر؛ لأن الدين في ذمته. [245/ب] وقد أخطأ على نفسه فإن تعذر الوصول إلى الحاكم العدل، أو لم يكن عدل، أو ما كان حاكم بالكلية، فجماعة المسلمين.

ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنه يدفع الحق إليهم، والمنقول هنا عند عدم الحاكم يشهد الحالف جماعة المسلمين على إتيانه بالحق، ويعلمون اجتهاده في الطلب، فيكونون شهوداً ليتخلص من يمينه ولا يبرأ من الدين بهم؛ إنما هم كالحاكم في البر لا في البراءة. وكذلك قال مالك في الموازية وغيرها، فيما إذا لم يجدوا وكيلاً على الحق ولا سلطاناً مأموناً، ودفع لأهل الطالب أو لوكيل ضيعته أو أجنبي أنه يبرأ؛ ولكنه يضمنه حتى يصل إلى ربه. قال: وإن وجد وكيلاً بالحق أو سلطاناً مأموناً لم يبرأ بالدفع إلى غيرهما، وقاله أشهب. ولم يتكلم المصنف على الإبراء من الدين، وإنما تكلم على البر؛ لأنه أليق بكتاب الأيمان. وكلام المصنف يقتضي أنه لو أعطى لجماعة المسلمين مع وجود الحاكم لم يبر، وهو مذهب الموازية على ما تقدم. ابن المواز: وقد قيل: إنه لو دفعه إلى بعض الناس بغير عذر من السلطان وأشهد لم يحنث. فروع: الأول: إذا أشهد على الحق كما تقدم، ثم جاء الطلب بعد الأجل فمطله لم يحنث. نص عليه سحنون؛ لأن الزمان الذي تناولته اليمين قد انقضى ولم يحنث فيه. الثاني: عكس هذا لو غاب الحالف أو مرض أو حبس، فقضى عنه بعض أهله، أو غيرهم من ماله أو من مال الغائب، فقال ابن الماجشون: يبر. وقال ابن القاسم: لا يبر. اللخمي: وهو أبين إذا تأخر عن القدوم للقضاء عمداً. ابن القاسم في العتبية: وإن قضاه وكيل الحالف بغير أمره لم يبر. ولو جن الحالف فقضى عنه الإمام في الأجل بر، وإن لم يقض عنه حتى مضى الأجل لم يحنث عند ابن حبيب خلافاً لأصبغ. الثالث: قال في المدونة: وإن حلف لرجل لأقضينك حقك إلى أجل إلا أن تشاء أن تؤخرني فمات الطالب، فإنه يجزئه تأخير ورثته إن كانوا كباراً، أو وصيه إن كان ولده

أصاغر ولا دين عليه. وإن كان عليه دين لم يكن لوصي أو وارث تأخير مع الغرماء، ويجزئه تأخير الغرماء إن أحاط الدين بماله على أن تبرأ ذمة الميت. وَمَنْ حَلَفَ لا فَارَقَ غَرِيمَهُ إِلا بحَقِّهِ فَفَرَّ مِنْهُ الْغَرِيمُ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يُفَرِّطَ، وَلا فَارَقْتَنِي وَفَارَقَ حَنِثَ .... أي: إن فرط حنث اتفاقاً، وإن لم يفرط فالمشهور وهو قول ابن القاسم في المدونة: الحنث. وقال ابن المواز: لا يحنث ويحلف بالله ما هذا الذي أراد إذا أكره. اللخمي: وجواب محمد على مقتضى اللفظ، وجواب ابن القاسم على أنه قصد التضييق عليه حتى يأخذ حقه وقد فات ذلك. انتهى. وزاد في المدونة- بعد حكه عليه بالحنث-: إلا ن يكون قوله: لا أفارقك كالقائل: لا أتركه إلا أن يفر أو أغلب عليه، فلا شيء عليه. ابن عبد السلام: واستحسن الشاذ لوجهين: أولهما: أنه أجري على الأصل، إذ الغريم أكرهه على الفرار. الثاني: أنه ذكر في المدونة أثر هذه المسألة إذا قال لامرأته: أنت طالق إذا قبلتك أو ضاجعتك، فقبلته أو ضاجعته من ورائه وهو نائم، لم يحنث إلا أن يكون منه استرخاء لها وفي كل منهما قد حلف على ترك الفعل وقد أكره على ذلك الفعل. وأجيب عن الأول بأن الكلام محمول على معناه، وكأنه حلف لأضيقن عليه تضييقاً يمنعك من الفرار حتى أقبض حقي، فيكون حلفه على ثبوت الفعل ما هو كذلك لا أثر للإكراه فيه على المشهور، وعلى الثاني لا نسلم أنه صدر من النائم تقبيل ألبتة. وذكر أبو عمر الإشبيلي أن الشيوخ كانوا يقيمون من مسألة الفرار من شرط لامرأته في العقد إذا غاب أكثر من ستة أشهر فأمرها بيدها، فغاب أكثر منها مكرهاً فإنها يقضي لها بالشرط، إلا أن يستثني الإكراه. وأقام أيضاً بعضهم من قوله: إلا أن يكون ... إلخ. أن الاستثناء لا تجزئ فيه النية، اللهم إلا أن تحمل المدونة على المحاشاة.

قوله: (ولا فارقني وفارق) أي: يحنث باتفاق كحلفه على فعل البر. فرع: فلو أحاله على غريم له ففي المدونة يحنث. ابن يونس: قال بعض فقهائنا: وإذا حلف ألا يفارقه وله عليه حق فأحاله بحقه، ثم افترقا فلا حنث عليه؛ لأنه فارقه ولا حق عليه للحوالة الواقعة بينهما، قال: وهو منصوص لأهل المذهب وليس كمن حلف ألا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه. ابن يونس: والظاهر أنهما سواء؛ لأنه إذا فارقه ولا حق عليه فقد استوفى حقه. وَمَنْ حَلَفَ لا يَتْرُكُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئاً، فَأَقَالَ وَفِيهِ وَفَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ أَخَّرَ الثَّمَنَ فَقَوْلانِ ... لأنه إذا أقاله وفيه وفاء لم يترك شيئاً، وهل يكره ذلك أم لا؟ فيه ما تقدم من الخلاف، والذي رجع إليه مالك الكراهة، واختار ابن القاسم نفيها. وإن لم يكن فيه وفاء يحنث بلا خلاف قاله في البيان ابن أبي حازم. في المدونة: إلا أن يكون حلف ألا يضع له، وهو ينوي الإقالة، فإن نوى أن يقيل ولا يضع فلا شيء عليه. وقال ابن القاسم: لا [246/أ] تنفعه النية إلا أن يكون تكلم بها حين حلف. قال في البيان: وقول ابن القاسم صحيح لأن الاستثناء لابد فيه من التلفظ باتفاق. وهذه المسألة من ذلك، وكأنه قال: لا أضع عنك من ثمنها شيئاً إلا أن أقيلك منها. ابن عبد السلام: وهذا إذا كانت الإقالة بعد حلول الأجل، وأما إن كانت قبل حلوله، فقال ابن القاسم وأشهب: إن كان رأس المال مثل ثمن الطعام الذي في الذمة لم يحنث. وفسره ابن أبي زيد بأن يكون مثل قيمته يوم الإقالة. قوله: (فَإِنْ أَخَّرَ الثَّمَنَ فَقَوْلانِ) اختار اللخمي نفي الحنث إذا أنظره بالثمن؛ أي: لأنه يعد حسن معاملة، لا إسقاطاً من الحق، ولأن العرف في هذه اليمين إنما يراد بها ترك

شيء من نفس الثمن. واختار ابن عبد السلام الحنث؛ لأن حقه في الدين وتعجيله، ألا ترى أن الأجل له حصة من الثمن، وهذا القول رواه ابن وهب عن مالك. قال في البيان: ولو حلف ألا ينظره فوضع عنه لم يحنث. ولا أعلم في ذلك خلافاً. وَمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ فَمَاتَ، أَوْ لَيَذْبَحَنَّ حَمَامَةً فَمَاتَتْ لَمْ يَحْنَثْ إِلا أَنْ يُفَرِّطَ، فَلَوْ سُرِقَتْ أَوْ غُصِبَتْ أَوِ اسْتُحِقَّتْ فَقَوْلانِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّهَا فَوَجَدَهَا حَائِضاً فَقَوْلانِ، وَلَوْ وَطِئَهَا فَقَوْلانِ ... اعلم أن من حلف ليفعلن شيئاً فتعذر فعله، فإما أن يكون الفعل مؤقتاً أو لا. ابن بشير: فإن كان غير مؤقت بأجل؛ فإن فرط حتى تعذر الفعل فلا خلاف أنه حانث، وإن بادر فلم يمكنه الفعل فكما لو كان مؤقتاً. انتهى. والمؤقت ينقسم تعذره إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون عقلاً أو عادة أو شرعاً. العقلي كتعذر ذبح الحمام المحلوف بذبحها؛ إذ الذبح في الميت يتعذر، فلا خلاف منصوص أنه لا يحنث، وخرج اللخمي قولاً بالحنث من المتعذر شرعاً. وأما العادي فكما لو حلف ليذبحن الحمامة غداً فسرقت أو غصبت أو استحقت، فذكر المصنف أيضاً قولين. ومذهب المدونة الحنث. وأما الشرعي فكما لو حلف ليطأنه الليلة فوجدها حائضاً أو ليبيعن الأمة فوجدها حاملاً، وذكر المصنف أيضاً قولين، ومذهب المدونة: الحنث. ونص سحنون في مسألة البيع على عدم الحنث. ووقع لابن القاسم وابن دينار فيمن حلف ليطأن امرأته الليلة فقام فوجدها حائضاً، إن فرط قدر ما يمكنه الوطء قبل أن تحيض حنث، وإن لم يفرط فلا شيء عليه اختاره ابن حبيب. ابن يونس: قال بعض أصحابنا: وإنما فرق ابن القاسم بين الموت والسرقة والبيع؛ لأن الفعل في الميت لا يمكن ألبتة، بخلاف السرقة والبيع؛ لأن الفعل يمكن ومنع الشرع منه، والعادة لا تمنع بعض الحالفين من قصده فلا يعذر بفعل السارق ونحوه لأن من أصل ابن القاسم لا يعذر بالإكراه والغلبة إلا أن ينوي ذلك.

ابن بشير: وهذا الخلاف إنما هو إذا أطلق اليمين، وأما لو نص فقال: سواء قدرت على الفعل أم لا فلا يختلف في حنثه. ولو قال: إنما أحنث إذا أمكنني فلم أفعل، فلا يختلف في نفي حنثه. قوله: (وَلَوْ وَطِئَهَا فَقَوْلانِ) أي هل يبر أم لا؟ بناءً على حمل اللفظ على المفهوم اللغوي وقد وجد، أو الشرعي وهو لم يوجد، وأيضاً فهل المنوع شرعاً كالمعدوم حساً أم لا؟ أما لو حلف ألا يطأها فوطأها حائضاً فنص ابن دينار على أنه يحنث، ولا ينبغي أن يختلف فيه. وحكى اللخمي وغيره في بر الحالف ليأكلن هذا الطعام فتركه حتى فسد ثم أكله قولين: الحنث لمالك من رواية ابن نافع قال: لأنه خرج عن الطعام وعدمه لابن القاسم. ابن القاسم: وإن حلف لزوجته لتأكلِنَّ هذه البضعة فخطفتها هرة، فشقت جوفها فأكلتها، أنه لا يحنث إلا أن لا يكون بين أخذ الهرة إياها وبين يمينه قدر ما يتأتى أخذها. وقال أشهب وابن دينار- في الحالف ليشترين لزوجته بهذا الدينار ثوباً، فخرج به لذلك فسقط منه-: فإن كان أراد الدينار بعينه فقد حنث، وإن أراد الشراء به أو بغيره فليشتر بغيره ولا يحنث. وَلَوْ حَلَفَ لا أُعِيرُهُ فَوَهَبَهُ، أَوْ لا أَهَبُهُ فَأَعَارَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ حَنِثَ قال في المدونة: ومن حلف لا يهب فلاناً هبة فتصدق عليه حنث، وكل هبة بغير ثواب فهي كالصدقة، وكذلك كل ما نفع به من عارِيَّة أو غيرها إلا أن تكون له نية في العارِيَّة؛ لأن أصل يمينه على المنفعة. وفي العتبية في امرأة حلفت في عبد لها لتبيعنه ولا تهبه، فأرادت أن تتصدق به على ولدها، فقال: لا يعجبني ذلك، وأرى هذا على نحو الهبة. قال في البيان: هذا كما قال وهو بين؛ لأن الهبة تعتصر والصدقة لا تعتصر، فإذا حنث بالهبة فالصدقة أحرى أن تحنث بها، ولا تنوي في ذلك إن ادعت نية، وكانت يمينها مما يحكم به عليها. ولو حلفت ألا تتصدق به فوهبته لابنها- وهو ممن لها أن تعتصر منه – فادعت أنها إنما حلفت على الصدقة من أجل أنها لا تعتصر، لوجب أن تنوي في ذلك. انتهى.

أما إن لم يكن اعتصار فلا تنوي فيما بين الصدقة والهبة مطلقاً، وتنوي إن حلفت عليها في العارِيَّة. ابن الماجشون: وإن حلف ألا يصل رجلاً حنث [246/ب] بالسلف والعارِيَّة وكل منفعة. ابن حبيب: وإن حلف لا أسلفه لم يحنث إن أعاره أو وصله، فقد يكره السلف للمطل إلا أن ينوي قطع منافعه عنه. وفي الموازية: الحنث فيمن حلف لا نفعه بمنافعه ثم أوصى له ورجع عنها وصح فقد حنث، ولو وجده مع رجل يشتمه فنهاه عنه فلا يحنث، فلو وجده متشبثاً به فمنعه منه حنث، ولو أثنى عليه عند من أراد مناكحته أو مبايعته لأجل ذلك حنث، وكذلك إن أثنى عليه سوءاً عند من أراد قبول حمالته فتركه إن أراد بذلك صرف الحمالة عنه ونفعه بذلك حنث، وإلا فلا حنث عليه بذلك. وَلَوْ حَلَفَ لاَ آكُلُ لَحْماً أَوْ بَيْضاً أَوْ رُؤُوساً فَفِي حِنْثِهِ بلَحْمِ الْحِيتَانِ وَبَيْضِهَا وَرُْوسِهَا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ... ما ذكره عن ابن القاسم هو في المدونة، قال: إلا أن تكون له نية، وقال أشهب في المجموعة: لا يحنث في اللحم والرؤوس إلا بلحم الأنعام والأربع ورؤوسها إلا أن ينوي اللحوم كلها. وفي نقل المصنف عنه في البيض قصور، فإنه قال: يحنث في كل بيض استحساناً. والقياس قصر يمينه على بيض الدجاج، واختار الحذاق قول أشهب لجريانه على العرف، واعتبر ابن القاسم عموم اللفظ، وناقضه التونسي بقوله: إذا حلف ألا يدخل عليه بيتاً لا يحنث بالمسجد. ابن يونس: وأرى أن النية تنفعه على القول الأول، وإن كانت يمينه بطلاق وعليه بينة. وعورض قول ابن القاسم وأشهب هنا بقولهما فيمن وكل رجلاً يشتري له ثوباً فاشترى ما لا يليق بالآمر فإن ابن القاسم قال: إنه غير لازم للآمر، ورأى أشهب لزومه له، فراعى ابن القاسم العرف في الوكالة دون الأيمان، وعكس أشهب. وأجيب بأنه لا يلزم من اطِّراد العرف في وجه أو في مسألة اطَّراده في مثل ذلك لجواز جريان العرف في أحدهما دون الآخر. والقياس لا يجزئ في المسائل العرفية.

ابن الماجشون: ومن حلف لا آكل اللحم فإنه يحنث بما يأكل من الشاة من كرش أو أمعاء أودماغ أو غيره. ابن حبيب: وإن حلف لا آكل خبزاً حنث بأكل الكعك، وإن حلف لا آكل كعكاً لم يحنث بأكل الخبز؛ لأن هذا أخص والأول أعم. وفي كتاب ابن المواز: وإن حلف لا يأكل غنماً حنث بالضأن والمعز؛ لأن الاسم يجمعهما، فإن حلف على أحدهما لم يحنث بالآخر للاسم الأخص به، وكذلك من حلف ألا يأكل دجاجاً فأكل دجاجة أو ديكاً حنث للاسم الجامع، وإن خص أحدهما فحلف على ديك لم يحنث بالدجاجة، وكذلك على العكس. وحاصله أن من حلف على الأعم يحنث بالأخص دون العكس. وَكَذَلِكَ لا آكُلُ خُبْزاً فَأَكَلَ نَحْوَ الإِطْرِيَةِ وَالْهَرِيسَةِ وَالْكَعْكَ نحوه لابن شاش، وظاهره أنه يحنث بذلك عند ابن القاسم، لا عند أشهب. ابن عبد السلام: ولم أقف لأشهب في ذلك على شيء. ونص ابن حبيب على الحنث بالخشكنان في الحالف لا آكل خبزاً. لاَ يَاكُلُ عَسَلاً فَأَكَلَ عَسَلَ الرُّطَبِ قال في الجواهر: ولو حلف لا آكل عسلاً فأكل عسل الرطب، فالمنصوص لابن القاسم يحنث إلا أن تكون له نية، أجرى الشيخ أبو محمد على مذهب أشهب نفي الحنث. ويقع في بعض النسخ عوض (الرطب) (القصب)، وهو إنما يأتي في غير بلاد مصر التي فيها عسل القصب قليل كبلاد المغرب. وأما المصري فينبغي أن يحنث بعسل القصب اتفاقاً لأنه المعروف عندهم. وَمِنْهُ لَوْ حَلَفَ لا أُكَلِّمُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلاةِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: لا خِلافَ فِيمَا يُخْرَجُ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ ... أي: ومن الأصل المختلف فيه فيحنث عند ابن القاسم ولا يحنث عند أشهب، والمنقول هنا عن ابن القاسم في المدونة عدم الحنث. قال فيها: لأن السلام لا يعد كلاماً.

اللخمي: ومن حلف لا أكلم فلاناً فسلم عليه حنث، وإن كانا في صلاة لم يحنث الحالف بالتسليمة الأولى كان الحالف إماماً أو مأموماً، واختلف في التسليمة الثانية، فقال مالك في المدونة: لا حنث على الحالف إذا كان مأموماً فرد على الإمام. وقال في كتاب محمد: يحنث، وقال أيضاً: إن كان الإمام الحالف فسلم تسليمتين حنث. وقال ابن ميسر: لا يحنث. وهذا الخلاف إذا كان المأموم عن يسار الإمام وأسمعه؛ لأن ثانية الإمام يشير بها إلى اليسار، فلم يحنث بالأولى؛ لأن القصد بها الخروج من الصلاة وهو الذي يعرفه الناس في المراد بها، وحنث بالثانية على القول بمراعاة الألفاظ، ولأن السلام كلام، ولم يحنث على القول بمراعاة المقاصد. انتهى. فتحصل لنا من كلامه الاتفاق على عدم الحنث في الأولى، كما نقل المصنف عنه. وكذلك صرح في البيان بالاتفاق على دم الحنث بالتسليمة الأولى، وأن الخلاف في الإمام والمأموم إذا سلم على يساره، والمحلوف عليه على اليسار وأسمعه. فروع: الأول: قال ابن المواز: وإذا تعابي الحالف فلقنه المحلوف عليه لم يحنث، وأما إذا تعابى المحلوف عليه فلقنه الحالف فقد حنث. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك. ابن عبد السلام: وقال بعض الشيوخ: واختلف في تحنيثه. محمد بن عبد الحكم: وإن حلف لا [247/أ] تكلمت فقرأ القرآن لم يحنث. الثاني: قال في المدونة: ولو سلم الحالف على جماعة وفيهم المحلوف عليه في ليل أو نهار حنث، علم به أو لم يعلم إلا أن يحاشيه. ابن المواز: ولو مر على المحلوف عليه وحده في ليل وهو ينوي إن كان غيره فقد حنث، ولا ينفعه ما نوى إلا أن يكونوا جماعة فيحاشيه، قال: ولو رأى بعض القوم فسلم على من رأى منهم، أو سلم عليهم فلم ير معهم المحلوف عليه، لم يحنث؛ لأنه إنما سلم على من عرف، وأما إن لم يعرفهم أو لم يعرف إلا بعضهم فسلم على الجميع ولم يحاشه فقد حنث.

الثالث: لو حلف لا أكلمه فأشار إليه، ففي العتبية: لا يحنث، وقال ابن الماجشون: يحنث. الرابع: لو حلف لا أكلمه ثم أتبع كلامه بشيء يدل على تأكيد اليمين، فهل يحنث به أم لا؟ قال ابن القاسم بالحنث فيمن قال لزوجته: إن كلمتك حتى تفعلي كذا فأنت طالق اذهبي الآن، وقال ابن كنانة وأصبغ: لا يحنث. وقال ابن القاسم: وقضى لي فيها مالك على ابن كنانة. وناقض أصبغ قول ابن القاسم في هذه المسألة بما قاله في أخوين حلف كل منهما لا كلم الآخر حتى يبدأه الآخر، أنه ليست يمين الثاني تبدية بالكلام، وقاله ابن كنانة، وذهب سحنون وابن نافع إلى أن يمين الثاني تبدية بالكلام، وقد انحلت اليمين عن الأول، ثم يبدأ الأول فيكلم الثاني ثم يكلمه الثاني إن شاء ولا شيء عليه. وأجيب بأن قوله: فاذهبي الآن بعد قوله: لا كلمتك إنما يظهر أثره في التحنيث وهو يكون بالأقل، وأما مسألة الأخوين فإنما تظهر ثمرة كلام أحدهما للآخر في البر. ومقصود كل منهما إنما هو إظهار الاستغناء عنه مقابلاً لذلك الترفه، وهو ضد الانكسار. وفي العتبية عن ابن القاسم فيمن حلف لآخر بالطلاق لا كلمتك حتى تبدأني فقال له الآخر: إذاً والله لا أبالي، فليس ذلك تبدية، وهو مثل قوله في مسألة الأخوين، وله أيضاً في العتبية والمجموعة: إن كلمتني حتى تقولي لي إني أحبُّكَ فأنت طالق، فقالت: عفا الله عنك نعم أنا أحبك، فقد حنث، وهذا مثل قوله في الأولى: فاذهبي الآن. وَفِيهَا: وَلَوْ حَلَفَ لا كَسَا امْرّأَتَهُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ وَنِيَّتُهُ أَنْ لا يَكْسُوَهَا إِيَّاهُمَا جَمِيعاً حَنِثَ بوَاحِدٍ، وَهُوَ مُشْكِلٌ حَتَّى تَأَوَّلَ عَلَى الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ .... تصور المسألة واضح، ووجه الإشكال بين؛ لأن حنثه مع أنه نوى خلاف ذلك والقاعدة أن النية مقدمة، ولقوة الإشكال عند المصنف قال: (حَتَّى تَأَوَّلَ عَلَى الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ) أي: لا يكسوها إياهما مجتمعين أو مفترقين، وهذا التأويل للشيخ أبي محمد

التونسي وغيرهما، وفيه نظر؛ لأنه خلاف ما يدعيه الحالف، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن توجيه المسألة بما تقررأنه يحنث بالبعض؛ لأن غاية نية الجمع أن تجري مجرى التنصيص على ذلك، وغاية التنصيص عليه أن يجري مجرى التأكيد فيما إذا قال: والله لا أكلت هذا الرغيف كله، ولو قال ذلك لحنث بالبعض كما تقدم. خليل: وفيه نظر؛ لأن ذلك إنما هو مع عدم النية، والله أعلم. والأظهر أن يحمل قول مالك على ذلك إذا كانت على يمينه بينة وروفع، وأما إذا جاء مستفتياً فينبغي أن يتفق على قبول ما ادعاه. فرع: الحالف لا يأكل خبزاً ولا إداماً، لا يحنث بأحدهما عند أشهب لأن العادة الجمع، بخلاف ما في المدونة. ابن حبيب: الحالف لا يأكل فاكهة يحنث برطبها ويابسها من العنب والتمر والرمان والقثاء والبطيخ والجزر والفول والحمص والجلبان، إلا أن تكون له نية خص بها نوعاً، أو بساطاً يدل على ما ذكر، وذكر ابن المواز نحو قول ابن حبيب وقال: وإذا حلف لى رطبها ويابسها. ابن يونس: وهو أجود إنما يحنث في اليابس إذا ذكره أبو محمد، وإن حلف ألا يأكل إداماً فما ثبت في معرفة الناس أنه إدام فلا يأكله، قال: ولا أرى ان الملح من الإدام، وإن ان بعض العلماء قاله وأحنثه به. وَإِنْ حَلَفَ لَيَنْتَقِلَنَّ أُمِرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ بِالْبَقَاءِ يعني: ولم يقيد يمينه بمدة، وأما لو قيدها بزمان ومضى لحنث. نعم هو على بر إليه، وما ذكره المصنف هو كذلك في الواضحة، وفي الموازية فيمن سكن في منزل امرأته فمنت عليه فحلف بالطلاق لينتقلنَّ ولم يؤجل أجلاً فقال: إن أقام ثلاثة أيام يطلب منزلاً فلم

يجد أرجو ألا شيء عليه. قيل: فإن أقام شهراً، قال: إن توانى في الطلب حنث وليس بخلاف لما في هذا من بساط المنة. ابن حبيب: وإذا انتقل وأقام قدر الشهر فله أن يرجع. ابن الماجشون: ولا أحب له أن ينتقل على نية شهر، لكن على غير توقيت، ثم إن بدا له بعد شهر رجع. ومثل قول ابن الماجشون لمالك في العتبية والموازية، ولابن القاسم: إن رجع بعد خمسة عشر يوماً لم يحنث، والشهر أحب إلي. ابن الماجشون: وكذلك إن حلف ليخرجن فلاناً من داره فأخرجه، فله رده بعد شهر، وهذا كله إذا قصد ترهيب جاره ونحو ذلك، وأما إن كره مجاورته فلا يساكنه أبداً، وكذلك ينبغي في مسألة المنة انه إن رجع إليه حنث [247/ب]. تنبيه: وقع في بعض النسخ: (ومن حلف لينتقلنَّ إلى أمد أُمِرَّ ولم يحنث بالبقاء) وهو الواقع في نسخة ابن راشد، قال: وذكره الأمد في مسألة (لَيَنْتَقِلَنَّ) لا يستقيم مع قوله بخلاف (لا سَكَنْتُ)، وإنما ذكر غيره المسألة بغير أمد. خليل: وفيه نظر، والظاهر أنه لا فرق بنيهما، ووقع في نسخة ابن عبد السلام الأمد أيضاً، وفسرها على وجه آخر فقال: معناه أن الحالف على أن ينتقل من منزله أو داره إلى أمد، فله أن يمكث في ذلك المكان المحلوف عليه إلى أقرب انقضاء ذلك الأجل، وإنما يحنث بانقضائه. بخِلافِ لا سَكَنْتُ مَا لَمْ يُبَادِرْ، وَفِي بَقَائِهِ دُونَ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ قَوْلانِ أي: فإنه يحنث ما لم يبادر؛ لأن دوام السكنى بحسب العرف سكنى. قال في المدونة: يخرج ولو في جوف الليل إلا أن ينوي إلى الصباح، وإن تغالوا عليه في الكراء ووجد منزلاً لا يوافقه فلينتقل إليه حتى يجد سواه، فإن لم يفعل حنث، وقال أشهب: لا يحنث بإقامة دون اليوم والليلة، وأصبغ لا يحنثه حتى يزيد على اليوم والليلة.

اللخمي: وما قاله في المدونة مبني على مراعاة اللفظ، ومن راعى العادة كان له أن يمهل إلى الصباح، واستحسن الفاسي قول أشهب وأفتى به لما في المدونة من الحرج. التونسي: وانظر إذا حلف لا يساكنه فابتدأ في النقلة، فأقام يومين أو ثلاثة ينقل قشه لكثرته، ولأنه لا يتأتى نقله في يوم واحد، فينبغي ألا شيء عليه لأنه المقصود في اليمين. وانظر لو كان له في الدار مطامير وقد أكرى الدار، هل ينقل ما في المطامير؟ وينبغي- إن كانت المطامير لا تدخل في الكراء إلا باشتراط، وأن الناس يكرون المطامير وحدها لخزن الطعام – أن لا تدخل في اليمين، وأن له تركها إذا كان قد أكرى المطامير على الانفراد، ثم سكن أو سكن ثم أكرى، إلا ألا يثق بالمطامير أن تبقى إلا بمكان سكناه، فينبغي أن ينقلها مع قشه. انتهى. وَلَوْ أَبْقَى رَحْلَهُ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلا فِيمَا لا بَالَ لَهُ المشهور في المدونة، قال فيها: ويرتحل بأهله وولده وجميع متاعه فن أبقى متاعه حنثن والشاذ رواه أشهب. اللخمي: أراه تأول في ذلك قوله تعالى: (لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَعٌ لَّكُمْ ([النور: 29]. وقوله: (إِلا فِيمَا لا بَالَ لَهُ) أي: فلا يحنث على المشهور، كالمسامير والأوتاد، وكذلك نص عليه ابن القاسم في الموازية، زاد ابن وهب في العتبية إذا كان لا يريد الرجوع إليه، وتنازع الشيوخ: هل ابن القاسم موافق له على ذلك أم لا؟ أما لو ترك هذا اليسير ناسياً فقال ابن القاسم: لا يحنث، وحنثه ابن وهب. وفي الموازية: لابن القاسم: لو تصدق بمتاعه على صاحب المنزل أو غيره، فتركه المتصدق عليه في المنزل لم يحنث، وهو ظاهر إذا لم يطمع المتصدق بمكافأة المتصدق عليه، وأما إن طمع ففي ذلك نظر.

وَلَوْ حَلَفَ لا سَكَنَ فَخَزَنَ لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ مِثَلَهَا لفظ اللخمي: وكذلك إن حلف لا يسكنها فاختزن فيها حنث عند ابن القاسم ولم يحنث عند أشهب. وظاهره أن الخلاف منصوص، وحمله ابن بشير على أنه أجزاء منه، وقال: ولعل هذا لا يختلف فيه أنه لا يحنث؛ لأن الخزين إذا انفرد لا يعد سكنى. وإنما يعد ابن القاسم بقاء المتاع سكنى إذا كان تابعا ًلسكنى الأهل، وإذا انفرد لم يعده سكنى. انتهى. وكأن المصنف مال إلى كلام ابن بشير والأقرب فيها عدم الحنث؛ لأنه لا يقال في العرف في المختزن بموضع أنه ساكن فيه. فرع: قيل: وإن حلف ليسكننها لم يبر إلا أن يسكنها بنفسه ومتاعه وعياله. اللخمي: وأرى أن يبر وإن لم يسكن بمتاعه. وَلَوْ حَلَف لا آكُلُ مِنْ هَذَا الْقَمْحِ، أَوْ مِنْ هَذَا الطَّلْعِ، أَوْ مِنْ هَذَا اللَّحْمِ فَأَكَلَ خُبْزَهَ، أَوْ بُسْرَهُ، أَوْ مَرَقَتَهُ حَنِثَ ... عبر بعضهم عن هذا الفصل بالحلف على ترك الأصول، هل يحنث بالفضول؟ وبعضهم بالحلف على ترك الأمهات هل يحنث بالبنات؟ وكأنهم رأوا أنه لَّما عرَّف وأتى باسم الإشارة ومن، فإنه قصد الا يأكل شيئاً من الأبعاض التي اشتملت عليها الماهية. وألحق في المدونة بالخبز السويق، واستحسن أشهب عدم الحنث بالبسر إذا حلف ألا يأكل من هذا الطلع لبعد البسر من الطلع في الاسم والمنفعة والطعم. قال فيها: وإن حلف ألا يأكل من هذا اللبن فأكل من زبده أو جبنه إلا أن تكون له نية. ولو حلف ألا يأكل من هذه الحنطة أو من هذا الطعام فلا يأكل ما اشترى بثمنها من طعام ولا ما أنبتت الحنطة إن نوى وجه المن، وإن كان لشيء في الحنطة من رداءة أو سوء

صنعة في الطعام لم يحنث بأكل ما ذكرناه. انتهى. وفهم التونسي من قوله: "إن نوى وجه المن" عدم الحنث مع عدم النية. وذكر ابن المواز في الحالف لا أكلت من هذا القمح، فزرعه وأكل ما أنبت قولين: أحدهما: لا يحنث كما لو اشترى بثمنه قمحاً فأكله، قال: إلا أن يريد التضييق على نفسه، والثاني: أنه إن كره رداءة الحب لم يحنث، وإن كره المن حنث، ونسب ابن عبدوس الأول [248/أ] لأشهب، والثاني لابن القاسم. ابن ميسر: واختلف إذا حلف لا أكل من هذه الشاة فأكل من نسلها، وفي الموازية فيمن حلف لا آكل من هذه الغنم فلا بأس أن يأكل من جبنها أو سمنها، وكان القصد عند لا آكل من لحمها، ولا فرق بني قوله: (مِنْ هَذَا الطَّلْعِ) وبين قوله: من طلع هذه النخلة في التحنيث بالفرع، نعم بينهما فرق من وجه آخر، وهو أنه إذا حلف لا آكل من لبن هذه الشاة دخل فيه ما استخرج منها قبل يمينه أو بعده، قاله ابن القاسم، وله كذلك في المسألة الأخرى. وَلَوْ قَالَ: قَمْحَاً أَوْ طَلْعاَ أَوْ لَحْماً، أَوِ الْقَمْحَ أَوِ الْقَمْحَ أَوِ الطَّلْعَ أَوِ اللَّحْمَ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمِشْهُورِ، إِلا أَنْ يَقْرَبَ جِدّاً كَالسَّمْنِ مِنَ الزُّبْدِ فَقَوْلانِ إنما لم يحنث لعدم "من" التي هي دالة على التبعيض، وسواء نكَّر المحلوف عليه أو أتى بـ "هذا" أو عرفه بـ "ال"، ويكون مراده تعريف الماهية أو العموم، وأما إن أراد معهوداً فينبغي أن يقبل ذلك منه إذا كانت يمينه مما لا يقضي فيها بالحنث. وجعل المصنف المسألة على وجهين: إن لم يقرب جدّاً فلا حنث على المشهور، وإن قرب جدّاً فقولان وكأنهما متساويان عنده في الشهرة، وإلا لجعلهما مسألة واحدة، وذكر ثلاثة أقوال كعادته، وتبع في حكايته الخلاف في القسم الأول اللخمي، ورأى ابن بشير تعريته من الخلاف، وأن الخلاف إنما هو الثاني. ابن المواز: ولم يرَ ابن القاسم الحنث بالمتولد إلا في خمسة أشياء: الشحم من اللحم والنبيذ من الزبيب، والعصير من العنب، والمرق من اللحم، والخبز من القمح قال: وما سوى

ذلك لا يحنث به إلا أن يقول منه أو تكون له نية أو سبب، وسواء عَرَّفَ أو نَكَّرَ أو أتى بلفظ الإشارة، فقال: هذا اللحم. قال في الذخيرة: وقد جمعهما الشاعر فقال: أمراق لحم، وخبز قمح نبيذ تمر مع الزبيب وشحم لحم وعصر كرم يكون حنثاً على المصيب وقد علمت أن مذهب ابن القاسم أنه ينوي في الخمسة، وقاله ابن حبيب. وقال ابن المواز: لا ينوي المرقة إذا حلف لا آكل لحماً. ابن رشد: يريد مع قيام البينة فيما حكم به عليه. وحكى أبو الحسن عن ابن وهب أنه يحنث بالمتولد سواء نكر أو قال هذا أو عرف، وعن ابن القاسم انه لا يحنث بالمتولد فيهما، وعن ابن حبيب أنه إن عرَّف حنث بالمتولد لا إن نكَّر، وكذلك حكى اللخمي الأقوال الثلاثة، وعلى هذا فيتحصل في المسألة بقول ابن القاسم أربعة أقوال. وفي النكت: قال ابن حبيب: إذا حلف لا أكلت رطب هذه النخلة أو هذا الرطب، فإنه يحنث بأكل ثمره، وسواء عنده قال: من رطب هذه النخلة أو قال: رطبها، وسواء قال: من هذا الرطب أو الرطب. عبد الحق: وهذا أقيس مما ذكره ابن المواز عن ابن القاسم فتدبره. فَلَوْ قَالَ: هَذَا الْقَمْحَ، وَهَذَا الطَّلْعَ، وَهَذَا اللَّحْمَ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: فإن عرَّف وأتى باسم الإشارة، فالمشهور الحنث بالمتولد للإشارة، والشاذ لابن المواز لتغيير الذات. ومنشأ الخلاف على هذا: هل تعتبر الإشارة أو العبارة؟ وما شهره المصنف لم أر من شهره غير ابن بشير، ذكر أنه المذهب، وفيه نظر؛ لأنه إنما هو معزو لابن حبيب. فإن قيل: فقد نص في المدونة على الحنث بالخبز فيما إذا قال: لا آكل هذا الدقيق أو هذه الحنطة وهو يدل لما قاله المصنف، قيل: هي إحدى الخمسة التي استثناها ابن القاسم، والأصل أن يكون ما قاله في المدونة والموازية متفقاً، وهو مقتضى كلام أبي الحسن فاعلمه.

وَأَمَّا الشَّحْمُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اللَّحْمِ بخِلافِ الْعَكْسِ يعني: أن من حلف لا آكل لحماً يحنث بالشحم؛ لأن الشحم متولد عن اللحم، ومن حلف لا آكل شحماً لا يحنث باللحم؛ لأن اللحم ليس بمتولد عن الشحم، ولأن الله تعالى حرم لحم الخنزير فدخل الشحم وحرم على اليهود الشحم فلم يدخل اللحم. وتبرأ المصنف من هذا بقوله: (فَالْمَذْهَبُ) لأنهما في العرف مختلفان، والله أعلم. وَأُحْنِثَ فِي النَّبيذِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ لأنَّ فِيهِ جُزْءاً مِنْهُ يريد: سواء حلف على العنب والتمر والزبيب بلفظ التنكير أو التعريف، نص عليه ابن المواز زاد ولا يحنث بأكل الخل، واستشكل التونسي التحنيث بالنبيذ؛ لأنه قال فيمن حلف لا يأكل لبناً فأكل زبداً أو حلف ألا يأكل زبداً فأكل سمناً أو حلف ألا يأكل رطباً فأكل تمراً أو حلف ألا يأكل بسراً فأكل رطباً أنه لا شيء عليه، وفي الموازية فيمن حلف ألا يأكل قصباً فلا بأس أن يأكل عسل القصب، قال: فما الفرق بين هذا وبين من حلف ألا يأكل تمراً فشرب نبيذه؟ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَوْعٍ فَأُضِيفَ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى اسْتُهْلِكَ كَالْخَلِّ يُطْبَخُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمَشْهُورِ .... يعني: إذا حلف على نوع ما ولم تكن له نية في كونه خالصاً أو مخلوطاً، فخلط ثم أكله، فالمشهور مذهب المدونة قال فيها: لا يحنث إلا أن يريد طعاماً بخل. ومقابله لأصبغ وسحنون وابن المواز، وهو أقرب؛ أي: لأن الخل يؤكل هكذا وقل ما يؤكل خالصاً. سحنون: ولو حلف لا آكل زعفراناً فأكل طعاماً فيه زعفران حنث؛ لأنه الوجه في أكله.

فَلَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بالسَّمْنِ ولَمْ يَجِدْ طَعْمَهُ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ وَجَدَهُ حَنِثَ اتِّفَاقاً .... مقابل [248/ب] المشهور لابن ميسر. ابن عبد السلام: وأشار بعضهم إلى أنه مقيد للمشهور لا خلاف. وفي الموازية قول ثالث: وإن كان سبب يمينه مضرة السمن حنث لأنه يتقي منه ما يتقي من الخالص، وإن كان قيل له: إنك تشتهي السمن ولا تصبر عنه، فحلف عند ذلك، فلا شيء عليه إن أكل سوياً لُتَّ به. فإن قلت: هذه المسألة تعارض مسألة الخل، قيل: الفرق أن الخل بعد طبخه لا يتحصل منه خل ألبتة، بخلاف السمن لو سكب عليه ماء لتحلل من السويق. وَلَوْ حَلَفَ لا كَلَّمَهُ الأَيَّامَ حَنِثَ أَبَداً، وَكَذَلِكَ الشُّهُورَ عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ: سَنَةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} إذا حلف لا أكلم فلاناًً حنث متى ما كلمه طالت المدة أو قصرت، وهو مراده بقوله: (أبداً) وإن حلف لا أكلمه الشهور فكذلك؛ لأنه جمع محلي بـ "ال" فيفيد العموم، ومقابل الأصح ذكره اللخمي واحتج له بالآية التي ذكرها المصنف ولاحجة فيها؛ لأن المقصود من الآية: أن عدة شهور السنة عند الله اثنا عشر شهراً، ولا أزيد كما يفعله أهل الجاهلية في النسيء، والأيمان يجب الرجوع فيها إلى العرف. اللخمي: وإن حلف لا يكلمه الأيام لم يكلمه الأبد؛ لقول الله سبحانه: (بِمَا أسْلَفْتُمْ في الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) وعلى القول في الحالف على المشهور تجزئه شهور السنة، تجزئ الحالف هنا أيام الجمعة السبعة. انتهى. وقيل: لا يكلمه ثلاثة أيام. وَلَوْ حَلَفَ لَيَهْجُرَنَّهُ فَكَذَلِكَ، وَقِيلَ: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: شَهْراً قوله: (فَكَذَلِكَ) أي: فيحنث أبداً. ابن عبد السلام: ولم أقف على هذا القول بعد البحث عنه، والقول بالشهر في الموازية، والقول بالثلاثة في العتبية والواضحة؛ حملاً ليمينه

على الهجران الشرعي، وأشار اللخمي إلى أنه ينظر إلى عادتهما، فإن كانت عادتهما كثرة التَّكالُم اكتفى بالثلاثة؛ لأنها تعد مقاطعة، وإن كانت عادتهما قلة التَّكالُم لم يبرَّ بذلك، ولا بد من مدة يريان ذلك تقاطعاً. ابن الماجشون وغيره: ولو كلمه بإثر يمينه لم يحنث، وليس عليه أن يهجره عقب يمينه، ومتى هجره بعد ذلك بر، بخلاف ما لو حلف لا كلمه فإنه إن كلمه إثر يمينه حنث. واختلف إذا حلف ليطيلن هجرانه، فقال محمد: يهجره سنة. وقيل: شهر يجزئه. اللخمي: وقول محمد احتياط ليس أنه لا يجزئه دون ذلك، فإن كان بينهما مصادقة فالشهر طول، وإلا فالشهر قليل. وَلَوْ حَلَفَ لا كَلَّمَهُ أَوْ لَيَهْجُرَنَّهُ أَيَّاماً، أَوْ شُهُوراً، أَوْ سِنِينَ، فَالْمَنْصُوصُ: أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَخَرَجَ الدَّهْرُ لأَنَّهُ الأَكُثَرُ ... قوله: (أَقَلُّ الْجَمْعِ) أي: فيكلمه بعد ثلاثة أيام وثلاثة شهور وثلاثة سنين ولا حنث عليه، وعبر ابن عبد السلام عما عبر عنه المصنف بالمنصوص بالمشهور، قيل: وعلى قول من قال: إن أقل الجمع اثنان، يكفيه هنا اثنان، وأنكره في البيان وقال: لا ينبغي أن نعوِّل على هذا وإن كان هو مذهب مالك في أن الاثنين من الإخوة يحجبان الأم من الثلث إلى السدس؛ لقوله تعالى: (فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِهِ السُّدُسُ) [النساء: 11]؛ لأن الأيمان يجب حملها على العرف. وقوله: (وَخَرَجَ الدُّهْرُ) أي: البد من قول من قال: إن اليمين إذا احتملت أقل وأكثر أنه لا يبر إلا بالأكثر، وهذا التخريج لابن بشير ورده ابن هارون بأن أيام جمع منكر فلا يمكن حمله على العموم بوجه. وسلم ابن راشد التخريج في شهور لأنه جمع كثرة، وخالف في أيام وسنين لأنهما جمع قلة، وهو العشرة فما دون، فلا يصح أن تعمر الذمة

بالأبد، واعترضه ابن عبد السلام بأن هذا إنما هو إذا كان اللفظ جمع قلة وكثرة، وأما إن لم يكن إلا واحداً منهما فالنقل أنه يقع للقليل والكثير، ثم جعله جمع قلة للعشرة مخالف للنحويين فنهم لا يجاوزون به التسعة. وَلَوْ قَالَ حِيناً فَالْمَنْصُوصُ سَنَةٌ، وَكَذَلِكَ دَهْراً أَوْ زَمَاناً أَوْ عَصْراً، فَإِنْ عَرَّفَ فَفِي صَيْرُورَتِهِ لِلأَبَدِ قَوْلانِ .... المنصوص مذهب المدونة، قال فيها: ومن حلف ألا يفعل شيئاً إلى حين أو زمان أو دهر، فذلك كله سنة. وقال عنه ابن وهب: أنه شك في الدهر أن يكون سنة. وعن ابن عباس فيمن حلف ألا يكلم فلاناً حيناً أنه سنة، وتلا قوله تعالى: (تُؤتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ([إبراهيم: 25] قاله ربيعة: وقال ابن المسيب: الحين ستة أشهر من حين طلوع النخل إلى حين ترطبه، ومقابل المنصوص للَّخمي أنه يبر في الحين بأقل من السنة، وتكفيه مدة فيها طول. قال: والحين يقع على الوقت قل أو أكثر. قال الله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ([الروم: 17] فهذا وقت الصلاة، وقال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ([الإنسان: 1] وقال تعالى: (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ([يونس: 98]، قيل: يوم القيامة، وقد يقال: إن الآية الأولى: الحين فيها مقترن بالمساء والصباح والكلام إنما هو في الحين المطلق. قوله: (وَكَذَلِكَ دَهْراً أَوْ زَمَاناً أَوْ عَصْراً) أي: فتكفيه السنة، ولم أرَ في هذه الأقوال الثلاثة تخريجاً، وقوله: (فَإِنْ عَرَّفَ) ينبغي أن يحمل على هذه الألفاظ الثلاثة، ولا يراد الحين؛ لأن القول بالأبد ليس إلا في الثلاثة، وهو قول الداودي، وفي الواضحة في الدهر انه أكثر من سنة. مطرف: وسنتان قليل ولا وَقَّتَ فيه وقتاً.

وَلَوْ حَلَفَ لا كَلَّمَهُ فَكَتبَ [249/أ] إِلَيْهِ، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولاً فَثَالِثُهَا: يَحْنَثُ بِالْكِتَابِ لا بِالرَّسُولِ .... تصور المسألة والأقوال ظاهر، والحنث بهما لمالك وابن القاسم في المدونة؛ لأن القصد العرفي بهذه اليمين المجانبة وهي غير حاصلة، وعدم الحنث فيهما لأشهب وابن عبد الحكم اعتباراً بظاهر اللفظ؛ إذ لا يطلق عليهما كلام إلا مجازاً. والثالث لابن الماجشون، وذكر اللخمي أن ابن القاسم وأِهب روياه عن مالك ووجهه أن الكتاب لفظه بخلاف الرسول؛ لأنه يزيد وينقص. وعلى مذهب المدونة فهل ينوي في إرادة المشافهة إن كانت بطلاق أو عتاق؟ قال: فيهما حنث إلا أن ينوي مشافهة، ثم رجع فقال: لا ينوي ف الكتاب إلا أن يرجع الكتاب قبل وصوله إليه فلا يحنث، ولمالك في المازية: لا ينوي في الكتاب والرسول، أو على أنه ينوي فإنه يحلف على ذلك، قاله ابن يونس، وقد تبين لك من المدونة أنه إذا رجع قبل وصوله أنه لا يحنث. محمد: وهذا آخر قوليه. التونسي: وقوله "وهذا آخر قوليه" فيه إشكال؛ لأنه لاينبغي أن يكون في رجع الكتاب خلاف لأنه لم يسمعه ولا رأي الكتاب. فروع: الأول: فإن وصل الكتاب للمحلوف عليه فقرأه بقلبه دون لسانه، فقال أشهب: لا يحنث، واحتج بأن من حلف لا يقرأ فقرأ بقلبه لم يحنث. الثاني: قال ابن حبيب: يحنث بقراءة عنوان الكتاب وإن لم يكن له عنوان وقطعه ولم يقرأه لم يحنث، وكذلك لا يحنث إذا لم يقرأه ولو أقام عنده سنين. اللخمي: ولا وجه لهذا؛ لأنه إنما حنث بالمكاتبة، لأنها ضرب من المواصلة وذلك يقع بنفس وصول الكتاب، وإذا كان الظاهر عند اللخمي الحنث بأخذ الكتاب وأن يقرأه فلأن يكون الحنث في مسألة أشهب فيما إذا قرأه بقلبه أولى.

الثالث: لو أشار إليه فقال مالك وابن القاسم وابن حبيب وغيرهم: يحنث. ابن حبيب: سواء كان المحلوف عليه سميعاً أو أصم، وقال ابن القاسم: لا يحنث، والأول أظهر. الرابع: نص ابن الماجشون على أنه إذا حلف ليكلمنه لا يبر بالكتاب أو الرسول، أما لو حلف ليعلمنه أو ليخبرنه بر بالكتاب والرسول. الخامس: لو حلف ليعلمنه أمراً فعلمه من غيره، ففي المدونة: وإن لم يعلمه حنث. وحملها على إطلاقها أبو عمران وغيره. وقال اللخمي: إنما يحنث إذا لم يعلم الحالف بعلم المحلوف عليه، وأما إن علم وبنينا على اعتبار المقاصد فلا يحنث. السادس: لو أسرَّ إلى رجل حديثاً فحلف على كتمه، ثم أسرَّ إلى غيره فتحدَّث الحالف مع من أسرَّ إليه ثانياً، فأخبره بالسرِّ؛ فقال الحالف: ذكر لي ذلك وما ظننته ذكره لغيري، ففي المدونة يحنث. السابع: لو كان الحالف أمر من يكتب عنه للمحلوف عليه فكتب ولم يقرأه على الحالف، ولا قرأه الحالف، ففي الواضحة: لايحنث، قال: ولو قرأه الحالف أو قرئ عليه حنث إذا قرأه لمحلوف عليه. وَلَوْ كَلَّمَهُ فَلَمْ يَسْمَعْهُ فَقَوْلانِ، كَمَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ لا تَخْرُجُ إِلا بإِذْنِهِ فَأَذِن لَهَا وَلَمْ تَسْمَعْ ... معناه: لو كلمه بحيث يمكن سماعه عادة لولا المانع الذي لأجله لم يسمعه كالنوم والصمم، وأما لو كان بينهما مكان بعيد لا يتأتى السماع منه فلا يحنث اتفاقاً، والحنث لابن القاسم في العتبية والموازية، وعدم الحنث لأصبغ، واختلف قول ابن القاسم في تكليمه الأصم هل يحنث بسببه؟ قوله: (كَمَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ) المنصوص في هذه المسألة في المدونة الحنث ولا ينبغي أن يختلف فيها؛ لأن قصد الزوج ألا تعصيه في خروجها بغير إذنه، وهي إذا خرجت

ولم تسمع فقد خرجت بغير إذن، ولم أر فيها قولاً بعدم الحنث إلا في أبي الحسن؛ فإنه حكى عن مالك قولاً بعدم الحنث، قال: ويحمل قوله على هذا "إلا بإذني"؛ أي: بعد إذني. ابن هارون: وظاهر كلام اللخمي حصول الاتفاق على الحنث: ولفظه ومن حلف على زوجته لا خرجت إلا بإذنه، فأذن لها فلم تسمع، ثم خرجت حنث، وإن قال: لا خرجت إلا أن آذن، لم يحنث قياساً على من حلف ليقضين فلاناً حقه لأجل سماه إلا أن يؤخر، فأخره ولم يعلم وانقضى الأجل، فقال مالك: عسى أن يجزئه. وقال ابن وهب: لا يحنث. فراعى اللفظ، وأرى أن يحنث؛ لأن القصد ألا يكون منه الرد وقد حصل. وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ المَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْرَأهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَرَأَهُ فَقَوْلانِ لا خفاء في عدم الحنث إذا لم يقرأه، والقول بالحنث إذا قرأه لابن القاسم في الموازية؛ لأن القصد مجانبته، والقول بعدم الحنث لابن القاسم أيضاً في العتبية والمجموعة وهو لأشهب، وصوبه ابن المواز لأنه لم يكلمه، واستحسنه اللخمي. وعلى الحنث فقال ابن القاسم: وكذلك يحنث إن أمر غره فقرأه عليه إلا أن يقرأه عليه أحد بغير أمره، قال في العتبية: وما ذلك بالبين، قال: وإذا كان الكتاب من المحلوف عليه إلى غير الحالف، فأتى فقرأه الحالف بعد أن أخبره به فلا شيء عليه. وَلَوْ حَلَفَ لا سَاكَنَهُ وَهُمَا فِي دَارٍ فَجَعَلا بَيْنَهُمَا حَائِطاً فَشَكَّ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم: لا يَحْنَثْ ..... المنقول عن مالك في المدونة [249/ب] وغيرها إنما هو: فكرهه مالك وقال: لا يعجبني: ففرق بين الشك والكراهة، وما نقله المصنف عن ابن القاسم هو في المدونة، وشرط أن يكون لكلِّ نصيب مدخل على حدة، وقال فيها قبل ذلك: ومن حلف ألا يساكن فلاناً فسكن كل واحد منهما في مقصورة في دار، فإن كانا حين حلف هذا في دار

واحدة وكل واحد في منزل منها حنث، وإن كانا في بيت فلما حلف انتقل عنه إلى منزل في الدار يكون مدخله ومخرجه ومرفقه في حوائجه على حدة لم يحنث، ولابن القاسم في غيرها عدم الاكتفاء، وإذا فرعنا على الاكتفاء، فهل يكفي أن يكون الجدار من جريد أو لابد أن يكون مبنياً بالحجر؟ ظاهر كلامه الاكتفاء، وكرهه ابن الماجشون، وهذا إنما هو عند الإطلاق، وأما إن كان للحالف نية أو بساط في التباعد فلا خلاف أنه لا يكفيه إلا التباعد. وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بين أن يحلف لا ساكنه في دار بعينها، وبين أن لا يعين وهو مذهب المدونة، وقيل: إن قال: لا ساكنته في هذه الدار، لم يبر ببناء الجدار، بخلاف ما إذا لم يعين. وعارض ابن الكاتب قول ابن القاسم في هذه بالاكتفاء بضرب الجدار، بما قاله فيمن حلف لا يسكن فإنه قال: ينتقل عنها في الحال، وأجاب بأن هذه محمولة على أنه خرج عنها في الحال ولم ينتقل إليها إلا بعد بناء الجدار، وأجاب ابن محرز: بأنه شرع في البناء بإثر اليمين وأن ذلك يقوم مقام الشروع في الخروج، وقد يكون بناء الجدار أسرع من الانتقال. وفروع الحلف على ترك المساكنة كثيرة، وكلها مبنية على أنه لا يبقى على الحالة التي كان عليها، وتركناها تبعاً للمصنف. فرع: قال في المدونة: وإن حلف لا يساكنه فزاره فليست الزيارة سكنى، وينظر في ذلك إلى ما كانت عليه يمينه؛ فإن كان لما يدخل بين العيال والصبيان فهو أخف، وإن أراد التنحي عنه فذلك أشد. التونسي: قوله: "أخف" يريد: ولا يحنث؛ لأن ذلك السبب ليس بموجود في الزيارة، ولو أقام عنده على هذا أياماً، وقوله: "أشد" يريد: ويحنث؛ لأنه أراد قطع مواصلته والبعد عنه، والزيارة مواصلة وقرب.

قال في البيان: واختلف إذا طال التزاور على قولين؛ قال أشهب وأصبغ: لا يحنث، وقال مالك وابن القاسم: يحنث. واختلف في حد الطول فقيل: ما زاد على ثلاثة أيام، وقيل: هو أن يكثر الزيارة بالنهار ويبيت في غير مرض إلا أن يأتي من بلد آخر، فلا بأس أن يقيم اليوم واليومين والثلاثة على غير مرض، وهو قول ابن القاسم، ورواه عن مالك، ومثله لابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه. وَلَوْ حَلَفَ لَيَنْتَقِلَنَّ مِنْ بَلَدٍ فَفِي الاقْتِصَارِ عَلَى نَفْيِ الْجُمُعَةِ أَوْ لابُدَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ قَوْلانِ .... القول بأنه لابد من مسافة القصر لمالك، والآخر استحسان لابن المواز. وَلَوْ حَلَفَ لَيُسَافِرَنَّ فَمَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَفِي مِقْدَارِ بَقَائِهِ فِي انْتِهَائِهِ: شَهْرٌ، وَنِصْفُهُ، وَأَقَلُّ زَمَانٍ .... المشهور كما ذكر أنه لابد من مسافة القصر. ابن بشير: وهو مقتضى اللفظ شرعاً، ولو بنى على اللغة لأجزأ أقل ما يسمى سفراً، أو على العرف لاعتبر ما يسميه أهل العرف سفراً، أو على العرف لاعتبر ما يسميه أهل العرف سفراً، ثم حكى الثلاثة الأقوال التي حكاها المصنف في مقدار مقامه، ولم أر القول بالشهر في غير ابن بشير، ويمكن أن يؤخذ من قول ابن الماجشون: "إذا حلف لينتقلن" أن له أن يرجع بعد شهر، والقول بنصف شهر لابن القاسم، قال: لو رجع بعد خمسة عشر يوماً لم يحنث، والشهر أحب إليَّ، إلا أن ينوي الدوام. وقال ابن المواز: القياس أدنى زمان. وَلَوْ حَلَفَ لا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتاً حَنِثَ بِالْحَمَّامِ لا بالْمَسْجِدِ فرق ابن المواز بين الحمَّام والمسجد، فإن الحَّمام لا يلزمه دخوله، بخلاف المسجد فإنه لما كان يطلب الدخول فيه شرعاً فكأنه غير مراد، واختار اللخمي فيهما عدم الحنث وهو الظاهر.

فرع: وأما اجتماعهما في الحبس فالمذهب إذا دخل الحالف طائعاً فكيفما دخل المحلوف عليه طوعا ًأو كرهاً حنث لتسبب الحالف في اجتماعهما اختياراً، وإن دخل الحالف كرهاً فقال ابن الماجشون: لا يحنث واختلف في ذلك قول أصبغ، ورأى غير واحد أن هذا الخلاف إنما هو إذا أكره على حق، وأما إن كان مظلوماً فلا يحنث. وألحق ابن القاسم بهذا إذا اجتمعا تحت ظل جدار أو شجرة إن كانت يمينه بقضاء فيه، أو لسوء عشرته، ابن حبيب: كانت نيته ذلك أو لم تكن له نية، فإنه يحنث بوقوفه معه في الصحراء. فَلَوْ دَخَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَالِكٌ: لا يُعْجِبُبنِي هذا من تتمة الفرع السابق؛ أي: إذا حلف لا أدخل عليه قال في التهذيب: وإن دخل المحلوف عليه على الحالف، فخاف عليه مالك الحنث، وقال ابن القاسم: لا يحنث إلا أن ينوي ألا يجتمع معه في بيت فيحنث. ابن المواز: وقيل لا شيء عليه إلا أن يقيم معه بعد دخوله عليه. ابن يونس: قال بعض أصحابنا: وكذلك ينبغي على قول ابن القاسم أن لا يجلس بعد دخول المحلوف عليه، فإن جلس وتراخى حنث، ويصير كابتداء دخوله هو عليه. قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لا يُعْجِبُنِي) يريد والله أعلم: لا يعجبني للحالف أن يقيم بعد دخول [250/أ] المحلوف عليه. وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَيْتاً فَقَوْلانِ القول بالحنث رواه أشهب عن مالك اعتباراً بظاهر لفظه، والقول بعدم الحنث لسحنون نظراً إلى المقاصد.

وَلَوْ قَالَ: لا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتاً يَمْلِكُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَيْتاً فَالرِّوَايَاتُ: حَنِثَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ تصوره ظاهر، ووجه الإشكال أنه بموته قد انتقل إلى ورثته، وراعى في الروايات كونه له حق يجري مجرى الملك، وهو أنه لا يخرج من حتى يتم غسله وتكفينه، وإليه أشار في الموازية بقوله: فدخل عليه وهو يجهز. ونقل ابن يونس هذا الفرع على صيغة تقوي إشكاله، ولفظه: قال أصبغ: وإن حلف لا أدخل بيت فلان ما عاش، أو قال: حتى يموت، فدخل بيته وهو ميت قبل أن يدفن حنث. ابن يونس: ويجب أن يكون على قول سحنون؛ أي: في الفرع الذي قبل هذا لا يحنث وهو في هذا أقوى من الأول؛ لأنه اشترط: ما عاش أو حتى يموت، فقد دخل بعد حلول الشرط، فكان يجب ألا يحنث باتفاق، وقول من حنثه بذلك ضعيف. ابن الماجشون: ولو حلف لا ينفع فلاناً ما عاش، فمات فكفنه حنث؛ لأن الكفن من أمور الحياة، وهو قريب من الفرع الذي ذكره المصنف. فرع: إذا حلف ألا يأكل من طعام رجل فمات، فأكل الحالف قبل القسمة، فحنثه ابن القاسم في العتبية إذا كان عليه دين أو أوصى بوصية. قال في المجموعة: وإن لم يكن الدين محيطاً قال أشهب: لا يحنث، واختاره ابن رشد. وقال ابن سحنون: يحنث إن كان عليه دين ولا يحنث إن أوصى بوصايا. ابن الكاتب: وقولهم: يحنث إذا أوصى بوصايا. معناه عندي: إذا أوصى بمال معلوم يحتاج فيه إلى بيع مال الميت ليعطي منه الموصى له؛ لأن ذلك المال لو ضاع قبل أن يعطاه لرجع الموصى له في الثلث؛ لأنه لا يتعين كما قال فيمن أوصى أن يُشترَى عبد فلان فيعتق عنه، فيموت بعد الشراء وقبل عتقه أن عليهم أن يشتروا غيره من بقية الثلث، بخلاف عبد بعينه.

وأما إن كانت الوصية تجزأ من ماله كالثلث والربع فهنا يكون الموصى له شريكاً للورثة، وكأحدهم ساعة يموت، فلا حنث على الحالف في هذا، وهذا كله مع عدم النية، وأما إن كانت له نية فيقبل منه، أما إن لم يكن عليه دين ولا أوصى بوصايا فلا يحنث بالاتفاق. وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ أَوْ لَيَبِيعَنَّ الأَمَةُ فَتَزَوَّجَ تَزْوِيجاً فَاسِداً، أَوْ بَاعَ فَأُلْفِيَتْ حَامِلاً فَالْمَنْصُوصُ: حَنِثَ .... قوله: (لَيَتَزَوَّجَنَّ) هذه المسألة مقيدة بما إذا ضرب لذلك أجلاً، وإلا فلو لم يقيد كان له أن يتزوج أخرى ولا حنث عليه. ثم إن هذا النكاح الفاسد إن كان يمضي بالدخول ودخل فإنه يبر وإن لم يحصل البناء، أو كان مما يفسخ أبداً فالمنصوص الحنث مراعاة للشرعي. وخرج اللخمي البر من القول بمراعاة اللفظ من أحد القولين فيمن حلف ليطأن زوجته الليلة فوجدها حائضاً ووطئها أنه يبر، وفرق بينهما بأن الحالف في مسألة الحيض على امرأة معينة، وقد علم الحالف أن لها حالين: حالاً يجوز وطؤها فيه وحالاً لا يجوز، فلما أجل يمينه دل على إرادة وطئها مطلقاً، وأما هذه المسألة فحلفه لم يكن على امرأة معينة، فيحمل نكاحه على النكاح العرفي. فرع: فإن تزوج عليها دنِيَّة ليست من نسائه أو كتابية، فقال مالك: لا يبر. ابن المواز: وسهل في ذلك ابن القاسم، ورجح بعضهم قول ابن القاسم بأن عادة الناس في مثل هذا جارية بتزويج الدنِيَّة، وبأن المقصود نكاية المرأة الأولى، وهو حاصل، وأما إن تزوج غير دنية ولم يدخل بها فقال ابن القاسم: لا يبر، وكذلك لو وطئها حائضاً، وقال أشهب: بل يبر وكأنه. رأى لفظ النكاح حقيقة في العقد، ولا يبعد أن يجري في مسألة الحائض خلاف مما تقدم.

قوله: (أَوْ لَيَبِيعَنَّ الأَمَةُ ... فَأُلْفِيَتْ حَامِلاً) تصوره واضح، ومعنى أُلفيت: وجدت. وَنَذْرُ الطَّاعَةِ وَإِنْ كُرِهَ لازِمٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ اللِّجَاجِ وَالْغَصَبِ دُونَ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ ظاهر كلامه هنا كراهة النذر مطلقاً وهو الذي يؤخذ من قوله في الصيام: (وكره مالك نذر الصيام وغيره بشرط أو بغير)، وكذلك قال ابن راشد: ونص مالك رحمه الله تعالى على كراهة النذر ابتداءً بشرط وبغيره. وفي كلامه على هذا الوجه نظر لمخالفته للمنقول، ونقل ابن راشد بعد نقل الباجي أن النذر المجرد لا خلاف في جوازه، ونص ابن شاش وغيره على أنه مستحب، وفي البيان: النذر على مذهب مالك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مستحب: وهو النذر المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكراً لله تعالى على ما كان ومضى. وجائز: وهو النذر المقيد بشرط يأتي. ومكروه: وهو المؤقت الذي يتكرر مع مديد الأيام فهذا كرهه في المدونة مخافة التفريط في الوفاء به. وعلى هذا فالأظهر أن يحمل كلامه على أن نذر الطاعة قسمان: مكروه، غير مكروه، والمكروه يلزم كغيره وتكون (أن) بمعنى (لو)؛ أي: يلزم الوفاء به ولو كان مكروهاً. وهذا وإن كان ممكناً هنا إلا أنه لا يمكن في كلامه في الصوم، ثم في كلام صاحب البيان مخالفة لكلام غيره؛ وذلك لأنه جعل المعلق على شرط آت من قبيل الجائز. والذي ذكره الباجي وابن شاس وغيرهما أنه مكروه، وعلى هذا فالمكروه من النذر نوعان: الأول: ما كان مكرراً كما إذا نذر صوم كل خميس ونحوه، فإنه قد يأتي به لتكراره على حال كسل فيكون إلى عدم الطاعة [250/ب] أقرب.

والثاني: ما كان معلقاً على حصول نعمة، أو دفع نقمة، كقوله: إن شفى الله مريضي فعلي كذا، أو أنجاني من البحر. وعلى كلام ابن رشد إنما يكره الأول من هذين النوعين فقط، وعلى هذا فكلام المصنف في الصيام ليس بظاهر، نعم يصح على تأويل اللخمي؛ وذلك لأنه وقع في المدونة في باب الصيام: كره مالك صوم يوم يوقته فظاهره كراهة نذر صوم اليوم مطلقاً. وعلى هذا الظاهر حمله اللخمين لكانحمله ابن رشد على أنه يوم مكرر والله أعلم، واستدل على كراهة النذر المعلق بشرط بوجهين: الأول: كونه أتى به على سبيل المعاوضة، لا على سبيل القربة المحضة. الثاني: أنه قد يتوهم منه الجاهل أنه يمنع من حصول المقدور، ويؤيده ما في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرَج به من البخيل"، وفي مسلم أيضاً وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئاً لم يكن قدَّره الله له، ولكنَّ النذرَ يوافق القدرَ فيُخرِج بذلك من البخيل يريد أن يخرج". قوله: (وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ) هو المعروف، وحكي عن ابن القاسم قول أنه يكفي فيه كفارة يمين. ابن بشير: وما كان من لقيناه من الشيوخ يميل إليه ويعدونه من نذر المعصية، فلا يلزم الوفاء به. ابن عبد السلام: يحتمل أن يريد ابن بشير بهذا القول ابن عبد البر: إن العدول الثقات رووا عن ابن القاسم أنه أفتى ابنه عبد الصمد لما حلف بالمشي إلى مكة أن عليه كفارة يمين، وأفتاه بذلك حين حلف بصدقة ماله، وقال له: أفتيك بمذهب الليث، وإن عدت أفتيتك بمذهب مالك. وقوله: (دُونَ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ) من المكروه والمحرم، وحاصله أنه لا يلزم بالنذر من الأحكام الخمسة إلا المندوب، وقسم اللخمي نذر المعصية كصوم يوم الفطر أو النحر، أو

أن يصلي عند طلوع الشمس على ثلاثة أقسام، وإن كان الناذر عالماً بتحريم ذلك استحب له أن يأتي بطاعة من جنس ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله". وإن كان جاهلاً بالتحريم وظن أن في صومه فضلاً عن غيره لمنعه نفسه لذتها ذلك اليوم فهذا لا يجب عليه القضاء ولا يستحب، وإن كان يظن أنه في جواز الصوم كغيره كان في القضاء قولان: قيل: لا شيء عليه والغلبة كالغلبة بالمرض، وقال عبد الملك: يقضيه لأنه لم يرد خصوصية ذلك اليوم وإنما أراد صوماً. وَمَا لا مَخْرَجَ لَهُ مِثْلُ عَلَيَّ نَذْرٌ فَكَالْيَمِينِ باللهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَفَّارَةٍ وَلَغْوٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: "عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ لَمْ أُعْتِقْ رَقَبَةٌ خُيِّرَ فِيهِمَا قد تقدم أن النذر الذي لا مخرج له فيه كفارة يمين، ولا فرق بين نذر بالتنكير والنذر بالتعريف، وبين أن يضم إليه لفظ آخر يقتضي تأكيده إلا أنه لم يفسر مخرجه كما لابن القاسم في العتبية في القائل: علي نذر، لا كفارة له إلا الوفاء به، وبين أن يخرج بعض القرب كما في الموازية في القائل: علي نذر لا يكفره صيام ولا صدقة. وقوله: (مِنِ اسْتِثْنَاءٍ) أي: بمشيئة الله، وتصوره واضح. وقوله: (وَلِذَلِكَ ... إلخ) أي: ليس سبب التخيير ما أشار إليه المصنف من أن النذر المبهم كاليمين بالله؛ بل سببه كون الشيء الذي علق عليه النذر مأذوناً فيه، ولذلك يدور التخيير مع الإذن وجوداً وعدماً، فلو قال: علي نذر إن لم أدخل الدار، خير، وإن قال: علي نذر إن لم أقتل زيداً أو أشرب الخمر، منع من القتل والشرب، ولم يحصل التخيير نعم لو تجرأ وفعل تلك المعصية سقطت الكفارة عنه، وهكذا قال ابن عبد السلام. تنبيه: لكنه قال: إن تجرأ وفعل تلك المعصية فقال أهل المذهب: تلزمه كفارة يمين.

خليل: ولا أراه إلا وهماً. ففي الجلاب: ولو ألزم نفسه طاعة بعد معصية لزمته الطاعة ولم يجز له فعل المعصية، فإن فعل المعصية سقط عنه ما علقه بها من الطاعة، مثال ذلك: إن لله علي صدقة دينار إن لم أشرب الخمر، فيلزمه التصدق بالدينار والكف عن الخمر، فإن شرب الخمر سقطت عنه الصدقة ولزمه الحد، وفي الرسالة نحوه. وذكر المصنف في الطلاق نحوه فقال: (وإن كان محرماً مثل: إن لم أقتل زيداً نُجِّز، إلا أن يتحقق قبل التنجيز على المشهور) فإن قلت: هل يصح كلام ابن عبد السلام على الشاذ؟ قيل: قد أنكر هو وجوده، نعم قد يخرج ما قاله على أحد القولين في أن المعدوم شرعاً هل هو كالمعدوم حسّاً كما قيل فيمن حلف ليطأنها فوطئها حائضاً. وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوْ بَيْتِ اللهِ أَوِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْكَعْبَةِ أَوِ الْحَجَرِ أَوِ الرُّكْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ .... قال في المدونة: ومن قال: علي المشي إلى مكة أو بيت الله الحرام أو المسجد الحرام أو الكعبة أو الحجر أو الركن لزمه. وأما غير ذلك كعرفة ونحوها فلا. عياض: مذهبه في المسألة إلزامه اليمين إن قال: بيت الله أو الكعبة أو المسجد الحرام أو مكة، أو ذكر شيئاً من أجزاء البيت فقط دون ما عدا ذلك، إلا أن ينوي حجّاً أو عمرة، ولا يلزمه فيما هو داخل المسجد الحرام، ولا داخل مكة ولا خارجها، وهو تأويل أبي محمد وجمهور الشيوخ، وهو مقتضى ما في كتاب [251/أ] ابن حبيب عنه أنه لا يلزمه في زمزم والحطيم والحجر وقد سلم له أبو محمد قوله في زمزم، ولم يسلم له ذلك في الحجر والحطيم لاتصالهما بالبيت، ويحتج لهذا بما في المدونة: ومن قال: أنا أضرب بمالي أو بشيء منه في حطيم الكعبة أو الركن، فعليه حجة أو عمرة ولا شيء عليه في ماله، فقد سوى بين الركن والحطيم؛ لكن قد يتناول ما قاله ابن حبيب على وفق الكتاب في أن من الحجر والحطيم ما ليس من البيت، فكأنه جعل غاية مشية إلى أوله كقوله: إلى الحرم.

وذهب ابن لبابة إلى أن مذهبه في الكتاب اللزوم متى ذكر شيئاً مما في المسجد الحرام، بخلاف ما كان خارج المسجد واحتج بمسألة الحطيم. وحكى ابن لبابة عن بعضهم تأويلاً ثالثاً على المدونة، وأن الحجر والركن كالصفا والمروة لا يلزمه فيه شيء قال: والتبس عليه لفظ الكتاب. عياض: وكذلك أقول أنه قد التبس على ابن لبابة أيضاً، والصواب القول الأولى. انتهى. اللخمي: وقال أصبغ: يلزمه بكل ما سمي مما هو داخل مكة كالصفا والمروة وأبي قبيس وقعيقعان، وقال ابن حبيب: يلزمه إذا سمي الحرم وما هو فيه ولا يلزمه ما هو خارج عنه ما عدا عرفات. وقوله: (بحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) نحوه في المدونة، ورأى اللخمي أن التخيير إنما هو في حق المدني ونحوه ممن جرت عادته أن يأتي إلى مكة للحج والعمرة، وأما من بعد كأهل المغرب فإنما يمشي في حج لأن أكثرهم لا يعرف العمرة ومن يعرفها لا يقصدها بسفر، وأشار غيره إلى أن التخيير إنما هو في حق غير الضرورة، وأما الضرورة فيجعل مشيه في عمرة ثم يحج ليجمع بين حجة الإسلام ونذره، وهذا يأتي على أن الحج على الفور، وفي الجواهر: إذا كان الحالف من أهل الأقطار البعيدة، فهل يتعين عليه الحج، أو يتخير بينه وبين العمرة؟ قولان للمتأخرين. فرع: فإن نذر المشي وهو بمكة فإن كان في المسجد فليخرج إلى الحل ويحرم بعمرة حتى يطوف ويسعى بين الصفا والمروة؛ إذ لابد أن يكون ليمينه معنّى، وإن كان خارجاً عن المسجد فقال ابن القاسم: يخرج كالأول، وقال مالك: يمشي من موضعه إلى البيت في غير حج ولا عمرة.

وَلا يَلْزَمُهُ نَذْرُ الْحَفَاءِ لأن الحفاء لا طاعة فيه. ابن الجلاب: وينتعل ويستحب له أن يهدي، ونحوه في المدونة ونصه: في القائل: أنا أحمل فلاناً إلى بيت الله، إن أراد تعب نفسه وحمله على عنقه يحج ماشياً ويهدي، واختلف الشيوخ هل الهدي على الاستحباب كما في الحفاء، وإليه ذهب ابن يونس، أو على الوجوب؟ ويخرج فيها الاستحباب من الحفاء، وكذلك العكس وهو قول غيره. وَفِيهَا: وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ، وَاسْتَدْرَكَهُ بَعْضُ الأَئِمَّةِ بِسُقُوطِهِ عَنِ الْقَادِرَةِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ مَشْيُهَا عَوْرَةٌ وَغَيْرِهَا ... قوله: (سَوَاءٌ) أي: في لزوم المشي في حق الناذر. وأصل الاستدراك لابن الكاتب وتبعه عليه جماعة، وإليه أشار بقوله: (واستدركه الأئمة) أي: أئمة المذهب، ثم بيَّن الوجه الذي استدرك بقوله: (بسُقُوطِهِ) أي: أن ابن الكاتب عارض قوله في هذه المسألة بقوله: إن الحجل لا يجب على القادرة على المشي إذا لم تكن لها راحلة، وإذا لم يجب المشي في حج الفريضة التي هي إحدى دعائم الإسلام مع تأكيدها لما يحصل حينئذٍ من الفتنة، فلأن تمنع من المشي في النذر من باب أولى. قوله: (وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ) هو ابن محرز، ولا ينبغي أن يعد خلافاً؛ بل هو تقييد للمدونة، ولابن المواز قريب منه، قال: إذا كانت المرأة شابة وكان مشي مثلها عورة وكشفاً رأيت أن تمشي الأميال محتجزة عن الناس، ثم تركب وتهدي. قال: ولو لم تكن كذلك وقدرت على مشي جميع الطريق ثم عجزت، وكانت إن عادت وفت بجميع المشي عادت، وقد تقدم في أول باب الحج ما يجاب به عن هذا الإشكال. فرع: وللزوج منع زوجته إذا نذرت المشي كما يمنعها في التطوع؛ لأنها متعدية عليه.

فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَسِيرُ أَوِ الرُّكُوبُ أَوِ الذِّهَابُ أَوِ الْمُضِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَفِي لَغْوِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَعِنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الرُّكُوبُ خَاصَّةً كَالْمَشْيِ زاد في المدونة أو الإتيان أو الانطلاق، وقوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الرُّكُوبُ خَاصَّةً كَالْمَشْي) هو أيضاً في المدونة، وكذلك قول أشهب فيها وما ذكره من أن قول ابن القاسم اختلف في الركوب خاصة موافق لما في البرادعي. عياض: واختصرها حمديس على أنه اختلف قوله في جميع الألفاظ وعليه تأولها ابن لبابة، وقد حكى القولين عنه ابن حارث. وقد روى سحنون ومحمد بن رشد عنه مثل قول أشهب، والإلزام في جميعها، وبيان ذلك في المدونة أيضاً من مسألة: أنا أضرب بمالي رتاج الكعبة وإلزامه الحج والعمرة، ولم يشترط في ذلك نية، فإنه لا فرق بينها وبين قوله: أسير إليها وأذهب إليها، وحمل المسألة سائر المختصرين على أن الخلاف في الركوب وحده وتردد أبو عمران [251/ب] في تأويلها، وذكر بعضهم أن أشهب اختلف قوله كابن القاسم، وهذا الخلاف إنما هو عند عدم النية، وأما إذا نوى بهذه الألفاظ حجّاً أو عمرة فإنه يلزمه ما نواه باتفاقهما، وفرق على قول ابن القاسم الأول بين المشي وغيره؛ لأن العرف إنما جرى بلفظ المشي، ولأنه قد جاءت فيه السنة. وأخذ ابن المواز وسحنون واللخمي بقول أشهب، ورأى ابن يونس أن ما قاله ابن القاسم من عدم إلزامه المشي في المسير والذهاب إنما هو إذا قال: إلى مكة، وأما لو قال: علي أن أسير، أو أذهب إلى الكعبة، لا ينبغي أن يلزمه إتيانها إن شاء ماشياً أو راكباً، دليله من قال: أنا أضرب بمالي حطيم الكعبة أنه يلزمه عند ابن القاسم أن يحج أو يعتمر، كقوله: علي أن آتي المسجد الحرام أن ذلك يلزمه؛ لأنه قد قصد الإتيان إلى البيت. فرع: وإذا ألزمناه الركوب، فحكى ابن المواز عن أشهب أنه لا يجوز له المشي؛ لأنه يخفف عن نفسه مؤونة، وقال اللخمي: لا يجزئه الركوب إذا كان قصده نفقة ماله، وإن كان

قصده الوصول إلى مكة فقط أجزأه. ابن عبد السلام: وهو صحيح لا يخالف فيه أِهب، ورأى جماعة من الشيوخ أن معنى قول أشهب: لا يجوز؛ أي: لا يفعل ذلك ابتداءً، وإن وقع ذلك لم يفده، ثم اختلفوا إن وقع، فقيل: يخرج نفقة ركوبه في هدايا، وقيل: يدفع ذلك لمن ينفقه في الحج بحسب ما كان ينفقه هو. وَيَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ نَوَى، وَإِلا فَمِنْ حَيْثُ حَلَفَ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ حَالِفاً وَهُوَ عَلَى بَرٍّ مَشَى مِنْ حَيْثُ حَنِثَ .... النذر إما معلق أو لا، وعلى كلٍّ فإما أن يكون له نية أو لا، فإن كانت عمل عليها في القسمين باتفاق وأحرى إذا سمي، وإن لم تكن فإن لم يكن معلقاً فمن حيث نذر باتفاق، وإطلاق المصنف قوله: (مِنْ حَيْثُ حَلَفَ) يشمل هذه الصورة ويكون ما ذكره بعد ذلك خاصّاً بالمعلق، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال: المشهور يلزمه من حيث حلف، والتفرقة منسوبة للتونسي، والثالث ذكره ابن بشير، ولو قال المصنف: ثالثها، لكان أجرى على قاعدته، والمشهور أظهر؛ لأن الإنسان إنما يلتزم ما هو معلوم عنده. فرع: فلو كان على المشهور حن الحنث بمكان غير الذي حلف منه، ففي اللخمي: إن كان مثله في المسافة مشى منه: لأن القصد التقرب بمثل تلك الخطى، ولا مزيَّة في ذلك للأراضي، وإن كان أقرب بالمشي اليسير فقيل: لا يجزئه، وقال أبو الفرج: يهدي هدياً ويجزئه، وإن بعد ما بين الموضعين لم يجزئه، إلا أن يكون ممن لا يستطيع المشي في جميع الطريق، فيمشي من موضعه ويهدي، وقاله أصبغ. انتهى بمعناه. وعلى القول بعدم الإجزاء يحتاج أن يرجع إلى موضع الحلف وهو الأصل. وقال أصبغ: إنما يرجع إلى موضع الخلف إن كان قريباً ليس فيه مشقة، وإلا مشى من موضع الحنث وأهدى، فقال: وهذا إن كان يقدر على جميع المنذور؛ يعني: وإن كان لا يقدر فلا معنى لرجوعه، ويذهب إلى مكة

من الموضع الذي هو فيه، ونقل ابن يونس عن ابن المواز أنه قال: إن حنث بغير البلد الذي حلف فيه، وكان لا يقدر على المشي منه فليرجع إليه فيمشي ما قدر، ثم يركب ويهدي. وَفِي جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ الْمُعْتَادِ أَوْ تَخْصِيصِهِ بِمَوْضِعِ الاضْطِرَارِ قَوْلانِ كمن حلف وهو بصقلية، فهل له أن يركب البحر إلى الإسكندرية ثم يمشي لأن تلك عاداتهم، وإليه ذهب أبو بكر بن عبد الرحمن، أو لا يركب من البحر إلا ما يوصله إلى سوسة أو ما قاربها من إفريقية ثم يمشي إلى مكة، وإليه ذهب أبو عمران؟ ابن يونس: وهو الأقرب. ابن بشير: والخلاف إنما هو مع فقد النية، وأما مع وجودها فيرجع إلى نيته وهما على الخلاف في حمل مقتضى الألفاظ على الفوائد، أو على مقتضى اللغة. خليل: ومثل هذا المثال: من حلف وهو بقوص ونحوها، فالمعتاد الركوب في البحر، والاضطرار أن يدور من مصر. فرع: قال مالك في الموازية: وله أن يأخذ طريقاً أقصر. الباجي: ومعناه: إذا كانت كلها معتادة، يريد: وليس له أن يمشي فغير المعتاد. ابن بشير: لو نذر أن يمشي من المدينة إلى مكة على الشام أو العراق لم يلزمه ذلك، ولم ينبغِ له، ولو أراد أن يحلف في طريقه إلى المسجد لتكثر خطاه لما جاء في ذلك من الثواب لكان مخطئاً. انتهى. وَلا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ بِالْبَلَدِ إِلا بِقَصْدٍ أَوْ عَادَةٍ أي: إذا نذر المشي من بلد فلا يتعين عليه أن يمشي من موضع خاص منه إلا أن ينويه، أو تكون عادة الناس جارية بالمشي منه، وكذلك قال عبد الملك.

وَمُنْتَهَاهُ فِي الْعُمْرَةِ السَّعْيُ لا الْحَلْقُ، وَفِي الْحَجِّ طَوَافُ الإِفَاضَةِ لا رُجُوعُهُ، وَقِيلَ: مُنْتَهَاهُ الْجِمَارُ، وَصَوَّبَ اللَّخْمِيُّ وُصُولَ مَكَّةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَزِمَ لأَنَّ الْعَادَةَ الْتِزَامُ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ، أَوْ لأَنَّهَا لا تُدْخَلُ إِلا بهِ .... لما تكلم على مبتدأ المشي تكلم على منتهاه، وجعل منتهاه [252/أ] في العمرة السعي، وفي الحج طواف الإفاضة، ولم يراعِ الحلق في العمرة لأنه ليس بركن، وحكى ابن بشير الاتفاق عليه. خليل: وانظر هل يلزمه المشي حتى يحلق على من رأى أن الحلق فيها ركن. وما ذكره المصنف من أن منتهاه في الحج طواف الإفاضة هو مذهب المدونة قال فيها: وله أن يركب في رجوعه من مكة إلى منى وفي رمي الجمار بمنى، وإن أخر طواف الإفاضة فلا يركب في رمي الجمار. فرع: نص في المدونة على أن له أن يركب في المناهل وفي الطريق لحاجة نسيها. ولمالك قول آخر: أنه لا يركب في ذلك، وأنه إن ركب فيستحب له أن يهدي، وأخذ ابن القاسم بالأول، ولم يحمل أبو عمران هذا على الخلاف وحمله على الاستحباب، واستضعفه صاحب التنبيهات، وزاد في الأم بعد قوله: أنه إن لم يقض فلا يركب في رمي الجمار، وعن ابن القاسم أنه قال: ولا أرى به بأساً. عياض: واختلف الشيوخ في تأويل قول ابن القاسم: ولا أرى به بأساً، هل يرجع إلى المسألة الأولى، وهو قول مالك: لا يركب في رمي الجمار، ويكون خلافاً، وإليه أشار اللخمي، أو يعود على الركوب في حوائجه، وهو تأويل أبي محمد، ويكون وفاقاً لقول مالك؟ قوله: (وَقِيلَ: مُنْتَهَاهُ الْجِمَارُ) أي: ولو طاف طواف الإفاضة، وهذا القول حكاه ابن حبيب عن أصحاب مالك. وحكى اللخمي عن بعض أهل اللم خارج المذهب أنه يركب في جميع المناسك، قال: هو الأصل لأن الناذر إنما قال: علي المشي إلى مكة، فجعل

مكة غاية مشيه، فلا يلزمه أكثر من ذلك. انتهى. وهذا يظهر أن في قول المصنف: (وَصَوِّبَ) تبعاً لابن بشير نظر؛ لأن التصويب إنما يقال حيث يقطع المصوب بالحكم، واللخمي إنما أومأ إلى الترجيح. وقوله: (بِنَاءً ... إلخ) إن قلنا: إن ناذر المشي قد التزم أحد النسكين عرفاً فكأنه نوى المشي في أحد النسكين، وإن قلنا: إن ناذره لم يلتزم أحد النسكين، وإنما لزمه أحدهما؛ لأجل أن مكة لا تدخل إلا به لم يلزمه المشي فيهما لكونهما ليسا منذورين. فقوله: (الْتِزَامُ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ) تعليل للأولين، وإنما يبقى النظر هل يلزمه إلى تمام الأركان، أو إلى تمام العبادة كلها؟ وقوله: (أَوْ لأَنَّهَا لا تُدْخَلُ إِلا بهِ) تعليل لما صوبه اللخمي. وَلَوْ ذَكَرَ مَوْضِعاً مِنَ الْحَرَمِ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مِنَ الْمَشَاعِرِ كَعَرَفَةَ لَزِمَهُ بِنَاءً عَلَيْهِمَا .... تقدم أن المشهور عدم اللزوم، والقول باللزوم على ما ذكره المصنف. ابن عبد السلام: لا أعرفه، وكأنه تبع فيه ابن بشير، وأظنه قصد إلى قول أصبغ فغير فيه لفظة القرية بلفظة الحرم؛ لأنه قال: يلزمه كل ما هو ادخل القرية والصفا والمروة والحطيم والأبطح والحجون وأبي قبيس وقعيقعان وأجياد، ولا يلزمه ما هو خارج عن قرية مكة. خليل: والظاهر أن مراد المصنف وابن بشير بهذا القول قول ابن حبيب وهو أنه يلزمه إذا سمي الحرم أو ما هو فيه، ولا يلزمه ما هو خارج منه ما عدا عرفات، والقول الثالث لأشهب. وقوله: (بِنَاءً عَلَيْهِمَا) أي: فابن القاسم رأى أن العادة لم تقض بالتزام أحد النسكين إلا إذا ذكر البيت أو ما يشتمل عليه. ورأى ابن حبيب وأصبغ كون العادة أن الحرم أو

مكة لا يدخل إلا بأحد الأمرين ونيته تقتضي المشي إلى مكة، أو إلى شعيرة من شعائرها فيلزمه المشي، والقول الثالث خارج عن فرض المسألة؛ لأن عرفة ليست من الحرم، ووجهه غير خفي. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئاً فَفِيهَا: لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَلْزَمَهُ أَشْهَبُ مَكَّةَ إنما لم يلزمه في المدونة شيء لكون المشي بمفرده ليس بقرية، ولأن هروبه من التعيين دليل على عدم الالتزام، ورأى أشهب أن هذا إذا صدر فُهِم منه عرفاً التزام المشي إلى مكة، ولعله إنما نسب المسألة للمدونة لإشكالها؛ لكونه لم يحمل لفظه على العرف. وَإِذَا لَمْ يَمْشِ عَلَى الْمُعْتَادِ بِطُولِ الْمُقَامِ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَاراً فَفِي إِجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَشْيِ قَوْلانِ ... حاصله أنه إن مشى على العادة أجزأه، ولا تضره الإقامة المعتادة كالركب المغربي يقيم بمصر شهراً أو نحوه ليأتي إبان الخروج، وكالإقامة بالعقبة ونحوها، وهذا يفهم من قوله: (وَإِذَا لَمْ يَمْشِ عَلَى الْمُعْتَادِ) يعني: وأما لو مشى على المعتاد أجزأه، ثم فصل في الذي لم يمش على المعتاد فقال: إن كان لضرورة أو عدم رفقة أجزأه المشي اتفاقاً، وإن لم يكن لضرورة فقولان، وهما روايتان بالإجزاء في الموازية، وعدمه في الواضحة. ابن حبيب: وهو بمنزلة من عليه صوم شهرين متتابعين. ورأى اللخمي أن الإجزاء هو الجاري على قول مالك وابن القاسم في المدونة فيمن نذر صوم سنة أن له أن يأتي بها غير متتابعة. وصوبه ابن راشد؛ لأن يمينه إنما تضمنت المشي، والتتابع أمر زائد فلا يصار إليه إلا بدليل. وقال ابن عبد السلام: والظاهر عدم الإجزاء لأن عرف الناس في السير التوالي، وأشار إلى أن تخريج اللخمي ظاهر، لولا ما ذكرناه من العادة.

فَإِنْ كَانَ مُعَيَّناً فَفَاتَهُ أَثِمَ، [252/ب] وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ أي: فإن كان العام الذي نذر فيه الحج معيناً فلم يخرج أو خرج وأقام في الطريق مختاراً حتى فاته الحج، ويبين أن مراد المصنف: أقام اختياراً قوله: (أَثِمَ). ابن بشير وابن شاش: وأصل المذهب وجوب القضاء، وكلاهما يقتضي أنه لا نص فيهما، وكلام المصنف يقتضي وجود النص، وان فهيا قولاً آخر بعدم القضاء، وكأنهما أشارا بأصل المذهب إلى مسألة من نذر صوم يوم بعينه وأفطر فيه متعمداً مختاراً فإنه يقضي. خليل: وقد تقدم في الصوم إذا نذر صوم يوم معين ثم أفطر فيه لعذر أربعة أقوال، المشهور: نفي القضاء، وثالثها: يقضي في النسيان دون المرض والحيض، ورابعها: يقضي إن لم يكن لليوم فضيلة، فانظر هل تأتي هنا؟ ويأتي الرابع هنا بأن تكون الوقفة جمعةن أوي فرق بشدة الحج وخفة الصوم، أو لحصول العذر في مسألة الصوم دون هذه، والله أعلم. وَإِذَا رَكِبَ لِعَجْزِ فَإِنْ كَانَ يَسِيراً اغْتُفِر وَعَلَيْهِ دَمٌ، ثُمَّ إِنْ قَدَرَ مَشَى، وإِلا اسْتَمَرَّ إِلا أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ وَيَشْهَدَ الْمَنَاسِكَ وَالإِفَاضَةَ رَاكِباً، فَإِنَّهُ كَالْكَثِير .... الناذر للمشي يلزمه مشي الجميع، فإن عجز ركب، فإن كان ما ركبه يسيراً لم يؤمر بالرجوع للحرج ويسارة المتروك، ولزمه هدي؛ لنقصه ذلك المشي. قوله: (ثُمَّ إِنْ قَدَرَ) يعني: إذا زال عذره بعد الركوب اليسير عاد إلى المشي، وإن لم يزل استمر، ثم ينظر فيما ركبه، هل هو يسير أو كثير؟ ثم استثنى من اغتفار اليسير أن يكون ركوبه من حين خروجه إلى عرفة حتى يفرغ من طواف الإفاضة، فإنه وإن كان يسيراً فهو ملحق بالكثير، ونحوه في المدونة؛ لأن هذه الأفعال هي المقصودة، فصارت لذلك كالكثير. ووقع في رواية الأندلسيين للمدونة بإثر الحكم على أن المشي في المناسك كالكثير، وأنه يرجع لمالك: أفترى عليه أن يهدي؟ قال: أحب ذلك من غير أن أوجبه عليه. ولم يذكر هذه لرواية مختصر والقرويين كحمديس وابن أبي زيد.

عياض: والرواية صحيحة معناها في العتبية وكتاب محمد: فإن قلت: إذا كان كالكثير فلم لا أوجب الهدي لتفرقة المشي كما في سائر صور الكثير؟ فالجواب: إنما جعله هنا مستحبّاً لاختلاف العلماء؛ لأن منهم من لا يرى المشي إلا إلى مكة فقط، والله أعلم. وَقَالُوا: مَا دُونَ الْيَوْمِ يَسِيرٌ، وَما فَوْقَ الْيَوْمَيْنِ كَثِيرٌ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلانِ، وَالْحَقُّ: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الْمَسَافَةِ ... تصوره واضح، وحكى بعضهم أنه يرجع في ركوبه أقٌل من اليوم، وقال بعضهم: اليوم والليلة قليل، على ما في المدونة والعتبية قرب المكان أو بعد، وعليه الهدي. وروى ابن وهب: ولا هدي عليه. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسِيراً رَجَعَ فَيَمْشِي مَا رَكِبَ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ بَعِيداً جِدّاً فَلا يَرْجِعُ فَإِنْ عَجَزَ ثَانِياً لَمْ يَرْجِعُ .... أي: فإن كان ركوبه كثيراً رجع؛ لأن المشي في ذمته فلا يخرج عن عهدته إلا بالإتيان به، وظاهره أنه يرجع ويمشي أماكن ركوبه، سواء كان ركوبه في أول مراتب الكثرة أم لا. الباجي: ورواه ابن المواز عن مالك في الذي يركب عقبة ويمشي أخرى أنه يرجع فيبتدئ المشي كله. وفي الواضحة عن مالك: يرجع فيمشي ما ركب من غير تفصيل. انتهى. وهذا هو ظاهر المدونة لقوله: وعرف أماكن ركوبه من الأرض ثم يعود ثانية فيمشي أماكن ركوبه، ولا يجزئه أن يمشي عدد أيام ركوبه؛ إذ قد يركب موضعاً ركب فيه أولاً. خليل: وقد يقال ما في الموازية ليس بخلاف وإنما أمره مالك بمشي الطريق كله؛ لأنه لا يتحقق بطريق العادة ضبط مواضع مشيه من ركوبه، لا سيما إذا كان الموضع بعيداً جدّاً. وحمل اللخمي ما في الموازية على أنه كان قادراً على الصبر على الركوب في موضع ركوبه، قال: وأما إذا كانت تلك قدرته فلا يكلف مشي غير ما ركب. وعن ابن الماجشون في الذي ركب جل الطريق أن يرجع فيمشي الطريق كله.

قوله: (وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ بَعِيداً جِدّاً فَلا يَرْجِعُ) حاصله أن من ركب كثيراً إن كان موضعه قريباً كالمدينة ونحوها رجع ثانياً باتفاق، وإن كان بعيداً فالمشهور الرجوع، وقيل: لا يرجع. وظاهر كلامه أن الخلاف موجود في البعد مطلقاً. وفي اللخمي والبيان: واختلف إذا كان بعيداً مثل مصر ونحوها. وظاهر المذهب الرجوع. ابن عبد السلام: والقول بعدم الرجوع لمالك في كتاب ابن مزين، وأما إن كان بعيداً كإفريقية والأندلس فلا يختلف في عدم رجوعه. ابن رشد: لأن روعه ثانية من إفريقية أشق من رجوعه ثالثة من المدينة؛ أي: والرجوع ثالثة ساقط باتفاق كما أشار إليه المصنف بقوله: (فَإِنْ عَجَزَ ثَانِياً لَمْ يَرْجِعْ). واستحسن اللخمي وغيره ما في كتاب ابن مزين، وهو الذي تميل إليه النفس؛ إذ المشي في نفسه ليس بعبادة، وإنما وسيلة، والمقصد الحج أو العمرة وقد أتى به، والقاعدة أن الوسيلة تبع [253/أ] فإذا أتى بالمقصد فلا اعتبار بالتبع، وعلى هذا كيف يؤمر بالرجوع؟ وأيضاً فإنا إنما ألزمنا الناذر المشي إما لأن نذره اقتضى التزام أحدهما، وإما لأن نذره اقتضى دخول مكة، وهو لا يدخلها إلا بأحد النسكين، وعلى كل تقدير فقد أتى بما التزمه. تنبيهات: الأول: إنما يؤمر بالرجوع من كان حين اليمين يظن أنه يمشي جميع الطريق وعجز، وأما لو علم من نفسه أنه لا يطيق ذلك، إما لكبر أو لضعف جسم، أو نوى أنه لا يمشي إلا ما يطيقه ولو كان شابّاً فلا شيء عليه ولا هدي ولا رجوع، وفي المدونة: ولو علم حين أول خروجه أنه لا يقدر أن يمشي كل الطريق في ترداده إلى مكة مرتين، أو كان شيخاً زَمِناً، أو امرأة ضعيفة، أو مريضاً آيساً من البرء، فلابد أن يخرج أول مرة ولو كان راكباً، ويمشي ولو نصف ميل، ثم يركب بعد ذلك ويهدي.

والثاني: حيث قلنا يرجع فالمراد إنما يرجع في حج أو عمرة وليس المراد أن يمشي في حال رجوعه من سفره باتفاق. الثالث: إنما يرجع إذا ظن أنه يقدر في الثانية على تمام المشي، وأما لو علم أنه لا يقدر ثانياً على تمام المشي فإنه يقعد ويهدي قاله في المدونة. ابن المواز: ويجزئه هدي واحد. فَإِنْ رَكِبَ مُخْتَاراً فَفِي كَوْنِهِ كَالْعَاجِزِ قَوْلانِ القول بأنه كالعاجز لابن المواز. ومعنى كالعاجز أنه يفرق بين أن يكون يسيراً فلا يرجع، وبين أن يكون كثيراً فيرجع، الآخر لابن حبيب حكاه عن بعض أصحاب مالك، وعليه فيرجع في اليسير والكثير، وأشار إلى أنه كمن فرق بين صيام التتابع مختاراً، بخلاف ما إذا كان ركوبه لعجز. ورد بأنه لو كان ركوبه كالصيام لزم أن يتعين العام الثاني للقضاء في حق العاجز، كما يتعين في زمان الصحة في حق من قطع صيام التتابع لمرض، ولا نعلم من يقوله. ابن يونس: وقول ابن حبيب خلاف ظاهر المدونة، فلا فرق على مذهب المدونة بين من ركب لعذر أو لغيره. وَلَهُ جَعْلُ مَشْيِهِ الثَّانِي فِي غَيْرِ مَا كَانَ الأَوَّلُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِذَا كَانَ نَذْرُهُ مُبْهَماً يعني: إذا نذر مشياً مبهماً، ولم يقل في حج ولا عمرة، فله أن يجعله في حج أو مرة، فإذا عجز وأمر بالرجوع فله أن يجعل مشيه الثاني في غير مكان الأول من حج أو عمرة وهذا مذهب المدونة، ولم يجز له سحنون أن يجعل مشيه الثاني في عمرة إذا كان الأول في حج. وعلى المشهور فقال ابن الماجشون: إنما يكون له ذلك حيث يكون ركوبه في الحج في غير المناسك، وأما إن عجز في خروجه لعرفة وطواف الإفاضة لم يكن له أن يجعل الثاني في عمرة؛ يريد: لأن المشي فيهما واجب، ولا يكون إلا في حج، وتأول ابن أبي زيد وصاحب النكت المدونة عليه، وتأولها بعضهم على أن له أن يجعل مشيه الثاني في غير ما

كان الأول وإن كان قد مشى في مناسك حجه أولاً. وقال اللخمي: قول عبد الملك يصح على مذهب ابن القاسم في مسألة الفوات يعني التي ذكرها المصنف بعد، وليس ذلك على مذهب مالك فيها. أَمَّا لَوْفَاتَهُ الْحَجُّ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ وَقَضَى رَاكِباً وَيُهْدِي لِفَوَاتِهِ، وَقِيلَ: يَمْشِي الْمَنَاسِكَ أي: فإن أحرم بالحج في النذر المبهم ففاته فإنه يتحلل بعمرة ويمشي فيها إلى تمام السعي وينقضي نذره، ثم يحتاج إلى أن يقضي الحج على حكم الفوات، وله الركوب فيه إلى أن يصل إلى مكة، ثم هل له أن يخرج للمناسك راكباً وهو مذهب المدونة؛ لأن النذر قد انقضى وهذا إنما هو للفوات، أو لا يجوز له الركوب ويلزمه المشي في المناسك؛ لأنه لما أحرم أولاً بالحج فكأنه التزم المشي في المناسك؟ ونسبه ابن يونس لابن القاسم وسحنون، قال: وهو أصح. وَأَمَّا لَوْ أَفْسَدَهُ بالْوَطْءِ أَتَمَّهُ، وَقَضَى مَاشِياً مِنَ الْمِيقَاتِ، وَعَلَيْهِ هَدْيُ الْفَسَادِ وَهَدْيُ تَبْعِيضِ الْمَشْيِ ..... يعني: فلو كان الإفساد عوض الفوات لزمه إتمام كما في سائر صور الفساد، ولم يصرح هل يتمادى ماشياً أو راكباً؟ ابن هارون: والأقرب أنه لا يلزمه المشي؛ لأن إتمامه ليس من النذر في شيء، وإنما هو لإتمام الحج، ثم إذا قضى الحجة لم يلزمه المشي فيما قبل الميقات؛ لأنه قد مشاه أولاً والفساد لم يتسلط إلا على ما بعد الإحرام، وينبغي على هذا لو أحرم أولاً قبل الميقات أن يخرج منه ثانياً ويمشي منه ليصح له المشي الذي فسد في الأول، ولا إشكال أن عليه هَدْيَينِ؛ أحدهما للفساد، والثاني لتفريق المشي. وَلَوْ مَشَى الرَّاجِعُ الْجَمِيعَ لَمْ يَسْقُطِ الْهَدْيُ عَلَى الأَصَحِّ مقابل الأصح قول ابن المواز، والأصح للمتأخرين وقالوا: كيف يسقط الهدي المقدر في ذمته بمشي غير واجب.

ابن بشير: ومثلوه بمن صلى صلاة سها فيها، فوجب عليه سجود السهو فأعادها ثانياً، أن السجود يتقرر في ذمته. وفرق بعضهم بأن المصلي أخطأ في الإعادة وإنما تقررت في ذمته سجدتا السهو، فإذا أعادها أتى بما لم يؤمر به فلم تسقط الإعادة ما تقرر في ذمته، وفي الحج هو مأمور بالعودة فإذا أعاد واستكمل المشي فقد استوفى [253/ب] ما في ذمته من المشي في عودة مأمور بها، ففارق مسألة الصلاة. ومن نظرائها إذا أحرم بالحج بعد أن سعى للعمرة وقبل أن يحلق لها، وحكمنا بالتزام الدم بسبب تأخير الحلاق، ولو تعدى فحلق فهل يسقط عنه دم تأخير الحلاق أم لا؟ ونظير ذلك: إذا قام من اثنتين واستقل قائماً ثم رجع إلى الجلوس، هل يسقط عنه السجود القبلي لأنه زاد أو نقص أم لا؟ وإذا تعدى الميقات ثم أحرم ورجع هل يسقط عنه دم التجاوز؟ المنصوص فيها عدم السقوط وخرَّج بعضهم السقوط من مسألة الصلاة التعدي بالحلق. وَلَوْ نَوَى الْحَجَّ لَمْ تُجْزِهِ الْعُمْرَةُ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ عَلَى الْمَشْهُورِ هذا قسيم قوله: (وله جعل مشيه الثاني في غير ما كان الأول من حج أو عمرة، إذا كان نذره مبهماً) أي: وإن كان نذره معيناً، إما باللفظ وإما بالنية، فإن عين أولاً الحج لم يجزه أن يرجع ثانياً في عمرة باتفاق؛ لعدم استلزام الحج للعمرة، واختلف إذا عين أولاً المرة هل له أن يجعل مشية الثاني في حج؟ مذهب المدونة لا؛ لتغايرهما، ومقابل المشهور لابن حبيب؛ لأن الحج مشتمل على العمرة وزيادة. واعلم أن لهذه المسألة صورتين: الأولى: إذا عجز ثم رجع، كما ذكرنا، وقد ذكر في المدونة المسألة على هذا الوجه، وكذلك ذكرها ابن يونس، وحكى قول ابن حبيب.

والثانية: هل له ذلك ابتداءً أو لا؟ وكذلك ذكرها ابن بشير وذكر أن المشهور: لا ينتقل عما نواه، وأن الشاذ: له أن ينتقل عن العمرة إلى الحج. وذكر اللخمي قول ابن حبيب بالإجزاء في الوجهين في الابتداء وفي العجز، والأظهر حمل كلامه على العجز؛ لأنه قسيم كلامه الأول ليوافق فرض المدونة، وقد يقال: بل الأظهر أن يحمل كلام المصنف على مجموع الصورتين ليكون أعم فائدة. وَلِمَنْ جَعَلَهُ لِعُمْرَةٍ أَنْ يُنْشِئَ الْحَجَّ إِذَا أَكْمَلَهَا، وَيَكُونَ مُتَمَتِّعاً بِشُرُوطِهِ ولمن جعل مشيه في عمرة إما لأنه عين ذلك ابتداءً أو اختار ذلك في النذر المبهم أن ينشئ الحج إذا فرغ من عمرته ويكون متمتعاً، يجب عليه دم التمتع بالشروط المتقدمة في كتاب الحج، وهذا في غير الضرورة، وأما الضرورة فيبقى الأمر فيه على الخلاف في الحج هل هو على الفور أم لا؟ فإن قلنا على الفور وجب عليه الإحرام بالحج، وإلا فلا. أَمَّا لَوْ حَجَّ نَاوِياً نَذْرَهُ وَفَرِيضَتَهُ مُفْرِداً أَوْ قَارِناً فَأَرْبَعَةٌ: لا يُجْزِئُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، والْمَشْهُورُ: يُجْزِئُهُ عَنِ النَّذْرِ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الْفَرْضِ، وَيُجْزِئُهُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنِ النَّذْرُ بالْحَجِّ مُعَيَّناً .... هذه المسألة لها صورتان كما سبق وجمعهما لاتفاق حكمهما: الأولى: أن يحج مفرداً ينوي بتلك الحجة فرضه ونذره. والثانية: أن يحج قارناً ينوي العمرة للنذر والحج للفرض، وذكر اللخمي فيهما أربعة أقوال: الأول: لا يجزئ عن واحد منهام فيهما، ونسبه اللخمي لمالك. الثاني: وهو المشهور، وهو مذهب المدونة: أنه يجزئ عن النذر في الصورتين، قال في المدونة: وعليه قضاء الفريضة قابلاً.

الثالث: عكسه للمغيرة: يجزئ عن الفريضة فقط. عبد الملك: وبه أقول. والرابع: لابن المواز فسر به كلام ابن القاسم في المدونة: إن كان نذره مبهماً بأن قال: علي المشين ولم يقل في حج أو عمرة أجزأه عن حجه ونذره وعليهما يعود الضمير من قوله: (عَنْهُمَا)، وإن كان نذره بالحج معيناً، ولم يجزه عن واحد منهما ووقع في بعض النسخ: (ويجزئ عنهما) وليست صحيحة لعدم مطابقتها للنقل. اللخمي: وأرى إذا قرن أن يجزئ عن حجة الإسلام وعن نذره، قياساً على من أتى بحجة الإسلام قارناً، فإنه يجزئه عن حجة الإسلام ويكون قارناً، وفرق بأن العمرة هنا واجبة، والأصل أن الفعل الواحد لا يجزئ عن واجبين بخلاف العمرة في المسألة الأخرى. وقول ابن المواز منصوص في الصورتين، فقد ذكره ابن يونس في الصورة الثانية؛ أعني: إذا قرن. وذكره الباجي في الصورة الأولى وعلله بأنه إذا قيده بالحج فقد نذر حجة تامة، فلما قرنها بغيرها كانت ناقصة، وإذا أطلق لم يلتزم حجة كاملة فلم يضره ما أشرك معها. ابن يونس: ولم يختلف في قضاء الفريضة قول مالك وأصحابه، إلا عبد الملك فإنه روى عن مالك أنه يعيدهما جميعاً استحباباً، وقاله أصبغ، وقال بعضهم: وقول ابن المواز بعدم الإجزاء للحج والنذر في التعيين خلاف قول ابن القاسم في كتاب الحج الأول من المدونة في مسألة العبد يحرم بالحج فيحلله سيده ثم يعتقه فينوي القضاء والفريضة أن يجزئه للقضاء لا للفريضة. ابن يونس: وليس الأمر كما قال؛ لأن العبد لم ينذر حجه الأول ماشياً كما نذره الحر وإنما أحرم بحجه تطوعاً، فهو كمن نذر مشياً، فيمشي في حجة ينوي بذلك فرضه ونذره، فهذه تجزئه عن نذره لا فريضته، ولو نذر العبد أن يمشي فمشى في حج فحلله سيده ثم عتق فمشى في حج ينوي به القضاء والفريضة، لوجب ألا يجزئه عن واحد منهما على قول ابن القاسم، والحر والعبد في هذا سواء.

فرع: قال [254/أ] ابن المواز: إذا مشى لنذره حتى بلغ ميقاته فأحرم بحجة نوى بها فرضه فإنها تجزئه لفرضه، ثم يحرم بالعمرة بعد ذلك من ميقاته، ليمشي ما بقي له من نذره. وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنِ النَّاذِرُ بِلَفْظِ الإِحْرَامِ وَقْتاً لَهُ فَفِي كَوْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ قَوْلانِ، وَفِيهَا يُحْرِمُ بالْعُمْرَةِ عَلَى الْفَوْرِ إِلا إِذَا عَدِمَ الصَّحَابَةَ، وَلا يَلْزَمُهُ إِحْرَامُ الْحَجِّ إِلا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقُيِّدَ إِنْ كَانَ يَصِلُ، وَإِلا فَفِي تَاخِيرِ الإِحْرَامِ قَوْلانِ .... مثاله: إن كلمتُ فلاناً فأنا محرم بحجة أو عمرة، فإن نوى تقديماً أو تأخيراً أو صرح بذلك لم يلزمه إلا ما نوى أو صرح به، وإن لم يعين شيئاً لا بلفظه ولا بنيته، لا كما يفهم من ظاهر كلام المصنف من قصر ذلك على اللفظ، وقد صرح في المدونة بأن النية مساوية للفظ في التعجيل والتأخير، والقول بفورية الإحرام لعبد الوهاب وعلله بأن النذور المطلقة محملها على الفور، أو عقب السبب الذي علق عليه. ابن عبد السلام: والقول الآخر ظاهر الروايات. وتأول الباجي قول عبد الوهاب على الاستحباب. ابن عبد السلام: وهو الصحيح؛ لأن المستلزم بالنذر أحد النسكين وهو أعم من الفور والتراخي، وذكر المصنف مذهب المدونة لتضمنه التفصيل، وفرق الشيخ أبو محمد بين الحج والعمرة بأن العمرة لا وقت لها معين فوقتها حنثه، والحج له أشهر معلومات يكره تقديمه عليها، وفي انعقاده في المذهب وخارجه خلاف، فلا يحرم حتى تدخل، وتبعه في هذا الفرق اللخمي وغيره، وقوله في المدونة في العمرة: "إلا إذا عدم الصحابة" خالف فيه سحنون ورأى أنه يحرم بالعمرة وقت حنثه، وإن لم يجد صحابة، وقيد الشيخ أبو محمد قوله في المدونة في الحج: "أن يؤخر إحرامه إلى أشهر الحج" بمن كان يصل من بلده في أشهر الحج، وأما إن كان لا يصل فهذا يلزمه الخروج والإحرام قبل أشهر الحج من وقت حنثه.

ابن يونس: يريد الإحرام من وقت يصل فيه إلى مكة ويدرك الحج، وحكى لنا عن أبي الحسن القابسي أنه قال: بل يخرج من بلده غير محرم، فأينما أدركته أشهر الحج أحرم. ابن يونس: وقول أبي محمد أولى لأن منى قوله: أنا محرم بحجة؛ أي: إذا جاء وقت خروج الناس خرجت أنا محرماً، على ذلك يحمل قوله ويدل لفظه، وفي كتاب ابن المواز ما يؤيده قال فيه: في موضع يحرم في أشهر الحج، وقال في موضع آخر: يحرم في أول الحج، فهذا يدل على صحة تأويل أبي محمد وهو معنى قول المصنف: (وَقُيِّدَ إِنْ كَانَ يَصِلُ، وَإِلا فَفِي تَاخِيرِ الإِحْرَامِ قَوْلانِ). وَخُرِّجَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ فِي الْفَوْرِيَّةِ لا فِي الإِحْرَامِ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ التَّرَاخِي أي: وخرج فيها إذا قال "لله علي المشي" قول بفورية المشي من القول بفورية الإحرام بجامع القرية. وما حكاه من أن المشهور التراخي ثبت كذلك في نسخة ولم أقف عليه، ولا يلزم على ما ذكره المصنف أن يكون المشهور كذلك في الإحرام؛ لأن الإحرام ركن والمشي وسيلة والوسائل أخفض رتبة من المقاصد. وَفِيهَا: أَنَا مُحْرِمٌ، أَوْ أُحْرِمُ يَوْمَ أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ مُحْرِماً يَوْمَ يَفْعَلُهُ، وَفَرَّقَ سُحْنُونٌ وَقَالَ: يَكُونُ بِقَوْلِهِ "مُحْرِمٌ" مُحْرِماً. فَقِيلَ: أَرَادَ الْفَوْرَ فَيُنْشِئُ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِنَفْسِ حِنْثِهِ ... ابن راشد: وإذا قال: إن كلمت فلاناً فأنا أحرم بحجة أو عمرة فكلمه، فلا خلاف في أنه لا يكون محرماً حتى ينشئ الإحرام، وإن قال: أنا محرم، فقال مالك: لا يكون محرماً حتى ينشأ الإحرام، وقال سحنون: يكون محرماً. واختلف الشيوخ في معناه على ما ذكره المصنف، واستشكل اللخمي كونه محرماً بنفس الحنث، وهو حقيق بالإشكال؛ لأن الإحرام عبادة تفتقر إلى نية، ومن شرط العبادات كالصلاة والصيام أن تكون النية مقارنة

للفعل أو مقاربة له، وقد تمضي ليمينه السنون ثم يحنث، فإن قلت: ما الفرق بين هذه المسألة فإنه ألزمه في المدونة الإحرام على الفور، وبين المسألة المتقدمة وهي قوله: إن كلمت فلاناً فأنا محرم، وقد تقدم أنه في المدونة لم يلزمه الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج؟ قيل: لأن ذكره اليوم قرنية في إرادة الفور لحصره الزمان بخلاف المسألة الأخرى. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ النَّائِيَةِ عَنْ مَحَلِّهِ لَمْ يَلْزَمْهُ وَصَلّى مَكَانَهُ، إِلا فِي أَحَدِ الثَّلاثَةِ الْمَسَاجِدِ ... لما في مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى". ورأى العلماء أن هذا مخصِّص لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وإنما اختص اللزوم بهذه الثلاثة لزيادة الفضل فيها، ولا يلحق بها مسجد قباء على المشهور، خلافاً لابن مسلمة. فَلَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الثَّلاثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ المشهور مذهب المدونة، وقال ابن وهب: يلزمه المشي، واستحسنه اللخمي والمازري وغيرهما؛ لأنه طاعة، فيجب الوفاء بها وتبع المصنف هنا ابن بشير، فإنه ذكر أن المشهور عدم لزوم المشي في الثلاثة المساجد، لكن إنما فرض المسألة في المدونة وغيرها في مسجد المدينة وبيت المقدس وسكت عن مسجد مكة. ونص إسماعيل على المساواة وأنه إذا نذر المشي [254/ب] إلى المسجد الحرام للصلاة لا للحج لم يكن عليه أن يمشي ويركب إن شاء، ولا يدخل إلا محرماً، وكلام صاحب الإكمال يقتضي أن قول إسماعيل مخالف للمذهب ولفظه: فمن قال: لله علي صلاة في أحدها – أي: المساجد الثلاثة – وهو في بلد غير بلادها فعليه إتيانها، وإن قال: ماشياً، فلا يلزمه المشي إلا في حرم مكة خاصة، وأما المسجدان الآخران فالمشهور عنه أنه لا يلزمه المشي إليهما ويأتيهما راكباً، وقال ابن وهب:

بل يأتيهما ماشياً، وهو أقيس لاتفاقهم على أن من قال: علي المشي إلى مكة أن عليه أن يمشي إليها، ثم ذكر قول القاضي إسماعيل. فَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَرِيباً جِدّاً فَقَوْلانِ، ثُمَّ فِي الْمَشْىٍ قَوْلانِ أي: فلو كان المسجد الذي نذر الإتيان إليه قريباً لا يحتاج إلى شد الرحال فقولان: ظاهر المدونة أنه لا شيء عليه؛ لقوله: ولو نذر الصلاة في غيرها من مساجد الأمصار صلى بموضعه ولم يأته، ونحوه في الرسالة؛ لقوله: وأما غير هذه الثلاثة المساجد فلا يأتيها ماشياً ولا راكباً لصلاة نذرها وليصل بموضعه. ابن المواز: قيل: إلا أن يكون المسجد الذي نذر أن يأتيه قريباً مثل الأميال اليسيرة، فليأته ماشياً ليصلي فيه كما جعل على نفسه والمشي في ذلك ضعيف، وقال ابن حبيب: إن كان المسجد الذي نذر أن يأتيه ماشياً معه في موضعه، ومثل مسجد جمعته أو مسجده الذي يصلي فيه الصلوات الخمس فيلزمه أن يمشي إليه ويصلي فيه ما نذر، وقاله مالك، واستحسن اللخمي وغيره هذا القول عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وحديث: "لا تشد الرحال" لا يعارضه، وما ذكرناه من ظاهر المدونة هو مقتضى فهم اللخمي وابن يونس وغيرهما، كذكرهم هذين القولين بعد لفظ المدونة، وانظر هذا الفهم مع ما قاله في المدونة في باب الاعتكاف: من نذر جوار مسجد مثل جوار مكة لزمه ذلك في أي البلدان كان، إذا كان ساكناً بالبلد، ولم أر من قال: يلزمه الذهاب ولا يلزمه المشي كما قال المصنف، والله أعلم. وَلَوْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا وَالْتَزَمَ الآخَرَ لَزِمَهُ عَلَى الأصَحِّ، وَالْمَشْهُورُ إِلا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَفْضُولاً ... يعني: لو كان في أحد المساجد الثلاثة ونذر أن يأتي الآخر فالمشهور: إن كان في مفضول والتزم الأفضل لزمه، وإن كان بالعكس لم يلزمه، وهذا القول حكاه اللخمي ولم

يذكر سواه؛ لأنه قال: إن كان بمكة أو المدينة فنذر الصلاة بمسجد بيت المقدس صلى بموضعه وأجزأه، وإن كان مقدسياً ونذر الصلاة بمكة أو المدينة أتاهما، وإن نذر مكي الصلاة بمسجد المدينة أو العكس أتاه، وذلك أحوط ليخرج من الخلاف، وقياس قول مالك يأتي المكي المدينة بخلاف العكس. انتهى. المازري: وقال بعض شيوخنا وذكر اللفظ المتقدم: وعلى هذا يكون المصنف شهر قول اللخمي، لكن قال ابن عبد السلام: إن غير واحد يرى أنه المذهب. ابن بشير: والظاهر من المذهب أنه يلزمه الإتيان إلى أحد هذهالمساجد، وإن كان الموضع الذي هو فيه أفضل من الموضع الذي التزم المشي إليه، وهذا هوا لأصح الذي ذكر المصنف وكأن المصنف – والله أعلم- صححه لأن نذر ذلك طاعة ومن نذر أن يطيع الله فليطهع، وقد ألزم في المدونة المكي والمدني إذا التزما رباطاً بموضع أن يأتياه وإن كانت مكة والمدينة أفضل منه. ابن عبد السلام: ولا أذكر هذا الأصح لغير ابن بشير، فإن قلت: ظاهر كلام المصنف أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأصح اللزوم مطلقاً، ومقابله، والمشهور التفصيل فالجواب: نعم هو كذلك لكن لم أرَ القول بعدم اللزوم مطلقاً، وعلى هذا فالمشهور هو مقابل الأصح، والله أعلم. وَالْمَدِينَةُ أَفْضَلُ ثُمَّ مَكَّةُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ لا خلاف في أفضلية مكة والمدينة على بيت المقدس، وإنما اختلف العلماء في مكة والمدينة، ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم فالإجماع على أنه أفضل بقاع الأرض كلها، نقله في الإكمال، والمشهور من المذهب أن المدينة أفضل، وهو قول أكثر أهل المدينة، قوال ابن وهب وابن حبيب: مكة أفضل. قال في الإكمال: وهو قول أهل مكة والكوفة والشافعي.

فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوْ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَنْوِ الصَّلاةَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلافِ أَنْ يُسَمِّيَ مَسْجِدَيْهِمَا ... يعني أنه قال: علي المشي إلى المدينة أو المقدس، فإن نوى الصلاة أو ذكر مسجديهما وإن لم ينو الصلاة لزمه الذهاب، وإن لم يحصل أحدهما لم يلزمه؛ لأن المشي لا يلزم إلا أن يكون ربة؛ إذ قد يراد به التجارة وغير ذلك، وإذا احتمل ذلك فالأصل براءة الذمة فلا تعمر بالشك. واستشكل شيخنا رحمة الله وابن عبد السلام عدم إلزامه؛ لأن المتبادر إلى الذهن والعرف إنما يقصد هذان المكانان للصلاة في مسجديهما، فكان ذكر البلدين كذكر المسجدين لدلالة الملزوم على لازمه. قال شيخنا رحمة الله: وكيف يطيب على نفس مسلم أن يأتي المدينة ولا يصلي في مسجد نبيه، ولا يسلم على وسيلته ووسيلة أبيه آدم عليه الصلاة والسلام [255/أ]. وَإِذَا نَذَرَ هَدْياً مُطْلَقاً، فَالْبَدَنَةُ أَوْلَى، وَالْبَقَرةُ وَالشَّاةُ تُجْزِئُ قوله: (وَإِذَا نَذَرَ هَدْياً مُطْلَقاً) يحتمل أن يريد به من غير تعيين، ويحتمل أن يريد به سواء كان معلقاً أو لا، وما ذكره المصنف من أن البدنة أولى والبقرة الشاة تجزئ نص عليه في المدونة في الحج الثاني، ووقع في كتاب النذور أن من قال: إن فعلت كذا فعلي هدي، فإن نوى شيئاً فهو ما نوى وإلا فعليه بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد وقصرت النفقة رجوت أن تجزئه شاة، ورجعها مالك وقال: البقر أقرب شيء بالإبل، واختلف الشيوخ في الموضعين فذهب اللخمي إلى أن ذلك اختلاف قول، ويخرج من كل واحدة قول في الأخرى، وأشار إلى أنه يمكن أن يجري فيها الخلاف ايضاً من الخلاف فيمن قال: علي صوم شهر وصام بغير الهلال هل يلزمه ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون؟ وهذب جماعة إلى أنه وفاق واختلف هؤلاء على مذهبين، حمل التونسي ما في النذور على الاستحباب، وفرق بعضهم بينهما بأن هذه يمين والتي في كتاب الحج بغير يمين، فلذلك كانت أخف.

ابن يونس: وقيل: بل ذلك اختلاف قول، ولا فرق بين ما عقد بيمين أو كان نذراً، وقد نقل أبو محمد هذه؛ أي: ما في النذور. وإن قال: علي هدي، ثم ذكر الجواب فدل على أنهما عنده سواء، وكذلك في كتاب محمد وهو الصواب فاختار أنهما اختلاف كاللخمي، ووقع في بعض النسخ: (وإذا نذر هدياً مطلقاً فقولان) وهي ظاهرة مما ذكرناه. فَإِنْ نَذَرَ بَدَنَةً فَقَصَّرَ عَنْهَا فَالْمَشْهُورُ: بَقَرَةٌ، فَإِنْ قَصَّرَ عَنْهَا فَالْمَشْهُورُ: سَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ قَصَّرَ فَالْمَشْهُورُ: أَنَّ صِيَامَ سَبْعِينَ يَوْماً لا يُجْزِئُهُ كَمَنْ نَذَرَ عِتْقاً فَعَجَزَ، وَعَلَى الصِّيَامِ فَفِي تَخْييرِهِ فِيهِ وَفِي إِطْعَامِ سَبْعِينَ مِسْكِيناً قَوْلانِ أي: وسواء كان نذره معلقاً أم لا فإنه يلزمه أن يهدي بدنة، فإن لم يجد بدنة ففي المدونة تجزئ بقرة لما قاله الخليل: البقر من البدن. وقال ابن نافع: لا يجزئه. اللخمي: وهو أحسن لأن الناس لا يعرفون البدن إلا من الإبل، فإن لم يجد البقرة ففي المدونة تجزئ سبع من الغنم أي سبع شياه؛ لأن البقرة لما كانت تجزئ عن سبع على قول بعض العلماء عادلت سبعاً من الغنم. وفي الموازية: إن لم يجد بقرة فعشر من الغنم، قال في المدونة: فإن لم يجد الغنم لضيق وجده فلا أعرف في هذا صوماً إلا أن يحب فليصم عشرة أيام فإن أيسر يوماً كان عليه ما نذره. وقد قال مالك فيمن نذر عتق رقبة فلم يستطعها: إن الصوم لا يجزئه إلا أن يشاء أن يصوم، فإن أيسر يوماً أعتق. فهذا مثله وهذا معنى قوله: (فَالْمَشْهُورُ: أَنَّ صِيَامَ سَبْعِينَ لا يُجْزِئُهُ كَمَنْ نَذَرَ عِتْقاً فَعَجَزَ). ولمالك في الواضحة: إن لم يجد الغنم صام سبعين يوماً. زاد أشهب في الموازية: أو أطعم سبعين مسكيناً كل مسكين مدّاً، وإن وجد شاة أهداها وصام ستين يوماً وإليه أشار بقوله: (وَعَلَى الصِّيَامِ فَفِي تَخْييرِهِ فِيهِ وَفي إِطْعَامِ سَبْعِينَ مِسْكِيناً قَوْلانِ). ولم يذكر المصنف فيمن نذر عتقاً وعجز غير مذهب المدونة أنه لا يصوم، وفيها قولان آخران:

أولهما: لابن المواز: إن شاء الصوم صام عشرة أيام. وثانيهما: أن يصوم شهرين لأنهما عوض عنها في الظهار وقتل النفس وكفارة اليمين، وأن الصيام فيها ثلاثة أيام؛ لكنه لما كانت الكفارة في اليمين على التخيير لم تتحقق العوضية فيه بين الصيام والرقبة. وَإِذَا نَذَرَ هَدْياً مُعَيَّناً وَهُوَ مِمَّا يُهْدَى وَيَصِلُ وَجَبَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بَاعَهُ وَعُوِّضَ مِنْ جِنْسِهِ إِنْ بَلَغَ أَوْ أَفْضَلَ عَلَى الأَصَحِّ ... إذا نذر هدياً معيناً، وهو مما يهدي كالإبل والبقر والغم وكان يصل، وجب بعينه، يريد: وهو له لما سيأتي، قال في المدونة: والبقر لا تصل من إفريقية ولا من مصر، فإذا خاف على هذه الهدايا لا تبلغ لبعد سفره أو لغير ذلك باعها وابتاع بثمنها هدياً بثمن الغنم غنماً وبثمن البقر بقراً، وجاز أن يبتاع بثمن البقر إبلاً؛ لأنها لما بيعت صارت كالعين ولا أحب شراء الغنم بثمنها حتى تقصر عن ثمن بعير أو بقرة ويشتري ذلك في مكة أو موضع يصل، فإن ابتاعها من مكة فليخرجها إلى الحل ثم يدخلها إلى الحرم، وإلى هذا أشار بقوله: (وَعُوِّضَ مِنْ جِنْسِهِ إِنْ بَلَغَ أَوْ أَفْضَلَ). ابن عبد السلام: وظاهر المدونة: أن شراء الإبل بثمن الغنم آكد من شراء الإبل بثمن البقر؛ لقوله في بدل الإبل بالغنم: لا أحب، وفي بدل البقر بالإبل: جائز. واستحسن اللخمي أنه لا يعوض بثمن الغنم بدنة إلا إذا كان الغنم أقل من سبعة، إلا ألا يجد الغنم فجائز أن يعوض الثماني والتسع بالبدنة. وقوله: (عَلَى الأَصَحِّ) أشار بمقابله إلى ما حكاه ابن بشير أن عليه أن يشتري من نوع الأول، ولا يخالف إلى الأفضل.

بِخِلافِ فَرِسٍ يَنْذُرُهُ فِي السَّبِيلِ فَيَتَعَذَّرُ إِيصَالُهُ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُجْعَلُ فِي مِثْلِهِ هُنَاكَ لاخْتِلافِ الْمَنَافِعِ ... أي: فلا يجوز أن يشتري بثمنه إذا لم يصل غير جنسه من سلاح أو كراع، ولو كان الاحتياج إلى الغير أكثر. وفرق في المدونة بمثل ما فرق به المصنف وهو أن المقصود من الهدي شيء واحد وهو اللحم للتوسعة [255/ب] على الفقراء، ولحم الإبل أكثر، بخلاف منفعة الفرس والسلاح فإنهما متباينان. التونسي: وقيل: يجعل الثمن فيما كان أنكى للعدو. وَالسَّبِيلُ: الْجِهَادُ، وَالرِّبَاطُ فِي السَّوَاحِلِ وَالثُّغُورِ بخِلافِ جُدَّةَ، فَإِنْ قَصَّرَ عَوْضَ الأَدْنَى .... أي: من جعل شيئاً في سبيل الله فلا يعدل به عن جهاد العدو وحراسة المسلمين بالسواحل كطرابلس وعسقلان بخلاف جدة فليست بثغر. قال في المدونة: لأن العدو لم ينزل بها إلا مرة واحدة، وهو مقيد بما إذا كان حالها اليوم كحالها في الزمان المتقدم، وذلك لأن الثغر في الاصطلاح هو موضوع للمكان المخوف عليه العدو، فكم من رباط في الزمان المتقدم زال عنه هذا الوصف في زماننا وبالعكس. وقوله: (فَإِنْ قَصَّرَ عَوَّضَ الأَدْنَى) أي: الثمن في مسألة الهدي أو الجهاد عن شراء المثل، فإنه يعوض الأدنى ولا خلاف في ذلك. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُهْدَى بَاعَهُ وَعَوِّضَ بثَمَنِهِ، وَقِيلَ: أَوْ قَوَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ كالثوب والفرس. وقوله: (بَاعَهُ وَعَوَّضَ بثَمَنِهِ) هو مذهب المدونة؛ لقوله فيها: فليبعه. والقول بأنه يقومه على نفسه مذهب العتبية وهو ظاهر المدونة في كتاب الحج وموضع آخر من

النذور؛ لقوله: أخرج ثمن ذلك. واختلف الأشياخ في فهم الموضعين، فذهب أكثرهم إلى أنه اختلاف قول، وذهب جماعة إلى أنه وفاق، ثم اختلفوا. ففي البيان: ما في العتبية مفسر لما في المدونة، وأشار هو وغيره إلى أنه ليس من باب شراء المرء صدقته؛ لأن القصد في الهدي الثمن؛ لأنه مما لا يهدي عينه بخلاف الصدقة فإنه قد يتصدق بذلك الشيء بعينه. وحمل بعض القرويين ما وقع من جواز إخراج القيمة على أنه كان بيمين وما وقع من بيعه على أنه بغير يمين؛ لأن الحالف غير قاصد للقربة بخلاف غيره، ورده ابن يونس بأن الحالف إذا قال: إن فعلت كذا فعلي كذا، يقصد أيضاً بما نذره القربة إن فعل فلم يكن بينهما فرق، ورده أيضاً عياض بأنه قد ذكر في الموازية عن مالك روايتين من غير يمين، فدل على أنه لا فرق بين المعلق بيمين وغيره. فرع: قال في المدونة: فإن لم يبعه وبعثه فلا يعجبني ويباع هناك ويشترى به هدي، فلعل الكراهة لأن فيها إيهام تغيير سنة الهدايا، أو لأن ذلك في سلع تساوي في بلدها أكثر من مكة. وَفِي الْمَعِيبِ قَوْلانِ: بعَيْنِهِ، وَكَالثَّانِي أي: إذا قال: لله علي أن أهدي هذه البدنة العوراء أو ما لا يجوز في الهدايا، فقال أشهب: يخرجه بعينه؛ لأن السلامة إنما تطلب في الواجب المطلق، وقال ابن المواز: بل يبيعه ويشترى بثمنه هدياً سالماً وهو مراده بقوله: (كَالثَّانِي) أي: كالقسم الثاني وهو مما لا يهدي، وعلى هذا فيختلف هل له أن يمسكه ويخرج قيمته، أو يتعين بيعه كما تقدم؟ ويحتمل أن يريد: الثاني في القسم الأول، وهو الذي لا يصل والمعنى واحد، وهذا الخلاف مقيد بما إذا نذر معيناً، وأما إذا كان غير معين، فوافق أِهب ابن المواز على أن عليه هدياص سالماً.

التونسي: والأشبه في غير المعين أنه لا يلزمه نذر هدي ما لا يصلح أن يكون هدياً كمن نذر صلاة في وقت لا يجوز أن يصلي فيه، وكالصحيح فيمن نذر صوم أيام الذبح أو سنة بعينها أنه لا يقضي أيام الذبح. وقال اللخمي: أرى المعين وغيره سواء، فإن نذر وهو يظن أن ذلك يجوز لم يكن عليه غير ما ألزم نفسه، فيبيع المعين ويخرج قيمة ما في الذمة على أنه معيب فيشتري بذلك سليماً إن يبلغ أو يشارك به، وإن كان عالماً أن ذلك لا يجوز كان نذراً في معصية معيناً كان أو مضموناً، ويستحب له أن يأتي بسليمة ليكون كفارة كما في نذره نحر ولده. فَإنْ قَصَّرَ عَنِ التَّعْوِيضِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَصَدَّقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَفِيهَا أَيْضاً: يَبْعَثُهُ إِلى خَزَنَةِ الْكَعْبَةِ يُنْفَقُ عَلَيْهَا، وَأَعْظَمَ مَالِكٌ أَنْ يَشْتَرِكَ مَعَهُمْ أَحَدٌ؛ لأَنَّهُ وَلايَةٌ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ دَفَعَ الْمَفَاتِيحَ لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ أَهْلُ الْحَرَمِ بالثَّمَنِ، وَقِيلَ: يُشَارِكُ بِهِ فِي هَدْيٍ .... يعني: فإن قصر ثمن ما لا يُهدَى كالعبد، أو فضل من ثمنه ما لا يبلغ ثمن هدي. ونص التهذيب: فإن لم يبلغ ذلك ثمن هدي وأدناه شاة قال مالك: يبعثه إلى خَزَنَة الكعبة ينفق عليها، وقال ابن القاسم: أحب إلي أن يتصدق به حيث شاء. ومنه تعلم أن قوله: (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَصَدَّقُ بهِ) ليس بجيد؛ لإيهامه وجوب الصدقة، وأشعر قول المصنف أيضاً بأن قول ابن القاسم في المدونة أيضاً وفي قول مالك إشكال، ولعل ذلك هو الموجب لنسبة ذلك إلى المدونة؛ إذ الكعبة لا تنقض فتبنى، ولا يكسوها إلا الملوك، ويأتيها من الطيب ما فيه كفاية، وهي إن كانت تكنس فمكانسها من خوص قبل الكنس تساوي فلساً وبعد الكنس تساوي الدراهم، فلم يبق إلا أن تأكله الخزنة، وليس هو من قصد الناذر [256/أ] في شيء، لكن في الموازية ما يدفع هذا الإشكال فإنه قال بعد قوله (يُنْفَقُ عَلَيْهَا): فإن لم تحتج إليه الكعبة تصدق به. وساقه ابن يونس على أنه تقييد، وهو كذلك إن شاء الله تعالى.

قوله: (وَأَعْظَمَ مَالِكٌ ... إلخ) استطراد لا تعلق له بالنذر، وهو كذلك في المدونة. ومعنى أن يشترك فيها؛ أي: في خدمتها والقيام عليها؛ لأنه روي أنه صلى الله عيه وسلم عام الفتح انتزع المفاتيح من يد عثمان بن طلحة، فنزل قوله تعالى: (إِنْ اللهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِهَا ([النساء: 58]، فاستدعاه ودفع إليه المفاتيح، وقال:"هي لكم يا بني عبد الدار خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم". والتشريك نوع من الانتزاع فلذلك منعه مالك. قوله: (وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بهِ أَهْلُ الْحَرَمِ) هو لأصبغ ونصه عند ابن يونس. وقال أصبغ: أحب إلي أن يتصدق به على أهل مكة خاصة، به قال اللخمي قال: لأن الهدي لو بلغ تصدق عليهم بلحمه، والقول الرابع الذي حكاه المصنف لم أره، لكن اللخمي قال: لو قيل به لكان وجهاً. فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَالْمَنْصُوصُ: لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، إِلا أَنْ يُرِيدَ: إِنْ مَلَكَهُ فَيَلْزَمُهُ إِنْ مَلَكَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ ... أي: فإن كان الذي التزمه لغيره سواء كان مما يهدي كبعير فلان أو لا كعبده، وهكذا ذكر المسألة في المدونة، ولأنه لو لم يحمل كلام المصنف على العموم لزم أن يكون في كلامه قصور؛ لأنه لم يتعرض للكلام على إهداء ما للغير إلا هنا، والمنصوص مذهب المدونة وغيرها؛ لما في مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم". وقوله: (على المنصوص) لم أتحقق ما أشار إليه من مقابله، ولعله مخرج من الحر بجامع عدم الملك، وإن أراد هذا فقد فرق التونسي بينهما بأن عبد الغير لما كان يصح بيعه ويهدي ثمنه، فكأنه أراد أن يهدي ثمنه وهو غير مالك له، بخلاف الحر فإنه لما لم يصح تملكه فكأنه قصد فيه الهدي. وفرق ابن يونس بأن الحر قد جاءت فيه سنة قياساً على ما جاء في إبراهيم مع ولده عليهما الصلاة والسلام، أما إن نوى: إن ملكته فهو هدي فإنه يجزئ على الخلاف في تعليق الطلاق بالزوجية، والعتق بالملك، والمشهور اللزوم.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُمْلَكُ كَالْحُرِّ فَالْمَشْهُورُ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ نَذْراً لِمَعْصِيَةٍ وَكَأَنَّهُ رَآهُ عُرْفاً ... أي: إذا قال: لله علي أن أهدي فلاناً، أو علق ذلك على شرط، فالمشهور عليه هدي. التونسي: وقيل: لا شيء عليه لأنه نذر معصية، ولم يذكره ابن بشير على أنه خلاف وإنما قيد به المشهور فقال بعد المشهور: وهذا إذا كان قصده الالتزام فظاهر، وإن كان قصده بنذره المعصية فينبغي ألا يلزمه، وإن لم يكن له قصد فيجري على الخلاف المتقدم في عمارة الذمة بالأقل، أو بالأكثر. انتهى. ونص اللخمي على أن من قال: أنا أنحر ولدي، بمعنى أقتله أنه لا شيء عليه. خليل: وعلى هذا فالمسألة على ثلاثة أوجه: إن قصد الهدي والقربة لزمه ذلك بالاتفاق، وإن قصد المعصية لم يلزمه ذلك باتفاق، واختلف الشيوخ حيث لا نية، والمشهور: عليه الهدي، ونحو هذا لأبي الحسن، وعزي الشاذ لابن عبد الحكم. وقوله: (وَكَأَنَّهُ رَآهُ عُرْفاً) توجيه للمشهور؛ أي: إنما لزمه في المشهور وإن كان ظاهر لفظه المعصية؛ لأن رأى أن قوله: لله علي أن أهدي فلاناً حقيقة عرفية في التزام الهدي. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْهَدْيَ وَالْتَزَمَ نَحْرَ حُرٍّ فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيّاً فَالْمَشْهُورُ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيباً وَذَكَرَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام أَوْ مَكَّةَ أَوْ مِنىً ونَحْوَهَا لَزِمَهُ هَدْيٌ وَإِلا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وقِيلَ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَرَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: فِيمَنِ الْتَزَمَ نَحْرَ قَرِيبٍ مُطْلَقاً قَوْلانِ .... أي: إذا لم يذكر لفظ الهدي بل قال: لله علي أن أنحر فلاناً، فإن كان المنذور نحره أجنبياً لم يلزمه شيء على المشهور، والفرق للمشهور بين هذه والتي قبلها أن ذكر الهدي في الأولى قرينة في إرادة القربة، بخلاف هذه فإن لفظه ظاهر في المعصية. وإن كنا قريباً ففيه تفصيل إن ذكر مقام إبراهيم أو مكة أو منّى.

ابن بشير: أو يذكر موضعاً من مواضع مكة أو منّى لزمه هدي لقرينة ذكره هذه المواضع، فإنها تدل على القرية عرفاً، وإن لم يذكر هذه المواضع فلا شيء عليه كما قال المصنف. وقوله: (وقيلَ: تلزمه كَفَّارَةُ يَمِينٍ) أي: سواء ذكر هذه المواضع أم لا. وهذا القول أيضاً في المدونة، ففيها: ومن قال: إن فعلت كذا فأنا أنحر ولدي. فحنث فعليه كفارة يمين، وقاله ابن عباس، ثم رجع مالك فقال: لا كفارة عليه ولا غيرها إلا أن ينوي به وجه الهدي فعليه هدي. ابن القاسم: وهذا أحب إلي من الذي سمعت منه، والذي سمعت منه: إذا لم يقل عند مقام إبراهيم فعليه كفارة يمين، وإن قال: عند مقام إبراهيم فليهدِ، فذكر فيها ثلاثة أقوال. واختلف الشيوخ في محل الخلاف، فقال صاحب تهذيب الطالب: لم يختلف قول مالك متى نوى وجه الهدي أنه لزمه الهدي، واختلف قوله إذا لم تكن له نية، فقال مرة: عليه كفارة يمين، وقال مرة: لا شيء عليه، وعلى هذا فيقيد قوله الأول: "عليه كفارة [256/ب] يمين" بما إذا لم يرد وجه الهدي. وقال أبو عمران في تعاليقه: أعرف أنه إنما اختلف قول مالك في الذي ينذر نحر ولده فيمن لم تكن له نية، قال مرة: عليه الهدي، وقال مرة: لا هدي عليه، وأما إن نوى الهدي فعلي الهدي بالاتفاق، وهكذا كلام عبد الحق، غير أن أحد القولين في كلام عبد الحق: وعليه الكفارة. وأَلْحَقَ عبدُ الحق ذِكْرَ المقامِ بِنيَّةٍ. وكلام اللخمي يقتضي وجود الخلاف مطلقاً سواء نوى الهدي أم لا ذكر المقام أم لا؛ لأنه قال: إن أراد نحر ولده فلا شيء عليه، وإن أراد أن يجعله هدياً وقال ما يدل على ذلك، فقال: عند مقام إبراهيم أو عند الصفا أو المروة، كان عليه عند مالك هدي وقال مرة: كفارة يمين، فإن قلت: إنما فرض المسألة في المدونة في التعليق وكلام المصنف أعم وقد نص بعض القرويين على أنه إنما يلزم الهدي في التعليق.

وأما إن قال: علي نحر ولدي أو لله علي نحر ولدي، فلا شيء عليه لأنه نذر في معصية، إلا أن يقصد به وجه القربة فيلزمه هدي، وكذلك في كتاب الأبهري قيل: مختار ابن يونس خلافه وأنه لا فرق بين المعلق وغيره، قال: والصواب ألا شيء عليه إلا أن ينوي به وجه الهدي؛ لأن من قال: إن فعلت كذا فعلي شرب الخمر، أو قال: لله علي شرب الخمر ألا شيء عليه في ذلك. وقد علمت بكلام اللخمي معنى قول المصنف. وقال اللخمي: فيمن التزم نحر قريب مطلقاً قولان. ولولا كلامه المتقدم لأمكن أن يحمل الإطلاق على أنه لا فرق في ذلك بين المعلق وغيره. وعلى هذا فيتحصل في المسألة خمسة أقوال: أولها: أن عليه كفارة يمين إلا أن ينوي الهدي، وهو الأول في المدونة على ما ذكره عبد الحق. الثاني: أن عليه كفارة يمين لو نوى الهدي على ما حكاه اللخمي. ثالثها: إن ذكر المقام فعليه هدي، وإلا فلا شيء عليه، وهو القول الذي استحسنه ابن القاسم. رابعها: إن لم يذكر المقام فعليه كفارة يمين، وهو القول الذي سمعه ابن القاسم. خامساً: الفرق بين المعلق وغيره، وما ذكره من التفرقة بين القريب وغيره نحوه لابن بشير وغيره. وقال الباجي: إذا قال لابنه أو أجنبي في يمين: لله علي أن أنحرك، فحنث فإن علق ذلك بمكان النحر كأن يقول: أنحرك عند مقام إبراهيم، أو عند البيت أو المسجد، أو بمنى أو بمكة، فروى ابن حبيب عن مالك عليه الهدي، وإن لم يسمِّ شيئاً ونوى الهدي لزمه، وإن لم ينو فروايتان: إحداهما: لا شيء عليه، والأخرى: كفارة يمين، وبها قال أصبغ. وقال عبد الوهاب: من نذر ذبح ابنه في يمين أو على وجه القربة فعليه الهدي.

وإن نذر نذراً مجرداً يقصد به القربة فلا شيء عليه، ففرق بين اليمين والنذر وليس بالبين. انتهى. فلم يفرق بين الأجنبي والقريب، وانظر قوله: فإن علق ذلك بمكان الذبح وعده المقام، فإنه مخالف لما قاله ابن هارون: أن المراد بمقام إبراهيم قصته في التزامه ذبح ولده وفدائه بالهدي، لا مقام مصلاه. ابن عبد السلام: وحيث أمرناه بالهدي في هذه المسألة، فقيل: إنه من الإبل، فإن لم يجد فمن البقر، فإن لم يجد فمن الغنم، وقيل: يكتفي بكبش، واختاره ابن شعبان. فرع: قال في الموازية: ولو قال لعدة من ولده: "أنا أنحركم" كان عليه أن يهدي عن كل واحد هدياً، وقيل: هدي واحد لجميعهم. أصبغ وغيره: والأول أحب إلينا. وَإِذَا الْتَزَمَ هَدْياً لِغَيْرِ مَكَّةَ لَمْ يَفْعَلْهُ لأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ قال في المدونة: وسوق البدن إلى غير مكة من الضلال. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ هَدْياً ذَبَحَهُ مَكَانَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: يَجْوزُ نَقْلُهُ إِلَيْهِمْ المشهور مذهب المدونة؛ لأن في نقله إليهم شبهاً بسوق الهدايا، والشاذ لمالك في الموازية وبه قال أشهب؛ لأن إطعام مساكين أي بلد طاعة ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، وأشار بعضهم إلى أنه يجوز ألا ينحر شيئاً ويطعم المساكين لحماً يكون قدره قدر لحم الجزور، وهو ظاهر لأنه لا قربة في النحر. وَمَنْ نَذَرَ هَدْيَ بَدَنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَجْزَأَهُ شِرَاؤُهَا، وَلَوْ مِنْ مَكَّةَ وهو ظاهر إذا اشتراها من مكة، فلابد أن يخرجها إلى الحِل.

وَمَنِ الْتَزَمَ صَدَقَةَ جَمِيعِ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ اتِّفَاقاً، فَلَوْ أَخْرَجَهُ فَفِي مُضِيِّهِ قَوْلانِ، وَيَلْزَمُهُ الثُّلُثُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُجْحِفْ بهِ تبع المصنف في حكايته الاتفاق. ابن بشير: وليس كما قالاه وإنما هو المشهور سواء حلف بذلك ابتداء أو علق ذلك. وفي البيان عن ابن وهب: لزوم الجميع، والقول بأنه لا يلزمه أن يُخرج إلا ما لا يضر به إخراجه لسحنون. وقال ابن حبيب: إن كان كثير اليسار أخرج ثلث المال وإن كان قليل المال فربع العشر، وإن كان عديماً فكفارة يمين، وقاله أيضاً ابن وهب. وربما استظهر القول بلزوم الجميع لأن الصدقة بالجميع طاعة؛ لإقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ذلك. وهذا إنام هو إذا التزم جميع المال للفقراء، أما لو قال: مالي صدقةٌ على فلان بعينه، ففي النوادر: يلزمه. ونقله صاحب النكت عن بعض القرويين في باب الهبات. أصبغ: وإذا قال مالي لله فيخرج [257/أ] ثلثه للصدقة فقط. وإن قال في عبده فمخرجه العتق، وإن قال في سبيل الله أو لسبيل الله فمخرجه الغزو والجهاد خاصة. وتخرج ثلث العين والطعام والرقيق إلا أن ينوي العين خاصة. وقوله: (فَلَوْ أَخْرَجَهُ فَفِي مُضِيِّهِ قَوْلانِ). ابن عبد السلام: يعني: فلو أراد إخراج الجميع من غير نذر ولا التزام بل عزم على إخراجه فمنهم من أقره على الصدقة بالجميع كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ذلك، ومنهم من قال يكفيه الثلث كقضية كعب بن مالك. وقال ابن راشد: يعني: وإذا فرعنا على المذهب فأخرجه عن نذر ففي مضيه قولان حكاهما المصنف بناء على تعلق حق الغير به لصيرورته بيده، أو يبطل لأنه فعل ممنوع. وقال شيخنا رحمه الله: معناه إعطاؤه لمن ينبو عنه في تفرقته ولم يفرقه بعد فقولان منشأهما: هل يد نائبه كيده فلا ينفذ أو لا؟ وكأنه حصل في يد الفقراء، وكلام ابن راشد هو الذي يؤخذ من كلام ابن بشير، والله أعلم.

وَلَوْ عَيَّنَ شَيْئاً أَوْ جُزْءاً أَوْ كَثِيرَاً لَزِمَهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَ: عَبْدِي هَدْيٌ وَلا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَالِي، وَبَيْنَ: ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ مَالِي، وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَا لِي أي: إذا عين شيئاً لزمه أني خرجه ولو أتى على جميع ماله على المشهور، ومقابل المشهور رواية عن مالك: لا يلزمه إلا الثلث. وهو مذهب ابن نافع وأصبغ. وحكى اللخمي عن سحنون أن قال في هذه المسألة أيضاً: لا يلزمه إلا ما لا يجحف به. وقوله: (بين: عبدي) أي: فيلزمه، (وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَالِي) فلا يلزمه غير الثلث، (وَبَيْنَ: ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ مَالِي) فيلزمه، (وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَا لِي) فلا يلزمه إلا الثلث. قال في النكت: والفرق بين أن يسمي شيئاً بعينه من ماله صدقة أو هدياً أن يخرج جميعه وإن كان ذلك ماله كله، وبين أن يقول مالي ولا يعين شيئاً أنه يجزئه الثلث- أن الذي عين قد أبقى لنفسه شيئاً ولو ثيابَ ظاهرِه أو ما لا يعلمه كميراث لم يعلم به، وأما الذي قال مالي فلم يبق لنفسه شيئاً وأدخل ثياب ظهره وما جهله أو علمه من ماله، فكان هذا من الحرج المرفوع، فوجب قصره على الثلث. انتهى. والشاذ هنا هو الظاهر، والله أعلم. وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ تَفْرِقَةُ الثُّلُثِ مِنْ نَفْلٍ أَوْ هَدْيٍ فَفِي كَوْنِهِ مِنَ الثُّلُثِ قَوْلانِ يريد: إذا قال: مالي هدي، أو حلف بصدقة ماله فحنث، وقلنا يلزمه الثلث فاحتاج إلى أن يبعث به، فقال ابن القاسم في العتبية: ينفق عليه من ماله. قاله مالك. ذلك وقيل من الثلث. ابن راشد: ولم يختلف إذا قال ثلث مالي أن النفقة عليه منه، والفرق بينهما إذا قال مالي، فالأصل أن يخرج الجميع فلما أرخص له في الثلث وجب أن يخرج جميع الثلث، بخلاف قول ثلث مالي فلا يلزمه غيره. انتهى. والذي في ابن يونس وغيره بعد أن حكى القولين في الوجه الأول: ولو قال ثلث مالي هدي فلا خلاف أنه ينفق عليه من ماله حتى يبلغه. قال: والصواب ألا فرق بين

ذلك. وعلى هذا فإطلاق المصنف ليس كما ينبغي. وقوله: (أَوْ هَدْيٍ) فيه حذف مضاف؛ أي: من سوق هدي أو نحو ذلك. وَلَوْ قَالَ: مَالِي فِي الْكَعْبَةِ أَوْ رِتَاجِهَا أَوْ حَطِيمِهَا فَلا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لأَنَّ الْكَعْبَةَ لا تُنْقَضُ فَتُبْنَى، بخِلافِ مَالِي فِي كِسْوَتِهَا أَوْ طِيبهَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الثُّلُثَ إِلَى الْحَجَبَةِ فَيَصْرِفُونَهُ .... هذا كله في المدونة، قال فيها: والرتاج الباب، والحطيم ما بين .... المقام. وفسر ابن حبيب الحطيم بما بين الركن الأسود والباب إلى المقام؛ لأنه يحطم الناس. أبو محمد: فعلى تفسير ابن حبيب ذلك كله حطيم الجدار من الكعبة والفضاء الذي بين البيت والمقام اليوم. عياض: وقوله فيمن جعل ماله في طيب الكعبة يدفع إلى حجبتها يدل على جواز تطيبها وتطييب المساجد وتجميرها؛ إذ لو لم يكن طاعة لما لزمه أن يفي بنذره، وقد فُعل هذا في الصدر الأول واستمر على ذلك عمل المسلمين وعلى الخلوق فيها، والأصل في ذلك تطييبه صلى الله عليه وسلم موضع النخامة في مسجده. وقول مالك: "الصدقة أحب إلي مما يجمر به المساجد" ليس على تضعيفه وكراهته لكن لترتيب فضل أعمال البر بعضها على بعض في الجر. وما ذكره المصنف من قوله: (فلا شيء عليه) هو المشهور. وروي عن مالك أن عليه كفارة يمين. ونقل في الاستذكار عن القاضي إسماعيل بن أبي أويس أنه روي عن مالك أنه يلزمه إخراج ثلث ماله. وقال ابن حبيب: أرى أن يسأل، فإن نوى أن يكون ماله للكعبة فيدفع ثلثه للخزنة يصرفونه في مصالحها، فإن استغنت عنه بما أقامه السلطان من ذلك تصدق به، وإن قال: لم أنوِ شيئاً ولا أعرف لهذه الكلمة تأويلاً، فكفارة يمين أحب إلي، وسواء كان ذلك في ندر أو يمين.

وقوله: (بِخِلافِ مَالِي فِي كِسْوَتِهَا أَوْ طِيبِهَا) ظاهر التصور. والظاهر أن في زماننا يتصدق بذلك؛ لأن الملوك تكفلت بالكعبة ولا يتركون أحداً يكسوها، والحجبة لا يؤمنون في الغالب، وكذلك قال ابن راشد، وهو يؤخذ مما قدمناه على الموازية، والله أعلم. وَإِذَا تَكَرَّرَ مَا يُوجِبُ [257/ ب] الثُّلُثَ فَإِنْ كَانَ بُعَيْدَ إِخْرَاجِهِ أَخْرَجَ ثَانِياً وَثَالِثاً ابن زرقون: ولا خلاف في هذا في المذهب. وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَفِي إِجْزَاءٍ ثُلُثٍ وَاحدٍ قَوْلانِ الضمير في (قَبْلَهُ) عائد على الإجزاء. والقول بأنه ليس عليه إلا ثلث واحد رواه ابن حبيب عن مالك وأصحابه، وهو في الموازية. وقال ابن القاسم: يخرج عن اليمين الأولى ثلث ماله ثم ثلث ما بقي عن اليمين الثانية. وبه قال أشهب ومحمد بن المواز. ثم قال ابن القاسم: يخرج ثلثاً واحداً ويجزئه. وقاله ابن كنانة. الباجي: وإذا قلنا يكفيه ثلث واحد، فقال يحيى عن ابن القاسم: سواء كانت أيمانه في أوقات مختلفة أو أيمان مختلفة فحنث فيها في وقت واحد أو حنث حنثاً بعد حنث فليس عليه إلا ثلث واحد. ابن عبد السلام: واختلف الشيوخ لو كانت اليمين الثانية قبل الحنث في الأولى هل يدخل في ذلك القولان، أو يتفق على وجوب ثلث واحد. وَإِذَا زَادَ مَالُهُ بَعْدَ الْحِنْثِ وَاليَمِينِ فَثُلُثُ الأَوَّلِ، فَإِنْ نَقَصَ فَثُلُثُ الآخَرِ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى حِنْثٍ ... كما إذا حلف ومالُه ألفُ حنث وماله ألفان فلا يلزمه إلا ثلث الألف، وهذا بين إن كانت الألف الثانية من فائدة. قال في البيان: واختلف إذا حنث وقد زاد بولادة أو تجارة ففي العتبية ليس عليه أن يخرج ثلث النماء، ومثله في الواضحة وغيرها لابن القاسم وهو صحيح لأنه على بر، وقال ابن القاسم: لا يدخل الولد في اليمين إذا كانت يمينه على بر،

وإن كان قد قال مالك أنهم يدخلون. وفي المبسوط لابن دينار أن ربح المال يدخل في الصدقة ولا يدخل الولد في اليمين بالعتق. قال في البيان: ولو عكس ذلك لكان أشبه من أجل الاختلاف في اليمين بصدقة المال. انتهى. وأما إن نقص فإن كانت يمينه على بر فلا يلزمه إلا ثلث ما بقي اتفاقاً، وكذلك إن كانت على حنث على المشهور فقال ابن المواز: يلزمه إخراج الثلث مما نقص إن كان النقصان بسببه. ابن حبيب: وأما إن نقص من أمر من الله دون تفريط فلا خلاف أنه لا يلزمه إلا ثلث ما بقي. وحكى في الجواهر فيما إذا أنفقه بعد الحنث عن أشهب أنه لا شيء عليه ولا يتبع به ديناً، قال: وقال ابن القاسم يضمن إذا أنفقه أو ذهب منه كزكاة فرط فيها حتى ذهب المال. وقال سحنون: إذا فرط في إخراج الثلث حتى هلك المال ضمن. وفي الواضحة: من حلف بصدقة ماله فحنث ثم ذهب ماله باستنفاق فذلك دين عليه، وإن ذهب بغير سببه فلا يضمن ولا يضره التفريط متى أصابه ذلك. وَفِي رَدِّ الزَّوجِ الثُّلُثَ فِي يَمِينِ الْجَمِيعِ قَوْلانِ يعني: إن حلفت الزوجة بثلث مالها فليس لزوجها عليها كلام. واختلف إذا حلفت بجميع مالها، فالمشهور له رد الجميع. وقيل: ليس له إلا رد ما زاد على الثلث. وستأتي هذه المسألة في باب الحجر إن شاء الله. * * *

كتاب الجهاد

الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِإِجْمَاعٍ الجهاد لغة: التعب، ومنه الجهد وهو المشقة. وشرعاً: هو تعب خاص، وهو مقاتلة العدو. وكان على الكفاية لأن المصلحة تحصل بالبعض. قال في الكافي: وفرض على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم، ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم، ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية. ابن عبد السلام: والصواب لو قال على الجمهور موضع الإجماع، فقد حكي عن ابن المسيب، وابن شبرمة وغيرهما أنه فرض عين. وحكي عن سحنون أنه سنة وليس بفرض. انتهى. وما حكاه عن ابن المسيب كذلك حكاه المازري. والذي حكى اللخمي عن ابن شبرمة ليس بفرض. والذي لسحنون في كتابه ابنه: كان الجهاد فرضاً في أول الإسلام وليس اليوم بفرض، إلا أن يرى الإمام أن يغزو طائفة فيجب أن يطيعوه، ويكون جهازهم من بيت المال. وإذا تأملته تجده لا يدخل على السنية؛ لأن قوله: وليس اليوم بفرض. يحتمل أن يريد بفرض عين وهو الظاهر؛ لأنه كان في أول الإسلام فرضاً على الأعيان. المازري- بعد أن نقل عن سحنون كما ذكرنا-: وحكي عن سحنون أيضاً أنه قال: كان في أول الإسلام فرضاً على جميع المسلمين وهو الآن مرغب فيه. وأشار إلى أنه يمكن أن يؤول على من بعدت داره عن موضع الجهاد وقام به في بعض المواضع من يكفي. وقد ذكر في المقدمات أنه قال: الآن فرض كفاية بإجماع كما قال المصنف. والله أعلم.

وَقَدْ جَاهَدَ رَسُولُ اللِه صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلََّمَ فِي الثَََّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ غَزْوَةَ بَدْرٍ، ثُمَّ أُحُدٍ، ثُمَّ ذَاتِ الرِّقَاعِ، ثُمَّ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ بَنِي النَّضِيرِ، وَمُرَيْسِيعٍ وَفِيهَا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَّةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، ثُمَّ خَيْبَرَ وَاعْتَمَرَ فِيهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، ثُمَّ فَتْحِ مَكََّةَ وَفيهَا نَزَلَ عَلَى حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، ثُمَّ تَبُوكَ وَهِيَ الأَخِيرَةُ، وَفِيهَا تَخَلََّفَ الثََّلاثَةُ وَجَمَاعَةٌ، وَفِيهَا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ [258/ أ]- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ، وَحَجَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلََّمَ فِي الْعَاشِرِ وَتُوُفِّيَ بَعْدَ حَجِّهِ ... تبع في هذا ابن بشير، ومقصدهما بذلك بيان مرتبة الجهاد في الدين؛ لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليه. واعلم أن المصنف- رحمه الله تعالى- إذا عطف بثم فالمراد سنة ثانية، وإن عطف بالواو فهو مع ما قبله في سنة واحدة. وقوله: (فِي الثَََّانِيَةِ) أي: في السنة الثانية. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ وَفِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزُوا تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ حَتَّى يَكْتَفُوا وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ الإِمَامُ مُطْلَقاً ... يعني: أن الجهاد وإن كان فرضاً على الكفاية فهو يتعين في حالين: الأولى: أن ينزل العدو بقوم وفيهم قوة عليهم. ابن راشد: ولا خلاف أعلمه فيما ذكره المصنف. قال في الكافي: ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلها لزمهم الخروج. قوله: (فَإِنْ عَجَزُوا تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ) يريد: ما لم يخف من يليهم معرة العدو، فإن خافوا ذلك بأمارة ظاهرة فيلزموا مكانهم، قاله سحنون. والحال الثانية: أن يعين الإمام طائفة فيتعين عليها. قوله: (مُطْلَقاً) يحتمل تعينوا أم لا. ويحتمل جاوره العدو أم لا. ويحتمل كان من أهل الجهاد أم لا. كالعبد والمرأة فإنهما حينئذ يلزمهما الخروج، نص عليه ابن شاس. ويحتمل كان له مانع من أحد أبويه أو رب الدين أم لا. ويحتمل أن يريد جميع ذلك. فرع: ويسقط وجوب الجهاد بالعجز الحسي وبالموانع الشرعية.

أما العجز الحسي: فكالصبا، والجنون، والأنوثة، والعمى، والعرج، والمرض، والفقر- أعني العجز عن السلاح، والركوب عند الحاجة إليه، ونفقة الذهاب والإياب- ولا يسقط بالخوف من المتلصصين؛ لأن قتالهم أهم. أبو إسحاق: وقطعة الطريق أحق بالجهاد من الروم. وأما الموانع الشرعية: فكالرق، ومنع صاحب الدين، ومنع الوالدين. أما الرقيق فليس له جهاد دون أم سيده. وليس لرب الدين المنع بالدين المؤجل ععن الجهاد ولا عن سائر الأسفار، فإن كان يحل في غيبته وكل من يقضيه، وإن كان حالاً ولا يقدر على قضائه فله السفر بغير إذن رب المال. وللوالدين المنع ولا يبلغ الجد والجدة أن يلحقا بهما، وسفر العلم الذي هو فرض عين ليس لهما منعه منه، فإن كان فرض كفاية فليتركه في طاعتهما. ولهما المنع من ركوب البحار والبراري الخطرة للتجارة، وحيث لا خطر لا يجوز لهما المنع. والأب الكافر كالمسلم فيما عدا الجهاد من ذلك. وقال سحنون: وكذلك لهما المنع من الجهاد، إلا أن يعلم أن منعهما ليوهنا الإسلام. وَالْقُوَّةُ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ ضِعْفَهُمْ فَمَا دُونَهُمْ عَدَداً. وَقِيلَ: قُوَّةً وَجَلَداً لما ذكر أن القوة شرط في تعيين الجهاد أخذ يفسرها، فذكر فيها قولين. والقول باعتبار العدد لابن القاسم وجمهور الأصحاب. ابن عبد السلام: وهو المعروف. والقول باعتبار الجلد لابن الماجشون، ورواه عن مالك، واختاره ابن حبيب. والأول أقرب إلى ظاهر قوله تعالى: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ ([الأنفال: 66] الآية. ولم تفرق الآية بين كافر وكافر. وأيضاً فإن الإنسان قد يقاتل من لم يعاينه إلا حين القتال، فكيف يعلم منزلة من لم يخالط في الشجاعة. اللخمي: ولا أراهم يختلفون أنه متى جهل منزلة بعضهم من بعض في القوة أنهم مخاطبون بالعدد. يريد أن هذا الاتفاق مما يقوي القول الأول؛ لأنه إذا حمل اللفظ في هذه الصورة على الحقيقة وجب حمله في سائر الصور على ذلك. ولا يقال

أن المصنف فسر القوة بالقوة في القول الثاني، لأنه لما قرن القوة الثانية بلفظ الجلد صار كأنه فسر القوة في الآية بالشدة والجلد. والله أعلم. تنبيه: يستثنى على المشهور من اعتبار العدد ما إذا لم يؤمن أن يكثر الكفار. الباجي: وأما إذا كان الكفار في بلادهم وحيث يخاف تكاثرهم فإن للعدد اليسير أن يولوا عن مثلهم؛ لأن فرارهم ليس من العدد اليسير. فَيَحْرُمُ الْفِرَارُ إِلا مُتَحَرِّفاً أَوْ مُتَحَيِّزاً الفاء جواب شرط مقدر؛ أي: إن حصلت القوة فيحرم الفرار. وهو من الكبائر عند مالك وأصحابه. ابن القاسم: ولا تجوز شهادة من فر من الزحف. ولا يجوز الفرار وإن فر إمامهم؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ([الأنفال: 16]. ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً، فإن بلغ اثني عشر ألفاً لم يحل الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة". فإن أكثر أهل العلم خصصوا بهذا الحديث عموم الآية. وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه، وهو قوله للعمري العابد إذ سأله: هل لي سعة في ترك مجاهدة من غيَّر الأحكام وتركها؟ إن كان معك اثنا عشر ألفاً مثلك فلا سعة لك في ذلك. انتهى. والمتحرف: هو أن يرى من نفسه الانهزام وليس هو مقصده حتى يتبعه العدو [258/ ب] فيرجع عليه، وهو من أحد مكائد الحرب. والتحيز: هو الرجوع إلى الأمير أو جماعة بشرط القرب. مالك: وأما إن بعد الأمير والجيش منه فلا يجوز ذلك. قال صاحب النوادر: وفي الموازية لا يجوز لأحد الانحياز إلا عن خوف بين، وعن جيش مستطيع، أو ضعف من السلطان. وأما عن أمن متناصف

وفي الغلبة مطمع فلا، ولا يكون لأمير الجيش ما يكون للسرايا من الانحراف والتولي عنهم، ولهم سعة في أن يثبتوا لقتال أكثر من الضعفين والثلاثة بأضعاف كثيرة وهم يجدون مصرفاً عنهم، فإن علموا أنهم مقتولون إن ثبتوا فأحب إلي أن ينصرفوا إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فإن لم يجدوا فلهم أن يقاتلوا حتى يقتلوا، فمن احتسب نفسه على ذلك فهو الشهيد، ومن ثبت حتى قتل ولم يجد مصرفاً فإنه يرجى له فضل الشهادة كما قال عمر. وروي عن مالك الكراهة لذلك. انتهى. واختلف قول مالك في إقدام الرجل على العدد الكثير والجيش الذي يوقن أنه يقتل بشرط أن يؤثر فيهم بالجواز والكراهة. قال في البيان: والصحيح الجواز. ابن عبد السلام: والظاهر من قوله أن ذلك إنما يسوغ بشرط أن يعلم ذلك الواحد من نفسه من الشجاعة ما يكون عنها نكاية العدو وإن قتل، ويشترط أن يخلص النية لله تعالى لا لإظهار شجاعة، وإن كان كذلك حصل منه إرهاب العدو، وهما إحدى فوائد الجهاد، ولم يكن من إتلاف النفس بغير فائدة. وَيَجِبُ مَعَ وُلاةِ الْجَوْرِ أَيْضاً عَلَى الأَشْهَرِ. القولان في المدونة، والأشهر هو الذي رجع إليه مالك ارتكاباً لأخف المفسدتين، لأن الغزو معهم إعانة على جورهم، وترك الغزو معهم خذلان للإسلام. ابن حبيب: سمعت أهل العلم يقولون لا بأس به وإن لم يوفوا بعهد ولا يضعوا الخمس موضعه. ابن المواز: ولا يجوز خروج جيش إلا بإذن الإمام. وسهل مالك لمن يجد فرصة من عدو قريب أن ينهضوا إليهم بغير إذن الإمام، ولم يجز ذلك السرية ويحرمهم ما غنموا. سحنون: إلا أن تكون جماعة لا يخاف عليها فلا يحرمهم. يريد: وقد أخطؤوا. قيل: والخلاف في الجهاد مع ولاة الجور إنما هو إذا كان معهم من يقاتل، وإلا فيجب عليهم بالاتفاق.

فرع: روى عيسى عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن الوالي إذا قام عليه قائم يطلب إزالة ما بيده، هل يجب علينا أن ندفع عنه غيره؟ قال: أما مثل عمر بن عبد العزيز فنعم وأما غيره فلا، فدعه وما يريد منه، ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما. وَفِي وُجُوبِ الدَّعْوَةِ ثَلاثُ طُرُقٍ: الأُولَى: تَجِبُ فِيمَنْ بَعْدَهُ. وَالثَّانِيَةُ: ثَالِثُهَا الأُولَى. وَالثَّالِثَةُ: رَابِعُهَا تَجِبُ فِي الْجَيْشِ الْكَثِيرِ الآمِنِ ... تصور كلامه لا يخفى عليك. وذكر ابن بشير الأقوال الأربعة، قال: واختلف الشيوخ في ضبط المذهب. فذكر الطرق الثلاثة التي ذكرها المصنف. ابن عبد السلام: إلا أن جعل هذا الخلاف في الوجوب لا تساعده الروايات إذا تأملت ألفاظها، وإنما يقولون: يدعى العدو إن بعدت داره أو على حالة ما، وهو محتمل للاستحباب، وربما صرحوا بذلك، والذي لم نشك فيه أنا إذا لم نعلم حال العدو وهل بلغته الدعوة أم لا كانت الدعوة مستحبة؛ لأن الغالب بلوغها إليه، وإن انضاف إلى ذلك رجاء الإجابة وجبت. اللخمي: واتفق على وجوبها في حق من لم تبلغه. وهي في حق من بلغته على أربعة أوجه: واجبة، ومستحبة، ومباحة، وممنوعة. والواجبة: إذا غلب على ظننا أنهم إذا دعوا أجابوا، وكان جيش الكفار لا طاقة لهم بالمسلمين. والمستحبة: إذا شك هل يجيبوا أم لا. والمباحة: إذا علم أنهم لا يجيبون. والممنوعة: إذا كان بالمسلمين قلة ويخشى بالدعوة على المسلمين، ولا يشك في سقوطها إذا عاجلونا. المازري: وفي المدونة: الأمر بدعاء السلامة غير قتالهم، وهو يحسن على القول بأن الدعوة يؤمر بها وإن كان عالماً؛ لأن السلابة مسلمون وهو عالمون بأنهم ظالمون.

تنبيه: هذا الخلاف في الروم، وأما القبط، ففي المدونة: لا يقاتلون ولا يبيتون حتى يدعوا ولم ير أن دعوة الإسلام قد بلغتهم. ابن يونس: يريد أنهم قوم لا يفقهون، فكأنه رأى أنهم لم يفقهوا ما يدعون إليه فرأى أن يدعوا وتبين لهم الدعوة؛ لا كما قيل: إنما ذلك لأن مارية القبطية أم ولده صلى الله عليه وسلم، وأنكر ذلك بعض الناس وقال: القبط من أحذق الناس، وإنما العلة فيهم أنه كان لهم عهد فركبوا بالظلم وتداول الملوك ذلك من أهل الجور فنقضوا ما كانوا عليه من العهد، فلذلك لم يقاتلوا حتى يدعوا ويخبرون أنهم يردون إلى ما كانوا عليه، ويسار فيهم بالعدل وطريق الحق، وأما الروم فما كان لهم عهد قط. فرع: فإن قوتل من لم تبلغه الدعوة قبلها فقتلوهم وغنموا أموالهم وأولادهم، فمذهبنا أنه لا شيء على المسلمين من دية ولا كفارة. المازري: وهو مذهب [259/ أ] أبي حنيفة. وقال الشافعي: فيه الدية، وحجتنا أن النهي عن قتالهم قبل الدعوة لا توجب مخالفته الدية؛ كقتل النساء والصبيان. وحكى المازري عن بعض أصحابنا البغداديين: أنه لو ثبت لنا أن هذا المقتول متمسك بكتابه وآمن بنبيه حسبما اقتضاه كتابه، ولكنه لم يعلم ببعثته صلى الله عليه وسلم فقتل قبل الدعوة فإن فيه الدية. وَهِيَ أَنْ يَدْعُوَا إِلَى الإِسْلامِ أَوْ الْجِزْيَةِ ليس هو مخير كما هو ظاهر كلامه، بل يدعون أولاً إلى الإسلام فإن أبوا فإلى الجزية. التونسي: وفي الواضحة: إذا وجبت الدعوة فإنما يدعون إلى الإسلام جملة من غير ذكر الشرائع إلا أن يسألوا عنها فتبين لهم، وكذلك الجزية جملة بلا توقيت ولا تحديد إلا أن يسألوا فتبين لهم. وذكر اللخمي وغيره: أن صفة الدعوة تختلف وكلها راجعة إلى أن

يدعى إلى الرجوع عن الوجه الذي به كفر. ونص اللخمي على أن الكافر إذا أقر بالألوهية والرسالة، ثم أنكر الإقرار بالصلاة، أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج كان على حكم المرتد، فإن رجع وإلا قتل. وذكر المتيطيعن مالك وابن القاسم وغيرهما: أن إسلام الكافر لا يصح إلا بعد إقراره بفروع الشريعة، وأنه إذا أقر بالوحدانية والرسالة ثم رجع أنه يؤدب ويشدد عليه، وإن أبى لم يكن عليه شيء، قال: وبه أخذ ابن عبد الحكم، وبه القضاء والعمل. وحكى ما ذكره اللخمي عن أصبغ قال: وإن اغتسل لإسلامه ولم يصل إلا أنه أحسن إسلامه ثم رجع عن إسلامه، فإنه يؤخذ بالصلاة فإن صلى وإلا قتل. قال ابن القاسم: ولا يقتل حتى يصلي ولو ركعة واحدة. ولا يُسْتَعَانُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ إِلا أَنْ يَكُونُوا نَوَاتِيَةً أَوْ خَدَماً لقوله جل ثناؤه: (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ([النساء: 89] ولما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم لليهودي الذي اتبعه: "ارجع فلن أستعين بمشرك" واختلف إذا خرج الكفار من تلقاء أنفسهم، فظاهر ما في سماع يحيى أنهم لا يمنعون. وقال أصبغ: يمنعون أشد المنع. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونُوا نَوَاتِيَةً أَوْ خَدَماً) نحوه في المدونة. وينبغي أن تقيد النواتية بما إذا كانوا تبعاً لغيرهم. ابن حبيب: ويستعملون في رمي المجانيق وهدم الحصون. قال: ولا بأس أن يقدم من سالمه من بحذاء عسكره وقربه ما لم يكونوا في داخل عسكره، وكره بعض أهل المدينة رميهم بالمجانيق قال في الجواهر: وتجوز الاستعانة بالعبيد إذا أذن السادة، وبالمراهقين إن كانت فيهم قوة.

وَلا بَاسَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَاعِدُ لِلْخَارِجِ جُعْلاً وهُمَا من دِيوَانٍ وَاحِدٍ، مَضَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ .. يعني: إذا عين بعثاً فأراد بعض من أمر بالخروج أن يجعل جعلاً، جاز بشرط أن يكونا من ديوان واحد. مالك في المدونة: لأن عليهم سد الثغور، وربما خرج لهم العطاء، وربما لم يخرج. قال فيها: ولا يعجبني أن يجعل لمن ليس معهم في ديوان ليغزو عنه، وقد كره مالك لمن في السبيل إجارة فرسه لمن يرابط عليه أو يغزو عليه، كمن بعسقلان وشبهها، فهو إذا أجر نفسه أشد كراهة. وكان مالك- رحمه الله- أشار إلى أن الأصل منع هذه الإجارة؛ لكونها إجارة مجهولة، وإنما أجاز ذلك إذا كانا من ديوان واحد؛ لأن على كل واحد منهما ما على الآخر فليست إجارة حقيقة، وما ذكرناه من عدم الجواز إذا لم يكونا من ديوان واحد كذلك صرح به التونسي، قال هو وابن يونس وغيرهما: ولا يخرج أحد عن أحد إلا بإذن الإمام ولو كان الثاني أشجع؛ لأن الإمام قد يرى من سماه أولى. التونسي: أما إذا قال: يخرج من البعث الفلاني مائة فأعطى بعضهم لبعض على أن يخرج عنه، فقال الإمام: إذا أخرج جاز ذلك؛ لأن الإمام لم يسم أحداً، ولو قال: يخرج جملة بعث أهل الصيف، فأراد بعضهم أن يجعل لمن يخرج في الربيع لم يجز إلا بإذن الإمام؛ لأنه قد عين من يخرج فلا يخرج غيره إلا بإذنه، وينبغي إذا أتاه من يقوم مقامه ألا يكلفه الخروج؛ إذ لا ضرر عليه في ذلك، وهذا جائز إلا لمن وقف نفسه لهذا يلتمس الزيادة فمتى وجدها خرج، فمكروه. ولا يُسَافَرُ بِالنِّسَاءِ إِلَيهِمْ إِلا فِي جَيْشٍ كبيرٍ آمِنٍ، ولا يُسَافَرُ بِالْمُصْحَفِ إِلْيَهَا بِحَالٍ .. إنما لم يسافر بالنساء إليهم خشية أن ينال المرأة العدو، إلا في جيش كبير آمن؛ لأن الغالب حينئذ السلامة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يسافر في الغزو ببعض

نسائه؛ وقالت الربيع بنت معوذ: كنا نغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ... الحديث. والأمن مع النبي صلى الله عليه وسلم موجود ومفهوم. وقوله: (إِلَيهِمْ) جواز السفر بهن في أرضنا كالثغور وليس على إطلاقه؛ بل قيد ذلك سحنون بالمواضع المأمونة الكبيرة [259/ ب] كالإسكندرية وتونس، وشك في صفاقس وسوسة ومثله لمالك. مالك: ورب ثغر فيه ألف رجل ليس بمأمون ولم يسافر بالمصحف إليهم بحال خوفاً من أن يناله العدو، والفرق بين المصحف والنساء، أن المصحف قد يسقط ولا يشعر به بخلاف المرأة فإنها تذكر نفسها؛ ولأن النهي في المصحف عام. ففي الموطأ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وذلك مخافة أن يناله العدو. وقال في الاستذكار: هكذا قال يحيى وأكثر الرواة. وقال ابن وهب عن مالك في آخره: خشية أن يناله العدو. ولم يجعله من قول مالك؛ وهو بلفظ مرفوع صحيح، وكذلك رواه جماعة. ابن الماجشون: ولو أن الطاغية كتب إلى الملك أن يبعث إليه مصحفاً ليتبدره، فلا ينبغي لأنه نجس؛ هكذا نقل صاحب النوادر وابن يونس. ونقل الباجي عنه عدم الجواز وهو مقتضى التعليل. ابن الماجشون: ولا بأس أن يقرأ الرجل القرآن على الكفار ويحتج عليهم به. وقال في الاستذكار: واختلفوا في تعليم الكفار القرآن، فأجازه أبو حنيفة. وكذلك الفقه رجاء أن يرغبوا في الإسلام. وقال مالك: لا يعلم القرآن ولا الكتاب، وكره رقية أهل الكتاب، واختلف فيها قول الشافعي. وكره مالك وغيره أن يعطي الكافر درهماً فيه آية من القرآن؛ ولا خلاف فيه إذا كانت آية تامة، وإنما اختلفوا فيها إذا كان فيه اسم من أسماء الله تعالى، ولم تكن الدراهم عليها اسم الله تعالى، وإنما ضربت دراهم الإسلام في أيام عبد الملك بن مروان. انتهى.

ابن عبد السلام- بعد أن ذكر قول مالك وأبي حنيفة-: وأجاز الجميع أن يقرأ عليهم القرآن، وأن يبعث إليهم بالكتاب فيه آيات من القرآن، والأحاديث بذلك كثيرة. وَإِذَا تَسَاوَتِ الأَحْوَالُ عِنْدَ الْمَغْلُوبِ فِي الْعَطَبِ، فَالْمَشْهُورُ: جَوَازُ الانْتِقَالِ وَلَوْ رَجَا أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ .. قال في المدونة: وإذا حرق العدو سفينة للمسلمين فلا بأس أن يطرحوا أنفسهم في البحر؛ لأنهم فروا من موت إلى موت، وهو أحد قولي ربيعة. قال: وإن صبروا فهو أكرم. ومقابل المشهور لابن القاسم في الموازية: أنه لا ينتقل واختاره ابن المواز؛ لأن في انتقاله سبباً لقتل نفسه، وبه قال ربيعة في أحد قوليه. وقوله: (وَلَوْ رَجَا أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ) أي: فلو رجا النجاة في أحد تلك الأحوال وجب وهو ظاهر، وكذلك عبر ابن بشير بالوجوب. وعبارة المتقدمين في هذه المسألة: فله ذلك. وسئل ربيعة عن مدينة حاصرها العدو فضعفوا عن قتالهم وليس عندهم ما يكفيهم أيخرجون للقتال، أم يصبرون حتى يموتوا جوعاً؟ قال: بل يخرجون إلى القتال أحب إلي. ابن سحنون: فلو بلغ بهم الجوع حتى لا يقدروا على القتال، فإن طمعوا في الأسر مفاداة أو نجاة وقد عرف ذلك من العدو، فليخرجوا إليهم، وإن كانوا يقتلونهم فليصبروا للموت جوعاً وعطشاً. التونسي: ولم يبح لهم الخروج، ولعل ذلك أروح لهم. وقد اختلف في المركب من المسلمين يلقي الروم عليها النار، هل يثقل الرجل نفسه ليغرق؟ وكأنه اعترض عدم جواز الخروج؛ لأن القتل صبراً أهون من الصبر للجوع، وقد يجاب عن هذا بما قاله ابن عبد السلام. الشافعي: إنه إذا كانت إحدى الطائفين في الحالتين يطول بقاؤه معها أكثر، تعين الانتقال إليها وهو ظاهر؛ لأن حفظ الحياة واجب ما أمكن. وروى أبو الفرج عن مالك: لا حرج على من أظله العدو في البحر أن يلقي نفسه فيه.

اللخمي: وليس بالبين، ولا أرى يلقي بنفسه مع رجاء الأسر؛ لأنه قدم الموت على الحياة مع الأسر، واستشكار اللخمي ظاهر، وهذه الرواية مخالفة لما تقدم، إلا أن يأول أن العدو إذا أسروه لا يبقوه. وَإِذَا اؤْتُمِن الأَسِيرُ طَائِعاً لَمْ تَجُزِ الْخِيَانَةُ، وإِلا جَازَت ويَمْلِكُهُ، وكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَيَاتِي بِمَالِ غَيْرِهِ، ولا يُخَمَّسُ يدخل في قوله: (وإِلا جَازَت) صورتان: إذا لم يؤتمن، أو اؤتمن مكرهاً، وكذلك قال ابن بشير. وفي اللخمي: لا يهرب ولو كان مكرهاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى الضرر بالمسلمين والتضييق على من بأيديهم من الأسارى ويرون أن المسلمين لا يوفون بالعهد. وتكلم الأصحاب هنا على ما إذا اؤتمن على نفسه أو مال، والظاهر أن المصنف إنما تكلم على المال؛ لأن ذلك المتبادر من لفظ الأمانة؛ ولقوله: (ويَمْلِكُهُ) فإن الملك لا يكون إلا في المال. واختلف في النفس والمال. فقال سحنون: عليه أن يؤدي أمانته في نفسه وماله. وفي البيان عن المخزومي وابن الماجشون: له أن يهرب ويأخذ من أموالهم ويقتلهم وإن ائتمنوه، فإن أحلفوه فلا حنث عليه؛ لأن أصل يمينه الإكراه. ونقل ابن عبد السلام وغيره عن مالك: أنه يهرب بنفسه لا بماله، وكذلك نقهل في الكافي عن مالك، وقال: عليه أن يخرج ويكفر عن يمينه إن لم يكره عليها، وإن أكره فلا كفارة عليه، قال: وهو الصحيح. وفرق ابن المواز، فقال: إن كان ذلك بعهد ووعهد فذلك يلزمه، وأما بالطلاق والصدقة فلا يلزمه ولا حنث عليه فيه لأن مكره. وقاله ابن القاسم وزاد: وللأسير أن يسرق من مال العدو [260/ أ] ولا يعاملهم بالربا. وقال أشهب: إن دفعوا إليه ثوباً يخيطه فلا يحل له أن يسرق منه؛ لأنه اؤتمن عليه.

ابن المواز: وما أقر به بعد تخلصه إلى بلد الإسلام أنه كان فعله من سرقة، أو زنىً، أو خيانة، أو ربا. فلا شيء عليه في السرقة، وأحب إلي أن يتصدق بقدر ما أربى به، أو خان، إذ لا يقدر على رد ذلك إلى أهله، واختلف في زناه، فقال ابن القاسم: يقام عليه الحد إن شهد عليه أو أقر وأقام على إقراره ولم يرجع، وقاله أصبغ، وسواء زنى بحرة أو مملوكة. وقال عبد الملك: لا حد عليه في زناه ولا في سرقته. قوله: (ولا يُخَمَّسُ) راجع إلى المسألتين؛ لأن الحكم فيهما عدم التخميس، إذ لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهذا هو المشهور. وحكى في البيان عن ابن المواز: أن عليه الخمس إن كان أسر ببلد الحرب؛ لأنه لم يصل إلا بالإيجاف، بخلاف ما إذا أسر من بلاد المسلمين. قال: وقوله بعيد على أنه إنما ساقه في كتابه على أنه تفسير للمذهب. وَيجِبُ فِدَاءُ الْمُسْلِمِينَ وهذا كقول مالك في العتيبة: يجب على المسلمين فداء أسراهم بما قدروا عليه، كما يجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم، وإن لم يقدروا على فدائهم إلا بكل ما يملكون فذلك عليهم. الباجي: والوجوب قول جمهور الأصحاب. وسئل أشهب عن المفاداة بالخمر، فقال: لا يدخل في نافلة بمعصية، فسماه نافلة. المازري: ولعل أشهب ما قصد ما يدل عليه حقيقة، وإنما عبر بالنافلة لأنه لما كان الفداء لا يمكن أن يكون إلا بالخمر سقط وجوبه وصار من جهة السقوط كالنافلة التي لا تجب. صاحب البيان: ويبدأ بالفداء من بيت المال، فإن عجز عنه بيت المال، فهو على جميع المسلمين على قدر أموالهم والأسير كأحدهم، فإن تعذر هذا وجب عليه أن يفدي نفسه من ماله. وفي الاستذكار: تقديم الأسير على جماعة المسلمين في فداء نفسه، ومقتضاه أنه قول مالك. وقال اللخمي: أرى أن يبدأ بمال الأسير ثم بيت المال، فإن لم يكن أو لم يتوصل إليه

فمن الزكاة على المستحسن من القول، فإن لم يكن فعلى جميع المسلمين على قدر الأموال إذا كان لا يستغرق أموالهم، وإن كان يستغرقها افتدي بجميعها. وَفِي الْمُفَادَاةِ بِالْخَمْرِ ونَحْوِهِ وآلَةِ الْحَرْبِ، ثَالِثُهَا: يُفَادَى بِآلَةِ الْحَرْبِ، ورَابِعُهَا: بِالْخَمْرِ ونَحْوِهِ دُونَهَا .... المنع مطلقاً لابن القاسم، والجواز مطلقاً لسحنون، قال: ويبتاع لهم الخمر للفداء، هكذا نقل الباجي عنه. ونقل اللخمي، وصاحب البيان، وابن يونس عنه أنه قال: ويأمر الإمام أهل الذمة بدفع ذلك إليهم ليحاسبهم بذلك في الجزية. والقول بجواز المفاداة بالخيل والسلاح دون الخمر والخنزير وما أشبههما لابن الماجشون وأشهب؛ لئلا يتذرع إلى ملك الخمر وإشاعتها في أسواق المسلمين، والرابع عكس الثالث. ونسبه اللخمي وابن راشد لابن القاسم في الموازية؛ لأنهم يتقوون على المسلمين بآلة الحرب. وسبب الخلاف تعارض مفسدتين؛ إحداهما: إعانة الكفار بآلة الحرب والخمر. والثانية: بقاء المسلمين بأيديهم. وينبغي على هذا أن تتبع المصلحة الراجحة. وفِي الْمُفَادَاةِ بِأَسَارَى الْعَدُوِّ الْمُقَاتِلَةِ قَوْلانِ القول بالجواز لأصبغ؛ لما في مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين مسلمين بمشرك. وقيده اللخمي بما إذا لم يخش بتسليمهم الظهور على المسلمين. ابن عبد السلام: ولا شك أن منع المفاداة بآلات الحرب أنه يمنع المفاداة في هذا الفرع. انتهى. أما من لم يقاتل، فقال سحنون: لا بأس أن يفدوا بصغار أطفال المشركين إذا لم يسلموا، أو بالذمي إذا رضي الذمي وكانوا لا يسترقونه.

ولا يَرْجِعُ عَلَى الأَسِيرِ مُسْلِماً أَوْ ذِمِّيّاً وإِنْ كَانَ غَنِيّاً، إِلا مَنْ يَقْصِدُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، وإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقيلَ: إِلاَّ فِيمَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ وفِيمَنْ يُرْجَى خَلاصُهُ الباجي: الذي عليه جمهور أصحابنا أنه يرجع على الأجنبي مطلقاً إلا أن يريد الصدقة، وعلى الأقارب الذين ليسوا من ذوي المحارم، ولا يرجع على أقاربه الذين يعتقون عليه. ابن راشد: فجعل الرجوع على الأجنبي والقريب غير ذوي المحرم أصلاً، والمصنف جعل عدم الرجوع أصلاً إلا أن يقصد الرجوع، ويحتمل أن يكون ما قاله المصنف موافقاً للباجي بأن يريد إلا أن يقصد بضم الياء على البناء لما لم يسم فاعله؛ أي: لا يرجع إلا على من يقصد الرجوع عليه في العادة وهو الأجنبي، ومن ليس بذي محرم من الأقارب، وحمله على هذا أولى؛ لمطابقة كلام الباجي. انتهى. وانظر قول الباجي الذي عليه جمهور أصحابنا، فإنه لم يذكر مقابل الجمهور. وعلى الرجوع، فقال الباجي: يرجع بمثل ما اشتراه به إن كان مثلياً، أو بقيمته إن كان مقوماً. ابن عبد السلام: وفي الرجوع بالقيمة هنا نظر؛ لأن الفادي كالمسلف للأسير، والسلف يقضي فيه بالمثل إن كان السلف مثلياً. قوله: (وَقيلَ: إِلاَّ فِيمَا يُمْكِنُ ...) إلخ. هذا القول للخمي، استثنى صورتين: الأولى: إذا أمكن الفداء بأقل مما فدى به فلا يلزمه إلا ذلك الأقل. الثانية: أن يمكن الأسير التخلص من غير شيء فلا يلزمه شيء. ويشترط في الصورتين [260/ ب] جميعاً عنده أن تكون قدرة الأسير على ما زعمه معلومة. خليل: وينبغي أن يكون تقييداً، كما قالوا في الرجل يأتي بالبقر يحرث بها أرضه، فيغلط فيحرث أرض جاره ثم يطلب أجرة الحرث من جاره، فإن كان جاره يحرثها بنفسه وعبيده فلا شيء عليه، وإن كان إنما يحرثها بالأجرة فإنه يرجع عليه بها.

ولْيَتْبَعْ ذِمَّتَهُ إِنْ كَانَ فَقِيراً يعني: إذا قلنا بالرجوع فلا يسقطع فقره بل تتبع ذمته. ابن راشد: وكذلك إن علم أنه فقير وفداه فإنه يرجع عليه، وهو قول ابن القاسم. وقال في المنفق على الصبي الفقير: لا يرجع عليه بما أنفق ورآه محتسباً. والفرق أن الكبير قادر على التكسب بخلاف الصبي. وقال بعض الأندلسيين: لا يرجع على الفقير. وفِي رُجُوعِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ بِالْخَمْرِ ونَحْوِهِ إِنْ كَانَ اشْتَرَى الْخَمْرَ لِذَلِكَ قَوْلانِ، بِخِلافِ الذِّمِّيِّ .... لا إشكال أن الذمي يرجع بقيمة الخمر والخنزير ونحو ذلك، وأما المسلم فقال سحنون: لا يرجع بقيمة ذلك. الباجي: ويحتمل على قوله بإجازة الفداء بالخمر والخنزير أن يرجع على الأسير بثمن ذلك. ابن عبد السلام: ولا يوجد القول بالرجوع إلا ما قاله الباجي وجعله محتملاً. فرع: سحنون: ومن فدى خمسين أسيراً ببلد الحرب وفيهم المليء والمعدم؛ فإن كان العدو قد عرف ذلك منهم قسم عليهم الفداء على تفاوت أقدارهم، وإن جهل العدو ذلك منهم قسم عليهم بالسواء؛ وإن كان فيهم عبيد فهم سواء وساداتتهم بالخيار بين أن يفدوهم أو يسلموهم. فَإِنْ كَانَ قَرِيباً لا يَرْجِعُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْهِبَةِ، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فَلا رُجُوعَ إِلا أَنْ يَامُرَهُ مُلْتَزِماً عَلَى الأَصَحِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفاً بِهِ رَجَعَ عَلَى الأَصَحِّ قوله: (لا يَرْجِعُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْهِبَةِ) أي: هبة الثواب. وسيأتي ذلك في بابه إن شاء الله تعالى. ثم قسم المسألة على قسمين: تارة يكون عارفاً به، وتارة لا يكون عارفاً به. وذكر في العارف ثلاثة أقوال- وتصورها من كلامه ظاهر-: الأول: عدم الرجوع مطلقاً. والثاني: مقابله. والثالث: التصنيف.

ومراد المصنف بالقريب: من كان ذا محرم، وأما ذو الرحم وليس بمحرم فلا خلاف أنه كالأجنبي ويتبعه مطلقاً، قاله في المقدمات، وليس من الأقوال الثلاثة ما هو منصوص إلا القول الأول بعدم الرجوع، وهو قول ابن حبيب وسحنون. والقول بالرجوع مطلقاً خرجه بعضهم من قول المغيرة في المكاتب يؤدي عمن معه في الكتابة أنه يرجع عليه، كان ممن يعتق عليه أم لا، وهكذا قال ابن راشد: إنه لم يقف إلا على القول بعدم الرجوع، وزعم ابن عبد السلام أن الثالث هو المنصوص، وفيه نظر؛ فإني لم أره في شيء من الأمهات، ثم كلامه يقتضي أن القول بنفي الرجوع مطلقاً ليس بمنصوص، وقد نقله ابن يونس والباجي وغيرهما. وفي الكافي عن مالك، وابن القاسم أن من فدى قريباً لا يعتق عليه كالخالات لا يرجع عليه، إلا أن يكون لم يعلم به حين الفداء، وأن من فدى من يعتق عليه فلا رجوع له عليه مطلقاً علم أو لم يعلم، ولا يقال هذا الثالث في كلام المصنف؛ لأن هذا القول فيه تفصيل بين العلم وعدمه، وكلام المصنف إنما هو مع العلم؛ لقوله بعد ذلك: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفاً) وفي المقدمات إن كان قريباً يعتق عليه، فقال ابن حبيب: لا يتبعه. وقيل: لا يتبعه إذا علم. وهو الذي يأتي على ما في المدونة واختلف إذا كان لا يعتق عليه، فقيل، إنه كالزوجة لا يتبعه إذا علم إلا إذا فداه بأمره. وقيل: كالأجنبي يتبعهي في كل حال. وقوله: (إِلا أَنْ يَامُرَهُ) ابن عبد السلام: هو استثناء من تمام القول الثالث ويتعدى بالمعنى إلى القول الأول؛ يعني: أنه يقول بإسقاط رجوع الفادي إذا لم يأمره الأسير، فإن أمره الأسير بذلك ملتزماً للأداء رجع عليه على الأصح، وسواء كان ممن يعتق عليه أو لا، وهذا الأصح، نقله الباجي وغيره عن سحنون، والقول بعدم الرجوع مطلقاً لم أقف عليه، وهكذا قال، وكأنه رأى الحكم لما اقتضى عنده عدم الرجوع وصار التزامه لذلك كالتزام المكره، فلا يلزم وفيه بعد. وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفاً بِهِ رَجَعَ عَلَى الأَصَحِّ) هذا هو القسم الثاني،

وهو إذا فدى قريبه غير عالم بأنه قريب له بل فداه على أنه أجنبي فإنه يرجع عليه على الأصح، سواء كان ممن يعتق عليه أم لا، وهو الذي يأتي على ما في المدونة على ما في المقدمات. وفرق ابن حبيب بين من يعتق عليه فلا يرجع عليه، وبين ما لا يعتق عليه فيرجع عليه، واقتصر عليه الباجي، وابن يونس. فداء القريب لقريبه على ثلاثة أوجه: إن فداه وهو يعرفه لم يرجع عليه مطلقاً؛ كان ممن يعتق عليه أو لا، وإن فداه بأمره يرجع عليه مطلقاً، وإن فداه وهو لا يعرفه فلا يرجع على من يعتق عليه ويرجع على من سواه من الأقارب الذين لا يعتقون عليه وعلى الزوجين. والزَّوْجَانِ كَالْقَرِيبَيْنِ فَلا رُجُوعَ عَلَى الْمَشْهُورِ هذا يقتضي أن المشهور في الفرع السابق من الأقوال الثلاثة عدم الرجوع؛ لأنه إذا كان شبه القرابة مانعاً من الرجوع فالقرابة من باب الأولى، وهذا أحسن إذا ساعده النقل، والمنصوص [261/ أ] في الزوجين إذا اشترى أحدهما صاحبه وكان عارفاً به عدم الرجوع، فإن لم يكن عارفاً به اتبعه بذلك في ملائه وعدمه، قاله ابن القاسم وابن حبيب، ورواه مطرف وابن الماجشون عن مالك؛ لكن أشار سحنون وغيره إلى تخريج قول بالرجوع من إحدى الروايتين بالقضاء بينهما بالعوض في الهبة، وعبد الحميد وغيره يقدحون في هذا التخريج بأن المسائل المبنية على العوائد لا تخرج عليها مسائل أخرى، إذ من الممكن أن تكون العادة جرت في أمر بصورة ولم تجر في نظيرها، ومن الممكن أن تسمح النفوس بالهدية دون الفداء، ولاسيما مع نزارة الهدية وكثرة الفداء. وإِذَا جَعَلَ الأَسِيرُ لِفَادِيهِ جُعْلاً، فَالْمَنْصُوصُ: يَسْقُطُ، وقِيلَ: إِلا أَنْ يَتَكَلََّفَ مَا لا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ واخْتِيرَ .. قال ابن بشير: ولو جعل الأسير لمن فداه جعلاً على فدائه، فنص الروايات أنه يسقط، وذلك ظاهر إذا لم يتكلف في ذلك مؤنة أو تكلفها وقد تعينت؛ فإن تكلف ما لا

يتعين عليه فينبغي أن يكون له من الأجر بحسب كلفته. انتهى. ونقل ابن عبد السلام مقابل المنصوص عن المتأخرين وكلام المصنف لا يؤخذ منه هذا، وإنما ظاهره على أن القول إذا تكلف يجب مجموع الجعل، وهو ظاهر ما علل به ابن راشد؛ لأنه قال: قاسه في القول الثاني على جواز الإجازة على الإمامة إذا انضم إليها خدمة المسجد، بجامع أن تكليف هذا ما لم يتعين عليه كتكليف الآخر خدمة المسجد، واختاره الأشياخ. انتهى. وفِي كَوْنِ الْفَادِي أَحَقَّ مِنَ الْغُرَمَاءِ قَوْلانِ، بِخِلافِ مَا يَكُونُ مَعَهُ يعني: إن فدي الأسير بمال وكان عليه دين، فهل يكون الفداء مقدماً أم لا؟ أما بالنسبة إلى ما قدم به من بلاد العدو فالفادي مقدم؛ لأن ما دفعه في مقابلة رقبته وما في يده، وأما بالنسبة إلى ماله الذي ببلاد الإسلام، فقال سحنون وعبد الملك: هو أيضاً أولى به؛ لأن الفداء آكد بدليل أنه يفادي بغير إذنه وبأضعاف قيمته، وقال ابن المواز: هو أسوة الغرماء وهو أقيس؛ لأن الفداء تعلق بذمته كالدين، وناقض ابن يونس، وابن زرقون قول محمد في هذه المسالة بما له أيضاً في أم الولد، وذلك أن عبد الملك قال في أم الولد: أن يشتريها من العدو أولى بما في يد سيدها من الغرماء قال محمد: صواب جيد. وَإِذَا اخْتَلَفَ الأَسِيرُ والْفَادِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الأَسِيرِ عَلَى الأَصَحِّ أي: اختلف في أصل الفداء وقدره، وظاهر كلام المصنف وفي جنسه؛ لكن لم أر المسألة في كتب الأصحاب إلا في أصل الفداء وفي قدره. والأصح رواه ابن حبيب عن ابن القاسم، وابن الماجشون، ومطرف، وأصبغ: أن القول قول الأسير في إنكاره الفداء جملة وفي إنكاره بعضه إن أتى بما يشبه، سواء أخرجه من دار الحرب أم لا. ابن حبيب: وقيل: إذا أقر الأسير أنه فداه واختلفا في قدر الفداء، صدق الفادي ويصير كالرهن في يديه، وهذا خلاف قول مالك. وكذلك قال سحنون: القول قول الفادي إذا

كان الأسير بيده، هكذا نقل الباجي. ابن عبد السلام: فالذي يظهر من هذا النقل أنه إن لم يكن في يديه فالقول قول الأسير، وإن كان في يديه فقولان. انتهى. وظاهر كلام المصنف: (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الأَسِيرِ) أن القول قوله ولو ادعى غير الأشبه، وهو قول ابن القاسم في العتبية. ابن يونس: يريد مع يمينه، واحتج ابن القاسم على ذلك بما قاله مالك: أنه لو أنكر الفداء أصلاً وقد خرجا من بلاد الحرب كان القول قول الأسير؛ لكن قال في البيان: إن القول قول الأسير، وإن ادعى ما لا يشبه ليس على أصولهم مراعاة دعوى الأشبه في التداعي؛ لاتفاقهما أنه فداه بذلك، بخلاف إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنه فداه فأنكر، والذي يأتي على أصولهم إذا اختلفا في مبلغ الفدية أن يكون القول قول الأسير إن أتى بما يشبه، وإن أتى بما لا يشبه كان القول قول الفادي إن أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه حلفا جميعاً وكان للفادي ما يفدي به مثله من ذلك المكان، وكذلك إن نكلا جميعاً، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان له ما حلف عليه وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد مكنه من ذلك بنكوله. انتهى. واستشكل صاحب البيان قول من قال عن كون الأسير بيده: يرجح قول الفادي قال: لأنه لما كان لا يباع لم يكن كالرهن، وليس كونه بيده دليلاً على قلة الفدية أو كثرتها، وإنما كان ينتفع الفادي بكون الأسير في يده إذا اختلفا في أصل الفداء؛ لأن كونه في يده دليل على أنه فداه. الْمُقَاتَلُ بِهِ، وَيُقَاتَلُ الْعَدُوُّ بِكُلِّ نَوْعٍ، وبِالنَّارِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ غَيْرُهَاوخِيفَ مِنْهُمْ المقَاتَل: هو من يجوز قتاله من الكفار، وإنما صدر كلامه بالآلة؛ لأن قتل المقاتل إنما يكون بها، وأيضاً ليبين ما يجوز به القتال وما لا يجوز؛ يعني: أن العدو يجوز قتاله بسائر أنواع الحرب من رمي المجانيق، وإرسال الماء عليهم، وقطع الماء عنهم، وبالنار إذا لم يمكن غيرها، ولا خلاف أنه إذا خيف منهم ولم يكن غير النار أنهم يقتلون بها.

ابن راشد: والخلاف الذي حكاه إنما هو إذا لم يخف منهم وقدرنا عليهم بالنار وغيرها، فقال ابن القاسم وسحنون: لا يقاتلون [261/ ب] بها. وقيل: يقاتلون بها، ونسبه ابن عبد السلام لمالك. ومنشأ الخلاف ما في البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأوقدهما بالنار". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله عز وجل". وحمل الحديث في القول الآخر على ما إذا صاروا في حكمهم وأما إذا امتنعوا، فيجوز عملاً بعموم الآية. قال صاحب البيان وابن زرقون: الخلاف إنما هو إذا كانوا في حصن، أما إن كان العدو في سفينة ونحن كذلك، فلا خلاف في جواز رميهم وإن كان معهم النساء والصبيان؛ لأنهم إن لم يرموا بالنار رمونا بها. وإِنْ خِيفَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنَ النَّارِ تُرِكُوا مَا لَمْ يُخَفْ مِنْهُمْ، ومِنَ الآلاتِ لَمْ يُتْرَكُوا، وفِيهَا: رَمَى أَهْلَ الطَّائِفِ بِالْمَجَانِيقِ .. يعني: إذا خفنا على ذريتهم من النار لم يرموا بها إلا أن يخاف منهم، وأما إن خيف عليهم من الآلات فإنهم لا يتركون، واستدل على ذلك في المدونة برميه عليه الصلاة والسلام أهل الطائف بالمجانيق. قوله: (ومِنَ الآلاتِ) عطف على النار، وحكى صاحب البيان وابن زرقون: إذا كانوا في الحصن ومعهم النساء والصبيان أربعة أقوال: أجاز أصبغ تحريقهم وتغريقهم ورميهم بالمجانيق. وحكى فضل عن ابن القاسم أنه لا يفعل بهم شيء من ذلك. وقال ابن حبيب: يغرقون ويرمون ولا يحرقون. وفي المدونة: يرمون ولا يحرقون ولا يغرقون. قال: وإن كان في الحصن مع المقاتلة أسرى مسلمون فلا يرموا بالنار ولا يغرقوا. واختلف في قطع الماء عنهم ورميهم بالمجانيق، فقيل: إن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم وأشهب. وقيل: لا يجوز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مالك

وأصحابه المدنيين والمصريين. انتهى. وفي ابن يونس: لا خلاف إذا كان مسلم في حصن العدو أنه لا يحرق ولا يغرق. واختلف إذا كان فيهم ذرية مشركون، فقيل: إنهم كالمسلمين. وقيل: بل يغرقون ونقطع عنهم المياه. ولم يختلف في رمي حصونهم بالمجانيق، وإن كان فيهم المسلمون أو ذرية مشركون، واختلف في رمي مراكبهم بالنار وفيهم مسلمون أو ذرية، فقيل: لا يرمون. وقيل: يرمون. وقيل: إن كان فيهم مسلمون لم يرموا وإن كان فيهم ذرية رموا. وكره مالك أن يقاتل العدو بالنبل المسموم، وقال: ما كان فيما مضى؛ ولأن ذلك قد يعاد إلينا. ورَأَى اللََّخْمِيُّ أَنَّهُ لو خَافَتْ جَمَاعَةُ كَثِيرَةُ مِنْهُمْ جَازَ قَتْلُ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِالنَّارِ، وَهُوَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، كَمَا انْفَرَدَ بِالْطََّرْحِ بِالْقُرْعَةِ مِنَ السُّفُنِ، وفِيهَا: الاسْتِدْلالُ بِقوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .... اللخمي: إذا كان العدو طالبين للمسلمين ولم يقدروا على حربهم إلا بالنار جاز قولاً واحداً، وسواء كان معهم نساؤهم وذراريهم أو لا، وأرجو إذا كان معهم النفر اليسير من المسلمين أن يكون خفيفاً؛ لأن هذه ضرورة، ويختلف إذا كان المسلمون الطالبين لهم فدفعوا عن أنفسهم بالنار هل يرمون بها. انتهى. فأباح قتل المسلمين بالنار معهم إذا كان العدو طالبين وخاف المسلمون منهم، وإلى هذا أشار بقوله: (لو خَافَتْ جَمَاعَةُ) أي: من المسلمين منهم؛ أي: من الكفار. قال: وهو مما انفرد به تبعاً لابن بشير وليس بظاهر، فقد تقدم من كلام ابن يونس الخلاف، وكذلك حكى ابن رشد وابن زرقون في السفينة فيها العدو ومعهم أسرى مسلمون عن ابن القاسم أنهم لا يرمون بالنار، قال: وأجازه أشهب. فقول أشهب موافق لما قاله اللخمي، فإن قلت: يغتفر في السفينة ما لا يغتفر في غيرها. قيل: لما فرض اللخمي المسألة فيما إذا كان العدو هم الطالبين لم يتأت هذا، وأما مسألة الطرح من السفن بالقرعة، فالظاهر أن اللخمي انفرد بها، وإنما لم يوافق عليها لأنه لا يلزم مما قاله ارتكاب مفسدة مخففة لأمر مظنون.

قوله: (وفِيهَا: الاسْتِدْلالُ) لأن لفظ المدونة: وإن كان مسلم في حصن العدو أو مركبه لم أر أن يحرق أو يغرق؛ لقول الله عز وجل: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ([الفتح: 25]. وقوله تعالى: (لَوْ تَزَيَّلُوا (أي: تميز المسلمون من الكفار. أَمَّا لَوْ خِيفَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الإِسْلامِ احْتَمَلَ الْقَوْلَيْنِ كَالشَّافِعِيِّ الظاهر: أنه يريد بالقولين مذهب المدونة ومذهب اللخمي؛ لأنه لما استدل فيها بقوله تعالى: (لَوْ تَزَيَّلُوا (علم أن مذهبه المنع. وقوله: (كَالشَّافِعِيِّ) أي: كما أن في مذهب الشافعي القولين. ابن بشير: وذكر الشافعي قولين إذا اتقى أهل الحرب بالمسلمين وكنا نخاف إن تركناهم من استئصال جمهور المسلمين. انتهى. ابن هارون: وإنما قال المصنف: (كَالشَّافِعِيِّ) إما لأنه لما ذكر انفراد اللخمي بالمسألة السابقة ذكر أن محل النظر ما صوره الشافعية، واعترض عليه ابن راشد في قوله: (كَالشَّافِعِيِّ) قال: لأن الشافعي إنما يبيح الرمي مع القطع باستئصال المسلمين لا مع الخوف، وفيه نظر. وقد سألت جماعة من قضاة الشافعية، فقال كل واحد: في مذهب الشافعي قولان؛ أحدهما- وهو الصحيح-: أنه إذا خيف على استئصال المسلمين جاز قتل الترس. والثاني: أنه لا يجوز القتل إلا بأن [262/ أ] يقطع باستئصال الإسلام. قالوا: وإنما صححنا الأول؛ لأن القطع غير ممكن. ولم يذكر ابن شاس إذا خيف على استئصال قاعدة الإسلام أو جمهور المسلمين خلافاً، بل قال: يسقط اعتبار الترس. وإِذَا أَسَرُوا عُجْماً أَوْ عُرْباً فَالإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي خَمْسَةٍ: الْقَتْلِ، أَوْ الاسْتِرْقَاقِ، أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْمُفَادَاةِ، أَوِ الْمَنِّ بِالنَّظَرِ ... حاصله: أنه بالخيار بين القتل والإبقاء، فإن قتل فلا تفصيل، وإن أبقى خير في أربعة أوجه: الاسترقاق، وضرب الجزية، والمفاداة، والمن.

وقوله: (بِالنَّظَرِ) راجع إلى الخمسة؛ يعني: أن التخيير إنما هو بحسب المصلحة ومتى وجد فيها أحسن تعين. ونص الباجي على أنه يجب على الإمام أن ينظر في ذلك بحسب الاجتهاد. قال في الجواهر: ولا يمنع من الاسترقاق كون المرآة حاملاً من مسلم، لكن لا يرق الولد إلا أن تكون حملت به في حال كفره ثم سبيت بعد إسلامه؛ فالحمل سبي. وأما المفاداة: فقد تقدم الكلام على جوازها بالأسرى، وأما بالمال فالمشهور جوازه خلافاً لسحنون. وقال ابن حارث: الخلاف إنما هو في مفاداة الرجال بالمال ولا خلاف في مفاداة النساء به. ابن يونس: وفي المختصر الصغير ومن استحياه الإمام من الأسارى فلا يقتل، قال في المستخرجة: إلا أن يبقيهم الإمام فيرى فيهم رأيه فله قتل من رأى منهم. انتهى. فإن أمسكه ليختبر ثمنه فله قتله، وإن أمسكه للبيع ثم بدا له، فقال ابن المواز: له قتله. وقال أصبغ: ليس له وهو الظاهر. اللخمي: وإن من عليه لم يجز أن يحبسه عن الذهاب إلى بلده، إلا أن يكون قد اشترط عليه أن يبقى ليضرب عليه الجزية، فإن أبقاه للجزية لم يجز له أن يسترقه، ويجوز أن يفادي به برضاه. وإن أبقاه على وجه الاسترقاق جاز أن ينتقل معه إلى الجزية والمن والفداء. وإن أبقاه للفداء لم ينتقل إلى الجزية ولا للرق إلا برضاه. فَلا يُقْتَلُ الضَّعِيفُ، ويُقْتَلُ مَنْ لا يُؤْمِنُ، ولا يمنُ عَلَى ذِي النِّكَايَةِ لما قال: أولاً بالنظر ذكر هنا بياناً للنظر ومفهوم قوله: (فَلا يُقْتَلُ الضَّعِيفُ) أنه يقتل الشجيع وهو كذلك. قال في البيان: واختلف قول مالك إذا جهلت حالته في قوة النجدة هل يحمل عليها وهو ظاهر قول مالك في المدونة، ويقتل من الأسارى من لا يؤمن؟ الا ترى ما كان من أبي لؤلؤة؛ يعني: قاتل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وقال مرة: لا يقتل إلا أن تتبين منه الفروسية، ووقع هنا نسختين؛ إحداهما: ويُمَنٌّ كما ذكرنا. والثانية: ولا يُمَنُّ، وهما على معنيين؛ فإن فسرنا صاحب النكاية بكونه ينكي المسلمين بقتاله فيأتي لا يمن، وإن فسرنا صاحب النكاية بأنه إذا قتله المسلمون حصلت لأجله نكاية، بأن يكون كبيراً في قومه وليس فيه كبير نجدة فيأتي ويمن. والله أعلم.

والْمُرَاهِقُ الْمُقَاتِلُ كَالْبَالِغِ ظاهره أنه مخير فيه بالخمسة المتقدمة. وقال اللخمي: يخير الإمام في النساء والصبيان في المن، والفداء، والاسترقاق دون القتل والجزية، وإن رأى استبقاء من قارب البلوغ ليضرب عليه الجزية لم يمنع. انتهى. فلم يذكر فيه القتل، لكن في النوادر عن ابن القاسم من رواية يحيى بن يحيى أنه قال في المرأة والصبي لم يحتلم يقاتلان ثم يؤسران: إن قتلهما جائز بعد الأسر كما جاز قبل ذلك، وعن ابن حبيب كذلك إن قاتل بالسيف والرمح لا بالحجارة إلا أن يقتل فيقتل وإن أسر، إلا أن يرى الإمام استحياءه، وكذلك المرأة. وعن ابن سحنون أنه قال لأبيه: بلغني أنك قلت: إن أسر الصبي أن الإمام فيه مخير في قتله وتكره، فأنكره وقال: لا يقتل إلا أن ينبت. وذكروا خلافا فيمن أنبت ولم يحتلم، فقال ابن القاسم: لا يقتل. وقال الأكثر: بل يقتل. وهذا مبني على أن الإنبات هل هو علامة للبلوغ أو لا؟ وسيأتي هذا المعنى إن شاء الله تعالى. ولا يُقْتَلُ النِّسَاءُ ولا الصِّبْيَانُ، وفِي النِّسَاءِ الْمُقَاتِلاتِ، ثَالِثُهَا: إِنْ قَاتَلَتْ جَازَ. ورَابِعُهَا: عِنْدَ قِتَالِهَا. وفِيمَنِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ قَوْلانِ لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان. وقال في الاستذكار: وأجمع العلماء على القول بذلك، والحكمة في ذلك- والله أعلم- أن الأصل عدم إتلاف النفوس، وإنما أبيح منه ما يقتضي دفع المفسدة، ومن لا يقاتل ولا هو أهل القتال في العادة ليس في إحداث الضرر كالمقاتلين، فيرجع إلى الأصل فيهم وهو المنع، هذا مع ما في نفوس النساء والصبيان من الميل وعدم التشبث الشديد بما يكون عليه غالباً، فدفع عنهم القتل لعدم المقاتلة في الحال الحاضر ورجاءهدايتهم عند بقاءهم.

والقول بقتلها إذا قاتلت لابن القاسم في الموازية. والقول بأنها لا تقتل في كتاب ابن سحنون لعموم النهي. والثالث لابن حبيب قال: إذا قاتلت إلا أن يرى الإمام استحياءها. والرابع: على ما ذكره المصنف يقتضي أن الخلاف [262/ ب] مطلق، والذي حكاه التونسي، واللخمي، والباجي، وابن بشير أنه لا يختلف في جواز القتل في حالة المقاتلة؛ لأنا لو لم نفعل ذلك لأدى إلى قتلنا مع قدرتنا على المدافعة، وإنما الخلاف إذا أسرن وقد تقدم منهن قتال. وقوله: (وفِيمَنِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ قَوْلانِ) قال ابن حبيب: لا يبيح ذلك قتلها، إلا أن تكون قتلت بما رمت به، ومثله روى ابن نافع عن مالك. قال صاحب النوادر، والباجي، وقال سحنون: يرميهن المسلمون بالحجارة وإن قتلن في ذلك، وظاهره أنهن لا يقتلن بغير ذلك، وعلى هذا ففي كلام المصنف إجمال؛ لأن ظاهره على القول بأنها تقتل أنها تقتل بكل شيء، نعم ذكر ابن بشير القول على نحو ما ذكره المصنف وأما صياحها وحراستها واستعانتها فلا يوجب شيء من ذلك قتلها. سحنون: ومن قتل من نهي عن صبي أو امرأة أو شيخ هرم، فإن قتله في دار الحرب قبل أن يصير في المغنم فليستغفر الله، وإن قتله بعد أن صار مغنماً فعليه قيمته، يجعل الإمام ذلك في المغنم. ويَلْحَقُ بِهِنَّ الزَّمْنَي والشَّيْخُ الْفَانِي ونَحْوُهُمْ مِمَّنْ لا رَاىَ لَهُ ولا مَعُونَةَ يعني: ويلحق بالنساء من ذكر بشرط عدم الرأي ومراده بـ (نَحْوُهُمْ) الفلاحون والأجراء وأهل الصناعات، ولا شك في جواز قتلهم إن قاتلوا، وإن لم يقاتلوا فقال سحنون: يقتلون، قال: ولم يثبت حديث العسيف وهو الأجير، وكذلك قال في الأعمى.

والمقعد والمريض. وقال ابن الماجشون، وابن وهب، وابن حبيب: لا يقتلون. وذكره اللخمي عن مالك قال: وهو أحسن في أهل دينهم كالمستضعفين. وفي الموطأ: أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه أميراً إلى الشام: إنك ستجد قوماً زعموا أنهم قد حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حسبوا أنفسهم له، وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن. وقوله: فحصوا عن أوساط رؤوسهم. ابن حبيب: يعني الشمامسة. وقال بعضهم: هم رهبان الكنائس. وكذلِكَ الرَّاهِبِ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ غَيْرِ الْمُخَالِطِ بِرَايٍ عَلَى الْمَشْهُورِ حاصله: إن اجتمع في الراهب الانقطاع عن أهل ملته حساً بأن كان في الصوامع أو في الأديار. أو حكماً بأن لا يخالطهم برأي، فالمشهور أنه لا يقتل؛ لما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا بعث جيوشه قال: "لا تقتلوا أهل الصوامع". ولوصية أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وروي عن مالك القتل ذكره في البيان، فإن لم ينقطع عن أهل ملته حساً بل كان في الكنائس قتل، قاله ابن حبيب وغيره. قال في كتاب ابن سحنون: إذا وجد راهب قد نزل من صومعته وهو منهزم مع العدو فأخذ، فقال: إنما نزلت وهربت خوفاً منكم أنه لا يعرض له، وكذلك لا خفاء في قتله إذا أشار عليهم. وفي كتاب ابن سحنون: إذا مروا براهب فلا يستخبرونه عن شيء من أمر عدوهم. سحنون: ومن ترهب ببلد في دار الإسلام ولحق بدار الحرب سبيله سبيل الراهب، قيل: فكيف يعرفون أنه راهب؟ قال: لهم سيما يعرفون بها. قال: وكذلك إذا وجد الراهب في دار أو غار فهو كأهل الصوامع.

ابن حبيب: ولم ينه عن قتل الرهبان لفضل ترهبهم، بل هو أبعد من الله من غيرهم؛ لشدة كفرهم، ولكن لتركهم أهل دينهم فكانوا كالنساء. وقيل لمالك: ربما أسرى المسلمون سرية فيعلم بهم الراهب فيخافون أن يدل عليهم فنزلونه ليكون معهم، فإذا آمنوا أرسلوه. قال: ما سمعت أنه ينزل من صومعته. وعَلَى تَرْكِهِ يَكُونُ حُرّاً ويُتْرَكُ لَهُ مَا يَقُومُ بِهِ لا الْمَالِ الْكَثِيرِ عَلَى الأَشْهَرِ الأشهر ومقابله لمالك، والأشهر مذهب المدونة، ففيها: يترك لهم من أموالهم ما يعيشون به ولا تؤخذ كلها فيموتون جوعاً. فقوله: ولا تؤخذ كلها فيه دليل على أنه يؤخذ منهم ما زاد على الكفاية. وكذلك قال في العتبية: يترك لهم قدر ما يصلحهم. وكذلك قال في الجلاب: ولا تؤخذ أموالهم إلا أن يكون فيها فضل عن كفايتهم فتؤخذ فضولها. وفي التلقين: تترك لهم أموالهم، إلا أن تكون كثيرة فتؤخذ ويترك لهم اليسير. وقال سحنون: يترك للراهب من ماله ما يعيش به الأشهر، والشيخ الكبير بمنزلة الراهب فيما يترك له من العيش والكسوة. ونقل في البيان عنه: أنه لا يترك للراهب والشيخ إلا ما يستر عورته ويعيش بها الأيام. وقال اللخمي: قال مالك: ويترك له مثل البقرتين والغنيمات وما مثله يكفيه، والمبقلة والنخيلات، ويؤخ ذ ما بقي أو يحرق، ولكن تأول في البيان ما وقع لمالك في العتبية: أنه إنما يترك لهم ما يصلحهم، على ما إذا وجدنا عندهم أموالاً وادعو أنها لهم ولم نصدقهم. قال: وأما لو صدقناهم لتركناها لهم وإن كثرت. وأبقى غيره الرواية على ظاهرها: إنه يترك لهم ما كثر [263/ أ] ولو علم أن ذلك لهم. وقول ابن عبد السلام: إن أكثر الروايات أنه يترك لهم الجميع، والتفصيل بين الكثير والقليل هو مذهب سحنون، ليس بظاهر لما ذكرناه.

وفِي الرَّاهِبَاتِ مِثْلُهُمْ قَوْلانِ ألحقهن مالك في العتبية بالرجال، وقال: إنهن أحق بذلك. وقال سحنون باسترقاقهن، لأن الترهب لما منع قتل الرجال تبعه منع الاسترقاق، ودم المرأة لم يمنع منه الترهب، وإنما هو ممنوع بالشرع فلم يكن هناك أصل يتبعه الاسترقاق. ومَنْ وُجِدَ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَيْنَ الأَرْضَيْنِ وشُكَّ فِي أَنَّهُمْ حَرْبُ أَوْ سِلْمُ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا أَمْرُ مُشْكِلٌ ... قال: (وشُكَّ) لأنه إن قامت أمارة على أنه جاء للحرب أو السلم عمل عليها؛ وأما إن لم تعلم أمارة أو قامت ولكنها تعارضت، فقال مالك في المدونة: في العلج يلقاه المسلمون ببلد العدو وهو مقبل إلينا، فيقول: جئت أطلب الأمان، هذا أمر مشكل ويرد إلى مأمنه. وقال في العتبية: لا يقبل منه. ابن القاسم في العتبية: وإن أخذ ببلدنا فقال: جئت أطلب الفداء، قبل قوله إن أخذ بفور وصوله ولا يكون فيئاً، وإن لم يظهر عليه إلا بعد طول إقامة بين أظهرنا لم يقبل منه قوله ويسترق، وليس هو لمن وجده، ولا يقتل إلا أن يعلم أنه جاسوس فيقتل. وقال ابن حبيب وعزاه لمالك: إن كانوا من بلد اعتادوا الاختلاف منه فيما ادعوه من الفداء، أو التجارة، أو الاستئمان قبل قولهم وردوا إلى مأمنهم، وإلا فهم فيء، وبه قال سحنون وعيسى؛ وهو قول ربيعة في المدونة. وعن سحنون: أنه فيء إذا أخذ ببلدنا، سواء أخذ بقرب دخوله أو بعد طول. وفي كلام المصنف نظر من أوجه: أولها: كونه أسقط من قول مالك: ورد إلى مأمنه. وهو في نص المدونة كما ذكرنا، وقد ذكره اللخمي وابن يونس على أنه من كلام مالك. ثانيها: أن قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ) هذا مشكل يقتضي أن مالكاً قال ذلك فيما إذا وجد في أرض المسلمين أو بين الأرضي، وإنما نص مالك على من أخذ ببلد العدو، وألحق ابن

القاسم به الذي ينزل بساحتنا تاجراً قبل أن يعطى الأمان، صرح بذلك ابن يونس وغيره. وقال ابن محرز: سمعت من يقول معنى قول مالك أنهم لقوه وقد انفصل من بلده ولم يدخل بلدنا، وأما لو وجوده في بلدهم أو بلدنا لم يقبل قوله، ولم يكن في ذلك إشكال، وعلى هذا فيكون قول ابن القاسم مخالفاً. ثالثها: إن مفهوم كلام المصنف أن الذمي إذا أخذ ببلد العدو أنه لا يكون من محل الإشكال وليس كذلك كما ذكرنا. ابن يونس: وتحصيلها أنه إن أخذ ببلد الحرب وهو مقبل إلينا وقال: جئت لأطلب الأمان، قيل: يقبل منه ويرد إلى مأمنه، وقيل: لا يقبل منه. وإن أخذ ببلد الإسلام، فقال: جئت للإسلام، فقيل: إن أخذ بقرب دخوله قبل منه ورد إلى مأمنه، وإن أخذ لبعد لم يقبل منه، وليس لمن وجده ويرى فيه الإمام رأيه. وقيل: ذلك سواءُ وهو فيء ويرى الإمام رأيه، ولا خلاف فيمن أتى تاجراً، فيقول: ظننت أنكم لا تعرضوا لمن أتى تاجراً أنه يقبل منه ويرد إلى مأمنه، ولا خلاف أيضاً أنه إذا لم يكن معهم تجارة وتبين كذبهم، أو تكسرت مراكبهم ومعهم السلاح، أو نزلوا للعطش بلا أمان أنهم فيء. وعَلَى أَنَّهُمْ حَرْبٌ فَلا يَجُوزُ الْقَتْلُ عَلَى الأَشْهَرِ في هذا الكلام نظر؛ لأنه كيف يحكم على أحد المحتملين المتساويين من غير ترجيح، وكأن المصنف- والله أعلم- قصد اختصار كلام ابن بشير؛ لأنه قال: إن علم أنهم أهل حرب حكم فيهم بحكم أهل الحرب، وإن علم أنهم مستأمنون حكم فيهم بحكم المستأمنين، وإن شك فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الأصل إراقة دمهم فمع الشك يرجع إلى الأصل. والثاني: لا يستبيحهم إلا مع تيقن الإباحة، وإذا شككنا فإراقة الدم لا يقدم عليها مع الشك، قال: وكل ما في المذهب من الروايات فإلى هذا التقسيم يرجع، لكن إذا قلنا: إنهم فيء فهل يقتصر فيهم على الأسر وما ذكر معه دون القتل، أو يجوز قتلهم؟ قولان:

أحدهما: الاقتصار على الأسر لعظم أمر الدم. والثاني: جوازه نظراً إلى الأصل في إراقة دمهم. انتهى. وهذان القولان الأخيران في كلام ابن بشير هما القولان في كلام المصنف، لكن ابن بشير إنما ذكر الخلاف بعد أن ذكر أولاً قولين، والمصنف لم يذكر في المسألة خلافاً ابتداء؛ فلذلك صار كلامه مشكلاً. أَمَّا إِذَا حَصَلَ الظَّنُّ بأَحَدِهِمَا عُمِلَ عَلَيْهِ عَلَى الأَصَحِّ كلامه يقتضي حصول الخلاف مع ظن الصدق وظن الكذب ولم أر ذلك، بل صرح اللخمي فيه بنفي الخلاف؛ لأنه قال: إن قام دليل على صدقه كان آمناً ولم يسترق، وإن قام دليل على كذبه لم يقبل قوله وكان رقيقاً. وإن لم يقم دليل على أحدهما فهو موضع الخلاف، فإن قال: جئت رسولاً ومعه مكاتبة، أو جئت لفداء ومعه من يفديه، أو لقريب لي وله قرابة بذلك البلد كان دليلاً على صدقه. وإن قال: جئت أطلب الأمان وقد خرج إليهم عسكر المسلمين فوجد على طريق جيش بلا سلاح كان أمره مشكلاً، وإن لم يكن مقبلاً إلينا ولا على طريقهم لم يصدق. ونحوه لابن يونس، قال: لا خلاف فيمن أتى تاجراً، فيقول: ظننت أنكم لا تتعرضون [263/ ب] لمن أتاكم تاجراً أنه يقبل قوله أو يرد إلى مأمنه، ولا خلاف إن لم تكن معهم تجارة وتبين كذبهم أو انكسرت مراكبهم ومعهم السلاح، أو ينزلون للعطش بغير أمان أنهم فيء ويرى الإمام فيهم رأيه من بيع، أو قتل، أو فداء وليسوا لمن وجدهم ولا يخمسون. انتهى. وكذلك قال ابن راشد وابن عبد السلام: أنهما لم يقفا على مقابل الأصح، زاد ابن عبد السلام: وما وجدت أحداً ممن تكلم على هذه المسألة ممن يعتبر قوله ذكر قولاً بالقتل في محل الإشكال وإذا انتفى القتل في محل الإشكال كان انتفاؤه مع أمارة صدق الرومي أولى، وكلام المصنف يدل على وجود الخلاف في ذلك. انتهى وقد قدمنا من كلام ابن

بشير قولاً بالقتل في محل الإشكال، وكذلك ذكر المازري فيه قولين، ثم قال: وهذا الخلاف إذا ادعى أنه طالب للأمان، وأما إن لم يعتذر بعذر فظاهر المذهب أنه يستباح، وكذلك ظاهر المذهب تطرق التهمة إلى من حصل في بلادنا مغلوباً كمن ردته الريح إلينا بخلاف من لقيناه يمشي طائعاً إلينا. التونسي: وإذا وجد في أسواق المسلمين ومدائنهم لم يقبل قوله؛ لأنه لو كان صادقاً لأخبر بذلك أول دخوله، ولو قال: فلان أعطاني الأمان فأنكر فلان لم يقبل قوله على فلان ورأى فيه الإمام رأيه. وقال أصبغ: إذا أنكر فلان، فالإمام مخير إن شاء أمنه أو رده إلى مأمنه، ولم يعجب محمداً ما قال أصبغ، وقال: إن شاء رأى الإمام فيه رأيه. وأَمَّا مَنْ نَزَلَ بَأَمَانٍ فَبَاعَ وَرَجَعَ فَرَدَّتْهُ الرِّيحُ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ يعني: وأما لو نزل حربي بتجارة بأمان فباع واشترى ثم ذهب فردته الريح فهو على أمانه، وظاهر المدونة: أنهم على أمانهم سواء خرجوا من بلاد الإسلام أم لا، رمتهم الريح إلى بلد السلطان الذي أعطاهم الأمان أم لا. ففيها: وإذا نزل تجار بأمان فباعوا وانصرفا فأبينما رمتهم الريح من بلد الإسلام فالأمان لهم ما داموا في تجرهم حتى يردوا بلادهم. ولأصبغ: لهم الأمان إلا أن يفارقوا بلاد الإسلام. وقال ابن المواز: لهم حتى ينالوا مأمنهم من بلدهم. وقال ابن الماجشون: الأمان مقصور على بلد السلطان الذي أمنهم، واختلف الشيوخ في هذا الخلاف، فرأى المازري أن هذا الخلاف كله راجع إلى شيء واحد، وهو ما قصده المؤمن بالتأمين هل قصده العموم أو لا؟ وعلى هذا فمتى تحقق قصد المؤمن العموم فالاتفاق على ذلك، ولعل المصنف ممن سلك هذه الطريقة لعدم تعرضه للخلاف مع شهرته، وحمل ابن يونس ذلك على الخلاف، فإنهقال: تحصيل الخلاف في هذه المسألة؛ قيل: لهم الأمان حتى يصلوا إلى بلادهم، وقيل: حتى يقاربوا مأمنهم. فإن رجعوا بعد بلوغهم إلى مأمنهم بريح غالبة أو مختارين، فقيل: الإمام مخير إن شاء أنزلهم وإن شاء

ردهم، وقيل: بل هم حل. وقيل: إن رجعوا مغلوبين فالإمام مخير إن شاء أنزلهم وإن شاء ردهم، وإن كانوا مختارين فهم حل. وإن هو وقع، إذا رجع لغير السلطان الذي أمنه، فقيل: هو مثل الذي أمنه سواء، وقيل: بل هو حل له ولا أمان له، رجع إليه أو لقيه في البحر بقرب أو بعد من موضع خرج منه. وأما إن لم يبلغ مأمنه فرجع إلى موضع كان آمناً فيه كان عليه إنزاله ولم يمنعه. انتهى. ابن رشد: وإذا غنم العدو في بلد المسلمين شيئاً من أموال المسلمين، ثم غنمه المسلمون منهم قبل أن يصلوا به إلى بلادهم، فهل يقسم إذا لم يعرف صاحبه أم لا؟ وهل يأخذه صاحبه إن قسم بثمن أم لا؟ وأنه كان يختلف عندهم في ذلك، وهذه المسألة أصل لذلك. ويَجُوزُ قَتْلُ الْعَيْنِ وإِنْ كَانَ مُسْتَامَناً العين: هو الجاسوس، فيقتل ولو قدم بأمان، وهو مراده بقوله: (مُسْتَامَناً) سحنون: إلا أن يسلم فلا يقتل ويكون كأسير أسلم. فرع: وكذلك الذمي يكون عندناً فيتبين أنه عين فلا عهد له. سحنون: ويقتل. اللخمي: يريد إلا أن يرى الإمام استرقاقه. واختلف في المسلم يظهر أنه عين على خمسة أقوال: قال مالك في العتبية: ما سمعت فيه شيئاً ويتخير فيه الإمام. وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن القاسم: لا يعرف لهذا توبة، وقاله سحنون. وقال عبد الملك: إن كان معتاداً لذلك قتل، وإن ظن به الجهل وعرف بالغفلة وأن مثله لا عورة عنده، وكان منه المرة وليس من أهل الطعن على الإسلام فلينكل. سحنون: وقال بعض أصحابنا يجلد جلداً منكلاً ويطال حبسه وينفي من موضع يقرب فيه من المشركين.

وإِذَا دَخَلَ بِلادَ الْحَرْبِ ولَمْ تُرْجَ قُطِعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وحُرِّقَ وخُرِّبَ يعني: إذا دخل المسلمون بلاد الحرب ولم ترج أن تصير للمسلمين، جاز قطع أشجارهم وتحريقها وتخريب بنائهم؛ لأن ذلك من التضييق عليهم وفيه إضعاف لأمرهم، وليس ذلك أكثر من إباحة قتلهم. سحنون: وأصل نهي الصديق- رضي الله عنه- عن قطع الشجر وخراب العامر؛ إنما يكون ذلك فيما يرجى مصيره للمسلمين. وفِي النَّحْلِ خَاصَّةً قَوْلانِ النحل بالحاء المهملة، وهذا كالاستثناء من قوله: (حرق وخرب) يعني: أن هذا إنما هو في غير النحل. واختلف في إتلاف النحل على قولين: [264/ أ] حكى الباجي روايتين فقال: روى ابن حبيب عنه: جواز ذلك فيه. وروى غيره: أنه كرهه. قال: وهذا إذا لم تدع إليه حاجة، وأما إن احتيج إلى ذلك ولم يمكن إلا بتحريقها أو تغريقها فعل من ذلك ما يتوصل به إلى ما في أجباحها، وكذلك قال التونسي. وقاس من قال بالجواز ذلك على سائر أموالهم، ومن منع تمسك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم والصديق عن ذلك كما تقدم. وأشار المازري إلى أن محل الخلاف إنما هو إذا كانت كثيرة بحيث يكون لهم في ذلك نكاية، وأما إن كانت يسيرة بحيث لا نكاية للعدو في إتلافها فإنها تترك. فَإِنْ رُجِيَتْ جَازَ إِنْ كَانَ إِنْكَاءً هذا قسيم قوله أولاً: (ولم ترج) وحاصله: أنه لا يجوز مع الرجاء إلا بشرط حصول النكاية لهم بذلك. وما عُجِزَ عَنْ حَمْلِهِ أُتْلِفَ مِمَّا لَهُمْ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ آكِلِي الْمَيْتَةِ حُرِّقَ الْحَيَوَانُ بَعْدَ قَتْلِهِ .... يعني: أن للمسلمين إذا قدروا على مال الكفار وعجزوا عن حمله أو عن حمل بعض متاعهم فإنهم يتلفونه؛ لئلا ينتفع العدو به، وسواء الحيوان وغيره على المشهور المعروف.

وروى ابن وهب أنه لا يتلف الحيوان لغير مأكلة؛ لعموم نهي الصديق وهذا في غير مراكبهم، وأما مراكبهم فلا خلاف في جواز قتلها وإتلافها بكل ما يجوز به قتل راكبيها. قال المازري: وعلى المشهور فبماذا يتلف الحيوان؟ قال المصريون من أصحاب مالك: تعرقب وتذبح ويجهز عليها. وقال المدنيون: يجهز عليها، وكرهوا أن تعرقب وتذبح. قال ابن حبيب: لأن الذبح مثله، والتعرقب تعذيب. المازري: واختار بعض أصحابنا الذبح؛ لأنه أروح للحيوان. واستشكل الباجي وغيره قول ابن حبيب: الذبح مثله؛ لأنه مباح فيما نهي عن التمثيل به، وإنما كره- والله أعلم- لأنه قد يكون فيها مثل الخيل ونحوها فيكون وسيلة إلى أكلها وتشكيكاً للعوام في إباحة الأكل، ونزل ابن بشير قول المصريين والمدنيين على أنه خلاف في حال، فإن أمكن أن يحتاج إليه المسلمون لم يتلف عليهم بالإجهاز، وإن لم يحتاجوا إليه أتلف. قوله: (فَإِنْ كَانُوا مِنْ آكِلِي الْمَيْتَةِ حُرِّقَ الْحَيَوَانُ بَعْدَ قَتْلِهِ) كذا قال جماعة. الباجي، وابن بشير وغيرهما وهو ظاهر، وإن كان ابن القاسم قال: ما سمعت في الدواب أنها تحرق بعد عرقبتها. فرع: وإذا عجزنا عن حمل النساء والصبيان والشيوخ، فإن كنا تركناهم في بلاد الحرب ثم جاء غيرنا فأخذهم فإنهم لمن أخذهم؛ لأنه لم يملكهم ملكاً تاماً، وأما إن تركناهم في حوز الإسلام فذلك كالإعتاق ولا سبيل لأحد عليهم، نقله ابن حبيب عمن يرضاه، واعترض ابن يونس قوله في الوجه الأول وأشار إلى أنه ينبغي أن يكونوا أحراراً كما في الوجه الثاني، وقال: كيف لم يملكهم ملكاً تاماً وهو له أن يطأ ويبيع ولو أعتق لم يكن له فيه رجوع، وقد قال محمد عن أشهب: فيمن اشترى شيئاً من السبي فعجز عن بعضه فتركه، فدخلت خيل أخرى فأخذته فهو لصاحبه الأول. وقول محمد صواب ما لم يكن رقيقاً أعتقهم فتركهم على العتق.

ويَجُوزُ لأَمِيرِ الْجَيْشِ إِعْطَاءُ الأَمَانِ مُطْلَقاً ومُقَيَّداً قَبْلَ الْفَتْحِ وبَعْدَهُ، ويَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ ..... لأن الأمير قد يرى المصلحة للمسلمين في تأمين العدو أو بعضهم إما مطلقاً، أو مقيداً بزمان أو مكان أو صفة. ابن بشير: ولا خلاف بين الأمة في ذلك، وإذا جاز هذا لأمير الجيش فلأن يجوز لأمير المسلمين أولى ووجب عليه اعتبار المصلحة؛ لأنه وكيل على المسلمين والوكيل إنما يتصرف على هذا الوجه ولا يجوز له اتباع هواه، فإن قلت: ينبغي أن يحمل قوله: (مُطْلَقاً) على ما عدا هذه الأمكنة؛ لأن المذهب اختلف في المستأمن بأمان سلطان إذا خرج إلى سلطان آخر هل يستبيحه هذا السلطان أم لا؟ قيل: إن بنينا على ما قاله المازري وغيره: من أنه لا خلاف في المسألة، كان ما ذكره المصنف من الإطلاق متفقاً عليه. وإن بنينا على ما قاله ابن يونس: أن المشهور تعميم الأمان، خلافاً لابن الماجشون في قصره ذلك على بلد السلطان، يكون كلام المصنف جارياً على المشهور. والله أعلم. فرع: ليس لأحد الناس أن يعقد الأمان لأهل إقليم، وإن وقع فالإمام مخير في إمضائه، وإنما ذلك للسلطان، هكذا قال غير واحد. وكَذَلِكَ كُلُّ ذَكَرٍ حُرٍّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ، أَوْ مُجَازٍ أَجَازَهُ الإِمَامُ قَبْلَ الْفَتْحِ. وقِيلَ: إِنْ كَانَ صَوَاباً تقدم أن الإقليم لا يعطي أهله الأمان إلا الأمير، فكلام المصنف ليس على إطلاقه، وكلامه مشتمل على خمسة شروط؛ لأن قوله: (حُرٍّ) يفهم منه الذكورية. وقوله: (وكَذَلِكَ) أي: يجوز تأمينه وليس للإمام رده، وهو قول مالك وابن القاسم. وقال ابن الماجشون: الإمام مخير بين أن يمضيه أو يرده، وإلى حمل قول ابن الماجشون على الخلاف ذهب عبد الوهاب والباجي وغيرهما، وهو ظاهر كلام المصنف.

الباجي: ودليل قول مالك قوله صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمة المسلمين أدناهم". وقال ابن يونس: [264/ ب] وأصحابنا يحملون قوله على أنه ليس بخلاف، خلاف ما تأوله عبد الوهاب. انتهى. وبعض من حمل كلام ابن الماجشون على الخلاف رأى أن ابن القاسم، وابن الماجشون لم يختلفا في أن الإمام مخير، وإنما اختلف في صفة التخيير، فابن القاسم يقول: هو مخير بين أن يجيز أو يرده إلى مأمنه، وغيره يقول: هو مخير بين أن يجيز أو يرده فيئاً. تنبيه: نص ابن حبيب على أنه لا ينبغي التأمين لغير الإمام ابتداءً، وهو خلاف ظاهر كلام المصنف؛ لأن قوله: (وكذلك) يقتضي جواز ذلك ابتداءً، إذ لا خلاف في جوازه للإمام ابتداءً. وظاهر المدونة ككلام المصنف، ففيها: ويجوز أمان المرأة والعبد والصبي إن عقل الأمان. ويحتمل: يجوز إن وقع، وكذلك اختلف في كلام ابن حبيب هل هو موافق للمدونة أو مخالف. وقوله: (قَبْلَ الْفَتْحِ) يريد ما لم يتعلق للمسلمين حق؛ فقد نص سحنون على أنه إذا أشرف المسلمون على أخذ الحصن وتيقن أخذه، فأمنهم رجل من المسلمين أن للإمام رد تأمينه. وفِي أَمْنِهِمْ بَعْدَ الْفَتْحِ قَوْلانِ ظاهر كلام المصنف أن الخلاف عام في حق من أمنه وفي حق غيره، وأنه عام في القتل والاسترقاق وليس كذلك، بل يجوز لمن أمنه قتله اتفاقاً، والخلاف إنما هو في القتل لا في الاسترقاق؛ لأنه صار مملوكاً. والقول بسقوط القتل لابن القاسم، وابن المواز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم". قال سحنون: لا يحل لمن أمنه قتله، وأما الإمام فإن شاء قتله فعل، وإن شاء أمضى أمانه وكان فيئاً. وقوله: (وفِي أَمْنِهِمْ) يحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى الفاعل؛ أي: وفي أمن المسلمين للعدو. ويحتمل أن يكون مضافاً للمفعول؛ أي: وفي أمن الكفار. والمعنى سواء، والظاهر أن تقديره: وفي

إمضاء أمنهم؛ لأن ابن القاسم وغيره إنما تكلموا على ذلك بعد الوقوع، وكذلك نقل ابن بشير، ولفظه: وأما إذا وقع الفتح، فإن أمنه الأمير صح تأمينه، وإن أمنه غيره فهل يصح تأمينه فيكون مانعاً من القتل؟ قولان. وفِي ثُبُوتِهِ مِنْهُمْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَوْلانِ قال بعضهم: هذا الخلاف مبني على قول سحنون القائل بعدم إجازة التأمين بعد الفتح، فإذا ادعى أنه أمنه قبل الفتح فهل يقبل- لأن الأصل الصدق، وهذا قول ابن القاسم، وأصبغ- أم لا؟ ولابد في ذلك من شاهدين، وهو قول سحنون. وهذا ظاهر؛ لأن من يجيز التأمين بعد الفتح لا يحسن بناء هذا الخلاف عليه، إذ لا يتهم حينئذ؛ لأنه إن صدقه الإمام في ذلك مضى، وإن لم يصدقه استأنف له الإمام حينئذٍ. وقال ابن عبد السلام: عندي أن هذين القولين يأتيان على قول ابن القاسم أيضاً. قال ابن القاسم في ذلك: وهذا الخلاف فيما عدا الإمام، وأما الإمام فيقبل منه بغير تفصيل. وأَمَانُ الْمَرْأَةِ والْعَبْدِ والصَّبِيِّ إِنْ عَقَلَ الأَمَانُ مُعْتَبَرٌ عَلَى الأَشْهَرِ الأشهر مذهب المدونة، وروى أبو الفرج عن مالك: لا أمان للثلاثة؛ وقال سحنون وابن حبيب: إما أن يوفى له بذلك أو يرد إلى مأمنه، وأما القتل فلا. ابن عبد السلام: وانظر فيما حكاه أبو الفرج هل له أن يقتل من أمنوه إذا لم يجزه؟ وعن سحنون في العبد إذا أذن له سيده في القتل صح أمانه، وإلا فلا. وقيل: إن قاتل العبد صح أمانه وإلا فلا. الباجي: ولا خلاف في اعتبار العقل في لزوم الأمان وصحته. ومعنى قوله: (عَقَلَ الأَمَانُ) أي: علم ثمرته وأنه يؤجر على الوفاء به وأن نقضه مذموم. وتجاذب المشهور، ومقابله قوله صىلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه جائز؛ وإنما جاز بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم

له. وقد يقال: عدم إمضاء أمانها أظهر، فإنه لو كان صحيحاً لما جهل ذلك علي – رضي الله تعالى عنه- فإنه أراد قتل من أجارته أم هانئ. وتمسكوا للمشهور في العبد بقوله صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم". وقال: من لم يعتبر تأمينه إن أول الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "تتكافأ دماؤهم" يخرجه. بِخِلافِ الذِّمِّيِّ عَلَى الأَشْهَرِ أي: فلا يعتبر أمانه على الأشهر، ومقابل الأشهر ذكره جماعة. ففي المازري، والتبيهات: مشهور المذهب لا يجوز أمان المشرك. وقال الباجي: الظاهر من المذهب اعتبار الإسلام. والشاذ لا يرى أمانه لازماً مطلقاً، بل يجعل الإمام فيه مخيراً، قاله المازري، وابن عبد السلام وغيرهما. اللخمي: واختلف بعد القول أن الأمان لهم إن قالوا: ظننا أن الذي أعطانا الأمان مسلم، فقال ابن القاسم مرة: لا يقبل عذرهم. وقال مرة: ذلك لهم ويردون إلى مأمنهم. وأرى إذا كان عالماً أنه نصراني وقال: ظننت أن جواره جائز أن يرد إلى مأمنه؛ لأن ذلك مشكل ولم يأت بما لا يشبه فلا يستباح بالشك. وإن قال: علمت أن جوار النصراني غير لازم ولم أعلم أنه نصراني لم يصدق؛ لأنهم أهل دين واحد. ولَوْ ظَنَّ الْحَرْبِيُّ الأَمَانَ فَجَاءَ، أَوْ نَهَى الإِمَامُ النَّاسَ فَعَصوا أَوْ نَسُوا أَوْ جَهِلُوا أُمْضِيَ أَوْ رُدَّ إِلَى مَامَنِهِ ..... يعني: أن الحربي إذا توهم الأمان، أو نهى الإمام الناس عن التأمين، فأمنوا نسياناً أو عصياناً أو جهلاً، فأتى إلينا الحربي معتمداً [265/ أ] على ذلك فلا يجوز قتله ولا استرقاقه، بل يخير الإمام في إمضائه أو يرد. ابن راشد: وقوله: (إلى مأمنه) صوابه أن يقول: رد إلى حيث كان قبل التأمين؛ إذ قد يكون بموضع هو فيه خائف فلا يصح أن يرد إلى حيث يأمن، بل إلى حيث كان قبل التأمين، وهذا هو المنقول.

الجزية

فرع: الباجي: والتأمين لازم بكل لسان فهمه المؤمن أم لا، إن أراد المؤمن التأمين، وحكم الإشارة حكم العبارة. وفروع هذا الباب كثيرة اقتصرنا منها على ما ذكره المصنف، وإن أحببت الوقوف عليها ففي النوادر. وَيَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِجْمَاعاً، وفِي غَيْرِهِمْ مَشْهُورُهَا تُؤْخَذُ، وثَالِثُهَا: تُؤْخَذُ إِلا مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ، ورَابِعُهَا: إِلا مِنْ قُرَيْشِ .... ينبغي أن يفهم الجواز على معنى الإذن في الإقدام لا بمعنى الإباحة، فإن الكتابي إذا بذل الجزية بشرطها حرم قتاله، والكفار ثلاثة أصناف: الأول: أهل الكتاب، وحكمهم أن الجزية تقبل منهم بالإجماع، نقل ذلك غير واحد. والثاني: الحبشة والترك، وحكمهم أنهم يدعون إلى الإسلام، فإن أبوا فالمشهور جواز قتالهم، فقد أباح مالك في المدونة قتال الفزازنة وهم صنف من الحبشة، وأباح ابن القاسم غزو الترك. وحكى ابن شعبان عن مالك: لا تغزى الحبشة والترك. ابن القاسم: وأخبرني من أثق به من أهل المدينة عن حرملة بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتركوا الحبشة ما تركوكم". ونحوه ذكره ابن شعبان في الحبشة والترك. ومنشأ الخلاف أن من صحت عنده هذه الآثار خصص بها العمومات الدالة على قتال جميع الكفار، ومن لم تصح عنده أو حمل النهي عن قتالهم على الإرشاد- أي: أن قتال غيرهم في ذلك الزمان أولى- رأى أن قتالهم في هذا الزمان مباح. والصنف الثالث: ما عدا ما ذكر من أهل الكفر، وحكى المصنف أربعة أقوال: المشهور: أنها تؤخذ من كل كافر يصح سباه، ولا يخرج من ذلك إلا المرتد. والقول بعدم الأخذ مطلقاً لابن الماجشون، ولا يفهم على عمومه كما هو ظاهر كلام المصنف، وابن بشير، فإنه لم يختلف في القبول من مجوس العجم، قاله صاحب المقدمات، والباجي وغيرهما؛ لما في الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".

والثالث لابن وهب، نقله اللخمي وغيره. والقول الرابع لابن الجهم، وذكر الباجي أن ابن القصار نقل هذا القول عن مالك، وظاهر كلام المصنف: أن المذهب خلاف قول ابن الجهم، وأن في المذهب أربعة أقوال، وأن المشهور على إطلاقه، وعلى هذا الظاهر مشاه ابن راشد، وابن عبد السلام. وذكر المازري أن ظاهر المذهب كما شهره المصنف قال: وحكى المصنفون لمسائل الخلاف من أصحابنا وغيرهم أن مذهب مالك أنها تقبل إلا من كفار قريش، ونقل صاحب المقدمات الإجماع على أن كفار قريش لا تؤخذ منهم الجزية، وذكر أن ابن الجهم نقل الإجماع أيضاً، وكذلك مقتضى كلام المصنف أن المشهور أخذها من عبدة الأوثان. وذكر ابن عطية في تفسيره أن المنصوص في الوثني من العرب عدم أخذها منهم، وأنهم يقاتلون إلا أن يسلموا. قال: ويؤخذ مما في الخلاف أنها تؤخذ منهم احتمالاً لا نصاً. خليل: وفيه نظر، فإنه نص في الجلاب على أنها تؤخذم ن الوثني، وكذلك صاحب الكافي، وابن بشير وغيرهم؛ واختلف في تعليل عدم أخذها من كفار قريش، فعلله ابن الجهم بأنها لم تؤخذ منهم إكراماً لهم لمكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تؤخذ على وجه الصغار والذلة. وعلله القزويني بأن قريشاً أسلموا كلهم، فإن وجد منهم كافر فهو مرتد فلا تؤخذ منه. المازري: وإن ثبتت الردة فلا يختلف في عدم أخذها منهم، وحكى الباجي والمازري عن ابن وهب أنه منع قبولها من العرب مطلقاً، فإن صح أنه اختلف قوله في ذلك، صار في المسألة خمسة أقوال، ومنشأ الخلاف النظر إلى قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ([التوبة: 29] هل هو كالشرط فلا تقبل من غيرهم، أو لا فتقبل؟ فائدة: يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا فيهم سنة أهل الكتاب". أن المجوس ليسوا أهل كتاب. ابن بشير: ولا خلاف أنهم الآن ليس لهم كتاب، واختلف هل كان لهم كتاب فرفع أم لا؟

وتَلْزَمُ بِالنُّفْلَةِ إِلَى مَوْضِعٍ لا يُمْتَنَعُ فِيهِ عَنْهَا يعني: أن من تمام كون الذمي من أهل الجزية أن يكون حيث تناله أحكامنا، ولا يمكن حيث يمكن أن ينقض العهد، فإن أبوا من الانتقال قوتلوا ولم يتركوا. ولا تُؤْخَذُ إِلا مِنْ ذَكَرٍ حُرٍّ عَاقِلٍ بَالِغٍ مُخَالِطٍ، ولا تُؤْخَذُ مِنِ امْرَآَةٍ ولا عَبْدٍ ولا مَجْنُونٍ ولا صَغِيرٍ ولا رَاهِبٍ، وفِيمَنْ تَرَهَّبَ بَعْدَ عَقْدِهَا قَوْلانِ. حاصله: أنها لا تؤخذ إلا ممن اجتمعت فيه خمسة شروط، وتصور كلامه ظاهر. وقوله: (رَاهِبٍ) أي: راهب الصوامع [265/ ب] والديارات. وأما راهب الكنيسة فتؤخذ منه؛ لأنه يقتل، والأصل في هذا قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ([التوبة: 29] والضمير عائد على المقاتلي، وهؤلاء الخمسة لا يقاتلون. أبو حنيفة: وتؤخذ منهم الجزية أول الحول حين العقد. وقال الشافعي: بل في آخره. الباجي: ولم أر في ذلك نصاً لأصحابنا، والذي ظهر لي من مقاصدهم أنها تؤخذ آخره وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأنها حق يتعلق وجوبه بالحول فوجب أن تؤخذ في آخره كالزكاة. قال صاحب المقدمات: ونقل عن بعض الأصحاب أنه قصرها على جزية العنوة، ورأى أن الصحيح في الصلح أن تؤخذ معجلة؛ لأنها عوض عن تأمينهم وحقن دمائهم، ورده عليه ورأى أنه لا فرق في ذلك. وقوله: (وفِيمَنْ تَرَهَّبَ بَعْدَ عَقْدِهَا قَوْلانِ) القول الأول بعدم زوالها بالترهيب نقله اللخمي عن مطرف، وابن الماجشون. والقول بالسقوط نسبه في البيان لابن القاسم، ووجهه أن الحكم في الأصل دائر مع الرهبانية وجوداً وعدماً.

فرع: يجوز أخذ الجزية في جميع البلاد إلا في جزيرة العرب؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبقين دينان في جزيرة العرب". وهي مكة، والمدينة، واليمن. وفي رواية عيسى بن دينار: وروى ابن حبيب من أقصى عدن وما والاها من أرض اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول. وأما العرض: فمن جدة وما ولاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب. وفي المشرق: ما بين يثرب إلى منقطع السماوة، ولا يمنعون من الاجتياز بها. واختلف في العبيد، فقال عيسى: يخرجون كالأحرار، قيل له: فما بال أبي لؤلؤة؟ فقال: قد أراد عمر إخراجه مع من أخرج حتى طلبه غيره بأن يقره لعلمه. وقال ابن مزين: لا يخرج العبيد، قال: وإنما كره عمر- رضي الله عنه- أبا لؤلؤة ونحوه لغوائلهم. ولاَ مِنْ حُرٍّ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ، بِخِلافِ مَنْ أَعْتَقَهُ ذِمِّيٌّ حاصله: أن المعتق يعطى حكم من أعتقه، وهذا قول ابن القاسم في المدونة، وأسقطها أشهب عن معتق الكافر أيضاً تبعاً لحالته الأولى، فإنه كان ليس من أهل الجزية، وتوقف مالك في الموازية في معتق الكافر. وقال ابن حبيب في النصراني يعتقه مسلم: قد اختلف فيه، وأحب إلي أن تؤخذ منهم الجزية صغاراً لهم، وعلى هذا فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: ثالثها المشهور إن كان المعتق مسلماً فلا شيء عليه، وإن كان كافراً فعليه تبعاً لسيده. ابن عبد السلام: وقد يقال في هذه التبعية نظر؛ فإن غاية أمر الولاء أن يكون كالنسب، والانتساب للمسلم غير مانع من أخذها. قال في المقدمات بعد أن ذكر الثلاثة الأقوال: وهذا الاختلاف إنما هو إذا أعتق في بلاد الإسلام، وأما إن أعتق في دار الحرب فعليه الجزية على كل حال.

وفِي أَخْذِهَا مِنَ الْفَقِيرِ قَوْلانِ ابن عبد السلام: المشهور من القولين السقوط، لكن بتدريج فتؤخذ من الفقير الذي يجد من أين يؤديها ولا كبير إجحاف عليه، وتسقط عمن لا يقدر عليها ولا على شيء منها ولا يطلب بها بعد غناه، وتخفف عمن حاله بين هذين على حسب نظر الإمام. وفي الكافي: وتؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهم وإلى هذا رجع مالك، ومن بلغ منهم أخذت منه الجزية عند بلوغه ولا ينتظر به الحول. وقال ابن حبيب في الواضحة: لا تؤخذ الجزية من الفقير. اللخمي: وهو أحسن، وفي المقدمات: ولا تنقص عن الفقير لفقره إذا كانت له قوة على احتمالها، واختلف إن ضعف عن حمل جملتها؛ فقيل: إنها توضع عنه وهو الظاهر من قول ابن القاسم، وقيل: قد يحمل منها بقدر احتماله. قال القاضي أبو الحسن: ولا حد لذلك. وقد قيل: إن حد أقل الجزية دينار أو عشرة دراهم. وهِي أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وأَرْبَعُونَ دِرْهَماً مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ لا يزاد على ذلك وإن كثر يسرهم على المشهور. ونقل في الكافي قولاً أنه يزاد على من قوي على ذلك. مالك في الموازية: ويوضع عن أهل الجزية ما كان قدره عمر- رضي الله تعالى عنه- عليهم من ضيافة ثلاثة أيام وأرزاق المسلمين؛ لما أحدث عليهم من الجور. وقال في المقدمات: معنى ذلك أنه لا يسوغ لأحد ممن مر بهم أن يأخذ ضيافتهم إذا علم أنه لم يوف لهم بالعهد. الباجي: وقول مالك يدل على أن ذلك لازم مع الوفاء بما عوهدوا عليه. تنبيه: وهذا كله إنما هو في الجزية العنوية؛ وأما الصلحية فلا حد لها إلا بحسب ما تقرر عليهم من قليل أو كثير، قاله ابن حبيب وغيره. قال في المقدمات: وفيه نظر، والصحيح

أنه لا حد لأكثرها، وأقلها ما فرض عمر. انتهى. فيكون أقلها أربعة دنانير أو أربعون درهماً، ثم ذكر أنها إذا وقعت مبهمة حملت على الجزية العنوية. وفِي [266/ أ] التَّخْفِيفِ عَمَّنْ دُونَ الْمَلِيءِ قَوْلانِ القول بالتخفيف لمالك وأصبغ، ومقابله لابن القاسم. ومَنْ أَسْلَمَ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَوْ سِنُونَ، كَمَا يَسْقُطُ الْمَالُ الَّذِي هُودِنَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحُصُونِ إِذَا أَسْلَمُوا .... تصور كلامه ظاهر؛ ونبه على خلاف الشافعي، فإنه قال بعدم السقوط بالإسلام؛ ووجه مذهبنا: أن الله قرن أخذها بالذلة والصغار وذلك غير ممكن بعد الإسلام. مالك: وبلغين أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن اسلم من أهل الجزية حين يسلمون. مالك: وهي السنة التي لا اختلاف فيها؛ ولما في ذلك من التأليف على الإسلام. وقوله: (هُودِنَ) أي: صولح. ويَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الصُّلْحِ بِالإِسْلامِ الْجِزْيَةُ عَنْهُ وعَنْ أَرْضِهِ ودَارِهِ أهل الصلح: قوم من الكفار حموا بلادهم حتى صولحوا على شيء يعطونه من أموالهم، فما صولحوا على بقائه بأيديهم فهو مال صلح أرضاً كان أو غيرها، وما صولحوا به أو أعطوه عن إقرارهم في بلادهم أو تأمينهم أرضاً كان أو غيرها، فإنه ليس بمال صلح، قاله الباجي. وروى ابن حبيب أن الجزية الصلحية جزيتان؛ أولاهما: أن تكون عن الجماجم. والثانية: أن تكون على جملتهم، فإن كانت على الجماجم، فهذه الجزية تزيد بزيادتهم وتنقص بنقصانهم، ويبرأ من أداها وإن لم يؤد غيره شيئاً، وإن كانت عن جملتهم فلا يزاد على ذلك بزيادتهم ولا ينقص منها لنقصانهم، ولا يبرأ أحد منهم إلا بأداء الجميع؛ لأنهم حملاء؛ وجعل صاحب المقدمات الجزية الصلحية ثلاثة أوجه:

الأول: أن تكون الجزية مجملة عليهم. والثاني: أن تكون مفرقة على رقابهم دون الأرض. والثالث: أن تكون مفرقة على رقابهم وأرضهم، أو على أرضهم دون رقابهم، مثل أن يقول: على كل رأس كذا وكذا، وعلى كل زيتونة كذا وكذا. قال: ولكل وجه من هذه الوجه أحكام تخصه. فأما إذا كانت الجزية مجملة عليهم: فذهب ابن حبيب إلى أن الأرض موقوفة للجزية لا تباع، ولا تقسم، ولا تورث، ولا تكون لهم إن أسلموا عليها، وأن مال من مات منهم لورثته من أهل دينه، إلا أن لا يكون له ورثة من أهل دينه فيكون للمسلمين. وذهب ابن القاسم إلى أن أرضهم بمنزلة ما لهم يبيعونها ويورثونها ويقتسمونها وتكون لهم إن أسلموا عليها، وإن مات منهم ميت ولا وارث له فأرضه وماله لأهل مواده، ولا يمنعون من الوصايا وإن أحاطت بأموالهم، إذ لا ينقصون من الجزية شيئاً بموت من مات منهم. خليل: يريد بهذا الوجه: أن الصلح وقع مجملاً على البلد بما حوت من أرض ورقاب من غير تفصيل بما يخص كل واحد، وأما لو وقعت مجملة على الرقاب دون البلد، فنص ابن حبيب على أن لهم بيع الأرض وأنها تورث عنهم كما لو كانت مفصلة على الجماجم، نقله ابن يونس عنه. وعلى هذا فتصير أربعة أوجه؛ قال: وأما إن كانت الجزية مفرقة على رقابهم، فلا اختلاف أن لهم أرضهم ومالهم يبيعون ويورثون وتكون لهم إن أسلموا عليها، ومن مات منهم ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله للمسلمين، ولا تجوز وصيته إلا في ثلث ماله. وأما إن كانت الجزية مفرقة على الجماجم والأرض، أو على الأرض دون الجماجم، فاختلفوا في جواز بيع الأرض على ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع لا يجوز، وهي رواية ابن نافع عن مالك. والثاني: أن البيع جائز ويكون الخراج على البائع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها.

والثالث: أن البيع جائز ويكون الخراج على المبتاع ما لم يسلم البائع، وهو مذهب أشهب، وقوله في المدونة، ولا اختلاف أنها تكون لهم إن أسلموا عليها، وأنهم يرثونها بمنزلة سائر أموالهم وقرابتهم من أهل دينهم، أو المسلمون إن لم تكن لهم قرابة من أهل دينهم. وتَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الْعَنْوَةِ الْجِزْيَةُ فَقَطْ؛ لأَنََّ مَا بِيَدِهِ مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ لِلْمُسْلِمِينَ. أما سقوط الجزية، فواضح لما ذكرنا؛ وأما الأرض فإنها للمسلمين؛ لأنها لم تقر بيده إلا ليعمل فيها ويكون ذلك إعانة له على أداء الجزية. الباجي: والعنوة: الغلبة. وأَمَّا غَيْرُهَا مِمَّا تُرِكَ بِيَدِه ِفَالْمَشْهُورُ لَهُ يعني: غير الأرض من الرقيق والحيوان والعروض، وما ذكره المصنف هنا ينبني على فرع آخر، وذلك إذا اختلف في أهل العنوة إذا أقرت بأيديهم الأرض؛ فقيل: هم عبيد للمسلمين، وعليه فلا يكونون أحراراً بإسلامهم، ولا يملكون بإسلامهم مما بأيديهم شيئاً؛ وقيل: هم أحرار، فعلى هذا يأتي المشهور الذي ذكره المصنف: أنهم إذا أسلموا تكون لهم أموالهم، لكن لم أر من خرج بمشهوريته، وإنما حكاه الباجي وغيره عن ابن حبيب. والشاذ في كلام المصنف هو مذهب ابن القاسم. واعلم أن هذين القولين مطلقان فيما كان بأيديهم يوم الفتح وفيما اكتسبوه بعد ذلك. ولابن المواز ثالث: أنهم يملكون ما اكتسبوه بعد الفتح لا ما كان موجوداً يوم الفتح. ابن رشد: وهو استحسان على غير قياس. ويشهد لتشهير المصنف ما قاله صاحب البيان، وابن زرقون: أن ظاهر المدونة في باب [266/ ب] الهبة لا يمنع أهل العنوة من الهبة والصدقة، إذ لم يفرق بين أهل العنوة والصلح، خلافاً لابن حبيب الذي منعهم من الهبة والصدقة وجعلهم كالعبد المأذون له في التجارة. الباجي: ويكون على قول ابن المواز أن لهم هبة ما اكتسبوه بعد الفتح فقط.

والْمَوْتُ كَذَلِكَ أي: حكم موته حكم إسلامه فيما ذكر في ارض الصلح والعنوة وغيرها. فرع: وكيف نعلم ورثتهم ونحن لا نعلم مواريثهم. وروى يحيى عن ابن القاسم: أن ذلك راجع إلى أهل دينهم وأساقفتهم، فمن قالوا: يرثه من ذي رحم أو غيره من رجل أو امرأة سلم ذلك إليه، وإن قالوأ: لا وارث له فميراثه للمسلمين. ووجه ذلك: أن طريقه الخبر عما ينفردون به من العلم، فيقبل قولهم عما يعلمونه من الأدواء وترجمتهم عن الألسنة التي لا نعرفها، قاله الباجي. ابن راشد: وأما العنوي فإن كان له وارث ورثه ويسأل عن ذلك أساقفتهم، وإن لم يكن له وارث فماله لبيت المال. والله أعلم. ولَوْ قَدِمَ حَرْبِيٌّ فَأَرَادَ الإِقَامَةَ نَظَرَ السُّلْطَانُ، فَإِنْ ضَرَبَهَا ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ، فَفِي تَمْكِينِهِ قَوْلانِ .. قد تقدم أن الحربي إذا بذل الجزية بشرطها حرم قتاله، وعلى هذا فإنما يكون نظر السلطان هنا لأجل أنه قد لا يكون قصده الإقامة عندنا على الحقيقة، بل احتمل أن يكون جاسوساً ونحو ذلك. وقوله: (فَإِنْ ضَرَبَهَا) القول بتمكينه من الرجوع لمالك في الموازية، واستحسنه ابن القاسم. وقال محمد: إذا اختار الجزية واستلزمها الجزية لم يمكن من الرجوع، والأظهر أن الخلاف مبني على أنه يخشى منه أن يدل على عورة المسلمين أم لا. وأما إن تحقق ذلك فيمنع بلا إشكال، والأظهر المنع مطلقاً. محمد: ولو أراد المسير إلى بلد آخر من بلاد المسلمين وتضرب عليه الجزية فيه لم يمنع. وَمَنْ سَافَرَ فِي قُطْرِهِ الَّذِي صُولِحَ عَلَيْهِ فَلا عَزْمَ عَلَيْهِ، وإِنْ سَافَرَ إِلَى غَيْرِهِ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ مِمَّا بَاعَ بِهِ أَوِ اشْتَرَاهُ. وقِيلَ: وإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِحَقِّ الانْتِفَاعِ أَوِ الْوُصُولِ ..... ليس القطر عبارة عن مملكة ملك، فإن الملك الواحد قد يملك قطرين فأكثر كملك مصر، فإنه يملك الشام والحجاز وكل منهما قطر منفرد، وحاصل كلامه أن تجار الكفار

على ضربين: مستأمن وسيأتي حكمه، وذمي وهو إن سافر في قطره الذي يؤدي فيه الجزية فلا يؤخذ منه شيء، وفي غيره يؤخذ منه العشر، وهذا هو المشهور. وقال محمد ابن عبد الحكم: لا يؤخذ منهم شيء إلا بمكة أو المدينة خاصة، حيث أخذ منهم عمر- رضي الله عنه- وهل لا يؤخذ منهم العشر إلا أن باعوا أو اشتروا، وإليه ذهب مالك، وابن القاسم، وأشهب وهو المشهور، أو يؤخذ منهم وإن لم يبيعوا ويكون المسلمون شركاء لهم فيما بأيديهم، وإليه ذهب ابن حبيب، وحكاه عن مالك وأصحابه المدنيين. ومنشأ الخلاف ما ذكره المصنف، ويبني عليه لو أراد الذمي الرجوع بعد وصوله وقبل بيعه، فعلى المشهور لا شيء عليه. فرع: واختلف في الذمي إذا رجع من غير قطره إلى قطره، فقال مالك في المجموعة: يؤخذ منه، وقال في مختصر ابن عبد الحكم: لا يؤخذ منه شيء. وحُرُّهُمْ وعَبْدُهُمْ سَوَاءٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، لا يُحَالُ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ رَقِيقِهِمْ فِي اسْتِخْدَامٍ أَوْ وطْءٍ، وعَلَيْهِ لا يُؤْخَذُ فِي تِبْرٍ يَضْرِبُونَهُ إِلا أُجْرَةَ عُشْرِهِ ..... اشتراك الحر والعبد في ذلك ظاهر، لأنه إنما أخذ لحق الانتفاع أو الوصول؛ وذلك مشترك فيما قاله في المدونة؛ ولو قدم الذمي مائة مرة فإنه يؤخذ منه، و (عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: في أنه لا شركة لأحد معهم، فإنه لا يحال بينه وبين إمائه، وله وطؤهن واستخدامهن، وكذا قال ابن القاسم، وقال ابن حبيب: لا يمكن من ذلك؛ لأن المسلمين شركاؤه. وعلى الخلاف فإذا قدموا بتبر يضربونه دنانير أو صاغوا حلياً لم يؤخذ منه إلا عشر الأجرة؛ ووقع هنا نسختان؛ إحداهما: الأجرة عشر. والثانية: إلا عشر أجرته، وكلاهما بمعنى؛ لأن عشر الأجرة أجرة العشر. وعلى قول ابن حبيب يؤخذ منهم عشر التبر، وإذا قدموا بغزل نسجوه بأيديهم أو تبر فضربوه أيضاً بأيديهم فلا شيء عليهم، ونص عليه ابن المواز. وهكذا ينبغي لهم ذلك بهبة من غير ثواب، والظاهر أنهم إن أثابوا عليها أن حكم ذلك حكم الأجرة.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف وهو المنصوص لغيره، أن المأخوذ هنا إنما هو عشر الإجارة، والتحقيق على قول ابن القاسم أنه يؤخذ منهم عشر العمل؛ لأنه عوض عشر الدراهم، فحق الإمام أن يأتي بعشر تبرهم أو غزلهم فيكلفهم الاستئجار عليه. فرع: ابن عبد السلام: ولا يسقط هذا العشر بدين يكون على الذمي؛ لأنهم أسقطوه بدين المسلم يكون عليه، وشرطوا في دين المسلم قيام البينة على صحته، ولا يقبل قول الذمي فيه كما يقبل قول المسلم في المشهور. انتهى. وَلَوْ اشْتَرَى بِالْعَيْنِ سِلَعاً أُخِذَ عُشْرُ السِّلَعِ لا عُشْرُ قِيمَتِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ لا خصوصية في فرض هذه المسألة في العين، بل وكذلك لو قدموا بسلع؛ ولا إشكال على قول ابن حبيب أن عليهم عشر ما قدموا به، وإنما الخلاف هنا مبني على المشهور، والمشهور هو نص المدونة، [267/ أ] قال فيها: ولو قدم بعين فاشترى به سلعة أخذ منه عشر تلك السلعة مكانه، ونقلها أبو محمد: أخذ منه عشر قيمة تلك السلعة، وهذا هو مقابل المشهور عند المصنف، وقد تقدم أن مثل هذا لا ينبغي أن يعد خلافاً. ابن يونس: قال بعض شيوخنا: إن كانت السلعة تنقسم أخذ منه عشرها، وإن كانت لا تنقسم أخذ منه تسع قيمتها؛ وذلك أن لنا عشر السلعة بعينها، فإذا أعطانا قيمة العشر صار كأنه اشترى سلعة ثانية منا فلنا أيضاً عشرها، فإذا أعطانا أيضاً قيمة العشر، صار كسلعة ثالثة اشتارها منا، ثم كذلك حتى يدق العشر- فلا يعلم قدره إلا الله تعالى- فيؤخذ منه التسع في أول مرة، وهو الحق الذي لا شك فيه. انتهى. وأنكر بعضهم هذا القول ورأى أنه يلزم في التسع ما يلزم في العشر. الباجي: واختلف أصحابنا المغاربة إذا بنينا على أخذ العشر، فقال بعضهم: إن كان ما صار لهم ينقسم أخذ منه العشر، وإن كان لا ينقسم أخذ منه ثمن العشر. وقال بعضهم: تؤخذ منه القيمة على كل حال، وإن كان مما ينقسم أو يكال أو يوزن.

فرع: فإن استحق المشترى أو رد بعيب، ففي كتاب ابن سحنون: يرجع عشره، وهو في الاستحقاق ظاهر. وأما في الرد بالعيب فصحيح على رأي المتأخرين أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله، وأما على القول بأنه ابتداء بيع فهو مما ينظر فيه. ويُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُ غَلَّةِ دَوَابِّهِ وغَيْرِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وفِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ ثَلاثَةُ: مَشْهُورُهَا فِيمَا عَقَدَ فِي غَيْرِ قُطْرِهِ فَقَطْ وبِالْعَكْسِ، ومِقْدَارِ سَيْرِهِ فِي قُطْرِ غَيْرِهِ غيرها كالسفن، والمشهور مذهب المدونة، والشاذ لأشهب وابن نافع: لا شيء عليه في ذلك، بناءً على أن هذا ملحق بالتجارة أم لا. وعلى المشهور اعتبار محل العقد، فإن عقد في قطره إلى قطر غيره لم يؤخذ منه شيء، وبالعكس يؤخذ منه، والعكس لابن حبيب. اللخمي: ويختلف على هذا إذا أسلم في سلعة ليقبضها في غير بلده، هل يراعى موضع العقد أو موضع القبض، وقيل: يفرض الكراء على مجموع سيره في قطره وقطر غيره، فما ناب قطره سقط عشره، وما ناب غيره أخذ عشره، وفي الجلاب عن ابن المواز: يؤخذ العشر سواء أكرى ببلده أو بغير بلده. وفِي الاقْتِصَارِ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ فِيمَا يَجْلِبُ مِنَ الطََّعَامِ إِلَى مَكََّةَ والْمَدِينَةِ قَوْلانِ في قوله: (الطََّعَامِ) إطلاق وليس المراد عموم الطعام، بل المراد الحنطة والزيت خاصة، صرح به ابن الجلاب وصاحب الكافي. والقول بنصف العشر رواه ابن نافع عن مالك، وهو الذي في الجلاب والرسالة. والقول بالعشر لمالك أيضاً، وقد أغنى الله مكة والمدينة بالمسلمين. ابن الجلاب: ويخفف عنهم في قرى مكة والمدينة كما يخفف عنهم فيهما، ويؤخذ منهم في ذلك العشر كاملاً فيما حملوه من البز والعروض والقطاني وسائر التجارات سوى الحنطة والزيت.

وأَمَّا الْمُعَاهَدُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، فَالْمَشْهُورُ اجْتِهَادُ الإِمَامِ، فَلَهُ أَنْ يَاخُذَ وإِنْ لَمْ يَبِيعُوا، وقِيلَ: كَالذِّمِّيِّ ..... المعاهد: هو الحربي إذا قدم إلينا بعهد؛ أي: بأمان. ولا شك أنه إن قدر عليه شيء أنه يؤخذ منه ولا يزاد عليه. ابن راشد: ونقل بعضهم في ذلك الاتفاق، وإن لم يقدر شيء فذكر المصنف أن المشهور في ذلك اجتهاد الإمام؛ أي: فيما يؤخذ منهم؛ أعني: فيما ينزلون عليه. وأما إن نزلوا مبهماً فيتعين أخذ العشر، نص عليه في الرسالة، والجلاب وغيرهما. وفي المدونة: وأهل الحرب إذا نزلوا بتجارة أخذ منهم ما صولحوا عليه، وقاله ابن نافع، وروى علي بن زياد عن مالك أن عليهم العشر. قال في البيان: واختلاف رواية ابن القاسم ورواية علي إنما هو في الابتداء هل ينزلون على العشر أو مبهماً؟ فابن القاسم أجاز أن ينزلوا على أقل من العشر أو مبهماً، وعلى لم يجز أن ينزلوا على أقل من العشر، وإذا نزلوا مبهماً اتفقت الروايات على أخذ العشر. قال صاحب تهذيب الطالب: ظاهر رواية ابن زياد أن ذلك سواء نزلوا مبهماً أم لا، وهم كأهل الذمة وقد بينه في المجموعة، ونصها على ما قال مالك: ويؤخذ من تجار أهل الحرب العشر مثل ما يؤخذ من تجار أهل الذمة. عبد الحق: وهذا يبطل تأويل من تأول أن الذي وقع في المدونة معناه إذا نزلوا مبهماً. ابن القاسم في المجموعة: وإذا نزلوا على دراهم أو دنانير لم يحل بينهم وبين رقيقهم. مالك: ولو كان على العشر حيل بينهم وبين وطء الإماء حتى يبيعوا. وقال ابن حبيب: وللوالي أن يقاسمهم فيما قدوا به، وإن كان مما لا ينقسم بيع كله وأخذ الوالي جزأه وخلى لهم البقية، إن شاءوا باعوا هنا أو رجعوا به. وقال مالك في الموازية: ليس للوالي مقاسمتهم رقيقاً ولا غيره حتى يبيعوا، قال فيها وفي المجموعة: فإن لم يبيعوا ورجعوا فليؤدوا العشر ويصنعوا ما شاءوا، ثم حيثما نزلوا من بلاد الإسلام فلا يؤخذ منهم شيء، إلا أن يشترط

عليهم شرط فيعمل عليه، وإلى ما في الموازية: أنهم إن لم يبيعوا أخذ منهم العشر [267/ ب] أشار المصنف بقوله: (فَلَهُ أَنْ يَاخُذَ وإِنْ لَمْ يَبِيعُوا) لكن في قوله: (أن يأخذ) نظر؛ لأن ظاهره أن له الترك وهو خلاف لما في الموازية، وكذلك قال أبو الحسن: ظاهر المدونة أن أهل الحرب يؤخذ منهم العشر باعوا أو لم يبيعوا، والقول بأنه لا يؤخذ منهم حتى يبيعوا كالذميين لأشهب. فرعان: الأول: إذا دخل أهل الحرب إلينا فباعوا واشتروا ثم مضوا إلى بلد آخر من بلاد المسلمين فباعوا واشتروا، فلا يؤخذ منهم تارة أخرى بخلاف أهل الذمة. قال في النكت والفروق: إن أهل الحرب قد حصل لهم الأمان ما داموا في أرض المسلمين وجميع بلاد الإسلام كبلد واحد، وأما أهل الذمة فإنما يؤخذ منهم لانتفاعهم؛ إذ هم غير ممنوعين من بلادنا، فكلما تكرر نفعهم تكرر الأخذ منهم. الثاني: قال أصبغ: لا أرى أن يتركوا يدورون في سواحل الإسلام لبيع أو شراء إلا الموضع الذي نزلوه وإن لم يبيعوا؛ لأن ذلك عورة وتفتيش لموضع العورة، ولا ينبغي أن ينزلوا إلا في الموضع المجتمع الذي تؤمن عورتهم فيه، ولا يدورون أزقة موضع نزلوا فيه إلا الأسواق والطريق الواضحة لحوائجهم. ولا يُمَكَّنُونَ مِنْ بَيْعِ خَمْرٍ لِمُسْلِمٍ، والْمَشْهُورُ تَمْكِينُهُمْ لِغَيْرِهِ أي: لغير المسلم، وكذلك قال ابن بشير، قال: ويمكن أن يخرج الخلاف على أنهم مخاطبون فلا نمكنهم أو لا فنمكنهم. مالك في المجموعة: وإن خيف من خيانتهم في بيع الخمر ونحوه جعل عليهم أمين. ابن نافع: وذلك إذا جلبوا لأهل الذمة لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها. اللخمي: وقال ابن شعبان: لا يجوز الوفاء بذلك ولا النزول على مثل هذا، وتهرق الخمر وتعرقب الخنازير، وإن نزلوا على ذلك وهم بحدثان نزولهم

قيل لهم: إن شئتم فعلنا ذلك وإلا فارجعوا وإن طال مكثهم فعل ذلك وإن كرهوا. انتهى. والشاذ في كلام المصنف هو قول ابن شعبان، وعزاه في الجواهر لابن حبيب. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنهم يمكنون من القدوم بالخمر ابتداءً، لأن التمكين من البيع فرع عن التمكين من النزول، وظاهر الروايات خلاف ذلك. خليل: والظاهر هنا الشاذ، وهو الجاري على قاعدة المذهب من سد الذرائع، وقد تحققت المفسدة في الإسكندرية أسال الله أن يزيلها منها ومن كل موضع شاركها في هذا المعنى. والْمُسْتَامَنُ بِمَالٍ يَمُوتُ إِنْ كَانَ عَلَى الإِقَامَةِ فَمَالُهُ فَيْءٌ، إِلا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَرَثَتُهُ، وإَنْ كَانَ عَلَى التَّخْبِيرِ رُدَّ مَعَ دِيَتِهِ إِنْ قُتِلَ، وفِي رَدِّهِ إِلَى وَرَثَتِهِ أَوْ إِلَى حُكََّامِهِمْ قَوْلانِ، وإِنْ كَانَ مُطْلَقاً ولا عَادَة فَفِي تَعْيينِ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ قَوْلانِ أطلق المصنف المستأمن على الحربي الآتي إلينا وإن أتى على الإقامة، والغالب في اصطلاحهم إنما يطلقونه على من أتى طالباً الأمان لأم ثم يذهب، وذكر أن للقادم أحوالاً ثلاثة: الأولى: أن ينزل على الإقامة، وحكمه فيها حكم سائر أهل الذمة، وإن كان معه ورثته ورثوه، وإلا فلبيت المال. الثانية: أن يقدم لأمر ثم يعود، وهو مراده بقوله: (عَلَى التَّخْبِيرِ) وحكمه أنه لا حق للمسلمين في ماله إن مات، ولا في ديته إن قتل، بل يبعث بجميع ذلك إلى بلاده. ابن المواز: وديته كدية الذمي، وقيل غير ذلك. ومذهب المدونة: أنه يبعث إلى ورثته، ففيها: وإذا مات عندنا حربي مستأمن وترك مالاً أو قتل فماله وديته يدفع إلى من يرثه ببلده ويعتق قاتله رقبة. وقال غيره: يدفع ماله وديته إلى حكامهم، والغير هو سحنون. ونقل ابن أبي زيد كلام الغير: تدفع قيمة ديته إلى حكامهم وماله إلى ورثته، والأكثرون ذهبوا إلى أن قول الغير مخالف لقول ابن القاسم، وذهب أبو عمران إلى أنه وفاق، وأن قول ابن

القاسم محمول على ما إذا علمت بينة مسلمون ورثته وعددهم، وقول الغير محمول على عدم العلم، وهذا الذي قاله أبو عمران إنما يتم على النقل الأول لا على نقل الشيخ أبي محمد فتأمله. ابن حبيب: وإن ظهرنا على ورثته فماله فيء لذلك الجيش الذي ظهروا عليه. الحالة الثالثة: أن يقدم من غير تنصيص على إقامة ولا رجوع، وإليه أشار بقوله: (وإِنْ كَانَ مُطْلَقاً ولا عَادَة) يعني: لا عادة لهم في المكث والرجوع، وهو إشارة إلى ما نص عليه سحنون: إن كان أكثر المستأمنين بذلك البلد إنما هو على المقام، فميراثه للمسلمين ولم يكن لهذا أن يرجع، وإن كان شأنهم الرجوع فله الرجوع، وميراثه إن مات يرد لورثته، إلا أن تطول إقامته عندنا فليس له أن يرجع ولا يرد ميراثه، وإذا لم يعرف حالهم ولا ذكروا رجوعاً فميراثه للمسلمين، والقول الآخر ذكره جماعة ولم ينسبوه. ولَوْ تَرَكَ الْمُسْتَامَنُ ودِيعَةً فَهِيَ لَهُ يعني: وذهب إلى بلده، فإنها له وترد له أو لورثته؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (. فَإِنْ قُتِلَ أَوْ أُسِرَ، فَثَالِثُهَا: إِنْ قُتِلَ كَانَتْ فَيْئاً، ورَابعُهَا: عَكْسُهُ يعني: فإن حارب المسلمين فقتل أو أسر والويعة عندنا، فأربعة أقوال، وقد حكاها ابن بشير: الأول: أنها في الوجهين كما لو كانت معه؛ ولأن ماله لا تزيد حرمته على حرمته هو. الثاني: أنها ترد إلى ورثته وتبقى له إن أسر وفاء بالعهد. الثالث: إن قتل فهي [268/ أ] فيء، وإن أسر فهي له. والرابع: أنها تبع لرقبته، فإن أسر كانت فيئاً، وإن قتل ردت إلى ورثته. وقول ابن عبد السلام، والقول الثاني: ترد إلى ورثته في الوجهين ليس بظاهر؛ إذ لا يمكن أن يقال: يردها إلى ورثته مع بقائه، ووجود الأقوال هكذا منسوبة لقائلها عزيز

وفي ابن يونس قولان؛ الأول لابن القاسم، وأصبغ في الموازية: أنها ترد لورثته إن مات أو قتل في المعركة، وإن أسر ثم قتل فهي فيء لمن أسره وقتله؛ لأنهم ملكوا رقبته قبل قتله. والثاني لابن حبيب: إن أسر ثم قتل فهي لمن أسره وقتله، وأما إن قتل في المعركة فهي فيء لا خمس فيها؛ لأنها لم يوجف عليها، وقاله ابن الماجشون، وابن القاسم، وأصبغ. الأَمْوَالُ: غَنِيمَةٌ، وفَيْءٌ. فَالْغَنِيمَةُ: مَا قُوتِلُوا عَلَيْهِ. والْفَيْءُ: مَا لَمْ يُوْجَفْ عَلَيْهِ يعني: أن أموال الكفار المأخوذة منهم قسمان: غنيمة، وفيء. فالغنيمة: ما قوتلوا عليه؛ أي: أخذ بسبب قتال، وليس مراده بأنهم قوتلوا لأجل المال؛ لأن ذلك يمنع من الشهادة في سبيل الله فكيف تفسر به الغنيمة. والفيء: ما أخذ بغير قتال، وإليه أشار بقوله: (مَا لَمْ يُوْجَفْ عَلَيْهِ) ولعله إنما عدل عن حقيقة المقاتلة بأن يقول: والفيء ما لم يقاتلوا عليه تبركاً بالآية، وهي قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ([الحشر: 6] يقال: وجف الشيء إذا اضطرب. وتُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ، وَخُمُسُهَا كَالْفَيْءِ، والْجِزْيَةِ، والْخَرَاج تخمس الغنيمة؛ لقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ([الأنفال: 41]. وقوله: (كَالْفَيْءِ، والْجِزْيَةِ، والْخَرَاج) تشبيه ليفيد الحكم في الجميع. وقوله: (والخراج) أي: خراج الأرض سواء افتتحت عنوة أو صلحاً. ولا يُخَمَّسُ لُزُوماً، بَلْ يُصْرَفُ مِنْهُ لآلِهِ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلََّمَ بالاجْتِهَادِ ومَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ... هذا ابتداء مسألة، يعني: أن الخمس، والفيء، والجزية، والخراج لا يلزم فيها التخميس، بل الأمر في ذلك إلى نظر الإمام، فإن شاء وقفه لنوائب المسلمين أو قسمه،

ولابن عبد الحكم: لا يوقف. وإذا قسمه فإن شاء دفعه كله لآله صلى الله عليه وسلم أو لغيرهم، أو جعل بعض ذلك فيهم وبعضه في غيرهم بالاجتهاد كما قال المصنف، ونبه بقوله: (ولا يُخَمَّسُ لُزُوماً) على مذهب الشافعي في قوله: إنه يلزم أن يقسم خمس الغنيمة على خمسة أجزاء، وذلك مبني على اختلافهم في قوله تعالى (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (كما اختلفوا في آية الزكاة. وفِيهَا: يُبْدَأُ بِالَّذِينَ فِيهِمُ الْمَالُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدُّ حَاجَةً نُقِلَ إِلَيْهِمْ أَكْثَرُهُ كالزكاة وتصوره ظاهر. وأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْمُقَاتِلِينَ لأنه لما قال الله تعالى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (علمنا أن أربعة أخماسها للمقاتلين، ولا خلاف في ذلك. ويُنَفِّلُ الإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ خَاصَّةً مَنْ يَرَاهُ مَا يَرَاهُ مِنْ سَلَبٍ وغَيْرِهِ النفل لغة: الزيادة. وفي الشرع: زيادة من الغنيمة وقوله: (مِنَ الْخُمُسِ خَاصَّةً) أي: ليس هو أصل الغنيمة، ففي الموطأ عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة، فبلغت سهامهم اثني عشر بعيراً، أو أحد عشر بعيراً، ونفلوا بعيراً بعيراً. زاد في غير الموطأ: من الخمس. وقوله: (مَنْ يَرَاهُ) أي: يراه أهلية لذلك لشجاعته. وقوله: (مَا يَرَاهُ مِنْ سَلَبٍ وغَيْرِهِ) إشارة إلى أن السلب من النفل وهو كذلك.

ويَجُوزُ أَنْ يَنُصَّ الإِمَامُ بَعْدَ الْقِتَالِ عَلَى أَنََّ سَلَبَ الْمَقْتُولِ ونَحْوِهِ لِلْقَاتِلِ، فَلَوْ نَصَّ قَبْلَهُ لَمْ يَجُزْ، وكَذَلِكَ مَنْ تَقَدَّمَ فَلَهُ كَذَا ونَحْوُهُ .... لأنه بعد القتال من النفل وهو جائز، وأما قبله ففيه إفساد لنية المجاهدين؛ ولأنه قد يلقي بعض المجاهدين بنفسه للهلاك لأجل السلب. وفِي إِمْضَائِهِ قَوْلانِ أي: إذا بنينا على عدم جوازه قبل الفتح، فقال ملك: فهل يمضي؟ قال سحنون: يمضي؛ لأنه حكم بما اختلف فيه أهل العلم. ابن عبد السلام: وهو الصحيح، والقائل بعدم تنفيذه هو ابن حبيب في ظاهر كلامه، إلا أنه لا يبطله مطلقاً كما هو ظاهر كلام المصنف، بل قال: يعرف قيمة ما سمي الإمام فيعطي ذلك من الخمس، وإنما أبطل إعطاءه من أصل الغنيمة. سحنون: [268/ ب] وإذا قال الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه بلفظ عام ثبت هذا الحكم له ولجميع المسلمين، وإن خص نفسه فقال: إن قتلت قتيلاً فلي سلبه لم يكن له شيء؛ لأنه حابى نفسه بقوله ولم يعدل فلم يجز حكمه. ولو قال: من قتل منكم قتيلاً فله سلبه، فقد نفذ ذلك للناس دونه؛ لأنه أخرج نفسه بقوله: منكم. وإن قال بعد أنخص نفسه: من قتل قتيلاً مجملاً فإنما له في المستقبل. ولو قال: من قتل منكم قتيلاً فله سلبه، فمن قتل منهم اثنين أو ثلاثة فله سلبهم. ولو قال لرجل: إن قتلت قتيلاً فلك سلبه، فقتل اثنين أحدهما بعد الآخر، فغيرنا يجيزه ويعطيه سلب الأول خاصة، ونحن نكرهه. فإن نزل على وجه الاجتهاد مضى وله سلب الأول خاصة، فإن جهل، فقيل: له نصفهما، وقيل: أقلهما. ابن المواز: وإن قتل قتيلين معاً، فقيل: له نصف سلبهما قسمة للمشكوك فيه على التداعي، وقيل: أكثرهما؛ لأنهما لما قتلا معاً صاراً كالقتيل الواحد فيستحق سلبه فلهذا أعطي الأكثر. وإذا قال الأمير: من قتل قتيلاً فله سلبه، فليس له سلب من قتل ممن لا يجوز له

قتله من امرأة، أو صبي، أو زمن، أو راهب إلا أن يقاتل هؤلاء فله سلبهم لإجازة قتلهم، فإن قال: من قتل قتيلاً فله سلبه ولم يقيد؛ فقتله ذمي أو امرأة فالمنصوص لا شيء لهما. خليل: وقد يتخرج على قول من يرى الإسهام للمرأة إذا قاتلت أن يكون لها هنا السلب، إلا أن هذا يحتاج إلى أن يكون القائل بالإسهام لها يرى أن قول الإمام هنا ماضٍ. الباجي، والمازري، وابن يونس: وعلى قول أشهب أنه يرضخ للذمي، فيكون السلب له من الخمس. وإن قال: من قتل كافراً من المسلمين فقتله ذمي فلا شيء له بالإجماع للشرط. وإن قال: من قتل قتيلاً فسمع بعض الناس دون بعض، فالسلب لمن قتل وإن لم يسمع. وإن قال الأمير: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه، لم يستحقه القاتل إلا بها، فإن جاء بشاهدين أخذه، وإن جاء بشاهد واحد، ابن عبد السلام: فله أخذه بغير يمين. وقال الشافعي: يحلف. وإن لم يشترط البينة فجاء برأس القتيل فاختلف في أخذ سلبه، وإن جاء بالسلب لم يأخذه إلا بالبينة. وفيهَا قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِلا يَوْمَ حُنَيِنٍ، وإِنَّمَا نَفََّلَ النَّبِيُّ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلََّمَ مِنَ الْخُمُسِ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ الْقِتَالُ هذا هو الصحيح. عياض: وعند بعضهم خيبر وهو وهم، وهذا احتجاج من مالك على أنه ليس السلب للقاتل مطلقاً، وإلا لتكرر منه صلى الله عليه وسلم في غزواته وعمل به الخلفاء بعده. قال في الاستذكار: وأما قوله: (لَمْ يَبْلُغْنِي) فقد بلغ غيره وذكر أحاديث وردت بذلك. خليل: والظاهر أنه ليس في تلك الأحاديث حجة على المالكية؛ لأنها إنما تدل علىن السلب موكول للإمام وهم يقولون بموجبه، وفي قول مالك- رضي ال له عنه-: وإنما نفل النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس، جواب عنها- والله أعلم- على أنه يمكن أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً فله سلبه" من باب الحكم منه صلى الله عليه وسلم فلا يتعدى لغير من حكم له، وإنما يتعدى لو كان من باب الفتوى. والله أعلم.

والْمَشْهُورُ: أَنَّهُ لا يَكُونُ فِيهَا مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ مِنْ سِوَارٍ، وتاجٍ، وَطَوْقٍ، وصَلِيبٍ وكَذَلِكَ الْعَيْنُ عَلَى الْمَشْهُورِ .. ما ذكر أنه المشهور ذكره سحنون عن الأصحاب، فقال أصحابنا: لا نفل في العين، وإنما هو الفرس وسرجه ولجامه، وخاتمه، ودرعه، وبيضته، ومنطقته بما في ذلك من حلية ساعديه وساقيه ورأسه والسلاح ونحوه، وحلية السيف تبع للسيف، ولا شيء له في الطوق والسوارين والعين كله ولا في الصليب. وقال ابن حبيب: يدخل في السلب كل ثوب عليه، وسلاحه، ومنطقته التي فيها نفقته، وسواره، وفرسه الذي هو عليه أو كان يمسكه لوجه القتال عليه، فأما إن كان يجنبه أو كان منفلتاً فليس من السلب. الباجي: فتحقيق مذهب سحنون: أن ما كان معه من لباسه المعتاد وما يستعان به على الحرب من فرس أو سلاح فهو من السلب، ومذهب ابن حبيب: أن ما كان عليه من اللباس والحلي والنفقة المعتادة وما يستعان به على الحرب فهو من السلب، ففهم الباجي القولين على نحو ما ذكرهما المؤلف، ورأى اللخمي القولين إنما هما في السوارين، قال: وخرج من الخلاف فيهما اختلاف فيما يشبهما مما يراد به الزينة كالطوق وشبهه. ويُخَمَّسُ الْجَمِيعُ دُونَ الأَرْضِ، فَإِنَّهَا فَيْءٌ عَلَى الْمَشْهُورِ كَالْجِزْيَةِ، وقِيلَ: يَقْسِمُهَا إِنْ رَأَى كَخَيْبَرَ، وفِيهَا: أَنََّ عُمَرَ أَقَرَّهَا ولَمْ يَقْسِمْهَا، وفِيهَا: قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: وقَفَ عُمَرُ والصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمُ- الْفَيْءَ وخَرَاجَ الأَرَضِينَ، فَفُرِضَ مِنْهَا لِلْمُقَاتِلَةِ، والْعِيَالِ، والذُّرِّيَّةِ فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ اللخمي: الأرض ثلاثة أقسام؛ فما كان بعيداً عن المسلمين ولا يستطاع سكناه للخوف من العدو هدم وحرق. وما كان يقدر المسلمون على عمارته إلا أنهم لا يسكنونه إلا أن يملكوه، فإن الإمام يقطعه لهم ويخرجه من رأس الغنيمة وليس للجنيش فيه مقال، ويقطعه لمن فيه نجدة فيكون في نحر العدو عوناً للمسلمين. واخلتف فيما كان قريباً أو

مرغوباً فيه، فقال مالك مرة: لا حق للجيش فيه ولا يقسم ويوقف خراجها للمسلمين، وقال مرة: تجوز قسمتها أو وقفها، قال: ولا أعلم خلافاً أن قسمها يمضي إن قسمت ولا ينقض. انتهى بمعناه. وهذا القسم الثالث هو الذي ذكره المصنف. قوله: (كَخَيْبَرَ) حجة للشاذ، وما حكاه عن عمر حجة للمشهور، واستحسن اللخمي وغيره الشاذ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قسم أرض بني قريظة، وخيبر، وفدك، وقال عمر- رضي الله عنه-: لولا من يأتي من المسلمين لم أدع قرية افتتحت عنوة إلا قسمتها كما قسم رسول الله عليه وسلم، فسلم عمر- رضي الله عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قسم العنوة، وأن ذلك لم ينسخ، وأخبرأن القسم باجتهاد منه. قال في البيان: وقيل: إن عمر- رضي الله عنه- إنما فعل ذلك بعد تطييب نفوس الغانمين، ومن سمحت نفسه بالخروج عن نصيبه بغير عوض قبل منه، ومن لم يسمح أعطاه العوض، فإن قلت: قول المصنف: (وقِيلَ: يَقْسِمُهَا إِنْ رَأَى) هل هو مقابل المشهور أو مقابل المشهور تحتم القسم؟ فالجواب: الأمر محتمل. وقد حكى ابن شاس القولين. وَشَرْطُ الْمُسْتَحِقِّ: أَنْ يَكُونَ ذَكَراً، حُرّاً، بَالِغاً، عَاقِلاً، مُسْلِماً، صَحِيحاً، حَاضِرَ الْوَقيعَةِ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ ..... يعني: من اجتمعت فيه هذه الشروط أسهم له اتفاقاً وهي ستة، ثم أخذ يتكلم على ما إذا فقد بعضها. والذِّمِّيُّ كَالْعَبْدِ، وثَالِثُهَا: يُسْهَمُ لَهُ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ ولا خلاف أنه لا يسهم لعبد ولا ذميإن لم يقاتلا، وأما إن قاتلا فالمشهور لا يسهم [269/ أ] لهما؛ لأن المتبادر من قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... (الآية. إنما هو من خوطب بالجهاد.

وقال ابن حبيب: إذا نفر أهل الذمة مع طوائفنا فما صار لهم ترك ولم يخمس. اللخمي: فجعل لهم نصيباً مع الجيش، وهذا هو القول الثاني الذي ذكره المصنف في الذمي. المازري: وأشار بعض الأشياخ إلى حمل كلام ابن حبيب على أن الإمام أذن لهم في القتال. وقال سحنون: إذا قاتل أهل الذمة ولولاهم لم يقدر المسلمون على تلك الغنيمة أسهم لهم، ولو كان المسلمون إذا انفردوا قدروا عليها لم يسهم لهم، وإلى هذا أشار بقوله: (إِنِ احْتِيجَ) وكلام المصنف يقتضي أن الثلاثة الأقوال منصوصة في العبد والذمي، والمنصوص في العبد إنما هو عدم الإسهام، والقولان الآخران مخرجان على قول ابن حبيب وسحنون، هكذا ذكر المازري وغيره. والْمُطبقُ بَعْدَ الْخُرُوجِ كَالْمَرِيضِ هذا راجع إلى قوله: (عاقلاً) وما ذكره المصنف نحوه لابن بشير. قال: وإن كان معه من العقل ما يمكنه به القتال أسهم له، والذي قاله المازري: أن المطبق كالعدم فهو كالميت، والفرق بينهن وبين المريض؛ أن المريض تحصل منه منفعة الرأي والتدبير، وكذلك قال الباجي: إن المطبق لا يسهم له. وفِي الصَّغِيرِ الْمُطِيقِ لِلْقِتَالِ، ثَالِثُهَا: يُسْهَمُ لَهُ إِنْ قَاتَلَ هذا راجع إلى قوله: (بالغاً) واحترز بالمطيق ممن لا يطيقه فإنه لا يسهم له اتفاقاً والمشهور أنه لا يسهم لغير بالغ، والقول بأنه يسهم للمطيق إذا حضر القتال سواء قاتل أم لا نقله ابن بشير ولم يعزه، وهو رأي اللخمي. والثالث يسهم للمطيق بشرط أن يقاتل لمالك في الموازية. ابن المواز: وإن حضر القتال ولم يقاتل فلا يسهم له. ونقل اللخمي عن ابن المواز: أنه يسهم لمن راهق وبلغ مبلغ القتال إذا حضر القتال، قال: وقال محمد: لا يسهم له حتى يقاتل. وذهب ابن وهب إلى اعتبار السن فأسهم له إذا

بلغ خمس عشرة سنة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي تعلقاً منهم بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ابن خمس عشرة سنة، وللأئمة في فهم هذا الحديث طريقان: إحداهما: أن هذه السن علامة على البلوغ. والثانية: أنه أجيز لقدرته على القتال فصادفت إطاقته للقتال هذه السن ولم تعتبر السن بمجردها. تنبيه: ما ذكرناه أن المشهور عدم الإسهام للصبي نص عليه ابن عبد السلام، وهو ظاهر المدونة، وعلى ذلك حملها اللخمي وغيره؛ لإطلاقه فيها عدم الإسهام له. وقال الباجي: لم يعتبر مالك البلوغ في الإسهام. وفي الرسالة: ولا الصبي إلا أن يطيق الصبي الذي لم يحتلم القتال ويجيزه الإمام ويقاتل فيسهم له. ابن الفاكهاني: والظاهر من المذهب إذا بلغ مبلغ القتال وحضره أسهم له. فرع: نص في المدونة بعد أن ذكر أنه لا يسهم لصبي ولا امرأة ولا عبد أنه لا يرضخ لهم، ونقل ابن حبيب: أنه يرضخ لهم. وفِي الْمَرأَةِ إِنْ قَاتَلَتْ قَوْلانِ المشهور: أنه لا يسهم لها، ونقل الباجي، واللخمي، والمازري، وابن راشد عن ابن حبيب: إن قاتلت كقتال الرجال أسهم لها، واانظر هل يتخرج الثالث الذي تقدم في العبد هنا. وقوله: (إِنْ قَاتَلَتْ) يريد: وإن لم تقاتل فلا يسهم لها بالاتفاق. والْمَرِيضُ بَعْدَ الإِشْرَافَ عَلَى الْغَنِيمَةِ يُسْهَمُ لَهُ اتِّفَاقاً، وكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الْقِتَالَ مَرِيضاً وكَذَلِكَ فَرَسُهُ الرَّهِيصُ عَلَى الْمَنْصُوصِ وإِلا فَقَوْلانِ ..... هذا راجع إلى قوله: (صحيحاً) يعني: أن من خرج صحيحاً ولم يزل كذلك حتى قاتل أكثر القتال، فإن مرضه لا يمنعه من الإسهام اتفاقاً، وكذلك يسهم لمن ابتدأ القتال وهو مريض ولم يزل كذلك إلى أن انهزم العدو، ومقتضى كلامه: أن هذه الصورة متفق

عليها كالأولى. وحكى اللخمي، وابن بشير فيها قولاً بعدم الإسهام وعزاه اللخمي لمالك من رواية أشهب وابن نافع. اللخمي: وعليه لا يسهم للفرس الرهيص وهو أحسن، وإذا لم يسهم للبراذين لضعف منفعتها عن الخيل فالرهيص أولى، وهذا مقابل المنصوص، فإن قلت لم لا يجعل قوله: (عَلَى الْمَنْصُوصِ) راجعاً للفرس والفارس؟ قيل: لو أراد ذلك لقال: على المنصوص فيهما كعادته، وأيضاً إعادته (كذلك) تقتضي فصلها عما قبلها كعادته. والرهصة: مرض في باطن حافر الدابة من حجر تطؤه من الوقرة. الكسائي: يقال رهصت الدابة بالكسر رهصاً وأرهصها الله سبحانه فهي مرهوصة. ويدخل في قوله: (وإِلا فَقَوْلانِ) أربع صور: الأولى: يخرج من بلد الإسلام مريضاً ولا يزال كذلك حتى ينقضي القتال، وحكى الخلاف فيها اللخمي، قال: وأرى ألا شيء له إلا أن يكون له رأي؛ ورب رأي أنفع من قتال. الثانية: يخرج صحيحاً ثم يمرض قبل الدخول في بلاد الحرب. الثالثة: كذلك، ويمرض بعد دخولها. الرابعة: يخرج صحيحاً ويشهد القتال كذلك ثم يمرض قبل الإشراف على الغنيمة. وحكىبن بشير الخلاف في الجميع؛ لأنه حكى في المريض أربعة أقوال: أحدها: عدم الالتفات إلى المرض ووجوب السهم ولو خرج من بلاد الإسلام مريضاً. والثاني: أنه لا يسهم له إلا بعد شهود القتال والإشراف على الغنيمة. والثالث: إن مرض وقد ابتدأ القتال وإن لم يشرفوا على الغنيمة أسهم له، وإلا فلا. [269/ ب] والرابع: إن كان المرض قبل الحصول في حد أهل الحرب لم يسهم له، وإن كان بعد الحصول أسهم له، قال: وإن فصلت قلت: أما إن أشرفوا على الغنيمة ثم مرض أسهم له اتفاقاً، وإن لم يشرفوا ففي كل صورة قولان. أما إن خرج مريضاً ثم صح

قبل دخول بلاد الحرب، أو بعد دخولها وقبل القتال، أو بعد ذلك وقبل الإشراف فإنه يسهم له، ولا تدخل هذه الصورة في كلامه؛ لأن كلامه في حصول المانع لا في زواله. والأَعْمَى والأَعْرَجُ إِنْ كَانَتْ بِهِمْ مَنْفَعَهٌ فِي الْحَرْبِ أَوْ سَبَبِهِ فَكَالصَّحِيحِ، وإِلا فَكَالْمَرِيضِ قال: (بِهِمْ) لأن مراده جنس الأعمى والأعرج، كقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ([الحجرات: 9] وكقوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا ([الحج: 19]. وقوله: (أَوْ سَبَبهِ) كبري النبل وحبك الأحبل للطوارئ والتدبير. وقوله: (كَالصَّحِيحِ) يقتضي أنه يسهم له بالاتفاق، وأن الخلاف إنما هو إذا لم تحصل به منفعة، وكلام غيره على العكس، وأن الخلاف فيما إذا كانت بهم منفعة في الحرب. سحنون: ويسهم للأعمى، والمقعد، والأقطع، والمجذوم؛ لأن الأعمى يبري النبل ويكثر الجيش ويدبر، وقد يقاتل المقعد والمجذوم فارساً، وظاهر العتبية أنه لا يسهم للأعمى وبه قال اللخمي وابن يونس؛ لأنهما قالا: الصواب في الأعمى لا شيء له، وإن كان يبري النبل دخل بذلك في جملة الخدمة الذين لا يقاتلون. قالا: وكذلك أقطع اليدين لا شيء له، وإن كان أقطع اليسرى أسهم له، ويسهم للأعرج إن حضر القتال، وإن كان ممن لا يجسر على القتال بوجه لم يسهم له إلا أن يقاتل فارساً، ولا شيء للمقعد إذا كان راجلاً، وإن كان فارساً يقدر على الكر والفر أسهم له. ابن رشد: ويسهم لأقطع الرجلين. ونص ابن بزيزة على أن المشهور عدم الإسهام للأعمى، والمقعد، والأقطع، والأشل، والأعرج. ابن عبد السلام: فأنت ترى كلام هؤلاء فيمن له منفعة، وظاهر كلامهم أن من لا منفعة فيه فهو أشد من المريض؛ للزوم المانع في حقهم وعرضيته في حق المريض وعدم انضباطه.

والضَّالُّ عَنِ الْجَيْشِ فِي بِلادِ الْمُسْلِمِينَ لا يُسْهَمُ لَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وفِي بِلادِ الْعَدُوِّ يُسْهَمُ لَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ .... حاصله ثلاثة أقوال: الأول: يسهم له مطلقاً، رواه أصبغ عن ابن القاسم. والثاني: لا يسهم له مطلقاً، وهي رواية ابن نافع عن مالك. والتفصيل لابن شاس وغيره وهو المشهور؛ لأنه إذا ضل في بلاد العدو وحصلت به المنفعة، وهي تكثير سواد المسلمين في بلاد العدو. ونص في المدونة على الإسهام للضال في بلاد العدو، ومفهومها عدم الإسهام للضال ببلاد المسلمين، لكن قال أبو الحسن: يحتمل أن تكون رواية أصبغ تفسيراً. وكَذَلِكَ لَوْ رَدَّتِ الرِّيحُ بَعْضَهُمْ مَغْلُوبِينَ ظاهره أنه يفصل في ذلك بين أن ترده الريح في بلاد الإسلام أو في بلد العدو، وقد شبه في المدونة من ردته الريح بالضال. ابن عبد السلام: وظاهر المدونة أنه يسهم لمن ردته الريح من غير تفصيل. وقد ذكرنا أنه لم ينص فيها إلا على من ضل في أرض العدو، وكذلك لم ينص إلا على من ردته الريح من أرض العدو، وقد ذكرنا أن أبا الحسن قال: يحتمل أن يقال بالإسهام للضال مطلقاً وهو هنا أوضح؛ لأن الغلبة تتحقق فيا لرد بالريح بخلاف الضال، وقد فرقوا بين اصطدام الفارسين والسفينتين، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يسهم لمن ردته الريح من أرض العدو، وبه قال سحنون، واستحسنه اللخمي. فرع: ابن المواز: وإن خرجت مراكب من مصر غزاة فاعتل منها مركب فتخلفوا لإصلاحه فخافوا لما بقوا وحدهم فرجعوا إلى الشام خوفاً، فلا شيء لهم فيما غنم أصحابهم، وكذلك لو مرضوا فرجعوا، أو انكسر مركبهم فرجعوا إلى الشام خوفاً، فلا شيء لهم فيما غنم أصحابهم، قلت: فإن أسهم لهم فأعطوهم؟ قال: فلا يرجع عليهم، وقد فات ذلك وأنفقوه. قلت: فإن ولجوا

بلاد العدو وجازوا قبرص ثم عرض لهم ما عرض فرجعوا إلى الشام خوفاً من العدو حتى رجع الجيش، قال: هذا عذر إذا بان خوفهم، فهذا مشكل ويسهم لهم. فرع: نص أشهب في الموازية على أنه إذا ظفرنا بالعدو وفيهم مسلمون أسارى، أنه يسهم لهم وإن كانوا في الحديد؛ لأنهم إنما دخلوا أولاً للقتال وغلبوا عليه فكانوا كالضال. ومَنْ رَدَّهُ الإِمَامُ لِمَنْفَعَةِ الْجَيْشِ أُسْهِمَ لَهُ، وإِلا فَقَوْلانِ تبع المصنف في هذا ابن بشير، والذي ذكره اللخمي والمازري أن الخلاف إنما هو فيمن تأخر عن القتال لمصلحة الحرب وذكر القولين لمالك، وأما إن تخلف لغير عذر أو لأمر لا يعود على الحرب فلا يسهم له، وتابع ابن بزيزة ابن بشير، وفيمن رده الإمام لحاجة قولان عندنا، والأصل في ذلك رده صلى الله عليه وسلم عثمان لمرض ابنته التي كانت تحت عثمان، وهذا الخلاف إنما هو فيمن رد الحاجة المسلمين، وأما من رده الإمام لحاجة الجيش وحده، فلا خلاف أنه يسهم له. وحكى ابن شاس عن المذهب أنه لا يقسم له وهو غير معروف. أهـ. فرع: إذا أقر الغازي بالرجوع وزعم أنه رجع مغلوباً أو ضالاً، فإن ادعى ما له أمارة من ريح ردت مركباً كان فيها، أو خوفاً أو غرر طريق وظهرت أمارة صدقه قبل قوله وإلا فلا، ولو أنكر التخلف فهو مدعٍ عليه الإقرار أنه من الجيش، ولا [270/ أ] يثبت تخلفه بقول أحد ممن يشاركه في الغنيمة؛ لأنه جار لنفسه، وفي قبول قول الأمير في ذلك قولان بناء على أنه حكم بعلمه فيما تدعو الضرورة إليه فيجوز وإليه ذهب سحنون، كالعدالة أو جار لنفسه فلا يجوز وإليه ذهب ابن القاسم، وانظر قولهم هنا لا يقبل قول أحد ممن شاركه من الجيش، مع أن المشهور أن من سرق من الجيش من الغنيمة يقطع، والمتبادر إلى الذهن عكسه.

والتَّاجِرُ والأَجِيرُ بِنِيَّةِ الْغَزْوِ أَصْلاً يُسْهَمُ لَهُمَا وإِلا فَلا، إِلا أَنْ يُقَاتِلا يحتمل أن يريد بالأصل أنها هي الأصل وتكون التجارة أو الإجارة تابعة لها، ويحتمل أن يريد ألا تكون تبعاً فيشمل صورتين إذا كانت نية الغزو هي المقصودة، وإذا كانت هي والتجارة مقصودتين، وهذا الاحتمال هو الذي تصح عليه المسألة فيجب أن يعول عليه؛ لأنه الذي نص عليه ابن القصار، وذكر المازري أنه لا يعلم فيه خلافاً أن الأجير المملوك المنافع إذا خرج لهما يسهم له قاتل أو لم يقاتل، وإن خرج بنية التجارة فقط لم يسهم له إلا أن يقاتل، وعلى هذا اقتصر المصنف بقوله: (وإِلا فَلا، إِلا أَنْ يُقَاتِلا) ونص ابن القصار على أن هذا التفصيل إنما هو في الأجير المستحق المنافع، قال: وإن كان أجيراً على شيء بعينه كخياطة ثوب أسهم له، حضر القتال أو لم يحضر، وحكى جماعة في الأجير ثلاثة أقوال: الأول في الموازية: يسهم له إذا شهد القتال. الثاني: وهو المشهور ومذهب المدونة: أنه يسهم له بشرط أن يقاتل. قال في المدونة: وكذلك التاجر. الثالث: لمالك في العتبية: لا يسهم له وإن قاتل؛ لأن خروجه لم يكن للجهاد. سحنون مفرعاً على الإسهام: وإذا أعطي سهمه بطل من أجره بقدر ما اشتغل عن الخدمة. بعض القرويين: وليس لمن استأجره أن يأخذ منه السهمان عوضاً عما عطل من الخدمة، بخلاف أن يؤاجر نفسه في خدمة أخرى؛ لأن ذلك قريب بعضه من بعض، والسهمان ربما كثرت فكانت أكثر مما استأجره مراراً. ابن يونس: ولأن القتال لا يشابه الخدمة؛ لأن فيه ذهاب النفس. ابن عبد السلام: قال بعض الشيوخ: إن الأجير إما أن يكون على منفعة عامة للجيش أو خاصة في معنى، ولكنه لا يختص ببعضهم، أو خاصة ببعضهم. فالأول: كرفع الصواري،

وإمساك الأحبل في البحر، وتسوية الطرق في البر. واختلف في الإسهام لهم على قولين. والثاني: كالخياطة لهم، أو عمل آلة تختص ببعضهم، وهؤلاء اختلف فيهم على قولين؛ إذا شهدوا القتال، وإن لم يقاتلوا. والثالث: كأجير الخدمة لرجل مخصوص، فهذا فيه ثلاثة أقوال ولعلها التي تقدمت. والْمُسْتَنِدُ إِلَى الْجَيْشِ مِنْ مُفردٍ أَوْ سَرِيَّةٍ كَالْجَيْشِ، وإِلا فَلهُمْ كَالْمُتَلَصِّصِينَ فَيُخَمَّسُ الْمُسْلِمُ دُونَ الذِّمِّيِّ، وفِي الْعَبْدِ قَوْلانِ .. يعني: إذا خرجت سرية من الجيش أو واحد منهم وغنمت كالجيش، فما غنمه الجيش دخلت فيه السرية، وما غنمته السرية قسم عليها وعلى الجيش جميعه، لأنها بقوة الجيش غنمت. قال في التلقين: وسواء خرجت بإذن الإمام أو بغير إذنه، فإن خرجت ابتداء من البلد فالغنيمة لها خاصة، وأشار المصنف إلى الخارجة من البلد بقوله: (وإِلا فَلهُمْ) أي: وإن لم يكن جيش يستند إليه بل خرج رجل أو جماعة متلصصون فحكمهم حكم الجيش المنفرد، فإن كانوا مسلمين خمس وكان لهم أربعة أخماسه، وإن كانوا أهل ذمة ترك لهم ما غنموه ولم يخمس، وفي تخميس ما غنمه العبيد قولان. قال ابن القاسم: يخمس، وقال سحنون: لا يخمس. واختلف في الذمي والعبد إذا وجد ركازاً، فقيل: يخمس، وقيل: لا يخمس. اللخمي: واختلف فيما غنمه النساء والصبيان إذا انفردوا بالغنيمة هل يخمس أم لا، وكأنه أشار إلى تخريجه على ما انفرد العبيد به، ولم يذكر التونسي تخريجاً ولا أشار إليه، بل تردد- رحمه الله- في ذلك، قال: ولا نعلم نص خلاف أنه يخمس ما أصابوه من ركاز.

ومَنْ مَاتَ قَبْلَ قَسْمِهَا فَسَهْمُهُ لِوَرَثَتِهِ، أَمَّا لَوْ مَاتَ قَبْلَ اللِّقَاءِ فَلا يُسْهَمُ لَهُ، ولَوْ مَاتَ بَعْدَ اللِّقَاءِ وقَبْلَ الْقِتَالِ فَقَوْلانِ، وكَذَلِكَ مَوْتُ فَرَسِهِ .... حاصله: أن المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقوال: الأول: أن يموت بعد الفتح وقبل قسمة الغنيمة، والحكم أنه يسهم له. ابن عبد السلام: ولا أعلم في هذا خلافاً. فإن قيل: يرد هذا ما نقلوه من أنه اختلف على قولين هل تملك الغنيمة بنفس أخذها أو بالقسمة على الغانمين؟ فجوابه: إن هذا الخلاف ليس بعام، وإنما مرادهم به إدخال من لحق الجيش قبل القسمة، أو أسلم، أو أعتق، أو بلغ، أو ما أشبه وبذلك فسروه. والقسم الثاني: أن يموت قبل اللقاء، ولا إشكال في عدم الإسهام له إن مات قبل وصول بلاد الكفر، وكذلك إن مات ببلاد الكفر على المشهور. ونقل في البيان عن ابن المجشون: أنه يستحق الإسهام بالإدراب ببلادهم إلى حين قفول العسكر. الثالث: أن يموت بعد اللقاء وقبل القتال، وفيه قولان كما ذكر، والقول بعدم الإسهام لمالك في الموازية وبه قال سحنون، وحكى ابن حبيب عن أصحاب مالك أن مشاهدة القرية والعسكر كالقتال. ويتحصل في [270/ ب] هذا القسم والذي قبله أربعة أقوال: الأول لابن الماجشون: أنه يستحق الإسهام بالإدراب في أرض العدو إلى حين القول. الثاني: أنه لا يستحق إلا بلقاء العدو ومشاهدة القتال، وهو الذي في الواضحة، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى. الثالث: أنه لا يستحق بلقاء العدو ومشاهدة القتال إذا مات بعده إلا ما غنم وافتتح بقرب ذلك، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى. والرابع لسحنون: أنه لا يستحق بمشاهدة القتال إذا مات بعد ذلك إلا ما غنم وافتتح بذلك القتال خاصة، وهل يسهم لمن مات بعد غنيمة مما غنم بعد موته؟ ففي الموازية عن مالك: إذا كانت غنيمة متتابعة فله سهمه من الجميع، مثل أن يفتحوا حصناً فيموت ثم

آخر على جهة الأمر الأول. أصبغ: وأما لو رجعوا قافلين ونحو ذلك من انقطاع الأمر الأول فلا شيء له، وكذلك روى عيسى عن ابن القاسم. وقال سحنون: مثل أن يكون حصن تحت سور أخذ ربض ثم مات ثم أخذ ربض آخر بعده، وأما ما ابتدئ قتاله من الحصون بعد موته فلا يسهم له وإن كان قريباً. ابن رشد: ويشبه أن يكون هذا القول هو مذهب المدونة. ولِلْفَرَسِ سَهْمَانِ ولِلْفَارِسِ سَهْمُ كاَلرَّاجِلِ لما في البخاري ومسلم عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين وللفارس سهماً. وفي أبي داود نحوه، وهذا- والله أعلم- إما لعظم مؤنة الفرس، وإما لقوة المنفعة به، ولهذا لم يسهم للبغل ونحوه. وعن ابن وهب: أنه قال للفرس سهم واحد كراكبه. وشبه المصنف الفارس بالراجل ليفيد الحكم فيه. والله أعلم. ولا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ الثَّانِي عَلَى الْمَشْهُورِ كَالزُّبَيْرِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، ولا يُسْهَمُ لِلثَّالِثِ اتِّفَاقاً حاصله: أنه يسهم للفرس الواحدة ولا يسهم للثالث اتفاقاً، واختلف في الثاني، فالمشهور أنه لا يسهم له؛ لما ورد: أن الزبير كان له فرسان يوم حنين فلم يسهم إلا لواحد. وقال ابن وهب، وابن حبيب: يسهم له، واختاره ابن الجهم. وروي في ببعض طرق حديث الزبير أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. وإِنْ كَانُوا فِي السُّفُنِ ومَعَ بَعْضِهِمْ خَيْلُ فَكَذَلِكَ وجه هذا ظاهر؛ لأن المقصود بحملها معهم القتال عليها عند الحاجة إليها. قال في المدونة: وكذا إن أسر أهل العكسر رجالة وتركوا خيلهم، فإنه يسهم للفرس كما لو كان راكبه عليه، واختار اللخمي عدم الإسهام للخيل التي في السفن.

والْبِرْذَوْنُ والْهَجِينُ والصَّغِيرُ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْكَرِّ والْفَرِّ كَغَيْرِهِا، بِخِلافِ الإِبِلِ، والْبِغَالُ والْحَمِيرُ ..... ابن حبيب: البراذين: هي العظام. الباجي: يريد الجافية الخلقة العظيمة الأعضاء. وقيل: البرذون ما كان أبوه وأمه قبطيين، وإن كانت الأم قبطية والأب عربي فهو هجين، وبالعكس مقرف. وقيل بعكسه، وقال ابن حبيب: الهجين الذي أبوه عربي وأمه من البراذين. قوله: (يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْكَرِّ والْفَرِّ) شرط في الإسهام، وظاهره أنه لا يشترط مع ذلك إجازة الإمام ونحوه لابن حبيب، وشرط في المدونة والموطأ في البراذين إجازة الوالي لها، وحمل الباجي والمازري قول ابن حبيب على الخلاف. وقال التلمساني: الأول أن يحمل مطلق قوله في الواضحة على مقيد قوله في المدونة. خليل: وقد يقال بل يحمل ما في المدونة على ما في الواضحة؛ لأنه قد اشترط في الواضحة أن يقدر بها على الكر والفر، وهي إذا كانت كذلك يجيزها الإمام، لكن قوله في الجلاب: والهجين والبراذين بمنزلة الخيل إذا أجازها الوالي وكانت سراعاً خفافاً تقارب العتاق، يرد هذا. والله أعلم. وما ذكره المصنف في الصغير نص عليه ابن حبيب. الباجي: ولو دخل بفرس صغير فكبر وصار يقاتل عليه، أسهم له من يوم بلوغه حد الانتفاع به، قاله سحنون. كما أنه يسهم للصبي إذا بلغ مما غنموه بعد بلوغه. ويسهم لإناث الخيل كذكورها، رواه ابن عبد الحكم عن مالك. وفي البخاري: قال راشد بن سعيد: كان السلف يستحبون الفحولة في الخيل؛ لأنها أجرأ وأجسر. سحنون: وإذا دخل بفرس لا يقدر أن يقاتل عليه من كبر، فهو راجل لا ينبغي للإمام أن يجيزه. الباجي: وهذا يدل على أن على الإمام أن يتفقد أمر الخيل، فيجيز منها ما يجب ويرد منها ما لا يمكن القتال عليه. وفي الجواهر: ويسهم للضعيف؛ لأنه يرجى برؤه. وقال أشهب،

وابن نافع: لا يسهم له؛ لأنه لا يمكن القتال عليه الآن فأشبه الكسير، ولا يسهم للإبل والبغال والحمير. والْمَغْصُوبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجَيْشِ كَغَيْرِهِ، ومِنَ الْجَيْشِ فَقَوْلانِ يعني: إذا غصب أحد فرساً وغزا عليه، فإن كان الفرس من الغنيمة فسهماه للغاصب؛ أي: في غنيمة أخرى، وكذلك لو كان مغصوباً من غير الجيش. واختلف إذا غصبه من غاز، وهو مراده بقوله: (ومِنَ الْجَيْشِ) فقال ابن القاسم: سهماه لربه، وبه أخذ محمد. وقال أشهب، وسحنون: سهماه للغاصب وعليه أجرة مثل الفرس. سحنون: إلا أن يأخذه بعد انتشاب القتال فيكون لربه. ابن عبد السلام: ومن الشيوخ من يذكر القولين في هذه المسألة [271/ أ] على الإطلاق من غير تفصيل في الفرس هل غصب من غنيمة أو من غيرها. وفي الفرس المستعار قولان؛ أحدهما: أن سهميه للمقاتل عليه، وهو لمالك في الموازية، وأحد قولي ابن القاسم. والثاني: لربه وهو أحد قولي ابن القاسم. المازري: وسبب الخلاف أن السهمين أضيفا للفرس، فهل يقال ذلك لأجل فارسه والفرس تبع أو هما للفرس؟ فإن قدرنا ذلك مستنداً للفرس والفارس كالتبع كان السهمان للمعير، لاسيما إذا راعينا المقصود وقلنا: لم يقصد المعير إلا هبة حركة الفرس لا هبة ما نشأ عن الحركة، وإذا قدرنا أنهما للفارس جاء القول الآخر وخرج القولين في مسألة الغصب على هذا الأصل، فعلى قول من أسند السهمين للفارس يكونان للغاصب، وعلى القول بإسنادهما للفرس يكونان كغلات المغضوب، وفي ذلك خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. خليل: وعلى هذا لا يبعد أن يخرج قول بأن يكون السهمان لربها وإن لم يكن حاضراً في الجيش.

المازري: وأما إن قاتل على فرس حبس، فإن السهمين للمقاتل عليه، أما على أن السهمين للفارس فواضح، وأما على أنهما للفرس؛ فلأن المحبس لما حبس هذا الفرس وأخرجه عن ملكه صار قاصداً لتسليم حركاته وما يكون عنها. قال: ولو أن عبداً قاتل على فرس سيده، فإن قلنا: إن السهمين مستندان للفرس كان ذلك لسيده، وإن قلنا: إنهما مستندان للفارس، فهذا العبد ممن لا يسهم له، فهذه المسألة لا أعرف فيها نصاً وفيها نظر على هذين البناءين. فرع: إذا كان الفرس بين رجلين فسهماه لمن حضر به القتال وإن كان الآخر قد ركبه في أكثر الطريق، وعلى المقاتل أجرة نصيب شريكه، فإن شهدا القتال عليه معاً، فلكل واحد مقدار ما حضر عليه من ذلك وعليه نصف الإجارة، قاله مالك في كتاب ابن سحنون. والْغُلُولُ فِي غَيْرِ الطََّعَامِ ونَحْوِهِ وآلاتِ الْقِتَالِ مُحَرَّمٌ إِجْمَاعاً، وأَمَّا الطََّعَامُ فَلِكُلٍّ أَخْذُ حَاجَتِهِ ..... الغلول اصطلاحاً: هو الخيانة من المغنم. واختلف اللغويون هل هو مقصور على الخيانة من المغنم وهو مذهب أبي عبيد، أو عام في كل خيانة وعليه الأكثر. وهذا فيما فعله ثلاثي وهو: غل يغل بضم الغين في المضارع، وأما الرباعي وهو: غَلََّ يَغُلُّ فهو الخيانة على الإطلاق. ابن قتيبة: وسمي بذلك لأن من أخذه كان يغله في متاعه؛ أي: يدخله. ونقل المصنف، وسحنون، وابن حبيب وغيرهم: ويؤدب الغال ولا يحرق رحله ولا يمنع سهمه، وإن جاء تائباً أخذ منه ولم ينكل؛ لأن التعازير تسقط بالتوبة. وقال مالك في العتبية: ما سمعت فيه شيئاً، ولو أدب لكان لذلك أهلاً. وحمل في البيان ما قاله ابن القاسم وغيره من السقوط على أنه تاب قبل القسم ورد ما غل في المغانم، وأما لو تاب بعد القسم لما سقط عنه الأدب عند جميعهم. واختلف هل يجوز أخذ ما قل؟ فقال في المدونة في جلود البقر تكون في المغانم: لا بأس أن يتخذ منها نعال وخفاف إذا احتيج

إليها. وقال ابن نافع: لا يجوز فيما له ثمن وإن احتاجوا إليها. وقول المصنف: (فِي غَيْرِ الطََّعَامِ) يوهم أنه في الطعام أيضاً غلول وليس كذلك، فإن ما يأخذه المجاهد من الطعام المحتاج إليه مباح، سواء أخذه خفية أو ظاهراً، وربما ندب الأخذ للتقوي على العدو، ولهذا قال: وأما في الطعام فلكُلٍّ أَخْذُ حاجته، يريد بغير إذن الإمام، والأصل في هذا ما في الصحيحين عن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جراب شحم يوم خيبر فقلت لا أعطي منه شيئاً، فالتفت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم. فأقره صلى الله عليه وسلم على أخذه. وفي البخاري عن ابن عمر: كنا نصيب في مغازين العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه. وفِي أَخْذِ الأَنْعَامِ الْحَيَّةِ لِلذَّبْحِ قَوْلانِ، ثُمَّ يَرُدُّ مَا فَضَلَ القول بالجواز هو المعروف ذكره في المدونة، والموطأ وغيرهما. والقول الآخر لم أره معزواً. وإذا أخذ الأنعام للحاجة، فله أخذ جلدها إن احتاج إليه وإلا رده للمغانم. وفِي السِّلاحِ ونَحْوِهِ بِنِيَّةِ الرَّدِّ لِلْقَسْمِ قَوْلانِ، وكَذَلِكَ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ أَوْ دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا إِلَى بَلَدِهِ .... احترز بنية الرد مما لو أخذها بنية التملك، فإن ذلك لا يجوز باتفاق، ونقله ابن بشير، والقولان في المدونة ففيها: وللرجل أن يأخذ من الغنم سلاحاً يقاتل به ويرده، أو دابة للقتال أو ليركبها لبلده إن احتاجها ويردها إلى الغنيمة، فإن كانت قد قسمت باعها وتصدق بالثمن، والسلاح كذلك، وكذلك ما يحتاج إلى لبسه من ثياب، وروى علي، وابن وهب أن مالكاً قال: لا ينتفع بدابة ولا سلاح ولا ثوب، ولو جاز ذلك لجاز أن يأخذ العين ويشتري به هذا، واختلف الشيوخ في هذا الإلزام؛ فالتزم التونسي جواز أخذ العين ليشتري بها هذه الأشياء على القول الأول إذا دعت إلى ذلك ضرورة، وفرق صاحب النكت بأن الشراء زيادة تصرف فيما أذن فيه، ولا يلزم من جواز التصرف في شيء على وجه أن يلزم [271/ ب] على سائر الوجوه، وهذا هو الظاهر، ولو كان أخذ

العين جائزاً لما كان لإلزام مالك معنى. نعم ذكر ابن سحنون عن بعض أصحابنا جواز أخذ الطعام وبيعه ليتوصل به إلى ما يباح له أخذه، ورأى في البيان أن القولين اللذين في المدونة إنما هما فيما عدا الانتفاع بالخيل والسلاح في معمعة الحرب، وإنما اختلفوا: هل له أن يمسكها بعد الحرب ويقفل على الخيل أم لا؟ وقول المصنف: (وكَذَلِكَ ثَوْبُ يَلْبَسُهُ) أي: ففيه القولان، ولو جمع المصنف الجميع لكان أخصر، واختار اللخمي الجواز في الفرس والسلاح دون الثوب. ويَجِبُ الرَّدُّ لِلْجَيْشِ إِلا فِي الْيَسِيرِ يعني: أن ما فضل للمجاهد مما أبيح له أخذه إن كان كثيراً رده للجيش إن أمكن، وإن كان يسيراً جاز له أكله؛ لأنه إنما أبيح للحاجة والزائد غير محتاج إليه، ولوحظ في اليسير أن قدر الحاجةلما لم يكن منضبطاً بقدر معلوم بل يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة صار داخلاً فيما دعت الحاجة إليه. مالك: وإذا أخذ طعاماً ثم استغنى عنه فليعطه لأصحابه بغير بيع ولا قرض وما حد اليسير؟ ابن القاسم: له حبس ما لا ثمن له وما ثمنه الدرهم وشبهه. ابن شعبان: وما ساوى نصف دينار فيرد إلى المغنم. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَكَالْمَجْهُولِ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ أي: فإن لم يمكن رد الكثير، فالمشهور أنه يتصدق به كالمال الذي جهلت أربابه كاللقطة إذا مضى لها عام ولم يعلم لها مالك فإن قلت: يلزم من تشبيه المصنف تشبيه الشيء بنفسه، إذ هو بعد افتراق الجيش ولم تعلم أعيان المقاتلين كمال جهلت أربابه، قيل: لا؛ لأن الخمس هنا لبيت المال وهو معلوم، لكنه كالتابع لما ليس بمعلوم، ومقابل المشهور لابن المواز: أنه يتصدق به حتى يبقى اليسير فيجوز له أكله، وهذا لا يؤخذ من كلام المصنف واستبعد؛ لأن اليسير يغتفر في نفسه ولا يغتفر مع غيره.

وإِنْ أَوْصَى بِهِ ولَمْ يُعْلَمْ تَحَقُّقُهُ فَمِنَ الثُّلُثِ هذا الكلام ذكروه في الغلول، ومفهومه: أنه لو تحقق لكان من رأس المال، والذي نص عليه ابن القاسم وغيره هنا: إنما يكون من رأس المال إذا كان قريباً ولم يفترق الجيش، وأما إذا تطاول في الثلث؛ وكأن المصنف رأى أن مع القرب وعدم افتراق الجيش يعلم صدقه، ومع البعد لا يعلم صدقه. خليل: والأظهر ما يؤخذ من كلام المصنف، وأنه إذا علم تحققه يخرج من رأس المال ولو طال؛ لأن الوارث حينئذ لا حق له فيه، لاسيما إذا كانت عينه قائمة. ولَوْ أَقْرَضَهُ لِمِثْلِهِ لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ إِلَيْهِ لأنه إنما أبيح له من الطعام ما هو محتاج إليه، وما أقرضه لغيره صار في معنى المستغنى عنه، وصار قابضه هو المحتاج إليه. اللخمي: وإذا لم يلزم المستقرض رد المثل لم يلزم المشتري رد الثمن. ابن عبد السلام: والكلام في هذا الفصل يشبه الكلام في طعام الضيف، وأنه كما يقالك لا يستحق إلا بالأكل لا بوضعه بين أيديهم. خليل: وما ذكره من أن طعام الضيف إنما يملكه بالأكل ذكره في البيان في باب الأيمان والنذور؛ لأنه قال فيمن دعاه أصحابه ليأكل معهم: لو أراد كلما قطع لقمة ورفعها إلى فيه أن يجعلها في كمه ويذهب بها إلى بيته أو يطمعها لغيره، لم يكن ذلك له إذا لم يأذن فيه أصحابه. وتَمْضِي الْمُبَادَلَةُ بَيْنَهُمْ فِيهِ، كَلَحْمٍ بِعَسَلٍ أَوْ سَمْنٍ ونَحْوِهِ يعني: إذا حصل لأحد من أهل الجيش عسل ولآخر لحم مثلاً فلكل واحد أن يعاوض صاحبه، ولا إشكال أن لكل واحد أن يمنع صاحبه مما بيده إذا كان محتاجاً إليه حتى يبادله، وانظر لو قبض العوض وامتنع من دفع المعوض، وقياس قولهم لا يجب رد المثل في القرض عدم جبره على دفع العوض، وأجاز سحنون هنا بدل القمح بالشعير

متفاضلاً، ومنعه ابن أبي الغمر إلا متساوياً. اللخمي: والأول أقسيس؛ لأن كل واحد منهما إنما يعطي ما استغنى عنه فللآخر أن يأخذه بغير عوض، وأشار بعضهم إلى التفرقة قال: إن وقعت المبادلةفيما يستغني كل واحد منهما عنه، فهذا لا يضر فيه التأخير؛ لأن كل واحد من الآخذ والدافع يجب عليه أن يعطيه لمن احتاج إليه، وإن وقعت المبادلة فيما يحتاجان إليه لكن حاجة كل واحد إلى ما في يد صاحبه أشد من حاجته إلى ما في يده، فهذا تجب فيه المناجزة؛ لأن كل واحد قد ملك ما في يده، ولعل الخلاف هنا كالخلاف في الربا بين العبد وسيده. اللخمي: واختلف فيمن باع طعاماً واشترى بثمنه طعاماً آخر، فكرهه ابن حبيب ورأى الثمن مغنماً بخلاف المبادلة. سحنون: وقال بعض أصحابنا إن باعه لحاجة ليصرف ثمنه في كسوة أو سلاح ولا شيء عنده، لا بأس به كما لو أخذه من المغنم، فإذا بلغ بلاده تصدق به، وإن باعه ليتبادل به كان ثمنه مغنماً. فرع: اختلف إذا جهل المستقرض أو توهم أن الرد يلزمه فقضاه من طعام بملكه، فقيل: يرجع بما دفع إن كان قائماً، وإن فاته المدفوع إليه فلا شيء عليه، كمن عوض من صدقة فظن أن ذلك يلزمه فإنما يرجع مع عدم الفوات وإن فات فلا؛ لأنه سلط المدفوع إليه، وقال بعض القرويين: يرجع مطلقاً؛ لأنه إنما [272/ أ] دفع العوض في الغنيمة للشرط. ابن يونس: والأول هو الصواب. ومَنْ بَاعَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ فَثَمَنُهُ لِلْغَنِيمَةِ تصوره ظاهر. وفي العتبية عن ابن القاسم فيمن باع طعاماً بأرض الحرب ممن يأكله رد الثمن في المغنم لا على المبتاع، وحمل اللخمي ذلك على أنه باعه من غير الجيش، أو ممن خرج لغير الجهاد من أجير أو تاجر، قال: ولو باعه من بعض الجيش ليأكله رد الثمن على المبتاع.

وَأَمَّا مَنْ نَحَتَ سَرْجاً أَوْ بَرَى سَهْماً فَهُوَ لَهُ ولا يُخْمَّسُ في المدونة، مالك: ومن نحت سرجاً أو برى سهماً أو صنع مشجباً ببلد العدو فهو له ولا يخمس. سحنون: معناه إذا كان يسيراً. اللخمي: وقال ابن الماجشون: إن كان له قدر أخذ إجارة ما عمل والباقي يصير فيئاً. قال ابن يونس: وكذلك في الموازية. وحمل صاحب البيان قول سحنون على الخلاف؛ لأنه قال: وقد اختلف فيه إذا كان كثيراً على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه له وله بيعه. والثاني: أنه يأخذ إجارة ما عمل والباقي فيء، وهذان القولان في المدونة، ولا يكونان فيها إلا إذا كان كلام سحنون خلافاً. والثالث: أن جمعية فيء ولا أجرة له في عمله، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون، وأما اليسير فلا اختلاف أنه له ولا شيء عليه فيه، وهذا الاختلاف إنما هو فيا عمل مما لا ثمن له أو مما له ثمن، على مذهب من يرى أن للرجل أن يأخذ من أرض العدو ما لم يحوزوه إلى بيوتهم من أشيائهم المباحة، مثل المسن والدواء من الشجر والطير للاصطياد إذا صادها، وهو قول ابن وهب، وابن عبد الحكم. وأما على مذهب من يرى أنه ليس له أن يأخذ شيئاً من ذلك إذا كانله ثمن، وأن ما صاده للأكل حكمه حكم طعام الغنيمة، وأن من باع منه شيئاً جعل ثمنه في المقاسم، وهو قول ابن حبيب في الواضحة وعزاه إلى مالك وأصحابه، فيتخرج على قولين: أحدهما: أنه يرد في المقاسم ولا أجرة له. والثاني: أن يكون له أجر مثله والباقي فيء. انتهى. وذكر الباجيأن على قول ابن حبيب جمهور الأصحاب؛ لأنه قال: أما ما له قيمة بأرض العدو كالبازي والصقر، فجمهور أصحابنا أنه يكون مغنماً، وحكاه ابن حبيب عن مالك، قال: وأما ما ليس له ببلد العدو إلا قيمة يسيرة، فروى أشهب عن مالك أنه قيل له: إن بأرض العدو أشجاراً لها ثمن كثير ببلاد الإسلام وحملها خفيف وشأنها ببلد العدو يسير. قال: لا بأس بأخذ هذا وإن أخذه للبيع، ولو جاء به إلى صاحب المغانم لم

يقبله ولم يقسمه. وروى ابن حبيب عن ابن القاسمأن ما أكل من صيد أو حيتان فهو له، وما باعه كان ثمنه فيئاً، وكذلك ما حمله إلى أهله فباعه إلا اليسير. والشَّانُ قَسْمُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وهُمْ أَحَقُّ بِرُخْصِهَا هكذا قال في المدونة، والمراد بالشأن السنة الماضية، وقال أبو الحسن: الشأن يحتمل أن يريد به العمل، ويحتمل أن يريد به الوجه ولاصةواب؛ وهذا ما لم يعرض مانع كخوف من العدو. وفي القسم بدار الحرب فوائد؛ منها: تغييظ الكفار. ومنها: تعجيل الفرحة للمسلمين. ومنها: زيادة الحفظ؛ لأنه إذا عرف كل واحد ماله احتفظ عليع. ومنها الرفق بهم في تفرقتهم إلى بلادهم وترك رجوعهم إلىبلدواحد؛ ولهذا قال ابن حبيب: لا ينبغي للإمام أن يبيع شيئاً من متاع الغنيمة الذي لا ينقسم إلا بالنقد. وفي قوله: (وهُمْ أَحَقُّ بِرُخْصِهَا) جواب عن سؤال مقدر؛ لأن بعض العلماء ممن اختار قسمها ببلد الإسلام زعم أن في قسمها ببلد الحرب تضييع الأموال؛ لأنها تباع هناك رخيصة، فقال الإمام: هم أحق برخصها؛ أي: لأن ذلك الرخص راجع إليهم لأنهم هم المشترون لها. وهل تقسم الأثمان أو العروض؟ قال سحنون: إن الإمام يبيع ويقسم الأثمان، فإن لم يجد من يشتري قسم العروض خمسة أجزاء بالقرعة. ابن عبد السلام: وهو ظاهر قوله: (وهُمْ أَحَقُّ بِرُخْصِهَا) وقال ابن المواز: تقسم السلع أولاً على خمسة أجزاء فيعطى للفيء واحد بالقرعة، ويخير الإمام في بيع البقية وقسم أثمانها وفي قسمتها من غير بيع بحسب ما تقتضيه المصلحة. اللخمي، وابن يونس: واختلف في السلع، فقيل: تجمع في القسم ابتداءً، وقيل: إن حمل كل صنف القسم بانفراده لم يجمع وإلا جمع وهذا أحسن وأقل غرراً. وهل تلحق السرية بالجيش في القسم ببلد الحرب؟ أما إن خرجت من بلد الإسلام فحكمها كالجيش، وأما إن خرجت من الجيش فلا تقسم

حتى تعود إليه. ابن المواز: وهو قول أصحابنا إلا ابن الماجشون فإنه قال: إلا أن يخشى من تلك السرية مضرة تضييع، وطرح أثقال، وقلة طاعة والي السرية فتباع الغنيمة ويلزم كل واحد فقط حفظ متاعه وهو استحسان؛ لأنه لا يبيع على الغائب ولا يقسم عليه إلا من يلي أمره، ووالي السرية لا يلي على بقية الجيش. وإِذَا ثَبَتَ أَنََّ فِي الْغَنِيمَةِ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قَبْلَ الْقَسْمِ، فَإِنْ عُلِمَ رَبُّهُ بِعَيْنِهِ حَاضِراً أَوْ غَائِباً رُدَّ مَجَّاناً، وإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ قُسِمِ ولَمْ يُوقَفْ، بِخِلافِ اللُّقَطَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ ... (ثَبَتَ) أي: بطريقة الشرع. المازري: ويحلف أنه ما باع ولا وهب، ونص البرقي وأبو عبيد على عدم قسمه إذا عرف ذلك واحد من العسكر، قالا: وإن وجد أحمال متاع وعليها مكتوب: هذا لفلان بن فلان وعرف البلد الذي اشتري منه كالكتان بمصر وشبهه، لم يجز قسمه ووقف حتى يبعث إلى ذلك البلد ويكشف [272/ ب] عمن اسمه عليه، فإن وجد من يعرفه وإلا قسم. اللخمي: وظاهر قول مالك، وابن القاسم قسم ما علم بلده، وقسم ابن بشير المسألة على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعلم ربه بعينه فلا يقسم. والثاني: أن يعلم أنه لمسلم في الجملة. والثالث: يعرف بلده وناحيته دون عينه، وذكر في كل واحد منها قولين، ومال الذمي كالمسلم لاشتراكهما معاً في العصمة، ثم إذا عرف ربه وكان حاضراً ولم يقسم دفع إليه مجااناً- أي: بغير عوض- وإن كان غائباً، فقال محمد: إن كان حمله خيراً لربه فعل ذلك وأخذ منه الكراء، وإن لم يكن حمله أوفق بيع وينفذ الإمام فيه البيع ولا يكون لربه غير الثمن.

وقوله: (وإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ) أي: وإن عرف أنه لمسلم أو لذمي ولكن لم يعرف بعينه، فالمشهور أنه يقسم تغليباً لحق المجاهدين. وقال ابن المواز، وعبد الوهاب: يوقف. ابن عبد السلام: لكن مذهب ابن المواز يوقف ما رجي العلم بصاحبه، وظاهر كلام القاضي وقفة مطلقاً. تنبيهات: الأول: ابن عبد السلام: قول المصنف (ثبت) وشرط الثبوت مع العلم بعين المالك مخالف لعبارة أهل المذهب في هذه المسألة، وهي قولهم: فإن عرف ربه؛ لأن لفظ الثبوت إنما يستعملونه فيما هو سبب للاستحقاق كالشاهدين وما يقوم مقامهما، ولفظ المعرفة والاعتراف وشبههما يستعملونه فيما هو دون ذلك، أو فيما يشمل البينة، أو ما دونها. وفي كلام أبي عبيد والبرقي: المتقدم دليل على ذلك، ومنه استعمال لفظ المعرفة في اللقطة ومعرفة العفاص والوكاء. والثاني: قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى ما قاله ابن راشد، والفرق على المشهور بين اللقطة وما لم يعرف ربه ينبني على قاعدة، وهي: أن المشركين إذا غنموا شيئاً من أموال المسلمين على سبيل القهر، هل يبقى له فيه شبهة الملك، وإذا أسلموا تقرر ملكهم عليه؟ وهو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة؛ لأن القهر والغلبة وجه يملك به المسلم مال المشرك، فجاز أن يملك به المشرك، كالبيع والصلح؛ ولأنهم لو أتلفوا شيئاً مما حصل في أيديهم ثم أسلموا لا يطالبون بذلك بالإجماع، ولولا الشبهة لغرموا، وخالفنا الشافعي فنفى الشبهة، ولعل نفى الغرامة عنه في الاستهلاك لاستئلافهم على الإسلام، وإذا تقررت هذه القاعدة ظهر لك الفرق؛ لأن الغانمين تنزلوا منزلة من له شبهة الملك، واللقطة لا حق فيها للملتقط.

وبِيعَتْ خِدْمَةُ الْمُعْتَقِ إِلَى أَجَلٍ، والْمُدَبَّرِ، والْمُكَاتَبِ، بِخِلافِ أُمِّ الْوَلَدِ إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ يعني: إذا فرغنا على المشهور في بيع مال المسلم إذا لم يعلم مالكه بعينه، فكان من مال المسلم معتق إلى أجل، أو مدبر، أو مكاتب، أو أم ولد، فإنه تباع خدمة المدبر والمعتق إلى أجل؛ لأن خدمتهما ملك لسيدهما، ولا تباع خدمة المكاتب وأم الولد؛ أما المكاتب: فلأنه أحرز نفسه وماله فلم يبق لسيده فيه إلا الكتابة. وأما أم الولد؛ أما المكاتب: فلأنه أحرز نفسه وماله فلم يبق لسيده فيه إلا الكتابة. وأما أم الولد: فإنما لسيدها فيها استمتاع، وهو مما لا يقبل المعاوضة؛ ولا إشكال في بيع خدمة المعتق إلى أجل لانضباطها، وكذلك بيع كتابة المكاتب، ثم إن أدى الكتابة أعتق وكان ولاؤه للمسلمين، وإن عجز رق لمشتريها. وأما المدبر: فقال سحنون كالمصنف: إنه لا يدخل من المدبر في المغانم إلا خدمته. ابن أبي زيد: يريد يؤاجر بمقدار قيمة رقبته، فتجعل تلك القيمة في المقاسم ويتصدق بذلك إن تفرق الجيش. قال ابن عبد السلام: ظاهر كلام المصنف أنه يباع جميع خدمة المدبر وليس بصحيح؛ لأنها محدودة بحياة السيد وهي غير معلومة الغاية، وإنما ينبغي أن يؤاجر زمناً محدوداً بما يظن حياة السيد إليه، ولا يزاد على الغاية التي تذكر في كتاب الإجارة، ثم إن عاش المدبر وسيده بعد تلك المدة تكون الخدمة الزائدة كاللقطة لافتراق الجيش وعدم العلم بأعيان من يستحقها. ولَوْ جَهِلَ الْوَالِي أَوْ تَأَوَّلَ فَقَسَمَ مَا وَجَبَ لِمَالِكِهِ، فَثَالِثُهَا: يَمْضِي التَّأويلُ يعني: فلو قسم الوالي مال المسلم المعين، وهو معنى قوله: (مَا وَجَبَ لِمَالِكِهِ) إما جاهلاً بالحكم، أو متأولاً في الأخذ بقول بعض العلماء، فقال سحنون: يمضي؛ لأنه حكم وافق اختلافاً بين الناس، لأن الأوزاعي قال: لا يأخذه ربه إلا بالثمن لو عرف بعينه، وعدم الإمضاء لابن القاسم وابن حبيب ويأخذه ربه بغير ثمن.

والثالث: لم أره، وذكر ابن عبد السلام: أنه مختار الأشياخ، ولم يسقه ابن بشير على أنه خلاف، بل قال بعد القولين: وهذا في التأويل ظاهر؛ لأنه حكم بما اختلف الناس فيه، ونقضه هو المشكل إلا أن يتأول على أنه لم يتأول موافقة الخلاف، وإنما تأول القسم من غير أن يعرف كون ذلك مذهباً لأحد. وأما إذا جهل فقد اعترض الأشياخ القول بمضيه؛ لأن الجاهل لا يعذر بموافقته للمذهب. فَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْقَسْمِ فَلِمَالِكِهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِثَمَنِهِ إِنْ عُلِمَ، وإِلا فَبِقِيمَتِهِ هذا قسيم قوله: (قبل القسم) يعني: وإن ثبت أنه مال مسلم معين بعد القسم، فلمالكه أخذه إن شاء بثمنه؛ أي: بالقدر الذي قوم به في الغنيمة. قال صاحب الاستذكار، وغيره: وسواء دخله زيادة أو نقص، كما لو عمي أو تعيب بغير ذلك؛ لأنه [273/ أ] إنما يستحقه بسبب قديم كالشفعة. قال في المدونة: وإن أراد به أخذه لم يكن لمن هو في يده أن يأبى ذلك. قال في البيان: ولا خلاف في المذهب أن لرب السلعة أن يأخذها إن شاء، وإن لم يعلم ذلك القدر أو يشتره أخذه بالقيمة. ابن راشد: وتكون القيمة يوم القسم. خليل: وهو مقتضى كلامهم. وقال ابن عبد السلام: يريد- والله أعلم- بقيمته يوم أخذه، ويحتمل بقيمته يوم القسم. وَلَوْ بِيعَ مِرَاراً فَفِي تَعَيينِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ أَوْ يُتَخَيَّرُ كَالشَّفِيعِ قَوْلانِ القولان لسحنون: قال أولاً: إذا تداولته الأملاك أخذه بأي ثمن شاء، ثم رجع فقال: يأخذه بما وقع في المقاسم بخلاف الشفعة، إذ لو سلم الشفعة في بيع ثم بيع الشقص كان للشفيع فيه الشفعة، وهذا إذا أسلمه لم يكن له أخذه إن بيع بعد ذلك، وهو قول ابن القاسم، رواه عنه سحنون في العتبية واحتج بهذا، وصرح ابن راشد بمشهورية تعيين الثمن الأول. وخرج اللخمي وصاحب البيان في هذه المسألة قولاً ثالثاً مما وقع في الذي يشتري عبداً من بلد الحرب ثم يقدم فيبيعه، أنه لا يكون لصاحبه إلا ما بين الثمنين وفيه نظر.

وإِذَا قُسِمَتْ أُمُّ الْوَلَدِ جَهْلاً؛ فَفِيهَا: يَفْدِيهَا رَبُّهَا بِالثَّمَن جَبْراً. وقِيلَ: بِالأَقَلِّ. وقِيلَ: بِقِيمَتِهَا. وقِيلَ: أَوْ الإمَام. وفِي الْمُوَطَّأِ: يَفْدِيهَا رَبُّها إِنِ امْتَنَعَ الإِمَامُ، ويَتبعُ ذِمَّتَهُ إِنْ كَانَ فَقِيراً ..... قوله: (جَهْلاً) أي: بأنها أم ولد، وظن أنها فن لا أنه قسمها وهو يعلم أنها أم ولد وجهل الحكم، فإن هذه يأخذها ربها بغير ثمن اتفاقاً. وأما الوجه الأول، فمذهب المدونة: أنه يفديها ربها بالثمن جبراً؛ أي: بما وقعت عليه في المقاسم وإن كان ذلك أضعاف قيمتها ولا خيار له، وهو معنى قوله: (جَبْراً) وأحسن منه إجباراً؛ لأن أكثر استعمال العرب الفعل في هذا الباب رباعي، وقال المغيرة، وأشهب: يفديها بالأقل من القيمة والثمن وهو أظهر؛ لأنه قد يزيد في الثمن لغرضه فلا يلزم ذلك ربها، وفي إلزامه القيمة إذا كانت أكثر من الثمن ضرر بالسيد. وقوله: (وقِيلَ: بِقِيمَتِهَا) ظاهره: ولو زادت على الثمن ولم أره. وقوله: (أَوْ الإمَام) هكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها إسقاطه ولا كلام على الإسقاط. وأما على إثباتها فالأولى لو قال: وقيل: الإمام؛ لأن ابن بشير وغيره ذكر قولاً بأنه يفديها الإمام. وفي الموطأ: يفديها الإمام، فإن لم يفعل فعلى سيدها أن يفديها، وهذا معنى قوله: (وفِي الْمُوَطَّأِ: يَفْدِيهَا رَبُّها إِنِ امْتَنَعَ الإِمَامُ) ولم يصرح في الموطأ بماذا تفدى، وكأنه رأى في الموطأ أن سيدها لما كان مجبراً على افتكاكها والإمام أدخله فيها كان على الإمام أن يغرم ذلك. قوله: (ويَتبعُ ذِمَّتَهُ إِنْ كَانَ فَقِيراً) يعني: حيث خاطبنا السيد بالفداء، فإن كان موسراً أخذ منه، وإن كان معسراً أتبع به. فَلَوْ مَاتَتْ أَوْ مَاتَ سَيِّدُهَا قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ بِشَيْء لأن الفداء ليس بدين ثابت في ذمة السيد، وإنما هو لتخليص رقبتها، فإذا ماتت فقد تخلصت رقبتها، وكذلك إن مات سيدها لأنها تصير حرة، فلذلك لم يكن على السيد في

موتها ولا في تركته شيء إن مات، وهذا الفرع لسحنون. ونقله صاحب النوادر، واللخمي، وابن يونس، كما نقله المصنف؛ أعني: في جعل الغاية العلم بها، فقول ابن عبد السلام: ولم يجعل سحنون الغاية كالمصنف بل جعلها الحكم ليس بظاهر، نعم نقل الباجي عن سحنون مثل ما ذكره. فَإِنْ قُسِمَ الْمُعْتَقُ إِلَى أَجَلٍ خُيِّرَ السَّيِّدُ، فَإِنْ فَدَاهُ رَجَعَ إِلَى حَالِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَهُ كَانَ إِسْلاماً لِخِدْمَتِهِ فَقَطْ إِلَى أَجَلِهِ فَقَطْ. وقِيلَ: إِلا أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ قَبْلَهُ فَيَرْجِعَ إِلَى السَّيِّدِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءُ فَفِي اتِّبَاعِ الْعَبْدِ بِهِ قَوْلانِ .... لا خفاء أنه لو علم أنه معتق إلى أجل وعرف سيده أنه يوقف له، وإن لم يعرف بيعت خدمته ودخلت في المقاسم على المشهور كما تقدم. وأما إن لم يعلم أنه معتق إلى أجل وقسم ثم عرف صاحبه بعد ذلك، فإنه يخير سيده بين أن يفديه بما وقع به في المقاسم أو يسلمه؛ فإن فداه رجع إلى حاله، وإن أسلمه قال المصنف: (كَانَ إِسْلاماً لِخِدْمَتِهِ فَقَطْ ... وقِيلَ: إِلا أَنْ يَسْتَوْفِيَ) حاصله: أنه هل يسلم الخدمة تمليكاً أو على التقاضي، والقول بالتمليك نقله في النوادر عن ابن القاسم، ولفظه: والمعتق إلى أجل حين أسلمه صارت خدمته وإن كثرت للمبتاع حتى يحل الأجل ويعتق، فإن بقي له شيء أتبع به، قال: وروى أبو زيد عن ابن القاسم في المعتق إلى أجل يتم الأجل ولم يستوف المشتري من الخدمة ما بقي له، أنه لا يتبعه بشيء وهذا هو الصواب، ورجوع منه عن قوله الأول. انتهى. والقول بأنه إنما يأخذ القيمة على التقاضي، وأنه يرجع إلى السيد إن بقي من الأجل شيء، نقله ابن يونس عن سحنون، وإن تم الأجل ولم يوف عتق ولم يتبع بشيء. وقد ذكر اللخمي أيضاً الخلاف في الخدمة هل تعطى تمليكاً، أو على التقاضي؟ وهل يتبع إذا أعتق بما بقي أم لا؟ كما ذكر المصنف. وقول ابن عبد السلام: الموجود هنا هو قول سحنون ليس بظاهر.

وكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، فَإِنْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ قَبْلَ الاسْتِيفَاءِ خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ حُرّاً، وفِي اتِّبَاعِهِ بِبَاقِي الثَّمَنِ قَوْلانِ، ويُقَوِّمُ عَبْداً مِنْ مَالِهِ، ولِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَتْرُكْ غَيْرَهُ عُتِقَ ثُلُثُهُ ورَقَّ [273/ أ] بَاقِيهِ ولا قَوْلَ لِلْوَرَثَةِ بِخِلافِ الْجِنَايَةِ، وقِيلَ: يُخَيَّرُونَ كَالْجِنَايَةِ .. يعني: إذا قسم المدبر ولم يعلم أنه مدبر، فإن فداه سيده رجع إلى حاله، وإن أسلمه فكما تقدم في المعتق، فإن مات سيد المدبر فإما أن يخرج من ثلثه أو لا، فإن خرج حكم بحريته. وهل يتبع بام بقي عليه مما وقع به في المقاسم؟ ذكر في المدونة في باب المدبر قولين: مذهب ابن القاسم اتباعه، وقال غيره: لا يتبع. وعن ابن الماجشون ثالث بالفرق بين المدبر يقع في المقاسم فلا يتبع، وبين المشتري من دار الحرب فيتبع، واستصوبه محمد. خليل: وينبغي أن يقيد قول من قال بعدم الاتباع هنا، وفي المعتق إلى أجل بما إذا لم يكتماه، وأما إن كتماه فيرجع عليهما لغرورهما، وإن لم يخرج عتق منه محمل الثلث، وهل يتبع الجزء العتيق بما ينويه؟ القولان، وأما الجزء الذي لم يعتق، فقال ابن القاسم: يسلم رقاً لمن هو في يده، ولا يخير الورثة في إسلامه وفدائه بما ينوبه، كما يخيرون في ذلك في الجناية إذا جنى المدبر وأسلمه سيده للمجني عليه ثم يعتق بعضه، وقيل: يخيرون كالجناية، والفرق بينهما على المشهور أن المشتري في المغانم إنما اشترى الرقبة، فالسيد لما أسلمه فقد أسلم ما اشترى- وهو الرقبة- وقد آل الأمر إليها فلا رجوع، بخلاف الجناية فإن المجني عليه لم يدخل إلا على الخدمة، فإذا آل الأمر إلى الرقبة فهي شيء آخر، وفيه نظر؛ لأنه مبني على أن السيد في الغنيمة أسلم الرقبة وليس كذلك، وإنما أسلم الخدمة، إلا أن يلاحظ كونه دخل ابتداءعلى ملك الرقبة.

وَإِنْ قُسِمَ الْمُكَاتَبُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ أَدَّى مَا اشْتُرِىَ بِهِ عَادَ مُكَاتَباً لِسَيِّدِهِ، وإِنْ عَجَزَ فَكَعَبْدٍ أَسْلَمَ أَوْ فُدِي كَالْجِنَايَةِ. وعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنْ أَسْلَمَهُ السَّيِّدُ فَعَلَى كِتَابَتِهِ ..... يريد: ولم يعلم أنه مكاتب، فقال ابن القاسم: يقال له: أد ما اشتراك به هذا، كما يقال له: أد الجناية، فإن أداه رجع مكاتباً، وإن عجز كان ذلك عجزاً عن الكتابة كما في الجناية أيضاً. ويخير سيده بين أن يسلمه عبداً أو يفديه. ورجع سحنون إلى هذا القول بعد أن قال: يخير السيد أولاً بين أن يفديه أو يسلمه، فإن فداه بقي له مكاتباً، وإن أسلمه قيل للمكاتب: أد ما صرت به لمن أنت في يده وتمضي على كتابتك، فإن عجز عن ذلك، فهو كماكتب عليه دين فلس به فإنه يعجز. قوله: (وعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ) يعني: أن المكاتب الذي قد قسم يخير سيده في فدائه وإسلامه، فإن فداه بقي على كتابته، وإن أسلمه لم يلزم المكاتب غير كتابته فقط، يؤديها على نجومها، ويخرج حراً ولا يتبع بشيء، فإن عجز رق لمشتريه، ولم يكن لسيده فيه خيار ولا رجعة، وترك المصنف من قول عبد الملك: ولا يتبع بشيء إذا خرج حراً، وإن عجز رق لمشتريه ولم يكن لسيده فيه خيار ولا رجعة، وهذا مخالف لما حكيناه عن سحنون؛ لأنه على قول عبد الملك: إذا أسلمه لا يلزمه غير الكتابة، وعلى قول سحنون يقال له: أدِّ ما صرت به. قال عبد الملك: وأما إن اشترى المكاتب من العدو ولم يفده سيده، فإنه يقال للمكاتب: أد لمشتريك الثمن الذي اشتراك به وتبقى على كتابتك تؤديها إلى سيدك وتخرج حراً، وإن لم تفعل رققت الساعة لمشتريك، وهذه الأقاويل حيث لم يؤد المكاتب لمن وقع له شيئاً، وأما إن أتى سيده وقد أدى بعضها وأراد افتكاكه، فاختلف الشيوخ؛ فمنهم من قال: يكون كبيع قد فات، فإن كان قد قبض نصف الكتابة أو ثلثها- يريد بالقيمة لا بالعدد- مضى لمن هو في يده ما قبض، وأخذ سيد المكاتب ما بقي بنصف الثمن أو ثلثه.

ومنهم من قال: هو كبيع لم يفت، فإذا شاء سيده افتكاكه دفع لمن هو في يده جميع ثمنه وأخذ ما كان قبض من المكاتب. ومَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ أَوْ غَيْرُهَا، وعَلِمَ أَنَّهَا لِمُسْلِمٍ مُعَيَّنٍ لَمْ تَحِلََّ لَهُ حَتَّى يُخَيَّرَ صَاحِبُهَا ..... قوله: (أَوْ غَيْرُهَا) يريد من سائر السلع، وكذلك قال في المدونة. قوله: (لِمُسْلِمٍ) يريد أو ذمي كما تقدم، وإنما لم تحل؛ لأنها مملوكة للغير وانتقالها عن ملكه موهم، لاسيما في الفرج، وعلى القول بأن العلم بربها لا يمنع من قسمتها إذا كان غائباً يجوز له التصرف هنا. وإِذَا تُصُرِّفَ فِي الرَّقِيقِ بِالْعِتْقِ الْمُنْجَزِ أَوِ الاسْتِيلادِ مَضَى عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ أُعْتِقَ إِلَى أَجَلٍ فَأَجْرَاهُ اللَّخْمِيُّ عَلَيْهِ ..... يعني: أن من وقع في سهمه عبد أو أمة أو اشتراهما من حربي، فأعتق العبد عتقاً ناجزاً، أو استولد الأمة، فالمشهور أنه فوت ولا شيء للسيد، قاله في المدونة. وفي الموازية عن أشهب: أن له نقض عتق العبد ويأخذه بالثمن. وذكر سحنون عن أشهب في الاستيلاد: أن له أن يأخذ الأمة وقيمة ولدها، وبه قال ابن القاسم أولاً كالاستحقاق، ورأى في المشهور أن هذا أضعف؛ لأن المستحق يأخذه بغير عوض بخلاف هذا. وقوله: (تُصُرِّفَ) يضبط مبنياً لما لم يسم فاعله؛ ليعم تصرفه وتصرف من باع له أو وهب له وغير ذلك. واختلف الشيوخ على المشهور لو اشترى العبد من المقاسم على أن يرده على صاحبه فأعتقه، فقال القابسي، وأبو بكر بن عبد الرحمن: يمضي عتقه كالأول، وقال ابن الكاتب: [274/ أ] لا يمضي؛ لأنه دخل على الرد على صاحبه. اللخمي: ويختلف إذا أعتق إلى أجل، فيمضي على قول ابن القاسم، ويرد على قول أشهب. وهذا معنى قوله: (فَأَجْرَاهُ اللَّخْمِيُّ عَلَيْهِ). ابن بشير: ويبعد أن يجري عليه لعدم إنجاز العتق، فيقوى هنا على الرد.

ولَو قُسِمَ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُ جَهْلًاً لِكِسْوَتِهِمَا، فَثَالِثُهَا: إِنْ عُذِرَا فِي السُّكُوتِ بِأَمْرٍ لَمْ يُتَّبَعَا ..... لا خلاف في حريتهما، وإنما اختلف في اتباعهما، والقول بالاتباع لأشهب، وبعدمه لمالك وابن القاسم وسحنون. اللخمي: لم يفرق في هذين القولين هل كان جاهلاً أو عالماً؟ وقال ابن القاسم: إن كان صغيراً أو كبيراً قليل الفطنة، كثير الغفلة، أو أعجمياً يظن أن ذلك رق له لم يتبع، وإن نودي عليه وهو ساكت بلا عذر أتبع إذا لم يجد المشتري على من يرجع. وقال غيره: لا يتبع ولو غر. واختلف الشيوخ في إبقاء هذه الأقاويل على ظاهرها في المسألة أو تأول، فذهب المؤلف وبعضهم إلى بقائها على ظاهرها كما ترى. وقال اللخمي: لا يختلف إذا كان المبيع صغيراً؛ لأنه لا رجوع عليه. وقال ابن رشد: لا خلاف أنه إذا عذر بجهل لا شيء عليه، وإنما اختلف إذا لم يعذر بجهل، وطريقة ابن رشد مخالفة للخمي؛ لأن ابن رشد أخرج من يعذر بجهل مطلقاً من الخلاف، واللخمي إنما أخرج الصغير، وكلاهما خلاف طريقة المصنف وابن بشير؛ لكونهما أطلقا الخلاف. وأشار في البيان إلى أن هذا الخلاف جارٍ على الغرور بالقول. ابن عبد السلام: وبالجاري عندي على مشهور المذهب أنه غرور بالفعل، وأنه موجب للغرم؛ لأن سكوته مع علمه وإسلامه نفسه لمشتريه فعل، ومسائل الغرور في النكاح تشهد لذلك. اللخمي: وكل هذا إذا افترق الجيش وكانوا لا يعرفون لكثرتهم، فإن لم يفترق الجيش أو عرفوا بعد الافتراق رجع عليهم المشتري أو من صار في سهمه. ابن القاسم: ينبغي للإمام أن يغرم لمن وقع في سهمه من بيت المال. وقال ابن مسلمة: على الإمام أن يؤدي ذلك من الفيء أو الخمس. وقال سحنون: لا شيء عليه ولا يعطى من الخمس أو بيت المال، وهي مصيبة نزلت به.

ومَنْ عَاوَضَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مَالٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلِمَالِكِهِ أَخْذُهُ بِثَمَنِهِ اتِّفَاقاً تقدم أن للمشركين فيما أخذوه شبهة الملك، فإذا دخل رجل دار الحرب فاشترى منهم مال مسلم لم يكن كالمشترى من الغاصب، بل إنما يأخذه ربه بالثمن؛ فإن كان عيناً دفع مثله حيث لقيه أو حاكمه، إن كان مثلياً أو عرضاً دفع إليه مثل ذلك في بلد الحرب، وإن كان الوصول إليها ممكناً، كمن أسلف ذلك فلا يلزمه إلا مثله بموضع السلف، إلا أن يتراضيا على ما يجوز. ابن يونس عن بعض شيوخه: وإن لم يمكن الوصول إليها فعليه هنا قيمة ذلك المكيل ببلد الحرب. والاتفاق الذي حكاه المصنف حكاه ابن بشير. وفِي أَخْذِ مَا فُدِيَ مِنَ اللُّصُوصِ مَجَّاناً قَوْلانِ يعني: أنه اختلف إذا فدي شيء من أيدي اللصوص هل لا يأخذه ربه إلا بالثمن كالمشتري من يد العدو؟ أو يأخذه هنا بغير شيء؛ لأن اللص ليس له شبهة الملك بخلاف الحربي؟ والقولان ذكرهما ابن بشير ولم أرهما معزوين. ابن راشد: والثاني أقيس. وقال ابن عبد السلام: الذي مال إليه من أرضي من شيوخي الأول لكثرة النهب في بلدنا، فيعمد من له وجاهة عند الأعراب، فيفتك منهم ما ينهبونه بأقل من ثمنه، فلو أخذه مالكه بغير شيء انسد هذا الباب مع الحاجة إليه، وكثيراً ما يسأل من هو منتصب لهذا هو تجوز له الأجرة؟ ولا شك في المنع إن دفع الفداء من عنده؛ لأنه سلف وإجارة، وإن كان الدافع غيره ففي ذلك مجال للنظر. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَيْءٍ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ يعني: فإن أخذه من دار الحرب بغير شيء، وفي معناه ما أخذه من اللصوص، كما لو وهبه له الحربي، ولم يكافئه على ذلك، وأما إن كافأه فلا يأخذه إلا بذلك.

فَإِنْ بَاعَهُ الْمُعَاِوضُ مَضَى ولِمَالِكِهِ الزَّائِدُ إِنْ كَانَ. وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ تَمْكِينَهُ عَلَى الْغَنِيمَةِ، وخَرَّجَهُ غَيْرَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ يُبَاعُ، وفِيهِ قَوْلانِ: الْمَشْهُورُ: كَالْمُعَاوِضِ، وقِيلَ: يَاخُذُهُ بِالثَّمَنِ، ويَرْجِعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لا غَيْرُ .... يدخل في قوله (المعاوض) المشتري والمكافئ على الهبة. وقوله: (مَضَى) أي: البيع (ولِمَالِكِهِ الزَّائِدُ إِنْ كَانَ) كما لو اشتراه بمائة وباعه بمائتين، فلمالكه المائة الزائدة. اللخمي: ويجري فيها قول بأنه لا يكون البيع فوتاً قياساً على ما بيع في المغانم أن للمستحق أن يرد البيع؛ لأن للمالك في كل من الصورتين أخذ عين شيئه إذا وجده قبل البيع. وفرق ابن بشير بقوة ملك المالك في مسألة الغنيمة وضعفه في مسألة الشراء، ألا ترى أنه يأخذه في مسألة الغنيمة قبل القسمة بغير عوض، ولا يأخذه في الشراء إلا بعوض. ولهذا خرجه أبو عمران على الذي يهب له الحربي مال مسلم فيبيعه الموهوب له، فقال ابن القاسم: ليس لمالكه إلا الثمن الذي بيع به خاصة، وإليه أشار بقوله: (الْمَشْهُورُ: كَالْمُعَاوِضِ). وقال ابن نافع: له نقض البيع، ولا يأخذه من يد مشتريه إلا بعد دفع الثمن، ثم يرجع المالك على البائع؛ أي: الموهوب له فيأخذ منه جميع الثمن. وقوله: (لا غَيْرُ) أي: ليس على الموهوب له غلة. وعلى هذا [274/ ب] فيكون قوله: فله جميع الثمن مفرعاً على عدم الإمضاء. وجعل ابن راشد قوله: فله جميع الثمن لا غير مفرعاً على عدم القول بالإمضاء؛ أي: فإذا قلنا بإمضاء البيع فالموهوب الذي لم يكافأ عليه يرجع عليه المالك بجميع الثمن لا غير. خليل: وقد يفرق بين الهبة والبيع بأن المعاوض بذل مالاً فقوي ملكه بخلاف الموهوب. والْمُدَبَّرُ ونَحْوُهُ إِنْ أُسْلِمَ لِلْمُعَاوِضِ اسْتُوفِيَتْ خِدْمَتُهُ ثُمَّ أُتْبِعَ إِنْ عَتَقَ بِجَمِيعِ الثََّمَنِ، وقِيلَ: بِمَا بَقِيَ .... قوله: (ونَحْوُهُ) أي: المعتق إلى أجل، وقد تقدم في المدبر يقع في المقاسم، والمفدي من العدو ثلاثة أقوال، ولم يقدم المصنف في الواقع في المقاسم قولاً باتباعه بجميع الفداء،

وظاهر كلام المصنف أن اتباعه بالجميع هنا هو المشهور، ولم أر من شهره. وعن ابن الماجشون الفرق بين المدبر يقع في المقاسم، فلا يتبع إن خرج حراً، ولا الجزء العتيق إن خرج بعضه كالحر لا يتبع في الفيء، وبين من اشتري من بلد الحرب فيتبعه مشتريه بما بقي له بعد أن يحاسبه بقيمة خدمته وما استغل. قال: لأن الحر في هذا يتبع. محمد بن المواز: وهو صواب، ولا يأخذ أكثر مم أعطى فيدخله الربا. وقريب مما قاله ابن الماجشون ما ذكره ابن سحنون إلا أنه قال: لا يحاسبه بشيء مما استخدمه ويتبعه بجميع الثمن. وقال: ولم يأخذ به سحنون. وفي المدبر الواقع في المقاسم قول بأنه لا يتبع بشيء، فانظر هل يجري هنا؟ فَإِنْ قَدِمَ بَأَمْوَالٍ مُسْتَامَنُونَ فَفِي كَرَاهَةِ شِرَائِهَا لِغَيْرِ مَالِكِهَا واسْتِحْبَابِهِ قَوْلانِ يعني: إذا قدم الحربيون بأمان ومعهم أموال المسلمين، فكره في المدونة لغير أربابها شراءها واستحبه في الموازية، وهو إنما يتوجه على أن ربها يأخذها بالثمن فيكون شراؤها سبباً لخلاصها ولاسيما إذا انضم إلى ذلك رخص في السلع. واختلف في تعليل الكراهة، فقيل: لأن في ذلك تقوية بثمنها، وقدح فيه بأنه يقتضي الكراهة في شراء سلعهم، وقيل: لما في ذلك من إغراء الحربيين على أموال المسلمين، وعلى هذا فالكراهة أيضاً في حق أربابها، وقيل: لأن شراءها يفوتها على ربها، فإن ابن القاسم نص في المدونة على أنه إذا اشترى من المستأمن أحد أنه لا يكون لربه أخذه ولو بالثمن، بخلاف ما يشتري من الحربي ببلد الحرب. قال في المدونة: لأن الحربي لو وهب عبيداً لمسلم في بلد الحرب، فقدم بهم كان لربهم أخذهم بغير ثمن. والذي قدم إلينا بأمان لو وهبهم لأحد لم يأخذهم سيدهم. وإلى هذا الفرع أشار المصنف بقوله:

وإِنْ اشْتُرِيَتْ أَوْ وُهِبَتْ فَالْمَشْهُورُ: كَالْمِلْكِ الْمُحَقَّقِ لا كَالأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَمَانَ يُحَقِّقُ الْمِلْكَ أَوْ لا .. قد علمت أن المشهور هو ما في المدونة، ومقابل المشهور أنه كالأول؛ أي: كالمشترى من بلد الحرب فيأخذه ربه في الشراء بالثمن. وفي الهبة بغير شيء، وهو الذي يأتي على مذهب الموازية في الفرع السابق، وهو مذهب القاضي إسماعيل؛ لأنه قال: لم يحك ابن القاسم هذه المسألة عن مالك، والذي يشبه على مذهب مالك أن لصاحبه أن يأخذه في الشراء بالثمن، وفي الهبة بلا ثمن واستحسنه اللخمي. والفرق لابن القاسم هو ما أشار إليه المصنف من أن الأمان يحقق الملك. وأَمَّا لَوْ أَسْلَمُوا تَحَقَّقَ الْمِلْكُ اتِّفَاقاً يعني: وأما لو أسلم المستأمنون تحقق ملكهم لما بأيدهم من أموال المسلمين بالاتفاق تأليفاً لهم على الإسلام. والْمَنْصُوصُ فِي أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ نَزْعُهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهِمْ خِلافاً لابْنِ شَعْبَانَ لأن الحر لا يسترق، فإذا أسلم المستأمن وبيده أسارى من أحرار المسلمين انتزعوا، وخالف في ذلك ابن شعبان وأحمد بن خالد؛ وهو قول مشكل، ولا وجه له. وعلى الأول فظاهر كلام المصنف، وهو ظاهر الروايات أنه يأخذه بغير عوض، وقال أبو إبراهيم من الأندلسيين أنه بعوض. بِخِلافِ الرَّقِيقِ، وبِخِلافِ الذِّمِّيِّ أما الرقيق فلأنهم أموال من أموال المسلمين كالسلع، وما ذكره المصنف في الذمي هو مذهب ابن القاسم، وقال أشهب: هو بذمته كالمسلم فلا يسترق. ابن راشد: والأول أصح؛ لأن بالذمة حقاً له علينا، ولم تعقد له الذمة على من كان بأرض الحرب.

وأُمُّ الْوَلَدِ تُفْدَى، والْمُدَبَّرَ ونَحْوُهُ كَالْمِلْكِ الْمُحَقََّقِ، ثُمَّ يُعْتَقُونَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ بَعْدَ الأَجَلِ لأَنَّهُمْ لا يُتَّبَعُونَ بِشَيْءٍ ولا قَوْل لِلْوَرَثَةِ .... ييعني: أن سيد أم الولد يفديها من المستأمن بقيمتها لقوة شبهها بالحرة، ونحو المدبر المعتق إلى أجل، يبين لك ذلك قوله بعد هذا: (ثُمَّ يُعْتَقُونَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ بَعْدَ الأَجَلِ) يعني: وأما إن كان بيد المستأمن الذي قد أسلم مدبر أو معتق إلى أجل فإنه يكون فيهم كالمالك المحقق، وليس لسيدهما خيار، فإذا مات سيد المدبر، والثلث يحمله كان حراً، ولو كان على السيد دين يستغرقه كان رقيقاً للمستأمن، وإن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه ورق ثلثاه، وكذلك إذا انقضى الأجل عتق. والضمير في (يُعْتَقُونَ) عائد على المدبر ونحوه؛ لأن المراد بكل واحد الجنس. وقوله: (مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ بَعْدَ الأَجَلِ) الأول راجع إلى الأول، والثاني إلى الثاني؛ أي يعتق المدبر من الثلث، [275/ أ] والمعتق إلى أجل بعد الأجل، ولا يتعبون بعد العتق بشيء؛ لأنه ملك الخدمة فقط. وفي كلام المصنف حذف مبتدأ تقديره: وهو في المدبر ونحوه كالملك المحقق. فَلَوْ قَدِمُوا بِمُسْلِمِينَ أَحْرَارَاً أَوْ أَرِقَّاءَ فَثَالِثُهَا: يُجْبَرُونَ عَلَى بَيْعِ الإِنَاثِ القول بإجبارهم على البيع مذهب أصحاب مالك إلا ابن القاسم. ابن الماجشون: ويعطون في كل مسلم أوفر قيمة. ومقابله لابن القاسم في الموازية قال: لا يمنعون من الرجوع بهم، ولا من وطء الإماء. والثالث: حكاه سحنون عن ابن القاسم، وأجروا هذا الخلاف إذا أسلم عبيدهم، أو عوهدوا على أن من جاء مسلماً رد إليهم.

ابن يونس: وأنكر رجل من أهل المدينة يقال له داود القول بعدم الجبر، فبلغ ذلك مالكاً، فاحتج بما رواه البخاري ومسلم "أنه صلى الله عليه وسلم قاضي أهل مكة عام الحديبة على أن من أتى من أهل مكة مسلماً رده إليهم، فهرب أبو جندل بن سهيل وهو مسلم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبه أبوه في مكة فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنا لا نخفر بالعهد". مالك: فكذلك حجة الحربي أن يقول عهدي لا ينتقض. واستصوب جماعة القول الأول؛ لأنا وإن أعطيناهم الأمان فما أعطيناهم ذلك إلا مع إقامة شرعنا، ومن إقامته تخليص المسلمين، ولا كبير مضرة عليهم إذا أخذوا قيمتهم، ويجاب عن الحديث بأن ذلك كان في أول الإسلام، وقبل أن يكثر المسلمون. اللخمي: ولا يجوز ذلك اليوم بعد ظهور الإسلام؛ لأن فيه وهناً للمسلمين وإذلالاً لهم. ولَوْ سُرِقُوا فِي مُعَاهَدَتِهِمْ ثُمَّ عَادُوا بِهِ، فَثَالِثُهَا: إِنْ عَادَ بِذَلِكَ غَيْرُهُمْ لَمْ يُنْتَزَعْ تصوره ظاهر. قال في البيان: والأصح أنه ينزع. ونص في المدونة على أنه يقطع إن سرق، ويقتل إن قتل. وإلى ذلك ذهب ابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب وابن المواز أنه يؤخذ المستأمن بما أحدث، فإن استكره المسلمة قتل، وإن سرق قطع، وإن قذف حراً حد، وإن زنى بمسلمة طوعاً عوقب. ابن حبيب: عقوبة يشرف بها على الموت. وعن أشهب: أنه لا يحد ولا يقطع. قيل: ويقام عليه حد الحرابة اتفاقاً ويعاقب. مالك وغيره: وإن أخصى عبده لا يعتق عليه، وكأنه أخصاه ببلده. ابن المواز: وإن لم يقم على الحربي حتى هرب إلى بلد الحرب، ثم عاد بأمان ثان فيؤخذ بما تقدم ولا يزيله أمانه الثاني.

السبي

السَّبْيُ يَهْدِمُ النِّكَاحَ إِلا إِذَا سُبِيَتْ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وهُوَ حَرْبِيٌّ أَوْ مُسْتَامَنٌ فَأَسْلَمَتْ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لأَنَّهَا أَمَةٌ كِتَابِيَّةٌ، وهِيَ ووَلَدُهَا ومَالُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِيْءٌ، وقِيلَ: وَلَدُهُ الصِّغَارُ تَبَعٌ وكَذَلِكَ مَالُهُ إِلا أَنْ يُقْسَمَ فَيَسْتَحِقَّهُ بِالثَّمَنِ ...... أما ما يتعلق بهدم النكاح فسيأتي في النكاح إن شاء الله تعالى فإن المصنف كرر هذا الفصل بعينه هناك، وأما هي فلا خلاف أنها فيء، قاله ابن بشير، وأما ولده وماله فالمشهور أنهما فيء، وهو مذهب المدونة. سحنون: وقال بعض الرواة: إن كان ولده صغاراً فهم تبع لأبيهم، وكذلك ماله إن أدركه قبل القسم أخذه، وإن قسم فهو أحق به بالثمن، وهذا هو القول الثاني الذي ذكره المصنف، وذكر ابن حارث قولاً ثالثاً في المال إن ضموه إلى أموالهم لأجل إسلامه كان فيئاً، وإن تركوه فهو له، وإن قسم أخذه بالثمن. وحكى ابن بشير في الأولاد قولاً بأنهم تبع صغاراً كانوا أو كباراً، واختلف شراح المدونة في فهمها لقوله فيها: وإذا أسلم ثم غزا المسلمون بلاده، فغنم المسلمون ماله وولده قال: هم فيء. قال التونسي: معناها أنه خرج، وأما إن لم يخرج فينبغي أن يتبعه ولده وماله؛ لأن غيره لم يحزه، وقد بقيت يده على ماله وولده. وقال اللخمي: ظاهر قوله أنهم فيء وإن لم يخرج إلينا وعلى الأول اختصره البرادعي. وأشار بعضهم إلى أن الخلاف في أولاده مقصور على ما تزايد منه قبل إسلامه، وأما ما حدث من وطء بعد إسلامه فلا يسترق اتفاقاً. وإِذَا سُبِيَتِ الْمُسْلِمَةُ فَوَلَدَتْ أَوْلاداً ثُمَّ غُنِمَتْ بِهِمْ فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: الصِّغَارُ أَحْرَارٌ والْكِبَارُ فَيْءٌ ... يعني: إذا أسر العدو حرة مسلمة، ثم غنمت بعد أن حصل لها في دار الحرب أولاد، فلا إشكال في حريتها؛ واختلف في أولادها، فلمالك في الواضحة أنهم تبع وإن كانوا

كباراً ويجبرون على الإسلام فمن أبي أجبر، فإن تمادى قتل كالمرتد؛ لأن الولد يتبع أمه في الحرية. وقال أشهب: الجميع فيء لأنهم نشئوا عن وطء فاسد، وحكى سحنون عنه مثل القول الأول. والثالث: التفرقة وهو مذهب المدونة والمشهور؛ لكن شرط في المدونة في ولدها الكبار، وفي ولد الذمية الكبار إن قاتلوا فحملها ابن أبي زيد على ظاهرها، وأن الكبار إذا لم يقاتلوا كالصغار. ورأى ابن شبلون أن هذا الشرط لا مفهوم له، وأن المقصود أن يكونوا على حال يمكن منهم القتال. وأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَفِي صِغَارِ أَوْلادِهَا قَوْلانِ، بِخِلافِ كِبَارِهِمْ ظاهره نفي الخلاف عن الكبار، وبذلك صرح ابن بشير. ابن عبد السلام: وحكى بعضهم في الكبار قولاً بالتبعية، والمشهور في الصغار [275/ ب] أنهم تبع. وأَمَّا الأَمَةُ فَالْمَشْهُورُ: أَوْلادُهَا لِمَالِكِهَا. وثَالِثُهَا: مَا وَلَدَتْهُ مِنْ زَوْجٍ لِمَالِكِهَا، وما وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِهِ فَيْءُ .. وجه المشهور أن الولد تابع لأمه في الرق والحرية، والقول بأنهم فيء مطلقاً لابن الماجشون تغليباً للدار، والتفرقة لسحنون؛ لأنه إنما تتحقق تبعية الولد للأم إذا كان من تزويج، وأما إذا كان من غير تزويج فكأن الأب وطيء بحكم الملك، ومن وطيء بحكم الملك كان ولده تبعاً له دون أمه. وَعَبْدُ الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ ويَفِرُّ إِلَيْنَا حُرٌّ لأنه غنم نفسه، ولا خلاف فيه. قال في المدونة: وإن قدم معه بمال فهو له ولا يخمس. وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ حَتَّى غُنِمَ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: بعد إسلامه ببلده حتى دخل المسلمون بلادهم فغنموه، فكذلك يكون حراً على المشهور كما لو خرج إلينا. وقال ابن حبيب: وهو رقيق للجيش. ابن يونس: وهو أقيس.

ولا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الإِسْلامِ حُرّاً خِلافاً لأَشْهَبَ وسَحْنُونٍ خليل: تظهر فائدة هذا الخلاف لو أسلم العبد فأعتقه سيده، هل يكون ولاؤه له إن أسلم أو لا؟ وكذلك تظهر ثمرة الخلاف لو باعه بإثر إسلامه لمسلم، والمشهور مذهب المدونة، ففيها: ومن أسلم من عبيد الحربيين لم يزل ملك سيده عنه إلا أن يخرج العبد إلينا، أو ندخل نحن إلى بلادهم فنغنمه وسيده مشرك فيكون حراً، ولا يرد إلى سيده إن أسلم سيده بعد ذلك. وقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم عبيد أهل الطائف لخروجهم مسلمين، وابتاع أبو بكر بلالاً فأعتقه، والدار دار شرك، فلو انتقل ملك ربه عنه كان ذلك فداء، ولم يكن ولاؤه لأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وقال أشهب: إسلام العبد بدار الحرب يزيل ملك سيده، خرج إلينا أو أقام ولم يخرج، وإن اشتري كان كالحر المسلم يفدي. انتهى. قوله: (وقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم عبيد أهل الطائف) فهموه على أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بحريتهم لا أنه أنشأ فيهم العتق. وَلَوْ خَرَجَ مُسْلِماً وتَرَكَ سَيِّدَهُ مُسْلِماً فَهُوَ رِقٌّ لَهُ هكذا قال في المدونة، وهو ظاهر إن أسلم هو وسيده معاً، أو سبق إسلام سيده، وأما إن أسلم قبل سيده فالجاري على أصل أشهب وسحنون أنه لا يكون رقاً له. وَإِنْ خَرَجَ الذِّمِّيُّ نَاقِضاً لِلْعَهْدِ فَحَرْبِيٌّ يعني: خرج طالباً للسكنى ببلد الحرب- أي: تاركاً للعهد- فحربي، ويقتل، ولا خلاف في ذلك. وَإِنْ أُسِرَ فَفِي اسْتِرْقَاقِهِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الذِّمَّةَ تَقْتَضِي الْحُرِّيَّةَ بِدَوَامِ الْعَهْدِ أَوْ أَبَداً .... أي: فإن أسر هذا الذمي الناقض للعهد، فقال مالك وابن القاسم: يسترق. وهو المشهور.

قال في البيان: واتفق على ذلك أصحاب مالك إلا أشهب فإنه قال: لا يسترق. ومنشأ الخلاف ما ذكره المصنف، وتصوره بين. اللخمي: وقول أشهب ليس بحسن، وقد حاربت قريظة بعد أن عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل الرجال وسبى الذرية والنساء. قال في البيان: ولا حجة في ذلك عندي؛ لأن الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريظة وغيرهم من اليهود إنما كان مهادنة ومعاهدة، ولم يكونوا أهل ذمة، ورجح قول ابن القاسم بأن الذمي إذا أكره مسلمة على الزنى يقتل ولو كانت الذمة تقتضي التأبيد لم يقتل. واختلف على المشهور في الزمني والشيوخ، ففي العتبية: لا يستباحون. وقال ابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب: يستباحون. قال في البيان: والخلاف إنما هو إذا جهل رضاهم بذلك. فَإِنْ نَقَضُوا لِظُلْمٍ لَحِقَهُمْ لَمْ يُسْتَرَقُّوا عَلَى الْمَشْهُورِ المشهور مذهب المدونة والشاذ للدوادي، ووجهه بأنهم ناقضون؛ لأنا لم نعاهدهم على أنهم يظلمون المسلمين إذا ظلموهم، وفيه ضعف؛ لأن من فر بسبب ظلم لا يكون ظالماً حقيقة ولا مجازاً، وعلى هذا فإطلاق المصنف النقض على خروجهم إنما هو مجاز، والعلاقة المشابهة. وَلا يُسْتَرَقُّونَ بِالْحِرَابَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ قال في المدونة: وإن خرج قوم من أهل الذمة محاربين متلصصين، فأخافوا السبيل وقتلوا، حكم فيهم بحكم الإسلام إذا حاربوا. والقول بالاسترقاق لابن مسلمة، ووجه التونسي بإكراه المسلمة على الزنى فإنه نقض، والحرابة وقتل النفس أشد.

وَلَوْ أَسْلَمَ جَمَاعَةٌ ثُمَّ ارْتَدُّوا وحَارَبُوا كَأَهْلِ الرِّدَّةِ مِنَ الْعَرَبِ فَفِي كَوْنِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ أَوِ كَالْمُحَارِبِينَ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَصْبَغَ. وخَالَفَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَرَدَّ النِّسَاءَ والصِّغَارَ مِنَ الرِّقِّ إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وعَلَيْهِ الأَكْثَرُونَ ..... يعني: إذا أسلم جماعة أو أهل حصن ثم ارتدوا وحاربوا، وظفرنا بهم، فقال ابن القاسم في الواضحة: حكمهم كالمرتدين في المال والدم، يستتاب كبارهم، ويجبر صغارهم على الإسلام إذا بلوغ من غير استتابة. وقال أصبغ: "ليسوا كالمرتدين وهم كالحربيين؛ لأنهم جماعة فهم كأهل النكث؛ لأن المرتد إنما كالواحد وشبهه. ابن يونس: وقول أصبغ ليس بحسن؛ لأن أهل النكث إنما هم أهل الذمة، ونحن نسترقهم إذا ظفرنا بهم، ولعمري إنه لأمر خالف فيه عمر أبا بكر رضي الله تعالى عنهما في أهل الردة من العرب فجعلهم أبو بكر كالناقضين، فقتل الكبار وسبي ذراريهم، وجعلهم [276] عمر كالمرتدين فرد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم، وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة السلف إلا القليل منهم. انتهى مختصراً. وهذا الكلام ككلام المصنف سواء. والظاهر أن عمر لم يخالف في حياة أبي بكر ولا بعد مماته، أما الحياة فلأنه كان وزيره ومستشاره، وأما الممات فلأنه إنما فعل ذلك تطييباً لنفوس المسلمين؛ لأن الواحد منهم يرى ابنته وزوجته مملوكة لغيره مع مساواته له في النسب أو الشرف، وفي ذلك من المشقة وتغيير النفوس ما هو معلوم. وقيل: إنما فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه بعوض، ولا بد من التأويل بهذا أو ما يشبهه، وإلا كان نقضاً لحكم أبي بكر رضي الله عنه وهو باطل بلا إشكال. * * *

كتاب النكاح

[277/ أ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً النكاح: حقيقته التداخل: يقال تناكحت الأشجار إذا دخل بعضها في بعض، ونكح البذر الأرض، ويطلق في الشرع على العقد والوطء، وأكثر استعماله في العقد، قال الله تعالى: (لا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ([النساء: 22]. (لا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ([البقرة: 221]. (وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ([البقرة: 221]. (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ([النساء:3] (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ ([النساء: 25] وقد ورد أيضاً بمعنى الوطء في قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة: 230]. وقوله تعالى: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ([النور: 3] الآية. على خلاف في تأويلها بين العلماء، قيل: وورد بمعنى الصداق في قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً ([النور: 33]. عياض: والصحيح أن المراد هنا العقد؛ أي: لا يقدرون على الزواج لعسرهم. وأما في اللغة فقال ابن راشد: لا خلاف أنه حقيقة في الوطء. واختلف في إطلاقه على العقد، فقيل: بطرق الحقيقة، وقيل بطريق المجاز، وهو أصح لأن المجاز خير من الاشتراك. واختلف في هذا المجاز فقال التلمساني في شرح المعالم الفقهية: هو مساو للحقيقة. وقيل: مجاز راجح، وهو الصحيح. وحكى ابن عبد السلام خلافاً بين أهل الشرع واللغة، هل هو حقيقة في كل واحد منهما؟ أو في أحدهما؟ وما هو على الحقيقة؟ قال: والأقرب أنه حقيقة لغة في الوطء مجاز في العقد وفي الشرع على العكس. خليل: ويمكن أن يحمل قول من قال أنه حقيقة في العقد على أنه مجاز راجح كما هو المختار في الحقيقة الشرعية كما تقرر في محله فيتفق ونقل ابن راشد والله أعلم.

وحكم النكاح الندب من حيث الجملة، وقد يجب على من لا ينكف عن الزنا إلا به، ويكره في حق من لا يشتهيه وينقطع به عن عبادته، وفي المقنع لابن بطال: يكره لمن لا يجد طولاً ولا حرفة له ولا صناعة. ابن بشير: ويحرم على من لا يخشى العنت، وكان يضر بالمرأة في عدم قدرته على الوطء، أو على النفقة، أو يتكسب بموضع لا يحل. اللخمي: ويباح لمن لا ينسل ولا أرب له في النساء، وأشار إلى أن المرأة مساوية للرجل في هذه الأقسام. وفي النكاح فوائد أربع: الأولى: دفع غوائل الشهوة عنه. والثانية: التنبيه باللذة الفانية على اللذة الدائمة؛ لأنه إذا ذاق هذه اللذة وعلم أنه إذا عمل الخير نال ما هو أعظم سارع في فعل الخيرات لما هو من جنس تلك اللذة، ولما هو أعظم وأتى وأبقى وهو اللذة بالنظر إلى وجه الله تعالى. والثالثة: المسارعة في تنفيذ إرادة الله تعالى ورسوله، أما إرادة الله عز وجل فإنه أراد بقاء الخلق إلى يوم القيامة ولا يحصل ذلك إلا بالنكاح، وأما إرادة رسوله صلى الله عليه وسلم فلقوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة". والرابعة: بقاء الذكر ورفع الدرجات بسبب دعاء الولد الصالح. والله أعلم. أَرْكَانُهُ الصِّيغَةُ، وَالْوَلِيُّ، وَالزَّوْجُ، وَالزَّوْجَةُ، وَالصَّدَاقُ، الصِّيغَةُ لَفْظُ يَدُلُّ عَلَى التَّابِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ وَمَلَّكْتُ وَبِعْتُ وَكَذَلِكَ وَهَبْتُ بِتَسْمِيَةِ الصَدَاقِ .... يعني أن أركان النكاح خمسة، ثم أخذ يتكلم على الأول منها. وما ذكره المصنف في الصيغة نحوه لابن شاس، ومقتضاه أنه لا ينعقد بالإشارة والكتابة ونحو ذلك، وهو مقتضى كلامه في الإشراف. وكذلك قال في الاستذكار: النكاح يفتقر إلى التصريح ليقع الإشهاد عليه ولا خلاف في انعقاده بأنكحت وزوجت. قال المغيرة: ولا ينعقد بغيرهما. واختلفت طرق الشيوخ في نقل المذاهب فيما عداهما، فذهب ابن القصار وعبد الوهاب

في الإشراف، والباجي، وابن العربي في أحكامه إلى أنه ينعقد بكل لفظ يقتضي التأبيد دون التوقيت، فينعقد بملكت وبعت كما ذكر المصنف. وأشار الباجي في توجيهه لذلك إلى أنه قول مالك. واستدل جماعة لذلك بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "ملكتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية: "أنكحناكها". وذهب صاحب المقدمات إلى أنه لا ينعقد بما عدا أنكحت وزوجت إلا لفظ الهبة، فاختلف فيه قول مالك، فروي عنه أنه لا ينعقد بها، وروي عنه أنه ينعقد ويلزم فيه صداق المثل كنكاح التفويض، وقد روى ابن حبيب نحوه عن مالك. انتهى بمعناه. ومقتضى ما نقله من رواية ابن حبيب أنه يصح، وإن لم يسم صداقاً ونقل في الإكمال عن مالك أنه لا ينعقد بلفظ الهبة. ابن المواز: وسواء سمي الصداق أم لا. ومذهب المدونة أنه لا ينعقد بلفظ الهبة إلا بتسمية الصداق كما ذكر المصنف. ويلحق بها في اشتراط التسمية الصدقة من باب أولى؛ لأن هبة الثواب أحد قسمي الهبة، والصدقة لا عوض لها أصلاً. ابن القصار: وسواء عندي ذكر المهر في لفظ الهبة والبيع أو لم يذكر إذا علم أنهم قصدوا النكاح. فانظر هل ما قاله مخالف لما قاله المصنف في لفظ الهبة أم لا؟ لأن قوله: إذا علم أنهم قصدوا [277/ ب] به النكاح يقتضي ثبوت الصداق فكان ذلك بمنزلة ذكره، وكذلك قال ابن راشد: لا ينبغيأن يعد قول ابن القصار خلافاً. ابن القصار: قال بعض أصحابنا: ويجوز بلفظ التحليل. وقال الطرطوشي في لفظ الإباحة: قال بعض أصحابنا: إن قصد به النكاح صح. وقوله: (عَلَى التَّابِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ) احترز بذلك من العارية والرهن والوصية، فإنه لا ينعقد بذلك، نص عليه ابن القصار وعبد الوهاب لاقتضاء الأولين التمليك والتوقيت والثالث التوثق دون التمليك وعدم لزوم الرابع.

تنبيهان: الأول: قد يقال: إن حد المصنف للصيغة غير مانع لشموله مثل (وقفت وحبست على فلان أو أعمرته) لدلالة ذلك على التأبيد مدة الحياة. الثاني: ما ذكره المصنف من أن الصيغة لفظ يدل على التأبيد مدة الحياة صحيح كما بيناه، واعترضه ابن عبد السلام بما حاصله أنه لا يشترط دلالة الصيغة على التأبيد بل ألا تدل على التوقيت، وذكر أن ذلك هو الذي يؤخذ من كلام أهل المذهب. وذلك أعم من كونها دلالة على التأبيد، وفيه نظر لأن عبد الوهاب صرح في الإشراف بما ذكرالمصنف وكذلك غيره، والله أعلم. وَمِنَ الزَّوْجِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ قوله: (مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ) أي: دون صيغة معينة. ابن عبد السلام: وكذلك الإشارة. خليل: ولا أعلم نصاً في الإشارة، والظاهر أنها لا تكفي من جهة الزوج، أما أولاً: فلأن النكاح لابد فيه من الشهادة، ولا يمكن إلا مع التصريح من الولي والزوج ليقع الإشهاد عليهما. وأما ثانياً: فلأن قول المصنف (وَمِنَ الزَّوْجِ) معطوف على مقدر تقديره: الصيغة من جانب الولي كذا، ومن جهة الزوج كذا. فكان قوله: (وَمِنَ الزَّوْجِ) خبر عن (الصِّيغَةُ) فلا يصدق على الإشارة. وعلى هذا فالظاهر أن مراده بقوله: (مَا يَدُلُّ) كل لفظ، ولا يشترط فيه تعيين كما في صيغة الإيجاب، فإن قيل: المصنف قد يجعل الإشارة من الصيغة كقوله في باب الوصايا: الصيغة كل لفظ أو إشارة يفهم منها قصد الوصية، قيل: هذا مجاز، والأصل عدمه. ابن شاس: ويكفي أن يقول الزوج قبلت، إذا تقدم من الولي الإيجاب، ولا يشترط أن يقول قبل نكاحها.

فَلَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي؛ فَقَالَ: فَعَلْتُ لَزِمَ، وَلَوْ قَالَ: لا أرْضَى؛ لَمْ يَنْفَعْهُ بِخِلافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ ..... يعني: أنه ينعقد بالاستيجاب كما ينعقد بالإيجاب، وهكذا قال صاحب الجواهر؛ لأن قوله: (زَوِّجْنِي) طلب للتزويج، وهو يقتضي رضاه بالتزويج، وقول الولي: (فَعَلْتُ) يقوم مقام الإيجاب، وهو قوله: زوجتك. ويؤخذ من كلام ابن عبد السلام أنه فهم من قوله (لا أرْضَى) أن الزوج إن شاء ما يقتضي الرضا بعد قول الولي (فَعَلْتُ) وليس بظاهر؛ لأنا قد بينا أن قول الزوج: (زَوِّجْنِي) يقوم مقام الرضا، وستأتي مسألة البيع التي أشار إليها المصنف في بابها إن شاء الله تعالى. والفرق بين النكاح والبيع من وجهين: أحدهما: أن هزل النكاح جد على المشهور. والثاني: أن العادة جارية بمساومة السلع وإيقافها للبيع في الأسواق، فناسب ألا يلزمه ذلك في البيع إذا حلف لاحتمال أن يكون قصد معرفة الأثمان، ولا كذلك النكاح، والله أعلم. وَالْخطْبَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَمَا قَلََّ أَفْضَلُ ابن راشد: الخطبة بضم الخاء واحدة الخطب، وأما بكسرها فهي عبارة عن استدعاء النكاح وما يجري من المحاورة وهي مشروعة في العقد. وما قل منها أفضل. قال بعض الأكابر: أقلها أن يقول الولي: الحمد لله والصلاة على رسوله والسلام، زوجتك على كذا. ويقول الزوج: الحمد لله والصلاة على رسوله والسلام، قبلت نكاحها. وفي الذخيرة: قال صاحب المنتقى: تستحب الخطبة بالضم عند الخطبة بالكسر وصفتها أن يحمد الله تعالى ويثنى عليه ويصلي على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ([آل عمران: 102] (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ([النساء: 1]، (اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ([الأحزاب: 70].

ثم يقول: أما بعد، فإن فلانا قد رغب فيكم وانطوى إليكم، وفرض لكم من الصداق كذا، وفي الجواهر: تستحب عند العقد. انتهى. أو إنما استحب ذلك لما رواه الترمذي وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام: "كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بحمد الله فهو أجذم". أي: ناقص. وتقليلها أفضل لأن كثرتها من التشدق المنهي عنه لاسيما إن صحب ذلك فخر ومدح للمتزوجين وآبائهما بما ليس فيهم. الْوَلِيُّ الْمَالِكُ، ثُمَّ الابْنُ وإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ الأَبُ، ورُوِيَ: الأَبُ، ثُمَّ الابْنُ، ثُمَّ الأَخُ، ثَمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْجَدُّ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: الْجَدُّ أَوْلَى مِنَ الأَخِ وابْنِهِ. ثُمَّ الْعَمُّ، ثُمَّ ابْنُهُ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الإِرْثِ ..... هذا هو الركن الثاني، وخالفنا في ذلك أبو حنيفة، فلم ير الولي ركناً، ودليلنا ما رواه الدارقطني وصححه من حيث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها". وقدم المصنف (الْمَالِكُ) لأنه أقوى الأولياء، إذ هو يجبر الكبيرة والصغيرة والذكر. (ثُمَّ الابْنُ) لأنه أقوى العصبة، ورأى في الرواية الأخرى أن في الأب زيادة [278/ أ] وشفقة. وابن الابن كالابن في عدمه، فالخلاف في الأخ مبني على هذا الخلاف. فعلى المشهور يقدم الأخ وابنه على الجد لإدلائهما بالبنوة، وعلى الرواية الأخرى يقدم الجد على الأخ. وروي عن مالك أن للأخ أن يزوج المرأة الثيب مع وجود الأب. اللخمي: وهو قول مرغوب عنه. والمعروف من قول مالك أنه إذا عقد الأخ مضى لا أن له ذلك ابتداء. قوله: (عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الإِرْثِ) الضمير عائد على الجد والعم وابنه لا على كل من تقدم؛ فإن الجد في باب الميراث أولى من ابن الأخ؛ قاله ابن عبد السلام.

وَفِي تَقْدِيمِ الشَّقِيقِ مِنَ الأَخِ والْعَمِّ وابْنِهِ عَلَى الآخَرِ رِوَايَتَانِ لابْنِ الْقَاسِمِ والْمُدَوَنَّةِ الروايتان إنما هما منصوصان في الأخ. ففي اللخمي: اختلف في الأخوين أحدهما شقيق والآخر لأب، ففي الكتاب من رواية علي: هما سواء. قال مالك وابن القاسم وغيرهما في الواضحة: الشقيق أولى. ويجري الجواب في أبنائهما وفي العمين أحدهما شقيق والآخر لأب وفي أبنائهما على نحو ذلك، وتقديم الشقيق أحسن. انتهى. وكذلك اختار ابن القاسم وسحنون وغيرهما من أصحاب مالك المصريين والمدنيين هذه الرواية قياساً على الإرث والولاء والصلاة عليها، بل جزم سحنون بعدم صحة مقابلها. والأحسن لو قال: وابنيهما، لكن حذف في الأول ما أثبته في الثاني كأحد الوجهين في قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ([التوبة: 62]. فإن قيل: ليس ما نسبه إلى المدونة صريحاً فيها لاحتمال أن يكون مراده فيها بعد الوقوع، ونصها: قال علي عن مالك في الأخ يزوج أخته لأبيه، وثم أخوها لأبيها وأمها: إن النكاح جائز إلا أن يكون الأب أوصى بها إلى الشقيق، ولا تنكح حينئذ إلا برضاه فقوله في الأخ يزوج أخته يحتمل بعد الوقوع والنزول، ويرجحه قوله بعد ذلك أن النكاح جائز، وأيضاً فإن ما قبل هذا الكلام وبعده في المدونة إنما هو في الأبعد يزوج مع وجود الأقرب، فجوابه أن غاية ما ذكرته أن اللفظ محتمل، لكن قوله: إلا أن يكون الأب أوصى بها إلى الشقيق فلا تنكح حينئذ إلا برضاه. ظاهر أو صريح في أن كلامه في امرأة لم تنكح، ويكفي في رد هذا أن فهم سحنون واللخمي وغيرهما من الأشياخ خلافه. ثُمَّ الْمَوْلَى الأَعْلَى لا الأَسْفَلُ عَلَى الأَصَحِّ أي: بعد عصبة النسب تنتقل الولاية إلى المولى الأعلى وهو من له العتاقة.

ابن عبد السلام: وادعاء المصنف أن المولى الأسفل لا ولاية له ليس بصحيح؛ لأن جميع شراح المدونة فسروا جميع ما وقع لمالك في النكاح الأول منها بأن المولى الأسفل أحد الأولياء، ولم يذهب أحد منهم إلى نفي الولاية عنه. خليل: وقد يقال ليس في المدونة نص على ولايته، وقد قال ابن الجلاب: ولا ولاية للأسفل على الأعلى. والقاعدة عند الشيوخ أن كل ما أطلق في الجلاب ولم يعزه لنفسه ولا لغيره فهو لمالك، وكلام مالك أولى من كلام غيره. وفي الكافي: ولا ولية للأسفل على الأعلى. وقد قيل: إن للمولى الأسفل مدخلاً في الولاية، وليس بشيء. ونقله ابن شاس، ونقل ذلك ابن زرقون عن الموازية أنه لا ولاية للأسفل على الأعلى وأيضاً فعدم ولاية الأسفل على الأعلى هو القياس؛ لأن الولاية هنا إنما تستحق بالتعصيب. ثُمَّ عَصَبَتُهُ ثُمَّ مُعْتِقُهُ ثُمَّ عَصَبَةُ مُعْتَقِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ أي: فإن فقد المولى الأعلى انتقلت الولاية إلى عصبته ثم إلى معتق المعتق، ثم إلى عصبته على ما تقدم في ترتيب العصبات وهو ظاهر. وليس للأخ للأم ولا الجد للأم ولا لذوي الأرحام ولاية عندنا إلا من باب ولاية الإسلام. ابن وهب: وقاله مالك، وقال علي بن زياد عن مالك: إذا زوج الأخ للأم مضى النكاح، وحكى ابن عبد الغفور في وثائقه. فَالْمَالِكُ يُجْبِرُ الأَمَةَ والْعَبْدَ، ولا يُجْبَرُ هُوَ لَهُمَا لما ذكر الأولياء ومراتبهم تكلم على من له الجبر، ولا خلاف عندنا أن السيد يجبر الأمة والعبد بشرط عدم الضرر، ففي العتبية والموازية لمالك: ليس له أن يزوج الجارية الرفيعة من عبد له وغد، وقد قال مالك: وليس ينظر إلى الوغد في المنظر، فرب وغد في المنظر تكون له الخبرة والحال.

قوله: (لا يُجْبَرُ هُوَ لَهُمَا) أي إذا طلبا الزواج وأبى هو ذلك فلا يجبر لأنه يتضرر بالتزويج، قال مالك في الموازية: وإن تبين أن العبد والمكاتب محتاجان إلى النكاح وأن السيد ضار بهما فلا يقضي على السيد بنكاحهما. عبد الحميد: واختلف في هذه المسألة، فكان بعض الشيوخ يقول: الصواب عندي أن القول قول العبد لاشتداد الضرر به؛ إذ ذاك ضرر في الدين. وكان بعض المذاكرين يقول: انظر إلى ما قاله ابن خويزمنداد إذا كانت له القدرة له على التسري، وله حاجة إلى النكاح يخاف معها العنت أنه يجب عليه، وإذا كان واجباً عليه فالعبد يشاركه فيها، ولأن بعض أصحابنا أوجبه للأب على ابنه. انتهى. والظاهر أنه يؤمر بالتزويج أو البيع لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار". وَتُوكِلُ الْمَالِكَةُ فِي أَمَتِهَا وَلِيَّهَا أَوْ غَيْرَهُ وهذا كقوله في الكافي: وإذا أرادت المرأة إنكاح أمتها استخلفت رجلاً يزوجها بإذنها وَيُوَكِّلُ الْمُكَاتِبُ فِي أَمَتِهِ [278/ ب] وإِنْ كَرِهَ سَيِّدُهُ بِشَرْطِ ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ هذا كقوله في المدونة: وللمكاتب إنكاح إمائه على ابتغاء الفضل وإن كره سيده، ولكن يلي العقد غيره بأمره ولا يجوز على غير ابتغاء الفضل إذا رده السيد، وإنما جاز ذلك للمكاتب لأنه أحرز نفسه وماله. وَالْوَصِيُّ يُزَوِّجُ رَقِيقَ الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْمَصْلَحَةِ هذا ظاهر التصور، وقال هنا: (بِالْمَصْلَحَةِ) لأن المطلوب مصلحة المحجور عليه، وقد تكون بغير المال.

وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لا يُجْبَرُ ولَكِنَّهُ كَمَالِكِ الْجَمِيعِ فِي الْوِلايَةِ والرَّدِّ لأن بعض الحر لا تصرف له فيه. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك. (ولَكِنَّهُ كَمَالِكِ الْجَمِيعِ) أي: ولكن مالك البعض كمالك الجميع في الولاية على الأمة، وفي رد نكاح العبد أو الأمة إن تزوجا بغير إذن السيد. وَمَنْ فِيهِ عَقْدُ حُرِّيَّةٍ: ثَالِثُهَا: يُجْبَرُ الذُّكُورُ. ورَابعُها: يُجْبَرُ مِنْ لَهُ انْتِزَاعُ مَالِهِ سبب الخلاف النظر إلى تغليب شائبة الحرية: فيمتنع الجبر، أو حكم الرق؛ فيصح والقولان بالجبر وعدمه لمالك. وفرق في الثالث لأن الذكر قادر على الحل عن نفسه بالطلاق، وهذا القول حكاه ابن بشير. وعلى الرابع: لا يجبر المكاتب والمكاتبة، وأم الولد والمدبر إذا مرض السيد، والمعتق إلى أجل إذا قرب الأجل. وذكر ابن بشير عن بعض أشياخه أنه أنكر على اللخمي وجود الرابع، قال: وإنما الذي أرى في هذه الرواية أنه لا يجبر المكاتب لأنه لا يقدر على انتزاع ماله. فأخذ اللخمي إطلاقاً كلياً، وهو غير صحيح لأنه قد يعلل في الرواية بعلة، فإذا وقف على صورة ليست تلك العلة فيها فقد يجيب فيها معتمداً على مراعاة أخرى، فاعتقد أن انتفاء العلة المعينة توجب انتفاء المعلول مطلقاً، وذلك غير لازم في العلل الشرعية؛ لأنها قد تجتمع على المعلول الواحد علل، فإذا انتفت واحدة منها بقي الحكم مستنداً إلى غيرها. انتهى. وفيه نظر؛ لأن حاصله الشهادة على نفي كيف، وقد نقله ابن يونس ولفظ محمد: من له انتزاع ماله فله أن يكرهها ما لم يكن يطلب بذلك ضررها، وهكذا نقله في تهذيب الطالب. وَالأَبُ يَجْبُرُ الصَّغِيرَةَ ظاهره ثيباً كانت أو بكراً، ولا خلاف في البكر، وأما الثيب الصغيرة ففيها ثلاثة أقوال: قال سحنون: يجبرها؛ لأن الثيوبة في حال الصغر كالعدم. قال أبو تمام: لا يجبرها؛

لأن علة الجبر البكارة وقد زالت. وقال ابن القاسم وأشهب: يجبرها إن كان زوجها قبل البلوغ ولا يجبرها بعده؛ لأنها صارت ثيباً بالغاً. اللخمي: وهو أحسن. واستصوبه غيره، وإنما قلنا ظاهر كلامه وإن كانت ثيباً لقوله بعد ذلك: (وفي الثيب تبلغ بعد الطلاق قولان) فمفهومه أنها إذا لم تبلغ تجبر، ولأنه لو لم يحمل كلامه هنا على العموم لزم أن يكون أسقط الكلام على الصغيرة الثيب. وَالْبِكْرَ الْبَالِغَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا. وقِيلَ: يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهَا أي: ويجبر البكر البالغ. اللخمي: واختلف في البكر البالغ غير المعنسة، ففي الكتاب: له أن يجبرها، وفي الموازية: وإن شاورها فحسن. وهو أحوط ليخرج من الخلاف، فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يجبرها، ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "والبكر يستأذنها أبوها" أخرجه مسلم. وقال ابن بشير: حكى اللخمي في استحباب استئذانها قولين، والظاهر أن المذهب على قول واحد في الاستحباب للخروج من الخلاف. خليل: وفيه نظر؛ لأن حاصله شهادة على نفي. وقد نقل الباجي عن ابن القاسم أنه أنكر أن يستأمرها الأب، لكن في كلام اللخمي نظر من وجه آخر لأنه نسب القول بعدم الاستحباب للمدونة، وهي لا يؤخذ منها ذلك لأن الذي فيها: ليست المشورة بلازمة، وذلك لا ينافي الاستحباب، والاستحباب أولى، وهو الذي اقتصر عليه ابن الجلاب للخروج من الخلاف، ولتطييب قلبها، ولأنها قد يكون بها عيب فتظهر حينئذ. ابن عبد السلام: ووقع في بعض الفتاوي المنسوبة للسيوري أن الأب لا يجبرها، واستدل القائل بعدم الجبر بما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها صماتها".

وجوابه أن المراد بالبكر اليتيمة، لما خرج أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز لها". قال في الاستذكار في تعليل الجبر: ولأنه لا يتهم عليها، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها". فدل على أن ذات الأب تنكح بغير إذنها. انتهى. فإن قيل: فقد روي في بعض الطرق: "والبكر يستأذنها أبوها" قيل: قال أبو داود لما ذكر الحديث: "أبوها" ليس بمحفوظ. وقال الباجي فيه: صوابه كما رواه مالك وتابعه عليه سفيان: "والبكر تستأذن في نفسها" وقد روي "والبكر تستأمر" وروايته أثبت ممن روى "يستأذنها أبوها"، ويجوز أن يحمل استئذان الأب إن صحت الرواية على الاستئذان المندوب وفي الموطأ أن القاسم وسالماً كانا ينكحان بناتهما الأبكار ولا يستأمرانهن. مالك: وعلى ذلك الأمر عننا. وهذا دليل على عدم استحباب [279/ أ] المشاورة. تنبيه: الجبر مقيد بما إذا لم يكن ضرر، فإن كان ضرر فلا يلزمها وله أن يزوجها من الضرير، والقبيح، ومن هو أدنى منها حالاً وأقل مالاً، وإن زوجها من مجبوب أو خصي، أو عنين، فقال ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ: ذلك يلزمها إن كان على وجه النظر علمت به أو لم تعلم. الباجي: ورأيت لسحنون أنه لا يلزمها في الخصي، والأظهر عندي في العنين والخصي والمجبوب وما كان للمرأة أن تفسخ النكاح به من العيوب فليس للأب إلزامها ذلك. وكذلك اختاره اللخمي، أما إن زوجها الأب من مجنون يخاف عليها منه، أو أبرص متسلخ أو مجذوم متقطع، قد منع من الكلام وتغيرت رائحته فلا يلزمها اتفاقاً. سحنون: وإن كانت مجنونة وأراد الأب أن يزوجها مجنوناً أو مجذوماً، وقال: أغتفر عيبها لعيبه لم يكن له ذلك لأنها قد تفيق، وللأب تزويجها بربع دينار ولو كان صداق مثلها ألفاً، ولا كلام لها ولا لغيرها، رواه ابن حبيب عن مالك، قال في المدونة: ولا يجوز للسلطان

ولا للوصي ولا لأحد من الأولياء أن يزوجها بأقل من صداق مثلها، وينبغي للولي أن يختار لوليته زوجاً سالماً، وإلى ذلك أشار اللخمي، وقد كره عمر رضي الله تعالى عنه أن يزوج وليته من الرجل القبيح. وَالْمَجْنُونَةُ والثَّيِّبُ بِعَاِرِضٍ كَالْبِكْرِ يجوز في (الْمَجْنُونَةُ) النصب بالعطف على (الصَّغِيرَةَ) أي: ويجبر المجنونة وإن كانت كبيرة، ويجوز فيها الرفع على الابتداء. وينبغي أن يلحق بالأب القاضي، وهذا إن كانت لا تفيق، وأما إن كانت تفيق أحياناً فتنتظر إفاقتها. وقوله: (بِعَاِرِضٍ) أي زالت بكارتها بغير جماع كوثبة أو عود، فلا خلاف فيما ذكره المصنف. وَفِي الثَّيِّبِ بِحَرَامٍ قَوْلانِ إنما عدل عن عبارة أكثر المؤلفين وهي الثيب بالزنا؛ ليدخل في كلامه المغتصبة فإنها مساوية للزانية في هذا الحكم، صرح بذلك صاحب المقدمات واللخمي وغيرهما. والقول بالجبر مذهب المدونة، والقول بعدمه في الجلاب. واختلف في تعليل جبرها مع زوال البكارة، فقيل: لأن ذلك لا يزيدها إلا حياءً؛ ولهذا قال عبد الوهاب: ألزمت في مجلس النظر بحضرة ولي العهد أنه إذا كانت العلة في المزني بها الحياء، فإذا تكرر منها الزنا ارتفع حياؤها، فيرتفع الجبر، فالتزمت ذلك, وقيل: لأنها لما قصدت بالزنا زوال الإجبار عوقبت بنقيض مقصودها. ورد هذا ابن محرز باتفاق المذهب على ارتفاع الجبر في حق من زوجت نفسها قاصدة لذلك. وهل قول القاضي تفسير للمدونة، وهو الأظهر، أو خلاف؟ في ذلك للشيوخ مذهبان: قال في المقدمات: واختلف إذا زنت أو غصبت، فقيل: حكمها حكم البكر في جميع أحوالها. وقيل: حكم

الثيب في جميع أحوالها. وقيل: حكمها حكم الثيب في أنه لا تزوج إلا برضاها، وحكم البكر في أن إذنها صماتها. وَالثَّيِّبُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ مِثلُهَا بِالصَّحِيحِ أي: فلا تجبر لأنها لا حياء يلحقها في ذلك كالزانية، ولأن لواحق النكاح الصحيح ثبتت في هذا من لحوق الولد، ودرء الحد، والاعتداد في بيتها فوجب أن تساويها في عدم الجبر. وَفِي الْعَانِسِ قَوْلانِ، وَهِيَ الْمُبَاشِرَةُ الْعَارِفَةُ بِالْمَصَالِحِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وسِنُّهَا أَرْبَعُونَ. وقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثَلاثُونَ .... القولان لمالك، وروى عنه محمد: يجبرها. قال في المتيطية: وبها القضاء وعليها العمل. وروى ابن وهب عنه أنه لا يجبرها. قوله: (وَهِيَ) تفسير للمعنسة، وهو واضح، ومنشأ الخلاف هل العلة في الجبر البكارة وهي موجودة؟ أو الجهل بالمصالح وهذه عالمة بها؟ قال في المقدمات: وعلى الجبر؛ فللأب أن يرضى بأقل من صداق المثل، وعلى عدمه فالرضى بقليل الصداق وكثيره إليها دونه كالمرشدة. ابن راشد: وفي معنى المعنسة البكر المرشدة. المتيطي وغيره: والمشهور أن المرشدة لا تجبر. وصوب أبو عمر بن عبد البر القول بجبرها نظراً للبكارة، وعلى المشهور فهل يكون إذنها صماتها أو نطقاً؟ فالمشهور من القول، وهو قول ابن الهندي، وابن العطار، والباجي: لا بد من اللفظ. وقال ابن لبابة: الصمات فيها يجزئ. وفرق جماعة من الشيوخ، فقالوا: إن كان صداقها أو بعضه عرضاً كلفت الكلام، وإن كان عيناً اكتفي بالصمت.

بعض الموثقين: هذه المسألة اجتمع فيها وجهان: من نظر إلى البكارة اكتفى بالصمت، ومن نظر إلى أن الرضا بالصداق لها، قال: لابد من الكلام. ورأى في الثالث أن الصداق إذا كان عرضاً أنه لابد من نطقها لأنها بائعة مشترية، والشراء لا يلزم بالصمت. ابن سهل: ولا وجه لهذه التفرقة. واختلف في حد التعنيس على سبعة أقوال: القولان اللذان ذكرهما المصنف. وقيل: ثلاثة وثلاثون. وقيل: خمسة وثلاثون وقيل: خمسة وأربعون. وقيل: خمسون. وقيل: من الخمسين إلى الستين. هذا إذا كانت العانس ذات أب، ولا حاجة إلى [279/ ب] ذكر حد التعنيس بالنسبة إلى المهملة هنا، فإن الكلام هنا في الجبر وهو خاص بالآباء، وأنت تعلم أن وجود دليل شرعي على مثل هذا التحديد متعذر. وَفِي مَنْ طَالَتْ إِقَامَتُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ قَوْلانِ، وَفِي تَحْدِيدِهِ بِسَنَةٍ أَوْ بِالْعُرْفِ قَوْلانِ .... القول بعدم الجبر مذهب المدونة، ففيها: ومن زوج ابنته فدخل بها الزوج ثم فارقها قبل أن يمسها لم يكن لأبيها أن يزوجها كما يزوج البكر إن طالت إقامته معه وشهدت مشاهدة النساء، وأرى السنة طولاً؛ فأسقط المصنف قوله مشاهد النساء، ولا بد منه، وإلى ذلك أشار صاحب التنبيهات. وقيل: معنى قوله مشاهد النساء؛ أي: بالحيض والحمل. خليل: وفيه نظر؛ لأنها إذا حملت تخرج عن فرض المسألة. والظاهر أنه أراد الجلوس معهن والتحدث والاجتماع في نحو الولائم. والقول بالجبر لابن عبد الحكم نظراً إلى البكارة، ورأى في المشهور أنها عرفت مصالح نفسها. والمشهور تحديد المدة بالسنة؛ لأن المرأة لا تعرف الأحوال إلا بجميعها لاختلاف المآكل والملابس وأحوال القوم في السنة. والقول بالرجوع في ذلك إلى العرف رواية ذكرها

عبد الوهاب، وهي الأصل، فإن لم يطل مكثها معه كشهر أو شهرين فالمشهور من المذهب أن للأب إجبارها. وحكى الأبهري قولاً آخر بعدم الجبر. وأما إن قامت معه ستة أشهر ثم طلقت وقالت: ما جامعني؛ فاستحب في العتبية مؤامرتها؛ فإن لم يفعل وزوجها مضى النكاح. فرع مرتب: إذا قلنا بالإجبار مطلقاً أو مع عدم الطول فلابد من إقرارها بذلك قبل العقد، ولا يصدق الأب لئلا يؤدي إلى إنكاح الأب الثيب بغير أمرها، ولا يسمع في ذلك قول الزوج أنه وطئ. ابن سعدون: ولو أكذبها الأب وهي فقيرة، والأب موسر لكان القول قولها لأنه لا يعلم إلا من جهتها. انتهى. وكذلك نقل صاحب المتيطية عن بعض الموثقين. وقال في البيان بعد قوله: إن زوجها بعد أن قامت ستة أشهر بغير استثمار مضى النكاح: هذا إذا أقرت بذلك على نفسها قبل أن يزوجها أو بقرب تزويجها، وأما إن زوجها وهي غائبة غيبة بعيدة أو حاضرة ولم تعلم حتى طال الأمر فإنها تتهم على إمضاء النكاح بإقرارها على نفسها أن زوجها الذي دخل بها لم يصبها. فجعل الإقرار بقرب العقد بمنزلة الإقرار قبله، وهو خلاف الكلام الأول. وفي اللخمي: إذا طلقت بالقرب وادعت البكارة وخالفها الأب كان القول قوله ولا تلزمه نفقتها. وَفِي الثَّيِّبِ تَبْلُغُ بَعْدَ الطَّلاق قَوْلانِ تقدم الكلام على هذا الفرع. فرع: ولا يجبر الأب الثيب السفيهة على المعروف، وحكى المتيطي قولاً بأنه يجبرها.

وَوَصِىِّ الأَبِ وَوَصِيِّهِ بِالإِنْكَاحِ كَالأَبِ وقيل: إلا فِي الإِجْبَارِ، وقَيلَ: إِلا أَنْ يُفْهَمَ الإِجْبَارُ، وَقِيلَ: إِلا فِي الْبِكْرِ الْبَالِغِ. وَقِيلَ: هُوَ وَالْوَلِيُّ سَوَاءُ، وَقِيلَ: الْوَلِيُّ أَوْلَى، وَقِيلَ: كَالأَجْنَبِيِّ .... أي: ووصى الأب. ووصي الوصي؛ يريد: وإن بعد بالنكاح كالأب، فحذف بالنكاح من الأول لدلالة الثاني عليه. قوله: (كَالأَبِ) أي: فيجبر. وهذا القول ذكر اللخمي أنه المعروف، فقال: الإجباريختص بالآباء وبمن أقامه الأب في حياته أو بعد وفاته إذا عين الأب الزوج. واختلف إذا لم يعينه الأب، وجعل ذلك إلى اجتهاد من أقامه؛ فقيل: للمقام إجبارها وينكحها ممن يراه أحسن لها قبل البلوغ وبعده. وهذا هو المعروف من قول مالك. قوله: (وقيل: إلا فِي الإِجْبَارِ) هذا القول هو الذي يؤخذ من المدونة، ففيها: وللوصي أن يزوج البكر البالغ برضاها وإن كره الولي، ولو رضيت هي ووليها برجل وعقدوا له لم يجز إلا برضا الوصي، وإن اختلفوا نظر السلطان. وقال يحيى بن سعيد: الوصي أولى من الولي، ويشاور الولي. قوله: (وقَيلَ: إِلا أَنْ يُفْهَمَ الإِجْبَارُ) أي: فيكون له الإجبار، ومقتضاه أن الأول يقول بالجبر وإن لم يفهم الإجبار. واعترضه ابن عبد السلام وقال: كل من يرى له الجبر لا يقوله إلا إذا نص على الجبر أو على ما يستلزم الجبر. وعلى هذا فينتفي الأول. ومقتضى الرسالة أنه لا يزوجها إلا أن ينص له الأب على ذلك؛ لقوله: وللوصي أن يزوج الطفل في ولايته، ولا يزوج الصغيرة إلا أن يأمره الأب بإنكاحها، وقال قبل ذلك: وأما غير الأب في البكر وصي أو غيره فلا يزوجها حتى تبلغ وتأذن، وإذنها صماتها. قوله: (وَقِيلَ: إِلا فِي الْبِكْرِ الْبَالِغِ) ابن راشد: هو المشهور. وفهم المدونة عليه، وما قلناه من حمل المدونة على القول الثاني في كلام المصنف أولى؛ لأنا لو حملناها على هذا لزم أنه إذا

زوج الولي معه أن يمضي؛ لأن الذي يفهم من الأولوية أن يكونا كوليين أحدهما أقرب والآخر أبعد، فكان يمضي نكاح الولي مع الوصي، وليس كذلك. عياض: وظاهر قوله في المدونة: ولو رضيت هي ووليها برجل وعقدوا له لم يجز [280/ أ] إلا برضا الوصي؛ أن للوصي رده، وكذلك نص في الموازية. وهل هذا حق للوصي وأنه لا ولاية للولي معه فيها كما ليس له ذلك مع الأب الذي أنزله منزلته فينقضه على كل حال، أو حماية للأوصياء لئلا يفتات عليهم ويتسع الأمر فيؤدي إلى إسقاط ما بأيديهم؟ وقال الشيخ أبو إسحاق: ظاهره أنه إن أجازه الوصي جاز. ونحا بعض الشيوخ إلى أنه إن كان نظراً منع الوصي من فسخه. وجعل ابن عبد السلام ظاهر المدونة وما نص عليه في الموازية مفرعاً على القول الذي قدمه المصنف، وقال: الأول هو المشهور وعليه فرعوا. وفيه نظر. قوله: (وَقِيلَ: هُوَ وَالْوَلِيُّ سَوَاءُ) ابن راشد: لم أقف على هذا القول. قوله: (وَقِيلَ: الْوَلِيُّ أَوْلَى) هذا القول حكاه سحنون في السليمانية عن غير ابن القاسم من الأصحاب. قوله: (وَقِيلَ: كَالأَجْنَبِيِّ) أي: فلا ولاية له. وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم. وحكى ابن مغيث في وثائقه عن العتبي أنه ليس للوصي من الإنكاح شيء إذا كان لها ولي. وكان القاضي ابن السليم يلزم الوصي بأن يأمر الولي بالتزويج ليخرج من الخلاف؛ فإن قلت: يرد على المصنف سؤالان: الأول: ليس في كلام المصنف تعرض للوصي المطلق لكونه قيده بالنكاح. وقد نص في المدونة على أن له أن يزوج. الثاني: مقتضى كلامه أنه إذا أوصاه على ضيعته أو تفرقة ثلثه أنه لا يجوز له أن يزوج. وقال في المدونة في الوصي على الضيعة وتفرقة الثلث: إذا زوج رجوت أن يمضي.

فالجواب عن الأول: لا نسلم أنه إذا أوصى له وصية مطلقة أنه لم يوص له بالنكاح؛ لأن الإيصاء بالنكاح داخل في الإطلاق، فكلام المصنف شامل لهذه الصورة. وعن الثاني: أنه في المدونة إنما تكلم بعد الوقوف لا في الجواز ابتداء. لكن نص أشهب في ديوانه وحكاه عنه فضل أنه إذا أوصاه على ماله أنه يزوج بذلك بناته ما لم يقل: وليس إليه من بناتي شيء. وقال في البيان: والقياس ما قاله ابن حبيب؛ لأنه قال: إذا قال: فلان وصي على مالي؛ فليس بوصي على الولد في تزويجهم، وإنما يكون وصياً في التزويج إذا قال: فلان وصيي، ولم يزد. أو قال: على بضع بناتي. تنبيهان: الأول: مقتضى كلام اللخمي أنه إذا عين الميت الزوج كان له أن يزوجها من غير خلاف، وقد صرح الركراكي بذلك. اللخمي: وفي كتب ابن أشرس عن مالك أنه إذا عين الأب للوصي ولم يجعل التزويج بقرب موته أنه لا يجبر. وقال: إذا قال الأب: إذا بلغت ابنتي فزوجها من فلا،، لم يجز ذلك إذا بلغت فكرهت. الثاني: قال في المدونة بإثر الكلام المتقدم: ويزوج الولي الثيب برضاها وإن كره الوصي، وإن زوجها الوصي أيضاً برضاها جاز وإن كره الولي. وليس كالأجنبي فيها، وليس لأحد أن يزوج الطفلة قبل بلوغها من قاض أو وصي إلا الأب وحده. عياض: وذهب بعض المشايخ إلى أن هذه الثيب التي يجوز عليها عقد الولي دون الوصي إنما هي الرشيدة وأما المحجورة فكالبكر إلا أن رضاها بالقول دون الصمت. وقد وقع هذا أيضاً نصاً لأصبغ في كتاب فضل، وابن مزين، ويحيى بن إسحاق قال: الأولياء في الثيب غير المولى عليها أولى بالبضع من الوصي، غير أنه إذا زوجها الوصي برضاها جاز ذلك على الأولياء- وإن كرهوا- وليس الوصي في ذلك كالأجنبي، وهو

ظاهر ما في النكاح الثاني والوصايا، ويعضده تشبيهه إياها بمسألة: إذا أنكح الأخ أخته الثيب بحضرة الأب وأجاز ذلك. وقوله: ما للأب ولها واحتجاجه بها على هذه المسألة. وجعل فضل هذا خلافاً لما في الواضحة من أن الوصي يقوم مقام الأب، وأنه أولى بعقد إنكاحها من الإخوة والأعمام والعصبة والسلطان، وأنه أولى بإنكاح مولاة الموصي من ولد وغيره، وكذلك كل من كانت ولاية تزويجه إلىلموصي من البنات والأخوات والقرابات أبكاراً كن أو ثيبات فإنه يتنزل الوصي منزلته، وكلامه هذا بين في أنه أولى بإنكاح الجائزات الأمر لذكره الموالي والأخوات والقرابات وكل من كان للموصي إنكاحه. وذكر أنه قول مالك وأصحابه والأخوات والقرابات وكل من كان للموصي إنكاحه. وذكر أنه قول مالك وأصحابه المدنيين والمصريين. وقال سحنون: ليس الوصي بولي للثيب الرشيدة. قال شيخنا أبو الوليد: هذا إذا قال الموصي فلان وصيي ولم يزد؛ يعني ولو قال: على إنكاح بناتي لكان أولى على كل حال. انتهى. وهل يزوج الوصي كل من كان الموصي يزوجه؟ قال في البيان: إذا قال: فلان وصيي ولم يزد ففي تزويجه من لا ولاية له عليهن من قرابة الموصي ومولياته، ثلاثة أقوال: أحدها: أن له أن يزوجهن وهو أولى بذلك من الأولياء، وهو مذهب ابن القاسم وابن حبيب. والثاني: مثله إلا أن الأولياء أحق بذلك منه، وهو قول أصبغ. الثالث: أنه ليس له أن يزوج التي لا ولاية له عليها، وهو قول سحنون. وأما وصي المولى عليه باسمه من رجل أو امرأة فلا تتعدى ولا يته إلى غيره ممن إلى نظره، ولا يزوج أحداً من قرابة الموصي كان محجوره حياً أو ميتاً إذ لا ولاية له على واحدة منهن، ولا اختلاف في هذا [280/ب] غير أن ابن الهندي قال: إن زوج واحدة منهن مضى وهو بعيد، وأما لو قال: فلان وصيي على بضع بناتي لكان ولياً لجميع بناته في النكاح وإن كن

مالكات أمور أنفسهن، وإن رشدت محجورته فإنه يزوجها كما كان أبوها يزوجها وهي مالكة أمر نفسها. انتهى. فرع: قال في المتيطية: اختلف في وصي القاضي؛ فقال ابن حبيب: ولي النسب مقدم عليه؛ لأن ولي النسب مقدم على القاضي، فيكون مقدماً على مقدمه من باب أولى. وقال ابن حارث وإسحاق بن إبراهيم وابن السليم: وصي القاضي مقدم على ولي النسب؛ لأن القاضي لما قدم وصياً صار كالحكم والنظر فيما أغفله الأب من التقديم عليها فينزل منزلة وصي الأب. وَقَالَ أَصْبَغُ: إِذَا قَالَ فِي مَرَضِهِ إِذَا مِتُّ فَقَدْ زَوَّجْتُ ابْنَتِي مِنْ فُلانٍ فَمُجْمَعُ عَلَى إِجَازَتِهِ وهُوَ مِنْ وصَايَا الْمُسْلِمينَ .... قيد سحنون هذه المسألة بأن يقبل الزوج النكاح بقرب الموت. وقال يحيى بن عمر: سواء طال الأمر أو لم يطل. قال صاحب البيان: وهو ظاهر ما في العتبية. ونص ابن بشير على أن مذهب المدونة الصحة ولو حصل القبول بعد الطول، وأن قول سحنون خلاف. وأشار في البيان إلى تخريج هذه المسألة على ما إذا زوجها بغير إذنها، ثم بلغها فرضيت فإنه يتخرج في هذه الثلاثة الأقوال المذكورة في النكاح الموقوف. اللخمي وغيره: أما إذا مت فزوجوا ابنتي من فلان فهاهنا يجوز سواء رضيه فلان بالقرب أو لا؛ لأن النكاح في الأولى من الميت. ولولا الإجماع الذي نقله أصبغ، وإلا فالقياس المنع لأن المرض قد يطول فيتأخر القبول عن الإيجاب بالسنة ونحوها، وكأنهم لاحظوا أن المريض مضطر إلى ذلك، وكذلك اختلف في الصحيح. وإلى ذلك أشار بقوله: وَفِي الصِّحَّةِ قَوْلانِ المنع لابن القاسم، وأصبغ، وابن المواز، والإجازة لأشهب بناء على أنه نكاح مؤقت ولا ضرورة، أو هو جار مجرى الوصية؟

أصبغ: وإن في المرض لمغمز ولكن أهل العلم أجمعوا على إجازته. صاحب البيان: وقول ابن القاسم أصوب لأنه إذا كان في الصحة فكأنه إلى أجل، ولعل ذلك يطول كالذي يقول إذا مضت سنة فقد زوجت ابنتي من فلان. وقول أشهب عندي أحسن لأنه إذا حمله على الوصية فلا فرق بين الصحة والمرض في ذلك. انتهى. فرع: واختلف فيمن قال إن فعلت كذا فقد زوجتك ابنتي؛ فلمالك في العتبية في القائل: إن أتيتني بخمسين ديناراً فقد زوجتك ابنتي: لا يعجبني هذا النكاح ولا تزويج له. ولأشهب في الموازية في الذي يقول للخاطب: إن فارقتك امرأتك فقد زوجت ابنتي، أن النكاح يجوز؛ فجعله ينعقد بنفس الفراق. قال: ولو قال: إن فارقت امرأتك زوجتك، كانت عدة ولم يلزمه تزويجه، وأحب إلي أن يفي. التونسي: والقياس أن يجبر على التزويج لأنه وعد أدخله بسببه في فراق زوجته كما لو قال: بع فرسك والثمن عليَّ، أو اهدم دارك وأنا أعطيك كذا، فإنه يلزمه ذلك. قال في البيان: وهذا الخلاف عندي إذا أراد إن فعلت ذلك بالقرب، ولو قال: متى فارقت امرأتك لم يجز باتفاق. وَبَقِيَّةُ الأَوْلِيَاءِ يُزَوِّجُونَ الْبَالِغَ خَاصَّةً، عَلَى الأَصَحِّ بِإِذْنَهَا وَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً أي: ما عدا السيد والأب والوصي إنما يزوجون البكر البالغ خاصة لا غير البالغ، ومقابل الأصح سيأتي إن شاء الله تعالى في اليتيمة، ولهذا كان الأولى أن يسقط هنا قوله: (عَلَى الأَصَحِّ) لأن ما يأتي يغني عنه قوله: (وَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً) يعني أن السفيهة لا يسقط وجوب استئذانها لأنه إنما يمنع من النظر في المال، ولهذا لا يكون لوصي المرأة قيام فيما يتعلق بالضرر من زوجها إلا بتوكيل منها على ذلك. فرع: هل لا يعقد الولي العقد إلا بتفويض من المرأة؟

قال فضل بن سلمة: لا بد أن يذكر في الصداق تفويض المرأة إلى الولي عند نكاحها إذا كان الزوج أخاً أو ولياً أو وكيل السلطان- ما عدا الأب وهو قول ابن القاسم- بكراً كانت أو ثيباً. وأنكر ابن حبيب ذلك فيهما جميعاً، وقال: هو حق له قد استخلفه الله تعالى عليه، والولي أحق به منها. المتيطي: وإذا قلنا بقول ابن القاسم فظاهر مذهب الموثقين أنه يكفي في تفويضها صماتها. وفي المنتقى في بعض توجيهاته أنها إذا أمرت وليها أن يزوجها لم يكن بد من نطقها. قال: وانظر إذا كانت غائبة عن موضع الولي والزوج وأرادت التفويض إليه فالظاهر أنه لا بد من نطقها ولا ينبغي أن يختلف في ذلك. انتهى. وَيُسْتَحَبُّ إِعْلامُ الْبِكْرِ أَنَّ صَمْتَهَا إِذْنُ مَرَّةً، وَقِيلَ: ثَلاثاً، فَإِنْ مُنِعَتْ لَمْ تُزَوَّجْ إنما خصت البكر بالصمات لما يلحقها من الحياء بالنطق لئلا تنسب إذا نطقت بالميل إلى الرجال. ابن رشد: وجه استئمار البكر في النكاح أن يقول لها الولي بحضرة الشهود: إني أزوجك من فلان فتسكت. قال صاحب الوثائق المجموعة وغيره: أو يقول لها ذلك الشهود، وصفة ذلك أن يقول لها ذلك الشهود، وصفة ذلك أن يقول لها الشهود أو أحدهم مرة- وقال ابن شعبان: ثلاثاً- إن فلاناً خطبك على صداق مبلغه كذا وكذا، المعجل منه كذا، والمؤجل [281/ أ] كذا؛ فإن كنت رضيت فاصمتي، وبصماتك يلزمك ذلك وبه يستدل على رضاك، وإن كنت كارهة فانطقي. ابن الماجشون: ويطيلون المقام عندها قليلاً. قال في العتبية: ولا يسألها الشهود ولا الولي إذا سكتت هل رضيت أم لا؟ قوله: (يُسْتَحَبُّ) أي: لو ترك لم يضر. ابن عبد السلام: وظاهر قول غير ابن القاسم في المدونة، وهو نص قول مالك ابن مسلمة أن ذلك واجب. انتهى. والذي في

البيان: روى محمد بن مسلمة عن مالك أنه ينبغي لهم أن يعلموها، إذ ليس كل بكر تعلم أن إذنها صماتها، وعلى هذه الرواية يأتي قول ابن القاسم في المدونة. وفي الباجي: بعد أن ذكر أن ظاهر قول غير ابن القاسم كما قال ابن عبد السلام غير أن أصحابنا حملوه على الاستحباب. عياض: وتردد أبو عمران في قول الغير هل هو وفاق أو خلاف؟ ونقل عن ابن سحنون أن حمله على الخلاف، وإليه ذهب ابن بشير. قوله: (فَإِنْ مُنِعَتْ لَمْ تُزَوَّجْ) هذا صحيح وإلا لم تكن فائدة في استئذانها، ويعلم منعها بالنطق وغيره. ابن الجلاب: وإن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدل على إنكارها لم يلزمها. وفي الموازية أن بكاءها رضاً لاحتمال أن تكون بكت على فقد أبيها، وتقول في نفسها: لو كان أبي حياً لما احتجت إلى ذلك. بعض الموثقين: وقعت هذه المسألة فحكم فيها بإمضاء النكاح، وأما إن ضحكت فذلك رضاً منها. وَلَوْ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُ أَنََّ الصَّمْتَ إِذْنٌ لمْ يُقْبَلُ عَلَى الأَصَحِّ لأنه مشتهر، ولعل مقابل الأصح مبني على وجوب إعلامها، وإلا فلو كان استئذانها مستحباً بلا خلاف لما صح أن تعذر بالجهل. واختار عبد الحميد أن ينظر إلى هذه الصبية، فإن علم منها البله، وقلة المعرفة قبل منها وإلا فلا. فائدة: مسائل لا يعذر فيها الجهل؛ منها: هذه. ومنها: من أثبتت أن زوجها يضربها فتلوم له الحاكم ثم أحضره ليطلق عليه فادعى أنه وطئها سقط حقها ولو ادعت الجهل. ومنها: الأمة المعتقة إذا وطئها زوجها بعد عتقها وادعت الجهل بالحكم فإنه يسقط خيارها. ومنها: إذا وطئ المرتهن الأمة المرتهنة؛ فإنه يحد ولا يعذر بجهالة. ومنها: من سرق ثوباً لا

يساوي ربع دينار وفيه ربع دينار. ومنها: من ملك زوجته فقضت بالبتة وادعى الجهل بحكم التمليك، فقيل له: يلزمك ما أوقعت. فقال: ما أردت إلا واحدة. ومنها: من وجب له على أبيه يمين أو حد فأخذه بذلك فلا تجوز شهادته ولا يعذر بالجهل. وقيل: لا تسقط بذلك شهادته. ومنها: الذي يقطع الدنانير والدراهم، فلا تجوز شهادته ولو كان جاهلاً. ومنها: المرتهن يرد الرهن فتبطل حيازته ولا يعذر بالجهل. ومنها: قول أصبغ في المظاهر يطأ قبل الكفارة أنه يعاقب ولا يعذر بجهل. ومنها: من قذف عبداً فظهر أنه حر. ومنها: امرأة يغيب عنها زوجها فتنفق من ماله ثم يأتي نعيه فترد ما أنفقته من يوم الوفاة. ومنها: البيوع الفاسدة كلها حكم الجاهل فيها حكم العالم. ومنها: من ابتاع أحداً ممن يعتق عليه جهلاً فيعتق عليه ولا يعذر بجهل. ومنها: من دفع زكاته لكافر أو غني يظن الكافر مسلماً والغني فقيراً فلا يجزئه. ومنها: المظاهر يطأ بالبيع وهو حاضر. ومنها: المطلقة يراجعها زوجها فتمكث حتى يطأها ثم تدعي أن عدتها قد كانت انقضت وتدعي الجهل في سكوتها. ومنها: المرأة تزوج وهي حاضرة فتسكت ولا تنكر حتى يدخل بها الزوج ثم تنكر النكاح وتقول لم أرض به وتدعي الجهل. ومنها: الرجل يباع عليه ماله ويقبضه المشتري وهو حاضر لا يغير ولا ينكر ثم يقوم ويدعي أنه لم يرض ويدعي الجهل. ومنها: من حاز مال رجل المدة التي تكون الحيازة عاملة فيها وادعى أنه ابتاعه منه فإنه يصدق مع يمينه ولا يعذر صاحب المال إن ادعى الجهل. ومنها: البدوي يقر بالزنا أو الشرب ويقول: فعلت ذلك جهلاً. ومنها: من رأى حمل امرأته فلم ينكره ثم أراد أن ينفيه بعد ذلك. ومنها: من وطئ في اعتكافه وادعى الجهل فلا يعذر. ومنها: العبد يزني أو يشرب قبل علمه بعتقه فإنه

يحد كالحر ولا يعذر بجهله. ومنها: كثير من مسائل الوضوء والصلاة والحج وكذلك أكل مال اليتيم، والمتصدي للفتوى بغير علم، والطبيب يقتل بمعاناته وهو جاهل بالطب. ومنها: الشاهد يخطئ في شهادته في الأموال والحدود. ومنها: ما في الواضحة فيمن باع جارية وقال كان لها زوج فطلقها أو مات عنها، وقالت ذلك الجارية، لم يجز للمشتريأن يطأ ولا يزوج حتى تشهد البينة على الطلاق أو الوفاة، وإن أراد ردها وادعى أن قول البائع والجارية في ذلك مقبول لم يكن له ذلك وإن كان ممن يجهل معرفة ذلك. ومنها ما قاله أصبغ فيمن اشترى نصرانية فأعتقها في الكفارة أنها لا تجزئه ولا يعذر بالجهل. ومنها: الغريم يعتق بحضرة غرمائه فيسكتون ولا ينكرون ذلك ثم يريدون القيام ويدعون الجهل. ومنها: الرجل يبيع [281/ ب] العبد على الخيار ويتركه بيد المبتاع حتى يطول الأمر بعد انقضاء أيام الخيار. ومنها: الشاهدان يريان الفرج يستحل والحر يستخدم فيسكتان ولا يقومان بشهادتهما، ثم يقومان ويدعيان الجهل فلا تقبل شهادتهما. ومنها: ما في سماع عيسى في كتاب التخيير في الذي يملك امرأته أمرها فتقول: قبلت؛ ثم تصالحه بعد ذلك قبل أن تسأل ما قبلت، ثم تقول: كنت أردت ثلاثاً لترجع فيما صالحت به أنها لا ترجع بشيء على الزوج، لأنها حين صالحت علمنا أنها لم تطلق ثلاثاً ولا تعذر بالجهل. ومنها: المخيرة تقضي بواحدة ثم تريد أن تختار بعد ذلك، وتقول: جهلت وظننت أن لي أن أختار واحدة. ومنها: التي يقول لها زوجها: إن غبت عنك أكثر من ستة أشهر فأمرك بيدك، فيغيب عنها أو تقيم بعد الستة المدة الطويلة من غير أن تشهد أنها على حقها ثم تريد أن تقضي وتقول جهلت وظننت أن الأمر بيدي متى شئت. ومنها: الرجل يجعل أمر امرأته بيد أجنبي فلا يقضي المملك حتى يطأها ثم تريد أن تقضي، ويقول: جهلت وظننت أن ذلك لا يقطع ما كان لي. ومنها: المملكة والمخيرة يملكها زوجها ويخيرها فلا تقضي حتى ينقضي المجلس على أول قول مالك ثم تريد أن تقضي بعد، والله أعلم.

وَالْبُلُوغُ بِالاحْتِلامِ أَوِ بِالإِنْبَاتِ أَوْ السِّنِّ وَهِيَ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ، وَتَزِيدُ الأُنْثَى بِالْحَيْضِ والْحَمْلِ .... حاصله أن للبلوغ خمس علامات، منها ثلاث يشترك فيها الذكور والإناث، ومنها اثنتان تختصان بالأنثى. وما ذكره من العلامات متفق عليه إلا الإنبات، ففي اللخمي: اختلف في البكر تشارف البلوغ، فقال ابن القاسم: لا بأس إذا جرت عليه المواسي أن تزوج برضاها، وقال مرة: لا تزوج حتى تبلغ. ونحوه لابن يونس. وعلى المنع فهل يفسخ مطلقاً؟ وهو قول ابن حبيب، أو لا يفسخ؟ ابن عبد السلام: اضطرب المذهب في اعتبار الإنبات كثيراً. وقال بعض متقدمي أصحابنا أنه يعتبر في الأحكام التي بين العباد كالقصاص وما ينظر فيه الحاكم من الحدود، ولا يعتبر فيما لا ينظر فيه القضاة كالصلاة والحج فيقتل من أنبت إن قتل، ولا يؤمر بحج ولا صيام. وقال بعض الشيوخ: إن هذا متفق عليه. أعني ما ذكروه في الأحكام التي بينه وبين الله تعالى. وإنما الخلاف في القسم الآخر، ويرى صاحب هذا القول أن ما جاء من الأمر بقتل من جرت عليه المواسي لا يتعدى إلى غيره من الأحكام التي بين العبد وربه تعالى، والمشهرو في السن ما قدمه. والقول بالخمس عشرة لابن وهب، ولا فرق في هذا الفصل بين الذكر والأنثى. وَرَجَعَ مَالِكُ إِلَى أَنَّهُ لا تُزَوَّجُ الْيَتِيمَةُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَعَنْهُ: إِنْ دَعَتْ حَاجَةُ- ومِثْلُهَا يُوطَأُ- جَازَ، وقِيلَ: تُزَوَّجُ ولَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ. وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا خِيفَ عَلَيهَا الْفَسَادُ .... (الْيَتِيمَةُ) من لا أب لها، والرواية المشهورة أنها لا تزوج إلا بعد البلوغ. قال الأستاذ أبو بكر: وهو المذهب الصحيح. وقال القاضي أبو محمد: هو أظهر الأقوال وأصح الروايات، والذي يفتى به، وإليه رجع مالك.

اللخمي: وقال مالك في الموازية في صبية بنت عشر سنين ذات حاجة تتكفف الناس: لا بأس أن تزوج برضاها وإن كانت صغيرة لم تنبت. فأباح أن تزوج للحاجة، وهو أحسن، وإليه أشار بقوله: (وَعَنْهُ: إِنْ دَعَتْ حَاجَةُ ومِثْلُهَا يُوطَأُ جَازَ). وفي المتيطية: وروى محمد بن عبد الحكم عن مالك: أنه رجع عما في الموازية إلى الرواية الأولى، وحكى ابن الجلاب فيه ثلاثة روايات: هاتين الروايتين، والثالثة: أن النكاح جائز ولها الخيار إذا بلغت في فسخه وإمضائه. وجعل ابن بشير هذا الخلاف يجري في غير المميزة إذا احتاجت. قال في البيان: ولا يجوز تزويج اليتيمة المميزة لمصالحها كارهةً اتفاقاً. وقوله: (وقِيلَ: تُزَوَّجُ ولَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ) ظاهره أنه يجوز الإقدام على ذلك، وبه صرح ابن بشير، وهو قريب من الرواية التي حكى ابن الجلاب، وفي هذا القول نظر؛ لأن الخيار عندنا مناف لصحة عقد النكاح، وما حكاه المصنف عن ابن بشير، قال ابن عبد السلام: العمل عندنا ببلدنا اليوم هو الذي عليه بشرط بلوغها عشر سنين ومشاورة القاضي. قال غيره: وتأذن بالقول ويكون لها ميل إلى الرجال. قال في المتيطية: وبه جرى العمل عند الموثقين وانعقدت به الفتوى. وذكر عياض أن الحذاق على الإجبار متى خيف عليها الفساد وإن كانت ثيباً. وَعَلَى الْمَشْهُورِ يُفْسَخُ وإِنْ دَخَلَ هكذا وقع في بعض النسخ وفي بعضها: (ما لم يدخل) وهو كذلك ابن شاس لأنه قال: وإذا فرعنا على الرواية الصحيحة فزوجت فروي: يفسخ النكاح ولا يقران عليه وإن بلغت ما لم يدخل. وقيل: ينظر فيه الحاكم، فإن رآه صواباً أمضاه وإلا فسخه. وقيل: الخيار لها، فإن رضيت مضى، وإلا فسخ. وإنما يكون ذلك بعد بلوغها.

ابن عبد السلام: [282/ أ] الأولى هي الصحيحة، فإن ابن حبيب نقل عن مالك وأصحابه أنه يفسخ وإن ولدت أولاداً ورضيت بزوجها، وقيل: يفرق بينهما ما لم يطل بعد الدخول. قال أصبغ متمماً لهذا القول: ما لم يطل وتلد أولاداً، ولم ير الولد الواحد والسنتين بعد ذلك طولاً. وفي المتيطية: المشهور إذا زوجت وكانت غنية أنه يفسخ قبل الدخول وبعده ما لم يطل بعد الدخول، ثم ذكر ما رواه ابن حبيب. وعلى هذا فتكون نسخة (وإِنْ دَخَلَ) مقيدة بما إذا لم يطل، ويكون قوله في النسخة الثانية: (ما لم يدخل) يريد ويطول بعد الدخول. قال في البيان: وقال: ابن القاسم لا يفسخ لقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ([النساء: 3] معناه: لا تعدلوا في تزويجهن، وهو دليل جواز العقد عليهن قبل البلوغ، إذ البالغ لا يقال له يتيم. قال: وقيل: تخير إذا بلغت ما لم يطل الأمر بعد الدخول لأنه حق لها. وقال مالك: يكره، فإن وقع لم يفسخ. وَإِنْ تَقَدَّمَ الْعَقْدَ عَلَى الإِذْنِ فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: إِنْ تَعَقَّبَهُ قَرِيباً صَحَّ معناه: إذا عقد ولي على امرأة نكاحاً قبل أن تأذن ثم بلغها ذلك فرضيت ففي ذلك ثلاثة أقوال، وهي أيضاً فيمن زوج ابنه البالغ ثم بلغه ذلك فرضي، نص على ذلك اللخمي، أما إن لم ترض فلا إشكال في عدم اللزوم. والثلاثة الأقوال لمالك، إلا جازة مطلقاً في الموازية، والمنع مطلقاً حكاه الجلاب، والمشهور مذهب المدونة، والضمير في (تَعَقْبَهُ) عائد على العقد، والضمير المستتر عائد على الإذن. واختلفت طرق الشيوخ في هذه المسألة، فحكى ابن زرقون الثلاثة كالمصنف، وذكر في التنبيهات عن بعضهم أن الخلاف إنما هو في البعد.

وقال في البيان: إنما اختلف في القرب وأما مع البعد فلا يجوز النكاح، وإن أجازه باتفاق إلا على تأويل التونسي؛ فإنه تأول أنه لا فرق على أحد قولي مالك بين القرب والبعد، وعلى هذا فيكون في المسألة ثلاثة أقوال. انتهى. وجعل الباجي المسألة على وجهين: أحدهما: أن يكون موقوفاً من الطرفين. والثاني: أن يكون موقوفاً من طرف واحد. وحكى في الموقوف من طرفين قولين: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً. قال: وهو الصحيح عندي. وقد اختاره ابن القصار، قال: وأما الموقوف أحد طرفيه على الآخر، ففي كراهة ما قرب منه قولان، وما بعد قولان: الجواز والإبطال. وعلى المنع فعن ابن القاسم: يفسخ قبل، ويثبت بعد؛ لأن جل الناس على إجازته. قال في البيان: واختاره محمد، وفي سماع عيسى عن ابن القاسم: يفسخ ما لم يطل بعد الدخول. وقال أصبغ: يفسخ أبداً وإن طال. وقال أصبغ أيضاً: يؤمرون بالفسخ من غير حكم لاختلاف العلماء فيه. وهذا ما لم يعترف الولي بالافتيات حال العقد، أو يدعي الوكالة؛ فإن اعترف بالافتيات عند العقد فسخ النكاح أبداً اتفاقاً، وإن ادعى الوكالة حال العقد ووافقته الزوجة صح النكاح اتفاقاً. واختلف إذا أنكرت، فقيل: تحلف، وإن نكلت لزمها النكاح. وقيل: تحلف، وإن نكلت لم يلزمها النكاح. واليمين على هذا إنما هي استظهار لعلها تعترف بالوكالة، وقيل: لا يمين عليها. وأما حد القرب، فقال في المدونة: وإن كانت بغير البلد أو فيه وتأخر إعلامها لم يجز وإن رضيت. وهذا قول مالك وأصحابه ونحوه لعيسى لأنه حد القرب بأن يعقد في السوق أو في المسجد ثم يسار إليها بالخبر من ساعته، ونحوه روي ابن حبيب عن مالك أنه اشترط ثلاثة شروط، فقال: إن كان الرضا بقرب تزويجه وكانت معه في البلد والموضع قريب جاز، وإن كانت بغير البلد أو كانت بعيدة وإن جمعهما البلد أو تباعد ما بين تزويجه ورضاها وإن كانا بموضع واحد فلا يجوز. وقال أصبغ وسحنون: اليوم واليومان قريب، والخمسة كثيرة. وجعل مالك اليوم في رواية

ابن حبيب من حيز الكثير، وعن سحنون: ما بين مصر والقلزم قريب، وما بين مصر والإسكندرية أو أسوان بعيد. اللخمي: ولا أعلم له وجهاً إلا أن يقول أن الخيار إلى يوم أو يومين جائز. واعلم أنه إنما يجوز على المشهور بالقرب إذا لم تصرح قبل ذلك بالرد، وأما إن قالت: ما وكلته ولا أرضى. ثم رضيت فلا يجوز، نص عليه في المدونة والموازية، زاد في الموازية عن مالك: وإن أقرت بعد ذلك بوكالته وأنها كانت راضية فلا يجوز ولا يثبت إلا بنكاح جديج. وَالصُّمَاتُ هُنَا لَغْوٌ يعني: إذا رضيت بالنكاح في هذه المسألة فلا يشهد عليها إلا من يسمع نطقها، ولا يكون سكوتها هنا رضا لأن الولي لما تعدى عليها افتقرت إلى التصريح برفع العداء، وهو مذهب المدونة، وقيل: يكتفي منها أيضاً ها هنا بالصمات. فائدة: هذه إحدى سبع أبكار لا يكون رضاهن إلا بالنطق ذكرها الموثقون والثانية: المرشدة كان الأب أو ولي. الثالثة: المعنسة، هكذا أطلق ابن راشد القول في المعنسة. وقال الباجي والغرناطي وابن عبد السلام: اليتيمة المعنسة، وقد تقدم فيها خلاف. الرابعة: [282/ ب] اليتيمة تزوج لعبد أو من فيه عقد حرية أو لذي عيب إذ ذاك عيب تدخل عليه ويلزمها. الخامسة: التي عضلها وليها فرفعت أمرها إلى الحاكم. السادسة: اليتيمة الصغيرة المحتاجة، ذكرها الغرناطي. السابعة: اليتيمة إذا سيق لها مال نسبت معرفته إليها إذا لم يكن لها وصي. المتيطي: وحكى ابن لبابة وابن العطار عن كثير من شيوخنا أنه إن كان صداقها عرضاً فلابد من نطقها لأنها بائعة مشترية، والشراء لا يلزم بالصمت فلابد من نطقها لأن الولي إنما له عوض البضع لا الشراء، ثم حصل فيها ثلاثة أقوال: فرق في الثالث بين العرض فلابد من نطقها، وبين العين فيكتفي بالصمت.

فَإِنْ أَقَرَّتْ بِالإِذْنِ، وقَالَتْ: لَمْ يزوجني صُدِّقَ الْوَكِيلُ إِنْ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ كَوَكِيلِ الْبَيْعِ تصوره ظاهر لأن كلا من الزوجة وصاحب السلعة مقر بالإذن، والوكيل قائم مقامهما، ولا يكلف إقامة البينة على إقامة النكاح والبيع. ابن بشير: ويختلف إذا عزلته، وقالت: لم يعقد إلا بعد العزل وادعى هو العقد قبله. وقَالَ مَالِكُ: وَتَكْشِفُ مَنْ لا تُعْرَفُ لِمَنْ يَشْهَدُ عَلَى رُؤْيَتِهَا يعني: أن المرأة إذا شهد عليها الشهود في النكاح- وفي معناه سائر الحقوق- فإن كان الشهود يعرفونها بالعين والاسم والنسب شهدوا عليها ولا يحتاجون إلى النظر إليها، وإلا فلابد من نظرها، ويحتاج في ذلك إلى أن يكتب من صفاتها في الوثيقة ما تعرف بها، ولا يقول في نص الوثيقة: من يعرفها باسمها، ولكن يقول من يعرفها بعينها. ولهذا قال في البيان: وينبغي إن وجد من العدول من يعرفها فلا يشهد عليها من لا يعرفها قال: ولا يصح لمن يشهد عليها أن يشهد غيره على شهادته أن فلانة بنت فلان أشهدتهم بالرضا بالنكاح لاحتمال ألا تكون هي التي أشهدتهم فيموتوا ويشهد على شهادتهم فيلزمه نكاح ولم ترض به ولا أشهدت به على نفسها؛ لأن إشهادهم على شهادته بذلك كشهادتهم به عليها عند الحاكم، قال: وأما عند الأداء فلا يحل للشاهد أن يشهد بالإجماع إلا على من يعرف أنه هو الذي أشهده دون شك. انتهى. قال بعضهم: وإذا حضر عقد النكاح من يعرف المشهدين، ومن لا يعرفهم كان لمن لا يعرف أن يشهد، ولا يلزمه أن يبين ما يلزمه لو انفرد، قال: وبه جرى العمل عندهم. وفيه نظر. فرع: يجوز النظر للشابة الأجنبية الحرة في ثلاثة مواضع: للشاهد، وللطبيب ونحوه وللخاطب، وروي عن مالك عدم جوازه للخاطب، ولا يجوز لتعلم علم ولا غيره. قالوا: ولا يباح للخاطب أن ينظر إليها إلا إلى وجهها وكفيها.

ويحتاج في ذلك إلى إذنها في رواية ابن القاسم، وكره فيها أن يستغفلها، وروى محمد بن يحيى: لا بأس أن ينظر إليها وعليها ثيابها. قال في البيان: يحتمل أن ينظر إليها مستغفلة إذا علم أن عليها ثيابها، ويحتمل أن ينظر إليها بعد إعلامها. ابن العربي: وينظر إلى المخطوبة قبل العقد لما في أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". فَإِنْ أَذِنَتْ ولَمْ تُعَيِّنْ الزَّوْجَ فَفِي وُقُوفِهِ عَلَى إِجَازَتِهَا قَوْلانِ، إِلا مِنْ نَفْسِهِ فَيَقْفُ عَلَيْهَا القولان في المدونة، ففيها: قال مالك: وإن قالت امرأة لوليها زوجني ممن أحببت، فزوجها من نفسه أو من غيره لم يجز حتى يسمي لها من يزوجها منه، ولها أن تجيز أو ترد، وقد قال عبد الرحمن: إن زوجها من غيره جاز وإن لم يسمه، وإن زوجها من نفسه فبلغها ذلك فرضيت جاز. اللخمي: وقول ابن القاسم أحسن لأنها وكالة على ما يجوز بيعه، فأشبهت الوكالة على غير ذلك من البياعات وقياساً على توكيل الزوج إذا لم يعين المرأة ولا أعلمهم يختلفون أن ذلك يلزمه. ويمكن أن يفرق بين الرجل والمرأة بأن الرجل قادر على الطلاق. واختلفت طرق الشيوخ إذا زوجها من نفسه؛ ففي البيان: لا يلزمها إلا أن تشاء باتفاق. وحكى اللخمي عن ابن القصار اللزوم. وبنى ابن بشير ذلك على الخلاف بين الأصوليين، هل يدخل المخاطب تحت الخاطب أم لا؟ قال: وكذلك اختلف في البيع هل له أن يبيع من نفسه أم لا؟ والمشهور ليس له ذلك. وقد يقال بعدم دخول المخاطب هنا، ولو قلنا أن المخاطب يدخل تحت الخطاب لأن القرينة العرفية هنا تخالفه. وإذا فرعنا على المنع فهل له أن يزوجها ممن هو في ولايته كابنه ويتيمه؟ أجراه اللخمي على الخلاف في الوكيل على البيع فبيع لولده، فرده ابن القاسم وإن لم تكن فيه محاباة، وأجازه سحنون.

وقوله: (لَمْ تُعَيَّنْ) أي: وأما إن عينت الزوج فإنه يجوز باتفاق إذا وقف على إجازتها، ففي البيان: لها الرضا قرب الأمد أو بعد. وقال ابن حبيب: إنما يجوز ذلك إذا كان بحدثان العقد، وأما إن لم يكن بحدثانه فليس لها الرضا إلا بنكاح جديد بعد فسخ الأول على قياس المشهور في الولي يزوج وليته الغائبة ثم ترضى، وليس بصحيح لأنهما [283/ أ] مسألتان. وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَزْوِيجُ الْبَالِغِ إِذَا دَعَتْ إِلَى كُفْءٍ مُعَيَّنٍ فَإِنْ عَضَلَهَا أَمْرٌ فَإِنْ امْتَنَعَ زَوْجَهَا الْحَاكِمُ .... لأنه لو لم يجب عليه تزويجها مع كونها مضطرة إلى عقده إذ ليس لها أن تعقد كان ذلك من أعظم الضرر بها. قال صاحب العمدة: ويعقد السلطان لأنه كالحاكم عليه، وإن شاء رده إلى غير العاضل فصرح بأنها تنتقل إلى الحاكم لا إلى الأبعد، وكذلك هو ظاهر كلامهم. والعضل: المنع من التزويج، يقال: عضل يعضل ويعضل عضلاً. ابن راشد: ولو عين الولي كفئاً غير الكفء الذي عينته فالأمر في ذلك إليها. ابن القاسم: ولو رفعت أمرها إلى القاضي فلا يزوجها حتى يسألها هل لها ولي؟ فإن ثبت عنده أنها لا ولي لها من جيرانها وغيرهم زوجها، وإن كان لها ولي فلا يزوجها حتى يسألها هل لها ولي؟ فإن ثبت عنده أنها لا ولي لها من جيرانها وغيرهم زوجها، وإن كان لها ولي فلا يزوجها حتى يدعوه، وإن امتنع من إنكاحها سأله عن وجه امتناعه، فإن رآه صواباً ردها إليه صاغرة ولم يجبره على إنكاحها ممن كره. وإن رآه ضرراً وكل من يزوجها بعد أن يثبت عنده من أمرها ما يجب. ابن أبي زمنين وابن العطار: وبه جرى العمل واستمر الحكم. وَعَضْلُ الأَبِ فِي الْبِكْرِ لا يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ خَاطِبٍ أَوْ خَاطِبَيْنِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ضَرَرُهُ نحوه في المدونة، زاد فيها: وإذا تبين ضرره قال له الإمام: إما أن تزوجها أو زوجناها عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار". وخص الوالد بهذا الحكم لما جبل عليه من الحنان والشفقة ولجهلها بمصالح نفسها، فربما علم منها ما لا يحسن به حالها مع هذا الخاطب أو علم من حال الخاطب ذلك.

وقال أبو الفرج: هو عاضل برد أول خاطب. وقال ابن حبيب: ليس للسلطان أن يتسور عليه في ابنته وإن طلبت ذلك الابنة، وقد منع مالك بناته من النكاح وقد رغب فيهن خيار الرجال، وفعل ذلك العلماء قبله وبعده. والظاهر أن قوله ليس بخلاف للمذهب؛ لأنه شرط في المذهب أن يتبين الضرر. وليس في كلام ابن حبيب ذلك، بل استشهاده بفعل مالك وغيره من العلماء ويبين ذلكل أنهم لا يقصدون الضرر فضلاً عن أن تبين ذلك منهم. لكن حمل اللخمي وصاحب البيان وغيرهما قول ابن حبيب على الخلاف. وقال اللخمي: إن كان الأب من أهل العلم والصلاح لم يعرض له وإن لم يكن سئل الجيران، فإن لم يكن عذر زوجت. تنبيهان: الأول: المزوج مع عضل الأب الحاكم بلا إشكال، نص عليه المتيطي وغيره، وهو مما يبين أنه إذا امتنع الولي الأقرب ينتقل إلى الحاكم لا إلى الأبعد. الثاني: قوله في المدونة حتى يتبين ضرره يقتضي أنه إذا جهل أمره لم تزوج عليه. وكذلك قال في أحكام ابن زياد: في الثيب إذا قالت: عضلني أبي لغير عذر. وقال الأب: لعذر. القول قوله، وعلى الثيب إثبات ما ادعت. وَإِذَا كَانَ أَولياء فِي دَرَجَةٍ فَبَادَرَ أَحَدُهُمْ صَحَّ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فَأَفْضَلُهُمْ ثُمَّ أَسَنُّهُمْ، فَإِنْ تَسَاوَوْا عَقَدُوا جَمِيعاً .... لا إشكال في الصحة مع مبادرة أحدهم لكن لا يقدم على ذلك ابتداء، فقد روى ابن وهب عن مالك في امرأة لها وليان في درجة غاب أحدهما فزوجها الحاضر برضاها: لم يكن للغائب كلام، وإن كانا حاضرين ففوضت لأحدهما لم يزوجها إلا بإذن صاحبه؛ فإن اختلفا في ذلك نظر السلطان فأجاز رأي أحسنهما نظراً لها، ذكره صاحب الكافي والمتيطي وغيرهما، لكن مقتضى قوله في المدونة: وإنما الذي لا ينبغي لبعض الأولياء أن ينكح وثم

من هو أولى منه؛ لأن تقديم الأقرب على الأبعد إنما هو من باب الأولى، وأن لبعض الأولياء إذا كان في درجة أن يزوج ابتداء بغير إذن الباقين. ونقل عياض عن بعض البغداديين أنهم أجازوا إنكاح الأبعد مع وجود الأقرب ابتداءً من غير كراهة. قوله (فِي دَرَجَةٍ) أي: كإخوة وأعمام. وما ذكره المصنف من أنه يقدم بالفضل ثم بالسن وأنهم إن تساووا في الفضل والسن عقدوا جميعاً هو لمالك عند ابن حبيب، والذي رواه ابن القاسم وهو مذهب المدونة عند اللخمي والباجي وعبد الحميد وغيرهم أنه ينظر السلطان؛ لأن فيها: وإذا اختلف الأولياء وهم في القعدد سواء نظر السلطان في ذلك. ففهموا منها العموم. ابن بشير: وقال سحنون: معناه في الأوصياء، وأما الأولياء فمن قدمته المرأة فهو أحق. خليل: وفيه نظر؛ لأن سحنون إنما نص على أن ذلك في الأوصياء فقط ولم يتعرض للأولياء، وإنما قال أن المرأة تخير فيمن يتولى العقد عليها بعض القرويين على ما نقله الباجي وابن زرقون وغيرهما، ونقل عبد الحميد عن المغيرة أنه يقرع بين الأولياء إذا تساووا. وفي الكافي: وإذا تساووا في الدرجة والفضل، وتشاحوا نظر الحاكم في ذلك فما رآه سداداً ونظراً أنفذه وعقده، أو رده إلى من يعقده منهم. وقد قيل: يأمر أحدهم بالعقد ولا يعقده هو مع ولي حاضر. ابن راشد: والأول تحصيل المذهب لقوله صلى الله عليه وسلم في الأولياء: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي [283/ ب] من لا ولي له". فَإِنِ اخْتَلَفُوا فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أي: في تعيين الزوج. فقال بعضهم: لهذا. وقال الآخرون: بل لهذا. وأما الأولى

فالاختلاف فيها فيمن يلي العقد مع الاتفاق على الزوج. قال ابن عبد السلام: وهو فهم حسن من المؤلف للمدونة في المسالة التي قال فيها: وإذا اختلف الأولياء وهم في العقد سواء. انتهى. وهو حسن إن ساعدته الأنقال، وقد قال ابن سعدون: إن قوله في المدونة: اختلفوا، يحتمل أن يكون فيمن يلي الإنكاح أو في الزوج. وَفِيهَا: وَإِذَا أَذِنَتْ لِوَلِيَّيْنِ فَعَقَدَا عَلَى شَخْصَيْنِ فَدَخَلَ الثَّانِي وَلَمْ يَعْلَمْ فَهِيَ لَهُ. حَكَمَ بِذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بحضرة الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرُوا، وَمُعَاوِيَةُ لِلْحَسَنِ عَلَى ابنِهِ يَزِيدَ وَلَمْ ينكروا وَقَالَ ابْنُ عبد الْحَكَمِ: السَّابِقُ بِالْعَقْدِ أَوْلَى .... نسبها للمدونة لإشكالها حكماً وتصويراً، وللإرشاد إلى الاستعانة على فهمها بشروحات المدونة، أما إشكالها حكماً فلأنه حكم بها للثاني مع أنها زوجة لغيره، وعدم العلم لا يمنع من كونها متزوجة، فيدخل في عموم قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاء ([النساء: 24] ولهذا ذكر عمر ومعاوية رضي الله تعالى عنهما إشارة إلى دليل المسألة، وإلا فليس عادة المصنف ذكر الأدلة، وبقول ابن عبد الحكم قال المغيرة وابن مسلمة، ورواه حمديس عن مالك، وهو اختيار ابن لبابة وهو أقيس، وهو قول الشافعي وأكثر العلماء، وحكى عبد الوهاب مثل المشهور عن علي رضي الله تعالى عنه والحسن. قال في الجواهر: وبه قال ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة وعطاء ومكحول وغيرهم. فإن قلت: لا يحتج بهذا على الشافعي لأنه لا يرى مذهب الصحابي حجة. قيل: هذا ليس هو مذهب الصحابي فقط بل هو إجماع سكوتي، وهو حجة على المختار، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه ليس إجماعاً ولا حجة. وبيان رجحان الأول في علم الأصول.

ودليلنا من جهة القياس أنه قد أجمع على أن من اشترى شقصاً من أرض أن للشريك نقض البيع والأخذ بالشفعة لأجل الضرر الداخل عليه. وإذا كانت العلة في إبطال عقد المشتري إنما هو ما يلحق الشريك من الضرر لزم أن يكون كذلك في مسألتنا من باب أولى للتطلع على العورات، وفي تغريم الزوج الثاني الصداق وفراقه ممن ذاق عسيلتها ضرر بين. ثم إن المضرة في مسألتنا واقعة وهي في مسألة الشفعة متوقعة، وأجرى اللخمي الخلاف على الخلاف في الفسخ هل ذلك من الآن أو من البلوغ؟ فمن قال: من البلوغ. حكم بها للثاني، لأنه نكاح بوكالة، ومن قال بالأول قال: الأول أحق لأن عقد الأول نسخ لوكالة من لم يعقد، فإن قلت: كيف الجواب عما رواه أبو داود عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أيما امراة زوجها وليان فهي للأول" قيل: الجواب حمله على عدم دخول الثاني جمعاً بين الأدلة. وأما إشكالها تصويراً فلأنها فوضت إلى وليها، وقد علمت أن أشهر القولين في ذلك أنه لا يعقد عليها النكاح حتى يعين لها الزوج، وإذا فعل ذلك تعين الأول. ويجاب عنه باحتمال أن تكون فوضت إليهما في رجلين معينين أو لما عين لها الثاني نسيت الأول لاسيما إذا بعد ما بين العقدين ولا إشكال إذا لم يدخل الثاني في فسخ نكاحه. محمد: بغير طلاق. تنبيه: ألحق مالك في الواضحة تلذذ الثاني بوطئه في الفوات، وأورد على المشهور أن من وكل رجلين فزوجه كل منهما امرأة وله ثلاث نسوة، فقد قالوا: إن نكاح الأولى هو الصحيح ويفسخ نكاح الثانية، ولو دخل بها وفرق بأن الحاجة داعية في المرأة إلى التوكيل لأنها لا تستقل بعقد النكاح فناسب ألا يفسخ نكاحها بخلاف الرجل فإنه قادر على أن يتولى الزواج بنفسه. ورده صاحب الاستلحاق؛ لأنه لو صح لاطرد، فيلزم ألا يعذر مالك السلعة إذا وكل على بيعها، ثم تولى هو بيعها مع أن المشهور إمضاء البيع.

الثاني: إن اتصل به القبض. ابن بشير: وفرق المغيرة بين البيع والنكاح، فقال: الثاني أحق في النكاح لا البيع. وأكثر الشيوخ لا يفرقون في هذه المسألة بين أن تفوض لوليين معاً أو لأحدهما بعد الآخر. وقال الباجي: إن فوضت لأحدهما بعد الآخر فالنكاح للأول ويفسخ نكاح الثاني ولو دخل. أَمَّا لَوْ دَخَلَ بَعْدَ عِلْمِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الدُّخُولُ وَكَانَتْ لِلأَوَّلِ مِنْهُمَا يعني: أن من شرط كونها للثاني أن يدخل وهو غير عالم بالأول لتقوى شبهته، وأما لو دخل بعد علمه أنه ثان فلا، وهذا بين إن قامت بينة الآن على أنه كان عالماً، وإن لم يعلم إلا من قوله فقال ابن يونس وصاحب اللباب: يفسخ نكاحه بطلقة بائنة ولها الصداق كاملاً. قال في المقدما: وهو الصحيح. وقال عبد الملك: يفسخ بغير طلاق. وانظر على قول عبد الملك هل ترد للأول؟ محمد: ولو أقر المزوج آخراً وهو الأب أو الوكيل أنه كان عالماً [284/ أ] بتزويج الأول لم يصدق على الزوج إلا أن تشهد بينة على إقراره بالعلم قبل العقد من الثاني فيفسخ بغير طلاق. وَإِنْ كَانَ مُطَلِّقاً بَعْدَهُ أَوْ مَيِّتاً بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ ولَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ فَكَذَلِكَ يعني: أن الثاني إذا دخل عالماً لا يفيده ولو كان الأول مطلقاً بعده، أي: بعد دخول الثاني، فإن تطليق الأول لا يصحح نكاح الثاني لعلمه بأنه ثان. وكذلك لو مات الأول بعد دخول الثاني أو قبل دخول الثاني بشرط عدم انقضاء عدة الأول؛ لأن الثاني حينئذ ناكح في عدة، وحينئذ تحرم عليه على التأبيد لما سيأتي. وفي كلامه نظر؛ لأنه يقتضي أنه إن دخل الثاني بعد انقضاء العدة أنه لا يفسخ، وليس بظاهر لأن المقتضي للفسخ علمه بالأول. ولو كان دخوله بعد انقضاء العدة مصححاً لزم أن يكون كذلك إذا طلقها الأول قبل دخول الثاني، لأن الأول طلقها قبل البناء فلا عدة عليها.

وقد نص صاحب العمدة على أنه لا يفيده. وعلى هذا التقدير الذي ذكرناه، فإن (إِنْ) من قوله: (وَإِنْ كَانَ مُطَلِّقاً) بمعنى لو واسم كان عائد على الزوج الأول، والضمير في قوله: (بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ) عائد على دخول الثاني. ووقع في بعض النسخ بزيادة (فَكَذَلِكَ) بإثر الكلام المتقدم (فإن) على هذا هي شرطية وجوابها: قوله: (فَكَذَلِكَ) ويكون هذا الكلام ابتداء مسألة، ويكون المعنى أنه: ولو كان الزوج الأول مطلقاً بعد دخول الثاني أو ميتاً بعد دخوله أو قبل دخوله، ولم تنقض عدتها من الأول حتى دخل الثاني (فَكَذَلِكَ) أي: فتكون للثاني. وهذه النسخة أحسن لأن ابن المواز ذكرها كذلك، وتكلم الشيوخ عليها، فحمل كلام المصنف عليها أولى، ففي ابن يونس: قيل لابن المواز: فإن مات الأول منهما، أو طلق قبل أن يدخل الآخر، ثم دخل بها الآخر بعد موته أو بعد طلاقه؟ قال: فإ، لم يعلم بذلك حتى دخل ثبت نكاحه كما لو دخل بها والأول حي لم يمت، ولم يطلق، ولا ميراث لها من الأول، ولا عدة عليها منه. وفي المقدمات: إن عثر على ذلك بعد دخول الثاني وقد كان الأول مات أو طلق، فلا يخلو إما أن يكون عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه، أو يكون عقد ودخل بعد موته أو طلاقه. فأما إن كان عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه فينفذ نكاحه بمنزلة الذي لم يمت ولا طلق على مذهب ابن القاسم. وأما إذا عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه فهو في الموت متزوج في عدة، فيفسخ نكاحه وترث زوجها الأول، وفي الطلاق نكاحه صحيح لأنه في غير عدة. وقال ابن الماجشون: إن كان الذي زوجها منه آخراً بعد طلاق الأول هو الأب؛ فلا يفسخ نكاحه مطلقاً وإن لم يدخل، فإن كان الوكيل هو الذي زوجه فسخ نكاحه إلا أن يدخل. ووجه قوله أن الأب مطلق على النكاح والوكيل على النكاح تنفسخ ولايته بتزويج الأب قبله،

وأما إن عقد قبل الموت أو الطلاق ودخل بعد ذلك، فحكى محمد بن المواز أن ذلك بمنزلة ما إذا عقد ودخل قبل الموت أو الطلاق فينفذ نكاحها ولا ميراث لها من الأول، ولا عدة عليها منه. والصواب أنه في الفوات متزوج في عدة، بمنزلة امرأة المفقود تتزوج بعد ضرب الأجل وانقضاء العدة، ويدخل بها زوجها فينكشف أنها تزوجت قبل وفاة المفقود، ودخلت بعد وفاته في العدة أنه يكون متزوجاً في العدة ولا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق. فَإِنِ اتَّحَدَ زَمَانُ الْعَقْدَيْنِ أَوْ جُهِلَ قَبْلَ الدُّخُولِ فُسِخَ بِطَلاقٍ، وقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يُوقَفُ الطَّلاق، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلاقُ وإِنْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُمَا وَقَعَ عَلَيْهِمَا .... اعلم أني لم أر في كتب أصحابنا الفسخ بطلاق إلا فيما إذا جهل زمان العقدين وهو الذي نص عليه في المدونة، وما ذكره المصنف من أنه يفسخ بطلاق مع الاتحاد لم أره، وهو مشكل لاستحالة الشركة في الزوجة شرعاً، فلم تدخل في عصمة أحدهما، وقال ابن عبد السلام في المسألة ثلاثة أقوال: المشهور أنه يفسخ النكاحان بطلاق، وهو ظاهر إذا جهل لأن أحد العقدين صحيح. الثاني لسحنون: يفسخ النكاحان بغيرطلاق، وهو ظاهر إذا اتحد زمن العقدين. والثالث قول ابن المواز: لا يعجل بالطلاق وتباح للأزواج؛ فإن أراد تزويجها وقع على كل واحد منهما طلقة لتحل للغير بيقين، وإن أراد أحدهما تزويجها لم يقع عليه شيء، ووقع على الآخر لأن المتزوج إن كان هو الأول في نفسالأمر فلم تزل في عصمته، وإن لم يكن هو الأول، فلم يتقدم له نكاح حتى يقع فيه طلاق، ولعله اعتمد في اتحاد العقدين على المصنف، فإن قلت فما الحكم لو لم يطلع في هذه المسألة إلا بعد دخول أحدهام قبل الفوات ولا إشكال فيه، ولوضوحه ترك المصنف التعرض

إليه لأنا إذا قلنا بالفوات بالدخول مع العلم بكونه ثانياً، فلأن يكون كذلك مع عدم العلم من باب أولى. اللخمي: ويأتي على قول ابن عبد الحكم أن الداخل لا يكون أحق لأنه على شك. فإن مَاتَتْ والأَحَقُّ مَجْهُولٌ فَفِي الإِرْثِ قَوْلانِ الأحق من يقضي له بها لو علم به وهو الأول مطلقاً على قول ابن عبد الحكم وعلى المشهور [284/ ب] فهو إما الأول قبل الدخول، وإما الثاني بعد الدخول، فإن جهل بعينه وقد ماتت المرأة فقولان. ابن بشير وابن شاس: للمتأخرين قولان وأكثرهم على السقوط؛ لأنه ميراث مع الشك. والآخر لابن محرز، قال: القياس أن يكون الميراث بينهما والصداق عليهما لأن الميراث ثابت للزوج منهما، وهما يتنازعانه، فيدعي كل واحد منهما أنه الأول، وليس أحدهما أولى من الآخر، فيقسم بينهما، وليس هو من باب الميراث بالشك وهو كمن مات عن أم وابنتها ولم تعلم الأولى منهما، وكمن طلق إحدى نسائه ثم مات، ولم تعلم المطلقة فإن الميراث بينهما نصفان، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: فَإِنْ ثَبَتَ الإِرْثُ ثَبتَ الصَّدَاقُ مفهوم كلامه أنه إن لم يثبت الإرث ينتفي الصداق، وهو خلاف ما في الجواهر لأنه قال: ويثبت الصداق حيث يثبت الميراث، وأما حيث ينتفي فإنما يكون عليه ما زاد منه على قدر الميراث. وفي اللباب: قال بعض المذاكرين: من كان صداقه قدر ميراثه فأقل فلا شيء عليه، ومن كان ميراثه أقل غرم ما زاد على ميراثه لإقراره بثبوت ذلك عليه. ولم يصرح المصنف هل يجب مجموع كل واحد من الصداقين، فلا يستحق أحد الزوجين شيئاً من الميراث إلا

بعد دفعه جميع الصداق، لأنه مقر بوجوب ذلك عليه، أو نصفه؟ لأنه لو دفع كل واحد من الزوجين صداقاً كاملاً لأخذ كل واحد من الورثة ضعف حقه من الصداق. ابن عبد السلام: والاحتمال الأول أقرب. خليل: وقد يخرج هذان الاحتمالان على الخلاف فيما إذا ادعى المسيس وأنكرته الزوجة، هل لها أن تأخذ جميع الصداق لإقراره أو لا تأخذ إلا نصفه لإنكارها؟ فانظره. وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجَانِ فَلا إِرْثَ ولا صَدَاقَ لأن سببهما الزوجية، وهي لم تثبت. وحكى ابن بشير الاتفاق على ذلك، وهذا ما لم يدع كل واحد منهما أنه الأول، وأما لو ادعيا ذلك وصدقت المرأة أحدهما، ففي ابن بشير: لا يثبت لها الإرث ويثبت لها الصداق لأنه أقر لها بمال. ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم أن لها الصداق ويختلف في الميراث، يريد لأن الصداق من الديون وهي تثبت بالإقرار، وأما الميراث فاختلف المذهب هل يثبت بالإقرار أم لا؟ وفيه نظر لأن الخلاف إنما هو في إقرار من لم يعلم له وارث. وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَتَانِ مُتَنَاقِضَتَانِ تَسَاقَطَتَا وَلا يُقْضَى بِالأَعْدَلِ بِخِلافِ الْبَيْعِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُقْضَي بِالأَعْدَلِ كَالْبَيْعِ .... صورتها أن تقول هذه البينة: نشهد أن عقد هذا وقع في اليوم الفلاني ووقع عقد هذا بعده، وتعكس البينة الأخرى. ومنشأ الخلاف هل زيادة العدالة تقوم مقام الشاهد الواحد، أو شاهدين؟ فالمشهور أنها تقوم مقام الشاهد الواحد، فلذلك يقضي بها في البيعدون النكاح. ورأى سحنون أنها قائمة مقام شاهدين، فيقضي بها فيهما. ويقول سحنون قال البرقي، واختاره عبد الحق. وفي المسألة قول ثالث: أنه لا يقضي بالأعدل في البيع والنكاح.

وَلا عِبْرَةَ بِتَصْدِيقِ الْمَرأَةِ يعني: لا عبرة بتصديق المرأة لأحدهما أنه الأول. وعن أشهب: تصدق ما لم تدع الأرفع وأنكره أصبغ. فائدة: وقع في المذهب مسائل كهذه يفيتها الدخول، ومسائل لا يفيتها الدخول. فالأولى تسع: الأولى: هذه. الثانية: امرأة المفقود تتزوج بعد ضرب الأجل ثم يأتي زوجها بعد دخول الثاني فتفوت على المشهور. الثالثة: الكافر يسلم على أكثر من أربع فيختار أربعاً ثم يجد الأربع أخوات أو محارم، فإنه يختار من البواقي ما لم يدخل على المشهور. الرابعة: من أسلمت وزوجها كافر فتتزوج فينكشف أنه أسلم قبلها. الخامسة: الرجعية يرتجعها زوجها في العدة وهي لا تعلم فتتزوج بعد انقضاء عدتها ثم يتبين أن زوجها كان ارتجعها قبل انقضاء العدة. السادسة: المعتقة تحت العبد تختار نفسها وتتزوج، ثم يقوم زوجها ويثبت أنه عتق قبلها. قال المصنف: فكزوجة المفقود. السابعة: الأمة المتزوجة يطأها سيدها بعد انقضاء عدتها، وقد كان زوجها أشهد برجعتها ولم يعلم السيد. الثامنة: امرأة الأسير يتنصر ويشك في تنصره هل طائعاً أو مكرهاً؟ فيفرق بينهما ثم تبين أنه كان مكرهاً. التاسعة: إذا قال لها: إن غبت شهراً فأمرك بيدك، فغاب ثم طلقت نفسها وتزوجت ثم أثبت أنه قدم قبل الشهر، ابن عبد السلام: والمشهور أنها تفوت بالدخول. وأما المسائل التي لا يفيتها الدخول فخمس، الأولى: إذا وكل رجلين على أن يزوجه كل واحد زوجة وكان له ثلاث زوجات. الثانية: المنعي لها زوجها ثم تتزوج ويدخل بها زوجها الثاني، ثم يأتي الأول فإنها ترد إليه على المشهور. الثالثة: الذي له زوجتان اسم كل واحدة منهما عمرة؛ فقال: عمرة طالق. وادعى أنه لم يرد التي عنده وإنما يريد امرأة غائبة؛ ففرق [285/ أ] بينه وبين هذه ثم أثبت أن له امرأة أخرى تسمى عمرة. فقال محمد: ترد

إليه ولو دخل بها الثاني. الرابعة: التي تطلق لعدم النفقة ثم يكشف الغيب أنها أسقطتها عنه. وفي معنى هذه الصورة إذا طلق على الغائب بعسر النفقة ثم قدم وأثبت أنه كان يبعث إليها النفقة، نص عليه أبو الحسن. الخامسة: إذا تزوجت امرأة المفقود في أثناء العدة، أعني الأربعة أشهر وعشراً ففسخ ثم يتبين أن عدتها من المفقود قد انقضت قبل ذلك فإنها ترد إلى هذا الزوج وإن تزوجت ثالثاً فسخ نكاحه ولو بعد الدخول كالمنعي لها زوجها. قاله أبو عمران وغيره. وَإِذَا غَابَ الأَقْرَبُ غَيْبَةً بَعِيدَةً زَوَّجَ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: أَوِ الأَبْعَدُ هذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المصنف تكلم على غيبة الأقرب مطلقاً أباً كان أو غيره، ثم بين مقدار الغيبة في حق الأب، وهو الذي قاله ابن عبد السلام، ويحتمل أن يكون في غير الأب المجبر، وهو الذي قاله ابن راشد. قوله: (غَيْبَةً بَعِيدَةً) مفهومه أنها لا تزوج في الغيبة القريبة وهو كذلك ويرسل إليه الحاكم، قاله مالك في الواضحة. وفي سماع أشهب: كتب إلى ابن غانم في امرأة تطلب التزويج فتسأل هل لها ولي؟ فتذكر أن لها عماً أو أخاً على مسيرة الثلاث والأربع، وأنه في شأنه وضيعته، وتسأل أن يزوجها كفئاً. إني أرى إذا كان أمرها على ما وصفته من حالها وغيبة وليها وكفاءة من تدعو إليه أن تزوجها ولا تضرها غيبة وليها. قيل: ففي هذه الرواية حد الغيبة. وفي قوله: (إذا كان أمرها على ما وصفته من حالها وغيبة وليها) بيان أنها غير مصدقة فيما تذكر من ذلك حتى تثبته، وكذلك قال في المتيطية أنها تثبت ذلك. قوله: (زَوَّجَ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: أَوِ الأَبْعَدُ) نحوه في ابن شاس، وفيه نظر، وصوابه أن يقول: وقيل الأبعد، بغير أو لأن القائل يرى أن الولاية للولي فقط، هكذا نقل اللخمي وصاحب البيان وغيرهما.

وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْبَةِ أَبِي الْبِكْرِ مِثْلُ إِفْرِيقِيَّةَ لْغَيْرِ تِجَارَةٍ. وَقِيلَ: مَا يُتَعَذََّرُ بِهِ الإِذْنُ. وَقِيلَ: إِنْ قَطَعَ عَنْهَا النَّفَقَةَ. وَقِيلَ: لا يَصِحُّ مَعَ حَيَاتِهِ أَمَّا إِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَالْوَلِيُّ يُنْكِحُهَا. وَقِيلَ: بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ فُقِدَ .... لغيبة أبي البكر ثلاثة أحوال: الأولى: أن يكون قريباً، قال في البيان: كعشرة أيام ونحوها. فلا خلاف أنها لا تزوج في مغيبه وإن زوجت انفسخ النكاح زوجها الولي أو السلطان. قاله في الواضحة، زاد في المتيطية عن ابن القاسم: يفسخ وإن ولدت أولاداً وإن أجازه الأب. الحالة الثانية: أن تكون غيبة بعيدة كما قال في المدونة: مثل إفريقية والأندلس وطنجة لغير تجارة- قال في البيان: من مصر- فاختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أن الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك وإن كانت نفقته جارية عليها وإن لم يخف عليها ولا استوطن أبوها ذلك الموضع الذي هو فيه وهو ظاهر ما في العتبية. وقد تأول على ما في المدونة من قوله فيها: وأما من خرج تاجراً وليس يريد المقام بذلك البلد فلا يهجم السلطان على ابنته، فإنها لا تزوج إلا أن يستوطن ذلك البلد، وهو القول الثاني. والقول الثالث: أنها لا تزوج إلا أن يستوطن ذلك البلد، ويطول مقامه فيه العشرين سنة والثلاثين، وهو قول ابن حبيب. والرابع: أنها لا تزوج أبداً وإن طال مقامه فيه، وهو ظاهر قول مالك في الموازية وقول ابن وهب. انتهى. ففسر رحمه الله تعالى قول مالك: كإفريقية على أنها من مصر، واستبعده ابن عبد السلام، قال: لأن المسألة من كلام مالك في المدونة، ويحتمل أن يريد من المدينة. واحترز بقوله: (لْغَيْرِ تِجَارَةٍ) مما لو خرج لتجارة فإنها لا تزوج؛ لأن الغالب فيها أن يرجع عاجلاً. قال فضل في قول ابن حبيب: ولا أعلم هذا التحديد لغيره. والقول بأنها لا تزوج مع حياته بحال لعبد الملك. وهو مشكل لا سيما إن كانت محتاجة وخيف عليها. قال في البيان: وهو مبني على قول ابن حبيب بجواز العضل.

وقوله: (وَقِيلَ: مَا يُتَعَذََّرُ بِهِ الإِذْنُ) أي: يكون بموضع لا ينفذ فيه كتاب حاكم الموضع الذي البنت فيه، ففي هذا يزوجها السلطان. وهذا قول حكاه عبد الحق عن الإبياني. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ قَطَعَ عَنْهَا النَّفَقَةَ) ظاهره أنه قول في المسالة، وهو مقتضى كلام ابن يونس، لأنه قال: قال مالك: يزوجها الإمام إن رفعت إليه. وقال عبد الملك: لا يجوز إنكاحها على وجه في حياة الأب. ابن وهب: إن قطع عنها النفقة جاز. ثم ذكر وجه كل قول. وقال صاحب البيان وابن سعدون: لا اختلاف إذا قطع الأب عنها النفقة وخشي عليها الضياع أنها تزوج وإن كان ذلك قبل البلوغ. وإنما اختلفوا فيمن يزوجها، فالمشهور أنه لا يزوجها إلا السلطان لأنه حكم على غائب. وقال ابن وهب ومثله في الموازية: أن الولي يزوجها برضاها، والوجه في ذلك أن ولايته سقطت لتضييعه ومغيبه، فكان كالميت. انتهى. وانظر هذا الاتفاق الذي حكاه صاحب البيان فيما إذا قطع عنها النفقة مع قول عبد الملك: لا يجوز تزويجها مع حياة الأب وإن ضاعت واحتاجت وخيف عليها إلا أن يفسر الحاجة بالحاجة في غير النفقة. والحالة الثالثة: أن يكون أسيراً أو مفقوداً، [285/ ب] فالمشهور أن الولي يزوجها وإن كانت نفقته جارية عليها ولم يخف عليها الضياع. قال في المتيطية: وبهذا القول القضاء. وقال عبد الملك: ليس لهم ذلك إلا بعد أربع سنين من يوم فقد. وقال أصبغ: لا تزوج بحال. وقوله: (فَالْوَلِيُّ يُنْكِحُهَا) هذا ظاهر ما في المتيطية؛ لأنه قال: قال بعض الموثقين: وإذا فرعنا على المشهور فينبغي أن يثبت الولي عند الحاكم طول غيبة الأب وانقطاع خبره والجهل بمكانه، وحينئذ يصح للولي إنكاحها. ابن راشد: وفي الطراز: الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك. فجعل ذلك للحاكم دون الولي، وهو الصواب، وأي فرق بين هذه والتي قبلها.

وفي البيان أنه اتفق في الأسير أن الحاكم يزوجها وإن كانت في نفقته وأمنت الضيعة عليها. وأما إن كان الأب مسجوناً أو مجنوناً فليس هو كالغائب البعيد الغيبة وإن طال أمره؛ لأن خروجه وبرءه مرجو. والمصنف رحمه الله تعالى يؤخذ من كلامه الثلاثة الأحوال، لأن قوله: (وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْبَةِ أَبِي الْبِكْرِ) تصريح منه بالحالة الثانية، ويفهم منه أن أقل من ذلك لا يجوز تزويجها فيه، وهي الحالة الأولى. قوله: (أَمَّا إِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ) هي الحالة الثالثة والله أعلم. وَإِذَا أَنْكَحَ الأَبْعَدُ مَعَ وُجُودِ الْمُجْيِرِ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ أَجَازَهُ كَالأَبِ، وَمِثْلُهُ السَّيِّدُ عَلَى الأَصَحِّ وَلَوْ كَانَ شَرِيكاً بِخِلافِ بَيْعِهَا نَفْسَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ .... اعلم أن للتعدي على الولي صورتين: إحداهما أن يتعدى الولي على أقرب منه. والثانية أن يتعدى أجنبي على ولي. ثم الولي المتعدي عليه إما مجبر أو لا. صارت أربعة أقسام، وقد تكلم المصنف رحمه الله تعالى عليها كلهأ، يعني: إذا تعدى ولي على أب لم يجز النكاح ولو أجازه الأب. ومثل الأب السيد في أنه لا يجوز نكاح غيره وإن أجازه السيد على الأصح. وقيل: يجوز في الأمة لخفة الأمر فيها. والأصح ومقابله روايتان. وخرج اللخمي قولاً في الأولى بالإجازة إذا أجازه الأب من الأمة. وليس بين لما قلناه من خفة الأمر في الأمة. وقوله: (وَلَوْ كَانَ شَرِيكاً) يعني أن غير السيد إذا زوج الأمة يفسخ النكاح، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون من زوجها له فيها ملك أم لا. فرع: إن بنينا على المشهور أنه لا بد من فسخه فإن فسخ قبل البناء سقط الصداق عن الزوج ورجع به إن استهلكته، أو بما نقص إن تجهزت به ولم يساوه الجهاز على الذي

زوجه إن غره ولم يعلمه أنه شريك، وإن فسخ بعده فإن أجازه الشريك فإنما له نصف المسمى وإن لم يجزه. وفي معنى ذلك إن أجازه ولم يرض بالصداق، فالمشهور أن له الأكثر من نصف المسمى أو نصف صداق المثل، ويرجع الزوج بالزائد على الشريك الذي زوجها إن كان غره. والشاذ لأشهب: إنما له نصف المسمى. ابن المواز: ولا شيء للعاقد من الصداق إن غره إن قال هي حرة أو هي لي وحدي. قال الشيخان أبو محمد وأبو الحسن رحمهما الله تعالى: وإذا رجع على الغارَّ بما دفع إليه ترك لها ربع دينار. وقيل: لا يترك لها منه شيء. وهذا إذا رضي الشريكان في الأمة بقسم المال وإن أبى أحدهما فعلى الزوج أن يكمل لها صداق المثل على المشهور ويكون بيدها، فإن اقتسماه رجع على الذي زوجه منهما بما استفضل في نصفه إن لم يكن غره، وبجميع الزيادة إن غره كما ذكرنا بخلاف بيعها فإنه يجوز إذا أجازه السيد لأنه بيع فضولي وهو يلزم عندنا بإجازة المالك كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والفرق بين النكاح والبيع أن الولاية مشترطة في النكاح لحق الله سبحانه وتعالى. قوله: (نَفْسَهَا) يحتمل أن يقرأ بفتح السين وتكون هي البائعة، وبكسرها على البدل من الضمير المجرور وحينئذ يحتمل أن تكون هي البائعة أو غيرها. وَفِيهَا: لَوْ زَوَّجَ ابْنُ أَوْ أَخٌ أَوْ جَدٌّ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ أَوْ أَمَتَهُ فَأَجَازَه جَازَ إِنْ كَانَ قَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِجَمْيعِ أُمُورِهِ .... أتى بهذه المسألة لأنها كالمخالفة لما قبلها، إذ قد حصل فيها تزويج الأبعد مع وجود مجبر، وأمضاه في المدونة بإجازة الأب. وقوله: (ابْنَتَهُ) أي بنت المجبر، وذكر فيها ثلاثة أولياء وسكت عما عداهم، وألحق ابن حبيب بهم سائر الأولياء إذا قاموا هذا المقام.

الأبهري وابن محرز: وكذلك الأجنبي لأنه إذا كانت العلة تفويض الأب فلا فرق. وكلامه في المدونة يحتمل أن يكون مخالفاً لهما وأن يكون موافقاً لابن حبيب خاصة. وفسر سحنون ما وقع في المدونة من الإجازة إذا أجازه الأب بأن معناه: إذا كان الأب غائباً. حمديس: وإنما يجوز إذا أجازه الأب إذا كان قريباً ولم يطل. وقال أبو عمران: لا يراعى في ذلك قرب ولا بعد وقد أجاز عبد الرحمن ذلك بعد أن قدم من الشام. وانظر هل يجري فيها قول بأنه لا يجوز مطلقأً من النكاح الموقوف، وأما إن لم يجزه فإنه يفسخ وإن طال، وإن ولدت الأولاد. واعترض فضل هذه المسألة بأن تفويض الأب لمن ذكر إما أن يدخل تحته نكاح الأبكار أو لا؟ فعلى الأول لا يحتاج إلى إجازة الأب إذ لم يتعد. وعلى الثاني- وهو الصحيح- لا يجوز ولو أجازه كما في المسألة المتقدمة. وإنما قلنا أن الثاني هو الصحيح لأن ابن أبي زيد رحمه الله تعالى نص على أن الوكيل المفوض لا ينكح البنت البكر ولا يطلق الزوجة ولا يبيع دار السكنى [286/ أ] ولا يبيع العبد لأن العرف اقتضى إخراج هذه الأربع. وأجيب بأن المراد بالتفويض هنا التفويض العرفي لأن التفويض قسمان: تفويض نص عليه وحكمه ما تقدم، وتفويض عرفي وهذا حكمه؛ لأن الابن لما صار يتصرف والأب ساكت كان ذلك بمنزلة إطلاقه له التصرف في جميع الأشياء، وعلى هذا لا يحتاج إلى إجازته. لكن لما كان العرف إخراج نكاح الأبكار تعارضا، فأجزناه إذا أجازه الأب لعلمنا أن الأب لم يخرج ذلك. وفيه نظر؛ لأنه إذا كان المفوض بالنص ليس له أن يزوج فمن باب أولى أن يكون ذلك في المفوض له بالعرف إلا أن يقال أن المزوج هنا لقرابته لا يتهم ولأنه ولي في الجملة.

خليل: وينبغي أن تقيد إجازة الأب فيما إذا قال الأب: إنما أجزت النكاح لأني فوضت إليه جميع أموري، والنكاح من جملة ذلك. وأما إن قال لم يخطر لي نكاح ابنتي ببالي في تفويضي إليه؛ فلا يجوز بإجازته، ونحوه للمتيطي. وإذا أجاز الأب النكاح فلا بد من تضمين عقد الإجازة معرفة الشهود لتفويض الأب لولده لئلا يكون ذلك داعية إلى إجازة إنكاح من لا يجوز له العقد. قال: ولو ادعى الزوج أن الابن أو الأخ إنما عقد النكاح بإذن الأب فعلى الزوج إثبات ذلك ويضرب له أجل ويوسع عليه فإن عجز حلف الأب على نفي دعواه، فإن حلف فسخ النكاح، وإن نكل ثبت النكاح. واستدل المتيطي على وجوب اليمين بقول ابن القاسم في العتبية فيمن خطب امرأة فزوجها له وليها وأشهد له بذلك وأنكرت المرأة أن تكون علمت ورضيت أن الإشهاد إن كان بحيث يعلم أنها لا تعلم فلا يمين عليها وإن كان ظاهر. بحيث يرى أنها عالمة فإنها تحلف ما وكلته ولا فوضت إليه، ولا شيء عليها، وإن لم تحلف لزمها النكاح. وكذلك روى ابن القاسم في امرأة زوجها أخوها وأمها ثم ماتت الأم فطلب الزوج الدخول فقال الأخ: لا زوجة لك؛ لأن أختي لم تكن علمت. وأنكرت الزوجة، قال: إن قامت له بينة على رضاها وإلا حلفت هي وأخوها وفرق بينهما. وَتَزْوِيجُ السُّلْطَانِ مَعَهُ كَالأَبْعَدِ مَعَ الأَقْرَبِ لا كَالْمُسَاوِي عَلَى الأَشْهَرِ الضمير المخفوض بمع عائد على الأقرب. قوله: (كَالأَبْعَدِ) أي: فيأتي فيها من الخلاف ما يكره بعد هذا إذا زوج الأبعد مع وجود الأقرب، ومقتضى كلامه أن مقابل الأشهر يجعل السلطان كالمساوي للأب، ولم أر هذا النقل. وكذلك قال ابن راشد وابن عبد السلام.

وكثيراً ما سألت عنه فلم أجد علماً به عند من سألته. انتهى. ويحتمل أن يريد بمقابل الأشهر أنه ليس كولي الأبعد، بل يفسخ مطلقاً قبل الدخول وبعده، ويكون قوله: (لا كَالْمُسَاوِي) متفقاً عليه، ويكون الأشهر أنه يمضي، ومقابله يفسخ على كل حال، وهذا الوجه وإن كان بعيداً من لفظه فهو أقرب من الأول. على أني لم أر من قال: إن السلطان مع الأب كولي أبعد. وقد قدمنا عن ابن حبيب أن السلطان إذا زوجها في غيبة الأب الغيبة القريبة أن النكاح مفسوخ، وأن ابن القاسم قال: يفسخ وإن ولدت الأولاد. ورأيت في بعض التعاليق أنه اختلف في تقديم السلطان على أحد من ذوي النسب البعيد كابن العم تلتقي معه في جد بعيد، فذكر قولين. والله تعالى أعلم. فإن لَمْ يَكُنْ مُجْبِرُ فَفِيهَا: لَمْ يَرُدَّ، وَفِيهَا: يَنْظُرُ السُّلْطَانُ، وَقِيلَ: لَهُ الرَّدُّ مَا لَمْ يَبْنِ بِهَا. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ بِالأَوْلادِ. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: إِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً مَضَى بِاتِّفَاقٍ .... المشهور هو الأول. عياض: ومشهور المذهب منعه ابتداءً، وتأول بعضهم المدونة على الجواز ابتداءً، وهو يحتمل أن يكون مبنياً على أن تقدمة الأقرب من باب الأولى، ويحتمل أن يكون مبنياً على أن تقدمة الأقرب من باب الأوجب، ولكن أمضاه بعد الوقوع مراعاةً للخلاف أو للتطلع على العورات. والقول بنظر السلطان حكاه سحنون عن بعض الرواة، وأشار إلى أنه مبني على أن تقدمة الأقرب من باب الأولى، وقال: النظر على هذا القول إنما هو إذا ادعى الأقرب أنها وضعت نفسها في دناءة ولو اعترف بأنها إنما تزوجت كفؤاً لم يفتقر فيه لنظر السلطان. والقول بالفسخ ما لم يبن لابن الماجشون وابن حبيب، والقول بالفسخ ما لم يتطاول لمالك في الثمانية، واختصر فضل الواضحة عليه، وزاد في المتيطية قولاً خامساً بالفسخ مطلقاً للمغيرة. وهذه الثلاثة الأقوال مبنية على أن تقديم الأقرب من باب الأوجب، فمن قوي عنده الوجوب ولم يلتفت إلى غيره قال بالفسخ مطلقاً، ورأى القائل بالفسخ ما لم يدخل

أنه بالدخول يحصل التطلع على العورات، ورأى القائل الآخر أنه إنما يقوى الضرر بالتفرقة إذا طال الأمر بينهما وولدت الأولاد. ابن عبد السلام: وذكر بعضهم قولاً آخر إن كان الأبعد كالأخ للأب مع أخ شقيق مضى وإن كان كابن عم مع أخ رد؛ وأخذه من المدونة. وعلى الإمضاء فإن أثبت الأقرب أن الزوج غير كفء فله في ذلك مقال؛ فإن أثبت الأبعد الكفاءة ففي احكام ابن زياد أن شهادة من شهد بعدم الكفاءة أتم، وليس على الحاكم أن [286/ ب] يسأل الشهود من أين علموا عدم الكفاءة. وقيل: يقضي بأعدل البينتين، فإن تكافأتا كان الجرح أولى. وقيل: يسقطان وينظر الحاكم في ذلك. وفي أحكام ابن حذير عن جماعة من الشيوخ: إن بين الشهود الحال التي كان بها غير كفء كانت شهادتهم أولى، وإن شهدوا مجملاً كانت شهادة الآخرين أولى. بعض الموثقين: الذيجرى به الحكم أنه إن كانت إحدى البينتين أعدل حكم بها. وبه قال سعيد بن أحمد وابن زرب وغيرهما. وقوله: (وَقَالَ اللَّخْمِيّ: إِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً مَضَى بِاتِّفَاقٍ) يعني أن الخلاف المتقدم إنما هو في ذات القدر؛ لأن النكاح قد انعقد بولي، وليس على القريب وصم في وليته الدنية؛ لأن كل واحد كوليها، والله أعلم. وَفِيهَا: وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَته ثُمَّ أَنْكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِإِذْنِهَا جَازَ وَإِنْ كَرِهَ وَلِيُّهَا أي: من النسب، فيشمل الابن وغيره. واقتصر في المدونة على الولد؛ لأنه إذا جاز مع الولد فمع غيره أولى. وقوله (جَازَ) يحتمل الإقدام ويحتمل مضي النكاح، وهو الأقرب لأن سائر أولياء النسب مقدمون على المعتق. وقد تقدم أن الأولياء إذا كانوا في درجة ليس لأحدهم أن يعقد ابتداءً إلا بموافقة من استوى معه، وإذا كان ذلك مع التساوي فمع القرب أولى.

وذكر المصنف هذه المسألة بإثر الأولى؛ لأنها من فروعها إذ هي من تزويج الأبعد مع وجود الأقرب. ولقائل أن يقول: هذه المسألة أخف من التي قبلها؛ لأن هذه المعتقة من الدنيات ولسيدها له عليها بقية سلطنة الملك، وهو أولى الأكفاء لها، وعلى هذا فلا يمكن إجراء الخلاف المتقدم فيها، والله أعلم. وَإِذَا أَنْكَحَ الأَجْنَبِيَّ مَعَ وُجُودِ الْمُجْبِرِ فَكَذَلِكَ لما تكلم على صورتي تعدي الولي على ولي أقرب منه تكلم على تعدي الأجنبي. وقوله (فَكَذَلِكَ) أي لا يجوز ولو أجازه الأب، والأليق بطريقة المصنف ألا يذكر هذا؛ لأنه إ ذا لم يجز نكاح الأبعد مع وجود المجبر فلأن لا يجوز نكاح الأجنبي مع وجود المجبر من باب أولى، لكن قصد رحمه الله تعالى الكلام على جميع الأقسام. وَلا مُتَكَلِّمَ لأَحَدٍ الوليين عَلَى الآخَرِ فِي الْمُعْتَقَةِ إيراده لهذه المسألة هنا غير مناسب، وهي من فروع قوله: (وإذا كان الأولياء في درجة فإذا بادر أحدهم صح). وما ذكره المصنف نص عليه في المدونة. وقال جماعة: الصواب أن مجموع المعتقين منهما هو الولي لا أحدهما كالشريكين بخلاف الأخوين؛ لأن كلا من المعتقين إنما له نصف الولاء ولا يرث إلا النصف، وهو ظاهر. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْبِراً وَهِيَ ذَاتُ قَدْرٍ فَقَالَ مَالِكُ: مَا فَسَخَهُ بِالْبَيْنِ، ولَكِنْ أَحَبُّ إِلَيَّ؛ وَتَوقَفَ إِذَا أَجَازَهُ الْوَلِيُّ بِالْقُرْبِ. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَهُ إِجَازَتُهُ ورَدُّهُ مَا لَمْ يَبْنِ بها. وقَالَ أَيْضاً: لَهُ إِجَازَتُهُ بِالْقُرْبِ وإِلا رَدَّ مَا لَمْ يطل بَعْدَ الْبِنَاءِ. وقِيلَ: يَرُدُّ. وقِيلَ: يَمْضِي. وفِيهَا: إِنْ دَخَلَ بِهَا عُوقِبَتِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ وَالْمُنْكِحُ وَالشُّهُودُ إِنْ عَلِمُوا .. يعني: أن الأجنبي إذا زوج مع ولي غير مجبر فإما أن تكون المرأة ذات قدر أو دنية، فذكر المصنف في ذات القدر خمسة أقوال: أحدها: أنه ماض مطلقاً، حكاه عبد الوهاب

عن مالك. والثاني لسحنون: يفسخ أبداً. اللخمي: يريد وإن تطاول بالأولاد. وهذان القولان هما اللذان ذكرهما المصنف آخراً. والثالث: الوقف إذا أجازه الولي بالقرب، وهو قول مالك. قال في المتيطية: قال ابن سعدون: يعني توقف مالك في فسخه وفي إجازته. وقال أبو عمران: إنما توقف في إجازته ولم يتوقف في فسخه، وإنه مفسوخ، ونحوه للباجي واللخمي. انتهى. والقول الرابع لابن القاسم أن الخيار للولي في فسخه وإمضائه ما لم يدخل. والقول الخامس له أيضاً، وإليه أشار بقوله: (وقَالَ أَيْضاً: لَهُ إِجَازَتُهُ بِالْقُرْبِ) ابن القاسم قاله في المدونة، وقاله مالك وزاد فيه قيداً آخر في المدونة وقال: ما لم تطل إقامته معها وتلد الأولاد. واختلف الشيوخ في فهم هذا القول، فقال ابن التبان: إن كان قبل البناء بالقرب فللولي إجازته وفسخه وإن طال قبل البناء فليس إلا الفسخ وإن كان بقرب البناء فللولي أيضاً فسخه وإجازته، وإن طال بعد البناء فليس للولي فسخه وعليه اقتصر ابن يونس. قال عبد الحق: وقال غير ابن التبان أنه يخير قبل البناء وإن طال على مذهب ابن القاسم. واعلم أن المصنف لم ينقل كلام ابن القاسم على ما هو عليه في المدونة بل زاد فيه قوله: (وإِلا رَدَّ) هذه الزيادة إنما تأتي على فهم ابن التبان؛ لأن قوله يقتضي تحتم الفسخ مع الطول قبل البناء. ولنذكر كلامه في المدونة ليتبين لك ذلك، قال فيها: قال ابن القاسم: إذا أجازه الولي بالقرب جاز سواء دخل الزوج أم لا، وإن أراد فسخه بحدثان الدخول فذلك له، فأما إن طالت إقامتها معه وولدت الأولاد أمضيته إن كان صواباً. وقاله مالك. وذكر في المدونة سادساً، فقال: وقال عنه ابن وهب أنه يفرق بينهما بطلقة دخل بها الزوج أم لا، إلا أن يجيز ذلك الولي أو السلطان إن لم يكن لها ولي. تنبيه: ما ذكره المصنف في القول الأول من قوله: (مَا فَسَخَهُ بِالْبَيْنِ، ولَكِنْ أَحَبُّ إِلَيِّ) [287/ أ] هو كذلك في المدونة، لكنه لم يذكر ذلك عند ذكره هذه الأقوال وإنما ذكره

لما تكلم على النكاح الذي يفسخ بطلاق والذي يفسخ بغير طلاق، وهو مشكل؛ لأن الفسخ لا يقال فيه أحب إلي، إلا أن يقال أنه توقف لتعارض الأدلة. واستحب الفسخ خروجاً من الخلاف، وليستأنف عقد بولي لا خلاف فيه. اللخمي: وجميع الخلاف الذي في هذه المسألة راجع إلى ثلاثة أقوال: هل تقدمة ولاية النسب على ولاية الإسلام من باب الأولى؟ أو هي حق له أو لله؟ فأمضاه مرة بناء على أنه أولى ومرة رآه حقاً له فخيره في الفسخ والإمضاء، ورأى مرة أن الحق لله ففسخه مطلقاً ووقف مرة لتعارض الأدلة عنده هل ذلك حق له أو لله سبحانه؟ وقوله: (وفِيهَا: إِنْ دَخَلَ بِهَا ... إلى آخره)، قال فيها: قيل لمالك: من زوج امرأة بغير إذن ولي بشهود أيضرب أحدهم؟ فقال: أدخل بها؟ قال: لا. وأنكر الشهود أن يكونوا حضروا، قال: لا عقوبة عليهم. ابن القاسم: إلا أني رأيت فيها لو دخل بها لعوقبت المرأة والزوج والذي أنكح، ويؤدب الشهود أيضاً إن علموا. ومعنى قوله: (وأنكر الشهود أن يكونوا حضروا) أي: أنكروا أن يكونوا علموا أن هذا النكاح لا يجوز بدليل قوله: (وَيُؤَدَّبُ الشُّهُودُ إِنْ عَلِمُوا). هكذا قال أبو الحسن في معنى المدونة، وجعل بعضهم فاعل أنكر عائداً على مالك؛ أي: وأنكر مالك أن يكون الشهود حضروا مثل هذا. وقيد الباجي عدم عقوبتهم قبل البناء بما إذا كان النكاح مشهوراً. وقوله: (عَلِمُوا) يضبط بالبناء للفاعل لا بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأنهم إذا علموا ولم يكن عندهم علم لا يعاقبون، وقد صرح في الجلاب بذلك. اللخمي: وأرى ألا عقوبة على الزوجين إن كانا من أهل الاجتهاد، وذلك مذهبهما، أو كانا يريان تقليد من يرى ذلك أو كانا يجهلان أو يظنان أن ذلك جائز، وكذلك البينة ينظر إلى مذهبها أو من تقلد به.

وَالْمُعْتَبَرُ الأَقعَدُ خَاصَّةً هذا كما قال في المدونة: وإذا استخلفت على نفسها رجلاً فزوجها ولها وليان أحدهما أقعد بها من الآخر، فلما علما أجازه الأقعد فلا قول هنا للأبعد بخلاف التي زوجها الأبعد وكره الأقعد لأن ذلك نكاح عقده ولي، وهذا نكاح عقده غير ولي، فلا يكون فسخه إلا بيد الأقعد. فَإِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً؛ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَخَفُّ هذا قسيم قوله أولاً (وهي ذات قدر) يعني: وإن كانت دنية فقال مالك: هي أخف. وظاهره فيما إذا زوج الأجنبي مع وجود الولي. ومعنى أخف أنه يمضي، وهذا هو المشهور. ففي التنبيهات: أما الولاية العامة وهي ولاية الإسلام فلا خلاف عندنا أن الخاصة من النسب أو الحكم مقدمة عليها وأنها مع عدمها ولاية صحيحة. واختلف مع وجود الخاصة فهل تكون العامة ولاية يصح بها العقد أم لا؟ على ثلاثة أقوال: المشهور أنها غير ولاية في الشريفة دون الدنية، وهو مذهب ابن القاسم وروايته. الثاني: أنها غير ولاية فيهما، وهي رواية أشهب وقول ابن حبيب. والثالث: أنها ولاية فيهما، حكاه عبد الوهاب، وهو ظاهر رواية ابن وهب عن محمد. والمسألة في المدونة مفروضة إذا لم يكن لها ولي، ففيها: وإذا وكلت المرأة الدنية مثل المعتقة والمسالمة ولاسوداء والمسكينة أجنبياً فزوجها وهي ببلد لا سلطان فيه، أو فيه سلطان يعسر عليها تناوله ولا ولي لها جاز ذلك، وكذلك إن وكلت من أسلمت هي على يديه وذلك فيمن أخف منه في ذوات القدر، وأما إن أسلم على يديه أبوها وتقادم ذلك حتى يكون لها من القدر والغنى والإباء في الإسلام وتنافس الناس فيها فلا يزوجها وهو كأجنبي فيها.

وقوله (ولا ولي لها) ظاهره مثل رواية أشهب عن مالك أن الدنية وغيرها لا يزوجها إلا الولي أو السلطان. الأبهري: وإليه رجع مالك. وما ذكرناه من نص المدونة هو الذي اختصره المختصرون وليس في الأمهات: يعسر عليها تناوله، وإنما هو في الموازية وعليه اختصر أبو محمد، وأنكر ابن الماجشون هذه الرواية وقال: لا يجوز للدنية ولا غيرها أن يزوجها إلا الولي إلا أن تكون مثل المرأة الأعجمية الوغدة قد ساندت الرجل ذا المال والنعمة حتى صار لها كنفاً يأخذ لها القسم ويجري عليها النفع فإن له تزويجها إذا لم يكن لها ولي، وأما ذات النعمة والحال والنسب فلا. ابن عبد السلام: وأما ما حكاه بعض الشافعية عن مالك أن للدنية أن تزوج نفسها فغلط بين لا شك فيه. وَقَالَ فِي الْمَكْفُولَةِ الْمُرَبَّاةُ: وَمَنْ أَنْظَرُ لَهَا مِنْهُ، وَقِيلَ: يَمْضِي مُطْلَقاً. وَقِيلَ: كَذَاتِ الْقَدْرِ ..... يعني: أن الدنية قد يكون الأجنبي فيها كالولي بل أولى منه، لأن معنى قوله: (وَمَنْ أَنْظَرُ لَهَا مِنْهُ) لا أحد أنظر لها منه. عياض: يعني بعد بلوغها ورضاها. قال في الواضحة: وذلك إذا مات أبوها وغاب أهلها، وعلى هذا حمل الشيوخ المسألة أنها غير ذات أب، وأنه من باب إنكاح الكافل والمربي لليتيمة، ولا يرون أن المكفولة يزوجها الحاضن في حياة أبيها، وذهب ابن العطار وابن زرب إلى أن للحاضن أن يزوجها في حياة الأب إذا كان غائباً ولا يكون [278/ ب] إنكاحهن إلا برضاهن، خلاف ما وقع في كتب بعض الموثقين، وتأول على المدونة أنه يكون بغير رضاهن، وهو وهم منه أو من النقلة عنه. انتهى.

وظاهر المدونة أنه أحق من الأخ ونحوه، وبه قال ابن عيشون، فإنه قال: والكافل أحق من أخيها لأبيها وامها. وفي البيان: المشهور المعلوم من المذهب أن الولي أحق بالنكاح من الحاضن إلا أن يكون الحاضن وصياً. ابن عبد السلام: هل الكافل أحق من سائر الأولياء كان لها أب أم لا؟ أو إنما يكون أحق بها فيما عدا الأب؟ قولان، قال: واختلف في المرأة الكافلة هل تكون كالوصية فتقدم من يزوج أو لا؟ واقتصر ابن راشد وغيره على أن المرأة ليس لها أن توكل. ابن راشد: وهي في ذلك بخلاف الرجل. وذكر ابن راشد في موضع آخر أنه اختلف في الرجل الكافل هل له أن يوكل أم لا؟ وكذلك اختلف في الكافل إذا زوج المكفولة ثم يموت زوجها أو يطلقها هل تعود ولايته عليها؟ فقال ابن عتاب: تعود. وقال ابن القطان: لا تعود. وقال ابن الطلاع في وثائقه: إن كان خيراً فاضلاً عادت، وإلا لم تعد. ابن عبد السلام: وقيل: إن عادت إلى كفالته عادت ولايته وإلا فلا. فرعان: الأول: ذكر بعض الموثقين أن حد الكفالة التي توجب للكافل عقد النكاح عشر سنين. أبو الحسن: وعندي أنه لا حد لذلك إلا ما يرى أنه يوجب من الحنان والشفقة مثل ما للولي أو يقرب. ونقل عن الشيخ أبي محمد صالح أن أقلها أربعة أعوام. الثاني: اختلف في ولاية الكفالة هل هي عامة في الشريفة والدنية أو خاصة بالدنية؟ وهو ظاهر المدونة، لقوله: وأما كل امرأة لها بال وغنى وقدر فإن مالكا قال: لا يزوجها إلا وليها أو السلطان. وقياس قول مالك في إجازة نكاح الكافل أنه يجوز بيعه له، لكن نص مالك في كتاب القسم على أنه لا يجوز بيعه له ولا قسمته عليه، وأجاز في كتاب القسم قسم ملتقط اللقيط عليه ومنع ذلك أصبغ.

قوله: (وَقِيلَ: يَمْضِي مُطْلَقاً) ابن عبد السلام: يعني أنه لا يحتاج في تزويجا لأجنبي من لا قدر لها أن يكون كافلاً. فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ غَائِباً فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْحَاكِمُ كَالْوَلِيِّ، ويَبْعَثُ إِلَيْهِ فِيمَا قَرُبَ، وَعَنْ مَالِكٍ: ينظر الْوَلِيُّ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ بِالأَوْلادِ .... يعني: فإن زوج الأجنبي وكان الولي غائباً وهذه المسألة ذكرها في المدونة فيما إذا كان لها وليان ففيها: وإن غاب الأقرب وأراد الأبعد فسخه نظر السلطان، فإن كانت غيبة الأقرب قريبة بعث إليه وانتظره ولم يعجل، وإن كانت غيبة بعيدة فنظر السلطان كنظر الغائب في الرد والإجازة وكان أولى من الولي الحاضر. اللخمي: وإذا كتب الغائب في الغيبة القريبة وقف الزوج عن المرأة. الباجي: وكتب مالك إلى ابن غانم أن السلطان لا ينظر فيه إلا أن يقوم الولي فيطلب الفسخ إلا فيما تطاول مع الأولاد، وهذا هو القول الثاني الذي ذكره المصنف. اللخمي: ولمالك في الموازية أن السلطان لا ينظر- قربت غيبة الولي أو بعدت- حتى يقدم الولي، فإن قدم وخاصم وكانت المرأة ممن لها العشيرة وأهل البيوت لم يجز ذلك إلا في شيء قد فات وتزوجها كفء. وقال مالك أيضاً: للمرأة إذا كان الولي غائباً أن تأمر رجلاً يزوجها فيجوز ذلك إذا لم تضع نفسها في دناءة. قيل له: ولا ترفع إلى السلطان. قال: ليسكل امرأة تقدر أن ترفع إلى السلطان. وَلا وِلايَةَ لِرَقِيقٍ عَلَى ابْنَتِهِ ولا غَيْرِهَا، وَيقْبَلُ لِنَفْسِهِ ولِمُوَكِّلِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وبِغَيْرِ إِذْنِهِ ..... للولي ثمانية شروط، ستة متفق عليها، واثنان مختلف فيهما، فالستة أن يكون حراً، بالغاً، عاقلاً، ذكراً، حلالاً، مسلماً، أعني: إذا كانت وليته مسلمة، لأن الكافر يجوز أن

يعقد نكاح وليته الكافرة لمسلم. والاثنان المختلف فيهما: أن يكون رشيداً، عدلاً. وتكلم المصنف عليها كلها. ومراده بالرقيق: القن، ومن فيه عقد حرية، وإنما قال: (ولا غَيْرِهَا) ولم يقتصر على البنت؛ لأن ولاية البنت إجبار، فقد يتوهم أنه إنما منع من الإجبار، فإن تولى العقد فقال مالك: يفسخ- ولو ولدت الأولاد- بطلقة، ولو أذن له الولي أو كانت دنية. ويتخرج فيها قول آخر أنه يفسخ بغير طلاق للغلبة على فسخه. أصبغ: ولا ميراث في النكاح الذي تولى العبد عقده وإن فسخ بطلقة لضعف الاختلاف فيه. قال فيها: ولا يقدم المكاتب من يزوج إماءه. وقوله: (وَيقْبَلُ لِنَفْسِهِ) يعني أن الشروط إنما تعتبر من جهة ولي الزوجة. وقوله: (بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وبِغَيْرِ إِذْنِهِ) يعود على قوله: (لِمُوَكِّلِهِ) وإنما جاز ذلك لأنه أمر خفيف ولا مضرة على السيد فيه، ويحتمل أن يرجع إليه وإلى موكله؛ لأن عقده أيضاً على نفسه صحيح، وإنما يتوقف أيضاً على إجازة السيد. وَلا صَبِيٍّ، ولا مَعْتُوهٍ لاشتراط البلوغ والعقل. وَتَنْتَقِلُ إِلَى الأَبْعَدِ أي: إذا كان الأقرب صبياً أو رقيقاً أو مجنوناً. وَلا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ولا امْرَأَةً غَيْرَهَا، بَلْ تلي عَلَى عَبْدِهَا وعَلَى الذَّكَرِ الْمُوصَاةِ هِيَ عَلَيْهِ ..... لاشتراط الذكورية. وما ذكره من أنها تعقد على عبدها أو (وعَلَى الذَّكَرِ الْمُوصَاةِ هِيَ عَلَيْه) أي: تقبل لهما، هو قول ابن القاسم في العتبية والواضحة، وهو المشهور المعروف، [288/ أ] وحكى عبد الوهاب قولاً بأنها لا تقبل للذكر وكذا العبد في القولين.

وَتُوَكِّلُ الْمَالِكَةُ وَالْمُعَتِقَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَلِيَّهَا أَوْ غَيْرَهُ لا إشكال في هذا في المالكة والوصية، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها وصية على أيتام، فكانت تختار الأزواج وتقدر الصداق، ثم تقول: اعقدوا فإن النساء لا يعقدن. وما ذكره المصنف قرره ابن راشد ونص عليه ابن شاس وابن فتحون في وثائقه والمتيطي وابن بطال في أحكامه. عياض: قوله- يعني في المدونة- في المرأة: إذا وكلت رجلاً يزوج وليتها جاز، فإن معناه عند أكثر أئمتنا: مولاة لها أو من تلي عليها بإيصاء. ونقله ابن عبد السلام عن بعض الأندلسيين من الموثقين وغيرهم. ابن عبد السلام: والصواب أن الولاية لأولياء المعتقة دون من تقدمه هي في حياتها ودون ابنها بعد موتها، وذلك بين من الموطأ وكلام المتقدمين، وقد عرضته على من يوثق به من أشياخي فوافق عليه. انتهى. وَيُوَكِّلُ الْعَبْدُ الْمُوصَى إِلَيْهِ هكذا نقل الباجي عن مالك. وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ بِلا وَلِيَّ فِي الْجَمِيعِ ولَوْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ ولَوْ بَعْدَ الطُّولِ والْوِلادَةِ بِطَلاقٍ عَن ابْن الْقَاسِمِ، وبِغَيْرِ طَلاقٍ عَنِ ابْنِ نَافِعٍ ... يعني: أن النكاح إذا انعقد بين الزوجين من غير ولي ولا أجنبي، فلا بد من فسخه أجازه الولي أم لا، طال أو لم يطل، وسيأتي مأخذ القولين في فسخه هل بطلاق أم لا؟ وَالإِحْرَامُ مِنْ أَحَدِ الثَّلاثَةِ مَانِعٌ (الثلاثة) هي الزوج والولي والزوجة.

وَالْمَشْهُورُ أَنََّ كفر الْجِزْيَةِ يَسْلُبُ مِنَ الْوَلِيِّ الْوِلايَةَ عَنِ الْمُسْلِمَةِ كَغَيْرِهِ مقتضى كلامه أن المسلمة إذا كان لها ولي كافر فإن لم يكن من أهل الجزية كالمرتد، والحربي فلا ولاية له باتفاق، وإن كان من أهلها فالمشهور كذلك. وقيل: له الولاية. والمقطوع به من المذهب أن الكافر لا ولاية له على المسلمة أصلاً، وقد حكى ابن بشير على ذلك الاتفاق. وفي قول المصنف (كفر الْجِزْيَةِ) نظر؛ لأن المشهور عندنا أن كل كافر تؤخذ منه الجزية إلا المرتد، فليس لنا كفر لا تؤخذ فيه الجزية. ابن راشد: وأخبرني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله ابن الشيخ أبي عبد الله الزواوي أنهم وجدوا في بجاية كتباً لبعض الأندلسيين وفيها أن الكافر من أهل الجزية تكون له الولية أو قال: له البنت المسلمة فإنها لا تزوج بغير أمره ورضاه. قال: ورأيت بعد ذلك المسألة في أحكام ابن بطال، ونص كلامه: قال ابن حبيب وغيره: لا يجوز للنصراني إذا كانت له بنت مسلمة أو أخت كذلك أن يزوجها ولا يستخلف من يزوجها ولا يطلب في ذلك رضاه، وليس هو ولي في حال نصرانيته، فإن جهل وزوج ابنته المسلمة أو استخلف مسلماً زوجها فسخ النكاح أبداً قبل البناء وبعده. وقال أصبغ: إنما لا يجوز للنصراني أن يزوج أخته المسلمة إذا كان من أهل الصلح، وأما من يصير ميراثه للمسلمين منهم إذا مات فهو يزوجها، وهذا مراد المصنف. انتهى. الباجي عن ابن القاسم: ولا يعتبر رضا الكافر في تزويج ابنته المسلمة. وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ عَلَى الْمَشْهُورِ مراده بالعكس أن يكون الولي مسلماً والمرأة كافرة، فلا ولاية لمسلم عليها على المشهور. واختلفت طرق الشيوخ في نقل هذه المسألة، فمنهم من نقل مثل المصنف أن

المشهور سقوط الولاية، والشاذ ثبوتها. ومنهم من حكى ثلاثة أقوال: هذين القولين، والفرق، فيزوجها من مسلم ولا يزوجها من كافر، وهو قول ابن وهب. وقال ابن حبيب: يزوجها من نصراني إذا لم تكن من نساء أهل الجزية. وحكى في البيان في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: إن كانت من أهل الصلح لم يكن له أن يزوجها، وإن لم تكن من أهل الصلح جاز، كان عليها جزية أو لا، وهو قول مالك في العتبية على ما فسره ابن القاسم. الثاني: لا يجوز له أن يزوجها كانت من أهل الصلح أو لم تكن، كانت عليها جزية أو لم تكن، وهو قول ابن القاسم، لأنه قال لا يزوج المسلم النصرانية كانت بنته أو أخته أو مولاته. والثالث: له أن يزوجها، كانت من أهل الصلح فيكونوا أولى بتزويجها منه إن شاحوه؛ لأنهم إنما صالحوا وبذلوا الجزية على أن يخلى بينهم وبين نسائهم، وهو قول ابن القاسم في سماع زونان. وذهب ابن لبابة إلى أنه لا اختلاف في هذه المسألة، وأن أقوالهم ترجع إلى أنها إن كانت ممن عليه الجزية فلا يزوجها المسلم كانت من أهل الصلح أو لم تكن، وإن لم تكن عليها جزية فيزوجها. ويحمل ما وقع في القول الثاني على المولاة التي أعتقها وهو نصراني، ويحمل ما في سماع زونان على أنها معتقة لمسلم. إِلا الْمُسْلِمَ فِي أَمَتِهِ ومُعْتَقَتِهِ قوله: (إِلا الْمُسْلِمَ فِي أَمَتِهِ ومُعْتَقَتِهِ) هو المشهور، وعن أبي مصعب لا يزوج أمته النصرانية، وخرجه اللخمي في المعتقة. عياض: ولا يلزم إذ قد تكون علة أبي مصعب ألا يعقد نكاح أمته لنصراني بخلاف عقد نكاحه للمعتقة من مسلم.

اللخمي: والقياس في الأمة المنع. فإن قيل: إنما جاز في الأمة لأنها ماله. قيل: النكاح يفتقر إلى ولاية بدليل أنها لو كانت لعبد أو امرأة لم يجز لهما أن يعقدا. والمشهور هنا [288/ ب] شبيه بالمشهور في سقوط الجزية عن معتق المسلم كما تقدم. وَعَلَى السَّلْبِ يُزَوِّجُ الْكَافِرَةَ ولِيُّ كَافِرُ ثُمَّ أَسَاقِفَتُهُمْ لِكَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ أي: وعلى المشهور من سلب ولاية المسلم عن وليته الكافرة يتولى العقد عليها وليها الكافر. وما ذكره المصنف من أنه يعقد وليها الكافر لمسلم نص عليه في المدونة. خليل: وانظر ما معنى العطف بقوله (ثُمَّ أَسَاقِفَتُهُمْ) وإن كان المصنف قد تبع ابن شاس ونحوه لأصبغ إذا أنا لا نتعرض لهم في أحكامهم إلا أن يكون عندهم أن الولي يقدم على الأساقفة، فعطف بـ (ثُمَّ) على ما هو الواقع عندهم. قالوا: ولا يتولى السلطان ذلك إذا لم يكن لها ولي، ويجبر أهل دينها على ذلك إن دعت إلى كافر لأنه من التظالم، ولم يجبرهم على إنكاحها من مسلم. فَإِنْ عَقَدَ لَهَا وَلِيُّهَا الْمُسْلِمُ لِكَافِرٍ لَمْ يُعْرَضْ لَهُ لأنا لم نتعرض لهم في الزنا إذا لم يعلنوه، فأحرى النكاح. ابن القاسم: وقد ظلم المسلم نفسه لما أعان على ذلك. فرع: وأما إن عقد لها على مسلم فإنه يفسخ. وقال أصبغ: لا يفسخ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّفِيهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَعْقِدُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ. وقَالَ أَشْهَب: يَعْقِدُ إِنْ كَانَ ذَا رَايٍ إِذَا لَمْ يُوَلََّ عَلَيْهِ. وقَالَ ابْنُ وَهْبِ: يَعْقِدُ وَلِيُّهُ، فَإِنْ عَقَدَ فَلَهُ إِجَازَتُهُ ورَدُّهُ .... حاصله أن ابن وهب رأى أن الحجر عليه يمنع من عقد النكاح. واتفق ابن القاسم وأشهب على أن له الولاية، ثم اختلفا، فقال ابن القاسم في الموازية: لا يستقل بها ولكن

يعقد بإذن وليه. زاد الباجي في قوله: إلا السفيه الضعيف فهو كالميت. وقال أشهب في العتبية: يتولى العقد بشرطين: أن يكون ذا رأي، وأن يكون مهملاً لا وصي عليه ولا تحجير من جهة الحاكم. ونقص المصنف من قول ابن القاسم ولا السفيه الضعيف، والمراد بالسفيه الضعيف هو الذي لا رأي له، ونقص أيضاً من قول ابن وهب أمرين: أحدهما أنه قال بإثر ما نقله المصنف عنه: ويستحب للولي أن يحضره ولا تضر غيبته. وثانيهما أنه قال: وإن لم يكن له ولي فإنكاحه ماضٍ إن كان صواباً. محمد: وقوله صواب، إلا قوله: فإن لم يكن له ولي جائز، وذلك سواء كان له ولي أم لا، ينظر فيه بالاجتهاد فيرد أو يجيز، وذكر ابن مغيث في وثائقه عن أشهب أن إنكاح السفيه لوليته جائز، وإن كان مولى عليه. الباجي: ففرق ابن وهب بين المحجور عليه وغيره، وسوى محمد بينهما وقال: لا يرد إلا بوجه بين. ابن زرقون: وقال أبو مصعب في المحجور عليه أن النكاح فاسد، يفسخ قبل البناء وبعده، وهو راجع للاختلاف في النكاح الموقوف. وَالْمَشْهُورُ أَنََّ الْفِسْقَ لا يَسْلُبُ إِلا الْكَمَالَ الباجي: مذهب مالك وأبي حنيفة أن الفسق لا ينافي الولاية. وفي اللخمي: أجاز ابن القصار أن يكون فاسقاً. وكرهه عبد الوهاب مع وجود عدل وإن عقد جاز، والشاذ حكاه ابن شاس ولم أره إلا أن ابن بشير قال: هل يصح أن يكون الفاسق ولياً أم لا؟ وذكر اللخمي القولين، والذي في المذهب الخلاف في كونها شرطاً في الكمال لا في الإجزاء، ولعل هذا الخلاف في شهادة لأن من الناس من لا يرضى لوليته إلا بما يعود لصلاحها لا نفقته وحميته، ومنهم من لا يلتفت إلى ذلك، والذي رأيته في اللخمي هو ما قدمته.

ابن عبد السلام: وبقي في تصوير المشهور أن سلب الكمال إن أريد به تقديم الأبعد العدل على الأقرب الفاسق فبعيد، وإن أريد رجحان العدل المساوي في القرابة على مساويه الفاسق فيها فقريب. وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الزَّوْجِ الْعَبْدَ، والصَّبِيِّ والْمَرْأَةَ والنَّصْرَانِيَّ عَلَى الأَصَحِّ، بِخِلافِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ لا يُوَكِّلُ إِلا مَنْ يَصِحُّ عَقْدُهُ لَوْ كَانَ وَلِيّاً .... يعني: يشترط في توكيل ولي الزوجة أن يصلح أن يكون ولياً، وأما الوكيل من جهة الزوج فلا يشترط فيه ذلك على الأصح. وقيل: يشترط في وكيله ما يشترط في وليها. وأنكر بعضهم وجوده في المذهب. ابن شاس: ثم يقول الولي للوكيل بالقبول: زوجت من فلان. ولا يقل زوجتك. وليقل الوكيل: قبلت لفلان. ولو قال قبلت لكفى إذا نوى بذلك موكله. وَلابْنِ الْعَمِّ والْمُعْتَقِ والْحَاكِمِ ووَكِيلِهِمْ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالإِذْنِ لَهُ مُعَيَّناً عَلَى الْمَشْهُورِ .... لم يثبت في كل النسخ قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) وهي زيادة صحيحة، ثم هي يحتمل أن تعود إلى قوله (يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ) ويحتمل أن يعود إلى قوله (مُعَيَّناً). وحكى اللخمي عن المغيرة منعه إلا أن يوكل غيره يزوجها منه. وعلى المشهور ففي الجلاب: فينبغي للولي أن يشهد على رضاها احتياطاً من منازعتها، فإن لم يشهد على ذلك والمرأة مقرة بالنكاح فهو جائز، ولفظ ذلك أن يقول لها: قد تزوجتك على صداق كذا وكذا وترضى به. وقد تقدم أن المشهور: ليس له أن يزوجها من نفسه إلا أن تأذن له معيناً، وأن في المذهب قولاً آخر: أن له ذلك وإن لم تعين. والاحتمال الأول أقرب إلى هذه المسألة؛ لأن هذه المسألة تقدمت.

فإن قيل: إنما أعادها ليؤخذ منه القول الشاذ. قيل: لا شك أن الأول أكثر فائدة؛ لأنه يؤخذ منه حكم مسألة مستقلة. ويقع في بعض النسخ ما نصه: بالإذن على المشهور معيناً، وحينئذ يتعين حمله على الوجه الثاني؛ لأن قوله: [289/أ] معيناً؛ من صلة المصدر وهو الإذن، فلو حملناه على الأول لزم الفصل بين المصدر وصلته بأجنبي، وهو غير جائز. فروع: الأول: الوصي يلحق بمن ذكر، لكن كره مالك لوصي الأب أن يزوج محجورته من نفسه أو من ولده. قيل: ومقدم القاضي أشد في الكراهة، فإن فعل نظر السلطان فيه، فإن كان غبطة لها أمضاه. محمد: ينظر فيه عند البناء، وروى ابن حبيب عن مالك أنه يكمل لها صداق المثل. وقال ابن حبيب: لا يجوز ذلك ابتداءً، فإن فعل نظر في ذلك السلطان، كما قاله مالك في اشترائه مال محجوره. وقال غير واحد: وإذا تزوج فلابد أن يضمن العقد معرفة السداد، ومعرفة الإيصاء والصداق؛ لأن الوصي يتهم في محاباة نفسه. الثاني: إذا وكل الأب من يعقد نكاح ابنته البكر فهل على الوكيل أن يستأمرها أم لا؟ روايتان، والذي ذهب إليه عبد الملك والتونسي أنه لا يستأمرها ولا يسمع منها. وفي وثائق ابن عفيف: ليس للوكيل تزويجها إلا بسامعين برضاها إلا أن يقول الأب في توكيله أنه وكيله وكالة تامة مفوضة أقامه بها مقام نفسه، وأنزله منزلته، فلا يحتاج إلى السماح حينئذ. وظاهر الخلاف أنه في حضور الأب وغيبته، لأن ابن عات قال: إذا غاب الأب بعد التوكيل كان ذلك يعني دخول الخلاف أحرى. الثالث: إذا كان الولي في غير بلد وليته، فأراد أن يوكل على عقد نكاحها، وطلب من القاضي الخطاب، فعلى القاضي أن يكلفه إثبات ولايته ومنزلته من المرأة، فإذا ثبت ذلك عنده فحينئذ يخاطبه.

الرابع: إذا طال أمد الوكالة ستة أشهر ونحوها لم يعقد حتى يجددها إلا أن ينص الموكل أنها بيده على الدوام. وَالإِشْهَادُ شَرْطُ فِي جَوَازِ الدُّخُولِ لا فِي صِحِّةِ الْعَقْدِ لما في المدونة من رواية ابن وهب أن حمزة بن عبد الله خطب إلى سالم بن عبد الله ابنته فزوجه إياها وليس معهما غيرهما. قال فيها: وقد ذكر مثل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لرجل: "ألا أنكحك آمنة بنت ربيعة بن الحارث. فقال: بلى يا رسول الله. فقال: قد أنكحتك إياها. ولم يشهد". قال ابن المواز: وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين زوج ابنته سودة من عروة. أخبرنا به غير واحد، وما ذكرناه من لفظ المدونة آمنة، كذلك رواه جماع’. عياض: والمعروف (أميمة)، بميمين. وقد قيل في غير المدونة (أمامة)، وكذلك ذكره البغوي في هذا الخبر بعينه، والبخاري في تاريخه، وإذا لم يشترط الإشهاد في العقد فهو أفضل. ابن عبد السلام: ويتخرج في المذهب قول آخر بعدم صحة النكاح الذي لم يشهد فيه من الخلاف في تفسير نكاح السر. انتهى. وفي التنبيهات: مشهور مذهبنا أن الإشهاد ليس بشرط في صحة العقد. وفي كتاب القزويني عن مالك ما ظاهره أن الإشهاد شرط في العقد كقول المخالف. اللخمي وابن يونس وابن رشد: ويستحب إعلان النكاح وإشهاره وإطعام الطعام عليه وروى الترمذي والنسائي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف". وروي أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت".

فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَهُ فُسِخَ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ. وقِيلَ: وَيُحَدَّانِ إِذَا ثَبَتَ الْوَطْءُ مَا لَمْ يَكُنْ فَاشِياً. وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: مَا لَمْ يَجْهَلا ..... ما ذكره من الفسخ بطلقة بائنة نص عليه مالك في الموازية، وهو واضح. أما كونه بطلاق؛ فلأن عقده صحيح عندنا، وأما كونها بائناً فلأنه من الطلاق الحكمي. وقاعدة المذهب أن كل طلاق يوقعه الحاكم فهو بائن إلا طلاقين: طلاق المولي وطلاق المعسر بالنفقة. ودلت الواو في قوله (وقِيلَ: وَيُحَدَّانِ) على أن هذا القائل يضم إلى الفسخ بطلقة بائنة الحد إن ثبت الوطء بإقرار أو بينة، ما لم يكن فاشياً. وأن ابن القاسم لا يعتبر الفشو في إسقاط الحد، وإنما يعتبر جهلهما بحكم الشهادة خاصة. ومقتضى كلامه أن المذهب سقوط الحد عنه في كل صورة، وهذا شيء لا يقوله أحد، بل إن حصل الفشو والجهل فالاتفاق على سقوط الحد، وإن انتفيا فالاتفاق على ثبوته. قاله ابن بشير وابن عبد السلام. واختلف إذا وجد أحد الوصفين، والقول باعتبار الفشو في إسقاط الحد لابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب، والقول باعتبار الجهل لابن القاسم كما ذكر المصنف. ابن الماجشون وأصبغ: والشاهد الواحد لهما بالنكاح أو باسم النكاح كالفشو في إسقاط الحد. وَلا تُفِيدُ شَهَادَةُ الْوَلِيِّ لهما كَمَا لا تُفِيدُ عَلَى إِذْنِهِا يعني أن الولي إذا شهد لهما بالتزويج لا تفيد شهادته شيئاً؛ لأنه يتهم على إرادة الستر على وليته، وكذلك أيضاً لا تعتبر شهادة الولي على أنها أذنت له؛ لأنه يتهم على تصحيح فعل نفسه. وَنِكَاحُ السِّرِّ بَاطِلُ لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن نكاح السر.

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْمُتَوَاصَى بِكَتْمِهِ وإِنْ أَشْهَدَا فِيهِ، [289/ ب] فَيُفْسَخُ بَعْدَ الْبِنَاءِ وَإِنْ طَالَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وقِيلَ: هُوَ الَّذِي دَخَلَ ولَمْ يُشْهَدْ فِيهِ ..... المشهور مذهب المدونة أن نكاح السر هو المتواصى بكتمه ولو كانوا مائة شاهد. وقال يحيى بن يحيى: لا يكون نكاح سر ما عقد بشاهدين، وإنما هو ما عقد بغير بينة، أو بشهادة امرأتين، أو رجل وامرأتين. يريد: ودخل فيه من غير شهادة، وإنما يفسد على المشهور إذا أوصى بالكتمان قبل العقد. ولو أمر الشهود بالكتمان بعد العقد فإنه صحيح ويؤمرون بإشهاره. وأشهب: وهذا إذا لم تكن له نية، وإن نكح على نية الاستكتام بعد العقد فليفارق. وقال أصبغ: لا أرى أن يفسخ إذا لم يكن إلا ضمير نفسه؛ لأنه لا بأس أن يتزوج ونيته أن يفارق. واختلف هل الأمر بذلك على قول أشهب استحباب وهو مذهب ابن رشد؟ أو وجوب وهو مذهب التونسي؟ ابن حبيب: وإن اتفق الأولياء والزوج على الكتمان، ولم يعلموا الشهود فهو نكاح سر. مالك في الواضحة: ولا فرق بين أن يسالوا الشهود أن يكتموا ذلك من امرأة أخرى، أو يكتموا ذلك في المنزل الذي نكح فيه، ويظهروه في غيره، أو يكتموا ثلاثة أيام ونحوها، وذلك كله نكاح سر. وإذا فرعنا على المشهور فلو وقع، ففي البيان: المشهور: يفسخ بعد البناء، إلا أن يطول بعده فلا يفسخ. وكذلك نقل ابن حبيب عن مالك وأصحابه، قال: وقيل أن النكاح صحيح يثبت قبل البناء وبعده، ويؤمر الشهود بإعلان النكاح، وهو قول يحيى بن يحيى. انتهى. وهذا لا يحسن أن يكون مقابل المشهور في كلام المصنف، لأن يحيى يخالف في تفسير نكاح السر ابتداءً، والخلاف الذي حكاه المصنف إنما هو مبني على المشهور، وإنما مقابل.

المشهور في كلام المصنف على رأي اللخمي أنه يمضي بالعقد. فإن قيل: هل يصح أن يكون الشاذ في كلام المصنف ما قاله ابن الجلاب أنه يعلن في ثاني حال ويصح؟ قيل لا، لقوله بعد ذلك: إذا لم يرد به نكاح السر. وصاحب الكافي وإن لم يذكر هذه الزيادة فينبغي أن يقيد كلامه بها؛ لأنه كثيراً ما يأخذ من الجلاب. وفي الاستلحاق عن بعض من أكد به أنه رأى لأصحاب مالك أن نكاح السر جائز، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. انتهى. وهذا يحتمل أن يكون إشارة إلى قول يحيى، ولم أر من قال بالفسخ بعد البناء والقول كما قال المصنف، غير أنه وقع في المدونة والمبسوط لمالك أنه يفسخ وإن دخلا. وفي سماع أشهب: يفرق بينهما وإن دخل بطلقة، ولها صداقها إن كان أصابها. ولم يقل فيه (وَإِنْ طَالَ) كالمصنف. ابن راشد: ولعل المصنف رأى هذه الرواية فحملها على الإطلاق. خليل: ويؤخذ من كلام صاحب الاستلحاق أن ما وقع لمالك في سماع أشهب محمول على إطلاقه ونص أبو الحسن على أن ما حكاه ابن حبيب تفسير للمدونة، وكذلك أشار إليه المازري ونص على أن ما وقع في المبسوط يقيد أيضاً بعدم الطول بعد البناء. وقد ظهر لك أن قوله (عَلَى الْمَشْهُور) راجع إلى قوله: (بَعْدَ الْبِنَاءِ) وأن مقابله للخمي، ولا يرد إلى قوله: (وَإِنْ طَالَ) وإن كان ابن عبد السلام زعم أنه الأولى، قال: وقد ذكر الخلاف كذلك غير واحد. لأنه تبين لك أن المشهور لا يفسخ بعد البناء والطول، ولكن يبقى. الشاهدان إن جهلا ذلك، وإن أتيا بمعرفة أنه لا يصح عوقبا.

وَرَجَعَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لا يُفْسَخُ نِكَاحُ الْخِيَارِ بَعْدَ الْبِنَاءِ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لِلْوَلِيِّ أَوْ لَهُمْ بِخِلافِ النِّكَاحِ إِلَى أَجَلٍ ..... يعني: أن نكاح الخيار ممنوع؛ لأن الخلاف في الفسخ بعد البناء مستلزم للمنع قبله. اللخمي: وعلى القول بإجازة الخيار في الصرف اليوم واليومين يجوز مثل ذلك هنا، والنكاح في هذا أوسع من الصرف؛ لأن النكاح غير منعقد حتى تمضي أيام الخيار. وقال: ويجوز على خيار المجلس وبعد الافتراق فيما قرب، وهو في هذا أوسع من الصرف. قال صاحب الاستلحاق: ومن شيوخنا من يقول: إن كان الخيار في المجلس، فلم يختلف أصحابنا في جوازه، وإن كان الخيار يفترقان عليه كالبيع، فلا يختلف أصحابنا في منعه. ولابن القاسم في الموازية: إن شرط لها مشورة فلان الشيء القليل وهو حاضر بالبلد ويأتي من فوره جاز. وأخذ ابن القاسم بالقول المرجوع إليه أنه إنما يفسخ قبل البناء، وكان أولاً يقول بالفسخ أيضاً بعده، وهو أظهر؛ لأن فساده في عقده. قال في المدونة: ولها المسمى دون صداق المثل. عياض: وفي الأسدية لها صداق المثل. وقوله: (بِخِلافِ النِّكَاحِ إِلَى أَجَلٍ) يعني فإنه يفسخ بعد البناء باتفاق، وهو نكاح المتعة بغير طلاق. وقيل: بطلاق، ويعاقب الزوجان ولا يبلغ بهما الحد، والولد فيه لاحق، وهل لها المسمى بالدخول أو صداق المثل؟ قولان. اللخمي: والأحسن المسمى لأن فساده في عقده. فرعان: الأول: قال مالك: [290/ أ] لا خير في نكاح النهارية؛ وهو أن يتزوج على أن لا تأتيه إلا نهاراً أو ليلاً. ابن القاسم: ويفسخ ما لم يدخل، فإن دخل ثبت ولها صداق المثل ويسقط الشرط.

قال في البيان: وهو الذي يأتي على مذهب المدونة، وبه قال أصبغ، وحكاه عن مالك وأصحابه. وقال عيسى: يفسخ قبل الدخول وبعده. واختلف: هل لها صداق مثلها أو المسمى؟ والقول بصداق المثل أظهر لما في الشرط من التأثير في الصداق، ومن أهل العلم من يجيز نكاح النهارية، وهو قول الحسن وعطاء، ومنهم من يكرهه، وهو قول الحكم وابن سيرين. انتهى. والفرق بينه وبين نكاح المتعة على قول ابن القاسم أنه دخل هنا على أن يكون النكاح بيده إلى أن يموت. الثاني: أن يتزوج المسافر المرأة ليستمتع بها، ويفارقها إذا سافر، فإن شرطا ذلك فهو متعة، وإن لم يشترطاه ولكن فهمت المرأة ذلك، ففي جوازه ومنعه قولان لمالك ذكرهما اللخمي وغيره. مالك: وإن تزوج لغربة أو ليقضي إربه ثم يفارق فلا بأس، وإن كان من النساء من لو علمت بذلك لم ترض. وَفِي إِنْ لَمْ يَاتِ بِالصَّدَاقِ إِلَى أَجَلِ كَذَا قَوْلانِ: مِثْلُهُ، وجَائِزٌ (مِثْلُهُ، وجَائِزٌ) تفسير للقولين، والضمير المضاف إليه مثل عائد على نكاح الخيار، ويتبين لك ذلك بكلامه في المدونة، ونص التهذيب: ومن نكح على أن له الخيار أو للولي أو للزوجة أو لجميعهم يوماً أو يومين لم يجز، وفسخ قبل البناء لأنهما لو ماتا قبل الخيار لم يتوارثا، فإن بنى بها ثبت النكاح وكان لها المسمى. وكذلك الجواب في من تزوج المرأة على أنه إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا، وإلا فلا نكاح بينهما. وقد كان مالك يقول فيها: إن النكاح يفسخ بعد البناء؛ لأن فساده في عقده. ثم رجع؛ فقال: أرى أن يثبت بعد البناء؛ فقول المصنف: (مِثْلُهُ) هو تشبيه

بالمشهور والذي رجع إليه مالك؛ لأنه قد تقدم أن المصنف إذا قدم مشهوراً ثم شبه فإنما يشبه في المشهور، ويبعد أن يريد بمثله جريان القولين، إذ لا يقال إن القول الأول في المسألة قولان، وإنما يحسن ذلك في الطريقة. ولمالك في الموازية في إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا فلا نكاح بيننا: أنه يفسخ قبل البناء، ويثبت بعده بصداق المثل. فجعل لها صداق المثل خلاف ما في المدونة. قال في البيان: والخلاف إنما هو إذا أتى الزوج بالصداق قبل الأجل المشروط، وإن لم يأت الزوج بالصداق حتى انقضى الأجل أو حتى انقضت أيام الخيار فلا نكاح بينهما قولاً واحداً. وقول المصنف: (وجَائِزُ) لا يؤخذ منه هل يبطل الشرط أم لا؟ وقد حكى في البيان الأول عن أشهب، وذكر عنه أنه قال: عليه المسمى. وحكى الثاني- أي أنه يجوز ويلزمه الشرط- عن سحنون، وقال: ومثله روى أشهب عن مالك. وقد روي مثله عن ابن القاسم وأشهب وهو أظهر الأقوال. وفهم اللخمي والأكثر المدونة على أن النكاح منعقد. وحكى ابن عبد السلام عن بعضهم أنه فهمها على أن النكاح منحل، وإنما ينعقد عند إتيان الأجل، وليس بصحيح؛ لأنه لو لم ينعقد النكاح لم يقل مالك يفسخ؛ لأن فسخ غير المنعقد لا يصح؛ ولأنه لو كان كذلك لم يأت في المدونة بإثرها بمسألة تأجيل العقد؛ لأنها على هذا هي في المعنى. فإن قيل: قد نص مالك فيمن اشترى سلعة على أنه إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا فلا بيع بينهما على صحة البيع وبطلان الشرط، فلم لا يكون هنا كذلك؟ قيل: لأن الخيار ينافي عقد النكاح بخلاف البيع. فرع: إذا قال في عقد النكاح: إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا فأمرها بيدها؛ فروى ابن القاسم عن مالك في الموازية يفسخ قبل البناء ويثبت بعده. قال في البيان: وإذا ثبت بعده بطل الشرط وكان فيه المسمى.

وروى أشهب عن مالك أنه جائز والشرط لازم. وقاله ابن القاسم وسحنون وأصبغ، وهو قول المدنيين. قال في البيان: وهو أظهر. ومثله روى أشهب عن مالك، وروى أيضاً مثله عن ابن القاسم. وَكَذَلِكَ تَاجِيلُ الْعَقْدِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِثْلَ أَنْ يَتَرَاضَى الثَّلاثَةُ عَلَى أَنَّهَا زُوِّجَتْ بَعْدَ شَهْرٍ .... قوله (كَذَلِكَ) أي: مثل نكاح الخيار في المنع تأجيل العقد على المشهور. و (الـ) في (الثَّلاثَةُ) للعهد، والمراد بالثلاثة الزوج والزوجة والولي. وقلنا للعهد لتقدم ذكرهم في نكاح الخيار. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون المعهود هنا المعهود الذهني، وذلك لأنه علم أن النكاح لا يتم إلا بالثلاثة. والمشهور مذهب المدونة؛ ففيها: ومن قال لامرأة: إذا مضى شهر فأنا متزوجك. فرضيت هي ووليها، فهذا النكاح باطل لا يقام عليه. واختلف في فهمها، ففهم الأكثرون أن المنع إنما هو لتوقيت الإباحة بزمان دون زمان، فكان كالمتعة، وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف، ونقله صاحب النكت عن غير واحد من القرويين. وفهمها صاحب البيان على أنه ليس هناك عقد منبرم، وإنما هو عقد فيه خيار، والبطلان فيه إنما هو من معنى [290/ ب] المسألتين اللتين قبله، ويقوي ذلك ما وقع في أصل المدونة: فأنا أتزوجك. والعقود إذا وقعت بصيغة المضارع لا يلزم بها حكم، وغايتها أن تكون وعداً، ولو كان العقد منبرماً لقال: قد تزوجتك. وللأول أن يقول: لا فرق هنا بين الماضي والمضارع؛ لأنهما واقعان في جواب الشرط، والشرط وجوابه لا يكونان إلا مستقبلين في المعنى. ابن راشد: ولم أقف على مقابل المشهور.

الزَّوْج يشترط فيه شروط الصحة وشروط اللزوم، فشرط الصحة أن يكون مسلماً لامتناع استيلاء الكفار على المسلمين، وأن يكون خالياً من الموانع التي يأتي بيانها في باب الزوجة كالإحرام والمرض. وأن يكون مميزاً، فلا ينعقد نكاح المجنون والصغير غير المميز. وفي انعقاد نكاح السكران خلاف. ثم هل الخلاف فيمن معه تمييز؟ وأما من لا تمييز معه فلا يلزمه بالاتفاق والخلاف فيمن لا ميز له، وأما من معه ميز فيلزمه طريقان، وألا يكون خنثي مشكلاً، فإن كان كذلك فالمنصوص أنه لا ينكح ولا ينكح. ابن راشد: وقيل يطأ السراري. ابن أخي هشام: فإن مات اشتريت له جارية تغسله. واستحسنه أبو عمران. وأما شروط اللزوم: فالرشد والبلوغ والحرية، فإن تزوجوا بغير إذن وليهم فله الرد، وكذلك أيضاً يشترط الطوع. محمد: وأجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، ولا يجوز المقام عليه. وفي قياس بعض مذهب مالك أنه يجوز للمكره إمضاؤه آمناً مطمئناً، وفي قياس بعض مذاهبهم أنه يجوز بحدثان ذلك وإلا لم يجز، وكذلك أولياء المرأة، وإنما للمكره أن يجبر على هذا القول على المسمى، وإن كان أكثر من صداق المثل؛ لأن بذلك رضيت، فإن لم يكن وطئ- يعني بإذنها- وكذلك يكون لولي المرأة إجازة نكاحها على ما رضي به وإن كان أقل من صداق مثلها. وَيُزَوِّجُ الأَبُ والْوَصِيُّ والْحَاكِمُ الْمَجْنُونَ والصَّغِيرَ إِنِ احْتَاجَ يعني: لمن له النظر على الصغير أن يزوجه، سواء كان له النظر بالأصالة وهو الأب، أو بنيابة وهو الوصي والحاكم.

عياض: ولا خلاف في جواز إنكاح الأب ابنه الصغير والمجنون، وقيد ذلك في كتاب الخلع، وذلك بما إذا كان فيه غبطة ورغبة كنكاحه من المرأة الموسرة. وفي إجبار الوصي الصغير ثلاثة أقوال: ألحقه بالأب في المدونة، وكذلك وصي الوصي، وقال في الموازية: ليس في هذا نظر، ولا يعجبني. وفرق المغيرة فقال: إن كانت المرأة ذات شرف أو ابنة عم فله الإجبار وإلا فلا. عياض: وإليه يرجع ما في المدونة والموازية بدليل كلامه في كتاب الخلع. خليل: وأجرى بعضهم هذه الثلاثة في الأب. ابن راشد: ولم أر في الحاكم خلافاً، وينبغي أن يجوز له ذلك بلاخ خلاف، لأن الحاكم لا يفعل ذلك إلا بعد أن يثبت عنده أن في ذلك مصلحة. عياض: ولا يزوج الصغير غير الأب والوصي على المشهور من المذهب، إلا ما وقع في كتاب يحيى بن إسحاق. ولابن كنانة في أخٍ زوج أخاً له صغيراً يليه، وليس بوصي عليه أنه يمضي ويلزمه، وذكر عن مالك فسخه إلا أن يطول بعد الدخول. وأما المجنون فلمالك في مختصر ما ليس في المختصر: أعجب إليَّ ألا يزوج المغلوب على عقله، وما رأينا أحداً زوجه. وقال اللخمي: إن خيف منه الفساد زوج لأن الحد وإن سقط عنه فلا يعان على الزنا. وإليه أشار بقوله: (إِنِ احْتَاجَ). وَفِي جَبْرِهِمْ السَّفِيهَ قَوْلانِ القول بالجبر لابن القاسم في العتبية وابن حبيب، وأخذ من قوله في المدونة في النكاح الأول آخر مسألة من يزوج ابنه البالغ أنه لا يلزمه إذا كان الابن قد ملك أمره. ونص الباجي على أنه المشهور، والقول بعدم الجبر هو منصوص عليه في كتاب إرخاء الستور، وهو قول عبد الملك وصححه صاحب النكت وغيره، وهو الصغير لأنه يلزمه الطلاق، فإذا أجبر على ما لا يجب طلق، ويلزمه نصف الصداق من غير منفعة حصلت له.

وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ فَقِيراً فَالصَّدَاقُ فِي مَالِ الأَبِ حَيّاً وَمَيِّتاً مُعَجَّلُهُ ومُؤَخَّرُهُ، ولا يَنْتَقِلُ إِنْ أَيْسَرَ. وقِيلَ: إِلا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى الابْنِ ..... لما ذكر تزوج الصغير ذكر على من يكون الصداق، وذكر أن الابن إذا كان فقيراً أن الصداق على الأب سواء اشترط على الأب أو على الابن، أو لم يشترط على واحد منهما وقيل: إن بين أنه على الابن فهو عليه. واكتفى المصنف بذكر الخلاف مع الاشتراط على الابن لأنه إذا كان المشهرو أنه على الأب ولو اشترط على الابن فلأن يكون على الأب مع عدم الاشتراط، أو اشترط أن يكون عليه من باب أولى. وما ذكره أنه المشهور هو نص قول ابن القاسم في الموازية، وهو ظاهر المدونة؛ لأنه أطلق فيها كونه أنه على الأب، ووجهه بأنه لا مصلحة للابن في تعمير ذمته بالصداق مع فقره وعدم حاجته في الحال. والشاذ لابن القاسم، وبه قال أصبغ وابن حبيب. المتيطي: فهم جماعة المدونة عليه، وب جرى العمل عند الشيوخ، أما إن كانا معاً [291/ أ] عديمين فروى أصبغ: لا شيء منه على الأب. الباجي: والذي يقتضيه المذهب أنه مع الإبهام على الأب لأنه يتولى العقد. واحترم بقوله (فَقِيراً) من الغني، فإنه فيكون على الابن سواء اشترطه عليه أو لم يشترطه إلا أن يشترط أنه على الأب، فيكون عليه على المعروف. وحكى بعض الموثقين أن الابن إذا كان له مال وحمل الأب الصداق عنه أن المرأة تخير إن شاءت أخذت به الحامل أو المحمول عنه، وكان هذا نحى به منحى الحوالة إذا كانت على غير أصل دين، فإنها تنقلب حمالة على المعروف. وتخييره المرأة على هذا مبني على أحد قولي مالك أن لرب الدين أن يتبع الضامن أو المضمون عنه كما سيأتي. وقوله: (الصَّغِيرَ) احترازاً من الكبير فإنه يكون على الابن، يريد: إذا كان رشيداً وأما السفيه فكالصغير نص عليه اللخمي وغيره، وما قلناه من أن الصداق على الرشيد

هو قول يحيى بن سعيد في المدونة على فهم أكثر الشيوخ؛ لأن فيها: قال يحيى بن سعيد: ومن زوج ابنه صغيراً أو كبيراً ليس له مال، فالصداق على الأب عاش أو مات. فتأوله أكثرهم على الكبير السفيه، وكذلك نص عليه في الواضحة. وقال ابن يونس: ذلك سواء في السفيه والرشيد؛ لأن الأب تولى العقد، كالوكيل يشتري سلعة فالثمن عليه إلا أن يقول: هو ينقدك دوني. عياض وغيره: وهو ضعيف؛ لأن حكم الوكالة في النكاح مخالف لحكم الوكالة في البيع؛ لأن الوكيل إنما يلزمه دفع الثمن؛ لأنه يملك قبض العوض. فرع: ولو زوج الأب الرشيد فقال الابن: إنما ظننت أن يكون على الأب. وقال الأب: إنما أردت أن يكون على الابن، فقال مالك: يفسخ النكاح ولا شيء على واحد منهما. محمد: بعد أن يحلفا، ومن نكل منهما كان الصداق عليه. ابن بشير: وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً لقول مالك، ويحتمل أن يكون خلافاً، ويجري على حكم أيمان التهم؛ لأن الزوجة ووليها لا يحققان الصداق على أحد منهما. وقال اللخمي: أرى إن نكلا أن يثبت النكاح ويغرم كل واحد منهما نصف الصداق، وإن لم ينظر في ذلك حتى دخل الابن حلف الأب وبرئ، ثم إن كان صداق مثلها مثل المسمى أو أكثر غرمه الزوج بغير يمين، وإن كان المسمى أكثر حلف الزوج وغرم صداق المثل. فروع: الأول: لو كان الصغير موسراً بالبعض دون البعض، فقال الباجي: لم أر فيه نصاً، وعندي أنه يكون في ماله من المهر قدر ما هو مليء به، ويكون في الزائد حكم من لا مال له.

الثاني: إذا زوج الصغير- ولا مال له- نكاح تفويض، ولم يفرض لها حتى بلغ فالصداق في مال الأب حياً وميتاً، قاله عيسى؛ يريد لأن الصداق كان ثابتاً حين العقد على الأب، وإنما تأخر تعيينه. الثالث: إذا أذن لولده الفقير فعقده، وكتب الصداق ثم مات الزوج فطلبت الزوجة صداقها من الأب، فقالت: إذنك له في العقد كعقدك عليه. قال ابن راشد: نزلت عندنا بقفصة، فأفتى الشيخ عبد الحميد بن أبي الدنيا بألا شيء على الأب، وهو الظاهر، وقد قالوا في السيد يأذن لعبده أنه لا يكون ضامناً بمجرد الإذن. انتهى. الرابع: إذا زوج الصغير ولا مال له، وشرط الأب في عقد نكاحه أن يعطيه داراً أو مالاً، فقال بعض شيوخنا: الصداق على الابن لأنه صار موسراً بما أعطاه الأب. قال: وفي المسألة نظر؛ لأنه لم يتقدم يسره بهذا المال قبل النكاح. ابن يونس: والصواب ما قاله الشيخ؛ لأنه معلوم أنه لم يتم العقد إلا بيسره فهو كما لو أيسر قبل العقد. فَلَوْ بَلَغَ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ رَجَعَ إِلَى الأَبِ النِّصْفُ يعني: حيث كان الصداق على الأب فبلغ الابن فطلق المرأة قبل البناء، فإن النصف يرجع إلى الأب؛ لأنه لم يلزمه إلا على حكم الصداق. وقيل: وهذا إنما هو على القول بأن المرأة إنما تستحق بالعقد النصف، وأما على القول بأنها تملك الجميع فالقياس أن يرجع نصف الصداق للزوج، وقوى هذا القائل هذا التخريج، باختلاف ابن القاسم وابن الماجشون إذا خالع الابن قبل البناء على رد جميع الصداق، فقال ابن القاسم في الواضحة: جميعه للأب. وقال ابن الماجشون: للأب النصف وللزوج النصف.

اللخمي: والأول أصوب، لأن قصد الأب بحمل الصداق أن يراه ذا زوجة، فإن لم يتم ذلك عاد الصداق. قال في المتيطية: وبقول ابن القاسم الحكم. ابن حبيب: ولو ألفي النكاح فاسداً لرجع الجميع للأب. وَمِثْلُهُ مِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وضَمِنَ الصَّدَاقَ، وذُو الْقَدْرِ يُزَوِّجُ رَجُلاً وَيَضْمَنُ الصَّدَاقَ يعني: إذا طلق الزوج في هاتين المسألتين قبل الدخول، فإن النصف يرجع إلى الزوج. وَلا يَرْجِعُ أَحَدُ مِنْهُمْ لأَنَّها حَمْلُ صِلَةٍ ولَيْسَ كَحَمَالَةِ الدَّيْنِ، ولا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْ فَرَسَكَ مِنْهُ والثَّمَنُ عَلَيَّ، أَوْ بِعْهُ بِالْعَشَرَةِ الَّتِي وَهَبْتُهَا لَهُ وعَلَيَّ دَفْعُهَا إِلَيْكَ فَفَعَلَ فَلا شَيْءَ عَلَى الْمُبْتَاعِ، ولا رُجُوعَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ فِي مَوْتٍ وَلا فَلَسٍ ..... قوله: (مِنْهُمْ) أي: من [291/ ب] المزوج ابنه الصغير والمزوج ابنته. في ذي القدر؛ يعني: لا يرجع هؤلاء الثلاثة بما أدوا عن الزوج من نصف الصداق؛ لأنه حمل صلة وليس كحمالة الدين. والحمل: عطية لا رجوع فيها لمعطيها، ولا يطلب فيها إلا القربة. والحمالة هي الضمان. ولا يصح أن يحمل كلام المصنف: (وَلا يَرْجِعُ أَحَدُ مِنْهُمْ) على معنى لا رجوع لأحد عن حمله؛ لأن قوله: (ولَيْسَ كَحَمَالَةِ الدَّيْنِ) يرده قوله: (ولا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ) يحتمل أن يريد لا رجوع للخروج في المسائل الثلاثة على الزوج بما أدى. لكنه يبقى تكرار مع قوله أولاً: (وَلا يَرْجِعُ أَحَدُ مِنْهُمْ) ويحتمل أن يكون المعنى ولا شيء على الزوج؛ أي للزوجة. ويكون ذكره لدفع توهم أن يقال أن الزوجة ترجع على الزوج لكونه لم يدفع لها شيئاً من عنده. ثم شبه ذلك بقوله (كَمَا ... إلخ) ثم إن وقع النص على الحمل أو الحمالة فلا إشكال. ابن عبد السلام: وإلا فأكثر الشيوخ يقولون: إن ما كان في العقد محمول على الحمل، وما كان بعده مختلف فيه هل على الحمل أو على الحمالة؟

وذكر بعض الموثقين أنه مختلف فيه في العقد، فإن مذهب ابن القاسم أنه محمول على الحمل. وروى عيسى أنه على الحمالة، وزعم بعضهم أن هذا الخلاف إنما هو في لفظ الضمان. انتهى. وهذا الأخير هو لصاحب البيان، قال: وإن كان بلفظ الضمان وإن كان في عقد النكاح أو البيع فمذهب المدونة وابن حبيب وابن القاسم في العتبية أنه محمول على الحمل حتى يتبين أنه أراد الحمالة، وروي عن ابن القاسم أنه على الحمالة حتى يتبين أنه أراد الحمل، ولو ضمن بها الصداق بعد عقد النكاح أو الثمن بعد عقد البيع لحمل على الحمالة حتى ينص أنه أراد الحمل اتفاقاً. انتهى. وعلل ابن يونس المنسوب للمدونة بأن العرف في ضمان الصدقات أنه على الحمل حتى ينص على الحمالة، وذكر أنه لا فرق بين أن تنازع الزوجة الضامن أو ورثته، ثم إن كان بلفظ الحمل في عقد البيع أو النكاح لزم، ولم يفترق إلى حيازة إلا على ما ذكر ابن العطار من الخلاف في النكاح، وذكر مثله في أصل عقد البيع. واختلف إذا لفظ بذلك بعد عقد البيع أو النكاح؛ فعن ابن القاسم ومثله في الواضحة أنه يلزمه في الحياة ويسقط عنه بعد الوفاة كالهبة إذا لم تقبض. وقال ابن الماجشون: ذلك لازم له في الحياة وبعد الوفاة كالحمالة. قال: لأنها ثمن لما ترك المحمول له من ذمة غريبمه من حقه. اختلف كذلك في لفظ الضمان إذا لفظ به في عقد النكاح، وأما بعده أو في عقد البيع أو بعده فهو محمول على الحمالة. واختلف في الغريم المتحمل عنه على ما هو محمول، فقيل: على الملاء. وقيل: على العدم.

فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ وتَعَذَّرَ أَخْذُهُ فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ أي: فإن لم يدخل الزوج وتعذر أخذ الصداق من الحامل فللمرأة منع نفسها من الدخول حتى تقبض الصداق؛ لأنها دخلت على إتباع غير الزوج، لا على تسليم سلعتها بغير عوض، وهذا قول مالك وابن القاسم. وهكذا الحكم في السلعة إذا بقيت بيد البائع حتى فلس الحامل، أو مات ولم يترك وفاءً، نص عليه أحمد بن خالد وخالفه أبو عمران، وقال: ليس للبائع أن يحبس السلعة لأن السلعة المبيعة بثمن إلى أجل لا تكون رهناً بالثمن المؤجل. هكذا قيل: والأقرب أنه ليس بخلاف بل كلام أبي عمران مخصوص بما إذا كان البيع إلى أجل، وكلام أحمد بن خالد بما إذا كان البيع نقداً، والله أعلم. وقال اللخمي: إن كان الحمل برضاها لم يكن لها منع نفسها، لأنها تحولت بصداقها في ذمة الحامل، فإذا فرعنا على المذهب ومنعت الزوجة نفسها فدفع الزوج الصداق رجع به على الحامل. بعض الموثقين: ولو أن المرأة أباحت نفسها حين أعدم الحامل ثم مات عن غير مال لم يكن لها قبل زوجها شيء، لأنها قد بذلت نفسها ورضيت بإسقاط الطلب عنه. وكما جعلوا للمرأة منع نفسها حتى تقبضه جعلوا للزوج الخيار بين دفع الصداق والدخول أو يفارق ولا شيء عليه، ولم يجبروه على دفعه وإن كان له مال. فرع: فلو فارق الزوج ومات الحامل اتبعت المرأة تركته متى يطرأ له مال على قول مالك وابن القاسم. وعلى قول ابن نافع: لا شيء لها، ويعود ميراثاً. قاله ابن عبد السلام وغيره. اللخمي: فلو كان صداقها مائة؛ النقد نصفها، والمؤخر نصفها، وخلف الحامل مالاً أخذت المرأة مائة لأن بالموت يحل المؤجل، فإن لم يخلف شيئاً فللزوج إذا أتى بالمعجل أن

يبني بها، وإن خلف خمسين أخذتها وكان للزوج أن يدخل بها إذا دفع خمسة وعشرين؛ لأن الخمسين المأخوذة نصفها للخمسين المؤخرة. قال: ويختلف إذا حاصصت المرأة الغرماء، ونابها من المائة خمسون، ثم فارقها الزوج هل ينتقص الحصاص الأول أم لا؟ فمن قال: إن الصداق وجب بالعقد لم ينتزع شيئاً، ومن قال: إنما يجب النصف، قال: عليها أن ترد نصف ما قبضته من المعجل، وهو خمسة وعشرون، ثم تضرب فيها هي والغرماء بما بقي لهم؛ لأنه قد تبين لهم أن دينها [292/ أ] خمسون فقط، وإن كان جميع الصداق مؤجلاً كان للزوج أن يبني بها، ولم يكن لها أن تمنع نفسها كالمشهور فيما إذا حل ما على الزوج، لأنها دخلت هنا على أن تسلم وتتبع ذمة أخرى. فَإِنْ ضَمِنَ فِي مَرَضِهِ فَوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ، فَيَنْظُرُ وَصِيُّهُ فِي بَقَائِهِ وفَسْخِهِ، فَإِنْ صَحَّ لَزِمَهُ وَإِنْ ضَمِنَ لابْنَتِهِ فَوَصِيَّةُ لأَجْنَبِيِّ عَلَى الأَصَحِّ ..... إذا كان الحامل مريضاً فلا يخلو إما أن يكون أبا الزوج، أو أبا الزوجة، أو أجنبياً، فإن كان أبا الزوج فلا يجوز حمله باتفاق، قاله في البيان؛ لأنه وارث ولا وصية لوارث، فإن مات الأب من مرضه نظر الابن إن كان كبيراً، أو وليه إن كان صغيراً، فإن رأى المصلحة له في النكاح أعطى النقد من ماله، وإلا فارق ولم يلزمه شيء، وإن صح الأب ثبت الحمل عليه, ولو دخل بها الابن في مرض أبيه ردت ما أخذته من مال الأب إن أخذت شيئاً وتتبع به الزوج، قاله مالك. محمد: فإن لم يبق بيدها من ذلك ربع دينار منع منها حتى يدفع ربع دينار. الباجي: يريد لأنها لما سلمت نفسها فليس لها الامتناع إلا لحق الشرع. ابن عبد السلام: وذكر بعضهم في هذا الأصل- أعني هل يحال بينهما أو لا- قولين، وهذا كله مبني على صحة النكاح. وفي المدونة في هذا النكاح قولان: الأول: أن النكاح جائز.

والثاني: قال: لا يعجبني هذا النكاح. وحمله الأشياخ على أنه يرى فساد النكاح إن وقع، وأنه من الخيار في النكاح، إلا أنه خيار أوجبه الحكم. واختار اللخمي وغيره الأول، وعليه فرع ابن القاسم في المدونة بقوله: فإن صح الأب لزمه. وأما إن كان الحامل أبا الزوجة ففي الموازية: النكاح صحيح غير مختلف فيه. واختلف في الصداق، فلمالك روايتان: الأولى: أنها وصية للأجنبي فيجوز من ثلثه رواها مطرف وابن الماجشون، وبها قال ابن الماجشون وابن وهب وابن القاسم في رواية أبي زيد. ابن الماجشون: وهذا إذا كان الذي سمى لها وحمله عن زوجها صداق مثلها فأقل. قال في البيان: وأما إن كان أكثر فالزائد على المثل وصية لها، لا تجوز باتفاق إلا إذا أجازه الورثة، فإن لم يجيزوا ذلك كان الزوج مخيراً بين أن يخرجه من ماله، أو يترك النكاح ولا يلزمه شيئ. وهذه هي التي قال المصنف أنها الأصح. والرواية الثانية أن حمله ذلك لا يجوز، لأن ذلك راجع إلى ابنته- رواها ابن القاسم، وبها قال أشهب وأصبغ. بعض الموثقين: وهو مذهب المدونة، وبه الحكم. ومن هنا تعلم الحكم فيما إذا كان الزوج أجنبياً، أو قريباً لا يرث، أو كان زوج البنت وارثاً كابن أخيه، وهو: أن يصح في الأجنبي وغير الوارث، وتكون الوصية من الثلث، ويبطل إذا كان زوج البنت وارثاً لأنه كالابن في المسألة السابقة. فرع مرتب: إذا قلنا بالرواية الأولى ففارق قبل البناء فقال مالك وابن الماجشون: لها النصف من ثلث أبيها ولا شيء للزوج من النصف الثاني. ابن المواز: وهو الصواب. بعض الموثقين: وبه الحكم. وقال ابن دينار: لا شيء لها من تركة الأب لأنه إنما أعطى على أن تدخل بزوجها، فلما طلقها حكمنا في ذلك بحكم الوصية

للوارث. وناقض ابن المواز قول أشهب هنا بأنها وصية للبنت بقوله فيمن أقر في مرضه أنه قبض صداق بنته ولم يدخل بها زوجها، ثم مات الأب فإنه إن ترك مالاً أخذ من ماله. محمد: فلو كانت الأولى عطية لكانت مسألة الإقرار مثلها؛ لأنه إنما يخرج من ماله في المسألتين معاً. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يفرق بينهما بأن مسألة الضمان بني الأمر فيها على المعروف، وظاهر الأمر فيها أن الأب لو لم يضمن لما تزوج الزوج ابنته؛ فالمنفعة عائدة فيها للبنت بخلاف الأخرى. وَلَوْ تَزَوَّجَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ، فَفِيهَا: إِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ مَضَى كَبَيْعِهِ، وأَنْكَرَهُ سَحْنُونُ، وقَالَ: لَيْسَ كَالْبَيْعِ، فَإِنْ رَدَّهُ فَلا مَهْرَ ولا عِدَّةَ وإِنْ وَطِئَ .... يعني: وإن عقد الصبي على نفسه بغير إذن وليه، وقوله: (وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ) كذا ذكره في المدونة في فرض المسألة، ثم أجاب بأنه يجوز إن أجازه الولي قياساً على بيعه وشرائه، وأن للولي إمضاؤه، ورأى سحنون أنه ليس كالبيع، وأنه لابد من فسخه؛ لأن الصبي لا منفعة له في النكاح في الحال بخلاف البيع. وفيه نظر؛ لأن ابن القاسم لا يسلم عدم المنفعة بالنكاح في الحال، ألا ترى أن للأب والوصي أن يجبراه على النكاح، وكان المصنف نسبها للمدونة؛ لأنه لما ذكر قوله: (وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ) في السؤال كان ظاهره اشتراط ذلك، ولا يظهر له كبير فائدة، والأظهر أنه ذكره تنبيهاً بالأشد؛ لأنه إذا لم يلزمه مهر مع كونه يقوى على الجماع فأحرى إذا لم يقو عليه. قوله: (فَلا مَهْرَ) لأنه سلطته وأولياؤها. (ولا عِدَّةَ) لأن وطئه كالعدم. ابن المواز: إذا لم يرد نكاح الصبي حتى كبر وخرج عن الولاية جاز النكاح.

ابن راشد: وينبغي أن ينتقل النظر في ذلك إليه فيمضي أو يرد. وهذه المسألة يدخلها الخيار الحكمي، فانظر هل يجري فيها ما تقدم.؟ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شُرُوطاً مِنْ [292/ب] طَلاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَبَلَغَ فَكَرِهَهَا فَفِي خِيَارِهِ فِي الْفَسْخِ أَوْ لُزُومِهِ قَوْلانِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ يعني: إذا تزوج الصغير لنفسه فشرط عليه ولي المرأة شروطاً من طلاق من يتزوجها، أو تق من يتسرى بها أو نحو ذلك، فأجاز ذلك وليه على تلك الشروط ثم بلغ، فإن أقر الشروط فواضح، وإن كرهها فهل يلزمه أو لا قولان. والقولان أيضاً فيما إذا زوجه أبوه أو وصيه بتلك الشروط، وهو معنى قوله: (كَمَا لَوْ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ) والقول باللزوم لابن وهب في العتبية، وبعدمه لابن القاسم في الموازية، وعلى عدم اللزوم فهل تسقط عنه مطلقاً؟ وهو قول ابن العطار، أو يخير في التزامها فيثبت النكاح – أو عدم التزامها فيفسخ النكاح؟ وهو قول ابن القاسم، وإذا انفسخ فهل بطلاق؟ الباجي: وهو ظاهر قول ابن القاسم. أو بغير طلاق؟ وهو ظاهر قول أصبغ. وعلى الطلاق فهل عليه نصف الصداق؟ وهو قول ابن القاسم في الكتاب، أو لا وهو قوله في المجالس؟ بعض الموثقين: وعلى الأول العمل، وقال بعضهم: العمل على الثاني. ثم الفسخ بطلاق أو غيره إنما هو إذا تمسكت المرأة بشرطها، وأما إن رضيت بإسقاطه فلا كلام لأبيها ولو كانت محجوراً عليها. ورأى ابن العطار أن ذلك في الحجر للأب، واختار الأول ابن الفخار، واحتج بقول مالك في البكر يشترط لها زوجها ألا يخرجها إلا برضاها، فرضيت بترك شرطها أن ذلك جائز ولو كره الأب. ولو فارق قبل علمه بالشروط، فقال محمد: يلزمه نصف الصداق. يريد لأنه لم يفارق لأجل الشروط. وروي عن ابن القاسم: لا شيء عليه. وقد اختلف في هذا الأصل وهو: من طلق ثم علم بعيب هل يرجع بالصداق أم لا؟ وإذا اختلفا فقال الزوج للمرأة: عقدت بالشروط، وأنا

صغير. وقالت الزوجة أو الولي: عقد وأنت كبير. فقال ابن القاسم في العتيبة: على الزوج البينة، وإلا حلف الولي. وووجهه أن النكاح متفق على انعقاده، فمن ادعى ما يوجب حله فهو مدع. وهذا كله إذا لم يحصل الدخول، فإن دخل فإما أن يكون قبل البلوغ أو بعده، فإن دخل بعد بلوغه لزمته الشروط إن علم بها. ابن القاسم: ولو ادعى أنه لم يعلم بها فالقول قوله مع يمينه. وقال ابن العطار: لا يقبل قوله في ذلك وتلزمه بدخوله. وأما إن دخل قبل البلوغ، فذكر المتيطي وغيره أن الشروط تسقط عنه وإن علم بها؛ لأن المرأة مكنت من نفسها من لا تلزمه الشروط. وقال ابن بشير: لو دخل الصبي وقد بلغ وهو عالم بالشروط، فهل تلزمه أو لا؟ قولان: أحدهما: لا تلزمه، وهذا على القول بسقوط الشروط. والثاني: تلزمه، وهذا على القول بأنه مخير. فإذا دخل مع العلم فهو التزام لما شرط عليه، وإن دخل قبل العلم فثلاثة أقوال: أحدها: تلزمه، وهذا بناء على أن الشرط لازم. والثاني: لا تلزمه، وهذا بناء على سقوط الشرط. والثالث: يخير الآن، وهذا بناء على التخيير. وَلَوْ تَزَوَّجَ السَّفِيهُ فَلِلْوَلِيِّ فَسْخُهُ وَيَسْقُطُ الصَّدَاقُ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَثَلاثَةُ: رُبُعُ دِينَارٍ، واعْتِبَارُ حَالِهَا، والسُّقُوطُ .. يعني: بغير إذن وليه، فللولي فسخه وإمضاؤه. وفهم من كلام المصنف أن للولي إمضاؤه من قوله: (فَلِلْوَلِيِّ فَسْخُهُ) لأنه إذا كان له فسخه فله إمضاؤه؛ فإن قيل: فلم لم يقل (للولي إمضاؤه)؟ قيل: لأن ما ذكره من سقوط الصداق إنما ينبني على الفسخ، وهو معنى قوله: (فَيَسْقُطُ الصَّدَاقُ) أي: بالفسخ قبل البناء. واختلف إذا دخل بها وهو مراده بقوله: (فَإِنْ أَصَابَهَا) على ثلاثة أقوال. والقول بربع دينار لمالك وأكثر أصحابه، وبه أخذ ابن القاسم.

ابن يونس وغيره: وهو الجاري على مذهب المدونة، كالعبد يتزوج ويبني بغير إذن سيده. والقول بالسقوط لابن الماجشون. ابن حبيب: وهو القياس. وقول مالك استحسان. والقول باعتبار حالها وقع في المذهب عبارات، ذهب ابن بشير والمؤلف إلى أنها راجعة إليه، وذهب الباجي واللخمي وابن يونس وغيرهم إلى حملها على الخلاف. قال مالك: يترك لها مثل ما يستحل به مثلها. ولم يحده. وقال مالك أيضاً وابن القاسم في الدنية: يترك لها ربع دينار ولذات القدر أكثر من ذلك. وقال ابن القاسم في المدنية: يترك لها من المائة ثلاثة دنانير أو أربعة. وقال ابن نافع: عشرة. وقيل: تعاض بما هو دون صداقها، ولا يبلغ صداقها تاماً. ابن المواز والقاضي إسماعيل: فإن لم يعلم الولي بنكاحه حتى خرج من الولاية فإنه يثبت النكاح. وقال بعض القرويين: ينتقل إليه ما كان بيد الوصي من النظر فيمضيه إن رآه صواباً. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَتَّى مَاتَتْ فَإِنْ أَجَازَهُ ثَبَتَ الْمِيرَاثُ وَالصَّدَاقُ وَإِلا فَلا وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: يَتَوَارَثَانَ ويَثْبُتُ الصَّدَاقُ لِفَوَاتِ النَّظَرِ، وعنه خلافه الضمير في (مَاتَتْ) عائد على الزوجة؛ أي: إذا لم يعلم الولي بنكاح السفيه حتى ماتت الزوجة فإن وليه ينظر في ذلك، فإن رأى الأصلح له إجازة النكاح، بإن كان ميراثه أكثر من الصداق أجازه ودفع الصداق وأخذ الميراث. [293/أ] وهذا لابن القاسم، ونصه في العتبية: أصبغ: سئل ابن القاسم عن السفيه ينكح بغير إذن وليه ثم ماتا أيتوارثان؟ فقال: إن مات هو: فلا ترثه، وإن ماتت هي فالنظر إلى وليه، إن رأى أن يثبت النكاح ويأخذ له الميراث أخذه، وإن رأى أن يرده رده. وقاله سحنون، وذكره الباجي عن ابن القاسم في الموازية، وعن ابن الماجشون ومطرف وابن حبيب، وابن يونس.

وذكر أصبغ عن ابن القاسم أنهما يتوارثان، ويمضي الصداق؛ لأن النظر للسفيه قد فات بالموت، وذكر ابن المواز عنه خلاف هذا. وهو معنى قوله (وعنه خلافه) يعني: كالقول الأول من كلام المصنف. وبهذا تعلم بأن قول ابن عبد السلام: الضمير في (عنه) عائد على أصبغ؛ ليس بظاهر؛ لأن أصبغ لم يتقدم له ذكر. قوله (يَتَوَارَثَانَ) أي: سواء ماتت الزوجة أو الزوج؛ لأن الموارثة إنما تتم من الجانبين. ويقع في بعض النسخ (مات) على التذكير، فيحتمل أن يعود على الزوج، ويحتمل أن يعود على أحد الزوجين، وعوده على الزوج ليس بجيد لأنه إذا مات كان النظر في حقه عدم إجازة نكاحه، لأن إجازته توجب في ماله الصداق والميراث من غير فائدة له ولا لورثته. ابن عبد السلام: وأيضاً فالمشهور: لا شيء لها. وأشار بالمشهور إلى قول ابن القاسم في العتبية الذي قدمناه، ومقابل المشهور هو القول بتوارثهما. وعوده على أحدهما يلزم منه ما لزم في الأول، وعلى هذا يكون فيما إذا مات أو ماتت، قولان. أما إذا ماتت فكما قال ابن عبد السلام أن المشهور لا شيء لها. وأما إذا ماتت، فقيل: ينظر وليه. وقيل: يرثها. الباجي: وقيل: معنى قوله: (لِفَوَاتِ النَّظَرِ) أن النظر في ماله إنما هو لحقه، وذلك يختص بحال حياته، ولذلك جازت وصيته ولم تجز هبته. وروى ابن المواز عن أصبغ: ترثه، وينظر الولي فإن رآه مما كان صلاحاً يجيزه فلها الصداق وإلا فلها الميراث دون الصداق، وإن بنى بها فلها ربع دينار. فرأى أصبغ أن النظر إنما يتعلق بالصداق خاصة، وأما الميراث فحكم من أحكام النكاح، والنكاح قد تم بينهما بالموت، وفات النظر فيه. وحصل في البيان في هذه المسألة ثمانية أقوال: الأول: ما ذكره أولاً عن العتبية.

والثاني: أنهما يتوارثان ويمضي الصداق على القول بأن النكاح محمول على الإجازة حتى يرد، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت من مات منهما حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم. والثالث: أنهما لا يتوارثان ويبطل الصداق إلا أن يكون أصابها فيكون لها منه قدر ما يستحل به الفرج، على القول بأن النكاح محمول على الرد حتى يجاز، وأن النظر فيه يرتفع بموت من مات منهما. والرابع: الميراث بينهما ثابت مراعاة للخلاف، ويبطل الصداق إلا أن يكون قد دخل بها فيكون لها منه قدر ما يستحل به الفرج على القول بأن النكاح محمول على الرد حتى يجاز، وأن النظر فيه يرتفع بموت من مات منهما. وهو قول ابن القاسم. والخامس: أن الميراث بينهما مراعاة للخلاف، وينظر في النكاح فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي يوم وقع أجازه كان لها الصداق، ثم إن كان غير ذلك بطل الصداق إلا أن يكون دخل بها فيكون لها قدر ما يستحل به الفرج، وهو قول أصبغ في الخمسة. والسادس: أن الميراث بينهما مراعاة للخلاف، ويبطل الصداق إن كان الزوج هو الميت، وينظر في النكاح إن كانت الزوجة هي الميتة، فإن كان غبطة كان لها الصداق، وإن لم يكن نكاح غبطة بطل الصداق إلا أن يكون الزوج قد دخل بها، فيكون لها قدر ما يستحل به الفرج. وهذا القول يتخرج على القول بأن النكاح على الرد حتى يجاز، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت الزوج لا بموت الزوجة. والسابع: أن الميراث بينهما ثابت مراعاة للخلاف ويثبت الصداق إن كان الزوج هو الميت، وينظر في النكاح إن كانت الزوجة هي الميتة على ما ذكرنا في القول الذي قبل هذا، وهذا يتخرج على القول بأنه على الجواز حتى يرد، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت الزوج لا بموت الزوجة.

والثامن: أنه ينظر في النكاح، فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي أجازه كان الميراث بينهما، ووجب لها الصداق، وإن كان على غير ذلك لم يكن بينهما ميراث ولا صداق إلا أن يكون دخل بها فيكون لها قدر ما يستحل به الفرج. فَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ وشِبْهُهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَلَهُ وَلِوَرَثَتِهِ فَسْخُهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ، وقِيلَ: وَبِالْبَتَاتِ طَلْقَتَيْنِ .. فهم من قوله (فَلَهُ ... فَسْخُهُ) أن له إمضاءه، وهو المشهور. وقال أبو الفرجك القياس الفسخ؛ لأنه نكاح فيه خيار. وهما على الخلاف في الخيار الحكمي هل هو كالشرطي أم لا؟ الباجي: وقول أبي الفرج عندي هو الصحيح. وانظر هل يتخرج هذا القول في السفيه؟ وعلى المشهور فالفسخ بطلاق لصحته، وعلى قول أبي الفجر بغير طلاق، قاله اللخمي. وشبه العبد والمكاتب والمدبر والمعتق بعضه، والمعتق إلى أجل. اللخمي: وعلى الطلاق. فحمله عند [293/ ب] مالك إن لم ينو عدداً على واحدة. واختلف قوله: إذا طلقها طلقتين. فقال مرة: ذلك له. وقال مرة: لا يلزمه إلا واحدة؛ لأن الواحدة تبينها وتفرغ له عبده، وهو أحسن؛ لأن الواحدة تزيل ضرر السيد واستحسن أن تكون له الرجعة إن عتق في العدة. انتهى. وذكر ابن يونس أن أكثر الرواة رووا لزوم واحدة فقط، قال غيره: وهو اختيار الجمهور. ولهذا قدمه المصنف. ودلت الواو من قوله: (وقِيلَ: وَبِالْبَتَاتِ) على أن هذا القائل لا يحصره في الاثنتين، وهو كذلك. وَإِنْ أَجَازَهُ بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ ولَمْ يُرِدِ الْفَسْخَ جَازَ إِنْ كَانَ قَرِيباً نحوه في المدونة، ففيها: وإن كلم السيد في إجازته فامتنع أن يجيب ثم أجاز فإن أراد بأول قوله فسخاً تم الفسخ، وإن أراد أنه لم يرض ثم أجاز فذلك جائز إن كان قريباً.

وهذا الكلام وإن ذكر في المدونة في العبد فالمكاتب ونحوه كذلك. وأسقط المصنف قوله: كلم في إجازته؛ لأنه وصف طردي. واشترط القرب لأن عدم الرضا واستدامة ذلك حتى يطول قرينة في الفسخ. ابن القاسم: ويصدق بأنه لم يرد الطلاق في المجلس، ما لم يتهم. قال بعضهم: يريد ما لم يطل. ابن المواز: وإن شك السيد على أي وجه خرج منه فهو فراق واقع. زاد ابن محرز بعد قوله فراق بالبتات: وهو احتياط كمن تيقن بالطلاق وشك في العدد. ابن المواز: وإن قال: لا أجيزه اليوم أو لا أجيزه حتى أنظر فهو غير عازم على الطلاق. وأما إذا قال: لا أجيزه؛ فذكر مثل قول ابن القاسم، وزاد: إلا أن يفترقوا على قوله: لا أجيزه؛ فيكون فراقاً ما لم يبين فيقول: اليوم أو حتى أنظر؛ فيكون ذلك وإن افترقوا، إلا أن يستمتع العبد بزوجته بعد علم السيد بنكاحه، وكان السيد يقدر على منعه فلا يكون له الفسخ بعد ذلك؛ لأنه قد تمتع بإذن سيده أو ما يقوم مقام إذنه من التمكين. وخالف المغيرة ابن القاسم، فجعل امتناع السيد فسخاً، ورأى ابن القاسم أن الامتناع من الإجازة أعم من إرادة الفسخ إلا بعد الطول. فَإِنْ بَنَى بِهَا تَرَكَ لَهَا رُبُعَ دِينَارٍ أي: فإن دخل العبد والمكاتب ثم علم السيد ففسخه فلها ربع دينار، وهذا مذهب المدونة. وقال ابن الماجشون: لا يترك لها شيئاً. وقد تقدم نكاح السفيه بغير إذن وليه ابن عبد السلام: والفقه فيهما قريب. وَتَتَّبِعُهُ بِالْبَاقِي إِنْ أُعْتِقَ إِلا أَنْ يُسْقِطَهُ السَّيِّدُ أَوْ السُّلْطَانُ قَبْلَ عِتْقِهِ كَالدِّيْنِ بِغَيْر إِذْنِهِ .... أي: وتتبع الزوجة العبد بما بقي لها من الصداق إذا عتق. قال في المدونة: وكذلك إذا أدى المكاتب، وهذا بخلاف السفيه فإنه لا يتبع بالباقي إذا فك الحجر عنه. قال في

الجلاب: لأن العبد إنما حجر عليه من أجل سيده، فإذا أعتقه سيده سقط حقه وزال حجره، والسفيه حجر عليه من أجل نفسه، فإذا فك حجره لم يتبع بشيء مما استدانه في حال حجره؛ لأنه لو ثبت ذلك عليه لم ينفع الحجر شيئاً. واختلف الشيوخ هنا هل يتبع العبد والمكاتب بعد التق سواء غرَّا أو لا؟ وقال أبو عمران: إنما يتبعان إذا غراها، وأما إن أخبرها كل واحد بحاله فقال لها العبد: أنا عبد. وقال لها المكاتب: أن مكاتب؛ فلا يتبعان. وعليه اقتصر المتيطي، وعليه اختصر المدونة ابن أبي زمنين وابن أبي زيد والبرادعي. وقال أبو بكر ابن عبد الرحمن، وصاحب النكت، وغيرهما: يتبع العبد مطلقاً سواء غر أو لم يغر، إلا أن يسقط ذلك السيد من ذمته، وأما المكاتب فإن لم يغرها اتبع إلا أن يسقط ذلك السيد من ذمته؛ وإن غرها فيوقف الأمر، فإن عجز كان كالعبد له أن يسقطه عنه، وإن أدى فهو عليه وليس للسيد أن يسقطه. وقال ابن الكاتب: إن لم يغر يحتمل ألا يسقط عنه إلا بإسقاط السيد، وأما إن غر فلا يختلف أن ذلك عليه ولا يسقط. وقوله: (إِلا أَنْ يُسْقِطَهُ السَّيِّدُ) إنما كان للسيد الإسقاط؛ لأن بقاء الدين في ذمة العبد عيب، فكان للسيد إسقاطه. ابن عبد السلام: وذكر بعضهم أنه إذا غرها العبد، هل يصح إسقاط السيد أم لا؟ قوله: (أَوْ السُّلْطَانُ) نحوه في المدونة، ولعل معناه أن السيد طلب من السلطان أن يسقطه عن العبد. وفهم أبو الحسن المدونة على أن معناها: في الغائب؛ لأن السلطان يذب عن مال الغائب. فَلَوْ عُتِقَ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ مَضَى، فَإِنْ رُدَّهُ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ يعني: فإن أعتق السيد عبده المتزوج بغير إذنه قبل علمه بالتزويج مضى النكاح، ولأن حق السيد قد زال.

وأما إذا باعه فقال المصنف (مَضَى) أي: لا فسخ له حينئذ؛ لأنه قد صار في ملك غيره، ويقال للمشتري: إن كنت علمت بالتزويج فهو عيب دخلت عليه، وإلا فلك الرد. فإن تمسك فواضح، وإن رد كان للبائع الفسخ، وهو معنى قوله: (فَإِنْ رُدَّهُ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ) أي: فإن رد العبد بعيب التزويج فللبائع الفسخ، وفي بعض النسخ: فإن رده فله الفسخ؛ أي: فإن رد المشتري العبد بسبب عيب التزويج فللبائع فسخ النكاح، فالضمير في (فَلَهُ) عائد على البائع، والهاء في (رُدَّهُ) عائد على العبد، وضمير الفاعل [294/ أ] المستتر في (رُدَّهُ) عائد على المشتري. وفي بعض النسخ: (فسخه)؛ أي: فسخ النكاح. وفي كلام ابن عبد السلام نظر. وخرج ابن محرز قولاً بعدم بطلان حق البائع من الفسخ إذا باعه قبل علمه بالنكاح على القول بأن من باع شقصاً وجبت له به الشفعة قبل علمه ببيع الشريك أن حقه في الشفعة باق. ورده ابن بشير بأن الشفعة حق مختلف في سببه، فهل هو رفع الضرر عن الشريك؟ أو هو محض تعبد؟ فلعل القائل لم يتحد لاحتمال أن يكون القائل ببقاء حق الشريك في الشفعة بعد بيعه يرى ذلك تعبداً. ومسألة العبد معللة بالضرر، فلا يمكن قياسها على التعبد. ورده ابن عبد السلام بأن القائلين بعدم سقوط الأخذ بالشفعة إذا باع نصيبه اختلفوا هل يشترط عدم علمه ببيع شريكه إلى حين بيعه هو نصيبه أو لا يشترط ذلك؟ قال: فمن يشترط عدم العلم فهو كالنص منه على تعليل الشفعة بالضرر، ويلزم منه صحة التخريج المذكور. وقوله: (قَبْلَ عِلْمِهِ) مفهومه أنه لو باعه بعد علمه لكان دليلاً على الرضا، فليس له الفسخ إذا رد عليه، وهكذا قال القرويون. وذكر بعض الأندلسيين قولاً أن ذلك لا يسقط حق البائع في النكاح، ولا إشكال أن المشتري لا حق له في فسخ النكاح. نص عليه ابن الجلاب وغيره.

وقال بعضهم: يدخل في ذلك الخلاف من الخلاف فيمن أحدث عليه في ملكه ضرر فباعه بعد علمه بالضرر، هل يكون للمشتري قياماً على محدثه؟ فقيل: ينتقل للمشتري ما كان للبائع. وقيل: لا ينتقل؛ لأن بيعه بعد علمه رضا. وقيل: إن كان بيعه بعد أن خاصم فإن للمشتري القيام؛ لأن خصومته تدل على عدم رضاه به، وإن لم يخاصم فلا قيام للمشتري، ولو رضي المشتري بعيب النكاح، ثم اطلع على عيب قديم فله أن يرد بما اطلع عليه، وهل يرد أرش عيب النكاح لأنه بإقراره يثبت فيصير كأنه فعله؟ أو ليس عليه ذلك؟ وليس الإقرار كالابتداء، حكى ابن بشير عن المتأخرين في ذلك قولين. وخرجها أبو بكر بن عبد الرحمن على الخلاف في الرد بالعيب هل هو فسخ له من أصله أم لا؟ وكذلك اختلف المتأخرون لو لم يعلم المشتري حتى أعتق هل له قيمة العيب على البائع كسائر العيوب إذا اطلع عليها بعد العتق؟ أو لا يرجع بشيء إذا فوت على السيد الأول رد النكاح؟ وَلِلْعَبْدِ الْمَاذُونِ وَالْمُكَاتِبِ التَّسَرِّي فِي مَالِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ أي: المأذون له في التجارة. وقوله (فِي مَالِهِمَا) احتراز من مال السيد، فإنه لا يتسرى فيه لأنه حينئذ كالوكيل. قاله مالك في المختصر. وما حكاه المصنف أن للعبد المأذون التسري، وإن لم يأذن له سيده هو المشهور، وحكى أبو الحسن قولاً بأنه ليس له ذلك إلا بإذن السيد. وَالْمَهْرُ والنَّفَقَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي مَالِهِ مِمَّا لَيْسَ بِخَرَاجِهِ وَلا كَسْبِهِ، ولا يَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِناً لِلْمَهْرِ بِمُجَرَّدِ الإِذْنِ ... يعني: ونفقة الزوجة ومهرها يحسبان على العبد مما يوهب له أو يوصي له به لا من خراجه ولا مما أباه سيده بيده. قاله علماؤنا. وهذا ما لم تجر عادة بخلافه، فإن جرت عادة

بالنفقة من الخراج أنفق عليها منه. فقوله: (عَلَى الْعَبْدِ) يتعلق بمحذوف كما قدرنا؛ لأنه خبر، والخبر يجب تعلقه بمحذوف، قال في المدونة: ونفقة زوجة العبد في ماله إن كان له مال ولا نفقة لها من كسبه وعمله، وذلك إلى سيده، فإن لم يجد غيره فرق بينهما، إلا أن يتطوع السيد بالنفقة، ولا يباع العبد في نفقة زوجته. ولا فرق بين عبد الخراج وغيره، ولو فضل بعد الخراج شيء؛ لأن الفاضل مال لسيده، إلا أن يأذن في ذلك السيد أو تكون العادة النفقة منه. وقال محمد: إن عجز عن النفقة، وعليه خراج لسيده فلا شيء لها حتى يبدأ بخراج سيده، فجعل الإنفاق من فاضل الخراج، فيحتمل أن يكون ذلك خلافاً ويحتمل أن يكون ذلك عادتهم. قاله اللخمي وغيره. وقوله (ولا يَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِناً ... إلخ) أي: في التزويج؛ لأن العبد هو المتولي للشراء فيكون الثمن عليه. اللخمي: والمدبر والمعتق إلى أجل كالعبد، والمكاتب كالحر؛ لأنه بان عن سيده بماله، فإن عجز طلق عليه، والمعتق بعضه في اليوم الذي يخصه كالحر، وفي اليوم الذي يخص سيده بمنزلة العبد. وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَهُ الْبَالِغَ أَوْ أَجْنَبِيّاً حَاضِراً أَوْ غَائِباً، فَقَالَ: مَا أَمَرْتُهُ. حَلَفَ، وسَقَطَ الصَّدَاقُ عَنْهُمَا. فَإِنْ نَكَلَ فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ. وقِيلَ: لا يَلْزَمُهُ شَيْءُ. وقِيلَ: تُطَلََّقُ عَلَيْهِ ويَلْزَمُهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ .... يعني: أن الأب إذا زوج ابنه المالك لأمره، أو أجنبياً سواءً كانا حاضرين أو غائبين، ثم أنكرا بعد علمهما، وقالا: ما أمرناه ولا نرضى الآن بالتزويج. فقال المصنف: (حَلَفَ) أي: الابن أو الأجنبي ما أمرناه. (وسَقَطَ الصَّدَاقُ عَنْهُمَا) أي: عن الأب والأجنبي، وكذلك نص في المدونة على اليمين في حق الحاضر. وحملها ابن يونس على إطلاقها، وأنه

إن نكل الحاضر يلزمه النكاح، فإن شاء طلق وأدى الصداق، وإن شاء ثبت عليه. واستدل على ذلك بما وقع لابن القاسم في العتبية: إذا زوج الولي وليته فأنكرت المرأة أن تكون رضيت، فقال: إن كان الإشهاد في المسجد حيث يرى أنها لم تعلم فلا يمين عليها، وإن كان الإشهاد ظاهراً أو إطعام الوليمة في دارها، وحيث يرى أنها عالمة [294/ ب] فأرى أن تحلف بالله ما وكلته ولا فوضت إليه ذلك، ولا ظننت أن ذلك اللعب وذلك الإطعام الذي صنع إلا لغيري، ثم لا شيء عليها، فإن نكلت عن اليمين لزمها النكاح. ابن يونس: وكذلك مسألة الابن. وقيدها صاحب النكت واللخمي بما إذا سكت بعد عقد النكاح، قالا: ولو قال عند عقد النكاح: لم أرض. لم تكن عليه يمين، قالا: ولو طال سكوته بعد عقد النكاح. زاد اللخمي: وقبل التهنئة على جري العادة لزمه النكاح. اللخمي: ويغرم نصف الصداق ولا يمكن منها لإقراره أنها غير زوجته. صاحب النكت: وعرضته على بعض شيوخنا فصوبه. خليل: وينبغي على هذا أن الغائب إن أنكر بمجرد حضوره أن تسقط عنه اليمين، وإن علم وطال لا يقبل منه الإنكار، والله أعلم؛ لأنه بعد حضوره كالحاضر. وأنكر سحنون تعلق اليمين بالزوج، ورآها ساقطة عنه. وقوله (فَإِنْ نَكَلَ فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ) هو كما قال ابن يونس، وحكاه صاحب اللباب عن ابن القاسم. وقيل: لا يلزمه شيء. وهو قول أبي محمد، وعليه فاليمين إنما هي استظهار، لعله أن يقر. وصوبه أبو عمران؛ لأنه أقر أنه ليس بعقد. وقيل: تطلق عليه، ويلزمه الصداق. ابن راشد: وجعل هذا القائل نكوله طلاقاً، وهذا القول حكاه ابن سعدون عن بعض شيوخه، وحكي في المتيطية عن ابن القاسم أنه إنما تلزمه اليمين إذا ادعى

أبو الصبية أن مخبراً أخبره أن الابن أمر أباه أن يزوجه، فإذا حلف برئ، وإذا نكل حلف الأب ولزمه النكاح. ابن عبد السلام: وقيل: إن لم يكن إلا مجرد الدعوى لم تتوجه اليمين، فإن كان ثم سبب تقوى معه الدعوى توجهت. تنبيه: قولنا في فرض المسألة: (ابنه المالك لأمره) هكذا فرض في المدونة المسألة، وأقاموا منه أنه لو كان سفيهاً لزمه النكاح، فيؤخذ منه جبر السفيه على النكاح. واعلم أنه زاد في المدونة بعد قول الزوج: ما أمرته ولا أرضى، ثم قال: صدق مع يمينه. وظاهره أنه يحلف على نفي الأمر والرضا والحلف على نفي الأمر يمين تحقيق، وعلى نفي الرضا يمين تهمة، ولا شك أن الابن إذا رضي يدخله الخلاف الذي في النكاح الموقوف، وينبغي أن تقيد المسألة بما إذا لم يقل الأب أن الابن وكلني أن أعقد، والابن حاضر في المجلس، وإلا فإن قال ذلك، وأنكر الابن فإنكاره كالعزل عن الوكالة. بعض الشيوخ: ويحتمل أن يقال: تلزمه اليمين على الوكالة، وأما إذا افترقا والحالة هذه لزمه النكاح، وهو ظاهر. وَالْكَفَاءَةُ حَقٌّ لها ولِلأَوْلِيَاءِ فَإِذَا تَرَكُوهَا جَازَ إِلا الإِسْلامَ يعني: أن الكفاءة مركبة من قيود كما سيأتي، منها ما هو حق لله فلا يجوز تركه، ومنها ما هو حق للمرأة ولأوليائها فإذا تركوها جاز. فقوله: (إِلا الإِسْلامَ) مستثنى من قوله (حَقٌّ لها ولِلأَوْلِيَاءِ). ابن هارون: إلا الإسلام، فإنه ليس حقاً لهم بل لله عز وجل. ويمكن أن يكون قوله (إِلا الإِسْلامَ) مستثنى من قوله

(فَإِذَا تَرَكُوهَا جَازَ إِلا الإِسْلامَ) ويؤخذ من لازم كلامه أن الإسلام حق لله؛ لأنه لو كان حقاً لهم لجاز تركه مع الرضا، لأنه من له حق فله إسقاطه، والتقدير الأول أولى، ولو رضيت المرأة بغير كفءٍ وليس لها ولي، فقال ابن راشد: الذي عليه عمل القضاة أنهم لا يزوجونها حتى تثبت الكفاءة، وإن كانت ثيباً فلا يطلبها الحاكم بإثباتها. وقيل: لابد من الإثبات. وبه أخذ الباجي. ابن أبي زمنين: وشاهدت بعض أشياخنا يذاكره بذلك ويحتج عليه بأنها مالكة لأمرها ناظرة في مصالحها، فقال: وإن كانت كذلك فلا يلزمني أن أعينها على ذلك. * * * انتهى المجلد الثالث من كتاب التوضيح للشيخ خليل بن إسحاق الجندي ويليه المجلد الرابع وأوله وَالنَّظَرُ فِي الدِّينِ، والْحُريَّةِ، والنَّسَبِ، والْقَدْرِ

التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب تأليف خليل بن إسحاق الجندي المالكي (المتوفى سنة776هـ) ضبطه وصححه الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب المجلّد الرابع

وَالنَّظَرُ فى الدِّينِ, والْحُرِّيَّةِ, والنَّسَبِ, والْقَدْرِ, والْحَالِ, والْمَالِ, واخْتُلِفَ فِى الْجَمِيِع إِلا الإِسْلامَ, فَيُفْسَخُ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ, وَيُؤَدَّبُ إِلا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ .... يعنى: أن الكفاءة مركبة من قيود: أولها: الدين, والمراد به الإسلام مع السلامة من الفسق, ولا تشترط المساواة لها فى الصلاح. ثانيها: الحرية. ثالثها: النسب, ويعبر عنه بالحسب, ومعناه: ألا يكون الزوج مولى. ورابعها: القدر. ابن راشد: والمراد به المنصب والجاه. خامسها: الحال. ابن راشد: والمراد بة أن يساويها فى الصحة, أى: مساويها سالما من العيوب الفاحشة. خليل: وهذا هو الذى يؤخذ من كلام ابن بشير وابن شاش وغيرهما من الأصحاب. ابن عبد السلام: والأولى تفسير الحال هنا بالجاه. ويحتمل أن يفسر بما يرجع إلى حسن العشرة, وطيب الخلق. ويلزم ابن عبد السلام التداخل, لأنه على ما ذكر أنه الأولى فى تفسير الحال يصير الحال والقدر واحدا, وأيضا إذا فسره بما ذكره يلزم أن يكون اختلف فى الجاه وحسن العشرة لما قال المصنف: (واخْتُلِفَ فِى الْجَمِيِع إِلا الإِسْلامَ) ولم أر قولاً باشتراط ذلك. سادسها: المال. وقوله: (واخْتُلِفَ فِى الْجَمِيِع إِلا الإِسْلامَ) اعلم أنه: إن ساواها الرجل فى الستة فلا خلاف فى كفاءته وإن فقد بعضها, فقال المصنف: (واخْتُلِفَ فِى الْجَمِيِع) قيل: والكفاءة المعتبرة عند ابن القاسم الحال والمال. وفى الوثائق المجموعة: الكفاءة عند مالك فى الحال والدين, وعند] 295/ أ [غيره الحال والمال.

المتيطى: ويجوز الاتفاق على تركها. وحكى الإسفرايينى عن ابن الماجشون أنها شرط فى صحة النكاح, فلا يجوز تركها, ونحوه فى الإشراف, وهو اختيار ابن القاسم, وبه القضاء. وانظر قوله: (واخْتُلِفَ فِى الْجَمِيِع) مع ماحكاه ابن بشير من الاتفاق على عدم كفاءة الفاسق, وقد ذكره المصنف بعد, إلا أن يريد بالخلاف مقابل المنصوص. وأما الحرية فلم يسمع ابن القاسم من مالك فيها شيئاً, وقال غير واحد: وظاهر ما قاله فى المدونة أن العبد كفء, وحكاه القاضى أبو محمد عن ابن القاسم نصاً, وقال المغيرة وسحنون: ليس العبد كفئاً للحرة, ويفسخ النكاح. عبد الوهاب وغيره: وقول المغيرة هو الصحيح. ولا إشكال أن قول المغيرة خلاف لابن القاسم إن ثبت النص عن ابن القاسم, وإن كان القاضى إنما اعتمد فى حكايته على ظاهر المدونة, لأنه لما سئل ابن القاسم عن نكاح العبد العربيةَ فقال: قال مالك: أهل الإسلام بعضهم لبعض أكفاء, لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}] الحجرات: 13 [فيكون أيضاً قول المغيرة خلافاً. وإليه ذهب اللخمي وغيره, وقال ابن سعدون وغيره من القرويين: ليس قول المغيرة خلافاً لابن القاسم لقوله بعد هذا: إذا رضى الولي بعبد فليس للولي أن يمنع منه بعد ذلك, إلا أن يأتي منه حدث من فسق أو لصوصية. فقوله (إذا رضى) يدل على أن للولي فى ذلك حقاً, وأما النسب فالمعروف أن المولى كُفءٌ للحرَّة. المازرى: والمشهور أن الحسب غير معتبر عندنا لحديث فاطمة بنت قيس فى تزويجها أسامة. وأما القدر فلم أر قولاً باشتراطه, كما أشار إليه المصنف, نعم فهم ابن راشد الاتفاق عليه من قول المصنف بعد هذا. وعن ابن القاسم فيمن دعت إلى كفء فى القدر والحال والمال: زوجها السلطان. وفيه نظر.

وأما الحال فقد تقدم تفسيره بالصحة, فلم أر الخلاف فيه إلا فى البكر ذات الأب, وقد تقدم عند الكلام على جبر الأب البكر. وأما المال ففى المدونة أن امرأة أتت إلى مالك, فقالت له: إن لي ابنة فى حجرى موسرة مرغوب فيها, فأراد أبوها أن يزوجها من ابن أخ له فقير لا مال له, أترى لى فى ذلك كلاماً؟ قال: نعم, إنى لأرى لك فى ذلك متكلما. على الإثبات. وفى بعض الروايات: لاأرى لك, على النفى. قال بعض الشيوخ: الأولى أصح, لأنه قال أولا نعم, ولو كان الثانى نفيا تناقضا لاسيما وقد وقع فى كثير من النسخ: إنى أرى لك. وكذلك اختصرها بعضهم. ابن القاسم: وأنا أراه ماضيا إلا أن يأتى من ذلك ضرر فيمتنع. واختلف هل قول ابن القاسم خلاف؟ وإليه ذهب سحنون, لقوله: ويقول ابن القاسم أقول: ولا أرى الفقر ضرراً. ابن محرز: وذهب بعض المذاكرين أنه لا يعده خلافاً لأن ابن القاسم تكلم عن فقير صالح لا يخشى على المرأة منه أن يفسد متاعها ويتلفه, ومالك تكلم على من يخشى منه ذلك. وذكر صاحب النكت عن غير واحد من القرويين, وكذلك قال أبو عمران أنه ليس هو خلافاً لأن ابن القاسم إنما تكلم بعد الوقوع, ومالك تكلم قبل الوقوع, وقال: لها متكلم, ولم يقل أن النكاح مفسوخ. ومعنى المتكلم الذى لها أن تنظر فى ماأراده الأب, هل هو صواب ام لا؟ قوله: (إِلا الإِسْلامَ) لان الإجماع متفق على تحريم إنكاح الكافر المسلمة. قوله: (وَيُؤَدَّبُ إِلا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ) ابن عبد السلام: ظاهره: ولو أسلم إذا لم يعذر بجهل بسبب جرأته وإقدامه على هتك حرمة الإسلام, لكن ظاهر قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}] الأنفال: 38 [خلافه. ونص ابن راشد على أن إسلامه يسقط عنه الأدب. واختلف فى حد المرأة إذا تزوجته عالمة بأن ذلك لا يجوز, ففى المدونة: لا أرى أن يقام

في ذلك حد وإن تعمداه, ولكن العقوبه إن لم يجهلوا. وفى رواية: لا أرى أن يقام عليه. ومقتضاها إقامته عليها. ومن الشيوخ من يرى أن المذهب كله على أنها لا تحد. ابن محرز: والصواب حدها. وهى كالمسلم يتزوج مجوسية عالماً بذلك, فقد قال مالك أنه يرجم, يعنى إذا كان محصناً, وقال ابن المواز فيمن ارتدت زوجته, ووطئها مكرهة عالماً بالتحرين أنه يرجم. واختلف إذا زني بها طائعة, فقال مالك رحمه الله تعالى: ليس ذلك بنقض, ولا يلحق به الولد. وقال ابن حبيب: ذلك نقض. وفى سماع عبد الملك أنه يضرب ضرباً يموت منه, وقال أشهب: يضرب الضرب الموجع لما لم يوف لهم بالعهد. وفى كلامه ما يدل على أنه لو وفَّى لهم بالعهد لكان ذلك نقضاً. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يكون ذلك نقضاً للعهد وإن وفى لهم به. ابن نافع وأبو مصعب وغيرهما: فإن غرها بالإسلام فذلك نقض منه للعهد. وَفِيهَا: الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ. وَفُرِّقَ بَيْنَ مَوْلىً وعَرَبِيَّةٍ فَاسْتَعْظَمَهُ, وتَلا:} يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ {إِلَى} أَتْقَاكُمْ {. والْعَبْدُ كَذَلِكَ, وقِيلَ: إِلا الْعَبْدَ .... قد تقدم مايتعلق بذلك. وقوله: (إِلا الْعَبْدَ) ابن عبد السلام: أي: وإن الخلاف إنما هو بين الحرة والمولى, وأما العبد فلا يختلف أنه ليس بكفء للحرة, وحاصله أنها طريقة. واعترض اللَّخْمِيّ الاستدلال] 295/ب [بالأية على هذا, وقال: لا مدخل لهذه الآية هنا, لأن متضمنها الحال عند الله تعالى فى الآخرة, ومنازل الدنيا وما تلحقهم فيه المعرة غير ذلك. وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: ولا خِلافَ مَنْصُوصٌ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ ولِمَنْ قَامَ لَهَا فَسْخُ نِكَاحِ الْفَاسِقِ أي: الفاسق بالحوارح لمقابلته له بالفاسق بالإعتقاد. ولفظ ابن بشير: والمطلوب من الزوج أن يكون كفؤاً فى بلا خلاف, وان كان فاسقاً فلا خلاف منصوص أن تزويج

الأب من الفاسق لا يصح, وكذلك غيره من الأولياء, وإن وقع وجب للزوجة ولمن قام لها فسخه, وكان بعض أشياخي يهرب من الفُتيا فى هذا, ويرى أن ذلك يؤدي إلى فسخ كثير من الأنكحة. انتهى. ابن عبد السلام: وقول ابن بشير وإن توقع يحتمل أن يكون داخلاً فى غير المختلف فيه, وهو ظاهر, ويحتمل أن يكون ابتداء كلام وتأسيس مسألة مع عدم التعرض لنفي الخلاف. وَأَمَّا الْفَاسِقُ بِالاعْتِقَادِ فَقَالَ مَالِكٌ: لا يُزَوَّجُ إِلَى الْقَدَرِيَّةِ ولا يُزَوَّجُونَ هذا لمالك فى الموزاية. ولا يتأتى هنا توقف الشيخ المتقدم في الفاسق بجوارحه, لأنه لا يؤدي إلى فسخ كثير من الأنكحة, ويشارك القدري من يساويه فى البدعة. وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ دَعَتْ إِلَى زَوْجٍ فَأَبَى وَلِيُّهَا إِذَا كَانَ كفئاً لَهَا فِى الْقَدْرِ وَالْمَالِ والْحَالِ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وعَلَى هَذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ مَالِكٍ ... تصوره ظاهر, وقد تقدم أن ابن راشد فهم منه اتفاق الأصحاب على مراعاة هذه الثلاثة, وفيه نظر لجواز أن يكون الاتفاق هنا إنما هو على الحر لحصول الكفاءة فى الحال والمال فقط, ثم إن هذا الاتفاق إنما يصح إن كان مساوياً لها فى النسب والحرية, وإلا فقد تقدم فيهما الخلاف. وَالنِّكَاحُ والْمِلْكُ الْمُبِيحُ يُبيحُ نَظَرَ الْفَرْجِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ, وَقِيلَ: يُكْرَهُ لِلطِّبِّ أي: أن الرجل يباح له أن ينظر إلى فرج امرأته وأمته, ويباح لزوجته وأمته النظر إلى فرجه. واحترز بالمبيح من نظر العبد لفرج سيدته مما لو ملك بعض محارمه. وقد وقع لأصبغ فى العتبية لما سئل: هل يجوز للرجل أن ينظر إلى فرج المرأة؟ قال: نعم, ويلحسه بلسانه. قال فى البيان: إنما أراد تحقيق إباحة النظر, وليس من مكارم الأخلاق أن يلحسه بلسانه.

وقد روى النسائى عن معاوية بن حيدة, قال: قلت: يارسول الله, عوراتنا ما نأتى منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك". وقوله: (وَقِيلَ: يُكْرَهُ لِلطِّبِّ) لم أره, ولعله يريد فرج المرأة خاصة, لأنه قيل: إن النظر إليه يورث العمى, لأنه يصعد منه بخار يؤذى البصر. ابن القاسم: ولا بأس أن يكلم امرأته عند الجماع. وسئل القاسم بن محمد عن النخر عند الجماع, فقال: إذا خلوتم فاصنعوا ما شئتم. وظاهر كلامه فى البيان كراهته. وصرح السيد أبو عبد الله ابن الحاج بكراهته. وَيَحِلُّ كُلُّ اسْتِمْتَاعٍ إِلا الإِتْيَانَ فِى الدُّبُر, ونُسِبَ تَحْلِيلُهُ إِلَى مَالِكٍ فِى كِتَابِ السِّرِّ, وَهُوَ مَجْهُولٌ. وعَنِ ابْنِ وَهْبٍ: سَأَلْتُ مَالِكاً عنه, وقُلْتُ: إِنَّهُمْ حَكَوْا أَنَّكَ تَرَاهُ. فَقَالَ: مَعَاذَ اللهِ. وتَلا:} نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ {, وقَالَ: لا يَكُونُ الْحَرْثُ إِلا فِى مَوْضِعِ الزَّرْعِ .... لما خرجه النسائى عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء, ولا تأتوا النساء فى أدبارهن". ولما خرجه أيضاً عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة فى الدبر". ولما خرجه أبو داود عن أبى هريرة أيضاً, عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ملعون من أتى المرأة فى دبرها". فإن قيل: قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ}] البقرة: 223 [يقتضى إباحته, لأن المعنى حيث شئتم. قيل: هذا غير صحيح لما رواه مسلم وغيره عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل المرأة من دبرها فى قبلها كان الولد أحول, فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}] البقرة: 223 [قال جابر: إن شاء مجبية وإن شاء غير أن ذلك فى صمام واحد.

وعلى هذا فمعنى {أَنَّى شِئْتُمْ} كيف شئتم. والمفسرون وإن اختلفو فى تفسير الآية فينبغي أن يعتمد على ما ذكرناه لموافقته الحديث الصحيح. وقد تقدم ما يتعلق بكتاب السر فى المسح على الخفين. ابن عبد السلام: ولمالك فى اختصار المبسوط جوازه, وقال: هو أحل من شرب الماء البارد. وحكى عن ابن عمر مثله. وَالإِتْيَانُ فِى الدُّبُرِ كَالْوَطْءِ فِي إِفْسَادِ الْعِبَادَاتِ, ووُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ, والْكَفَّارَةِ, والْحَدِّ, ووُجُوبِ الْعِدَّةِ, وحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ, وَلا يُحْلِلُ, وَلا يُحَصِّنُ. وفِى تَكْمِيلِ الصَّدَاقِ بِهِ قَوْلانِ .... تصوره واضح. وقوله (مِنَ الْجَانِبَيْنِ) عائد على (إِفْسَادِ الْعِبَادَاتِ, ووُجُوبِ الْغُسْلِ) ولا يقال: وجوب العدة به مشكل, كما قيل, لأنها تجب بمجرد الخلوة, وسبب القولين فى تكميل الصداق به أن قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}] البقرة: 237 [هل يحمل على المس الشرعى؟ ولم يحصل, أو على مطلق المس؟ وقد حصل. وَلا يَعْزِلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلا بِإِذْنِهَا, وَلا عَنِ الزَّوْجَةِ الأَمَةِ إِلا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا بِخِلافِ السَّرَارِيِّ .... العزل: هو أن يطأ إلى أن يأتي المني فينزع ذكره حتى لا ينزل فيها. والمشهور من المذهب جوازه على الصفة التي ذكرها المصنف, وذكر عن مالك كراهته. وظاهر قوله فى (الزَّوْجَةِ الأَمَةِ إِلا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا) أنه يكفي بإذن السيد, وكذا هو ظاهر كلام غيره. ورأى الباجي أنه لا يعزل عن الزوجة [296/أ] الأمة إلا بإذنها وإذن مواليها, ولا يكتفي بإذن سيدها لأن لها حقاً فى الوطء. وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أنه تقييد, وهو ظاهر لأن لها حقاً فى القسم, ويتبين لك ذلك بما ذكره الباجى فى باب

الإيلاء: أن الزوجة إذا كانت أمة ورضيت بترك الوطء أن للسيد إيقافه, رواه ابن القاسم عن مالك فى العتبية. الباجي: ووجه ذلك ما احتج به أصبغ فى ثمانية أبي زيد: ليس للزوج أن يعزل عنها وإن رضيت بذلك إلا بإذن السيد. أصبغ: وإن رضي السيد بترك الوطء ولم ترض بذلك الأمة لم يكن لسيدها ذلك وكان لها القيام ومطالبة الزوج وتوقيفه. قال فى الطرر: وللمرأة أن تأخذ من زوجها مالاً على أن يعزل عنها إلى أجل, ولها أن ترجع فى ذلك متى أجبت, وحكاه عن المشاوّر. الزَّوْجَةُ: والْمَوَانِعُ: قَرَابَةٌ, ورَضَاعٌ, وصِهْرٌ, ولِعَانٌ, والْمُتَزَوِّجَةُ غَيْرُ الْمَسْبْيَّةِ, والْمُعْتَدَّةُ وشِبْهُهَا مِنْ غَيْرِهِ, والْمُرْتَدَّةُ، والْكَافِرَةُ غَيْرُ الْكِتَابِيَّةِ, والأَمَةُ الْكَافِرَةُ, وأَمَتُهُ, وأَمَةُ وَلَدِهِ, وسَيِّدَتُهُ, وأُمُّ سَيِّدِهِ, والأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ يَجِدُ نَاكِحُهَا الطّوْلَ ولا يَخْشَى الْعَنَتَ, والْمُسْتَوْفَاةُ طَلاقاً, والْمُحَرَّمَةُ الْجَمْعَ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ مَعَ أَرْبَعٍ, والْمَرِيضَةُ مَرَضَ حَجْرٍ, والرَّاكِنَةُ لِلْغَيْرِ, وَالْيَتِيمَةُ هذا هو الركن الرابع. ولما كان المباح غير منحصر حصر الممنوع ليعلم أن ما عداه جائز. و (الموانع) مبتدأ على حذف مضاف, أي: ذوو الموانع (قرابة) , والتقدير أصحاب الموانع ذوو قرابة, ففى كل من المبتدأ والخبر حذف مضاف, وقلنا هذا ليصح قوله: (المتزوجة) لأنه معطوف على قرابة ولا يصح أن يخبر بالمتزوجة عن الموانع إذ لا يخبر عن المعنى بالجثة. وعدة الموانع عشرون, ثم أخذ المصنف يتكلم على الأول منها فالأول, فقال: وَالْقَرَابَةُ: هِىَ: السَّبْعُ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ} وَهِيَ أُصُولُهُ, وَفُصُولُهُ, وَفُصُولُ أَوَّلِ أُصُولِهِ, وَأَوَّلُ فَصْلٍ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ وَإِنْ عَلا. أى فى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}] النساء: 23 [الآية.

ثم ضبط المصنف هذه السبعة بقوله: (وَهِيَ أُصُولُهُ .. إلخ). فالأصول كل من له عليك ولادة سواء كان بمباشرة أم لا, فيدخل فى ذالك: الأم, وأمها وإن علت, وأم الأب وإن علت. والفصول: كل من لك عليها ولادة, فيدخل: البنات, وبنات الأبناء وإن سفلن لابن أو بنت. وفصول أول الأصول هم الأخوة, إذا أول أصولك أبوك, فتحرم الأخوات مطلقا كن أشقاء أو لأب أو لأم, وبناتهن وإن سفلن. (وَأَوَّلُ فَصْلٍ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ) أي: ما عدا الأصل الأول؛ لأن ثاني الأصول وثالثها وإن علا, ذلك فإن فصولهم أعمام وعمات, وأخوال وخالات, وبنات الأعمام والعمات, والأخوال والخالات, حلال بالإجماع. واعلم أنه يتصور الخال والخالة من جهة الأب, والعم والعمة من جهة الأم, لأن أخا الجدة للأب خال للأب, وأختها خالة له, وأخو الجد للأم عم, وأخته عمة. وَيَحْرُمُ نِكَاحُ الزَّانِي لِلْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا تَحْرُمُ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: هَذَا خَطَأٌ صُرَاحٌ .... بالتحريم قال أبو حنيفة, وبعدمه قال الشافعي, وقول سحنون أنه خطأ ليس بظاهر لأنها لو كانت بنتاً لورثته وورثها وجاز له الخلوة بها وإجبارها على النكاح, وذلك كله منتف عندنا. وعلل بعض الحنفية المنع بأنها ربيبة لأن الزنا عندهم محرم. وسيأتي ما فيه عندنا. وَيَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ أُمَّهَاتُ الزَّوْجَةِ مِنَ النَّسَبِ أَوِ الرِّضَاعِ, وبَنَاتُ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِى حِجْرِهِ وإِنْ سَفَلَتْ لابْنٍ أَوْ بِنْتٍ. هذا هو المانع الثالث. وأخر المصنف المانع الثانى وهو الرضاع لطوله وتبعاً لكتب أصحابنا.

وأمهات الزوجة: كل من له على الزوجة ولادة, سواء كان من جهة أبيها أو أمها, وسواء كان من جهة النسب أو الرضاع, والأصل فيه قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}] النساء: 23 [الآية. وحاصله أن العقد على البنت يحرم الأم, ولا تحرم البنت بالعقد على الأم بل بالدخول بها. وفى الموطأ أن ابن مسعود استفتي وهو بالكوفة عن نكاح الأم بعد الابنة إذا لم يمس البنت فأرخص فى ذلك, ثم إن ابن مسعود قدم المدينة فسأل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال, وأن الشرط إنما هو فى الربائب, فرجع ابن مسعود إلى الكوفة, فلم يصل إلى منزله حتى أتى الرجل الذى أفتاه, فأمره أن يفارق امرأته, ولم يكن رضى الله عنه يرجع عن فتواه إلا لنص أو ظاهر قوي, لأن القاعدة: منع جمع الوصفين إذا اختلف عاملهما بصفة واحدة. و {نِسَائِكُمْ} فى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} مجرور بالإضافة, وفى قوله {مِنْ نِسَائِكُمْ} مجرور بحرف الجر, فلا يصح أن يكون قوله تعالى: {اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صفة لمجموع الوصفين. وقوله: (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِى حِجْرِهِ) لأن قوله تعالى: {اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} وصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وَحَلائِلُ الآبَاءِ, وَحَلائِلُ الأَبْنَاءِ هذا أيضاً من المانع الثالث, وكون المرأة حليلة فى النكاح يحصل بالعقد, وأما الملك فلا تكون به حليلة عندنا] 296/ب [إلا بالوطء أو ما يقوم مقامه, لا بمجرد الملك, خلافاً للشافعى فى قوله أنها بمجرد الملك حليلة, ولا خلاف أن حليلة ابن الابن وابن البنت وإن سفل داخلة فى حلائل الأبناء.

وَلَوْ قَالَ الأَبُ: نَكَحْتُ الْمَرْاَةَ أَوْ وَطِئْتُ الأَمَةَ بِشِرَاءٍ عِنْدَ قَصْدِ الابْنِ ذَلِكَ وَأنْكَرَ الابْنُ لَمْ يُقْبَلْ إِلا أَنْ يَكُونَ فَاشِياً قَبْلُ كَشَهَادَةِ الأُمِّ فِى الرَّضَاعِ, ويَنْبَغِي التَّنَزُّهُ عَنْهُ .... قوله: (عِنْدَ قَصْدِ الابْنِ ذَلِكَ) أى: نكاح الحرة ووطء الأمة. وقوله: (لَمْ يُقْبَلْ إِلا أَنْ يَكُونَ فَاشِياً) حاصله أنهلم يكن فاشياً لم يقبل, ويستحب التنزه, وان كان فاشياً قبل, ويجب الإجتناب, ويفسخ النكاح إن وقع, وشهادة الأم فى الرضاع كذالك. وهذا الذى ذكره المصنف هو أحد التأويلين فى مسألة المدونة فى كتاب النكاح والرضاع. ونص ما فى النكاح: قلت فيمن اشترى جارية أو أراد شراءها أو خطب امرأة فقال أبوه: نكحت الحرة أو وطئت الأمة بشراء, وكذبه الابن فقال: قال مالك: لا تجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إلا أن يكون قد فشا وعرف. مالك: وأحبُّ إلي ألا ينكح ويتورع. ولا تجوز أيضاً شهادة امرأتين فى الرضاع إلا أن يكون قد فشا وعرف فى الأهلين والمعارف والجيران, فتجوز حينئذ شهادتهما. ابن القاسم: فشهادة الوالد فى مسألتك كشهادة الأم فى الرضاع, فلا يقبل قول الأب إلا أن يكون ذلك من قوله فاشياً قبل الشراء أو النكاح, وأرى له أن يتنزه عن ذلك بغير قضاء, وكذلك الأم إذا لم يزل يسمعونها تقول: أرضعت فلانة, فلما كبرت أراد الابن أن يتزوجها فلا يفعل. ونص ما فى الرضاع: وإذا قالت امرأة عادلة: كنت أرضعت فلاناً وزوجَتَه, لم أقض بفراقهما, ولو عرف ذلك من قولها قبل النكاح أمرته بالتنزه عنها إن كان يثق بقولها, ولو شهدت بذلك امرأتان بعد العقد وهما أم الزوجة وأم الزوج أو أجنبية لم أقض بالفراق إلا أن يفشو ذلك قبل النكاح من قولهما عند الجيران والمعارف. والتأويل الثاني لأبي عمران

أنه لا يجب الفراق مطلقاً، وإنما يتأكد استحباب التنزه إذا فشا ويقوي هذا التأويل قوله فى الثانية: ولو عرف ذلك من قولها قبل النكاح أمرته بالتنزه عنها إن كان يثق بقولها. فرع: إن صارت إليه جارية أبيه أو ابنه بعد موته ولم يقر مالكها بوطء ولا غيره: قال ابن حبيب: لا تحل. اللخمي: وهو يحسن فى العلي، وإن كانت من الوخش ندب إليه ألا يصيب ولا تحرمظن وكذلك إذا باعها ثم غاب قبل أن يسأل. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ اللّذَّةَ بِالْقُبْلَةِ والْمُبَاشَرَةِ والنَّظَرِ لِبَاطِنِ الْجَسَدِ كَالْوَطْءِ فِى تَحْرِيمِ الْبِنْتِ .... لما قدم أن البنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم بين أن مقدمات الجماع تتنزل منزلة الوطء فى التحريم، سواء كان ذلك فى نكاح أو ملك. ابن القاسم: في سماع أبي زيد: ولو ماتت زوجته قبل البناء فقبلها حرمت ابنتها. واشترط المصنف اللذة بالمباشرة لأنه لو حصلت المياشرة بغير لذة لم تحرم، فقد روى محمد عن كالك: إن مرض فقامت عليه واطلعت على عورته ومست ذلك منه، أو مرضت فقام هو عليها، أن ذلك لا يحرمها على أبيه وابنه. أصبغ: وذلك إذا لم يكن شئ من اللذة بقبلة ولا نظر. وقوله: (والنَّظَرِ) يقرأ بالخفض عطفاً على القبلة والمباشرة، ويكون التقدير: واللذة بالنظر. ولا تصح قراءته بالنصب لأنه حينئذٍ يؤخذ منه أن مجرد النظر محرم، وليس كذلك. وظاهر قوله (وَالْمَشْهُورُ) إلى آخره، أن الخلاف فى الجميع، ولم أره إلا فى النظر، ولذلك يحك ابن لشير وابن شاس الخلاف إلا فيه، ونقل الباجى الشاذ فيه عن ابن القصار. واحترز المصنف بقوله (النَّظَرِ لِبَاطِنِ الْجَسَدِ) مما لو نظر إلى وجهها، فإنها لا تحرم بإتفاق، حكاه ابن بشير.

وفى الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهب لابنه جاريةً وقال: لا تمسّها فإنى قد كشفتها. ويريد نظر إلى بعض ماتستره من جسدها على وجه طلب اللذة والاستمتاع. ابن حبيب: ومن تلذذ من أمته بتقبيل أو تجريد أو ملاعبة أو مغامزة أو نظر إلى شئ من محاسنها نظر شهوة حرم على ابنه وأبيه التلذذ بشئ منها إن ملكها. رواه محمد عن مالك، وزاد: وكذلك إن نظر إلى ساقها أو معصمها تلذذاً. ابن عبدالسلام: ظاهر رواية ابن حبيب بخلاف تقييد المؤلف النظر لباطن الجسد، وقد يقال: إنما احترز بالباطن من الوجه كما قاله ابن بشير، فإن قالت: ماحكا ابن بشير من الاتفاق مخالف لرواية ابن حبيب، فغن قوله فى الرواية: أو نظر إلى شئ من محاسنها للذة يدل على أنه لا فرق بين الوجه وغيره فى ذلك. فالجواب أن الأمر كما ذكرت من أن ظاهر رواية ابن حبيب تنقض الاتفاق، ويمكن الجمع بينهما بوجهين: أولهما: أن يحمل كلام ابن بشير على ماإذا نظر للوحه لا على قصد الالتذاذ. والثاني: أن يقيد مافى رواية ابن حبيب بغير الوجه، والله أعلم. وَإِذَا انْفَرَدَ الْوَطْءُ فَإِنْ كَانَ حَلالاً كَمِلْكِ الْيَمينِ فَكَوَطْءِ الْعَقْدِ (انْفَرَدَ الْوَطْءُ) أى: من غير عقد ولا تحصل الإباحة فيه في ملك اليمين. ويعنى بالحلال أن تكون المرأة مباحة الوطء [297/أ] ولو وطئتها فى حيض أو صيام، لأنه إذا انتشرت الحرمة بمقدمات الجماع فلأن تنتشر بالجماع أولى. واختلف إذا وطئ الصغير بملك اليمين أو قبَّل أو باشر، فقال مالك في الموتزية: إن قبَّل أو باشر لم تحرم إذا كان صغيراً. وقال محمد: إذا بلغ أن يلتذ بالجواري فإنها تحرم. وَإِن كَانَ بِزِنا فَفِيهَا: يُفَارِقُهَا، وأَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا فِي الْمُوَطَّأِ (وَإِن كَانَ بِزِنا) عطفاً على قوله (فَإِنْ كَانَ حَلالاً) أي: فإن زنا بأم زوجته أو زوجتها فليفارق زوجته. وحمل الأكثر (يُفَارِقُهَا) على الوجوب، وأنه يحرم عليه

الاستمرار، وحملها اللَّخْمِيّ وصاحب البيان على الكراهه، واختصرها البرادعى بلقظ التحريم، وتعقب عليه ذلك. ونص مالك في الموطأ أنه: لا يحرم بالزنا حلال. ونحوه فى الرسالة. سحنون: وأصحابه كلهم على ما في الموطأ ولا اختلاف. وذكر ابن عبد السلام أنه المشهور، وذكر ابن حبيب فى الواضحة عن مالك أنه رجع عما في الموطأ، وأفتى بالتحريم إلى أن مات. وكذلك ذكر المازري فى كشف الغطاء، وزاد أنه قيل له أفلا تمحو الأول من كتابك؟ أي: مافى الموطأ، فقال: سارت به الركبان. واختار جماعة ما في الموطأ، أما أولاً: فلأن الأصل الإباحة، وأما ثانياً: فلأن الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية في كلام الشارع. ابن عبد السلام: ولا تكون المرأة من نساءه شرعاً إلا بالوطء المباح. وَإِنْ كَانَ بِاشْتِبَاهٍ حَرُمَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني (وَإِنْ كَانَ) الوطء (بِاشْتِبَاهٍ) أي: غلطاً، كمن زطئ أجنبية يظنها زوجته أو أمته فإنها تحرم على آبائه وأبنائه، وتحرم عليه أمهاتها وبناتها. أبو عمران: ولا أعلم خلافاً فى من وطئ بوجه شبهة أمها تحرم إلا ما روى يحيي عن سحنون فيمن مد يده إلى زوجته في الليل فوقعت على ابنتها غلطاً، أنها لا تحرم عليه زوجته. وقال ابن عبد السلام بعد أن نقل عن سحنون: إن وطئ شبهة لا يحرم، وهذا الخلاف إنما هو على القول بأن الزنا لا يحرم، وأما على أنه يحرم فلا إشكال أن وطئ الاشتباه يحرم.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ حَاوَلَ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِزَوْجَتِهِ فَوَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى ابْنَتِهَا فَالْتَذَّ فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى التَّحْرِيمِ، واخْتَارَ الْمَازِرِيُّ خِلافَهُ وأَلَّفَ فِيهَا كَشْفَ الْغَطَا عَنْ لَمْسِ الْخَطَا ..... قوله (عَلَى ابْنَتِهَا) يريد سواء كانت ابنته أم لا، هكذا هو منصوص عليه، وقال بالتحريم ابن شعبان، والقابسي، وأبو عمران، وأبو بكر بن عبد الرحمن، والتونسي، واللخمي، وابن العطار، والسيوري، وعبد الحميد، وبه أخذ ابن التبان، ففارق زوجته حين نزلت به. وقال ينفى التحريم سحنون، وأبو سعيد ابن أخي هشام، وابن شبلون. واختاره ابن محرز وألف فيه تأليفاً، وكذلك المازري وألف فيها كشف الغطا عن لمس الخطا، واعتمد المازري فى تصنيفه على تصنيفه على تصنيف ابن محرز عن الشيخ أبي محمد القولان، واحتج المازري بأنه لا رافع للحل المستصحب فى الزوجة إلا آية تحريم المصاهرة، وهى لا تتناول البنت، إذ ليست من نسائه فى الحال كالزوجة، ولا تصلح أن تكون من نسائه فى المآل كالأجنبية، وكذلك اختار صاحب البيان، قال: هو الصحيح، واختلف فى مراد الأشياخ باجتناب الزوجة، وظاهر إطلاقاتهم وجوب الفراق والأجبار عليه. قال فى الجواهر: وهو مذهب جمهورهم. ورأى القابسي وأبو عمران أن ذلك على وجه الاستحباب، لا على الإجبار، وهو مذهب أبي الطيب عبد المنعم فإنه أمر بالفراق، وتوقف في الإجبار. وجمهور القائلين بالتحريم على أن المذهب فيه على قول واحد لا يختلف بإختلاف ماوقع من ذلك عن قصد اللمس أو لا. المازري: وقال ضعفاؤهم: بل يتخرج على الروايتين فى انتشار الحرمة بالزنا. عبد الحميد: وهو وهم فاسد ممن حكي عنه؛ لأنه لم يقصد هنا ممنوعاً وإنما قصد الالتزاز بزوجته أو لم يقصد ذلك وحصلت له اللذة.

وقول المصنف (الْتَذَّ) احترز به مما لو لم يلتذ فإنها لا تحرم عليه، وهو الصحيح. وذهب بعض فقهاء صقلية إلى أنّ لمس الابنة ينشر الحرمة وإن لم يلتذ إذا كان أصل لمسه لقصد اللذة. المارزى: وهو مذهب ضعيف لا يتخرج على أصل، ولا ينبنى على تحقيق. والمسألة قابلة لأكثر من هذا؛ ولذلك احتملت التآليف. فَإِنْ وَطِئَ مُكْرَهاً فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ زَانٍ أَوْ مَعْذُورٌ كَالْغَالِطِ تصوره واضح. وَكُلُّ نِكَاحٍ اخْتُلِفَ فِيهِ اعْتُبِرَ عَقْدُهُ وَوَطْؤُهُ مَا لَمْ يَكُنْ بِنَصٍّ أَوْ سُنَّةٍ فَفِى عَقْدِهِ قَوْلانِ .... لما قدم الكلام على النكاح الصحيح أتبعه بالنكاح الفاسد، وهو على قسمين: مجمع على فساده، ومختلف فيه، وبدأ بالمختلف فيه، ومعنى كلامه أن كل نكاح اختلف العلماء فى صحته وفساده، والمذهب قائل بالفساد، فإنه يعتبر عقده فيما يعتبر فيه العقد، ووطؤه فيما يعتبر فيه الوطء، فتحرم بالعقد أمهاتها، وتحرم على آبائه وأبنائه، وتحرم عليه البنت بالدخول بالأم فيه. [297/ ب] وقوله (مَا لَمْ يَكُنْ بِنَصٍّ أَوْ سُنَّةٍ) يعنى أنه يعتبر العقد والوطء إلا أن يكون الفساد بنص كتاب أو نص سُنة، فحذف من الأول ما أثبت نظيره فى الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول. (فَفِى عَقْدِهِ قَوْلانِ) يعني: ويعتبر وطؤه بالاتفاق. وقال فى المقدمات: والمشهور أن الحرمة تقع بكل نكاح لم يتفق على تحريمه. ونفى غيره الخلاف ورأى أن المذهب كله على التحريم، فإن قلت: فكيف يكون فيه نص كتاب أو نص سُنة ويُختلف فيه؟ قيل: النص

فيه ثلاثة اصطلاحات: الأول: ما احتمل معنى قطعاً، ولا يحتمل غيره قطعاً. والثانى: ما احتمل معنى قطعاً وإن احتمل غيره. والثالث: ما احتمل معنى كيف كان. ولا يأتى الاختلاف على الاصطلاح الأول، فإن قلت: فما مثل ذلك؟ قيل: أما ما فيه نص سنة فكنكاح المحرم وإنكاح المرأة نفسها، وأما مافيه نص كتاب فكنكاح الخامسة، فإن قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: ?] نص في عدم الزيادة. وقد أجاز بعض الظاهرية الزيادة. وَمَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيِه إِنْ دَرَأَ الْحَدَّ اعْتُبِرَ وَطْؤُهُ لا عَقْدُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمُعْتَدَّةٍ أَوْ ذَاتُ مَحْرَمٍ أَوْ رَضَاعٍ، وَإِنْ لَمْ يَدْرَأ لَمْ يُعْتَبَرْ عَقَدُهُ، وفِي وَطْئِهِ قَوْلانِ لأَنَّهُ زِنا .... يعنى: وإن اجتمع على فساده فهو على قسمين: (إِنْ دَرَأَ الْحَدَّ اعْتُبِرَ وَطْؤُهُ) كما لو وطئ معتده أو ذات محرم أو رضاع غير عالم، وأما لو علم حد فى ذات المحرم أو الرضاع، وفى حد العالم فى نكاح المعتدة قولان سيأتيان. والمشهور عدم اعتبار عقده، ومقابل المشهور لعبد الملك. وذكر ابن الجلاب عنه فيما إذا تزوج أماً وابنتها فى عقد واحد، فقال عبد الملك: تحل له البنت ويحرم عليه نكاح الأم. اللخمي: والعقد إن كان حراماً مجمعاً على تحريمه لم يحرم. هذا هو الصحيح من المذهب، ووقع فى بعض المسائل فى هذا الأصل اختلاف. ويختلف إذا كان مختلفاً فى فساده، والمشهور أن التحريم يقع به. وقوله (وَإِنْ لَمْ يَدْرَأ) إلخ، تصوره ظاهر. وَإِذَا عَقَدَ عَلَى أُمَّ وابْنَتِهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فُسِخَ أَبَداً أي: قبل الدخول وبعده، ولا خلاف فيه، والفسخ بغير طلاق. فَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا حَرُمَتَا أَبَداً يريد: غير عالم بالتحريم، وأما العلم به فإنه زان، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ لَمْ تَحْرُمِ الْبِنْتُ لأن العقد الصحيح على الأم لا يحرم البنت، فالفاسد أولى. وَفِي الأُمِّ قَوْلانِ فعلى المشهور تحل لأن العقد فاسد لا أثر له خلافاً لعبد الملك. وَإِنْ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا حَرُمَتِ الأُخْرَى دُونَهَا. وفِي الأُمِّ الْمَدْخُولِ بِهَا القَوْلانِ أي: فإن دخل إما بالنت أو بالأم (حَرُمَتِ الأُخْرَى) أي: غير المدخول بها دونها؛ أي: دون المدخول بها، ولا خلاف فى هذا إن دخل بالبنت، وأما إن دخل بالأم فالمشهور أن الأم لا تحرم عليه. وعلى قول عبد الملك الأم تحرم أيضاً عليه للعقد الفاسد على ابنتها. و (ال) فى (القولين) للعهد، وقد تقدما. فَإِنْ تَرَتَّبَتَا غَيْرَ عَالِمٍ فَوَاضِحٌ (تَرَتَّبَتَا) أي: تزوج واحدة بعد واحدة فواضح؛ لأن البنت إذا كانت السابقة فعقدها صحيح، وعقد الأم فاسد ويفسخ قبل الدخول وبعده، ولا أثر له في تحريم البنت اتفاقاً. وإن كانت الأم السابقة فعقد البنت فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده، ولا تأثير له فى تحريم الأم على المشهور، وهذا والله أعلم هو الى قصد بقوله: (فَوَاضِحٌ). وأما إن دخل بهما أوبإحداهما فذلك على أربعة أوجه: الوجه الأول: أن يدخل بهما فيفرق بينه وبينهما، ويكون لك واحدة منهما بالمسيس، ويكون عليهما الاستيراء بثلاث حيض، ولا تحل له واحدة أبدا، ولا يكون لواحدة منهما ميراث. الوجه الثانى: أن يدخل بالأولى فالحكم أن يفرق بينه وبين الثانية، ولا تحل له، ويبقى وع الأولى إن كانت البنت باتفاق، وإن كانت الأم على المشهور.

الوجه الثالث: أن يدخل بالثانية، فالحكم فيه أن يفرق بينه وبينها، ويكون لها صداقها، ويكون له أن يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد إن كانت البنت، وإن كانت الأم لم تحل له واحدة منهما، ولا يكون لواحدة منهما ميراث. الوجه الرابع: أن يدخل بواحدة منهما معروفة، ولم يعلم أهي الأولى أو الثانية، فالحكم فيه إن كانت الأم هي المدخول بها منهما أن يفرق بينه وبينها، ولا تحل له واحدة منهما أبدا، وإن كانت البنت البنت هي المدخول بها فرق بينهما، ثم يتزوج البنت إن شاء بعد استبرائها بثلاث حيض، ويكون للتى دخل بها صداقها بالمسيس، وإن مات الزوج فيكون على المدخول بها من العدة أقصى الأجلين، ويكون لها جميع صداقها. ابن حبيب: ونصف الميراث. وقال ابن الموز: لا شيء لها من الميراث. قال فى المقدمات: وهو الصواب. وأما التي لم يدخل بها فلا عدة عليها ولا شيء لها من الصداق ولا من الميراث. وَإِنْ لَمْ تَعْلَمِ السَّابِقَةُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنْ بَنَى بهِمَا فَلا مِيرَاثَ، ويَجِبُ كُلَّ الصَّدَاقِ أما سقوط الميراث فلأن نكاحهما مفسوخ، وأما وجوب الصداق فللدخول. وَإِنْ لَمْ يَبْنِ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا، ولِكُلِّ نِصْفُ الصَّدَاقِ وأما وجوب الميراث فلأن نكاح إحداهما صحيح، [298/أ] وأما أن لكل واحدة نصف صداقها فلأنه قد وجب عليه صداق كامل بالموت وهو غير معلوم. وقوله (نِصْفُ الصَّدَاقِ) يعنى سواء اتفق الصداقان أم لا، هكذا صرح به فى المدونة. قال فى المقدمات: والقياس أن يكون عليه الأقل من الصداقين، يقسم بينهما على قدر مهريهما. تنبيه: لم يذكر المصنف ما إذا كان الزوج حياً. وقد ذكره فى المقدمات، فقال: وإن لم تعلم الأولى منهما. يريد: وقد تزوج واحدة بعد واحدة ولم يدخل بهما فرق بينهما، ويتزوج

البنت أن شاء وتكون عنده على طلقتين، ويكون لكل واحدة منهما نصف صداقتها، وقيل: ربع صداقتها. والقياس أن يكون لكل واحدة منهما ربع أقل الصداقين، وذلك إذا لم تدع كل واحدة منهما أنها الأولى، ولا ادعت عليه معرفة ذلك، فإن ادعت عليه كل واحدة منهما أنه علم أنها هي الأولى، قيل له: احلف أنك ما تعلم أنها هي الأولى. فإن حلف على ذلك وحلفت كل واحدة منهما أنها هي الأولى كان لهما نصف الأكثر من الصداقين يقتسماه بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن نكلتا عن اليمين بعد حلفه كان لهما نصف الأقل من الصداقين فاقتسماه كالأول. وإن نكلت إحداهما وحلفت الأخرة بعد حلفه كان للحالفة نصف صداقها. وإن نكل هو عن اليمين وحلفتا جميعاً كان لكل واحدة نصف صداقها. وإن حلفت إحداهما ونكلت الثانية بعد نكوله كان للحالفة نصف صداقها ولم يكن للناكلة شئ. وإن نكلتا جميعاً بعد نكوله لم يكن لهما إلا نصف الأقل من الصداقين يقسم بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن أقر لإحداهما أنها هي الأولى حلف على ذلك وأعطاها نصف صداقها ولم يكن للثانيه شيء. ولو نكل هو عن اليمين وحلفتا جميعاً غرم لكل واحدة منهما نصف صداقها. وإن حلفت الواحدة ونكلت الأخرى بعد نكوله كان للتى حلفت نصف صداقها، ولم يكن للتى نكلت شيء لأن الحالفة قد استحقت نصف الصداق بيمينها. انتهى. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَعْلَمِ الْخَامِسَةُ أي: فإن كان بنى بالجميع فلكل واحدة صداقها، ولهن الميراث؛ لأن نكاح أربع صحيح، وإن لم يبن بواحدة فلهن الميراث وعليه أصدقة يقتسمنها على قدر أصدقتهن. وإن دخل بأربع فللمدخول بهن أربعة أصدقة ولغيرهن نصف صداقها؛ لأنها إن كانت رابعة استحقت الصداق كاملاً، وإن كانت خامسة فلا شئ لها، فيقسم الصداق بينهما وبين الورثة. وإن دخل بثلاث فلهن ثلاثة أصدقة وللأخرتين صداق ونصف، ثم كذلك.

وَأَمَّا الْعَالِمُ فَفِيهَا: إِنْ تَزَوَّجَ الأُمَّ وَوَطِئَهَا يُحَدُّ إِلا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهَالَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ وَوَطئِهَا بَعْدَ وَطْءِ الأُمِّ .... هذا قسم قوله اولا (فإن ترتبنا غير عالم) وقوله (إِنْ تَزَوَّجَ الأُمَّ وَوَطِئَهَا) أي: بعد عقده على البنت. وقوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ وَوَطئِهَا بَعْدَ وَطْءِ الأُمِّ) قيد ذلك بأن يكون بعد وطء الأم؛ لأنه لو لم يطأها لم يجد لأجل وطئه البنت؛ لأنها ليست محرمة عليه على التأييد. وَإِذَا جَمَعَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَازَ، وَأَيَّتَهُمَا وَطِئَ حَرُمَتِ الأُخْرَى لأن وطء الملك كوطء النكاح، ومقدمات الوطء كالوطء. فإن جَمَعَ إِحْدَاهُمَا بِالنِّكَاحِ وَالأُخْرَى بِالْمِلْكِ حَرُمَتِ الْمَمْلُوكَةُ نَاجِزاً، فَإِنْ دَخَلَ بِالزَّوْجَةِ، أَوْ كَانَتِ الصُّغْرَى حَرُمَتِ الْمَمْلُوكَةُ أَبَداً قوله: (حَرُمَتِ الْمَمْلُوكَةُ نَاجِزاً) يعنى: واستمر على الزوجة أما كانت أو بنتاً، ثم إن دخل بالزوحة، أو كانت الزوجة البنت، وإن لم يدخل بها، وهو مراده بالصغرى، حرمت المملوكة على التأييد، وأما إن لم يدخل بالزوجة وهي الكبرى فله إذا أبانها أن يطأ البنت لأن العقد على الأم لا يحرم البنت. وَالْمُعْتَدَّةُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ شِبْهِهِ إِذَا وَطِئَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ شِبْهِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَداً عَلَى الْمَشْهُورِ لِقَضَاءِ عُمَرَ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ .... هذا راجع إلى ما تقدم فى الموانع من قوله: (وَالْمُعْتَدَّةُ). وقوله: (أَوْ شِبْهِهِ) يحتمل أن يريد به الاستبراء من الأنكحة الفاسدة التى تفسخ بعد البناء، ويحتمل أن يريد به استبراء أم الولد من وفاة سيدها، فإنه سوى فى المدونة بينهما وبين المهتده من نكاح. وقوله: (إِذَا وَطِئَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ شِبْهِهِ) ظاهر.

وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) يعني أن المشهور تحريمها على التأبيد. وقيل: لا تحرم، وله أن يتزوجها بعد ذلك. والمشهور ومقابله لمالك. ففي الجلاب: ومن نكح امرأة في عدتها من طلاق أو وفاة وهو يعلم بتحريمها، ودخل بها، فراويتان: إحداهما: أنه زان، وعليه الحد، ولا يلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها. والرواية الأخرى: أن الحد ساقط عنه، والمهر له لازم، والولد به لاحق، ويفرق بينه وبينها، ولا يتزوجها أبدًا. وعين صاحب الاستذكار وغيره المشهور كما قال المصنف. وأما إن وطئها جاهلاً فلا أعلم خلافاً في التحريم. ابن حبيب: وإن تزوج في العدة ووطئ، أو قبَّل، أو باشر، [298/ ب] أو غمز، أو نظر على وجه اللذة، فعليهما العقوبة، وعلى الولي والشاهد إن عُلم أنها في عدة، إلا إن جُهل. وقال ابن المواز: يحد الزوجان إن تعمدا ذلك. الباجي: فيحمل قول ابن حبيب على من علم بالعدة وجهل التحريم ولم يتعمد ارتكاب المحظور، وعلى ذلك ضربه عمر بالمخفقة، وعلى قول ابن المواز على أنهما علما بالتحريم وتعمدا ارتكاب المحظور. وقوله (لِقَضَاءِ عُمَرَ) أي: بالتأبيد من غير مخالف. هكذا ذكر القاضي عبد الوهاب أنه لم يخالف عمر غيره، وأن عليًا وافقه. لكن ذكر في الاستذكار أنه روي عن علي خلاف ذلك من وجوه، وأنه يتزوجها بعد العدة، قال: روي عن ابن مسعود مثله. قال: وروى الثوري أن عمر رجع عما ذكر عنه المصنف. وما ذكره المصنف من القضاء هو في الموطأ. وَفِي غَيرِ الْبَائِنِ قَوْلانِ القول بأنها لا تحرم لابن القاسم؛ لأن الرجعية زوجة، وكان ذلك بمنزلة من وطئ زوجة الغير. قال في المدونة: وقال غير ابن القاسم: هو نكاح في عدة. مالك: وللأول الرجعة قبل فسخ نكاح الثاني وبعده.

فَإِنْ لَمْ تُوطَا أَوْ وُطِئَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَفِي التَّأبِيدِ قَوْلانِ أي: فإن حصل العقد فقط، فهل تحرم بذلك على التأبيد؟ حكى القاضي أبو محمد في ذلك روايتين، ولا شك في فسخ النكاح، وما إذا عقد في العدة ووطئ بعدها فذكر المصنف قولين، وهما في المدونة، ففيها: قال مالك وعبدالعزيز: ومن نكح في العدة وبنى بعدها فسخ نكاحه، وكان كالمصيب فيها. وقال المغيرة لا يحرم عليه نكاحها إلى بالوطء في العدة. وقال ابن القاسم: عن مالك: يفسخ هذا النكاح وما هو بالحرام البين. قال في الكافي: وقول مالك وعبدالعزيز هو تحصيل المذهب. ولا يخفى عليك توجيه هذه الأقوال. فرع: فإن تزوج امرأته المبتوتة في عدتها، فقال ابن نافع: تحرم عليه كالنكاح في عدة الغير. وقلل ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك: لا تحرم؛ لأنه لم يكن ممنوعًا للعدة بل لكونها لم تتزوج غيره. وَفِيهَا: فَإِنْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ لِلأَبَدِ يعني: في العدة؛ لأن مقدمات الوطء كالوطء. واختلف قول ابن القاسم في الموازية، فقال مرة: تحرم. وقال مرة: أحب إليَّ ألا ينكحها بغير قضاء. وقال: في الموطأ نفسه اختلاف، فكيف بما دونه. محمد: وإن أرخيت الستور ثم تقررا أنه لم يمسها، لم تحل أبدًا. وفي البيان أن القبلة والمباشرة بعد العدة لا يقع التحريم بهما اتفاقًا. خليل: وفيه نظر؛ لأنه قد تقدم أن عبدالوهاب حكى رواية بأنها تحرم بمجرد العقد، فكيف بالمباشرة والقبلة بعد العدة؟ قال: وقد حكى صاحب البيان هذا القول إلا أن يقال: لعل مراده بالاتفاق اتفاق من عدا هذا القول، والله أعلم.

فَإِنْ كَانَ مِنْ زِنىً أَوْ مِلْكٍ فَقَوْلانِ يعني: إذا نكح المستبرأة من زنا أو ملك فقولان. والقول بالتحريم في المستبرأة من زنا لمالك، وبه أخذ مطرف؛ لأن العلة وهي الاستعجال قبل الأوان واختلاط الأنساب حاصلة. والقول بعدم التحريم لابن القاسم وابن الماجشون، لأن الزاني لا يلحق به الولد فلم يكن وطء هذا يدخل اشتباهًا في الولد. ابن القاسم: وسواء كانت حاملاً أو لا. ثم رجع فقال: أما في الحمل فتحرم عليه ولا تحرم على غيره. وروي ذلك عن مالك. وقال أصبغ: أكرهه في الحمل. والقياس أنه وغيره سواء، ولا أحب أن يتزوجها في ذلك كله. قال في البيان: والقول الذي رجع إليه ابن القاسم لو عكس لكان أصوب؛ لأن فيه إذا وطاء غير الحامل اختلاط الأنساب، وأما من زنت زوجته فوطئها زوجها في ذلك الماء فلا شيء عليه. ابن المواز: ولا ينبغي أن يطأها في ذلك الماء. وقال أشهب: الحامل من زوجها حملاً بينًا إذا وطئت غصبًا لم أر بأسًا أن يطأها زوجها فيه. أصبغ: أكرهه، وليس بحرام، وأرى مالكًا كرهه. ابن حبيب: وإن لم تكن بينة الحمل فلا يطؤها إلا بعد ثلاث حيض. أما القولان فيمن وطاء المستبرأة من ملك اليمين فالمشهور وهو مذهب المدونة أنه إذا دخل نكاح على ملك أو ملك على نكاح فهو كالمصيب في العدة. وقاله سحنون، وروي أيضاً عنه أنه ليس كالتزويج في العدة فرده في الأول إلى نكاح على نكاح، وفي الثاني إلى ملك على ملك. فَإِنْ وُطِئَتْ بِمِلْكٍ فَقَوْلانِ المشهور التحريم كما ذكرنا.

فَإِنْ وُطِئَتْ بِزِنىً أَوْ بِمِلْكٍ عَنْ مِلْكٍ لَمْ يَتَأَبَّدْ يعني: فإن زنا بالمعتدة أو وطاء المشتري المستبرأة من البائع (لَمْ يَتَأَبَّدْ) وهو ظاهر. تنبيه: الصور أربع: نكاح على نكاح، وملك على ملك، ونكاح على ملك، وملك على نكاح. والمصنف تكلم على الأربعة، فأشار إلى النكاح على النكاح بقوله أولاً: (والمعتدة من نكاح ... إلخ). وأشار إلى الملك على الملك بقوله: (أَوْ بِمِلْكٍ عَنْ مِلْكٍ)، وإلى النكاح على الملك بقوله: (وإن كان من زنى أو ملك فقولان)، وإلى عكسها بقوله: (فإن وطئت بالملك فقولان) والله أعلم. وَتَصْرِيحُ خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ حَرَامٌ، والتَّعْرِيضُ [299/أ] جَائِزٌ. قَالُوا: ومِثْلُ: إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، ولَكِ مُحِبٌّ، وَبِكِ مُعْجَبٌ: تَعْرِيضٌ ... قوله: (الْمُعْتَدَّةِ) يشمل كل معتدة من وفاة أو طلاق، وحرم التصريح لقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]. فتضمنت الآية الكريمة إباحة التعريض، وما يضمره في النفس، والمنع من المواعدة بالنكاح. واختلف في معنى قوله تعالى: {سِرًّا}. فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والشعبي والسدي وقتادة وسفيان: لا يأخذ ميثاقها وهي في عدتها ألا تتزوج غيره. وقيل: السر ههنا الزنا. اللخمي: وليس بحسن؛ لأن الزنا محرم في العدة وغيرها. الماجشون. ورأى في الأول أن الركون لا يحصل من غير تقدير الصداق؛ لأن اختلافهما عند تقدير الصداق كثير.

والتعريض: ضد التصريح، مأخوذ من عرض الشيء وهو جانبه، وهو أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على المقصود وغيره، إلا أن إشعاره بالمقصود أتم، ويسمى تلويحًا، والفرق بينه وبين الكناية أن التعريض ما ذكرناه، والكناية هي التعبير عن الشيء بلازنه كقوله في كريم: شخص طويل النجاد كثيرُ الرماد. ابن عبد السلام: والمذهب جواز التعريض في كل معتدة سواء كانت من وفاة أو طلاق، وأجازه الشافعي في عدة الوفاة، ومنع منه في عدة المطلقة طلاقًا رجعيًا. واختلف قوله في عدة الطلاق الثلاث. وتبرأ المصنف بقوله (قَالُوا) لإشكاله؛ لأن هذه الألفاظ قريبة من التصريح، وكهذه الألفاظ: إن النساء من شأني، وإنك علي لكريمة، وإذا حللت فأذني لي، وإن قدر الله خيراً يكن، وإن الله لسائق إليه خيراً، وإنك لنافعة. وأشد من ذلك ما أجازه مالك من الإهداء لها، ورآه من التعريض، قال: ولا أحب أن يفتى به إلا من تحجزه التقوى عما وراءه. ومنع ابن حبيب الإهداء إلا لذوي النهى. المتيطي: والذي يكره وجهان: أحدهما: العدة. والثاني: المواعدة. فأما العدة فهي أن يعد أحدهما بالتزويج دون أن يوعده الآخر بذلك، وهي تكره ابتداءً باتفاق مخافة أن يبدو للواعد منهما فيكون قد أخلف العدة، فإن وقع وتزوجها بعد العدة مضى النكاح ولم يفسخ، ولا يقع به تحريم بإجماع. وأما المواعدة فهي التي نهى الله تعالى عنها، وهي أن يعد كل واحد منهما صاحبه، وهي مفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين. ثم ذكر ما ذكره المصنف. فَإِنْ صَرَّحَ كُرِهَ لَهُ تَزْوِيجُهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لأجل ما ارتكبه من النهي. وعلى القول بفسخ هذا النكاح يكون تزويجها ممنوعًا، وسيأتي.

ابن المواز: ومواعدة الأب في ابنته البكر والسيد في أمته كمواعدة المرأة، وأما الولي الذي لا يزوجها إلا بإذنها فيكره، وإن وقع لم يفسخ. فَإِنْ تَزَوَّجَ فَالْمَشْهُورُ: يُسْتَحَبُّ لَهُ فِرَاقُهَا بِطَلاقِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْهُ إِنْ دَخَلَ، ثُمَّ يَخْطُبُهَا إِنْ شَاءَ. ورَوَى أَشْهَب: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ... أي: فإن تزوج من صرح لها بالخطبة في العدة، وتصوره ظاهر. وقوله في رواية أشهب: (يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا) أي: وجوبًا، علم ذلك من مقابلته له بالمشهور، قال في الرواية: ولو دخل. المتيطي: قال أشهب: ولا تحلُّ له أبدًا. وذكر ابن يونس وغيره أن قول ابن القاسم اختلف في هذه المسألة في غير المدونة، فقال مرة: يفسخ بقضاء. وقال مرة: بغير قضاء. وَتَحْرُمُ خِطْبَةُ الرَّاكِنَةِ لِلْغَيْرِ، وإِنْ لَمْ يُقَدَّرِ الصَّدَاقُ عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وذَلِكَ فِي الْمُتَقارِبَيْنِ، فَأَمَّا فَاسِقٌ وصَالِحٌ فَلا ... لما في الموطأ وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)). واشترط الركون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح خطبة فاطمة بنت قيس لأسامة وقد كان خطبها معاوية وأبو جهم، وأيضًا فلأنها لما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية وأبا جهم خطباها، ولم ينكر ذلك عليه الصلاة والسلام، ومن العادة أنهما لا يخطبان دفعة دل ذلك على جواز الخطبة على الخطبة، وقد يقال: إن أسامة لم يخطب وإنما أرشدهما صلى الله عليه وسلم لنكاحه، فإذا نكحها لم تنكح من خطبها على خطبة غيره، والركون: ظهور الرضا. والقول باشتراط تقدير الصداق لابن نافع، وهو ظاهر الموطأ، والمشهور قول ابن القاسم، وابن وهب، عبد الحكم، ومطرف، وابن الماجشون. ورأى في الأول أن الركون لا يحصل من غير تقدير الصداق؛ لأن اختلافهما عند تقدير الصداق كثير.

فقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى قوله: (وإِنْ لَمْ يُقَدَّرِ الصَّدَاقُ). وقوله: (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) إلخ، تصوره ظاهر. وقد تقدم أن للمرأة ومن قام لها فسخ نكاح الفاسق. فرع: قال مالك في سماع ابن أبي أويس: أكره إذا بعث الرجل رجلاً يخطب له امرأة أن يخطبها الرسول لنفسه وأراها خيانة، ولم أر واحداً رخص في ذلك. فإن عَقَدَ فَثَالِثُهَا: يُفْسَخُ قَبْلَهُ لا بَعْدَهُ القول بالفسخ [299/ ب] قبل البناء وبعده لابن القاسم، ومقابله لسحنون. والثالث: قال في الاستذكار والكافي: هو المشهور. والأقوال الثلاثة لمالك على عدم الفسخ. قال ابن وهب: يستحب للعاقد أن يتوب ويعرضها على الخاطب أولاً، فإن حلله رجوت له في ذلك مخرجًا، فإن أبي فليفارقها، فإن أنكحها الأول وإلا فلهذا أن يستأنف نكاحها وليس يقضى عليه بالفراق. عيسى: وإن لم يطلقها فليستغفر الله ولا شيء عليه. وَالسَّبْيُ يَهْدِمُ النِّكَاحَ إِلا إِذَا سُبِيَتْ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وهُوَ حَرْبيٌّ أَوْ مُسْتَامَنٌ فأسلمت فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لأَنَّهَا أَمَةٌ كِتَابِيَّةٌ، وهِيَ ووَلَدُهَا ومَالُهُ فِي بَلَدِ الْحَرْبِ فَيْءٌ، وقِيلَ: وَلَدُهُ الصِّغَارُ تَبَعٌ، وكَذَلِكَ مَالُهُ إِلا أَنْ يُقْسَمَ فَيَسْتَحِقّهُ بِالثَّمَنِ .... قد تقدم هذا في الجهاد، وتقدم لنا فيه كلام على الولد والمال. والاستثناء في قوله: (إِلا إِذَا سُبِيَتْ) وأخرنا الكلام على فسخ النكاح إلى هنا، وفيه أربعة أقوال: ابن راشد: والمشهور ما ذكره المصنف وهو أن السبي يهدم النكاح سواء سبيا معاً أو أو مفترقين، قدم أحدهما بأمان أم لا، ولا سبيل له عليها إلا بنكاح جديد. انتهى. وفهم المدونة على هذا ابن لبابة وأبو إسحاق. والثاني: أن السبي يبيح فسخ نكاحهم إلا أن يقدم أحدهما بأمان، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والثالث: أنهم على نكاحهم إلا أن

تسبى هي فيفوتها سيدها بوطء قبل أن يقدم زوجها. وهو قول محمد، وفهم أبو بكر بن عبد الرحمن المدونة على هذا. الرابع: إن سبيا معاً أو سبي هو واستبقي من القتل فهو على نكاحهم، وإن سبيت هي قبل حلت لمالكها. وهو مروي عن مالك أيضاً. ودليل المشهور قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] وهن ذوات الأزواج {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وهن المسبيات. وقال جماعة من أهل التفسير: المحصنات هن جماعة من النساء لا يحللن إلا بالتزويج أو بملك اليمين. والأول هو الظاهر لما في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس فلقوا عدواً فقاتلوهم وظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ وكُلِّ محرمتين– محرِّمٌ، وضَابِطُهُ: كُلُّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَرَابَةِ أَوِ الرِّضَاعِ مَا يَمْنَعُ نِكَاحَهُمَا لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا– وزِيدَ: مِنَ الْقَرَابَةِ؛ لأَجْلِ الْمَرأَةِ مَعَ أُمِّ زَوْجِهَا وَمَعَ ابْنَتِهِ– فَتَحْرُمُ أُخْتُهَا وعَمَّتُهَا وإِنْ عَلَتْ لأَبٍ أَوْ أُمٍّ، وخَالَتُهَا كَذَلِكَ. هذا راجع إلى قوله في المحرمات: (والمحرمة الجمع) والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. وروى الترمذي وصححه أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن تنكح المرأة على عمتها، والعمة على بنت أخيها، والمرأة على خالتها، والخالة على بنت أختها، ولا تنكح الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى. والعلة في المنع كونه يؤدي إلى التقاطع والتدابر للغيرة التي بين الضرائر. وضبطه

أصحابنا بما ذكره المصنف وهو (كُلُّ امْرَأَتَيْنِ ... إلخ) ولم يكتف بالضابط عن ذكر الأختين أولاً؛ لأن الأختين هما الأصل في هذا الباب، لأنهما متضمن الآية الكريمة، وشأن العلماء ذكر الأصول أولاً كقول ابن الجلاب: يستحب لمن استيقظ من نومه غسل يديه قبل أن يدخلهما في إنائه، وكذلك كل منتقض الطهارة. وقوله (وزِيدَ: مِنَ الْقَرَابَةِ) يعني: وزيد في الضابط قولنا (مِنَ الْقَرَابَةِ)، لتخرج المرأة مع أم زوجها، لأنك لو قدرت أم الزوج ذكراً لم يجز له أن يتزوج المرأة لأنها حليلة ابنه لكن ليس بينهما قرابة، وكذلك المرأة مع بنت زوجها فأنك لو قدرت البنت ذكراً لم يجز له أن يتزوج المرأة لأنها حليلة أبيه لكن ليس بينهما قرابة. فزاد قوله (مِنَ الْقَرَابَةِ) ليخرج هاتين الصورتين، فإن الجمع فيهما جائز. وأخرج عبد الوهاب هاتين الصورتين بغير هذه الزيادة، فقال: لو قدرت كل واحدة ذكراً. لأنك إذا قدرت أن المرأة في المثال الثاني ذكراً جاز له أن يتزوج البنت لأنها ابنة رجل أجنبي. وقوله: (فَتَحْرُمُ أُخْتُهَا وعَمَّتُهَا وإِنْ عَلَتْ لأَبٍ أَوْ أُمٍّ، وخَالَتُهَا كَذَلِكَ) أتى بالفاء لأنها كالنتيجة عما قبله. قوله (لأَبٍ أَوْ أُمٍّ) يحتمل معنيين: أحدهما: أن العمة قد تكون أخت لأبيه خاصة، أو أخته من أمه خاصة، فإذا حرم بأحدهما فأحرى إذا اجتمعا. والثاني: أن العمة كما تكون من جهة الأب كذلك تكون من جهة الأم؛ لأن أخت الجد للأم تسمى عمة عندهم، وأخ الجد لأم عم، هكذا قال ابن عبد السلام. فَإِنْ اجْتَمَعَتَا فُسِخَا أَبَداً أي: فإن جمع الأختين ونحوهما في عقد فسخ العقد قبل الدخول وبعده ولو ولدت الأولاد ولا خلاف فيه.

وَيُفْسَخُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ أَبَداً بِغَيْرِ طَلاقٍ، ويُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلا أَنْ تُخَالِفَهُ الْمَتْرُوكَةُ فَيَحْلِفُ لِلْمَهْرِ ويُفْسَخُ حِينَئِذٍ بِطَلاقٍ ... لا إشكال في الفسخ بغير طلاق؛ لأنه مجمع على فساده، فإن جهل التاريخ، قال المصنف قبل قوله في تعيين الثانية إن وافقته الثانية على ذلك. هكذا قال أَشْهَب ومحمد. اللخمي: والجاري على مذهب المدونة من عدم قبول تعيين المرأة، الأول في مسألة الوليين عدم قبول قوله هنا. وقوله: (إِلا أَنْ تُخَالِفَهُ الْمَتْرُوكَةُ [300/أ] فَيَحْلِفُ لِلْمَهْرِ ويُفْسَخُ حِينَئِذٍ بِطَلاقٍ) ونحوه لمحمد والباجي. وقوله (لِلْمَهْرِ) أي، لأنه مدع لسقوط نصف صداقتها، وعندي أن فسخ نكاحها يكون طلاقًا. اللخمي: وهذه المسألة على سبعة أوجه: إما أن يقول الزوج: لا علم عندي. وتدعي كل واحدة أنها الأولى، أو لا علم عند الجميع أيتهما الأولى، أو تدعي واحدة أنها الأولى وتقول الأخرى: لا علم عندي، أو يدعي الزوج العلم دونهما، أو تخالفه كل واحدة وتقول: أنا الأولى أو تخالفه إحدهما وتقول الأخرى: لا علم عندي، أو يكون العلم عند جميعهم، فإن قال الزوج: لا علم عندي وادعت كل واحدة منهما أنها الأولى فسخ النكاحان جميعًا. مالك في الموازية: ولكل واحدة نصف صداقها، وعليه فيكمل لها الصداق في الموت. وقال ابن حبيب: إذا مات يكون لكل واحدة نصف صداقها والميراث، وعليه فيكون عليه في الحياة ربع الصداق فقط، وتحلف كل واحدة لصاحبتها أنها الأولى، فإن حلفت إحداهما ونكلت الأخرى الصداق لمن حلفت منهما، وهو أقيس. وإن ادعت إحداهما العلم،

وقالت الأخرى: لا علم عندي حلفت المدعية العلم واستحقت النصف، ولا شيء للأخرى، فإن نكلت اقتسمتاه، وإن اعترف الزوج لواحدة غرم للتي اعترف لها نصف الصداق، وحلف للأخرى وبراء، فإن نكل غرم لها نصف صداقها، وإن ادعى جميعهم العلم: الزوج والأختان، كان الجواب كالتي قبلها تأخذ التي أقر لها بغير يمين ويحلف الزوج للأخرى ويبرأ، فإن نكل حلفت التي أنكرها واستحقت، وإنما تخالف هذه التي قبلها في رد اليمين. وإن ادعى الزوج الجهل بالأولى فسخ النكاحان، ولا ينظر إلى ما عند الأختين من علم أو جهل. وإن ادعى العلم، وقال: هذه الأولى، فذكر ما ذكره المصنف بقوله: (ويُقْبَلُ قَوْلُهُ ... إلخ) وإن شهدت عليه البينة بالنكاحين فأقر بإحداهما وكذب الأخرى فسخ النكاحان بخلاف التي قبلها. انتهى بمعناه. وَيَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِبَيْنُونَةِ الأُولَى بِخُلْعٍ أَوْ بَتٍّ أَوِ انْقَضَاءِ عِدَّةٍٍ يعني: أن التحريم بين الأختين إنما هو تحريم جمع، فإذا أبان الواحدة حلت الأخرى، وبينونتها بأحد ثلاثة أوجه، كما ذكر المصنف وهي: الخلع، والبت وهو الطلاق الثلاث، وانقضاء الطلاق الرجعي. فَإِنْ قَالَ انْقَضَتْ وَأَكْذَبَتْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَ كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى إنما لم يقبل قوله؛ لأن ذلك لا يعرف إلا من قولها، وهن مأمونات على فروجهن. وقوله (كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى) أي: سواء كما تلزمه النفقة والسكنى، إذا قالت: عدتي لم تنقض. ويكون القول قولها. ابن محرز: قال بعض المذاكرين: ويكون عليها اليمين في النفقة والسكنى، وأما في العدة فلا. ونقل ابن بشير هذا عن الأشياخ، قال في النكت: قال بعض شيوخنا من القرويين في المرأة التي طلقها زوجها طلاقًا رجعيًا، فإن أراد أن يتزوج أختها أو خامسة، فقالت:

احتبس الدم عني، فهي مدقة فيه حتى تنقضي لها سنة، فإن ادعت التحريك بعد السنة لم تصدق على الزوج؛ لأن ذلك يظهر فينظر إليها النساء، فإن صدقنها وإلا لم يلزم الزوج أن يتربص إلى أقصى الحمل. ومن هذا ما وقع لابن زرب فيمن مات وادعت امرأته أنها حامل، وورثته عصبته، فأرادوا القسمة، ومر لها عام فأكثر، فأرى أن ينظر إليها النساء، قال: والنظر أحسن إذا استبان اللدد. وَفِي مَعْنَى النِّكَاحِ وَطْءُ مِلْكِ الْيَمِينِ لما كان جمع الأختين على ثلاثة أقسام: بنكاح، وبملك، وبنكاح وملك، وتكلم على الأول شرع في الأخريين. يعني إن وطئهما بالملك حرام كنكاحهما. ولا خلاف فيه عندنا. وَإِذَا وَطِئَ إِحْدَاهُمَا حَرُمَتِ الأُخْرَى مَا لَمْ يُحَرِّمِ الْمَوْطُوءَةَ بِبَيْعٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ تَزْوِيجٍ صَحِيحٍ يُقَرَّانِ عَلَيْهِ أَوْ عِتْقٍ نَاجِزٍ أَوْ مُؤَجَّلٍ، أَوْ إِبَاقِ إِيَاسٍ ... قوله (حَرُمَتِ الأُخْرَى) لأنه لو لم تحرم لجاز الجمع، والحكم خلافه. ثم بين ما تحرم به الأولى بقوله: (بِبَيْعٍ ... إلخ). وقوله (بِبَيْعٍ أَوْ كِتَابَةٍ) أما البيع فظاهر، وأما الكتابة فلأنها أحرزت نفسها ومالها وليس للسيد وطؤها، والأصل عدم إعجازها. واختار اللخمي أن الكتابة غير كافية في التحريم لأنها قد يظهر بها حمل. وقوله: (أَوْ تَزْوِيجٍ صَحِيحٍ يُقَرَّانِ عَلَيْهِ) احترز بالصحيح من الفاسد كالمتعة، (ويُقَرَّانِ عَلَيْه) من الصحيح الذي لا يقران عليه كنكاح العبد بغير إذن السيد، والصبي كذلك، ونكاح المغرور بالعيب. وقول ابن عبد السلام أن كون التزويج صحيحًا يستلزم أن يقرا عليه. فلفظ (يُقَرَّانِ عَلَيْه) كالحشو ليس بظاهر.

وَلا أَثَرَ لِعَارِضٍ كَحَيْضٍ، وَعِدَّةِ شُبْهَةٍ، وَرِدَّةٍ، وَإحْرَامٍ، وَظِهَارٍ لأن زمان الحيض يسير، ولأن مقدمات الجماع لا تحرم فيه، وكذلك عدة الشبهة؛ أي: إذا غلط بها، والردة وإن كانت تحرم الوطء في الحال، إلا أن زمان الاستتابة قصير، وهو ثلاثة أيام والغالب مع تقدم الإسلام، والخوف الرجوع إلى الإسلام، والإحرام أيضًا قصير الزمان، والظهار لأنه قادر على رفع التحريم بالكفارة. وَلا بِهِبَتِهَا لِمَنْ يَعْتَصِرُهَا مِنْهُ وَلَوْ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ إِذْ لَهُ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ بِالْبَيْعِ تصوره ظاهر، وقد ذكر رحمه الله الحكم وعلته، فإن تصدق بها على ولده، وحيزت له جاز له وطء الأخرى، لأنه لا اعتصار في الصدقة، وإن لم تحز فلا. قال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن: لأن الواهب لو أعتق قبل القبض أو أجلها لمضى فعله وانتقضت الهبة. وَلا بَيْعَ فَاسِدٌ إِلا أَنْ يَفُوتَ لأنه قبل الفوات لا ينتقل ملك البائع عنه وستعلم هذا في البيوع. بِخِلافِ صَحِيحٍ دَلَّسَ فِيهِ بِعَيْبٍ أي: فإنها تحل، وهذه النسخة هي الصحيحة لا ما وقع في بعضها ولا صحيح؛ لأن في التهذيب في آخر كتاب الاستبراء: وإن باعها وبها عيب حلت له أختها، وهو بيع تام حتى يردها. ووقع في بعض النسخ زيادة على المشهور، وهي زيادة صحيحة لأن في الموازية أن ذلك ليس بتحريم كما نقله اللخمي وغيره. وَلا اسْتِبْرَاءٍ وَلا خِيَارٍ ولا عُهْدَةٍ؛ يَعْنِي الثَّلاثَ تصوره ظاهر، وقوله: (الثَّلاثَ) أي: عهدة الثلاث بخلاف عهدة السنة لطول زمانها.

فرع: ابن حبيب: ولو أخدمها شهراً أو سنة أو شبه ذلك لم تحل له أختها، وإن أخدمها سنين كثيرة، أو حياة المخدم، فذلك تحل له أختها. فَلَوْ وَطِئَ مُنِعَ مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ أي: فلو وطاء الثانية بعد وطء الأولى منع منهما حتى يحرم أيتهما شاء، فإن حرم الثانية استمر على وطء الأولى. اللخمي: وإن عاود الأولى قبل التحريم لم يطأ واحدة منهما إلا بعد الاستبراء، وله أن يطأ إحداهما ويؤتمن على ألا يصيب الأخرى. وَلَوْ مَلِكَ وَوَطِئَ ثُمَّ عَقَدَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُمْنَعُ، فَإِنْ وَقَعَ حَرَّمَ مَنْ شَاءَ. وقَالَ أَشْهَب: لا يُمْنَعُ، والْعَقْدُ مُحَرَمٌ لِلأَمَةِ. وقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يُفْسَخُ ... هذا هو القسم الثالث، وله صورتان: إحداهما: أن يتقدم الملك ووطء المملوكة. والثانية: أن يتقدم النكاح. وذكر المصنف في الصورة الأولى ثلاثة أقوال، والثلاثة في المدونة، ففيها: ومن وطاء أمة بملك، ثم تزوج أختها لم يعجبني ذلك إذ لا يجوز له أن ينكح إلا في الموضع الذي يجوز له فيه الوطء إلا أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، ويوقف عنها حتى يحرم أيتهما شاء. فإن اختار فسخ النكاح قبل البناء، فهل يلزمه نصف الصداق أم لا؟ فيخرجه بعضهم على المجوسي يسلم على عشرة واختار أربعة على ما سيأتي بعد من يكون لها صداقتها. سحنون: وقد قال عبد الرحمن: إن النكاح لا ينعقد، وهو أحسن قوليه. وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح تحريم للأمة كان يطأ أم لا. انتهى. وقال بالفسخ عبد الملك، ومطرف، وابن الماجشون، وأصبغ. وهو أقيس لما أشار إلى توجيهه في الرواية أنه لا يجوز النكاح إلا حيث يجوز الاستمتاع، ولا يستثنى من ذلك إلا

الحيض والنفاس. قال ابن دينار على القول الأول: وأحبُّ إليَّ أن يحرم فرج التي كان يطأ ثم له حينئذ وطء الثانية. وَلَوْ عَقَدَ ثُمَّ اشْتَرَى وَطِئَ الأُولَى فَلَوْ وَطِئَ الْمُشْتَرَاةَ كَفَّ عَنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ مَنْ شَاءَ .... هذه هي الصورة الثانية من القسم الثالث. قوله: (وَطِئَ الأُولَى) أي: الزوجة. وكلامه ظاهر، وهل يكفي في تحريم الأمة أن يقول لها: إن وطئتك فأنت حرة؟ وفي تحريم الزوجة أن يقول: أن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً؟ نص عبد الملك على أن ذلك في الأمة ليس بتحريم لأن أول الإصابة حلال. اللخمي: وعلى القول بعدم التمكين من الإصابة يكون ذلك تحريمًا. وزعم ابن بشير أن المذهب عدم التمكين، وحاول رد تخريج اللخمي بوجه ليس ببين. وَالزَّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ مُمْتَنَعَةٌ عَلَى الْحُرِّ والْعَبْدِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: الثَّالِثَةُ لِلْعَبْدِ كَالخَامِسَةِ لِلْحُرِّ .... لا خلاف بين أهل السنة في تحريم ما زاد على الأربع لحديث غيلان الثقفي وغيره خلافًا لبعض المبتدعة. ووجه المشهور في إباحة الأربع للعبد عموم قوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. الآية. وقاس ابن وهب ذلك على طلاقه، ويحتمل أن يكون منشأ الخلاف اختلاف الأصوليين في دخول العبيد تحت الخطاب وعدم دخولهم. فَلَوْ نَكَحَ خَمْسًا فِي عَقْدٍ فَكَالأُخْتَيْنِ أي: فيفسخ أبداً. وَأَمَّا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أَرْبَعٍ وسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقًا صَحَّ وهذا لا خلاف فيه. وقال ابن لبابة: لا أحسبهم يختلفون فيه.

عياض: ما لم يكن شرط أنه إنما يتزوج إحداهما بشرط الأخرى. فإن كان بالشرط. ابن عبد السلام: يريد: ولم يكن ما سمي لكل واحدة صداق مثلها، فاختلف المتأخرون في ذلك، فأجازه ابن سعدون ولم يره كالبيوع، وخالفه غيره، ورآه كالبيوع فلا يجوز إلا أن يكون ما سماه لكل واحدة صداق مثلها. وهذه المسألة لا تناسب هذا الفصل والأليق بها باب الصداق. فَإِنْ أَجْمَلَهُنَّ فِي صَدَاقٍ وَاحِدٍ فَفِيهَا: الْمَنْعُ. وقَالَ أَصْبَغُ بِالْجَوَازِ إنما فيها: لا يعجبني، وفهم المصنف والأكثرون منها المنعَ، وعلى ذلك اختصرها الرادعي، وحملها بعضهم على الكراهة. ابن محرز: وينبغي أن تجري على الخلاف في جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وكان ينبغي أن يخفف في النكاح لكونه مبنيًا على المكارمة وأما في البيوع فلا؛ لأنها مبنية على المكايسة، لأن المعاوضة وقعت بينهما لمكان الشرط، لأنها معاوضة بشيء مجهول، إذ لا يدري أحدهما هل حط من ثمن سلعته شيئًا لمكان الشرط أم لا، وإن حطه لا يدري أحدهما هل حط من ثمن سلعته شيئًا لمكان الشرط أم لا، وإن حطه لا يدري مقدار الحطيطة، وهذا بالنظر إلى البائع وأما بالنظر إلى المشتري بما يظهر للمنع لمكان ربه، والفرق بينه وبين النكاح ما تقدم. ونص في المدونة على نقل ابن يونس: وإن جملهما في صداق لم يعجبني ذلك، وقد بلغني أن مالكًا كرهه لأنه لا يدري ما صداق هذه من صداق هذه. قيل: فإن طلق إحداهما أو مات عنهما قبل البناء، كم يكون صداقها؟ [301/أ] أيقسم عليهما على قدرهما؟ قال: نكاحهما غير جائز؛ فقوله: (غير جائز) يفهم منه المنع لأن لفظ (لا يعجبني) كثيرًا ما يستعمله مالك في التحريم، ولا يوجد له استعمال (لا يجوز) في الكراهة. وبقول أصبغ قال ابن دينار، وابن نافع، وسحنون، وحكي عن مالك: لأن النكاح مبني على المكارمة.

وَعَلَى الْمَنْعِ فَفِي فَسْخِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ قَوْلانِ يعني: فإن دخل مضى، وإنما اختلف قبل البناء فمذهب الشيخ أبي محمد أنه يفسخ ولا شيء لها، وكذلك قال ابن محرز. وظاهر قول ابن القاسم أن النكاح فاسد، وأن المطلقة والمتوفى عنها لا شيء لهما، ومقتضى قوله أن النكاح يفسخ. وقال بعض المذاكرين: لهما ما يخصهما من تلك التسمية؛ لأن النكاح أخف من البيوع، ومقتضى هذا أنه لا يفسخ، وكذلك قال في التنبيهات: ظاهره على أصله أنه لا شيء لهما؛ لأنه عنده من باب غرر الصداق؛ إذ لا يدري ما صداق هذه من صداق هذه. ابن يونس: ويحتمل أن يقال على قوله في من نكح بدرهمين وطلق قبل البناء أن لهما نصف المسمى؛ لأنه إذا راعى قول من يجيز بالدرهمين وألزمه نصفهما بالطلاق فمراعاة قول نفسه وقول غيره أولى. ابن عبد السلام: وهذان القولان عند المتأخرين مبنيان على المنع ابتداءً، هل هو على الكراهة أو على التحريم؟ وَعَلَى الْجَوَازِ أَوِ الإِمْضَاءِ فَفِي تَعْيينِ صَدَاقِ الْمِثْلِ أَوْ فَضِّ الْمُسَمَّى قَوْلانِ أي: إذا قلنا بجواز النكاح ابتداءً وفرَّعنا على الإمضاء إما بعد البناء، وإما قبله على أحد القولين، وتصور كلامه ظاهر. والقول بفض المسمى هو للقائلين بالجواز، ولا يمكن أن يأتي على الجواز خلافه وإن كان ظاهر كلامه أن القولين أيضاً يأتيان على القول بالجواز، وعلى هذا فالقول بصداق المثل إنما هو بعد البناء، وأما قبل البناء فلا شيء لها على مذهب ابن القاسم على ما قاله ابن يونس وغيره، ولهذا قال بان عبد السلام: قال غير المصنف: إنما يوجد القولان بفض المسمى أو تعييين صداق المثل بعد الدخول، وأن الفض مبنى على الكراهة وتعيين صداق المثل مبني على المنع.

وقد يجاب عنه بأن قوله: (فَفِي تَعْيينِ .. إلى آخره)، من باب اللف والنشر، وأن قوله: (فَفِي تَعْيينِ) راجع إلى قوله (أَوِ الإِمْضَاءِ) وقوله: (أَوِ فَضِّ الْمُسَمَّى) راجع إلى قوله (وَعَلَى الْجَوَازِ) وفيه بعد، والله أعلم. فرع: ابن يونس: يجوز أن يتزوج امرأتين إحداهما على صداق مسمى، والأخرى على تفويض في عقد واحد، وكذلك لو جمعهما في عقد واحد تفويضًا. قاله أبو عمران. وَالْمُسْتَوْفَاةِ طَلاقًا– وَهُوَ ثَلاثَةٌ لِلْحُرِّ واثْنَانِ لِلْعَبْدِ– لا تحلّ بِعَقْدٍ وَلا مِلْكٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا لازِماًَ وَيَطَأُهَا وَطْئًا مُبَاحًا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَوْ فِي الْحَيْضِ وَالإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ. هذا راجع إلى قوله في الموانع (وَالْمُسْتَوْفَاةِ طَلاقًا) وقوله (لا تحلّ) خبر عن (الْمُسْتَوْفَاةِ). وقوله: (وَهُوَ ثَلاثَةٌ) جملة وقعت بين المبتدأ والخبر وهي تفسير لقوله: (طَلاقًا). وقوله: (لا تحلّ بِعَقْدٍ وَلا مِلْكٍ) يحتمل معنيين: الأول: لا تحل بعقد الغير عليها أو بوطء سيدها للذي طلقها ثلاثًا، وهو الأقرب. والثاني: لا تحل بعقده هو عليها، ولا يمكله هو لها، ولا خلاف في ذلك كله عندنا لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولما في البخاري والموطأ ومسلم أن رفاعة طلق امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا فنكحت عبد الرحمن بن الزبير فاعترض ولم يستطع أن يمسها ففارقها وأرادت الرجوع إلى رفاعة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته".

وذكر المصنف خمسة قيود لتحليل المبتوتة لمطلقها: الأول: النكاح. والثاني: الصحيح. والثالث: اللزوم. والرابع: الوطء. والخامس: أن يكون مباحًا. وبدأ بالكلام على الأخير طلبًا للاختصار، وهو إباحة الوطء، وذكر أن المشهور اشتراطه خلافًا لابن الماجشون، قال: لأنه وطء في نكاح لا حد عليه فيه، وذاقت عسيلته فوجب أن تحل. وظاهر كلامه أن هذين القولين في كل صيام سواء كان واجبًا أو تطوعًا، أو في قضاء رمضان أو غيره، وهو رأي الباجي. ورأى غيره أنه ظاهر المدونة والموازية، واختاره ابن رشد، وقال ابن حبيب بعد أن اختار قول ابن الماجشون: إن القولين فيما عدا صيام التطوع، وقضاء رمضان، والنذر غير المعين، وأن الوطء في هذه يحل اتفاقًا. واختاره اللخمي، وهو عنده مذهب المدونة، لأن الصيام يفسد في الثلاثة بأول الملاقاة ولأن القضاء والنذر غير المعين مضمون بخلاف رمضان والنذر المعين فإنه وإن فسد بأول الملاقاة لكنه مخاطب بالإمساك عن التمادي. وفي العتبية عن ابن القاسم أنه لا يحلها الوطء في رمضان ولا في نذر، ووقف في صيام التطوع، وعده ابن رشد ثالثًا. أبو عمران: وإن وطئها قبل أن تغتسل من الحيض جرى على الخلاف في جواز وطئها حينئذ. وَلا تَحِلُّ بِوَطْءِ مِلْكٍ هذا راجع إلى القيد الأول وهو قوله: (نِكَاحًا). وَلا بِنِكَاحٍ غَيْرِ صَحِيحٍ كَنِكَاحٍ الْمُحَلَّلِ [301/ ب] هذا راجع إلى قوله (صَحِيحًا). ومثل المصنف بنكاح المحلل لشهرته وللاختلاف فيه، ولأنه هو الغالب هنا، وإلا فكل نكاح فاسد مساو له في عدم التحليل،

ولا إشكال في عدم الحلية في النكاح الذي يفسخ قبل الدخول وبعده، وأما ما يفسخ قبل البناء فقط، فقال الباجي: إن وطاء بعد المرة الأولى وقع به الإحلال، وأما أول وطء وهو الذي يفوت به النكاح فلم أر فيه نصًا، وعندي أنه يحتمل الوجهين: الإحلال وعدمه. ولعله أشار إلى الخلاف المعلوم، هل النزع وطء أم لا؟ ودليلنا على فساد نكاح المحلل ما صححه الترمذي وخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده: "لعن الله المحلل والمحلل له"، وخرج الدارقطني وابن ماجه عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار. قالوا: بلى. قال: هو المحلل. ثم قال: لعن الله المحلل والمحلل له". عبد الحق: وإسناده جيد. ولا يقال أنه صلى الله عليه وسلم سماء محللاً، لأنا نقول إنما سماه على زعمهم. وَالْمُعْبَبَرُ نِيَّةُ الْمُحَلَّلِ لا الْمَرْأَةِ وإنما اعتبرت نية المحلل لأن الطَّلاق بيده، وهذا هو المعروف. وفي الطرر: إذا نوى الإحلال من غير شرط لم تحل عند مالك، وأحلها ذلك عند غير واحد من أصحابه، وهو قول سالم والقاسم وأبي الزناد ويحيى بن سعيد قالوا كلهم: يجوز للرجل أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجين وهو مأجور، ونحوه في الزاهي لابن شعبان. انتهى. وقال صاحب الكافي: وقد قيل: ينبغي للأول إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها، أن يتنزه عن مراجعتها، وكذلك المرأة إذا اشترطت ذلك أو نوته، وقد قيل: إذا علم أحد الثلاثة بالتحليل فسخ النكاح وهذا شذوذ. وفي المتيطية: إن نوى الناكح الإحلال للأول لم تحل له، وعوقب هو ومن علم بذلك من الزوجة والولي والشهود. ابن حبيب: وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها، وإلا كان احتسب تحليلها للأول لم يجز ولا تحل للأول لما خالط نكاحه إياها من نية التحليل.

محمد: ولو قال المطلق: تزوجي فلانًا فإنه مطلاق، حلت إن تزوجته، وكذلك إن تزوجته هي لذلك، وإن تزوجها ليمين لزمت. ففي البيان: في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: يحلها كانت تشبه مناكحه أو لا، لأنه نكاح، ولو شاء أن يقيم عليه لأقام، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. الثاني: أنه لا يحلها مطلقًا غير أنها إن لم تشبه مناكحه لم يبر، وإن أشبهت بَرَّ، وهو قول ابن دينار، وأحد قولي ابن كنانة، ولو أقامت عنده سنتين أو أكثر. الثالث: الفرق بين أن تشبه مناكحه أو لا، وهو أحد قولي ابن كنانة. وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ بِتَطْلِيقَةٍ بِائِنَةٍ، وَلَهَا الْمُسَمَّى إِذَا أَصَابهَا عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ صَدَاقُ مِثْلِهَا .... نص مالك على أنه يفرق بينهما قبل البناء وبعده، ولم يتعرض للطلاق، وفسر ابن المواز بأنه يفسخ بطلاق إن أقر بذلك قبل البناء وبعد العقد، قال: وأما إن أقر بذلك قبل النكاح فليس بنكاح. يعني: فيفسخ بغير طلاق. الباجي: وعندي أنه يدخله الخلاف في النكاح الفاسد المختلف في فساده، هل يكون بطلاق أم لا؟ وهو تخريج ظاهر. وقول المصنف: (بَائِنَةٍ) ظاهر، لأنه من الطَّلاق الذي يوقعه الحاكم. واختلف إذا فسخ بعد البناء، فروى ابن عبد الحكم: لها صداق المثل. وقال ابن المواز: بل المسمى، وهو قول مالك. الباجي: وهو الأظهر لأن فساده في عقده، وهو الذي قال المصنف أنه الأصح. ابن عبدالسلام: وهذا الاختلاف جار على الاختلاف في الأنكحة الفاسدة للشرط فأنتج له ذلك؛ أنا إذا فسخناه لنية الزوج الثاني التحليل، ولا شرط هناك أن يكون لها المسمى إتفاقًا، وإليه أشار. انتهى.

وإذا فرق بينهما فأراد المحلل أن يتزوجها بعد ذلك، فقال مالك: له ذلك. وروى أشهب: أحب إلي ألا ينكحها أبداً. قال: ويجب عليه أن يأتي الأول فيعلمه أنه قصد تحليلها ليمتنع من نكاحها. وَلا تَحِلُّ الذِّمِّيَّةُ بِنِكَاحِ الذِّمِّيِّ لِفَسَادِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ هذا من معنى الذى قبله, ومعناه: إذا كانت ذمية تحت مسلم, وطلقها ثلاثاً وتزوجها ذمي فلا تحل لمسلم بعد فراق الذمى لها على المشهور. والقول: بتحليلها لأشهب, وهو مبني على الشاذ عندنا فى أن أنكحة الكفار صحيحة. و (عَلَى الْمَشْهُورِ) يحتمل أن يتعلق بـ (لا تَحِلُّ) ويحتمل أن يتعلق بـ (فَسَادِهِ). ابن عبد السلام: وهو الأظهر لأنه لو تعلق بـ (لا تَحِلُّ) كان الخلاف منصوصاً فى نفى الحلِّية مع فساد أنكحتهم, فلا يكون القول الشاذ سبباً. انتهى. وقد يقال: إن قوله: (لِفَسَادِهِ) إنما هو تعليل للمشهور فقط. وليحيي بن يحيي قول ثالث: إن مات الذمي حلت وإن طلقها فلا. وَلا بِنِكَاحِ غَيْر لازِمٍ كَنِكَاحِ الْعَبْدِ الْمُتَعَدِّي، ونِكَاحِ ذَاتِ الْعَيْبِ، أَوْ الْمَغْرُورَةِ أو ذِي الْعَيْبِ، أَوِ الْمَغْرُوِرِ إِلا إِذَا لَزِمَ بِإِجَازَةِ السَّيِّدِ ورِضَا الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ، وَوَطِئَ بَعْدَ اللُّزُومِ. ] 302/ أ [هذا راجع إلى القيد الثالث, وقوله (الْمَغْرُوِرِ أو الْمَغْرُورَةِ) أى: بالحرية, (إِلا إِذَا لَزِمَ بِإِجَازَةِ السَّيِّدِ) راجع إلى العبد. وقوله (ورِضَا الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ) راجع إلى صورتي العيب والغرور. وقوله (وَوَطِئَ بَعْدَ اللُّزُومِ) يعنى فى الخمسة, وهذا أعنى أنها لاتحل إذا أجيز النكاح بوطء سابق هو المشهور, وعن أشْهَب فى العبد أنها تحل فى الوطء المتقدم إذا أجازه السيد.

ومنشأ الخلاف هل الخيار الحكمى كالشرطي أو لا؟ فإن قلنا ليس كالشرطي والأصل فيه اللزوم أحل وإلا فلا. وانظر هل يتخرج على هذا قول بالإحلال وإن لم يجزه السيد؟ وَيَكْفِي إِيلاجُ الْحَشَفَةِ أَوْ مِثْلِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي الْقُبُلِ وَلَوْ كَانَ خَصِيّاً عَلَى الْمَنْصُوصِ. قوله: (وَيَكْفِي إِيلاجُ الْحَشَفَةِ) أي: ولا يتوقف الإحلال على الإنزال. وفسر مالك رحمه الله فى الموازية العسيلة المشترطة بالإيلاج, وروى نحوه ابن مزين عن عيسى بن دينار سواء أنزل أو لم ينزل. وقوله (فِي الْقُبُلِ) ظاهر, لأنها لا تذوق العسيلة إلا فيه. وفهم من قوله: (وَيَكْفِي إِيلاجُ الْحَشَفَةِ) أن دون ذلك لايكفى, لأنه بين أنه أقل ما يكون به الإحلال. ابن القاسم: ولو وطئ فوق الفرج, فأنزل ودخل ماؤه فى فرجها فأنزلت هى فلا يحصنها ولا يحللها. قوله: (وَلَوْ كَانَ خَصِيّاً) يعني قائم الذكر مقطوع الخصيتين. والمنصوص مذهب المدونة, قيل: وسواء كان مقطوع الحشفة أو غير مقطوع. وذكر بعضهم قولاً آخر أنها لاتحل, وأما المجبوب فنص فى المدونة أنها لا تحل به, قال فيها: لأنه لا يطأ. وَالانْتِشَارُ شَرْطٌ فِي الْمَشْهُورِ لأن العسيلة لا تحصل إلا به, والشاذ لابن القاسم فى الموازية. وَيُشْتَرَطُ بُلُوغُ الزَّوْجِ عِنْدَ الوَطْءِ وَإِطَاقَةُ الزَّوْجَةِ الْوَطْءَ قيد بلوغ الزوج بأن يكون عند الوطء؛ لأنه لو حصل العقد قبل البلوغ, والوطء بعده أحلَّ, فإن وطئ قبل البلوغ لم تحل, وهو بين على المشهور من عدم حده لو زنى حينئذ, وأجرى اللَّخْمِيّ وغيره على الشاذ القائل بحد المراهق قولاً بأن يكون وطؤه محللاً.

قوله: (وَإِطَاقَةُ الزَّوْجَةِ الْوَطْءَ) أي: ولا يشترط بلوغها واحترز بذلك ممن لاتطيقه فإنه لاينفع فهو كالعدم. وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الزَّوْجَةِ خَاصَّةً بِالْوَطْء، وَقَالَ أَشْهَب: عِلْمُ الزَّوْجِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَوْ كَانَا مَجْنُونَيْنِ حَلَّتْ .... الأول لابن القاسم, ورأى أن الله سبحانه لما أضاف النكاح إليها بقوله {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}] البقرة: 230 [الآية, كانت هى المعتبرة. ورأى أَشْهَب أن الزوج هو المعتبر لأنه الفاعل, ورأى ابن الماجشون أن الوطء سبب في الحلية من باب خطاب الوضع, وهو لا يشترط فيه علم المكلف وهو أقيس. ورأى اللَّخْمِىّ أنها لا تحل إلا بأن يكونا عالمين لقوله صلى الله عليه وسلم "حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك". فَلَوِ ادَّعَتِ الْوَطْءَ بَعْدَ الدُّخُولَ وأَنْكَرَهُ فَثَالِثُهَا لابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ بَعْدَ الطَّلاق فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَرَابعُهَا يَبْنَى عَلَى الْمَسِيسِ في الصَّدَاقِ .... القولان الأولان فى المدونة, ففيها: قال مالك: ومن بنى بزوجته ثم طلقها فادعت المسيس وأنكره لم يحلها ذلك لزوج كان طلقها ثلاثاً إلا بتقاررهما على الوطء. وقال ابن القاسم: أما فى الإحلال فلا أمنع المطلق منها وأدنيه, وأخاف أن يكون إنكار الزوج ليَضُرَّ بها فى نكاحها ولا تكون بذلك محصنة. وحكى المصنف القول الثالث عن ابن القاسم, وحكاه الباجى عن ابن وهب وهو قريب المالك فى الموازية, إلا أنه جعل اختلافهما بقرب الطَّلاق كاختلافهما قبله. والرابع للباجى. ومعنى (يَبْنَى عَلَى الْمَسِيسِ في الصَّدَاقِ) أي حيث يكون القول قولها فى تكميل الصداق تحل, والصداق يكمل بقولها غن خلا بها خلوة الاهتداء, وأما إن خلا بها خلوة زيارة, فالقول قول الزائر منهما, وسيأتى.

اللخمي: وقول مالك أحسن لأن الحرمة متيقنة, وإنكار الثانى يوجب شكاً. قال: والإحلال يصح بثلاثة شروط: بشاهدين على نكاح المحلل, وامرأتين على الخلوة, وتصادق الزوجين على الإصابة. فإن لم يعلم التزويج إلا من قول المطلقة لم يقبل قولها فى الأمد القريب, ويقبل فى البعيد إذا كانت مأمونة. واختلف فى غير المأمونة, فقال محمد: لايقبل قولها ولا يتزوجها الأول حتى يستخبر لنفسه ولو منعه السلطان حتى يعلم خبرها رأيت ذلك له. وقال ابن عبد الحكم: لا يمنع إذا طال الأمد مما يمكن موت شهودها وهى كالغريبة, وإن كانا طارئين قبل قولهما ومنعت فى الأمد القريب؛ لأن عقد النكاح والدخول لا يخفى فى الغالب على الجيران, والمرأة تتهم فى الرجوع إلى الأول, وإذا طال الأمد تضعف التهمة ودينت الطارئة لتعذر إثبات ذلك إلا أن يكون الموضع قريباً, وإذا علم النكاح ولم يعلم الدخول حتى طلق لم تصدق أنه بنى بها لأن ذلك مما لايخفى وقد أتت بما لايشبه. أشهب فى المدونة: ولو صدق الثانى لم تصدق, ولا تحل حتى تعلم الخلوة. وَفِيهَا: إِنْ لَمْ يَدْخُلْ وَمَاتَ وَادَّعَتْ أَنَّهُ طَرَقَهَا لَيْلاً لَمْ تَحِلَّ بِذَلِكَ تصوره ظاهر, ولعله نسبها للمدونة, لأنها تقتضى بحسب] 302/ب [المفهوم أنه لو كان حياً لصدقت إن وافقها الزوج, وليس كذلك كما تقدم عن أشهب. الرِّقُّ قِسْمَانِ: مَانِعٌ مُطْلَقاً فَلا يَنْكِحُ أَمَتَهُ وَلَوْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا بِشِرَاءٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ ..... هذا راجع إلى أحد الموانع المتقدمة, وهو ينقسم إلى قسمين كما ذكر: الأول: (مانع مطلقاً) أى: فلا يجوز بوجه من الوجوه. وحكى اللَّخْمِيّ وابن يونس وغيرهما الإجماع على أن الملك والزوجية لا يجتمعان لتنافي الحقوق, لأن المرأة إذا تزوجت عبدها تطالبه

بالنفقة للزوجية والخدمة للرق, ويطالبها هو أيضاً بالنفقة للرق والخدمة الزوجية. وقوله (وَلَوْ مَلَكَ) يعني أن ملك أحد الزوجية لصاحبه مناف للنكاح, ولو طرأ الملك إما بميراث أو غيره. وينبغى أن يفهم قوله (فَلا يَنْكِحُ أَمَتَهُ) على القن ومن فيها شائبة الحرية, لأن أم الولد والمكاتبة والمدبرة والمعتقة إلى أجل والمعتق بعضها كالقن, وكذلك نص مالك على أن المرأة لا تتزوج مكاتبها, وأما من دفعت إليه جارية ليستخدمها فرأى بعضهم أنه يجري جواز نكاحها على الخلاف في حده إذا زنا بها, فمن يقول بحده هنا يقول بصحة النكاح, ومن يقول بسقوط الحد يقول بمنع النكاح. ابن عبد السلام: وفيه نظر لأنه لا يلزم من كون الحد ساقطاً بالشبهة فسخ النكاح بها. وحيث ملك أحد الزوجين صاحبه ففي الموطأ: هو فسخ بغير طلاق, وهو المعروف. ونقل ابن سحنون أن الفرقة في ذلك طلاق. فرع: وهل يجوز للمكاتب والعبد أن يريا شعر سيدتهما, أجازه مالك في المدونة بشرط أن يكونا وغدين. وقال ابن عبد الحكم: لا يجوز ولو كانا وغدين, ولا يخلوان معها فى البيت. قال في المدونة: وإن كان لها فيه شرك فلا يرى شعرها وإن كان وغداً. اللخمي: واختلف فى عبد زوجها وعبد الأجنبى هل يدخل عليها ويرى شعرها؟ واختلف فى العبد الخصي الوغد, قال مالك: لا بأس أن يرى الخصي شعر سيدته وغيرها, وإن كان له منظر فلا أحبه, وأما الحر فلا, وإن كان وغداً. وقال مالك فى العتبية: لا بأس أن يدخل على المرأة خصيها, وأرجو أن يكون خصي زوجها خفيفاً, وأكره خصيان غيره. وقال أيضاً: لا بأس بالخصي والعبد أن يدخلا على النساء ويريا شعورهن

إن لم يكن لهما منظر. فجعل الخصي فى القول كغيره ممن لم يخص فمنعه إلا أن يكون ملكا لها ولا منظر له, وأباحه فى القول الأخر إذا كان لزوجها, وإن لم يكن وغداً, ثم أجازه وإن كان لأجنبي, وأجاز دخول الخصي عليهن وإن كان حراً. انتهى. وَلا صَدَاقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لأنه فسخ قبل البناء, وكل فسخ قبل البناء فلا شيء فيه إلا نكاح الدرهمين على أصح القولين. وَبَعْدَهُ كَمَالها أي: فإن استثنى الزوج المشترى المال كان الصداق له وإلا فهو لبائعها. وَالْمَرْأَةُ فِي زَوْجِهَا كَذَلِكَ يعني: فلا يجوز أن تتزوج عبده وما في معناه من مكاتب ونحوه, ولو ملكته بشراء أو غيره انفسخ النكاح بغير طلاق. فروع: قال ابن القاسم في الموازية: وإن اشترى ابن زوج أمه أو امرأة أبيه انفسخ النكاح. وعن أشهب: لا ينفسخ. وَلَوْ دَفَعَتْ لِسَيِّدِهِ مَالاً عَلَى أَنْ يَعْتِقَهُ عَنْهَا فَكَذَلِكَ خِلافاً لأَشْهَبَ هذه المسألة وقعت في بعض النسخ, ومعناها أن الزوجة الحرة إذا دفعت مالاً لسيد زوجها ليعتقه عنها, (فَكَذَلِكَ) أي: يفسخ النكاح كما لو اشترته. وهو مذهب ابن القاسم, وروى أَشْهَب أنه لم يستقر لها ملك عليه, وليس لها إلا الولاء كما لو أعتقه السيد عنها من غير سؤالها.

وَلَوِ اشْتَرَتْ زَوْجَهَا وهِيَ غَيْرُ مَاذُونٍ لَهَا فَرَدُّهُ السَّيِّدُ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا لأنها لم يأذن لها سيدها فى التجارة, ورد السيد لم يتم الشراء. وَقَالَ سَحْنُونً: لَوْ تَعَمَّدَ فَسْخَ نِكَاحِهِمَا بِبَيْعٍ لَمْ يَنْفَسِخْ هذا الكلام لسحنون فى المدونة, ونصه: وإن اشترته قبل البناء فلا مهر لها. سحنون: إلا أن يرى أنها وسيده اغتزيا فسخ نكاحه فلا يجوز ذلك, وتبقى زوجته. إذ الطَّلاق بيد العبد فلا تخرج من عصمته بالضرر, وقول سحنون تفسير. وإذا وهب السيد لعبده زوجته لينتزعها ففيها لا يجوز له ذلك ولا تنتزع واستدل به على جبر العبد على الهبة وقيل: تنتزع ..... أي: أنه لا تتم الهبة ولا يفسخ النكاح, ومن لازم عدم الفسخ عدم الانتزاع, فيكون المصنف اكتفى بذكر اللزوم عن ذكر الملزوم. وقول ابن عبد السلام: وتعبير المصنف عن فسخ النكاح بالانتزاع- وهو خلاف الاصطلاح- ليس بظاهر, لأنا نقول: لانسلم أنه عبر بالانتزاع عن الانفساخ, وإنما ذكر لازم عدم الانفساخ, وإنما لم ينتزع لأن السيد قصد الضرر بالعبد بإخراج زوجته والضرر متف لقوله صلى الله عليه وسلم: "لاضرر ولا ضرار". قال فى الجواهر: ولأصبغ أنه يكره له ذلك ابتداء, فإن فعل جاز. وقال ابن الماجشون: إن كان مثله يملك مثلها فذلك له ويفسخ النكاح. محمد: ولو لم يملك مثله مثلها فالهبة باطلة. وقال ابن عبد الحكم: إن قصد الفرقة لم يجز. انتهى. والأظهر هو المشهور, ولعل هذا] 303/ أ [الخلاف محمول على ما إذا قصد السيد إزالة عيب النكاح عن عبده, إلا أن يحلها لنفسه. ومثل المشهور فى هذه المسألة ما وقع لمالك فى المرأة ترتد تريد بذلك فسخ النكاح أنها تبقى على عصمته.

ابن يونس: وأخذ به بعض أشياخنا, قال: وهى كاشترائها زوجها. تقصد به فسخ نكاحها. ونسب المصنف المسألة للمدونة لوجهين: أحدهما: إشارة إلى أن قول سحنون في المسألة السابقة هو المذهب, لأن هذه تشبه تلك, وعلى هذا فيتخرج الخلاف الذي في هذه على تلك. والثاني: إشارة إلى أخذ ابن محرز منها أن للسيد أن يجبر عبده على الهبة. ووجه هذا الاستدلال أن يقال: إنما منع السيد من الإنتزاع لقصده الضرر فيقتضي أن السيد لو لم يقصد ضرراً لم يكن للعبد مقال, وهو دليل على أن له الجبر وإلا لكان للعبد أن يقبل الهية مطلقاً. وَلا يَنْكِحُ أَمَةَ ابْنِهِ وَلَوْ كَانَ عَبْداً لأن أمة ابنه كأمته لقوة شبهة ملك الأب في مال الابن, ولذلك قلنا: إذا وطئها لا يحد, واسم (كَانَ) يحتمل أن يعود على الأب وهو الأقرب لأن المسألة في المدونة وغيرها كذلك, ويحتمل أن يعود على الابن. المتيطى: وكره ابن عبد الحكم أن يتزوج الرجل أمة ابنه, وإن وقع لم أفسخه. وخالفه جميع أصحابه, وأجاز في العتبية للرجل أن يتزوج جارية زوجتة, وعن ابن كنانة كراهته. قال فى البيان: مراعاةً لقول من رأى أن للزوج شبهة في مال زوجته فدرأ الحد عنه فى وقوعه بجاريتها, روى ذلك عن ابن مسعود وهو شذوذ, والصحيح أنه لا كراهة في تزويجه إياها, وأنه يحد إن واقعها كما روى عن عمر وعلي رضى الله عنهما. انتهى. وهذا فى جارية لم تكن من الصداق, وأما جارية الصداق فيجوز ذلك فيها بعد الدخول, ومنع منه في العتبية قبل الدخول. وخرج فيها صاحب البيان قولاً بالجواز من أحد القولين اللذين فى ثمانية أبى زيد بوجوب الحد عليه لو زنا بها حينئذ.

وَيَمْلِكُهَا بِوَطْئِهِ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ ويَغْرَمُ قِيمَتَهَا، وتُبَاعُ إِنْ أَعْسَرَ مَا لَمْ تَحْمِلْ، وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لِلابْنِ التَّمَاسُكُ فِي عُسْرِ الأَبِ ويُسْرِهِ مَا لَمْ تَحْمِلْ أي: يملك الأب جارية الابن بوطئه بغير نكاح, وتحرم بذلك على الولد لما له في مال ابنه من الشبهة, وتلزمه قيمتها حملت أم لا, كان مليئاً أو معدماً. ونص سحنون على أنه إذا أعطى قيمتها لا يطؤها إلا بعد أن يستبرئها من مائه الفاسد. قوله: (وتُبَاعُ إِنْ أَعْسَرَ مَا لَمْ تَحْمِلْ) يعني: إذا ألزمنا الوالد القيمة فإن كان مليئاً أخذت منه, وإن كان معدماً يبعت عليه إلا أن تكون حملت فلا تباع, وهي له أم ولد لا يحل نقل ملكه عنها, ورأى ابن عبد الحكم أن للابن أن يتماسك بجاريته إذا لم تحمل فى عسر الأب ويسره, لأن الأب قد عيب ملكه, وإخراج ملكه عنه بغير اختياره ضرر. قال هو وعبد الملك: وذلك إذا كان الابن مأموناً عليها. فَإِنْ كَانَ الابْنُ وَطِئَهَا وَقَدِ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِمَا وَتُعْتَقُ هذا من باب اللف والنشر, فإن الحرمة عليهما مرتبة على الوطء, والعتق مرتب على الاستيلاد, وإنما عتقت بالولادة لأن كل أم ولد حرم وطؤها ينجز عتقها, كما لو أولد محرماً غير عالم, ثم تبين ذلك لأن أم الولد إنما لسيدها فيها الاستمتاع, فإذا حرم لم يبق لبقائها فائدة. وبهذا التقدير يندفع قول ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنها لا تحرم إلا بمجموع وطئها والاستيلاد. ولم يبين المصنف على من تعتق؛ والحكم أنها تعتق على الابن إن كان أولدها قبل وطء والده, والأب قد أتلفها بوطئه فيغرم قيمتها أم ولد لأنا لو أعتقناها على الأب كنا ناقلين ولاء أم ولد عمن استولدها. وإن كان الابن وطئها ولم تحمل منه ثم وطئها أبوه وحملت منه غرم قيمتها أمة وعتقت عليه.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ ابْنَةَ سَيِّدِهِ. وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكٌ هذا فى المدونة, ويتصل بقول ابن القاسم فيها: برضا مولاه ورضاها به. فأخذ منه أن العبد ليس بكفء للحرة, وأنه لابد من رضاهما. عياض: وأخذ منها بعضهم أيضاً أنه ليس له أن يجبر البكر لاستراط رضاها. قال: والظاهر أنه في غير البكر, والله أعلم. واستثقال مالك على الكراهة. ابن محرز: لأنه ليس من مكارم الأخلاق, ومؤدٍّ إلى التنافر, لأن الطباع مجبولة على الأنفة من ذلك. وقال ابن يونس: إنما استثقله خوف أن ترثه الابنة فيفسخ النكاح. وانظر على الأول هل يتعدى ذلك إلى عبد غير أبيها؟ ابن عبد السلام: وفيه احتمال. عياض: الأول هو الصحيح؛ لأن مالكاً أجاز للرجل أن أمة أبيه, وقد يموت أبوه فيرثها. وأجاب في النكت عن هذا بأن النكاح إذا انفسخ هنا لم يبطل الوطء, لأنها تبقى له يطأها بملك اليمين بخلاف الأولى. ورد ابن محرز جواب عبد الحق بوجهين: الأول: أن الابن قد يكون معه ورثة غيره فلا [303/ب] يحل له وطؤها, وقد أجاز أن يتزوج الرجل أمة زوجته وهو لا يجوز ميراثها إذا مات فوطؤها لا يحل له بالميراث. والأحسن أن التعليل بكراهية النكاح إنما هو لما يعرض له من الحل بالميراث, فلا فرق بين أن تصير بعد الفسخ مباحة الوطء أو محرمة؛ لأن الفسخ حاصل. قال فى النوادر: عن ابن القاسم: ومن زوج ابنته لمكاتبه أو ابنه لمكاتبته فلا بأس به, وقد استثقله مالك, قال: فإن مات السيد فسخ النكاح والكتابة قائمة. وحكى اللَّخْمِيّ قولاً آخر أنه لايفسخ لأنه إنما ورث الكتابة وهى دين, فإن عجزت فحينئذ يفسخ النكاح, وكأنه سلك فى القول الأول مسلك الاحتياط لأنه لو

ورث كتابة أخيه فإنه يسقط عنه الأداء, وإن كان مالاً خاصة, ولم يجبروه مجرى الديون فكذلك هنا. الثَّانِي: مَانِعٌ عَلَى جِهَةٍ, فَلا يَنْكِحُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ مَمْلُوكَةَ الْغَيْرِ إِلا بِشَرْطِ عَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ وَكَوْنِهَا مُسْلِمَةً, ورُوِيَ: بِشَرْطِ الإِسْلامِ فَقَطْ ..... يعني: أن هذا القسم لا يستقل الرق فيه بالمانعية بل لا بد من أوصاف: الأول: أن يكون الزوج حراً, فلو كان عبداً جاز له أن يتزوج أمه الغير من غير شرط, وقوله: (الْمُسْلِمُ) زيادة بيان, وإلا فالكافر لا يجوز له أن يتزوج المسلمة أصلاً. الثاني: أن يعدم الطول. الثالث: أن يخاف العنت. الرابع: أن تكون الأمه مسلمة. ولا خلاف في اشتراط الإسلام لقوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. وأما عدم الطول وخوف العنت فالمشهور اعتبارهما لقوله جل جلاله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25]. إلى قوله تعالى: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]. وأكثر قول مالك موافق للمشهور, وأكثر قول ابن القاسم موافق للشاذ, قاله اللخمي, ونص ابن حبيب وغيره على أن هذه الآية محكمة. عبد الحق: وهو قول علي وابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم, وهو قول أصحاب مالك, ورواه ابن وهب عن مالك. وقال سنحون ومحمد: إن قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ناسخة لها. وحكاه محمد عن مالك. الباجي: وفيه نظر؛ لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل, ولأن قوله تعالى {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] عامة و {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [النساء: 25] خاصة, والخاص مقدم على العام وتقدم أو تأخر. وذهب بعضهم– وهو اختيار ابن لبابة– إلى أن الآية لا تقتضي منع نكاح الإماء مطلقاً, وإنما هو لما كانوا عليه من الكراهة والتنزيه عن ذلك لأجل استرقاق منع نكاح الإماء مطلقاً, وانما هو لما كانوا عليه من الكراهة والتنزيه عن ذلك لأجل استرقاق الولد,

أعلمهم الله أن ذلك خير من الزنا, وما قاله بعيد من لفظ الآية قاله فى التنبيهات. وإذا فرعنا على المشهور من المنع إلا بالشرطين فهل هو تحريم أو كراهة؟ الباجى: وفي المدونة ما يدل على القولين لأن مالكاً قال فيمن تزوج أمة على حر فرق وبين الأمه, وبه قال أشهب وابن عبد الحكم, ثم رجع فقال: تخير الحرة. وأجازه ابن القاسم. فقوله بإيجاب الفسخ يقتضى التحريم, ومنع الفسخ مع منع النكاح أولا يقتضى الكراهة. خليل: ولقائل أن يقول: لا يلزم من عدم الفسخ الكراهة لاحتمال أن يقول ابتدأ بالمنعَ وبعدم الفسخ مراعاة للخلاف فانظره. وَالطَّوْلُ: قَدْرُ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ. وقِيلَ: أَوْ يَشْتَري بهِ أَمَةً. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وقُدْرَتُه عَلَى النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى. وَقِيلَ: أَوْ وُجُودُ الْحُرَّةِ فِي عِصْمَتِهِ لا الأَمَةِ. وقِيلَ: أَوِ الأَمَةِ. فلِذَلِكَ جَاءَ فِي نِكَاحِهِ الأَمَةَ مَعَهَا عَاجِراً عَنْ حُرَّةٍ أُخْرَى قَوْلانِ, وجَازَ مَعَ الأَمَةِ اتِّفَاقاً. وَقِيلَ: الطَّوْلُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى دَفْعِ الْعَنَتِ, فَيَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً يَخَافُ الْعَنَتَ فِيهَا وَاجِداً أَوْ مُتَزَوِّجاً ..... هذا تفسير للطول, والطول لغة: الفضل والسعة, قال تعالى: {اسْتَاذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة: 86]. واختلف علماؤنا في المراد في قولة تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] ففي المدونة: الطَّوْل: المال. وليست الحرة تحته بطَوْل. وروى ابن المواز عن مالم أن الطول وجود حرة فى عصمته. ومقتضى كلام المصنف أن هذا القول يوافق الضمير قبلة لعطفة بـ (أَوْ) , واستشكله الباجي بأنه لا يعلم اسم الطول يقع على الحرة فى كلام العرب, ولأنه تعالى قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] فجعل الطول يتواصل به إلى إنكاح الحرة, ولو كانت الحرة طولاً لم يجعله شرطاً فى الوصول إليها, لأنه لا يصلح أن بقال: ومن لم يستطيع منكم حرة أن ينكح حرة. قال: فمن قال: إن الطول المال, فالنكاح عندة بمعنى العقد, ومن قال الطول الحرة فالنكاح

عنده بمعنى الوطء. واذا فرعنا على أن الطول المال, فروى محمد: أنه إذا لم يجد إلا مهر حرة ولا يجد ما ينفقه عليها ليس له أن يتزوج الأمة, وهذا هو القول قدمه المنصف. ابن حبيب فى واضحته: وقال لي أصبغ: وعدم الطول ألا يجد ما يصلح به نكاح الحرة من مهر ونفقة ومؤونة. على هذا ففى قولة قال ابن حبيب نظر لأنه لم يقله وإنما رواه. اللخمي: وهو أبين لأن القدرة على الصداق دون النفقة لا تفيده, لأن من حق الزوجة أن تقوم بالطلاق إذا علمت أنه عاجز, إلا أن يجد من يتزوجه [304/أ] بعد علمها بذلك، قال صاحب المقدمات: إن ما رواه ابن حبيب أصح مما رواه محمد. وكذلك حمل غيرهما قول ابن حبيب على الخلاف, والقول بأن الطول ما يشترى به أمة لم أقف عليه, وكذلك القول بأن وجود الأمة فى عصمته طول, وقال ابن رشد. والقول بأن الطول (مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى دَفْعِ الْعَنَتِ) وهو الذى حكاه المصنف أخر كلامه لأشهب. وقوله: (فلِذَلِكَ جَاءَ فِي نِكَاحِهِ الأَمَةَ مَعَهَا عَاجِراً عَنْ حُرَّةٍ أُخْرَى قَوْلانِ) أتى بالفاء المؤذنة بترتيب هذا على قبله, والضمير فى (مَعَهَا) عائد على (الحُرَّة) أي: أن بنينا على المشهور من وجود الحرة تحته ليس طولاً جاز له نكاح الأمة, وإن بنينا على أنه طول لم يجز ذلك. الباجي: ويتحصل فى نكاح الأمة على ثلاث روايات: إحداهما: لا يجوز وإن عدم الطول الذي هو المال وخاف العنت لأن الحرة تحته طول. والثانية: يجوز وإن لم يعدم طولاً ولا خاف العنت. والثالثة: يجوز مع عدم الطول وخوف العنت, ولا يجوز مع وجود الطول وأمن العنت. والأولى بطريق المصنف في الاختصار إسقاط هذا الفرع؛ لأنه لو سكت عنه أخذ مما قبله, وعلى هذا التقدير فيكون كلام المصنف: فلذلك جاء في جواز نكاح الأمة

مع الحرة. ويحتمل أن يقدر: جاء في صحة. ويكون هذا أولى, لأن كلامه أولاً لا يستلزم الكلام على الصحة, ويؤيد هذا التقدير ما بأتي له بعد من قوله (واذا تزوج الحر الأمة على الحرة وأمضى على المشهور). تنبيه: قوله فى أول المسأله (مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ) يقتضي أنه لو قدر على حرة كتابية لا يكون طولاً, وهو كذلك, نص عليه ابن العربى. وفي التنبيهات: اختلف العلماء فى القدرة على نكاح حرة كتابية هل هو مع ذلك طول أم ذلك خاص بحرائر المسلمات؛ لأنهن بمعناهن, ولأن علة المنع إرقاق الولد فى الإماء, وهو غير موجود في حرائر الكتابيات. وقد نص مالك في المبسوط على هذة العلة- أعني: إرقاق الولد في الإماء- وطرد أصله عليه فأجاز نكاح الابن أمة أبيه؛ إذ ولده منها يعتق على جده، وكذلك يأتي في إماء الأجداد والأمهات والجدات, وعلى هذا المعنى حمل مسألة الابن في المدونة حذاق شيوخنا أنها جائزة ابتداء مع وجود الطول وأمن العنت. وقال ابن عبد السلام: ما ذكره المصنف من اشتراط الإسلام هو خلاف إطلاقاتهم, واختار بعضهم ما قاله المصنف, بل نص بعضهم على أنه متفق على عدم اشتراطه, وظاهر الآية يوافق ما قاله المصنف. انتهى. ولأجل أن العلة إرقاق الولد قال اللخمي: يجوز نكاح الأمة في ثلاث صور: الأولى: إذا كان الولد حراً كما فى أمة الأب. والثانية: نكاح من لا يخشى منه الحمل كالعنين والشيخ الهرم. والثالثة: الهبد. ابن بشير: ما قاله فى الثالثة صحيح, وأما فى الأوليين فقد يقال: لا يلتزم ذلك لاحتمال أن يقال إنما مستند القائل بالمنع الآية, ثم عضد ذلك بالتعليل, ولو سلم استناد الحكم إلى التعليل فبين الأصوليين خلاف فى لزوم عكس العلة الشرعية.

وأيضاً فقد ذكر اللَّخْمِيّ علة أخرى للمنع وهي أن الأمة تنقطع إلى السيد فلا يؤمن عليها, وقد علم قلة تصونهن, قال: وهذه العلة ترد ما قاله من الجواز في الصورتين الأوليين. خليل: وفى قول ابن بشير هذه العلة ترد ما قاله من الجواز في الصورتين الأوليين نظر, وما حمله عليه الحذاق كما تقدم من كلامه في التنبيهات. وذكر في البيان الاتفاق على جواز نكاح الحصور وغيره ممن لم يولد له الأمة بدون الشرطين. وقوله: (وجَازَ مَعَ الأَمَةِ اتِّفَاقاً) أي: المملوكة. ولا يقال: هذا يناقض ما تقدم له من قوله (وقِيلَ: أَوِ الأَمَةِ) لأن الكلام المتقدم في الأمة المتزوجة وهذا في المملوكة, وكذلك أيضاً لا يقال: هو يرد ما تقدم له, وأن الطول ما يشترى به أمة؛ لأن الثمن إذا عد طولاً فهي أولى كما قاله ابن رشد, ولأنا نقوله هذه الأمة لما كانت مملوكة تحقق فيها عدم الكفاية, بخلاف الثمن فإنه يحتمل إذا اشترى به الأمة أن تعفه وتكفيه. وقوله: (فَيَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً يَخَافُ الْعَنَتَ فِيهَا وَاجِداً أَوْ مُتَزَوِّجاً) هو تفريع على القول الأخير, والله اعلم. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلا مُغَالِيَةً بِسَرَفٍ نَكَحَ الأَمَة عَلَى الأَصَحِّ معناه إذا بنينا على أن الطول المال, وكان له مال, ولكنه لم يجد إلا من طلبت مالاً كثيراً يخرجه الى السرف, فالأصح أن ذلك عذر يبيح له نكاح الأمة قياساً على الماء في التيمم والنعلين في الحج. وقيل: لا يكون عذراً قياساً على قولهم في الظهار أنه يلزمه شراء الرقبة ولو بجميع ما معه, ولا ينتقل إلى الصوم, وكذلك فى [304/ب] كفارة اليمين,

ويرجع الأول بأن رده الى التيمم أولى, لأن كلاً منهما لم يدخله المكلف على نفسه, ولأن الظهار لما كان محرماً فعله عوقب بذلك, ويعترض على هذا باحتمال أن يكون في التيمم لتكرره. تنبيه: لا فرق فيما يقدر به على نكاح الحرة بين أن يكون عرضاً أو نقداً أو دينا على مليء, أو مما يمكن بيعه أو إجارته, رواه عبد الملك عن مالك. عبد الملك: والكتابة طول؛ لأنها يمكن بيعها كالدين المؤجل, وليس المدبر والمعتق إلى أجل طولاً؛ لأنه لا يمكن بيعه. واستشكله الباجي بأنه يمكن بيع منافعه وإجارته المدة غير الطويلة, وليس الدين على العديم طولاً ولا عبده الآبق وإن قرب إباقه. فرع: إن بنينا على الفول بحوز نكاح الأمة بدون الشرطين جاز أن يتزوج أربع إماء, وإن قلنا أنه لا يجوز إلا مع وجودهما, فكم يباح له؟ أما إن لم يأمن العنت إلا بنكاح أربع فله نكاحهن, وإن تزوج واحدة واستغنى بها, فهل يجوز أن يتزوج ثانية؟ حكى ابن بشير وابن شاس في ذلك خلافاً, والقول بعدم الجواز في الواضحة, والقول بالجواز في الواضحة، والقول بالجواز هو ظاهر الموازيه. تنبيه: والذي رأيت في الباجى في معنى قولنا: واستشكله الباجي- أن مراده إن لم يكن عنده ما يتوصل به إلى نكاح حرة, ومعنى ذلك أن ما أمكن أخذ ثمنه والمعاوضة به فيبلغ به طولاً ولم يبلغ، ولم يمكن, فليس بطول, والمدبر لا يمكن بيع رقبته, ولا منافع المدة الطويله لأن أمره مترقب لجواز أن يموت أو يمرض, فترد الإجارة؛ فلذلك لا يعد طولاً. انتهى.

وَالْعَنَتُ الزِّنَا لما فسر الطول فسر (الْعَنَتُ) وهو ظاهر. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَنْ لا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي عَقْدٍ بَطَلَ فِي الأمَةِ, وفِي الْحُرَّةِ قَوْلانِ يعني: لو تزوج حرة وأمة في عقد واحد, وكان ممكن لا يجوز له الجمع لفقدان الشرطين بطل نكاح الأمة لعدم شرطه, (وفِي الْحُرَّةِ قَوْلانِ): الصحة لابن القاسم, والبطلان لسحنون. واحتج بأنها صفقة جمعت بين الحلال وحرام, وما هذا شأنه يبطل الجميع على المشهور. وهل قول سحنون محمول على عدم التسمية؟ وأما لو سمى لصح أو ولو سمى للشيوخ قولان, أرجحهما الثاني؛ لأن التسمية لكل واحدة لا توجب امتيازها بعقدة, وبعض من تأوَّل على سحنون التفرقة بين التسمية وعدمها لم يجعل بين ابن القاسم وسحنون خلافاً, وحمل كلام ابن القاسم على التسمية وكلام سحنون على عدمها. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَجُوزُ لَهُ فَكَجَمْعِ أَرْبَعٍ هذا الفرع يأتي على القول بأن الطول ما يتوصل به إلى ذفع العنت, فعلى هذا القول يجوز له الجمع. ابن شاس: وكذلك يأتى على المشهور. واذا قلنا أن الطول المال, وعدم طول حرتين ولم تكفه واحدة قيل لا خيار لها. وقوله (فَكَجَمْعِ أَرْبَعٍ). أي: إن سمى لكل واحدة صداقاً صح .. إلخ, وقد تقدم.

وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْحُرَّةَ عَلَى الأَمَةِ لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُ الأَمَةِ عَلَى الأَصَحِّ، ورَجَعَ عَنْهُ، وقَالَ: لِلْحُرَّةِ الْخِيَارُ مَا لَمْ تَعْلَمْ. وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: تُخَيَّرُ فِي نكاح الأمة. وقِيلَ: لا خِيَارَ لَهَا لِتَفْرِيطِهَا فِي الاسْتِعْلامِ ........ يعني: إذا تزوج أمة بوجه جائز, ثم تزوج حرة, فهل يفسخ نكاح الأمة؟ الأصح وهو المشهور أنه لا يفسح؛ لأن الشروط المتقدمة إنما هي في ابتداء النكاح لا في استدامته, ومقابل الأصح حكاه اللَّخْمِيّ عن ابن حبيب. وحكى ابن رشد قولاً بأنه يفارق الأمة بمجرد حصول الطول, قال: وأما إن ذهب عنه العنت بزواج الأمة فليس عليه أن يفارقها قولاً واحداً. وفى المصنف: (ورَجَعَ عَنْهُ) نظر؛ لأنه يقتضي أن مالكاً رجع عن الأصح إلى الفسخ, وهذا لا يعلم لمالك, وإنما مراده أنه لا يفسخ ولا خيار للحرة, ثم رجع عنه الثبوت الخيار للحرة, وهكذا ذكر اللَّخْمِيّ وغيره. وعلى هذا فالقول المرجوع عنه هو القول الذي حكاه المصنف بقوله (وقِيلَ: لا خِيَارَ لَهَا لِتَفْرِيطِهَا فِي الاسْتِعْلامِ) واستشكل اللَّخْمِيّ هذه العلة, فقال: ليس هذا التعليل بالبين؛ لأن تزويج الحر الأمة نادر, والنادر لا حكم له, وأشار إلى أنه يمكن أن يعلل قول مالك بعد الخيار باختلاف العلماء فإن بعضهم أجازه. ابن عبد السلام: ويوهم قول المصنف: (وقَالَ: لِلْحُرَّةِ الْخِيَارُ) مع قوله (وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: تُخَيَّرُ فِي نكاح الأمة) أن الوجه الذي خيرها فيه مالك غير الوجه الذى خيرها فيه ابن الماجشون, وليس كذلك بل هما شيء واحد. خليل: قوله يوهم ليس بظاهر, بل هو صريح فى ذلك, وكأنه- والله أعلم- إنما قاله لأنه لم يجد قول ابن الماجشون مثل ما حكاه المصنف عنه من أن الحرة تخير فى فسخ نكاح الأمة, فإنه قال: وإذا قلنا أن للحرة الخيار فهل فى نفسها؟ وهو قوله فى المدونة, أو فى نكاح الأمة؟

وحكي عن ابن الماجشون وفي اللباب: قال بعض المعترضين: هذا ما نقله ابن يونس عن عبد الملك, ولم يقله عبد الملك ولا أحد من أهل العلم. وقد قال بن الحارث: الاتفاق على أن للحرة الخيار في نفسها إن شاءت أقامت, وإن شاءت طلقت نفسها. ولم يذكر أن لها الخيار فى فراق الأمة. ويؤيده ما حكاه الباجي. قال ابن الماجشون والمغيرة: إنما يكون الخير للحر في أن تقيم أو تفارق إذا كانت هي الداخلة على الأمة, وأما إن كانت الأمة هي الداخلة على الحرة فالخيار لها في نكاح الأمة. فهذا نص قول ابن الماجشون في أن الخيار لها في نفسها لا في الأمة. انتهى كلام راشد بمعناه. تنبيهان: [305/أ] الأول: ما نقله عن ابن الماجشون إن كان مستنده فيه غير كلام ابن يونس فظاهر, وإن كان إنما مستنده كلام ابن يونس, وهو الذى يؤخذ من كلامه ففي ذلك نظر؛ لأن ما نقلة ابن يونس عن عبد الملك يحتمل أن يعود على هذه الصورة وعلى عكسها. الثاني: إن ثبت قول عبد الملك كما ذكره ابن راشد فيصح كلام المصنف كما قدمناه من نص كلامه، وكذلك رأيته في بعض النسخ، ولكن الذى رأيت في النسخ المنسوبة إلى الصحة: وقال ابن الماجشون: تخير في نفسها. فيقتضي أن يكون مالكاً خيرها في نكاح لأمة، فيكون المصنف نسب لمالك عكس مذهبه. ووقع في بعض النسخ: وقال ابن الماجشون: تخير في نفسها كما تقدم. أي تقدم في القسم، فإن الباحثون يرى أن للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة، ولا اعتراض عليه على هذا.

وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ الأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ وَأُمْضِيَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَفِيهَا: تُخَيَّرُ فِي نَفْسِهَا وَلا يُقْضَى إِلا بوَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ بِخِلافِ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ. وَقِيلَ: كَالْمُعْتَقَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: تُخَيَّرُ فِي نِكَاحِ الأَمَةِ .... هذه المسأله عكس الأولى, والمشهور الإمضاء بناء على أن الحرة تحته ليست بطول, وعلى القوم بأنها طول بأنها طول يفسخ النكاح, وقد تقدم ذلك, ثم ذكر أن مذهب المدونة أنها تخير في نفسها إن شاءت أقامت, وإن شاءت فارقت. ووجهه أن الخيار لإزالة الضرر عنها, ولا تخير فيما يضر غيرها. ووجه قول ابن الماجشون أن الضرر الذي ذخل عليها إنما هو من جهة الأمة, فيكون لها إزالته. وما الخيار في فسخ نكاح نفسها ذلك إزالة, ضرر, بل زيادة فيه. صاحب البيان: وهذا التخيير إنما هو بناء على القول بأنه لا يجوز نكاح الأمه إلا بشرطين, وأما على القول بأن الحر يتزوج الأمة وإن كان واجداً للطول آمناً من العنت كالعبد, فلا كلام للحرة إذا تزوج الأمة عليها أو تزوجها على الأمه لأن الأمة على هذا القول من نسائه كالعبد, هذا الذي تدل عليه ألفاظ المدونة لصعوبة الفرق بينها وبين المعتقة تحت العبد. وتأول التونسي أن الحق فى ذلك للحرة على القوانين جميعاً, وهذا إنما يصح على قول ابن الماجشون الذي يرى أن الخيار للحرة إذا تزوج العبد عليها أمة أو تزوجها على الأمة. ولعل المصنف نسب المسألة للمدونة لصعوبة الفرق بينها وبين المعتقة تحت العبد, والجامع بينهما ظاهر, وهو أن الطلاَّق فيهما شرع لدفع الضرر, وقد سلم في المدونة ذلك إلا أنه فرق لوجود الحديث في مسألة المعتقة على خلاف القياس, أعني حديث زيد. والشاذ حكاه ابن يونس عن محمد فقال: وقال ابن الواز: إن فسخت بالثلاث لزمت, وقد أساءت. وقاله أصبغ.

قَالَ مَالِكٌ: والْخِيَارُ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ, وَفِي الْكِتَابِ حِلُّهُ. قَالُوا: يَعْنِي {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى} الآيَةَ. هذا فى المدونة متصل بالمسألة الأولى, وهى ما إذا تزوج الحر الحرة على الأمة, ونص المدونة: وإنما جعلنا لها الخيار لما قلت العلماء قبلي, ولولا ذلك لأجزته لأنه حلال في كتاب الله عز وجل. واختلفوا هل أراد مالك بالحلال في كتاب الله تعالى نكاح الأمة بدون الشرطين, وهو تأويل المتقدمين وأكثر المتأخرين, أو أراد به عدم تخبير الحرة إذا تزوجها على الأمة, لأنه قد تزوج الأمة بوجه جائز, وتزويج الحرة بعد ذلك داخل في عموم قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وهو تأويل اللَّخْمِيّ. واختلف الأولون في تعيين محله من كتاب الله عز وجل فتمسك أكثرهم بالعمومات كقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. وقال محمد: أراد قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]. وقد تقدم أن محمداً قال: هذه الآية ناسخة لآية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] وقد تقدم ما يتعلق بالنسخ. وسئل ابن القاسم عن الآية التي أرادها مالك, فقال: لا أدري. ولما كان التمسك بهذه الآية ضعيفاً لأنه ليس فيها إلا الأمر بالنكاح في كل أيم, وهو مطلق في كل من ينكح منه, هل هو حر أو عبد, أو امرأة؟ إذ الأيم يطلق على الرجل والمرأة, فيكون مضمون الآية: أنكحوا الأزواج الذين لا زوجات لهم, والزوجات اللاتي لا أزواج لهن. ولأنه قيل أن المراد بالأيم المتوفى عنها قال المصنف: قالوا تبرأمن ذلك. تنبيه: قد يتوهم من قول مالك: ولولا ذلك لأجزته, أنه قلد العلماء وليس كذلك, بل المعنى: ولولا ما قالته العلماء واطلعت على مدرك أقوالهم, ورأيتها صواباً ووافق اجتهادي اجتهادهم لأجزته.

وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثَانِيَةً وَكَانَتْ عَالِمَةً بِوَاحِدَةٍ لا اثْنَتَيْنِ فَكَذَلِكَ أي: فيكون لها الخيار، لأنها تقول: إنما رضيت بواحدة، وإنما علمت بواحدة. ابن الجلاب: ولو كانت تحته أمتان، فعلمت الحرة بإحداهما، ولم تعلم بالأخرى لكان لها الخيار على إحدى الروايتين، ولا خيار لها على الرواية الأخرى. وقد يؤخذ هذا من قول المصنف (فَكَذَلِكَ). وَلا خِيَارَ لِلْحُرَّةِ تَحْتَ العَبْدِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى الْمَنْصُوصِ قوله (فِي الْجَمِيعِ) أي في الأربع صور فيما إذا تزوجها على أمة، أو تزوج أمة عليها، أو تزوجها [305/ب] على أن تحته أمة فإذا له أمتان، أو تزوج ثانية عليها. قال في المدونة: إذ الأم من نسائه. وقال ابن الماجشون: إذا تزوج أمة عليها أو تزوجها على أمة فلها الخيار. وهذا مقابل المنصوص، لا يقال: كيف يصح أن يكون مقابل المنصوص قولاً منصوصاً، لأنا نقول: قد تقدم غير مرة أن المصنف لم تطرق له قاعدة في ذلك، وأيضاً فإنه لم ينص عبد الملك على الخيار إلا في الصورتين المذكورتين وخرج من قوله الخيار في بقية الصور صح أن يقال (عَلَى الْمَنْصُوصِ) إذا لم يوجد في جميع الصور قول مخالف للمشهور إلا بالتخريج. وَلا يَبْطُلُ اسْتِخْدَامُ الأَمَةِ بِالتَّزْوِيجِ يعني: أن حق سيد الأمة في استخدامها لا يبطل بتزويجها لأن زوجها الحر أو العبد دخل على ما ثبت لسيدها، ولأن حق الزوج إنما هو في الاستمتاع. وَلا تَتَبَوَّأُ مَعَهُ بَيْتاً إِلا بِشَرْطٍ فَإِنْ تَشَاحَّا فَعَلَى الْعُرْفِ التبوُّء: هو أن تنفرد معه في بيت. يعني: على الزوج أن يأتي إليها في بيت السيد، ولو طلب التبوء لم يكن له ذلك، لأن ذلك، لأن ذلك يبطل حق السيد في جميع الخدمة أو أكثرها.

ابن عبد السلام: وإن شرط الزوج أن تتبوأ معه فظاهر كلامهم أن لسيدها فيها من الاستخدام ما لا يشغلها عن زوجها. وقال ابن الماجشون: ترسل إلى زوجها ليلة بعد فتكون عنده تلك الليلة، ويأتيها زوجها عند أهلها فيما بين ذلك. وقوله: (فَإِنْ تَشَاحَّا) أي: طلب السيد خدمتها وطلب الزوج الاستمتاع بها فإنه يحكم في ذلك بحكم العادة الجارية في ذلك. وَلِلسَّيِّدِ السِّفَرُ بِهَا، ولا يُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنْ صُحْبَتِهَا يعني: وله أيضاً بيعها ممن يسافر بها، وسواء شرط أن تأوي إليه ليلاً أو لا، إلا أن تتبوأ معه بيتاً فلا يكون للسيد السفر بها. نقله ابن عبد السلام عن غير واحد. وَنَفَقَتُهَا تَلْزَمُهُ مُطْلَقاً عَلَى الْمَشْهُورِ أي: ونفقة الزوجة الأمة تلزم الزوج (مُطْلَقاً)، أي: سفراً وحضراً على المشهور. المتيطي: ولا خلاف أعلمه إذا تزوج حر أمة، وشرط أن تكون الزوجة عنده أو شرطت النفقة عليه أنَّ للزوجة على الزوج النفقة. ونحوه للخمي، قالا: واختلف إذا لم تكن عنده ولا اشترطت عليه على خمسة أقوال، فقال في المدونة: لها النفقة لأنه من الأزواج. يريد: لأنها داخلة في عموم الآية. وقال في كتاب محمد: لا نفقة لها، ولو كانت تأتيه إذا أرادها. وقال أيضاً: لا نفقة لها إن كان يأتيها، وإن كانت تأتيه فذلك لها. قال ابن المجاشون: لها النفقة في الوقت الذي تكون عنده. وقال في الواضحة: نفقتها وكسوتها على أهلها، وعليهم أن يرسلوها في كل أربع ليال، وعليه نفقة تلك الليلة ويومها، وإذا ردها في صبيحتها فجعل لها النفقة في ذلك اليوم بغير كسوة. والأول أحسن لعموم الآية. اللخمي: ويختلف إذا كان عبدين فعلى القول ألا نفقة على العبد للحرة لا تكون لها وإن كانت أمة، وعلى القول أن ذلك عليه للحرة يختلف إذا كانت أمة، والمدبر والمعتقة إلى

أجل كالأمة يختلف فيهما، والمكاتبة وأم الولد كالحرة. وهذا الكلام مخالف لكلام المصنف أما أولاً: فلأن المصنف أطلق الخلاف، وظاهره سواء تبوأت أو لا. أما ثانياً: فلأن كلامه يقتضي أن هذه الأقوال إنما هي إذا كان الزوج عبداً، لأنه سيحكيها فيه، واللخمي والمتيطي إنما ذكرا الخلاف في الحر. وجعل اللخمي ذلك في العبد مخرجاً، وكذلك حكى ابن بشير هذه الأقوال فيما إذا كان الزوج حراً، ولم يجعل إذا تبوأت بيتاً متفقاً عليه بل جعله قولاً بالفرق. فَإِنْ كَانَ عَبْداً فَفِي مَالِهِ كَالْمَهْرِ، وَثَالِثُهَا: إِنْ تَبَوَّأَتْ مَعَهُ بَيْتاً لَزِمَتْهُ. وَرَابِعُهَا: إِذَا بَاتَتْ لَزِمَتْهُ .... قد تقدم أن مجموع الأقوال إنا هي إذا كان الزوج حراً، وأن اللخمي أشار إلى تخريج الخلاف. والذي رأيت هنا قولين: أحدهما: مذهب المدونة الوجوب، ففيها: وتلزم العبد نفقة امرأته حرة كانت أو أمة، ولو كانت الأمة تبيت عند أهلها. وأشار المصنف إلى توجيه المشهور بقوله: أي (كَالْمَهْرِ) أي: كما أن المهر الذي هو عوض عن أول الاستمتاع على الزوج فكذلك تكون النفقة عليه التي هي عوض عن دوام الاستمتاع. اللخمي: وقال أبو مصعب: لا نفقة عليه. وقال في الموازية: أحب إلى إذا نكح أن تشترط عليه النفقة بإذن سيده. ويرى أن ذلك إشكال فتشترط ليندفع الإشكال. واختلف في اشتراط النفقة على السيد، فمنعه في الموازية، وأجازه أبو مصعب. اللخمي: وأرى للزوجة النفقة على العبد إذا كان تاجراً أو متصرفاً لنفسه بماله، فإن كان عبد خدمة لم تطلق عليه لعدم النفقة، وقد قال مالك في الحر يتزوج الحرة وهي تعلم أنه فقير: فلا تطلق عليه. فالعبد أحرى. وحيث أوجبنا النفقة على العبد فقد تقدم أنها لا تكون في خراجه ولا كسبه.

وَمَهْرُ الأَمَةِ كَمَالِها. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهَا بِهِ، فَقِيلَ: اخْتِلافٌ، وَقِيلَ: إِنْ تَبَوَّأَتْ بَيْتاً .... قوله: (كَمَالِها) أي وله [306/أ] انتزاعه، وهو ظاهر ما في النكاح الثاني من المدونة، فقد نص مالك على أنه إذا باعها السيد لغير الزوج أن الصداق للبائع، بنى بها الزوج أم لا، إلا أن يشترطه المبتاع. ونص أيضاً على أنه إذا أعتقت أمة تحت عبد بعد البناء وقد كان زوجها فرض لها أن المهر لها إلا أن يشترطه السيد فيكون له، وكذلك إذا أعتقها فمهرها يتبعها إلا أن يكون السيد أخذه قبل العتق أو اشتراطه فذلك له. ابن يونس: وهذا يدل على أن للسيد حبس صدقاها ويتركها بلا جهاز. وقال في كتاب الرهون: ما ذكره المصنف بقوله: (وَعَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهَا بِهِ)، وذهب الأكثرون إلى أن ذلك خلاف قول. ووفق بعضهم بينهما فحمل ما في الرهن على أنها تبوأت بيتاً، وما في النكاح على أنها لم تتبوأ، وبعضهم يحمل ما في النكاح على أن السيد جهزها من ماله، وما في الرهون على أنه لم يجهزها من ماله. وما في الموازية: أنه له أن ينتزعه إلا قد ربع دينار. أصبغ: وهذا عندى في عبده، وأما الأجنبي وعبد أجنبي فعليه أن يجهزها. وقال ابن عبد الحكم، وصرح بعضهم بأن قول أصبغ قول ثالث في أصل المسألة. وفي الموازية فإن باعها سيدها كان الصداق له بخلاف إن لم يبع، يريد فيجهزها به، ووجهه أن السيد مالك لعين الصداق، ولكن للزوج فيه حق وهو التجمل كالحرة، فرجح جانب الزوج قبل البيع لأن فيه جمعاً لحقيهما، أما الزوج فظاهر، وأما السيد فلأن ما في ملك أمته كملكه، وأما إذا باع فيتعذر الجمع بينهما فيقدم السيد ترجيحاً لمالك العين على مالك المنفعة. وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن حمل مسألتي المدونة على هذا.

وَلَوْ قَتَلَهَا السَّيِّدُ لَمْ يَسْقُطْ بَنَى أَوْ لَمْ يَبْنِ هكذا في الموازية، ووجهه أنه لا يتهم السيد في قتل أمته ليأخذ الصداق. اللخمي: ويلزم عليه لو كانت حرة فقتلت نفسها ألا يسقط الصداق عن الزوج، والقياس في جميع هذه الأشياء ألا شيء على الزوج، لأن البائع إذا منع المبيع فلا يستحق الثمن وبمنزلة أن لو كانت حية فمنعت نفسها. وفي المدونة: إذا باعها بموضع لا يصل إليها الزوج، فعلى الزوج الصداق للبائع ويتبعه به أو بنصفه إن طلق قبل البناء، ويقال للزوج: إن منعوك منها فخاصمهم. عياض: ومعناه أن مشتريها سافر بها إلى موضع يشق على الزوج إتيانه لضعفه، ولو كان لا يصل إليها لظلم مشتريها أو لكونه لا ينتصف منه لم يكن على الزوج صداق، بل إن قدر البائع قضى عليه برده إن كان قبضه، ويبقى النكاح منعقداً، فمتى قدر على الوصول إلى زوجته دفع الصداق. وقاله أبو عمران. وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ حَتَّى يَقْبِضَ صَدَاقَهَا نحوه في المدونة، يعني: ولسيد الأمة منع الزوج منها حتى يقبض الصداق، كما أن ذلك للحرة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وَلَهُ أَخْذُهُ إِلا قَدْرَ مَا تَحِلُّ بِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ يعني: لسيد الأمة أخذ جميع الصداق إلا ربع دينار على المنصوص، أي المنصوص لمالك في الموازية ولسحنون. وأشار ابن عبد السلام إلى أن مقابل المنصوص مخرج من قوله في المدونة: ومهر الأمة كمالها، أي: فيتخرج منه أنه له أخذ الجميع. وأشار إلى أن كلامه ليس تكراراً مع ما قدمه من قوله (وَمَهْرُ الأَمَةِ كَمَالِها) بل أفاد بها فائدتين:

الأولى: يعلم من هذا أن مذهبه حمل القولين المتقدمين على الخلاف. والثانية: التنيبه على القول المقابل للمنصوص. خليل: ولا شك أن قوله: (وَلَهُ أَخْذُهُ إِلا قَدْرَ مَا تَحِلُّ بِهِ) مخالف للقول الذي يقول أنه يلزمه تجهيزها به. وعلى كلام ابن عبد السلام فيكون الراجح في فهم ما وقع في النكاح الثاني أن مهر الأمة كمالها، حمله على الموافقة لما في الموازية، وفيه نظر. بل ظاهر قوله: (كَمَالِها)، أن له أخذ الجميع، وهو الذي نص عليه صاحب البيان، أعني: أن ما في الموازية مخالف لما في المدونة، وكذلك المفهوم من كلام ابن يونس وغيره. نعم ما قاله ابن عبد السلام هو الذي يؤخذ من كلام المصنف، لأنه إن لم يحمل كلامه هنا على أنه مقيد للقول بأن مهر الأمة كمالها لزم أن يكون ما ذكره هنا مخالف لما ذكره في المدونة في النكاح والرهون، ومثل هذا لا يقال فيه منصوص. وَلَهُ أَنْ يَضَعَ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا يريد بشرط ألا ينقص عن ربع دينار. وزاد ابن عبد السلام شرطاً آخر وهو ألا يكون عليها دين يغترق مالها. وَلَوْ بَاعَهَا سَقَطَ حَقُّ السَّيِّدَيْنِ مِنْ مَنْعِ تَسْلِيمِهَا لتأخيره لِسُقُوطِ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ، ولا مَهْرَ لِلْمُشْتَرِي ... يعني: لو باعها سيدها قبل الدخول سقط حق السيدين البائع والمشتري من منع تسليمها للزوج حتى يقبض صداقها، لسقوط تصرف البائع لكونها لم تبق في ملكه ولا مهر للمشتري، لأن الأمة إذا بيعت فمالها للبائع، وعلى هذا فيكون للمشتري المنع إذا اشترط المال.

ولو بَاعَهَا لِلزَّوْجِ قَبْلَ الْبِنَاءِ سَقَطَ الصَّدَاقُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَو اشْتَرَاها مِنَ الْحَاكِمِ لِتَفْلِيسٍ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَلا يَرْجِعُ بِهِ. فَقِيلَ: اخْتِلافٌ. وَقِيلَ: لا يَرْجِعُ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ لأَنَّهُ [306/ب] إِنَّمَا يُفْسَخُ بَعْدَ الْبَيْعِ ... المنصوص في المدونة، ونصها: ومن تزوج أمة ثم اشتراها من سيدها قبل البناء فلا صداق لها، ولو قبضه السيد رده لأن الفسخ من قبله. وروى عن أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية في من تزوج أمة ثم فليس السيد قبل البناء فباعها عليه السلطان فاشتراها زوجها: أن الصداق للبائع. ابن يونس: يريد نصف الصداق. ولا يرجع به الزوج لأن السلطان هو الذي باعها بخلاف بيع السيد. وإلى هذا أشار بقوله (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ) والذي حمله على الخلاف أبو عمران، ورأى أن بيع الحاكم وصف طردي، وضعف ما في العتبية. وعلى هذا فيتخرج من كل واحدة قول في الأخرى، وإلى هذا أشار المصنف بقوله (عَلَى الْمَنْصُوصِ) وقيل: ليس بخلاف، ومراد المصنف من قوله (لا يَرْجِعُ بِهِ) النفي المقيد، أي: لا يرجع به الآن من الثمن، وليس من مراده أنه لا يرجع به مطلقاً. ثم ذكر المصنف السبب في ذلك، فقال: (لأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْسَخُ بَعْدَ الْبَيْعِ) أي: النكاح إنما يفسخ بعد حصول البيع وتقرره، والبيع موجب لدفع الثمن بكماله، وأخذ الصداق إنما طرأ بعد فسخ النكاح المتأخر عن البيع. ابن عبد السلام: وهو أقرب لأصل ابن القاسم لما نص عليه في كتاب العتق من المدونة في من باع عبده سلعة بأمره ثم أعتقه السيد، ثم استحقت السلعة ولا مال للسيد فليس للمبتاع رد العتق لأنه دين لحق السيد بعد انفاذ العتق. وكلامه في البيان يدل على أن المسألتين ليستا بخلاف مع إبقاء كل واحدة على ظاهرها لأنه قال: قوله ولا يرجع بالصداق يريد بنصفه لكون المسمى لا يجب جميعه إلا

بالموت أو بالدخول، وإما لم يرجع بالنصف لأن الفراق جاء من قبله إذا اشتراها وهو يعلم أنها امرأته وتحرم عليه باشترائه إياها فأشبه الطلاَّق قبل الدخول. ولو اشتراها من السلطان وهو لا يعلم أنها امرأته لحرمت ورجع بجميع الصداق على السيد لأنه تحريم لم يتعمده. يبين هذا ما في كتاب النكاح من المدونة: أن الرجل إذا تزوج المرأة ولم يدخل بها حتى تزوج أمها وهو لا يعلم فبنى بها أن البنت تحرم عليه، ولا يكون لها عليه من الصداق نصف ولا غيره لأنه تحريم لم يتعمده، وهو محمول على أنه لم يعلم أنها زوجته حتى يعلم أنه علم، فإن ادعى أنه لم يعلم أنها زوجته حلف على ذلك ورجع بجميع الصداق، وفي كتاب النكاح الثاني من المدونة: أن السيد لا شيء له من الصداق إذا باعها منه قبل الدخول، وهو دليل قوله هنا، لأن السلطان هو الذي باعها عليه وإنما لا يكون له من الصداق شيء إذا باعها منه، وإن كان الزوج عالماً أنها زوجته لأنه لما كان أملك بالبيع غلب أمره على أمر الزوج، فجعل كون الفسخ والتحريم جاء من قبله دون الزوج. ولو باعها السيد ممن اشتراها للزوج وهو لا يعلم لكان له نصف الصداق بمنزلة ما إذا باعها السلطان. ولعيسى في كتاب القطعان: أن بيع السلطان كبيع السيد، ويرجع بجميع الصداق، وهو بعيد. انتهى. خليل: وتحصيل المسألة أن في بيع السلطان قولين: ما في العتبية وقول عيسى، ثم اختلف هل ما في العتبية مخالف لما في المدونة؟ وأن الجاري على ما في المدونة في مسألة السلطان ألا شيء على الزواج أو لا؟ تأويلان. وعلى الثاني: فاختلف في كيفية الجمع هل لأنه دين طرأ بعد انفساخ النكاح؟ أو لأن التحريم في مسألة السلطان لم يتعمده السيد؟ وذكر ابن عبد السلام أن ابن الجلاب حكى في المسألة الأولى إذا اشترى الزوج من السيد وجوب نصفه الصداق، ولم أر ذلك في شيء من نسخ ابن الجلاب، بل نص فيها على خلافه.

وَمَهْرُ مَنْ بَعْضُهَا حُرٌّ كَمَالِ ذَاتِ شَرِيكَيْنِ يُقَرُّ بِيَدِهَا، وَلا يُنْتَزَعُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلا برِضَاهَا بِخِلافِ أَرْشِ جِرَاحِهَا فَإِنَّهُ يُقَاسِمُهَا .... يعني: ومهر الأمة التي بعضها حر كمهر الأمة المشتركة، لأنها كشريك لسيدها، والحكم في الأمة المشتركة أنه يبقى بيدها، وليس لأحدهما انتزاعه إلا بإذن صاحبه. قالوا: والقول قول من أبي القسمة، ولا يجبر عليها كما يجبر في سائر مال الشركة، لأن ذلك عيب في الأمة، فصال كالمشترك الذي يتعيب بالقسمة. وقوله (إِلا برِضَاهَا) عائد على (مَنْ بَعْضُهَا حُرٌّ) وفي بعض النسخ إلا برضاها، فيعود على الشريكين. ويعلم منه الحكم فيمن بعضها حر، بخلاف أرش جراحها فإنه يقاسمها، لأن الأرش ثم عضو هو بينهما، وما ذكره في الجناية من المقاسمة هو المشهور الذي رجع إليه مالك في المدونة، قال فيها: وكان يقول بأخذ الأرش كله من له رق. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُكِ لِتَتَزَوَّجِينِي؛ لَمْ يَلْزَمْهَا الْوَفَاءُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لِعَبْدِهَا لأنها ملكت نفسها بالعتق، والوعد لا يقضي به قال في المتيطية: وعدم اللزوم هو المشهور المعمول به، وأنه لابد من رضاها. وحكى بعض الأندلسيين في أحكامه عن ابن القاسم: أنه يتزوجها من نفسه بغير رضاها وليس عليه العمل. الْكُفْرُ: كِتَابيٌّ وَمَجَوُسِيٌّ فَيُقَرَّانِ وَزِنْدِيقٌ وَمُرْتَدٌّ فَلا يُقَرَّانِ هذا أيضاً من الموانع، وفيه حذف مضاف، أي: ذو الكفر، لأن الكتابي صاحب [307/أ] الكفر لا نفس الكفر. ابن عبد السلام: وجعل من عدا الكتابي من الكفار مجوسياً، وهو اصطلاح منه، وقد يؤخذ ذلك من كلام كثير من الفقهاء، والمجوسي أخص من ذلك لأن الوثني ليس بمجوسي، والأمر في ذلك قريب، وهذا كالمقدمة لأن الكلام في النكاح فرع الثبوت على ذلك الدين.

وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ إِلا الأَمَةَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ عَبْداً دليله قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ولا يجوز نكاح الحرة المجوسية على المعروف. وحكى ابن القصار وغيره قولاً بالجواز بناء على أحد القولين أن لهم كتاباً. اللخمي: واختلف في الصابئة والسامرية، فقيل الصابئة: صنف من النصارى، والسامرية: صنف من اليهود. وقيل: ليسوا منهم. فعلى الأول تجوز مناكحتهم، وعلى القول الآخر لا تجوز. فلا يجوز أيضا نكاح الأمة الكتابية لأن الله تعالى منع نكاح المشركات ولم يستثن إلا الحرائر، ولأنه يلزم منه إذا كانت ملكاً لكافر إرقاق الولد له. قال في المتيطية: وهذا هو المشهور من قول مالك وابن القاسم المعمول به. وقال أشهب في كتاب محمد في من أسلم وتحته أمة كتابية: لا يفرق بينهما. ونقله أيضاً اللخمي وغيره. وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ كَنِيسَةٍ، وَلِذَلِكَ كَرِهَهُ مَالِكٌ. لأنه لم تزوج الكتابية فقد دخل على أنها باقية على دينها، واستيلاء الزوج على زوجته كاستيلاء الإمام على أهل الذمة، فكما أن عقد الذمة لهم لا يمنعهم من ذلك، فكذلك عقد النكاح. ونص مالك في العتبية على أن من تزوج نصرانية فصامت مع أهل دينها أنه لا يفطرها. مالك: ولا أرى أن يكرهها على ما عليه أهل دينها، ولا على أكل ما يجتنبون في صيامهم أو ما يجتنبون أخذه رأساً. قال في البيان في باب الصيام: وهذا مما لا اختلاف فيه أنه ليس له أن يمنعها مما تتشرع به. واختلف هل يمنعها من شرب الخمر وأكل الخنزير؟ ففيها: لا يمنعها.

وفي الموازية: له منعها من الخمر والخنزير لأن ذلك ليس من دينها، وله أن يمنعها من الكنيسة إلا في الفرض. قوله: (وَلِذَلِكَ كَرِهَهُ مَالِكٌ) يقتضي أن مالكاً إنما يكره نكاح الكتابيات لذلك، لأن تقديم المعمول يشعر بالحصر، وهو كذلك، ففي المدونة: ويجوز للمسلم نكاح حرة كتابية وإنما كرهه مالك، ولم يحرمه لما تتغذى به من خمر أو خنزير وتغذي به ولده وهو يقبل ويضاجع. فإن قلت: ذكر في المدونة للكراهة ثلاثة أسباب: أكلها للخنزير، وتغذية ولدها به، وكونه يقبل ويضاجع. قيل: أما الثالث وهو كونه يقبل ويضاجع فلا حاجة إلى ذكره، لأن ذلك لازم مع الزوجية. وأما الثاني وهو تغذية الولد به فهو غير محقق لعدم تحقق سببه، وهو وجود الولد، فلذلك اقتصر المصنف على الأول. ومقتضى في كلامه في المدونة أن ابن القاسم لا يوافق مالكاً على الكراهة. المتيطي: وقيل: إنما كره ذلك لأنهن قد يمتن وهن حوامل من المسلم فيدفن في مقابر المشركين وهي حفر من حفر النار. وقال عبد الحميد: إنما كره ذلك لأنه سكون إلى الكفار ومودة لهن، لأن الله تعالى قال في الزوجين: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] وذلك ممنوع لقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الروم:22] الآية. فهذا إن لم ينتج التحريم فلا أقل من الكراهة. وَيُكْرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْوَلَدِ قال في المدونة: وكره مالك نكاح نساء أهل الحرب لترك ولده بدار الكفر، وأنا أرى أن يطلقها ولا يقضى عليه. ولما كانت المفسدة التي تنشأ في تربية الولد بدار الحرب شديدة ذكرها المصنف، وإن كان قد أسقط التعليل بها في دار الإسلام كما تقدم.

عياض: والكراهة عند مالك هنا أشد من الكراهية عنده ببلد الإسلام، وأجاز في العتبية للأسير أن يطأ زوجته وجاريته ببلد الحرب إذا أمن وصول أهل الحرب إليها مع كراهة ذلك للولد أيضاً. وَلَوْ مَلَكَ مَجُوسِيَّةً لَمْ يَحِلَّ لَهُ مِنْهَا اسْتِمْتَاعٌ بِخِلافِ الْكِتَابِيَّةِ القاعدة في ذلك أن كل من جاز له وطء حرائرهن بالنكاح جاز وطء إمائهن بالملك، وكل من لم يجز وطء حرائرهن بالنكاح لم يجز وطء إمائهن بالملك. قوله (لَمْ يَحِلَّ لَهُ مِنْهَا اسْتِمْتَاعٌ) أي: بجماع ومقدماته. وقوله (بِخِلافِ الْكِتَابِيَّةِ) أي: فيجوز له ذلك إذا ملكها. وكل من جاز منه الاستمتاع بالوطء، جاز منه الاستمتاع بالقبلة وما في معناه، وبالعكس. ولا يعترض على ذلك بالحيض، لأن الحيض طارئ ويزول عن قرب. وَالرِّدَّةُ تَقْطَعُ الْعِصْمَةَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَكَانَهَا بِتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ ولَهَا الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ، وقِيلَ: رَجْعِيَّةٌ بِتَوْبَتِه. وقِيلَ: يَنْتَظِرُ فِي الْعِدَّةِ بَعْد الْبِنَاءِ كَالْمُشْرِكِ تُسْلِمُ زَوْجَتُهُ .... (مِنَ الْجَانِبَيْنِ) تتعلق بـ (الرِّدَّةُ) لا بـ (تَقْطَعُ) لأن القطع لا يتأتى من أحد الجانبين دون الآخر، ولأن مراده أن ارتداد أحد الزوجين يوجب قطع العصمة سواء كان الرجل أو المرأة. وعلى هذا فيشكل، لأنه فرق بي (الرِّدَّةُ) وهو مصدر وبين صلته بالخبر وهو أجنبي، لأن قوله (تَقْطَعُ) [307/ب] خبر عن (الرِّدَّةُ). واستعمل المصنف هنا لفظ (الْعِصْمَةَ) لأنه لفظ الإمام في المدونة، ولأن علماءنا استدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، فكان ذلك كالإرشاد إلى محل الدليل. وقوله (بِتَطْلِيقَةٍ) هو المشهور، وروى ابن أبي أويس وابن الماجشون أن ذلك فسخ. وكونها (بَائِنَةٍ) هو مذهب المدونة.

وقوله: (ولَهَا الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ) ظاهر. الجلاب: ولو ارتدت قبل الدخول بها سقط صداقها، وكذلك لو ارتد زوجها. ويتخرج فيها رواية أخرى وهي أن لها نصف الصداق. وقال اللخمي: إن ارتد الزوج فلها النصف على القول بأنه طلاق. ويختلف على القول أنه فسخ، فقال مالك في المبسوط: لها نصف الصداق. وقال عبد الملك: لا شيء لها. والأول أحسن. والقول بأنها: (رَجْعِيَّةٌ بِتَوْبَتِه) للمخزومي، ومعنى (بِتَوْبَتِه) أي: تكون رجعية بشرط التوبة كما قلنا أن طلاق المولي والمعسر بالنفقة رجعي، وشرط الرجعية الفيئة واليسر، والقول بأنه ينتظر في العدة نقله اللخمي عن ابن الماجشون، وبه قال أشهب في أحد قوليه، وروى عنه أيضاً كالمشهور. فَإِنِ ارْتَدَّ إِلَى دِينِ زَوْجَتِهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَالْمُسْلِمَةِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: لا يُحالُ بَيْنَهُمَا .... كما لو كانت تحته نصرانية فارتد إلى النصرانية هذا ظاهر لفظه، وهو الذي في الجواهر. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك فإن مقصوده إنما هو الفرق بين أن تكون مسلمة فيفسح النكاح وبين ألا تكون كذلك فيختلف فيه، وهو ظاهر ما حكاه غير المؤلف. وصرح في التنبيهات بمشهورية قول ابن القاسم. ورأى أصبغ أن سبب الحيلولة بينه وبين المسلمة إنما هو استيلاء الكافر على المسلمة، وعلى قول أصبغ فلا تحرم عليه الكتابية إن عاد إلى الإسلام. فرع: فإن تهود نصراني أو بالعكس أقر، وحكى ابن العربي رواية بالقتل لخروجه عن العقد الذي انعقد له إلا أن يسلم. وأما لو تزندق يهودي أو نصراني، فقال أصبغ في الواضحة: لا يقتل لأنه خرج من كفر إلى كفر. وقاله مطرف وابن عبد الحكم، وقال ابن الماجشون: يقتل لأنه دين لا يقر عليه أحد، ولا تؤخذ عليه جزية.

ابن حبيب: ولا أعلم من قاله غيره ولا أقول به. الباجي: يحتمل أن يريد بالزندقة هنا الخروج إلى غير شرعية مثل التعطيل ومذاهب الدهرية، وحكى الشيخ أبو محمد عن أبي بكر بن محمد قال: روى عبد الرحمن بن إبراهيم الأندلسي في النصراني أو اليهودي يتزندق أنه يقتل، لأنه خرج من ذمته إلى غير ذمته، ولو أسلم لقتل كمسلم يتزندق ثم يتوب. وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعاً وكَانَا عَلَى صِفَةٍ لَوِ ابْتَدَأ عَلَيْهَا لَصَحَّ قُرِّرَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَيُقَرَّانِ عَلَى نِكَاحٍ بِلا وَلِيٍّ ولا صَدَاقٍ ولا عَقْدٍ وَفِي الْعِدَّةِ والنِّكَاحِ الْمُؤَجَّلِ إِلا إذَا أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ وَالأَجَلِ بِخِلافِ الْمَحَارِمِ هذا شرع من المصنف في الكلام على إسلام الزوجين الكافرين، وفي ذلك ثلاث صور: الأولى: أن يسلما معاً. والثانية: أن تسلم الزوجة وحدها. والثالثة: أن يسلم الزوج وحده. وتكلم المصنف هنا على الأولى. وقوله (أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعاً) يحتمل في وقت واحد، وهو ظاهر لفظه. ويحتمل أتيا معاً إلينا مسلمين، وإن افترق إسلامهما في الزمان، وهو ظاهر كلام الباجي لأنه قال: وإذا أسلما قبل البناء في وقت واحد مثل أن يأتيا جميعاً مسلمين، ففي النوادر أنهما على نكاحهما. قوله: (وكَانَا عَلَى صِفَةٍ .. إلى آخره) حاصله إن كان المنع لصفة في الزوجين، كما لو كانا محرمين لم يقر نكاحهما، وإن كان لسبب خارج عنهما قررا على نكاحهما، فيقران على نكاح بلا ولي ولا صداق ولا عقد، وعلى النكاح في العدة ونكاح المتعة وهو مراده بقوله (والنِّكَاحِ الْمُؤَجَّلِ) ونص اللَّخْمِيّ على أنه لو كان زنا ثم تراضيا على البقاء على وجه الزوجية أنهما يبقيان إذا أسلما. وقوله (إِلا إذَا أَسْلَمَا ... إلى آخره). أي: فإنه يفسخ في هاتين الصورتين وإن كان الفساد فيهما ليس لصفة راجعة إلى الزوجين. نص على الأولى- وهي إذا أسلما قبل

انقضاء العدة- ابنُ القاسم وأشهب في الموازية، ولا إشكال فيهما لأن التمادي على النكاح هتك لحرمة العدة، وفيه سقي مائه زرع غيره. ونص على الثانية أَشْهَب في الموازية، ورأى أنا لو أبحنا لهما التمادي إلى الأجل لكنا أمضينا نكاح المتعة في الإسلام. هكذا أشار ابن عبد السلام إلى تعليل المسألة. وينبغي أن يفهم ما قالوه من عدم التمادي في هذه الصورة على ما إذا قالا: نحن نتمادى إلى بقية الأجل. وأما لو تماديا على الإطلاق فينبغي أن يصح النكاح، لأنهما إذا تماديا على الإطلاق لا يكون نكاح متعة، وهو الذي يؤخذ من كلام اللخمي فإنه قال: يثبت نكاحهما سواء كان أصله فاسداً أو صحيحاً، دخل أو لم يدخل، وإن كان اصله نكاح متعة ثم تراضيا بعد الأجل على البقاء جاز. أشهب: ولو أسلم بعد الأجل ثبت النكاح بنى أو لم يبن. قوله (بِخِلافِ الْمَحَارِمِ) هو مقابل لقوله (وكَانَا عَلَى صِفَةٍ لَوِ ابْتَدَأ عَلَيْهَا لَصَحَّ). وَالْمَشْهُورُ [308/أ] أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ فَاسِدَةٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالإِسْلامِ مَا ذَكَرْنَاهُ المشهور كما ذكر فساد أنكحتهم؛ لأن صحة العقد مفتقرة إلى شروط هي معدومة في أنكحتهم كالولي، ورضا المنكوحة، وألا يكون في عدة، وبصداق يجوز تملكه، وبشهود. قاله ابن يونس. وفيه نظر، لأنه يقتضي أنه لو انعقد نكاحهم بالشروط المعتبرة في الإسلام لصح، وليس كذلك. وقال ابن راشد بعد ذكره المشهور: وقيل: بل ينظر، فإن وقعت على الشروط المعتبرة فهي صحيحة، وإلا فهي فاسدة، وهو اختيار شيخي القرافي. انتهى. وحكى صاحب الاستلحاق الشاذ عن بعض مذاكريه، وبناه ابن بشير على القول بعدم خطاب الكفار. واستشكل القرافي في الذخيرة المشهور، لأن ولاية الكافر للكافرة صحيحة، والشهادة عندنا ليست شرطاً في العقد حتى نقول لا تصح شهادتهم لكفرهم، وقد يشهدون للمسلمين. ونص ابن عبد السلام على أن الخلاف حاصل فيما اجتمعت فيه الشروط كغيره.

وَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثلاثاً، فَإِنْ أَسْلَمَا فِي الْحَالَ قُرِّرَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَانَهَا لَمْ يُقَرَّ، ولَكِنَّهُ يَعْقِدُ مِنْ غَيْر مُحَلَّلٍ لأن الطَّلاق فرع صحة النكاح، فإن أبانها صارت كالأجنبية. وقال المغيرة: طلاقالمشركين طلاق، ولا تحل له إلا بعد زوج. يريد، إذا طلقها ثلاثاً، وهو إما بناء على صحة أنكحتهم، وإما أن النكاح المختلف في فساده يلزم فيه الطَّلاق. وعلى هذا فيقال: كان ينبغي على المشهور لزوم طلاقهم للخلاف في صحة أنكحتهم، إلا أن يراعى هذا النكاح. وهذا كله إذا لم يتحاكموا إلينا، فإن تحاكموا إلينا ففي المدونة: إذا طلق الذمي ثلاثاً فرفعت المرأة أمرها على الحاكم فلا يحكم بينهما إلا أن يرضيا بحكم الإسلام، فالحاكم مخير إن شاء حكم وإن شاء ترك، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام. قال: وأحب إلى ألا يحكم بينهم، فطلاق المشرك ليس بطلاق. صاحب الاستلحاق وابن محرز: ظاهره أنه لا يلتفت في الحكم بينهم إلى رضا أساقفتهم. وفي التعبية لابن القاسم: لابد من رضا أساقفتهم. عبياض: وظاهره يحكم بحكم الإسلام أن حكم بينهم: أن يتركهما ولا يفرق بينهما إذ هو حكم الإسلام في طلاق أهل الكفر كما قال. وعلى هذا تأول المسألة ابن أخي هشام وابن الكاتب، وغير واحد، وهو أظهر، وحملها القابسي وغيره على ظاهر اللفظ، وعلى أنه يحكم بينهم بالفراق إذ هو حكم الإسلام الذي تراضوا به، ثم اختلفوا، فأما القابسي فلم يرد أن يزيد الحاكم شيئاً على أن يفرق بينهما فراقاُ مجملاً دون الثلاث، وذهب ابن شبلون إلى الحكم بالثلاث، كما يحكم بين المسلمين، ويبينها منه. وكان الشيخ أبو محمد يقول: إن كان العقد صحيحاً لزمه الطلاق، وإن كان مخالفاً لشروط الصحة لم يلزمه شيء، وقد يحتج لهذا بما وقع في كتاب

العتق الثاني في النصراني يعتق عبده ويتمسك به أنه لا يعرض له إلا أن يرضى السيد بحكم الإسلام، فيحكم عليه بحريته، والظاهر أنه والطلاق سواء. انتهى. خليل: وفرق في الاستلحاق بأنه في العتق عتق ما يملكه بملك ثابت، فلذلك حكم عليه بخلاف النكاح. قيل: ومنشأ الخلاف بين ابن شبلون وابن الكاتب الاختلاف في معنى قول مالك حكم بينهم بحكم الإسلام هل معناه بحكم الإسلام في الإسلام فيلزم الطلاق، أو بحكم الإسلام في أهل الشرك فلا يلزم؟ وَإِصْدَاقُهَا الْفَاسِدُ كَالْخَمْرِ أَوِ الإِسْقَاطِ إِنْ كَانَ قُبِضَ ودَخَلَ مَضَى، وإِلا فَصَدَاقُ المِثْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: قِيمَتُهُ لَوْ جَازَ بَيْعُهُ. وَزيد فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ إِنْ كَانَ قَبَضَ وَمَا دَخَلَ رُبُعُ دِينَارٍ وَالسُّقُوطُ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ يَكُونُ كَنِكَاحِ تَفْوِيضٍ ابْتِدَاءً .... حاصله أنه إذا أصدق الكافر زوجته الكافرة صداقاً فاسداً كالخمر ونحوه فله أربعة أقسام، وقد تقدم أنه يبتدأ في القسمة الرباعية بإثباتين ثم بنفيين، ثم بإثبات الأول، ونفي الثاني، ثم بالعكس، فيكون الأول: قبض ودخل، والثاني: لم يقبض ولم يدخل، والثالث: قبض ولم يدخل، والرابع عكسه. ولأجل أن المصنف أراد هذه الأقسام الأربعة، قال: (وَزيد فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ) قوله: (مَضَى) لأنها مكنته من نفسها وقبضت العوض في وقت يجوز لهما المعاوضة به. وقوله (وإِلا فَصَدَاقُ المِثْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ) يدخل فيه الثلاثة الأقسام، أي: وإن لم يحصل القيدان فيلزم فيه صداق المثل على المشهور، وهو مذهب المدونة ونصها: وإن نكح نصراني نصرانية بخمر أو خنزير أو بغير مهر أو شرط ذلك، وهم يستحلونه في دينهم، ثم أسلما بعد البناء ثبت النكاح، فإن كانت قبضت قبل البناء ما ذكرنا فلا شيء لها غيره، وإن لم تكن قبضت وقد بنى بها فلها صداق المثل، فإن كان لم يبن بها حتى أسلما وقد قبضت ما ذكرناه أو لم تقبض

خير بين إعطائها صداق المثل ويدخل بها، أو الفراق، ويكون طلقة، ويصير كمن نكح على تفويض. وقال غيره: إن قبضته مضى ولا شيء لها غيره بنى بها أو لم يبن. وإلى ما ذكره في المدونة من أنها إذا لم تقبضه ودخل الزوج [308/ب] بها يكون لها صداق المثل، ومن أنها إذا لم يدخل الزوج بها سوء حصل القبض أو لم يحصل يخير الزوج، أشار إليه المصنف بقوله (وَعَلَى الْمَشْهُورِ يَكُونُ كَنِكَاحِ تَفْوِيضٍ ابْتِدَاءً) لأن نكاح التفويض إذا دخل فيه الزوج يلزمه فيه صداق المثل، وإذا لم يدخل يخير الزوج فإن فرض صداق المثل لزمها، وإن فرض اقل منه لم يلزمها، ولا يلزمه هو أن يفرض صداق مثلها. قوله: (وَزيد فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ) إلى آخره، حاصله أنه فيه أربعة أقوال على المشهور: يخير الزوج كنكاح التفويض. الثاني: أن لها قيمته لو جاز بيعه، وهو قول ابن عبد الحكم لكنه لم يجزم به، بل قال: القياس أن لها قيمة الخمر بمنزلة من تزوج بثمرة لم يبد صلاحها، فلم تجذ حتى أزهت، أن النكاح لا ينفسخ ولها قيمة ذلك. اللخمي: وهو أحسن، فإن كانت قيمة الخمر عشرين وصداق مثلها عشرة لم يلزمها قبول عشرة، لأنها دون ما رضيت به، وإن كان صداق مثلها ثلاثين لم يلزمه ثلاثون، لأنها فوق ما رضيت به. الثالث: أن لها ربع دينار، وهو قول أشهب في الموازية، قال: وإن لم يعطيها ربع دينار فسخ. الرابع: لا شيء لها، وعزاه المتيطي لابن القاسم وعبد الملك، وهو أقيس لأن طريان ما أسقط ملكها عنه كطريان موت عبد أو دابة أخذته في صداقها، وهذا هو القول الذي ذكره في المدونة عن غير ابن القاسم. ابن محرز وغيره: هو المستحسن، وهو خير من قول ابن القاسم في المدونة، لأنهم لا يختلفون أن النصراني إذا أسلم وله ثمن خمر أو خنزير أن الثمن له حلال، والبضع هنا ثمن الخمر، فهو له حلال. وصرح اللَّخْمِيّ بأن هذا القول هو المعروف من المذهب. ابن يونس: وعلى قول الغير هنا إن قبضت نصفه قبل البناء كان لها نصف صداق المثل، وكذلك في جميع الأجزاء على هذا الحساب.

تنبيه: قول المصنف (إِنْ كَانَ قُبِضَ ودَخَلَ مَضَى) لم يشترط فيه ما قال في المدونة: وهم يستحلونه في دينهم. إما لأنه وصف طردي لا على سبيل الشرط، وإما لأنه لا يوجد كافر لا يستحل ذلك، وإلى هذا ذهب بعضهم، ورأى بعضهم أنه شرط مقصود من ابن القاسم، فقال: يزيد أنه لو دخلوا عليه وهم لا يستحلونه لم يدخلوا على النكاح بل على الزنا، فلا يثبت ذلك العقد بعد الإسلام إلا أن يكونوا قد تمادوا عليه على وجه النكاح، وهو ظاهر إن وجد من الكفار من لا يستحل ذلك. وقيل: إنما قال: (وهم يستحلونه) تنبيهاً بالأخف على الأشد، لأنه قد تتوهم الصحة إذا كانوا يستحلونه، فبين أنه لا فرق. وَالإِسْقَاطُ وَالدُّخُولُ كَقَبْضِ الْفَاسِدِ، وَقِيلَ: صَدَاقُ الْمِثْلِ وَإِنْ دَخَلَ قوله (كَقَبْضِ الْفَاسِدِ) أي فلا شيء لها، و (الْفَاسِدِ) صفة لمحذوف، أي: كقبض المهر الفاسد، وقوله في القول الثاني: (وإن دخل) لا حاجة إليه، لأن المسالة مفروضة مع الدخول، وليس في المدونة في هذه المسألة نص صريح، لأنه جمع فيها بين مسألة الذمي الذي يتزوج بخمر، والذي يتزوج بلا صداق، ثم أجاب عن مسألة الخمر، واختلف في مذهب الكتاب في ذلك، فقال ابن ابي زيد واللخمي وغيرهما: إن دخل بها فلها صداق المثل كما إذا لم تقبض الخمر أو الخنزير. وهو مذهب ابن القاسم في الواضحة. وهذا هو القول الثاني من كلام المصنف. عياض: وذهب غير ابن أبي زيد إلى أنه إن دخل بها فلا شيء لها. وهو مذهب محمد. عياض: وهو الصحيح. وهذا هو الذي قدمه المصنف، وإليه ذهب صاحب النكت. ابن يونس: وهو ظاهر المدونة. عياض: وأما قبل الدخول، فقالوا: لا يختلف أنه لا يدخل بها إلا أن يفرض مهر مثلها.

وقوله: لا يختلف أنه لا يدخل بها إلا أن يفرض؛ أي: ولا يجبر الزوج الزوجة على ذلك. صرح به اللَّخْمِيّ. واختار اللَّخْمِيّ أنه لا شيء لها إلا ربع دينار لحق الله تعالى. فرع: واختلف قول ابن القاسم إذا أسلمت قبل البناء بعد أن قبضت الخمر، ولم يسلم زوجها، فقال في العتبية: ترد قيمة ما قبضته من خمر فات أو لم يفت، ويكسر الخمر عليها. وقال في الواضحة: لا شيء عليها لا نصف ولا غيره. اللخمي: وأرى إن أسلمت والخمر بيدها أن يرد إلى الزوج ولا يكسر عليها؛ لأن إسلامها يفسخ النكاح ويسقط ملكها عن الصداق، ويعود ملكاً للزوج ويرجع في عينه. وإن فاتت الخمر غرمت قيمتها، لأن إسلامها يوجب رد الصداق إذا كان دنانير أو سلعة. وَإِذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَةُ كِتَابِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٍّ قَبْلَ الْبِنَاءِ بَانَتْ مَكَانَهَا اتِّفَاقاً قد تقدم لإسلامها ثلاث صور، تكلم المصنف على الأولى، وهذا الكلام على الثانية. وما حكاه المصنف من الاتفاق حكاه ابن يونس، وحكى اللَّخْمِيّ في ذلك خلافاً، فقال: واختلف إذا أسلم عقب إسلامها نسقاً، فقيل: بانت منه. وفي العتبية: أنه أحق بها. وكذلك حكى ابن بشير وابن راشد إذا أسلم عقيب إسلامها قولين، وبناه انب بشير على أن ما قرب من الشيء هل له حكمه أم لا؟ وأجراه اللَّخْمِيّ على من طلق زوجته ثلاثاً قبل البناء واحدة بعد واحدة هل تلزمه الثلاث أو واحدة؟ وعلى هذا فالاتفاق إنما هو مع الطول. وأشار الباجي إلى أن الخلاف مع القرب إنما هو مخرج. [309/أ] ابن عبد السلام: وهو الأقرب. وكان الأولى أن يقول موضع (اتِّفَاقاً) على المشهور أو على المنصوص.

وَبَعْدَ الْبِنَاءِ يَنْتَظِرُ فِي الْعِدَّة اتِّفَاقاً لِلسُّنَّةِ أي: وإن أسلمت الزوجة فقط (بَعْدَ الْبِنَاءِ) فإن الزوج (يَنْتَظِرُ فِي الْعِدَّة) للسنة اتفاقاً، فإن اسلم في عدتها كان أحق بها. وأشار بقوله (للسنة) إلى ما في الموطأ من إقراره عليه الصلاة والسلام صفوان بن أمية على بنت الوليد بن المغيرة بعد شهر من إسلام زوجته ولما فيه أيضاً من إقراره عليه الصلاة والسلام عكرمة بن أبي جهل على أم حكيم. وما رواه أبو داود عن ابن عباس من أنه عليه الصلاة والسلام رد ابنته زينب إلى أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، وفي رواية بعد ست سنين. ابن عبد البر: وفي بعض طرقه بعد سنتين. وروى الدارقطني والترمذي عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام رد ابنته زينب إلى أبي العاص بنكاح جديد. وصحح صاحب الاستذكار هذا وضعفه غيره. ابن عبد البر: وإن صح ما رواه الدارقطني فإما لأنها لم تحض ثلاث حيض حتى أسلم زوجها، وأما لأن الأمر فيها منسوخ عند الجميع بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] أي: في عدتهن، ولا يجوز رجوعها إليه بعد العدة عند الجميع، إلا شيء روى عن النخعي وشذ فيه، ولم يتابعه عليه إلا بعض أهل الظاهر. وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ إِسْلامِهِ كَانَ لَغْواً إذ لا ملك له عليها حينئذ، وطلاق الكافر غير معتبر، وقد تقدم عن المغيرة أن الكافر يلزمه الطلاق في الكافرة، فأحرى أن يقوله هنا لأنه حكم مسلمة وكافر. قاله ابن عبد السلام. وقد يقال: إن المرأة هنا في حكم البائنة، وإنا أقر عليها إذا أسلم تأليفاً بخلاف الكافر إذا طلق الكافرة التي في عصمته، والله أعلم.

فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قُرِّرَ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ ولَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا هذه هي الصورة الثالثة إذا أسلم الزوج فقط قرر عل نكاح الكتابية الحرة لأنه إذا كان يجوز له ذلك ابتداءً فلأن يجوز له التمادي من باب الأولى. قوله (ولَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا) هو كذلك في المدونة، وزاد فيها: ولا خيار لها إن بلغت. ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم أنه قال: يكره التمادي على نكاح الكتابية هنا، كما يكره للمسلم نكاحها ابتداءً. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ أَسْلَمَتْ أَوْ عُتِقَتِ الْكِتَابِيَّةُ وَلَمْ يَبْعُدْ مَا بَيْنَهُمَا ثَبَتَ بَنَى أَوْ لَمْ يَبْنِ ... يعني: وأما غيره الحرة الكتابية فيدخل في ذلك الأمة الكتابية والمجوسية حرة كانت أو أمة، (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ أَسْلَمَتْ). يعني: المجوسية (أَوْ عُتِقَتِ) يعني: الأمة الكتابية، وسيأتي تفسير قوله (وَلَمْ يَبْعُدْ). وَإِلا فُسِخَ بِطَلاقٍ، وَفِيهَا: مَا فُسِخَ لإِسْلامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَبِغَيْرِ طَلاقٍ أي: وإن لم تسلم بالقرب فسخ، وهل بطلاق؟ ابن عبد السلام وغيره: والمشهور ما في المدونة أنه يفسخ بغير طلاق وهو الذي في الرسالة وغيرها. ابن المواز: والفرق بين إسلام أحد الزوجين أنه فسخ بغير طلاق وبين ردته أن الردة طرأت عل نكاح صحيح، وأيضاً المسلم يلزمه طلاقه، فكذلك يلزمه لما أحدث من الردة الطلاق، والكافر لو طلق لم يلزمه وإن أسلم فلم يلزمه بما فعل طلاق.

وَقَالَ: فَإِنْ غَفَلَ عَنْهُمَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ فَلَيْسَ بَكَثِيرٍ. وَعَنْهُ: إن أَسْلَمَتْ مَكَانَهَا ثَبَتَ وَإِلا فَلا، وَفَرَّقَ أَشْهَب بَيْنَ مَا قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ كَمَا قيل: فِي إِسْلامِ الزَّوْجَةِ قَبْلَهُ سَوَاءً ..... هذا تفسير لقوله: (وَلَمْ يَبْعُدْ). وقوله: (وَقَالَ: فَإِنْ غَفَلَ عَنْهُمَا) فيه نظر؛ لأن ابن القاسم لم يذكر في قوله غفلة، وإنما تأول ذلك عليه، ونص التهذيب: وإن أسلم مجوسي أو ذمي وتحته مجوسية عرض عليها الإسلام حينئذ، فإن أبته وقعت الفرقة بينهما. محمد: يريد إن لم تسلم مكانها. ثم قال في التهذيب: فإن أسلمت بقيت زوجة ما لم يبعد ما بين إسلامها، ولم يجد مالك البعد، وأرى الشهر وأكثر من ذلك قليلاً ليس بكثير. وفي بعض الروايات: وأرى الشهرين. المتيطي: وكذلك في الموازية، وروي خارج المدونة: أقل من الشهر. وتأول ابن اللباد وغيره من القرنين المدونة على أنها لا توقف هذه المدة، وإنما معناها: غفل عن إيقافها، وجعلوا قول ابن القاسم موافقاً لقول مالك أنه إن عرض عليها الإسلام ولم تسلم فرق بينهما ولم توقف. وقال ابن أبي زمنين: المعروف أما إن وقفت إلى شهر أو بعده فأسلمت أنها امرأته. عياض: ظهر كلامه خلاف ما تأوله القرويون. وقوله (وَعَنْهُ: إن أَسْلَمَتْ مَكَانَهَا ثَبَتَ وَإِلا فَلا) أي: وعن ابن القاسم. وتصوره ظاهر. وقال أشهب في الموازية: لا يفرق بيتها في الدخول حتى تخرج من العدة، يعني: وأما قبل البناء فتبين بمجرد إسلامه. محمد: وأصحابنا عل قول ابن القاسم، قال أيضاً أَشْهَب، وعن أشهب: أنه يعرض عليها الإسلام بعد البناء اليومين والثلاثة. وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه يعرض عليها

الإسلام اليومين والثلاثة، فإن أبت استبرأت نفسها [309/ ب] بحيضة، ويؤخذ من هذا أن الاستبراء في إسلام أحد الزوجين حيضة. اللخمي: قال مالك وابن القاسم: تستبرأ بثلاث حيض. وقال ابن القاسم في العتبية في النصرانية يطلقها النصراني فتحيض حيضة ثم تزوج مسلماً: لا أفسخ نكاحه لأن مالكاً يقول: تجزئها حيضة. تنبيه: قوله: (أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ) ليس مقيداً بالقلة، وينبغي أن يقيد بها كما في المدونة. وَإِذَا سَبَقَ سَقَطَتْ نَفَقَةُ مَا بَيْنَهُمَا أي: سبق الزوج بالإسلام وذلك بعد الدخول. قوله: (مَا بَيْنَهُمَا) أي: بين إسلام الزوج وإسلامها، وإنما سقطت نفقتها لأن الامتناع من سببها. وَإِذَا سَبَقَتْ فَقَوْلانِ هما لابن القاسم بناء عل أنها محبوسة من أجله لما كان أحق بها في العدة فتجب لها، أو هي منعت نفسها إسلامها والنفقة في مقابلة الاستمتاع. ابن أبى زمنين: وهو الصحيح في النظر. وكذلك قال اللَّخْمِيّ: عدم النفقة أحسن. وقال ابن راشد: هو أقيس. وأخذ أصبغ بالقول بالوجوب، وأفتى به، وهذا ما لم تكن حاملاً، وأما إن كانت حاملاًً فلها النفقة والسكنى بالاتفاق. قاله ابن عبد السلام، قال: وليس ما وقع في بعض نسخ ابن بشير من الخلاف في السكنى صحيحاً. واعلم أن القولين فيالنفقة موجودان، سواء أسلم الزوج أو لم يسلم، وليس كما يعطيه كلام المصنف أنهما مقصوران على ما بين إسلامهما.

لو أَسْلَمَ صَغِيرٌ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةً لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى يَحْتَلِمَ لأَنَّهُ لَوِ ارْتَدَّ قَبْلَ بُلُوغِهِ لَمْ يُقْتَلْ ..... لا إشكال أن إسلام أحد الزوجين إذا كان في سن من لا يميز لا يوجب فراقاً، وأما إن كان يعقل الإسلام قالوا؛ وهو من الإثغار فما فوقه. فإن أسلم الزوج وتحته مجوسية لم يفسخ نكاحه حتى يحتلم، لأنه لو ارتد قبل ذلك لم يقتل، وقاله في المدونة. وفيها أيضاً ما يدل عل خلاف هذا، وأنه يعم إسلام المميز، ففي التجارة إلى أرض الحرب أنه يُجبر الكافر عل بيع عبده الصغير إذا أسلم، وفي الجنائز أنه يصل على الصغير يجيب إلى الإسلام. وقد حكى اللَّخْمِيّ في مسألة المصحف هذه قولين منصوصين: أحدهما: ما ذكره المصنف. والثاني: أن إسلامه إسلام. قال: فعليه إن كانت بالغة عرض عليها الإسلام على مذهب ابن القاسم، ثم يختلف هل تؤخر ثلاثة أيام؟ ويختلف إذا غفل عنها، ولم يعرض لها الشهر والشهرين هل يكون أحق بها؟ وعلى قول أشهب تقع الفرقة بينها مكانه، وسواء دخل بها أم لا لأن دخول من لم يبلغ كَلا دُخول. فرع: وأما إن أسلمت الزوجة الصغيرة فقط فعلى القول بأن اعتبار إسلامها إن كان الزوج دخل وهو بالغ فعليها العدة، وهو أحق بها إن أسلم في عدتها، وإن لم يكن دخل بها أو دخل ولم يبلغ بانت، وإن أسلم بعد ذلك إلا أن يكون إسلامه عقب إسلامها فيختلف فيها. وعلى القول بأنه لا يعتبر إسلامها فيوقف زوجها البالغ عنها ولا تكون عليها عدة، فإذا ثبتت على إسلامها بعد البلوغ فالعدة عليها حينئذ ويكون أحق بها إن أسلم في عدتها. قاله اللخمي. وعن سحنون أن الفرقة تقع بين الزوجين إذا أسلمت، يعني في صغرهما أو في صغر أحدهما، كما تقدم. قال: كما يباع العبد على سيده بخلاف ما إذا كان هو أسلم وزوجته مجوسية. واعترضه ابن عبدوس، وقال: كيف تقع التفرقة بإسلامها، ولا تقع بإسلامه.

التونسي: ولا فرق بينها. وقال ابن رشد للإسلام حرمة، وإن كان قبل البلوغ فعليها إذا أسلمت ضرر في البقاء عل عصمة كافر، ولا ضرر عليه هو إذا أسلم في البقاء على عصمة كافرة، وفيه نظر. اللخمي: وإن أسلم أبواهما والزوجان صغيران في سن من لا يميز كانا بإسلام الأبوين في حكم المسلمين، وإن أسلم أبوها وقعت الفرقة لأنه ليس ثم دخول. ويختلف إذا أسلم أبوه، فعلى قول ابن القاسم يعرض على أبيها الإسلام، وعلى قول أشهب وقعت الفرقة وإن أسلم أبواهما. وأما إن عقلا دينهما لم يكن إسلام الأبوين إسلاماً لهما. وَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى عَشْرٍ اخْتَارَ أَرْبَعاً، أَوَائِلَ كُنَّ أَوْ أَوَاخِرَ لحديث غيلان الثقفي أنه أسلم وعنده عشر نسوة فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا منهن. وبين أهل الحديث في صحته وضعفه- وعليه الأكثر- خلاف. ونبه بقوله: (أَوَائِلَ كُنَّ أَوْ أَوَاخِرَ) عل خلاف أبي حنيفة في قوله: يتعين الأوائل، وفيه ضعف؛ لأن التخيير ينافي التعيين. ابن عبد السلام: وخرج بعض الشيوخ لأشهب مثلة قول أبى حنبفة. فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَلا مَهْرَ لِلْبَوَاقِي، وقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لِكُلِّ وَاحِدَةٍ خُمُسُ صَداقَِها؛ لأَنَّهُ لَوْ فَارَقَ الْجَمِيعَ لَزِمَهُ صَدَاقَانِ. وقَالَ ابْنُ حَبيبٍ: نِصْفُ صَدَاقِهَا؛ لأَنَّهُ فِي الاخْتِيَارِ كَالْمُطَلِّقِ ..... قوله: (فَلا مَهْرَ لِلْبَوَاقِي) أي: المتروكات؛ لأنه مغلوب عل الفراق. ابن محرز وغيره: وعليه فالفسخ بغير طلاق، وعلى قول ابن المواز وابن حبيب يكون طلاقاً، وفي التنبيهات: قالوا: مذهب ابن القاسم أنه يفسخ بغير طلاق، خلاف ما في الواضحة. واحتج ابن المواز بما ذكره المصنف أنه (لَوْ فَارَقَ الْجَمِيعَ لَزِمَهُ صَدَاقَانِ)

[310/ أ] وإذا قسم اثنان على عشرة كون لكل واحدة خمس، فيكون للست اللاتي فارقهن حظهن من الصداقين. ورأى ابن حبيب أنه لما اختار الأربع دون غيرهن عُدَّ في الاختيار كالمنتقل، فكان كالمطلِّق. وفيه نظر؛ لأنه لو كان كالمطلِّق للزم إذا اختار أربعاً فوجدهن محارم ألا يختار بقية الأريع من الست، لأنهن بِنَّ عنه بالطلاق، ولا يقال: لم يجعله ابن حبيب مطلقاً، وإنما قال: كالمطلِّق؛ لأنا نقول؛ إنما يلزم نصف الصداق من طلَّق أما شبهه فلا، وأيضاً فلأنه إذا طلق بعد اختيار فيكون طلاقه مانعاً من التمسك بهذه الأربع. فَإِنْ مَاتَ ولَمْ يَخْتَرْ فَعَلَى الْمَشْهُورِ وَقَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَلَيْهِ أَرْبَعُ صَدَقَاتٍ لكل واحدةٍ خُمُسُا صَدَاقِهَا. وعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ أَرْبَعُ صَدَقَاتٍ لأَرْبَعٍ وَثَلاثٍ لِسِتٍّ يَقْتَسِمْنَ الْجَمِيعَ أَعْشَاراً ..... لأنه إذا مات ولم يختر فليس في عصمته شرعاً غير أربع، فيلزمه لكل واحدة صداق، وليست واحدة من العشر بأولى من الأخرى، فتقسم الأربعة عل عشرة، فيكون لكل واحدة خُمسَا صداقها. وعلى قول ابن حبيب يكون لكل واحدة سبعة أعشار صداقها. وما ذكره المصنف من أنه على قول محمد يكون الواجب عليه أربعة أصدقة كالشهور، نحوه للخمي وابن بشير، ونقله ابن شاس عن محمد، واستشكل؛ لأن الموت كالدخول في تكميل الصداق، وهو لو بنى بأربع منهن، وجهلت أعيانهن، لكان لمجموع العشر عند محمد خمسة أصدقة، وخمس صداق؛ لأن للأربع أربع صدقات، ولكل واحدة من الست خمس صداق، وهكذا نقله ابن يونس وغيره.

وَمَنْ بَنَى بِهَا فَلَهَا صَدَاقُهَا، وَمَنْ لَمْ يَبْنِ بِهَا فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ لا إشكال في أن من بنى بها لها الصداق، ومن لم يين بها فعلى ما تقدم، أي: فإن اختارها كان لها الصداق، وإن اختار أربعاً فبنى بهن وفارق غيرهن لم يكن لهن شيء على المشهور، ويأتي قول ابن المواز وقول ابن حبيب، وهو ظاهر. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ رَضِيعَاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ امْرَأَةٌ اخْتَارَ وَاحِدَةً ولا شَيْءَ لِلْبَوَاقِي عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَجِيءُ الْقَوْلانِ عَلَيْهِمَا ...... يعني: أن الأربع في هذه المسألة كالعشرة في التي قبلها، فيمسك واحدة ويفارق ثلاثاً، ولا شيء لهن عند ابن القاسم؛ لأنه مغلوب على الفراق. وعلى قول ابن المواز لكل واحدة ثمن صداقها، إذ لو فارق الجميع، لم يلزمه إلا نصف صداق. وعلى قول ابن حبيب لكل واحدة نصف صداقها. ابن يونس: قال بعض فقهائنا: ولو مات الزوج قبل أن يختار واحدة من الأربع لم يجب عليه إلا صداق واحد للجميع اتفاقاً؛ لأن واحدة يصح نكاحها والثلاث محرمات، فوجب عليه صداق واحد يقسم على سائرهن، وكذلك يتفق على وجوب النصف إذا طلق الأربع قبل أن يختار واحدة، وما ذكره المصنف من أنه يختار واحدة هو المشهور، وقال ابن بكير وابن الكاتب: إن أرضعت واحدة بعد واحدة، فلا يجوز له أن يختار واحدة منهن، وهو بمنزلة من تزوج الأختين في عقدة واحدة. هكذا نقل ابن عبد السلام هذا القول، وإذا فسخ النكاحان عليه إذا أرضعت واحدة بعد واحدة فمن باب الأولى إذا أرضعتها معاً. وفرق في المدونة بين ما قاس عليه ابن بكير، فإن العقد هنا صحيح بخلاف من تزوج الأختين.

ابن القابسي: ومن اختار فراقها فهو فسخ بني طلاق عند ابن القاسم؛ لأنه لا يرى لها صداقاً، ومن رأى لها من الصداق شيئاً فسخ بطلاق. وقال غيره: بل الفرقة، على قول ابن القاسم بطلاق؛ لأنه الذي يختار الفسخ فيمن أراد. ابن يونس: يريد: وليس كل موضح يكون فيه الفراق بطلاق يلزم فيه الصداق لما يوجد في غير مسألة من الفسخ بطلاق ومن غير صداق. فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ بِمَا يَغْرَمُ هذا تفريع على قول محمد وابن حبيب، وأما على المشهور فلا غرامة، وما ذكره المصنف من رجوع الزوج عل المرضعة المتعدية قاله ابن الكاتب؛ وظاهره أنها لو لم تتعمد كما لو أرضعت غالطة تظن أن الرضيعة ابنتها لم تغرم، وقد يقال بوجوب الغرم عليها وإن لم تتعمد؛ لأن القاعدة أن العمد والخطأ في الضمان سواء. وفي المدونة ما يؤخذ منه قولان في هذا الأصل، وذلك لأن في باب الرضاع: ومن تزوج امرأة ورضيعتين في عقدة واحدة، وسمى لكل واحدة صداقها، أو في عقود مفترقة فأرضعت الكبيرة إحداهما قبل بنائه بالكبيرة، وهي في عصمته، أو فارقها حرمت عليه الكبيرة للأبد، وثبت على الصغيرتين، وإن كان بعد بنائه حرمت الكبيرة والصغيرة التي أرضعت، ولا صداق للمرضعة، وإن تعمدت الكبيرة الإفساد وللكبيرة الصداق بالمسيس. وفي النكاح الثالث: وإن نكح الأم آخراً يعني: بعد نكاح البنت، وهو لا يعلم وبنى بهما أو بالأم خاصة فارقهما وحرمتا عليه للأبد، ولا صداق للابنة إن لم يبن بها، وإن كان الفسخ من قبله لأنه لم يتعمده. وظاهره أنه لو تعمد ذلك لكان عليه الغرم، وهو خلاف ما قاله في الرضاع.

ابن عبد السلام: وليس لك أن تقول: هذا مبني عل المفهوم، وهو ضعيف لا سيما في كلام الفقهاء؛ لأن مثل هذا المفهوم قوي جداً؛ لأنه [310/ب] ذكر الصفة أولاً، وهي قوله (وهو لا يعلم) وذكر العلة آخراً وهي قوله (لأنه لم يتعمده). اللخمي: ويختلف في المرضعة هل يغرم النصف للزواج إذا غرمه؟ أو للصغيرة إن لم يغرمه الزوج على قول ابن القاسم؟ فأما غرمها للزوج فيختلف فيه قياساً على ما لو شهدت عليه بطلاق قبل الدخول، ثم رجعت البينة، فقال ابن القاسم: يرجع عل البينة بنصفه. وقال أشهب: لا رجوع له عليها؛ لأنه لم يوجب عليه إلا ما كان يلزمه لو طلق. والأول أحسن، قال: وأما غرمها للصغيرة فإن عللنا بأن البيع بيد البائع لم يكن لها شيء، وإن عللنا بأن الكبيرة إنما أسقطت لها دينها يفعلها لزمها الغرم. وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ كِتَابِيَّاتٍ فَأَسْلَمَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ، ومَاتَ قَبْلَ التعيين لَمْ يُوقَفْ شَيْءٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِمُسْلِمَةٍ وكِتَابِيَّةٍ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ. ومَاتَ ولَمْ يُعَيِّنْ .... لم يكن لهن من الميراث شيء؛ لأنه لا ميراث بشك، والمسلمات هنا مشكوك في بقاء عصمتهن لاحتمال أن يختار الكتابيات لو كان حياً. وقوله (كَمَا لَوْ قَالَ لِمُسْلِمَةٍ وكِتَابِيَّةٍ) إلى آخره، يعني؛ وكان ذلك قبل البناء أو بعده والطلاق بائن، وأما إن كان رجعياً فيشترط أن تنقضي العدة. بِخِلافِ مَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ طَلْقَةً، وَدَخَلَ بإِحْدَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَجَهَلَتِ الْمُطَلَّقَةُ، فَلِلْمَدْخُولِ بِهَا ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ وَكُلُّ الصَّدَاقِ، وَلِلأُخْرَى رُبُعُ الْمِيرَاثِ وَثَلاثَةَ أَرْبَاعِ الصَّدَاقِ ... صورة المسألة من كلام المصنف بينة، واستشكل بعضهم ما فرض فيها من جهل عين المطلقة، قال: لأن الطَّلاق إما أن يعلم من جهة الورثة، ولا يفيد لأنه محض دعوى

على الزوجتين أو إحداهما، وإما أن يكون من جهة الشهود، ومثل هذه النهابة لا تقبل لعدم الضبط. ثم أجاب: لعل الشهود شهدوا بأنه قال: إحداكما طالق، وقصد التعيين، ولم يبينه لهم، ووقع النزاع بين الزوجين، وإنما ثبت الميراث هنا لعدم الشك، لأن المدخول بها ترث، ولا بد لأنها إن كانت المطلقة فعدتها لم تنقض، وإن كانت غير المدخول بها هي الطلقة فالمدخول بها زوجة، ولا إشكال في وجوب جميع الصداق للمدخول بها، وأما الميراث فيقع بينها وبين غير المدخول بها التنازعُ فيه، فهي تقول؛ جميع الميراث، لي لأنك أنت المطلقة. وغير المدخول بها تقول للمدخول بها: بل أنت المطلقة فالميراث بيننا نصفين. فنصف الميراث، للمدخول بها محقق، ووقع التنازع بينها في النصف الثاني، فيقسم بينهما. ثم غير المدخول بها تقول للورثة: لي الصداق كاملاً لأن الطلقة غيري. ويقول الورثة: بل أنت المطلقة قبل البناء، فليس لك إلا نصفه. فيكون نصف صداقها محققاً، ويقسم النصف الآخر بينها وبين الوارث. وهذا التفريع إنما هو على المشهور، وذلك أن من ادعى جميع المال وادعى غيره نصفه فعلى الشهور يقال لمدعي النصف قد سلمت لمدعي الكل في النصف، وإنما تنازعه في النصف الثاني، فيتحالفان، ويقسم النصف بينهما. ومذهب أشهب أن الجميع يقسم بينهما على قدر دعواهما، وروي ذلك عن مالك أيضاً. واحترز المصنف بقوله (ولم تنقض العدة) مما لو انقضت، فإن الحكم في ذلك أن يكون الميراث بينهما نصفين، قاله في المدونة، قال فيها; والصداق على ما ذكرنا. وَلَوِ اخْتَارَ أَرْبَعاً فَإِذَا هُنَّ أَخَوَاتٌ فَلَهُ تَمَامُ الأَرْبَعِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ. وَقِيلَ: وَلَوْ دَخَلْنَ. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: أَمَّا لَوْ كَانَ بِطَلاقٍ وَبَانَتْ فَلا تَمَامَ لَهُ ..... الأول لابن الماجشون، والثاني لابن عبد الحكم. وهي إحدى نظائر المفقود. وقول اللَّخْمِيّ ظاهر لبادئ الرأي، لأن فيه بعد التأمل إشكالاً، لأنه كالمناقض لما سيقوله المنصف أن طلاقه لبعضهن يعد اختباراً، فعلى هذا إذا طلق أربعاً لم يكن له التمسك

بواحدة من العشر، إلا أن يفهم كلامه عل أن المعنى أنه طلق يعد اختياره فقال مثلاً في فور واحد: اخترت هذه الأربعة وطلقت البواقي. ولقائل أن يمنع وقوع الطلاق هنا؛ لأن بمجرد اختياره تبين البواقي منهن، والله أعلم. فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وابْنَتِهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِمَا حَرُمَتَا، وإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ اخْتَارَ وَاحِدَةً. وقَالَ أَشْهَب: تَتَعَيَّنُ الْبِنْتُ. وقِيلَ: بِنِكَاحٍ إِنْ شَاءَ .... وإنما حرمتا بعد الدخول؛ لأنَّا وإن لم نصحح أنكحتهم على المشهور فوطؤهم وطء شبهة، ووطء الشبهة ينشر الحرمة كما تقدم، وإن لم يدخل بواحدة، اختار واحدة إما البنت وإما الأم؛ لأن العقد الفاسد لا أثر له، وعقدهم فاسد على المشهور. وقال أشهب: تعين البنت. وهو إما بناء على صحة أنكحتهم، وإما لأنه يرى فسادها، ولكن الإسلام صححها. ونقل في المدونة عن بعض الرواة أنه لا يجوز له أن يحبس واحدة منهما. عياض: وهو أشبه. قيل: ومعناه: إذا كانا في عقدة واحدة، وإلا أمسك الأولى، ولا يكون أشد حالاً من المسلم. زاد في بعض الروايات في قول غيره: ولا بأس أن ينكح الابنة نكاحاً جديداً. ابن عبد السلام: والزيادة الواقعة في بعض الروايات هي القول الذي حكاه المصنف آخراً؛ أعني قوله (وقِيلَ: بِنِكَاحٍ إِنْ شَاءَ). فَإِنْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ تَعَيَّنَتْ [311/أ] أي: لا يجوز له نكاح الأم بعد الدخول بالبنت؛ يعني: وسواء كانا في عقد أوفي عقدين كما فرض المصنف أولاً. خليل: وينبغي على هذا أيضاً أن تتعين البنت في الفرع السابق، إذا تقدم عقدها لأن العقد على البنت محرم للأم، وإنما يأتي الخلاف إذا عقد عليها عقداً واحداً، أو كانت الأم هي

السابقة، إلا أن يقال: عقود الكفار فاسدة. وفيه نظر؛ لأنا وإن قلنا أن عقودهم فاسدة، فالإسلام يصححها، وعلى القول بصحة أنكحتهم فهذا الكلام واضح، والله أعلم. وَإِنْ دَخَلَ بالأُمِّ، فَقِيلَ: تَتَعَيَّنُ. وقِيلَ: تَنْدَفِعَانِ الأول مذهب المدونة، والثاني لمالك وأشهب، وهو مبني على أن العقد الفاسد يحرم. وَلا يَتَزَوَّجُ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ مَنْ فَارَقَهَا أي: إذا فارق الأم لاختياره البنت أو العكس، أو فارقها معاً، أو فارق إحداهما لتعيين الأخرى، فإن حرمة المصاهرة تنشر بين الأب وابنه وبين من فارقها. وظاهر كلامه أن ذلك عل التحريم. والذي في المدونة: إذا حس الأم وأرسل الابنة لا يعجبني لابنه أن يزوجها. وفهم منه عياض ما فهم المصنف، وقال: جعل للعقد هنا تأثراً في الحرمة. والذي لابن القاسم في الموازية خلافه، وأنه لا محرم بعقد أهل الشرك. وكذلك الذي يؤخذ من كلام ابن يونس حمل كلام ابن القاسم عل أنه ينشر الحرمة كما قال المصنف، فإنه قال بعد قول ابن القاسم (لايعجبني): يريد لأنه عقد شبهة. وقال ابن عبد السلام: لا يبعد حمل ما في المدونة على الكراهة لوجهين: أولهما: ليتفق ما في المدونة والموازية. وثانيها: لو انتشرت حرمة المصاهرة فيما بين الأب وابنه وبين هذه لانتشرت بينه وبين أمها. فَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ وَشِبْهَهُمَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مُطْلَقاً قوله (وَشِبْهَهُمَا) أي: كالمرأة وعمتها والمرأة وخالتها، (اخْتَارَ وَاحِدَةً مُطْلَقاً) أي: سواء بنى بها أو بواحدة منها أو لم يبن بواحدة في عقد أو في عقدين؛ لأنه إنما يحرم الجمع فقط.

وحكى المتيطي وغيره عن ابن الماجشون أته إذا أسلم على أختين انفسخ نكاحهما جميعاً، قال: هو قول من أرضى من علمائنا. ودليل المشهور ما رواه الترمذي أن فيروز الديلمي أسلم على أختين فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار واحدة. وَالْمَجُوسِيُّ يُسْلِمُ وَعِنْدَهُ عَشْرٌ أَوْ أُمٌّ وَابْنَتُهَا أَوْ أُخْتَانِ مَجُوسِيِّتَانِ قَدْ أَسْلَمْنَ كَذَلِكَ هذا مستغنى عنه، وكأنه أشار بهذا الكلام إلى أن الكلام المتقدم خاص بالكتابي، وبين هذا أن المجوسي شاركه في ذلك. وَيُعْتَبَرُ فِي الاخْتِيَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلَوْ طَلَّقَ وَاحِدةً أَوْ ظَاهَرَ أَوْ آلَى أَوْ وَطِئَ تَعَيَّنَتْ يعني: لا يشترط في الاختيار الصريح، بل يكون بالتصريح وبما يستلزمه كما إذا طلق واحدة أو ظاهر منها أو آلى أو وطئها بعد إسلامه، إذ لا يفعل ذلك الرجل إلا في زوجته، وينبغي أن تكون مقدمات الوطء كالوطء، ولا يقال يصح عندنا الإيلاء من الأجنبية لأن العرف أن الإيلاء إنما يكون في الزوجة، والمعتبر في الدلائل إنما هو العرف كما في الأيمان والإقرار. وَلَوْ قَالَ: فَسَخْنتُ نِكَاحَهَا تَعَيَّنَ غَيْرُهَا إن أراد بقوله (تَعَيَّنَ غَيْرُهَا) للاختبار فظاهر، وهذا الذي يؤخذ من الجواهر. وإن أراد تعيين الرضا بالغير فبعيد. قال في الجواهر: ولو قادت فسخت نكاحها؛ انفسخ نكاحها؛ لأنه أوقع بالفسخ عليها أن لا يختار نكاحها. ل وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ الْكِتَابيُّ لَمْ تَزَلْ عِصْمَتُهُ قَدِمَ أَوْ بَقِيَ إِلا إِذَا سُبِيَتْ ولَمْ تُسْلِمْ لأَنَّهَا أَمَةٌ كَافِرَةٌ ... تزل العصمة لأن التي تحته كتابية، وللمسلم أن فتزوج الكتابية. وقوله (ولَمْ تُسْلِمْ) وأما إن أسلمت بقيت في عصمته، وكذا نص عليه في المدونة.

واعترض إطلاقه بقاء العصمة مع احتمال أن يكون واجداً للطول ولا يخشى العنت، وأجيب بأن مراده التقييد. الإِحْرَامُ: وَلا يَحِلُّ لِمُحْرِمٍ وَلا لِمُحْرِمَةٍ نِكَاحٌ ولا إِنْكَاحٌ بِخِلافٍ الرَّجْعَةِ وشِرَاءِ الإِمَاءِ لما في الموطأ وغيره: عن عثمان رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال؛ (لا ينكح الحرم ولا ينكح ولا يخطب). وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة. ولم ير أبو حنيفة رضي الله عنه الإحرام مانعاً، واحتج بها في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. وفي بعض طرقه: وبنى بها وهو حلال. وأجيب بأنه أيضاً في الصحيح عن يزيد بن الأصم، قال: حدثتني ميمونة أنه عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. وبها خرجه النسائي مسنداً ومالك مرسلاً عن أبي رافع أنه عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. حديث أبي رافع أولى من حديث ابن عباس؛ لأنه المباشر للقصة، لاسيما وابن عباس كان حينئذ صغيراً، وإن مسلم مساواة حديث ابن عباس لحديث أبي رافع فيتعارضان، ويسلم حديث عثمان من التعارض. وقوله (ولا إِنْكَاحٌ) الظاهر أنه يريد به الولاية فيكون مقصوراً على الرجل؛ لأن المرأة ليست أهلاً لها، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من الولاية ومن التسبب في النكاح كالخطبة، فيكون عوده على المحرم والمحرمة. الباجي: في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عثمان "ولا يخطب"، يحتمل أن يريد به السفارة في النكاح، [311/ب] ويحتمل أن يريد به الخطبة حال النكاح، أما السفارة فممنوعة. فإن سفر فيه وتناول العقد غيره، أو سفر فيه لنفسه وأكمل العقد بعد التحلل فلم أر فيه نصاً، وعندي أنه أساء ولا يفسخ، ويتخرج على قول أصحابنا في من خطب في

العدة وعقد بعدها القولان، وأما من خطب في عقد النكاح وتناول العقد غيره فكما ذكرنا، وقد أساء من حضر العقد، رواه أشهب عن مالك، وقال أصبغ؛ لا شيء عليه. وقوله: (بِخِلافٍ الرَّجْعَةِ وشِرَاءِ الإِمَاءِ) أي: فيجوز، ولا أعلم في ذلك خلافاً عندنا. وَيُفْسَخُ وَإِنْ وَلَدَت الأَوْلادَ بِغَيْرِ طَلاقٍ ثُمَّ قَالَ بِطَلاقٍ تصوره ظاهر والمشهور الرواية المرجوع إليها. وَفِي تَابِيدِ التَّحْرِيمِ رِوَايَتَانِ المشهور نفي التأبيد، وهو الأصل، وقاسه في الرواية الأخرى عل النكاح في العدة بجامع الاستعجال قبل الأوان. فَلَوْ وَكَّلَ ثُمَّ أَحْرَمَ فَعَقَدَ لَهُ فُسِخَ لا خلاف فيه. خليل: وانظر إذا وكل المحرم حلالاً ليعقد له الوكيل إذا حل، وقد يتخرج عل قولين، هما: إذا خطب في العدة وعقد بعدها. فرع: منتهى المنع في الحج إلى طواف الإفاضة، ولو نكح بعد الطواف وقبل ركعتيه فإن عثر عليه بالقرب فسخ بطلقة، وإن تباعد جاز. الْمَرَضُ: وَلا يَجُوزُ نِكَاحُ مَرِيضِ مَخُوفٍ عَلَيْهِ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَى الاسْتِمْتَاعِ، وَيُفْسَخُ وَلَوْ دَخَلَ. وَرُوِيَ: يَجُوزُ مُطْلَقاً، وَعَلَى الْمَشْهُورِ لا صَدَاقَ لَهَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ هو أحد الموانع المتقدمة. وقسم اللَّخْمِيّ نكاح المريض على ثلاثة أيام: جائز، وممنوع، ومختلف فيه. فإن كان غير خوف أو مخوفاً متطاولاً كالسلِّ والجذام وتزوج في أوله جاز، وإن كان محوفاً أشرف صاحبه على الموت لم يجز، واختلف إذا كان مخوفاً غير متطاول ولم يشرف صاحبه على الموت على ثلاثة أقوال، والمشهور من قول مالك

وأصحابه أنه فاسد ولا ميراث بينهما، وذكر ابن المنذر عن مالك والقاسم وسالم وابن شهاب جوازه إن لم يكن مضاراً، أي إن كانت له حاجة لمن يقوم به أو في الإصابة جاز وإن لم تكن له حاجة إلى شيء من ذلك فهو مضار. وذكر عن مطرف أنه أجاز ذلك جملة من غير تفصل. ونحوه للمتيطي، وزاد: وعلى المشهور العمل وبه الحكم. وعلى هذا فلم يذكر المنصف المشهور، لكن قوله (وَعَلَى الْمَشْهُورِ لا صَدَاقَ لَهَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ) يقتضي أن ما قدمه هو المشهور، ونحوه لابن شاس. وما ذكره المصنف ظاهر، سواء قلنا هو فسخ بطلاق أم لا؛ لأنها مجبوران على ذلك. فَإِنْ دَخَلَ فَالْمُسَمَّى، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ القول بأن لها المسمى رواه أشهب وعلي بن زياد عن مالك، وبه قال عبد الملك وابن نافع وأشهب وأصبغ. قوله (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ) هذا مذهب المدونة، ففيها في النكاح الثاني: إن دخل كان لها صداقها. وزاد في كتاب الأيمان بالطلاق: فإن كان ما سمي أكثر من صداق مثلها فلها صداق مثلها. عياض: فتأوله أبو عمران على أن لها الأقل. وقال سحنون: هو غلط، ولها صداق مثلها. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال. وَهُوَ مِنَ الثُلُثِ اتِّفَاقاً فيه نظر؛ لأن القابسي حكى عن المغيرة أنه من رأس المال. أبو عمران: ورأيت كتاب المغيرة فلم أجده، وإنما نص أنه من الثلث، قال: ولا أدري عن أين أخذه. واختار القابي أن يكون ربع دينار من رأس المال. وهو الذي يذكره المصنف بعد. وعلى هذا ففي المسألة ثلاثة أقوال، ولا يلزم ما ذكره أبو عمران لاحتمال أن ينقل عنه بواسطة دون كتاب. ولا يقال: القول بربع دينار يعارض ما حكاه المصنف من الاتفاق

لأنه إنما حكى الاتفاق في كل الصداق، وهذا القول إنما هو في ربع دينار لجواز أن يكون الصداق كله ربع دينار. وَيُبدِّي عَلَى الْوَصَايَا والْعِتْقِ، وَفِى مُحَاصَّتِهَا بِالْبَاقِي فِي الْوَصَايَا قَوْلانِ هكذا قال في المدونة أنه يبدى على الوصايا والعتق. ثم إنه يحتمل أن يريد بقوله (والْعِتْقِ) الموصى به، ويكون من عطف الخاص على العام، وتكون فائدته الاهتمام بهذا الفرع لئلا يتوهم خروجه، ويحتمل - وهو الظاهر - أنه يبدى على الوصايا وعلى العتق الذي يخرج من الثلث إما بتلافي المرض وإما آيلاً إليه كالمدبر في الصحة والمرض. وإنما قلنا أنه الظاهر؛ لأن فائدة قوله حينئذ (والْعِتْقِ) التأسيس، وعلى الأول التأكيد، والتأسيس أولى. وعلى الاحتمال الثاني: يكون صداق المنكوحة في المرض مقدماً على المدبر، وهو أحد قولي ابن القاسم، وبه قال سنحنون، والمشهور أن المدبر في الصحة مقدم عليه. وثالثها: يتحاصان. وقوله: (وَفِى مُحَاصَّتِهَا بِالْبَاقِي) هذا فرع على قول ابن القاسم، أي: إذا قلنا أنها تقوم بالأقل فهل يسقط الزائد، وهو قول ابن القاسم، أو تحاص به في الوصايا، وهو قول أصبغ. ابن يونس: وهما بيان على الميراث فمن رأى أنها لا يتوارثان رأى لها الزائد عل صداق المثل إذ ليس فيه أكثر من أن يكون وصية لغير وارث، ومن رأى أنها ترثه لم يعطها الزائد لأنها وصية لوارث. وما ذكرناه من أنه أراد بالقولين قول ابن القاسم وأصخ هو الراجح هنا، وجوز فيه ابن عبد السلام وجهاً آحر، وزعم أنه الأرجح، وهو أن يريد قول أصبغ وعبد الملك وهو أنه يبدأ بالجميع على الوصايا. وقلنا: الأول أولى؛ لأن قوله (بِالْبَاقِي) ينافيه، إذ ظاهر قوله (بِالْبَاقِي) أن الحكم هو الأقل ابتداء، فيكون هذا مفرعاً عل قول ابن [312/أ] القاسم، وعبد الملك أنما خالفه في أصل المسألة، فقال: لها جميع المسمى. ومن لازم ذلك أن يكون مدى بالجميع، ولا يقال

أن قول ابن القاسم تقدم، ولا وجه لتكراره، لأنا نقول: ذكر ذلك لإفادة قول أصبغ. واعترض التونسي قول ابن القاسم بأن هذا الصداق إن غلب عليه حكم المعارضة فيجب من رأس المال؛ لأنه ثمن الفسح، كأكل المريض وشربه، وإن كان البضع لا ثمن له فلا يخرج من الثلث أيضاً لأنها عطية أريد إخراجها من رأس المال، وما كان كذلك فلا يخرج من ثلثه ولا ضره. وأجيب بأن ما زاد على صداق المثل عطية في المرض قصد بها رأس المال، فتبطل مطلقاً، وصداق المثل من حيث إنه عن عوض يجب أن يكون من رأس المال، ومن حيث إنه عن عوض متمول يجب كونه كالعطية فوجب التوسط فيه فيكون من الثلث. وَقِيلَ: أَمَّا رُبُعُ دِينَارٍ فَمِنْ رَاسِ الْمَالِ تقدم. واستحسن عبد الحق هذا القول، إذ لا يباح البضع بأقل منه كالعبد يتزوج بغير إذن سيده. وَلا تَرِثُهُ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَرِيضَةِ فِي الْفَسْخِ وَنَفْيِ الإِرْثِ لا ترثه لفساد النكاح ولأنا إنما فسخناه لأجل الإرث، وعلى القول بإجازة هذا النكاح ترثه. وقوله: (وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَرِيضَةِ فِي الْفَسْخِ وَنَفْيِ الإِرْثِ) أي: كما أن نكاح المريض الصحيحةَ لا يصح، فكذلك نكاح الصحيح المريضة. وقيد المصنف الشبه بينهما في الفسخ ونفي الإرث؛ لأن حكم الصداق مختلف فيهما. فرع: فإن مات هو في هذه المسألة فالقياس أنها لا ترثه. وقد نص مالك في الموازية على عكسها، إذ قيل له من رواية أشهب في الذي ينكح في مرضه حرة مسلمة– يريد

صحيحة- فماتت هي، أيرثها هو؟ فقال: كيف يرثها ولا ترثه. واعترضه التونسى بأن نكاح المريض إنما منع لزيادة الوارث، وقد أمن ذلك بموتها. والذي ذكره مالك هو القاطع؛ لأن النكاح نسبة بين المتناكحين، فإذا بطل أحدهما بطل الآخر. فَإِنْ دَخَلَ فَالْمُسَمَّى لأن الزوج هنا صحيح لا حجر عليه، ولا خلاف فيه، وإنما وجب المسمى لأن الفساد هنا في العقد. وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْهُمَا قَبْلَ الْفَسْخِ مَضَى وَرَجَعَ إِلَيْهِ وَقَالَ: امْحُ الْفَسْخَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَسَادَهُ لَحِقَ الْوَرَثَةَ أَوْ لِعَقْدِهِ ..... هذه إحدى الممحوات الأربع، وقد تقدمت في الأضحية. وقوله (بِنَاءً .. إلى آخره)، أي: فإن قلنا أن فساده لحقِّ الورثة صح النكاح؛ لأنه لم يبق للوارث حق. وإن قلنا (لِعَقْدِهِ)، أي: لمخالفته الستة فسخ ولو صح، وعلل بعضهم ذلك بأنه فاسد لصداقه، إذ لا يدري هل يخرج من الثلث أو يعضه؟ ورد بأنه لو كان كذلك لمضى بعد البناء كغيره. وأجيب بأن غيره إذا وجب فيه صداق المثل بالدخول زال العذر لتعلق صداق المثل بالذمة، بخلافه هنا، ورد أيضاً بأن إخراج الصداق من الثلث معلل بفساد النكاح، فلو جعل الإخراج من الثلث علة للفساد للزم الدور. فرع: وإذا فرعنا على القول بالصحة فهل يعجل بالفسخ قبل الصحة إذا اطإع عليه؟ وهو الذي في الموازية، قال فيها: ويفسخ وإن دخل. وقال ابن كنانة: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده. وقال ابن القمار: الفرقة استحسان؛ لقول مالك: إذا صح ثبت النكاح.

اللخمي: وهو أصوبها، فيؤمران الآن، ولا يجبران؛ لأنا لا نقطع أنه مرض موت، ويمكن أن يصح فينكشف أن العقد صحيح فيوقف عنها، ويتربص حتى ينظر ما يؤول إليه أمره. ابن عبدالسلام: والذي في الموازية أشهرها. وَمُقْتَضَى الأَوَّلِ صِحَّتُهُ فِي النَّصْرَانِيِّةِ وَالأَمَةِ، وَأُجِيبَ بِجَوَازِ الإِسْلامِ وَالْعِتْقِ أبو مصعب: يصح للمريض نكاح الكتابية والأمة. وهو مقتضى التعليل بأن الفساد لحق الورثة إذ هما لا يرثان، وهذا معنى قوله (وَمُقْتَضَى الأَوَّلِ صِحَّتُهُ فِي النَّصْرَانِيِّةِ وَالأَمَةِ). ابن محرز: وأكثر المذهب على خلاف قوله، وأنه لا يصح فيهما لأن الأمة قد تعتق والنصرانية قد تسلم قبل الموت، فتصيران من أهل الميراث. بعض البغداديين: وهذا القول أصح. وقال اللَّخْمِيّ وغيره من القرويين: قول أبي مصعب أحسن؛ لأنه أوقع النكاح في حال لم يدخل به على الورثة محرراً، وما يترقب من الإسلام والعتق مشكوك فيه، وهو نادر، والأصل عدمه. فرع: وإذا أذن له الورثة الرشداء أن يتزوج حرة مسلمة، فقال محمد: لا يجوز لاحتمال موت الآذن ومصير الميراث لغيره. واعترض تعليله بجواز إيصاء المريض بأكثر من الثلث إذا أذن له ورثته مع احتمال أن يصير الميراث للغير. وأجيب بأن باب الوصية أوسع أبواب العطايا، والعطية لا يضر فيها الغرر ولا الخيار، وباب النكاح معاوضة يفسده الغرر القوي والخيار. والله أعلم. الخيار: ولِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْخِيَارُ بِالْعَيْبِ والْغُرُورِ، ولِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ بِالْعِتْقِ يعني: أن للخيار ثلاثة أساب؛ اثنان يستوي فيها الرجل والمرأة، وهما العيب والغرور بالحرية، والثالث خاص بالمرأة وهو العتق إذا كان زوجها عبداً، ثم أخذ يتكلم عليها أولاً فأولاً، فقال:

وَالْعَيْبُ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَدَاءُ الْفَرْجِ مَا لَمْ يَرْضَ بِقَوْلٍ، أَوْ تَلَذُّذٍ، أَوْ تَمْكِينٍ، أَوْ سَبَقَ عِلْمٌ بالْعَيْبِ ... يعني: أن العيوب الموجبة للرد أربعة، [312/ب] منها ثلاثة يستوي فيها الرجل والمرأة، وهي الجنون والجذام والبرص، وأما داء الفرج فمختلف فيها كما سيأتي. المتيطي: ولا خلاف أعلمه بين مالك وأصحابه أن للزوج رد المرأة بالعيوب الأربعة، وقاله عمر وعلى رضي الله عنهما. بعض الموثقين: ولا مخالف لهما. وقوله: (مَا لَمْ يَرْضَ) فالاستثناء راجع إلى غير مذكور، وهو لازم العيب الذي هو وجوب الخيار، ولا يرجع إلى العيب؛ لأنه وإن حصل الرضا فهو عيب، وفاعل (يَرْضَ) ضمير عائد على أحد الزوجين، وكذلك قوله: (أَوْ سَبَقَ عِلْمٌ) يريد: من أحدهما بعيب الآخر. وهو ظاهر. والْجُنُونُ: الصَّرَعُ أَوْ الْوَسْوَاسُ الْمُذْهِبُ لِلْعَقْلِ نحوه للباجي. اللخمي: وإن كان الصرع في بعض الأوقات، ولو في كل شهر مرة؛ لأن المروع تغر منه النفوس وتخافه. وَقَلِيلُ الْجُذَامِ والْبَرَصِ، وَكَثِيرُهُمَا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ، وَرَوَى أَشْهَب أَنَّ الْبَرَصَ فِي الرَّجُلِ مُحْتَمَلٌ وإِنْ غَرَّهَا ... أما قليل الجذام فنص اللخمي والمتيطي أن المرأة ترد منه كما قال المصنف. ابن وهب في العتبية: وذلك إذا كان جذاماً لا شك فيه، وإن لم يكن فاحشاً ولا مؤذياً؛ لأنه لا تؤمن زيادته، وإن شك فيه لم يفرق بينهما. وظاهر ما حكاه المصنف عن أَشْهَب في البرص الإطلاق، سواء كان يسيراً أو كثيراً، وهكذا حكاه عبد الوهاب. وقال في البيان: إن كان البرص قبل العقد وكان شديداً كان لها رده باتفاق، وإن كان يسيراً ردته على رواية

ابن القاسم، وإن أمنت زيادته. وقال أشهب: لا يرد به إلا أن لا تؤمن زيادته. قال: وإن حدث به البرص بعد العقد، فإن كان يسيراً فلا يفرق بينهما باتفاق، وإن كان كثيراً، فهل يفرق بينهما أو لا؟ خلاف. وأما البرص في المرأة، فإن كان قبل العقد كان للرجل ردها به، وإن كان كثيراً أو يسيراً إذ لا تؤمن زيادته باتفاق، وإن كان يسيراً تؤمن زيادته فعلى اختلاف، وأما إذا حدث بها بعد العقد فهي مصيبة نزلت بالزوج، إن شاء طلق ولزمه نصف الصداق، وإن شاء أمسك. فرع: ظاهر المذهب أنه لا يرد بجذام أحد الأبوين، قاله ابن راشد. وأخذ اللَّخْمِيّ من تعليله في مختصر ما ليس في المختصر وجوب الرد بالجذام لقلة سلامة الولد والنسل منه، أن جذام أحد الأبوين عيب، قال: ورأيت ذلك في امرأة كان والدها أجذم، ولم يظهر فيها وظهر في عدد من أولادها. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الأَجْذَمِ: إِنْ رُجيَ بُرْؤُهُ ضُرِبَ لَهُ الأَجَلُ هكذا قال في الاستذكار أن ابن القاسم وأصحاب مالك قالوا: يؤجل المجنون إذا أمن عليها سنة، وكذلك المجذوم. قال: وقال ابن عبد الحكم عن مالك: يحبس المجنون في الحديد، فإن راجعه عقله وإلا فرق بينهما، ولم يذكر تأجيل سنة. وفي المتيطية: الحر يؤجل عاماً في الاعتراض والجنون والجذام والبرص. والتأجيل ليس خاصاً بالرجل، فقد حكى الباجي أنه يضرب للمرأة أجل في معالجة نفسها من الجنون والجذام والبرص وداء الفرج. وقد أشار إليه ابن حبيب في معالجة الرتقاء نفسها. الباجي: ويؤجل في الجنون والجذام السنة، وأما الرتق فبحسب الاجتهاد في ذلك.

فرعان: الأول: ابن راشد: وإذا أجل المجنون سنة قبل البناء، فهل لها نفقة إذا دعت إلى البناء؟ ابن رشد: الظاهر لا نفقة لها؛ لأنها منعت نفسها لسبب لا قدرة له على دفعه، فكان معذوراً بخلاف التي منعت نفسها حتى يؤدي صداقها؛ إذ لعل له مالاً فكتمه. الثاني: إذا كان للأجذم إماء، فقال ابن القاسم في العتبية في الشديد الجذام: يمنع من وطئهن إذا كان في ذلك ضرر. وقال سحنون: لا أرى أن يمنع، إذ قد يؤول ذلك به إلى الزنى. وَدَاءُ الْفَرْجِ فِي الرَّجُلِ مَا يَمْنَعُ الْوَطْءْ كَالْجَبِّ، وَالْخِصَى، وَالْعُنَّةِ، وَالاعْتِرَاضِ. فَالْمَجْبُوبُ: الْمَقْطُوعُ ذَكَرُهُ وَاُنْثَيَاهُ. وَالْخَصِيُّ: الْمَقْطُوعُ أَحَدُهُمَا وَإِنْ كَانَ قَائِمَ الذِّكَرِ. وَالْعِنِّينُ: ذُو ذَكَرٍ لا يَتَأَتَّى بِه الْجِمَاعُ. وَالْمُعْتَرِضُ: بِصِفَةِ الْمُتَمَكِّنِ وَلا يَقْدِرُ، ورُبَّمَا كَانَ فِي امْرَأَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَقَدْ يُفَسَّرُ الْعِنِّينُ بِالْمُعْتَرِضِ. قوله: (مَا يَمْنَعُ الْوَطْءْ) هو على حذف مضاف؛ أي: لذة الوطء، وعلى حذف صفة؛ أي: الوطء الكامل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الخصي إذا كان قائم الذكر يمكنه الوطء فلا يصح قوله: (يَمْنَعُ الْوَطْءْ) ولا يقال: ينبغي للمصنف أن يسقط الكلام على المجبوب هنا؛ لأنه إذا ثبت الرد للمرأة بقطع إحداهما لزم أن يكون كذلك مع قطعهما؛ لأنا نقول إنما القصد هنا بيان معاني هذه الألفاظ، فقوله: (لا يَتَأَتَّى بِه الْجِمَاعُ) أي: لصغر. ويقال للمعترض المربوط، ويقال: إن سببه السحر، وما ذكره المصنف في تفسير الخصي هو المعروف، وقيل: الخصي: المقطوع الأنثيين. وقوله: (وَقَدْ يُفَسَّرُ الْعِنِّينُ بِالْمُعْتَرِضِ)؛ أي: وقد يطلق الأصحاب لفظ العنين ويكون مرادهم به المعترض.

فَفِي الْجَبِّ وَالْخِصَي والْعُنَّةِ الْخِيَارُ. وَقِيلَ: إِلا فِي الْقَائِمِ الذِّكرِ إِلا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ .. أي: الخيار للمرأة؛ إما أن تقيم أو تفارق، وقوله: (وَقِيلَ: إِلا فِي الْقَائِمِ الذِّكرِ) هو لسحنون، وصرح في بعض النسخ باسمه، وهو مشكل؛ لأن كمال اللذة لا يحصل [313/ أ] للمرأة إلا بالإنزال، وإذا لم يكن للزوج أن يعزل إلا بإذن زوجته كما تقدم، فهنا أولى. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ)؛ أي: فيوافق سحنون على أن للمرأة حينئذ رده، وكذلك قال اللخمي: إن كان مجبوباً أو حصوراً أو عنيناً أو مقطوع الحشفة ردته. واختلف في الخصي القائم الذكر، وهل المحصور من لا ذكر له ألبته، أو له ذكر صغير، فيرجع إلى العنين؟ قولان، وفسر ابن عباس الحصور بالذي لا ينزل الماء، وقتادة ومجاهد بالذي لا يأتي النساء. وَأَمَّا الْمُعْتَرَضُ فَيُؤَجَّلُ- إِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ وَطْءُ لَهَا- سَنَةً مِنْ يَوْمِ تَرْفَعُهُ، وَفِي الْعَبْدِ رِوَايَتَانِ: مِثْلُهُ، وَنِصْفُهَا .. احترز بقوله: (لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ وَطْءُ لَهَا) مما لو تقدم له فيها وطء، ثم اعترض بأنها مصيبة نزلت بها. اللخمي: ويجري فيها قولاً آخر أن لها القيام قياساً على أحد قولي مالك إذا وطئها مرة ثم قطع ذكره، ومقتضى كلام ابن بشير أن هذا القول منصوص. وقوله: (سَنَةً) أي: لتمر عليه الفصول الأربع، فإن الدواء قد ينفع في فصل دون فصل. وقال بالتأجيل سنة عمر وابن مسعود وعلي رضي الله عنهم وأكثر الصحابة، بل نقل ابن يونس إجماع الصحابة على ذلك، وروي عن علي أنها مصيبة نزلت بها.

وقوله: (مِنْ يَوْمِ تَرْفَعُهُ) هكذا قال ابن المواز. الباجي: وهكذا عبارة أصحابنا، وتحقيق ذلك عندي أن أول السنة من يوم يحكم السطان؛ وذلك أن رفعها للسلطان لا يوج لها الحكم إلا بعد إقرار الزوج أو إثبات ما يوجب ذلك لها. وقوله: (وَفِي الْعَبْدِ رِوَايَتَانِ) المشهور النصف، وهو مذهب المدونة قياساً على طلاقه، واختار غير واحد الرواية بالسنة؛ لأن المعنى الذي قدره بالسنة لأجله موجود فيهما. فرع: فإذا كان مريضاً فقال ابن القاسم: لا يضرب له الأجل حتى يصح. واختلف فيمن ضرب له الأجل فمرض، فقال ابن القاسم: إن مضت السنة وهو مريض أو مرض بعضها طلق عليه عند انقضاء السنة ولم يستأنف له أجل. وقال أصبغ وغيره: إن مضت السنة وهو مريض لم يطلق عليه ويستأنف السنة. وقال ابن الماجشون: إن مضى بعض السنة وهو مريض لم يطلق عليه عند انقضائها، هكذا حكى المتيطي وغيره هذا الفرع. خليل: وينبغي أن يفهم قول أصبغ على أنه إن مضى بعض السنة وهو مريض أن ذلك يحسب عليه، وإلا لتداخل مع قول ابن الماجشون. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْوَطْءِ مَعَ يَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ تَوَقَّفَ حِينَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ إذا ادعى المعترض أنه وطئ، فحكى المتيطي في تصديقه خمسة أقوال، وروى ابن القاسم عن مالك ما ذكره المصنف أن القول قوله بيمين، وبه قال ابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب. ابن عبد السلام وغيره: وهو المشهور. ولمالك في الواضحة: يصدق بغير يمين. وبه قال عبد الوهاب، وروى ابن وهب يُدَيَّن في الثيب وينظر النساء البكر، فإن كانت ساقطة العذرة

صُدِّق وإلا فلا، وروى الواقدي عن مالك أنه لا يصدق في الثيب أيضاً، ويجعل معها أمينة فتنظر إذا غشيها، وأجاز قبول امرأة واحدة، وهو محل ضرورة، وروى الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي أنه يخلى معها وبالباب امرأتان، فإذا فرغ نظرتا فرجها، فإن كان فيه مني فهو صادق وإلا فهو كاذب. لكنه إنما حكي هذا الخلاف فيما إذا أنكر الاعتراض ابتداء، وقال: أصبتها قبل ذلك. أما إذا أقر في الأولى بتعذر الوطء، ثم ادعى الوطء بعد ذلك في الأجل، فالظاهر من المذهب أنه لا يصدق؛ لأنه مدَّعٍ لأمر قد ثبت إنكاره فيه، فيجب أن يكون القول قولها، وتحلف على دعواه، إلا أن يقال هو موكول إلى أمانته أولاً وآخراً فقريب، لكن الصواب- إن شاء الله- ما قدمناه، ونحوه ذكر الباجي في منتقاه. انتهى. وعلى هذا فقول المصنف: (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْوَطْءِ مَعَ يَمِينِهِ) إنما هو إذا أنكر ذلك ابتداء. خليل: لكن ظاهر المدونة وابن يونس وغيره من الأشياخ يخالف ما قاله المتيطي؛ لقوله في المدونة: وإذا قال المعترض في الأجل جامعتها دين وحلف، فإن نكل حلفت وفرق بينهما، فإن نكلت بقيت زوجة. وتوقف فيها مالك مرة إذ نزلت بالمدينة، وأفتى غيره بأن تجعل الصبرة في قبلها، وقال ناس: يجعل النساء معها. انتهى. فقوله: في الأجل، يقتضي أن ذلك بعدما أقر أولاً بالاعتارض؛ إذ لا يضرب له الأجل إلا بذلك، وكلام ابن يونس نحوه. ونقل اللخمي عن مالك فيمن أقر بالعنة وادعى بعد الأجل أنه أصاب أن القول قوله، وهو خلاف ما نص عليه المتيطي أنه لا يقبل. اللخمي: واختلف بعد القول أنه يُدَيَّن إذا أنكر العنة من الأصل، فهل يحلف، وأما إن أقر وادعى زوال ذلك حلف قولاً واحداً.

وقول المصنف: (بَعْدَ أَنْ تَوَقَّفَ حِينَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ) هو نحو ما ذكرناه عن المدونة. وأشار ابن عبد السلام إلى أن هذا التوقف ليس كغيره، من أنه مضى له زمان في التوقيف ثم أجاب، وإنما توقف في مجلس الأمين ثم أجاب. فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ، فَإِنْ نَكَلَتْ بَقِيَتْ زَوْجَةً هذا كلفظ المدونة المتقدم. وفي الموازية والواضحة: إذا نكل طلق [313/ ب] عليه. قال في الموازية: ولو سأله اليمين قبل الأجل فأبى ثم حل الأجل، فقال: أصبت، وأراد أن يحلف فذلك له، وليس الحكم قبل الأجل بشيء، وإن نكل الآن طلق عليه. وَرُوِيَ: يَنْظُرُ النِّسَاءُ الْبِكْرَ قد قدمنا هذه الرواية، وظاهرها أنه لا يكتفي بالمرأة الواحدة. المتيطي وغيره: وظاهر إطلاقات الأشياخ أن النساء ينظرن إلى نفس الفرج. وقال بعض الأشياخ: تجلس المرأتان خلفها وتجعل مرآة أمام فرجها، ويقولان لها: افتحيه. وينظران ذلك في المرآة. مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم تفريعاً على المشهور: وإن أتت المرأة بامرأتين يشهدان بعذرتها لم يقبلا؛ لأنه يؤول إلى الفراق. فَإِنْ تَقَارَرَا، أَوْ صُدِّقَتْ الْبِكْرُ خُيِّرَتْ فَيُؤْمَرُ بِطَلاقِهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْحَاكِمُ طَلْقَةً بَائِنَةً .. أي: فإن تقارر الزوجان على عدم الإصابة بكراً كانت أم ثيباً، أو صدقت البكر على الرواية الشاذة أنه ينظرها النساء، فإن وافقنها على بقاء البكارة خيرت؛ أي: في البقاء والفراق. وقوله: (فَيُؤْمَرُ بِطَلاقِهَا) أي: فإن اختارت الفراق أمر الزوج أن يطلقها؛ لأن الطلاق بيده، فلا ينتقل إلى الحاكم إلا بامتناعه، وله أن يوقع ما شاء، فإن أبى طلق الحاكم عليه طلقة بائنة.

أصبغ: وإن طلق الإمام هنا، وفي النفقة والإيلاء أكثر من واحدة، لم يلزمه إلا واحدة. واختلف هل يوقع الحاكم الطلاق بنفسه أو يملكه المرأة فتوقعه هي؟ وكذلك كل ما في معنى هذه من امرأة المولي والمعتقة تحت العبد على قولين، وانظر حججهما في أحكام ابن سهل. فَإِنِ اخْتَارَتْهُ ثُمَّ أَرَادَتِ الْفِرَاقَ فَلَهَا ذَلِكَ بِخِلافِ غَيْرِهِ؛ لأَنَّهَا تَقُولُ: رَجَوْتُ عِلاجَهُ يعني: فإن اختارت المقام معه، ثم بدا لها وطلبت الفراق، فلها ذلك، بخلاف غير المعترض من الأزواج من ذوي العيوب؛ لأنها في المعترض تقول: رجوت أن يبرأ. وهكذا قال في المدونة، إلا أنه فرض المسألة في ابتداء النكاح لا بعد الأجل، ففيها: وإن علمت به حين تزوجته أنه مجبوب أو خصي أو عنين لا يأتي النساء رأساً أو أخبرها بذلك، فلا كلام لها، وإن لم تعلم ذلك في العقد ثم علمت به وتركته وأمكنته من نفسها فلا كلام لامرأة الخصي والمجبوب، وأما العنين فلها أن ترافعه؛ لأنها تقول تركته لرجاء علاج أو غيره، إلا أن تتزوجه وهي تعلم به كما وصفنا فلا كلام لها بعد ذلك، وظاهر ما حكاه المصنف أن لها الفراق سواء قامت بإثر اختيارها للمقام أو بعد طول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في العتبية والموازية، لكنه قال في الموازية: يوقف مكانه بغير ضرب أجل، وليس لها أن تفارق دون سلطان. وقال في العتبية: ولها أن تطلق نفسها وإن لم ترفع إلى السلطان. فرأى في الموازية أنه أمر مختلف فيه، فلابد من حاكم يحكم بصحته، ورأى في الثاني أن الحاكم لما ضرب الأجل كان كالحكم. ولابن القاسم في المبسوط: لا قيام لها بعد الرضا. وقال عبد الوهاب: يضرب له الأجل ثانياً، فإن أصاب وإلا فلها الخيار. وقال ابن حبيب: إن قامت بحدثان رضاها لم يكن لها ذلك، وإن كان بعده بزمان، وقالت: رجوت أنه ألا يتمادى به كان لها القيام، ونحوه لابن كنانة.

فرعان: الأول: إذا انقطع ذكر المعترض قبل الأجل، فقال ابن القاسم في الموازية والعتبية: يتعجل الفراق. وروى محمد عن أَشْهَب وعبد الملك وأصبغ أنه لا فراق في ذلك، وهي مصيبة نزلت بالمرأة. وحكى في البيان ثالثاً عن مالك أنه لا يعجل بالفراق حتى تنقيض السنة؛ إذ لعلها سترضى بالإقامة. الباجي: وأجمعوا في المولي يقطع ذكره أنه يبطل الأجل، وتثبت الزوجية. ونقل في البيان عن مالك رواية في المولي أنه إذا آلى منها قبل البناء وضرب له الأجل ثم انقطع ذكره أنه يفرق بينهما، بخلاف ما لو انقطع بعد البناء، قال: ولا خلاف بينهم فيمن انقطع ذكره بعد البناء ولم يكن مؤلياً أنه لا يفرق بينه وبين زوجته. فانظره مع كلام الباجي. الثاني: إذا كان لرجل ذكر كبير فلم تقدر المرأة عليه. ابن راشد: وقد نزلت هذه عند قاضي الجماعة في عصرنا، فنحا في الجواب أن يلبد ويبقى منه قدر معتاد، فقلت له: حين الإصابة لا يراه أحد فقد يزيد ويضر بالمرأة، والذي أراه أن يفرق بينهما؛ لأنا إنما نوجب لها الخيار في العنين لعدم انتفاعها بوطئه، وهذه لا تنتفع بوطئه بل تتضرر، إلا أن تساعده المرأة على أنه لا يضرُّ بها بعد تبقية البعض، ثم إذا لفَّه فما المقدار الذي يبقى، فلم أر نقلاً إلا في ورقة من ورق ذكر فيها أنه يبقى منه اثنا عشر أصبعاً. ولَهَا الصَّدَاقُ بَعْدَ الأَجَلِ كَامِلاً كَالْمَجْبُوبِ والْعِنِّينِ والْخَصِيِّ يَدْخُلُونَ؛ لأَنَّهُ قُدْرَتُهُمْ مِنَ الْمَسِيسِ، ورُوِيَ نِصْفُهُ .. القول بأن لها الصداق بعد الأجل كاملاً مذهب المدونة؛ لأنها مكنته من نفسها وطال مقامها معه، وتلذذ وأخلق شورتها. أبو عمران: جعل مالك الحجة في التكميل التلذذ وإخلاق الشورة. وظاهر هذا أنه متى انخرم أحدهما لم يكمل، واختار [314/ أ] ابن القصار الرواية بالنصف؛ لأن المتبادر من

قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنّ} [البقرة: 237] الوطء. واحتج المصنف للرواية الأولى بالقياس على المجبوب وما في معناه، والجماع حصول انتفاع كل منهما بحسب الإمكان، وقد يفرق الثانية بأن المجبوب إنما دخل على التلذذ فقد حصل، بخلاف المعترض فإنه إنما دخل على الوطء التام ولم يحصل، وقول ابن الجلاب: فغن طال مقامه فلها الصداق كاملاً رواية واحدة ليس بظاهر لما ذكره المصنف وغيره من الرواية بالنصف. وفهم من قوله: (بَعْدَ الأَجَلِ) أنه لو لم يطل مقامه معها لا يكمل، وهو المشهور. وعن مالك والمغيرة وابن كنانة أنه يجب لها الجميع بنفس إرخاء الستر، وإن لم يمسها ولا طالت إقامتهأ. وروي عن مالك: إن ضرب لها الأجل بقرب البناء فلها نصف الصداق. وبه أخذ ابن عبد الحكم، وروى أَشْهَب: إن رفعته بعد طول مدة فلها الصداق كله. وَدَاءُ الْفَرْجِ فِي الْمَراةِ مَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ أَوْ لَذَّتَهُ كَالرَّتَقِ، والْقَرَنِ، والْعَفَلِ. وزِيدَ الْبَخَرُ والإِفْضَاءُ .. عياض: الرتق بفتح الراء والتاء: التصاق موضع الوطء والتحامه. والعفل بفتح العين المهملة وفتح الفاء: في النساء كالأدرة في الرجال، وهو بروز لحم في الفرج. والقرن بفتح القاف وسكون الراء: مثله، لكنه قد يكون خلقة غالباً، ويكون عظماً، وقد يكون لحماً. وقال غيره: وأما القرن بفتح الراء فهو المصدر، وهو الأحسن هنا ليكون موافقاً لباقي العيوب في أنها كلها مصادر، ومن عد الفتح خطأ فقد أخطأ. قوله: (وزِيدَ الْبَخَرُ والإِفْضَاءُ) زادهما في الجلاب، فالبخر نتن الفرج؛ لأن المصنف أخبر بذلك عن داء الفرج، وهو قريب من قول اللخمي: ترد المرأة بعيب الفرج إذا كان مما يمنع الجماع كالرتق والقرن، أو لا يمنع كالعفل والنتن والاستحاضة والإفضاء وحرق النار. انتهى. فزاد الاستحاضة وحرق النار. وبكلام اللخمي يظهر لك كلام قول المصنف: (مَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ أَوْ لَذَّتَهُ).

وكذلك نص محمد على أن حرق النار عيب. اللخمي: ويختلف في أربعة: السواد، والقرع، والبخر، والخشم. والظاهر من قول مالك: لا ترد بها. وقال ابن حبيب: ترد بالسواد إذا كانت من قوم لا سواد فيهم، فهو كالشوط، وبالقرع. ويأتي على ما في الجلاب من الرد بنتن الفرج أن ترد بالبخر والخشم؛ لأن نتن الأعلى أولى لقرب مضرته. وقال ابن بشير: المشهور في القرع والسواد نفي الرد، وكذلك قال الباجي: لم أر ما قاله ابن حبيب لغيره، وظاهر المذهب أنها لا ترد بذلك كالجرب. وزاد صاحب البيان عن ابن حبيب: أنها ترد بالعرج. قال في الموازية: ولا ترد إذا وجدها عجوزاً. اللخمي: وأرى أن ترد إذا وجدها كبنت الأربع سنين لامتناع الوطء حينئذ، والمضرة عليه في الصبر. ابن راشد: والظاهر لا رد له بالصغير. فرعان: الأول: إذا كان شيء من هذه العيوب خفيفاً يجامع معه، فقال في المدونة وغيرها: ترد إذا كان عند أهل المعرفة من العيوب؛ إذ المجنونة والبرصاء والجذماء يقدر على جماعهن وهي ترد به. وقال ابن حبيب: لا ترد بذلك إلا أن يكون عيباً يمنع اللذة. اللخمي: والأول أحسن. وقد أبان مالك العلة في ذلك. الثاني: نص اللَّخْمِيّ على أن لأحد الزوجين أن يرد صاحبه إذا وجده عذبوطاً، وهو الذي يحدث عند الجماع، قال: وقد نزل ذلك في زمان أحمد بن نصر صاحب سحنون، وادعاه كل من الزوجين على صاحبه، فقال أحمد: يطعم أحدهما تيناً، والآخر فقوساً، فيعلم من هو منهما. والعذبوط: بكسر العين وفتح الباء بواحدة من تحتها، وبالذال والواو ساكنتين، هكذا ضبطه الجواليقي، وذكره ابن فارس في مجمله، والجوهري بالياء، ويقال للمرأة عذيوطة.

إِلا أَنْ يَكُونَ الرِّتَقُ مِمَّا يُعَالَجُ إِلا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الْعِلاجِ ولا تُجْبَرُ إِنْ كَانَ خِلْقَةً هذا استثناء مما تقدم؛ أي: الرتق عيب ترد به المرأة إلا أن يكون الرتق مما يعالج، ولا تجبر على العلاج إن كان خلقة. وفهم من كلامه أنها تجبر إذا لم يكن خلقة، كما يفعله بعض السودان، وبذلك صرح في الموازية، وزاد فيها: إذا قال النساء أن ذلك لا يضر بها. قال: وأما إن رضيت في الخلقة بالبط فلا خيار للزوج. اللخمي: والرتق على أربعة أوجه، فإن كان لا ضرر في قطعه ولا عيب في الإصابة بعد القطع فالقول قول من دعا منهما إلى القطع، وإن طلق بعد رضاها وقبل القطع لزمه نصف الصداق، وإن كرهته فطلق الزوج لذلك فلا شيء عليه، وإن كان في القطع ضرر عليها ولا عيب بعد ذلك في الإصابة فالخيار لها دونه، وإن كان لا ضرر عليها في القطع وفي الإصابة بعد ذلك عيب فالخيار له دونها، وإن كان القطع فيه الضرر وفي الإصابة أيضاً عيب فالخيار لكل واحد منهما. أصبغ: وإن قامت للعلاج وهو يستمتع بها، فإنطال كطول أمد العنين في علاجه فلها جميع الصداق كالسنة، وما قاربها من كثير الأشهر. المتيطي: وفي قول أصبغ نظر. وإذا تمتع بها ولو مرة واحدة [314/ ب] فلم لا يكون تمتعه بها رضا منه بدائها؟ ابن عبد السلام: قال بعضهم: وأجل العلاج في داء الفرج بحسب الاجتهاد. وأجل فيه بعضهم شهرين، وهو بعيد. وَإِذَا أَنْكَرَتِ الْمَرأَةُ دَاءَ الْفَرْجِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَنْظُرُ إِلَيْهَا النِّسَاءُ. وَأَنْكَرَهُ سُحْنُونُ احترز بداء الفرج مما لو أنكرت البرص ونحوه، فإنهم قالوا: إن كان بالوجه والكفين فثبت بالرجال، وإن كان في غير ذلك من الجسد ثبت بالنساء على ظاهر المذهب. وقيل: يبقى الثوب على ذلك الموضع وينظر إليه الرجال. وبقول ابن القاسم (لا ينظر إليها النساء) قال ابن حبيب. قيل: وهو مذهب مالك.

قال ابن حبيب: قيل: وهو مذهب مالك وجميع أصحابه حاشا سحنون. ابن الهندي في مقالاته: والقول قولها مع يمينها. وقال الشيخ أبو إبراهيم: ولها رد اليمين على الزوج. قال: وقد شهدت من مضى يفتي بهذا. انتهى. وروى علي بن زياد عن مالك مثل قول سحنون وإليه ذهب ابن لبابة، وصوبه سحنون، وقد جاء أنها ترد بعيب الفرج، وكيف يعرف ذلك إلا بنظر النساء، وهذا هو الإنكار الذي أشار إليه المصنف، وروي أيضاً عن سحنون مثل قول ابن القاسم، وقال بعض الأندلسيين: ينظر إليها في المرآة. فرع: إذا فرعنا على قول ابن القاسم أنه لا ينظرها النساء، فإن جاء الزوج بامرأتين تشهدان برؤية رتقها مثلاً قبلتا ولا تجرحان بالنظر، إما لأنه مختلف في إباحته، وإما لعذرهما بالجهل. وإنما قبلتا وإن كان ما شهدتا به غير مال؛ لأنه يؤول إلى المال، وهو سقوط الصداق، ولا يوجب طلاقاً، لأن الطَّلاق بيد الزوج. وَإِذَا أَنْكَرَ الرَّجُلُ الجِبَّ وشِبْهَهُ جُسَّ عَلَى الثَّوْبِ، وصُدِّقَ فِي الْعُنَّةِ، قَالَهُ مَالِكَ لَمَّا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ .. قوله: (فِي الْعُنَّةِ) أي: في الاعتراض. وهذا من المواضع التي أطلق فيها العنة على الاعتراض، وما حكاه عن مالك تقدم، ولهذا كان الأولى إسقاط هذا لأنه تكرار مع ما تقدم، وأما ما ذكره من قوله: (جُسَّ عَلَى الثَّوْبِ) فنحوه في المتيطية وغيرها، وعزاه لابن حبيب. الباجي: وعندي أنه يجوز للشهود أن ينظروا إليه. قال: وقد ينظر النساء إلى فروج النساء للضرورة. وخرج اللخمي النظر إليه على قول سحنون المتقدم في المرأة، وفيه نظر لأن الجس في المرأة لا يعلم به شيء بخلافه هنا، وهذا إنما هو في عيب الفرج، وأما الجنون والجذام والبرص فيعلم ذلك بالمشاهدة.

فرع: إذا كان خنثي وحكم له بحكم الرجال، هل يكون لزوجته رده؟ عبد الحميد: والأقرب أنه لا رد لها، وإن كانا معيبين بجنسين كما لو كان أحدهما مجنوناً والآخر مجذوماً، فقال بعض أهل النظر: لكل منهما الخيار. عبد الحميد وغيره: وهو الصواب. وإن كانا بجنس واحد ففيه نظر، قاله غير واحد. وَالْعَيْبُ الْمُقْتَضِي لِلْخِيَارِ مَا وُجِدَ قَبْلَ الْعَقْدِ لا بَعْدَهُ، وفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ خَاصَّةً بَعْدَهَا، ثَالِثُهَا: إِلا فِي الْبَرَصِ. ورَابِعُهَا: إِلا فِي الْقَلِيلِ مِنْهُ .. لما قدم أن كلاً من الزوجين يرد بأحد العيوب الأربعة، بين أن ذلك إنما هو إذا كان العيب قبل العقد بحيث يكون من به العيب غاراً، وأما إن حدث بعده، فإن حدث بالمرأة فلا مقال للرجل، وهي مصيبة نزلت به، وإن حدث به فهل لا خيار لها قياساً عليه، أو تخير في كل عيب؟ والفرق بينها وبين الرجل أن الرجل يقدر على الفراق، أو يفرق أربعة أقوال، وتصورها من كلام المصنف ظاهر. ابن عبد السلام: والقول بالخيار في كل عيب يعزُّ وجوده في المذهب؛ لأن ظاهر كلام المصنف يقتضي أن الاعتراض إذا حدث بعد الدخول فلها الخيار، وهو غير معلوم في المذهب، وإنما يعلم فيه على شذوذ في الجب خاصة. تنبيهان: أولهما: ما حكاه المصنف هنا مخالف لما تقدم من كلامه في البيان، لأن صاحب البيان ذكر أنه لا يرد بالبرص اليسير إذا حدث به بعد بالاتفاق، والمصنف قد حكى فيه الخلاف، بدليل أنه جعل الرابع تفصيلاً. الثاني: جعل اللَّخْمِيّ الجنون الحادث بعد العقد وقبل الدخول كالكائن قبل العقد، في وجوب الرد به، ولم يذكر في ذلك خلافاً.

وَأَمَّا جُنُونُهُ الْحَادِثُ فَيُعْزَلُ سَنَةً، فَإِنْ صَحَّ وإِلا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وقِيلَ: إِنْ كَانَ يُؤْذِيهَا قوله: (وقِيلَ: إِنْ كَانَ يُؤْذِيهَا) راجع إلى قوله: (فُرِّقَ) وليس يرجع إلى قوله: (فَيُعْزَلُ سَنَةً) لأن العزل متفق عليه، وحاصله أنه إذا لم يصح بعد السنة فإن كان يؤذيها فرق بينهما، وإن لم يؤذها فقولان: أحدهما لمالك وابن القاسم بثبوت الخيار، والثاني لأشهب وابن حبيب بنفيه، وصرح أشهب بنفي خيارها وإن كان لا يفيق من جنونه أصلاً، لكن قيد اللخمي قوله بما إذا كان يحتاج إليها، وإلا فرق بينهما؛ لأن في بقائها ضرراً عليها من غير منفعة. وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْذُومِ الْبَيِّنِ كَذَلِكَ أي: فيعزل سنة إذا رجي برؤه، ثم يفرق بينهما إن شاء. وأشار بقوله: (وَعَنْ مَالِكٍ) إلى ما قاله أشهب أنه لا يفرق بينهما، إلا أن يتفاحش وتغض الأبصار دونه، فإن رضيت بالمقام معه ثم أرادت الفراق، فقال ابن القاسم: ليس لها ذلك [315/ أ] إلا أن يزيد. وقال أشهب: لها ذلك وإن لم يزد. وحكى في البيان ثالثاً: ليس لها رده ولو زاد. فرع: قال في الجواهر: إذا ظهر بعد مدة من عقد النكاح عيب بها فتنازعا في أنه كان موجوداً حال العقد، فالبينة على الزوج وصدق الأب. محمد: مع يمينه. ابن حبيب عن مالك: وإنما يحلف الولي إذا كان أباً أو أخاً، وإن كان غيرهما فاليمين عليها، فجعل محمد محل اليمين محل الغرم، ووافق على هذا بعض الموثقين إذا كان الزوج دخل، وإن كان لم يدخل فإنما تجب اليمين عليها لا على الولي؛ لأن الولي لم يفوت على الزوج شيئاً، ونص المتيطي على أن منازعة الزوج تكون مع الزوجة إن كانت ثيباً، ومع الولي إن كانت بكراً.

وَلا خِيَارَ بِغَيْرِ هَذَا إِلا بِشَرْطٍ، وَلَوْ كَانَتْ لِغَيَّةٍ أَوْ مُفتَضَّةً مِنْ زِنًي الإشارة بهذا إلى العيوب المتقدمة، فلا رد له بغيرها، ولو تبين أنها ابنة زنى، وهو معنى قوله: (لِغَيَّةٍ) أي لزنية، أو تبين أن بكارتها زالت بزنى، وهو معنى قوله: (أَوْ مُفتَضَّةً مِنْ زِنًي) وفي المتيطية قال بعض الموثقين: إذا وجدها مفتضة من زنى فله الرد، وهو خلاف المدونة. و (لِغَيَّةٍ) بكسر اللام وفتح الغين المعجمة وتشديد الياء، وحكى بعض اللغويين فيه كسر الغين، ولا إشكال أنه إذا اشترط السلامة فله الرد. ابن أبي زيد: ولو كتب في العقد صحيحة العقل والبدن لم يكن ذلك شرطاً، ولو قال سليمة البدن لكان شرطاً، فترد بالسواد والعمى والشلل وغيرها. قال: وبهذا كان يفتي علماؤنا ونفتي نحن. قال بعض المتأخرين: إنما فرق بينهما لأن الأولى عادة جارية من تلفيف الموثقين، ولم تجر العادة بالثاني. وللباجي في وثائقه: إذا قيل صحيحة البدن فهو شرط، وله أن يرد بغير الأربعة. وذكر أبو عمران في رواية الدمياطية عن ابن القاسم: لا رد له في شيء من العيوب كلها غير الأربعة، وإن اشترطت السلامة. وعلى الأول فلو قال الولي: هي سليمة؛ فهل يكون كالشرط؟ اللخمي: وفي الموازية إذا قال الخاطب: قيل لي: إن ابنتك سوداء. فقال: كذب من قاله، بل هي بيضاء. فوجدها سوداء، أو قال: ليست عمياء ولا عرجاء، فوجدها كذلك، فله الرد لأنه غره. أصبغ: هو كالشرط. وفي الموازية: قال ابن القاسم: إذا رفع الولي في الصداق فأنكر عليه ذلك، فقال: إن لها كذا. وسمى رقيقاً وعروضاً، فيصدقها الزوج ما سأل ثم لا يجد لها

شيئاً، قال: فالصداق لازم له، ولا حجة له مثل ما لو قال: هي بيضاء جميلة شابة، فيجدها سوداء، فلا كلام له ما لم يشترط ذلك، فيقول: أنكحها على أنها بيضاء. اللخمي: فجعله ابن القاسم من جهة الغرور فألزمه ذلك مرة، ومرة لم يلزمه، والمختار أنه كالشرط لمقارنته العقد، وقال صاحب البيان: لا اختلاف أن علمه في أن الخاطب إذ قال للمخطوب منه: قد قيل لي إن وليتك سوداء أو عوراء، فقال له: كذب من قال سوداء، بل هي بيضاء، أن ذلك شرط ويردها بذلك، وإنما اختلفوا إذا وصفها الولي عند الخطبة بالبياض وصحة العينين ابتداء، على غير سبب، وهي عوراء أو سوداء، فقيل: إن ذلك لازم للزوج ولا كلام له؛ لأنه فرط إذ لم يتثبت، وهو قول أصبغ في الخمسة، ومذهب ابن القاسم في رواية يحيى عنه، واختيار ابن المواز. وقيل إنه بالخيار قبل الدخول، إن شاء تقدم على أن عليه جميع الصداق، وإن شاء فارق ولم يكن عليه شيء، وإن لم يعلم حتى دخل ردت إلى صداق مثلها على ما بها من العيوب، ورجع بالزانئد عليها، وهو قول ابن وهب وعيسى بن دينار. وقيل: إنه يرجع به على الولي الذي غره، إلا أن تكون ثيباً وقد علمت بكذب وليها، فتقدمت على معرفة بذلك فيرجع عليها إن كان لها مال، وإلا رجع على الولي، وهو قول ابن حبيب. ابن القاسم في الدمياطية: ولو قال له غير الولي الذي يزوجها منه: أنا أضمن لك أنها ليست سوداء ولا عرجاء ولا عوراء، فدخل ووجدها بخلاف ما ضمن لكان له الرجوع بما زاد على صداق المثل، ولياً كان أو غيره، وكذلك الذي يزوج وليته على أن لها من المال كذا، يفرق فيه بين أن يسمي ذلك ابتداء أو لا؟ وهو خلاف طريقة اللَّخْمِيّ. وما ذكره المصنف من أنه إذا وجدها لغية لا رد له منصوص عليه في المدونة، قالوا: وكذلك إن تبين أن الزوج لغية. وفي المبسوط: إن انتمى إلى ذي الحال والهيئة في موضعه ونسبه أو انتمى إلى قوم لهم هيئة في أنفسهم وأحسابهم، رد نكاحه وعوقب.

ابن يونس: وروى أبو زيد عن ابن القاسم فيمن تزوج امرأة على نسب انتسب إليها إلى فخذ من العرب، فوجد من غيرهم، فإن كان مولىً وهي عربية فلها الخيار، وإن كان عربياً فلا خيار لها إلا أن تكون قرشية فتتزوجه على أنه قرشي، فإذا هو من قبيل من العرب. انتهى. ولو اشترط أنها بكر فوجدها غير عذراء، فقال ابن حبيب عن مالك: لا قيام له. وبه قال أَشْهَب وأبو بكر بن عبد الرحمن، وهو دليل ما في المدونة في كتاب الرجم. المتيطي: لأن العذرة قد تذهب من القفزة والحيضة. وقال ابن العطار: له ردها بذلك. بعض الموثقين: وليس في هذا شك لأنه تزوجها على شرط فوجد [315/ ب] خلافه وقال غيرهم من الموثقين: الصواب قول مالك المتقدم؛ لأن اسم البكارة واقع عليها وإن زنت، إلا أن يشترط أنها عذراء، فإن شرط ذلك كان له الرد. قاله أصبغ وغيره. وقال ابن العطار: ولا حد على زوجها في دعواه أنها ثيب، لأن البكارة قد تزول من غير وطء، إلا أن يصرح بأن ذلك من زنى، فعليه الحد إلا أن يأتي بالمخرج، وينبغي إذا ذهبت عذرة وليته من قفزة ونحوها أن يعلم الزوج بما جرى، فإن ترك إعلامه فهل يجب له الرد؟ فلأشهب فيمن زعم أنه وجد زوجته ثيباً فأقر له الأب وادعى أنها كانت تكنس فذهبت عذرتها، أن للأب أخذ الصداق ولا شيء للزوج. وقال ابن العطار: إن لم يبين ذلك فله الرد. بعض الموثقين: وهو الصواب لأنه عيب قد علمه. وَلا يَجِبُ إِعْلامُهُ بِغَيْرِ الأَرْبَعَةِ أي: لا يجب على الولي أن يعلم الزوج أن بوليته عيباً، خلاف الأربعة المتقدمة، ونفي الوجوب لا ينفي الاستحباب، فكلامه هنا محتمل، ولعل المصنف إنما عبر بذلك تبعاً للفظ مالك، فقد نقل اللخمي وغيره أنه ليس على الولي أن يخبر أنها عمياء أو عرجاء أو مقعدة، وأنه أجاز أن يكتم ذلك. ونقل المتيطي عن مالك في الموازية أنه قال: لا يجوز له أن

يخبر من عيوب وليته بشيء مما لا يجب ردها به من العور والعمى والسواد ونحوها، واستشكله بعض الشيوخ، والإشكال فيه ظاهر. ولا يقال: النكاح مبني على المكارمة؛ لأن المكارمة بحسب العادة إنما هي في الصداق. وفي العتبية: لا ينبغي لرجل علم من وليته فاحشة أن يخبر بشيء من ذلك إذا خطبت. قال في البيان: ويجب عليه أن يستر عليها؛ لأن الفواحش يجب على الرجل أن يسترها على نفسه وعلى غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ القْاَذُورَاتِ شَيْئاً فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صفحته أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ". وفي الموطأ أن رجلاً خطب إلى رجل أخته فذكر أنها كانت أحدثت، فبلغ ذلك عمر فضربه أو كاد أن يضربه. وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ لَيْسَ فِي أَهْلِهَا أَسْوَدُ كَشَرْطِ الْبَيَاضِ تبرأ من هذا؛ لأنه مخالف لما قدمه في التي توجد لغية أو مفتضة من زنى؛ لأنه كما أن الغالب فيمن ليس في أهلها أسود البياض، كذلك الغالب صحة أنسابهم، والبكارة في حق من لم يعلم لها زوج، وقد تقدم أنه لا رد له بذلك، وكلام المصنف يقتضي أنه لم يطلع على خلاف هذا، وقد فرضنا أن المشهور خلافه، فإن وجدها سوداء أو عرجاء أو عمياء، وادعى أنه تزوجها على السلامة، فالقول قول المرأة، حكاه ابن الهندي في مقالات ابن مغيث. وَإِذَا رَدَّهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلا صَدَاقَ لأن البضع لم يفت، وهي المدلسة أو وليها. وَفِي سُقُوطِهِ بِرَدِّهَا قَوْلانِ؛ لأَنَّهُ غَارُّ (سُقُوطِهِ) أي: الصداق. (بِرَدِّهَا)؛ أي: برد المرأة الرجل بسبب عيبه، (قَوْلانِ)؛ أحدهما: لا شيء لها لأنه فسخ جاء من جهتها، وقياساً على الفرع المتقدم، وهذا ظاهر المذهب. والقول الثاني: لها نصفه، والفرق بين هذا والذي قبله ما أشار إليه المصنف

بقوله: (أَنَّهُ غَارُّ) أي: لأن الزوج لما تزوجها عالماً بعيبه وغرها فقد دخل على أنها ترده بذلك، ويلزمه نصف الصداق. وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيَثْبُتُ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَالْوَلِيُّ قَرِيبُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ كَأَبٍ أَوْ أَخٍ ثَبَتَ لَهَا وَرَجَعَ بِالصَّدَاقِ كُلُّهِ عَلَيْهِ، ولا يَرْجِعُ الْوَلِيُّ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ يعني: وأما بعد الدخول فيثبت الصداق إن كان الخيار لها؛ لأنها استحقته بالمسيس، ولا عذر له لأنه غار، وإن كان الخيار للزوج لكون العيب بها، فإن كان الولي قريباً لا يخفى عليه العيب لزم الزوج الصداق للمرأة، ثم يرجع بجميع ما دفعه لها على الولي إذ لم يخبره بالعيب. قال في البيان: والقريب الذي يحمل على العلم هو الأب والأخ والابن، قاله مالك في الموطأ وابن حبيب في الواضحة، وسواء كان العيب جنوناً أو جذاماً أو برصاً أو داء الفرج خفياً أو ظاهراً، وحكى فصل في داء الفرج الخفي عن عيسى بن دينار أن الرجوع في ذلك لا يكون إلا على المرأة، ونسبه إلى العتبية، هذا هو المنصوص في المذهب. وجعل اللخمي العيوب على ثلاثة أقسام: قسم يحمل الجميع فيه على العلم؛ وهو الجنون والجذام والبرص إذا كان في الوجه والذراع، وقسم يحمل فيه الأب والأخ على العلم دون من عداهما؛ وهو البرص الذي تستره الثياب، وقسم يحمل على الجهل في حق الجميع؛ وهو داء الفرج الباطن. ولم يرتض صاحب البيان تقسيم اللخمي، وقال فيما حكاه الفضل: ولم يقع عندنا في العتبية ما نسبه الفضل إليها. أصبغ: البكر والثيب في هذا سواء. قوله: (ولا يَرْجِعُ الْوَلِيُّ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ) أي: إذا غرم الصداق فلا يرجع على المرأة بشيء؛ لأنه هو الغارّ، وهذا إنما هو إذا لم تكن المرأة حاضرة حال العقد. قال في البيان: ولو زوجها بحضورها ولم يخبر واحد منهما بالعيب لكانا جميعاً غارين، يرجع الزوج على من

وجد منهما، ولياً أو امرأة، فإن رجع على الولي رجع الولي على المرأة، وإن رجع على المرأة لم ترجع المرأة على الولي، ونحوه في اللَّخْمِيّ والمتيطية. فَإِنْ غَابَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَخْفَى عَنْهُ خَبَرُهَا فَقَوْلانِ أي: فإن غاب الولي القريب الذي يُظن [316/ أ] به علم حالها، بحيث يظن خفاء ذلك عليه. فقوله: (بِحَيْثُ يُعْلَمُ) يريد: يظن كما قلنا، وكذلك صرح بالظن هنا جماعة، (فَقَوْلانِ) أحدهما لأشهب: أن ذلك لا يسقط عنه حكم الرجوع ربطاً للحكم بالمظنة. والثاني لابن القاسم وابن وهب وابن حبيب، ورواه ابن عبد الحكم عن مالك: أنه يسقط عنه الغرم، ويرجع على المرأة ويترك لها ربع دينار. ابن القاسم: بعد يمينه بجهله ذلك. فَإِنْ أَعْسَرَ الْوَلِيُّ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَوْلانِ يعني: إن وجب الرجوع على الولي فوجد عديماً، فقال مالك وابن القاسم ومحمد: لا يرجع على المرأة بشيء. وقال ابن حبيب: يرجع عليها إذا كانت موسرة ولا ترجع هي به، فإن كانت عديمة رجع على أولهما يسراً. وَإِنْ كَانَ كَابْنِ الْعَمِّ رَجَعَ عَلَى الْمَرْأَةِ لا عَلَيْهِ، وَتَرَكَ لَهَا رُبُعَ دِينَارٍ هذا قسيم قوله في صدر المسألة: (وَالْوَلِيُّ قَرِيبُ) أي وإن لم يكن قريباً كالعم وابنه أو من العشيرة أو من الموالي أو السلطان، فإن الزوج يرجع على المرأة لا عليه، لكن يترك لها ربع دينار لحق الله تعالى، بخلاف ما إذا رجع على الولي في القسم الأول، فإنه لا يترك له شيئاً، وهذا مقيد بأن لا يعلم، أما إن علم فإنه يرجع عليه كالولي القريب. قاله ابن المواز وغنيره. وَفِي تَحْلِيفِهِ قَوْلانِ أي: وفي تحليف هذا الولي البعيد على عدم العلم، والقول بأنه لا يمين عليه لابن المواز. وقال ابن حبيب: إن اتهم حلف. والخلاف مبني على الخلاف في توجيه يمين

التهمة، أما إن ادعى الزوج على الولي البعيد العلم حلف، فإن نكل حلف الزوج: لقد علم، وغرمه، فإن نكل فلا شيء له عليه ولا على المرأة، وقد سقطت متابعته للمرأة لإقراره بعلم الولي به وأنه غره. وقال ابن حبيب: إن حلف الولي رجع على المرأة. اللخمي: وهو أصوب. وَإِذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبِ خِيَارٍ فَكَالْمَعْدُومِ، وَلَوْ مَاتَ تَوَارَثَا. وقَالَ سُحْنُونُ: يَرْجِعُ بِالصَّدَاقِ .. قوله: (فَكَالْمَعْدُومِ) أي: فكأن العيب لم يكن، ولا خيار له لأنها بانت منه، وهو مفرط، ويدل على ذلك أنهما لو ماتا توارثا، فكما أن الخيار يفوت بالموت فكذلك يفوت بالطلاق؛ لأن العصمة فيهما قد انقطعت. ولم ير ابن سحنون الطلاق أو الموت فوتاً، بل أوجب له الرجوع على الولي الغار، فإن كانت هي الغارة رجع عليها، وترك لها ربع دينار. وانظر ما نقهل المصنف هنا مع قوله في الخلع: (فإن تبين له عيب خيار رد ما أخذه على المشهور مضى الخلع). الغرور: وَإِذَا غُرَّ الْوَلِيُّ أَوِ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ بِعَيْبٍ ثَبَتَ لِلْمَغْرُورِ الْخِيَارُ ولا صَدَاقَ قَبْلَ الْبِنَاء .. جرت عادة أصحابنا أن يخصوا هذه الترجمة بالكلام على عيب الرق وما يتعلق بذلك من أحكام الصداق والولد، والمصنف لم يفعل ذلك، ألا ترى أنه أدخل تحت الترجمة من غر بالتزويج في العدة، ولأن قوله: (بِعَيْبٍ) يشمل الأربعة المتقدمة وغيرها، لكن الأربعة يرد بها من غير شرط، وما عداها إنما يرد به بالشرط كما تقدم. وقوله: (ولا صَدَاقَ قَبْلَ الْبِنَاء) يعني: سواء كان هو المغرور أو هي المغرورة، أما إن كان هو المغرور فظاهر، وأما إن كانت هي المغرورة فظاهر المذهب كما تقدم، ووجهه أن الطلاق وقع قبل البناء من جهتها؛ إذ لو شاءت لمكنت من نفسها.

وَأَمَّا بَعْدَهُ، وَالْخِيَارُ لَهُ فَفِيهَا: إِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْغَارَّ رَجَعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِهِ لا بِقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ إِيَّاهَا تَرَكَ لَهَا رُبُعَ دِينَارٍ .. يعني: أن من غر بالحرية ثم ظهر على ذلك بعد البناء فإنه يفرق بين أن يكون الولي قريب القرابة أم لا كما تقدم في العيوب الأربعة. عياض، وذهب بعض الشيوخ إلى أنه يترك أيضاً للولي إذا رجع عليه ربع دينار ولا وجه له. وقال غيره: هو ظاهر؛ لأن الزوج إذا أخذ الجميع كان وطؤه من غير صداق منه. ولعل المصنف نسب المسألة للمدونة لهذا الإشكال. وليس قوله: (وَإِنْ كَانَتْ إِيَّاهَا) راجعاً إلى مسألة الأمة؛ لأن الحكم في الأمة خلاف هذا، وهو أنه يلزمه الأقل من المسمى وصداق المثل، كما سيقوله المصنف، لكن كلامه كالنص في إرادة الأمة؛ لقوله: (لا بِقِيمَةِ الْوَلَدِ)، وذلك لا يكون إلا فيها. وعلى هذا ففي كلامه تعارض، وكان الأولى أن يسقط المصنف هذا؛ أعني قوله: (وَإِنْ كَانَتْ إِيَّاهَا ...) إلخ؛ لأنه ليس في الأمة، وإنما هو في العيوب، وقد قدم المصنف ذلك في العيوب. قوله: (وَإِنْ كَانَتْ إِيَّاهَا) فصل الضمير؛ لأنه المختار عند الأكثر. وَكَذَلِكَ مَنْ غُرَّ بِالتَّزْوِيجِ فِي الْعِدَّةِ هذا كقوله في المدونة: ومن غر من وليته فزوجها في عدة ودخلت، فسخ النكاح وضمن الولي الصداق، وإن كانت هي الغارة ترك لها ربع دينار، وردت ما بقي. اللخمي: وإن لم يعلم الولي رجع عليها، وإن علم فكلاهما غار، فيخير بين أن يرجع على الولي أو عليها. ابن عبد السلام: ولأجل هذا الفرع يكتب الموثقون أنها خلو من زوج وفي غير عدة منه، ولو سكت عنه وكانت ثيباً، وقالت بعد ذلك: أنا حامل ولم يأتني قرء. فقال ابن عتاب:

إذا لم يأت لها من الوقت الذي دخل [316/ ب] فيه ما يتبين فيه الحمل فالنكاح مفسوخ. وقال ابن القصار: لا يقبل قولها إذ لعلها ندمت على النكاح. وَلَوْ غَرَّهُ مُخْيرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إِلا أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ إِلا أَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ غَيْرُ وَلِيِّ .. (لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ) لأنه غرور بالقول، وهو مفرط إذ لم يثبت لنفسه. وقال جماعة: هذا على المشهور أن الغرور بالقول لا يوجب غرماً، وأما على القول بأنه يوجب الغرامة فيضمن هنا، وينبغي أن يؤدب، ويتأكد أدبه على القول المنصوص بعدم الغرامة، ففي كتاب تضمين الصناع من المدونة: وإن سألت خياطاً قياس ثوب فزعم أنه يقطع قميصاً فابتعته بقوله، ولم يقطع قميصاً، فقد لزمك ولا شيء لك عليه ولا على البائع. وكذلك الصيرفي في درهم تريد إياه جيداً، فتلفيه رديئاً. فإن غرا من أنفسهما عوقبا ولم يغرما، فأنت ترى كيف حكم بالعقوبة فيهما، ففي الفرج مع غرامة الصداق أولى. قوله: (إِلا أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ) أي: إلا أن يتولى الأجنبي العقد، فيكون غروراً بالفعل ويلزمه الضمان. ابن المواز: ولا يترك له ربع دينار، وكأنه باعه البضع فاستحق. وحكى ابن بشير في تعلق الغرامة وعدمه ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث، وهو المشهور فيغرم في الغرور بالفعل دون القول. قوله: (إِلا أَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ غَيْرُ وَلِيِّ) أي: إلا أن يخبر هذا الأجنبي المتولي النكاح بأنه غير ولي للمرأة، وإنما ولي لها عقد النكاح بمقتضى ولاية الإسلام، ويصير حينئذ مكن غر بالقول. وعلل اللخمي السقوط فيما إذا أخبره أنه غير ولي، بأن الزوج دخل على أن النكاح يفسخ؛ لكونه تولاه غير ولي. وعلل ابن راشد بأنه كالسمسار ينادي على السلعة فيتولى البيع، ويقول: ليست لي بل هي لغيري.

وَفِيهَا: فِي الأَمَةِ تُغَرُّ بِالْحُرِّيَّةِ لَهَا الأَقَلُّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ أَوِ الْمُسَمَّى. وقِيلَ: صَدَاقُ الْمِثْلِ وَإِنْ زَادَ. وقِيلَ: الأَكْثَرُ. وأَنْكَرَهُ أَشْهَب إِذْ لا يَزِيدُ عَلَى الزِّنَى طَوْعاً. وقِيلَ: رُبُعُ دِينَارٍ .. (الأَقَلُّ) لأنه إن كان المسمى أقل فقد رضيت به على أنها حرة، فلأن ترضى به وهي أمة أولى، وإن كان صداق المثل أقل فلأن من حجة الزوج أن يقول: إنما أعطيت هذا المسمى لأجل الحرية، والحكم بالأقل إنما هو إذا لم يمسكها، وأما إن أمسكها فالمسمى، ذكره في الجواهر. وما ذكره المصنف عن المدونة من الأقل هو تأويل صاحب البيان، و (الأَكْثَرُ) وهو نص ابن القاسم في العتبية، ومنهم من فهمها على القول الثاني، وهو نص ابن القاسم في الموازية، ووجهه أنه إتلاف لمال الغير، وتصور القول الثالث من كلامه ظاهر. قوله: (وأَنْكَرَهُ أَشْهَب) اللخمي وابن يونس: وقال أشهب في الموازية: ليس لها سوى المسمى، كما لو زنى بها طائعة. ابن يونس: يريد: فلا يكون لها عليه شيء فكذلك ما زاد على المسمى لا شيء للسيد فيه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. انتهى. ففهم عن أشهب أن الواطئ لا شيء عليه في الزنى إن طاوعته، وكذلك نقل ابن عبد السلام عنه، وقال: سواء كانت بكراً أو ثيباً. وقال في البيان: وقال- يعني ابن القاسم-: إنه إن أصدقها أدنى من صداق مثلها لم يكن لها إلا ذلك. قال أشهب: كما لو زنى بها طائعة لا يكون لها إلا قدر ما يستحل به فرجها كالحرة إذا غرت من نفسها بجنون أو جذام. وهو قول ابن أبي حازم. انتهى. فنقل عن أشهب أنه يكون عليه في الزنى ربع دينار، وكذلك نقهل عنه ابن راشد، وقال محمد في مسألة الأمة الغارة قولاً بأنه ليس لها إلا ربع دينار، ووجه إنكار أشهب

واضح، وهو أن يقال: لو كان لها الأكثر في مسألة الغرور لكان لها الصداق إذا زنى بها طوعاً؛ لأنه قد عابها على ربها بالزنى أشد مما عابها عليه بالنكاح. ومذهب ابن القاسم في المدونة في الأمة الزانية الفرق بين البكر والثيب، ذكره في كتاب الرهن. وَتَزْوِيجُ الْحُرِّ الأَمَةَ، والْحُرَّةِ الْعَبْدَ- مِنْ غَيْرِ تَبْيينٍ- غُرُورُ لأن الغالب على الحر والحرة أنهما إنما يتزوجان مثلهما، وبهذا جرى العرف، والعرف كالشرط. فرع: وإذا غر العبد حرة، فقال في العتبية: لها أن تختار قبل أن ترفع ذلك إلى السلطان. قال في البيان: يريد أنها إن فعلت ذلك جاز إذا كان الزوج مقراً بأنه غرها، وأما إن نازعها فليس لها أن تختار إلا أن يحكم به السلطان لذلك. قال: وهو تفسير للمدونة. بِخِلافِ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ الأَمَةَ، وَتَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ النَّصْرَانِيَّةَ يعني: أن العقد إذا وقع هنا من غير تبيين ليس بغرور لحصول المساواة في تزويج العبد الأمة، وحصول الأحسن للنصرانية، وعلى هذا فالمصدر مضاف إلى الفاعل، ويكون العبد والمسلم الغاري، ويحتمل أن يكونا مغرورين، ويكون المصدر مضافاً للمفعول. وَلَوْ غَرَّ الْمُسْلِمُ النَّصْرَانِيَّةَ بِأَنَّهُ نَصْرَانِيُّ فَلَهَا الْخِيَارُ هذا قول مالك في العتبية والموازية، وله في المبسوط من رواية ابن نافع أن النكاح ثابت ولا خيار لها، وهو قول ربيعة؛ لأن الإسلام ليس بعيب. اللخمي وابن رشد: الأول أظهر لأجل الشرط، وهذا إذا قال لها: أنا على دينك. وأما إن ظنت هي ذلك فلا رد لها اتفاقاً.

وَإِذَا غَرَّ الْحُرُّ بِالْحُرِّيَّة فَالْوَلَدُ حُرُّ لدخول الأب على الحرية، فيوفى له بما دخل عليه. قال في البيان: وكان القياس أن يكون الولد رقيقاً لسيد الأمة؛ لأن كل أمة تلد من غير السيد فولدها بمنزلتها، إلا أنهم تركوا القياس في هذا؛ لإجماع الصحابة على أنهم أحرار، وعلى أن على الأب [317/ أ] قيمتهم. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَوَلَدُهُ رَقِيقُ، وَقِيلَ: كَالْحُرِّ قوله: (فَوَلَدُهُ رَقِيقُ) هو مذهب المدونة، قال فيها: إذ لابد من رقه مع أحد الأبوين، فجعلهم تبعاً للأم؛ لأن العبد لا يغرم قيمتهم. وقوله: (وَقِيلَ: كَالْحُرِّ) أي: فيكون أولاده أحراراً. وأشار بقوله: (كَالْحُرِّ) إلى توجيه هذا القول، وهو أن العبد دخل على أن ولده حر فيوفى له بذلك كالحر. ابن عبد السلام: واختار هذا القول غير واحد. ابن راشد: ولم أره معزواً. ونقله عبد الحميد عن الشيخ أبي إسحاق، واحتج بدخوله على الحرية، قال: والتفرقة بين العبد والحر لكون العبد لا يقدر على دفع قيمة الولد ليست بظاهرة؛ لأن الحر أيضاً قد يكون عديماً، وقد يعتق العبد، كما يوسر المعدم، إلا أن يقال: للسيد إبطال ما في ذمة العبد، وليس ببين، هذا معنى كلامه. وَتَجِبُ قِيمَةُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجِ لا عَلَى الْوَلِيِّ الْغَارِّ يَوْمَ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ حَيّاً فَلَوْ مَاتَ قَبْلَهُ فَلا قِيمَةَ، وَانْفَرَدَ الْمُغِيرَةُ بِيوْمِ الْوِلادَةِ .. يعني أن الولد لما حكم بحريته فلا يسقط حق السيد من قيمته، بل تجب له قيمته على الزوج، لا على الولي، لأنهما وإن تساويا في إتلاف الولد على السيد، فالزوج مباشر، فكان أولى بالضمان. عبد الحميد: وكان بعض الشيوخ يغرم الغار قيمة الأولاد.

قوله: (يَوْمَ الْحُكْمِ) يعني أن وجوب القيمة يعتبر يوم الحكم. وهذا مذهب المدونة، وعليه فلو مات الولد قبل ذلك لم يجب فيه شيء؛ لأنه معدوم يوم الحكم، فلا قيمة له. وما ذكره من انفراد المغيرة باعتبار القيمة يوم الولادة ليس بظاهر؛ لأنه في البيان ذكر أن أشهب موافق له، وضعف ابن المواز قوله بأنه لو صح اعتبار القيمة يوم الولادة لما سقطت بموته بعد ذلك، وهو تضعيف ظاهر، لو وافق المغيرة على ذلك. والمنقول في البيان وغيره أن عند المغيرة وأشهب لا تسقط القيمة بموت الولد قبل الحكم، ونحوه للخمي. ابن عبد السلام: وخرج بعضهم في المسألة قولاً ثالثاً أن القيمة تعتبر يوم القيام من أحد الأقوال في الأمة المستحقة، أنها تعتبر قيمتها يومئذ، وهو تخريج صحيح. فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَيْهِ الأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مَا أَخَذَ مِنْ دِيَتِهِ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الْغُرَّةُ فَعَلَيْهِ الأَقَلُّ مِنْهَا ومِنْ عُشْرِ قِيمَةِ الأُمِّ، فَإِنْ كَانَ جَنِيناً فَيَوْمُ الْوِلادَةِ. وَقَالَ أَشْهَب: لا شَيْءَ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي الْجَمِيعِ كَمَا لَوِ اقْتَصَّ مِنْ قَاتِلِهِ أَوْ هَرَبَ. يعني: فإن قتل هذا الولد، فإن اقتص الأب من القاتل أو هرب لم يكن على الأب من قيمته شيء؛ لأنه قتل قبل الحكم، وإن أخذ فيه دية فالدية أو ما أخذ منها يتنزل منزلة عينه، فيكون على الأب للسيد الأقل من قيمته، أو ما أخذ من ديته؛ لأنه إن كانت القيمة أقل فليس للسيد غيرها، كما لو كان حياً، وإن كانت الدية أو ما أخذ منها أقل لم يكن على الأب ما أخذ. فرع: ولو استهلك الأب الدية ثم أعدم لم يكن للسيد رجوع على القاتل بشيء؛ لأنه إنما دفعها بحكم، قاله أصبغ وغيره.

وقوله: (وَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الْغُرَّةُ ... إلخ) أي: ولو ضرب رجل بطنها فألقت جنيناً فوجبت فيه الغرة، فأخذها الأب تنزلت الغرة منزلة الدية، وعشر قيمة الأم تنزله منزلة القيمة، فيلزم الأقل منها. قال في المدونة: والقيمة يوم ضربت. ابن وضاح: كان في المختلطة عشر قيمة أمه يوم استحقت، ولم يعجب سحنوناً، وأمرنا أن نكتب يوم ضربت؛ يعني أن القيمة إنما تجب فيه إذا قتل يوم القتل، فكذلك تقويم الأم؛ لأن به تعرف قيمته. وقوله: (فَإِنْ كَانَ جَنِيناً فَيَوْمُ الْوِلادَةِ) أي: فلو وقع التنازع وهي حامل، فعلى الوالد قيمة أول زمان يمكن التقويم فيه، وهو يوم الوضع، ولو قال: فلو كان حملاً فيوم الولادة، كان أبين. وقوله: (فِي الْجَمِيعِ) في قول أشهب؛ أي في المسائل الثلاثة؛ أعني مسألة الجنين، ومسألة وجوب الغرة، ومسألة قتل الولد. ولم ير أشهب أن الدية تتنزل منزلة عين الولد، فكان ذلك كما لو اقتص الأب من القاتل أو هرب. أشهب: وكما لو مات الابن وترك مالاً كثيراً لكان ذلك لأبيه خاصة. ابن عبد السلام: وهذا الذي قاله أشهب هنا إنما يتمشى على أن يكون أشهب موافقاً للجماعة في أن القيمة تلزم يوم الحكم لا يوم الولادة، وأما على ما حكيناه عن بعضهم من أن أشهب موافق للمغيرة، وأن المغيرة لم ينفرد بذلك فالمناقضة فيه ظاهرة، إلا أن يكون ذهب المغيرة أن القيمة تسقط عن الأب بموت الولد، فقد تسقط المعارضة، لكن يخلفها إشكال آخر، وهو ما رد به ابن المواد قول المغيرة فيما تقدم. وَإِن كَانَ الأَبُ عَدِيماً فَفِي أَخْذِهَا مِنَ الْوَلَدِ قَوْلانِ أخذها من الولد لابن القاسم في المدونة، وقال غيره فيها: لا يرجع عليه.

عياض: ويتخرج من قوله أنه يرجع على الولد أن الولد يقوم بغير ماله. كما ذهب إليه غير واحد؛ إذ لا يمكن أن يكون في أموالهم قيمتهم بأموالهم. وقال آخرون: إن تقويمهم بأموالهم. وحكوها رواية ولم يوقف عليها، ولا إشكال أنهما إذا كانا موسرين أن القيمة تؤخذ من الأب ولا يرجع بها الأب على الولد، وإن كانا عديمين أتبع أولهما يسراً. فَلَوْ كَانَتِ الأَمَةُ لِجَدِّهِ مَثَلاً فَلا قِيمَةَ؛ لأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ عُتِقَ، وَلا وَلاءَ لأَنَّهُ حُرُّ فإن كانت الأمة الغارة لم يعتق عليه [317/ ب] ولد المغرور، كما لو كانت لجده؛ أي: لجد الولد، فلا قيمة للجد في الولد؛ لأن الجد لو ملك هذا الولد عتق عليه، ولا ولاء للجد على الولد؛ لأنه حر بالأصالة لا بإعتاقه. ابن يونس: وقال ابن المواز: يكون ولاؤهم لأبيهم. وقال المصنف (مَثَلاً) لأن هذا الحكم لا يختص بالجد، بل يعم كل من يعتق على المالك، كما لو غرت أمة الابن والده؛ لأن ولد الأمة يكون أخاً للمستحق. فإن قلت: ما فائدة ذكر الولاء هنا والجد يرث بالنسب؟ قيل: لأنه لو قيل به لظهرت فائدته في الجد للأم؛ إذ لا يرث بالنسب، أما لو زوج الأب أمته لابنه لكان ولاء الأولاد الكائنين من الأمة لجدهم؛ لأنهم عليه عتقاء، ألا ترى أنه لو كان الزوج أجنبياً لكانوا أرقاء، بخلاف مسألة المصنف. نص عليه صاحب النكت وابن يونس. وقال ابن محرز في تبصرته: لا فرق بين المسألتين سواء زوج الأب أمته من ابنه أو غرته ولا ولاء للجد. وَتُوقَفُ قِيمَةُ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ زَادَتْ وَإلا رَجَعَتْ إِلَى الأَبِ يعني: إذا غرت مكاتبة بالحرية، وعثر على ذلك بعد أن ولدت، فإن الولد يقوم. ابن المواز: على أنه عبد.

ابن القاسم: فتوضع تلك القيمة على يد رجل، فإن أدت كتابتها رجعت تلك القيمة إلى الأب؛ لأنه قد انكشف الأمر أنها كانت حين التزويج حرة، وإن عجزت أخذها السيد وهذا مذهب المدونة، وه والمشهور. اللخمي: ولا معنى لوقف القيمة، بل تدخل القيمة في الكتابة ويتعجلها السيد، فإن وفت عتقت وولدها، وإلا حبست من آخر الكتابة. يريد: وليس على الأب إلا الأقل من قيمة الولد وبقيت الكتابة. وهكذا نقل ابن يونس عن محمد، ووجهه ظاهر؛ لأن المكاتبة أمة والحرية مشكوللا ك فيها، فيلغي المشكوك. واختار اللخمي التفرقة، وإن كان الزوج مأموناً ولا تخاف غيبته أو أتى بحميل، ألا يخرج المال من ذمته لئلا يضيع فيذهب مجاناً تركت تحت يده، وإلا وقفت. وَيُقَوَّمُ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى غَرَرِهِ لِعِتْقِهِ بِمَوْتِ سَيِّدِ أُمِّهِ، وكذَلِكَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ سَقَطَ .. يعني: أن أم الولد إذا غرت بالحرية، ولم يعثر على ذلك إلا بعد أن ولدت، فإن الولد يقوم على غرره لو جاز بيعه؛ لاحتمال موته قبل سيد أمه، فيموت رقيقاً واحتمال موت سيد أمه قبله فيكون حراً، هذا هو المشهور. وقال ابن الماجشون: يغرم قيمته عبداً أي لأن السيد يستخدمه كما يستخدم العبيد، وحريته مشكوك فيها. وعلى القولين فالقيمة يوم الحكم خلافاً للمغيرة. ولمالك في ثمانية أبي زيد: إن كان صغيراً لا خدمة فيه فلا شيء على الأب، فإن أطاق الخدمة غرم أجرته كل يوم، وإن مات قبل أن يبلغ ذلك فلا شيء عليه، وإن استحق بعد أن صار رجلاً كان عليه الأجرة من يوم استحق. مطرف: وإن مرض لم يكن عليه شيء حتى يصح. فإذا فرعنا على مذهب المدونة فقتل هذا الولد قبل الحكم فيه، فهل تجب قيمته لسيد أمه على أنه رقيق؛ لأن الترقب قد فقد؟

عياض: وإليه ذهب معظم الشيوخ أو قيمته على ما فيه من الرجاء والخوف؟ وإليه ذهب ابن أبي زيد في المختصر. واستشكله أبو عمران وصوبه غيره، وأما لو جرح فتردد بعض القرويين، هل تكون عليه القيمة على الترقب، ثم جزم بوجوبها على الترقب لبقاء النفس التي تترقب فيها بقاء الحرية. قوله: (وكذَلِكَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ سَقَطَ) أي: ولأجل اعتبار الترقب في قيمة الولد لو مات السيد قبل القضاء أسقط التقويم. اللخمي: وتتفق الأقوال إذا مات السيد إلا قول المغيرة أن القيمة يوم الولد، فلا تسقط بموت السيد ولا بموت الولد. وَيُقَوَّمُ وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ عَلَى غَرَرِهِ لِجَوَازِ عِتْقِهِ أي: إذا غرت. وقوله: (عَلَى غَرَرِهِ) أي: لجواز عتقه بموت السيد إذا حمله الثلث، ولا دين على السيد، ولجواز ألا يحمل الثلث الجميع، ولجواز رقه إذا كان على السيد دين أو يموت قبل ذلك، فالرق فيه أشد منه في ولد أم الولد، وهذا مذهب ابن القاسم في المدونة والمشهور، وقال ابن المواز: بل يغرم الأب قيمته رقيقاً. اللخمي: وهو مثل قول عبد الملك في ولد أم الولد، وذكر المازري في باب الاستحقاق أن المشهور الذي عليه الأكثر من أصحاب مالك خلاف قول ابن القاسم في المدونة وأنه يقوم رقيقاً، ألا ترى أنه لو اشترى المدبر رجلاً فعتقه لكان العتق فوتاً ولا يرجع على البائع بشيء من الثمن على إحدى الروايتين. عبد الحميد: فإن قتل ولد المدبرة جرى فيه من الخلاف ما جرى في ولد أم الولد. وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْغُرُورَ، وَأَنْكَرَهُ السَّيِّدُ فَفِي تَعْيينِ الْمَقْبُولِ قَوْلانِ قال أشهب: القول قول الزوج؛ لأنه ادعى الغالب. ونحوه حكى ابن يونس عن ابن القاسم إذا قال الزوج: ظننت أنها حرة. وقال سحنون: بل القول قول السيد؛ لأن الزوج مدع لحرية ولده.

الْعِتْقُ: وَإِذَا عُتِقَ جَمِيعُهَا تَحْتَ الْعَبْدِ حِيلَ بَيْنَهُمَا وخُيِّرَتْ بِخِلافِ الْحُرِّ هذا راجع إلى قوله: (وللزوجة خاصة الخيار بالعتق). وقوله: (جَمِيعُهَا) يريد إما في دفعة أو أكثر، فقد نص في الموازية والعتبية فيما إذا تزوجت وهي معتق بعضها، وأكمل عتقها بعد [318/ أ] ذلك على أن لها الخيار، ومراده بـ (الْعِتْقُ) العتق الناجز، ولأنه لا يجب لها الخيار بالكتابة والتدبير والعتق المؤجل والاستيلاد، هكذا نصوا، ولا يستبعد الاستيلاد؛ لأنه نص في المدونة في غير موضع على أن السيد إذا وطئ أمته المتزوجة، وكان الزوج معزولاً عنها أنها تكون له أم ولد. قوله: (حِيلَ بَيْنَهُمَا وخُيِّرَتْ) نحوه في المدونة في غير ما وضع، ودليله ما في الصحيحين في حديث بريرة أنها عتقت فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وروى البخاري وغيره أن زوجها كان عبداً، وورد أنه كان حراً، ولكن ضعفه البخاري وغيره، ولهذا لم يقل مالك رحمه الله: لها الخيار إذا كان زوجها حراً. وعلى هذا فيكون الموجب لخيارها نقص العبد عنها بالرق، لا ما قاله الحنفية من أن موجبه جبر الخلل الواقع في النكاح بإجبار السيد أمته على النكاح، حتى أوجبوا لها الخيار تحت الحر أيضاً. ويحقق عندك عدم مراعاة أصحابنا ما قالوه من أن العلة في الخيار الجبر ما في الموازية إذا طلبت الأمة أن تتزوج هذا العبد ثم عتقت أن لها الخيار. وَفِيهَا: لَوْ وَقَفَتْ سَنَةً وَلَمْ تُمَكِّنْهُ، وَقَالَتْ لَمْ أَسْكُتْ رِضًي صُدِّقَتْ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَالتِّمْلِيكِ ... لأنها تقول: سكت لأرى رأياً، ولو اخترته لمكنته من نفسي. ابن عبد السلام: ولم يذكر في المدونة من أوقفها هذه المرة، فإن من المعلوم أن الحاكم لا يوقفها هذا القدر، ولعله السبب المقتضي لنسبة المصنف لها.

ابن عبد السلام: وحكى بعضهم قولاً بسقوط الخيار لطول المدة، وإن أوقفها الزوج بحضرة العتق. وقال: إما أن تختاري المقام أو الطلاق. فقالت له: أنظر وأستشير. فالقولقولها، واستحسن أن تؤخر ثلاثة أيام. وقوله: (بِغَيْرِ يَمِينٍ) هو مذهب المدونة، وفي العتبية: تحلف، وهو على الخلاف في أيمان التهم. فَلَوْ عُتِقَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ سَقَطَ كَمَا لَوْ عُتِقَا مَعاً أي: إنما سقط خيارها؛ لأن الموجب لخيارها رقه، فإذا زالت العلة زال المعلول، ولا إشكال فيما إذا أعتقا معاً، وأما إذا أعتق بعدها قبل أن تختار، فمن الشيوخ من جرد المسألة من الخلاف نصاً وتخريجاً، ومنهم من أثبته تخريجاً فقط، وهو ابن زرب؛ لأن عارضها بمسألة الحيض الآتية، وهي أنها إذا أخرت للحيض فعتق الزوج، فقال ابن القاسم: هي على خيارها. وخرج من كل واحدة رواية في الأخرى، وفرق بينهما بأنها في الحيض ممنوعة شرعاً، فعذرت إذ لا تفريط منها، بخلاف هذه ومنهم من أثبته نصاً، وذكره عن ابن زياد، ونقله ابن عبد البر عن ابن القاسم. فَلَوْ أَبَانَهَا سَقَطَ، بِخِلافِ الرَّجْعِيِّ أي: فلو أبانها قبل أن تختار سقط الخيار لاستحالة وقوع الطلاق منها وهي بائنة، بخلاف الرجعي فإنها زوجة. اللخمي: ولو قيل إنها تمنع من الطلاق إذا قال الزوج: أنا لا أرتجع، لرأيته حسناً. فَإِنْ اخْتَارَتْ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلا صَدَاقَ، ويَرُدُّهُ السَّيِّدُ لأنه فراق قبل الدخول من جهتها.

وقوله: (فَلا صَدَاقَ) يعني: لا يكون لها نصف؛ لأنه قد علم أن المرأة لا تستحق قبل البناء إلا النصف، وقوله: (ويَرُدُّهُ السَّيِّدُ) يعني: إن قبضه. فَإِنْ كَانَ عَدِيماً فَقِيلَ: يَسْقُطُ خِيَارُهَا لأَنَّ ثُبُوتَهُ يُسْقِطُهُ، وقِيلَ: يَثْبُتُ وَتُبَاعُ فِيهِ لِمَا أَوْجَبَهُ الْحُكْمُ. وقِيلَ: يَثْبُتُ وَلا تُبَاعُ لأَنَّهُ طَارِئُ بِالاخْتِيَارِ بَعْدَ الْعِتْقِ. هذا مفرع على قوله: (ويَرُدُّهُ السَّيِّدُ) وقوله: (فَقِيلَ: يَسْقُطُ خِيَارُهَا ... إلخ.) أي: لأنه صار ديناً على السيد وهو عديم، فيرد عتقه لتقدم الدين عليه، فكان ثبوت خيارها يفضي إلى بطلان عتقها، وإذا بطل عتقها بقيت زوجة. وهذا القول هو المختار الذي به الحكم، قاله المتيطي وغيره، وعمل بذلك وثيقة. وتصور القول الثاني من كلامه ظاهر، ورأى في الثالث أن الزوج إنما وجب له الرجوع بالصداق بعد العتق، فصار كدين طرأ بعد العتق فلا يرد له العتق، فالضمير في قوله: (لأَنَّهُ طَارِئُ) عائد على الدين المفهوم من السياق، وهو أقيس. ابن عبد السلام: وهو أشبه بأصل ابن القاسم في المدونة، لما في العتق الأول منها: إذا باع عبدك سلعة بأمرك ثم أعتقته ثم استحقت السلعة ولا مال لك، فليس للمبتاع رد العتق؛ لأنه دين لحق السيد بعد إنفاذه. لكن تأول محمد هذه المسألة على أن الثمن كان بيد السيد حتى أعتق، قال: وأما إن تلف أو أنفقه قبل العتق فليرد العتق؛ لأن السلعة لم تكن له ملكاً. فَإِنْ اخْتَارَتْ بَعْدَ الْبِنَاءِ فالْمُسَمَّى ويَكُونُ كَمَالِهَا إِلا أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ قَبَضَهُ أَوِ اشْتَرَطَهُ .. لا إشكال في وجوب المسمى بعد الدخول، ويكون كمالها فيتبعها؛ لأن العبد إذا عتق تبعه ماله، إلا أن يشترط السيد. وجعل المصنف قبض السيد كاشتراطه، ونحوه في المتيطية والجواهر.

وينبغي أن يقيد بما إذا قبضها على سبيل الانتزاع، وهو الذي يدل عليه لفظ المدونة، فإنه قال: إلا أن يكون السيد أخذه قبل العتق أو اشترطه فيكون له. وإِنْ رَضِيَتْ وَهِيَ مُفَوَّضَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَفُرِضَ لَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلا سَبِيلَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ لأنه قبل الفرض لم يتقرر لها شيء، بدليل أن المفوض لو طلقت قبل البناء لم يكن لها شيء، فصار كمال وهب له بعد العتق. ابن بشير: وإذا استثنى صداقها قبل البناء، وكان تفويضاً في الروايات لا يصح [318/ ب] استثناؤه؛ لأنه لم يجب لها بعد، وقال بعض الأشياخ: يجري على القولين فيمن قال لعبده: أنت حر وعليك ألف. هل يكون حراً ولا شيء عليه، أو يتبع بما جعل عليه؟ وأنكر ابن محرز هذا، ورأى أنه لا يختلف في أن الاستثناء لا يصح؛ لأنه اشترط لنفسه ما لا تملكه المرأة هنا. وَاخْتِيَارُهَا طَلْقَةُ بَائِنَةُ كَالْعَيْبِ، ورُوِيَ أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ إِنْ عُتِقَ فِي الْعِدَّةِ يعني: أن اختيار طلقة بائنة، سواء بينت الواحدة أو لم تبين، بل قالت: اخترت نفسي فقط. وهكذا قال في المدونة. والرواية بأن له الرجعة إذا عتق في مختصر ما ليس في المختصر، وقاسه فيه على طلاق المولي والمعسر بالنفقة، والقول الأول هو المشهور. فَإِنْ قَضَتْ بِاثْنَتَيْنِ طَلاقَ الْعَبْدِ فَفِي لُزُومِهِ رِوَايَتَانِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ نحوه في المدونة، ففيها: وللأمة إذا عتقت تحت العبد أن تختار نفسها بالبتات، على حديث بريرة، وكان مالك يقول مدة: ليس لها أن تختار إلا واحدة بائنة. وهو قول أكثر الرواة. ابن يونس: ووجه الأول أنها ملكت ما كان ملكه من الفراق، فلها أن تفارق بما شاءت كهو، ووجه الثاني أن الواحدة تبينها، فالزيادة على ذلك ضرر. انتهى.

فقوله كهو إشارة إلى أنها إنما تؤمر ابتداء على القولين بواحدة، ألا ترى أن الرجل يؤمر ألا يطلق إلا واحدة. وعلى هذا فالخلاف إنما هو في لزوم الزائد على الواحدة بعد الوقوع، كما ذكر المصنف. وحكي عن مالك وابن القاسم في المدونة أن للمعتقة تحت العبد أن تطلق نفسها ثلاثاً، فمن الشيوخ من نسب قائله إلى الوهم؛ لأن الطلاق إنما يعتبر بالرجال، ومنهم من صححه، ووجهه بأن الزوجة لما انتقل إليها الطلاق وهي حرة اعتبرت. وَتُؤْمَرُ بِالتَّاخِيرِ فِي الْحَيْضِ لأن اختيارها طلاق، والطلاق في الحيض منهي عنه. فَإِنْ أَخَّرَتْ فَعُتِقَ الزَّوْجُ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ عَلَى خِيَارِهَا. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: الصَّوَابُ أَلا خِيَارَ لَهَا .. قد تقدم أن ابن زرب عارض بين هذه المسالة وبين ما إذا أعتق بعد عتقها، وما يتعلق بذلك. وما صوبه اللخمي ظاهر لزوال سبب الخيار وهو لحاق العار بسبب حريتها ورق زوجها. فرع: فإن اختارت في الحيض فلا تجبر على الرجعة على المشهور؛ لأن الطلاق بائن. ابن رشد: وعلى أنه طلاق رجعي إن أعتق زوجها قبل انقضاء العدة تخير. وتردد اللخمي في هذا؛ لأن الطلاق ليس بيد الزوج، وإنما هو حق عليه، فتشكل صحة رجعته أو جبره عليها. وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا بِقَوْلِهَا وبِتَمْكِينِهَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعِتْقِ وَالْحُكْمِ. قوله: (بِقَوْلِهَا) بأن تصرح بالمقام مع الزوج أو بتمكينها؛ أي: تمكن من نفسها من الاستمتاع.

وقوله: (وَمَا فِي مَعْنَاهُ) أي: تستمتع بالزوج. وهذا أقوى في الوكالة من التمكين؛ لأن هذا فعل وهذا ترك. وقوله: (إِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعِتْقِ وَالْحُكْمِ) يعني أن السقوط مشروط بأن تعلم بأنها عتقت وان لها الخيار، وهو معنى قوله: (الْحُكْمِ). وَالْجَاهِلَةُ بِالْعِتْقِ تُخَيَّرُ اتِّفَاقاً لأنها معذورة. ابن عبد السلام: وينبغي أن يعاقب الزوج إذا علم بالعتق والحكم، كما قالوا: إذا وطئ المملكة والمخيرة وذات الشرط. وَالْجَاهِلَةُ بِالْحُكْمِ: الْمَشْهُورِ سُقُوطُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: إِنَّمَا أَسْقَطَهُ مَالِكُ بِالْمَدِينَةِ حَيْثُ اشْتَهَرَ وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَمَةٍ، وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ جَهْلُهَا فَلا الأقرب أن قول ابن القصار تقييد، وأيضاً فإن ما نسب المصنف لابن القصار وقع نصاً لمالك في المختصر والمدونة، وإذا كنا نقيد قول الإمام بقول غيره، فتقييده بقول نفسه أولى، لكن قول المصنف وابن شاس وصاحب الذخيرة: المشهور سقوط الخيار يقتضي أن قول ابن القصار خلاف. فرع: قال في الجواهر: وإذا اختلفا في المسيس فإن أنكرت الخلوة فالقول قولها مع يمينها، وإن اعترفت بالخلوة فالقول قوله مع يمينه، وإن تصادقا على المسيس وادعى الطوع وادعت الإكراه فالقول قوله مع يمينه، وإن تصادقا على المسيس والطوع واختلفا هل علمت بالعتق فالقو قولها. محمد: بغير يمين. وَإِذَا عُتِقَتْ واخْتَارَتْ وتَزَوَّجَتْ وَقَدِمَ وَثَبَتَ أَنَّهُ عُتِقَ قَبْلَ اخْتِيَارِهَا فَكَزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ قد تقدمت هذه المسألة مع نظائرها في مسألة الوليين.

وَإِذَا عُتِقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ تَعْلَمْ حَتَّى بَنَى بِهَا فَلَهَا الأَكْثَرُ مِنَ الْمُسَمَّى أَو صَدَاقُ حُرَّةِ مِثْلِهَا .. لأنه إن كان المسمى أكثر فقد رضي الزوج به على تقدير أن يكون أمة، ولا يقال إن الزوج إنما رضي به على تقدير أمة، ولا يقال إن الزوج إنما رضي به دوام العصمة؛ لأن الصداق إنما يقابل الوطأة الأولى، وإن كان صداق مثلها أكثر وجب دفعه لها؛ لأنه قيمة بعضها. وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي الزَّوْجِيَّةِ فَلا يَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ إِذْ لا يُقْضَى بِنُكُولِهِ يعني: إذا ادعى رجل نكاح امرأة، فأنكرته أو بالعكس، فلا يمين على المنكر. قال المصنف: (إِذْ لا يُقْضَى بِنُكُولِهِ) اي لانتفاء ثمرة اليمين وهي انقلابها على المدعي فيقضي له بيمينه مع نكول المدعي عليه، وهو مراده بقوله: (إِذْ لا يُقْضَى بِنُكُولِهِ) وليس مراده أنه يقضي على المدعى عليه بنكوله دون يمين المدعي؛ لأن النكول لا يقضي به في المال، فما بالك بغيره. ابن عبد السلام: [319/ أ] قال جماعة: وهذا إنما هو في غير الطارئين، وأما الطارئان فتتوجه اليمين على المنكر؛ لأنهما لو تصادقا على النكاح لنفذ قولهما. وفيه نظر؛ لأن مراد أصحابنا من تصديق الطارئين على النكاح إنما هو إذا قدما مصطحبين اصطحاب الزوجين؛ لأنا لو كلفناهما البينة على النكاح لشق ذلك عليهما، ولأنا لو منعناه منها بأن منعناها أيضاً هي من غيره، كان ذلك من أشد الحرج، وإن لم نمنعها كان ذلك أقوى ريبة؛ لأن فيه ترك الظاهر الراجح واستعمال المرجوح. واختلف في غير الطارئين إذا أقر الزوج والولي بالنكاح وأنكرت المرأة هل يحلف أم لا؟ على ثلاثة أقوال، يفصل في الثالث بين أن يكون ثم منع وعلامة أم لا؟

فروع: الأول: إن أتى المدعي منهما ببينة بسماع فاش من العدول وغيرهم بصحة النكاح واشتهاره بالرق، فقال المتيطي: المشهور المعمول به أنه يثبت النكاح. وقال أبو عمر: إنما تجوز شهادة السماع حيث يتفق الزوجان على الزوجية. الثاني: قال أبو عمران: الذي يدعي نكاح امرأة ولا بينة له لا يمكن من نكاح خامسة، إلا أن يطلقها؛ لأنه زعم أنها في عصمته وقد ظلمته في إنكارها النكاح. ابن راشد: ويلزم على قوله ألا تمكن المرأة من النكاح إذا ادعته وأنكرها؛ لأنها معترفة أنها ذات زوج. الثالث: إذا دعى رجل نكاح ذات زوج، وقال: تزوجتها قبل ذلك. لم يسمع قوله، فإن أتى بشاهد واحد أمر الزوج باعتزالها حتى يأتي بشاهد آخر إن ادعى أمداً قريباً، فإن لم يأت بشاهد لم يلزم واحد من الزوجين يمين. فَإِنْ أَتَى بِشَاهِدٍ فَقَوْلانِ، وَلا يُقْضَى بِنُكُولِهِ، لَكِنْ إِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ غَرِمَ الصَّدَاقَ أي: فإن (أَتَى) المدعي للنكاح (بِشَاهِدٍ فَقَوْلانِ) أحدهما: أن اليمين لا تتوجه، وهو قول مالك في المدونة في آخر كتاب الأيمان بالطلاق، لانتفاء ثمرتها كما تقدم. المتيطي: وهو قول مالك وجميع أصحابه. والقول الثاني لابن القاسم في الموازية: يحلف المنكر ثم إن نكلت المرأة لم يثبت النكاح ولا تحبس، وإن نكل الزوج غرم الصداق. واستشكل هذا القول لأنه إذا وجب اليمين لأجل المال فينبغي أن تحلف مع شاهدها أولاً. والضمير في (نُكُولِهِ) يعود على المدعي عليه منهما، ومعنى قوله: (وَلا يُقْضَى) أي: بالنكاح.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنِ ادَّعَى الزَّوْجِيَّةَ: لا تُؤْمَرُ الْمَرْأَةُ بِانْتِظَارِهِ إِلا أَنْ يَدَّعِيَ بَيِّنَةً قَرِيبَةً، فَإِنْ أَعْجَزَهُ لَمْ تُسْمَعْ بَعْدَهُ نَكَحَتْ أَوْ لا، وَمَضَى الْحُكْمُ يعني: إذا ادعى رجل نكاح امرأة فلا يلتفت إلى دعواه ولا تؤمر المرأة بانتظاره، وكذلك إذا ادعى بينة بعيدة، وإن كانت قريبة لا يضر بالمرأة انتظارها. ورأى الإمام لذلك وجهاً، أمرت بالانتظار. قوله: (فَإِنْ أَعْجَزَهُ) ثم جاء ببينة فقد مضى الحكم، نكحت أو لم تنكح، وهكذا روى أصبغ عن ابن القاسم في العتبية، وأسقط المصنف من الرواية كون القريبة لا يضر بالمرأة انتظارها، وكون الإمام يرى لذلك وجهاً، كأنه رأى أن القريبة لا تضر بالمرأة. قال في البيان: وقوله: إنه لا تقبل منه بينة إن أتى بها بعد التعجيز خلاف ما في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبان وخلاف ظاهر المدونة إذا لم يفرق بين تعجيز الطالب والمطلوب. وقال ابن القاضي: يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز، كان طالباً أو مطلوباً، وفرق ابن الماجشون في الطالب بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل، ثم رجع عليه، ففي تعجيز المطلوب قولان وفي تعجيز الطالب أقوال، قيل: وهذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام. وقيل: بل ذل كفيه وفي من بعده من الحكم، وهذا الاختلاف إنما هو إذا عجزه بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه بعد التلوم والإعذار السلطان وهو يدعي أن له حجة، فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله: قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسمع منه بعد نفوذه عليه. انتهى. فرع: ثم حيث أمرت بالانتظار فطلبها الزوج بحميل بوجهها ليقيم البينة على عينهأ، ففي وثائق ابن الهندي وابن العطار وغيرهما: يلزمها ذلك، وفي أحكام ابن العطار لابن لبابة وغيره من الشيوخ: أنه لا حمالة في ذلك.

المتيطي: والذي جرى به العمل عند شيوخنا وانعقدت الأحكام عليه أن تجعل عند امرأة صالحة تتحفظ عليها، أو تجعل المرأة عندها، وإلا فتسجن في الحبس حتى يحق الحق، وعمل وثيقة على هذا القول. فروع: الأول: إذا أقامت المرأة على الزوج المنكر شاهدين، ولم يأت بمدفع لزمه النكاح والدخول والنفقة، ولا ينحل عنه إلا بطلاق، فإن طلق قبل البناء لزمه نصف الصداق، فإن أبى من الدخول أو الطلاق، فقال ابن الهندي: كان بعض من أخذت عنه العلم أن السلطان يطلق عليه بعد أربعة أشهر من وقت إبايته، ويكون بمنزلة الولي لأنه مضار. خليل: وفيه نظر؛ لأن مشهور المذهب فيمن ترك وطء زوجته بغير يمين أنه يطلق عليه بغير أجل. المتيطي: ولم يجعل ابن الهندي وابن العطار وغيرهما من الموثقين إنكار الزوج للنكاح طلاقاً، وهو أصل مختلف فيه، فقد وقع لأصبغ في الواضحة إذا قال الزوج أنكحتني [319/ ب] فلانة، وقال الأب بل فلانة، فإن النكاح يفسخ، ولا أيمان بينهما. قال: وإن رجع أحدهما إلى تصديق صاحبه لم يقبل منه، ولزم الزوج أن يغرم نصف صداق كل واحدة، الأولى بإقراره والثانية برجوعه إليها، فجعل الإنكار طلاقاً. وكذل كاختلف في مسألة الابن الذي زوجه أبوه وه وساكت، هل يكون نكوله طلاقاً أم لا؟ وفي مسائل ابن زرب في وصي أنكح يتيمته من رجل ثم إن الزوج أنكر ذلك، فقال له القاضي: طلقها. فقال: وكيف أطلق من لم أنكح؟ فقال: ولعلك فعلت فطلاقها خير لك ولها. فلم ير الإنكار طلاقاً، وقال ابن القاسم فيمن قال في جارية بيده: اشتريتها؛ وقال سيدها: بل زوجتكها-: إنهما يتفاسخان بعد تحالفهما ولا تكون زوجة ولا أم ولد، وترجع الأمة إلى سيدها؛ لأن المشتري أقر أنها ليست بزوجة، فهو كالمطلق، وادعى أنها أمة فلا يصدق.

ابن زرب: وقوله: كالمطلق، ليس هو على أصله، وليس إنكاره لها طلاقاً. انتهى كلام المتيطي. الفرع الثاني: لو ادعى رجلان نكاح امرأة وأنكرتهما أو أقرت بهما أو بأحدهما فأقام كل منهما البينة على ذلك، ولم يعلم الأول منهما يفسخ النكاحان بطلاق، ولا يقضي بالأعدل خلافاً لسحنون، ولا عبرة بتصديق المرأة خلافاً لمحمد، وهذه المسألة كمسألة إذا زوجها الوليان ولم يعلم السابق منهما، وقد تقدمت. الفرع الثالث: قال في الجواهر: ولو أقام رجل بينة أن هذه زوجته فأنكرت واقامت هي بينة أن فلاناً زوجهاً فأنكرها ولم يوقتا تاريخاً، فقال أشهب: لا أنظر إلى التكافؤ في العدالة وأفسخ النكاحين. وقال أصبغ: ما لم يدخل أحدهما، فإن دخل قبل الفسخ كانت زوجته، وقيل للآخر أقم البينة أنك الأول. أشهب: ومن أقام بينة أنه تزول فلانة وهي تنكره، وأقامت أختها البينة أن هذا الزوج تزوجها وهو منكر، ولم يوقتوا فإن النكاحين يفسخان ولا ينظر إلى التكافؤ، قال: وكذلك لو شهدت كل بينة قبل البناء لفسخا، ولهما الصداق. محمد: وهذا لإنكاره نكاح الأخرى، ولو كان مقراً ويدعي أنها الأخيرة لقبل قوله؛ لأن البينة لا تكذبه، ولا ينفع التي تزعم أنها الأولى جحوده؛ لأن البينة أثبتت نكاحها. قال: وهذا تقويه المسألة الأولى حين ذكر عنه أنه جعل الإقرار كالإنكار. وإِذَا أَقَامَتْ شَاهِداً بِالنِّكَاحِ عَلَى مَيِّتٍ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَحْلِفُ مَعَهُ وَتَرِثُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لا تَرِثُ. وَتَوَقَّفَ أَصْبَغُ .. يعني: (إِذَا أَقَامَتْ شَاهِداً) على النكاح لرجل ميت (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَحْلِفُ مَعَهُ وَتَرِثُ) لأنه بعد الموت لا يكون لها إلا المال. ورأى أشهب أن الميراث يتوقف على ثبوت الزوجية، والزوجية لا تثبت بالشاهد واليمين، وقاله ابن القاسم أيضاً، وهو أقيس بناء على أن الدعوى إذا لم تكن مالاً وتؤول

إليه، هل يقبل فيه الشاهد الواحد أم لا؟ والأكثر أن التوقف لا يعد قولاً، وهو الصحيح؛ لأن التوقف يستلزم عدم الحكم. وعلى قول ابن القاسم الأول فإنها تحلف مع شاهدها وترث إذا لم يكن ثم وارث معين ثابت النسب، وأما إن كان فلا، حكاه صاحب المغمز. ولا يقال: يلزمه عليه أن يكون الحكم كذلك في الحياة؛ لأنه في الحياة تترتب عليها أحكام أخر غير المال، كلحوق النسب وغيره، فإن أثبتا النكاح فبشاهد ويمين، فإما أن يثبت كل تلك الأحكام وهو باطل بالاتفاق، أو يثبت الأحكام المالية خاصة مع ثبوت الزوجية، وهو تناقض، والله أعلم. وَتَرِثُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ الطَّارِئِ، وَفِي غَيْرِ الطَّارِئِ قَوْلانِ، إِلا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا وَلَدُ يُقِرُّ بِهِ فَتَرِثُ حِينَئِذٍ مَعَهُ .. لأن الطارئ بعده على الزوجية التي ادعاها ومكنه منها. ابن عبد السلام: وهكذا ينبغي إذا أقرت هي، ولم يعلم منه إنكار أن يرثها. وأما غير الطارئ فلعل منشأ الخلاف فيه هل بيت المال وارث فلا ينفع إقراره، أو حائز للأموال الضائعة فيقبل؟ وعلته أنه أوصى به، والجاري على مشهور المذهب عدم القبول؛ لأن المشهور أن بيت المال وارث، وبعدم القبول قال سحنون، ولو في الصحة. ابن عبد السلام: وهو الأقرب. زاد (المتيطي) ابن راشد. ويفسخ قبل البناء وبعده، إلا أن يطول بعد البناء جداً. وظاهر ما نقله اللخمي عن محمد أنه يقبل دعوى التزويج في غير الطارئين. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا وَلَدُ) أي أن الخلاف حيث لا يكون ولد معها، فإن كان معها ولد فترثه؛ أي المقر معه، أي مع الولد؛ لأنه لما كان الشرع متشوفاً إلى لحوق النسب جعلوا استلحاقه قاطعاً للتهمة.

وَفِي الإِقْرَارِ بِوَارِثٍ غَيْرِ الزَّوْجِ والْوَلَدِ قَوْلانِ يعني: إذا أقر رجل أو امرأة بأخ أو ابن عم ونحوه. وقيد ابن راشد هذا الخلاف بما إ ذا لم يعلم أنه وارث. وقال: إن القبول يجري على أصل ابن القاسم؛ لأنه أقر بمال، لكن لا يثبت بذلك نسبه. وعلى أصل أشهب لا يرث؛ لأن الإرث فرع ثبوت النسب. وَإِقْرَارُ أَبَوَيْ غَيْرِ الْبَالِغين فِي النِّكَاحِ مَقْبُولُ عَلَيْهِمَا أي: أبو الصبي وأبو الصبية، وقبول قولهما ظاهر؛ لأن كل واحد من الأبوين قادر على إنشاء ما أقر به فلا يتهمان .. فرع: قال في الجواهر: ومن احتضر فقال: لي امرأة بمكة، وسماها ثم مات، فطلبت ميراثها [320/ أ] منه، فذلك لها، ولو قالت هي ذلك ورثها. ابن راشد: وعلى ما حكاه في المغمز إن كان في عصمته امرأة غيرها لم ترثه؛ لأن هذه حازت الميراث. وَإِذَا قَالَ: أَلَمْ أَتَزَوَّجْكِ؟ فَقَالَتْ: بَلَى. فَإِقْرَارُ مِنْهُمَا لأنه إقرار لغة وعرفاً، ولابد هنا من إجازة الولي والإشهاد عليه لتصحيح ميراث النكاح. وَلَوْ قَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ. فَأَنْكَرَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَنْكَرَ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ لأنها لم أنكرت أولاً لم يصح إقرار، ثم قولها بعد: نعم، كابتداء دعوى منها عليه بالزوجية، وأنكر هو ذلك فلم يتفقا في زمان.

الصداق

وَلَوْ قَالَتْ طَلَّقْتَنِي، أَوْ خَالَعْتَنِي، أَوْ طَلَّقْنِي، أَوْ خَالِعْنِي فَإِقْرَارُ أي: قالت طلقني أو خالعني في جواب قولها قد تزوجتك فإقرار؛ لأن المرأة لا تطلب ذلك إلا من زوجها. وَلَوْ قَالَ: اخْتَلَعْتِ مِنِّي فَإِقْرَارُ أي: في جواب قولها: قد تزوجتني. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ حَرَامُ، أَوْ بَائِنَةُ، أَوْ بَتَّةُ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ إِلا جَوَابَ طَلَّقْنِي. وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ مُظَاهِرُ فَإِقْرَارُ بِخِلافِ أَنْتِ عَلَيَّ كَمظَهْرِ أُمِّي .. هكذا قال ابن سحنون: إنه إن قال لها أنت حرام أو بائن أو بتة، فليس بإقرار بالنكاح؛ لأن الأجنبية عليه حرام، إلا أن تسأله الطلاق، فيجيبها بهذا، فهو إقرار بالنكاح في إجماعنا، قال: وكذلك قوله لها أنا منك مظاهر، بخلاف قوله أنت طالق أو أنت علي كظهر أمي؛ لأن مظاهر اسم فاعل، ولا يصدق ذلك إلا في زوجته بخلاف أنت علي كظهر أمي، فإن ذلك يصدق على الأجنبية، واعلم أن ما ذكره المصنف هنا من الإقرار إنما يفيد في الطارئين. وكذلك ذكر ابن عبد الحكم لما تكلم على بعض الفروع التي ذكرها المصنف، وأما غيرهما فلا؛ لأنه قد تقدم أنهما لو تصادقا على الزوجية لم يقبل على الظاهر. الصَّدَاقُ: وَأَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ قِيمَتُهَمَا وَلَوْ كَانَ عَبْداً لأَمَتِهِ لما قدم المصنف أن أركان النكاح خمسة، وتكلم على أربعة منها تكلم على الخامس وهو الصداق. ويقال بفتح الصاد وكسرها، والفتح أفضل، ويقال: صدقة. الجوهري: ومنه قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، والصدقة مثله بالضم وتسكين الدال.

عياض: ويقال له: فريضة ونحلة وأجر، قال الله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]، وقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقال: (اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) [الأحزاب: 50]، ويسمى أيضاً عقراً وعلاقة ومهراً، ولا يقال: عده ركناً لا يصح لصحة نكاح التفويض مع عدم الصداق، ألا ترى أنه لو مات أو طلق قبل البناء لم يكن عليه شيء، وهو يدل على صحة النكاح بدون الصداق؛ لأنا نقول ما ذكرته من عدم الصداق غير صحيح بدليل أنه لو صرح بإسقاطه فسد، وعلى هذا فالصداق موجود وإنما المعدوم تسميته، وما استدللت به على العدم من سقوطه بالموت أو الطلاق ليس بجيد؛ لأن عقد النكاح أحد عقود الشروع، ونكاح التفويض أحد تحكمات الشرع وتحكماته مألوفة. ونقل عن غير واحد الإجماع على أنه لا حد لأكثره. ابن الهندي وغيره: وتكره المغالاة فيه، ولا شك أن التغالي أمر نسبي، فرب صداق هو كثير في حق امرأة دون أخرى أو رجل دون آخر، وأما أقله فالمشهور أنه ربع دينار أو ثلاثة دراهم. المتيطي وغيره: ويشترط فيها أن تكون خالصة، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن تخريج الخلاف في اشتراط الخلوص من الزكاة. وقوله: (أَوْ قِيمَتُهَمَا) أي: أو ما يقوم بهما. وهذا قول مالك. اللخمي وغيره: قال مالك: أقل الصداق ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما يساوي أحدهما. وقال ابن شعبان: ما يساوي ثلاثة دراهم. اللخمي: وهو موافق لقول ابن القاسم في السرقة أنها إنما تقوم بالدراهم. ووقع في بعض نسخ ابن الحاجب: أو قيمتها، فيكون عائداً على الفضة، والنسخة الأولى أصوب لموافقتها النقل كما ذكرنا. وذهب ابن وهب إلى أنه لا حد لأقل الصداق وأنه يجوز النكاح بالقليل والكثير، ونص على جوازه بنصف درهم، واستحب كونه ربع دينار وهو مذهب الشافعي وجمهور أهل العلم، ووجه أصحابنا المشهور بالقياس على السرقة والجامع بينهما

استحلال العضو المحترم، ولهذا قال الدراوردي لمالك: تعرقت فيها يا أبا عبد الله. أي: ذهبت مذهب أهل العراق في الأخذ بالقياس. (وَلَوْ كَانَ عَبْداً لأَمَتِهِ) يعني: فلابد من هذا القدر لحق الله تعالى. ونبه على هذه الصورة؛ لأنه قد يتوهم خروجها من حيث إن صداق الأمة إن كان مالاً لسيدها جاز له تركه، وإن كان لها فله انتزاعه. فَإِنْ نَقَصَ وَلَمْ يَدْخُلْ أَتَمَّهُ، وَإِلا فُسِخَ، وَإِنْ دَخَلَ أَتَمَّهُ جَبْراً، وَقِيلَ: كَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ يعني: فلو نقص عن ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فإن لم يدخل الزوج فالمشهور- وهو مذهب المدونة- ما ذكره المصنف: يخير الزوج بين أن يتمه أو يفسخ. وقيل: لابد من فسخه، وأما إن دخل فالمشهور أنه يتم لها ربع دينار ولا يفسخ. قال في المدونة: للاختلاف فيه. قوله: (وَقِيلَ: كَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ) ظاهره أنه يثبت بعد البناء بصداق المثل، ويحتمل أيضاً أنه يفسخ بعده؛ لأن الفسخ بعد البناء أحد الأقوال في الصداق الفاسد، وهذان الاحتمالان قد تؤولا على قول غير ابن القاسم في المدونة في هذه المسألة. المتيطي [320/ ب] وغيره: وغير ابن القاسم الذي أشار إليه في المدونة هو ابن الماجشون. أَمَّا لَوْ طَلَّقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى عَلَى الأَصَحِّ أي: في هذا النكاح الذي انعقد بأقل من ربع دينار اختياراً، والأصح مذهب المدونة، وعلى قول ابن القاسم في المسألة السابقة لا يكون لها شيء. وكذلك اختلف إذا لم يرض بالإتمام، فقال ابن القاسم: يكون فراقاً بطلقة بائنة ولها نصف الدرهمين؛ لأنه صداق مختلف فيه. وقال ابن حبيب: لا شيء لها. واختاره ابن الكاتب واللخمي وغيرهما، قالوا: لأن الفسخ إنما جاء من قبل أنه غير صداق، فكيف تعطي نصف ما وقع الفسخ لأجله.

وَشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ مُتَمَّوَلاً أي: مال يصح تملكه، ولهذا قال ابن القاسم فيمن تزوج امرأة بقصاص وجب له عليها: إن النكاح يفسخ قبل البناء ويثبت بعده كسائر الأنكحة الفاسدة لصداقها، لكن اتفق المذهب على أنه يجوز النكاح إذا قالت المرأة: أتزوجك على أن تهب عبدك لفلان أو تتصدق به عليه. وحكى في البيان فيما إذا تزوجها على أن يعتق أباها عنها أو عن نفسه ثلاثة أقوال: أجازه مالك فيهما، ومنعه ابن الماجشون، وقال ابن القاسم: إن كان على أن يعتقه عنها جاز النكاح، وإن كان على أن يعتقه لم يجز. ورجح قول مالك بالاتفاق على الفرع الأول، وقول مالك في الثاني قد ينقض قول المصنف: (أَنْ يَكُونَ مُتَمَّوَلاً) لأنه إذا وهب عبده لفلان أو عتق عبده عن نفسه لم يحصل لها مال، وقد يقال: لا نسلم خلو النكاح هنا عن المال؛ لأنها لما دخلت على عتق العبد عنه أو هبته للغير فكأنها ملكته ثم أعتقته عن الزوج أو وهبته للغير، وفيه نظر. وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ فِي مَا تَقَدَّمَ أي: يشترط أن يكون طاهراً منتفعاً به، مقدوراً على تسليمه، معلوماً. وقوله: (فِيمَا تَقَدَّمَ) أي: في الذي يقوم بربع دينار أو ثلاثة دراهم، وشبه المصنف بـ (الْمَبِيعِ) وإن لم يقدم ذكره؛ لأنه قد يفعل مثل ذلك كما قال في الشركة: (الْعَاقِدَان كَالْوكِيلِ والمَوكُل). ولأجل أنه كالبيع قال ابن القاسم في المدونة في من تزوج امرأة أو اشترى سلعة بدراهم بعضها غائبة: لا خير في ذلك، إلا أن يشترط أن عليه بدلها إن تلفت ولو حضرت الدراهم ونقدها إياها جاز النكاح والبيع.

فَيَجُوزُ عَلَى عَبْدٍ تَخْتَارُهُ لا يَخْتَارُهُ هُوَ كَالْبَيْعِ لأنها إذا كانت هي المختارة فقد دخل على أنها تأخذ الأحسن فلا غرر، بخلاف ما إذا كان الزوج هو المختار. وقوله: (كَالْبَيْعِ) تشبيه لإفادة الحكم، لكن المصنف لم يذكر هذه المسألة في البيع. وهذا كقوله: (ويُسِرُّ كَالْمَامُومِ والمنْفَرِد)، وما ذكره المصنف من المنع إذا كان الخيار للزوج والبائع هو المشهور. وقال سحنون: يجوز ذلك فيهما. وقوله في النكاح أظهر؛ لأنه مبني على المكارمة بدليل أنهم أجازوا فيه الغرر اليسير كما سيأتي. وَلا يَجُوزُ بِخَمْرٍ، ولا خِنْزِيرٍ، ولا مَجْهُولٍ، ولا غَرَرٍ؛ كَآبِقٍ، وشَارِدٍ، وجَنِينٍ، وثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاحُهَا، وَدَارِ فُلانٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا .. هذا كالبيان لما خرج من قوله: (حكم المبيع). وقوله: (بِخَمْرٍ، ولا خِنْزِيرٍ) أي: سواء كانت الزوجة مسلمة أو ذمية. واختلف إذا استهلكت الذمية الخمر، فقال ابن القاسم: لها صداق المثل ولا تتبع بشيء؛ وقال أشهب: تعطى ما يستحل به الفرج وهو ربع دينار. اللخمي: وهو أحسن لأن حقها في الصداق سقط بقبضها الخمر، وإنما بقي الحق لله تعالى. وقوله: (وثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاحُهَا) يريد: على التبقية، وأما على القطع فهو جائز كالبيع. محمد: وإن غفل عنها حتى بدا صلاحها لم يفسخ؛ لأنه كان جائزاً أولاً، ولا يتممان على ذلك ويكون لهما قيمة ذلك يوم عقد النكاح، وترد الثمرة التي طابت للزوج.

وقوله: (وَدَارِ فُلانٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا) نحوه في المدونة، وزعم ابن عبد السلام أنه من الترادف، وكان شيخنا رحمه الله يفرق بينهما، فيقول: قوله (عَلَى دَارِ فُلانٍ)؛ أي: يشتري رقبتها ليجعلها صداقاً لها. وقوله: (أَوْ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا) للمرأة من مالها ويجعل مهرها سمسرته فيها، وبذبلك فسر أبو الحسن الصغير المدونة، وإنما لم يجز ذلك للغرر أن لا يصلح هل يحصل ذلك أم لا؟ وهذا هو المشهور، وروى أبو عبيد عن مالك أن النكاح على عبد فلان جائز. إِلا أَنْ يَخِفَّ مِثْلَ: شَوْرَةِ الْبَيْتِ، أَوْ عَدَدٍ مِنَ الإِبِلِ والْغَنَمِ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ صَدَاقِ مِثْلِهَا فَيَكُونُ الْوَسَطُ مِنْ شَوْرَةِ مِثْلِهَا، ومِنْهَا ومِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا حَالاً .. أي: إلا أن يخف القدر فيجوز ذلك في النكاح كالصور التي ذكرها وإن كانت لا تجوز في البيوع؛ لأن النكاح مبني على المكارمة، والبيع مبني على المكايسة، فلذلك جاز في النكاح ما لم يجز في البيع، وعلى هذا فيقال: كل ما صح أن يكون ثمناً أو مثموناً في البيع صح أن يكون صداقاً. وقد يجوز الصداق بما لا يجوز في البيع، وهو جوازه على الوصف كشورة البيت أو عدد من الإبل أو الغنم أو صداق المثل، ويكون الوسط من جميع ذلك، وإليه أشار بقوله: (مِنْ شَوْرَةِ مِثْلِهَا) فإن كانت حضرية فلها الوسط من شورة مثلها في الحاضرة، وإن كانت بدوية فالوسط من أهل البادية. عياض: والشورة والشوار بفتح الشين: [321/ أ] المتاع وما يحتاج إليه البيت، والشورة بالضم الجمال. وقوله: (ومِنْهَا) راجع إلى قوله: (أَوْ عَدَدٍ مِنَ الإِبِلِ والْغَنَمِ)؛ أي: ويكون لها الوسط من الإبل والغنم، قال في التهذيب: وعليه الوسط من الأسنان. وفي المدونة: الأهلية وعليه الوسط من ذلك، فقيل: معناه وسط ما يتناكح به الناس، ولا ينظر إلى كسب البلد،

وقيل: وسط من الأسنان من كسب البلد. واختلف هل يشترط في جواز النكاح بالرقيق ذكر الجنس وهو قول سحنون، أو لا يشترط وهو قول محمد؟ قال: ولها الوسط من الأغلب في البلد من الحمر أو السودان، فإن استووا نظر وسط السودان ووسط الحمران فأعطيت نصف ذلك. ابن يونس: يريد من كل جنس نصفه. ابن القاسم: وتكون القيمة يوم عقد النكاح. فرع: قال في العتبية: وتعطى الإناث دون الذكور، وذلك شأن الناس. يريد: إذا لم يسم ذكراناً ولا إناثاً. وقوله: (ومِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا) راجع إلى قوله: (أَوْ صَدَاقِ مِثْلِهَا) أي: يكون عليه الوسط من صداق مثلها إذا تزوجها على صداق المثل. فائدة: قد علمت أن النكاح يجوز فيه من الغرر ما لا يجوز في البيع، والرهن أوسع من النكاح، فإنه يجوز رهن الآبق ونحوه إلى الجنين فلا يجوز عنه على المشهور، والهبة والخلع أوسع من الرهن لجواز الجنين وغيره فيهما، والله أعلم. وقوله: (حَالاً) راجع إلى الجميع؛ لأن الأصل في الصداق الحلول. فرعان: الأول: لو تزوج على عبد غير موصوف مثلاً فطلقها قبل البناء، فقال ابن المواز: على الزوج نصف قيمة عبد يوم زوجت. وقيل: يحضر الزوج عبداً وسطاً ويكون شركاً بينهما. الثاني: قال صاحب تهذيب الطالب وابن يونس وغيرهما: ذكر عن أبي عمران فيمن تزوج امرأة ببيت على أن يبنيه للمرأة: فإن كانت بقعة بعينها في ملكه ووصف الطول والعرض والبناء فذلك جائز، وإن كان البيت الذي يبنيه مضموناً عليه، فقد أفتى أبو محمد وغيره بعدم الجواز، قال: كما لو أسلم في بيت.

ابن يونس: لأن ذلك يرجع إلى السلم في الشيء المعين؛ لأنه يصف البناء والموضع فيؤدي ذلك إلى تعيينها وهو ظاهر الواضحة، وفي الموازية ما يدل على خلافه، قيل: والجواز ظاهر المدونة، خلاف ما أفتى به ابن أبي زيد من قوله: (وإن كان على بيت) وعطف عليه (شَوْرَةِ الْبَيْتِ) فَإِنْ اسْتَحَقَّ فَمِثْلُهُ أي: استحق الصداق في هذه الأمثلة الثلاثة، فيجب على الزوج مثله؛ لنه مضمون في الذمة. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا يَجُوزُ إِلا عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ. أي: كالبيع، فلا يجوز عنده الأمثلة الثلاثة وشبهها. أَمَّا لَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ غَائِباً فَلا بُدَّ مِنْ وَصْفِهِ يعني: أن ما قدمه من الجواز في العبد غير الموصوف على المشهور إنما هو إذا كان في الذمة وأما إن كان معيناً غائباً فلابد من وصفه لقوة الغرر حينئذ. وَأَمَّا الْبَعِيدُ جِدّاً كَخُرَاسَانَ مِنَ الأَنْدَلُسِ مُمْتَنِعُ بِخِلافِ الْمَدِينَةِ مِنْ مِصْرَ لما كان قوله: (أَمَّا لَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ غَائِباً فَلا بُدَّ مِنْ وَصْفِهِ) يوهم الجواز في الغائب مطلقاً، بين أن ذلك إنما هو في القريب، وأما البعيد جداً فلا يجوز، وما ذكره هو قول ابن القاسم في الموازية ففيها قال ابن القاسم: وأما إن تباعدت الغيبة كخراسان من الأندلس لم يجز، وأما مثل المدينة من مصر فجائز. محمد: وسواء في ذلك العبد أو الدار، وعن ابن القاسم أنه قال: يجوز في مسيرة الشهر، والضمان من الزوج حتى تقبضه المرأة.

ابن حبيب: والشهر قريب، ومثل إفريقية من المدينة بعيد، ويفسخ كان معه غيره أو لم يكن. وقال أصبغ: ما بين إفريقية والمدينة قريب، وحكى ابن مزين أن ما بين إفريقية ومصر قريب. وَفِي دُخُولِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ثَالِثُهَا: يَجُوزُ مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ كَالْبَيْعِ يعني: وإن أجزنا النكاح لقرب الغيبة، فهل يجوز الدخول قبل القبض؟ ثلاثة أقوال وهي مخصوصة بما إ ذا كانت الغيبة متوسطة، أما القريبة جداً فيجوز فيها اشتراط الدخول. ابن بشير: والمشهور عدم صحة اشتراط الدخول في المتوسطة. وقيل: تصح لأن النكاح مبني على المكارمة، والقول بجواز الدخول مطلقاً قبل القبض لابن حبيب، واستحب أن يقدم ربع دينار، والقول بالمنع مطلقاً حكاه في تهذيب الطالب عن ابن القاسم، فقال: قال ابن القاسم: وله أن يدخل إن كانت الغيبة قريبة، ولا يدخل بها في الغيبة البعيدة وإن قدم لها ربع دينار وإن سماه مع البعد؛ لأن النقد في هذا البعد لا يجوز، والدخول انتفاء. عبد الحق: وفيه نظر؛ وذلك أن النقد في بعيد الغيبة بغير شرط جائز فهلا كان الدخول مثله، ففهم أن ابن القاسم قال بالمنع مطلقاً. وفهمها ابن يونس كالقول الثالث من كلام المصنف، وأنه إنما منع إذا كان على شرط الدخول. ابن عبد السلام: ومنهم من حد الغيبة في هذا باليومين والثلاثة، ومنهم من يقول بالجمعة. وَإِذَا عَقَدَ بِخَمْرٍ وشِبْهِهِ فَمَشْهُورُهَا: يُفْسَخُ قَبْلَهُ ويَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ أي: فيه ثلاثة أقوال، والثلاثة لمالك، والمشهور مذهب المدونة. خليل: وهل الفسخ قبل الدخول إيجاب وهو قول المغاربة، أو استحباب وهو قول العراقيين؟ وفي المسالة رابع وسيحكيه المصنف بعد هذا، إن كان مع الفاسد ما يتمول مما قيمته ربع دينار فأكثر، فرضيت المرأة به أو رضي الزوج بإعطائها قيمة الآبق مثلاً على أنه غير آبق وتراضيا بما يجوز صح قبل البناء، وإن بنى بها فلها صداق المثل وهو قول أصبغ.

تنبيه: لم يقف ابن عبد السلام على أن القول بعدم الفسخ مطلق لمالك، وقد نقله عنه صاحب الأشراف، ووجهه أنه إذا لم يجز النكاح بذلك صار كنكاح التفويض، ونقله ابن الجلاب أيضاً وغيره. فرع: ولو دعي الزوج في هذا النكاح إلى البناء والنفقة فأنفق بناء على أنه صحيح، ثم عثر على الفساد ففسخ، فقيل: يرجع عليها، كمن اشترى من رجل داره على أن ينفق عليه حياته فإنه يفسخ البيع ويرجع عليه بما أنفق. وقال عبد الله بن الوليد: لا يرجع بها عليها؛ لأن الفسخ قبل البناء واجب؛ إذ أجازه جماعة من العلماء إذا عجل ربع دينار. وَتَرُدُّ مَا قَبَضَتْهُ مِنْ مُتَمَوَّلٍ أي: إذا فسخ فترد ما قبضته من متمول كالآبق والشارد. واحترز بمتمول من الخمر والخنزير وشبههما. وَتَضْمَنُهُ بَعْدَ قَبْضِهِ لا قَبْلَهُ كَالسِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلذَلِكَ لَوْ فَاتَ فِي بَدَنٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ نَحْوِهِ كَانَ لَهَا، وتَغْرَمُ الْقِيمَةَ. وقِيلَ: إِنْ كَانَ مَعَ الْفَاسِدِ مُتَمَوَّلُ بِرُبُعِ دِينَارِ فَرَضِيَتْ بِهِ أَوْ رَضِيَ هُوَ بِإِعْطَاءِ قِيمَةِ الآبِقِ وَنَحْوِهِ، أَوْ قَدِمَ فَرَضِيَ بِإِعْطَائِهِ لَمْ يُفْسَخْ .. أي: وتضمن المتمول بالقبض في النكاح الفاسد كما تضمنه في البيع الفاسد بالقبض، وما ذكره من ضمان الزوجة بالقبض هو قول ابن القاسم وهو المشهور. وحكى ابن حبيب عن أصحاب ابن القاسم أنهم خالفوه هنا وقالوا: لا ضمان عليها؛ لأنها لو قبضت عبداً في نكاح صحيح فطلقها قبل البناء وقد مات فلا يرجع عليها بشيء. ونحوه لابن المواز، فإنه قال: إذا أصدقها المريض جارية ودفعها إليها فماتت الجارية بيدها لا تتبع بشيء. وفرق بعض القرويين بين أن يكون النكاح فاسداً لعقده فيكون كالصحيح، وبين أن يفسد لصداقه فتضمنه بالقبض.

وقوله: (فَلذَلِكَ ... إلخ) أي: ولأجل أنه ملحق بالبيع الفاسد لزم إذا فات بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة سوق أو غيرها أن يبقى ذلك الذي قبضته من آبق أو شارد ملكاً لها، وتعطي قيمته يوم قبضته كما في البيع الفاسد. وقوله: (وقِيلَ: إِنْ كَانَ مَعَ الْفَاسِدِ ... إلخ) تقدم. وَلَوْ عَقَدَ بِمَغْصُوبِ فَكَذَلِكَ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يُفْسَخُ ولَوْ تَعَمَّدَهُ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا مَعِيباً فَرَدَّتْهُ .. ظاهره أن الإشارة بذلك إلى الخلاف المتقدم، وتصوره ظاهر، ولم أر نقلاً يساعده، وها أنا أذكر ما رأيته في العتبية: قال سحنون: إن كانت الزوجة لم تعلم أن العبد مغصوب أو حر فالنكاح ثابت، وإن علمت ذلك فسخ قبل البناء لا بعده. أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يتزوج بالحر أو بالعبد لغيره: لا يفسخ على كل حال دخل أو لم يدخل، تعمد ذلك أو لم يتعمده. أصبغ: وكذلك لو علمت هي بحرية العبد ولم يعلم الزوج مثله. قال: ولو علما جميعاً أنه حر وعليه نكحها فسخ قبل الدخول وثبت بعده. انتهى. قال في البيان: وقال سحنون: إن كانت عالمة بغصبه أو بحريته فسخ النكاح. يريد: والزوج عالم أيضاً، وأما لو علم أحدهما بذلك دون صاحبه لم يفسخ النكاح على مذهبه، فليس قوله بخلاف لابن القاسم ونقل ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون وابن كنانة: إن علم أحدهما بحرية العبد يفسد النكاح ويوجب فسخه قبل الدخول وصداق المثل بعده. انتهى. وعلى هذا اتفق ابن القاسم وسحنون على أن الزوجين إذا علما أنه يفسخ قبل البناء، واتفقا أيضاً على أن علم أحد الزوجين دون الآخر لا يفسخ به النكاح على ما فسر به

أصبغ قول ابن القاسم، وما فسر به صاحب البيان قول سحنون، وخالفهما في ذلك ابن الماجشون وابن كنانة ورأيا أن علم أحدهما موجب للفسخ كعلمهما، وما ذكرناه عن ابن القاسم في العتبية هو الذي ذكره المصنف عنه. وقال ابن بشير: إن علمت الزوجة بالغصب فقالوا: النكاح فاسد، وهو يجري على القولين فيمن اشترى من غاصب وهو يعلم بالغصب، وإن لم يعلم بالغصب ففيه قولان مخرجان أيضاً، والمنصوص في النكاح الجواز وهو المشهور في البيع، فجعل المعتبر على الزوجة فقط، وفيه نظر لما ذكرناه. وَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ، وقِيلَ: مِثْلُهُ فِيهِمَا. وقِيلَ: صَدَاقُ الْمِثلِ يعني: إذا استحق الصداق المغصوب. وأما غير المغصوب فسيأتي الكلام عليه، وإنما قلنا: إن النكاح لا يفسخ؛ لأنها ترجع عليه بالقيمة في المقوم وبالمثل في المثلي، وهذا هو المشهور. قاله صاحب البيان وغيره. وقال ابن كنانة في كتاب المدنيين: في العبد إذا استحق ترجع بمثله. ونحوه في كتاب ابن شعبان، وإليه أشار بقوله: (وقِيلَ: مِثْلُهُ فِيهِمَا)؛ أي: في المقوم والمثلي. وقيل: ترجع بصداق [322/ أ] المثل مطلقاً. وهو قول مالك في العتبية، قال في البيان: وهو الصحيح؛ لأن العبد عوض البضع، فإذا استحق العبد وجب أن ترجع بقيمة بضعها لفواته بالعقد، وكان العقد في النكاح فوتاً وإن لم يدخل فيه لما يوجب من الحرمة. وقد قيل: إنه ليس بفوت، ويفسخ النكاح إذا كان الصداق عرضاً بعينه واستحق قبل الدخول، وهو قول يحيى في العشرة. انتهى. وعلى هذا ففي المسألة أربعة أقوال، وحكى في البيان في موضع آخر خامساً لسحنون والمغيرة بالفرق، فإن استحق العبد بالحرية فصداق المثل وفرق فقيمته، وذكر ابن حارث عن سحنون: إن غرها بالعبد وكان حراً في أصله أنه يفسخ النكاح قبل الدخول، قال: ومن أصحابنا من يفسخه بعد الدخول. وقال اللخمي: لو قيل: يرجع بالأقل من قيمته وصداق المثل، لكان وجهاً، إلا أن يعلم أنها تزوجت بعين لم ترض إلا بما يكون قيمته العبد.

وَإِذَا وَجَدَتْهُ مَعِيباً أَوْ مُسْتَحَقاً رَجَعَ بِقِيمَتِهِ أَوْ مِثْلِهِ فِي الْمِثْلِى أي: مستحقاً في غير الغصب. وهذا الكلام مما يبين لك أن المراد بالاستحقاق في المسألة السابقة الاستحقاق في الغصب، لكن حكايته في الأولى الخلاف دون هذه يوهم اختصاص الأولى بالخلاف، وليس كذلك، بل الخلاف فيهما واحد. وكذلك أيضاً الخلاف حاصل في المعيب، صرح به ابن بشير وغيره. فَإِنْ فَاتَ الْمَعِيبُ فَكَالْبَيْعِ كَالزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ يعني: إن فات المعيب في يد الزوجة رجعت بقيمة العيب كما إذا اطلع المشتري على عيب بعد الفوات، وكما لو اطلع الزوج في الخلع على عيب بعد الفوات فإنه يرجع عليها بقيمة العيب. وهذا من المواضع التي شبه المصنف فيها لإفادة الحكم، ولم يتقدم له حكم البيع والخلع. قال في المدونة: وإن حدث به عندها عيب مفسد فلها رده، وما نقصه أو حبسه وأخذ الأرش القديم، وكذلك الزوج في الخلع. فرع: وإن تزوجها بقلل من خل فوجدتها خمراً، ففي المدونة: هي كمن تزوجت على مهر فأصابت به عيباً فلها رده، وترجع بمثله، يريد: إما بمثلها بعد تطهيرها إن طهرت، أو بمعرفة ما تحمل من ماء إن لم تطهر، ثم يكال ذلك الماء، ويرفع من الخل قدره، ثم تكسر القلال لأنها لمسلم. ونقل أبو عمران عن سحنون أنه نحا في هذا إلى ما ذكره ابن المواز أنهما إذا دخلا على الجزاف في الصبرة ثم علما بعد ذلك كيلها، ثم استحقا ما في يد البائع، أنه يرجع بقيمة صبرته لا بمثلها ولو عرف كيلها. أبو عمران: والأول أصوب. ونقل اللخمي عن سحنون في هذا وفيما إذا تزوجت بعبد فوجدته حراً أن النكاح يفسخ.

اللخمي: ولو تزوجت بالقلل على أن فيها خمراً فوجدته خلاً ثبت النكاح إن أحبا؛ كالمتزوجة وهي ترى أنها في عدة ثم تبين أنها في غير عدة، وقد اختلف فيها، وإن كرهه أحدهما فسخ النكاح في مسألة القلل؛ لأنه إن رضي الزوج دونها فمن حجة الزوجة أن تقول: إنما لم أشتر خلا، وإنما رضيت الزوجة دونه، فمن حجة الزوج أن يقول: أنا لم أبعك خلا. وهي في هذه الوجوه تفارق المعتدة؛ لأن المعتدة هي العين المشتراة، وإنما كان يظن أنه كان يتعلق بالمنع حق لله وقد تبث خلافه. وَأَمَّا مَا اسْتَحَقَّ بَعْضُهُ مِنَ الْعُرُوضِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ خُيِّرَتْ بَيْنَ الرَّدِّ وقِيمَةِ الْجَمِيعِ وبَيْنَ قِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ وإِلا فَقِيمَةُ الْمُسْتَحَقِّ، والْجُزْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الرَّقِيقِ كَالْكَثِيرِ ومَا يُسْتَحَقُّ مِنْ جَمَاعَةِ ثِيَابٍ أوْ رَقِيقٍ بِعَيْنِهَا فَكَالْبَيْعِ .. حاصله: أن لاستحقاق البعض صورتين: الأولى: أن يستحق جزء شائع. انتهى كلامه عليها عند عند قوله: (كَالْكَثِيرِ). والثانية: أن يستحق جزء معين. ثم الصورة الأولى إما أن يكون الصداق عرضاً أو رقيقاً، ومراده بالعرض العقار وسائر العروض، وإن كان عرضاً وكان أكثر من الثلث خيرت بين رد الباقي وأخذ جميع القيمة، وبين التمسك وأخذ قيمة المستحق، وإن كان الثلث فأقل فليس لها إلا قيمة المستحق. ولم يفصل في القليل بين أن يكون فيه ضرر أم لا، وقد نص في المدونة على الرد فيما فيه ضرر. عياض وغيره: ولو كان العشر. كما لو استحق العشر من دار ذات مساكين والذي اشتراها لا يمكن أن يسكن معه أحد لكثرة حشمه، فله أن يردها، وإنما يتم ما ذكره المصنف في مثل الفنادق. وهكذا فسر سحنون المسألة.

نكاح الشغار

قوله: (والْجُزْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الرَّقِيقِ كَالْكَثِيرِ)؛ أي: فيوجب الخيار. ابن يونس: لضرر الشركة في العبد من منع السفر به ومن الوطء في الأمة. خليل: وينبغي أن يشارك الرقيق في هذه المسالة سائر الحيوان، وهو الذي يؤخذ من كلامه. وقوله: (ومَا يُسْتَحَقُّ مِنْ جَمَاعَةِ ثِيَابٍ .. إلخ)، هذه هي الصورة الثانية، وما ذكره من أن حكم هذه الصورة كالبيع نحوه في المدونة، وهو مقيد بما إذا استحق منها شيء معين قليل، وأما إن كان كثيراً مما يضر به في صفقته ويوجب له ترك جميع الصفقة فيفترق النكاح من البيع، ففي البيع لا يجوز له التملك بما بقي؛ لأن حصته مجهولة، وفي النكاح يجوز له؛ لأنه في البعض. وفي الجميع إنما يرجع بقيمة ما استحق، هكذا قال ابن يونس وغيره، وهو [322/ ب] ظاهر؛ لأن الصداق لو استحق جميعه لم يفسخ النكاح، فأحرى في استحقاق البعض. فرع: وهل للزوجة إذا استحق الصداق من يدها منع الزوج من وطئها؟ أما إن استحق قبل البناء، فلا شك أن لها ذلك، وإن كان بعده، فقال مالك في العتبية: يحال بينهما. قال في البيان: وهو أظهر الأقوال. وقال ابن القاسم في الموازية: لا يحال بينهما. وقال أصبغ: يمنع حتى يعطيها ربع دينار. وقيل بالفرق بين أن يغرها فيمنع أم لا فلا يمنع. هكذا قال جماعة، ورأى صاحب البيان الخلاف إنما هو إذا لم يغرها، وأما إذا غرها فلها منعه اتفاقاً. وَنِكَاحُ الشِّغَارِ: يُفْسَخُ أَبَداً عَلَى الأَصَحِّ وإِنْ وَلَدَتْ أَوْلاداً، وهُوَ مِثْلُ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي، ولا مَهْرَ بَيْنَنَا .. أصله في اللغة الرفع، من قولهم: شغر الكلب رجله إذا رفعها للبول. ثم استعملوه فيما يشبهه، فقالوا: أشغر الرجل المرأة، إذا فعل بها ذلك للجماع. ثم استعملوه في النكاح

بغير مهر إذا كان وطئاً بوطء وفعلاً بفعل، فكان الرجل يقول للآخر: شاغرني؛ أي: أنكحني وليتك وأنكحك وليتي، بغير مهر. قال في المقدمات: وقيل: إنما سمي نكاح الشغار لخلوه عن الصداق. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام النهي عنه، وجاء في الحديث مفسراً بما ذكر المصنف، وهل التفسير من كلامه عليه الصلاة والسلام أو من كلام الراوي وهو نافع؛ لأنه رواه عن ابن عمر؟ قولان. ثم إن أصحابنا قسموه إلى قسمين: صريح الشغار، وهو ما ذكرنا، ووجه الشغار وهو أن يكون مع ذلك تسمية مهر. وما صححه من الفسخ أبداً ولو ولدت الأولاد هو المشهور، ومقابل الأصح رواه علي بن زياد أنه يفسخ قبل البناء لا بعده. وخرج السيوري وابن شبلون من قوله في المدونة: (فيه الميراث ويفسخ بطلاق) قولاً ثالثاً وهو إمضاؤه بالعقد. وخرجه أيضاً غيرهما على أحد قوليه فيما اختلف الناس فيه أنه يمضي ولا يرد وإن نزلوه كحكم حاكم. واختلف الشيوخ في علة فسخه بعد البناء، فقال أبو عمران: النهي عنه. والنهي يدل على الفساد، وقيل: لفساده في عقده لكون كل بضع صداقاً للأخرى، فهو للزوج غير تام الملك لمشاركة المرأة الأخرى له فيه، فكان كمن زوج وليته رجلين أو تزوج نصف امرأة، أو عند بيع في سلعة بين رجلين على أن لكل واحد منهما جميع السلعة. ونحا القاضي إسماعيل والباجي إلى أن علته عروه عن الصداق وشرطهما ذلك. وقال القابسي: إنما اختلف قول مالك في فسخه لاختلاف الناس في معنى الشغار؛ لأن المتفق عليه من لفظ الحديث قوله: "نهى عن الشغار" وبأن الحديث من تفسير نافع. ابن عبد السلام: وكونه من تفسير نافع هو الصحيح. الباجي: والظاهر أنه من جملة الحديث حتى يدل دليل على خلافه. ولا يظهر لقول القابسي كبير معنى، وكذلك لا يظهر للذي قبله؛ لأنه لو كان لعروه عن الصداق وشرطهما ذلك لصح بعد البناء.

فَإِنْ سَمَّى شَيْئاً فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا فُسِخَ مَا سُمِّيَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وفُسِخَ الآخَرُ أَبَداً يعني: فإن سميا لكل واحدة من المرأتين، فإن قال: زوجني ابنتك بمائة على أن أزوجك ابنتي بمائة، وهو المراد بقوله: (سَمَّى ... فِيهِمَا) أي في المرأتين، ويحتمل في النكاحين، وهذا هو وجه الشغار. وقوله: (أَوْ فِي أَحَدِهِمَا) أي: أو سميا في أحدهما، فسخ ما سميا فيه قبل البناء، وفسخ الآخر الذي لم يسم فيه في صورة ما إذا سمي لإحداهما دون الأخرى أبداً؛ لأنه من صريح الشغار. وقال ابن أبي حازم: كما يفسخ نكاح المسمى لها قبل البناء. وظاهر ما حكاه المتيطي عنه عند جواز الإقدام عليه؛ لأنه قال: وقال ابن أبي حازم في المدونة: لا بأس به. قال في البيان: ولم يختلف قول مالك في المسمى لها؛ لأنه لا يفسخ بعد البناء. وأجرى غيره قولاً بالفسخ بعد البناء من الصداق الفاسد، وهو ظاهر. قال جماعة: ولا شك أنه صداق فاسد فيجري عليه. فانظر هذا. وَصَدَاقُ المِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِمَا مَا لَمْ يَنْقُصْ عَمَّا سُمِّيَ لَهَا، كَمَنْ نَكَحَ بِمائَةِ دِينَارٍ وخَمْرٍ .. قد علمت أن صور هذه المسألة ثلاث: الأولى: أن لا يسمي فيهما. والثانية: أن يسمي فيهما. والثالثة: أن يسمي في إحداهما دون الأخرى. ولا خلاف في الصورة الأولى أنه إن حصل الدخول يكون لكل واحدة صداق مثلها بالغاً ما بلغ. وأما الصورة الثانية: أعني: إذا سمى لكل واحدة منهما- فقال ابن عبد السلام: المشهور أن لكل واحدة الأكثر من صداق المثل أو المسمى، وقيل: صداق المثل

مطلقاً. ولابن لبابة: إن دخل بهما فلكل واحدة الأكثر، وإن دخل بواحدة فصداق المثل مطلقاً. انتهى. وتؤول على المدونة القولان الأولان، ومقتضى كلام ابن عبد السلام أن المشهور فيما إذا سمى لهما أن يكون لكل واحدة الأكثر، وإن لم يدخل إلا بواحدة لجعله الثالث تفصيلاً، وكلامه في التنبيهات يدل على أن ظاهر المذهب فيما إذا لم يدخل إلا بواحدة أن يكون للمدخول بها صداق المثل مطلقاً؛ لأنه نقل عن ابن القاسم أنه فسر المسألة كذلك في رواية يحيى بن يحيى، قال: وقال عيسى بن دينار في المبسوط خلافه [323/ أ] وأن لها الأكثر كما لو لم يدخل بها. وأما الصورة الثالثة: أعني: إذا سمى لإحداهما فقط- فإن دخل بالتي لم يسم لها فلها صداق المثل، وإن دخل بالتي سمى لها فتأول ابن أبي زيد على المدونة أن لها الأكثر، وتأولها ابن لبابة على أن لها صداق المثل مطلقاً، نقله ابن عبد السلام، وقال: والضمير في قوله: (فِيهِمَا) يحتمل عوده على نكاح المرأتين المسمى لهما، وهي الصورة الثانية وهو ظاهر التشبيه في قوله: (كَمَنْ نَكَحَ بِمائَةِ دِينَارٍ وخَمْرٍ) أي: فكما إذا تزوجها بمائة وخمر يكون لها الأكثر من صداق المثل والمائة كذلك يكون هنا، وشبهها أيضاً في المدونة بما إذا تزوجها بمائة نقداً، وبمائة إلى موت أو فراق، ويحتمل أن يعود على الصورتين الأخيرتين؛ أعني: إذا سمى لهما أو لإحداهما، ويكون قوله: (مَا لَمْ يَنْقُصْ عَمَّا سُمِّيَ لَهُمَا) أي حيث سمى، ويكون كلام المصنف على هذا دالاً على الحكم في التي سمى لها والتي لم يسم لها بالمطابقة، وعلى الاحتمال الأول يكون دالاً على التي لم يسم لها بالالتزام، والله أعلم. فرعان: الأول: الشغار في الأختين والأمتين كالبنتين، وقد صرح بذلك في أصل المدونة، ولعل المصنف اقتصر على البنتين تبعاً للحديث، وبذكر الأختين يعلم أن الشغار لا

يختص بالوليتين المحجورتين، قال في تهذيب الطالب: وذهب بعضهم إلى أن الشغار إنما يكون في من تجبر على النكاح، وهو غلط. الثاني: قال أبو عمران في رجلين عقد كل منهما نكاح أخته من صاحبه في مجلس واحد: هو جائز إذا لم يفهم أنه إن لم يزوج أحدهما صاحبه لم يزوجه الآخر. ومثله لابن لبابه قال: وإن قال: زوجني وأزوجك، وعقدا على ذلك وسميا صداقاً جاز. قال: والذي يشبه الشغار: زوجني على أن أزوجك، أو إن زوجتني زوجتك. وَفِي كَوْنِهِ مَنَافِعَ كَخِدْمَتِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، أَوْ تَعْلِيمِهِ قرآناً مَنَعَهُ مَالِكُ وكَرِهَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وأَجَازَهُ أَصْبَغُ، وإِنْ وَقَعَ مَضَى عَلَى الْمَشْهُورِ، وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضاً: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمَنَافِعِ شَيْءُ فُسِخَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، ووَجَبَ صَدَاقُ مِثْلِهَا بَعْدَهُ، وإِنْ كَانَ خَدَمَ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا تبع في نسبة هذه الأقوال ابن شاس، ونسب اللخمي لمالك الكراهة، والمنع لابن قاسم، ونسب في البيان لأصبغ الكراهة، والظاهر أن لكل واحد قولين، ويؤخذ من كلام المصنف القولان لابن القاسم؛ لأنه حكى عنه الكراهة، ثم حكى عنه الفسخ إذا لم يكن مع المنافع شيء، والفسخ إنما يتصور مع المنع، واستدل اللخمي للجواز بقضية موسى مع شعيب عليهما السلام التي ذكرها الله تعالى في كتابه: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) الآية [القصص: 27] وقد استدل بها مالك رحمه الله في العتبية على جبر الأبابنته البكر على النكاح من غير استئمار. اللخمي بعد نسبته المنع لابن القاسم، وقال- يعني ابن القاسم-: ما ذكره الله عز وجل في نكاح موسى عليه السلام، فإن الإسلام على غيره. انتهى. وهذا مبني على مسألة أصولية؛ وهي: أن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ واستدل أيضاً للجواز بما رواه مالك وغيره أنه عليه الصلاة والسلام زوج امرأة لرجل بأن يعلمها ما معه من القرآن.

قوله: (وإِنْ وَقَعَ مَضَى عَلَى الْمَشْهُورِ) هذا تفريع على ما نسبه لمالك من المنع، وأما على الكراهة والجواز فلا يختلف في الإمضاء، وإنما مضى على المشهور لما فيه منا لخلاف وما شهره المصنف، قال في الجواهر: هو قول أكثر الأصحاب، ورواه أصبغ عن ابن القاسم، وروى عنه يحيى: إذا لم يكن مع المنافع صداق فسخ قبل البناء وثبت بعده، ويكون لها صداق مثلها وتسقط الخدمة، فإن كان خدم رجع عليها بقيمة الخدمة، وعلى هذا فقوله: (وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ) هو مقابل للمشهور، وكذلك قال. وقول ابن عبد السلام: أن الإمضاء دليل على أن المشهور في حكم ابتداء الكراهة ليس بظاهر؛ لجواز أن يكون الحكم ابتداء المنع، وكم من مسألة الحكم فيها ابتداء المنع وإذا وقعت صحت، وهذا هو الظاهر من كلام المصنف؛ لأنه إنما نسب المنع لمالك فكيف يكون المشهور خلاف قوله؟ ولم يذكر المصنف تمام قول ابن القاسم، وهو: (إذا كان مع المنافع شيء)، إلا أن يقال: استغنى عن ذلك بالمفهوم، وهو أنه إذا كان معه ربع دينار جاز النكاح، لكن قال في البيان: تفرقة ابن القاسم فيه بين أن يكون معها شيء أم لا، على وجهين: أحدهما: إن كان معه نقد جاز ولم يفسخ، وإن لم يكن معه نقد فسخ قبل البناء وثبت بعده، وكان فيه صداق المثل. والثاني: إن لم يكن معه نقد فسخ قبل الدخول ومضى بعده وكان فيه صداق المثل، وإن كان معه نقد فسخ قبل الدخول ومضى بعده بالمسمى من النقد. وَعَنْهُ فِي احْجَاجِهَا كَذَلِكَ، وأَنْكَرَهُ الْعُلَمَاءُ لأَنَّ فِيهِ نَفَقَةً وكِرَاءً فَهُوَ كَصَدَاقِ مِثْلِهَا .. الضمير في (وَعَنْهُ) عائد على ابن القاسم، قال في الجواهر: وروى عنه يحيى أيضاً في نكاحها على إحجاجها أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده، ويجب صداق المثل إلا أن يكون مع الحجة غيرها فيجوز.

ابن حبيب: وليس يعجبني ولا رأيت أصبغ ولا غيره من أصحاب [323/ ب] مالك يعجبهم، ورأيتهم مراراً يرونه جائزاً؛ لأن ذلك يرجع إلى حجة مثلها في النفقة والكراء والمصلحة، مثل نكاح المرأة على شورة مثلها وعلى صداق مثلها فيجوز ويكون لها الوسط. انتهى. والظاهر أن نفقة الحج لا تنضبط غالباً لاختلاف الأزمان والأحوال فكان ذلك غرراً، وحكى اللخمي في إحجاجها الثلاثة السابقة في المنافع. ابن القاسم في الرواية السابقة: وإذا بنى بها وكان مع الحجة مسام كان لها المسمى وقيمة ما ينفق على مثلها من الكراء والنفقة والكسوة وما يتكلف لمثلها في حجها، قال: وقد قال مالك في التي يكون صداقها شيئاً معلوماً والحج فتموت قبل أن يحج بها بعد البناء: أنه يعطي ورثتها ما كان ينفق على مثلها في حجها، قال: وأنا لا أرى إلا أن يحمل لهم مثلها إلا أن يتراضى الزوج والورثة على أمر يجوز بينهم إن كان الكراء لازماً للزوجين، وقاعدة المذهب أن الكراء لا ينفسخ بموت أحد المستأجرين فليس على الزوج إلا الحملان، ولما ذكرناه من الفروع، ولو قالت المرأة ابتداء: أنا لا أحج فأعطني ما كنت تنفقه علي، لم يكن لها ذلك، وكذلك لو أراد أن يعطيها نفقة مثلها ويبرأ من حملها لم يكن له ذلك. وقول ابن القاسم مبني على المنع دون النكاح بالإجارة، لأن حكمه بالفسخ إذا لم يكن مع الحج شيء إنما يحسن على ذلك ولا يحسن على الكراهة، وزعم ابن عبد السلام أن الإنكار إنما يحسن على القول بالكراهة، وأما على المنع فلا، وفيه نظر لما ذكرنا. فرعان: الأول: اختلف في بنائها قبل أن يحجها، فمنعه ابن القاسم إلا أن يقدم ربع دينار، وقال أشهب: له أن يبني بها ويجبرها على البناء، لأنه قال: ذلك بمنزلة من تزوج بمائة دينار إلى سنة فله أن يبني بها، يريد: ويجبرها على البناء، وإذا أتى أوان الحج حج بها إلا أن يأتي أوان الحج قبل البناء فلا يكون له البناء حتى يحجها.

الثاني: قال في البيان: لا خلاف في منع النكاح بالجعل؛ لأن الجعل لا يلزم المجهول له، وله أن يتركه متى شاء، فالنكاح به نكاح فيه خيار. وَكَرِهَ مَالِكُ الْمُؤَجَّلَ وقَالَ: إِنَّمَا الصَّدَاقُ فِيمَا مَضَى نَاجِزُ كُلُّهُ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءُ مِنْهُ مُؤَخَّراً فَلا أُحِبُّ طُولَهُ. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُفْسَخُ إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَرْبَعِينَ، ثُمَّ قَالَ: خَمْسِينَ وسِتِّينَ .. ظاهر كلام مالك كراهة الأجل مطلقاً، وقد صرح في المدونة بكراهة الأجل في بعض الصداق ولو إلى سنة، ووجهه ما ذكره من مخالفة أنكحة الماضين، وأيضاً فلئلا يتذرع الناس إلى النكاح بغير صداق، ويظهرون أن هنالك صداقاً ثم تسقطه المرأة، وأخذه الباجي من حديث: "زوجتكها بما معك من القرآن" بعد أن سأله: "هل تجد شيئاً"، وبالغ معه في ذلك حتى قال له: "التمس ولو خاتماً من حديد"، فقال: هذا يقتضي أن حكم الصداق التعجيل، وإلا كان زوجها له بشيء مؤخر، وعن أشهب جواز الأجل فيه إلى اثني عشر عاماً وكذلك زوج ابنته، وعن ابن القاسم إجازة الأربعة، وابن وهب الخمسة، وأصبغ العشرين، ابن عبد السلام: وقيل بجواز العام وكراهة ما فوقه. ابن عبد السلام: ولا خلاف أنه لا يفسخ في العشرين. خليل: وفيه نظر فقد حكى ابن حارث وغيره عن ابن وهب أنه قال: يفسخ النكاح إذا جاوز العشرة، وقاله ابن القاسم ثم رجع إلى ما نقله المصنف عنه. اللخمي: ولو زاد على الستين فسخ على كل حال. ابن عبد السلام: وحكي عن ابن القاسم أيضاً: لا يفسخ إلا إلى السبعين والثمانين.

وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ أَوْ بَعْضُهُ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ مَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ وشِبْهِهِ فَفَاسِدُ، وقَالَ أَصْبَغُ: إِلا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى الْمُعَجَّلِ، أَوْ يُعَجَّلُ الْمُؤَجَّلُ قوله: (أَوْ بَعْضُهُ) يعني: لا فرق بين جميع الصداق أو بعضه، والفساد هو مذهب المدونة والمشهور، ووجهه بين للضرر. قال شيخنا: ويقوم منها منع من يشتري سلعة إلى الميسرة، كقول بعض الفقراء: إلى أن يفتحا لله في الثمن، وهذا إذا صرح بذلك ابتداء، وأما إن اشتراها ولم يذكر ذلك ابتداء فهو جائز، وهو محمول على الحلول، وقول أصبغ بين التصور. فَإِنْ بَنَى فَقَالَ مَالِكُ: لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا مُعَجَّلُ كُلُّهُ وإِنْ زَادَ عَلَيْهِمَا ولا يَنْقُصُ عَنِ الْمُعَجَّلِ. وَعَنْهُ: قِيمَةُ الْمُؤَجَّلِ. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَمَا لا يَنْقُصُ عَنِ الْمُعَجَّلِ لا يُزَادُ عَلَيْهِمَا .. مثاله: لو تزوجها بمائة معجلة وبمائة إلى موت أو فراق، فإن اطلع على ذلك قبل البناء فسخ ولم يكن لها شيء، وإن بنى فقال مالك: إنما لها صداق مثلها؛ لأنه صداق فاسد، وإنما جعله معجلاً؛ لأن الأصل في الصداق التعجيل، والضمير في عليها عائد على المعمجل والمؤجل، فلو كان صداق مثلها في المثال المفروض ثلاثمائة أخذتها، فلو كان مائة وخمسين أخذتها، فإن نقص عن المائة لم تنقص منها؛ لأن من حجة الزوجة أن تقول له: أنت رضيت بها مع مائة أخرى، فلأن ترضى بها مفردة من باب الأولى. (وَعَنْهُ) أي: وعن مالك أنه يلزمه قيمة المائة المؤجلة إلى الأجل المجهول، فتكون تلك القيمة مع المعجل صداقها، وهذا القول إنما ذكره في المدونة في جميع الصداق المؤجل بأجل مجهول، لكن لا فرق، وحكى اللخمي قولاً آخر أنه ينظر إلى قيمتها من المائة المعمجلة، فإن كانت ثلثها أخذت المائة المعجلة وثلث صداق المثل.

وقوله: (وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَمَا لا يَنْقُصُ عَنِ الْمُعَجَّلِ لا يُزَادُ عَلَيْهِمَا) أي عن المعجل والمؤجل، ووجهه ظاهر؛ لأنه إذا زاد عليهما فمن حجة الزوج أن يقول: أنت رضيت بمائة معجلة ومائة إلى موت أو فراق، فلا ترضي بهما معجلتين من باب الأولى. وحكى في البيان قولاً آخر: أن لها صداق المثل وإن كان أقل من مائة أو أكثر من مائتين، قال: وهو ظاهر قول أصبغ وأبي زيد. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا تَاجِيلُ مَعْلُومُ قَدْرَ صَدَاقِ الْمِثْلِ بِهِ ثُمَّ يَاتِي الْقَوْلانِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْجَمِيعِ .. كما لو تزوجها بثلاثمائة معجلة ومائة إلى سنة ومائة إلى موت أو فراق. وقوله: (قَدْرَ صَدَاقِ الْمِثْلِ بِهِ) أي بالمؤجل إلى الأجل المعلوم، وكذا فسر المسألة أبو سعيد ابن أخي هشام، فلا ينقص صداق مثلها عن المائة المعجلة والمائة المؤجلة إلى سنة إن نقص عنهما، ويختلف إذا زاد على الثلاثمائة، فعلى قول مالك يكون لها الزائد، وبه قال مطرف وابن الماجشون، وعلى قول ابن القاسم يسقط وبه قال محمد، وهو معنى قوله: (ثُمَّ يَاتِي الْقَوْلانِ) أي: قولي مالك وابن القاسم في الزيادة على الجميع على الثلاثمائة، أما إن زاد صداقها على المائة المعجلة والمائة المؤجلة إلى سنة فلها الزائد حالاً مع المائة الحالة وتبقى المائة إلى أجلها. وَقَوْلُ مَالِكٍ: يَجُوزُ إِلَى الدُّخُولِ لأَنَّهُ مَعْلُومُ عِنْدَهُمْ هذا جواب سؤال مقدر، فإنه لما قدم أن الأجل المجهول لا يجوز، وكان ظاهر قول مالك هذا يخالفه أجاب عنه أن مالكاً إنما أجازه؛ لأنه رآه إلى أجل معين لأن الدخول معلوم عندهم، وقد نص مالك على هذا الجواب في رواية يحيى وهو الظاهر هنا، لا ما أجاب به ابن المواز من أن ذلك يرجع إلى الحال؛ لأن الدخول بيد المرأة متى شاءت لأن

ذلك جواب عن مالك بما نص مالك على خلافه، من أن كلاً من الزوجين إذا دعا الآخر إلى الدخول بإثر العقد وأبى الآخر أنه يحكم لمن طلب التأخير ويؤخر القدر الذي يقوله أهل العرف بما لا مضرة فيه على واحد منهما، نعم وقع في الرواية في الحالف بطلاق زوجته: ليدخلن ليلة كذا بها، والليلة تأتي قبل الأجل الذي قدره أهل العرف، أنه يقضي له ولا يحنث ارتكاباً لأخف الضررين. وفي سماع عيسى أن الدخول مجهول، فلا يكون أجلاً للكافي. وقاله أبو زيد وأصبغ، ويفسخ النكاح عندهما قبل البناء وهو خلاف قول مالك. وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ إِلَى أَنْ تَطْلُبَهُ أَوْ إِلَى مَيْسَرَتِهِ إِذَا كَانَ مَلِياً لأَنَّهُ رَأَىهُ حَالاً، وخُولِفَ هو أيضاً جواب عن سؤال مقدم وتصوره ظاهر، والذي خالفه ابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب ورأوا أنه لا فرق بين المؤجل المؤخر إلى موت أو فراق، وبين المؤخر إلى أن تطلبه الزوجة أو إلى اليسار، ويعكر على الجواب الذي ذكره المصنف عن ابن القاسم ما نص عليه ابن القاسم في العتبية من أنه يؤخر بقدر ما يرى من التوسعة عليه. وقوله: (إِلَى مَيْسَرَتِهِ) يريد: وهو موسر وهو معنى قوله: (إِذَا كَانَ مَلِياً) وكذلك صرح به ابن القاسم في العتبية، قال: وإن كان يومئذ معدما فسخ ما لم يبن فيثبت بصداق المثل. ابن عبد السلام: ولا خلاف في ذلك. وَمَتَى أُطْلِقَ فَمُعَجَّلُ لأن الأصل التعجيل. فرع: واختلف إذا لم يؤرخ أجل الكلام فقال المتيطي: المشهور من مذهب مالك وأصحابه وعليه العمل والحكم أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل، وقال ابن وهب: لا يفسخ قبل البناء، ويعجل المؤخر إلى موت أو فراق وهو قول الليث. وقال أصبغ: يخير الزوج فإن عجله أو رضيت الزوجة بإسقاطه صح النكاح وإلا فسخ، ويجوز

في الأجل أن يقدر بما يؤجله الناس، سئل ابن زرب عمن نكح بنقد معلوم وكالأ إلى ما يكفي الناس، فقال: لا يجوز؛ لأن الناس يختلفون في التأجيل، وذكر ابن الهندي عن بعض معاصريه أنه لا يفسخ قبل البناء ويجعل أجله على ما مضى عليه الناس في الكالئ، فإن اختلف الأجل ضرب له أجل وسط. وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْداً يُسَاوِي أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ تَرُدَّ لَهُ أَلْفاً فَبَعْضُ الْعَبْدِ مَبِيعُ، وبَعْضُهُ صَدَاقُ مَنَعَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَأَجَازَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِذَا تَحَقَّقَ بَقَاءُ رُبُعِ دِينَارٍ، وأَجَازَهُ أَشْهَب مُطْلَقاً كَالسِّلْعَتَيْنِ، وقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ فَضَلَ فَضْلُ .. المنع مذهب المدونة كما ذكر وهو المشهور، وعليه فيفسخ قبل البناء وإن دخل كان لها صداق المثل. ابن القاسم في العتبية: وترد السلعة إلا أن تفوت بحوالة سوق فأغلى مما يفوت به البيع الفاسد فيلزمها قيمتها يوم قبضها. وقوله: (وَأَجَازَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِذَا تَحَقَّقَ بَقَاءُ رُبُعِ دِينَارِها) كذا حكى عنه اللخمي وعياض، وحكى عنه أيضاً في النكاح الثالث من البيان قولاً آخر: أنه لا يكتفي بفضل ربع دينار بل الفضل الكثير، وهذا هو الذي حكاه المصنف في كلامه آخرا بقوله: (وقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ فَضَلَ فَضْلُ)، وبه تعلم أن ما وقع في بعض النسخ (فصل) بالصاد المهملة من التفصيل ليس بجيد. قوله: (وأَجَازَهُ أَشْهَب مُطْلَقاً كَالسِّلْعَتَيْنِ)، كما لو أعطاها سلعة في صداقها وباعها أخرى، ووجه قوله أنه لم يأت في منع البيع والنكاح قرآن ولا حديث فالأصل الجواز، وقال ابن عبد السلام: قول أشهب بأن يكون ما أعطاه الزوج يساوي [324/ ب] نصف دينار فأكثر، أما إذا كان يساوي ربع دينار وزيادة يسيرة فلا يمكن أشهب أن يقول بالجواز، لكن المثال الذي ذكره المصنف لا يحتاج إلى هذا التقييد؛ لأنه

فرض المسألة أن العبد يساوي ألفين، ولهذا كان قول ابن الماجشون وما بعده خارجاً عن فرض المسألة. وجرت عادة الشيوخ هنا بتكثير الأمثلة، فيقولون: إن كان العبد يساوي ألأفاً جاز عند أشهب فقط، وإن كان يساوي ألفاً وربع دينار جاز على قول أشهب ومطرف، لكن المصنف رحمه الله قد يأتي بأقوال أعم من فرض المسألة للاختصار. قيل: وإنما يقضي على قول أشهب على النكاح وما أعطته المرأة إذا كان المدفوع مقارباً لهما جميعاً، وأما إن كان أكثر منهما جميعاً بكثير، فيحمل على أن الزوج زادها ذلك رغبة في نكاحها، وكذلك إن كان أقل نمهما بكثير، حمل على أن المرأة نقصته لرغبتها في نكاحه. قال في البيان: وهو معنى حسن لو ساعده ظاهر اللفظ. واختلف في تعليق المشهور، فقال أصبغ: حماية من النكاح بغير صداق؛ لأن بعض النساء ترضى أن تتزوج الرجل على أن تعطيه. وقيل: لأنه عقد جمع بين متضادين؛ لأنا لبيع مبني على المكايسة وتجوز فيه الهبة بخلاف النكاح فلذلك فسد. وقيل: للجهل بما ينوب النكاح وهو تعليل ابن الكاتب، ولهذا قال: لو قوم المدفوع قبل العقد، فأحسبهم لا يختلفون في جوازه؛ لأنه يصير للبضع شيء معلوم، كما لو تزوج امرأتين في عقد واحد وسمى لكل واحدة صداقها. فرع: إذا أعطت المرأة الرجل شيئاً ليتزوجها به، فإن كانت ثيبا وزاندها ربع دينار جاز النكاح؛ لأنها مالكة نفسها، وإن زادها أقل أو لم يزدها شيئاً كان بمنزلة من تزوج بأقل من ربع دينار أو بلا شيء وقد تقدم حكمه، وأما البكر فلا تجوز عطيتها؛ لأنها مولى عليها. واختلف قول ابن القاسم في الذي يلزم الزوج سواء زادها أم لا، فمرة قال: النكاح ثابت لا خيار له فيه دخل أو لم يدخل، ويؤخذ منه قدر ما كان أصدقها وإليها

رجع ومرة قال: إن كان قبل الدخول كان مخيراً في إعطائها ذلك أو فسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول كان لها صداق مثلها. وَكَذَلِكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الأَبُ دَاراً أي: في كونه ممنوعاً لاجتماع النكاح والبيع، ويفسخ أيضاً، قال في الجواهر: وهو من باب جمع الرجلين سلعتيهما، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. وما ذكره المصنف هو نص كلام ابن القاسم في العتبية، ولا يريد أن الأب يأخذ عوض الدار بل قرروا أن الأب وهب تلكا لدار لابنته ثم باع الدار وزوج الابنة في عقد واحد، ووجه الشبه بين هذه المسألة والتي قبلها ظاهر؛ لأن الزوج كما خرج منه في الأولى عبد في مقابلة البضع وألف، كذلك خرج منه ههنا ألف في مقابلة بضع ودار، أما لو تزوجها على غير صداق مسمى بأن تزوجها تفويضاً على أن أعطاه الأب داراً لصح النكاح وفرق بينهما. ابن محرز: بأن الدار ههنا هبة خالية عن العوض، وفي المسألة الأولى كانت مقابلة لبعض الصداق. وَإِذَا جَعَلَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ صَدَاقاً لِزَوْجَتِهِ فَسَدَ مُطْلَقاً لأَنَّ إِثْبَاتَهُ يَرْفَعُهُ بِخِلافِ الْخَمْرِ يعني: إذا زوج الرجل عبده امرأة وجعل صداقها رقبته فسد مطلقاً؛ أي: قبل الدخول وبعده؛ لأن إثبات النكاح يوجب كون الصداق الذي هو العبد ملكاً للزوجة، وثبوت ملكها له يرفع النكاح؛ لما تقدم أن النكاح والملك لا يجتمعان، وهذا معنى قوله: (لأَنَّ إِثْبَاتَهُ يَرْفَعُهُ). وقوله: (بِخِلافِ الْخَمْرِ) أي فإن النكاح يثبت بعد البناء.

وَفِيهَا: وإِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ عَلَى أَنَّ مَا وَلَدَتْ حُرُّ لَمْ يُقَرَّ، ولَهَا الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ، وقِيلَ: الأَصَحُّ صَدَاقُ الْمِثْلِ. أي: يفسخ قبل البناء وبعده، ونقل في البيان الاتفاق على ذلك، قال: ولا يبعد دخول الخلاف فإنه يفسخ قبل البناء فقط؛ لأنه فسد لشرط فيه. انتهى. ولعله إنما لم يقر؛ لأنه بيع الأجنة بزيادة في الصداق، كذل كيشكل مذهب المدونة في إيجاب المسمى. المتيطي: لأن مقصود الزود لم يحصل ولم يرض بدفع ذلك القدر إلا على استدامة النكاح، فإذا لم يوف له بذلك وفسخ النكاح وجب أن ينقص الزوج بقدر ما فاته. وقوله: (وقِيلَ: الأَصَحُّ صَدَاقُ الْمِثْلِ)، هذا القول حكاه ابن يونس، وقال: إنه الأقرب، وكذلك قال ابن بشير: إنه الأقيس. خليل: وفيه نظر؛ لأن صداق المثل قد يكون أكثر من المسمى، فالذي يظهر هنا أن يكون لها الأقل من المسمى وصداق المثل، وهل هذا الإشكال هو الذي أوجب عدم جزم المصنف بأن الأصح صداق المثل ولم يتعرض المصنف الولد، ونص في المدونة وغيرها على أنه حر بالشرط وولاؤه لسيده ولا قيمة على الزوج فيه. فرع: فإن استحقت أخذها المستحق وولدها ورد عتقه؛ [325/ أ] لأن العتق فيه إنما كان من السيد لا من الأب، قاله ابن القاسم في العتبية، وليس للأب أن يعطي السيد القيمة إلا برضاه، ولا للسيد أن يلزم الأب ذلك بخلاف الأمة الغارة، والفرق أنه هنا شرط حرية الولد غير مالك الرقبة، ومتزوج الغارة أنها تزوج حرة في ظنه وأن ولده منها حر من أصله، فوجب أن يكون حراً وبذلك قضى عمر. فرعان: الأول: لو زوج أمته على أن أول ولد تلده حر، ففي سماع عيسى ويحيى أنه يفسخ مطلقاً كالأول، وقال ابن الماجشون: إذا لم يعثر على ذلك حتى ولدت فلا يفسخ؛ لأن

الشرط قد ذهب، قال في البيان: وقوله: يأتي على رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة في نكاح المريض والمريضة أنهما إذا صح قبل الفسخ ثبت النكاح لذهاب علة الفسخ. الثاني: إذا زوج عبده من أمة غيره على أن ما تلده يكون بينهما، فروى ابن المواز أنه يفسخ مطلقاً، قال: والولد لسيد الأمة، وحكى أبو الفرج أن الولد بينهما ولها مهر المثل بالمسيس، فإن كان أكثر من المسمى فقال بعض القرويين: لا يزاد على المسمى على رواية محمد؛ لأن الزوج زاد في مهرها على شرط لم يحصل له، وعلى ما قاله أبو الفرج يكون له الزائد لحصول غرضه. وَإِذَا شَرَطَ مَا يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِثْلَ: أَنْ لا يَقْسِمَ لَهَا، أَوْ يُؤْثِرَ عَلَيْهَا فَكَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ، وما لا يُنَاقِضُهُ يُلْغَى، فَإِنْ كَانَ لَهَا فِيهِ غَرَضُ مِثْلَ: أَنْ لا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، ولا يَتَسَرَّى، أَوْ لا يُخْرِجُهَا مِنْ بَلَدٍ أَوْ بَيْتٍ فَمَكْرُوهُ. قَالَ مَالِكُ: لَقَدْ أَشَرْتُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَنْهَي النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ، ولَيْسَ بِلازِمٍ. حاصله: أن الشروط في النكاح على ثلاثة أقسام: الأول ما يناقض مقتضاه مثل ألا يقسم لها أو يؤثر عليها أو لا نفقة أو لا ميراث لها فالكصداق الفاسد؛ أي يفسخ قبل البناء ويثبت بعده على المشهور، وهكذا قال في الجواهر. ابن عبد السلام: ونقل بعضهم الاتفاق على ذلك وأشار إليه، ونقل ابن القاسم فيما إذا تزوج على ألا نفقة أو لا ميراث أنه يفسخ بعد البناء، وحكى اللخمي فيها وفي نكاح النهارية، أو على أن يؤثرها على غيرها، أو ألا ي عطيها الولد، أو على أن أمرها بيدها، بعد أن ذكر أن هذه الشروط لا يصح الوفاء بها ثلاثة أقوال، فقيل: يفسخ قبل البناء فقط، وقيل: يفسخ قبله وبعده. ابن زياد: إن تزوجت على ألا ميراث لها، أو لا يعطيها الولد، أو على أن أمرها بيدها، فعلم بذلك قبل الدخول أو بعده، قيل للمرأة أمرك بيدك الآن، فإن اختارت فراقه

كان ذلك لها، وإن لم تختر فلا شيء لها ويقيمان على نكاحهما، وإن مسها بعد أن جعل الأمر إليها فلا خيار لها. اللخمي: وهذا هو أحد الأقوال في الشروط الفاسدة في البيع أن مشترطها بالخيار بين أن يسقطها فيمضي البيع أو يتمسك بها فيفسخ، وهذا هو المنقول، وسلك ابن بشير طريقة أخرى فقال: الشرط إن عاد بخلل في العقد فسخ قبل البناء، وفي فسخه بعد البناء قولان، وإن عاد بخلل في الصداق فثالثها: يفسخ قبله لا بعده، وهي حسنة من جهة الفقه إلا أن الأنقال لا تساعده. القسم الثاني: ما لا يناقضه بل يكون العقد يقتضيه وإن لم يذكر، كشرطه أن ينفق عليها أو يبيت عندها ولا يؤثر عليها ونحو ذلك، فوجد ذلك وعدمه سيان، ولا يوقع في العقد خللاً ويحكم به ترك أو ذرك، وإلى هذا أشار بقوله: وما لا يناقضه يلغى. القسم الثالث: ما لا تعلق له بالعقد فلا يقتضيه ولا ينفيه، وللمرأة فيه غرض كشرط ألا يتزوج عليها، فذكر المصنف أنه مكروه ملغى، وقسمه اللخمي وغيره على ثلاثة أقسام: جائز، ومكروه، ومختلف فيه. الأول: أن يشترط ألا يضر بها في نفسها ولا مالها ولا في نفقة ولا كسوة وكل ذلك جائز وداخل في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. والثاني: أن يشترط إسقاط ما له أن يفعله دون أن يعلقه بشيء، مثل ألا يتزوج عليها ولا يتسرى أو لا يخرجها من بلدها أو بيتها، فهذا مكروه لما فيه من التحجير، فإن نزل فالنكاح جائز. مالك: والشرط باطل، وله أن يخرجها ويتزوج ويتسرى ويستحب له الوفاء بذلك. وقال ابن شهاب: يلزمه ذلك وهو أحسن لما في الصحيحين: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج".

والثالث: أن يشترط إسقاط ما له أن يفعله بعتق أو تمليك أو طلاق، فاختلف في ذلك، فقال مالك في الموازية: لا يحل الشرط ابتداء فإن وقع الدخول رأيته جائز النكاح ولزم الشرط، وقال ابن القاسم في الموازية: فيمن تزوج امرأة على أنه إن أضر بها أو شرب خمراً أو غاب عنها فأمرها بيدها فذلك يكره أن يعقد عليه، فإن وقع الدخول رأيته جائزاً. اللخمي: وأجاز ذلك سحنون ابتداء وزوج [325/ ب] غلامه أمته، على أنه إن سرق زيتونة فأمر امرأته بيدها، وأنكر ابن بشير على اللخمي وجود هذا القول، وقال: فعل سحنون لا يدل على أن مذهبه الجواز؛ لأنه قد يستخف مثل هذا للضرورة، وأيضاً فإن فعل أحد لا يدل على الجواز إلا من وجبت له العصمة وفيه نظر؛ لأن العلماء لم تزل تستدل على مذاهب العلماء بأفعالهم لاسيما مثل سحنون الذي هو أشد الناس ورعاً، بل فعل أهل الورع أقوى في الجواز من قولهم؛ لأنه يفتي الغير بالجوار ويتورع هو من فعله. وقوله: (إن فعل أحد) لا يدل على الجواز، إن أراد أنه لا يكون حجة فصحيح، وإن أراد أنه لا يدل على أن مذهبه الجواز فممنوع لما ذكرنا، وقول المصنف في القسم الثالث: (مَكْرُوهُ) سبب الكراهة فيه واضح؛ لأن فيه تفويت غرض المرأة، ولهذا قال ابن شهاب وغيره بلزوم الشرط هنا. وقوله: (وقَالَ مَالِكُ .. إلخ) هذا مختصر من العتبية ونصها: أشرت على القاضي منذ دهر أن ينهى الناس ألا يتزوجوا على الشروط وألا يزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كتب بذلك كتاباً وصيح به في الأسواق. ولمالك في العتبية أيضاً: لا ينبغي لأحد أن يشهد كتاباً فيه شروط بحرية أو طلاق أو مشي إلى مكة. ونص ابن شعبان على معاقبة الشاهد في نكاح فيه شروط من ترك نكاح غيرها أو طلاق أخرى.

سحنون: ولا ينبغي للموثق أن يكتب أن الداخلة طالق ثلاثاً، ولا ينبغي لأحد أن يكتب شهادته فيه وكان يستحق فالداخلة طالق واحدة. فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ شَيْئاً مُعَيَّناً مِنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ رَجَعَتْ بِهِ إنْ خَالَفَ، وإِنْ خَفَّفَتْ قَبْلَهُ ولَمْ تُعَيِّنْ لَمْ تَرْجِعْ، وقِيلَ: تَرْجِعْ إِنْ كَانَ نَقَصَ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ، وإِنْ عَيَّنَتْ فَقَوْلانِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى يَمِينٍ عَلَيْهِ لَمْ تَرْجِعْ فِي الْجَمِيعِ .. حاصله: أنها إن وضعت شيئاً من صداقها على ألا يتزوج عليها أو لا يتسرى ونحو ذلك، وفرعنا على قول مالك بعدم اللزوم فتزوج، فإن كان الشرط معلقاً بطلاق أو عتق أو تمليك فليس لها رجوع للزوم الطلاق والعتق، وإلى هذا أشار بقوله آخر المسألة: (فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى يَمِينٍ عَلَيْهِ لَمْ تَرْجِعْ فِي الْجَمِيعِ) أي في جميع الصور سواء كان ذلك بعد العقد أو قبله، وإن لم يكن معلقاً بيمين فثلاث صور: الأولى: أن تضع له شيئاً معيناً من صداقها بعد العقد، كما إذا كان صداقها ألف فوضعت منه شيئاً، إما عدداً أو جزءاً فإنها ترجع إن خالف، وهذا معنى قوله: (فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ شَيْئاً مُعَيَّناً مِنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ رَجَعَتْ بِهِ) يريد: أو أعطته شيئاً من مالها، وإنما ذكر الصداق؛ لنه قد يتوهم أن أمره خفيف، فنبه رحمه الله بالأخف على الأشد، وكلام المصنف في هذه الصورة قريب من كلامه في المدونة، وذلك يدل على أن ذلك عقد جائز، ومنعه في السليمانية وكتب المدنيين؛ لأن له أن يوفي وألا يوفي، فصار ما تعطيه تارة ثمناً وتارة سلفاً، ووجه الأول أنهما دخلا على الوفاء بالشرط وإن خالف بعد ذلك فأمر طارئ. الصورة الثانية: أن تخفف قبل العقد ولم تعين، بل قالت له: أتزوجك مثلاً بألف، وعلم أن صداق مثلها ألفان، فالمشهور أنها لا ترجع، وبه أخذ أصبغ وغيره، وحكى في الجواهر ثلاثة أقوال: الأول: ترجع بما تركته، وفي الكتاب: لا ترجع. وقال علي بن زياد:

ترجع إن كان ما وضعته من صداق المثل دون أن يكون من الزائد، رواه ابن نافع، وعلى الرجوع بتمام صداق المثل، فلو تنازعا فالقول قولها: أنها تركت لأجل الشرط، وكأن المصنف أسقط القول بالرجوع مطلقاً؛ لأما قاله ابن بشير: أن الأشياخ ردوه إلى الثالث. الصورة الثالثة: أن تضع بعد التعيين وقبل العقد، مثاله: لو تقرر أن صداقها ألف ثم قالت له: أنا أسقطت عنك مائتين على ألا تتزوج عليَّ، فالمشهور أيضاً أنها لا ترجع، ومقابله رواه أشهب عن مالك: أنها ترجع بما وضعت، وصوبه ابن يونس. ابن عبد السلام: وحكى غير واحد أنها ترجع بالأقل مما نقصت ومن تمام صداق المثل. ففي المسألة على هذا ثلاثة أقوال، وظاهر كلام المصنف وكلام غيره فيما إذا وضعت بعد العقد: أنها تخرج عليه سواء خالف عن قريب أو بعد تحقيقاً للوضيعة، وقاله ابن عبد السلام: وأشار ابن عبد السلام إلى أنه ينبغي أن يفرق في ذلك بين القرب والبعد، كما فرقوا إذا أراد طلاقها فوضعت من صداقها أو سألها الحطيطة، فقالت: أخاف أن تطلقني، فقال: لا أفعل، فخففت ثم طلقها، أو أعطت زوجها مالاً على أن يطلق ضرتها فيطلقها ثم يريد مراجعتها، وكما قالوا: إذا سأل البائع المشتري الإقالة، وقال المشتري: إنما مرادك البيع لغيري لأجل إن اشتريتها برخص، فيقول له البائع: متى بعتها فهي لك بالثمن الأول، أنه إن باع عقيب الإقالة أو قريباً منها فللمبتاع شرطه، فإن باع بعد الطول أو بحدوث سبب اقتضاه فالبيع ماضٍ، والكلام على الشروط متسع، انظر المتيطية، واقتصرنا على ما ذكره المصنف تبعاً له. أَمَّا لَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفاً عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةُ أُخْرَى فَأَلْفَانِ فَصَدَاقُ فَاسِدُ لأنه لا ندري حين العقد ما يصح لها فصار [326/ أ] صداقها مجهولاً.

وَإِذَا قَالَ: زَوِّجْنِي بِأَلْفٍ فَزَوَّجَهُ بِأَلْفَيْنِ ولَمْ يَعْلَمْ وَاحِدُ بِالتَّعَدِّي قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِأَلْفٍ أَوْ رَضِيَ بِأَلْفَيْنِ لَزِمَ، وإِنْ لَمْ يَرْضَيَا لَمْ يَلْزَمْ .. هذه المسألة في النكاح الأول من المدونة وأكثر الناس الكلام عليها، وذكر المصنف منها جملة صالحة، ومعنى كلامه: إذا وكل رجلاً على أن يزوجه بألف فزوجه بألفين ولم يعلم واحد من الزوجين بالتعدي قبل العقد، وعلم بذلك قبل الدخول، وقامت على التوكيل بالألف بينة وعلى التزويج بالألفين بينة، أو حصل التصادق في ذلك، أو قامت البينة على أحد الأمرين وحصل التصادق في الآخر، فالحكم كما قاله المصنف: إن رضيت المرأة بألف أو رضي الزوج بألفين لزم النكاح، وإن لم يرض واحد منهما بقول الآخر فسخ النكاحن قال في المدونة: بطلاق. ابن يونس: وقال المغيرة: بغير طلاق. ابن القاسم: وسواء في ذلك قال له: زوجني فلانة، أو قال: زوجني، ولم يقل فلانة. ابن عبد السلام: وعدم التفرقة في المرأة بين أن تكون معينة أم لا هو ظاهر المذهب. وقال أصبغ: إذا لم يعين الزوج ينبغي أن يكون القول قول الأم إذا أشبه ودخل؛ لأنها فرطت، وإذا عين له امرأة ولا يشبه ما قال أن يكون صداقها فالقول قول الرسول، هكذا نقل التونسي عنه واختاره. قال ابن عبد السلام: وإن كان لفظه هكذا فليس فيه كبير مخالفة للمشهور، قيل: وإن أقر الوكيل هنا بالتعدي- يعني: قبل الدخول- لزمته الألف الثانية، وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه لم يفوت بتعديته شيئاً فلا يضمن، والثاني: أنه لو ضمن بالإقرار لضمن مع قيام البينة.

وَلَوْ قَالَ الْوَكِيلُ: أَنَا أَغْرَمُ الزَّائِدَ، فَفِي إِلزامِ الزَّوْجِ قَبُولَهُ قَوْلاَنِ هذا مذهب المدونة وهو المعروف، ولم يلزم الزوج قبول الزائد لوجهين: أحدهما: أن ذلك عطية من الوكيل فلا يلزم قبولها، والثاني: لما عليه في ذلك من ضرر زيادة النفقة، فإن نفقة من صداقها ألفان غير نفقة من صداقها ألف، وذكر ابن بشير قولاً آخر باللزوم، ووقع في بعض النسخ التنبيه عليه. وَلِكُلِّ فَسْخُهُ، وَلِكُلِّ تَحْلِيفُ الآخَرِ حَيْثُ لا يُعَدُّ نُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ، وإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةُ بِذَلِكَ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَ .. يعني: ولكل من الزوجين فسخه إذا لم يرض بقول الآخر كما تقدم. قوله: (وَلِكُلِّ تَحْلِيفُ الآخَرِ) اعلم أن هذه المسألة لها أربع صور: الأولى: أن تقوم للرجل على التوكيل بالألف بينة وللمرأة على التزويج بالألفين بينة. والثانية: ألا يقوم على كل منهما بينة. والثالثة: أن تقوم للرجل بينة على التوكيل بالألف وليس على التزويج بألفين بينة، وإنما الوكيل يصدقها. والرابعة: عكس الثالثة، والحكم في الجميع ما قدمه المصنف أن لكل منهما الرضا بقول الآخر وإلا انفسخ. وقوله: (وَلِكُلِّ تَحْلِيفُ الآخَرِ) فيما يصير إقراره إن لم تقم بينة خاص بالثلاث الأخيرة. فإذا لم يكن على الوكيل بالألف بينة كان للزوجة أن تحلف الزوج أنه لم يأمره إلا بالألف، فإن نكل لزمه النكاح بالألفين، وإن حلف قيل للزوجة: إما أن ترضي بالألف وإلا انفسخ النكاح، وكذلك إن قامت له بينة ولم يكن على التزويج بالألفين بينة فله أن يحلفها أنها لم ترض بالألف، فإن نكلت لزمها النكاح بالألف، وإن حلفت قيل للزوج: إما أن ترضى بألفين وإلا فسخ النكاح.

وكذلك إن قامت له بينة ولم يكن على التزويج بالألفين بينة فله أن يحلفها أنها لم ترض بالألف وإن نكلت لزمها النكاح بالألف، وإن حلفت قيل للزوج: إما أن ترضى بألفين وإلا انفسخ النكاح. وعلى هذا فقوله: (فَإِنْ نَكَلَ لَزِم) أي: وإن نكل من توجهت عليه اليمين من الزوجين (لَزِمَ) أي: النكاح بما ادعاه عليه الآخر، وهذا ظاهر إذا قامت لأحدهما بينة دون الآخر، وإن لم تقم لواحد منهما بينة، فنص ابن يونس وغيره على أن الحكم فيها كاختلاف الزوجين في الصداق قبل البناء، فتحلف الزوجة أن العقد كان بألفين، ثم يقال للزوج: ارض بذلك أو احلف أنك ما أمرته بألفين، ويفسخ النكاح إلا أن ترضى الزوجة بألف، وكلام المصنف لا ينافيه؛ لأن قوله: (وَلِكُلِّ تَحْلِيفُ الآخَرِ) لا دلالة فيه أن لمن شاء منهما أن يحلف صاحبه أولاً. وَلا تُرَدُّ لأَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ إِلا أَنْ يَدَّعِىَ تَحْقِيقاً فَتُرَدَّ يعني: إذا توجهت اليمين على أحد الزوجين ونكل لزم لكل منهما ما ادعاه الآخر بنكوله، وليس له أن يرد اليمين على صاحبه؛ لأنها يمين تهمة وأيمان التهم لا ترد، فإن ادعى أحدهما على صاحبه التحقيق بأن تقول: أنا أتحقق بأنك أمرت الوكيل أن يزوج بألفين، أو يقول الزوج: أنا أتحقق أنك رضيت بألف، فحينئذ لا يلزم الحكم بمجرد النكول وترد اليمين. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَزِمَ بِأَلْفٍ، وقِيلَ: بِصَدَاقِ الْمِثْلِ ما صدر به هو مذهب المدونة، زاد فيها: ولا يلزم المأمور شيء؛ لأنها صدقته وهو المشهور، وقيده ابن المواز بما إذا حلف الزوج، قال: وأما إذا نكل حلفت الزوجة وأخذت الألفين. ابن محرز: وهذا إذا لم تكن لها بينة على عقد النكاح بألفين، فإن كان لها بينة لم تحلف وغرم الزوج الألفين، والقول بإلزام الزوج صداق المثل لعبد الملك، [326/ ب] وينبغي أن

يقيد بما إذا كان صداق المثل ألفاً فأكثر، وأما إذا كان أنقص فلا ينقص؛ لأن الزوج رضي به، وكذلك إذا زاد على الألفين فلا يزاد عليهما؛ لأنها رضيت بهما. تنبيه: ما ذكره في المدونة من أنه لا يلزم الوكيل شيء، إنما هو إذا لم يقر بالتعدي أو لم تقم عليه بينة، وأما إذا أقر بالتعدي أو قامت عليه بينة فقد بين المصنف حكمه بقوله: وَفِي إِلْزَامِ الْوَكِيلِ الزَّائِدَ بِالإِقْرَارِ وبِالتَّعَدِّي أَوْ بِالْبَيِّنَةِ قَوْلاَنِ المشهور الغرم، قال في المدونة: وإن أقر المأمور بعد البناء بالتعدي غرم الألف الثانية والنكاح ثابت، والقول بعدم اللزوم لمالك في مختصر ما ليس في المختصر وهو مبني على أن الغرر بالفعل لا يوجب غرامة، وقيام البينة على الوكيل بالتعدي كالإقرار، واعلم أن المصنف سلك هنا طريقة غير ما سلكها اللخمي وابن بشير وابن شاس؛ لنهم حكوا: إذا دخل وأقر الوكيل بالتعدي أو قامت عليه البينة ثلاثة أقوال: المشهور، وما في المختصر، وإلزام الزوج صداق المثل والوكيل الباقي، وكأن المصنف عدل عن ذلك؛ لأنه رأى أن ما ذكره أعم فائدة؛ لأن قوله: (إِلْزَامِ الْوَكِيلِ الزَّائِدَ) يشمل الألف الثانية وما زاد من صداق المثل على الألف، على القول بإلزامه ذلك بخلاف ما قاله اللخمي؛ لأنه لا يتناول ما زاد على صداق المثل، فكانت طريقة المؤلف أولى، وهذا وإن كان حسناً لكن هذه الفائدة وأمثالها ليس مدركها الاستدلال وإنما تؤخذ من النقل، فإن وجد عدم إلزام الوكيل الزائد، على القول بأن الزوج يغرم صداق المثل؛ كانت طريقة المؤلف أولى وإلا فلا. فَفِي تَحْلِيفِهَا لَهُ قَوْلانِ الفاء للسببية؛ أي: لما اختلف في غرم الوكيل، نشأ عن ذلك خلاف في تحليف المرأة له، فعلى القول بأن لها أن تغرمه لها أن تحلفه إن اتهمته أو حققت عليه العداء، وعلى القول

بعدم التغريم فلا تحلفه؛ لأن غاية النكول أن يعد كالإقرار، وهو لو أقر به لم يلزمه شيء، والقولان اللذان ذكرهما المصنف في تحليفها الوكيل حاصلان فيما إذا قامت البينة على عقد النكاح بألفين، وحصل الدخول ولم يقم على التوكيل بينة، وكذلك هما حاصلان إذا لم تقم على عقد النكاح بينة، وحلف الزوج وأدى ألفاً، وأما إن نكل فقال أصبغ: للزوج إن نكل وغرم الألف الثانية أن يحلف الرسول فإن نكل أغرمه ما غرم. محمد: وهو غلط ولا يمين على الرسول؛ لأنه لو نكل لم يحكم عليه إلا بعد يمين الزوج، والزوج قد نكل عن اليمين حين لم يحلف للمرأة. فَإِنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا بِالتَّعَدِّي قَبْلَهُ فَالزَّوْجُ أَلْفَانِ والزَّوْجَةُ ألْفُ يعني: أن ما تقدم إنما هو إذا لم يحصل علم من أحد الزوجين، فإن علم أحدهما بتعدي الوكيل قبل الدخول، فإن كان الزوج فقط فعليه ألفان؛ لأن دخوله رضا بالألفين، وإن علمت الزوجة فتمكينها من نفسها رضا منها بالألف؛ لأن الألف الأخرى محض عداء. فَإِنْ عَلِمَا وعَلِمَ كُلُّ بِعِلْمِ الآخَرِ فَأَلْفَانِ أي: فإن علم كل واحد من الزوجين بالعداء، وعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه بأن الوكيل تعدى بالواجب، للزوجة ألفان؛ لأن الزوج لما علم بتعدي الوكيل ودخل على ذلك، والمرأة علمت بأن الزوج دخل على ذلك وجب أن يكون لها ألفان، وينبغي ألا تكون لها الألف الثانية بكمالها، بل تقسم بينهما كما في المسألة التي بعد هذا؛ وهي قوله: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُهُمَا بِعِلْمِ الآخَرِ فَالرِّوَايَةُ: أَلْفَانِ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ بَيْنَهُمَا .. قوله: (فَالرِّوَايَةُ) نظراً إلى ما دخل عليها الزوج.

قوله: (وَقِيلَ) هو قول اللخمي وتبعه غير واحد من المتأخرين؛ لأن الزوج وإن دخل على ألفين فالزوجة أيضاً قد دخلت على أن لها ألفاً فتقسم الألف الزائدة بينهما. وَبِالْعَكْسِ أَلْفَانِ يعني: إذا علم الزوج بتعدي الوكيل، وعلمت المرأة بتعديه وبأن الزوج علم بالتعدي ولم يعلم هو بعلمها، فعلى الزوج ألفان؛ لأنها تقول له: أنت دخلت على ذلك. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْجَمِيعِ لُزُومُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ هذا من المصنف رحمه الله بيان للعلة في جميع المسائل المتقدمة، والله أعلم. وَإِذَا أَذِنَتْ بِالتَّزْويجِ خَاصَّةً فَزُوِّجَتْ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَقْدُ بِخِلافِ الأَبِ يُزَوِّجُ الْمُجْبَرَةَ .. يعني: إذا أذنت اليتيمة المالكة لأمرها لوليها في التزويج خاصة ولم تسم له قدر المهر؛ فإن زوجها بمهر المثل لزمها، وإن زوجها بأقل لم يلزمها النكاح باتفاق نقله في البيان، كتوكيلها على بيع سلعة في الوجهين، وانظر لو رضي الزوج بتمام صداق المثل بعد أن أبت، والأقرب لزوج النكاح إن كان بالقرب. وقوله: (بِخِلافِ الْمُجْبَرَةَ) أي: فإن للأب أن يزوج ابنته بأقل من صداق مثلها، وقد تقدم ذلك. وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى صَدَاقِ السِّرِّ وأَعْلَنَا غَيْرَهُ فَالصَّدَاقُ مَا فِي السِّرِّ يعني: إذا أظهر الزوجان صداقاً وأخفيا دونه أو مخالفاً له في الجنس أو الصفة فالعمل على ما في السر، وهذا ظاهر إن اتفق الزوجان على ذلك، وأما إن ادعت الزوجة الرجوع عنه إلى ما في العلانية، فإن كان شهود [327/ أ] السر شهدوا أن العلانية لا أصل لها وأن المعمول على ما أسرَّا فلا يمين على الزوج، وإن كان إنما شهدوا بأن النكاح وقع بخمسين

نكاح التفويض

مثلاً ثم أعلنوا مائة ولم يشهدوا بإبطال ما في العلانية، فإن الزوج يحلف، قاله اللخمي وعياض وابن شاس وأقام بعض المتأخرين من هنا إعمال شهادة الاسترعاء. فرع: إذا تزوجها بثلاثين ديناراً عشرة منها نقداً وعشرة إلى سنة وسكت عن العشرة الثانية، فالروايات: أن العشرة المسكوت عنها ساقطة، ولو كان ذلك في البيع لكانت العشرة الأخرى حالة، والفرق أن النكاح قد يظهر فيه غرر ويكون في السر دونه، فيكون سكوتهم عن تلك العشرة دليلاً على إسقاطها، ولا كذلك البيع. وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ: جَائِزُ؛ وهُوَ إِخْلاءُ الْعَقْدِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ. لقوله تعالى: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة: 236] فأباح الطلاق في النكاح الذي لم يفرض فيه يدل على صحته، وأيضاً فإنه قد رفع الجناح مع عدم الفرض وذلك يقتضي رفع الإثم عن العقد. الباجي: ولا خلاف في جوازه وصحته، قال: وصفته أن يصرحوا بالتفويض أو يسكتوا عن ذكر المهر قاله أشهب وابن حبيب. وهذا معنى قوله: (وهُوَ إِخْلاءُ الْعَقْدِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْر). فَإِنْ صَرَّحَ بِإِسْقَاطِهِ فَسَدَ كَالْخَمْرِ أي: فيفسخ قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل على المشهور، وأفاد تشبيهه بالخمر أن في هذه المسألة الثلاثة الأقوال المتقدمة وهو صحيح، فقد حكى في المدونة في فسخه بعد البناء قولين، واستحسن ابن القاسم فيها عدم الفسخ، وحكى ابن شعبان أن هذه الصورة كنكاح التفويض، وعليه فلا يفسخ قبل البناء ولا بعده ويكون لها صداق المثل، وقال ابن حبيب: يخير الزوج قبل البناء بعد أن يفرض ربع دينار أو يفارقها ولا شيء عليه، وقال: لا يجبر على فرض ربع دينار؛ لأنه دخل على ألا شيء عليه، وفي تشبيهه بالخمر أيضاً فائدة أخرى، وذلك أنه لو اقتصر على قوله: (فَسَدَ) لتوهم أن فساده لعقده.

وَلَفْظُ: وَهَبْتُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ مِثْلُهُ أي: ولفظ الهبة من غير ذكر الصداق كالتصريح بالإسقاط، ومن المدونة قال ابن القاسم: وليس الموهوبة إذا لم يسموا معها صداقاً كالتفويض، وكأنه قال في الهبة: قد زوجتكها بلا صداق، فلا يصح ولا يقر هذا النكاح ما لم يدخل بها، فإذا دخل بها فلها صداق مثلها ويثبت النكاح. سحنون: وقد كان قال: يفسخ وإن دخل بها، ابن المواز: وقاله أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ. أصبغ: لأن فساده في البضع. أشهب: ويكون لها إذا فسخ ثلاثة دراهم. وقال ابن وهب: بل صداق المثل. ابن راشد: والأول أقيس؛ لأن الثلاثة من حق الله والزائد قد وهبته للزوج. وَفِيهَا: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِي الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ فَمَسَّهَا يُعَاقَبَانِ وَيَفُرَّقُ بَيْنَهُمَا اعلم أن الصورة الأولى قصد فيها ولي النكاح وهبة الصداق، وهذه قصد فيها هبة نفس المرأة، ونص في هذه على الفسخ قبل البناء والثبات بعده، واعترضه الباجي وقال: يفسخ قبل البناء وبعده، وهو زنى يجب فيه الحد وينتفي الولد وهو ظاهر. لكن ظاهر قول ابن شهاب: (يُعَاقَبَانِ) أنه لا يبلغ معاقبتهما الحد. ربيعة: ويفرق بينهما وتعاض، وسواء وهبت نفسها أو وهبها أهلها قاله في المدونة. ابن عبد السلام: وأشار بعض الشيوخ أن كلام ربيعة إنما يناسب أن يكون في المسألة الأولى لا في مسألة ابن شهاب. وَالْمُفَوَّضَةُ تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ بِالْوَطْء لا بِالْعَقْدِ ولا بِالْمَوْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ أما استحقاقها مهر المثل بالوطء فلا خلاف فيه كما بالعقد، فلو طلقها قبل الفرض فلا تستحق شيئاً؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237] مفهومه: فإن لم تفرضوا لهن شيئاً لم يكن لهن شيء.

قوله: (ولا بِالْمَوْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: ولا تستحق المهر بالموت على المشهور؛ لأنه إنما يتكمل بالموت ما يتشطر بالطلاق، وحكى عبد الحميد قولاً شاذاً أنه يجب لها بالموت، وهو قول ابن مسعود وجماعة، والمشهور قول علي وابن عمر وزيد بن ثابت وأكثر الصحابة. مالك في الموازية: وليس العمل على قول ابن مسعود. واختار ابن العربي وغيره الشاذ؛ لما رواه الترمذي وصححه أنه عليه الصلاة والسلام قضى به. وَلا تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ بِالطَّلاق إِلا أَنْ يُفْرَضَ شَيْءُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَيَكُونُ كَمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ .. أما إذا طلق قبل الفرض فلا خلاف أنه لا شيء لها، قاله ابن عبد السلام. وقوله: (إِلا أَنْ يُفْرَضَ شَيْءُ) يعني: فإنه إن فرض ثم طلق فإنه يتشطر ذلك المفروض، ولا إشكال فيه إن فرض صداق المثل أو دونه ورضيت، وأما إن كان أقل من صداق المثل ولم ترض به فإنه إذا طلق يرد عليه. محمد: ولا يقبل منها بعد الطلاق أنها رضيت به قبله إلا أن تقدم بينة. مالك: وإن قدم الزوج شيئاً ثم أدخلوها عليه ثم طلبوا بقية مهرها فلا شيء لهم إلا أن يكون ذلك المقدم لا يشبه أن يكون صداقاً كالدرهمين والثلاثة، ومثل الطعام يبعث فترجع عليه بصداق مثلها. واستشكل بعض القرويين قوله: (إذا طلبوا البقية فلا شيء لهم)؛ لأن لهم أن يقولوا: أردنا اتباعه ببقية الصداق. وَلِلْمَرْأَةِ طَلَبُ التَّقْدِيرِ قَبْلَ الدُّخُولِ [327/ ب] فَإِنْ وَقَعَ الرِّضَا وإِلا فُسِخَ إِلا أَنْ يبذل صَدَاقُ مِثْلِهَا فَيَلْزَمُهَا ولا يَلْزَمُهُ كَوَاهِبِ سِلْعَةٍ لِلثَّوَابِ فَيَلْزَمُهُ أَخْذُ الْقِيمَةِ وَلا يَلْزَمُ الْمَوْهُوبَ له الْقِيمَةُ .. يعني: أن من حق المرأة ألا تمكن من سلعتها حتى تعلم ثمنها، ولابن شاس نحوه لقوله: وللمرأة طلب الفرض لتقدير التشطير أو لتعرف ما تستحق بالمسيس، ولها حبس

نفسها للفرض. وقال ابن عبد السلام: إنما جعل لها في المدونة طلب التقدير إذا أراد الزوج البناء، والذي قاله في المدونة هو الصحيح، وعليه يتأول قول المؤلف، وإلا فلا فائدة فيما قاله المؤلف إن حمل على ظاهره. خليل: ولم أر ما ذكره عن المدونة فيها. وقوله: (لا فائدة فيما قاله المصنف) ليلس بظاهر؛ لأن الفائدة ظاهرة مما تقدم من كلام ابن شاس، والله أعلم. قوله: (فَإِنْ وَقَعَ الرِّضَا وإِلا فُسِخَ النكاح) أي: بطلاق؛ لأنه صحيح إلا أن يبذل الزوج صداق مثلها فيلزمها ولا مقال لها. (ولا يَلْزَمُهُ) أي: ولا يلزم الرجل ابتداءً أن يفرض صداق مثلها؛ لأن المرأة هنا بمنزلة من وهب لرجل سلعة للثواب، فإن الموهوب له إن دفع القيمة لزم الواهب قبولها، ولا يلزم الموهوب له أن يعطي القيمة، وعلى هذا فالزوج هنا كالموهوب له، وقد يفهم من قوله وقول صاحب الجواهر: (وللمرأة طلب التقدير) أن لها أن تمكن من نفسها قبل الفرض؛ لأن اللام تقتضي أن ذلك من حق المرأة، ومن له حق جاز له تركه. وعلى هذا فلا يكون التقدير قبل البناء واجباً. وفي المدونة: ليس للزوج البناء حتى يفرض، وقريب منه في الرسالة، لكن نص أبو الحسن أن ذلك على الاستحباب، وفي المقدمات: إنما يجب تسمية الصداق عند الدخول، فظاهره أن التقدير قبل البناء واجب. ابن حبيب وغيره: ولا ينبغي أن يبني بالمفوضة ولا يخلو بها حتى يقدم ربع دينار فأكثر. وَفِيهَا: فَإِنْ فَرَضَ فِي مَرَضِهِ فَمَاتَ لَمْ يَجُزْ؛ لأَنَّهَا وَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلا أَنْ يَطَأَ فَتَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِثْلِ خَاصَّةً .. لأنها لم لم تستحق الصداق بالموت، جعلوا ما فرضه لها وصية لوارث فتبطل إلا أن يجيزه الورثة ولا خلاف في إرثها لصحة النكاح. واختلف إذا لم يدخل وكانت ذمية أو

أمة، فقال ابن المواز ونقله عن مالك: يكون لها ما فرض من الثلث. وقال ابن الماجشون: يبطل؛ لأنه لم يسم لها ذلك على سبيل الوصية، وإن دخل كان لها المسمى من رأس المال إن كان صداق المثل أو أقل بلا اختلاف، وإن فرض لها أكثر من صداق مثلها كان صداق المثل من رأس المال وبطل الزائد إلا ان يجيزه الورثة. وهذا معنى قول المصنف: (إِلا أَنْ يَطَأَ فَتَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلث خَاصَّةً). فرع: إنما يبطل ما زاد على صداق المثل إذا مات كما تقدم، فإن صح منه وهي حية ثبت لها الجميع باتفاق حكاه في البيان، واختلف إذا فرض ولم يدخل ولم يصح من مرضه حتى ماتت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا شيء لورثتها مات من مرضه أو صح منه وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه إن صح من مرضه كان لورثتها، وإن مات منه كان لهم من الثلث؛ لأنه يصير وصية لغير وارث، وإلى هذا ذهب الفضل. والثالث: إن صح من مرضه كان لورثتها، وإن مات منه لم يكن لهم شيء؛ لأن الموصى له إذا مات قبل الموصي بطلت وصيته وهو قول أصبغ ودليل قول ابن القاسم في العتبية، ولعل المصنف نسب المسألة للمدونة لإشكالها وذلك والله أعلم لأحد أمرين: أولهما: وهو الظاهر أن الحكم بالبطلان إذا فرض ولم يدخل ليس بظاهر؛ لأنهم عقدوا على صداق مجهول وكل تعيينه إلى الزوج، فإذا فرض فقد عين ما وقع العقد عليه فكيف يكون وصية لوارث. ثانيهما: وهو الذي اقتصر عليه ابن عبد السلام: أن مقتضى إبطالهم للصداق قبل الدخول ألا يكون لها شيء بالدخول لإجرائهم ذلك مجرى الوصية، ويجاب عن الثاني بأنه إنما كان لها المسمى بالدخول ما لم يزد على صداق المثل من باب قيم المتلفات، ونقض

ابن عبد السلام هذا الجواب؛ لنكاح المريض إذا دخل فإنهم جعلوا لها الصداق في الثلث ولم يعدوه من باب قيم المتلفات خليل: ويجاب عن هذا بأن العقد في مسألتنا وقع صحيحاً، فلما استند الدخول إليه لزم أن يكون فيه المسمى من رأس المال بخلاف نكاح المريض لوقوع العقد فيه فاسداً. وَفِي رِضَا السَّفِيهَةِ غَيْرِ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا بِدُونِهِ قَوْلانِ نحو هذا في ابن بشير وابن شاس وابن راشد. وقال ابن عبد السلام: حكى في المدونة الوقلين ولم يصرح فيها بسفه المرأة وإنما فرضها في البكر التي لا أب لها ولا وصي. والمسألة محمولة عند الشارحين على من لم يعلم حالها بسفه ولا رشد، والمشهور فيها وهو قول ابن القاسم أنه لا يجوز رضاها بأقل من صداق المثل، وكذلك لا يجوز لها أن تضع منه شيئاً بعد الطلاق. وقال غيره فيها: يجوز رضاها، وطرحه سحنون. واختلف أيضاً إذا تزوجت بصداق مثلها فأكثر واختلفت مع وليها، فقال ابن حبيب: الرضا لمن يزوجها دونها. وقيل: الرضا إليها دونه. ونسبه فضل للعتبية، قال في البيان: ولم أره فيها. قال: والقياس إذا اختلف ألا يثبت ما رضي به أحدهما صداقاً إلا بعد نظر السلطان، قال: وأما ثبوت ما اجتمعا على الرضا به صداقاً دون نظر السلطان إلا استحساناً. وَالْمُولَّى عَلَيْهَا الْمُجْبَرَةُ لا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا يشمل قول المجبرة البكر ذات الأب والأمة والموصى عليها [328/ أ] على أحد الأقوال، ولا خفاء في عدم اعتبار رضاهن. تنبيهات: الأول: قولهم المجبرة يشمل المعنسة على أحد القولين، وأما على القول بعدم الجبر فيكون الرضا بقليل الصداق وكثيره إليها دون أبيها، وحكى في المقدمات هذين القولين.

الثاني: اختلف هل للأب الرضا بأقل من صداق المثل مطلقاً قبل البناء وبعده، وهو تأويل اللخمي، أو إنما له ذلك إذا كان قبل البناء، وأما بعده فليس له أن يرضى بأقل من صداق المثل وهو تأويل ابن يونس وابن رشد. الثالث: وقع في بعض النسخ إثر الكلام المتقدم ما نصه: ويعتبر رضا وليها ولا إشكال عليها في ذات الأب والسيد، وأما ذات الوصي فالظاهر أن المصنف لم يردها بهذا الكلام بل أشار إليه بقوله: وَأَمَّا غَيْرُهما فَالْمَشْهُورُ يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا مَعاً بِدُونِهِ إِنْ كَانَ نَظَرَا لأنه لم يبق غيرها وهكذا قال ابن راشد: أن مراده بغير الموصي عليها، لا يقال: لا نسلم أنه لم يبق إلا الموصى عليها، ولم لا يجوز أن يكون أراد المرأة التي ليست بمجبرة مع أن لها ولياً غير وصي؟ لأنا نقول إذا كانت غير مجبرة ولم يكن لها وصي كانت سفيهة مهملة، وقد أشار إليها المصنف أولاً بقوله: (وَفِي رِضَا السَّفِيهَةِ غَيْرِ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا .. إلخ). وقوله: (غَيْرُهما) هكذا وقع في بعض النسخ بضمير التثنية؛ أي: غير السفيهة والمجبرة، وفي بعضها (غيرها) بالإفراد فيعود على المجبرة، وما ذكره من اعتبار رضاهما مخالف لابن شاس فإنه قال: وإن كانت السفيهة مولى عليها فإن كان الفرض قبل الدخول وهو من حسن النظر صح رضا الولي به، فظاهره: إنما يعتبر الولي. وفي التهذيب: وإن زوج البكر غير الأب فرضيت بذلك؛ أي: بأقل من صداق مثلها لم يجز رضاها والرضا للولي، ولو رضي الولي ما جاز أيضاً. ابن القاسم: إلا أن يكون ذلك نظراً لها فيجوز مثل أن يعسر الزوج ويسأل التخفيف ويخاف الولي الفراق ويرى مثله رغبة لها، فيجوز ذلك إن رضيت وما كان على غير هذا لم

يجز، وإن أجازه الولي فظاهره اشتراط رضاها ككلام المصنف لقوله إذا رضيت: والمراد بالولي الوصي، لكان كلام عياض يرد هذا، ويصحح نقل ابن شاس، فإنه قال: ظاهر المدونة لا يتم إلا برضاهما معاً بالصداق، والصحيح عند شيوخنا على منهاج المذهب أن يمضي على رضا الوصي وهو الذي في كتاب ابن حبيب، ولا يلتفت إلى رضا البكر؛ إذ النظر في المال له، بخلاف ما لو لم ترض حين العقد فلها ألا ترضى بالزوج إلا بالوجوه التي ترضيها من إضعاف الصداق وغيره مما تشترطه ولا يتم العقد ما لم ترض، بخلاف ما ٍإذا رضيت بالتفويض ثم نازعت في الفرض. انتهى. وكذلك قال في المقدمات: إن ذات الوصي لا يجوز له أن يزوجها بعد بلوغها بأقل من صداق مثلها وإن رضيت، وله أن يزوجها وإن عنست برضاها ويكون إذنها صماتها بما رضي به من صداق مثلها فأكثر وإن لم ترض؛ إذ ليس لها مع الوصي من الرضا بالمهر شيء، وله أن يراضي الزوج في نكاح التفويض على صداق مثلها بأكثر، فيجوز ذلك عليها ويلزمها رضيت أو لم ترض، فإن لم يرض هو بذلك ورضيت هي لم يكن ذلك إلا بحكم السلطان، وليس له أن يراضي الزوج على أقل من صداق مثلها عند مالك، خلاف مذهب ابن القاسم أن ذلك جائز على وجه النظر، إلا أنه شرط رضاها وفي ذلك من قوله نظر. انتهى باختصار. وعلى هذا فتشهير المصنف ليس بظاهر، لكن حكى أبو الحسن عن بعضهم أنه رأى أن قول ابن القاسم تفسير لقول مالك، وأن شروط الجواز عندهما ثلاثة: رضا الولي، ورضاهما، وأن يكون ذلك نظراً. فعلى هذا يتم كلام المصنف، وكلام ابن عبد السلام على هذه المسالة ليس بظاهر. تنبيهان: الأول: لا إشكال أن المرأة إذا كانت ثيباً رشيدة أنه يعتبر رضاها فقط، ويؤخذ ذلك من قول المصنف أولاً: (فَإِنْ وَقَعَ الرِّضَا وإِلا فُسِخَ).

الثاني: جعل الأندلسيون قول ابن القاسم هنا حجة في المحجورة إذا رضيت إسكان زوجها معهافي دارها وإنفاقها على نفسها رغبة في الزوج مخافة طلاقها ولغبطتها به، وأنه إن فارقها رجعت تسكن دارها وتنفق على نفسها وتفقد ما رغبته من وزجها أن ذلك لها إذا طلبته، وبذلك أفتى ابن عتاب. عياض: وقاله شيخنا هشام بن أحمد الفقيه والقاضي محمد بن حمديس، وهو الذي يوجبه النظر، وخالفهم أبو مطرف الشعبي في إنفاقها على نفسها خاصة، وقال: يلزم عليه أن يكون لها الرضا بما طلب من مالها إذا خشيت فراقه، وفرق عياض بين ما تنفقه على نفسها وبين ما تعطيه له، فإنه لو طلقها لعادت نفقتها على نفسها، فإذا كانت نفقتها على نفسها في الموضعين فبقاؤها مع زوجها أولى، ولا كذلك ما تعطيه؛ لأنه إذا طلقها بقي لها ذلك القدر، وهو فرق ظاهر إن طلب منها شيئاً كثيراً. فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ يَصِحُّ فِي الأَبِ دُونَ غَيْرِهِ أي: فإن دخل بذات الأب وذات الوصي قبل الفرض ثم فرض لهن أقل من صداق المثل فقيل: يصح رضا الأب والوصي بذلك. وقيل: لا يصح. والثالث: يصح من الأب دون الوصي وهو المشهور لقوة تصرف الأب. وقد حكى هذه الأقوال هكذا جماعة. وَإِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الْفَرْضِ خَرَجَ عَلَى الإِبْرَاءِ عَمَّا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ دُونَهُ يعني: إذا أبرأته قبل البناء ثم طلبته بعده بالصداق [328/ ب] فهل لها ذلك أم لا؟ أجرى ذلك على قولين في الإبراء. (عَمَّا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ دُونَهُ) أي دون الوجوب هل يلزم نظراً لتقدم سبب الوجوب وهو ههنا العقد أم لا؟ لأنها أسقطت حقها قبل وجوبه كما لو أسقط الشفيع الشفعة قبل الشراء، وفي ذلك قولان وكالمرأة إذا أسقطت نفقة المستقبل عن زوجها هل

يلزمها لأن سبب وجوبها قد وجد أو لا يلزمها لأنها لم تجب بعد؟ قولان حكاهما ابن راشد، وكعفو المجروح عما يؤول إليه الجرح، وكإجازة الورثة الوصية للوارث او بأكثر من الثلث للأجنبي في مرض الموصي، وأمثله هذا كثيرة، أما إن لم يجز سبب الوجوب لم يعتبر بالاتفاق حكاه القرافي. وَتَزُوَّجْتُكِ عَلَى حُكْمِي أَوْ حُكْمِ فُلانٍ أَوْ حُكْمِكِ: تَفْوِيضُ لا فَاسِدُ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ لِمَا عَلِمَ من قَوْلَ مَالِكِ، وقَالَ أَشْهَب: إِلا عَلَى حُكْمِكِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهَا لَمْ يَلْزَمَهَا مَا لَمْ يَبْنِ بِهَا .. اعلم أنه اختلف في نكاح التحكم ابتداء على أربعة أقوال: الجواز وهو قول مالك ورجع إليه ابن القاسم بناء على إلحاقه بالتفويض وعدمه. ويفسخ قبل البناء ويثبت بعده وهو الذي رجع عنه ابن القاسم في المدونة؛ لأنه خرج عن حد ما أرخص فيه من التفويض، ولم يذكر المصنف غير هذين القولين، وقيل: إن كان المحكم الزوج جاز وإن كان المحكم الزوجة أو الولي أو أجنبياً لم يجز. وقيل: يجوز إلا أن يكون المحكم الزوجة، وما ذكرناه من إطلاق الخلاف هي طريقة التونسي واللخمي وابن رشد وغيرهم. وذهب ابن الكاتب إلى أنه لا يختلف في الصحة إذا كان المحكم الزوج. قال في المقدماـ: ولا خلاف إذا كان الزوج هو المحكم على القول بجوازه أنه كنكاح التفويض إن فرض صداق المثل فأكثر لزم الزوجة، ولا يلزمه أن يفرض صداق المثل. انتهى. واختلف إذا كان المحكم الزوجة أو الولي أو الأجنبي أو أشرك أحد منهم مع أحد في التحكين على خمسة أقوال: أولها: للقابسي أن التحكم عكس التفويض، ينزل المحكم في التحكيم منزلة الزوج في التفويض، إن فرضت الزوجة صداق المثل فأقل إن كانت هي

المحكمة، أو فرض ذلك المحكم برضاها لزم ذلك الزوج، وإن فرض الزوج صداق المثل فأكثر لم يلزم ذلك الزوجة إلا أن ترضى به كانت هي المحكمة أو غيرها، وتأوله على المدونة. وثانيها: لأبي محمد وابن رشد وغيرهما أن معنى الكتاب: أن النكاح لا يلزم إلا برضا لازوج والمحكم زوجة كانت أو غيرها فرض الزوج أكثر أو المحكم أقل. قال في المقدمات: وهو ظاهر الكتاب. واستبعدوا تأويل القابسي. ثالثها: حكاه في الواضحة عن ابن القاسم وأصبغ وابن عبد الحكم أنه كنكاح التفويض في كل الوجوه إن فرض الزوج صداق المثل لزم النكاح، وإن رضي المحكم بصداق المثل أو أقل لم يلزم ذلك الزوج إلا أن يشاء، وتأوله أيضاً بعض الصقليين على الكتاب، وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف لقوله: (تَفْوِيضُ) وأطلق. والقول الرابع: لعبد الملك: أنه كنكاح التفويض إلا إذا كان المحكم المرأة فإنه لا يلزمها الرضا بصداق المثل، ولابن القاسم وأشهب نحوه أيضاً. القول الخامس: في الموازية أنه لا يلزم إلا بتراخي الزوجين كان أحدهما المحكم أو غيرهما، وحكي عن أشهب أيضاً. وَمَهْرُ الْمِثْلِ: مَا يَرْغَبُ بِهِ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهَا، ويُعْتَبَرُ الدِّينُ والْجَمَالُ والْحَسَبُ والْمَالُ والزَّمَانُ والْبَلاءُ. وفِيهَا: ويُنْظَرُ الرَّجُلُ فَقَدْ يُزَوَّجُ فَقِيرُ لِقَرَابَتِهِ، وأَجْنَبِيُّ لِمَالِهِ فَلَيْسَ مَهْرُهُمَا سَوَاءً .. يعين: يراعي في صداق المثل هذه الصفات المذكورة، وذكر في المدونة أنه ينظر إلى أشباهها في قدرها وجمالها وموضعها. قال في البيان: أي موضعها في النسب. فيحتمل ما قاله ويحتمل ما قاله المصنف من اعتبار المكان، ولابد من اعتبار الاثنين. مالك: ويعتبر حالها في زمانها. قال في البيان: وتأول بعضهم عن مالك أنه ينظر إلى أمثالها من النساء في جمالها ومالها وعقلها، ولا ينظر إلى نساء قومها، وليس ذلك بصحيح على ما

بينا من مذهبه في المدونة، قال: ونساء قومها اللاتي يعتبر بصداقهن أخواتها الشقائق أو للأب، ولا تعتبر أمهاتها ولا خالتها ولا أخواتها من أمها ولا عماتها للأم؛ لأنهن من قوم آخرين، فقد تكون قرشية وأمها من الموالي. انتهى. وقال عبد الوهاب: باعتبار عشيرتها وجيرانها كن عصبتها أو لا. قال: خلافاً للشافعي في مراعاة العصبة، وينبغي أن يراعي في ذلك العرف، فإن جرى العرف بالنظر إلى صداق الأم وغيرها كما هو في زماننا فيجب اعتبار، وأشار اللخمي وغيره إلى ذلك، وبقية كلام المصنف ظاهر التصور. ومَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْفَاسِدِ يَوْمَ الْوَطْءِ يعني: أن نكاح التفويض الفاسد بخلاف التفويض الصحيح؛ يعتبر فيه مهر المثل يوم العقد والفاسد يعتبر فيه يوم الوطء. واستغنى المصنف عن ذكر الحكم الصحيح المفهوم على ما علم من ملاءمته، وظاهر المذهب كمفهوم كلام المصنف، وقيل: يعتبر في الصحيح يوم البناء إن دخل ويوم الحكم إن لم يدخل، وبنى الاختلاف على الاختلاف في الهبة للثواب إذا فاتت هل تجب قيمتها يوم القبض أو يوم الهبة؟ وفرقوا هنا على المشهور كما قالوا في البيع الصحيح بسبب ما يطرأ من عيب أو استحقاق أن المعتبر يوم العقد، وفي البيع الفاسد يوم القبض. فإن قيل في اعتبار [329/ أ] مهر المثل في نكاح التفويض يوم العقد نظر؛ لأنه لم يكن ثابتاً حينئذ بدليل سقوطه بالطلاق والموت، فالجواب أن العقد لما كان صحيحاً وترتبت عليه الأحكام من الميراث ولحوق الولد ألحقوا ذلك به. وَإِذَا اتَّحَدَتِ الشُّبْهَةُ اتَّحَدَ الْمَهْرُ كَالْغَالِطِ بِغَيِرِ الْعَالِمَةِ نحوه في الجواهر؛ يعني: أن الوطء إذا استند إلى شبهة متحدة اتحد المهر، ويعد كوطأة واحدة فلا يجب إلا مهر واحد، كما لو وطئ أجنبية مراراً يظنها زوجته أو أمته.

وقوله: (بِغَيِرِ الْعَالِمَةِ) وأما لو كانت عالمة فلا شيء لها؛ لأنها زانية، ومفهوم كلام المصنف أنه لو تعددت الشبهة تعدد المهر كما لو وطئها مرتين ظناً في واحدة زوجته وفي الأخرى أمته، وهكذا ينبغي إذا تخلل بين الوطأين وطء مباح ظاهراً أو باطناً، فوطئها غالطاً ثم تزوجها فوطئها غالطاً أو لم يطأها ثم طلقها ووطئها غالطاً ما لم يكن وطؤه بعد ابلصداق بشبهة مستندة للطلاق، كما قالوا: إذا قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها ووطئها فلا شيء عليه إلا صداق واحد على المشهور. وقيل: عليه صداق ونصف وهو القياس، وكما لو خاطب امرأته بكلام يعتقد أنه لا يلزم به شيء واسترسل على وطئها ثم سأل مفتياً عن ذلك، فقال: وقع عليك الطلاق به، فالمذهب أيضاً أنه لا يلزمه إلا صداق واحد، وظاهر كلامهم أنه لا فرق في الحكم بين أن يكون المسمى مساوياً لصداق المثل أو أقل. وَإِلا فَفِي كُلِّ وَطْأَةٍ مَهْرُ كَالزِّنَى بِغَيْرِ الْعَالِمَةِ أَوْ الْمُكْرَهَةِ نحوه في الجواهر، وتصوره ظاهر، ولولا تمثيله بالصورتين المذكورتين لكان كلامه مشكلاً؛ لأنه اشترط في اتحاد المهر الشبهة واتحادها، ثم قال: وإلا فيدخل فيه ما إذا انتفت الشبهة وكان الوطء زنى محضاً، ومن صور الزنى المحض ما لا يجب فيه المهر فلا يصدق قوله: (فِي كُلِّ وَطْأَةٍ مَهْرُ). التَّسْلِيمُ: وَيَجِبُ تَسْلِيمُ حَالِّهِ ومَا يَحِلُّ مِنْهُ بِإِطَاقَةِ الزَّوْجَةِ الْوَطْءَ وبُلُوغِ الزَّوْجِ لا بُلُوغِ الْوَطْءِ عَلَى الْمَشْهُورِ. أي: ويجب تسليم حال المهر وما كان منه مؤجلاً، فحل عند زمان إطاقة الزوجة الوطء وعند بلوغ الزوج الحلم على المشهور، ولمالك في كتاب ابن شعبان: عند بلوغه القدرة على الوطء كالمرأة، والفرق المشهور أن من يمكن وطؤها يحصل منها كمال اللذة

بخلافه، وإنه لا يحصل له كمال اللذة إلا ببلوغ الحلم، والباء في قوله: (بِإِطَاقَةِ الْوَطْءَ) باء السبب، وهذا إذا لم يكن من الزوجين تمانع في المبدأ منهما، أما لو تنازعا في البداية ففي الجواهر وهو ظاهر كلام المصنف أن الزوج يبدأ بتسليم المهر وهو مقتضى المدونة؛ لقوله فيها: وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها. وقال ابن القصار: الذي يقوى في نفسي أن الصداق يوقف ولا تأخذه المرأة حتى تمكن من نفسها. وفي الواضحة: وإذا طلبت قبل البناء أخذ النقد وأبى الزوج إلا عند البناء فللزوج ذلك إلا أن تشاء تعجيل البناء فلها قبضه. إِلا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّناً كَدَارٍ أَوْ عَبْدٍ فَيَجِبُ بِالْعَقْدِ أي: إلا أن يكون الصداق شيئاً معيناً لا مضموناً كدار أو عبد فيجب تسليمه للمرأة بالعقد، ولا ينظر بلوغ الزوج ولا إطاقة الزوجة الوطءن ولا يجوز تأخيره كما لا يجوز بيع معين يتأخر قبضه للغرر؛ إذ لا يدري على أي صفة يقبض، ونظير الصداق في أنه لا يجب تعجيله إلا أن يكون معيناً الأجرة فإنه لا يجب تعجيلها إلا بشرط، إلا أن تكون شيئاً معيناً. وَالْمَرِيضَةُ كَالصَّحِيحَةِ يعني: أنه لا يجوز له الامتناع في دفع الصداق لمرضها ولو بلغت حد السياق، وأما النفقة فمذهب المدونة وجوبها وإن لم يقدر الزوج على الجماع ما لم تكن في السياق. والفرق بين النفقة والصداق أن النفقة في مقابلة الاستمتاع، والاستمتاع من التي بلغت حد السياق متعذر، وأما الصداق فلا يصلح أن يكون المرض مانعاً منه؛ لأن غاية حصول الموت معه، والموت موجب التكميل.

وَالرَّتْقَاءُ والْمَجْنُونَةُ ونَحْوُهُمَا مِمَّا طَرَأَ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ رَضِيَ بِهِ بَعْدَهُ كَغَيْرِهِنَّ، وإِنْ لَمْ يُمَكِنْ وَطْؤُهُنَّ .. لأن العيب الطارئ بعد العقد لزمه كما تقدم، وإذا لزمه كان لها من الحق ما للسالمة. وَقَالَ سُحْنُونُ: لا يَجِبُ مُؤَجَّلُ يَحِلُ إِلا بِالدُّخُولِ. وَأَلْزَمَ الأَجَلَ الْمَجْهُولَ. قول سحنون راجع إلى صدر المسألة؛ وهي قوله: (وَيَجِبُ تَسْلِيمُ حَالِّهِ ومَا يَحِلُّ مِنْهُ) أي: وخالف سحنون فيما حل منه، وقال: لا يجب إلا بعد الدخول. وروى عن مالك أيضاً قوله: وألزم الأجل المجهول. يعني: وألزم سحنون على قوله هذا بوجهين: الأول: أنه لما كان جواز أن يكون الصداق إلى أجل مجهول من إلزامه التأخير إلى الدخول، والدخول غير معلوم، والموقوف على المجهول مجهول، وأجيب بوجهين: الأول: أنه لما كان الدخول بيد المرأة في كل وقت صار حالاً، والثاني: أن الدخول كان معلوماً عندهم كما تقدم. وَلِلْمَرْأَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا مِنَ الدُّخُولِ ومِنَ الْوَطْءِ بَعْدَهُ، ومِنَ السَّفَرِ مَعَهُ حَتَّى تَقْبِضَ مَا وَجَبَ مِنْ صَدَاقِهَا .. ما وجب يعني الحال أو ما حل، وظاهر قوله: (وَلِلْمَرْأَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا) أن ذلك حق لها، فيجوز إذا رضيت بالدخول من غير أن تقبض شيئاً، وليس بظاهر؛ بل ذلك مكروه عند مالك إلا بعد [329/ ب] تقديم ربع دينار، نص على ذلك صاحب البيان وغيره. وقوله: (ومِنَ الْوَطْءِ بَعْدَهُ) يريد: بعد اختلائه بها وقبل أن تمكنه من نفسها، وأشار بذلك إلى ما وقع في العتبية أن رجلاً سأل مالكاً فقال له: إن امرأتي أذنت لي بالدخول عليها والمبيت معها وأنا أضجع إلى جانبها في اللحاق وتمنعني نفسها حتى أعطيها صداقاً، فقال: لها ذلك.

فإن قلت: لما حملت قوله: (ومِنَ الْوَطْءِ بَعْدَهُ) على أن المراد بعد الخلوة، ولم تحمله على أن المراد بعد الوطء؛ لأن ذلك هو الدخول المعروف عند الفقهاء، فالجواب يمنع من ذلك وجهان: الأول: أن قوله: بعد ذلك في آخر المسألة: (فإن وطئها لم يبق لها إلا المطالبة) يدل على أنه هنا لم يتقدم له منها وطء. الثاني: أنا لو حملنا كلامه على ما فهمت لكان مخالفاً لقول ابن القاسم، فإن ابن القاسم نص في العتبية على أنها بعد الوطء ليس لها أن تمنع، نعم وهو قول محمد. ابن عبد السلام: وأما امتناعها من السفر معه قبل قبض صداقها فإنما يكون لها ذلك قبل الدخول بها. فرع: كره ابن القاسم في العتبية الدخول بالهدية، قال: لأنها ليست من الصداق. قال في البيان: لأنه لو طلقها لم يكن له منها شيء ولو كانت قائمة. قيل لابن القاسم: فإن ألفى النكاح مفسوخاً هل يرجع ويأخذ هديته؟ قال: إن أدرك منها شيئاً أخذه وإن فاتت لم يكن له قبلها قليل ولا كثير. قيل: هل يدخل بها إذا رهنها في الصداق؟ فقال: نعم. قيل: هل يجوز أن يتحمل عنها بالصداق ويبني بأهله؟ قال: أخبرني من أثق به أن بعض أهل العلم أجازه، وأحب إلي أن يقدم لها ربع دينار. قال في البيان: وأجاز له ابن حبيب الدخول بالهدية. ومثله لمالك في المبسوط من رواية ابن نافع، وفي الموازية لمالك أن من تزوج امرأة فلا يدخل بها حتى تقبض من ذلك ثلاثة دراهم. وقال أيضاً: له أن يدخل وإن لم يعط شيئاً لأنه حق له. فعلى القول بأنه لا يدخل بها في الدين حتى يعطي ثلاثة دراهم لا يجوز أن يبني بها بالرهن، قال: وأخف هذا المسائل

الدخول بالدين، والأظهر أن الدخول به جائز، لأنه قد وجب لها ولو شاءت باعته وأخذت ثمنه، ويليه الدخول بالرهن لأنها قبضت ما هي أحق به في الموت والفلس، وأشدها الدخول بالحمالة. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تُلُوِّمَ لَهُ بِأَجَلٍ بَعْدَ أَجَلٍ، ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ يعني: إذا طلب الزوج بالصداق فإن صدقته المرأة أو أقام بينة على إعساره ضرب له الأجل. المتيطي: ويؤجله في إثبات عسره أحداً وعشرين يوماً، ستة ثم ستة ثم ستة ثم ثلاثة، وللمرأة أن تطالبه بحميل بوجهه، فإن عجز عنه فلها أن تسجنه، لأن الصداق دين كسائر الديون، فإذا أثبت إعساره أو صدق اجله الحاكم وتلوم له. قال في المدونة: ويختلف التلوم فيمن يرجى وفي من لا يرجى، أي: فيطول في الأجل في حق من يرجى دون غيره. واختلف الشيوخ فرأى ابن بشير أن المذهب كله على ما حكيناه عن المدونة، وأن ما وقع في الروايات من الخلاف إنما هو بحسب الأشخاص، ورأى اللخمي والمتيطي وابن يونس وغيرهم ذلك خلافاً حقيقياً. اللخمي: واختلف في مواضع: أحدها في قدر التلوم، والثاني: هل يؤخر بشرط النفقة؟ الثالث: هل يطلق على من لا يرجى بغير أجل؟ ففي المدونة: يتلوم له على حسب ما يرجى له ولم يوقت، وفي الموازية، يؤخر السنتين ولا يعجل بعد السنتين حتى يتلوم له تلوماً آخر السنة وشبهها. وقال ابن حبيب: إن اتهم أن يكون أخفى ماله لم يوسع في الأجل، وإن تبين عجزه عن الصداق وعن النفقة لم يوسع أيضاً في الأجل، ويؤخر الأشهر والسنة أكثره. وقال سحنون في كتاب ابنه: في من ملك ببيع الفاكهة وأقام بينة بعدم الصداق، وقامت الزوجة بالفراق وقال الزوج أجلوني، فلا يؤجل مثل هذا لأنه لا يرجى له شيء. وقال مالك في المختصر

ما ليس في المختصر: إن أعسر بالصداق قبل البناء فإن عرف بالخلابة فرق بينهما وإن كان من أهل الهيئة والحال انتظر به، يريد في الأولى أنه يفرق من غير أجل. انتهى وذكر المتيطي الذي اختاره الموثقون في مقدار الأجل: ثلاثة عشر شهراً، ستة أشهر، ثم أربعة، ثم شهران، ثم شهر، ونقله ابن سحنون. ولمالك في المختصر أنه يضرب له السنة والسنتين ثم يفرق بينهما وإن كان يجري النفقة. وإذا ضرب الأجل فقال ابن مالك في أحكامه: لا يعد اليوم الذي يكتب فيه الأجل. خليل: ولا يبعد أن يختلف فيه لعهدة السنة والكراء ونحوهما، واختلف الشيوخ في قول ابن القاسم في المدونة، الذي حكيناه عنه في صدر المسألة، ففهم منه فضل أنه إذا لم ييرج له شيء لا يضرب له أجل، وحكى ذلك عن ابن القاسم، وفهمه الأكثر على التلوم في الجميع كما قاله ابن حبيب. عياض والمتيطي: وهو الصواب. واعلم أنه إن كانت الزوجة ثيباً فالحق لها دون أبيها وإن كانت بكراً فهل للأب ذلك وإن لم تطالبه البتة. المتيطي وغيره: ظاهر المدونة يدل أن ذلك للأب، قال: وإليه ذهب بعض شيوخنا وقال: إنه مقتضى المذهب. وقال أبو المطرف الشعبي: وكما له أن يجبرها على النكاح كذلك له جبرها على الدخول وتسليمها لزوجها، وذهب ابن عتاب وابن رشد وغيرهما إلى أنه ليس له ذلك إلا بتوكيلها على ذلك. وقوله: ثم يعرف فإن ضرب الأجل ولم يقدر عن الصداق وعجز عن جميع الصداق أو بعضه فرق بينهما بطلقة.

وَفِي نِصْفِ الصَّدَاقِ حِينَئذٍ قَوْلانِ أي: [330/ أ] حين التفريق بالإعسار بالصداق، وظاهر المذهب الوجوب لاحتمال أن يكون أخفى ما له، وهو قول ابن القاسم وابن وهب وأصبغ وابن عبد الحكم، والقول بأنه لا يلزمه شيء لابن نافع لأن الفراق جاء من قبلها. بِخِلافِ الْمَجْنُونِ يُطَلَّقُ عَلَيْهِ أي: إذا ردته بجنونه فلا شيء لها بالاتفاق لأنه فراق جاء من جهتها ويشارك المجنون كل من به عيب كالخصي والمجبوب والعنين والمختارة لعتقها، والفرق للمشهور هو ما تقدمت الإشارة إليه وهو إتمام المعسر على إخفاء المال، فيكون الطلاق من جهته. فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَبْقَ لَهَا إِلا الْمُطَالَبَةُ يعني: أن ما ذكرناه من التطليق بالإعسار بالصداق وفي معناه التفريق للنفقة إنما هو إذا كان قبل الوطء، وأما إن وطئها فلا تطلق عليه بذلك وليس لها إلا المطالبة. وَإِذَا قَبَضَتْهُ أَمْهِلَتْ قَدْرَ مَا يُهَيِّئُ مِثْلُهَا أُمُورَهَا فِيهِ لما قدم أنه يجب على المرأة تسليم نصيبها بإعطاء مهرها، بين هنا أنها تمهل (قَدْرَ مَا يُهَيِّئُ مِثْلُهَا أُمُورَهَا فِيهِ) أي: من الشراء لما يصلح لجهازها والمرجوع في ذلك إلى العادة. فرعان: الأول: إذا غاب وليها وأراد الزوج البناء ففي الضرر قال بعض المعتبرين: إذا كان الولي قريباً أعذر إليه في ذلك، فإن أتى أو جاوب بالآيات عن قرب لمثل ما تجهز فله ذلك، وإن لم يرجع أو كان بعيداً قضي للزوج بالبناء ولم ينتظر رجوع الأب. الثاني: إذا نكحها ببلد وشرط عليها البناء ببلد آخر فقال بعض الأندلسيين: على الولي حملها إلى بلد البناء ومؤنة الحمل عليه والنفقة إلى وقت البناء وإن كانت

ثيباً كان ذلك عليها إلا أن يشترطوه على الزوج فيكون عليه. قالوا: ولو كان على الطوع لكان أحسن. وَلا تُمْهَلُ لِحَيْضٍ إذ له الاستمتاع بما فوق الإزار وَتُمْهَلُ للصَّغَرِ والْمَرَضِ الْمَانِعَيْنِ مِنَ الْجِمَاعِ إذ لا منفعة له في الدخول، قال في المدونة في الذي شرطوا عليه الدخول إلى سنة: إن كان لصغر والاستمتاع أهلها لتغذية الزوج بها فذلك لازم وإلا بطل الشرط. وقال أصبغ: ما ذلك بالقوي إذا احتملت الوطء. وقال في العتبية والموازية: إذا اشترطوا عليه خمس سنين فبئس ما فعلوا، والنكاح جائز والشرط باطل. وَلَيْسَ لِوَلِيِّ النِّكَاحِ قَبْلَ الصَّدَاقِ إِلا بِتَوْكِيلٍ خَاصٍ بِخِلافِ وَكِيلِ الْبَيْعِ يعني: إذا وكلت المرأة وليها على عقد نكاحها لم يستلزم ذلك التوكيل على قبض الصداق، وإنما له قبضه إذا وكلت عليه، وأما وكيل البيع فوكيل على قبض الثمن وفرق بينهما بوجهين: أحدهما: أن العادة جارية بقبض الوكيل في البيع دون النكاح. الثاني: أن الوكيل في البيع لما كان يدفع المبيع كان له قبض الثمن ووكيل النكاح لا يدفع العوض الذي هو البضع، فلا يكون له قبض عوضه. وقوله: (إِلا بِتَوْكِيلٍ خَاصٍ) أي: في حق من يصح منه التوكيل، لأن البكر لا تتولى قبض الصداق كما سيأتي، فلا توكل على قبضه.

فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ فَتَتْبَعُهُ أَوِ الزَّوْجَ أي: فإن قبض من ليس له القبض فإنه يضمن؛ قاله في المدونة ابن القاسم وإنما ضمنه مالك لأنه كان متعدياً في القبض إذ لم توكله البنت على قبضه، فكان كدين لها على رجل قبضه الأب بغير أمرها فلا يبرأ الغريم والأب ضامن، ولها أن تتبع الغريم. وقيد ابن حبيب ضمان الأب بما إذا لم يكن رسولاً للزوج. قال: وأما إن كان رسولاً له فلا يضمن وهو ظاهر، لأنه إذا كان رسولاً له فهو أمينه، ولهذا أنكر سحنون الضمان هنا، قال: لأنه إن كان رسولاً من الزوج فهو أمينه وإن من الزوجة فلا يضمن أيضاً لأنه وكيلها. وأجيب لعله قبضه من غير إرسال من الزوج ولا توكيل من المرأة بل لأنه يظن أنه له القبض والزوج يعتقد ذلك، كالوكيل على بيع سلعة وفيه نظر حينئذ لأن الزوج سلط على ماله جهلاً منه كمن أثاب من صدقة، بل الولي أقوى شبهة منه. وقوله: (فَتَتْبَعُهُ أَوِ الزَّوْجَ): الزوج معطوف على الهاء فهو منصوب، يعني: إذا قبض من لم يكن له القبض تبعته المرأة إن شاءت أو تبعت الزوج، لأن الزوج لم يبر بدفعه إلى غير صاحب الحق وكيله، ويحتمل أن يضبط (الزوجُ) بالرفع، أي: فتبعته هي لأن الزوج إذا لم تبرأ ذمته ورجعت على الزوج، كان للزوج الرجوع عليه بما قبض منه، وللمرأة أن تتبعه لأنه غريم غريمها، وفي هذا الوجه الثاني العطف على الضمير المرفوع، وقد حصل شرطه وهو الفصل بمفعول (تَتْبَعُهُ). وأَمَّا قَبْضُ الْمُجْبِرِ أَوِ الْوَصِيِّ فَمَاضٍ يعني: أن ما قدمه إنما هو في الولي غير المجبر والوصي، وأما هما فلا يعطى الصداق إلا لهما. وفي قوله: (مَاضٍ)، إيهام أنه لو قبضته هي لجاز وليس كذلك.

فَإِنِ ادَّعَيَا التَّلَفَ ولا بَيِّنَةَ عَلَى الْقَبْضِ فَفِي رُجُوعِهِمَا عَلَى الزَّوْجِ قَوْلانِ قيد القولين بقوله: (ولا بَيِّنَةَ) لأنه لو قامت البينة على القبض لم يكن للزوجة كلام، وأما إذا لم تقم بينة، فقال ابن القاسم: الأب مصدق في الضياع وهو من الابنة. المتيطي: قال بعض الموثقين وهو دليل المدونة وبه الحكم. ابن عبدوس: وهو أصل ابن القاسم في الوكيل المفوض أو الوصي يقر أحدهما بقبض الدين ويدعي التلف أنه يقبل قوله. ابن يونس: وهو القياس لأن الأب الذي له قبضه بغير توكيل [330/ ب] عليه أقر بقبضه فوجب أن يبرأ بذلك الزوج كوكيل البيع فإنه مصدق، وصوبه أيضاً ابن شبلون وابن محرز. ابن شبلون: لأن مالكاً ذكر في كتاب الديات والشهادات أن الوصي إذا أقر بقبض ما على الغرماء وضاع أنه يصدق ويبرأ الغرماء، فالأب في إقراره بقبض صداق ابنته وضياعه أحرى أن يصدق، والقول بعدم براءة الزوج لمالك في الموازية، قال: عليه دفعه ثانية ولا شيء للزوج على الأب، وبه قال ابن وهب وأشهب وأصبغ وابن حبيب. القابسي: وهو أصوب لأن الأب يتهم أن يكون وضع الصداق من غير طلاق، ولأن من حق الزوجة ألا تسلم سلعتها إلا بقبض ثمنها. ابن يونس: وهذا القول أحوط، وهو جار على مذهب المدونة. وحكى بعضهم قولاً ثالثاً ببراءة الأب وعدم براءة الوصي، فإذا قلنا بتصديق الأب وبراءة الزوج وهو الظاهر، فقال غير واحد من الموثقين: على الأب اليمين لحق الزوج في تجهيز زوجته بالمهر، كان الأب مشهوراً بالصلاح أم لا، ولم يبينوا هل القبض ببينة أو بغير بينة. بعض الموثقين: وكلاهما عندي سواء، قيل: والوصي ملحق به في ذلك.

فروع مرتبة: الأول: لو طلقها الزوج قبل البناء وكان لها مال يوم دفع صداقها إلى أبيها كان نصفه في مالها وإن لم يكن حينئذ مال، فمصيبته حينئذ من الزوج ولو حدث لها مال بعد ذلك قاله ابن عبدوس. الثاني: إ ذا ادعى الأب أنه دفع إليها الصداق عيناً لم يبر بذلك، لأن البكر لا يدفع لها العين وإنما يريد أن يشتري به جهازاً. ابن حبيب: والموثقون ويبرئ الأب من الجهاز ثلاثة أوجه: الأول: أن يدفعه إلى الزوجة ويشهد الشهود على معاينة القبض، كان الدفع ببيت البناء أم لا؟ الثاني: أن يحضره بيت البناء ويوقف الشهود عليه. والثالث: أن يوجه ذلك إلى بيت البناء بحضرة الشهود بعد أن يقدموه ويعاينوه ولا يفارقوه حتى يوجه إلى بيت البناء فإنه يبرأ وإن لم تصحبه البينة إلى البيت. ابن حبيب: وليس للزوج أن يدعي أن ذلك لم يصل إلى بيته وإن ادعاه لم يسمع. قال بعضهم: ويكفي في قبضها معاينة الشهود دون نطقها بالقبض. الفرع الثالث: إذا قامت البينة على إقرار الأب والوصي بقبض الصداق ثم ادعى أنه لم يقبض، وقال: ظننت به الخير فلذلك أشهدت له بالقبض. ففي تحليف الزوج ثلاثة أقوال: قال في الموازية: يحلف. وبه قال أصبغ وابن حارث وابن لبابة لأن ذلك مما يجري بين الناس، وحكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه أنه لا يحلف إلا أن يأتي الأب بسبب يدل على ما ادعاه ويقع على الزوج تهمة فيحلف ونحوه لابن عبد الحكم، قال: ولو جاز له تحليفه لما كان للوثائق معنى.

المتيطي: والذي جرى به العمل بين المفتين وقاله غير واحد من الموثقين، إن قام الأب على قرب من تاريخ النكاح كالعشرة أيام ونحوها حلف، وإن قام على بعد لم يلزمه. وَيَتَقَرَّرُ كَمَالُ الْمَهْرِ بِوَطْءِ الْبَالِغِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَفِي تَقَرِيرِهِ إِذَا افْتَضَّهَا بِالأُصْبُعِ قولان، وكَذَلِكَ طُولُ الْمَقَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وفِي تَحْدِيدِهِ بِسَنَةٍ أَوْ بِالْعُرْفِ قَوْلانِ .. يعين: أنه يجب جميع المهر على الزوج بأحد ثلاثة أشياء، الأول: وطء الزوج البالغ الحلم ثم زوجته البالغة حد الوطء كما تقدم. وقوله: (بِوَطْءِ الْبَالِغِ) مصدر مضاف إلى الفاعل، والمراد بلوغ الحلم، يريد ويشترط أن تكون المرأة مطيقة للوطء. الثاني: موت أحدهما إما الزوج أو الزوجة. الثالث: طول المقام بعد البناء على الرواية المشهورة، وروي عن مالك، ليس لها إلا نصفه بناء على أن طول المقام يتنزل منزلة الوطء أولاً، لقوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237]. وفي المسألة قول ثالث: أن لها النصف وتعاض من تلذذه بها، وقد تقدم أن في مسالة المغترض قولاً بالتكميل وإن لم يطل. وقوله: (وفِي تَحْدِيدِهِ .. إلخ) تصوره ظاهر، والتحديد بالعام مذهب المدونة. فرع: فإن أصابها بأصبعه، فإن كانت ثيباً فلا شيء لها، وإن كانت بكراً أو افتضها به فاختلف قول ابن القاسم في العتبية في تكميل الصداق عليه، ومال أصبغ إلى عجم التكميل واستحسنه اللخمي، وعليه فيكون عليه أرش البكارة.

وَدُخُولُ الْمَجْبُوبِ والْعِنِّينِ كَوَطْءِ غَيْرِهِمَا أي: فيكمل الصداق عليهما وإن لم يطل مقامهما، وحكى اللخمي عن المغيرة أن الصداق إنما يكمل في المجبوب ومن في معناه بشرط الطول وفيه بعد، لأن من هذا حاله دخل على عدم الإصابة وقد حصل قصده بخلاف المعترض. والمذهب أن القول قولها في الوطء إذا خلا بها خلوة الاهتداء، ولو كانت محرمة أو حائضاً أو في نهار رمضان، وكذلك المغصوبة تحتمل ببينة وتدعى الوطء لها الصداق كاملاً، ولا حد عليه. وقيل: إن كانت بكراً نظر النساء .. يعني: إذا اختلف الزوجان في الإصابة فإن ادعتها المرأة وأنكر ذلك الرجل فالقول قولها إذا خلا بها خلوة اهتداء إذا خلا بينه وبين امرأته، وهو مراد علماءنا بإرخاء الستر، وليس المراد [331/ أ] إرخاء ستر ولا إغلاق باب، قاله ابن أبي زمنين. وبالغ المصنف في تصديقها بقوله: (وَلَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ حَائِضاً أَوْ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ) وهكذا قال في المدونة، ولعل المصنف نسب المسألة للمذهب تبرياً من تصديقها بقوله: (وَلَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً) مع قيام المانع الشرعي، ورأى أن ذلك كالمخالف لأصل المذهب في اختلاف المتبايعين وغيرهما أن القول قول مدعي الصحة. وأجيب بأنه إنما رجح مدعي قول الفساد هنا لأن الحامل على الوطء أمر جبلي، لأن العادة أن الرجل إذا خلا بامرأته أول خلوة مع الحرص عليها والتشوف إليها قلما يفارقها قبل الوصول إليها، ورأى بعضهم أنها لا تصدق مع المانع الشرعي إلا على من يليق به ذلك، وأما الصالح فلا، ولم يتعرض المصنف لقبول قول المرأة هل بيمين وهو الظاهر، وهو قول ابن المواز قال: فإن نكلت حلف الزوج ولم يلزمه إلا النصف أو بغير يمين وهو قول ابن المعذل، وحكاه القنازعي عن ابن القاسم. ابن بشير: ومنشأ الخلاف هل الخلوة كشاهد أو شاهدين.

وقوله: (وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوبَةُ تَحْتَمِلُ .. إلخ)، نحوه في المدونة، زاد في الواضحة: بيمين. وعن مالك في التي تعلقت برجل وهي تدمي أن لها الصداق بغير يمين واستحسنه اللخمي، واختار ابن يونس وغيره الأول، وإنما ثبت الصداق ولم يثبت الحد، لأن الشرع جعل لإثبات الحقوق المالية طريقاً غير طريق إثبات الزنى، ويكفي في البينة التي تشهد باحتمال المغصوبة اثنان، وفي العتبية ما في ظاهره أنه لا يكتفي إلا بأربعة. ابن عبد السلام: وليس بصحيح. ابن المواز: وعليه الأدب الوجيع. قوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِكْراً نَظَرَ النِّسَاءُ): هذا القول مقابل المذهب، أي: المشهور قبول قول المرأة في دعواها الوطء مطلقاً بكراً كانت أو ثيباً، وقيل: ينظر النساء البكر، وما ذكره المصنف من الخلاف في البكر هي طريقة اللخمي وابن بشير وغيرهما، وععن ابن بشير الشاذ لمالك من رواية ابن وهب وإسماعيل بن أبي أويس، وبعضهم جردها على الخلاف كالثيب. وفِي خَلْوَةِ الزِّيَارَةِ: مَشْهُورُهَا قَوْلُ الزَّائِرِ مِنْهُمَا لِلْعُرْفِ بِخِلافِ خَلْوَةِ الاهْتِدَاءِ واختلف إذا ادعت عليه الوطء في خلوة الزيارة وأنكره، فحكى اللخمي وابن يونس وغيرهما أربعة أقوال: الأول: أن القول قولها قياساً على الفرع المتقدم. الثاني: أن القول قوله: والفرق أن خلوة الاهتداء تنتشط فيها النفوس بخلاف الزيارة. الثالث: وهو المشهور: إن زارته فالقول قولها لأن العرف أن الرجل ينتشط في بيته، وإن زارها فالقول قوله لأن العرف أنه لا ينتشط إليها، وهذا معنى قوله: (لِلْعُرْفِ). الرابع: الفرق بين البكر والثيب كما تقدم، ولعل المصنف استغنى عنه بما قدمه.

وَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي الْوَطْءِ- لَهَا وعَلَيْهَا- وإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً أَوْ بِكْراً صَغِيرَةً أَوْ أَمَةً عَلَى الْمَشْهُورِ لأَنَّهُ لا يُعْرَفُ إِلا بِقَوْلِهِا .. يعني: أن قولها يقبل سواء ادعت الوطء كما تقدم أو نفيه، ولا خلاف في ذلك إن كانت ثيباً رشيدة. واختلف في السفيهة والبكر الصغيرة والأمة، فالمشهور أنهن كذلك لأنه لا يعرف إلا بقولها فتصدق فيه كما تصدق في انقضاء العدة. والقول بأن السفيهة لا يقبل قولها لمطرف في الثمانية؛ لأنها تسقط حقاً وجب لها. وقال سحنون في السفيهة والأمة: وقد تقدم أن الكبيرة لا تأخذ الصداق إلا بعد اليمين على الظاهر، وأما الصغيرة فلا تحلف في الحال، ويقال للزوج: احلف فإن نكل غرم الجميع، وإن حلف دفع النصف فإن بلغت حلفت وأخذت النصف الآخر، وإن نكلت لم يحلف الزوج ثانية، وبالجملة فهي كالصغيرة يقوم لها شاهد، وقيل لا يمين على الصغيرة بخلاف الكبيرة وهو بين. وَإِذَا أَقَرَّ بِهِ وَأَنْكَرَتْهُ ثُمَّ أَبَانَهَا فَلَهَا تَكْذِيبُ نَفْسِهَا لِلْمَهْرِ تصوره ظاهر. ابن عبد السلام: وليس لقوله: (ثُمَّ أَبَانَهَا) كبير فائدة، وفي المسألة ثلاثة أقوال: الأول: لمالك في العتبية وهو قول سحنون في نوازله: لها أن تأخذ الجميع وإن بقيت على إنكارها لاعترافه بذلك. الثاني: ليس لها إلا النصف وإن رجعت إلى قوله إلا أن يشاء لإقرارها لأنها لا تستحق إلا النصف. الثالث: أن لها ذلك بشرط أن ترجع إلى قوله، وهو قول لسحنون وغيره من الأشياخ، وبه فسر المدونة، وهو الذي اقتصر عليه المصنف.

ابن بشير مفرعاً على هذا القول: وهذا ما دام مقراً بالوطء، فإن أنكر أيضاً فلا صداق لها. قال الأشياخ: ومن سبق منهما بالرجوع إلى قول الآخر قبل قوله وحكم بمقتضاه. انتهى. يريد ولا يتلفت إلى رجوعه بعد ذلك. ابن راشد: ولو كانت سفيهة لم يقبل قولها ووجب لها صداقها. وقاله ابن محرز في خلوة الزيارة، وأشار إلى أنه لا يختلف فيه، وذلك في خلوة البناء آكد، وأوجب. انتهى. خليل: وفيه نظر، وليس في كلام ابن محرز ما يقتضي الاتفاق، وقد حكى اللخمي وغيره في البكر قولين: أحدهما: أنها كالثيب وهي بالخيار أو وليها في أخذه. والثاني لمطرف: لا خيار لها وعلى وليها قبض ذلك. اللخمي: وهو أحسن إذا كانت خلوة بناء وإن كانت خلوة زيارة لم تأخذه إلا أن تصدقه، وحكى ابن عبد السلام في الأمة والسفيهة القولين. وَيَتَشَطَّرُ الْمَهْرُ بِالطَّلاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، ويَسْقُطُ الْجَمِيعُ بِالْفَسْخِ قَبْلَهُ، وفِي سُقُوطِهِ لاخْتِيَارِهَا لْعَيْبِهِ: قَوْلانِ .. أما تشطره فلقوله تعالى [331/ ب] (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237]. وقوله: ويسقط الجميع بالفسخ قبله، يستثنى من ذلك نكاح الدرهمين كما تقدم هذان القولان في آخر العيوب. وَزِيَادَتُهُ ونُقْصَانُهُ لَهُمَا وعَلَيْهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ- كَثَمَرِ الْحَائِطِ، وَغَلَّةِ الْعَبْدِ، وَوَلَدِ الأَمَةِ، ومَا يُوهَبُ لَهُمَا، وَنَتَاجِ الْحَيَوَانِ، وغَلَّتِهِ- لأَنَّ ضَمَانَهُ إِذَا طَلَّقَهَا مِنْهُمَا وقِيلَ: لَهَا وعَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَى نِصْفِهِ أَوْ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ مَلَكَتْهُ. ما ذكر أن المشهور وهو مذهب ابن القاسم في المدونة في كتاب النكاح الثاني والزكاة الثاني منها، والقول بأن الغلة لها والنقصان عليها لعبد الملك.

وقوله: (كَثَمَرِ الْحَائِطِ .. إلخ) هي أمثلة للزيادة، وعطف المصنف نتاج الحيوان على غلته يدل على أن الولد ليس بغلة وهو المشهور في المذهب خلافاً للسيوري في قوله أن الولد غلة، وقد نص في المدونة على أن ولد الأمة ونسل الحيوان يكون في الطلاق بينهما. ابن الكاتب: فوجه قول ابن القاسم قوله عليه الصلاة والسلام: "الخراج بالضمان"، فلما كان ضمان هذه الأشياء قبل البناء منهما بإجماع أصحاب مالك، كانت الغلة بينهما، ووجه قول غيره أنه لما كانت لو هلكت هذه الأشياء قبل النكاح كان للزوج أن يدخل ولا شيء عليه بإجماعنا، كان الصداق في يدها أو في يد الزوج، صح أن ضمانه من الزوجة فوجب أن تكون الغلة لها. وقول ابن القاسم أصح لأن ملك الزوجة للصداق ملك غير مستقر قبل البناء، وإذا وقع البناء صح ملكها ووجب عليها ضمانه ولها غلته، فإذا طلق الزوج قبل البناء صح ملكها للنصف وملكه للنصف، فوجب أن تكون الغلة بينهما ونحوه لابن يونس، ووقع لابن القاسم في الرهن من المدونة ما ظاهره موافقة هذا القول لأنه قال: ومن رهن امرأته رهناً قبل البناء، ويمكن تأويل هذا على أنها تملك الجميع ملكاً ظاهراً لا حقيقة، ألا ترى أن لها الهبة والبيع الصدقة والإعتاق بشرط أن يكون ذلك ثلث مالها فأقل، ولهذا أوجب عليها في المدونة زكاة الفطر، وقول المصنف لأن ضمانه إذا طلقها منهما هو توجيه لابن القاسم لأن القائل الآخر يوافقه على ذلك. الضمير في قول المصنف: (أَوْ رَجَعَ) عائد على النصف، التقدير: أو رجع النصف للزوج بعد أن ملكته، وهذا ينبني على أن المرأة تملك الجميع بالعقد، وهذا الكلام كله يقتضي أن المشهور أن المرأة تملك بالعقد النصف وهو خلاف ما شهره صاحب الجواهر وابن راشد فإنهما قالا: المشهور لا تملك المرأة بالعقد شيئاً. وعلله ابن راشد بجواز طروء الفسخ ولو تقرر لها شيء لما سقط ملكها عنه.

ويقع في بعض النسخ: (وزيادته ونقصانه له وعليه)، ولعل ذلك ليوافق كلامه في الجواهر. والصحيح هنا ما قدمناه، وفي كلام صاحب الجواهر نظر لمخالفته للمدونة، ثم إن البناء الذي ذكره المصنف لا يوافق هذه النسخة، واخلتف إذا أصدقها جارية ثم وطئ تلك الجارية قبل البناء، فهل يحرم أم لا؟ بناء على القولين اللذين ذكرهما المصنف. وفِي مَعْنَى الصَّدَاقِ مَا يَنْحَلُهُ الزَّوْجُ الْمَرْأَةَ أَوْ لِوَلِيِّهَا فِي الْعَقْدِ أَوْ قَبْلَهُ لأَجَلِهِ إِذَا شَرَطَهُ لأَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَخْذَهُ مِمَّنْ نَحَلَهُ .. أي: يلحق بالصداق في التشطير ما ينحله، أي: يهبه الزوج للمرأة أو وليها أو غيرهما في العقد أو قبله إذا كان ذلك على شرط النكاح لأن الهبة للجميع، والنكاح داخله في العوض، واستدل المصنف على ذلك بأن للزوجة أخذه، ولو لم يجب لها لم يكن لها أخذه. ابن حبيب: ولو أن المرأة أجازت ذلك لوليها ثم طلقها الزوج قبل البناء رجع الزوج بنصف ذلك الحباء على وليها أباً كان أو غيره، كانت المرأة مولى عليها أم لا، ثم للمرأة أن تأخذ النصف الآخر إن كانت مولى عليها، والدليل على أن لها أخذه ما خرجه أبو داود عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم عليه الرجل: ابنته أو أخته" وفي الموطأ: أن عمر بن عبد العزيز كتب لبعض عماله أن ما اشترطه الولي من الحباء فهو للمرأة إن أحبته، واحترز المصنف بقوله: في العقد أو قبله، مما بعد العقد فإنه للولي كما نص عليه في الحديث وكذلك نص عليه في البيان. فروع: الأول: لا إشكال في الهدية المشترطة في العقد أنها كالصداق تتشطر بالطلاق ويلزم الجميع بالموت أو بالدخول، وإن لم تشترط فاختلف قول مالك في العتبية، هل يقضي بما

جرى العرف أن يهدى عند الأعراس، واختار ابن القاسم عدم القضاء، قال: ومما يبين ذلك لو مات أو ماتت لما كان لها فيه شيء فهذا يدلك أنه لا يقضى له وإن كان ذلك مما جروا عليه، وسئل ابن عتاب عن الهدية التي يهديها الأزواج للوزجات كالخفين والجوربين ونحوهما، هل يقضي على الزوج به إن امتنع، فقال: يقضي بهما عليه على قدره وقدرها وقدر صداقها وليس عليها أن تثيبه إلا أن تشاء [332/ أ] قيل: فهل يقضى عليه بالعرس والأجرة للخلوة المتعارفة عندهم، فقال: لا يقضى عليه بذلك إن امتنع منه ويؤمر ولا يجبر. ابن القاسم: ولا تلزمه الوليمة إن أباها لأنها حسنة وليست بواجبة وبه قال ابن لبابة، وقال أبو الأصبغ: الصواب عندي أن يقضى بالوليمة لقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن: "أو لم ولو بشاة" مع العمل به عند الخاصة والعامة، بخلاف ما يعطى للمشاطة على الجلوة هذا مما لا يقضي به عندنا ولا بأجرة ضارب ولا كبر. خليل: وينبغي أن يجري على هذا الخلاف ما يهديه الأزواج للزوجات في المواسم كعيد الفطر والأضحى، والظاهر القضاء لأن العرف عندنا كالشرط. الفرع الثاني مرتب، اختلف على القول بالقضاء بالهدية على قولين: الأول: لابن حبيب أنها تجري مجرى الصداق في التشطير بالطلاق والتكميل بالموت. والثاني: لمالك إبطالها عن الزوج في الموت والطلاق، وعلى قياس قوله هذا؛ إن طلق بعد أن دفعها لم يرجع بشيء منها، وعلى القول بعدم القضاء بها فهي هبة لابد لها من حيازة وتكون كالهدية المتطوع بها بعد عقد النكاح. واختلف في المتطوع بها بعد العقد، فحكى المتيطي في رجوع النصف إليه إ ذا طلق قبل البناء قولين: ظاهر المذهب أنه لا شيء له وإن كان قائماً لأنه طلق باختياره، قاله ابن القاسم ورواه ابن نافع عن مالك.

والثاني لمالك أيضاً أنه إن طلق قبل البناء رجع بنصفها، وإن طلق عليه لعدم النفقة فأجراها بعضهم على القولين في القضاء للمرأة حينئذ بنصف الصداق، فمن أوجب لها النصف لم يجعل له رجوعاً في الهبة ومن لم يحكم بالنصف جعل له الرجوع فيه بشرط قيامها، وإن كان النكاح فاسداً وفسخ قبل البناء فقال ابن القاسم: له ما أدرك من هديته، وإن فسخ بعد البناء فقال أصبغ: إن أهداه قبل البناء فلا شيء له وإن وجدها قائمة لأن الذي أهدى عليه قد وصل إليه، ولو كان إنما أعطاها ذلك بعد البناء ثم فسخ نكاحها بحدثان ذلك فله أخذ ما أعطاها لأنه إنما أعطاها على ثبات الحال والعشرة، وإن كان الفسخ بعد طول الزمان سنتين أو سنين فلا أرى له شيئاً، وإن وجدها بعينها، لأن الذي أعطى له قد نتج وانتفع به، فالفسخ كطلاق حادث منه. ابن عبد السلام: وإن كان النكاح صحيحاً واطلع على عيب في المرأة فردها قبل الدخول رجع في الهبة على ما في كتاب الصرف من المدونة في الذي يهب لأجل البيع خلافاً لسحنون، وهذا إن كانت الهبة قائمة، فإن دخلها نقص أخذها على حالها ولا شيء له، وإن زادت كان لها أن تدفع قيمتها يوم أعطاها، قال بعضهم: والقياس أنها له بزيادتها وإن فاتت بهلاك، فمن الشيوخ من قال: لا شيء عليها، كمن أثاب عن صدقة ظناً منه أنه يلزمه، ومنهم من أنكر هذا التشبيه. الثالث: إذا شور الأب ابنته بجهاز من ماله أو وهب لها ذلك وأورده بيت البناء صح للبنت ملك الهبة حياً أو مات أو إيراده في بيت البناء من أعظم الحيازة بل لها ذلك بالإشهاد وإن لم يجزه في بيتها، فقد سئل ابن أبي زمنين عن الجارية البكر تتخذ الشورة في بيت أبيها بصنعة أو يد أمها أو يشتري ذلك لها أبوها ثم يموت الأب فيريد ورثة الأب الدخول مع الابنة، فقال: أما ما كان من ذلك قد سماه لها وأشهد أنه شورة لابنته أو لم يشهد عليه إلا أن الورثة يقرون أن ذلك كان لابنته مسمى ومنسوباً إليها فلا دخول

للورثة فيه، وحوز مثل هذا أن يكون بيد الابنة أو الأم لا يستطاع حوزه إلا بمثل هذا، لأنها لو كلفت كلما عملت شيئاً أو اشترى لها أبوها شيئاً أن يخرجه الأب لشق ذلك لأنه مما يستفاد شيئاً بعد شيء. الرابع: لو أشهد أن الذي شور ابنته به إنما هو على وجه العارية نفعه ذلك ولو أن يسترده متى شاء ولو طال ذلك وإن جهزها ولم يصرح بهبة ولا عارية ثم ادعى أنها عارية عندها، فإن قام عن قرب من البناء فالقول قوله مع يمينه كان ما ادعاه معروفاً له أم لا سواء أقرت بذلك البنت أم لا إذا كان فيما ساق لزوجها وفاءً بما أعطاها سوى هذا الذي ادعاه الأب وإن بعد فلا قيام له. قال في الواضحة: وليس السنة بطول، وقال غير واحد من الموثقين، إن قام قبل العام فالقول قوله بغير يمين لأن مثل هذا عرف بين الآباء وإن قام بعد العام أشهراً لم يلتفت إلى قوله، وقال أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم: العشرة الأشهر عندي كثيرة تقطع حجة الأب. بعض الموثقين: وإن كان قيام الأب على بعد من البناء والأصل له معروف أم لا، ثم قام فليس له ذلك وهو للابنة بطول حيازتها ولا ينفعه إقرار الابنة إذا أنكر ذلك الزوج. ابن الهندي: إلا أن تكون خرجت من ولاية أبيها فيلزمها الإقرار في ثلثها وللزوج مقال فيما زاد على الثلث، ولا تقبل دعوى العارية إلا من الأب في ابنته البكر فقط وأما الثيب فلا لأنها لا رضى للأب في مالها. وَمَا زَادهُ فِي صَدَاقِهَا طَوْعاً بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهُ لَمْ تَاخُذْ [332/ ب] مِنْهُ فِي الْمَوْتِ شَيْئاً لأَنَّهَا عَطِيَّةُ لَمْ تُقْبَضْ، وتاخُذُهُ أَوْ نِصْفَهُ فِي الطَّلاقِ يعني: إذا زاد الرجل زوجته شيئاً في صداقها بعد العقد فإنه يبطل في الموت أو الفلس لأنها عطية لم تقبض، وهذا هو المشهور. وقال ابن الجلاب: القياس عندي أن تجب لها الزيادة ونحوه للأبهري وغيره من شيوخنا العراقيين، ووجهه أنكم لما حكمتم بالتشير للطلاق دل على أن الزيادة محكوم لها بكونها من الصداق إذ لو كانت عطية لما تشطرت

بالطلاق، وإذا حكم لها بحكم الصداق يلزم ألا تبطل بالموت، والجواب لابن القاسم أنها عطية لكن إنما التزمها على صفة أن تكون صداقاً، فلأجل هذا أبطلناها بالموت، وقلنا أنه لا يلزمه في الطلاق إلا النصف لأنه لم يلتزم إلا ذلك. قوله: (وتاخُذُهُ أَوْ نِصْفَهُ فِي الطَّلاقِ) أو للتفصيل، أي: تأخذه كله إن وقع الطلاق بعد البناء أو نصفه إن وقع قبله. وَتَتَعَيَّنُ الْقِيمَةُ فِي الْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوهَا يَوْمَ أَفَاتَتْهُ، وَقِيلَ: يَوْمَ قَبَضَتْهُ بِنَاءً عَلَيْهِمَا، أَوْ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ يعني: إذا وقع الطلاق بعد الفوات فإن الزوج يرجع عليها في المثلي بالمثلي، وفي المقوم بالقيمة. فإذا وهبت العبد أو دبرته أو أعتقته أو باعته رجع عليها بنصف القيمة يوم الإفاتة على المشهور، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقال: غيره فيها بل بنصف قيمته يوم القبض. وقوله: (بِنَاءً عَلَيْهِمَا) أي: على القولين السابقين أو التعليلين، أي: هل تملك النصف أو الجميع؟ وهو ظاهر. قوله: (أَوْ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ) معطوف على القيمة، أي: تتعين القيمة في الهبة والعتق ونصف الثمن في البيع يريد بشرط عدم المحاباة، ونبه بقوله: (نِصْفَ) على أن لفظ القيمة المذكورة أولى من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، لأنه إن أوجب نصف الثمن في البيع فبالضرورة يجب نصف القيمة في الهبة ونحوها. ولو قال المصنف: وتتعين القيمة في الهبة والعتق والتدبير إلخ، وسكت عن البيع لكان أحسن؛ لأن ذكره البيع أولاً يقتضي أنه يتعين فيه نصف القيمة وليس كذلك.

وقوله: (أَوْ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ) ينافيه ولا يقال: أن (أَوْ) في قوله: (أَوْ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ) للتخيير، وأنه في البيع مخير في أن يرجع بنصف القيمة أو الثمن لأن النقل لا يساعده والله أعلم. ولا يُرَدُّ الْعِتْقُ إِلا أَنْ يَرُدَّهُ الزَّوْجُ لِعُسْرِهَا يَوْمَ الْعِتْقِ، فَلا يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءُ، فَانْ طَلَّقَهَا عتِقَ نِصْفُهُ كَالْمُفْلِسِ يعْتقُ ثَمَّ يَوسِرُ، وفِي الْقَضَاء عَلَيْهَا قَوْلانِ .. يعني: وليس للزوج رد العتق إلا أن تكون معسرة حين العتق، يريد أو كان العبد أكثر من ثلثها فإن للزوج أن يرد ذلك، فإن علم ولم يرد جاز لعدم إنكاره. قال ابن القاسم في المدونة: ولا يختص هذا بالعتق بل وكذلك الصدقة والهبة. وقوله: (فَلا يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءُ) هو كقوله في باب الحجر: (وإذا تبرعت بما زاد فله أن يجيز الجميع أو يرده)، وقيل: أو يرد ما زاد على الثلث خاصة كالمريض سوى العتق لأنه لا يتبعض، وظاهره أنه يتفق في العتق على رد الجميع، ونقل ابن يونس عن ابن القاسم قولاً بأنه يعتق الثلث وإن كره الزوج، قال: ورواه عن مالك. وقوله: (فَانْ طَلَّقَهَا عتِقَ .. إلخ)، هو قول ابن القاسم وهو المشهور ووجهه أن المانع وهو حق الزوج قد زال. وقال أشهب: لا يعتق منه شيء لأن الزوج رد عتقها فيه. وعلى المشهور فنص ابن القاسم في المدونة على أنها لا تجبر على العتق بل تؤمر به، وقال غيره: تجبر عليه. وَيَتَعَيَّنُ مَا اشْتَرَتْهُ مِنَ الزَّوْجِ بِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ دَارٍ، أَوْ غَيْرِهِ نَمَا أَوْ نَقَصَ أَوْ تَلِفَ، وكَأَنَّهُ أَصْدَقَهَا إِيَّاهُ، ولِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ نِصْفَ الأَصْلِ إِلا بِرِضَاهُ بِخِلافِ غَيْرِهِ .. يعني: إذا أصدقها عيناً فاشترك به من الزوج شيئاً لا يصلح لجهازها من عبد أو دار أو نحوه فالصداق في الحقيقة ما أخذته وذكر العين مبلغاً وسواء نما ما اشترته أو نقص فيتعين ما

أعطى فلا يكون له إذا فسخ إلا هو ولا إذا طلق قبل البناء إلا نصفه، وهذا مذهب المدونة وقال عبد الملك: إذا طلقها قبل البناء يرجع عليها بنصف الأصل، وقيد القاضي إسماعيل ما في المدونة بما إذا قصدت بأخذ ما اشترته التخفيف، وفهمها الأكثرون على الإطلاق. قوله: (ولِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ... إلخ)، ولأجل ما قلنا من أن الصداق في الحقيقة ما اشترته لو أرادت إمساكه، وإعطاء نصف الأصل، أي: العين لم يكن لها ذلك إلا برضا الزوج، وهذا إنما ذكره في المدونة فيما اشترته من غير الزوج ما يصلح للجهاز لكن لا فرق. وقوله: (بِخِلافِ غَيْرِهِ): ما لو اشترت من غير الزوج ما لا يصلح للجهاز، فإنه يرجع عليها بنصف الأصل لتعديها بشرائها إذا لم يأذن لها فيه. وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَتْهُ مِنْهُ ومِنْ غَيْرِهِ مِنْ جِهَازِ مِثْلِهَا يعني: أن ما تقدم من مخالفة الشراء من الزوج للشراء من غيره إنما هو إذا اشترت ما لا يصلح للجهاز كما ذكرنا، وأما إذا [333/ أ] اشترت ما يصلح للجهاز فلا فرق بين الزوج وغيره، فلا يرجع إلا بنصفه لأنها مجبورة على شراء ذلك، وهذا ما لم تكن ذات عيب، وأما إن كان بها عيب يوجب الرد فله الخيار في أخذ العين أو الجهاز لأنها كانت في حكم المتعدي قاله اللخمي، وهذا إذا علم بالعيب فطلق، ويختلف إذا لم يعلم حتى طلق. فرع: من حق الزوج أن يلزم الزوجة أن تتجهز بصداقه. قاله مالك وجميع أصحابه إلا ابن وهب فإنه لم يلزمها التجهيز به، وحكى ابن لبابة أنها تمسك منه ربع دينار لئلا يعرو البضع عن صداق، وأنكر لأنها إذا تجهزت بجميعه كان في حكم مالها. مالك في الموازية: وإن كان العرف أن تشتري منه خادماً فعل ذلك، ويلزمها أن تصرفه فيما جرى العرف به وتفعل الأوكد فإن وكد قيل: لا، لو جعلت الجميع في طيب ثم تطالبه بعد ذلك بالكسوة لكان ضرراً على الزوج.

اللخمي: وإن كان الصداق داراً أو خادماً فليس عليها أن تبيع ذلك لشورتها، وعلى الزوج أن يأتي عند البناء بما يحتاج إليه من غطاء ووسد وهذا مع العادة، وإن كانت العادة أن الأب يأتي بمثل ذلك أو هي إن لم يكن أب ولم يره في الصداق لأجل ذلك، جرى على الخلاف بالقضاء بهدية لاعرس هل تبقى علاصله مكارمة ويقضي به للعادة، وإن زيد في الصداق لأجله أجبر الأب أو هي، قال: وكذلك إن أصدقها شيئاً يكال أو يوزن لها أن تحبسه وليس عليها أن تتشور به. المتيطي: وقال بعض الموثقين: إن كان النقد عوضاً أو حيواناً أو طعاماً أو كتاباً أو ثياباً وجب عليها بيعه والتجهيز به، ونص ابن زرب على أن المرأة يلزمها بيع العقار للتجهيز بثمنه كما قاله اللخمي، وهل للأب بيع ما ساقه الزوج لها من الأصول قبل البناء؟ حكى القاضي محمد بن بشير أن هليس له ذلك للمنفعة التي للزوج فيه، وقال غيره: له أن يفعل في ذلك ما شاء على وجه النظر ولا مقال للزوج فيه، أما إن أرادت الزوجة أو أبوها بيع المسوق إليها في صداقها وتشتري بثمنه جهازاً من حلي وغيره فليس للزوج في ذلك متكلم، رواه عيسى عن ابن القاسم في العتبية، وإذا كان الصداق عيناً وحكمنا بوجوب التجهيز فإنها تمنع أن تنفق منه أو تكتسي. مالك: إلا أن تكون محتاجة فتأكل وتكتسي بالمعروف. قال في الديات من المدونة: ولا تقضي منه ديناً قبل البناء إلا الشيء الخفيف كالدينار ونحوه، وأما بعد البناء فلها قضاء دينها من شوارها وكالئ صداقها وليس لذلك بعد البناء حد، رواه يحيى عن ابن القاسم. ابن حارث: وأما القديم فلا، ولا يلزم الزوجة أن تتجهز بكالئها إذا بر قبضته بإثر البناء، فإن تأخر البناء حتى قبضت كالئها لزمها أن تتجهز به، وإن أبت أخذه لئلا يلزمها التجهيز به ودعاها الزوج إلى قبضه والتجهيز به لزمها ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، وقال بعض الموثقين: ليس عليها أن تجهز بكالئها إذا قبضته قبل البناء.

وَلَوْ أَصْدَقَهَا مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهَا وهُوَ عَالِمُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ، ورَجَعَ إِلَيْهِ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الأَوَّلُ أَحَبُّ إِلَيَّ .. قوله: (وهُوَ عَالِمُ) إن علم أنه يعتق عليها كذا فسره ابن القاسم، يعني: إذا تزوجها بمن يعتق عليها فالنكاح صحيح ولا يعتق، ثم إن طلق قبل البناء فاختلف قول مالك، هل يرجع عليها بنصف قيمته أم لا؟ فوجه عدم الرجوع أنه لما علم أن ملكها ألا يستقر عليه فقد دخل على ألا شيء له، وكأنه دخل على الإعانة على العتق، فلو رجع كان في ذلك رجوعاً عما أراد، ووجه اختيار ابن القاسم أنه لما خرج من يده لأجل البضع، وقد استقر ملكها عليه، ولولا ذلك لم يصح النكاح ولم يعتق عليها وقد انتفعت بعتق قريبها فكان ذلك كاشترائها له. قوله: (ورَجَعَ إِلَيْهِ) يقتضي أن مالكاً قال أولاً بالرجوع ثم رجع إلى عدمه، وهذه المسألة في المدونة وليس فيها ما يدل على أولية الزمان وإنما ذكر الأولية بحسب الذكر، فنقل عن مالك الرجوع ونقل بعده استحسان عدم الرجوع. قال: وقوله (الأَوَّلُ أَحَبُّ إِلَيَ) فالأول هنا إنما هو باعتبار الحكاية لا باعتبار الزمان، هكذا قال ابن عبد السلام: وحكى في البيان الاتفاق على جواز النكاح إذا تزوجها على أبيها أو أخيها أو من يعتق عليها، وظاهر كلام المصنف وكلامه في المدونة على ما أشار إليه فضل أنه لا فرق في ذلك بين البكر والثيب، وقال ابن حبيب في الواضحة: وقول من كاشفت من أصحاب مالك، وذكر في التنبيهات عن بعضهم أنه تأول المدونة على أنه يعتق على البنت الرشيدة، وأما البكر والسفيهة فلا يجوز ذلك للولي لأن العتق ضرر، كما لا يجوز للوصي أن يشتري لمن يلي عليه من يعتق عليه. ابن يونس وعياض: وهو خير من كلام ابن [333/ ب] حبيب في البكر، واعلم أن لهذه المسألة أربع صور: إما أن يعلما؛ أو يجهلا؛ أو يعلم الزوج فقط؛ أو الزوجة فقط، ونص

اللخمي على جريان القولين اللذين حكاهما المصنف فيما إذا علما أو جهلا، قال: وعدم الرجوع في جهلهما أبين، لأنه بمنزلة ما لو هلك بسماوي وذكر عياض أن حمديس فسر المدونة: بما إذا كان الزوج عالماً وأن أكثرهما اختصرها كذلك ولم يقيد بعلم الزوج، فيشكل القول بعدم رجوعهعلى المرأة، ونص ابن حبيب على أنه يعتق عليها في الأوجه الأربعة قال: وسواء كانت بكراً أو ثيباً لما قدمنا عنه. قال في البيان بعد كلامه: وهذا في البكر إذا لم يعلم الأب أو الوصي، وأما إذا علم فلا يعتق عليها. واختلف هل يعتق عليه هو على قولين، وأما إذا أعتق عليها ولم تعلم وعلم الزوج رجعت عليه بقيمته لأنه غار، وقيل: أنه لا يعتق عليها إذا غرها به، وترد إليه ويكون لها قيمته أو نصف قيمته إن طلقها قبل البناء، واختلف في ذلك قول ابن الماجشون، وقال ابن كنانة: إذا غرها يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون لها صداق المثل وتغرم له قيمته ويعتق عليها، وأما إن علمت ولم يعلم الزوج فلا رجوع لها عليه، وله هو إن لم يعلم وعلمت هي، أو لم تعلم إن لم يكن لها مال أن يرد عتقه ليباع في جهازها، وأن يرجع في نصفه إن طلقها قبل الدخول. وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ خُيِّرَتْ فَإنْ فَدَتْهُ لَمْ يَاخُذْ نِصْفَهُ إِلا بِنِصْفِ فِدَائِهِ أَوْ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ إِلا أَنْ تُحَابَي .. أي: إذا جنى العبد الصداق وهو في يد المرأة خيرت في فدائه أو إسلامه، فإن فدته فإما أن تفيده بمثل أرش الجناية أو أقل أو أكثر، فإن فدته بمثلها أو أقلفليس له إذا طلق أن يرجع في نصف العبد إلا إذا دفع نصف ما فدته به، وهذا معنى قوله: (بِنِصْفِ فِدَائِهِ) وإن فدته بأكثر فلا يلزم الزوج الأكثر بل له أن يدفع نصف الجناية ويأخذ نصف العبد لأنها متبرعة بالزائد، وهذا معنى قوله (أَوْ جِنَايَتِهِ) فتكون (أَوْ) للتفصيل؛ أي يكون على الزوج نصف الفداء إن كان مثل أرش الجناية أو أقل، ونصف الأرش إن فدته بأكثر،

هكذا قرر ابن راشد هذا الموضع، ويدل عليه أنها لو أسلمته لم يرجع بشيء إلا أن تحابي بأن تكون قيمة العبد أكثر من أرش الجناية. قال في المدونة: وإن أسلمته فلا شيء للزوج إلا أن تحابي، فلا يجوز محاباتها على الزوج في نصفه. ابن المواز: إذا حابت كان الزوج على خيار، إن شاء أجاز دفعها وإن شاء غرم نصف الجناية وكان به نصف العبد، وحمل ابن عبد السلام كلام المصنف على أنه إذا فدته بأكثر من الأرش لا يكون له أخذه إلا بعد دفع ما فدته به كما في المثل والأقل، قال: لأنها كالمشترية له بالفدية، وقد صرح الشيخ أبو محمد بخلافه ويتبين لك ذلك بكلام ابن يونس قال: ومن المدونة: ابن القاسم: وإن كانت المرأة قد فدته – يريد قبل الطلاق- لم يأخذ الزوج منها نصفه إلا أن يدفع إليها نصف ما فدته به. ابن المواز: وإن حابت. أبو محمد: يريد إلا أن تعطيه أكثر من الأرش. وكذلك قال اللخمي مثل الشيخ أبي محمد، ومعنى كلام ابن المواز: وإن حابت؛ أي تفديه بقيمة الأرش وهو أكثر من قيمة العبد. كذا فسره ابن يونس وأبو الحسن. ابن يونس: وإنما لم يرجع في نصف العبد إلا بعد دفع نصف الأرش وإن كان أكثر من قيمة العبد، لأنها لو أسلمته في الأرش لم يكن للزوج أن يأخذ نصفه إلا بعد دفع نصف الأرش، ولعل ابن عبد السلام اعتمد على ظاهر كلامه في المدونة، وكلام ابن المواز. ويقع في بعض النسخ بإثر هذه المسالة ما نصه: ولو جنى وهو في يد الزوج فليس له دفعه، وإنما ذلك للمرأة وهو كذلك في المدونة، ووجهه ظاهر لأن الصداق قبل الطلاق من حقوق المرأة.

وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَمَا لا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا وما يُغَابُ عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَديْهِ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةُ فَقَوْلانِ .. لهذه المسألة نظائر في ضمان ما يغاب عليه وعدم ضمان ما لا يغاب عليه، وهي الرهن والعارية والمبيع بالخيار والمحبوسة في الثمن على المشهور في المحبوسة، وما ذكره من عدم الضمان في ما لا يغاب عليه هو المشهور، وذكر ابن حارث أنهم اختلفوا إذا مات العبد في يدها ثم طلقها قبل البناء على قولين: روى أشهب أنه يرجع عليها بنصف قيمته. وقال أشهب وابن نافع: لا يرجع عليها بشيء، وهل يحلف من هو بيده فيما لم يغب عليه ما فرطت ولا ضيعت فينبغي أن يجري فيه الخلاف الذي في الرهن وفي سائر أيمان التهم. ثالثها: تتوجه على المتهم دون غيره. ورأى عبد الحق أن اليمين تتوجه، وإن قلنا أن أيمان التهم لا تتوجه في غير هذا الموضع لأنه قبض لحق نفسه. وقوله: (وما يُغَابُ عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَديْهِ) أي: ضمانه ممن هو في يديه من الزوجين، وأما لو كان بيد أمين فهو كالأول، فإن قامت بينة بهلاك ما يغابعليه، فقال ابن القاسم: يبرأ؛ لأن الضمان عنده بالتهمة وقد زالت بقيام البينة، وقال أشهب: لا يبرأ لأن الضمان عنده [334/ أ] في هذا القسم بالأصالة، وظاهر هذين القولين التعميم؛ أي أعني سواء كان لهذا الذي يغاب عليه مكيلاً أو موزوناً أو عيناً. وحكى في البيان ثالثاً: أن العين تضمن مطلقاً والمكيل الموزون يضمن إلا أن تقوم البينة.

وَمَا أَنْفَقَ عَلَى الثَّمَرَةِ مِنْ سَقْيٍ وعِلاجٍ عَلَيْهِمَا، وفِي رُجُوعٍ مَنْ أَنْفَقَ مِنْهُمَا عَلَى الْعَبْدِ قَوْلانِ .. نحوه في الجواهر، وهو يقتضي الاتفاق على الرجوع في الثمرة، وقال اللخمي: النفقة تابعة للغلة. فخرج على قول عبد المالك أنها لا ترد الغلة قولاً بأنها لا ترجع بنفقة الثمرة، والقول بأنها ترجع بنفقة الثمرة وبما أنفقت على العبد لابن المواز وعبد الملك، ونصا مع ذلك على أنها ترد نصف الغلة. اللخمي: ولا وجه له. والقول بأنها ترجع بنفقة العبد هو الجاري على المشهور، هكذا أشار إليه اللخمي وابن راشد. اللخمي: وترجع عليه بنصف النفقة ما لم تكن له غلة فلا رجوع عليها بشيء. ابن عبد السلام: واختلفت طرق الشيوخ فمنهم من جعل الرجوع بالنفقة تابعاً للغلة، ومنهم من جعل الغلة بينهما والنفقة على المرأة، ومنهم من قال: أما الأصول وشبهها فعلى القول بأنها تملك نصف الصداق فترجع بنصف الغلة، وعلى القول بأنها تملك الجميع اختلف على قولين، على الخلاف فيمن أنفق فيما استحق عليه بالشفعة وشبه ذلك، واختلف أيضاً إذا أنفقت عليه في تعليم صنعة أو تأديب، فنقل اللخمي عن مالك في المبسوط: أنها ترجع بنصف ما أنفقت على العبد والجارية إذا ارتفع ثمنهما كذلك. وقال بعض الشيوخ: لها الأقل من نصف ما أنفقت أو نصف ما زاد الثمن بذلك ونقل ابن يونس عن ابن القاسم ومالك أنها لا ترجع بما أنفقت عليه في تعليم صنعة، وقال: وهو يدل أنها لو أنفقت عليه في طعام وملبس أنها ترجع عليه، وجعل هذا خلافاً لقول ابن حبيب الذي نقله عنه بعدم الرجوع بما أنفقته على العبد.

اللخمي: وأرى لها الأقل من نصف ما أنفقت أو نصف ما زاد ثمنها، والفرق على أحد القولين بين النفقة على الثمرة والعبد من وجهين: أولهما: أن الثمار إنما نشأت عن السفر والعمل بخلاف العبد، فإن النفقة إنما حفظت قوته. ثانيهما: أن العبد يخدم ويتجمل به فكانت النفقة في مقابلة ذلك. اللخمي: ويختلف إذا كان العبد صغيراً لا غلة له أو دابة لا تركب أو شجراً لا يطعم فانتشأ كل ذلك بنفقة الزوجة ولم تأخذ غلة، هل للزوج نصف ذلك ويدفع النفقة أو يكون فوتاً ويأخذ قيمة نصيبه يوم قبضه؟ فرع: إذا قبضت المرأة الغلة فقال محمد: ما اغتلت فهلك بيدها من غير سببها لم تضمن، وهي فيه مصدقة مع يمينها إن أخذت في الغلة حيواناً، ولا تصدق في هلاك العين إلا ببينة، وأما الزوج فهو ضامن لما اغتل من عين وغيره لأنه متعد في استغلاله. وَإِذَا وَهَبَتْهُ جَمِيعَ صَدَاقِهَا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَإِنْ وَهَبَتْهُ بَعْضَهُ رَجَعَ أَوْ رَجَعَتْ بِنِصْفِ الْبَاقِي. يعني: إذا وهبت الزوجة صداقها لزوجها ثم طلقها قبل البناء لم ترجع عليها بشيء، ويصح أن يقرأ (ترجع) بالتاء المثناة من فوق، وهو أيضاً ظاهر إلا أن تدل قرينة على أن قصدها بالهبة واستصلاح عشرته ودوام عصمته، فيكون حكمه حكم ما لو أعطته مالاً على ألا يطلقها فطلقها وقد تقدم، وكذلك قال جماعة: إذا أقرضت زوجها وأخرته بذلك أجلاً ثم طلقها، أنه يحل عليه ما أجلته لأن مقصوده بالتأجيل حسن عشرتها وذلك مناف لطلاقها. خليل: وينبغي أن يقيد جواز هبتها للزوج بما إذا لم يتفقا على النكاح بغير صداق، ولذلك قال مالك في الموازية: إذا وهبته قبل البناء جميع الصداق أجبر على ألا يدخل بها حتى يعطيها ربع دينار فأكثر، فإن لم يفعل حتى طلق فلا شيء عليه.

وقوله: (وَإِنْ وَهَبَتْهُ بَعْضَهُ) مثاله: لو كان الصداق مائة فوهبته خمسين يرجع عليها إذا طلقها بخمسة وعشرين إن كان دفع إليها الصداق، وإن لم يدفع إليها شيئاً رجعت بخمسة وعشرين، وحاصله أن ما بقي بعد الهبة كأنه جميع الصداق، قال صاحب المحكم: ولا يقال وهبتك هذا قول سيبويه، وحكى السيرافي عن أبي عمران أنه سمع أعرابياً يقول للآخر: انطلق معي أهبك نيلاً. فقول المصنف (وَهَبَتْهُ) لا يأتي على مذهب سيبويه، ولم يقع في القرآن إلا معداً باللام كقوله لأهب لك، ووهبنا له وهب لي، إلى غير ذلك. وَلَوْ وَهَبَتْهُ لأَجْنَبِيِّ ويَحْمِلُهُ الثُّلُثُ وقَبَضَهُ قَبْلَ الطَّلاق رَجَعَ عَلَيْهَا دُونَهُ، وإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ قَبْلَهُ أُجْبِرَتْ هِيَ، وَيُجْبَرُ الْمُطَلَّقُ إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً يَوْمَ الطَّلاقِ، وقِيلَ: أَوْ يَوْمَ الْهِبَةِ. يعني: ولو وهبت صداقها لأجنبي وحمله الثلث، فإن قبضه الموهوب له قبل الطلاق فلا رجوع للزوج على الموهوب له، وإنما يرجع عليها بنصفه واشترط أن يحمله الثلث لأنه إن جاوزه بطل جميعه إلا أن يجيزه الزوج. وقوله: (ويَحْمِلُهُ الثُّلُثُ) ينبغي أن يكون خبر مبتدأ مضمر لأن الجملة حالية، والجملة الحالية إذا صدرت بمضارع لا يكون فيها واو، [334/ ب] كما فعلوا في قول العرب: قمت وأصك عينه، وفي بعض النسخ: (وحمله الثلث) أي: وإن لم يقبض الموهوب له والمسألة بحالها أجبرت هي على إمضاء الهبة، ولا يجبر المطلق على دفعه إلا بشرط أن تكون موسرة يوم الطلاق، سواء كانت معسرة يوم الهبة أم لا، ولا شك في عدم إجباره إن كانت معسرة يوم الطلاق ويوم الهبة، لأنه قد تبين أن النصف له. اللخمي: وعلى القول بأنها تملك بالعقد الجميع لا مقال للزوج فارق هو، وإن لم يكن له مقال من وجه ملكه لنصف الصداق فله مقال من جهة مال الزوجة، قيل: إذا طلق سقط

مقاله في مال الزوجة، وعاد مقاله من باب الدين والدين طرأ بعد الطلاق، وكانت وهبت ولا دين عليها، واختلف إذا كانت موسرة يوم الهبة ومعسرة يوم الطلاق، فقال ابن القاسم في المدونة: لا يجبر، وقال غيره فيها: يجبر، وهذا معنى قوله: إن كانت موسرة يوم الطلاق، وقيل: أو يوم الهبة، قيل: وقول ابن القاسم أصح لأن للزوج أن يقول لم يوجب لها الشرع غير نصف الصداق، كأن طلقت قبل البناء وما وهبته من النصف الآخر قد انكشف أنها لا تملكه وهو بيده فلا أدفعه وأتبع ذمة خربت كما لو كانت معسرة يوم الهبة والطلاق. فرع: واختلف إذا قبض الموهوب له من المرأة جميع الصداق ورجع عليها الزوج بنصفه لأجل طلاقه، هل ترجع على الموهوب له بالنصف، ففي الموازية: لها أن ترجع عليه، وقال ابن الكاتب: دليل المدونة أنها لا ترجع لقوله فيها: وعلى الزوج دفع جميعه إلى الموهوب له فلو وجب لها الرجوع على الموهوب له لما دفع الزوج إليه شيئاً، ثم ترجع المرأة به إذ لا فائدة في ذلك. خليل: وصرح في أصل المدونة بأنها لا ترجع بالنصف على الموهوب له. ونقله عياض وذكر عن بعضهم أنه تأول المدونة على ما إذا وهبت هبة مطلقة، وقالت للموهوب له: اقبضها من زوجي، ولو صرحت بهبة الصداق فلها أن ترجع كما في الموازية. وَلَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَبْدٍ أَوْ شَيْءٍ تُعْطِيهِ لَمْ يَبْقَ لَهَا طَلَبُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ .. يعني: إذا خالعت الزوجة زوجها قبل البناء على أن تعطيه شيئاً من مالها عبداً أو غيره وسكتا عن الصداق، فالمشهور أنها لا يبقى لها طلب بالنصف وسواء قبضته أم لا، وترده إذا قبضته لأنها لما دفعت من مالها دل على إسقاط حقها من نصف الصداق، والشاذ يحتمل أن يكون لها النصف سواء قبضته أم لا وهو قول أشهب، ويحتمل أن يكون لها النصف بشرط القبض وهو قول أصبغ، وقول أشهب أظهر من المشهور إذ لا يستباح

ملك أحد إلا بالنص منه أو الرضا، أما إذا نصت على الاتباع بنصف الصداق، أو اشترط عليها الاتباع، لاتبع الشرط بالاتفاق. بِخِلافِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وعَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْهُ رَدَّتْهُ أي: وأما لو خالعت المدخول بها على شيء فإنه لا يسقط ذلك صداقها لتقرره بالدخول وسواء قبضته أم لا، نص على ذلك سحنون، وقال ابن عبدوس: إنما ذلك إذا قبضته وإن كانت لم تقبضه فلا شيء لها منه. وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ ... إلخ)، هو راجع إلى الفرع الأول أعني: إذا لم يحصل دخول وقد تقدم. ابن عبد السلام: ويقرب من مسألة ابن عبدوس وسحنون ما في المبسوط، في من خالع امرأته على أنها إن ولدت منه فعليها نفقته في الحولين، فقال مالك في المبسوط: ليس لها أن تطلبه بنفقة الحمل ولا بصداقها، وقال المغيرة: لها نفقة الحمل ولا شيء لها من الصداق، وقال بعضهم معناه والله أعلم أنها لم تكن قبضته يعني: الصداق وأما لو قبضته لم ينزع منها. أَمَّا لَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ مِنْ صَدَاقِهَا فَلَهَا نِصْفُ مَا بَقِيَ ما لو كان صداقها ثلاثين ديناراً وخالعته على عشرة، فلها النصف الذي بقي أي: عشرة. اللخمي: وسواء قالت له: خالعني أو طلقني إذا اشترطت العشرة من الصداق. وَإِنْ لَمْ تَقِلَّ مِنْ صَدَاقِهَا لَزِمَهَا، ولَهَا تَمْلُكِ نِصْفَهِ أي: تلزمها العشرة ولها النصف كاملاً وهو خمسة عشر فيتقاصان في عشرة وتأخذ منه خمسة فقط، وحاصله أن العشرة ساقطة في الصورة الأولى من جميع الصداق وفي الثانية من نصفه.

واعلم أن هذه المسألة إذا لم تقل من صداق على وجهين، إن قالت طلقني على عشرة فاتفق ابن القاسم وأشهب على أن لها نصف صداقها، وإن قالت خالعني على عشرة، فاختلف فيها، فقال أشهب: لها نصف الصداق كالتي قبلها، وقال ابن القاسم: لا شيء لها وإن قبضته ردته، وكأنه رأى أن بعض الخلع يقتضي خلع ما لها عليه من حق وزادته عشرة دنانير. وقال أصبغ: إن قبضته كان لها وإن لم تقبضه لم يكن لها منه شيء، وسواء قالت: خالعني أو طلقني، هكذا حكى اللخمي هذه الثلاثة الأقوال واستحسن قول أشهب؛ لأن قولها خالعني إنما يتضمن خلع النفس والإبراء من العصمة، ليس الاختلاع من المال، وعلى هذا فهذه المسألة بمنزلة ما إذا خالعته على عبد وشيء لأنه في كل من المسألتين حصل الخلع على شيء وسكت عن الصداق. وعَفْوُ أَبِي الْبِكْرِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلاق مَاضٍ لا قَبْلَهُ، وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ إِلا بِوَجْهِ نَظَرٍ .. لقوله تعالى: [335/ أ] {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] أي: إلا أن يعفو النساء المالكات لأمرهن عن النصف الذي لهن أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح. ومذهب مالك أن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب في ابنته، ومذهب أبي حنيفة والشافعي أن الزوج ينبغي له أن يكمل لها الصداق، وقال بكل من القولين جماعة، ورجع مذهبنا بأن الذي بيده عقدة النكاح في المطلقة إنما هو الولي، ولا يقال أن المراد من بيده عقدة النكاح قبل الطلاق لأن الزوج إنما بيده وبأنا نحمل قوله تعالى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] على الأزواج وغيرهم فيكون أكثر فائدة، وبأن الخطاب كان من الأزواج لقوله: (فَرَضّتُمْ)، وهو خطاب مشابهة، فلو كانوا مرادين بقوله تعالى

{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] للزم تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة وهو خلاف الأصل، وبأن إقامة الظاهر مقام المضمر خلاف الأصل، فلو كان المراد الزواج لقيل: إلا أن يعفون أو تعفوا عما استحق لكم. وقوله: (بَعْدَ الطَّلاق) يعني للعفو شرطان: الأول: أن يكون قبل الدخول، فلا يجوز له أن يعفو بعده. والثاني: أن يكون بعد الطلاق؛ لأنه إنما ورد كذلك، ولأنه إذا كان بعد الطلاق؛ لأنه إنما ورد كذلك، ولأنه إذا كان بعد الطلاق تحصل للبنت بعد ذلك المصلحة وهي رغبة الأزواج فيها. وأجاز ابن القاسم عفو الولي قبل الطلاق أيضاً، ورأى أنه أجاز ذلك لأجل تحصيل زوج في المستقبل، فلأن يجوز للزوج الحاصل الذي لم يطلقها أولى. ابن عبد السلام: ونقل المؤلف هو الصحيح لا ما قاله ابن بشير أنه لم يختلف ابن القاسم ومالك في جواز التخفيف قبل الطلاق إذا ظهرت المصلحة، كما لا يختلفان في عدم جوازه إذا علم مصلحته، ولم يختلفا إذا جهل الحال. وقول المؤلف: (مَاضٍ) لا يفهم منه الجواز والمذهب الجواز. تَمْيِيزُ مَا يُفْسَخُ بِطَلاقٍ مِنْ غَيْرِهِ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ إِمْضَاؤُهُ وفَسْخُهُ، فَفَسْخُهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ، كَإِنْكَاحِ الأَجْنَبِيِّ يَرُدُّهُ الْوَلِيُّ، ومَا كَانُوا مَغْلُوبِينَ عَلَى فَسْخِهِ، فَفَسْخُهُ بِغَيْرِ طَلاقٍ، كَولايَةِ الْمَرْأَةِ والْعَبْدِ، وكَالشِّغَارِ، والْمَرِيضِ، والْمُحْرِمِ، وكَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وكَالْمُجْمَعِ عَلَى فَسْخِهِ هذا قول مالك الأول وعليه أكثر الرواة، ورأى أن كل نكاح للزوج أو للزوجة أو للولي إمضاؤه وفسخه فهو منعقد حتى ينحل، فيكون حله بطلاق. وقوله: (كَإِنْكَاحِ الأَجْنَبِيِّ) يرده الولي، مثال: لما الخيار فيه للولي، ومثال ما الخيار فيه للزوج إذا كان بالزوجة عيب وإن كان به فالخيار للزوجة. وعن أبي جعفر الأبهري: إذا وجد الزوج المرأة مجنونة أو مجذومة أن الرد بغير طلاق.

اللخمي: ويلزمه أن يكون الحكم كذلك إذا كان العيب بالزوج والمعروف أن الفسخ للعيب بطلاق. وقوله: (وكَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ) هو طريقة المغاربة. وَعَنْ مَالِكٍ وَرَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّ مَا اخْتُلِفَ فِي إِجَازَتِهِ وفَسْخِهِ، فَفَسْخُهُ بِطَلاقٍ كَوِلايَةِ الْعَبْدِ والْمَرْأَةِ، وكَالشِّغَارِ والْمَرِيضِ والْمُحْرِمِ وكَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ، ومَا فُسِخَ بِطَلاقٍ يَقَعُ بِهِ التَّحْرِيمُ، والطَّلاقُ والْمُوَارَثَةُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْفَسْخُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، ومَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِي فَسْخِهِ فَفَسْخُهُ بِغَيْرِ طَلاقٍ، ولا يَقَعُ بِهِ طَلاقُ. وَلا مُوَارَثَةَ كَالْخَامِسَةِ وأُخْتِ امْرَأَتِهِ، أَوْ عَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا .. راعى في هذا قول من قال بالصحة والاختلاف في نكاح المريض والصداق الفاسد قبل البناء في المذهب، والخلاف في نكاح المحرم وإنكاح المرأة نفسها لأبي حنيفة رضي الله عنه فإنه يجيزهما. وذكر في المدونة أن نكاح الشغار من المختلف فيه، وفي النكت قال بعض شيوخنا في مثل نكاح المحرم والشغار ونحوه مما لا ينعقد عندنا ويجوز عند غيرنا: تقع فيه الحرمة بلا اختلاف. وفي الباجي عن أبي عمران أن الشغار لا خلاف في منعه وإنما اختلف في فسخه، وكذل كقال غيره وقاله ابن عبد السلام. خليل: وعلى هذا فيكون ما أشار إليه من الخلاف في المدونة في نكاح الشغار إنما هو بعد الوقوع لا في الجواز ابتداءً كما قال أبو عمران وغيره، وبه تعلم أن قول ابن عبد السلام أن ابن القاسم إنما قال بالفسخ بطلاق في المختلف في جوازه ابتداءً ليس بظاهر، ولا أعلم من قال بجواز كون العبد ولياً. ولم يتعرض للنكاح المختلف فيه ليفصل في الخلاف هل هو شاذ أو مشهور؟ ورأى ابن بشير أنه لا يختلف في مراعاة القول الشاذ من سلم مراعاة الخلاف المشهور، وقد تبين لك من كلام المصنف أن كل ما يفسخ بطلاق على القول

الأول يفسخ بذلك على الثاني، وليس كل ما يفسخ بطلاق عن الثاني يفسخ به على الأول وهو واضح. وقوله: (يَقَعُ بِهِ التَّحْرِيمُ) أي تحريم المصاهرة من كونها تحرم على أبنائه وآبائه، وتحرم عليه أمهاتها وبناتها كما تقدم. وقوله: (والطَّلاقُ) أي إذا أوقعه الزوج قبل الفراق، ويتوارثان قبل الفسخ إلا أن يكون الفسخ لحق الورثة في نكاح المريض فلا إرث فيه، لأنا لأجل الإرث فسخناه. وقوله: (ومَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِي فَسْخِهِ ... إلخ) ظاهر التصور، واعلم أن ابن بشير وغيره ذكروا عن بعض القرويين أن ابن القاسم وإن قال بمراعاة الخلاف في هذا الباب، فإنه لا يضره ذلك حتى يفسخ نكاحاً صحيحاً على مذهبه لمراعاة مذهب غيره، مثاله: أن يتزوج تزويجاً مختلفاً فيه، ومذهبنا أنه فاسد، ثم إن طلق فيه ثلاثاً فابن القاسم يلزمه الطلاق ولا يتزوجها [335/ ب] إلا بعد زوج، فلو تزوجها قبل زوج لم يفسخ نكاحه؛ لأن التفريق حينئذ إنما هو لاعتقاد فساد نكاحها، ونكاحها عنده صحيح، وعند المخالف فاسد، ولا يمكن الإنسان ترك مذهبه لمراعاة مذهب غيره، يريد: أن منعه من تزويجها أولاً إنما كان مراعاة للخلاف، وفسخ النكاح ثانياً لو قيل به لكان مراعاة للخلاف أيضاً، فلو رعي الخلاف فيهما لكان ترك المذهب بالكلية، وشرط مراعاة الخلاف عند القائل به لا يترك المذهب بالكلية. ابن عبد السلام: وهو كلام لا بأس به إن كان موجب الطلاق عند ابن القاسم مراعاة الخلاف ليس إلا، وأما إذا كان لحصول شبهة النكاح المقتضية للحوق الولد ودرء الحد وغير ذلك من الأحكام التي ساوى فيها هذا النكاح الصحيح، فالطلاق حينئذ واقع كوقوعه في النكاح الصحيح، فيفسخ النكاح إن تزوجها قبل زوج، ولا يقال: لا يصح أن تكون الشبهة هي المقتضية لوقوع الطلاق لحصولها في النكاح المجمع

على فساده؛ لأن الشبهة في المجمع فساده لا تساويها في المختلف فيه، فيجوز لاختلاف الشبهة اختلاف آثارها. وَمَا فُسِخَ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلا صَدَاقَ، وبَعْدَهُ الْمُسَمَّى قوله: (فَلا صَدَاقَ) أي إلا نكاح الدرهمين فلها نصفهما. قوله: (وبَعْدَهُ الْمُسَمَّى) إن كانت هناك تسمية، وإلا فصداق المثل، وليس متوقفاً عليه كما ترى. فرع: إذا طلق الزوج قبل البناء أو مات: ابن رشد في نوازله: الفاسد قسمان: فسد لصداقه، وقسم فسد لعقده، فأما الفاسد لصداقه فالصحيح من المذهب لا شيء للمرأة فيه إلا بالدخول، وروي عن أصبغ فيمن تزوج بغرر ثم مات قبل البناء فإن لها صداق مثلها، وإن طلقها فلا شيء لها، فجعله كنكاح التفويض، فعلى قول من أوجب فيه صداق المثل بالموت، وأما الفاسد لعقده فإن اتفق على فساده كنكاح ذات محرم والمعتدة والمرأة على عمتها أو خالتها، وما أشبه ذلك فلا صداق فيه بالموت، ولا نصف بالطلاق اتفاقاً وإنما يوجبه الدخول، وإن كان مختلفاً فيه فهو قسمان: قسم لا أثر لعقده في الصداق كنكاح المحرم والمرأة بغير ولي، فهل يقع فيه الطلاق وتجب فيه المواريث ويفسخ بطلاق أو لا؟ في الثلاثة قولان. فعلى القول بوجوب الميراث والطلاق يجب المسمى بالموت ونصفه بالطلاق؛ إذ لا يصح أن يفرق بين الميراث والطلاق، فيجب أحدهما ويسقط الآخر؛ إذ لا مزية لأحدهما على صاحبه؛ لأن الله تعالى نص على وجوب الصداق للزوجة، كما نص على وجوب الميراث، وعلى القول الآخر لا يلزم الصداق بالموت ولا نصفه بالطلاق، ولا خلاف أنه لو عثر على هذا النكاح وفسخ قبل البناء أنه لا شيء لها، ولو قلنا أن فسخه طلاق لأن الفرقة هنا مغلوب عليها.

وقسم له تأثير في الصداق كنكاح المحلل، ونكاح الأمة على أن ولدها حر، وعلى أن لا ميراث بينهما، فقيل: للمرأة بالدخول صداق المثل؛ لأن للفساد تأثيراً في فساد الصداق، وقيل: المسمى لأن فساده في عقده والصداق فيه صحيح؛ فهذا القسم لا يجب فيه للمراة من صداقها شيء بالموت أو الطلاق قبل البناء، وذها بين على القول بأن لها صداق المثل بالبناء، وأما على القول بالمسمى فينبغي ألا شيء لها إلا بالدخول، وقد يقال: لها نصفه بالطلاق، إذ ليس الصداق عوضاً عن البضع، وإن كان لا يستباح إلا به، لأن الله تعالى سماه نحلة، والنحلة الهبة. انتهى بمعناه. وَتَمْيِيزُ مَا يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ مِمَّا يُفْسَخُ بَعْدَهُ أَنَّ مَا لا يُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ يُفْسَخُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، ومَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِنْ كَانَ بِنَصِّ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ كَالْمَرِيضِ فَكَذَلِكَ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لِخَلَلِ عَقْدِهِ فَفِي فَسْخِهِ بَعْدَهُ قَوْلانِ، وإِنْ كَانَ لِخَلَلِ صَدَاقِهِ فَمَشْهُورُهَا يُفْسَخُ قَبْلَهُ لا بَعْدَهُ نَحْوَ عَقْدِ الدِّرْهَمَيْنِ .. أي: أن ما لا يختلف فيه يفسخ مطلقاً، وكذلك ما اختلف فيه وقلنا فيه بالفساد لنص كتاب أةو نص سنة أو لحق الورثة فكذلك؛ أي يفسخ بعد البناء. وقوله: (ونص كتاب أو سنة) فيه حذف مضاف إليه من الأول وحذف مضاف من الثاني كما قررنا، ومثال ما فيه نص كتاب: الخامسة، ومثال ما فيه نص سنة: نكاح المحرم، وإنكاح المرأة نفسها ونكاح المحلل، وإن لم يكن كذلك فإن كان لخلل عقده كنكاح الخيار، أو إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا ففي فسخه بعد البناء قولان، وإن كان لخلل صداقه فثلاثة أقوال، تصورها بين مما تقدم.

المتعة

الْمُتْعَةُ مُسْتَحَبَّةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ، أَوْ كِتَابِيَّةٍ أَوْ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ فِي نِكَاحِ لازِمِ غَيْرِ الْمُخْتَلِعَةِ والْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وقَدْ فُرِضَ لَهَا، ولا مُتْعَةَ لِمُلاعِنَةٍ ولا مُخْتَارَةٍ لِعِتْقِهَا ونَحْوِهِ، بِخِلافِ مَنْ خَيَّرَهَا أَوْ مَلَّكَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا .. المتعة: ما يعطيه الزوج لزوجته عند طلاقه لها؛ جبراً لألم الفراق، والمشهور أنها مستحبة، يؤمر بها المطلق ولا يجبر عليها، وحكى ابن مسلمة وابن حبيب الوجوب، واختاره السيوري لقوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236] ففي الآية دليل الوجوب من أوجه الأمر، وقوله: (حَقّاً) و (عَلَى) فإنهما من ألفاظ الوجوب، وتعلقها بمال الموسع والمقتر، ورأى في المشهور أنها لما قيدت بالمحسنين والمتقين على أنها مستحبة، لأن الواجب لا يتقيد، وأجيب بأن هذا من [3367/ أ] باب التهييج، ولأن الإحسان والتقوى أمر بهما في غير ما آية. وقوله: (لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ) احترز به من الفسوخات فلا متعة فيها، سواء فسخ قبل البناء أو بعده، قاله ابن القاسم؛ لأن المتعة إنما وردت في المطلقات, وسواء كان الفسخ لفساد النكاح أو لا، وقد نص ابن القاسم في الموازية فيمن اشترى زوجته على عدم المتعة: ورأى اللخميالوجوب إذا كان الفسخ من جهة الزوج فقط، كما لو تزوج رضيعة وأمر أخته وأمه أن ترضعها، واحترز بقوله: (فِي نِكَاحِ لازِمِ) من المردودة بعيب فإنها لا متعة لها لأنها غارة، ولم يشترط المصنف أن يكون النكاح صحيحاً؛ لأن الفاسد لصداقه تجب فيه المتعة إذا طلق بعد الدخول. وقوله: (غَيْرِ الْمُخْتَلِعَةِ ... إلخ)، يعني أنها مستحبة لكل مطلقة إلا أربع نسوة: الأولى: المختلفة لأن المتعة إنما شرعت جبراً الألم الطلاق ومضرة الألم عندها لإعطائها على الطلاق شيئاً من مالها.

الثانية: المطلقة قبل البناء وقد فرض لها لأنها أخذت النصف، ولم يصب سلعتها شيء، فإن لم يعرض لها شيء فلها المتعة. الثالثة: الملاعنة لأنه حصل بينهما من الشنئان ما لا تجبره متعة، وذكر الملاعنة زيادة في البيان، وإلا فقد خرجت بقوله: (الْمُطَلَّقَةِ) لأن فرقة المتلاعنين فسخ بغير طلاق على الصحيح من المذهب. الرابعة: المختارة لعتقها ونحوه أم زوجها، واخلتف في المخيرة والمملكة، فعن مالك روايتان: ثبوت المتعة؛ لأن أصل الطلاق من جهته، وسقوطها نظراً إلى أن تمام الطلاق منها، ومقتضى كلام المصنف أن المشهور ثبوت المتعة لقوله: (بِخِلافِ) وهذا على هذه النسخة، وفي بعضها: (وَلا مَنْ خَيَّرَهَا أَوْ مَلَّكَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ) وهي أحسن، لأن ابن بشير وابن شاس صرحا بأن المشهور أنهما لا متعة لهما، وأن الرواية بالمتعة لهما شاذة. وَلا يُقْضَى بِالْمُتْعَةِ، وَلا يُحَاصُّ بِهَا الْغُرَمَاءُ. هذا بين على المشهور أنها مستحبة. وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ الْعَبْدِ مِنْهَا لأنه لما أذن له في النكاح فقد أذن له في توابعه كالارتجاع. وَلا مُتْعَةَ لِلرَّجْعِيَّةِ إِلا بَعْدَ الْعِدَّةِ أي: بعد انقضائها؛ لأنها زوجة ما دامت فيها، وهكذا قال فضل، وقال أبو عمران: ينظر فإن كانت نيته رجعتها لم تمتع، وإن كانت نيته ألا يراجعها متع، وإن لم تخرج من العدة ثم بدا له فراجعها لم يرجع بها؛ لأنها كالهبة المقبوضة، واختلف إذا لم تمتع الرجعية حتى فاتت ثم تزوجها، واختلف أيضاً إذا طال الزمان أو ماتت، فقال ابن القاسم: إذا جهل المتعة حتى مضت أعنواماً فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت، وإلى ورثتها إن ماتت. وقال أصبغ: لا شيء عليه إن ماتت لأنه عوض لها وتسلية من الطلاق وقد انقطع ذلك، وإن مات الزوج قبل أن تمنع فإنها لا تسقط.

وَمِقْدَارُهَا عَلَى قَدْرِ حَالِهِ أي: لا مدخل لحال الزوجة، بخلاف النفقة لأنها هبة، واعتبر ابن خويزمنداد حالها كالنفقة لأن المقصود تطييب نفسها، وذات القدر لا تطيب بالقليل. وَإِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الْمَهْرِ أَوْ صِفَتِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ ولا طَلاقٍ تَحَالَفَا وتَفَاسَخَا، ويَجْرِي الرُّجُوعُ إِلَى الأَشْبَهِ، وانْفِسَاخُ النِّكَاحِ بِتَمَامِ التَّحَالُفِ وغَيْرُهُ كَالْبَيْعِ .. في قدره كما لو قالت بألفين وقال هو بألف، أوصفته كما لو قالت بعبد تركي وقال هو بعبد زنجي، واحترز بـ (قَبْلَ الْبِنَاءِ) من بعد البناء وسيأتي حكمه. وقوله: (مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ ولا طَلاقٍ) مما لو حصل أحدهما وسيأتي، وذكر المصنف أن الحكم التحالف والتفاسخ، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر ثبت النكاح، ولزم الناكل ما حلف عليه الآخر، وكان الأظهر أن عقد النكاح يتنزل منزلة الفوات في البيع لما يترتب هنا من الأحكام عليه من تحريم المصاهرة وكون المرأة فراشاً وغير ذلك، لكنهم لم يتعرضوا لشيء من ذلك فيما رأيت. وقوله: (تَحَالَفَا) أي يشترط أن تكون مالكة أمر نفسها، وإلا فيحلف من عقد النكاح عليها من أب أو وصي أو ولي إن كانت محجوراً عليها، قاله المتيطي وغيره. قوله: (ويَجْرِي الرُّجُوعُ ... إلخ) أشار رحمه الله إلى مسائل: الأولى: إذا ادعى أحدهما ما يشبه هل يكون القول قوله ويتحالفان؟ لمالك في ذلك قولان. اللخمي: والأول هو الصواب لأن ذلك كالشاهد يحلف معه من قام له. والثانية: هل ينفسخ النكاح بتمام التحالف كاللعان قول سحنون وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أو لا ينفسخ ولكل منهما الرجوع إلى قول الآخر وهو قول ابن حبيب والقاضيان ابن القصار وعبد الوهاب وبه جرى عمل الأندلسيين واستمرت أحكامهم.

ابن محرز: وهو أصوب لأن الأيمان في التحالف في الصداق ليست موضوعة لفسخ النكاح واختاره اللخمي ولا شك على قول ابن حبيب أنه يفسخ بطلاق وانظر على قول سحنون الذي يقول أنه يفسخ بتمام التحالف كاللعان هل ينفسه بغير طلاق أم لا؟ وقد قال بعضهم: إن ظاهر المدونة فسخه بغير طلاق ونوزع في ذلك. الثالث: المشهور تبرئة الزوجة لأنها بائعة نفسها، ولمالك في المختصر أنه بيد الزوج. الرابعة: إذا نكلا، قال اللخمي: فقيل: إن ذلك بمنزلة إذا حلفا. وقيل: القول قول المرأة، وهذا كله داخل تحت قوله: وغيره كالبيع إلى غير ذلك من المسائل التي تقف عليها في البيع إن شاء الله تعالى. ولفظ (انْفِسَاخُ) من كلام المصنف وكذلك (وغَيْرُهُ) مرفوعان بالعطف على فاعل (يَجْرِي). فَإِنْ تَنَازَعَا بَعْدَ الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لأَنَّهُ فَوْتُ، وقَالَ ابْنُ حَبِيبِ: يَتَحَالَفَانِ مَعَ الْعِصْمَةِ، وَيجِبُ صَدَاقُ الْمِثْلِ. وقِيلَ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ .. أي: فإن تنازعا بعد البناء في القدر أو الصفة فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنها مكنته من نفسها، وهذا مذهب المدونة، فإن نكل فالقول قول المرأة مع يمينها. المتيطي: وهو المشهور [336/ ب] من مذهب مالك وأصحابه، وأشار المصنف إلى توجيهه بقوله: (لأَنَّهُ فَوْتُ) أي أن البناء هنا كفوات السلعة في البيع، والمشهور في اختلاف المتبايعين في المقدار ترجيح قول المشتري؛ لفوات المبيع عنده، وانظر هل القول قول الزوج مطلقاً، وهو أكثر إطلاق نصوص أهل المذهب، أو مقيد بما إذا وفق العرف؟ وهو الذي ذكر اللخمي وهو الذي يؤخذ من كلام صاحب الإشراف لأنه أشار فيه إلى

تشبيه حكم الصداق بعد البناء بالبيع، وإنما وقع التشبيه من كلام غيره بالبيع في قبول دعوى الأشبه قبل البناء والله أعلم، وما حكاه المصنف عن ابن حبيب من التحالف مع بقاء العصمة، ويجب صداق المثل حكاه في الكافي عن مالك. قوله: (وقِيلَ) أي وفي المسألة قول ثالث بالتفصيل، فإن اختلفا في الصفة تحالفا مع بقاء العصمة ووجب صداق المثل، وإن اختلفا في القدر فالقول قول الزوج مع يمينه. فرع: فإن اختلفا في الجنسبعد البناء فحكى اللخمي والمتيطي في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أنهما يتحالفان ويفسخ النكاح إن كان تنازعهما قبل البناء كان مما يصدقه النساء أم لا، وإن كان بعد البناء ثبت النكاح وترد المرأة إلى صداق مثلها ما لم يكن فوق ما ادعت أو دون ما ادعى الزوج إلا أن يرضى الزوج أن يعطيها ما ادعت وهذا كله قول مالك، وقال ابن القصار: القول قول الزوج مع يمينه بعد البناء ولا يكون عليه إلا ما أقر أنه تزوج به، ووافق إذا اختلف قبل البناء، وقال أصبغ في ثمانية أبي زيد: فالقول قول الزوج إن كان مما يصدقه النساء، وإن ادعى ما لا يشبه كالجلود والخشب، وادعت المرأة ما يشبه مما يتزوج به النساء فالقول قولها إذا كانت قيمة ذلك مثل ما يتزوج به فأقل، وإن كان لا يشبه قول واحد منهما تحالفا وتفاسخا وكان لها صداق المثل، وإذا قلنا بالتحالف ورد المرأة إلى صداق المثل، فهل يثبت النكاح وهو المعروف في المذهب ورواه ابن وهب عن مالك، أو يفسخ وهو الذي في الجلاب؟ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَتَ قَبْلَ الْبِنَاءِ فِيهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وإِنِ ادَّعَى تَفْوِيضاً (فِيهِمَا) أي: في القدر والصفة، وكان القول قوله مع يمينه، أو قول ورثته لأنه غارم، وقاعدة الشرع ترجيح قوله. قوله: (وإِنِ ادَّعَى تَفْوِيضاً) أي: القول قول الزوج مع يمينه ولو ادعى تفويضاً، وهكذا قال في المدونة وله الميراث.

اللخمي: ومحمل قول مالك على أن العادة عندهم على التسمية والتفويض، ولو كانت عادتهم التسمية خاصة لم يصدق الزوج. وَإِذَا تَنَازَعَ أَبُو الْبِكْرِ، والزَّوْجُ تَحَالَفَا ولا كَلامَ لَهَا إنما لم يكن لها لأن تقدير الصداق للأب لا لها، ابن حبيب: وإنما حلف الأب لأنه كوكيل مفوض. وقوله: (ولا كَلامَ لَهَا)؛ أي سواء خالفت الأب أم لا. وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةَ عَلَى صَدَاقَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ لَزِمَا يعني: لو ادعى قدراً أو جنساً أو صفة وادعت خلافه، وأقام كل منهما البينة على دعواه، وعينت كل بينة زماناً غير الذي عينته للأخرى لزم الصداقان، وحمل على أنه طلقها ثم عقد عقداً آخر، ووقع بعد الكلام المتقدم في نسخة ابن راشد ما نصه: وقدر تخليل طلاق بينهما، ثم هل يقدر قبل المسيس ويكون على المرأة أن تبين وقوعه بعد الدخول، أو على الرجل على العكس؟ فيه خلاف. انتهى. نص النسخة ونحوها في الجواهر: ولم ير هذين القولين معزوين، صاحب الجواهر وابن راشد: ومنشأهما: هل يستقر بالعقد النصف فيكون على المرأة البينة لدعواه ما يسقط الواجب عليه؟ وَلَوْ كَانَ أَبَوَاهَا مِلْكاً لَهُ فَقَالَ: أَصْدَقْتُكِ أُمَّكِ، فَقَالَتْ: بَلْ أَبِى، تَحَالَفَا وعُتِقَتِ الأُمُّ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وعُتِقَا جَمِيعاً .. هذه المسألة لسحنون في كتاب ابنه قال: إن تزوج امرأة فادعى أنه تزوجها على أمها وهي عالمة بها، وقالت المرأة: بل على أبي وهو مالك لأبويها، وحفظت البينة العقد ولم تحفظ على أبيها عقد، قال سحنون: الشهادة ساقطة فإن لم يدخل تحالفا وفسخ النكاح،

ويلزمه عتق الأم لأنه أقر أنها حرة، وكذلك إذا نكلا، وإن كان قد دخل بها أيضاً حلف وعتقت الأم عليه ويكون بإقراره. ابن يونس: قال بعض أصحابنا وهذا خلاف ما تقدم لابن حبيب، إذا اختلفا في نوع الصداق بعد البناء أنهما يتحالفان ويكون لها صداق المثل. وقوله: (تَحَالَفَا وعُتِقَتِ الأُمُّ) يريد وإن نكل حلفت وعتقا معا ويكون ولاؤهما لها، قاله المتيطي، والظاهر أن المصنف إنما تكلم على المسألة إذا تنازعا قبل الدخول لقوله: (تَحَالَفَا) فما قلناه أتم. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ مُعَجَّلِ الصَّدَاقِ أَوْ مَا يُعَجَّلُ قَبْلَ الْبِنَاءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وبَعْدَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وفِي الْمُؤَجَّلِ: قَوْلُهَا، وقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ كَانَ الْعُرْفُ أَلا يَتَأَخَّرَ الْمُعَجَّلُ عَنِ الدُّخُولِ، وإِلا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنْ كَانَ فِي كِتَابِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وإِلا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ... يعني: إذا اختلفا في قبض معجل الصداق أو المؤجل الذي حل، فقال الزوج: قد دفعته، وقالت هي: لم أقبضه، ففي المدونة إن كان النزاع قبل البناء فالقول قول المرأة، وإن كان بعده فالقول قوله، والمشهور افتقار من جعل القول قوله إلى يمين، اللخمي وعياض: وقال ابن الماجشون: إن كان قريباً حلف وإن طال فلا يمين عليه، وجعل في المدونة ورثة كل واحد من الزوجين يتنزل منزلة موروثه [337/ أ] سواء ماتا معاً أو أحدهما، قال في المدونة: وإن قال لورثة الزوج في المدخول بها: قد دفعه، أو قالوا: لا علم لنا فلا شيء عليهم، فإن ادعى ورثتها عليهم العلم حلفوا أنهم لا يعلمون أن الزوج لم يدفع ولا يمين على غائب ومن يعلم أنه لا علم عنده، وقال القاضي إسماعيل وغيره من شيوخنا: إنما قال مالك أن القول قول الرجل بعد البناء بالمدينة لأن عادتهم جرت بدفعه قبل البناء، وأما في سائر الأمصار فالقول قولها، وإلى هذا أشار بقوله:

(وقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ .. إلخ)، وقال عبد الوهاب تبعاً للأبهري: إنما قاله مالك حيث لم يكن المعجل مكتوباً في كتاب، وإن كان في كتاب فالقول قولها، وهذان قولان إنما قصد قائلهما تقييد قول مالك، وينبغي أن يحمل قولهما على التقييد، ولا يؤخذ ذلك من كلام المصنف بل ظاهره حمل قولهما على الخلاف، ولابن وهب إن طالبته بالحال أو ما حل بإثر البناء فلا براءة للزوج منه إلا بالبينة، وإن طالبته بذلك بعد طول لم يقبل قولها، عياض: وما قاله مالك إنما هو إذا ادعى دفعه قبل الدخول، وأما إذا ادعى دفعه بعد الدخول فلا يصدق فيه كسائر الديون، واستقرأ من قوله: (أن القول قوله مع دفع المعجل) ما حل بعد الدخول أن للمرأة منع نفسها حتى تقبضه، وهو نص لعبد المالك عن محمد، وفي المنتخبة خلافه، وكذلك ذكر فضل عن يحيى بن يحيى، وإن أخذت بالصداق رهناً ثم سلمته، فالقول قول الزوج مع يمينه أنه دفع ويبرأ وسواء دخل أو لم يدخل، واختلف إذا دخل وبقي الرهن بيدها، فقال سحنون: القول قول الزوج مع يمينه، وقال يحيى في المنتخبة: القول قولها مع يمينها واختاره اللخمي وغيره. فرع: إذا قال الموثق في الكتاب: النقد من الصداق كذا فهو مقتض لبقائه في ذمة الزوج، واختلف إذا قال: نقدها كذا، فقال سحنون: ذلك براءة للزوج من النقد، وقال محمد: لا يبرئه ذلك حتى ينص على الدفع. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ حُرَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ ولا بَيِّنَةَ قُضِيَ لِلْمَرْأَةِ بِمَا يُعْرَفُ لِلنِّسَاءِ: كَالطَّسْتِ، والْمَنَارَةِ، والثِّيَابِ والْحِجَالِ والْفُرُشِ، والْبُسُطِ والْحُلِيِّ، والرَّجُلِ بِمَا يُعْرَفُ لِلرِّجَالِ، وبِمَا يُعْرَفُ لَهُمَا، لأَنَّهُ بَيَّنَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا ... يعني: إذا اختلف الزوجان قبل الطلاق وبعده في متاع البيع سواء كانا حرين أو عبدين، أو أحدهما حر والآخر عبد، أو مسلمين أو مختلفين بأن كل الزوج مسلماً والمرأة

كتابية، فإن قامت للمرأة بينة بما يعرف للنساء قضي لها به من غير يمين، وكذلك هو وإن لم تقم لأحدهما بينة، وإليه أشار بقوله: (ولا بَيِّنَةَ) فإنه يقضي للمرأة بما يعرف للنساء، وللرجل بما يعرف للرجال خاصة، ويقضي له أيضاً بما يعرف للرجال والنساءلأن البيت للرجل وهذا هو المشهور، وروي عن ابن القاسم مثله إلا فيما يعرف لهما فإنه قال أنه يكون بينهما بعد أيمانهما، وإليه أشار المصنف بقوله: (عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا) لأن الضمير (أَنَّهُ) عائد على ما يصلح لهما، ونقل عن ابن وهب والمغيرة مثله، ولابن وهب أيضاً: يفسخ بينهما ما اختلفا فيه بعد أيمانهما كان من متاع النساء فقط، أو الرجالفقط، أو من متاعهما، وقال ابن مسلمة: القول قول الرجل وإن كان ما ادعاه من متاع النساء فقط، ووجه المشهور العرف، وإذا فرعنا عليه فهل بيمين وهو قول ابن حبيب؟ ابن عبد السلام: وهو مذهب المدونة عندهم. المتيطي: وهو قول المشيخة السبعة ولا يحتاج إليها وهو قول سحنون، هكذا حكى اللخمي وابن يونس والمتيطي وابن بشير وغيرهم، ورأى صاحب البيان أنه لا يختلف في توجه اليمين إذا ادعت المرأة شيئاً من متاع النساء وكذبها الرجل أو بالعكس، وإنما الخلاف في توجه اليمين إذا تنازع ورثة الزوجين أو ورثة أحدهما مع الآخر دون تحقيق الدعوى في أيمان التهم وهذه هي التي تشهد لها أصول المذهب، والطريقة الأولى أسعد بنقل المتقدمين. ومثل المصنف ما يعرف للمرأة بالطست والمنارة والحجال والفرش والبسط والحلي ونحوه في المدونة، والطست: إناء مبسوط القاع معطوف الأطراف يعمل في الغالب من النحاس، يعد في الغالب لغسل اليدين، والمنارة: الشيء الذي يوضع عليه السراج، والقباب: جمع قبة، والحجال: قال بعض الفقهاء: هي الستور، قال الجوهري: الحجلة بالتحريك واحدة حجال العروس وهي بيت تزين بالثياب والأسرة والستور.

أصبغ وأبو عمران وغيرهما: وهذا محمول على العرب بمصر في أن المرأة تأتي بها وإن طال الأمر، فالرجل هو يخلفها. ابن راشد: وعندنا أنها معروفة للرجال، قال في المدونة: ويقضي للمرأة بجميع الحلي إلا السيف والمنطقة والخاتم فإنه للرجل، وللرجل جميع الرقيق ذكراناً وإناثاً، وأما أصناف الماشية وما في المرابط من خيل أو بغال فلمن حاز ذلك قبل وإن لم يكن حوز فالمركوب كله للرجل. وقوله: الخاتم؛ ابن يونس: أي الفضة [337/ ب] يعني: وأما الذهب فهو للمرأة. خليل: وجرت العادة عندنا أن صياغة خاتم الرجل لا تشابه صياغة خاتم المرأة فيرجع إلى ذلك، وأما الرقيق فما قاله في المدونة ظاهر في الذكور، وأما الإناث فقد يكن للنساء وقد يكن للرجال فيأتي في ذلك القول الذي ذكره المصنف آخراً، مالك في المدونة: وإن اختلفا في الدار قضي بها للرجل. قال صاحب البيان: العرف عندنا في ذوات الأقدار أن المرأة تخرج بالدار فإذا اختلفا يجب أن يقضي لها بها، قال: وكذلك حفظت عن شيخنا ابن رزق، وإذا اختلفا في الغزل فإن عرفت البينة أن الكتان له أو أقرت له به، كانا شريكين فيه هو بقيمة الكتان وهي بقيمة الغزل، أو إن لم تعرف البينة ذلك ولا أقرت به فالغزل لها، وإن تولت المرأة نسج شقة فادعى الزوج أنها له فقال مالك: على المرأة البينة أن الغزل لها، وقال ابن القاسم: هيلها وعليه البينة أن الغزل له، فإن أقام البينة كانت الشقة بينهما، هذا بقدر قيمة الغزل وهذه بقدر قيمة النسج بعد أن تحلف: ما نسجتها له. فرع: وإذا طلقها وعليها ثياب وطلبته بالكسوة، وقال لها: ما عليك فهو لي، وقالت: بل هو لي، أو عارية عندي.

ابن راشد: فللأندلسيين في ذلك ثلاثة أقوال: قال ابن الفخار: القول قول الزوج كما لو تنازعا في رقيق البيت، وقال ابن دحون: القول قول المرأة إذ ليست الكسوة شيئاً موضوعاً في البيت. وقال المشاور: إن كانت من كسوة البذلة فالقول قوله مع يمينه وإلا فقولها مع يمينها، فإذا حلفت كساها، ولو اشترى لزوجته ثياباً فلبستها في غير الذلة ثم فارقها وادعى أنها عارية وأنكرته، فقال الداودي: إن كان مثله يشتري ذلك لزوجته على وجه العارية فالقول قوله مع يمينه، وإلا فقولها، وسواء كان لباسه أو لا، قليلاً كان أو كثيراً، قريباً أو بعيداً، وقال غيره: القول قوله مطلقاً انتهى كلام ابن راشد. وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى شِرَاءِ مَا لا يُقْضَى لَهُ بِهِ حَلَفَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَقُضِيَ لَهُ بِهِ يعني: إذا أقام الرجل بينة على أنه اشترى ما يصلح للمرأة ولا يصلح له كالحلي أو العكس كالسيف، ونص في المدونة على الرجل يحلف أنه اشتراه لنفسه وسكت فيها عن يمين المرأة فتأول ذلك جماعة على أنه إنما سكت اكتفاءً بذكر اليمين في الرجل لعدم الفارق بينهما، وعلى هذا اقتصر المصنف، وتأول بعضهم ذلك على ألا تحتاج إلى اليمين بخلافه، قال: لأن الرجال هم القوامون على النساء دون العكس، قال في تهذيب الطالب: ومنع بعض مشايخنا هذا التأويل وأنكره، وقال لسحنون: إنما تقبل البينة إذا أقامها على أنه إنما اشتراه لنفسه، وأما على مطلق الشراء فلا؛ لأنه يمكن أن يكون اشتراؤه للزوجة.

الوليمة

الْوَلِيمَةُ مَنْدُوبَةُ الثعالبي والجوهري: الوليمة طعام العرس، وقال صاحب العين: الوليمة: طعام النكاح، وقيل: طعام الإملاك وقيل: طعام العرس والإملاك. وقوله: (مَنْدُوبَةُ) هو المذهب، وقد تقدم أن ابن سهل قال: يقضي بها فتكون واجبة. ووَقْتَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ هذا ظاهر المذهب، واستحبها بعض الشيوخ قبل البناء. اللخمي: وواسع قبله وبعده، ولمالك في العتبية: لا بأس أن يولم قبل البناء وبعده، وقال ابن يونس: يستحب الإطعام عند عقد النكاح وعند البناء، والمباح من الوليمة ما جرت به العادة من غير سرف ولا سمعة. الباجي: والمختار منها يوم واحد. ابن حبيب: أكثر من يوم. ويكره استدامة ذلك أياماً، وأما أن يدعو في اليوم الثالث من لم يكن دعاه فذلك واسع. وَنَصَّ مَالِكُ أَنَّ الإِجَابَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ التعيين أن يلقى صاحب العرس الرجل فيدعوه، أو يقول لغيره: ادع لي فلاناً بعينه، قاله الباجي وغيره، أما إن قال له: ادع لي من لقيت فلا بأس على من دعي بمثل هذا أن يتخلف. ومن المنكر فرش الحرير أو يكون على جدران الدار صور أو ساتر، قاله صاحب الجواهر وغيره، ولا بأس بصور الأشجار. ابن عبد السلام: وإذا كان هناك منكر فالمشهور أن الوجوب يسقط، ولا يجوز له الإتيان. وقيل: يجوز الإتيان. وهذا كاللعب الذي لا يجوز وإن كان اللعب مباحاً، فإن كان المدعو من غير ذوي الهيئات فالوجوب وإن كان منهم فقولان، ومقتضى النظر إذا كان الإتيان

واجباً لا يسقط باللعب الذي لا يجوز بل يذهب وينكر بيده أو بلسانه أو بقلبه، كما لو عارضه منكر في طريق الجمعة. انتهى. والأرذال من يتأذى بحضوره ومجالسته من السفلة الذين تزري به مجالستهم، قاله في الجواهر؛ لأن هؤلاء لا يؤمن معهم على الدين، قال في الرسالة: وأرخص مالك في التخلف لكثرة الزحام. قوله: ولا إغلاق باب دونه، لأن إغلاق الباب دونه يحط من قدره. وقال ابن القصار: ومذهبنا أن الوليمة غير واجبة، والإجابة غير واجبة ولكن يستحب. وصصرح الباجي بمشهورية الأول. ابن عبد السلام: وهو الصحيح ويعضده ما في الصحيح من حديث أبي بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" وهذا الذي [338/ أ] يجب الإتيان إليه هو طعام العرس لا طعام الإملاك، رواه ابن القاسم وغيره. وَوُجُوبُ أَكْلِ الْمُفْطِرِ مُحْتَمَلُ أصله للباجي لأنه قال: لم أر فيه لأصحابنا نصاً جلياً، وفي المذهب مسائل تقتضي القولين، وهل عليه أن يأتي وهو صائم؟ روى محمد عن مالك: أرى أن يجيب وإن لم يأكل أو كان صائماً، وقال أصبغ: ليس بالوكيد، قال: فقول مالك مبني على أن الأكل ليس بواجب، وقول أصبغ على وجوب الأكل، ولذلك أسقط وجوب الإتيان عن الصائم الذي لا يأكل. ابن عبد السلام: ولا يبعد أن يكون القولان مبنيان على وجوب الأكل، إلا أن مالكاً رأى أن الإجابة واجب مستقل وكذلك وجوب الأكل، فإذا تعذر الأكل للصائم أو غيره بقي

وجوب الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا ما استطعم"، وقول أصبغ مبني على أن الإجابة إنما وجبت وسيلة للأكل، فإذا سقط المقصود وهو الأكل سقطت الوسيلة. وَيُكْرَهُ نَثْرُ اللَّوْزِ والسُّكَّرِ وشِبْهِهِ أي: يكره ذلك إذا جيء به للنهبة، وهذا قول مالك خلافاً لأبي حنيفة، ويحرم حينئذ أن يأخذ بعضهم ما حصل لصاحبه، ولو جيء به للأكل لا للنهبة، فذلك جائز وتحرم حينئذ النهبة. فرع: قال في البيان: اتفق أهل العلم على إجازة الغربال في العرس، وفي الكبر والمزهر ثلاثة أقوال: قال ابن حبيب: يجوزان قياساً على الغربال. وقال أصبغ: لا يحمل واحد منهما محمله ولا يجوز استعماله في عرس وغيره، وعليه يأتي في سماع سحنون عن ابن القاسم أن الكبر إذا بيع فسخ بيعه، وإذا قال ذلك في الكبر فأحرى في المزهر لأنه المعني منه. والقول الثالث: أنه يحمل محمله الكبر دون المزهر، وهو قول ابن القاسم في العتبية، ولابن كنانة في المدنية: إجازة البوق في العرس، فقيل: معنى ذلك في البوقات والزمارات التي لا تلهي. واختلف فيما أجيز من ذلك، فقيل: هو من قبيل الجائز الذي يستوي فعله وتركه، وقيل: من الجائز الذي تركه أولى من فعله فهو من قبيل المكروه، وهو قول مالك في المدونة: أكره الدفاف والمعازف في العرس وغيره. واختلف هل يجوز ذلك للرجال والنساء، وهو المشهور، وقول ابن القاسم في العتبية: وقال أصبغ في سماعه: إنما يجوز للنساء فقط.

القسم والنشوز

أصبغ في العتبية: وإذا ضرب النساء الدف فلا يعجبني التصفيق بالأيدي وهو أخف من غيره. الْقَسْمُ والنُّشُوزُ: ويَجِبُ الْقَسْمُ لِلزَّوْجَاتِ دُونَ الْمُسْتَوْلَدَاتِ، والْعَبْدُ والْمَجْنُونُ والْمَرِيضُ كَغَيْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْمَرِيضُ أَقَامَ عِنْدَ مَنْ شَاءَ يعني: ويجب على كل من له زوجات أن يعدل بينهن لقوله تعالى: (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) [النساء: 129] وقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 3] المعنى إن خفتم ألا تقدروا على العدل فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم وذلك يدل على أن العدل واجب، وروى الترمذي حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط". ابن بشير: وأجمعت الأمة على وجوب القسم من حيث الجملة. وقوله: (دُونَ الْمُسْتَوْلَدَاتِ) لا أعلم فيه خلافاً، قال في المدونة: وليس لأم الولد مع الحرة قسم، وجائز أن يقيم عند أم ولده ما شاء ما لم يضار. ووقع في نسخة ابن عبد السلام هنا: والأولى العدل وكف الأذى، ومعناه القسم وإن لم يكن واجباً بين الزوجة والمستولدة، إلا أن الأولى ما ذكره، قال: وظاهر المدونة أن كف الأذى ليس من باب الأولى وإنما هو واجب، وذكر ما ذكرناه عنها، ولم يقع ما زاد ابن عبد السلام عن المصنف عندنا. قوله: (والْعَبْدُ والْمَجْنُونُ) هكذا وقع في أكثر النسخ بنونين وفي بعضها بياءين، والحكم في الجميع سواء. وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْمَرِيضُ أَقَامَ عِنْدَ مَنْ شَاءَ) لما خرجه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى نسائه- يعني: في مرضه- فاجتمعن، فقال: "إني لا أقدر أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذن لي فأكون عند عائشة فعلتن"، فأذن له.

وهذا منه صلى الله عليه وسلم إنما هو تشريع لأمته، وتطييب لقلوبهن، وإلا فالقسم عليه ليس واجباً على ما نص عليه العلماء. وَالصَّغِيرَةُ الْمَوْطُوءَةُ، وَالْمَرِيضَةُ، والْجَذْمَاءُ، وَالرَّتْقَاءُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، والْمُحْرِمَةُ والْمُولَى مِنْهَا، وَالْمُظَاهَرُ مِنْهَا، وشِبْهُهُنَّ كَغَيْرِهِنَّ .. يعني: أن من قام بها مانع لا يسقط حقها وسواء كان المانع شرعياً كالظاهر أو عقلياً كالرتقاء وكلامه ظاهر. وَعَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يَطُوفَ بِهِ عَلَيْهِنَّ لما قدم أن المجنون كالصحيح، بين أن ذلك على الولي لأنه كالناظر في مصالحه. أَمَّا الْوَاحِدَةُ فَلا يَجِبُ الْمَبِيتُ عِنْدَهُا هكذا في الجواهر، زاد: ولكن يستحب ذلك ليحصنها، وهذا مقسيد بعدم الضرر. فرع: ولو خاصمها الرجل في الجماع، ففي الضرر عن المشاور: أنه يقضي له عليها بأربع مرات في الليل وأربع مرات في اليوم، ونقله صاحب المعيد عن عبد الله بن الزبير، ونقل عن المغيرة: أنه يفرض له أربع مرات بين اليوم والليلة، وعن أنس بن مالك: أنه يفرض له عليها عشر مرات في اليوم والليلة. وَلا يَدْخُلُ عَلَى ضَرَّتِهَا [338/ ب] فِي زَمَانِهَا إِلا لِحَاجَةٍ، وقِيلَ: إِلا لِضَرُورَةٍ يعني: أنه ليس له أن يأتي في يوم واحدة ليقيم عند غيرها، واختلف هل يدخل لقضاء حاجة؟ فأجاز مالك في الموازية: أن يأتي عابراً أو لحاجة أو ليضع ثيابه عندها، وليس عند الأخرى شيء من ثيابه إذا كان منه ذلك على غير ميل ولا ضرر، وقال أيضاً: لا يقيم عند إحداهن إلا عن عذر لابد منه من اقتضاء دين أو تجارة أو علاج.

ابن الماجشون: ولا بأس أن يقيم بباب إحداهما يسلم من غير أن يدخل، وأن يأكل ما تبعث به إليه. واختلف إذا أغلقت إحداهما بابها دونه، فقال مالك في الموازية: إن قدر أن يبيت في حجرتها وإلا ذهب إلى الأخرى، وقال أبو القاسم: لا يذهب إلى الأخرى وإن كانت هي الظالمة. أصبغ: إلا أن يكثر ذلك منها ولا مأوى له سواهما. وَيَبْدَأُ بِاللَّيْلِ اخْتِيَاراً، ولا يَزِيدُ عَلَى يَوْمٍ ولَيْلَةٍ إِلا بِرِضَاهُنَّ إِلا أَنْ يَتَبَاعَدَ بَلَدَاهُمَا فَيَقْسِمُ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ .. قال مالك في الموازية: له أن يبدأ بالليل قبل النهار وبالنهار قبل الليل. الباجي: لأن الذي عليه أن يكمل لكل واحدة يوماً وليلة، قال: والأظهر من قول أصحابنا يبدأ بالليل. محمد عن مالك: ولا يجوز أن يقسم لكل واحدة يومين، ولو جاز لجاز ثلاثة وأربعة. قوله: (إِلا بِرِضَاهُنَّ إِلا أَنْ يَتَبَاعَدَ .. إلخ)، ظاهر التصور ونحوه في الباجي والجواهر. وَلا يَجْمَعُ بَيْنَ ضَرَّتَيْنِ فِي مَكَانٍ أما الجمع بينهما في دار واحدة ويكون لكل واحدة منزل فذلك من حقهن، فيجوز إذا رضيا. اللخمي والمتيطي: ولا يطأ واحدة وفي البيت أخرى، ولا يجوز أن يصيب الرجل زوجته أو أمته ومعه في البيت أحد يقظان أو نائم، واختلف في جمع المرأتين في فراش واحد من غير وطء برضاهن، فمنعه مالك في كتاب محمد وكرهه ابن الماجشون، واخلتف أيضاً في الإماء، فمنعه مالك في الموازية، وكرهه مرة، وقال ابن الماجشون: لا بأس به بخلاف الحرتين، ومنع محمد بن سحنون أن يدخل الحمام بزوجتيه جميعاً، وأجازه بالواحدة.

وَلا يَسْتَدْعِيهُنَّ إِلَى بَيْتِهِ عَلَى التَّنَاوُبِ إِلا بِرِضَاهُنَّ لأن من حقهن أن يأتي غليهن فإن أسقطنه جاز، وقد كان صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره يدور على نسائه. وَلَيْسَت التَّسْوِيَةُ فِي الْوَطْءِ بِوَاجِبٍ مَا لَمْ يُقْصَدِ الضَّرَرُ، وكَذَلِكَ لَوْ كَفَّ لِتَتَوَفَّرَ لَذَّتُهُ فِي الأُخْرَى .. بل يبقى على سجيته فمن دعته نفسه إليها أتاها، ولأن الوطء ينشأ عن المحبة، والمحبة لا تدخل تحت الاختيار، ومن الضرر الممنوع إذا دعته نفسه فكف لتتوفر لذته في الأخرى، وهل يتطوع لواحدة بأكثر مما يجب لها من النفقة والكسوة؟ فاختاره ابن حبيب، وقال مالك في الموازية: لا بأس أن يكسو إحداهما الخز والحلي، ما لم يكن على وجه الميل، وقال أيضاً: لا بأس بالشيء اليسير ما لم يكن على وجه الميل. اللخمي: وهو أحسن، ولا تجب المساواة بينهما في النفقة والكسوة لأن إحداهما قد تكون ذات قدر ومنصب. وَإِذَا تَجَدَّدَ نِكَاحُ بِكْرٍ بَاتَ عِنْدَهَا سَبْعاً، والثَّيِّبُ ثَلاثاً، سَوَاءُ الْحُرَّةُ والأَمَةُ، وَالْمُسْلِمَةُ والْكِتَابِيَّةُ، وَلا يُقْضَى .. لما في الصحيحين عن أنس قال: "إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً. قال خالد الحذاء: ولو قلت: رفعه لصدقت، ولكنه قال: السنة كذا. وفي الموطأ أنه عليه الصلاة والسلام قال لأم سلمة حين تزوجها وأصبحت عنده: "ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت. فقالت: ثلث".

ابن عبد البر: وهو حديث متصل صحيح. قال صاحب الإكمال وغيره: والمراد بالأهل في قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس بك على أهلك" هو صلى الله عليه وسلم. المتيطي: والمشهور أن هذا إنما يكون إذا كانت عنده امرأة غيرها، وقد يفهم ذلك من قول المصنف (تَجَدَّدَ) وحكى أبو الفرج عن مالك أن ذلك لها وإن لم يكن عنده غيرها، وقاله ابن عبد الحكم. وقوله: (سَوَاءُ الْحُرَّةُ والأَمَةُ، وَالْمُسْلِمَةُ والْكِتَابِيَّةُ)، ظاهر قوله: (وَلا يُقْضَى) أي: لبقية نسائه مثل ما مكث عند الجديدة. وَفِي الْقَضَاءِ لَهَا بِهِ قَوْلانِ حكى ابن الجلاب وعبد الوهاب في كون الإقامة المذكورة حقاً للزوج للاستمتاع بالجديدة، أو حقاً لها لتزيل ما عندها من الوحش بمفارقة أهلها روايتين. عبد الوهاب: وفائدة ذلك أنها إن كانت له جاز له فعله وتركه، وإن كانت حقاً لها لم يجز له تركه إلا بإذنها، وحكى ابن القصار: أنها لهما جميعاً، قال الباجي: وإذا قلنا أنها حق للزوجة هل يقضي بها؟ قال محمد بن أصبغ: هو حق عليه ولا يقضى بها عليه كالمتعة، وفي النوادر عن محمد بن عبد الحكم، يقضى بها عليه، والذي ذهب إليه ابن القاسم في المدونة واختاره اللخمي وغيره، أنها حق لازم على الرجل للمرأة. وَفِي إِجَابَةِ الثَّيِّبِ إِلَى سَبْعٍ قَوْلانِ، وعَلَى الإِجَابَةِ يَقْضِي سَبْعاً سَبْعاً القول بعدم الإجابة رواه ابن المواز عن مالك، والإجابة حكاها القاضي أبو الحسن، قال: وإذا اختارت السبع قضى لسائر نسائه سبعاً سبعاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن". اللخمي: وبهذا قال أنس بن مالك والشافعي والنخعي وابن حنبل وإسحاق.

ونقل ابن عبد السلام عن جماعة [339/ أ] من محقق أهل العلم أنهم فهموا الحديث على أنه إن شئت سبعاً عندك بعد الثلاث، لأنه لو حسب الثلاث في السبع ثم قضى لهن سبعاً سبعاً لم يكن للجديدة شيء اخصت به، ويدل عليه أن في بعض طرق الحديث أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً ثم أراد أن يدور فأخذت بثوبه، فقال: "ما شئت، إن شئت أزيدك ثم قاصصتك به بعد اليوم". وله بعد التسبيع والتثليث أن يبدأ بأيهما أحب. ابن المواز: أحب إلى أن يبدأ بالقديمة. ابن يونس: وقاله مالك في القادم بإحداهن من سفر. ولا يتخلف العروس في هذه المدة عن الجماعة والجمعة. ابن يونس: ويتصرف في حوائجه. وقال بعض الناس: لا يخرج وذلك حق لها عليه، وتأوله في تهذيب الطالب، فقال: يريد أنه لا يخرج لصلاة الجماعة، أما الجمعة فلا يدعها لأنها فرض عين. وَالْمَشْهُورِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحُرَّةِ والأَمَةِ، وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: رَجَعَ مَالِكُ إِلَى لَيْلَتَيْنِ لِلْحُرَةِ .. المشهور هو اختيار ابن القاسم في المدونة. وَإِذَا ظَلَمَ فِي الْقَسْمِ فَاتَ، فَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةٍ عِنْدَ غَيْرِهَا كَفَوَاتِ خِدْمَةِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ بِأبَقٍ، واسْتَقْرَأَ اللَّخْمِيّ فِي مَنْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ شَهْرَيْنِ ثُمَّ حَلَفَ لا يَطِأَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى يُوَفِّيَهُنَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمول إِذَا قَصَدَ الْعَدْلَ أَنَّهُ لا يَفُوتُ. القول بالفوات مذهب المدونة، وهو المنصوص لأن من حجة المقيم عندها أن تقول ليس الظلم من قبلي وحقي في القسم ثابت.

وقوله: (فَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةٍ عِنْدَ غَيْرِهَا) مبالغة لأن ظلمه على وجهين، أحدهما: أن يذهب بيوم إحداهما ولا يمضي إلى الأخرى، والثاني: أن يمضي إلى الأخرى. وتخريج اللخمي إنما في الثاني، فأشار المصنف إلى أنه لا فرق بينهما على المنصوص، والمسألة التي استقرأ منها اللخمي في السليمانية، وهي إذا كان عنده أربع نسوة فأقام عند إحداهما شهرين وأراد أن يدور على البواقي، فقالت التي أقام عندها شهرين لا تزيد على ليلة فحلف لا يطأها ستة أشهر حتى يوفي البواقي، فقال مالك: ليس بمول لأنه لم يرد الضرر وإنما أراد العدل. اللخمي: فلو لم يلزم القضاء لكان مولياً، ورد بأنه لم يقصد الضرر بذلك بل أراد العدل، فيكون كمن حلف ألا يطأ زوجته حتى تفطم ولدها، وأجيب بأن المرضع يعود النفع إلى ولدها بخلاف هذه. وقوله: (أَنَّهُ لا يَفُوتُ) مفعول باستقراء. وَإِذَا وَهَبَتْ وَاحِدَةُ يَوْمَهَا لِضَرَّتَهَا فَلِلزَّوْجِ الامْتِنَاعُ لا لِلْمَوْهُوبَةِ له الامتناع لأنه قد يكون له غرض في هذه والحق له، وفي الصحيح أن سودة لما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة. فَإِنْ وَهَبَتِ الزَّوْجَ قُدِّرَتْ كَالْعَدَمِ ولا يُخَصِّصُ هُوَ يعني: إذا وهبت لضرتها بقسية أيام القسم على حالها ويكون للموهوبة يومان، وأما إذا وهبت للزوج فإنها تكون كالعدم فلا يخصص هو بذلك اليوم غيرها، فإن كانت النسوة أربعاً، كان أيام القسم في المسألة الأولى أربعة على حالها، وفي الثانية ثلاثة، وينبغي إذا وهبت للزوج أن تسئل هل أرادت الإسقاط أو تمليك الزوج؟ فإن أرادت الثاني فله أن يخصص بيومها من يشاء.

وَلَهَا الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَتْ يعني: في الصورتين. اللخمي: وسواء كانت الهبة مقيدة بوقت أو للأبد لأن ذلك مما تدركها فيه الغيرة، ولا تقدر على الوفاء بما وهبت إلا أن يكون اليوم أو اليومين، واختلف في بيعها اليوم وشبهه، فقال مالك في الموازية: لا أحب أن تشتري من صاحبتها يوماً ولا شهراً، وأرجو أن يكون في ليلة خفيفاً. قيل له: فإن أرضى إحدى امرأتيه بشيء أعطاها ليومها ليكون فيه عند الأخرى، فقال: إن الناس لا يفعلون ذلك وغيره أحب إلي، وإن أذنت له أن يطأ الأخرى في يومها فلا بأس. ابن عبد السلام: والأقرب جواز البيع ولو طلب إذنها في إجبار غيرها فلم تأذن له فيخيرها بين الطلاق وألا بيات عليها فأذنت له بسبب ذلك، ففي ذلك قولان. خليل: وانظر هل يقيد رجوعها في هذه المسالة بما إذا لم تدخل ضرتها الأخرى في شيء كما قالوا في اعتصار الأب ما وهب لولده. وَإِذَا أَرَادَ سَفَراً بِإِحْدَاهُنَّ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ غَزْواً أَوْ حَجّاً أَقْرَعَ وإِلا اخْتَارَ يعني: وإذا أراد أن يسافر فهل لابد من القرعة وهي رواية ابن عبد الحكم، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هم بسفر يقرع بين نسائه، أو له أن يختار وهو أيضاً مروي عن مالك، لأن المصلحة قد تكون في إقامة إحداهن إما لثقل جسم، أو لكثرة عيالها، أو لحفظها لماله، إلى غير ذلك. ابن بشير متمماً لهذا القول: إلا أن يكون في السفر عليها معرة ومضرة فلا يجبرها عليها، أو يقرع في الحج والغزو دون غيرها وهو أيضاً لمالك، وظاهر المدونة أنه لا يقرع إلا في الغزو فقط لقوله فيها: وإن سافر لحاجة أو حج أو غزو سافر بأيتهن شاء بغير قرعة إذا كان على

غير ضرر ولا ميل، وإن كانت القرعة في الغزو وحده، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فيه، فيتحصل في المسألة أربعة أقوال، لكن فهم صاحب البيان وغيره المدونة [339/ ب] على أنه يختار مطلقاً، فلا يكون في المسألة إلا ثلاثة أقولا، وطريق عبد الوهاب تخالف هذه، فإنه قال: إن كانت إحداهن تصلح دون الأخرى كان له الاختيار وإن كن كلهن يصلحن فإن كان سفر حج أو غزو أقرع، وفي سفر التجارة روايتان، ولا يحاسب من سافر بها بعد رجوعه بل يبتدئ القسم. وَإِذَا نَشَزَتْ وَعَظَهَا ثُمَّ هَجَرَهَا ثُمَّ ضَرَبَهَا ضَرْباً غَيْرَ مَخُوفٍ، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لا يُفِيدُ لَمْ يَجُزْ ضَرْبُهَا أَصْلاً .... لقوله تعالى: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) [النساء: 34] الآية، ولما كان في الآية حذف مضاف، والتقدير: تخافون ضرر نشوزهن، قال المصنف: (وَإِذَا نَشَزَتْ) ولا يقال عطفه بـ (ثُمَّ) مخالف للآية للعطف فيها بالواو والمقتضية لجواز الجمع لأن العطف في الآية باعتبار جماعة النسوة، فمنهن من يصلحهن الوعظ، ومنهن من يصلحهن الهجران، ومنهن من لا يصلحهن إلا الضرب. وتقييد المصنف الضرب بأن يكون (غَيْرَ مَخُوفٍ) صحيح، وإذا غلب على ظنه أن الضرب لا يفيد لم يجز له ضربها، لأن المقصود صلاح الحال، والوسيلة عند ظن عدم مقصدها لا تشرع. عياض: والنشوز: الامتناع من الزوج والاستعصاء عليه، والنشوز أصله الارتفاع، والنشز ما ارتفع من الأرض، والنشوز يطلق على الرجل والمرأة، قال الله تعالى: (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً) [النساء: 128].

فَإِنْ كَانَ الْعُدْوَانُ مِنْهُ زُجِرَ عَنْهُ أي: زجره الحاكم، وأما إن كان العدوان منها فإن رجا الحاكم إصلاحاً زجر الزوج كما تقدم وإلا زجرها هو، وإن كان العدوان منهما فإن الإمام يزجرهما. فَإِنْ أَشْكَلَ ولا بَيِّنَةَ ولَمْ يَقْدِرْ عَلَى الإِصْلاحِ أَقَامَ الْحَاكِمُ أَوِ الزَّوْجَانِ أَوْ مَنْ يَلِي عَلَيْهِمَا حُكْمَيْنِ .. قوله: (ولا بَيِّنَةَ): لأنه لو قامت لها بينة أنه يضر بها كان لها أن تفارق. ابن الهندي في وثائقه الكبرى: ولها تطليق نفسها وإن لم تشهد البينة بتكرر الضرر، وقيل: ليس لها ذلك حتى تشهد بتكرره، فإن لم تقم بينة وادعى كل واحد إضرار صاحبه زجراً معاً، فإن تكرر تردادهما أمره القاضي أن يسكنها بين قوم صالحين وكلفهم تفقد خبرها، وإن كان ساكناً بها بين قوم هذه صفتهم لم يكلفهم نقلها عنهم، وليس عليه أن يرحلها من البادية إلى الحاضرة، ولا من طرف المدينة إلى وسطها، إلا أن لا يجد فيمن حولهما من يضمها إليه، وإن شكت الوحدة ضمت إلى الجماعة والأمن إلا أن يتزوجها على ذلك، ثم إن خفي عن الإمام الخبر وطال التكرر ولم يتبين الظالم فظاهر المذهب وهو الظاهر في النظر أنه يعمل بأمينة بل بالحكمين، والأصل في ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [النساء: 35] قيل: ولا يكون الحكمان معهما ملازمين وإنما يدخلان عليهما المرة بعد المرة، قال جماعة: والآية محكمة. المتيطي وغيره: ولم يترك العمل بها غير يحيى بن يحيى. ابن عبد البر في تاريخه: وكان ذلك مما ينكر عليه وتابعه عليه ولده عبيد الله، وأنكر بعث الحكمين على من استفتاه فيه من القضاة، وقال: لم يحكم بذلك أحد ممن كان قبلك من

أئمة العدل، وجهل فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بذلك ذكره ابن حبيب، وبعث عثمان في ذلك علياً ومعاوية، رواه ابن وهب عن ربيعة في المدونة، وقال في الكافي: يحيى بن يحيى يفتي في الحال التي يحتاج فيها إلى إرسال الحكمين بدار أمين، وجرى العمل بذلك عندنا. خليل: وفيه نظر، وكيف يعمل بغير مقتضى الآية ويترك مدلولها، ودعوى النسخ ضعيفة فإنه لم يثبت، وقال بعض من الأندلسيين من أصحابنا ممن وافق على الحكمين: بإنه يعمل بقول أمينة أو أمين قبلهما. ونقل عن مطرف وأصبغ وابن دينار ويقضي بذلك عليهما، وقال غيره: لا يقضي بذلك، وإنما يكون إذا اتفق الزوجان ونفقتهما عند من يقول بهما على الزوجين. قيل: وإن وجه الإمام أمينة فإنه يقبل قولها وحدها وهي ضرورة، ونقل في الطرر عن المشاور أن الزوج إذا ادعى أنها تضر به، ودعي إلى دار أمين كان ذلك له بأي وجه ادعاه. قوله: (أَوْ مَنْ يَلِي عَلَيْهِمَا): أي الأبوان أو الوصيان وليس للعصبة في ذلك مدخل، ومذهبنا أن للحاكم وللزوجين ولمن يلي عليهما إقامة الحكمين، وفي المدونة: قال ربيعة: لا يبعثهما إلا السلطان. ذَكَرَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ بِذَلِكِ حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا لا شك إذا اجتمعت في الحكمين هذه الصفات أن يجوز تحكيمهما، وأما إذا اختل بعضها ففي المدونة: لا يجوز في ذلك تحكيم عبد ولا صبي ولا مشرك أو سفيه أو امرأة ولو بعثها الإمام؛ لأن ذلك خارج عما أراده الله تعالى من الإصلاح إلى الضرر وهو لا يجوز منهم اثنان فكيف بواحد؟ ثم قال: ولو حكم الزوجان من ذكرنا أنه لا يحكم ففرق، لم يمض ذلك ولا يكون طلاقاً، لأن ذلك لم يكن على وجه تمليك الطلاق، ويدل على

ذلك دخول الزوجة فيه بتحكيمهما ولا مدخل للزوجة في تمليك الطلاق، وروي عن عبد الملك وأشهب وأصبغ أن تحكيم المرأة والعبد العارفين المأمونين جائز، وحكمهما لازم ما لم يكن خطأً بيناً. وقال ابن المواز: يمضي حكم المسخوط، وحكى في تحكيم المرأة والبد والصبي الذي يعقل ثلاثة أقوال، الجواز [340/ أ] والمنع في العبد خاصة، ولا خلاف في النصراني والصبي المسلم الذي لا يعقل لا يجوز تحكيمهما. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَمِنْ غَيْرِهِ أي: فإن لم يوجد أحد الحكمين على هذه الصفة من أهلها أو لم يوجدا معاً. (فَمِنْ غَيْرِهِ) أي: غير الأهل، وظاهر كلام المصنف وهو ظاهر الآية أن كونهما من الأهل شرط واجب، وقد نص المتيطي على ذلك، وتردد اللخمي في نقض الحكم إذا حكم القاضي أجنبيين مع وجود الأهل. ابن عبد السلام: وقال بعض الشيوخ أن هذا الشرط وكونهما فقيهين من شروط الكمال. وَيَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ الزَّوْجَانِ أَوْ الْوَلِيَّانِ خَاصَّةً وَاحِداً عَلَى الصِّفَةِ لا عَلَى غَيْرِهَا ما ذكره من أن للوليين إقامة الواحد مخالف للباجي فإنه نص أن إقامة الواحد خاص بالزوجين، قال: ولا يجوز ذلك للسلطان ولا لولي اليتيمين؛ لأن في ذلك إسقاطاً لحق الزوجين، وقال اللخمي: للسلطان أن يحكم رجلاً أجنبياً لأنه إنما جعل رجلان إذا كانا من الأهل، لأن كل واحد يستبطن علم من هو من قبلهِ، فإذا خرجا عن أن يكون من الأهل أجزأ واحد، وأجزأت امرأة على الأصل. ففي الأحكام: إنها تجزئ بالواحد، وفي هذا أيضاً مخالفة لكلام المصنف لكونه جعل للسلطان إقامة واحد، والمصنف منع من ذلك لقوله: (خَاصَّةً) فإن قيل: لم جاز هنا

تحكيم واحد، ولم يجز في تحكيم جزاء الصيد إلا اثنان، وقد جاء النص بتحكيم اثنين في الموضعين؟ فالجواب أن جزاء الصيد حق لله تعالى فلم يجز إسقاطه، والتحكيم هنا حق للزوجين فكان لهما إسقاطه. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَا جَارَيْنِ يعني: سواء كانا من الأهل أو من غيرهم، لأن الجيران لا يخفى عليهم في الغالب أمرهما. وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا كَذَلِكَ. أي: في النشوز وإقامة الحكمين لأن الآية عامة في الزوجين لكن الغالب إنما يحصل ذلك في المدخول بها، ونص في المدونة والموازية على ما ذكره المصنف واحتج بعضهم على صحة قول ابن لبابة في التي شرط لها زوجها في عقد نكاحها ألا يضر بها، فإن فعل فأمرها بيدها فقامت عليه بذلك قبل الدخول بها، قال ابن لبابة: لها الأخذ بشرطها، وقال غيره من معاصريه ليس لها الأخذ بذلك. وهُمَا حَكَمَانِ وَلَوْ كَانَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ لا وَكِيلانِ عَلَى الأَصَحِّ. يدل على أنهما حكمان دخول الزوجة في التحكيم وهي ليس لها من الطلاق شيء حتى توكل عليه. ابن راشد: ولم أقف على القول بأنهما وكيلان. انتهى. وحكاه في الجواهر ابن عبد السلام، ولعل محل الخلاف إن ثبت أن حكمهما الزوجان لا القاضي. فَيَنْفُذُ طَلاقُهُمَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ وحُكْمِ الْحَاكِمِ لأن حكم الحاكم لا يتوقف على رضى المحكوم عليه.

وَعَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرَا فَإِنْ كَانَ الْمُسِيءُ الزَّوْجَ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا، وإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةَ ائْتَمَنَّاهُ عَلَيْهَا أو خَالَعَا لَهُ بِنَظَرِهِمَا، وإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا خَالَعَا لَهُ بِمَا يَخِفُّ بِنَظَرِهِمَا .. يعني: أنهما ينظران أولاً بالإصلاح والألفة وحسن المعاشرة، وإن لم يمكنهما ذلك انتقلا إلى الفراق، قال جماعة: ولا يعذر الحكمان قبل حكمهما. ابن رشد: لأنهما لم يحكما في ذلك بالشهادة القاطعة وإنما يحكمان بما خلص إليهما بعد النظر. قوله: (فَإِنْ كَانَ الْمُسِيءُ الزَّوْجَ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا) يريد من غير أن يسقطا شيئاً من الصداق، وقاله اللخمي وغيره. وفي الكافي: ليس لهما أن يأخذا من الزوج على أن يطلق، وقد قيل ذلك جائز. قوله: (وإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةَ) أي: فإن كان المسيء الزوجة فقط ائتمناه عليها وتقر عنده. اللخمي: إلا أن يحب هو الفراق فيفترقان ولا شيء لها من الصداق. وقال عبد الملك في المبسوط: لو حكما عليها بأكثر من الصداق جاز ذلك إذا كان سداداً. قوله: (وإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا) أي: الإساءة خالعا له بما يخف بنظرهما، كقول ربيعة في المدونة أعط الزوج بعض الصداق. واختلف في قول ربيعة هل هو وفاق المذهب؟ فقال أبو عمران: معنى ظلمه لها في هذا الوجه أي: بدعواها ولم يثبت ذلك، ولو ثبت ظلمه لم يجز أن يأخذ منها شيئاً على الفراق، ولو حمل كلام ربيعة على ظاهره كان مخالفاً للمذهب، فقد قال بعض شيوخ إفريقية: لا يجوز أن يخالع الرجل زوجته على أن يأخذ منها إذا كان الضرر منهما جميعاً، وهو منصوص لعلمائنا وخالفه الأكثرون منهم، وحمل كلامه على ظاهره ورآه موافقاً للمذهب، وأشار اللخمي إلى أنه إن كان ضررهما متساوياً أخذ له نصف الصداق، وإن كان الإضرار منها أكثر أخذ منها أكثر من ذلك، وفرق بين ما أشار إليه أبو عمران هنا وبين الخلع بأن الحكم ها هنا بغير الزوجين يحكمان في ذلك بالاجتهاد بخلاف الخلع.

فرع: قال في الموازية: وإذا تنازع أحد الزوجين أو نزعا جميعاً قبل حكم الحكمين بذلك لمن نزع إلا أن يكون السلطان هو الباعث، أو يكون النزوع بعد أن استوعبا الكشف عن أمرهما وعزما على الحكم، فلا يعتبر نزوع من نزع ويلزمه الحكم. ابن يونس: لعله يريد إذا نزع أحدهما وأما لو نزعا جميعاً ورضيا بالإصلاح والبقاء، فينبغي ألا يفرق بينهما. وذكر بعضهم قولين في نزوع الزوجين قبل الحكم بخلاف نزوعهما بعده. وَإِذَا حَكَمَا بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لَمْ يَلْزَمِ الزَّائِدُ وفي بعض النسخ (وقيل: يلزم). وقوله: (يَلْزَمِ الزَّائِدُ) أي: وإنما تلزم واحدة. قال في [340/ ب] المدونة: لأن ما زاد على الواحدة خارج عن معنى الصلاح. المتيطي وابن راشد: وقال ابن القاسم في الموازوية: يلزمه ما أوقعا عليه وإن كان ثلاثاً إذا اجتمعا على ذلك وقاله أصبغ، وروى مطرف عن مالك في ثمانية أبي زيد: إذا اجتمعا على أكثر من واحدة لم يلزم الزوج شيء، يريد لأنهما قضيا بغير المشرع، وبنى الباجي القولين على الخلاف في العبد يتزوج بغير إذن السيد فيفرق بينهما بثلاث، والأمة تعتق تحت العبد فتختار نفسها بثلاث، هل يلزم البتات أو واحدة؟ وَإِذَا طَلَّقَهَا واخْتَلَفَا فِي الْخُلْعِ فَلِلْغَارِمِ الْمَنْعُ الغارم هو المرأة. اللخمي: ولا يلزم الزوج طلاق. عبد الملك: إلا أن تعطي له الزوجة المال فيلزم الزوجة الطلاق وتبين بذلك، ويجري فيها قول آخر: لا يلزمه الطلاق ولو أمضت له المال، قياساً على اختلاف الحكمين في العبد، فقال ابن القاسم: لا يجزئه وإن أخرج ما حكما به، وكأنه أخرج بغير حكم لأن الحكم لم يصح.

وفِي الْعَدَدِ: مَشْهُورُهَا وَاحِدَةُ، وثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْمُخَالِفُ حَكَمَ بِاثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثٍ فَوَاحِدَةُ وَإِنْ حَكَمَ بِالْبَتَّةِ وشِبْهِهَا لَمْ يَلْزَمْ شَيْءُ .. يعني: فإن اختلف الحكمان في عدد الطلاق فحكم أحدهما بواحدة والآخر باثنين أو ثلاث أو البتة، ففي ذلك ثلاثة أقوال: المشهور: لزوم الواحدة لأنهما قد اجتمعا عليها، وبناء على أن البتة تتبعض. والثاني: عدم اللزوم لأنهما لم يتفقا. والقول الثالث: إن حكم المخالف باثنتين أو ثلاث فكالمشهور واحدة، وإن حكم بالبتة لم يلزم شيء بناءً على أنها لا تتبعض. تنبيه: ذكر المتيطي أن الحاكم إذا وجه الحكمين وحكما بالطلاق أنهما يأتيان الحاكم ويخبرانه بما حكما به فينفذ حمكهما، قال: وكذلك ينبغي لمن استحلفه على شيء أن يخبره. بعض الموثقين: ورأيت لابن العطار وغيره من الموثقين أنهما يشهدان بذلك عند القاضي، ولست أرى ذلك لأن طريقهما الحكم ليس الشهادة. وحكى ابن عبد السلام عن بعضهم أنه يثبت عند القاضي بشهادتهما أنهما رأيا اتفاقاً وأنهما حكما بكذا، وعن غيره: إنما يثبت ذلك بشهادة شاهدين عدلين يحضران إصلاحهما للقاضي بذلك.

الطلاق

الطَّلاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ بِعِوَضٍ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ غَيْرِهَا وَيُسَمَّى خُلْعاً وحُكْمُهُ الْبَيْنُونَةُ أصله في اللغة انطلاق والذهاب، ومنه انطلق فلان في كذا، ثم استعمل في إرسال العصمة لأن المرأة تذهب عن الزوج، وحقيقته في الشرع معلومة، وهي حل العصمة الكائنة بين الزوجين بصيغة تقتضي ذلك فإذا أعطته شيئاً سمي خلعاً، ونص المصنف على أن الخلع طلاق تنبيهاً على قول ابن عباس وغيره أنه فسخ. ولعل المصنف قدم الكلام على الخلع وإن كان أكثر المصنفين يؤخرونه، لأن أحكام الخلع معنوية وأكثرها معنوي. والطلاق الذي ليس خلعاً أكثر ما يتكلم فيه على الألفاظ ومدلولها والمعنى أشرف، فكان تقديم الكلام عليه أولى. ونقل اللخمي وغيره عن مالك جواز الخلع ابتداءً. ابن يونس: قال مالك: ولم أزل أسمع إجازة الفدية بأكثر الصداق لقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة: 229] ولإباحته عليه السلام أن يأخذ قيس بن شماس من زوجته حبيبة بنت سهل ما أعطته إذ كرهته، وقد زادت على حديقته التي أخذتها منه. وقال ابن القصار: هو مكروه. واقتصر عليه صاحب المقدمات وجعله من طلاق البدعة، ولعل الاختلاف في كون طلاق الخلع ليس سنياً هو المقتضي لتقديم الكلام على القسم الآخر عند من قدمه. ولم يفصل المصنف فيما افترق بالعوض وسمى الجميع خلعاً. وفي المدونة: والمبارئة هي التي تباري زوجها قبل البناء فتقول: خذ الذي لك واتركني، والمختلعة التي تختلع من كل الذي لها، والمفتدية التي تفتدي ببعض ما أعطاها، وكذلك المصالحة.

وروي المبارئة التي تأخذ شيئاً ولا تعطي شيئاً، والمختلعة التي تعطيه ما أعطاها وتزيد من مالها، والمفتدية التي تفتدي ببعض ما أعطاها وكذلك المصالحة. وقيل: المبارئة تترك ما لها عليه من الحق، أو يترك كل واحد منهما ما له على صاحبه على الطلاق والمفتدية التي تترك جميع ما أعطاها، ولعل المصنف لما لم ير بهذا جدوى ومعنى تركه. وقوله: (وحُكْمُهُ الْبَيْنُونَةُ) لأن المرأة إنما أعطته على ذلك، وهذا هو المعروف. قال في البيان: وكان ابن عتاب يفتي بأن من باري امرأته المباراة التي جرى بها عرف الناس ثم طلقها بعد ذلك أن الطلاق يرتدف عليها ما لم تنقض العدة، وذلك استحسان على غير قياس مراعاة لقول من رآها طلقة رجعية. المتيطي: والمشهور أن الزوج يملك العوض ملكاً تاماً لا يفتقر فيه إلى حيازة لأنه أخذه في مقابلة عوض فأشبه البيع، وفي الموازية ما يدل على افتقاره إلى الحيازة؛ وهو قوله: إذا حال الزوج رجلاً بدين على المرأة فيما خالعها به فماتت قبل أن يقبض المحال دينه فله الرجوع على الزوج، فهذا دليل على بطلانه بالموت. فَلَوْ وَقَعَ النَّصُّ عَلَى رَجْعِيَّةِ بِبِدَلٍ فَبَائِنُ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: إذا أعطته شيئاً على أن يطلقها طلقة رجعية فالمشهور- وهو مذهب المدونة- أنه يقع بائناً لأن حكم الطلاق على العوض البينونة فلا ينتقل عنه، وروي عن مالك [341/ أ] أنه يقع رجعياً، وبه أخذ سحنون عملاً بالشرط. وَعَكْسُهُ لَفْظُ: الْخُلْعُ مِنْ غَيْر بَدَلَ، ثَالِثُهَا: ثَلاثُ، وفِيهَا: سُئِلَ مَالِكُ عَنِ الْمُطَلِّقِ طَلاقَ الْخُلْعِ أَوَاحِدَةُ بَائِنَةُ أَوْ رَجْعِيَّةُ أَمِ الْبَتَّةَ؟ فَقَالَ: بَلِ الْبَتَّةَ لأَنَّهُ بَائِنُ ولا يَكُونُ باَئِناً إِلا بِخُلْعٍ، أَوِ الأَقْصَى .. يعني: وعكس الفرع الذي قبله عدم البدل مع وجود لفظ الخلع، اتفق فيه على وقوع الطلاق، واختلف فيما يلزمه على ثلاثة أقوال:

الإيلاء

الأول: لمالك وابن القاسم تلزمه طلقة بائنة، وكأن الزوج أسقط العوض، المتيطي: وبه القضاء. والقول الثاني: أنها طلقة رجعية، ونصه عند ابن يونس، وقال مطرف: قوله: أنت طالق طلاق الخلع كقوله: أنت طالق واحدة لا رجعة لي عليك فيها فهي واحدة، وله الرجعة؛ لأن الخلع لا يكون إلا بشيء أخذه منها، ابن حبيب: وبه أقول. اللخمي: وهو قول أشهب وابن عبد الحكم. والقول الثالث: تلزمه الثلاث ووجهه ما ذكره المصنف. وكلام المصنف ليس بظاهر لإبهامه، أن المذهب لزوم الثلاث؛ لأنه هو الذي حكاه عن المدونة دليلاً وتقوية على عادته، ولم يبين كما فعل فيها أن هذا قول غير ابن القاسم، أي ابن الماجشون، ومذهب ابن القاسم ومالك هو ما قدمناه. عياض عن بعضهم: وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها، وأما غيرها فلا خلاف أنها واحدة. تنبيه وهذا ما لم يقل: أنت طالق طلقة بائنة، وأما لو قال ذلك لزمه الثلاث نص عليه في المدونة وقيل: تلزمه واحدة وقيل: بائنة، وقيل: رجعية. وَفِيهَا فِيمَنْ طَلَّقَ وأَعْطَى: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ: رَجْعِيَّةُ لأنه بمنزلة من طلق وأعطى لزوجته المتعة، قال في التهذيب: وروي عن مالك أنها واحدة بائنة وفرق ابن المواز فقال: إن كان ذلك على وجه الخلع فهي طلقة بائنة، وإن لم يجر بينهما ذلك فله الرجعة. وتأول ابن الكاتب القول الذي وقع في المدونة بالبينونة عليه.

أبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الحق: وهذا الاختلاف إنما هو في موطأ ابن وهب، والأسدية، والموازية فيمن صالح وأعطى، ليس فيمن طلق وأعطى. قال في النكت: وهذا هو الصحيح والنقل الذي في المدونة ليس بصحيح، ولا خلاف فيمن طلق وأعطى أن له الرجعة؛ لأنه إنما وهبها هبة وطلقها وليس من الخلع في شيء. ابن عبد السلام: ونقل عن غير واحد أنهم صححوا الأقوال الثلاثة، أي: المتقدمة في الخلع من غير عوض في ثلاث مسائل وهي: إذا طلقت طلاق الخلع من غير عوض، وإذا صالح وأعطى، وإذا طلق وأعطى. ولَوْ أَعْطَتْهُ مَالاً فِي الْعِدَّةِ عَلَى أَنْ لا رَجْعَةَ فَقَالَ مَالِكُ: أَرَاهُ خُلْعاً بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ. وقَالَ أَشْهَبِ: لَهُ الرَّجْعَةُ ويَرُدُّ مَالَهَا. وقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَبِينُ بِالأُولَى .. تصور كلامه ظاهر، فوجه قول مالك أن عدم الرجعة ملزوم للطلاق البائن، والأولى قد وقعت فصار كأنه أوقع أخرى، ورأى أشهب وابن وهب أن ما فعله ليس صريحاً في الطلاق ولا من كنايته غير أن أشهب رأى أن هذا شرط مخالف للرجعة التي ثبتت بالطلاق الأول فيلغي، فإذا ألغي لزم أن يرد المال إليها، ورأى ابن وهب أن الرجعة حق للزوج فكان له أن يسقطها على عوض كما لو أسقطت حقها في القسم لشيء تأخذه. وَشَرْطُ الْمُوجِبِ أَنْ يَكُونَ زَوْجاً مُسْلِماً مُكَلَّفاً أَوْ وَلِيّاً لِصَغِيرٍ أَباً أَوْ غَيْرَهُ بِخِلافِ السَّفِيهِ الْبَالِغِ ولَوْ كَانَ أَباً وبِخِلافِ السَّيِّد فِي الْعَبْدِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا .. اعلم أن الخلع خمسة أركان: الموجب، والقابل، والمعوض، والعوض، والصيغ’. وتكلم المصنف على الأول: ومراده بـ (الْمُوجِبِ): الزوج، واشتراطه الإسلام مع كون المرأة مسلمة لا يظهر له كبير معنى، وأخرج بقوله: (مُكَلَّفاً) الصبي والمجنون. وشمل كلامه السفيه والرشيد لكنه لما تكلم على السفيه بعد هذا بمفرده علم أن مراده هنا بالمكلف الرشيد.

وقوله: (أَوْ وَلِيّاً) عطف على قوله: (زَوْجاً) وقوله: (أَوْ غَيْرَهُ) أي: تجوز مخالعة ولي الصبي عنه كان أباً أو وصياً أو حاكماً إذا كان على وجه النظر، ونقل بعضهم الاتفاق على أن للأب والوصي والسلطان أن يخالعوا عن الصغير، وإنما اختلف هل يطلقون عليه بغير عوض، والذي ذكره اللخمي عن مالك وابن يونس عن ابن القاسم أنهم لا يطلقون عليه بغير عوض. قوله: (بِخِلافِ السَّفِيهِ) فيه حذف مضاف تقديره ولي السفيه، يدل عليه قوله: (ولَوْ كَانَ أَباً) يعني: وليس لولي السفيه ولو كان أباً أن يخالع عنه على المشهور؛ لأن الطلاق بيد السفيه، والذي شهره المصنف في السفيه هو مذهب المدونة، لكن نص اللخمي على أنه من قول ابن الماجشون. قال: وأجاز ابن القاسم في العتبية للوصي أن يخالع عن السفيه. ابن عبد السلام: واتفق على أنه ليس للأب والوصي أن يطلقا عليه بغير عوض. وقوله: (وبِخِلافِ السَّيِّد فِي الْعَبْدِ) أي فليس له أن يخالع عنه على المشهور. ابن عبد السلام: ومراده العبد البالغ. ثم قال: وحكم العبد البالغ حكم السفيه البالغ. وقال ابن بشير: وهل [341/ ب] يجوز الخلع عن العبد والأمة بغير اختيارهما؟ قولان: المشهور جوازه، والشاذ منعه، وهما خلاف في النظر إلى الجبر على النكاح وهذا من توابعه كون العبد قد استقل ولا حكم للسيد فيه؛ ولهذا رأى أبو الحسن اللخمي أنه يخالع عن الأمة التي ليست العصمة بيدها دون العبد. انتهى. فانظره مع كلام ابن عبد السلام، إلا أن يكون مراد ابن بشير العبد الصغير، وقد نص في المدونة على أن العبد الكبير ليس للسيد أن يخالع عنه، ولم أقف على القول بأن للسيد أن يخالع عنه، وإن ثبت فهو مشكل. وفي المدونة: إذا زوج السيد عبده الصغير لم يطلق عليه إلا بشيء يأخذه له. روى ابن نافع عن مالك فيمن زوج وصيفه أو وصيفته ولم يبلغ أنه جائز، فإن فرق السيد بينهما على النظر والاجتهاد جاز ذلك ما لم يبلغا. وقال

ابن نافع: لا يجوز ذلك إلا ما كان على وجه الخلع. فظاهره أنه يتفق على جواز المخالعة ويختلف في طلاقه عليه بغير عوض. عياض: ومذهب ابن القاسم في الكتاب في تطليق السيد على عبده الصغير طلاق السنة عند غير واحد، وروايته عن مالك مثل مذهب ابن نافع أنه لا يجوز إلا ما كان على وجه الخلع، فإن رواية ابن نافع تخالف ذلك إذا لم يشترط الخلع، ويجوز إذا كان نظراً بغير خلع إ ذا حمل على ظاهره وهو قول أكثرهم، وحمل بعضهم الكل على الوفاق. وقال ابن لبابة: وقيل: لا يجوز وإن كان على وجه الخلع، لأن للسيد انتزاعه، فكأنه أخذه لنفسه. تنبيه: وفهم من هنا أن ما يفعله الأب في خلع الصغير لازم له، وكذلك هو النص، لكن عورض ذلك بالنكاح إذا عقد على شروط، فقد قال ابن القاسم: إذا بلغ ونزع عنها أنه لا يلزمه. قيل: وقول ابن وهب باللزوم فيها أقيس. وَفِي خُلْعِ السَّفِيهِ قَوْلانِ نحوه في الجواهر، زاد: وإذا صححناه فلا يبرأ المختلع بتسليم المال إليه بل إلى وليه، والظاهر صحته لأنه إذا كان له أن يطلق من غير عوض فلأن يكون له ذلك مع العوض أولى. واقتصر المتيطي وغيره على هذا القول. وَخُلْعُ الْمَرِيضِ نَافِذُ عبر بالنفوذ ولم يعبر بالجواز لأن الإقدام عليه لا ينبغي لأنه طلاق في المرض، قال في المدونة: ومن خالع زوجته من مرضه جاز له ما أخذ منها، فإن مات في مرضه ذلك ورثته، وإن ماتت هي لم يرثها، وكذلك إذا ملكها في مرضه أو خيرها، وكذلك أي طلاق طلقها فإنها ترثه ولا يرثها.

محمد وأبو عمران: وترث مما اختلعت به، لأنه من جملة تركته، وروى مالك أنها لا ترث منه. أبو عمران: والأول مذهب المدونة، وروى زياد بن جعفر في المملكة في المرض لا ترث، وهو مذهب المغيرة في المخيرة، وخرج بعضهم منه قولاً آخر بعدم الميراث في المختلعة، وهو ظاهر لأن سبب الطلاق في جانب المرأة في مسألة الخلع أقوى منها في مسألة المملكة لبدلها المال. القَابِلُ شَرْطُهُ أَهْلِيَّةُ الْتِزَامِ الْمَالِ فَيَلْزَمُ فِي الأَجْنَبِيِّ والْمَالُ عَلَيْهِ يعني بـ (القَابِلُ) من يدفع العوض، وذلك جائز من كل ما فيه أهلية التزام المال من أجنبي أو غيره، فقد نص في المدونة على أن من قال لرجل: طلق زوجتك ولك علي ألف، أنه إذا طلقها يلزمه الألف. واحترز بقوله: (أَهْلِيَّةُ) من المحجور عليه، وينبغي أن يقيد ما قاله أهل المذهب في الأجنبي بما إذا كان في ذلك حصول مصلحة أو درء مفسدة مما لا يقصد به إضرار المرأة، وأما ما يفعله بعضهم من التزام الأجنبي ذلك وليس قصده إلا إسقاط نفقة العدة فلا ينبغي أن يختلف في منعه وفي انتفاع المطلق به بعد الوقوع نظر، قاله ابن عبد السلام. فَإِنْ وَكَّلَتْهُ فَكَوَكِيلِ الشِّرَاءِ أي: فإن وكلت الزوجة من يخالع لها (فَكَوَكِيلِ الشِّرَاءِ) أي: فإن خالع بخلع المثل فأقل لزمها الخلع ودفع العوض، وإن خالع بأكثر لم يلزمها. ويفهم من قوله: (كَوَكِيلِ الشِّرَاءِ) أيضاً أن العوض وعهدته عليه إلا أن يشترط أن ذلك عليها. ابن راشد: وإذا وكلته على عدد فزاد عليه غرم الزائد.

وَلا يَلْزَمُ فِي الأَمَةِ والسَّفِيهَةِ والصَّغِيرَةِ، ويَقَعُ الطَّلاق ويُرَدُّ الْمَالُ، ولا يَضْمَنُهُ السَّيِّدُ بِمُجَرَّدِ الإِذْنِ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الصَّغِيرَةِ يُبْنَى بِهَا: يَنْفُذُ إِنْ كَانَ يُصَالَحُ بِهِ مِثْلُهَا .. أي: ولا يلزم دفع العوض إذا خالعته الأمة أو الصغيرة أو السفيهة، لكن يقع الطلاق بائناً. قاله في المدونة. وينبغي أن يفهم قول المصنف: (الأَمَةِ) على كل من فيها شائبة رق، غير أن أم الولد والمدبرة إذا خالعها في مرض السيد وقف المال؛ فإن مات السيد صح الخلع لعدم منفعة السيد، وإن صح بطل ورد المال. ابن عبد السلام: وهذا هو المشهور في أن السيد يمنع من انتزاع مالها في مرضه. قال في المدونة: ويجوز ما خالعت به المكاتبة أو وهبت من مالها بإذن السيد. سحنون: وذلك في الشيء السيير التافه، وأما ما له القدر فلا؛ لأن ذلك داعية إلى عجزها. قوله: (ولا يَضْمَنُهُ السَّيِّدُ بِمُجَرَّدِ الإِذْنِ) ابن عبد السلام: أي الإذن في التجارة؛ لأن إذن السيد لأمته في التجارة [342/ أ] لا يستلزم الإذن في الخلع لعدم منفعة إذن السيد به. وقد نقل في البيان: الاتفاق على أنه لا يجوز للمأذون لها أن تخالع بغير إذن سيدها. وفي الإشراف: المأذون لها في التجارة يمضي خلعها إذا وقع. فكأنه يرى أن ذلك ليس بمجرد عطية، لأنه قد يكون طلاقها من ذلك الرجل أحسن لها ولسيدها. خليل: وانظر هل يمكن أن يكون الإذن راجعاً إلى الخلع كما تقدم أن السيد لا يكون ضامناً للمهر بمجرد الإذن في التزويج، وهو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر فإنه قال: القابل شرطه التزام المال والتزام الأمة فاسد وخلعها بإن السيد صحيح ولا يكون السيد ضامناً للمال.

وقوله: (وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) يعني أن المشهور: لا ينفذ خلع الصغيرة. وقال ابن القاسم في العتبية: ينفذ. ابن اللباد: المعروف الأول. وكذلك صاحب البيان والمتيطي أن الأول هو المشهور، زاد المتيطي: وبه العمل. وحكى في الطراز أن العمل على قول ابن القاسم. واختار اللخمي التفصيل في الصغيرة فيمضي الخلع إن كان الفراق لها أحسن وترد المال وينفذ الطلاق إن كان بقاؤها زوجة أحسن. وكذلك اختلف في رد خلع السفيهة غير المولى عليها بناء على أن رد التصرفات للسفه أو للحجر. ولسحنون قول ثالث بالتفصيل: يمضي خلع البالغة السفيهة دون البكر الصغيرة. خليل: وينبغي على قول ابن القاسم بلزوم خلع الصغيرة أن يمضي خلع السفيهة، ولو كانت مولى عليها. وَصُلْحُ الأَبِ عَنِ الْمُجْبَرَةِ بِالصَّدَاقِ كُلَّهِ نَافِذُ بِخِلافِ الْوَصِيِّ عَلَى الْمَشْهُورِ أما صلح الأب عن ابنته البكر الصغيرة أو البالغة فجائز. الباجي: بلا خلاف. وألحق اللخمي بها البكر المدخول بها إذا لم تطل إقامتها وطلقت قبل المسيس، لأن له الجبر على النكاح والصغيرة التي ثيبت قبل البلوغ على القول بجبرها، ولعل المصنف عبر بالمجبرة لهذا. وفي بعض النسخ وصف المجبرة بالصغيرة، وفيه نظر لأنها تقتضي لو كانت بالغة لم يمض خلعه عليها، وليس كذلك. وقوله: (بِخِلافِ الْوَصِيِّ عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: فليس له أن يخالع عن البكر على المشهور. الباجي: وهو مشهور قول ابن القاسم ورواية عن مالك أنه لا يجبرها على النكاح إلا الأب وحده.

ومقابل المشهور رواه ابن نافع عن مالك أن الوصي يخالع عن اليتيمة، وهو لابن القاسم، وألحق السلطان بالوصي في ذلك، وأنكر سحنون رواية ابن نافع وأسقطها عند السماع. عياض: وهي ثابتة في روايتنا وكتب الأندلسيين. وقال ابن لبابة: رواية ابن نافع أحسن، ولم أر أحداً تعجبه رواية ابن القاسم أنه لا يبارئ عنها إلا برضاها. ابن عبد السلام: وعلى الشاذ فاختلف في إذنها إذا كانت بالغاً على قولين. وَعَنِ السَّفِيهَةِ قَوْلانِ أي: وفي صلح الأب عن ابنته البالغة الثيب السفيهة قولان، الأول لابن العطار وابن الهندي وغيرهما من الموثقين: لا يجوز له ذلك إلا بإذنها. وقال ابن أبي زمنين وابن لبابة: جرت الفتيا من الشيوخ بجواز ذلك، ورأوها بمنزلة البكر ما دامت في ولايته على المشهور. اللخمي: وهو الجاري على قول مالك في المدونة. ابن راشد: والأول هو المعمول به. ابن عبد السلام: وهو أصل المذهب. واختلف في خلع الوصي عنها برضاها، وفي ذلك روايتان لابن القاسم، والقياس المنع في الجميع. وَصُلْحُ الْمَرِيضَةِ لا يَمْضِي إِلا قَدْرَ مِيرَاثِهِ، فَفِي تَعْيينِ يَوْمِ الْمَوْتِ أَوْ يَوْمِ الْخُلْعِ قَوْلانِ، وفَائِدَتُهُ الرُّجُوعُ لَهُ وعَلَيْهِ، ولا يَتَوَارَثَانِ. وقِيلَ: يَمْضِي مُطْلَقاً. وقِيلَ: خُلْعُ الْمِثْلِ .. هذه مسألة المدونة ففيها قال مالك: وإن اختلعت منه في مرضها وهو صحيح بجميع مالها لم يجز ولا يرثها.

ابن القاسم: وأنا أرى أنها إذا اختلعت منه على أكثر فله قدر ميراثه، فإما على قدر ميراثه منها أو أقل فذلك جائز ولا يتوارثان. وكذلك قال ابن نافع وحمل ابن المواز قول مالك لا يجوز، على أنه خلاف لقول ابن القاسم، وأنه أبطله على الإطلاق، ولم يجز منه شيئاً كالمرأة تهب جميع مالها أنه لا يجوز منه إلا الثلث على المشهور، والمسألة عند محمد على ذلك. عياض: وأكثرهم يرون قول ابن القاسم مفسراً لقول مالك. وكذا جاء في العتبية من رواية ابن القاسم عنه كقول ابن القاسم في المدونة، وإذا فرعنا عن قول ابن القاسم فهل يعتبر قدر ميراثه يوم الموت؟ اللخمي: وهو قول ابن القاسم في الموازية. ابن عبد السلام: وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة أو يوم الخلع؟ اللخمي: وهو قول ابن القاسم في العتبية لأنه موجب للتهمة. اللخمي وغيره: والأول أصوب؛ إذ لو أعطى يوم الخلع ثم تلف المال لكان هو الوارث وحده، وإن نقص كان أخذ أكثر من ميراثه، ولأجل أن هذا مفرعاً على قول ابن القاسم أتى المصنف بالفاء المؤذنة لذلك. قوله: (وفَائِدَتُهُ) أي: فائدة هذا الخلاف تظهر في اختلاف ما لها ما بين زماني الخلع والموت. فرع: وهل يوقف قدر الميراث أو يعجل؟ قال ابن نافع في المدونة: يوقف. واختلف قول أصبغ في ذلك وقول صاحب النكت ذلك على الخلاف المتقدم، أي: إن اعتبر يوم الخلع عجل وإن اعتبر يوم الموت وقف، ورأى اللخمي أنه إذا كان الخلع على دنانير أو دراهم لا توقف وإن على عبد أو دار وقف ومنعت من بيعه والتصرف فيه، فإن صحت أخذه

وإن ماتت كان الورثة بالخيار بين أن يجيزوه أو يردوه [342/ ب] ميراثاً، لأنهم شركائه ويكون على حقه في الميراث على الوفاء شائعاً، وإن كانت قيمة ما خالع أقل من ميراثه لأن الزوج لم يترك الفضل إلا لغرضه في عين ما خالع عليه، وإن كان ذلك العبد أو الدار أفضل مالها كان أبين في رد الورثة. ابن عبد السلام: وتعطي قوة كلام المصنف أن المال المخالع به إذا كان مثل الثلث فأقل أن يدفع للزوج بدليل قوله: (الرُّجُوعُ لَهُ وعَلَيْهِ) وقوله: (وقِيلَ: يَمْضِي مُطْلَقاً) أي: يمضي خلعها مطلقاً سواء كان قدر الميراث أو أكثر. وذكر في الجواهر: أن هذا القول رواه ابن وهب عن مالك، والقول بأن له خلع المثل رواه ابن الحكم. اللخمي: وقال عبد الوهاب: له ما خالعها عليه إذا حمله ثلثها يريد أن الطلاق كان بطوعه فسقط أن يكون وارثاً وصح أن يأخذ من الثلث على أحكام أفعال المريض فيما لم يأخذ له عوضاً مع غير الوارث، ورأى مالك أنها معاوضة لأنها اشترت نفسها. وعلى هذا فيتحصل في المسألة خمسة أقوال. البطلان مطلقاً، وهو مذهب الموازية، وأخذ التأويلين على قول مالك. والثاني: أن لها الأقل، والثالث: الإمضاء مطلقاً، والرابع: خلع المثل، والخامس: أنه يكون من الثلث. وَلَوْ خَالَعَتْهُ لِظُلْمِهِ أَوْ لِضَرَرِهِ فَلَهَا اسْتِرْجَاعُهُ، ويَنْفُذُ الطَّلاق يعني: إذا خالعته ثم ادعت أنها خالعته لظلمه لها في بدنها أو لضرره بها كما لو كان يمنها من زيارة والدها على أن الظلم والضرر كالمترادفين، ولعله تبع في عطفه الضرر على الظلم المدونة، فإن فيها: كذلك فإن أثبتت ذلك فلها استرجاع مالها، وينفد الطلاق بائناً لأن الله تعالى شرط في حلية ما تدفعه أن يكون عن طيب نفس فقال تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء: 4]

ابن القاسم: وليس من الإضرار بها البغض لها، وإنما الإضرار الإيذاء بضرب أو إيصال شتم في غير حق أو أخذ مال من غير مشاورة. مالك: وليس عندنا في قلة الضرر وكثرته شيء معروف. وروى ابن القاسم عن مالك في من علم من امرأته الزنا فليس له أن يضارها حتى تفتدي؛ وقال ابن القاسم في الناشزة تقول: لا أصلي ولا أصوم ولا أغتسل من جنابة؛ لا يجبر على فراقها إن شاء فارقها وأحل له ما افتدت به. قال في البيان: وله أن يؤدبها على ترك الصلاة ويمسكها. قال ف يالمقدمات: ولا يحل له أن يضيق عليها وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء، قال: ولا خلاف بين مالك وجميع أصحابه في ذلك، ورأيت في بعض كتب أصحابنا المغاربة عن ابن القاسم أنه يجوز له المضارة في تركها حتى تخالعه. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ أي: على الضرر. والمعمول به عند الشيوخ وهو قول ابن القاسم أن الشاهد يشهد فيه بالقطع، وغمز ذلك ابن القاسم وقال: من أين للشهود القطع بمعرفة ذلك؟ ولهذا قال أصبغ أن الشاهد يقول: أحاط بذلك علمي وصح عندي. ابن القاسم: وصفة الشهادة أن يقولوا: سمعنا سماعاً فاشياً مستفيضاً على ألسنة النساء والخدم والجيران. قال: ويكفي في ذلك عندي عدلان، والعدول الكثير أحب إلي. ابن راشد: وهذا هو المشهور والمعمول به. وعندي أيضاً أن السماع إنما يكون من العدول إلا في الرضاع فيجوز أن يكون على يقين القرابة والأهلين والجيران وإن لم يكونوا عدولاً كالنساء والخدم.

وعن مالك: تجوز شهادة السماع في ضرر الرجل بامرأته إذا سمع بذلك الرجال والنساء سماعاً فاشياً وإن لم يسمع بذلك الرجال والنساء فليس بفاش. وإِنْ شَهِدَ وَاحِدُ أَوِ امْرَأَتَانِ بِالضَّرَرِ حَلَفَتْ واسْتَرْجَعَتْ لأَنَّهُ عَلَى مَالٍ يعني: وإن شهد واحد على أنه يضر بها أو شهد لها امرأتان بذلك حلفت على ذلك واسترجعت المال. وقوله: (لأَنَّهُ عَلَى مَالٍ) جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلاً قال: شهادة الرجل أو المرأتين مع اليمين إنما تفيد في المال، وإضرار الرجل بامرأته ليس بمال. فأجاب عن ذلك بأنه وإن لم يكن مالاً ولكن آيل إلى المال، وهذا أصل مختلف فيه في المذهب، وإن شهد لها بالضرر ولم يقيد أنها خالعته طائعة أعذر للرجل في الشهادة، فإن سلمها وادعى مدفعاً فعجز عن إثباته حكم عليه وإن اعترفت في عقد الخلع بالطوع وكانت استرعت فلها الرجوع بالاتفاق، وكذلك إن لم تسترع وقامت لها بينة لم تكن علمت بها، وأما إذا كانت تعلم بها ففيه نظر. والذي قاله ابن الهندي وابن العطار وغيرهما أن لها الرجوع ولا يضرها ذلك، ولا يضرها أيضاً إسقاط البينات المسترعيات وغيرها، وهو أصوب لأن ضرره بها يحملها على أن تعترف بالطوع، ومن ابتلي بالأحكام يكاد يقطع بذلك. ابن بطال: وإذا كان لفظ الطوع لا يفيد فلا معنى لذكره في العقد. فرع: وإن خالعها وأخذ منها حميلاً بالدرك فقال ابن العطار: إذا أثبتت الضرر لا تسقط التبعات عن الحميل، لأنه غير مكره، وقد أدخل الزوج في زوال العصمة ولا يرجع الحميل عليها بشيء. وإليه ذهب بعض فقهائنا الصقليين، وذكر ابن يونس في ذلك خلافاً بين القرويين، وأن منهم من يقول هكذا، ومنهم من يقول: إذا أثبتت

المرأة [343/ أ] الضرر يسقط الطلب عن الحميل، لأنه إذا سقط المال عن الأصل تسقط عن الحميل المطالبة. وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطِيَهُ عَلَى إِمْسَاكِهَا أَوْ يُعْطِيهَا عَلَى الأَثَرَةِ، ولا إِثْمَ عَلَيْهِ بَعْدَ رِضَاهَا بِشَيْءٍ أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ .. أي: إذا أراد أن يطلقها فأعطته شيئاً على أن يترك طلاقها فإن ذلك جائز، وكذلك يجوز أن يعطيها على الأثرة، أي: يعطيها ليؤثر ضرتها عليها في المبيت وكلامه ظاهر التصور. فرع: وإذا أعطته مالاً على أن يمسكها ثم فارقها عاجلاً فقالوا: لها الرجوع، وأما إن كان بعد طول بحيث يرى أنها بلغت الغرض في مقامها لم ترجع، وإن طال ولم تبلغ ما يرى أنها دفعت المال لأجله كان له من المال بقدر ذلك على التقريب فيما يرى، وهكذا قال مالك فيمن أسقطت صداقها عن زوجها على أن لا يتزوج عليها فطلقها بحضرة ذلك أن لها أن ترجع، وإن طلقها بعد ذلك فيما يرى أنه لم يطلقها لمكان ذلك لم ترجع. أصبغ: إلا أن يكون الطلاق بحدثان الإسقاط ليمين نزلت ولم يتعمد ولم يستأنف اليمين فلا شيء عليه. ورأى اللخمي أن لها الرجوع ولو كان الطلاق ليمين نزلت ولم يتعمد ولم يستأنف اليمين، وقد تقدم لهذه المسالة نظائر عند الكلام على شروط النكاح. الْمُعَوَّضُ شَرْطُهُ مِلْكِيَّةُ الزَّوْجِ فَلا يَصِحُّ خُلْعُ الْبَائِنَةِ والْمُرْتَدَّةِ وشِبْهِهِمَا بِخِلافِ الرَّجْعَيَّةِ .. هذا هو الركن الثالث، فإذا كانت الزوجة في عصمته أو طلقها طلاقاً رجعياً جاز له أن يخالعها لأن البضع في حكمه، وأما البائن والمرتدة ومن كان نكاحها مفسوخاً فلا ملك

له عليه فلا يصح له أخذ العوض عنه، ولهذا الشرط وقع في الموازية وكتاب ابن سحنون في امرأة فقدت فبذل أبوها لزوجها مالاً على أن يطلقها ففعل ثم قال الأب: لعلها ماتت قبل هذا فرد علي ما أخذت. فإنه يوقف المال ويؤخر أمرها إلى وقت لا تجيء إلى مثله فذلك للزوج، فإن تبين أنها ماتت قبل الفراق أخذه الأب وورثها الزوج، وإن مات الزوج قبل كشف ذلك لم يوقف لها من ميراثه لها شيء، لأنه مات بعد أن طلق إن كانت حية أو مات بعد موتها. وقال ابن المواز: لا أرى أن ينزع ذلك من يد الزوج حتى يتبين باطل ما قبض بأن تقوم بينة بموتها قبل الطلاق، ألا ترى أنها لو كانت رابعة ما منعته نكاح غيرها لأن فراقه بائن، فإن قيل: لم قلتم إذا خالعها ثم تبين أنه كان أبانها يرد المال بخلاف ما إذا كاتب عبده وتأدى منه ثم تبين أنه كان أعتقه وهو منكر فيهما؟ قيل: لأن للسيد أن ينزع مال عبده ويستسعاه، ولا يزيل ملكه عنه إلا بالحكم عليه، والزوجة ليس له سبيل إلى مالها وهو أجنبي، فلا يصل إليه إلا بحق، فإذا ثبت طلاقه قبل ذلك فقد أخذه بغير حق. والله أعلم. العِوَضُ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلاً أي: الذي تدفعه الزوجة عوضاً عن عصمتها، والمراد بالمتمول ما يصح تملكه، ليحترز من الخمر ونحوه، وليس المراد أن غير المال لا يصح فإنه لو خلعها على أن تعتق عبدها جاز، قاله مالك، قال: وإن جعل خلعها خروجها إلى أمها فذلك لازم. وَيُغْتَفَرُ الْغَرَرُ والْجَهَالَةُ كَعَبْدٍ آبِقٍ، أوْ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوْ مُعَيَّنٍ غَائِبٍ، أَوْ نَفَقَةِ حَمْلٍ إِنْ كَانَ أَوْ جَنِينٍ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخِلافِ الصَّدَاقِ .. قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى جميع ما تقدم لا إلى الجنين وحده. ومقابل المشهور عدم الجواز كالنكاح. والفرق للمشهور أن الأصل أنه لا يستباح البضع إلا بعوض

بخلاف الطلاق فإن الأصل فيه عدم العوضية. وانظر عطف المصنف نفقة الجنين على نفقة الحمل، وإنما قلنا: مقابل المشهور عدم الجواز. وإن كان اللخمي حكى ثالثاً بالكراهية لأن المنع هو الذي يقابل الاغتفار حقيقة. وحكى في البيان رابعاً بالجواز في الغرر الذي يقدر على إزالته وبالمنع في الذي لا يقدر على إزالته، وعلى التحريم فلو وقع فقال مالك مرة: لا شيء. وقال مرة: يرجع إلى خلع المثل إن بطل الجميع، وإن بطل البعض رجع بما ينوب ذلك البعض. وحكى بعضهم ثالثاً: أنه يرجع بقيمة ما خالع عليه ولو جاز بيعه. قوله: (بِخِلافِ الصَّدَاقِ) تقدم، ونظير هذه المسألة في جواز الغرر فيها الهبة والرهن على المشهور إلا في الجنين، فإنه يمتنع رهنه على المشهور. واختلف هل يجوز الغرر في صلح العمد؟ والمنع هو قول ابن القاسم. وَلا يَجُوزُ بِحَرَامٍ كَخَمْرٍ وشِبْهِهِ اتِّفَاقاً ويَنْفُذُ لما قدم أنه يجوز بالغرر خشي أنه يتوهم جوازه بالخمر ونحوه فبين أن ذلك لا يجوز بالاتفاق، ولعل مراده بشبه الحرام المغصوب، وهو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر. فإن قلت: كلامه هذا يلزم منه تحصيل الحاصل، لأنه قدم أن شرط العوض أن يكون متمولاً. قيل: الكلام الأول يحتمل أن يكون في جواز الإقدام أو في النفوذ، فكان مجملاً بخلاف هذا فإنه صريح في عدم الجواز ابتداءً. فرع: وتكسر الخمر وتقتل الخنازير كان ذلك في يده أو في يدها، فإن تخللت في يده فقال ابن القاسم: عادت حلالاً كانت الزوجة مسلمة أو كتابية.

وقوله: (ويَنْفُذُ) أي الطلاق بائناً. وحكى بعضهم عن مطرف أنه يقول في هذا الأصل: إنه إذا لم يصح ما عاوض عليه [343/ ب] تكون الطلقة رجعية. والنَّصُّ: ولَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءُ هكذا وقع في بعض النسخ، ونحوه في الجواهر لقوله: أما لو خالعت بخمر أو خنزير أو بمغصوب فلا يختلف المذهب في منعه ابتداء ونفوذه إذا وقع. والمنصوص أنه لا شيء للزوج فيه. واستقرأ اللخمي إيجاب خلع المثل من خلع المريضة، وأفادت الواو من قوله: (ولَيْسَ) أن المنصوص أيضاً نفوذ الطلاق، و (فِيهِ) من كلام المصنف تحتمل الظرفية والسببية. وكَذَلِكَ عَلَى أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْكَنِ أَوْ عَلَى أَنْ تُسْلِفَهُ أَوْ تُعَجِّلَ لَهُ دَيْناً مُطْلَقاً يعني: ومثل المخالعة بالخمر، لأن سكنى المعتدة في موضعها من حق الله تعالى فلا يجوز إسقاطه على عوض ولا غير عوض، فالمعاوضة عليه كالمعاوضة على الخمر، وأما إن أراد كراء المسكن فذلك جائز. قوله: (أَوْ عَلَى أَنْ تُسْلِفَهُ) لأنه سلف جر منفعة، وهو ملكها لعصمتهأ. قال في المدونة: ويمضي الطلاق ويرد السلف. قوله: (تُعَجِّلَ لَهُ دَيْناً مُطْلَقاً) أي: من بيع أو سلف كان مما يجبر على قبوله أم لا، وعلة المنع فيها أيضاً السلف بزيادة؛ لأن من عجل ما أخر عد مسلفاً على المشهور، فتصير المرأة مسلفة، وازدادت العصمة. أَوْ يُعَجِّلَ لَهَا مَا لا يَجِبُ قَبُولُهُ لأن فيه حط الضمان وإن بدت العصمة.

أَمَّا لَوْ عَجَّلَ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ فَقَدْ طَلَّقَ وأَعْطَى ظاهر التصور، ومن الشيوخ من تأول منع هذا؛ لأنه في المدونة: إذا كان لأحد الزوجين قبل الآخر دين فتخالعا على تعجيله قبل محله يقع الطلاق ويرد الدين إلى أجله. ولم يفرق بين أن يكون الدين مما يجب قبوله أم لا. فمن الأشياخ من حمل ذلك على إطلاقه، ومنهم من فصل كما ذكر المصنف، وعلل ابن الكاتب المنع في تعجيل الزوج الدين فإنه سلف جر منفعة، إذا كانت مدخولاً بها، لأنه انتفع بذلك في إسقاط نفقة العدة. وكَذَلِكَ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرَ دَيْناً. لأن من أخر ما عجل عد مسلفاً اتفاقاً، فصارت مسلفة وازدادت، وهذا على أن تؤخر بالتاء المثناة من فوق. ويصح أن يقرأ ويؤخر بالياء المثناة من تحت ويكون التشبيه في قوله: (وكَذَلِكَ) عائد على قوله (أَمَّا لَوْ عَجَّلَ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ فَقَدْ طَلَّقَ وأَعْطَى) لأنه إذا طلق وأخر يكون قد طلق وأسلف، والسلف كالإعطاء. وخَرَّجَ اللَّخْمِيّ خلْعَ الْمِثْلِ مِنْ خلْعِ الْمَرِيضَةِ. أي: في الصور الممنوعة بجامع المنع فيها، وهو مقابل قوله: (والنَّصُّ: ولَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءُ) كما تقدم، ولا حاجة إلى هذا التخريج لأنه أحد القولين عن مالك كما تقدم. وَلَوْ خَالَعَهَا بِحَلالٍ وحَرَامٍ سَقَطَ الْحَرَامُ كما لو خالعته بسلعة وزق خمر فإن له السلعة ولا شيء له في زق الخمر. ابن المواز: ومن تزوج بعشرة نقداً وعشرين إلى أجل فصالحته قبل البناء على إن عجل العشرة النقد وأسقطت العشرين لم يجز ذلك، وجاز الطلاق، وترد إليه خمسة

تأخذها منه إذا حل الأجل، فالوضعية حلال والتعجيل حرام، فترد إليه الخمسة لتأخذها منه عند الأجل. ولَوْ خَالَعَهَا بِمَالٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ كَانَ حَالاً نحوه في المدونة، وزاد فيها: كمن باع إلى أجل مجهول فالقيمة فيه حالة. وظاهر كلام المصنف أنه يجب للرجل جميع ما خلعت به حالاً وهو أحد التأويلين على المدونة. ووجهه أن المال في نفسه حلال وكونه إلى أجل مجهول حرام فيبطل الحرام، والتأويل الثاني أنها تدفع القيمة، ووجهه أن في الأول ظلماً للمرأة لأنها لم تلزمه حالاً، وبأن الأول خلاف ما يقتضيه التشبيه. ابن محرز: وقوله هنا بالحلو مخالف للأصل، وهو جواز الخلع بالغرر. قال: فينبغي أن يكون لها خلع أو قيمة ما خالع به. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى ويَزِيدُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ جَازَ بِخِلافِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِياً لِلأَلْفِ أَوْ أَقَلَّ فَكَمَا لَوْ خَالَعَ مَجَّاناً أَوْ خَالَعَ وأَعْطَى .. يعني: يجوز اجتماع الخلع والبيع، بخلاف اجتماع النكاح والبيع كما تقدم، فإن كان العبد يساوي أكثر من الألف فلا شك أنه خلع، وإن كان مساوياً للألف فكما لو خالع مجاناً- أي: بغير شيء- فتأتي فيه الأقوال الثلاثة المتقدمة، وإن كان مساوياً للألف أو أقل من ألف فكما لو خالع وأعطى فأكثر الروايات أنها طلقة رجعية، وما ذكره المصنف نحوه في المدونة. ابن بشير: واعترض ذلك اللخمي، ورأى أن الواجب كونه خلعاً صحيحاً مطلقاً، لأنه قد يعطي في العبد فوق قيمته لغرض له فيه، وما قاله بين، وقد علمت أن في كلام المصنف لفاً ونشراً فإن قوله: (كَمَا لَوْ خَالَعَ مَجَّاناً) راجع إلى قوله: (مُسَاوِياً لِلأَلْفِ) وإن قوله: (خَالَعَ وأَعْطَى) راجع إلى قوله: (بأقل).

فَإِنْ كَانَ آبِقاً رُدَّتِ الزِّيَادَةُ وكَانَ لَهُ نِصْفُهُ. وقَالَ مُحَمَّدُ: وكَانَ لَهُ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى الأَلْفِ بِتَقْوِيمِهِ بَعْدَ وِجْدَانِهِ، وإِلا فَلا شِيْءَ لَهُ .. أي: فإن كانت المسألة بحالها إلا أن العبد آبق لا تجوز المعاوضة عليه في البيع ردت المرأة الزيادة وهي الألف، وكان للزوج نصف العبد، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة. وقال محمد: إنما له ما زاد على الألف بتقويمه بعد وجدانه، فإن كانت قيمته ألفين كان له النصف، وإن كانت ألفاً وخمسمائة كان له الثلث، وإن كان ألفاً ومائتين كان له السدس. قوله: (وإِلا فَلا شِيْءَ لَهُ) أي: وإن لم يزده على الألف فلا شيء للزوج في العبد، وهذا الخلاف [344/ أ] مبني على الخلاف في الشيء المعلوم إذا وقع في مقابلة معلوم ومجهول هل يكون بينهما على السواء؟ ففيكون نصف العبد في مقابلة الخلع ونصفه في مقابلة البيع، فإذا أنقص ما قابل البيع لزم أن يكون له نصفه، وهو قول ابن القاسم هنا، وفي الشقص المصالح به عن موضحتي العمد والخطأ وإنما يكون المعلوم في مقابلة معلوم، فإن فضل شيء كان في مقابلة المجهول، وعلى هذا يأتي قول محمد، وهو مذهب ابن نافع فيمن صالح بشقص عن موضحتي العمد والخطأ. ونقل ابن راشد عن بعضهم أنه جعل قول محمد تفسيراً، ولم أر إلا من حمله على الخلاف. وفهم من قول المصنف: (بِتَقْوِيمِهِ بَعْدَ وِجْدَانِهِ) أن القيمة إنما تعتبر عند محمد يوم وجدان الآبق. محمد: وكذلك الجنين يوم خروجه والثمرة يوم تجذ. قال في الجواهر: وهو المشهور وقال أصبغ: القيمة في الآبق يوم الخلع وكذلك الثمرة القيمة يوم الصلح إن كانت مؤبرة، وإن لم تؤبر فيوم تؤبر، ووافق في الجنين أن قيمته يوم ولد. اللخمي: والقيمة في جميع ذلك يوم الصلح أحسن، لأن فيه وقع البيع.

وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِي يَدِهَا فَوَجَدَهَا فَارِغَةً أَوْ كَالْفَارِغَةِ فَفِي لُزُومِ الطَّلاق قَوْلانِ، فَلَوْ وَجَدَ فِيهَا مُتَمَوّلاً لَزِمَهُ .. أي: إذا كانت يدها مقبوضة فخالعها على ما في يدها، فإن وجد فيها ما له قدر كالدينار وشبهه لزم، وإن وجدها فارغة أو كالفارغة مثل أن يجد حجراً أو وجد فيها درهماً فحكى اللخمي وغيره ثلاثة أقوال: اللزوم لابن الماجشون وسحنون؛ لأنه طلق بشيء يأخذه أو لا يأخذه. محمد: وهو أحب إلي لأنها لم تخدعه. ونفي اللزوم وحكاه ابن حبيب عن مالك، قال: وهذا مما لا يجوز على أحد. والثالث: لأشهب بالفرق، فإن وجدها فارغةً أو وجد فيها حجراً لم يلزم وإن وجد فيها درهماً لزمه. وظاهر كلام المصنف أنه إذا وجد في يدها الدرهم يتفق على اللزوم لأن الدرهم مما يتمول، وحكى ابن حبيب عن مطرف أنه إن كان في يدها ما ينتفع به كان خلعاً وإن كان مما لا ينتفع به فليس بخلع وتكون طلقة له فيها الرجعة. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ لَزِمَهُ ويَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَها فِيهِ شُبْهَةُ فَفِي لُزُومِ الطَّلاق فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ قَوْلانِ .. يعني: إذا خالعها على عبد فاستحق فإن كان لها فيه شبهة لزم الخلع ورجع بقيمته، وسواء استحق إلى رق أو إلى حرية. وحكى في الجواهر قولاً بعدم الرجوع إذا استحق إلى حرية ويرجع على المشهور بالقيمة ولم يرجع لخلع لأنه لم يدخل عليه. وحكى ابن عبد السلام عن ابن عبد الحكم أنه يرجع بخلع المثل.

أبو الحسن: وهنا سبع مسائل يرجع فيها العبد بعده، ومن نكح بعبد بعينه فاستحق أو صالح من دم عمد على عبد، أو باع السيد عبده من نفسه بعبد، أو باع السيد قطاعة مكاتب له بعبد أو كان عوضاً عن عمد أو صالح على الإنكار وإن لم تكن لها فيه شبهة، كما لو قالت: أخالعك علي هذا العبد أو الدار، فإذا بالعبد أو الدار كغيرهما، ولا شبهة لها في ذلك، فقال عبد الملك: لا يلزمه الطلاق؛ لأنه طلق على أن يتم له ذلك. ولم يحك الباجي وابن يونس وصاحب الجواهر وغيرهم هذا القول، والقول باللزوم بعيد وهو للخمي، قال: ويلزمه الطلاق وتغرم القيمة إن كانت موسرة، وإن كانت فقيرة فحينئذ تعود زوجته. وقول المصنف: (فَيَرْجِعُ) عطفه بالفاء ليؤذن أن ذلك مرتب على القول بلزوم الطلاق. ولَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَرَتْهُ إِيَّاهَا فَوَجَدَهَا زُيُوفاً فَلَهُ الْبَدَلُ كَالْبَيْعِ كذا في المدونة، وقيدها بعضهم بأن تصالحه على دراهم طيبة، ولو اشترطت عليه أنك تأخذها دون تقليب لما لزمها بدل. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَلا سُكْنَى لَهَا فَإِنْ أَرَادَ كِرَاءَ الْمَسْكَنِ وهُوَ لِغَيْرِهِ لَزِمَ، وإِنْ كَانَ لَهُ وسَمَّى الْكِرَاءَ لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ تَخْرُجَ لَمْ يَلْزَمْهَا ... فاعل (لَزِمَ) في الموضعين من كلام المصنف عائد على الكراء، أي لزمها الكراء ووقع الخلع. وقوله: (وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ تَخْرُجَ لَمْ يَلْزَمْهَا) أي: الخروج وأما الطلاق البائن فقد وقع. اللخمي: وقال ابن القاسم في المدونة في التي خالعت على أن لا سكنى لها: إن كانت في مسكن الزوج لم تخرج، ولا شيء للزوج عليها. قال: لأن مالكاً قال: إذا وقع الخلع بحرام مضى الخلع ورد الحرام.

اللخمي: وأرى أن لا يرجع عليها بالأقل من كراء المسكن أو ما كانت تكري به، لأن أخذ العوض عن السكنى يجوز، وهو بمنزلة من خالع على شيء فاستحق من يده، إلا أن يكون انتقالها إلى أبيها أو إلى مسكنها، وهو الآن لا كراء له لأنها لم تنتفع بشيء. وفهم ابن عبد السلام أن فاعل (لَزِمَ) عائد على الخلع، واعترض كلام المصنف وقال: إنما قال في المدونة: جاز، وهو أحسن؛ لأن تسمية الكراء شرط في جواز الخلع ابتداء لا في لزومه، لأنه لازم؛ سمى الكراء أو لم يسمه. وعلى ما قررناه يندفع هذا على أن قوله: تسمية الكراء، شرط في جواز الخلع إنما اعتمد فيه على مفهوم المدونة. وقد يقال: هذا المفهوم غير مراد، لأن غايته إذا لم يسم الكراء يكون غرراً، والخلع بالغرر جائز إلا أن يفهم قوله فيها سمى الكراء على أن المراد ذكر الكراء لا ذكر قدره، ويكون احترز بذلك مما لو أراد إسقاط الكراء. والله أعلم. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى [344/ ب] أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ لَزِمَ، إِلا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ عَلَيْهِ .. وقعت هذه المسالة هنا في أكثر النسخ، ولا حاجة إليها، وستأتي من كلام المصنف بأتم من هذا، فلنترك الكلام على هذه لذلك. ولَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهُ وتُنْفِقَ عَلَيْهِ حَوْلَيْنِ وَتَحْضُنَهُ صَحَّ قوله: (حَوْلَيْنِ) أي حولي الرضاع، وليس المراد حولين مطلقاً. وقوله: (صَحَّ) أي الخلع، ولا إشكال في ذلك. ونقل في التنبيهات عن ابن وهب أنه قال في المبسوط: إنما يجوز من ذلك صلحها في الحولين على الرضاع وحده، وأما على نفقته فلا يجوز في الحولين ولا بعدهما.

فَإِنْ أَضَافَ إِلَيْهِ نَفَقَةً مُدَّةً أُخْرَى عَلَيْهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ سَقَطَتْ، وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ: لا تَسْقُطُ، وصُوِّبَ .. أي: فإن زيد على نفقة الولد ورضاعه نفقة مدة أخرى، إما على الطفل وإما على الزوج، فمذهب المدونة سقوط الزائد، وقال اللخمي والمغيرة وابن الماجشون وأشهب وابن نافع وسحنون: لا تسقط. وهو صواب عند جماعة الشيوخ حتى قال ابن لبابة: والجل على خلاف ابن القاسم وروايته. المتيطي: قال غير واحد من الموثقين والعمل على هذا القول، ووجهه ظاهر لأن غايته أنه غرر، والغرر جائز هنا، ولذلك أقام بعضهم من المدونة خلافاً في جواز المخالعة على الغرر، وقال: هذه تدل على المنع. وفرقوا بين هذه وغيرها من الغرر بفروق ضعيفة لم أرتض شيئاً منها. وفي المسألة قولان آخران: الأول: رواه ابن زياد عن مالك: أنه يجوز في العامين وما قاربهما لا فيما كثر. الثاني: قال أصبغ: أكرهه ابتداءً، فإن وقع أمضيته. اللخمي وغيره: وهذا الخلاف إنما هو إذا وقع الخلع على ذلك ولم يشترط ثبات ذلك إن مات الولد ولا سقوط وأما إذا اشترط الأب نفقة الولد مدة معلومة عاش الولد أو مات فيجوز عند ابن القاسم وغيره، وإن مات الولد أخذ الأب ذلك منها مشاهرة حتى يتم الأجل وكذلك الأب. وعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ مَاتَتِ الأُمُّ قَبْلَهُمَا فَفِي مَالِهَا، وَلَوْ مَاتَ الطِّفْلُ فَقَوْلانِ (قَبْلَهُمَا) أي: قبل الحولين. وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) أي مذهب المدونة: إذا خالعها على رضاع ولدها ونفقته مدة حولي الرضاع، لو ماتت الأم قبل تمام الحولين وقف منمالها بقدر مؤنة الولد إلى انقضائهما لأنه دين ترتب في ذمتها فوجب أن يكونفي تركتها كسائر الديون، فإن مات الطفل فالمشهور وهو مذهب المدونة عدم الرجوع.

مالك في المدونة: ولم أر أحداً طلبه. وكأنه سلم أن القياس الرجوع إلا أن العرف عدم الرجوع فترك القياس لذلك. محمد- موجهاً لهذا القول-: بمنزلة من صالح على أن عليها نفقة الحمل ورضاعه فأسقطته سقطاً فلا تتبع. والقول الثاني: رواه أبو الفرج عن مالك، ولا شك أيضاً على قول المخزومي أنها إذا ماتت أنه يكون ما بقي في مالها، ولا أعلم إذا مات الطفل ما يقوله المخزومي؟ ولعل المصنف لهذا خصص التفريع على المشهور. فروع: الأول: قال ابن المواز لو ولدت في المسألة المتقدمة ولدين لزمها إرضاعهما، ولا تعذر إن قالت: لا أقدر على رضاعهما. الثاني: إذا انقطع لبنها لزمها أن تشتري له لبناً. نقله ابن راشد. الثالث: قال محمد: لو شرط عليها أن تكفل ولده بعد فطامه ثلاث سنين ولا تتزوج، لم يلزمها ذلك قربت المدة أو بعدت، كما لا يلزم الزوج اشتراط ذلك عليه، وأما لو اشترط ألا تنكح حتى تفطم ولدها، فنقل ابن رشد عن مالك: ليس لها النكاح. وقال ابن القاسم في العتبية: إذا كان يضر بالصبي منعت. وقال الأبهري: لها أن تتزوج وشرطه باطل، ولعله محمول على إذا لم يضر ذلك بالطفل فيتفق مع قول ابن القاسم. وحكى ابن عبد السلام أن لها أن تتزوج وإن ضر ذلك بالصبي ولم يعزه، وهو بعيد، قالوا: ومذهب المدونة ليس لها أن تتزوج وإن لم يشترط عليها عدم التزويج إذا شرط إرضاعها الصبي كما قال في المرأة إذا أجرت نفسها ظئراً.

ابن عبد الغفور: فإن تزوجت قبل أمر الحضانة فسخ قبل البناء. الرابع: اختلف إذا خالع امرأته على أنها إذا ولدت فعليها نفقته في الحولين، فقال مالك في المبسوط: ليس لها أن تطلبه بنفقة الحمل. وقال ابن القاسم وابن الماجشون والمغيرة: لها نفقة الحمل. واختاره اللخمي لأنهما حقان أسقطت أحدهما وبقي الآخر، زاد الباجي في قول مالك: وليس لها أن تطلبه بالصداق. وكذلك نقل عن المغيرة، ووجه قولهما لما لم تشترط بقاء الصداق كان الظاهر إسقاطه لأنه لم يرض منها بترك ما كان في ذمته حتى زادت نفقة الحمل. فَإِنْ عَجَزَتْ فَعَلَيْهِ ويَتْبَعُهَا يعني: فإن عجزت المرأة عما التزمته من النفقة على الطفل في الحولين، فعلى الأب أن ينفق عليه لأن نفقته بالأصل على أبيه، فله أن ينقلها عنه بشرط أن لا يضر ذلك بالطفل فإن عجزت رجعت إلى الأب وإلا لحصل الضرر للطفل. وإذا أنفق فهل يتبع الأم بما أنفقته إذا أيسرت؟ وهو قول مالك في العتبية. قال ابن يونس: وهو قول ابن القاسم وأشهب وعبد الملك لأنه أدى عنها حقاً قد لزمها، أو لا يتبع وهو قول ابن القاسم أيضاً وأصبغ. واقتصر المصنف على الأول، ووجه الثاني أن الأم [345/ أ] إنما التزمت نفقة الولد على الوجه الذي كان يجب على الأب فتسقط بالعسر. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تَسْقُطَ حَضَانَتُهَا فَالْمَشْهُورُ: تَسْقُطُ إِلا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ، وتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَتْهُ. وقِيلَ: لا تَسْقُطُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَقُّ لَهَا أَوْ لِلْوَلَدِ .. هذا هو الذي ذكرناه أنه أتم مما قبله ومعناه: أن الأم مقدمة في حضانة ولدها، فإذا خالعها على أن تسقط حضانتها فإن كان في ذلك ضرر إما لعلوق الولد بأمه أو لأن مكان

الأب غير حصين لم تسقط حضانتها بالاتفاق ويقع الطلاق بائناً، وهكذا قال في المدونة. وأقام الشيوخ منها أن من طلق امرأته وله منها ولد رضيع فتزوجت وطلب الأب الولد أنه إن خيف على الولد إن نزع من أمه لم يكن له ذلك حتى ينتفي الضرر كما هنا، وإن لم يكن في ذلك ضرر فالمشهور سقوط حضانتها. ابن يونس: وقال عبد الملك: لا تسقط. وقاله في كتاب المدنيين، ومنشأ الخلاف ما ذكره المصنف: هل الحق للحاضنة فيكون لها إسقاطه، أم للولد فلا يكن لها الإسقاط؟ واختار اللخمي قول عبد الملك إن كان الصبي رضيعاً ونحوه. خليل: لأنه حينئذ لا يقوم به أحد كأمه، والمشهور وهو مذهب المدونة الحجة لأحد القولين في باب الحضانة إذا ترك من له الحق في الحضانة حقه إلى من هو في ثالث درجة أنه لا يكون للثاني القيام. أبو عمران: والقياس خلافه وعارض فضل قوله في المدونة أن الحضانة حق للحاضن برواية ابن القاسم، يمنع أن يبيع الرجل الأمة برضاها على أن يفرق بينها وبين ولدها الذي لم يثغر، فمنعه من البيع مخالف للمشهور، وموافق لقول عبد الملك ففرق بينهما بأن الولد انتقل في مسألتنا إلى من له الحضانة وهو الأب، بخلافه في مسألة البيع فإنه ينتقل إلى من لا حضانة له. ونَفَقَةُ الآبِقِ والشَّارِدِ عَلَى الزَّوْجِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وفِي نَفَقَةِ ثَمَرَةِ لَمْ يَبْدُ صَلاحُهَا قَوْلانِ .. مراده بالنفقة الجعل على طلب الآبق والشارد، وإلا فالنفقة عليهما مع الجهل بموضعهما أو مع عدم القدرة على تحصيلهما بحال. وقوله: (مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ) أي على المرأة فيكون عليها، وهذا متفق عليه. والقولان في نفقة الثمرة التي لم يبد صلاحها لشيوخ عبد الحق.

أحدهما: أن ذلك أيضاً على الزوج، لأن الملك قد انقتل ولا جائحة في الثمرة هنا فلا موجب لكونها على المرأة. وثانيهما: أن ذلك على المرأة كالبيع، لأن الشرع لما اغتفر الغرر هنا صار الخلع على من يبدو صلاحه، يتنزل منزلة البيع فيما بدا صلاحه. قال هذا القائل: وليس للمرأة أن تجبر الزوج على جذ الثمرة، لأنه إنما دخل على بقائها. ابن عبد السلام: وأشار بعض من سلك هذه الطريقة إلى إلزام حكم الجائحة. وسكت المصنف عن نفقة الأم إذا خولع على جنينها، قال غير واحد: والنفقة في ذلك على المرأة إلى خروج الجنين. ابن عبد السلام: وهكذا ينبغي أن يكون السقي على المرأة إذا كانت الثمرة لم تؤبر أو لم تخلق. ابن المواز: وإذا خالعها على جنين في بطن أمه فهو له إذا خرج ويجبر على الجمع بينهما فيباع مع أمه. وَلَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُ النِّكَاحِ إِجْمَاعاً رَدَّ مَا أَخَذَهُ، وفِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قَوْلانِ. لأن ما أجمع على فساده يفسخ بالاتفاق فلا ملك للزوج في البضع لأنه يفسخ بغير طلاق، والخلع طلاق فلا يمكن الجمع بينهما، وأما المختلف فيه فالقولان فيه مبنيان على الخلاف في أن الفسخ فيه هل بطلاق فيلزم الخلع؟ أو بغير فلا يلزم. والقولان في المدونة، لأن في إرخاء الستور إذا خالعها ثم تبين أنه تزوجها وهو محرم أنه يرد المال، وفي النكاح الثاني إذا تزوجها بغرر أو بغير ولي وخالعها قبل البناء قولان: أولهما: كما في إرخاء الستور، والثاني: أنه لا يرد المال. ابن القاسم: ولو رأيت الخلع فيه غير جائز ما أجزت الطلاق. يريد: ولكن الطلاق فيه لازم.

فَإِنْ تَبَيَّنَ بِهِ عَيْبُ خِيَارٍ رَدَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ ومَضَى الْخُلْعُ يعني: أن الخلع متفق على إمضائه، بمعنى أنه يقع الطلاق البائن، وإنما اختلف في رد ما أخذه، والمشهور رده، وهو مذهب المدونة، وهو في كتاب إرخاء الستور. وقول المصنف: (عَيْبُ خِيَارٍ) يشمل العيوب الأربعة. وقوله: (بِهِ) احترزاً مما لو تبين بها فإنه لا يرد ما أخذه، صرح بذلك في المدونة، وعلل ذلك فيها بأن له أن يقيم على النكاح. ابن المواز: وليس له الرجوع بالصداق على من غره لعيب ذهب وعارض سحنون هذه المسألة بما قاله في النكاح الثاني في الذي تزوج بغرر أو بغير ولي قبل البناء أن له ما أخذ وقال: هذه ترد إلى ما في كتاب الخلع ووجه المعارضة أنه إذا كانت تأخذ منه ما دفعت إليه في العيب الذي لها الرضى به والمقام على ذلك النكاح فلأن يكون لها أخذه بما دفعت إليه حيث يكونان مجبورين على الفسخ- أولى. وقد يعارض بين المسألتين على العكس فيقال: إذا كان للزوج ما دفعت إليه في النكاح الفاسد المجبور على فسخه، فلأن يكون له ذلك في النكاح الصحيح أولى. وقد يعارض بين المسألتين على العكس فيقال: إذا كان للزوج ما دفعت إليه في النكاح الفاسد المجبور على فسخه، فلأن يكون له ذلك في النكاح الصحيح أولى. وأجيب بأن ما في إرخاء الستور إنما هو لعبد الملك وأنه لا فرق على مذهب ابن القاسم بين أن يظهر العيب بالزوج أو بالزوجة لا يرد المال في الوجهين، وحينئذ تسقط المعارضة [345/ ب] لعدم اتحاد القائل لكن قال عياض: وكلام سحنون برد مسألة النكاح إليها يدل على خلاف ذلك حينئذ تتحقق المعارضة وقد يجاب عنها بأنه لما اتفق العلماء على الرد بعيوب النكاح صار كالمجمع على فسخه، فلذلك قال ابن القاسم برد المال بخلاف إنكاح المرأة نفسها فإن أبا حنيفة يخالف في ذلك بخلاف النكاح بالغرر فإن الخلاف عندنا فيه شهير.

والقول بأنه لا يرد إذا كان به عيب خيار لابن المواز قال: وإن تزوجها بغرر أو بغير ولي ثم خالعها قبل البناء فإنه يرد ما أخذ منها كقول سحنون وجعله ابن يونس ثالثاً قال: وهو أبينها. والله أعلم. وَلَوْ قَالَ: خَالِعْهَا بِمائَةٍ فَنَقَصَ لَمْ يَقَعْ طَلاقُ، وَلَوْ قَالَتْهُ فَزَادَ وَقَعَ وَالزِّيَاَدةُ عَلَى الْوَكِيلِ .. يعني: إذا وكل رجل من يخالع له زوجته بمائة مثلاً فإن خالعها بها أو زيد فلا شك في وقوع الطلاق البائن، فإن نقص لم يقع الطلاق، لأنه معزول عن ذلك، وهو ظاهر في النقص الكثير، وأما اليسير فينبغي أن يختلف فيه كالبيع. قوله: (وَلَوْ قَالَتْهُ) أي ولو قالت المرأة ما قاله الرجل فقالت: خالع لي زوجي بمائة، فإن خالعه بها أو أقل لزمها ذلك، وإن زاد وقع الطلاق البائن، وكانت الزيادة على الوكيل وينبغي أيضاً أن يقيد الزيادة بالزيادة الكثيرة، وأما اليسيرة فيلزمها كالوكيل على شراء سلعة. وَلَوْ قَالَ: خَالِعْهَا فَنَقَصَ عَنِ الْمِثْلِ حَلَفَ أَنَّهُ أَرَادَ خُلْعَ الْمِثْلِ أي: لو وكل الزوج رجلاً على أن يخالع له زوجته فإن خالعها بخلع المثل فأكثر لزمه، وإن نقص عن المثل. ففي الجواهر: القول قوله أنه أراد خلع المثل ولم يذكر يميناً، ولم يذكرها أيضاً مالك في المجموعة. ابن عبد السلام: ولا تكاد تجد النص على اليمين، قال: وظاهر الرواية سقوط اليمين كما في البيع وهو الأقرب، وقد يقال بثبوتها هنا، لأن السلعة في البيع لها قيمة كالمعرفة ولا قيمة هنا. خليل: والظاهر أن اليمين هنا يجري الخلاف في توجيهها على الخلاف في أيمان التهم، وقد نص مالك في العتبية على اليمين في من قال لامرأته: إن دعوتني إلى الصلح فلم أجبك فأنت طالق فدعته إلى دينار فقال: لم أرد هذا، وإنما أردت نصف ما تملكينه. فقال: لا يلزمه الخلع، ويحلف ويخلى بينه وبينها.

ابن القاسم: وإن لم تكن له نية فلم يجبها حنث. لكن قال في البيان: قوله: (يحلف) يدل على أنه لم يكن مستفتياً في يمينه وإنما كان مخاصماً ويحلف لأنه ادعى نية تخالف ظاهر اللفظ، ولو كان مستفتياً لقبل ذلك منه بغير يمين. ونقل ابن بشير مسألة العتبية هذه وذكر أنه لم يجب عليه في الرواية يميناً قال: وقد تجري على أيمان التهم. وعند ابن شعبان: له أن يطالبها بجميع ما تملكه، وأنكره اللخمي ورأى أن ذلك ليس من مقاصد الناس، وإنما يقصدون بعض المال لا كله، وانظر قول ابن بشير مع ما تقدم ولم يوجب في الرواية يميناً إلا أن يكون حمل ما في الرواية على المرافعة كما ذكر صاحب البيان. وَإِذَا تَنَازَعَا فِي أَصْلِ الْعِوَضِ حَلَفَتْ وَبَانَتْ بِقَوْلِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَتَحَالَفَانِ وَتَعُودُ زَوْجَةً .. إذا اختلفا على الطلاق وقال الزوج: كان على عوض ولم تدفعيه لي. وقالت الزوجة: إنما كان على غير عوض، فقال مالك وابن القاسم: القول قولها مع يمينها ولا شيء عليه. ابن راشد: وهو المشهور. وقال عبد الملك: القول قوله وتعود زوجته بعد أن يحلف الزوج أنه خالع على ما ذكر، وتحلف هي أنه كان طلاقاً بغير عوض. اللخمي: والأول أحسن، ولا يرتفع الطلاق بعد وقوعه ومنشأ الخلاف هل تتبعض الدعوى ويؤخذ الزوج بما أقر به أم لا؟ ولأصبغ ثالث: إن أقر بالخلع وسبق إقراره بقوله: إنما أردت أن لا يتم حتى تعطيني، فالقول قوله، وإلا فالقول قولها. وَفِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ حَلَفَتْ وَبَانَتْ (وَفِي جِنْسِهِ) أي فإن اتفقا على الخلع واختلفا في جنس ما وقع الخلع به كما لو قال: بعبد. وقالت: بل بدينار أو قدره كما لو قال: بدينارين. وقالت: بل بدينار، حلفت وبانت لأنه مقر بالطلاق ومدع عليها فإن نكلت حلف وأخذ ما ادعاه.

وَلَوْ تَنَازَعَا فِي وَقْتِ مَوْتِ غَائِبٍ خُولِعَ عَلَيْهِ، أَوْ عَيْبِهِ فَهْيَ مُدَّعِيَةُ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ بَعْدَهُ فَلا عُهْدَةَ بِخِلافِ الْبَيْعِ .. هكذا قال ابن القاسم ونص ما نقله ابن يونس عنه: قال سحنون عن ابن القاسم: وإذا صالحته على عبد غائب فمات أو وجد به عيباً، فقالت: كان ذلك به بعد الصلح. وقال هو: قبل الصلح. فالمرأة مدعية وعليها البينة، وإن ثبت أنه مات بعد الصلح فلا عهدة فيه بخلاف البيع. وإلى هذا أشار بقوله: (فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ بَعْدَهُ) أي الموت أو العيب بعد الخلع فلا عهدة على الزوجة. وقوله: (بِخِلافِ الْبَيْعِ) ظاهره أن المخالفة راجعة إلى قوله: (ثَبَتَ أَنَّهُ بَعْدَهُ) ووجه المخالفة على هذا أنها بائعة للعبد بالعصمة فكان ينبغي أن يكون الضمان منها، لأن المشهور أن ضمان المبيع على الصفة من البائع، إلا أن يشترطه على المشتري، ويحتمل أن تعود المخالفة إلى قوله، فتكون مدعية، ويكون وجهها على هذا أن يجعل الزوج هو البائع للعصمة فكان ينبغي أن يكون الضمان منه، لأن المشهور في المبيع الغائب، وإطلاق البائع عليه أولى، لأن لها أن تخالع عوضاً عن العبد بدارهم وحينئذ لا يقال عرفاً أنها باعت الدراهم، وهذا [346/ أ] يعين أن يكون قول المصنف: (فَهْيَ مُدَّعِيَةُ) ثابتاً في متن كلامه كما في الجواهر وكلام ابن القاسم المتقدم. وسقط ذلك في بعض النسخ وليس يجيد فإن قيل: ما الفرق على هذا بين البيع والخلع؟ فالجواب: إنما لم نقل أن الضمان منه لكونه لا يدفع العبد، بخلاف البائع في البيع. هذا ما ظهر لي، ولم أجزم بمراد المصنف، والمراد هنا بالعهدة عهد الدرك والاستحقاق لا عهدة الثلاث وعهدة السنة. والله أعلم.

وَلَوْ ثَبَتَ مَوْتُ الآبِقِ قَبْلَهُ فَلا عُهْدَةَ؛ لأَنَّهُ عَلَيْهِ دَخَلَ، إِلا أَنْ تَكُونَ عَلِمَتْ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ .. يعني: أن ما قدم هو في الغالب غير الآبق، وأما الآبق يتبين بعد الخلع أنه مات قبل الخلع فلا شيء عليها وهو معنى قوله: (فَلا عُهْدَةَ) أي على المرأة لأن الموت بعض ما دخل عليه الزوج وهو معنى قوله: (عَلَيْهِ دَخَلَ) إلا أن تكون حين المخالعة علمت بموته فتكون غارة، وتعد كالملتزمة بقيمته، وهكذا نقل عبد الحق عن غير واحد من شيوخه. الصِّيغَةُ: وهُوَ كَالْبَيْعِ فِي الإِيجَابِ والْقَبُولِ. هذا هو الركن الخامس وهو كالبيع أي في أنه لابد من الإيجاب والقبول ولا يشترط فيه أن يكون بصيغة خاصة بل تكفي المعاطاة، قال في المدونة: وإن أخذ شيئاً منها وانقلبت، وقالت ذلك بذلك ولم يسميا طلاقاً فهو خلع. إِلا أَنْ يَقَعَ مُعَلَّقاً مِنْهُمَا فَلا يُحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ نَاجِزاً ولَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ مِثْلَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفاً فَأَنْتِ طَالِقُ، أَوْ مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفُ .. قوله: (مِنْهُمَا) أي منه أو منها ولابد أن يكون التعليق وقع منهما جميعاً. وقوله: (مَتَى أَعْطَيْتِنِي)، تعليق من جهة الزوج و (مَتَى طَلَّقْتَنِي) تعليق من جهتها، وذكر المثالين مما يبين لك أن مراده بقوله: (مُعَلَّقاً مِنْهُمَا) ما ذكرناه. وقوله: (فَلا يُحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ نَاجِزاً) يقتضي أنه إذا لم يكن معلقاً يحتاج إلى القبول ناجزاً وهو كذلك كما في عقود المعاوضة. وفي المدونة: إن قال لها أنت طالق على عبدك هذا فإن قبلت قبل التفرق لزمها وإلا فلا قبول لها.

عبد الحق: وسألت بعض القرويين: هل هذا على أحد قولي مالك في التمليك؟ فقال: لا يدخل الاختلاف هنا لأن هذا ضرب من المبايعة فيقتضي الجواب في الحال، فإذا افترقا ولم يجب فلا كلام لها. وقال في الجواهر: إذا علق بالإقباض والأداء والإعطاء لم يختص بالمجلس، إلا أن يدل ليل على اختصاصه به وإن كان يقتضي الجواب ففي بقائه لها وإن تفرقا خلاف. اللخمي: وإن قال: أنت طالق على عبدك أو إن اعتني أو إذا أعطيتيني أو متى أعطيتني عشرة دنانير فأنت طالق، كل ذلك لازم إذا أعطته، ويفترق الجواب في الوقت الذي إذا أعطته لزمه أخذه، والطلاق؛ فإن قال: أنت طالق على عبدك فلم ترض في المجلس لم يلزمه شيء لأنه يقتضي المجاوبة في الحضرة، وإن قال: إذا أو متى؛ كان ذلك بيدها وإن افترقا ما لم يطل ويرى أنها تاركة أو يمضي ما يرى أن الزوج لن يجعل التمليك إلى ذلك الوقت. واختلف إذا قال: إن أعطيتني هل يحمل ذلك على المجلس وإن افترقا؟ وأرى أن ذلك بيدها إذا قالت: نعم وانصرفت على ذلك وإن سكتت ضعف قولها انتهى. ابن راشد: اختلف إذا تراخى القبول عن الإيجاب في البيع، أشار ابن العربي في ذلك ثم قال: والمختار جواز تأخير ما تأخر، ومقتضى هذا أن يجوز ذلك في الخلع أيضاً لأنه قال في الأصل: هو كالبيع في الإيجاب والقبول فتأمله. ابن عبد السلام: ومراد المصنف بالقبول دفع المال لا التزام دفعه من المرأة والرضى بذلك من الرجل، فإن ذلك لابد منه عند سماع كلام من طلب ذلك منهما، إلا أن المؤلف تجوز في العبارة فعبر بالقبول الذي هو سبب عن دفع المال الذي هو مسبب. وَمِثْلَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفاً خَالَعْتُكِ، إِنْ فُهِمَ الالْتِزَامُ لَزِمَ، وَإِنْ فُهِمَ الْوَعْدُ وَدَخَلَتْ فِي شِيْءٍ بِسَبَبِهِ- فَقَوْلانِ ... (لَزِمَ) أي الطلاق البائن بدفع المال إن فهم الالتزام.

ابن راشد: بلا خلاف وإن فهم الوعد ودخلت في شيء بسببه كما لو باعت قماشها أو كسرت حليها فقولان: روى أبو زيد عن ابن القاسم أنه يلزمه. ابن عبد السلام: وهو المعروف. وقيل لا يلزمه ويحلف ما أردت طلاقاً، ومفهوم كلامه أنها إن لم تدخل في شيء بسبب الوعد فلا يلزمه الطلاق وهو جار على المشهور في عدم الوفاء بالوعد، وعلى الشاذ بلزوم الوفاء يلزم الطلاق هنا، قال في البيان: وعليه فيحلف. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي مَا أُخَالِعُكِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ بِالتَّافِهِ، وَيَلْزَمْ بِالْمِثْلِ عَلَى الأَصَحَّ يعني إذا قال: إن أعطيتني ما أخالعك به فقد خالعتك أو فأنت طالق لم يلزم بالتافه. قال في المدونة: ويخلى بينه وبينها، ولم يوجب عليه يميناً وفي قوله: (بِالتَّافِهِ) نظر. والذي قاله ابن بشير: فأعطته نصف دينار. وقال اللخمي: فأعطته دينار وأما لو أعطته ما يخالع به مثلها فقال المصنف: الأصح اللزوم، لأنه إذا تقيد الكلام بالعرف وخرج عنه القليل فكذلك يتقيد بالعرف إذا طلب هو الزائد عن خلع المثل، ومقابل الأصح لابن شعبان: أن القول قوله إلى قدر ما تملكه المرأة وليس بالبين ولا يؤخذ مقابل الأصح من كلام المصنف. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْداً لَزِمَ بِمُسَمَّى عَبْدٍ قال في الجواهر: وإن قال إن أعطيتني عبداً؛ بغير تقييد بصفة، طلقت بكل [346/ ب] ما يطلق عليه اسم عبد من السليم، فقيده بأن يكون سليماً ولابد من ذلك، وظاهر كلامه في الجواهر وكلام المصنف أنه لا فرق في اللزوم بين أن يكون العبد قليل القيمة أو لا وفي المدونة: ولو خالعته على ثوب مروي ولم تصفه جاز وله ثوب وسط من ذلك، فانظر هل يؤخذ من هذا أنه يشترط في العبد أن يكون وسطاً؟

وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْداً لَزِمَ بِمُسَمَّى عَبْدٍ لأنه لما عينه بالإشارة ودفعته إليه لم يقدح في ذلك خطاه على نفسه لتفريطه في ذلك. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ الْمَرْوِيَّ فَإِذَا هُوَ هَرَوِيُّ لَزِمَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ خَالَعْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقُ ثَلاثاً ثُمَّ خَالَعَهَا فَالْمَنْصُوصُ يَرُدُّ مَا أَخَذَ، وأَجْرَاُه اللَّخْمِيّ عَلَى الشَّاذُّ فِي: إِنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرُّ، وتَبِينُ ثَلاثاً فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ فَطَلْقَتَانِ وأَجْرَاهُ اللَّخْمِيّ عَلَى الْخِلافِ فِيمَنْ أَتْبَعَ الْخُلْعَ طَلاقاً يعيني: إن علق طلاقها على خلعها ثم خالع فإن كانت يمينه باثلاث ففي المدونة وغيرها أنه يرد ما أخذ منها ويقع عليه الطلاق الثلاث، وقاسها في الموازية على قول مالك في القائل لعبده: إن بعتك فأنت حر، وكذلك أجراه اللخمي في الخلع قولاً بعدم الرد من الخلاف في القائل إن بعت عبدي فهو حر، ثم باعه. والمشهور أنه يرد البيع ويعتق على البائع، والشاذ أن البيع ماض ولا عتق لأنه إنما يلزمه العتق إذا حصل في ملك المشتري ولا يمكن إلزامه العتق وهو في ملك الغير. اللخمي: فجعل هذا القائل البيع يسبق الحنث، وكذلك يكون الطلاق الثلاث بعد الخلع فلا يكون عليه رد المال، وهو أحسن لأن الفاء للتعقيب. والمشهور جار على أن الشرط والمشروط يقعان معاً. ابن راشد: والحق هو المشهور لأنه لما علق على فعله لا على فعل غيره لقوله: إن بعتك فأنت حر وبيعه إنما هو صدور الإيجاب، وصدور الإيجاب هو السبب في العتق لكن لا يتحقق كونه سبباً إلا بقبول المشتري فإذا قبل المشتري تحققنا تقدم سبب العتق فلذلك قلنا بفسخ البيع وإمضاء العتق.

كذلك مسألة الخلع فقوله: (إِنْ خَالَعْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقُ ثَلاثاً) علق الطلاق على خلعه فتبين إن صدر منه الإيجاب وصدر منها القبول وقع الطلاق مستنداً لإيجابه لا لقبولها. انتهى. وفيه نظر؛ لأن المعلق علق بوجود البيع وحقيقة البيع لا تحصل إلا بمجموع الإيجاب والقبول. قوله: (فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ) يعني وإن يقيد يمينه بالثلاث بل قال: إن خالعتك فأنت طالق فقال في المدونة وغيرها يلزمه طلقتان واحدة بالخلع وأخرى باليمين وأجرى اللخمي قولاً بلزوم واحدة فقط من الشاذ فيمن أتبع الخلع طلاقاً، أو قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق. وقد يفرق بينهما، فإن قوله: إن خالعتك فأنت طالق قد يقال فيه بوقوع الشرط والمشروط معاً، وذلك أن المعلق عليه علة شرعية للمعلق أجراها العلماء مجرى العلة العقلية، فكما أن العلة العقلية لا يتأخر عنها معلولها في الزمان كحركة الخاتم والإصبع، فكذلك العلة الشرعية بخلاف من أتبع الخلع طلاقاً، أو قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق. فإن وقعت الطلقة الثانية متأخرة عن الأولى بالزمان، ثم في القياس على من أتبع الخلع طلاقاً- نظر؛ وذلك أن الخلاف ليس منصوصاً فيمن اتبع الخلع طلاقاً، إنما الخلاف فيمن قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق. والصحيح عن أهل الأصول المنع من قياس فرع على فرع مقيس على أصل، وبيان ذلك في محله، وقوله: (طَلْقَتَانِ) يعني ولا يرد العوض. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ ثَلاثاً عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ وَاحِدَةً عَلَى ثلثه لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ قَبِلَتْ بِأَلْفٍ وقعت ... إنما لم يقع إذا قبلت واحدة على ثلث الألف لأن الزوج يقول لم أرض بخلاصك مني إلا بالألف، وأنت إذا قبلت واحدة بثلث الألف تريدين أن تتخلصي مني بدون

ذلك، ولأن الزوج قد يكون مقصوده في مجموع الألف، ولهذا قلنا باللزوم إذا قبلت واحدة على الألف لأن مقصوده حصل ولا يتعلق بوقوع الثلاث غرض شرعي. وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلاثاً عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً أَوْ بِالْعَكْسِ وَقَعَ واسْتَحَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِيهِمَا لأَنَّ مَقْصُودَهَا حَصَلَ .. يعني: إذا سألته أن يطلقها ثلاثاً على ألف فطلقها واحدة على ذلك، أو سألته أن يطلقها واحدة على ألف فطلقها ثلاثاً على ذلك، وهو معنى قوله: (أَوْ بِالْعَكْسِ وَقَعَ) أي الطلاق البائن فيهما. (واسْتَحَقَّ ذَلِكَ) الألف (عَلَى الْمَنْصُوصِ فِيهِمَا) أي: الفرعين. والصورة الأولى منصوصة في الموازية، والثانية في المدونة وغيرها إلا أنه فرضها في المدونة إذا سألته طلقتين، وعلل المصنف ذلك بأن (مَقْصُودَهَا حَصَلَ) أي: مقصودها في الأولى البينونة وقد حصلت والثلاث لا يتعلق بها غرض شرعي، ولا شك في حصول مقصودها في الثانية بل وزيادة، وقال اللخمي: أرى إذا أعطته على أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثاً أن ينظر إلى سبب ذلك، فإن كان راغباً في إمساكها وهي راغبة في الطلاق لا مقال لها، وإن كان راغباً في طلاقها فأعطته على أن يكون طلاقه واحدة أن ترجع بجميع ما أعطته، لأنها إنما أعطته على ألا يوقع إلا اثنتين لتحل إن بدا له من قبل من الزوج، وكذلك إن أعطته على أن يطلقها [347/ أ] ثلاثاً فطلقها واحدة، ينظر فإن كان عزاماً على طلاقها واحدة كان لها أن ترجع بجميع ما أعطته لأنها للاثنين أعطت، وإن كان راغباً في إمساكها فأعطته على أن يطلق ثلاثاً جرت على قولين فيمن شرط شرطاً لا ينفعه هل يوفى له به أم لا؟ وحكى ابن عبد السلام: في قوله: جرى على القولين في شرط ما لا يفيد: فقد يقال في هذا الوجه أنه من شرط ما يفيد، لأنه إذا كان راغباً فيها وهي كارهة كان مقصودها من

إعطاء العوض البعد عنه على أتم الوجوه بحيث لا يبقى له فيها طلب، وذلك إنما يحصل مع الثلاث، وأما الواحدة فقد يتوسل إلى مراجعتها بمن لا يمكنها رده، قال وقول اللخمي مقابل للمنصوص الذي أشار إليه المصنف، إلا انه لا يفهم من كلامه مفصلاً، ويحتمل أن يريد المصنف بمقابل المنصوص في الصورة الأولى ما قاله عبد الوهاب في الإشراف فإنه قال بعد أن نقل عن ابن المواز ما تقدم من اللزوم إذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف، فقال: طلقتك واحدة بالألف، قال: عندي أن النظر أن الخلع يقع ولا يستحق شيئاً من الألف. وَالطَّلاقُ الُّسنِّيُّ: أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَاحِدَةً، وهِيَ غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ .. لما قدم أن الطلاق على ضربين أحدهما بعوض، وفرغ منه شرع في الكلام على الضرب الآخر وهو الخالي عن العوض، وليس المراد بالسني أنه راجح الفعل كما هو المتبادر إلى الذهن من النسبة إلى السنة، بل على أنه الذي أذنت فيه السنة مقابلاً للبدعي ونحوه لعبد الوهاب وغيره. وطلاق البدعة: ما وقع على غير الوجه المشروع، والطلاق مباح من حيث الجملة. وقال بعض الشيوخ: إنه مكروه لما في أبي داوود عنه عليه الصلاة والسلام: "أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الطَّلاَقُ". ولا إشكال أنه قد يعرض له الوجوب والتحريم والندب، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام طلق حفصة واحدة ثم راجعها وطلق العالية بنت سفيان وهي التي كانت تدعى أم المساكين. وذكر المصنف لطلاق السنة أربعة قيود:

الأول: أن يطلق في طهر فلو طلقها في حيض كان مطلقاً للبدعة. عبد الوهاب: وهو حرام بإجماع. واختلف هل المنع في الحيض تعبداً أو لطول العدة عليها؟ وهو المشهور كما سيذكره المصنف، لأنه إذا طلقها في حيض لا تعتد به فيلغي بقية أيام الحيض. القيد الثاني: أن لا يجامعها في ذلك الطهر، فإن جامعها ثم طلقها كان مطلقاً للبدعة، وليس ممنوعاً كطلاق الحيض. فقد صرح في المدونة بكراهيته وفي الاستلحاق عن بعض الشيوخ: أنه محظور كالطلاق في الحيض، واختلف في وجه الكراهة، فقال عبد الوهاب: لأنه ليس عليها عدة، فلم تدر هل تعتد بالوضع أو بالإقراء؟ لأنه يندم إن خرجت حاملاً. وقيل لخوف الندم خاصة إن خرجت حاملاً، وقيل: لتكون مستبرأة فيكون على يقين من نفيالحمل إن أتت بولد وأراد نفيه. وضعف اللخمي الأول لعدم اللبس في العدة، وكذلك لأن العدة لا تفتقر إلى نية وهي تنتظر في المستقبل فإن رأت حيضاً بنت عليه، وإن ظهر حمل انتظرت الوضع. القيد الثالث: أن يطلقها واحدة. اللخمي: وإيقاع الاثنتين مكروه والثلاث ممنوع لقوله تعالى: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) [الطلاق: 1] أي: من الرغبة في المراجعة والندم على الفراق، ونقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على لزوم الثلاث في حق من أوقعها؛ لما خرجه ابن أبي شيبة أن ابن عباس أتاه رجل فقال له: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً فقال: إن عمك عصى الله. فأندمه ولم يجعل له مخرجاً، وعن أنس أن عمر رضي الله عنه: كان إذا أتي له برجل طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد أوجعه ضرباً وفرق بينهما وقال عمران بن الحصين نحوه قال: ولا أعلم لهما مخالفاً من الصحابة.

وحكى في الإشراف عن بعض المبتدعة أنه إنما يلزم موقع الثلاث واحدة، وعن بعض الظاهرية أنه لا يلزمه شيء. الباجي: وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطاة ومحمد بن إسحاق، وتعلقوا بحديث طاوس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وسنين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر: قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فأمضاه عليهم. وهو خبر صحيح رواه الأئمة، وطاوس إمام وابنه إمام، وقال بعضهم: هو وهم. الباجي: وعندي أن الوهم وقع في التأويل، ومعناه عندي أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاثاً بدليل قوله: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. وقد روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الثلاث لمن أوقعها مجتمعة. فإن حمل حديث طاوس على ما تأولناه فلا كلام، وإن كان على غير ذلك فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، وحكى التلمساني عندنا قولاً بأن إذا أوقع الثلاث في كلمة أنه إنما تلزمه واحدة؛ وذكر أنه في النوادر ولم أره، وشذ بعض المبتدعة أيضاً فقال بعدم اللزوم إذا طلق في الحيض، وبذلك قال بعض البغداديين. ويرده ما جاء في الصحيح في بعض طرق حديث ابن عمر لما طلق في الحيض قال: فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقها. ذكره مسلم، وفي البخاري: [347/ ب] وحسبت علي تطليقة، لكن خرج أبو داوود عن ابن الزبير أنه سمع ابن عمر قال: فردها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئاً. أبو داود: والأحاديث كلها على خلافه ولعل هؤلاء لاحظوا كون النهي يدل على الفساد. القيد الرابع: أن تكون غير معتدة منه، يتحرز من أن يطلقها في كل طهر طلقة ما لم يرتجعها فإن فعله فالأولى للسنة والأخيرتان للبدعة، وهذا مذهب المدونة وقال أشهب:

له أن يطلقها في كل طهر طلقة ما لم يراجعها في خلال ذلك وهو يريد أن يطلقها ثانية فلا يسعه ذلك لأنه تطويل للعدة عليها ويضر بها وهذا مقابل المشهور ورأى في المشهور أن ذلك بمنزلة من طلق ثلاثاً في دفعة ورأى أنه ليس في ذلك تطويل. عياض: ولأشهب قول آخر أنه لا بأس إن ارتجع بنية الفراق ولا خلاف أنه لو ارتجع بنية البقاء ثم بدا له فطلق هكذا في كل طهر لما كره له الرجعة ولا الطلاق. وَالْبِدْعِيُّ عَلَى خِلافِهِ أي: فقد منه القيود، إما بأن يكون في حيض، أو في طهر مس فيه، أو أكثر من واحدة، أو طلقها وهي معتدة ويحسب ما فقد منه من القيود من الكثرة والقلة يبعد عن السنة ولا يمكن أن يفقد جميع القيود لأن أحد القيود أن يكون في حيض، والآخر أن يكون في طهر جامع فيه فلا يمكن اجتماعهما، ولا يلحق بالطهر المجامع فيه الحيض المجامع فيه لأنه الوطء في الطهر يكون عنه الحمل فيحصل اللبس، نعم يمكن أن يتكلف إلحاقه به إذا كان الجماع في أواخر الحيض كما يقال في كتاب الاستبراء. فَلا بِدْعَةَ فِي الصَّغِيرةِ والْيَائِسَةِ والْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرِ الْمُمَيِّزَةِ إِلا فِي العدَدِ، وفِي الْمُمَيِّزَةِ قَوْلانِ .. لأنهن لا حيض عليهن، والقولان في المستحاضة المميزة مبنيان على القولين في عدتها هل هي بالأقراء أو بالسنة؟ فعلى المشهور أنها تعتد بالأقراء فيكون طلاقها في الحيض بدعياً. وعلى أنها تعتد بالسنة لا يكون بدعياً. ونقل الباجي عن عبد الوهاب أنه قال: من جاز طلاقها في كل وقت كالصغيرة واليائسة لا يوصف بسنة ولا بدعة. وعُلِّلَ فِي الْحَيْضِ بِتَطْوِيلِ الْعِدِّةِ، وقِيلَ: غَيْرُ مُعَلَّلِ، وعَلَى الْمَشْهُورِ يَجُوزُ طَلاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا والْحَامِلِ فِي حَيْضِتهَما. أما قوله: (وعُلِّلَ فِي الْحَيْضِ بِتَطْوِيلِ الْعِدِّةِ) وقيل: غير معلل، وقد تقدم التنبيه عليه.

(وعَلَى الْمَشْهُورِ) أي التعليل. (يَجُوزُ طَلاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا والْحَامِلِ فِي حَيْضِتهَما) إذ لا تطويل في حقهما لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، والحامل في عدتها بالحمل فلا أثر لحيضتهما، وما ذكرناه جار على المشهور هو في المدونة فقد نص فيها على طلاق غير المدخول بها والحامل متى شاء ونص ابن شعبان وأبو عمران على الجواز في الحامل ومنعه ابن القصار لما عورض بقول المخالف لو كانت الحامل تحيض لكان الطلاق فيه حراماً فقال: كذلك أقول. ابن عبد السلام: وروي عن مالك أيضاً منع طلاق الحائض غير المدخول بها وعن أشهب كراهته فقط. فرع: فإن طلق من ولدت ولد وبقي في بطنها آخر، فقال أبو عمران: إن قلنا بطلاق الحامل حال الحيض لم يجبر على الرجعة. تنبيهان: الأول: ما ذكر المصنف من أن المشهور التعليل بتطويل العدة، قال اللخمي الظاهر من المذهب خلافه، وأنه غير معلل قال: ولو كانت العلة التطويل لجاز أن يطلقها في الحيض برضاها لأنه حق لها ويلزم أيضاً ألا يجبر على الرجعة إلا أن تقوم بحقها في التطويل، لأنه حق لأدمي فلا يقتضي به حتى يقوم به، ولا يجبر على الرجعة إذا طهرت لأن المدة لاتي كان فيها التطويل قد ذهبت. الثاني: إنما تعرض المصنف لعلة المنع في الطلاق في الحيض دون سائر الطلاق لأن كتابه ليس موضوعاً لبيان التوجيه، وذكر الأسباب وإنما هو موضوع للأحكام فلذلك ذكر هذا لما يترتب عليه من الأحكام دون غيره.

والْخُلْعُ كَالطَّلاقِ، وقِيلَ: لا، لأَنَّهُ بِرِضَاهَا قوله: (والْخُلْعُ كَالطَّلاقِ) أي فيمتنع وهو قول ابن القاسم وأشهب وهو المشهور، وقيل: ليس الخلع كالطلاق فيجوز وهذا القول هو الجاري على التعليل بتطويل العدة قال في الجواهر: واختلف في علة الجواز على هذا القول فقيل: لأن ذلك تطويل برضاها، وقيل: لأنه معلل بضرورة الافتداء، ويخرج على تحقيق العلة فرعان: جواز الطلاق برضاها وأن يكون عوض، واختلاع الأجنبي، وإلى هذين الفرعين أشار بقوله: فَيَتَخْرَّجُ عَلَيْهِ جَوَازُ طَلاقِهَا فِي الْحَيْضِ بِرِضَاهَا، ومَنْعُهُ فِي اخْتِلاعِ الأَجْنَبِيِّ تصوره ظاهر. وَإِذَا وَقَعَ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ ابْتِدَاءً أَوْ حِنْثاً أُجْبِرَ عَلَى الرَّجْعَةِ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَةِ شَيْءُ، وقَالَ أَشْهَب: مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنَ الثَّانِيَةِ .. الأصل فيه ما خرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ، ثم قال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل". قال في الاستذكار: هكذا روى جماعة عن ابن عمر، وبه أخذ فقهاء الحجاز منهم مالك والشافعي [348/ أ] فقالوا: إذا طلقها أنه يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلق إن شاء. ورواه جماعة عن ابن عمر وقالوا فيه مرة: فليراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمسها أو حاملاً، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأكثر العراقيين وللرواية الأولى أوجه حسان منها: أنه لما طلق في الوضع الذي نهي عنه لئلا تطول العدة أمر بالمراجعة

ليوقع الطلاق على سنته، فلو أبيح له أن يطلق إذا طهرت من تلك الحيضة كانت في معنى المطلقة قبل البناء، أو كانت تبني على عدتها الأولى فيتم مقصوده، فأمر بالوطء ليقطع حكم الطلاق الأول وإذا طلقها لم يكن طلاقها في ذلك الطهر لأنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يطلقها في طهر مسها فيه ومنها أن الطهر الثاني جعل للإصلاح الذي قال الله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) [البقرة: 228] لأن المرتجع لا يرتجع رجعة ضرر لقوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً) [البقرة: 231] فالطهر الأول فيه الإصلاح بالوطء فإذاً لم يجز له أن يطلق في ذلك الطهر. ومنها: أن المراجعة لا تعلم صحتها إلا بالوطء لأنه المبتغى من النكاح والمراجعة في الأغلب. انتهى. قوله: (ابْتِدَاءً) أي طلقها طلاقاً مبتدئاً في حيض أو نفاس أو حنث كما لو علق طلاقها على دخول الدار فدخلت وهي حائض أو نفساء أجبر على الرجعة لحديث ابن عمر وهو وإن ورد في الحيض فلا فرق بينه وبين النفاس كما في سائر الأحكام، والمشهور أنه يجبر ما بقي من العدة شيء معاقبة له ولا طلاق لقوله عليه الصلاة والسلام: "مره فليراجعها" وقال أشهب: يجبر على الرجعة ما لم تطهر ثم تحيض ثم تطهر وهو معنى قوله: ما لم تطهر من الثانية، ووجهه: أن في هذه الحالة أباح النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها فلم يكن للإجبار معنى، وفهم من قول المصنف: (أُجْبِرَ عَلَى الرَّجْعَةِ) أن الإجبار مختص بالطلاق الرجعي وهو الصحيح. وقال في المقدمات: كان أبو المطرف يفتي بالإجبار في طلاق الخلع، وكان شيوخ عصره يخطئونه في ذلك. فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ بِالأَدَبِ، فَإِنْ أَبَى ارْتَجَعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ ابن القاسم وأشهب وابن المواز: يجبر عندنا بالضرب والسجن والتهديد، ويكون ذلك في مجلس واحدلأنه على معصية فإن أبى أجبره الحاكم عليه.

ابن راشد: وحكى الباجي في وثائقه قولين في سجنه أحدهما: أنه يسجن، والآخر: أن الحاكم يرتجع عليه ويتم القضاء. وفي المقدمات عن ابن القاسم في العتبية: إن أبى حكم عليه بالرجعة قال: ولم يذكر سجناً ولا ضرباً قيل: وظاهره خلاف الأول، ووجهه: أنه إذا كانت الرجعة تحصل من الحاكم فلا معنى لجبره، ورأى في القول الآخر أن من شرط إلزام الحاكم له تحقق الإباية ولا يتحقق ذلك إلا بالسجن والضرب. وَلَهُ وَطْؤُهَا بِذَلِكَ عَلَى الأَصَحِّ، كَمَا يَتَوَارَثَانَ بَعْدَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ قوله (بِذَلِكَ) أي بارتجاع الحاكم على الأصح والأصح قول أبي عمران وقاسه على المتزوج هازلاً، أنه يلزمه النكاح وله الوطء، قال في المقدمات: وهو الصحيح قياساً إلى من يجبر على النكاح من أب أو وصي أو سيد فيجوز للمتزوج الوطء إن غلب على ظنه النكاح، ومقابله لبعض أصحابنا البغداديين: أنه ليس له الوطء إلا أن يستمتع منها حال حيضتها بما فوق الإزار إذا لم يكن نوى الرجعة. ابن عبد السلام: قال بعضهم: وعلى هذا إذا انقضت العدة ولا نية له في الرجعة فليس له وطئها ولا أن يبيت معها ومن يقول بهذا لا يبعد أن يخالف فيما احتج به المصنف من الميراث ومقتضى كلام المصنف أنه يوافق على الميراث وإلا لم يحسن الاستدلال بذلك. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ دليله حديث ابن عمر المتقدم وقد تقدم وجه ذلك.

فَإِنْ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ الأَوَّلِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ أَوْ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ لَمْ يُجْبَرْ .. يعني: أنه إذا طلق طلاق بدعة فلا يجبر إلا في الحيض فقط، لأن الجبر على خلاف الأصل فيقضي به على مورده فقوله: (لَمْ يُجْبَرْ) راجع إلى الجميع ولا يلزم من نفي الأمر وفي أصل المدونة: لم يؤمر. واختصر أبو محمد المدونة على نفي الجبر. وذكر عبد الوهاب قولاً بأمر من طلق في طهر مس فيه بالمراجعة من غير جبر. عياض: وظاهر الكتاب خلافه، وحكى بعض المغاربة قولاً بالجبر فيما إذا طلق في طهر مس فيه. قال في المدونة: ولا تطلق التي رأت القصة البيضاء حتى تغتسل بالماء فإن فعل لزمه ولا يجبر على الرجعة: وإن كانت مسافرة لا تجد ماء فتيممت فلا بأس أن يطلقها بعد التيمم لجواز الصلاة لها. قال في النكت: قال بعض شيوخنا: وسواء صلت بالتيمم أو لم تصل به له طلاقها. فقول المصنف: أو ما يقوم مقامه أي مقام الغسل وهو التيمم كما جاء في المدونة ويحتمل أن يكون الضمير في مقامه عائداً على الحيض، ويكون مراده النفاس لأنه يشاركالحيض في هذا وفهم من قول المصنف: (لَمْ يُجْبَرْ) منع الطلاق بعد الطهر وقبل الغسل وهو صحيح كما ذكرنا في المدونة. وحكى ابن عبد السلام قولاً بجواز الطلاق إذا رأت القصة قال: وهو الظاهر إما على أن الطلاق منع في الحيض لتطويل العدة فلا تطويل هنا إلا قدر الاغتسال، وإما على التعبد فلانتفاء الحيض وتعذر القياس، فإن انقطع الدم فطلقها فعاودها الدم بالقرب فهل يجبر على [348/ ب] الرجعة؟ - وإليه ذهب أبو عمران وأبو بكر بن عبد الرحمان؛ لأنه دم يضاف إلى الأول- أو لا يجبر؟

الباجي: وهو الأظهر عندي لأنه طلق في وقت يجوز له فيه الوطء ويجوز صومها وقد رأيت ذلك لبعض الصقليين انتهى. ولأنه لم يقصد التطويل. وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا أَنَّهَا حَائِضُ، وَلا تَكْشِفَ يعني: إذا اختلفا فقالت: طلقتني وأنا حائض، فقال: بل وأنت طاهر، فلا تكشف بالاتفاق، قاله ابن عبد السلام. واختلف هل تصدق عليه كما في عيوب الفرج ويجبر على الرجعة؟ وإليه ذهب ابن القاسم وسحنون. أو لا تصدق عليه ويكون القول قوله؟ وهو أيضاً لابن القاسم ووجهه أنه أدعى حلالاً وادعت حراماً. ابن عبد السلام: ابن المواز وهذا الخلاف إنما هو إذا تنازعا وترافعا إلى الحاكم حين الحيض، وأما لو كانت حينئذ طاهراً فالقول قوله، ونحوه للباجي، وذكر ابن راشد قول ابن المواز على أنه ثالث. ابن يونس: ولو قيل تنظر إليها النساء بإدخال خرقة، ولا كشفة في ذلك ورأيته صواباً، ولأن ذلك حق للزوج كعيوب الفرج والحمل ولأنها تتهم على عقوبة الزوج بالارتجاع ولا ضرر عليها في الاختبار فوجب أن تختبر. فرع: قال محمد في النكاح الفاسد إذا كان مما يفرق فيه بعد الدخول ولا يحتاط فيه بالطلاق كنكاح المحرم فإنه يفسخ في الحيض لأن إقراره أعظم من الطلاق في الحيض. محمد: ولا يطلق على المجنون والمجذوم والعنين ومن عدم النفقة في الحيض والنفاس.

اللخمي: وإن أخطأ الحاكم وطلق حينئذ لم يقع بخلاف الزوج نفسه، لأن الحاكم كالوكيل فلا ينفذ في غير ما وكل عليه ولأنه لو أجيز فعله لجبر الزوج على الرجعة ثم يطلق عليه أخرى إذا ظهرت فتلزمه تطليقتان وفي هذا ضرر إلا على العنين فإنه يمضي عليه الطلاق لأن الطلاق بائن. وعن مالك في التطليق على المولي في الحيض وتأخيره روايتان، وكلام اللخمي يقتضي أن الطلاق الذي يوقع على المجنون والمجذوم رجعي وهو قول التونسي وهو خلاف أصل المذهب، ففي المقدمات ذهب التونسي إلى أن تطليق الإمام على المجنون والمجذوم والأبرص إنما هي طلقة رجعية وأن الموارثة بينهما قائمة ما دامت في العدة ولو صحوا في العدة من دانهم كانت لهم الرجعة، وهو خلاف المعلوم من المذهب إن كان طلاق يوقعه الحاكم فهو بائن، إلا طلاق المولي والمعسر بالنفقة فقال: فعلى قوله لو أخطأ الإمام فطلق على واحد منهم في الحيض يجبر على الرجعة إن صح فيها من دانه. وَإِذَا قَالَ لِلْحَائِضِ: أَنْتِ طَالِقُ لِلسُّنَّةِ، طُلِّقَتْ مَكَانَهَا وَيُجْبَرُ عَلَى الرجعة لأَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ مِثْل: إِذَا طَهُرَتْ .. لأن قوله: (لِلسُّنَّةِ) بمنزلة قوله: أنت طالق إذا طهرت، والقاعدة أن من علق الطلاق على غالب تنجز في الحال كما سيأتي، وقوله: (وَيُجْبَرُ عَلَى الرجعة لأَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ) ظاهر. وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ ثلاثاً لِلسُّنَّةِ طُلِّقَتْ ثلاثاً مَكَانَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ مثل: كلَّما طهرت ... لأن قوله: (أَنْتِ طَالِقُ ثلاثاً لِلسُّنَّةِ) بمنزلة قوله: أنت طالق في كل طهر طلقة؛ فلما لزمه أن يطلقها في الطهر الأول طلقة، وفي الثانية أخرى، وفي الثالثة أخرى نجزت عليه الثلاث للقاعدة.

وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) لم يقع في كل النسخ وهو في الجواهر وهو ينبني على أصل وهو أنه: إذا علق الطلاق على آت، فهل ينجز؟ وإن لم يبن وقع في أجله، ولا يقدر واقع في أجله وهو المشهور وعليه يلزم الثلاث أو لا ينجز وإلا ما لو أتى زمنه كان واقعاً؛ وهو قول ابن الماجشون وسحنون وعليه فلا يلزمه إلا اثنتان لأن المرأة تحل للغير بدخولها في الحيضة الثالثة فلا يأتي الطهر الثالث إلا وهي بائنة، ولا فرق على المشهور بين أن تكون المرأة حال كلامه طاهراً أو حائضاً، صرح بذلك في المدونة وظاهر كلام ابن عبد السلام أن الشاذ أيضاً كذلك. خليل: وفيه نظر؛ لأنه إذا قال لها وهي حائض: أنت طالق كلما طهرت؛ ينبغي أن يتفق على لزوم الثلاث لأنه يلزمه بالطهر الأول طلقة، وكذلك بالثاني وكذلك بالثالث لأنها لم تخرج من العدة إلى الآن لأن المرأة إذا طلقت في حيض أو نفاس لا تحل بالدخول في الحيضة الرابعة، ولم ينقل اللخمي وغيره قول سحنون إلا فيما إذا قال لها ذلك وهي طاهر. فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَوَاحِدَةُ هذا الفرع ذكره ابن سحنون عن أبيه. ابن عبد السلام: والأقرب أنه أجراه على أصل ابن الماجشون لأنها لا عدة عليها فكأن الطلقتين أوقعهما على غير زوجة، وأما على أصل ابن القاسم فتلزمه الثلاث. وَلَوْ قَالَ: خَيْرُ الطَّلاقِ وَشِبْهِهِ فَوَاحِدَةُ، وَشَرُّهُ ثَلاثاً شبه (خَيْرُ الطَّلاقِ) أحسنه وأجمله وأفضله نص عليه في كتاب ابن سحنون. وقوله: (وَشَرُّهُ ثَلاثاً) يريد بذلك أسوأه وأقبحه وأقذره وأنتنه وأبغضه نص عليه في كتاب ابن سحنون أيضاً.

وكذلك إن قال: أكثر الطلاق، وقالك بإثره عدداً أو لم يقل. سحنون: وأكمل الطلاق عندي كأكثره قال: وإن قال: أنت طالق خلاف السنة أو على خلافها فهي واحدة إن لم تكن له نية، وكأنه قال أنت طالق إذا حضت أو في طهر وطئتك فيه. ابن عبد السلام: ولا يبعد أن يختلف فيه لأن من الطلاق البدعي الثلاث. سحنون: من قال لامرأته: أنت طالق واحدة عظيمة أو كبيرة أو شديدة أو طويلة أو خبيثة أو منكرة أو مثل الجبل أو مثل القصر، أو أنت طالق إلى البصرة [349/ أ] أو إلى الصين فذلك كله سواء تلزمه واحدة، وله الرجعة إلا أن ينوي أكثر. ابن عبد السلام: وهذا أبين على من يرى أن البينونة لا تحصل إلا مع العوض وأما من لا يشترط العوض فلا يبعد إلزامه هنا واحدة بائنة. وَأَرْكَانُهُ أَهْلُ، وَمَحَلُّ، وقَصْدُ، ولَفْظُ يعني: أن أركان الطلاق- أعم من أن يكون بعوض أو غيره- أربعة، ثم أخذ يتكلم على الأول، فالأول فقال: الأَهْلُ مسلمُ مُكلَّفُ مراده بالأهل موقع الطلاق. فرع: إذا طلق رجل زوجة الغير فأجازه زوجها فذلك طلاق، ويتصور على ذلك أن يطلق الرجل في ساعة واحدة خمس زوجات فأكثر نقله ابن راشد، وحاصله صحة طلاق الفضولي كالبيع، ثم أخذ المصنف يتكلم في ذكر من احترز منه فقال:

فَلا يَنْفذُ طَلاقُ الْكَافِرِ وإِنْ أَسْلَمَتْ وَكَانَت مَوْقُوفَة أي: لا ينفذ طلاق الكافر زوجته الكافرة، واختلف إذا تحاكموا إلينا على أربعة أقوال قد تقدمت في أنكحة المشركين، وما ذكره في نفوذ طلاق الكافر هو المشهور. اللخمي: وقال المغيرة: يلزمه الطلاق ويحكم عليه به الآن، وإن أسلم بعد ذلك احتسب. وقوله: (وإِنْ أَسْلَمَتْ) مبالغة، يعني أنه لا ينفذ طلاق الكافر ولو أسلمت زوجته وطلقها في العدة، وإذا أسلم قبل انقضائها كان أحق بها كما يطلق وإنما بالغ بهذه الصورة لأنه قد يتوهم فيها اللزوم لكونه حكماً بين مسلم وكافر، وما ذكره نص عليه في المدونة وغيرها، وتأول ذلك اللخمي على أن المرأة لم تقم بحقها قال: وإن قامت حكم لها بما أوقع عليها من واحدة أو ثلاث، وإن طلقها ثلاثاً كان لها أن تمنعه من الرجعة لأن الطلاق يتضمن حقاً لله- تعالى- وحقاً لها فلا يسقط حق الله تعالى بإسقاطها حقها، قال: ويحكم عليه بذلك لأنه حكم بين مسلم وكافر. ابن راشد: وفي كلامه نظر، وقد نص ابن القاسم على أنه لا يلزمه، وإذا لم يلزمه لم يكن لها القيام. خليل: ولأنه يلزم ألا يجوز البقاء على الزوجية إن لم تقم بحق الله تعالى. وَلا الصَّبيِّ، ولا الْمَجْنُونِ. لانتفاء التكليف عن كل واحد منهما، والمشهور عدم لزوم الطلاق للمراهق، وفي كتاب ابن شعبان في من ناهز البلوغ إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها يفرق بينهما. قوله: (الْمَجْنُونِ) أي في حال جنونه، وأما لو أفاق وطلق في حال إفاقته لزمه قال في المدونة، وألحق مالك في الموازية بالجنون المريض يهذي فيطلق في هذيانه، ولو طلق وقد ذهب عقله من المرض فأنكر ذلك وقال: لم أعقل، حلف ولا شيء عليه، قاله مالك في الموازية، وكذلك عنه في العتبية إلا أنه قال: ثم إن صح فأنكر وزعم أنه لم يكن يعقل. ونص اللخمي وغيره على عدم لزوم طلاق المعتوه.

بِخِلافِ السَّكْرَانِ، وقَالَ الْبَاجِيُّ: الْمُطْبَقُ بِهِ كَالْمَجْنُونِ اتِّفَاقاً إِلا فِي الصَّلاةِ (بِخِلافِ السَّكْرَانِ) أي فإن طلاقه لازم، ثم قال في الجواهر: وأما السكران بخمر أو نبيذ فالمشهور نفوذ طلاقه، قاله المازري وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المختلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب قال: وأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة فلا اختلاف أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأقواله فيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله تعالى- إلا فيما ذهب وقتته من الصلوات، فقيل أنها لا تسقط عنه، بخلاف المجنون؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها. انتهى. ابن عبد السلام: ويظهر من كلام غير واحد من الشيوخ أن الصلاة يقضيها السكران سواء كان مطبقاً أم لا، وأنه لا يختلف في ذلك، وتحصيل القول في السكران أن المشهور تلزمه الجنايات والعتق والطلاق والحدود، ولا تلزمه الإقرارات والعقود، قال في البيان وهو قول مالك وعامة أصحابه وأظهر الأقوال اللخمي. وذكر أبو الفرج أنه لا يجوز طلاقه، فعلى هذا لا يجوز عتقه ولا يحد إذا زنا أو افترى ولا يقطع إن سرق ولا يقتل إن قتل، وقال ابن نافع: يجوز عليه كل ما فعل من بيع أو غيره، يريد: النكاح والهبات وغيرها. وروى ابن نافع وأشهب عن مالك أنه قال: إن استوقن أنه سكران لم يجز بيعه وأخاف أنه إن ربح قال: كنت صحيحاً، وإن خسر قال: كنت سكراناً قيل له: أترى نكاحه مثل ذلك؟ قال: نعم.

ومن يعلم أنه سكران يقتل هذا ويقع في الحدود ويسرق متاع هذا ويقول: إني سكران لا أدري ما هذا؟ فوقف في الجواب لإمكان أن يكون السكر لم يستغرقه، وأرى إ ذا صح اختلاطه أن يجري في جميع أحكامه كالمجنون. انتهى. وقال الباجي: ولم يختلف أصحابنا في أن الحدود والطلاق تلزمه وفيه نظر كما تقدم، وظاهر كلام اللخمي أن الخلاف في السكران مطلقاً سواء كان معه ميز أم لا، وكذلك حكى ابن راشد عن المازري أنه قال: المشهور لزوم طلاقه والشاذ عدم لزومه؛ ولم يفصل. وقال ابن بشير: إن كان في حال تمييز لزمه الطلاق بالاتفاق، وإن كان مغموراً فالمشهور اللزوم ونقل بعضهم ذلك عن ابن شعبان وعياض وهذه عكس طريقة ابن رشد، [349/ ب] ويتحصل في المسألة ثلاث طرق، وإذا فرعنا على المشهور من عدم إلزامه بالنكاح، ففي البيان اختلف إذا قالت البينة أنها رأت منه اختلاطاً ولم تثبت الشهادة بسكره، على قولين: أحدهما- وهو المشهور-: أنه يحلف ولا يلزمه النكاح، وروى ذلك زياد عن مالك وقاله في المبسوط. والقول الثاني: أنه لا يصدق ولا يمكن من اليمين ويلزمه النكاح، وهو دليل قوله في رواية أشهب عنه، وكيف يعلم ذلك؟ وأخاف إن ربح قال: كنت صحيحاً، وإن خسر قال: كنت سكراناً إلى آخر قوله. انتهى. ففهم منه اللزوم خلاف ما تقدم للخمي، وحمل في البيان قول مالك: لا رأى نكاح السكران جائزاً، وقال سحنون: لا يجوز بيعه ونكاحه وهباته وصدقاته وعطياته، على معنى أنه لا يلزم ذلك وله أن يرجع عنه قال: ولا يقال في شيء من ذلك على مذهب مالك أنه غير منعقد، وإنما يقال أنه غير لازم انتهى. وكلام ابن شعبان يدل على أن عقوده غير منعقدة لأنه جعل بيعه من الغرر ونص اللخمي على أنه لا فرق بين أن يسكر بخمر أو غيرها، قال: ولا يجوز أن يشرب شيئاً يصده عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.

وفي شرح البخاري لابن بطال: من سكر بلبن أو طعام حلال أو دواء فقذف غيره فمحمله محمل المجنون والمغمى عليه، وقد بلغني عن ابن الفخار الفقيه أنه كان يقول: من شرب من لبن أو طعام حلال أنه لا يلزمه طلاق إن طلق في حال ذلك. وحكى الطحاوي أنه إجماع الفقهاء، وقال أصبغ: إن شرب سيكراناً ولم يعلم به فلا شيء عليه، وكذلك إن علم به وشرب تداوياً. ابن بشير: وإن شربه تعدياً فيه نظر هل يكون كالخمر نظراً إلى عدواه أو لا؟ لأن النفوس لا تدعو إليه بخلاف الخمر. سحنون في العتبية: وإذا أوصى السكران بوصية فيها عتق ووصايا لقوم فإن ذلك لا يجوز على حال. قال: وإذا بت عتق عبيده في مرضه جاز ذلك عليه لأنه لو صح مضى وهو بحال عتقه في صحته، فكل ما أعتق السكران مما له فيه الرجوع مثل الوصية فلا يجوز وكل ما أعتق مما ليس له فيه الرجوع فذلك جائز عليه، ثم رجع سحنون بالعشي في وصية السكران فقال: أرى وصيته جائزة مما أوصى به من عتق أو غيره ولا يكون أسوأ حالاً من الصبي والسفيه فإن وصيتهما جائزة. قال في البيان: وقول سحنون الأول أن وصية السكران لا تجوز غلط ولهذا أسرع في الرجوع عنه، وكذلك تفرقته فيه بين ما مثل في مرضه من العتق وغيره إن مات في مرضه غلط، والصحيح على ما ذهب مالك إن مات من مرضه ذلك نفذ العتق وغيره من الثلث على معنى الوصية وإن صح من مرضه نفذ عليه العتق ولزمه وكان له الرجوع فيما بث له من الهبة والصدقة من أجل السكر. واعلم أن اصطلاحه في الجواهر إذا أراد الباجي قال: القاضي أبو الوليد، وإن أراد ابن رشد قال: الشيخ أبو الوليد فقوله هنا: ونزل الشيخ أبو الوليد على هذا، فهو ابن رشد

وقد التبس هذا على المصنف فقال في مواضع: قال في الجواهر قال الشيخ أبو الوليد قال الباجي، أولها هذا الموضع. ثانيها: قوله في القراض، قال الباجي: لو قامت بينة لم تبع. ثالثها: قوله في آخر المزارعة، وقال الباجي في الفاسدة ستة أقوال. رابعها: قوله في الوقف، قال الباجي: وأخطأ ابن زرب. خامسها: قوله في الأقضية، وقال الباجي: العالم من الثالث. سادسها: قوله في الشهادات، وصوبه الباجي إلا في الأحباس ونحوها. سابعها: قوله بأثر هذا الموضع، وقال الباجي: فلا ينبغي أن يختلف فيه لما قد تساهل الناس. ابن عبد السلام: ولو عكس ابن شاس ما وصف به كل واحد من الشيخين لكان أولى لأن ابن رشد ولي قضاء قرطبة شبيهاً بالمكره، ولم يزل يسعى في العزل حتى عزل. والباجي إنما ولي قضاء أوريولة وليس لها قدر قرطبة، غير أن بعضهم حكى أن الباجي ولي قضاء حلب في رحلته. انتهى. ولا يقال لا اعتراض على المصنف في هذا الموضع لأن الباجي أيضاً نص على أن السكران المطبق لا يختلف في عدم اللزوم، ولعل المصنف لم يتبع ابن شاس ويكون إنما اعتمد على الباجي لأنا نقول قوله: (إلا في الصلاة يرده) لأن الباجي لم يتكلم على الصلاة وإنما تكلم عليها ابن رشد. والله أعلم. وَطَلاقُ الْمَرِيضِ وإِقْرَارُهُ بِهِ كَالصَّحِيحِ فِي: أَحْكَامِهِ، وتَنْصِيفِ صَدَاقِهِ، وعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، وسُقُوطِهَا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إِلا أَنَّهُ لا يَنْقَطِعُ مِيرَاثُهَا هِيَ خَاصَّةً إِنْ كَانَ مَخُوفاً قَضَى بِهِ عُثْمَانُ لامْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لما ذكر من يلزمه الطلاق ومن لا يلزمه، وكان المريض يترتب على طلاقه بعض الأحكام دون بعض أشكل بسبب ذلك كونه أهلاً للطلاق، وأخذ يذكر حكمه وبين أن

طلاق المريض سواء أنشأه في المرض أو أقر أنه فعله في الصحة كطلاق الصحيح في أحكامه، وعطف المصنف تنصيف الصداق وسقوط العدة عن غير المدخول بها على قوله: (كَالصَّحِيحِ فِي: أَحْكَامِهِ)، من باب عطف الخاص على العام وحسن ذلك إما لأن قوله: (فِي أَحْكَامِهِ) قد يتوهم أنه أراد بالأحكام ما قدمه من طلاق السنة والبدع’، وإما للتنبيه على الخلاف فيهما، أما عدم تكميل الصداق فالخلاف فيه خارج المذهب لأنه روي عن الحسن البصري [350/ أ] أن لها الصداق كاملاً وأما سقوط العدة عن غير المدخول بها فهو المعروف في المذهب، وحكى أبو عبيد عن مالك أن عليها العدة. ابن عبد السلام: ويلزم مذهب الحسن البصري. وقوله: (إِلا أَنَّهُ .. إلى آخره) بيان لما يخالف فيه طلاق المريض طلاق الصحيح، يعني أن المريض الذي طلق زوجته أو أقر بطلاقها لا ينقطع بذلك ميراثها منه، بل ترثه إن مات من مرضه ذلك لأنه لما اتهم على حرمانها من الميراث عوقب بنقيض قصده، وإن ماتت هي قبله لم يرثها، وأخذ عدم إرثه منها من قول المصنف: خاصة، وترثه سواء كان طلاقه بائناً أو رجعياً، ثلاثاً أو واحدة، انقضت عدتها أم لا. قوله: (إِنْ كَانَ مَخُوفاً) ابن عبد السلام: ولا خلاف في اشتراطه عند من أثبت لها الميراث واستدل على وجوب إرثها بقضاء عثمان لامرأة عبد الرحمن، وهو في الموطأ: وهو أن عبد الرحمن طلق امرأته البتة وهو مريض، فورثها عثمان ابن عفان منه بعد انقضاء عدتها وفي الموطأ أيضاً: أن عثمان ورث نساء ابن مكمل منه، وكان طلقهن وهو مريض وبذلك قال عمر وعلي وعائشة. قال في الاستذكار: ولا أعلم لها مخالفاً من الصحابة إلا عبد الله بن الزبير.

وَلَوْ كَانَ بِخُلْعِ أَوْ تَخْبِيرِ أَوْ تَمْلِيكٍ أَوْ إِيلاءٍ أَوْ لِعَانٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِخِلافِ الرِّدَّةِ يعني: أن لها الميراث ولو كان لها في الطلاق تسبب، كما لو بذلت مالاً حتى طلقها. محمد: ولها الميراث في ماله، وفيما اختلعت به، وكما لو خيرها أو ملكها فاختارت الفراق. أو كانت الفرقة بينهما بلعان. ونبه المصنف باللعان على أنه لا فرق بين أن يكون فراقه بطلاق أم لا، فإن فرقة المتلاعنين فسخ بغير طلاق، وهذا هو مذهب المدونة المعروف. وفي الجواهر قول آخر بعدم الميراث في هذه الصورة لعدم التهمة فيها لأن الفراق وإن كان ابتداؤه منه لم يستقل به وإنما تممته هي أو غيرها وهذا مقابل المعروف. فرع: ابن محرز وغيره: وإذا لاعن في المرض انتفى الولد لأن الأنساب لا تهمة فيها، ألا ترى أنه لو استلحق ولداً في مرضه ألحق به ولم يتهم، فكذلك إذا نفاه. وقوله: (بِخِلافِ الرِّدَّةِ) نحوه في المدونة ففيها: وارتد في مرضه فقتل على ردته لم يرثه ورثته المسلمون ولا ترثه زوجته، إذ لا يتهم أحد بالردة على منع الميراث. يريد: وكذلك لو مات على كفره قبل رجوعه إلى الإسلام، وقد يقال: إذا أوجبتم الميراث في اللعان مع كونه فسخاً فلأن توجبوه في الردة مع كون الفرقة فيها طلاقاً على الأشهر من باب الأولى، لأن الفسخ أولى في حل العصمة، وجوابه لما كان اللعان خاصاً بالزوجة اتهم، بخلاف الارتداد فإنه لا تهمة فيه لأنه يمنع سائر الورثة من الميراث. اللخمي: ولو عاد للإسلام ثم مات بقرب ذلك ورثه ورثته المسلمون دون زوجته على مذهب ابن القاسم، لأن الردة عنده طلاق بائن، والإسلام ليس مراجعة وترثه على مذهب أشهب وعبد الملك لأنهما يريان إذا عاد إلى الإسلام أنها تعود زوجته على الأصل من غير طلاق. انتهى.

وقيل: لا يرثه ورثته على قول عبد الملك. ابن عبد السلام: وألحق الشيخ أبو إسحاق بالردة ما إذا طلق عليه في المرض بسبب جنون أو جذام أو لعان أو لنشوز منها في المرض. وفي الباجي: أن المطلقة لنشوز منها كالمخالعة والملاعنة في أن حكم الميراث باق خلافاً لأبي حنيفة ولم يذكر في ذلك خلافاً. وَلِذَلِكَ حُكِمَ فِي الْوَصِيَّةِ لَهَا وعَلَيْهَا، وقَتلُهَا إِيَّاهُ كَحُكْمِ الْوَارِثِ أي: ولأجل أن المطلقة في المرض وارثة (حُكِمَ) لها في الوصية إذا أوصى لأجنبي بزائد عن الثلث، ولوارث غيرها ولو بدون الثلث وقف على إذنها. (وعَلَيْهَا) أي: إذا أوصى لها بشيء بطل لأنها وراثة، وإذا قتلته خطأ ورثت من المال دون الدية، وعمداً لم ترث منهما، كما في الوارث، وكلام المصنف هنا ظاهر منصوص في المدونة وغيرها. وفِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الطَّلاق مِنْ سَبَبِهِ، وكَوْنِهَا حِينَئِذٍ مِنْ أَهْل الْمِيرَاثِ: قَوْلانِ، وكَمَا لَوْ أَحْنَثَتْهُ، هِي أَوْ غَيْرُهَا أَوْ أَسْلَمَتْ أَوْ عُتِقَتْ بَعْدَ الطَّلاق ... يعني: هل يشترط في الطلاق الذي لا يقطع الميراث أن يكون من سببه؟ لم يشترط ذلك في المدونة لقوله فيها: وإن قال لها في صحته إن قدم فلان أو قال: إن دخلت بيتاً فأنت طالق، فقدم فلان أو دخلت في مرضه لزمه الطلاق وورثته. الباجي: وهو المشهور، وروى ابن زياد بن جعفر عن مالك: أنه لا إرث لها، لعدم التهمة بالكلية، ورأى المشهور ربط الحكم بالمظنة، ألا ترى أن عبد الرحمن رضي الله عنه أنزهه الله عن أن يقصد منعها من الميراث. وإنما الحكم إذا ثبت بعلة غالبة اكتفى بغلبتها عن تتبعها في أحد الصور، وهذا في الشريعة كثير لمن تأمله لا سيما على مذهبنا بسد

الذراع، ولأنه قد يبدي لها ما يحملها على الدخول، وخرج اللخمي على رواية زياد عدم الإرث في الخلع، وفصل المغيرة في مسألة الحالف فقال: إذا حلف ليقضين فلان حقه، فمرض الحالف ثم حنث في مرضه ومات إن كان بين الملأ فلم يقضه فامرأته ترثه، وإن كان عديماً فطرأ له مال لم يعلم به حتى مات فقد حنث ولا ترثه. سحنون: ولا أعرف هذا ولا أراه وقد قال أصحابنا: إنها ترثه بكل حال. قوله: (وكَوْنِهَا حِينَئِذٍ .. إلى آخره)، أي [350/ ب] لو تزوج كتابية أو أمة وطلقها طلاقاً بائناً وهو مريض ثم أسلمت النصرانية وعتقت الأمة ثم مات من مرضه ذلك، ففي ذلك أيضاً قولان، وروى أصبغ عن ابن القاسم في العتبية أنهما ترثانه وبه قال محمد، وقال سحنون: لا ترثانه ولا يتهم في ذلك، قال: وكذلك لو طلقها البتة إلا أن يطلقها واحدة ويموت في العدة بعد أن أسلمت هذه وعتقت هذه فترثانه. وعلل أصبغ ما رواه عن ابن القاسم بأنه يتهم أن يمنعها الميراث لما خشي أن تسلم امرأته أو تعتق. والقولان في هذا الفرع يشبهان القولين في تزويج المريض أمة أو نصرانية، وفي كلام المصنف لف ونشر؛ لأن قوله: (كَمَا لَوْ أَحْنَثَتْهُ)، راجع إلى قوله: (وفِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الطَّلاق مِنْ سَبَبِهِ) وقوله: (أَوْ أَسْلَمَتْ أَوْ عُتِقَتْ) راجع إلى قوله: (وكَوْنِهَا حِينَئِذٍ مِنْ أَهْل الْمِيرَاثِ). ثُمَّ لا يَنْقَطِعُ مِيرَاثُهَا بِأَنْ تَتَزَوَّجَ بَلْ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ جَمَاعَةً وَطُلِّقَتْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَرِثَتْ مَنْ مَاتَ وَلَوِ الْجَمِيعَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَزِّوَجَةً .. هكذا في المدونة، وأخذ اللخمي منه أنها ترث في المرض الطويل لأنها تحتاج للعدة من كل شخص، وهو قول عبد الوهاب، وخالف ابن الماجشون في الأمراض المتطاولة

كالسل والربع والطيحال والبواسير ورأى أنها تجري بعد تطاولها مجرى الصحة، وإن كان الموت قبل المطاولة ورثته زوجته وكان فعله في ثلثه. اللخمي: وهو أحسن. ورد عياض ما أخذه اللخمي من المدونة بأنه قد يتفق هذا في المدة القريبة بأن يكون جميعهم لم يدخل بها، واتفق مرض كل منهم إثر نكاحه، أو تفترق حالاتهم بأن يكون الأول طلقها حاملاً فولدت للغد ثم تزوجها آخر فمرض بعد العقد في القرب. قوله: (وَإِنْ كَانَتْ مُتَزِّوَجَةً) يعني أنها ترث من طلقها في المرض ولو كانت تحت زوج آخر. ويَنْقَطِعُ مِيرَاثُهَا بِصِحَّةِ بَيِّنَةٍ فَيَقْدِرُ كَأَنَّهُ طَلَّقَ صَحِيحاً لأن المقتضي للإرث مرضه المخوف فإذا وجدت الصحة ارتفع الميراث لارتفاع سببه، وهذا كما لو أعتق المديان فإن للغرماء رد العتق إلى أن يحصل له مال قدر دينه فينفذ عتقه ويقدر كأنه أوقعه ملياً. فَلَوْ صَحَّ ثُمَّ مَرِضَ فَطَلَّقَهَا ثَانِياً فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ عِدَّةِ الأُولَى وَرِثَتْهُ، وإِلا لَمْ تَرِثْهُ يعني: إذا طلقها في المرض طلاقاً رجعياً ثم صح من مرضه فلم يرتجعها حتى مرض وهيفي العدة فطلقها طلقة ثانية فالحكم إن مات قبل انقضاء العدة من الطلقة الأولى ورثته؛ لأن الطلاق في الصحة لا يمنع الميراث إن مات المطلق في العدة؛ فأحرى الطلاق في المرض. وإن مات بعد انقضاء العدة لم ترثه لأن ميراثها قد انقطع بسبب الصحة الكائنة بعد الطلاق ولا عبرة بالطلقة الثانية لأنها لا تستأنف العدة من يومها وإنما تحتسب من الطلقة الأولى- إن كان قول المصنف: (قَبْلَ عِدَّةِ الأُولَى) قد يوهم أن ثم عدة أخرى- أما لو راجعها انفسخت العدة ثم إن طلقها بعد ذلك في المرض فلها حكم المطلقة في المرض.

وَلَوْ صَحَّ فَأَبَانَهَا لَمْ تَرِثْهُ. يعني: ولو طلقها في المرض ثم صح فأبانها لا ترثه، وسواء كان ارتجاعها أم لا، وهو ظاهر وهو مما يبين أن مراده في الفرع الذي قبل هذا أن الطلقتين كانتا رجعيتين. وَلَوْ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ صِحَّتِهِ، فَالْمَنْصُوصُ كَمَنْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ يُفْسَخُ، وقِيلَ: إِلا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَيصِحُّ مُطْلَقاً .. (الْمَنْصُوصُ) مذهب المدونة ففيها: وإن طلق مريض زوجته قبل البناء ثم تزوجها قبل صحته فلا نكاح لها إلا أن يدخل بها فيكون كمن نكح في المرض وبنى فيه. وقوله: (كمن نكح في المرض) يدل على أنه يفسخ بعد البناء، والقول بفسخه قبل البناء لسحنون، ورأى أن فساد هذا النكاح إنما هو لصداقه فكان كالمتزوج بغرر ونحوه، وما كان كذلك يثبت بعد البناء على المشهور، ووجه سحنون الغرر هنا بأن صداق المنكوحة في المرض إنما هو في الثلث، ولا يدري ما حمل الثلث. قال: وليس هو كنكاح المريض لأن الموجب للفساد في نكاح المريض زيادة الوارث، وهذه المطلقة قد يثبت لها الميراث، ورده بعض القرويين بالتفرقة بين هذا والنكاح بالغرر؛ فإن الغرر إذا بنى فيه وجب صداق المثل لا ينقص منه، وهذا من الثلث ولا يدري ما حمل الثلث منه. ابن يونس: إلا أن يكون له مال مأمون يكون ثلثه أضعاف صداقها فيصح قول سحنون. أبو عمران: ولو حمل أجنبي على الزوج فلا يفسخ النكاح لأن الصداق قد ثبت للمرأة في مال الأجنبي والميراث ثبت بالنكاح الأول ولو كان ذلك على وجه الحمالة، فهي كمسألة الكتاب لأن الأجنبي إنما يطالب بالصداق في عدم الزوج وهو إنما يقوى على قول سحنون، وأما على مذهب المدونة، ففيه نظر لأن ظاهر المدونة أن فساده لعقد وقد تبين لك أن قوله: (وقِيلَ) هو قول سحنون وهو مقابل المنصوص، وسحنون وإن كان إنما قاله على وجه التقييد، لكن كلام ابن يونس وعياض وغيرهما يدل على أنه ليس بتقييد.

فرع: قال الباجي: لو مات فشهد الشهود أنه كان طلقها البتة في صحته فقد جعله ابن القاسم كالمطلق في المرض، لأن الطلاق إنما يقع بعد الحكم ولو لم يقع بعد الحكم لكان فيه الحد إذا أقر بالوطء وأنكر الطلاق، وهذا الذي علل به الباجي في المدونة نحوه، لأن فيها: في من [351/ أ] طلق امرأته في السفر وأشهد على ذلك، ثم قدم الشهود فشهدوا عليه ثم أنكر أن يكون أشهدهم وأقر بالوطء أنه يفرق بينهما ولا شيء عليه. واستشكل الشيوخ سقوط الحد، واختلفوا في الجواب عن ذلك، فقال الأبهري: ولم ير عليه الحد لأنهما على حكم الزوجية حتى يحكم الحاكم بالفراق. ابن المواز: لأنها تعتد من يوم يحكم بالفراق. وقال المازري: لم ير عليه الحد لأنه كالمقر بالزنا الراجع عنه. وقيل لم ير عليه الحد لأنه جوز عليه أن يكون نسي ولم يرتض سحنون شيئاً من هذه الوجوه وأوجب الحد إذا شهد عليه أربعة بالطلاق ثم أقر بالوطء. عياض: وظاهر الكتاب أنها تعتد من يوم الحكم، وهو دليل قوله: (لا حد عليه). ويشهد لما في المدونة الأمة يعتقها في السفر، وتشهد بينة بذلك ثم يقدم فيطأها ويستغلها، فقد اتفق على أنه لا حد عليه واختلف في رد العلة. المحَلُّ: شَرْطُهُ مِلْكِيَّةُ الزَّوْجِ قَبْلَهُ تَحْقِيقاً أَوْ تَعْلِيقاً، فَلَوْ قَالَ لأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ بَائِنٍ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقُ فَنَكَحَهَا فَدَخَلَتِ الدَّارَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَنْوِيَ: إِنْ نَكَحْتُكِ فَلَوْ قَالَ: إِنْ نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقُ؛ فَالْمَشْهُورُ اعْتِبَارُهُ، وتُطلَّقُ عَقِيبَهُ، ويَثْبُتُ نِصْفُ الصَّدَاقِ فَإِنْ دَخَلَ فَالْمُسَمَّى كَمَنْ وَطِئَ بَعْدَ الْحِنْثِ ولَمْ يَعْلَمْ، وقِيلَ: صَدَاقُ ونِصْفُ ورَوَى ابْنُ وَهْبٍ والْمَخْزُومِيُّ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ، وأَفْتَى بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ، وكَانَ أَبُو الْمَخْزُومِيِّ حَلَفَ بِهِ عَلَى أُمِّهِ .. هذا هو الركن الثاني، والمراد بـ (المحَلُّ) هو الزوجة، والضمير في (شَرْطُهُ) عائد على

المحل ويحتمل على بُعْد أن يعود على الطَّلاق المفهوم من الكلام، والضمير في (قَبْلَهُ) عائد على الطَّلاق. والتحقيق أن يكون مالكاً للعصمة قبل إنشاء الطلاق، والتعليق أن يطلق امرأته على تقدير نكاحه لها. فلأجل هذا الشرط لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، فلا شيء عليه لعدم ملك عصمتها تحقيقاً أو تعليقاً، إلا أن ينوي إن تزوجتك، فيلزمه لأنه قد ملك عصمتها تعليقاً. وفي قوله: (إِلا أَنْ يَنْوِيَ) دليل على أن الشرط يصح أن يلتزم قصداً دون لفظ. وقوله: (فَلَوْ قَالَ: إِنْ تزوجتك فَأَنْتِ طَالِقُ؛ فَالْمَشْهُورُ اعْتِبَارُهُ) هو مستفاد مما قبله، وإنما أعاده لإفادة الشاذ وليفرع على المشهور؛ يعني أن المشهور لزوم الطلاق المعلق. وروى ابن وهب والمخزومي عن مالك: أنه لا يلزمه، وبه قال ابن وهب ومحمد بن عبد الحكم. ابن بشير: ولم أر أحداً من أشياخي إلا ويختار هذا القول، وبعضهم يصرح بالفتوى، وبعضهم يقف كراهة مخالفة المشهور والمشهور يحكي في الموطأ عن عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وسالم والقاسم وابن شهاب، والشاذ قول الشافعي وجماعة. قال في الاستذكار: وروي على نحو هذا القول أحاديث، إلا أنها عند أهل الحديث معلولة ومنهم من يصحح بعضها. قال: وأحسنها ما خرج قاسم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا من بعد نكاح أنثى" وروى أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا طلاق إلا فيما تملك ولا بيع إلا فيما تملك ولا وفاء بنذر فيما لا تملك" البخاري: وهو أصح شيء في الطلاق قبل النكاح. وأجيب عنهما بأنا تقول بموجبهما لأن الذي دل عليه الحديثان إنما هو انتفاء وقوع الطلاق قبل النكاح، ونحن نقول به.

ومحل النزاع إنما هو التزام الطلاق ثم فرع المصنف على المشهور بقوله: (وتُطلَّقُ عَقِيبَهُ) أي ولا يفتقر إلى حكم. (ويَثْبُتُ نِصْفُ الصَّدَاقِ) لأنه طلاق قبل البناء والمذهب أنه يباح له زواجها، وبعض الفقهاء يمنعه، لأن ما لا يترتب عليه مقصده لا يشرع، وجوابه أن فائدته تحصل فيما بعد ذلك لأنها إذا طلقت عليه الآن ثم تزوجها لم يلزمه شيء، إلا أن يكون لفظه مقتضياً للتكرار، وإن بنى فالمشهور أنه يلزمه المسمى فقط، إن كان هناك مسمى وإلا فصداق المثل. وقوله: (كَمَنْ وَطِئَ بَعْدَ الْحِنْثِ ولَمْ يَعْلَمْ) أي فليس عليه إلا صداق واحد، وقيل: صداق ونصف. ابن عبد السلام: هو قول ابن نافع، وظاهره أنه أوجب لها صداقاً كاملاً من نسبة النصف والقياس أنه يجب لها نصف المسمى ثم يلزمه الأكثر من صداق المثل أو المسمى لأنه إذا كان صداق المثل أكثر فقد قدم على وطء فاسد فيجب عليه قيمته، وإن كان المسمى أكثر فيلزمه لأنه أقدم على الوطء راضياً بالمسمى، وألزم ابن المواز هذا القائل أن يقول في كل وطأة مهراً. فرع: لو أتى في لفظه بما يقتضي التكرار، فقال قبل النكاح: كلما تزوجت فلانة فهي طالق، فظاهر كلام ابن المواز أنه يلزمه نصف الصداق ولو بعد ثلاث تطليقات. وقال التونسي وعبد الحميد وغيرهما: الصواب أن لا شيء عليه بعد الثلاث قوله: (وأَفْتَى بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ) أي بالشاذ، ونص ما نقله أبو محمد في هذه الرواية وروى أبو زيد عن ابن القاسم في رجل تزوج امرأة حلف بطلاقها إن تزوجها، هل يفسخ نكاحه؟ فكتب إليه: لا يفسخ، وقد أجازه ابن المسيب، ولا يؤخذ من كلام المصنف أن فتوى ابن القاسم إنما هي بعد الفسخ لاحتمال أن يحمل كلامه على أنه أفتى بالجواز ابتداءً، وليس

[351/ ب] ما رواه ابن وهب كما أفتى به ابن القاسم ويتبين لك ذلك بكلام الباجي فإنه قال: وقد روى ابن وهب عن مالك أنه أفتى رجلاً حلف إن تزوج فلانة فهي طالق أنه لا شيء عليه إن تزوجها ثم قال: وليست هذه الرواية بالمشهورة، والمشهور رواية أبي زيد عن ابن القاسم أنه لا يفسخ إن وقع. وقد صرح غيره أيضاً بأن قول ابن القاسم مخالفاً لرواية ابن وهب وأن في المسألة ثلاثة أقوال. وفي البيان: المشهور أنه يفسخ وإن دخل ولا يراعى الاختلاف في هذه، ومراعاته شذوذ في المذهب وإنما الاختلاف المشهور المراعى في الميراث والطلاق والعدة، فقيل: أنهما لا يتوارثان إن مات أحدهما قبل أن يعثر عليه، وإن كان هو الميت لم تلزمها عدة إلا أن يدخل فتعتد بثلاث حيض وهو قول مالك في الموازية واختيار ابن القاسم في سماع عيسى ودليل المدونة على هذا لا يكون الفسخ طلاقاً ولا يلزمه ما طلق قبل أن يعثر عليه. وقيل: إنهما يتوارثان إن مات أحدهما قبل الفسخ ويلزمه ما طلق قبل أن يعثر عليه، وإن مات هو اعتدت أربعة أشهر وعشراً، ويكون الفسخ فيه طلاقاً ويكون لها نصف الصداق إن فرق بينهما قبل الدخول، وإنما يراعى الاختلاف في وجوب الحد ولحوق النسب فيدرأ فيه الحد ويلحق فيه النسب على المشهور من المذهب. وشذ ابن حبيب فلم يراعي الاختلاف في ذلك وأوجب الحد وأسقط النسب إذا كان الذي فعل ذلك عالماً غير جاهل. ونص ابن بشير على أن المشهور فسخ هذا النكاح. وزعم ابن عبد السلام: أن ما تقدم من كلام الباجي مخالف لكلام ابن رشد. خليل: وقد يقال لا مخالفة بين كلاميهما لأن الباجي إنما شهر الرواية بعدم الفسخ بالنسبة إلى الرواية بالجواز ابتداءً وهو بين من كلام الباجي، وإنما تقع المخالفة لو قال الباجي

المشهور من المذهب أنه لا يفسخ، فانظره فإن قلت قد حكى ابن عبد السلام عن الباجي أنه قال: المشهور من المذهب أنه لا يفسخ، قيل: ليست حكايته بظاهرة ولفظه كما تقدم. وَعَلَى الْمَشْهُورِ- لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْحَرَجِ أي: إذا فرعنا على المشهور من لزوم الطلاق لمن قال لامرأة معينة: إن تزوجتك فأنت طالق، فلو عمم في يمينه وقال: كل امرأة أتزوجها طالق، فلا شيء عليه. والفرق أن هنا إلزامه اليمين حرجاً وربما أدى ذلك إلى العنت ولم يلزموه اليمين وإن كان أبقى لنفسه التسري إما لأن التسري لا يقدر عليه كل واحد، وإما لأن الزوجة أضبط لمال الرجل وولده من السرية. ابن بشير: وقد أخذ اللزوم في مسألة العموم من القائل: كل بكر أتزوجها طالق، ثم قال: وكل ثيب أتزوجها طالق، وليس بظاهر لأنه ليس من عمم أولاً كمن آلت يمينه إلى التعميم. ونقل ابن بزيزة قولاً باللزوم إذا عمم ومقتضاه أنه منصوص. وَلَوْ أَبْقَى لِنَفْسِهِ شَيْئاً كَثِيراً فَذَكَرَ جِنْساً أَوْ بَلَداً أَوْ زَمَاناً يَبْلُغُهُ عُمرُهُ ظَاهِراً لَزِمَهُ إِلا فِي مَنْ تَحْتَهُ إلا إذا طَلَّقَها ثُمَّ تَزَوْجَها .. يعني: فإن لم يعمم بل أبقى لنفسه شيئاً كثيراً كما لو التزم طلاق جنس كالسودان أو الترك أو البيض أو طلاق من تزوجها من بلد كالإسكندرية مثلاً، لو التزم ذلك باعتبار زمان مقيد كسنتين وهو مراده بقوله: (يَبْلُغُهُ عُمرُهُ ظَاهِراً) أي يبلغ ذلك الزمان في ظاهر الحال، واحترز بذلك مما لو قال: إلى مائتي سنة، أو ما يعلم أنه لا يعيش إليه، لأنه لا يلزمه شيء صرح بذلك في المدونة، وروى ابن حبيب عن ابن الماجشون في من قال: كل امرأة أتزوجها إلى عشر سنين أو عشرين سنة إن كان ممن يشبه أن يعيش إلى مثل ذلك لزمه، وإلا لم يلزمه.

ابن الماجشون: ويعمر في هذا تسعين عاماً، ونقل ابن بشير في من ضرب أجلاً لا يبلغه إلا في حال الهرم والشيخوخة قولين: أحدهما: لا يلزمه لوجود الحرج، والثاني: أنه يلزمه، لأنه أبقى لنفسه زماناً. ووقع لمالك في غلام عمره عشرون سنة حلف في سنة ستين ومائة أن كل امرأة يتزوجها إلى سنة مائتين طالق أن اليمين لازمة له. اللخمي: والقياس في هذا لا شيء عليه؛ لأنه قد عمم المعترك من العمر وأوان الشبيبة والوقت الذي يحتاج فيه إلى الاستمتاع ولم يبق إلا موت أو قلة حركة، ورأى اللزوم إذا قال إلى ثلاثين سنة أو عشرين وهو ابن عشرين لأنه أبقى لنفسه زمناً يحتاج فيه إلى ذلك، وعدم اللزوم إذا قال إلى أربعين سنة، قال: واختلف إذا كان الأجل حياة فلان، فقيل يلزمه، لإمكان أن يموت فلان قبله، وقال في كتاب ابن شعبان: لا شيء عليه. يريد لإمكان أن يموت هو قبل فلان فيكون كمن عمم جميع الأزمنة. ابن عبد السلام: وكلام اللخمي صحيح لو كان المعتبر عند أهل المذهب إنما هو الجماع ولم يعتبروه؛ ألا ترى أنه لم يلزمه الطلاق في كل امرأة وإن كان أبقى لنفسه التسري. واعلم أنه إذا علق المنع ببلد كالإسكندرية، فتارة يقول: لا أتزوج من الإسكندرية؛ وتارة يقول: لا أتزوج بالإسكندرية، فأما الأول فيلزمه سواء كانت بإسكندرية أم بغيرها نص عليه في المدونة محمد في المصرية. محمد: ولو حلف لا يتزوج مصرية فلا بأس أن يتزوج بمصر غير مصرية. اللخمي: يريد ما لم يطل مقامها وتصير على طباعهم وسيرتهم. الباجي: وإن حلف أن لا يتزوج من أهل مصر فتزوج امرأة أبوها مصري وأمها [352/ أ] شامية فقال ابن أبي حازم: يحنث، والأم تبع للأب.

وأما الثاني فقال الباجي: إن نواها وعلمها لزمه ذلك، وإن نواها خاصة فقال ابن حبيب عن ابن كنانة وابن الماجشون وأصبغ: يلزمه في من على مسافة الجمعة، قالوا وإن لم ينو شيئاً لزمهفي من على مسافة القصر ثمانية وأربعين ميلاً. وقال ابن القاسم: استحسن أن يتباعد إلى حيث لا تلزمه الجمعة. أصبغ: والقياس أن يتباعد إلى حيث يقصر الصلاة إذا خرج في ظعنه ولا يتم في الصلاة إذا قدم. والأول استحسان ولو تزوج في الموضع الذي إذا برز إليه لم يقصر حتى يجاوزه لم أفسخه، وروى ابن سحنون عن أبيه في الحالف ألا يتزوج من قرطبة لا يلزمه إلا في قرطبة وأرباطها، ولو قال: بالغير وإن لم يلزمه إلا في المدينة نفسها ولو تزوج من منزل العلويين لم يلزمه شيء. وجه الأول: أن من حلف ألا يتزوج من الإسكندرية فقد حلف ألا يتزوج امرأة بموضع يقع عليه هذا الاسم وفي حكم ما يقع عليه، فإذا لم ينو شيئاً لزمه في كل من تلزمه الجمعة، لأنه في حكمها. وقد قال أصبغ: أن ذلك على وجه التحري، ومن تزوج من موضع تقصر فيه الصلاة لم أفسخه، ووجه قول سحنون: أن الاسم إنما يتناول المصر وأرباطه المتصلة إليه. ومن حلف بطلاق من يتزوجها من المدينة، فقال ابن القاسم في العتبية: لا بأس أن يواعدها بالمدينة ويعقد نكاحها بغيرها. انتهى بمعناه. وقوله: (إِلا فِي مَنْ تَحْتَهُ) استثناء من اللزوم، أي فإنه يلزمه الطلاق في كل امرأة من البلد أو الجنس الذي قد التزم فيه الطلاق إلا المرأة التي تحته فإنه لا يلزمه طلاقها لأن قوله: (أتزوجها) يقتضي الاستقبال وقوله: (إلا إذا تزوجها) أي أن هذه التي تحته إذا قلنا

أنه لا يلزمه فيها طلاق فإنما ذلك ما دامت تحته، فأما إذا أبانها ثم تزوجها فإنها تطلق عليه كما لو تزوج من ذلك الجنس ممن لم يتقدم له عليها نكاح. فَلَوْ أَبْقَى قَلِيلاً فَقَوْلانِ يعني: فلو لم يعم النساء وأبقى جنساً (قليلاً) أو بلدة صغيرة أو قبيلة صغيرة. (فَقَوْلانِ) أحدهما: اللزوم لكونه لم يعم. والثاني- وهو مذهب المدونة-: نفى اللزوم، ففيها: وإن قال: إلا من قرية كذا- لقرية صغيرة ليس فيها ما يتزوج، أو قال: إلا من فلانة، وهي ذات زوج أم لا، أو قال: إن لم أتزوج فلانة فكل امرأة أتزوجها طالق، فلا شيء عليه في ذلك وسبب الخلاف الشهادة بوجود الحرج ونفيه. وأنكر ابن عبدوس تسويته في المدونة بين المسألتين، ورأى أن الأولى أي: كل امرأة أتزوجها إلا فلانة، فيها الحرج والتضييق، لأنه لا يقدر أن يتزوج غير فلانة لا قبلها ولا بعدها بخلاف الثانية أي: إن لم أتزوج فلانة فكل امرأة أتزوجها طالق، فإنه لا كبير حرج فيها لأنه قادر على أن يتزوجها أولاً ثم يتزوج بعدها ما أحب، فصار كمن صرح في يمينه بطلاق من يتزوج قبل فلانة أو قبل دخول الدار، ولا شك في لزوم ذلك، وقد يقال لما علق طلاق هذه على عدم زواجها وقد لا ترضى صار كمن عمم. فرع: أشهب في العتبية إن قال: كل امرأة أتزوجها تفويضاً فهي طالق لزمه، ولو قال: كل امرأة أتزوجها إلا تفويضاً لم يلزمه لأن التفويض غير مقدور ولا مرجو. وَعَلَى اللُّزُومِ فَفِي إِبْقَاءٍ واحِدِةٍ قَوْلانِ أي: إذا فرعنا على المشهور من عدم اللزوم إذا بقي قليلاً فمن باب الأولى لا يلزمه إذا أبقى واحدة، وإذا فرعنا على اللزوم فهل يلزمه في الواحدة؟ قولان، وزاد ابن بشير وابن

شاس قولاً ثالثاً، وهو نفي اللزوم ما دامت متزوجة ولزمه أو إذا تزوجت، ولزومه إن لم تكن متزوجة. وَلَوْ خَشِيَ الْعَنَتَ فِي التَّاجِيلِ، وتَعَذَّرَ التَّسَرِّي نَكَحَ ولا شَيْءَ عَلَيْهِ يعني: إذا ضرب أجلاً يبلغه ظاهراً وألزمناه اليمين فخشي العنت، وتعذر عليه التسري يريد أو لم يعفه تزوج ولا شيء عليه، وهكذا في المدونة، ابن القاسم لأن نكاحه خير من الزنا. قال: وقد أجاز هذا النكاح سعيد بن المسيب وغيره. ابن القاسم في الموازية: ولا حد لمقدار ما يعذر فيه ولا شك أن عشرين سنة كثير ويتزوج. أصبغ بعد تصبر وتعفف، وقال أشهب وابن وهب: لا يتزوج وإن خاف العنت في الثلاثين سنة وقال مالك: يتزوج فيها إن خاف العنت. والعجب من ابن عبد السلام كيف حكى عن أشهب وابن وهب ما ذكرناه وقال: ولم أر خلافاً في أن خشية العنت عذر. وانظر هل مرادهم بالعنت المشقة أو الزنا؟ وهو الظاهر كما قالوا في نكاح الأمة، وقول ابن القاسم: نكاحه خير من الزنا يدل عليه. وَلَوْ تَكَرَّرَ التَّزْوِيجُ فِي وَاحِدَةٍ تَكَرَّرَ الطَّلاقِ وإِلا لَمْ يَكُنْ حَرَجاً فِي كُلِّ امْرَأَةٍ يعني: حيث ألزمناه اليمين إما بأن خصص قبيلة أو بلداً أو نوعاً فإنه إذا تزوج امرأة مما التزمه لزمه الطلاق، وكذلك ولو بعد زوج، وهكذا بخلاف ما لو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ولم يأت في لفظه بأداة تقتضي التكرار، فإنه لا يلزمه إلا الطلاق أول مرة. وقرر المصنف التكرار فإنه لو لم يتكرر لم يكن حرجاً في قوله: (كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقُ) لأنه حينئذ يمكنه أن يعقد النكاح على امرأة فتطلق عليه بمقتضى يمينه ثم يكون له أن يتزوجها وكانت اليمين تلزمه، وقد تقدم أنه لا يلزمه.

وَلَوْ قَالَ: كُلُّ بِكْرٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقُ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ ثَيِّبٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقُ، فَثَالِثُهَا: يَلْزَمُهُ الأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي .. من نظر إلى لزوم التعميم قال: بعدم اللزوم، وهذا القول حكاه جماعة واختاره اللخمي. ومن نظر [352/ ب] إلى الخصوص قال: باللزوم وهو مروي عن مالك وابن وهب. والثالث لابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وابن كنانة وأصبغ وسحنون وابن المواز وغيرهم. ابن بشير وابن راشد: وهو الجاري على المشهور. ابن عبد البر وغيره: وهو أصح؛ لدوران الحرج مع الثانية وجوداً وعدماً، ولا وجه لعدم لزوم اليمين الأول وانحلالها بعد انعقادها. فرعان: الأول: قال ابن القاسم في العتبية في الحر يقول: كل حرة أتزوجها فهي طالق يلزمه وله نكاح الإماء، وقاله ابن حبيب قال: لأنه أبقى الإماء وهو بيمينه كعادم الطول. وقال محمد: لا يلزمه إن كان ملياً، قيل: والأول المشهور. ابن القاسم: وإن قال كل امرأة أتزوجها من أرض الإسلام طالق إن كان يقدر على التزويج من أرض الشرك وإخراجها لزمته اليمين وإلا فلا. وخالف أصبغ كمن استثنى قرية صغيرة. الثاني: في الموازية: لو قال كل امرأة أتزوجها حتى انظر إليها طالق فعمى رجوت ألا شيء عليه، وكذلك حتى ينظر إليها فلان فمات فلان. محمد: وإن مات من استثنى نظره فلا يتزوج حتى يخشى العنت ولا يجد ما يبتاع به أمة. وقال: مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الذي قال: حتى أراها له أن يتزوج من كان رآها قبل العمى، واليمين عليه قائمة فيمن لم يكن رآها.

وَلَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ، والْحَقُّ، أَنْ يُوقَفَ عَنِ الأُولَى حَتَّى يَنْكِحَ ثَانِيَةً فَتَحِلُّ لَهُ الأُولَى، ثُمَّ يُوقَفُ عَنِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، وهُوَ فِي الْمَوْقُوفَةِ كَالْمُولي .. اللخمي: وإن قال: أول امرأة أتزوجها طالق لزمه، لأنه أبقى ما بعد الأولى ثم لا يحنث فيها ولا في غيرها. واختلف إذا قال: آخر امرأة أتزوج بها طالق، فقال ابن المواز: لا شيء عليه، قال في العتبية: وهو مثل من حرم جميع النساء لأنه كلما تزوج امرأة فرق بينه وبينها، ولعل تلك المرأة آخر امرأة يتزوجها فلا تستقر معه امرأة. وقال محمد وسحنون: يلزمه ذلك ويوقف عنها خوف أن لا يتزوج غيرها، فإن تزوج غيرها حلت الأولى ويوقف عن الثانية، فإن تزوج ثالثة وقف عنها وحلت الثانية. اللخمي: والصواب لا شيء عليه في الأولى لأنه لما قال: آخر امرأة علمنا أنه جعل لنكاحه أولاً لم يرده باليمين، وبالثاني قال ابن الماجشون أيضاً. وجزم المصنف بأنه الحق لأنه لما التزم طلاق الأخيرة ولسنا على يقين إذا تزوج واحدة أنها الأخيرة فصار شكاً مقدوراً على تحقيقه، وما كان كذلك فإنه يوقف مثل: إن لم أدخل الدار فأنت طالق. ابن راشد: وما قاله ابن القاسم أصوب لأنا إذا قلنا باللزوم ولم يصح له أن يعقد لأنه ممنوع من الوطء إثر العقد حتى يتزوج أخرى، على ما قاله ابن الماجشون وغيره. والمقصود بالعقد الوطء، إذا امتنع لم يترتب على العقد مقصوده فلا يشرع، ولما أبحنا له العقد وجب أن يباح له الوطء. قوله: (وهُوَ فِي الْمَوْقُوفَةِ كَالْمُولي) هو تفريع على القول الثاني.

محمد: والأجل من يوم الرفع. ابن الماجشون مفرعاً على قوله: فإن تزوج امرأة فماتت وقف ميراثه منها حتى يتزوج ثانية فيأخذه أو يموت قبل أن يتزوج فيرد إلى ورثتها، وإذا طلق عليه بالإيلاء فلا رجعة له، لأنه لم يبن بها. وقوله: (وهُوَ فِي الْمَوْقُوفَةِ كَالْمُولي) مقتضى اللسان إظهار الفاعل فيقال وهو في الموقوفة عنها، لأن الوقف إنما هو من وصف الرجل لا المرأة ألا ترى إلى قوله: (والْحَقُّ، أَنْ يُوقَفَ عَنِ الأُولَى) وقوله: (ثُمَّ يُوقَفُ عَنِ الثَّانِيَةِ). خليل: وقد يجاب عنه بأنه إذا وقف عنها فهي أيضاً موقوفة عنه فليس من باب جريان الصفة على غير من هي له فانظره. وإن قال: آخر ما أتزوج إلا واحدة طالق، يريد تطليق التي تلي الأخيرة، فإن تزوج وقف عنها وعن الأولى إذ لا يدري ما تلي الأخيرة منهما، فإن مات فالأولى المطلقة وإن تزوج حلت له الأولى، ثم إن مات فالثانية المطلقة ثم كذلك. وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ غَيْرِهَا طَالِقُ فَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِهَا أَوَّلاً تَنَجَّزَ الطَّلاق عَلَى الْمَشْهُورِ وقيل: بنَاءً عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنى المولي مِنْ غَيْرِهَا أَوْ تَعْلِيقِ مُحَقَّقٍ .. َ اختلف في قول القائل: إن لم أتزوج من المدينة فكل امرأة أتزوجها طالق فحمله في المشهور على أن معناه التزام طلاق من ليست من المدينة وكأنه قال كل امرأة أتزوجها من غير المدينة طالق لأنه الذي يقصد في العرف، إذ المقصود عرفاً الرغبة في نساء المدينة، والتزام طلاق غيرها. وحمله سحنون على ظاهره لغة من التعليق، وهو التزام طلاق من يتزوج من غير المدينة بشرط أن لا يتزوج من المدينة.

سحنون: ويوقف عن التي تزوج من غير المدينة حتى يتزوج من المدينة، بمنزلة قول القائل: إن لم أتزوج من المدينة فامرأتي طالق، وعلى ما قررنا فيكون المشهور إلزام الطلاق في غيرم ن تزوج من غير المدينة سواء تزوج من المدينة قبلها أو بعدها، وكذلك يؤخذ من الجواهر. ابن راشد: وهو الذي يفهم من المدونة لأنه سوى بين ذلك وبين قوله: كل امرأة أتزوجها من غير الفسطاط طالق، وكلام اللخمي يدل على أنه إنما يلزمه الطلاق إذا تزوج من غير المدينة قبل أن يتزوج منها لأنه قال: وقول ابن القاسم أشبه، لأن قصد الحالف في مثل هذا أن كل امرأة يتزوجها قبل أن يتزوج من الفسطاط طالق. وقاله ابن محرز أيضاً، [353/ أ] إلا أنه رده بأن ظاهر المدونة تسويته بين هذه المسألة وبين قوله: كل امرأة أتزوجها من غير الفسطاط طالق، كما ذكرنا وظاهر قول المصنف أولاً يوافق كلام اللخمي لكن قوله: في البناء بناء على أنه بمعنى المولي من غيرها يرده. والله أعلم. والْمُعْتَبَرُ فِي الْوِلايَةِ حَالُ النُّفُوذِ فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقُ ثَلاثاً ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ لَمْ يَقَعْ شَيْءُ .. يعني: الولاية على المحل الذي يلتزم فيه الطلاق، إنما يعتبر وقت وقوع المحلوف عليه لا وقت الحلف، فإن كانت المرأة زوجته وقت وقوع المحلوف عليه لزمه الطلاق. ابن عبد السلام: وإلا فلا، فلذلك لو قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثاً ثم أبانها ودخلت، لم يقع عليه الطلاق لأنها حال وقوع المحلوف عليه لم تكن زوجة. فَلَوْ نَكَحَهَا فَدَخَلَتْ أَوْ أَكَلَتْ بَقِيَّةَ الرَّغِيفِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وقَدْ بَقِيَ شَيْءُ وَقَعَ- تَزَوَّجَتْ أَو لا- بِخِلافِ مَا لَوْ نُكِحَتْ بَعْدَ الثَّلاثِ لأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي علَّقَ فِيهِ قَدْ ذَهَبَ وكَذَلِكَ الظَّهَارُ .. يعني (فَلَوْ) تزوجها بعد أن أبانها (فَدَخَلَتْ) الدار (أَوْ أَكَلَتْ بَقِيَّةَ الرَّغِيفِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ) إن كانت يمينه أولاً على ترك أكله لزمه ما حلف به وسواء (تَزَوَّجَتْ)

غيره في الزمان الذي كانت بائنة فيه (أَو لا) لأن نكاح الأجنبي عندنا لا يهدم الطلاق السابق قبله، وإذا راجعها الزوج ترجع عنده على بقية الطلاق وقوله: (بِخِلافِ مَا لَوْ نُكِحَتْ بَعْدَ الثَّلاثِ) يعني ثم تزوجها فإنه لم يبق له مما علقه قبل ذلك شيء. (لأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي علَّقَ فِيهِ قَدْ ذَهَبَ) ورجعت بملك مستأنف، وحاصل كلامه – وهو المذهب- أن اليمين تلزمه ما بقي من العصمة الأولى شيء. قوله: (وكَذَلِكَ الظَّهَارُ) أي: إذا قال لها إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، فأبانها فدخلت لم يلزمه ظهار، فإن راجعها فدخلت لزمه إلا أن يكون قد طلقها ثلاثاً فلا تعود عليه اليمين. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةِ أَتَزَوَّجُهَا عَلَيْكِ فَهِيَ طَالِقُ؛ اخْتَصَّ بِالْمِلْكِ الَّذِي علَّقَ فِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ .. يعني إن قال لامرأته: (كُلُّ امْرَأَةِ أَتَزَوَّجُهَا عَلَيْكِ فَهِيَ طَالِقُ) ثم طلق امرأته ثلاثاً ثم تزوجها بعد زوج ثم تزوج عليها فلا شيء عليه، نص على ذلك في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة ورأى كما قال المصنف أن هذا الالتزام اختص بالملك الذي علق فيه المحلوف بها وأنكر ذلك ابن المواز وابن حبيب وغيرهما. ورأوا أن المذهب ما في كتاب الإيلاء أن الاختصاص بالملك إنما يكون في المحلوف بطلاقها مثل المسألة التي قبل هذه وأما المحلوف لها أو عليها فإن اليمين منعقدة عليه في الإيلاء: ومن قال: زينب طالق ثلاثاً أو واحدة إن وطئت عزة؛ فطلق زينب واحدة، فإن انقضت عدتها فله وطء عزة، ثم إن تزوج زينب بعد زوج أو قبله عاد موليا في عزة، وإن وطئ عزة بعد ذلك أو وطئها في عدة زينب من طلاق واحد حنث ووقع على زينب ما ذكر من الطلاق، ولو طلق زينب ثلاثاً ثم تزوجها بعد زوج لم يعد عليه في عزة إيلاء لزوال طلاق ذلك الملك، ولو طلق عزة ثلاثاً ثم تزوجها بعد زوج وزينب عنده عاد

مؤلياً في عزة ما بقي من طلاق زينب شيء كمن آلى وظاهر ثم طلق ثلاثاً ثم تزوجها بعد زوج، فذلك يعود عليه أبداً. فأنت تراه كيف لم يفرق في عزة المحلوف عليها بين أن يتزوجها بعد الثلاث أم لا. ابن عبد السلام: والحاصل أن مذهب الجمهور هو الذي ذكر المؤلف أنه الشاذ، وأن الذي وقع في كتاب الأيمان بالطلاق لم يقل به أحد. وَفِيهَا: ولَوْ طَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طُلِّقَتِ الأَجْنَبِيَّةُ ولا حُجَّةَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا عَلَيْهَا ولَوِ ادَّعَى نِيَّةً لأَنَّ قَصْدَهُ أَلا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا .. هذه المسألة متصلة في المدونة بمسألة كتاب الأيمان بالطلاق التي فرع المصنف منها ونصها: وأما إن طلق المحلوف لها وانقضت عدتها ثم تزوجها، ثم تزوج عليها أجنبية، أو تزوج الأجنبية ثم تزوجها فإن الأجنبية تطلق عليه في الوجهين ما بقي من طلاق الملك الأول شيء، ولا حجة له إن قال: إنما تزوجتها على غيرها ولم أنكح غيرها عليها ولا أنويه؛ ادعى نية ذلك لأن قصده ألا يجمع بينها. وخالف أشهب إذا ابتدأ بنكاح الأجنبية ثم راجع مطلقته بعدها وقال: لا شيء عليه لأنه لم ينكح عليها، وراعى اللفظ ولم يعتبر ما قاله في المدونة من قصد الجمع. وقال مطرف: إن كان شرطاً في أصل العقد فكالمدونة وإن كان طوعاً فله نيته هكذا نقل ابن عبد السلام وغيره. وفي المتيطية: إن كان الشرط على الطوع قبلت نيته قاله ابن القاسم، وإن انعقد ذلك على الشرط في أصل النكاح، فقال المغيرة: لا تعود اليمين عليه لأنه لم يتزوج عليها وأنما تزوج الثانية عليها. وروى مطرف وابن الماجشون: أنها تعود لأن نيته ألا يجمع بينهما.

وفي كلامه في المدونة نظر، لأن الحالف يقول: نويت ألا أتزوج عليها، ونحن نقول: بل قصدك ألا تجمع بينهما، وكذلك مخالفة له في قصده وليس بظاهر، وهذا للنظر إنما هو [353/ ب] إذا أجرينا المدونة على ظاهرها من العموم سواء قامت عليه بينة أو جاء مستفتياً، لصدق فلا إشكال. أبو الحسن: وقيل: إنما لم ينوه لأنه حالف للزوجة والحلف على نية المحلوف. فرع: قال في المدونة: وإن قال: كل امرأة أتزوجها ما عاشت فلانة طالق؛ لزمه، كانت فلانة تحته أم لا، فإن كانت تحته فطلقها فإن نوى ما عاشت ما دامت تحته فله أن يتزوج، فإن لم تكن له نية فلا يتزوج ما بقيت إلا أن يخشى العنت. وقوله: (فإن نوى فله أن يتزوج) أي وتقبل نيته في القضاء والفتوى. وفِي: إِنْ دَخَلْتَ فَأَنْتَ حُرُّ فَبَاعَهُ ثُمَّ مَلَكَهُ بِغَيْرِ إِرْثٍ. ثَالِثُهَا: إِنْ بَاعَهُ الْحَاكِمُ لِفَلَسٍ لَمْ يَعُدْ .. ليست هذه المسألة من هذا الباب وأتى بها المنصف لأنها تشبه مسألة الطلاق السابقة، يعني أن من حلف بحرية عبده على دخول الدار، إما على دخوله هو أو دخول العبد، فعلى هذا يصح أن تضبط التاء من قوله: (دَخَلْتَ)، بالفتح والضم، ثم باع العبد وملكه (بِغَيْرِ إِرْثٍ) يعني وإن ملكه بإرث لم تعد عليه اليمين بالاتفاق، وإنما اختلف إذا عاد إليه بأحد وجوه الملك إما بهبة أو شراء أو نحو ذلك، هل تعود عليه اليمين سواء باعه اختياراً أم لا؟ وإليه ذهب ابن القاسم. أو لا تعود عليه مطلقاً، وإليه ذهب ابن بكير، أو يفرق. فإن باعه اختياراً عادت عليه اليمين، وإن باعه السلطان عليه لم تعد عليه، وإليه ذهب أشهب.

والسؤال على قول ابن بكير لأنه سوى بين العتق والطلاق، وأما ابن القاسم فإنما أعاد اليمين للتهمة أي لاحتمال أن يكون إنما باعه قصداً لحل اليمين بخلاف الزوجة فإن أحداً لا يتهم فيها على ذلك. ولمراعاة التهمة، استحسن جماعة قول أشهب لعدم التهمة ببيع الحاكم فكان كالميراث. واختار المازري قول ابن بكير، لأنه اتفق على أن السيد لو دخل الدار والعبد مبيع قبل اشترائه أنه لا يحنث بذلك الدخول، ولو اشترى العبد بعد ذلك، وذلك لأن البيع الواقع اختياراً هو الموجب للتهمة عند من اتهمه، إما أن يقدر ناقلاً لملك العبد أولاً، فإن قدر الأول يلزم منه المطلوب، والثاني يلزم منه أن يعتق عليه العبد بالشراء لأنه دخل في حين كان يملك فيه العبد وإنما منع فيه من تنجيز العتق حق المشتري وقد زال. واختار ابن المواز قول ابن القاسم. والله أعلم. وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ: إِنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقُ ثَلاثاً ثُمَّ عُتِقَ فَدَخَلَتْ طُلِّقَتْ ثَلاثاً، ولَوْ قَالَ: اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ وَاحِدَةُ .. لأن المعتبر في الولاية حال النفوذ لا حال التعليق، وهو حال النفوذ مالك للثلاث لأنه حر. وَلَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً ثُمَّ عُتِقَ بَقِيَتْ وَاحِدَةُ لأَنَّهُ طَلَّقَ النِّصْفَ تصوره ظاهر، وشبه ذلك في الموازية فمن ذهبت له طلقة ونصف طلقة، قال ابن القاسم: ولو طلق العبد طلقتين ثم ثبت أنه عتق قبل الطلاق فله الرجعة. وَلَوْ عَلَّقَ طَلاقَ زَوْجَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ لأَبِيهِ عَلَى مَوْتِ أَبِيهِ لَمْ يَنْفُذْ يعني: إذا تزوج أمة أبيه، وقال لها: إن مات أبي فأنت طالق، لم ينفذ الطلاق، لأنه بموت أبيه يملكها فيفسخ النكاح فلا تصير زوجة فيعدم محل الطلاق.

الْقَصْدُ: ولا أَثَرَ لِسَبْقِ اللِّسَانِ فِي الْفَتْوَى هذا هو الركن الثالث، ومعنى (سَبْقِ اللِّسَانِ) أنه أراد أن يلفظ بغير الطلاق فزل لسانه فتلفظ به. وقوله: (فِي الْفَتْوَى) أي إذا جاء مستفتياً احترازاً مما لو رفع إلى الحاكم وقامت عليه البينة وأقر؛ فإنه يلزمه الطلاق وقيد ذلك بعضهم بأن الشهود إذا فهموا من قرينة الحال صدقه وأنه أراد أن يتكلم بغير الطلاق فزل لسانه أنه ينفعه ذلك، وهو ظاهر، ولمراعاة القصد قال مالك في الموازية: ومن اعتذر في شيء سئل فيه بأنه حلف بالطلاق أو العتق ولم يحلف لا شيء عليه في الفتوى. وقال: ومن حكى للناس يمين بالبتة، فقال: امرأتي طالق البتة وإنما أراد أن يقول: قال فلان، فإن ذكر في ذلك مستفتياً نسقاً لم يقطعه فلا شيء عليه. وفي العتبية: في امرأة كتبت إلى أبيها ليزورها فأبى، فقالت لزوجها: اكتب إليه أنك طلقتني لعله يأتي، فكتب بذلك إليه، ولم يرد طلاقاً قال: إن صح ذلك وجاء مستفتياً فلا شيء عليه. قال في الموازية: وإن أقيم عليه بخطه وشهد عليه لم ينفعه ما يدعي إلا أن تشهد قبل أن يكتب بالذي أراد فلا شيء عليه، فإن لم يكن أشهد وصدقته الزوجة فأرى أن يستحلف إن كان مأموناً قال في العتبية: إن قالت أردت خديعته بذلك وأردت الطلاق، وأنكر هو ذلك وقد علم ما ذكر من شأنها لا شيء عليه وإن لم يكن إلا قوله وقد ظهر كتابه وثبت عليه لزمه الطلاق، قيل: كم؟ قال: ينوى وتكون واحدة. أبو محمد: انظر قوله ينوى وأعرف لأشهب نظيرها: يحلف أنه لم يرد طلاقاً وتكون واحدة.

وفي الموازية ما يوهم إلغاء القصد إذ فيها في من قال لامرأته: قد كنت طلقتك البتة، ولعبده قد كنت أعتقتك ولم يكن فعل ذلك، قال أبو الزناد: أما في الفتوى فلا شيء عليه، وقال مالك: ذلك يلزمه، كمن قال: أنت طالق. أو قال: أنت حر لا يريد طلاقاً ولا عتقاً، وقال ربيعة وابن شهاب. ربيعة: إلا أن يأتي بعذر بين له وجه. فقول أبو الزناد ظاهر، وقول مالك يوهم عدم اعتبار القصد، إلا أن يتأول على أنه في معنى طلاق الهازل وإعتاقه وفي اللخمي [354/ أ] قال مالك في من قال أنت طالق فزل لسانه، فقال البتة، قال: هي ثلاث. فألزم الطلاق باللفظ من غير نية وقال سحنون: لا شيء عليه في ذلك، وهو أحسن. انتهى. فحمل قول سحنون على الخلاف وسياقه في التهذيب يدل على خلاف ذلك ولفظه: وإن قال لزوجته أنت طالق البتة، وقال: والله ما أردت بقولي البتة، وإنما أردت واحدة فزل لساني فلفظت بالبتة فهي ثلاث. سحنون: وهذا الذي قال البتة قد كانت عليه بينة فلذلك لم ينوه مالك. عياض: وقد اختلف ابن نافع وغيره عن مالك في قبول قوله في الفتوى، ويتخرج من هذه المسألة وأخواتها القولان اللذان حكاهما البغداديون في إلزامه بمجرد اللفظ دون النية على ما خرجه الشيوخ من الكتاب، فأما إلزامه الطلاق بمجرد اللفظ فمن إلزامه الطلاق في مسألة: أنت طالق وقال: أردت من وثاق ولا بينة عليه ولم يعذره وإن جاء مستفتياً. ومن قوله: يؤخذ الناس في الطلاق بألفاظهم ولا ينفعهم نياتهم، ومن الذي أراد واحدة فزل لسانه فقال البتة، ومن خلاف أهل المدينة في الذي قال لامرأته وهو يلاعبها: هو عليك حرام، ومن مسألة هزل الطلاق. انتهى. وإنما ذكرنا هذا لتعلم أن ما ذكره المصنف ليس متفقاً عليه، وأن قول ابن راشد: لا خلاف في المذهب إن قصد إنشاء الصيغة؛ شرط ليس بظاهر. والله أعلم.

ولا لِقَصْدِ لَفْظٍ يَظْهَرُ مِنْهُ غَيْرُ الطَّلاق كَقَوْلِهِ لمن اسْمُهَا طَالِقُ يَا طَالِقُ هو معطوف على قوله: (لسَبْق) أي: ولا أثر (لِقَصْدِ لَفْظٍ) وهو كلام ظاهر، قال في الجواهر: وإذا كان اسم زوجته طارق فقال: يا طالق، ثم قال: انفلت لساني قبل ذلك في الفتوى. وَلا أَثَرَ لِلَّفْظِ يَجْهَلُ مَعْنَاهُ كَأَعْجَمِيِّ لُقِّنَ أَوْ عَرَبِيِّ لَقِّنَ أي (كَأَعْجَمِيِّ لُقِّنَ) الطلاق بالعربية (أَوْ عَرَبِيِّ لَقِّنَ) الطلاق بالعجمية، أما لو فهم معناه لزمه بلا إشكال. وَفِي الْهَزْلِ: فِي الطَّلاق، والنِّكَاحِ، والْعِتْقِ- ثَالِثُهَا: إِنْ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ لَمْ يَلْزَمْ يلحق بالثلاث الرجعة، والمشهور اللزوم لما في الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة" قال: وهو حسن غريب، والقول بعدم اللزوم في السليمانية لكن إنما ذكره في النكاح، والقول الثالث في كلام المصنف نقله ابن شاس عن اللخمي. ابن عبد السلام: والذي يحكيه غير واحد إنما هو قولان، وما ذكره من القول الثالث هو شرط قيام الدليل على عدم اللزوم يعدونه من تمام القول الثاني، لأن الهزل لا يثبت بمجرد الدعوى، لكن ذكر بعض المتأخرين أنه اختلف إذا قال: تزوجني وليتك؟ أو تبيعني سلعتك؟ فقال: قد بعتها من فلان أو زوجتها من فلان على أربعة أقوال: يلزم ولا يلزم، والفرق بين أن يدعي ذلك بأمر متقدم أو لا يدعيه إلا بذلك اللفظ والفرق، فيلزم في النكاح لا البيع. والقول الثالث: يشبه الثالث من كلام المصنف.

أَمَّا لَوْ قَالَ: يَا عَمْرَةُ فَأَجَابَتْهُ حَفْصَةُ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقُ يَحْسَبُهَا عَمْرَةَ- فَأَرْبَعَةُ نظيرتها إذا قال: يا ناصح فأجابه مرزوق، فقال: أنت حر. والأقوال الأربعة منصوصة في مسألة العتق والكلام في المسألتين واحد، والقول بعتقهما لأصبغ. والقول بعدم عتقهما حكاه ابن سحنون ولم يسم قائله. وقال أشهب يعتق المجيب في القضاء والفتوى ولا عتق للمدعو لأن الله حرمه العتق، وقال ابن القاسم: إن قامت عليه بينة عتقاً معاً، وإن لم تقم عليه بينة عتق المدعو، ولا يفهم هذا القول من كلام المصنف أربعة ولهذا يلقيها الطلبة في المعايات، فيقولون: ما مذهب ابن القاسم في من له عبد إن دعى أحدهما فأجابه الآخر فمن لا علم عنده بقوله يخطئ لأنه إن قال: يعتقان أو لا يعتقان أو يعتق المدعو والمجيب كان خطأ. ولا أَثَرَ لِطَلاقِ الإِكْرَاهِ كَنِكَاحِهِ وعِتْقِهِ وغَيْرِهِ، أَوْ الإِقْرَارُ بِهِ أَوِ اليَمِينُ عَلَيْهِ أَوِ الْفِعْلُ الَّذِي يَحْنَثُ فِيهِ بِهِ .. المذهب وهو مذهب الأكثر كما ذكر المصنف أن نكاح المكره وطلاقه لا يلزم. وقوله: (وغَيْرِهِ) أي غير ما ذكر من بيعه وسائر عقوده، وقوله: (أَوْ الإِقْرَارُ بِهِ) يعني أنه لا فرق بين أن يكره على إيقاع الطلاق أو على الإقرار أو على اليمين أو الحنث في يمين لزمت به، كل ذلك لا يلزمه. فروع: إن أكره على اليمين في ما هو معصية، أو ليس بطاعة ولا معصية لم تلزمه اليمين باتفاق، وحكاه في البيان: وإن أكره على يمين فيها طاعة مثل أن يأخذ الوالي من يشرب الخمر فيحلفه بالطلاق أن لا يشربها أو لا يفسق، أو لا يغش في عمله، أو لا يتلقى

الركبان، أو يحلف الوالد ولده على شيء من ذلك. فقال مطرف وابن حبيب: تلزمه اليمين، وقال ابن الماجشون وأصبغ: لا تلزمه. الثاني: لو أبان بعد أمنه ما طلقه في الإكراه فالذي رجع إليه سحنون اللزوم لاختلاف الناس في لزوم طلاق الإكراه، وكان يقول أولاً: لا يلزمه؛ لأنه لزم نفسه ما لم يلزمه. الثالث: قال ابن سحنون: أجمع أصحابنا على بطلان نكاح المكره، وكذلك نكاح المكرهة، ولا يجوز المقام عليه لأنه لم ينعقد، ولو انعقد لبطل لأنه نكاح فيه خيار. ابن سحنون: وفي قياس بعض مذهب مالك أن للمكره إمضاء ذلك النكاح إذا أمن، [354/ ب] وكذلك لأولياء المرأة المكرهة، وفي قياس بعض مذاهبهم: إنما تجوز إجازة المكره بحدثان ذلك. وَفِي حِنْثِهِ بِمِثْلِ تَقْوِيمِ جُزْءِ الْعَبْدِ فِي الِعْتِق- قَوْلانِ هذا كقوله في الجواهر: إذا حلف في نصف عبد لا باعه فأعتق شريكه نصفه. فأعتق عليه حنث إلا أن ينوي: إلا أن يغلب على بيعه، وقال المغيرة: لا حنث عليه، لأنه إنما أراد لا بعته طوعاً. ابن عبد السلام: والأول أصل المشهور وهو مذهب المدونة على ما أشار إليه في كتاب التخيير والتمليك، ومنشأ الخلاف: هل إكراه القاضي كغيره أم لا؟ ويمكن أن يبني ذلك على الخلاف في من حلف أن لا يبيع سلعة فبيعت عليه وأتلفت فأخذ قيمتها هل يحنث أم لا؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا الإِكْرَاهُ فِي الْقَوْلِ هذا القول عزاه في الجواهر لسحنون، وقال ابن عبد السلام: وقع لسحنون وعبد الملك أنه مقصور على القول ما لم يخف القتل لأنه لا تأثير له في المعاني والذوات، بخلاف الفعل فإنه يؤثر.

وقِيلَ: إِنْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ مَعَ مَعْرِفَتِهَا حَنِثَ حاصله في المسألة ثلاثة أقوال: المشهور، وقول سحنون، والقول الثالث: اللزوم إذا أمكنه أن يوري عن ذلك ويأتي بلفظ فيه إيهام على السامع فلم يفعل ذلك وأتى بلفظ صريح فإنه يحنث، وعده المصنف ثالثاً، وهو ظاهر كلام ابن شاس لقوله: ولا يقع طلاق المكره ولا يلزمه شيء. هذا مطلق الروايات، وقال بعض المتأخرين: الحكم كذلك إلا أن يترك التورية مع العلم بها والاعتراف بأنه لم يدهش بالإكراه، وكذلك قال ابن بشير: أن المذهب عدم التفصيل، وفصل في ذلك اللخمي والمذهب خلافه. انتهى. والظاهر أن كلام اللخمي تقييد لأنه قال: إن طلق المكره باللفظ دون النية لم يلزمه. والصحيح من المذهب فيمن وقع منه طلاق بغير نية أنه لا يلزمه وإن لم يكن مكرهاً فالمكره أولى. وإن نوى الطلاق وهو عالم ذاكر أن يجعله لفظاً بغير نية لزمه لأن النية لا تدخل تحت الإكراه وهو طائع بالنية وإن لم تكن متصلة عند الإكراه فيجعله نطقاً بغير نية أو كان يجهل إخراج النية لم يلزمه على الظاهر من المذهب. ويتَحَقَقُ الإِكْرَاهُ بِالتَّخْوِيفِ الْوَاضِحِ بِمَا يُؤْلِمُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ لِذِي مُرُوءَةٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ .. يعني: أن الإكراه الذي لا تلزم معه الأحكام (يتَحَقَقُ) حصوله (بِالتَّخْوِيفِ الْوَاضِحِ). (مِنْ قَتْلٍ) أي خوف قتل لا حصوله، لأنه لو حصل ذهبت النفس المكرهة، وإذا كان القتل مخوفاً لا واقعاً فالضرب والصفع المعطوفان عليه في كلام المصنف يكونان كذلك، وهو قريب من كلام اللخمي فإنه نص على أنه إذا هدد بقتل أو بقطع أو بقيد أن

ذلك إكراه، قال: واختلف في التهديد بالسجن، فأراه إكراهاً في ذوي الأقدار وليس إكراهاً في غيرهم إلا أن يسجن أو يهدد بطول المقام فيه. ابن محرز: ولا خلاف في المذهب فيما علمته أن الإكراه بما يلقى المكره نفسه إكراهاً ويرفع أحكام اليمين. وفي الواضحة قال مطرف وابن الماجشون وابن نافع وابن أبي أويس: من أكره على أن يحلف بيمين وهدد بضرب أو سجن وجاء من ذلك وعيد بين تقع فيه المخافة أو خاف ذلك، وإن لم يقف عليه مثل ما يفعلون في البيعة أو أشباهها لا يمين عليه وكأنه لم يحلف، ورواه مالك وأكبر أصحابه. وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وهو قول ابن القاسم وأشهب وكذلك في كتاب ابن سحنون أن التهديد بالضرب أو السجن أو القيد إكراه، وقول ابن عبد السلام أن ظاهر المنصوص في المذهب أن الإكراه إنما يكون بحصول الضرب والصفع لا بتحقق وقوعهما، ليس بظاهر. وقوله: (أَوْ صَفْعٍ لِذِي مُرُوءَةٍ) مقيد بما ذكره صاحب الجواهر وغيره بأن يكون في الملاء لا في الخلاء. واحترز بذي المروءة من غيره فإن الصفع في حقه ليس إكراهاً، وهذا كله إذا كان الإكراه على طلاق أو عتق أو ما أشبه ذلك، وأما إن أكره على أن يكفر بالله أو يشتم النبي صلى الله عليه وسلم أو يقذف مسلماً، فقال سحنون وغيره لا يسعه الإقدام على ذلك إلآ مع خوف القتل وحده قال: وله أن يصبر حتى يقتل ولا يفعل ذلك، وهو مأجور وهو أفضل له. سحنون وغيره من أصحابنا: أما لو أكره بوعيد بقتل أو قطع عضو أو بضرب يخاف منه تلف بعض أعضائه ولا يخاف منه تلف نفسه، أو بقيد أو بسحن على أن يفعل ما ذكره فإنه لا يسعه ذلك.

ابن عبد السلام: ووقع لسحنون أنه إذا أكره بما ذكرنا على أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر فإنه لا يجوز له شربه، والصحيح جواز شربه كما يجوز له شربه على الصحيح أيضاً عند الضرورة والغصص. وَفِي التَّخْوِيفِ بِقَتْلِ أَجْنَبِيِّ قَوْلانِ بِخِلافِ قَتْلِ الْولَدِ يعني: إذا طلب بإحضار أجنبي ليقتل فأنكر أن يكون عالماً به وأحلف على ذلك، أو يقال له: احلف وإلا قتلنا زيدا، فهل يعد ذلك إكراهاً أو لا؟ والقول بأنه تلزمه اليمين لمالك وابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ قالوا: ويؤجر إن حلف ويلزمه الحنث. والقول بأنه إكراه لأشهب. ابن بزيزة: وهو المشهور. قوله: (بِخِلافِ قَتْلِ الْولَدِ) مقتضاه أنه يتفق على أن قتل الولد إكراه، ونحوه في الجواهر فإنه قال: والتخويف بقتل الولد. واختلف في التخويف بقتل أجنبي ونحوه، ابن راشد: لأنه قال: أما [355/ أ] التخويف بقتل الولد، فلا يختلف أنه إكراه لأن ما ينزل بالنفوس من قتل الولد أشد مما ينزل بها من ألمها. وقال ابن عبد السلام: والمنقول في المذهب خلاف ما في الجواهر. قال أصبغ في ثمانية أبي زيد: وإن قال له السلطان: احلف لي وإلا عاقبت ولدك، فحلف له كاذباً فهو حانث، وإنما يعذر بالمداراة عن نفسه. خليل: وفيه نظر؛ لأن المصنف وابن شاس وابن راشد إنما قصدوا قتل النفس لا ما دونها والله أعلم. وَفِي التَّخْوِيفِ بِالْمَالِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ كَثِيراً تَحَقَّقَ القول بأنه إكراه لمالك وأكثر الأصحاب، ومقابله نقله اللخمي وغيره عن أصبغ وابن محرز عن ابن الماجشون. والثالث نقله ابن عبد السلام عن ابن الماجشون. وحكى

في البيان عن مطرف رابعاً، بالفرق بين أن يقال له: إن لم تحلف على هذا الشيء أنه ليس متاعك أخذناه، وبين ألا يأمن العقوبة على جسده، مثل أن يهدده اللصوص بالضرب أو القتل على أن يطلعهم على ماله ليأخذوه، فهو إن لم يحلف ضربوه أو قتلوه، وإن أطلعهم على ماله ذهبوا فأخذوه وهو قول مطرف. ابن راشد: وبعضهم يجعل الثالث تفسير للأولين، وقوعه ونحوه لابن بشير. ابن بريزة: والصحيح أنه إكراه، إلا في المال اليسير الذي لا قدر له. اللخمي: وعلى هذا يختلف إذا مر على عاشر بجارية فقال له: هي حرة لئلا يغرمه عليها فأبى أن يتركه حتى يقول له: إن كانت أمة فهي حرة، فعلى قول أصبغ تعتق وعلى قول ابن الماجشون لا تعتق. وقال ابن القاسم في المدونة: لا شيء عليه إذا قال ذلك وهو لا يريد حريتها. اللخمي: ولو نوى الحرية وهو عالم أن له ألا ينوي لزمه العتق، وإنما الاختلاف إذا كان عامياً يجهل ذلك، أو لم تكن مهلة ليخرج النية. اللَّفْظُ صَرِيَحُ، وَكِنَايَةُ، وغَيْرُهُما؛ الصَّرِيحُ: مَا فِيهِ صِيغَةُ الطَّلاق، مِثْلُ: أَنْتِ طَالِقُ أَوْ: أَنَا طَالِقُ فَلا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ .. هذا هو الركن الرابع، وقسمه على ثلاثة أقسام: صريح وكناية وغيرهما، وعدل المصنف عن طريقة أكثر الفقهاء، وهي أن الطلاق ينقسم إلى قسمين فقط: صريح وكناية، لأن المصنف رأى أن: اسقني الماء ونحوه لا ينبغي عده في الكناية لأن الكناية استعمال اللفظ في لازم المسمى لكن هذا اصطلاح ولا مناقشة فيه. ثم أخذ يتكلم على الأول فالأول فذكر أن الصريح ما فيه الطاء واللام، والقاف، كقوله: أنت طالق أو مطلقة أو أنا طالق والطلاق لازم لي، أو علي الطلاق، فلا يفتقر إلى

نية لا يريد به أن الطلاق يلزم بمجرد جريان هذا اللفظ على لسان هذا الرجل من غير قصد إليه، فإن ذلك لا يلزم على الصحيح من القول وقد تقدم ذلك، وإنما يريد به أنه لا يقبل منه إذا أسرته البينة ولذلك لا يقبل منه في الفتوى إذا أقر على نفسه أنه أتى بهذا اللفظ قاصداً إلى النطق به وإن لم يرد به الطلاق. تنبيه: استشكل القرافي قول الفقهاء أن الصريح ما فيه الطاء واللام والقاف بأنه يبطل باتفاقهم على أنه لا يلزم الطلاق لمن قال لزوجته: أنت مطلقة إلا بالنية، وأشار إلى أنهم إنما لم يلزموه ذلك بأنت مطلقة لأن الأصل كان لا يلزم بقوله: أنت طالق، لأنه خبر والخبر لا يلزم به الطلاق، وإنما يلزم بالإنشاء، لكن العرف نقل أنت طالق إلى إنشاء الطلاق، ولم ينقل أنت متطلقة. وفِيهَا: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ، وقَالَ: أَرَدْتُ مِنْ وَثَاقٍ طُلِّقَتْ، ولَوْ جَاءَ مُسْتَفْتِياً ولا بَيِّنَة، ولا تَنْفَعُ النِّيَّةُ فِي ذَلِكَ إِلا أَنْ يَكُونَ جَوَاباً. هذه المسألة على ثلاثة أوجه: الأول: أن يقول لها: أنت طالق وليست موثقة، فلا خلاف أنه لا ينوي. الثاني: أن تكون موثقة، وتقول له: طلقني، فيقول: أنت طالق، فلا خلاف أنه يدين، وظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن تكون هنالك بينة أم لا. والثالث: أن تكون في وثاق بحضرة البينة ولم تسأله إطلاقها، فقال: أنت طالق، وادعى أنه أراد من الوثاق، فقال مطرف: يصدق فيما ادعاه، وقال أشهب: لا يصدق. قيل: وإن أتى مستفتياً صدق على كل حال إلا على مذهب من يرى أن مجرد اللفظ دون النية يوجب الطلاق واختلف في تأويل المدونة، فمنهم من تأولها كقول مطرف،

ومنهم من تأولها كقول أشهب. ومقتضى كلام المصنف في هذا الوجه الثالث أنه لا يصدق لكونه حكم باللزوم، إلا إذا كان كلامه جواباً. وَهِيَ وَاحِدَةُ إِلا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا أَكْثَرَ يعني أن قوله: أنت طالق ونحوه، صالح للواحدة وللاثنتين وللثلاثة، لكنه محمول على الواحدة إلا أن ينوي أكثر من اثنتين أو ثلاث. المتيطي ويحلف في قوله: أنت طالق، وقال أصبغ: هي الثلاث ولا ينوى. وزَادَ أَبُو الْحَسَنِ خَمْسَةُ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ أي: وزاد أبو الحسن بن القصار في صريح الطلاق خمسة ألفاظ وهي: السراح والفراق والحرام وبتة وبتلة، وهي الخمسة المذكورة في أول الكنايات من كلام المصنف. وقوله: (فِي غَيْرِ الْحُكْمِ) يعني إنما ألحق الخمسة في التسمية فقط لا في الحكم لأن الحكم في الطلاق أنه تلزمه واحدة إلا أن ينوي أكثر، وهذه الثلاث كما سيأتي وعلى هذا فهو خلاف في الاصطلاح لا يترتب [355/ ب] عليه حكم في الخارج. والله أعلم. وَالْكِنَايَةُ: قِسْمَانِ- ظَاهِرُ ومُحْتَمَلُ فَالظَّاهِرُ مَا هُوَ فِي الْعُرْفِ طَلاقُ مِثْلُ: سَرَّحْتُكِ، وَفَارَقْتُكِ وأَنْتِ حَرَامُ، وبَتَّةُ، وبَتْلَةُ، وخَلِيَّةُ، وبَرِيَّةُ، وبَائِنُ، وحَبْلُكِ عَلَى غَارِبكِ، وَكَالْمَيْتَةِ وكَالدَّمِ، وكَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَوَهَبْتُكِ، ورَدَدْتُكِ إِلَى أَهْلِكِ، وهِيَ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ لا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِي غَيْرِ الطَّلاقِ ... يعني: أن الكناية تنقسم أيضاً إلى قسمين: (ظَاهِرُ ومُحْتَمَلُ) وذكر أن الظاهر ما يعد في العرف طلاقاً، وذكر أربعة عشرة لفظاً وبعضها أبين من بعض في التحريم. وقوله: (كَالصَّرِيحِ ... إلخ آخره) ظاهر التصور وقد ذكر في المدونة أكثر الصيغ التي ذكرها المصنف، إلا أنه لم يجمعها كما فعل المصنف بل ذكرها مفرقة، وظاهر المدونة يدل

على أن بعضها مخالف للبعض الآخر في بعض الأحكام، لكن حمل المصنف على ذكرها جملة الاختصار ففيها: إن قال: أنت حرام، فهي ثلاث في المدخول بها ولا ينوى وله نيته في التي لم يدخل بها. وفيها: إن قال: بنت منك أو بنت مني أو أنت خلية وقال: لم أرد بذلك طلاقاً فإن تقدم كلام يكون هذا جوابه يدل على أنه لم يرد به طلاقاً صدق، وإلا فقد بانت منه إذا كان كلاماً مبتدأ. وفيها: وإن قال لها: أنت علي كالميتة أو كالدم أو كلحم الخنزير، فهي ثلاث وإن لم ينو به الطلاق. وفيها: وإن قال: حبلك على غاربك، فهي ثلاث ولا ينوي. اللخمي: ومقتضى قوله في: (حَبْلُكِ عَلَى غَارِبكِ) في مادون الثلاث في غير المدخول بها ويحلف. ونص في المدونة على أنه إذا قال: وهبتك أو رددتك إلى أهلك، أن ذلك ثلاث في المدخول بها وينوى في غيرها، وإذا قلنا أنه ينوي في (وَهَبْتُكِ) في غير المدخول بها ففي كتاب التفسير ليحيى أنه يحلف، وفي العتبية: هي واحدة، ولم يذكر يميناً وليس في المدونة التصريح بحكم سرحتك- عن الإمام، لكن نص عبد الوهاب وصاحب الكافي على أن سرحتك كهذه الألفاظ، ونص في الموازية على أنه يقبل قوله في نفي الطلاق إذا قال: سرحتك. ابن المواز: ويحلف إلا أن يكون ذلك جواباً لسؤالها الطلاق، وكذلك قال في فارقتك وخليتك. وقال أشهب: إن (سَرَّحْتُكِ) محمول على الواحدة إلا أن ينوي أكثر. وفي عد المصنف (فَارَقْتُكِ) مع هذه الكنايات نظر سيأتي التنبيه عليه.

فرع: روى ابن القاسم عن مالك فيما إذا قال لأهلها شأنكم بها، وقال: نويت الطلاق، أنها واحدة إلا أن يريد أكثر من ذلك في غير المدخول بها، وأما المدخول بها فإنها ثلاث ولا نية، كما لو قال: وهبتكم إياها. والْمُحْتَمَلَةُ: مِثْلُ اذْهَبِي، وانْصَرِفِي، واغْرُبِي، وأَنْتِ حُرَّةُ، ومُعْتَقَةُ، والْحَقِي بِأَهْلِكِ أَوْ لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ، أَوْ لا نِكَاحَ بَيْنِي وبَيْنَكِ، فَيُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِي نَفْيِهِ وعَدَدِهِ أي والكناية المحتملة، ومعنى (فَيُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِي نَفْيِهِ) أي إذا ادعى أنه لم يرد الطلاق قبل منه. ابن القاسم في الواضحة: ويحلف في ذلك كله، وكذلك نص في المدونة على الحلف في أنت سائبة أو عتيقة أو ليس بيني وبينك حلال ولا حرام. وقوله: (وفي عَدَدِهِ) يعني وإن قال: أردت الطلاق وقصدت واحدة أو أكثر قبل ذلك منه. أصبغ: فإن نوى به الطلاق ولم ينو عدداً فهي البتة مدخولاً بها أم لا، وما ذكره المصنف في (أَنْتِ حُرَّةُ) هو مذهب المدونة، وقال ابن الماجشون: إن قال لامرأته: أنت مني حرة، أو قال لأمته: أنت مني طالق وأنت طالق لوجه الله، فأمته حرة وامرأته طالق، ولا أسأله عن نيته. وما ذكره في: (الْحَقِي بِأَهْلِكِ) نحوه في ابن بشير، وفي الموازية عن مالك في القائل: الحقي بأهلك فليس لك عندي سعة فإلى أهلك لا إلي. فليس بالطلاق البين ويحلف ما أراد طلاقاً، ولكن أردت أن تذهب إليهم لتعيش، وقريب من هذا عنه في العتبية والموازية إذا قال لامرأته: انتقلي إلى أهلك، أو قال لأمها: انقلي إليك ابنتك.

وقوله: (أَوْ لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ، أَوْ لا نِكَاحَ بَيْنِي وبَيْنَكِ) نحوه في المدونة ففيها: وإن قال لها: لست لي بامرأة، أو ما أنت لي بامرأة، أو لم أتزوجك، أو قال له رجل: ألك امرأة؟ فقال: لا. فلا شيء عليه إلا أن ينوي به الطلاق، وإن قال لها: لا نكاح بيني وبينك، أو لا ملك لي عليك، أو لا سبيل لي عليك، فلا شيء عليه، إذا كان الكلام عتاباً، إلا أن ينوي بقوله هذا الطلاق. عياض: وظاهر قوله: عتاباً ولم ينوي شيئاً أنه طلاق، مثل قوله ذلك لعبده في كتاب العتق، ونحوه للخمي. تنبيه: ما ذكرناه في لست لي بامرأة خاص بما إذا لم يكن معلقاً، وأما المعلق كقوله: إن دخلت الدار فلست لي بامرأة، فالصحيح أنه يلزمه به الطلاق لأنه يصح حمل كلامه عند عدم التعليق على الكذب لظهور ذلك فيه، ولا يصح ذلك مع التعليق، وبذلك أفتى ابن أبي زيد، وتوقف فيها أبو بكر النعالي سنة، ولم يجب بشيء، ولا يفرق فيها هكذا في لا عصمة لي عليك بين المعلق وغيره كما ظنه ابن بشير، فقد قال سحنون في كتاب ابنه في من اشترت [356/ أ] من زوجها عصمته ورضي بذلك أنها ثلاث لأنها ملكت جميع ما كان يملك من عصمتها وقال ابن القرطبي والأبياني في القائل لامرأته: لا عصمة لي عليك أنها الثلاث، إلا أن يكون معها فداء فتكون واحدة حتى يريد ثلاثاً. أبو محمد: وذلك صواب، واستدل بما في العتق الأول من المدونة إذا قال لعبده ابتداء: لا سبيل لي عليك أو لا ملك لي عليك؛ عتق عليه، وإن علم أن هذا الكلام جواب لما كان قبله صدق في أنه لم يرد عتقاً ولم يلزمه عتق.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي الْكِنَايةِ الظَّاهِرَةِ فَجَاءَ: ثَلاثُ فِيهما ولا يُنَوَّى، وجَاءَ: ويُنَوَّى، وجَاءَ ويُنَوِّى فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وهُوَ الْمَشْهُورُ، وجَاءَ: وَاحِدَةُ بَائِنَةُ فِيهِمَا، وجَاءَ رَجْعِيَّةُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وجَاءَ: ثَلاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ووَاحِدَةُ فِي الأُخْرَى .. لما أراد المصنف أن يذكر وجه الأقوال أفردها وإلا فهي راجعة إلى ثلاثة أقوال: الأول: أنها الثلاث واختلف على هذا القول هل هي الثلاث في المدخول بها وغيرها ولا ينوى، أو الثلاث وينوى فيهما، أو ينوى في غير المدخول بها فقط؟ والثاني: أنها طلقة، واختلف عليه فقيل: بائنة، وقيل: رجعية. والثالث: أنها ثلاث ف المدخول بها، وواحدة في غير المدخول بها. وقوله: (فِيهِمَا) أي في المدخول بها وغيرها، وفي بعض النسخ: (فيها) فيعود الضمير على الكنايات الظاهرة. ثم أخذ المصنف يوجه الأقوال الأول فالأول فقال: فَالأَوَّلُ: رَأَى دِلالَتَهَا عَلَى الثَّلاثِ نَصّاً عُرْفيّاً أي: القائل أنها (الثَّلاثِ نَصّاً عُرْفيّاً) رأى هذه الكنايات نصاً من حيث العرف على الثلاث. والثاني: رَأَهَا ظَاهِراً أي: (رَأَهَا) تدل على الثلاث (ظَاهِراً) فلذلك تدل عليها عند عدم النية، ثم إنما ينوى على هذا القول إذا لم تكن عليه بينة على ما تقدم في الأيمان إذا خالف ظاهر اللفظ النية. وَالثاَّلِثُ: رَأهَا لِلْعَدَدِ ظَاهِراً ولِلْبَيْنُونَةِ احْتِمالاً هكذا وقد في كثير من النسخ، وإنما كان نصاً كما في بعض النسخ، يعني فلما كانت نصاً في البينونة لزم أن لا ينوى في الدخول بها لأنها تبين منه بعد الثلاث، ولما كانت للعدد ظاهراً لزم أن ينوى في المدخول بها لكونها تبين بالواحدة.

رَأَىهَا لِلْبَيْنُونَةِ خَاصَّةً ورَأَى الْبَيْنُونَةَ بِوَاحِدِةٍ تصوره ظاهر وهو ينبني على صحة الطلاق البائن من غير عوض. وَالْخَامِسُ: رَأَىهَا لْمُجَرَّدِ الطَّلاقِ ظَاهِراً أي: فتكون رجعية في المدخول بها. وَالسَّادِسُ: رَأَىهَا لِلْبَيْنُونَةِ أي: ورأى أن البينونة لا تقع في المدخول بها إلا بخلع أو الثلاث في المدخول بها ولا عوض فتعينت الثلاث. وَكُلُّهَا غَيْرُ الأُولَى جَاءَتْ فِي: الْحَلالُ عَلَيَّ حَرَامُ، وجَاءَ الأَوَّلُ وغَيْرُهُ فِي غَيْرِهِ مُفَرَّقاً أي: وكل هذه الأقوال الستة إلا القول الأول جاءت في قول القائل: (الْحَلالُ عَلَيَّ حَرَامُ). (وجَاءَ) القول (الأَوَّلُ وغَيْرُهُ) في غير: الحلال علي حرام (مُفَرَّقاً). وأشار إلى أن جميع هذه الأقوال لم تأت في صيغة واحدة وإنما جاء منها في البعض ما لم يأت في البعض وبالعكس، فيتخرج من كل واحدة ماجاء في الأخرى، ولا يقال إن قول المصنف: غير الأول، ليس بصحيح لما قاله ابن الماجشون في المبسوط في من قال لزوجته: أنت حرام، يلزمه الثلاث قبل الدخول وبعده ولا ينوى، لأن المصنف لم يقل: وكلها جاءت غير الأول في: أنت حرام، وإنما قال جاءت في: الحلال علي حرام، نعم نقل المازري الستة في الحلال علي حرام. تنبيهان: الأول: ما ذكره المصنف أنه المشهور من أنه ينوى في الكنايات كلها في غير المدخول بها خلاف المدونة والرسالة، فإن فيهما أنه لا ينوى في البتة مطلقاً مدخولاً بها أم لا، وإنما ينوى فيما عداها من الكنايات.

وقد صرح ابن بشير أن المشهور في البتة أنه لا ينوى في غير المدخول بها، لكن صرح ابن غلاب بتشهير ماشهره المصنف. الثاني: لا شك أن هذه الألفاظ بعضها أقوى من بعض في التحريم، فتخريج الثلاث أو البينونة من اللفظ الضعيف إلالقوي جيد دون العكس، فينبغي أن تتأمل الأقوال المنصوصة في كل واحد من تلك الألفاظ، وينظر مايصح تخريجه منها وما لا يصح وهذا يحتاج إلى بسط نبهناك على أوائله. وَقِيلَ: يُنَوَّى فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِاتِّفَاقٍ إِلا أَلْبَتَّةَ هذه طريقة لبعض الشيوخ وفيها بعد، لأن اللخمي والمازري وغيرهما حكوا خلافها. وقوله: (إِلا أَلْبَتَّةَ) يحتمل أن يكون استثناء من قوله: (بِاتِّفَاقٍ) فتكون البتة مختلفاً فيها هل ينوى قائلها قبل الدخول أم لا؟ ويحتمل أن يكون من قوله: (يُنَوَّى) فتكون البتة محتملة للاتفاق والاختلاف. ابن عبد السلام: والاحتمال الأول أولى لأن قول مالك اختلف هل ينوى المتكلم بها قبل الدخول أم لا؟ فرعان: الأول: الباجي إذا قلنا ينوى قبل البناء فإنه يحلف ما أراد إلا واحدة، قاله مالك في البتة والبائنة والخلية والبرية. سحنون وابن الماجشون: وإنما يحلف إذا أراد نكاحها وليس عليه يمين قبل ذلك لأنه قد لا يرتجعها.

الثاني: إذا نويناه قبل البناء، فلو حلف قبل البناء وحنث بعده ففي كتاب ابن سحنون عن أبيه في من [356/ ب] حلف بالحلال عليه حرام قبل البناء فحنث بعده ونوى واحدة وقامت عليه البينة بالحنث بعده لا ينوى، ولأنه يوم الحنث ممن لا ينوى. الباجي: ووجه ذلك أن اليمين إنما تنعقد ويقع الطلاق بها يوم الحنث فيجب أن يراعى. ابن سحنون وقال بعض أصحابنا: إلا أن يعلم ذلك منه البينة قبل البناء فلا يلزمه إلا طلقة، وله الرجعة. وقال سحنون: إذا حلف قبل البناء بالحرام أو الخلية أو البرية ثم حنث بعد البناء وقال: نويت واحدة فله ذلك وله الرجعة. وانظر هل ما نقله ابن سحنون تقييد للقول الأول أم لا؟ وَأَمَّا: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامُ، وَ: مَا أَعِيشُ فِيهِ حَرَامُ؛ فَقِيلَ: ظَاهِرُ، وقِيلَ: مُحْتَمِلُ .. لو قال ظاهرة ومحتملة لكان أبين. ابن عبد السلام: فعلى أنهما من الكنايات الظاهرة تأتي الستة الأقوال، وعلى أنهما من المحتملة فيقبل قوله في نفيه وعدده؛ وفيه نظر ولم أر القولين في كتب الأصحاب، هكذا والذي في اللخمي وغيره أنه اختلف إذا قال: وجهي من وجهك حرام، فقال ابن القاسم في العتبية: تحرم عليه زوجته، وقال محمد بن عبد الحكم: لا شيء عليه، وذهب في ذلك إلى ما اعتاده بعض الناسفي قول: عيني من عينك حرام ووجهي من وجهك حرام يريدون بذلك البغض والمباعدة، قيل: وأما لو قال: وجهي على وجهك حرام فهو طلاق، ونص اللخمي على عدم اللزوم. ولو قال: وجهي على وجهك حرام، وأما ما أعيش فيه حرام ولا نية له فقال محمد: لا شيء عليه، قال في تهذيب الطالب: وأعرف فيه قولاً آخر أن زوجته تحرم عليه، ورأيت في بعض التعاليق على الشيخ أبي عمران أنه سئل عن القائل: كل ما يعيش فيه حرام، فقيل له: قد صار هذا عند الناس طلاقاً في عادتهم

ويقصدون به تحريم الزوجة، فقال: إذا صار ذلك عادة لزم الطلاق، فالقون منصوصان في كل من الفرعين اللذين ذكرهما المصنف. فرع: إذا قال لزوجته: يا حرام، فقال محمد بن عبد الحكم: لا شيء عليه. أبو عمران: وليس لغيره فيها نص. ابن يونس: وكذلك إذا كان ببلد لا يريدون به الطلاق، وهو كقوله: أنت سحت أو حرام، وكذلك نص أصبغ على عدم اللزوم إذا قال: علي حرام، ولم يقل لزوجته أنت ولم يقصدها، وكذلك نص اللخمي وابن العربي على عدم اللزوم إذا قال: الحلال حرام ولم يقل: علي. زاد ابن العربي إذا قال: حرام فقط، أو حرام علي، لعدم ذكر الزوجة وكذلك أفتى أبو عمران وأبو بكر بن عبد الرحمن بعدم اللزوم لمن قال: جميع ما ملكت حرام. أبو بكر المذكور: إلا أن يدخل الزوجة. ابن العربي: ويلزمه إذا قال: ما أنقلب إليه حرام، ما يلزمه في قوله: الحلال علي حرام وهو الطلاق، إلا أن يحاشيها. وقاله اللخمي وزاد: إلا أن يقول: ما أنقلب إليه من أهلي حرام. ابن عبد السلام: فإنه لا يصدق حينئذ في المحاشات، وذكر ابن عبد السلام عن بعضهم أنه يختلف إذا قال: ما أنقلب إليه حرام، وما أنقلب إليه من أهلي ومالي حرام، قيل: ينوى، وقيل: لا ينوى إذا نص الأهل، قال: ويختلف أن يحلف أم لا؟ فرع: واختلف إذا قال: ما انقلب إليه حرام إن كنت لي بامرأة، أو إن لم أضربك، فقال ابن القاسم: لا يحنث في زوجته لأنه أخرجها من يمينه حين أوقع يمينه عليها، قال: وكذلك إذا قال: إن لم أبعك اليوم فرقيقي أحرار فإنه يحنث في رقيقه ولا يحنث فيه.

وقال أصبغ: لا يحنث في الزوجة والعبد ولو أضاف التحريم إلى جزء من أجزائها، فحكمه كالطلاق يلزمه في اليد والرجل، ويختلف في الشعر والكلام، ولا يلزمه في البزاق والسعال. وفِيهَا: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، وفَارَقْتُكِ- ثَلاثاً بَنَى أَوْ لَمْ يَبْنِ كأنه أتى بهذه المسألة استشهاداً للقول بإلزام الثلاث في الكنايات الظاهرة مطلقاً، وليس ما ذكره المصنف عن المدونة فيها وإنما فيها: وإن قال لها: قد خليت سبيلك وقد بنى بها أو لم يبن فله نيته في واحدة فأكثر، فإن لم تكن له نية فهي ثلاث. ابن وهب عن مالك: وقوله: وقد خليت سبيلك، كقوله: قد فارقتك. فأنت تراه كيف نواه في خليت سبيلك مطلقاً، ولم يعط جواباً في: فارقتك وشبهها، في رواية ابن وهب لفارقتك وذكر أن معناه: وفارقتك واحدة. ابن المواز: روي عن مالك في: خليت سبيلك وفي: فارقتك- أنها واحدة حتى ينوي أكثر؛ بنى أو لم يبن وهذا أصح قوله، قاله ابن القاسم وأشهب. أبو محمد: وقاله ابن عبد الحكم واشهب في خليت سبيلك أنها ثلاث، ولا أنويه إلا أن تكون غير مدخول بها وهذا يقتضي أن المذهب في فارقتك أنها الواحدة إلا أن ينوي أكثر خلاف ما تقدم للمصنف في عده فارقتك من الكنايات الظاهرة. وفي الجلاب: وقد اختلف قول مالك في فارقتك؛ هل هو من صريح الطلاق أو من كناياته؟ فإن جعلناه صريحاً فهو كقوله: أنت طالق، وإن جعلناه كناية، لزم به الطلاق ورجع إلى نيته في عدة المدخول بها وفي اللخمي: واختلف في فارقتك فحمله [357/ أ] مالك مرة في الموازية على الثلاث، قل وبعد إلا أن ينوي واحدة، وقال أيضاً: إن لم يدخل

بها فهي واحدة إلا أن ينوي أكثر، وبعد الدخول ثلاث إلا أن ينوي واحدة، وقال أيضاً: هي واحدة وإن دخل إلا أن ينوي أكثر. والقول بأنها واحدة دخل أم لا أحسن لأن الفراق واحد فرجح أيضاً القول بالواحدة، لكن قال في البيان: المعلوم من قول مالك في فارقتك أنها ثلاث في المدخول بها إذا لم تكن له نية، واختلف في التي لم يدخل بها فقيل: ثلاث إلا أن ينوي واحدة، وقيل: واحدة إلا أن ينوي ثلاثاً. ابن بشير: ولا خلاف أنه ينوي في غير المدخول في: خليت سبيلك، وإنما الخلاف في المدخول بها. اللخمي: وفي: خليت سبيلك. ثلاثة أقوال: أحدها أنه ثلاث في المدخول بها وغيرها إلا أن يقول أردت فيهما واحدة، وإن قال: لم أرد طلاقاً فهو أشد وهي البتة. وقال محمد: في قوله خليت سبيلك وسرحتك ذلك سواء وهي واحدة إلا أن يقول فيهما: لم أرد طلاقاً فيكون ذلك في سرحتك إذا حلف، ولا يقبل قوله في: خليت سبيلك؛ أنه لم يرد طلاقاً. وقال ابن حبيب في: خليت سبيلك وخلية وسرحتك وفارقتك، سواء وهي الثلاث في المدخول بها حتى ينوي أقل فيحلف وإن لم يدخل فهي واحدة إلا أن ينوي أكثر. واعلم أنهم فرقوا بين قوله: خلية وخليت سبيلك وخليتك، فخلية من الكنايات الظاهرة كما تقدم، وفي خليت سبيلك ما ذكرناه، وأما خليتك فنص ابن المواز على قبول قوله فيها أنه لم يرد طلاقاً بخلاف خليت سبيلك، لأن استعمال هذه اللفظة في غير الطلاق أكثر من خليت سبيلك.

الثَّالِثُ: مِثْلُ اسْقِنِي الْمَاءَ- فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الطَّلاقَ وَقَعَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وفِيهَا: كُلُّ كَلامٍ يَنْوِي بِهِ الطَّلاقَ فَهي به طالقُ .. أي: الثالث من الأقسام الثلاثة السابقة وهو غير الصريح والكنايات، والشهور مذهب مالك وابن القاسم، ومقابله لأشهب قال: إلا أن يريد أنت طالق إذا قلت ذلك. قوله: (وفِيهَا: كُلُّ) استشهاداً للمشهور ونصها قيل فإن قال لها: حياك الله، يريد بذلك التمليك أو: لا مرحباً يريد بذلك الإيلاء أو الظهار، قال مالك: كل كلام ينوي به الطلاق فهي به طالق فكذلك هذا. ونص فيها على أنه إذا قال: اخرجي أو اتقنعي أو خزاك الله أو كلي واشربي ونوى بها الطلاق فإنه يلزمه الطلاق وكذلك يلزمه العتق إذا نواه بمثل هذه الألفاظ. وقال القابسي في قوله في المدونة: لا مرحباً بك، يريد بذلك الإيلاء هذا إذا قال: والله لا مرحباً، وقصد بقوله: لا مرحباً لا وطئتك وأما إن لم يذكر الله تعالى بلسانه فليس بيمين فيحتمل أن يكون ذلك مبنياً على قول أشهب، ويحتمل أن يكون قال ذلك في الإيلاء وحده لأنه يمين، وغالب أيمان الناس إنما هي بأسماء الله تعالى، ومثل هذا اللفظ لا يصلح أن يقع موقع اسم الله تعالى بخلاف الطلاق والظهار قال في النكت: لأنه لا تكون لا مرحباً عبارة عن اسم الله تعالى فأما إن قصد بلفظه لا مرحباً مجردة على رقبة ولا وطئتك أو نحو هذا فيلزمه ذلك انتهى. لكن ظاهر قول القابسي أنه شرط النطق باليمين ولم يكتف بالنية وذلك مذهب أشهب ونقل ابن راشد خلافاً بين المتأخرين في مسألة المصنف هل ذلك طلاق بالنية أو باللفظ والنية؟

الباجي: ومذهب ابن القاسم يقتضي أنه إنما وقع عليه الطلاق بالنية واللفظ، واستدل على ذلك بما رواه ابن القاسم عن مالك فيمن أراد أن يقول: أنت طالق، فقال: كلي واشربي، أنه لا يلزمه شيء. انتهى. وفِيهَا: إِنْ قَصَدَ التَّلَفُّظَ بِالطَّلاقِ فَلَفَظَ بِهَذَا غَلَطاً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْوِيَ أَنَّهَا بِمَا تَلَفَّظَ بِه: طَالِقُ، وكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا أُمِّي، أَوْ يَا أُخْتِي، وشِبْهَهُ تصوره ظاهر. ابن محرز وعبد الحميد: واختلف المذاكرون في هذه فرأى بعضهم أن عدم اللزوم هنا مبني على أن الطلاق بالنية لا يلزم، وعلى القول باللزوم بالنية يلزم هنا وأبى بعضهم ذلك لأنه لم يعقد أن يطلق بمجرد النية وإنما عقد أن يطلق بالنية واللفظ. عبد الحميد: وهذا الأخير أظهر. ولم يأت في المدونة بقوله: يا أمي ويا أختي، على ما أورده المصنف ونصها: وإن قال لها يا أمي أو يا أختي أو يا عمتي أو يا خالتي، فلا شيء عليه وذلك من كلام أهل السفه. وَالإِشَارَةُ الْمُفْهَمَةُ: مِنَ الأَخْرَسِ كَالصَّرِيحِ- كَبَيْعِهِ، وشِرَائِهِ، ونِكَاحِهِ، وقَذْفِهِ- ومِنَ الْقَادِرِ كَالْكِنايَةِ .. نحوه في الجواهر وقوله: (ومِنَ الْقَادِرِ كَالْكِنايَةِ) أي فإن كانت لا تحتمل غير الطلاق حملت عليه، كما إذا قال: أنت طالق وأشار بأصابعه الثلاثة. ابن عبد السلام: والتفرقة بين الأخرس وغيره ليست بظاهرة لأن الفعل لا يدل بذاته كما تقرر في أصول الفقه، وعلى هذا فينظر إلى القرائن التي انضمت إلى الإشارة فإن انقطع من عاين تلك الإشارة أنه فهم منها الطلاق كانت كالصريح في الأخرس وغيره وإلا فكناية فيهما. والله أعلم.

وإِذَا كَتَبَ بِالطَّلاقِ عَازِماً عَلَيْهِ وَقَعَ نَاجِزاً نحوه في المدونة. ابن راشد وابن عبد السلام: ولا خلاف في ذلك لأنه [357/ ب] وجدت النية والكتابة كالنطق وسواء أخرج الكتاب أم لا، وأقاموا من هذه المسألة أن من أتى إلى الموثق مع زوجته وقال: اكتب لهذه طلقة، فقال له الموثق: لا تفعل، فإن قال ذلك مجمعاً على الطلاق لزمه، ولا ينفعه قول الموثق: لا تفعل، ولم يفعل. وكذلك إذا قال للشاهد: اكتب لهذه ثلاث تطليقات فقال: لا تفعل اجعلها واحدة، فإن كان مجمعاً لزمته الثلاث وكل ذلك يقع بنفس الكتابة. وغَيْرَ عَازِمٍ بَلْ لِيُشَاوِر أَوْ يَنْظُرَ- فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ ولَمْ يَصِلْ فَرَدَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمَشْهُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُصُولَهُ كَالنُّطْقِ أَوْ إِخْرَاجِهِ .. يعني: إذا كتب لزوجته بالطلاق غير عازم بل ليشاور فله ثلاثة أحوال: الأول: ألا يخرجه فلا يلزمه شيء، قال في الموازية وغيرها ويحلف أنه ما أراد به إنفاذ الطلاق ويدين. الثانية: أن يصل إليها فيلزمه الطلاق من غير إشكال. الثالثة: أن يخرجه من يده ويرده قبل أن يصل المشهور وهو مذهب المدونة: أنه لا يلزمه شيء. والموازية والعتبية يلزمه، وقاله أشهب وأصبغ قال في الموازية: وسواء كان في الكتاب: أنت طالق أو إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق. ومنشأ الخلاف ما ذكره المصنف، ويمكن أن يقال: بناءً على أن إخراجه قرينة في التزام الطلاق أم لا.

فرع: فإن لم تكن له نية ففي البيان: هو محمول على العزم، وقال اللخمي: هو محمول على عدمه وذكر فيه القولين السابقين، واختلف في صفة الكتاب إذا أحب الطلاق على ثلاثة أقوال: قال ابن القاسم إذا كانت من ذوات الأقراء فيكتب: إذا جاءك كتابي وأنت طاهر فأنت طالق، ولا يزيد على ذلك، فإن كانت طاهراً وقعت طلقة وإلا بقيت زوجة، قال: وإن كانت حاملاً كتب: إن كنت حاملاً أو طاهراً بعد أن وضعت فأنت طالق، ولا يزيد على ذلك. وأجاز أشهب أن يكتب: إن كنت حائضاً فأنت طالق إذا طهرت بناء على أصله أن من علق الطلاق على الحيض أو الطهر لا ينتجز. وقال ابن المعدل: يكتب بإيقاع الطلاق يوم كتب الكتاب ولا يكتب إذا طهرت. وأشار اللخمي وغيره إلى منشأ الخلاف إن قلنا أن منع طلاق الحائض غير معلل فيكتب كما قال ابن القاسم، وإن قلنا: معلل بالتطويل، فيجوز أن يوقع عليها الطلاق الآن إذ قد لا يصل الكتاب إلا بعد انقضاء عدتها. بِخِلافِ قَوْلِهِ لِلرَّسُولِ يُبَلِّغُهَا فَإِنَّهَا تُطَلَّقُ نَاجِزاً وإِنْ لَمْ يُبَلِّغْهَا ابن راشد: لا خلاف في ذلك. ابن عبد السلام: ثم إن كان الزوج تقدم له الطلاق وكان كلامه للرسول إخباراً عن ذلك فلا إشكال وإن كان إنما تكلم الآن بهذا الكلام مع الرسول فانظر هل هو طلاق بالنية فقط أو بالنية واللفظ؟ كقوله: اسقني الماء وهو الظاهر. والله أعلم.

وَإِذَا بَاعَهَا أَوْ زَوَّجَهَا- فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ جَادّاً فَظَاهِرُ وَإِلا فَمُحْتَمَلُ يعني: إذا باع زوجته، أو زوجها فقيل: ذلك من الكنايات الظاهرة، سواء كان جاداً أو هازلاً. وعلى هذا يختلف في اللازم بسبب ذلك. وقيل: من الكنايات الخفية، وعلى هذا فقيل قوله في نفيه وعدده. وقيل: بالفرق بين الجاد والهازل، وهو ظاهر ولم يذكر الأصحاب الأقوال هكذا والذي ذكروه في البيع أربعة أقوال: الأول لمالك وابن القاسم وابن نافع وسحنون: أنها بائنة، زاد سحنون: إن غاب عليها المشتري أو لم يغب. ابن القاسم: فإن فعل ذلك لمسغبة أو أقرت له بالرق فإنهما يعذران بالجوع ولا تحد وتكون طلقة بائنة. وبلغني ذلك عن مالك ويرجع عليه المشتري بالثمن. الثاني لابن وهب: أن بيعه لها لا يكون طلاقاً، فإن طاوعته وأقرت أن المشتري أصابها طائعة فعليها الرجم. الثالث لأصبغ: إن باعها أو زوجها هازلاً فليس بطلاق وإن كان جاداً في الوجهين فهو البتات. الرابع لابن عبد الحكم: أنه ببيعها قد حرمت عليه كالموهوبة وبه قال أصبغ أيضاً. عبد الحميد: وينبغي أن يحلف بالهزل في عدم اللزوم على قول أصبغ كما إذا أتى مستفتياً، وقال: ليس عليه بينة، وقال: لم أرد الطلاق ولا التحريم. وصوب اللخمي قول ابن وهب وقال: وهو قول مالك لأن البيع إنما يتضمن التمكين منها ولا خلاف أن من مكن من زوجته من غير بيع أنه ليس بطلاق، وقد يبيعها

ويواطؤها على أن تهرب، أو يأمرها أن تثبت حريتها. وفي ما قاله نظر؛ لأن بيعها يتضمن التمليك المؤبد ولا يكون ذلك إلا بالبينونة. اللخمي وغيره: وتتخرج هذه الأقوال في ما إذا زوجها. قال بعضهم: اختلف في من باع زوجته أو زوجها أو مثل بها فقيل: ذلك الطلاق الثلاث، وقيل: وليست هذه الأقوال منصوصة في كل مسألة من هذه الثلاث، ولكن نص في بعضها ما لم ينص في البعض ويتخرج من بعضها في بعض. وَلَوْ أَوْقَعَ الطَّلاقَ بِقَلْبِهِ خَاصَّةً جَازِماً- فَرِوَايَتَانِ قال القرافي: من عزم على طلاق امرأته ثم بدا له فلا يلزمه إجماعاً، وكذلك من اعتقد أنها مطلقة ثم تبين له أنها غير مطلقة لم يلزمه الطلاق إجماعاً. والخلاف إنما هو إذا أنشأ [358/ أ] الطلاق بقلبه بكلامه النفساني، والقول بعدم اللزوم لمالك في الموازية وهو اختيار ابن عبد الحكم وهو الذي ينصره أهل الخلاف من أهل المذهب. القرافي: وهو المشهور، والقول باللزوم لمالك في العتبية؛ قال في البيان والمقدمات: وهو الصحيح. وقال ابن راشد: هو الأشهر. ابن عبد السلام: والأول أظهر لأن الطلاق حل للعصمة المنعقدة بالنيةوالقول فوجب أن يكون حلها كذلك، وإنما يكتفي بالنية في التكاليف المتعلقة بالقلب لا في مابين الآدميين. وَلِلْحُرِّ ثَلاثُ تَطْلِيقَاتٍ عَلَى الْحُرَّةِ والأَمَةِ، ولِلْعَبْدِ تَطْلِيقَتَانٍ فِيهِمَا هذا مذهبنا أن الطلاق معتبر بالرجال فقط، والعدة معتبرة بالنساء لأن الله تعالى أضاف الطلاق للرجال فوجب أن يعتبر بهم قال الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ

لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] {إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] إلى غير ذلك من الآي، وفي معنى العبد كل من فيه شائبة حرية. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ وَاحِدَةً ونَوَى الثُّلاثَ وَقَعَتْ نحوه في الجواهر، ويحتمل قوله: (وَاحِدَةً) على أنه أراد إيقاع الثلاث مرة واحدة، أو كلمة واحدة. وفي المدونة: وإن قال لها: أنت طالق تطليقة ونوى اثنتين أو ثلاث فهو ما نواوإن لم ينو شيئاً فهي واحدة. وهذه المسألة أشد من مسألة المصنف لأنه لا يبعد ذلك التقدير في قوله: (تطليقة) وقد تردد بعضهم في ما زاد على الواحدة هل يلزم ذلك بالنية؟ أم النية واللفظ؟ فكان كـ (اسقيني الماء). وَفِيهَا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ بِالثَّلاثِ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقُ وسَكَتَ فَهِيَ وَاحِدَةُ إِلا أَنْ يَنْوِيَ بِطَالِقُ الثَّلاثَ .. تصوره واضح، وحكى ابن حارث في من قال: أنت طالق ونيته أن يقول البتة، فقيل له: اتق الله، فسكت عن البتة. عن المدونة أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعن مالك من رواية ابن نافع أنه تلزمه البتة بالنية. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ، أَنْتِ طَالِقُ، أَوْ أَنْتِ طَالِقُ طَالِقُ طَالِقُ فَثَلاثُ ويُنَوَّي فِي التَّاكِيدِ، وكَذَلِكَ لَوْ كَرَّرَ مُعَلَّقاً عَلَى مُتَّحِدٍ بِخِلافِ الْيَمِينِ بِاللهِ والظِّهَارِ .. إنما لزمه الثلاث إلا أن ينوي التأكيد، لأن الأصل التأسيس، ومثل بمثالين تنبيها على أنه لا فرق بين أن يعيد المبتدأ وهو (أنت) أم لا، ومثل قوله: (أَنْتِ طَالِقُ طَالِقُ طَالِقُ) لو قال: اعتدي اعتدي اعتدي، قاله في المدونة، وروى مالك في تكرار اعتدي أن ذلك

واحدة إلا أن ينوي الثلاث، وكذلك قال ابن نافع في تكرار قوله: أنت طالق، أنه محمول على التأكيد حتى ينوي بالثانية طلقة أخرى وقال في الواضحة في تكرار أنت طالق ثلاثاً ولا ينوي، وقوله: (وكَذَلِكَ لَوْ كَرَّرَ مُعَلَّقاً عَلَى مُتَّحِدٍ) مثاله أن يقول مرتين أو ثلاثاً أنت طالق إن كلمت فلاناً ويدخله الخلاف المتقدم. وقوله: (بِخِلافِ الْيَمِينِ بِاللهِ والظِّهَارِ) أي فإنه محمول على التأكيد ما لم ينو كفارات، وقد تقدم الفرق بين ذلك في باب الأيمان قال في المدونة: ولو قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق إن كلمت فلاناً، فكلمته طلقت ثلاثاً إلا أن ينوي واحدة ويريد بالبقية إسماعها وذكر في العتبية عن مالك في هذه أنها تطلق ثلاثاً ويحتمل تعليقه بالشرط ندماً. أَمَّا لَوْ كَرَّرَ مُعَلَّقاً عَلَى مُخْتَلِفٍ تَعَدَّدَ ولا يُنَوَّي كما لو قال إن كلمت زيداً فأنت طالق وإن خرجت اليوم فأنت طالق، وإن لبست الثوب الفلاني فأنت طالق، فلبست الثوب وخرجت ذلك اليوم وكلمت زيداً. وإنما لم ينو هذا لأنه مع الاختلاف ولا يحتمل التأكيد. إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وكَانَ مُتَتَابِعاً فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَذَلِكَ وإِلا فَوَاحِدَةً أي: فإن كانت الزوجة غير مدخول بها وكان كلامه متتابعاً فإن قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق نسقاً، فالمشهور أنه كذلك تلزمه الثلاث إلا أن ينوي التأكيد، واحترز بمتتابع مما لو لم يتابعه فإنه لا تلزمه إلا واحدة بالاتفاق لبينونتها بالأولى فلا تجد الثانية لها محلاً وإليه أشار بقوله: وإلا فواحدة. ومقابل المشهور للقاضي إسماعيل ومنشأ الخلاف هل الكلام بآخره؟ وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً أو بمجر قوله: أنت طالق، قد بانت فلا يمكن وقوع الثانية بدليل أن له يتزوج خامسة وأختها بإثر نطقه بالقاف من قوله: أنت طالق من غير مهلة، ومثل هذه المسألة ما لو أتبع الخلع طلاقا هل يلزمه أم لا؟

فرع: واختلف إذا قال أنت طالق ثلاثاً أنت طالق إن فعلت كذا، فقال مالك: يلزمه بقوله الأول، والثاني ندم. وقال ابن القاسم يحلف ما كان ذلك منه إلا تكراراً ثم هو على يمينه. اللخمي وهو أبين. وَبِالْفَاءِ وثُمَّ ثَلاثُ- فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ولا يُنَوَّى-، ووَاحِدَةُ فِي غَيْرِهَا، قَالَ مَالِكُ: وفِي النَّسَقِ بِالواو إِشْكَالُ، قال ابن القاسم: رأيت الأغلب عليه أنه مِثْل ثُمَّ ولا يُنوّى وهو رأيي. يعني: إذا كرر الطلاق (َبِالْفَاءِ) أو (ثُمَّ) فقال: أنت طالق فطالق فطالق، أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق فتلزمه ثلاث في المدخول بها ولا ينوي في إرادة الواحدة، وهكذا قال [358/ ب] في المدونة، وقيل: ينوى في العطف بالفاء أو ثم ووجهه أن العطف قد سمع في التأكيد كقولك: والله ثم والله لأفعلن ويلزمه طلقة واحدة في غير المدخول بها، وهكذا قال في الجواهر. ولم أر نصاً يوافقهما. ووجهه ما قالا أن غير المدخول بها تبين بالواحدة والعطف بثم أو بالفاء يقتضي التراخي وقد يعترض علي ذلك بأن المهلة المستفادة منهما إنما هي في غير الإنشاء كقولنا في الإخبار: طلقت فلانة، ثم طلقتها يخبر بذلك على أمر قد وقع وأما إذا كان الكلام إنشاءً فلا؛ لاستلزام الإنشاء الحال على أن الفاء وثم قد لا يأتيان للترتيب كما في الحديث: "توضأ فغسل وجهه ويده ومسح رأسه وغسل رجليه". وكقول الشاعر: جرى في الأنابيب ثم اضطرب

وقوله: (قَالَ مَالِكُ: وفِي النَّسَقِ بِالواو إِشْكَالُ .. إلى آخره). يعني أن مالك رحمه الله قال: وفي العطف بالواو إشكال، هل ذلك كالفاء، وثم فيلزمه الثلاث في المدخول بها أو لا ينوى لأن العطف يقتضي المغايرة أو لا تلزمه إلا واحدة. والفرق بين الفاء وثم وبينها أن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب ولا للمعية. فكأن ذلك كغير العطف، هذا تقرير الإشكال وهو يدل على سعة علم مالك بالعربية، وتبحره فيها، ولا يقال العطف يمنع التأكيد، ويوجب أن يكون ذلك كـ (ثم) لأن القاضي إسماعيل حكى أن الرجل من العرب يقول: أنت محسن وأنت محسن يريد الإحسان الأول. ولما كان هذا مرجوحاً كان الأغلب على مالك أنها كـ (ثم) فتلزمه الثلاث ولا ينوي وهو رأي ابن القاسم. وحكى ابن شعبان قولاً أنه ينوي في النسق بالواو. ورأى اللخمي أنه ينوي في العطف بالواو إذا جاء مستفتياً، قال: وليس قبح عطف الشيء على نفسه مما يوجب عليه طلاقاً لم ينوه. وروي عن الحسن في من قال لامرأته: أنت طالق فاعتدي، فهي واحدة وإن قال: أنت طالق واعتدي، فهي اثنتان. وقال ابن القاسم في المجموعة: إذا قال أنت طالق واعتدي فهي طلقتان ولا ينوى وإن قال: أنت طالق اعتدي، أو أنت طالق فاعتدي لزمه اثنتان، إلا أن ينوي واحدة. عبد الحق: والذي تقدم للحسن إذا قال أنت طالق فاعتدي أنها واحدة أصوب ونقل اللخمي عن ابن عبد الحكم مثل قول الحسن؛ فقال: وقال ابن عبد الحكم: إذا قال أنت طالق اعتدي، أو فاعتدي ليس عليه إلا طلقة بائنة. اللخمي: وهو أبين. أي من قول ابن القاسم.

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَهُ لأَجْنَبِيَّةٍ، وقَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ يعني: أن حكم الأجنبية في التعليق حكم الزوجة، فإذا قال: أنت طالق طالق طالق إن تزوجتك لزمه الثلاث إلا أن ينوي واحدة وإذا عطف بالفاء أو بـ (ثم) لم يلزمه إلا واحدة. أَمَّا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ مَعَ طَلْقَتَيْنِ وشِبْهِهِ وَقَعَتِ الثَّلاثُ فِيهِمَا. أي: في المدخول بها وغيرها (وشِبْهِهِ) أي مما يدل على المعينة كقوله: مصحوباً أو مقروناً بطلقتين، أو: أنت طالق فوق طلقتين وإن قال: أنت طالق قبل طلقة، أو: بعد طلقة؛ طلقت اثنين. قال في الجواهر: ولو قال أنت طالقة مع طلقة أو معها طلقة أو تحت طلقة وقعت طلقتان بعد الدخول كان ذلك أو قبله. ولو قال: للمدخول بها أنت طالق قبل طلقة أو بعد طلقة أو بعدها طلقت طلقتان. ابن عبد السلام: وقيد بعضهم مسائل القبلية والبعدية بالمدخول بها، ولا يظهر هذا التقييد بإن اجتماع الطلقتين والطلقات حصل في كل واحدة من الصور إما بلفظ مع وهو ظاهر وإما بلفظ قبل أو بعد وهو كحرف العطف وقد سبق. وَالتَّجْزِئُة تُكَمَّلُ ويُؤَدَّبُ يعني: من جزأ الطلاق فقال: أنت طالق نصف طلقة أو ربع طقة أو غيرها من الأجزاء كملت عليه تلك الطلقة لأن الطلاقة لا تتبعض كما كملناها للعبد وجعلنا طلاقه اثنتين وكما كملنا عدة الأمة وجعلناها حيضتين، ورأى بعض الأئمة خارج المذهب أنه لا يكمل عليه الطلقة. ابن القاسم وغيره: ويوجع ضرباً وهو معنى قوله: (ويُؤَدَّبُ) قالوا لأنه ليس على أحكام المسلمين. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون لمخالفته سنة الطلاق، لأن الله عز

وجل بين عدد الطلاق وزمانه وقال بعد بيان زمانه: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1]. أَمَّا لَوْ قَالَ: نِصْفَيْ طَلْقَةٍ، أَوْ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ فَوَاحِدَةُ لأنه إذا قال: نصفي طلقة فقد أتى بمجموع أجزاء طلقة فكان كمن قال: أنت طالق طلقة، وإذا قال: نصف طلقتين احتمل أن يريد طلقة واحدة لأنها نصف طلقتين طلقة وهو المتبادر إلى الفهم، واحتمل أن يريد نصف كل طلقة. وعلى هذا الاحتمال فكان يلزمه اثنتان غير أنه مرجوح فلذلك لم يعتبر. وَقَالُوا فِي نِصْفٍ ورُبُع طَلْقَةٍ: طَلْقَةُ، وفِي نِصْفِ طَلْقَةٍ ورُبُعِ طَلْقَةٍ: طَلْقَتَانِ كأنهم رأوا في المثال الأول أن الجزئين أو الأجزاء راجعان إلى ماهية واحدة فتلزمه طلقة واحدة، ومثال آخر: لو قال أنت طالق نصف وربع وثمن طلقة. ورأوا في المثال الثاني إذا أضاف كل جزء إلى طلقة لتعدد لأن الاسم إذا كرر بلفظ التنكير كان محمولاً على التعدد بخلاف تكرير المعرفة أو إعادة النكرة [359/ أ] بلفظ المعرفة فإن ذلك محمول على عدم التعدد. مثال تكرير النكرة والمعرفة قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح: 5 - 6] ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "لن يغلب عسر يسرين". ومثال إعادة النكرة بلفظ التعريف قوله تعالى: (َمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل: 15 - 16] ويلزم على هذا لو قال: أنت طالق نصف طلقة وربع الطلقة أنه لا يلزمه إلا واحدة، وكأن المصنف استشكل الفرق ببين المثالين ألا ترى إلى قوله: (قَالُوا) لأن النصف في المثال الأول مضاف في التقدير إلى مثل ما أضيف إليه الربع كما في قول الشاعر: بين ذراعي وجبهة الأسد

والمنوي عند أئمة اللسان في حكم الملفوظ به، فلا فرق بين المثالين على هذا التقدير، وانظر لو ذكر في المثال الأول أجزاء تزيد على طلقة هل تلزمه طلقتان؟ أو يكون ذلك قرينة في أن كل جزء يختص بطلقة كما لو قال: أنت طالق نصف وثلث وربع طلقة. وَلَوْ قَالَ: الطَّلاقُ كُلُّهُ إِلا نِصْفَ الطَّلاقِ فَثَلاثُ لأَنَّ مَعْنَاهُ إِلا نِصْفَ كُلٍّ طَلْقَةٍ لأنه لما أكد الطلاق الأول بقوله: (كُلُّهُ) ولم يؤكد الطلاق الثاني، ولا أتى به بضمير كان ذلك قرينة تدل على أن المراد بالثاني غير الأول، والأول الطلاق المحمول على الثلاث فيتعين أن يكون المراد بالثاني الطلاق المحمول على الواحدة فيصير كأنه قال: أنت طالق طلقتين ونصف أو أنت طالق الطلاق كله إلا نصف طلقة، ولعل هذا أقرب من تعليل المصنف أن معناه إلا نصف كل طلقة ولو قيل في المثال المذكور بلزوم طلقتين فقط ما بعد، ومقتضى كلامه في الجواهر: أنه قول منصوص؛ لأنه قال: وإن قال الطلاق كله إلا نصف الطلاق لزمه طلقتان ولو قال: إلا نصف الطلاق وطلقت ثلاثاً من جهة أن هذا الطلاق يصح أن يكون واحدة فيصير كأنه استثنى نصف طلقة فتصير ثلاثاً وقيل: يصح أن تكون هذه المسألة كالتي قبلها وتكون الألف واللام في الطلاق للجنس. انتهى. وَلَوْ قَالَ لأَرْبَعٍ: بَيْنَكُنَّ وَاحِدَةُ إِلَى أَرْبَع؛ طُلِّقَنْ طَلْقَةً طَلْقَةً قوله: (إِلَى أَرْبَع) أي إلى أربع طلقات لأنه إذا قال لأربع: بينكن طلقة ناب كل واحدة ربع طلقة، ولو قال: بينكن طلقتان ناب كل واحدة نصف طلقة، وإن قال: بينكن ثلاث، ناب كل واحدة ثلاثة أرباع الطلقة فيكمل لكل واحدة طلقة طلقة، وإن قال: بينكن أربع ناب كل واحدة طلقة كاملة، وهذا مذهب المدونة وهو مبنى على اعتبار أنه يحصل لكل واحدة من الجملة، وقيل: يعتبر ذلك من كل طلقة، فإن قال لأربع: بينكن أربع؛ طلقن ثلاثاً ثلاثاً؛ قال في البيان: وهذا الخلاف مبني على الخلاف في من صرف دراهم بدنانير فيوجد فيها درهم زائف، هل ينتقض صرف دينار واحد أو الجميع؟

وعلى الأول فإن قال لأربع: بينكن خمس إلى ثمان، وقع على كل واحدة اثنتان وإن قال تسع إلى اثنى عشر بانت كل واحدة بثلاث. وَقَالَ سَحْنُونُ: إِذَا قَالَ: شَرَكْتُكن طُلَّقنَّ ثَلاثاً ثَلاثاً هذا الفرع لسحنون في كتاب ابنه، ونص في الكتاب المذكور على موافقة سحنون للمذهب في المسألة الأولى، والفرق بينهما عنده أن الشركة تقتضي الاشتراك في أجزاء كل طلقة بخلاف ما إذا قال: بينكن يقسم الجملة المسماة عليهن. ابن يونس: ولو قال قائل: إن الفرعين سواء؛ لم أعبه إذ لا فرق بين (بينكن) أو (شَرَكْتُكن). ونسب المصنف هذا الفرع لسحنون لاحتمال أن لا يوافق عليه ابن القاسم. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ ثَلاثاً ولأُخْرَى: وأَنْتِ شَرِيكَتُهَا، ولأُخْرَى: وأَنْتِ شَرِيكَتُهُمَا- طُلَّقَتِ الْوُسْطَى اثْنَتَيْنِ، والأُخْرَيَانِ ثَلاثاً ثَلاثاً .. هذا الفرع لأصبغ في العتبية، وأتى به غير منسوب لقائله وكأنه عنده موافق لأصل المذهب، بخلاف قول سحنون. ووجهه ظاهر لأنه طلق الأولى ثلاثاً ولما أشرك الثانية معها فكأنه ألزم نفسه فيها طلقة ونصفاً فتكمل عليه طلقتان، ثم أشرك معها الثالثة فيخصها من الأولى طلقتان ومن الثانية طلقة. وحكى بعضهم قولاً آخر بلزوم الثلاث في الوسطى أيضاً ولعله أخذه من قول سحنون. وَنَحْوَ: يَدُكِ، أَوْ رِجْلُكِ كَالتَّجْزِئَةِ يعني: أن الطلاق كما يكتمل بتجزئته فكذلك يقع إذا طلق عضواً، ولا أعلم في هذا خلافاً عندنا. سحنون: وكذلك لو طلق ثلثها أو غير ذلك من أجزائها.

وَفِي نَحْوِ: شَعْرُكِ أَوْ كَلامُكِ- قَوْلانِ القول باللزوم لأصبغ فيهما، قال: وشعرها من محاسنها حتى يزايلها، قال: وكذلك ريقها. وقاله أشهب في الكلام. والقول بعدم اللزوم فيهما لسحنون، وقاله ابن عبد الحكم في الكلام. وشبه ابن عبد الحكم الكلام بالسعال. محمد: وليس كلامها بمنزلة شيء من جسدها، قال وقد أمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب وكان يسمع كلامهن ويكتب عنهن الحديث. ابن عبد السلام: وقول أصبغ أظهر. اللخمي: ولا تحرم بالسعال لأنه ليس مما يلتذ به ولا بالبزاق، لأن البزاق إنما يقع على ما فارق [359/ ب] الفم وطرح، وتحرم بتحريم الريق لأنه يقع على ما في الفم قبل المفارقة وهو مما يلتذ به. وأما الكلام فإن قصد تحريم استماعه لم تحرم، وإن قصد تحريم الالتذاذ به حرمت، لا سيما إذا كانت رخيمة الكلام، وكذلك الشعر وهو مما يلتذ به. وأشار الباجي إلى أنها لا تحرم بالدموع. ابن عبد السلام: وحكى بعضهم في السعال والبزاق قولين، ولم أقف في السعال للمتقدمين إلا على عدم اللزوم. وَالاسْتِثْنَاءُ مُعْتَبَرُ بِشَرْطِ الاتِّصَالِ وعَدَمِ الاسْتِغْرَاقِ قد تقدم في باب الأيمان أنه يشترط في الاستثناء الاتصال وأنه لا يقدح في ذلك سعال ونحوه.

وقد حكى العلماء الإجماع على بطلان الاستثناء المستغرق ولا يقال هذا الإجماع منقوض بما حكاه ابن طلحة أن المشهور في من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً- لزوم الثلاث. وقيل: لا يلزمه شيء لأن الطلاق والإقرارات مبنية على العرف، فلعل القائل بعدم اللزوم إنما قال ذلك للعرف لا لصحة هذا الكلام في اللغة. والاستغراق عبارة عن أن يكون العدد المستثنى منه أو أكثر. وَلا يُشْتَرَطُ الأَقَلُّ عَلَى الْمَنْصُوصِ لا يشترط في صحة الاستثناء أن يكون الباقي أكثر مما أخرج على المنصوص، بل يجوز استثناء الأكثر، وحكى اللخمي قولاً آخر بأنه لا يصح استثناء الأكثر قال: وقاله عبد الوهاب في مقدمة الأصول. اللخمي: ويختلف في هذا إذا طلق اثنتين إلا واحدة لكن الواحدة من الاثنين ليست الأقل. وَلذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ وَاحِدَةً واثْنَتيْنِ إِلا اثْنَتَيْنِ- فَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَمِيعِ فَطَلْقَةُ وإِلا فَثَلاثُ .. أي: ولأجل بطلان الاستثناء المستغرق وصحة استثناء الأكثر (لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ وَاحِدَةً واثْنَتيْنِ إِلا اثْنَتَيْنِ) فإن أعاد المتكلم الاستثناء إلى الجميع لزمه طلقة واحدة لأنه أخرج اثنتين من الثلاث وإن لم يعده للجميع بل أعاده للاثنتين لزمه الثلاث لكونه حينئذ مستغرقاً وكذلك تلزمه الثلاث إذا أعاده للأول من باب أولى. وَلَوْ قَالَ: ثَلاثاً إِلا ثَلاثاً إِلا وَاحِدَةً طُلِّقَتِ اثْنَتيْنِ وفِيهِ نَظَرُ، والأَوْلَى وَاحِدَةُ (طُلِّقَتِ اثْنَتيْنِ) لأن قوله: (إِلا ثَلاثاً) مستغرق فبطل ثم أخرج من الثلاث واحدة فلذلك لزمه اثنتان.

قال المصنف: (وفِيهِ نَظَرُ، والأَوْلَى وَاحِدَةُ) وكلامه يحتمل وجهين أحدهما: أن يريد الأولى في النظر مع كونه لم ير ذلك لغيره ويحتمل والأولى مع كونه قد رآه لغيره. وقد نقل المازري في شرح التلقين عن بعض العلماء ما ذكره المصنف أنه الأولى ووجهه أنه يلزم من المذهب- الأولى مخالفة قصد المتكلم؛ لأن الناس إنما يقصدون إخراج الثالث من الثاني وعلى هذا فيكون قد أبطل الثلاث بقوله: (إِلا ثَلاثاً) ثم أثبت واحدة، فإن قيل: يلزم على ما اختاره المصنف صحة الاستثناء المستغرق؛ قيل: عد المصنف جميع أجزاء هذا الكلام جملة واحدة ورأى أن الاستثناء المستغرق هو الذي يقتصر المتكلم عليه، وفي هذه الصورة لما أخرج منه واحدة لم يبق مستغرقاً وحكى المازري قولاً ثالثاً عن بعض العلماء بإلزام الثلاث، لأن قوله: (إِلا ثَلاثاً) لغو، لاستغراقه؛ وما هو لغو يمنع الاستثناء منه وهذه المذاهب كلها مبنية على القواعد اللغوية وينبغي هنا الإقرار أن يراعى في ذلك العرف فقط. وَلَوْ قَالَ: ثَلاثاً إِلا اثْنَتيْنِ إِلا وَاحِدَةً طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ لأن القاعدة أن الاستثناء من النفي إثبات وبالعكس، فقوله: أنت طالق ثلاثاً، إثبات فيكون قوله: إلا اثنتين، نفياً أخرج به اثنتين فصار اللزوم واحدة ثم أثبت أخرى بقوله: (إلا واحدة). وَكَذَلِكَ الْبَتَّةَ عَلَى الأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَتَبعض أَمْ لا يعني: أن الأصح أن البتة مرادفة للثلاث فإذا قال: أنت طالق البتة إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين وكذلك سائر الأمثلة هي كالثلاث، وبه قال أشهب وسحنون، ولسحنون أيضاً: لا يصح الاستثناء منه فتلزمه الثلاث بناءً على أنها لا تتبعض.

فَلَوِ اسْتَثْنَى مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ- مِثْلَ: خَمْساً إِلا اثْنَيْنِ، فَقِيلَ: ثَلاثُ، وقِيلَ: وَاحِدَةُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الزَّائِدِ أَوِ الْغَايَةِ وعَلَيْهِمَا: أَرْبَعاً إِلا ثَلاثاً، أو مئة إلا تسعاً وتسعين ... نحوه في الجواهر ومعنى إلغاء الزائد أو اعتباره أنه ليس في الشرع إلا ثلاث تطليقات، فهل يكون ما زاد عليها ملغي؟ ويعد المتكلم كأنه لم يتكلم به لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً. وهو قول سحنون الأول، أو يقال: المتكلم قصده فلا يلغى، وهو الذي رجع إليه سحنون في المجموعة. وهو الأقرب لما قدمنا أنه ينبغي الرجوع في هذا الباب إلى العرف، ولأن محاشاة الزوجة في: الحلال علي حرام؛ يصح على المذهب كما تقدم في باب الأيمان، وإن كان غير الزوجة لا يصح أن يراد شرعاً. قوله: (فَقِيلَ: ثَلاثُ) أي بناءً على اعتبار الزائد، (وقِيلَ: وَاحِدَةُ) بناءً على الغاية لأن ما زاد على الثلاث عند هذا القائل ملغي فكان كمن استثنى الاثنتين من الثلاث وعليهما أربعاً إلا ثلاثاً فعلى اعتبار الزائد تلزمه واحدة وعلى الغاية تلزم الثلاث، ومثل بتسعة وتسعين أيضاً، ولم يكتف بالمثالين الأولين إشارة إلى أنه لا فرق بين أن تكون الزيادة في طرف المستثنى منه أو في طرف المستثنى [360/ أ] والمستثنى منه. والله أعلم. ولَوْ عَلَّقَ الطَّلاقَ عَلَى مُقَدَّرٍ فِي الْمَاضِي فَإِنْ كَانَ مُمْتَنَعاً عَقْلاً أَوْ عَادَةً حَنِثَ أي: إذا (عَلَّقَ الطَّلاقَ عَلَى مُقَدَّرٍ) أي على فعل يقدر وقوعه على صفة في الزمان الماضي فإن كان المقدر (مُمْتَنَعاً) في العقل أو العادة (حَنِثَ) مثال الممتنع عقلاً: علي الطلاق لو جئتني أمس لجمعت بين وجودك وعدمك، أو لجمعت بين الضدين، ومثال الممتنع في العادة: لو جئتني أمس لدخلت بك الأرض أو لرفعتك إلى السماء حنث؛ لأنه حلف على ما لا يبر فيه، ومثل ابن عبد السلام الممتنع عقلاً بما مثلنا به الممتنع عادة وليس بظاهر لأن العقل يجوز كل شيء لو فرض لم يلزم منه محال لذاته.

وَكَذَلِكَ الشَّرْعِيُّ، مِثْلُ: لَوْ جِئْتُ أَمْسِ لأَقْتُلَنَّك عَلَى الأَصَحِّ، مَا لَمْ يَقْصِدْ مُبَالَغَةً فِي جَائِزٍ فَكَالْجَائِزِ .. أي: وكذلك يحنث في الممتنع شرعاً (عَلَى الأَصَحِّ) ومثاله ما ذكر، والأصح مذهب المدونة قال فيها في من قال لرجل: امرأتي طالق لو كنت حاضراً لشرك مع أخي لفقأت عينك-: هو حانث لأنه حلف على شيء لا يبر فيه. ونقل حمديس عن مالك قولاً آخر في هذه المسألة بعدم الحنث، ووقع لمالك في رجل جذب ثوب آخر فقال: امرأتي طالق لو شققته لشققت بطنك، أنه قال: يستغفر الله ولا شيء عليه. ابن بشير: ولم يذكر عليه يميناً ونقل ابن راشد أن ابن يونس نقل في هذه المسألة أن مالكاً قال: يحلف بالله لو خالف ليفعل ثم لا شيء عليه. وقال ابن القاسم: لا يعجبني وهو حانث كالذي حلف لو كنت حاضراً لشرك مع أخي لفقأت عينك، ولم أر ما نقله في ابن يونس عند كلامه على هذه المسألة. عياض: ولو حلف على مثل هذا فيما يأتي لا يختلف في أنه لا يمكن من ذلك، وتطلق عليه إلا أن يتجرأ فيفعله قبل فيبر في يمينه، وأما ما يمكن فعله أو يباح في المستقبل فلا يحنث بالاتفاق. وقوله: (لأَقْتُلَنَّك) صوابه لقتلتك بلفظ الماضي لأن (لو) لا يكون جوابها إلا ماضياً كما قرر في علم العربية قاله ابن عبد السلام. وجوابه إن لأقتلنك جواب قسم محذوف. وقوله: (مَا لَمْ يَقْصِدْ ... إلى آخره) يعني في جائز عقلاً فيكون كالجائز شرعاً فلا يحنث به على أحد القولين في الجائز، وإنما يحنث إذا أراد حقيقة الفعل.

ابن بشير: وإذا أخرجت الأيمان على قصد المبالغة والتفتا إلى المقاصد لم يقع حنث وإن لم يحصل جميع ما يتناوله اللفظ، وإن التفتنا إلى الألفاظ وجب الحنث، واستدل من التفت إلى المقاصد بقوله: صلى الله عليه وسلم في أبي جهم "لا يضع عصاه عن عاتقه" ومن هذا أن يحلف أن هذا الطير لا يسكت وإنما يريد كثرة صياحه. انتهى. وعلى هذا فيكون قوله: (كَالْجَائِزِ) أي فيجري فيه قولان، ولم يحك ابن بشير في هذه المسألة خلافاً بل قال: وإن شرطه بصفة ممتنعة عادة أو شرعاً كقوله: لو جئت أمس لأدخلنك، يريد في الأرض أو لأقتلنك، فإن أراد حقيقة الفعل حنث، وإن أراد المبالغة لم يحنث. وقال ابن عبد السلام: يعني ما لم يقصد في كل واحد من القسمين السابقين، أو في أحدهما المبالغة فيعبر مثلاً عن القصاص الذي وجب لأخيه على هذا المحلوف عليه بالقتل أو بالدخول في الأرض وما أشبه ذلك، وهو مراده بقوله: (في جائز منكراً) احترازاً من أن يعبر بذلك عن ممتنع شرعاً أيضاً أو عادة كضربه ألف سوط مثلاً، فإذا عبر بذلك عن جائز شرعاً أو عادة وهو الذي يلي هذا الكلام. قال ابن عبد السلام: وعلى هذا فاستعمال المصنف الجائز في القدر المشترك بين الجائز في الثلاثة وقد اجتمعت الثلاثة في قوله: وَإِنْ كَانَ جَائِزاً مِثْلَ: لَوْ جِئْت أَمْس لأَقْضِيَنَّكِ حَقِّكِ حَنِثَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لما شبه بالجائز أراد أن يبين حكمه، فإن قيل: لا نسلم أن هذا جائز شرعاً بل واجب، قيل: المسألة أعم من الوجوب والجواز، لاحتمال أن يكون الدين لم يجب قضاؤه وحينئذ إما لأن الأجل لم يحل أو لغير ذلك. وفي قوله: (عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ) إشارة أنه لا يحنث عند غيره، وهو كذلك فإن عبد المالك قال: لا يحنث، ورأى ابن القاسم أنه لما احتمل أن يقضيه وحصل الشك فتطلق

عليه إذ لا يقدم على فرج مشكوك فيه. ورأى عبد الملك أن الشك لا عبرة به استصحاباً للعصمة المحقق وجودها. وقوله: (لأَقْضِيَنَّكِ) هو كقوله: (لأقتلنَّك). وإِذَا عَلَّقَهُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ- فَإِنْ كَانَ مُمْتَنَعاً مِثْلَ أَنْتِ طَالِقُ إِنْ لَمَسَتِ السَّمَاءَ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الأَصَحِّ، وكَذَلِكَ إِنْ شَاءَ هَذَا الْحَجَرُ أَوِ الْمَيِّتُ أَوْ زَيْدُ فَمَاتَ .. لم يحنث على الأصح لأنه علق الطلاق بشرط لا يوجد والمشروط لا وجود له بدون شرطه، وحنث في مقابل الأصح إما لهزله وإما لأنه لما طلق ندم فعلقه بلمس السماء ونحوه، والأصح قول ابن القاسم في المدونة، ومقابله لسحنون، وروى مثله عن ابن القاسم. ومثل: (إن لمست السماء)، إن ولجت في سم الخياط. قوله: (أو الحجر) الأصح فيه مذهب المدونة، ومقابله لسحنون، [360/ ب] وذكر عبد الوهاب في ذلك روايتين وقال: اللزوم أصح. وقال المازري: المشهور لزوم الطلاق وفيهما نظر لمخالفة المدونة والله أعلم. وقوله: (أَوْ زَيْدُ فَمَاتَ) يريد ولم يشأ ففي المدونة: وإن مات فلان قبل أن يشاء وقد علم بذلك أو لم يعلم أو كان ميتاً فلا حنث عليه. ونص اللخمي على أنه إن مات فلان قبل أن يقضي أو يعلم هل قضى بشيء أم لا؟ لأنه لا شيء على الحالف. وفي الكافي: إن علق المشيئة بآدمي، لم تطلق حتى يعلم أنه شاء، فإن لم يعلم مشيئته لم تطلق عليه. ابن عبد السلام: والأقرب أنه إن علم أن فلاناً نظر في اليمين ولم يعلم هل شاء الطلاق أم لا؟ أن يجري على الشك في الحنث كما سيأتي. فَإِنْ كَانَ مُتَحَقِّقاً ويُشْبِهُ بُلُوغُهُمَا عَادَةً مِثْلَ: إِنْ مَضَتْ سَنَةُ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، أَوْ إِذَا مَاتَ فُلانُ، أَوْ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ حَنِثَ نَاجِزاً ثُمَّ لا يَحْنَثُ فِيهِ بَعْد لأَنَّهُ عَجَّلَ حِنْثَهُ أي: فإن كان الشرط المستقبل المعلق عليه الطلاق محقق الوقوع وهو مع ذلك يشبه حال الزوجين مع البلوغ في العادة مثل: أنت طالق (إِنْ مَضَتْ سَنَةُ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ) أو (قَبْلَ

مَوْتِي بِشَهْرٍ حَنِثَ نَاجِزاً) أي حين التعليق لأنه شبيه بنكاح المتعة في توقيت الحل، وخالف في ذلك جماعة من أهل العلم ورأوا عدم اللزوم لأن الطلاق معلق على شرط غير محقق الوقوع لاحتمال ألا يبلغ كل من الزوجين أو أحدهما الأجل المذكور، وتقدير هذا في المثال الثالث وهو إذا مات فلان أظهر، إذ من الممكن حياته بعد كل منهما لاسيما إذا كان أصغر. وأيضاً فالفرق بين هذا ونكاح المتعة أن توقيت الحل في نكاح المتعة واقع في العقد بخلاف هذا والمفسد إنما هو ما وقع في العقد لا ما تأخر عنه وخالف أشهب في المثال الآخر غير أنه ذكره فيما إذا قال: قبل موتك بشهر على ما نقله اللخمي وغيره لكن لا فرق بين أن يكون قبل موتي أو موتك على ما نص عليه في المجموعة. وقوله: (لا يَحْنَثُ فِيهِ بَعْد) أي إذا عجلنا عليه الطلاق ثم جاء الأجل فلا يحنث به أيضاً لأنه لما عجلناه لم يبق شيء حتى يقع عند الأجل. وَمِثْلُهُ: أَنْتِ طَالِقُ إِنْ لَمْ أَمَسَّ السَّمَاءَ، وشِبْهِهِ أي: (وَمِثْلُهُ) في التنجيز، والتنجيز هنا واضح في المثال السابق يحتمل أن يموت كل من الزوجين قبل بلوغ الأجل فكان من الطلاق بالشك، وأما هنا فالطلاق واقع وإنما يرفعه حصول شرط لا يمكن أن يقع ولهذا اتفق هنا على وقوع الطلاق، حكى ذلك ابن بشير. وشبه (إِنْ لَمْ أَمَسَّ السَّمَاءَ) أنت طالق إن لم أشرب البحر أو أحمل الجبل. وَفِي مِثْلِ: إِنْ أَكَلْت، أَوْ شَرِبْت، أَوْ قُمْت أَوْ قَعَدْت، مِمَّا لا صَبْرَ عَنْهُ- ثَالِثُهَا: إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَمِثْلُ إِنْ مَاتَ، وإِلا فَمِثْلُ إِنْ دَخَلْت .. يعني: أنه اختلف إذا قال: (إن أكلت) أنا (أو شربت) أو أكل فلان أو شرب أو نحو ذلك من الأفعال التي لا صبر عنها فأنت طالق فتأول اللخمي وابن يونس وغيرهما على

المدونة أنها تطلق عليه في الحال. وذهب ابن محرز وغيره إلى أن ظاهر المدونة خلاف هذا ولا تطلق عليه حتى يفعل ما حلف عليه لقوله فيها: إذا قال لها: إن أكلت أو شربت أو لبست فأنت طالق. أنها أيمان. وحملها الأولون على ما إذا قيد يمينه بزمن يمكن الصبر فيه على المحلوف به. وهذان القولان الأولان من كلام المصنف وقد تقدم أن مثل هذا لا ينبغي عده خلافاً. خليل: وفي قول من حمل المدونة على عدم التنجيز بعد لأنه إذا كان المشهور فيها إذا علقه على الحيض أو الطهر، التنجيز كما سيأتي فلأن ينجز هنا من باب الأولى وما يفرق به بينهما بأن الفعل هنا داخل تحت المشيئة بخلاف الحيض والطهر ليس بظاهر. وثالثها إن أسندها إلى غيره كانت طالق إن قام فلان أو أكل فمثل (إن مات) فينجز لأن الغير لا يصبر لحلفه (وإلا) أي وإن علقه بفعله فمثل إن دخلت فلا يتنجز لاحتمال اختياره الصبر عن ذلك الفعل ولو أداه إلى الموت. اللخمي: وهذا إذا لم يضرب أجلاً أو ضرب أجلاً لا يمكنه الصبر إليه وإن كان مما يمكن الصبر إليه لم يحنث. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُشْبِهُ بُلُوغُهُ لَمْ يَحْنَثُ عَلَى الأَصَحِّ هذا قسيم قوله: (وإن متحققاً ويشبه بلوغهما عادة). وفي الجلاب: وإن طلقها إلى أجل لا يبلغه عمره مثل قوله: أنت طالق بعد الف سنة وما ِأشبه ذلك من الزمان البعيد فإنها يتخرج على روايتين إحداهما: أنها تطلق عليه في الحال. والأخرى: أنها لا تطلق عليه بحال. وبعدم الحنث قال ابن القاسم في العتبية وابن الماجشون وعيسى: قال في الكافي: هو القياس، قال في البيان: وعليه فالمعتبر الأعمار التي يعمر إليها المفقود على الاختلاف بينهم في ذلك.

واللزوم مبني على أن قوله: بعد ألف سنة؛ كالندم والاستدراك. فإن قيل: إذا كان هذا قسيماً لقوله: (يشبه بلوغهما) فلم ثنى الضمير أولاً وأفرده ثانياً؟ قيل: لأنه لو ثناه ثانياً لتوجه النفي على مجموع الجزئين لا على كل واحد منهما، والمراد إنما هو [361/ أ] لا يبلغه أحدهما فأفرد الضمير وخص الرجل دفعاً لذلك، ولأنه لزم أن يكون الحكم كذلك في المرأة لأنه إذا لم يلزم الطلاق لعدم بلوغ عمر الرجل لذلك الأجل المضروب لعدم المطلق فكذلك لا يلزم لعدم بلوغ عمر المرأة لعدم وجود محل الطلاق على أنه يمكن أن يكون الضمير في بلوغه عائد على أحد الزوجين لا بعينه، ويمكن أن يكون الضمير في بلوغه عائداً إلى الأجل، ويقرا على هذا بلوغه بفتح الغين، ويكون التقدير وإن كان مما لا يشبه حالة الزوجين بلوغ الأجل لم يحنث، وهذا أظهر والله أعلم. وَرَجَعَ مَالِكُ إِلَى أَنْ إِذَا مِتُّ مِثْلُ إِنْ مِتُّ فِي أَنَّهُ لا يَحْنَثُ، بِخِلافِ يَوْمَ أَمُوتُ حاصله أن للتعليق على موته ثلاث صور، إن قال: إن مت فأنت طالق، لم تطلق عليه لأنه علق الطلاق بموته ولا يطلق على ميت. اللخمي وغيره: إلا أن يريد أنه لا يموت ويعاند في ذلك فيحنث. وإن قال: يوم أموت حنث ناجزاً لتعليقه على أجل لابد منه قال في المدونة، وقال أشهب: لا شيء عليه في مسألة يوم أموت. واختلف قول مالك في إذا مت، هل ذلك بمنزلة إن أو يوم؟ لأن إذا ظرفوشرط فإن غلبنا الظرفية كانت كـ (يوم) وإن غلبنا الشرطية كانت كـ: (إن). اللخمي: ويلزم مثل هذا الخلاف إذا قال: إن مت وقد اختلف في من قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، ولزوجته: وإن خالعتك فأنت طالق البتة؛ فباع أو خالع فقيل: يحنث فيهما، فيعتق العبد ويرد ما أخذ في الخلع والعتق، والحنث سبق البيع والخلع. وقيل: لا شيء عليه لأن العتق والبيع قبل الحنث وهو أحسن.

وإِنْ كَانَ مُحْتَمَلاً غَالِباً مِثْلَ: إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ تَنَجَّزَ عَلَى الْمَشْهُورِ كَالْمُحَقَّقِ، وقَالَ أَشْهَبُ: لا يَتَنَجَّزُ، وقَالَ أَصْبَغُ: إِنْ كَانَ عَلَى حِنْثٍ تَنَجَّزَ، وعَلَى الْحِنْثِ فِي افْتِقَارِهِ إِلَى حُكْمِ قَوْلانِ .. هذا قسيم قوله أولاً: (فإن كان متحققاً) أي وإن لم يكن متحققاً بل (كَانَ مُحْتَمَلاً غَالِباً) فالمشهور أنه يتنجز. وقال أشهب: لا يطلق عليه وينتظر ما علق عليه من حيض أو طهر وبه قال عبد الملك والمخزومي وابن وهب وابن عبد الحكم. وكلا القولين مروي عن مالك. ومنشأ الخلاف هل الغالب كالمحقق أو كالمحتمل غير الغالب؟ فيتوقف على الشرط كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، وفرق أصبغ فقال كالمشهور إن كانت يمينه على حنث وكقول أشهب إن كانت يمينه على بر. ابن عبد السلام: والمثال الذي ذكره المصنف يعني إذا حضت أو طهرت مما يعسر تصور القول الثالث فيه. خليل: وليس بعسير ومثاله: إن لم تحيضي فأنت طالق؛ فإنه علق الطلاق على الطهر، أو: إن لم تطهري؛ فإنه علقه على الحيض، وإن أراد بالحنث والبر خلاف المصطلح عليه في كلام الفقهاء فيحتاج إلى ثبوته أولاً ليتكلم عليه ثانياً. وسلم جماعة قول أشهب في: إذا حضت، واستشكلوا قوله في: إذا طهرت؛ لأنه محقق. وعلى هذا ففي تمثيل المصنف للغالب بالطهر نظر؛ لأنه محقق إلا أن يقال: إنما ذكره ليبين أن أشهب قائل بعدم التخيير في الطهر والحيض لا لأنه من صورة المسألة وأجاب التونسي عن أشهب بأن الطهر ليس بمحقق لأن الموت قد يتأتى قبل انقضاء الحيض وهو ضعيف فإن احتمال الموت ملغى إذا قال: بعد شهر. إلا أن يقال إن الجواب جار على قول أشهب فيما إذا قال: قبل موتي بشهر، فإنا قدمنا عند اللزوم في ذلك.

قوله: (وعَلَى الْحِنْثِ .. إلى آخره) أي إذا فرعنا على المشهور من التخيير يريد وعلى أحد شقي قول أصبغ فاختلف فقال مالك وابن القاسم يلزمه الطلاق مكانه حين تكلم بذلك ولا يفتقر إلى حكم اللخمي وقيل في هذا الأصل لا يقع عليه الحنث بنفس اللفظ بل يفتقر إلى الحكم وهو أحسن لأنه أمر مختلف فيه والحكم يرفع الخلاف. تنبيه: هذا الخلاف إنما هو إذا كانت المرأة ممن تحيض. اللخمي: وأما إن كانت يائسة أو شابة وهي ممن لا ترى حيضها لم يعجل بالطلاق بحال. وَلا يَحْنَثُ فِي مِثْلِ: إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقُ إِلا إِذَا وَطِئَهَا لأَنَّهُ بِيَدِهِ، وفِيهَا: ويُمْكِنُ مِنْ وَطْئِهَا مَرَّةً، ولا يَحْنَثُ بِحَمْلٍ هِيَ عَلَيْهِ .. يعني: إذا قال: إن حملت فأنت طالق؛ فإنه لا يحنث (إِلا إِذَا وَطِئَهَا) لأن الحمل موقوف على سبب والسبب بيد الحالف إن شاء أوقعه وإن شاء لم يوقعه وهو الوطء والضمير في قوله (لأَنَّهُ) يحتمل عوده على الحمل وإن لم يكن حقيقة بيد الحالف لكن سببه وهو الوطء بيده وأتى المصنف بهذا المثال في الغالب لأن الغالب على النساء الحمل ثم بين وجه المخالفة بينه وبين ما تقدم بقوله (لأَنَّهُ بِيَدِهِ) أي بخلاف الحيض والطهر في المثال السابق فلذلك عجلنا عليه الحنث هنالك ولم نعجله هنا. وقوله: (وفِيهَا: ويُمْكِنُ مِنْ وَطْئِهَا مَرَّةً) لا خلاف في ذلك قاله ابن عبد السلام. عياض: وقوله لا يمنع من وطئها مرة معناه إن لم يمكن وطؤها في ذلك الطهر ولو وطئها فيه طلقت عليه عند ابن القاسم وروايته: واختلف بعد الوطء فقال في المدونة: يعجل عليه الطلاق بإثر الوطء [361/ ب] وقال ابن الماجشون: لا يعجل وينتظر ثم يطأها في كل طهر مرة، كقوله في المدونة في العتق، وقال أشهب: لا شيءعليه حتى يكون ما شرط ابن يونس فوجه قول ابن القاسم إذا وطئها صار حملها مشكوكاً فيه فيعجل الطلاق لأن

من شك هل حنث أم لا فهو حانث، ووجه قول أشهب أن من أصله أن لا يطلق إلا على من علق إلى أجل آت لابد منه فكان هذا عنده بمنزلة من قال: إذا أتى فلان فأنت طالق، ووجه قول ابن الماجشون أنه لا يحصل الحمل من كل وطء فوجب أن لا تطلق عليه حتى يختبر أمر هذا الوطء، ويمسك عن وطئها إذ لا يدري هل حملت منه أم لا؟ قياساً على الأمة، إذ قال لها: إذا حملت فأنت حرة. والفرق عند ابن القاسم بين الأمة والحرة أنهم أجمعوا أنه لا يجوز الطلاق إلى أجل ويجوز العتق إلى أجل. وقوله: (ولا يَحْنَثُ بِحَمْلٍ هِيَ عَلَيْهِ) يعني إذا قال لها: إن حملت فأنت طالق، لا يحنث إذا كانت حاملاً وإنما يحنث في المستقبل كما ذكر وهذا تأويل الأكثر على المدونة، وتأولها بعضهم على أنه يحنث بحمل هي عليه. ولا يؤخذ من كلام المصنف أن قوله: (ولا يَحْنَثُ بِحَمْلٍ هِيَ عَلَيْهِ) أن ذلك في المدونة. ابن عبد السلام: ظاهر كلامه أن هذا في المدونة وليس هو في التهذيب ليس بظاهر. وَفِيهَا: إِذَا حَمَلْتِ ووَضَعْتِ فَأَنْتِ طَالِقُ إِنْ كَانَ وَطِئَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ مَرَّةً حَنِثَ مَكَانَهُ ولا يُنْتَظَرُ أَنْ تَضَعَ، فَقِيلَ: اخْتِلافُ، والصَّحِيحُ: إِنْ كَانَ وَطِئَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ، وقِيلَ: الْقَصْدُ هُنَا الْوَضْعُ .. أتى بهذه المسألة لمخالفتها الأولى أو لأنها تحتمل ذلك وكذلك أتى بها في المدونة بإثر الأولى. وقوله: (فَقِيلَ: اخْتِلافُ) هو مذهب اللخمي فإنه قال: واختلف في من قال: إذا حملت فأنت طالق؛ وهي غير ظاهرة الحمل، فظهر بها حمل بعد ذلك، فقال ابن القاسم: لا يمنع من وطئها وإذا وطئها مرة وقع عليه الطلاق، وقال أيضاً: في من قال: إذا حملت ووضعت فأنت طالق إن كان وطئها في ذلك الطهر فهي طالق مكانها لحنثه لما تقدم من

الوطء قال المصنف: (والصَّحِيحُ) في فهم المدونة أنها ليست خلافاً للأولى وأن في كلامه في هذه إضمار تقديره: إن كان وطئها في ذلك الطهر مرة بعد اليمين حنث، وفيما زعم أن المصنف أنه الصحيح بعد من جهة اللفظ. وقال ابن شبلون: إنما المعلق عليه هنا الوضع وذلك لأن الطلاق مغيا بغايتين وقد علم في أصول الفقه أن الحكم المغيا بغايتين أن المعتبر منهما الأخيرة، وأن تسمية الأولى منهما غاية إنما هو لقربها من الأخيرة كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] فالغاية الحقيقة هي التطهير، ويسمى الطهر غاية إما لقربه من التطهير وإما لكونه سبباً فيه فكأنه قال: هذا إذا وضعت وقد وجدت مظنة الحمل المسبب عنه الوضع بوطئها قبل اليمين فنجز لذلك وليس كذلك الأولى. خليل: وعلى ما تقدم من نقل عياض أنه لو وطئ في المسألة السابقة قبل اليمين طلقت عليه في قول ابن القاسم، وروايته تدفع المعارضة بالكلية لأن الأولى حينئذ توافق الثانية في الحنث بالوطء قبل اليمين. وَعَلَى الْحِنْثِ، لَوْ قَالَ: كُلَّمَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَنَجَّزُ الثلاث، وقَالَ سَحْنُونُ: اثْنَتانِ .. هذا الفرع مبني على المشهور، أي إذا علق الطلاق على غالب وبنينا على المشهور من التنجيز فلو قال لها: كلما حضت فأنت طالق، وأتى بما يقتضي التكرار، فقال ابن القاسم: تطلق ثلاثاً، ورأى أن الطلقة الثالثة تقع مع الحيضة الثالثة. ورأى سحنون وقوعها بعد بينونتها بدخولها فيها فلا يقع وهو قول ابن الماجشون، ووجه قولهما أنه يعجل ما لو حصل زمناً كانت فيه زوجة، وعلى هذا فسحنون موافق على التعجيل.

ونقل اللخمي عن مالك في الموازية أنه لا يعجل عليه وإنما تطلق في الحيضة الأولى طلقة، وفي الثانية طلقة فقط. وقيد ابن يونس قول سحنون بما إذا كانت طاهراً، فقال: وقال سحنون: إذا قال لها ذلك- أي كلما حضت- وهي طاهر لزمه طلقتان، قال: ووجهه كأنه قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، وإذا حضت الثانية فأنت طالق، وإذا حضت الثالثة فأنت طالق، وهي إذا حاضت فقد بانت منه فكأنه أوقع الثالثة بعد أن بانت منه، فلا يلزمه ونحو هذا التعليل لسحنون، والله أعلم. وفيها: إنَّ (مَتَى مَا) مِثْلُ (إِنْ) إِلا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا مَعْنَى (كُلَّمَا) تقدم الكلام على هذا في باب الأيمان. وإِنْ كَانَ مُحْتَمَلاً غَيْرَ غَالِبٍ يُمْكِنُ الاطِّلاعُ عَلَيْهِ- فَإِنْ كَانَ مُثْبَتاً انتُظِرَ ولَمْ يَتَنَجَّزْ إلا أَنْ يَكُونَ وَاجِباً، مِثْلَ: إِنْ صَلَّيْتِ فَيَتَنَجَّز إِلا أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمُؤَجَّلُ قَبْلَ التَّنْجِيزِ. لما قدم الكلام على المحقق والغالب تكلم على المحتمل غير الغالب بشرط أن يمكن الإطلاع عليه، ويعلم وقوعه ثم قسمه إلى قسمين أحدهما أن يكون مثبتاً كقوله: إن دخلت الدار أو جاء زيد فامرأته طالق، فهذا ينتظر بلا خلاف، ثم استثنى من هذا القسم ما كان واجباً، فقال: (إلا أَنْ يَكُونَ وَاجِباً، مِثْلَ: إِنْ صَلَّيْتِ فَيَتَنَجَّز) لأنه وجوبه يمنع من تركه فيصير كالمحقق، وهكذا قال ابن سحنون [362 /أ] عن أبيه أنه لو قال: أنت طالق إذا صليت أنت أو إذا صليت أنا فهو سواء وتطلق الساعة لأنه أجل آت ولابد من الصلاة. خليل: وينبغي أن يجري على الخلاف فيما لا يمكنه تركه وهو قوله: (إن أكلت أو شربت) وهو مقتضى كلامه في المقدمات، وقال ابن عبد السلام: ينبغي أن يختلف فيه من الخلاف

في الغالب الوقوع، وقال ابن راشد في قول المصنف إلا أن يكون واجباً مثل إن صليت فيتنجز نظر لأن مذهبه في المدونة أن التنجيز لا يفتقر إلى حكم ويقع بنفس الحلف وها هنا قال أنه إن لم يصل لم يتنجز، والقياس أنه لا فرق بينه وبين إن دخلت لأن كليهما يفعله باختياره وليس وجوبه مما يضره غالباً فتأمله. قوله: (إِلا أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمُؤَجَّلُ) مثاله لو قال: إن صليت اليوم فأنت طالق فمضى اليوم ولم يصل. فَإِنْ قَالَ: بَعْدَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرِ طُلِّقَتْ عِنْدَ قُدُومِهِ لأن التعليق في هذه المسالة على قدوم زيد وهو من المحتمل غير الغالب، فلذلك انتظر وحكم بالتنجيز عند قدومه لأن الشهر أجل لابد منه. وَإِنْ كَانَ نَفْياً يُمْكِنُهُ دَعْوَى تَحْقِيقِهِ لفِعْلٍ لَهُ غَيْرَ مُحَرَّمٍ أَوْ لِغَيْرِهِ مُطْلَقاً غَيْرِ مُؤَجَّلٍ مُنِعَ مِنْهَا حَتَّى يَقَعَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وقِيلَ: إِلا فِي مِثْلِ: إِنْ لَمْ أَحُجَّ ولَيْسَ وَقْتَ سَفَرٍ، أَوْ لأَخْرُجَنَّ إِلَى بَلَدِ كَذَا وكَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفاً فَيُتْرَكُ حَتَّى يُمْكِنَهُ. هذا قسيم قوله: (فإن كان مثبتا انتظر) ومراده بالنفي أن تكون الصيغة على حنث، كقوله: إن لم أفعل، ومعناه لأفعلن، ولهذا لم يقل المصنف منفياً، وإن كان مقابل قوله: (مثبتاً)، وقابل اسم المفعول بالمصدر لكونه ليس منفياً في الحقيقة، واحترز بتمكن دعوى تحقيقه من نحو: إن لم تمطر السماء غداً، فإنه (يتنجز). وبغير محرم من مثل: إن لم أشرب الخمر فامرأتي طالق، فإنه يتنجز عليه لمنعه مما حلف عليه أو لغيره مطلقاً أي محرماً كان أم لا، فعلى هذا لا فرق بين إن لم يخل زيد الدار أو لم يشرب الخمر فامرأته طالق في عدم التنجيز. وما ذكره ليس بظاهر. والظاهر أنه لا فرق في التنجيز في المحرم بينه وبين غيره لمنعهما معاً من ذلك، بل ينبغي أن يكون الأمر في الأجنبي أشد، لأن الزوج قد يفعل

المحرم لرغبته في الزوجة وأن المشهور إنما يضرب أجل الإيلاء له إذا حلف على فعل نفسه وأما على غيره فلا، ويتلوم له القاضي ثم يطلق عليه، ولم يحك القرويون غيره. وحكى صاحب المقدمات الخلاف فقال: وحلف الإنسان بالطلاق على فعل غيره على وجهين: الأول: أن يحلف عليه ألا يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا، ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال: أحدهما أنه كالحالف على فعل نفسه ليفعلن فيمنع من الوطء ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل. والثاني: أنه يتلوم على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، واختلف هل يطأ في هذا التلوم؟ على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب أجلاً. لأن التلوم كضرب الأجل، فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء. والثالث: الفرق بين أن يحلف على غائب أو حاضر، وهو الذي يأتي على ما في سماع عيسى. قوله: (غَيْرِ مُؤَجَّلٍ) احترازاً من المؤجل كما لو قال: إن لم أدخل الدار بعد شهر فأنت طالق، فإنه لا يمنع من الوطء قبل الشهر لأن القاعدة: أن من ضرب أجلاً فهو على بر إليه. وقوله: (مُنِعَ مِنْهَا) هو جواب الشرط. وقوله: (إِلا فِي مِثْلِ: إِنْ لَمْ أَحُجَّ ... إلى آخره)، يعني أن المشهور منعه مطلقاً وهو قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء، والشاذ وهو قول غيره فيها أنه يمنع من الوطء إلا في مثل قوله: إن لم أحج في هذا العام وذلك الوقت ليس وقت سفر لأنه في معنى المؤجل، ولأن الأيمان إنما تحمل على المقاصد ولا يقصد أحد أن يسافر إلى الحج إلا في وقته المعتاد.

ابن عبد السلام: والأظهر عندي أنه تقييد وإن كان شراح المدونة اختلفوا هل هو تقييد أو خلاف؟ وفي المقدمات: إن كان الفعل لا يمكنه فعله في الحال مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول العام، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدهما: أنه يمنع من الوطء من الآن وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من المدونة ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من العتبية. والثاني: لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك. والثالث: أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل. والرابع: أنه لا يمنع حتى يفوته فعل ذلك الفعل. فَإِنْ رَفَعَتْهُ فَكَالْمُولي مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ ظاهره سواء حلف على نفسه أو فعل غيره، وقد تقدم أن المشهور المعروف خلافه، وقوله: (مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ) لأن ترك الوطء إنما جاء بطريق اللازم، وما كان كذلك فالأجل فيه من يوم الرفع بخلاف ما لو كانت يمينه على ترك الوطء صريحاً كقوله: والله لا أطأك فإن أجله من يوم اليمين، وقيل في الأول: أن الأجل أيضاً من يوم [362/ ب] اليمين، وقيل: بل من حين يتبين ضرره لا من حين المرافعة. وإن حَبَسَهُ عُذْرُ فِي الْمَنْفِيِّ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلانِ هذان القولان ذكرهما في البيان في باب الأيمان فقال: ومن حلف أن لا يفعل فعلاً فأكره على فعله فلا يحنث بلا اختلاف، وإنما اختلف إذا حلف ليفعلن فعلاً فمنع وحيل بينه وبينه، فالمشهور أنه حانث إلا أن ينوي إلا أن يغلب. وقال ابن كنانة: لا حنث عليه، فلو قال: فلو حبسه عذر في النفي لكان أحسن ليكون موافقاً لقوله: أولاً: (وَإِنْ كَانَ نَفْياً).

تنبيه: يستثنى من هذه القاعدة، ما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أحبلها، فإنه لا يمنع من وطئها. قال في المقدمات: وله أن يطأها أبداً حتى يحبلها، لأن بره في إحبالها وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك، له أن يطأها لأن بره في وطئها، وإن وقف عن وطئها كان مؤلياً عند مالك والليث فيما يروى عنهما. وقال ابن القاسم: لا إيلاء عليه، وهو الصواب. وإنما في مِثْلِ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ مُطْلَقاً أَوْ إِلَى أَجَلٍ إِذْ لا برَّ لَهُ إِلا بِالطَّلاقِ، وقِيلَ: يُمْنَعُ فَإِنْ رَفَعَتْهُ فَفِي ضَرْبِ الأَجَلِ أَوِ التَّعْجِيلِ: قَوْلانِ لما قدم أنه إذا كانت يمينه على نفي يمكن دعوى تحقيقه يمنع منها ولا ينجز الطلاق خشي أن ينقض عليه بمثل هذه الصورة فذكرها، وذكر الوجه الذي خالف لأجله تلك القاعدة، وهو أنه لا بر له هنا إلا بالطلاق فلم يكن للإيقاف فائدة. وقوله: (مُطْلَقاً) أي من غير ضرب أجل كما لو قال: إن لم أطلقك بعد شهر فأنت طالق، وهذا هو المشهور ومذهب المدونة. وحكى اللخمي قولاً آخر: أنه لا يلزمه طلاق حتى ترفعه ويوقعه السلطان، وإليه أشار بقوله: (وقِيلَ: يُمْنَعُ) قيل: وهو أقيس لأن المرأة قد تصبر. ثم فرع المصنف على الشاذ بقوله: (فَإِنْ رَفَعَتْهُ ... إلى آخره). يعني اختلف إذا رفعت هل يطلق عليه بالحضرة، إذا لا فائدة في الصبر أو بعد ضرب أجل المولي رجاء أن ينحل عزمها عن القيام بالطلاق، وهذان القولان ذكرهما اللخمي وغيره وكذا صرح ابن بشير وابن شاس بأن هذين القولين مبنيان على الشاذ وأما على المشهور فلا يأتي هذا لأنه يقع عليه الطلاق بمجرد كلامه كما صرح به في المدونة.

ولا إشكال أنه على القولين بضرب الأجل وعدمه أنه لا يمكن من الوطء لأنه على حنث في يمينه. عياض: فإن اجترأ ووطء سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له، ولا يلزمه استبراء من هذا الوطء متى جاز له تطليقها ومراجعتها للاختلاف في منعه من الوطء في يمين الحنث. وَكَذَلِكَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ رَاسَ الشَّهْرِ أَلْبَتَّةَ فَأَنْتِ طَالِقُ أَلْبَتَّةَ، وقَالَ مُحَمَّدُ: لَهُ أَنْ يُصَالِحَ قَبْلَ الشَّهْرِ فَلا يَلْزَمُه إِلا طَلْقَةُ .. (وَكَذَلِكَ) أي التنجيز على المشهور لو قال: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ رَاسَ الشَّهْرِ أَلْبَتَّةَ فَأَنْتِ طَالِقُ رَاسَ الشَّهْرِ أَلْبَتَّةَ فإنها تطلق عليه أَلْبَتَّةَ لأن إحدى البنتين لابد منها لأنه إن طلقها أَلْبَتَّةَ فواضح، وإلا وقعت أَلْبَتَّةَ المعلقة فكان بمنزلة من قال: أنت طالق رأس الشهر أَلْبَتَّةَ، وقد تقدم أن ما علق الطلاق على مثل هذا يعجل عليه، ورأى محمد أن له أن يصالح أي يخالع قبل الشهر فتبين منه، ثم يراجعها بعد الشهر على ما بقي له من الطلاق. وقول محمد إنما يتحقق على عدم التنجيز وإذا تأملته وجدته منتزعاً من قول المؤلف في المسألة التي قيست هذه المسألة عليها، وإنما نجز في مثل: إن لم أطلقك فأنت طالق، إذ لابد له منه، وأما هذه فله الخروج منها عن عقدة اليمين بطلاق غير الطلاق الذي حلف به. فإن قيل: قول محمد مشكل، لأنه لم يقل فيما إذا قال لزوجته ابتداءً: أنت طالق رأس الشهر البتة إن لم يخالع، وهذه المسألة راجعة إلى هذا المعنى كما قررته، قيل: قد يقال في هذه المسألة الحلف أن للحالف أن يطلب ما حلف على فعله رأس الشهر فيؤخر لطلب ذلك، وإذا صح له التأخير صحت له المخالعة. وأما من قال ابتداءً من غير حلف: أنت طالق ألبتة رأس الشهر؛ فلا معنى للانتظار، وفيه نظر.

فإن قيل: لم قررتم الكلام على أن معناه إن لم أطلقك رأس الشهر البتة فأنت طالق رأس الشهر البتة وما المانع من أن يكون المراد إن لم أطلقك رأس الشهر البتة فأنت طالق الآن البتة؟ قيل: لأنه لو كان المراد هذا لما لزم الحالف شيء بوجه لأنه إذا حلف على إيقاع البتة رأس الشهر بوقوع البتة الآن فله طلب تحصيل المحلوف عليه وهو إيقاع البتة عند رأس الشهر، فإذا جاء رأس الشهر فله ترك ذلك الطلب واختيار الحنث كما لكل حالف، فإاذ اختاره لم يكن له وقوع الحنث عليه لانعدام زمان البتة المحلوف بها هكذا قال ابن عبد السلام. خليل: وما قاله من عدم وقوع الطلاق لمضي زمانه، يأتي على ما قاله ابن عبد الحكم في من قال لزوجته: أنت طالق اليوم إن كلمت فلاناً غداً؛ أنه إن كلمه غداً فلا شيء عليه لأن الغد الآن مضى وهي زوجة وقد انقضى وقت وقوع الطلاق. ومثله لابن القاسم في الموازية في من قال لامرأته: إن تزوجتك فأنت طالق غداً؛ فتزوجها بعد غد: لا شيء عليه، وإن تزوجها قبل غد طلقت عليه، لكن قال أبو محمد: قول ابن عبد الحكم خلاف أصل مالك والطلاق يلزمه إذا كلمه وليس لتعلق الطلاق بالأيام وجه. وفي العتبية: في أنت طالق اليوم إن دخل [363/ أ] فلان الحمام غداً لم تكن طالقاً إلا أن يدخل فلان الحمام غداً وله وطؤها. نقل ذلك كله عياض في باب الظهار، وعلى هذا تلزمه ألبتة ولو مضى زمانها، وأيضاً فالمسألة التي ذكرها المصنف بإثر هذه مما يرد ما قاله ابن عبد السلام، لأنه لو كان ما قاله صحيحاً لزم فيما إذا قال: إن لم أطلقك واحدة بعد ذشهر فأنت طالق الآن البتة لا يلزمه شيء لما ذكره ولا كان يحسن الخلاف في تعجيل الواحدة فانظره.

وإذا قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلَّقْكِ وَاحِدَةً بَعْدَ شَهْرٍ فَأَنْتِ طَالِقُ الآنَ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ أَرَادَ تَعْجِيلَ الْوَاحِدَةِ قَبْلَ الأَجَلِ، فَوَقَفَ فِيهَا مَالِكُ، وقَالَ أَصْبَغُ: لا يُجْزِئُهُ، وقَالَ مُحَمَّدُ: إِنْ كَانَ الْقَصْدُ غمَّهَا بِهِ أَجْزَأَهُ ... إذا أراد تعجيل الواحدة قبل الشهر فقال ابن بشير وابن شاس كالمصنف وقف مالك في ذلك. وقال أصبغ: لا يجزئه لأن المشروط لا يتقدم على شرطه. أصبغ: فإن طلق ثم جاء رأس الشهر فلم يطلق واحدة لزمته البتة. ونظر محمد إلى المقاصد ونص قوله عند اللخمي: وقال محمد إذا سألته أو سأله أهلها أن يطلقها في غير هذا الحين فحلف لهم، ثم عجل الطلقة لم ينفعه وإن كان ذلك ابتداءً ليغمها أجزأه. اللخمي: ولو حلف عند سؤالهم أنه لا يؤخر الطلاق عن رأس الهلال لجاز له أن يعجلها، وهذا إن كانت يمينه ليطلقها رأس الشهر، وأما إن قال: إلى رأس الشهر فليس له أن يعجل الطلقة لأن إلى غاية يثبت ألا يوقع الطلاق إلى رأس الشهر فإن أوقعه قبل ذلك وقع الطلاق ولم يبره المعجل. انتهى. ولم يتعرض المصنف لحكم هذه المسألة ابتداءً وإنما تكلم على أنه هل له تعجيل الطلقة المحلوف على إيقاعها بعد شهر وذكر فيها قولين، هذا إن لم يعد التوقف قولاً وهو الظاهر، لأن الوقف ليس فيه حكم، وإن عددناه قولاً كان في المسألة ثلاثة أقوال: واعترضه ابن عبد السلام فقال في قوله (ووقف مالك)، تغيير ونقص: أما التغيير فنسبته الوقوف لمالك والواقف هو ابن القاسم، وهكذا ذكره الشيخ أبو محمد عن الموازية ونص ما ذكره: ومن قال: أنت طالق البتة لا طلقتك في الهلال واحدة ثم أراد تعجيل الحنث

بالواحدة فوقف فيها ابن القاسم، وقال: لا أرى أن تجزئه ولو جاء الهلال ولم يطلقها طلقت البتة، ولم يحك عن مالك في هذا الفصل شيئاً. وتأمل قوله: ولا أرى أن تجزئه فإن كان بأثر الوقف فيكون توقيفه، كلا توقف، وإنما تردد في أول نظره ثم جزم، وإن كان تردده استمر ثم في زمان آخر جزم صح الوقف. وأما النقص فهو أنه لم يذكر عن ابن القاسم قوله: ولا أرى أن تجزئه. انتهى. وهذا فيه تعسف والأحسن في مثل هذا تحسين الظن بالمصنف، وحاصل كلامه كشهادة على نفي، وقد ذكر اللخمي أن ابن القاسم روى عن مالك التوقف كما قال المصنف، وقد ذكر صاحب البيان حكم المسألة ابتداءً فقال: اختلف في قول القائل: امرأتي طالق ثلاثاً إن لم أطلقها عند رأس الهلال على ثلاثة أقوال: أولها: لابن القاسم إن عجل الطلقة التي عند رأس الشهر لم يلزمه غيرها، وإن أبى – وقف، وقيل له: إما عجلت التطلقة الآن وإلا بانت منك بثلاث، وهذا يأتي على مذهبه في المدونة في الذي يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها، أنه يعجل عليه بالطلاق. والثاني: أنه إن عجل التطليقة التي عند رأس الشهر لم يلزمه غيرها، وإن أبى أن يعجلها، ترك ولم يوقف على الإطلاق، فإن لم يطلق حتى يحل الشهر بانت منه بالثلاث وهو قول أصبغ وسحنون. والثالث: أنه يوقف حتى يأتي الشهر فيبر بالطلاق عنده أو يحنث، وإن عجل التطليقة قبل أن يأتي الشهر ولم يخرجه ذلك عن يمينه، ولم يكن له بد من أن يطلق عند رأس الهلال وإلا حنث وهو قول المغيرة.

وإذا قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقُ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَفِي لُزُومِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثٍ: قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى إِلْغَاءِ الْمُعَلَّقِ أَوِ اعْتِبَارِهِ ... لأنه لما طلقها واحدة طلقت عليه أخرى بالتعليق، واختلف هل تلزمه ثلاثة؛ ينبني على أن فاعل السبب هل هو فاعل المسبب أم لا؟ فإن قلنا إنه فاعله طلقت عليه ثلاثاً، لأنه فعل الأولى وهي سبباً للثانية وإلا لم يلزمه، وهذا معنى قوله: (بِنَاءً عَلَى إِلْغَاءِ الْمُعَلَّقِ أَوِ اعْتِبَارِهِ) والقولان في مسألة المصنف لسحنون، والذي رجع إليه واختاره ولده لزوم الثلاث. وألحق سحنون بـ (كلما) في ما ذكرناه: (إذا ما)، و (متى ما). أَمَّا لَوْ قَالَ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلاقِي فَأَنْتِ طَالِقُ وَقَعَتِ الثَّلاثُ لأنه لم يشترط في الطلقة التي هي سبب أن تكون من فعله فتقع الثانية لوقوع الأولى عليها والثالثة لوقوع الثانية ولا خلاف في هذه. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ فِي الْخُلْعِ فَقَالَ سَحْنُونُ: تَقَعُ وَاحِدَةُ عَلَى أَصْلِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنْ الْمَشْرُوطَ مُقَدَّرُ بَعْدَ الشَّرْطِ أَمْ لا ... يعني: فإن قال لامرأته كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم أوقع عليهخا طلقة قبل البناء، أو أوقع عليها طلقة بعوض، فقال سحنون: لا يلزمه فيها إلا واحدة بناءً على أن المشترط يقع بعد شرطه، ويأتي على أصل غيره لزوم الثلاث، بناءً على أن الشرط والمشروط يقعان معاً. ونظير هذه المسألة ما إذا قال: [363/ ب] إن خالعتك فأنت طالق البتة أو قال لعبده: إن قاطعتك فأنت حر، ثم خالعها أو قاطعه فقال ابن القاسم: يرد ما أخذ فيهما. قال في البيان: وحكى البرقي عن أشهب أنه لا يرد فيهما شيئاً. وكان عبيد يعجب بها ويقول: إنما رضي بالحنث لما أخذ.

ابن رشد: وكذلك أقول أنه الصحيح في القياس لأن المشروط إنما يقع بعد شرطه، وكذلك قال الصحيح في: إن بعتك فأنت حر، أنه لا يلزم البائع عتق. وَلَوْ قَالَ: مَتَى طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقُ قَبْلَهُ ثَلاثاً فَقَبْلَهُ لَغْوُ هذه المسألة تلقب بالسريجية نسبة لابن سريج الشافعي؛ لقوله هو وجماعة من أصحاب الشافعي: لا يلزمه شيء. وما ذكره المصنف نحوه في ابن شاس، وقوله: (فَقَبْلَهُ لَغْوُ) أي فيكون بمنزلة ما لو لم ينطق بـ (قبله)، فإذا طلقها طلقت ثلاثاً، وعلى هذا فترجع إلى المسألة التي قبلها، ويفرق بين قبل البناء وبعده، وهذا مذهب أبي حنيفة. الطرطوشي في تعليقه: وهو الذي يختاره فيقع عليه المباشر وتمام الثلاث من المعلق، لأنه طلاق من مالك صادق ملكه فوجب أن يقع أصله إذا لم يسبق منه هذا الشرط، واحتج ابن سريج وغيره بأن إثبات الطلاق مؤد إلى رفعه وكل ما أدى إثباته إلى نفيه فهو منتف من أصله وذلك لأنها لو طلقت لطلقت قبله ثلاثاً ولو طلقت قبله ثلاثاً لم ينفسخ. ويشهد لهذا مسائل منها: إذا كانت لرجل أمة فزوجها وقبض صداقها وتصرف فيه ثم أعتقها وكان الزوج لم يدخل بها فلا خيار لها، لأن ثبوت الخيار يرفعه إذ لو اختارت لسقط الصداق، ولو سقط الصداق لبطل عتقها لصيرورة السيد مديناً، وإذا بطل عتقها بطل خيارها. ومنها: من زوج عبده من حرة بصداق ضمنه لها، ثم باعها العبد بالصداق قبل الدخول لا يصح البيع لأنه لو صح لملكت زوجها، ولو ملكته فسخ النكاح. ولو فسخ لسقط مهرها، وإذا سقط المهر بطل البيع. ومنها ما وقع لمالك في من أعتق عبديه فادعاهما غيره فشهد له العبد أنه قال: لا تقبل شهادتهما، لأنا لو قبلناها لصارا رقيقاً وبالرق تبطل الشهادة، فلو صحت لبطلت فتبطل.

خليل: ومذهبنا هو الصحيح؛ لأن ما قاله ابن سريج وغيره مؤد إلى اتخاذ آيات الله هزواً؛ إذ يلزم عليه أن كل شخص فعل مثل ذلك لا يمكنه الطلاق في البتة ويبقى يطلق ولا يلزمه وهو خلاف ما شرعه الله تعالى من الطلاق في حق كل زوج. والله أعلم. فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً لَمْ يُمْنَعْ لما قال أولاً: (فإن كان نفياً يمكن دعوى تحقيقه لفعل له غير محرم ... إلى آخره) وكان مشتملاً على قيود أخذ يتكلم عليها. يعني: فإن كان الفعل المنفي مؤجلاً كقوله: إن لم أدخل الدار إلى شهر فأنت طالق لم يمنع منها لأنه على بر؛ لأن القاعدة: أن كل من ضرب أجلاً فعلى بر إليه، وهذا هو المشهور، وحكى اللخمي قولاً آخر بالمنع. والقولان هنا كالقولين الذين لمالك في كتاب العتق الأول من المدونة في القائل: أمتي حرة إن لم أفعل كذا إلى أجل سماه هل يمنع من وطئها في ذلك الأجل أم لا؟ وإِنْ كَانَ مُحَرَّماً، مِثْلَ: إِنْ لَمْ أَقْتُلْ زَيْداً تَنَجَّز إِلا أَنْ يَتَحَقَّقَ قَبْلَ التَّنْجِيزِ عَلَى الْمَشْهُورِ .. هذا مقابل قوله أولاً: (غير محرم) أي وإن كان الفعل محرماً كقوله: إن لم أقتل زيدا اليوم فأنت طالق فإنه يتنجز عليه الطلاق، لأنه لا يمكن من قتل زيد إلا أن يوقع الحالف الفعل المحرم قبل تعجيل الطلاق فقد أثم ولا يلزمه الطلاق وهذا معنى قوله: (إِلا أَنْ يَتَحَقَّقَ ... إلى آخره) والمشهور منصوص في المدونة وغيرها، وكلامه في المقدمات يدل على نفي الخلاف في هذا، وكذلك قال ابن عبد السلام: لست أحفظ الشاذ. خليل: ويمكن تخريجه مما تقدم في باب الأيمان فيمن حلف ليطأنها فوطئها حائضاً هل يبر أم لا؟ بناء على المعدوم شرعاً هل هو كالمعدوم حساً أم لا؟

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَعْوَى تَحْقِيقِهِ، مِثْلَ: إِنْ لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ غَداً طَلُقَتْ نَاجِزاً عَلَى الْمَشْهُورِ لأَنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ بِخِلافِ مَا تَقَدَّمَ إِذْ يَدَّعِي مَعْرِفَتَهُ والْقُدْرَةَ عَلَيْهِ .. هذا مقابل قوله أولاً: (يُمْكِنْ دَعْوَى تَحْقِيقِهِ) أي وإن لم يمكن دعوى تحقيقه، مثل: إن لم تمطر السماء غداً، أو إلى شهر، أو إن لم تمطر في الشهر الفلاني طلقت ناجزاً على المشهور. اللخمي: وقيل لا يحنث حتى ينظر ما يكون غداً، ولابن القاسم في الواضحة قول ثالث في كل من حلف بطلاق على شيءلا يدري أحق هو أم باطل؛ مثل أن يقول: إن لم تكن مطرت الليلة بالإسكندرية وهو بالفسطاط، أو: إن لم تمطر غداً؛ فإنه إن رفع إلى السلطان طلق عليه ولا يؤخره، وإن لم يرفع حتى وجد ذلك الشيء حقاً لم يكن عليه في يمينه شيئ. وقال أصبغ: إن قال: إن مطرت السماء غداً؛ فلا شيء عليه الآن حتى تمطر، قال: وهو بمنزلة من قال: إن قدم فلان غداً فأنت طالق. اللخمي: يريد لأنه عنده على بر وعلى أصله إن قال: إن لم تمطر غداً؛ تطلق عليه لأنه على حنث، وهذا موافق للمشهور وليس هو رابع لأن المشهور يوافق في البر على عدم التنجيز كذلك بين في الواضحة في إذا مطرت أو إن ولدت جارية، وكذلك ساق عياض ما في الواضحة تقييداً ثم إن هذا الخلاف إنما هو إذا قيده بأجل قريب كما ذكرنا، وأما إن قال: إن لم تمطر ولم يقيد فلا شيء عليه. اللخمي: [364/ أ] وسواء عمم أو سمى بلداً لأنه لابد أن تمطر في زمن ما، وكذلك إذا ضرب أجل عشر سنين أو خمس سنين، وقيد بعض الشيوخ وقوع الطلاق على من قال به بما إذا لم يكن يحلف لعادة وأما إن حلف على ذلك لعادة له وعلامات عرفها واعتاد بها ليس من جهة الحرز وتأثير النجوم عند من زعمها لم يقع الحنث حتى يكون ما حلف عليه ويحتج عليه بقوله عليه السلام: "إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمتفتلك عين غديقة".

وقوله: (لأَنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ ... إلى آخره) جواب عن سؤال تقديره: ما الفرق بين هذا على المشهور من أنه ينجز الطلاق وبين ما تقدم في أنه لا يتنجز الطلاق؟ وتقرير الجواب أن هذا حالف على الغيب فأمره دائر بين الشك والهزل، وكل منهما موجب للحنث على المذهب بخلاف ما تقدم، لأنه يمكن معرفته بمقتضى العادة وهو قادر على فعله. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاطِّلاعُ عَلَيْهِ، مِثْلَ: أَنْتِ طَالِقُ إِنْ شَاءَ اللهُ- طُلِّقَتْ، وكَذَلِكَ الْمَلائِكَةُ والْجِنُّ عَلَى الأَصَحِّ بِخِلافِ إِنْ شَاءَ زَيْدُ .. وهذا أيضاً مقابل قوله: (لَمْ يُمْكِنِ الاطِّلاعُ عَلَيْهِ) يعني وإن لم يمكن الإطلاع مثل: أنت طالق إن شاء الله، طلقت ناجزاً لما تقدم في باب الأيمان أن الاستثناء بالمشئة لا يفيد في غير اليمين بالله لا طلاق ولا عتاق. قوله: (وكَذَلِكَ الْمَلائِكَةُ والْجِنُّ) ولعل الخلاف بين الأصح ومقابله مبني على الخلاف في الشك. وقوله: (بِخِلافِ إِنْ شَاءَ زَيْدُ) أي فلا تطلق عليه حتى يشاء زيد ذلك. وانظر هل ذلك من باب التمليك فيزول من يد من جعل بيده بانقضاء المجلس أم لا؟ فَإِنْ قَالَ: إِلا أَنْ يَشَاءَ زَيْدُ فَمِثْلُ إِنْ شَاءَ عَلَى الْمَشْهُور يعني: إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد فهو بمنزلة ما إذا قال: أنت طالق إن شاء زيد على المشهور، فلا تطلق عليه حتى يشاء زيد لأن الطلاق موقوف على مشيئته، ورأى في الشاذ لزوم الطلاق، والفرق أن الكلام في صورة الثانية اقتضى وقوع الطلاق إلا أن يشاء زيد رفعه بعد وقوعه، والطلاق بعد وقوعه لا يرتفع بخلاف الصورة الأولى، فإن وقع الطلاق فيها مشروط بالمشيئة، ومن هذه المسالة ما وقع لأصبغ في من قال: أنت طالق إلا أن يمنعني أبي، فيمنعه فلا شيء عليه. واستشكله بعضهم لأن الطلاق بعد وقوعه لا يرتفع بإرادة أبيه، إلا أن يريد التعليق.

بِخِلافِ إِلا أَنْ يَبْدُوَ لِي عَلَى الأَشْهَرِ يعني: فإنه إذا قال: أنت طالق إلا أن يبدو لي، يقع عليه الطلاق على الأشهر. ورأي مقابل الأشهر عدم اللزوم كالمشهور في إلا أن يشاء زيد، والفرق للأشهر قوة التهمة في: إلا أن يبدو لي، بخلاف إلا أن يشاء زيد، فإنه لا يتهم على ذلك. وقول ابن عبد السلام: في الفرق؛ لأن (إِلا أَنْ يَشَاءَ زَيْدُ) يمكن رده إلى الشرط (بِخِلافِ إِلا أَنْ يَبْدُوَ لِي) ليس بظاهر، لأنه كما يرد إلا أن يشاء زيد كذلك يمكن رد إلا أن يبدو لي إلى إن بدا لي. ابن راشد: ولم أقف على القول بعدم اللزوم في: إلا أن يبدو لي، وهو بعيد في النظر. انتهى. وصرح في البيان بنفي الخلاف في هذا، وكذلك صرح بنفيه في أنه ينفعه إذا قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا إلا أن يبدو لي أو غير ذلك. كَالنّذرِ والْعِتْقِ فِيهِمَا أي في: (إِلا أَنْ يَشَاءَ زَيْدُ) و (إِلا أَنْ يَبْدُوَ لِي) فإذا قال على هذي: إلا أن يشاء زيد توقف اللزوم على مشيئته على المشهور وإذا قال: على هذا أو عتق عبدي فلان إلا أن يبدو لي لزمه على الأشهر. ويحتمل أن يريد بقوله: (فِيهِمَا) مشيئة الله تعالى ومن لا تعلم مشيئته كالملائكة. وَفُرِّقَ بَيْنَ الطَّلاقِ والْيَمِينِ بِاللهِ تَعالى بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلَفْظِ الطَّلاقِ بِمُجَرَّدِهِ حُكْماً قَدْ شَاءَهُ اللهُ فَلا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ عَلَيْهَا لِتَحَقُّقِهَا فَلا يَرْتَفِعُ، بِخِلافِ لَفْظِ الْيَمِينِ، والثاني: أنه متحقق فكان كاليمين على الماضي .. لما ذكر أن الاستثناء بالمشيئة لا يفيد في الطلاق وقد تقدم له أن ذلك يفيد في اليمين بالله تعالى، وكان للأصحاب في الفرق بين ذلك طريقان أراد أن يذكرهما:

الطريق الأول: أن لفظ الطلاق جعله الله سبباً لحل العصمة فحيث ما وجد ذلك السبب ترتب عليه مسببه فلا يقبل التعليق لأن المتعلق على الشيء ينعدم عند عدم الشيء، وذلك الشيء هنا لا يقبل العدم لأنه حكم شرعي وجد سببه، بخلاف لفظ اليمين فإنه لا يوجب فعل ما حلف عليه بل خيره في وفي تركه، والإتيان بالكفارة تارة ومنعه تارة. والطريق الثاني: للبغداديين أن الطلاق لما كان موجباً لحل العصمة لزم أن يقع الطلاق إذا تلفظ بلفظه، وإذا وقع فلا يصح فيه الاستثناء لأنه بمنزلة من حلف بالله تعالى على ما مضى. وهذا إذا تأملته هو في الحقيقة راجع إلى الأول، ويرد عليه أنه لو كان كما قالوه من تحقيق وقوع الطلاق بالتلفظ بالصيغة لزما لطلاق فيما إذا قال: أنت طالق إن شاء زيد، وهذا خلاف الاتفاق، وإذا قبل الطلاق والتعليق بمشيئة زيد ونحوها وجب أن يقبله في مشيئة الله تعالى. وأيضاً فإن قوله: (أَنَّ لِلَفْظِ الطَّلاقِ بِمُجَرَّدِهِ .. إلى آخره) إن أراد بقوله: (قَدْ شَاءَهُ اللهُ) أي حكم به فصحيح، ولكن لما قلتم إنه لا يقبل التعليق؟ فإن هذا لم ينص الشرع [364/ ب] عليه وإلا أومئ إليه، وإن أراد أن كل ما حكم الله قد شاءه فليس بصحيح وهو خلاف مذهب أهل السنة لأن الأمر عندهم لا يستلزم الإرادة، لا يقال إنما قلنا يقبل التعليق في مشيئة زيد ونحوها لإمكان الإطلاع على مشيئته، بخلاف مشيئة الله تعالى فإنا لا نطلع عليها، فلذلك أوقعنا الطلاق، لأنا نقول: لو عكس هذا لكان أولى لأن مشيئة الله تعالى واجبة النفوذ فلذلك كل معدوم وجد نعلم أن الله تعالى أراده، وكل ما لم يوجد نعلم أن الله تعالى لم يرده. وأن مشيئة غيره فلا تعلم لأن غايته أن يخبرنا وخبره إنما يفيد الظن، وفرق ابن المنير على ما نقله ابن راشد عنه بين الطلاق وغيره بأن الأصل في اليمين بالله تعالى والطلاق اللزوم، وإن كان واحد منهما لا ينحل بالاستثناء بالمشيئة خالفنا الأصل في اليمين بالله للحديث الوارد فيه، فيبقى الطلاق على أصل اللزوم.

المازري: وتحقيق قوله إن شاء الله؛ إن أراد بذلك إن شاء الله إيقاع هذا اللفظ مني لزمه الطلاق عند أهل السنة، وإن أراد إن شاء الله لزوم الطلاق للحالف به فيلزم قولاً واحداً، وإن أراد إن شاء الله طلاقك في المستقبل فأنت طالق الآن، فيجري على الخلاف في تعليق الطلاق في المشكوك في وقوعه. وإليه أشار مالك رضي الله عنه بقوله: علق الطلاق بمشيئة من لا يعلم مشيئته. وإن قصد بقوله: إن شاء الله إلزام الطلاق مع الاستثناء فهو من أشكل الوجوه والحق فيه أن يرجع إلى خلاف الأصوليين، هل لله تعالى في الفروع حكم مطلوب ونحن غير عالمين به فيرجع إلى القول الثالث، وهو تعليق اليمين بالمغيبات أو ليس له حكم؟ بل كل مجتهد مصيب؛ فيكون الحق في المسألة معلقاً باجتهاد المفتي. فَإِنْ صَرَفَ مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى إِلَى مُعَلَّقٍ عَلَيْهِ مِثْلَ: أَنْتِ طَالِقُ لأَدْخُلَنَّ الدَّارَ، أو إن دخلت الدار إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يُفِدْ عَلَى الأَصَحِّ، وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وأَصْبَغُ: يُفِيدُ .. لما ذكر أن الاستثناء بالمشيئة لا يفيد إذا ادعاه على الطلاق تكلم على ما ادعاه على الفعل الذي علق عليه الطلاق، وذكر أن الأصح لا يفيده، وهو قول ابن القاسم. ابن عبد السلام: وهو المشهور ويلزمه الطلاق إن لم يدخل إذا كانت يمينه على حنث بانعدام الدار مثلاً، أو إن دخلها إن كانت يمينه على بر. واختار جماعة قول ابن الماجشون حتى زعم ابن رشد أنه هو الجاري على مذهب أهل السنة، وأن المشهور إنما يجري على مذهب القدرية، لأن معنى قوله: أنت طالق لأدخلن الدار إن شاء الله، إذا صرف المشيئة إلى الدخول هو إن امتنعت من الدخول بمشيئة الله فلا شيء عليه.

وكذلك قوله: امرأتي طالق إن دخلت الدار إن شاء اللهن هو إن شاء الله دخولي الدار، فلا شيء عليه، وقد علم من مذهب أهل السنة أن كل واقع في الوجود هو بمشيئة الله تعالى، فامتناع إذا من الدخول أو عدمه هو بمشيئة الله فلا يلزمه طلاق لأن ذلك هو الذي التزمه. أما من قال بلزوم الطلاق فمقتضى قوله: أن بالفعل المعلق عليه الطلاق قد فعله والله تعالى لا يشاء أن يفعله. قال في المقدمات: وذلك مستحيل إلا على مذهب القدرية، فعلى قول ابن القاسم في قوله أن الاستثناء لا ينفعه وأن صرفه إلى الفعل درك عظيم. وأشار صاحب الذخيرة إلى أنه لا ينبغي أن يختلف في صحة كلام ابن الماجشون، وذلك بعد أن قرر قاعدة وهي: أن الأسباب منها ما لم يكله الله إلى خلقه كالزوال. ومنها ما وكله إلى خلقه فإن شاءوا جعلوه سبباً وإلا فلا، وهو التعليقات كلها فدخول الدار ليس سبباً لطلاق امرأة، ولا لعتق عبد في أصل الشرع إلا أن يريد المكلف ذلك فيجعله سبباً للتعليق. وكل ما وكل للمكلف سببيته لا يكون سبباً إلا بجزمه، وإذا تقرر هذا فإذا عاد الاستثناء إلى الفعل المعلق عليه كان معناه أن ذلك الفعل المعلق عليه لم أجزم بجعله سبباً للطلاق، بل فوضت سببيته إلى مشيئة الله تعالى، إن شاء جعله سبباً وإلا فلا وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل سبباً ولا يلزمه شيء إجماعاً ولا يمكن أن يخالف ابن القاسم في هذا، ولكن ساق صاحب المقدمات قول ابن الماجشون على أنه خلاف. وقرر ابن عبد السلام مذهب ابن القاسم بأن قال: يمكن أن يقال إن دخول الدار وعدمه المعلق عليهما لما كان لا يخرجان على المشيئة ولا واحد منهما فذكر المشيئة لا يعيد لأنه لم يقصد التبرك كما في اليمين ولا في حل اليمين لأن الطلاق لا ينحل بها كما مر، ولا إخراج بعض المعلق عليه لأن جمعيه داخل تحت المشيئة كما هو مذهب أهل السنة، فلم

يبق إذاً في ذكرها هنا فائدة فيكون الحكم مع ذكرها كالحكم مع عدم ذكرها، فوجب ترتب الطلاق على عدم الدخول في قوله: لأدخلن، وعلى الدخول في قوله: لا دخلت. خليل: وفي كلام القرافي ما هو جواب عن هذا وهو أن يقال إنما معنى ذكر المشيئة هنا أن الفعل المعلق عليه لم أجزم بكونه سبباً بل فوضت سببيته إلى الله تعالى. أَمَّا لَوْ قَالَ فِي مُعَلَّقٍ عَلَيهِ إِلا أَنْ يَبْدُوَ لِي [365/ أ] فَذَلِكَ لَهُ. كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، أو إن لم أدخل الدار إلا أن يبدو لي، لن معناه حينئذ إن لم أصمم على جعل الدخول أو عدمه سبباً، بل الأمر موقوف على إرادتي في المستقبل فلهذا نفعه، لأن كل سبب وكل إلى إرادته لا يكون سبباً إلا بتضمينه على جعله سبباً. وَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَى حَالٍ وَاضِحَةٍ بَعْدَ الْمُعَلَّقِ فِيهَا هَازِلاً، مِثْلَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الإِنْسَانُ إِنْسَاناً وهَذَا الْحَجَرُ حَجَراً حَنِثَ لِهَزْلِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ أَمْسِ هكذا وقع في بعض التي رأيتها، وعلل المصنف الحنث بهزله وهو ظاهر، ولا يمكن أن يكون وقوع الطلاق هنا لتحقق المحلوف عليه فإن المعلق عليه هنا الطلاق هو نفي الإنسانية ونفي إنسانية الإنسان عنه لا يمكن، فلو كان الوقوع للتحقق لم يقع طلاق وقول ابن عبد السلام: يمكن أن يكون وقوع الطلاق هنا لتحقق المحلوف عليه ليس بظاهر ولعل الواقع في نسخته: (إن كان هذا الإنسان إنساناً) بإسقاط حرف النفي، ولهذا قال: وإذا اقترن بالكلام ما يدل على أن المراد وهو تمام الأوصاف الإنسية كالكرم والشجاعة وغير ذلك، وكون الحجر صلباً بحيث لا يتأتى للحديد، فعلق المتكلم على وجود هذه الأوصاف أو عدمها فلا يحصل الطلاق إلا بحصول الشرط.

وقوله: (كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ أَمْسِ) أي فيلزم، وهذا أيضاً متردد بين الهزل والإخبار، لأن ما يقع الآن يستحيل أمس، فيكون هذا الاعتبار هازلاً، ويحتمل أن يريد به الإخبار أي أخبر أنه طلق أمس فيلزم أيضاً الطلاق. فَإِنْ كَانَتْ لا تَعْلَمُ حَالاً ومآلاً طُلِّقَتْ أي: فإن كانت الصفة المعلق عليها الطلاق (لا تَعْلَمُ حَالاً ومآلاً طُلِّقَتْ) كما لو قال: إن لم يكن خلف جبل قاف كيت وكيت. أو إن لم يكن في وسط البحر المالح كيت وكيت. فأنت طالق. وكما لو حلف أن فلاناً من أهل الجنة أو النار فأنت طالق، أعني في غير الذين ثبت لهم ذلك. ابن عبد السلام: ولا يبعد تخريج الخلاف في قوله: أنت طالق إن شاءت الملائكة أو الجن. وَإِنْ أَمْكَنَ حَالاً وادَّعاه دُيِّنْ كما لو قال ليلة تسع وعشرين والسماء مغيمة: علي الطلاق إن لم أكن رأيت الهلال وقوله: (دُيِّنْ) أي وكل إلى دائنه وحلف إن رفع إلى حاكم. وتفسير ابن عبد السلام: قوله: (دُيِّنْ) فيحلف ليس بظاهر لأن النظر في الأيمان تختص بالأحكام. وكَذِلِكَ لَوْ حَلَفَ اثْنَانِ عَلَى النَّقِيضِ فِيهِمَا، مِثْلَ: إِنْ كَانَ هَذَا غُرَاباً وإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ لَمْ يدَّعِ يقيناً طُلِّقَت عَلَى الأَصَحِّ .. يعني: لو حلف شخصان (عَلَى النَّقِيضِ) أي حلف كل منهما على نقيض ما حلف عليه صاحبه (فِيهِمَا) أي فيما لا يعلم حالاً ومآلاً، أو ما يعلم حالاً، ومثل المصنف بمثال واحد إما لأنه رآه صالحاً للصورتين فإنه إذا حلف أحدهما بالطلاق أنه غراب، والآخر

ليس بغراب، فإن كان الطائر لا يعرف لبعده حنثا، وإن كان قريباً بحيث يمكن كل منهما أن يدعي يقين ما حلف عليه الآخر صدقا، وهكذا قال ابن راشد، وإما لأنه مثل ما يمكن حالاً، وسكت عن تمثيل الذي لا يمكن حالاً ومآلاً، فيكون مثاله كما لو حلف شخص بالطلاق أن فلاناً من أهل الجنة وحلف غيره أنه من أهل النار. وقوله: (فَإِنْ لَمْ يدَّعِ يقيناً). ابن راشد: أي وإن لم يدع كل واحد منهما أنه حلف على يقينه وإنما حلف على ما يظن أو يشك، حنث على الأصح، والقول بعدم اللزوم مشكل. ابن راشد: ولا يبعد ما نقله المصنف عن أصول المذهب، وعكس بعضهم النقل فأتى بما ظاهره العكس، أعني أنه جعل القولين فيما إذا جزم كل واحد من الحالفين بصحة ما حلف عليه، وإن لم يجزما لزمهما الطلاق، وأجمل بعضهم النقل وأتى بما يدل على أن المسألة مختلف فيها من حيث الجملة، وكأن المصنف اختصر المدونة ونصها: ومن قال لرجل: امرأتي طالق، لقد قلت كذا، وقال الآخر: امرأته طالق إن كنت قلته؛ فليدينا ويتركا إن ادعيا يقيناً. واختلف قول مالك خارج المدونة هل يحلفان أم لا؟ وبني ذلك على الخلاف في توجيه يمين التهمة، قيل: ومحل الخلاف إذا رفع الأمر إلى الحاكم، وأما لو جاءا مستفتيين فلا وجه لليمين، ونظير هذه المسألة في العتق من المدونة في العبد بين الشريكين فقال أحدهما: هو حر إن كان دخل المسجد، وقال الآخر: هو حر إن كان لم يدخل، فليدينا ويتركا إن ادعيا يقيناً فإن شكا عتق عليهما بغير قضاء. وقال غيره بالقضاء فإن قيل: كيف جرى الخلاف هنا في الشك، وقد تقدم في باب الصيد والذبائح أنه متى شك هل مات من الزكاة أو غيرها لم يؤكل بالاتفاق، وإنما الخلاف في الظن قيل: لأن الأصل هنا استمرار النكاح بخلاف ما ذكرت.

أما لو كان لرجل امرأتان فرأى طائراً فقال: إن كان هذا غراباً فزينب طالق وإن لم يكن غراباً فعزة طالق؛ والتبس عليه الأمر وتعذر التحقيق طلقتا عليه، وكان ذلك كاختلاط الميتة مع الذكية قاله بعضهم. وَفِيهَا: إِنْ قَالَ: فَعَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ كَاذِباً صُدِّقَ بِيَمِينِ [365/ ب] مثاله لو قال لزوجته: تزوجت أو اشترين جارية ثم حلف لامرأته إن كنت فعلت ذلك فأنت طالق، ثم قال: كنت كاذباً في قولي أولاً، لم يلزمه الطلاق لأن كلامه أولاً لا مدخل له في الطلاق. قوله: (صُدِّقَ بِيَمِينِ) أي يحلف أنه كان كاذباً وإنما حلف لأن كلامه أولاً يوجب التهمة. بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَ بَعْدَ الْيَمِينِ: فَعَلْتُهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ كما لو حلف بالطلاق لا يدخل الدار ثم قال: دخلتها؛ لزمه الطلاق وقضى عليه به؛ لأنه أقر بانعقاد اليمين، وأقر بعد ذلك بالحنث، قالوا: ولو شهد عليه شهود بأنه فعل كذا فحلف بالطلاق لقد كذبوا في ذلك، لم يلزمه الطلاق لأنه حلف على رد قولهم، وفيه نظر، قالوا: ولو شهد عليه غيرهما، أنه فعل ذلك الفعل فإنه يحنث، وقالوا لو شهدت بينة أنه وجد منه ريح الخمر فحلف بالطلاق ما شربها لم يحنث. وَلا يَسَعُ زَوْجَتَهُ- إِنْ عَلِمَتْ إِقْرَارَهُ- الْمُقَامُ إِلا كُرْهاً إِنْ بَانَتْ كَمَنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا طُلِّقَتْ ثَلاثاً ولا بَيِّنَةَ لَهَا إِذْ لا يَنْفَعُهَا مُرَافَعَتُهُ .. المسألة متصلة بالتي قبلها في المدونة كما هنا، ففيها: فإن كان علم أنه كاذب في إقراره عندهم بعد يمينه حل له المقام فيما بينه وما بين الله تعالى ولم يسع امرأته المقام معه إن سمعت إقراره هذا إن لم تجد بينة ولا سلطاناً فهي كمن طلقت ثلاثاً ولا بينة لها فلا تتزين

له ولا يرى لها شعراً ولا وجهاً إن قدرت، ولا يأتيها إلا كارهة ولا تنفعها مرافعته ولا يمين عليه إلا بشاهد. وقوله: (إِلا كُرْهاً) معناه مكرهة وهو أحسن من قوله في المدونة: كارهة؛ إذ لا ينفعها كراهة إتيانه فيما بينها وبين الله تعالى، وإنما ينفعها أن تكون مكرهة ولتبعد منه بما قدرت عليه، وإن قدرت على ضربه إذا أرادها فلتفعل، وهو كالعادي والمحارب. وقال سحنون: لا تقتله ولا تقتل نفسها، واختاره بعض الشيوخ، واعترض قياس ابن المواز بأن شرط القياس أن يثبت في الفرع مثل حكم الأصل، والمثلية هنا غير حاصلة، لأن الحكم في الحرابة التخيير بين ممانعة المحارب أو تسليم المال له، والحكم هنا متحتم الممانعة، ولأن قتله إما أن يكون قبل الوطء وهو لا يجوز لعدم حصول موجب الحد أو بعده وذلك لا يجوز لها أيضاً، لأن الواجب عليه الحد وذلك للأئمة، وأجيب عن الأول بأن مراد محمد الاستدلال الذي هو محاولة الدليل عن القواعد الشرعية لا حقيقة القياس، وذلك لأن حرمة الفروج أقوى من حرمة المال، وإذا جازت المدافعة في الأضعف ففي الأقوى أولى. وعن الثاني باختيار أن لها القتل قبل الوطء إذا لم يمكنها دفعه إلا بذلك، كما لو أراد قطع عضو منها. ابن عبد السلام: وأجاب بعضهم عن كلام ابن المواز أيضاً بأنه مبني على أحد القولين في تقييد المنكر بالقتل، وفيه نظر. والله أعلم. فَإِنْ أَمْكَنَ مَآلاً مِثْلَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلاً. أو: إِنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلاً فَأَنْتِ طَالِقُ، فَقَالَ مَالِكُ: هِيَ طَالِقُ، لأَنَّهُ لا يَدْرِي أَحَامِلُ هِيَ أَم لا؟ وقِيلَ: إِنْ أَنْزَلَ وُقِفَتْ فِيهِمَا، وإِلا خُلِّيَ فِي الأُولَى، وطُلِّقَتْ فِي الثَّانِيَةِ .. يعني: وإن طلق الطلاق على صفة يمكن الإطلاع عليها في المآل وذكر اللخمي في هذه المسألة أربعة أقوال فقال: إن قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق وإن لم تكوني حاملاً

فأنت طالق، فإن كانت في طهر لم يمس فيه أو مس ولم ينزل كان محملها على البراءة، فإن قال: إن كنت حاملاً لم تطلق. وإن قال: إن لم تكوني حاملاً طلقت. وكذلك إن كان يعزل لأن الحمل نادر. واختلف إذا أنزل ولم يعزل على أربعة أقولا، قال مالك في المدونة: هي طالق مكانها لأنه في شك من حملها، وسواء قال: إن كنت حاملاً، أو: إن لم تكوني حاملاً. وفي الواضحة: لا يقع عليها طلاق إلا أن يوقعه الحاكم. وقال أشهب: لا شيء عليه الآن ويؤخر أمرهما حتى تنظر هل هي حامل أم لا، وفرق أصبغ بين أن يكون على بر أو حنث، وقال إن كنت حاملاً لم يقع الطلاق لأنه على بر حتى يعلم أنها حامل، وإن قال: إن لم تكوني حاملاً عجل الطلاق لأنه على حنث. واختار اللخمي قول أشهب، والقول الثاني من كلام المصنف هو قول أصبغ إلا أنه زاد: إن أنزل وقفت فيهما، أي في الصورتين، لكن في كلام المصنف مخالفة للخمي؛ لأن المصنف إنما ذكر القول الثاني إذا لم ينزل، واللخمي ذكره إذا أنزل. والله أعلم. وَإِذَا وَقَفَتْ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فَثَالِثُهُا: تَرِثُهُ لا يَرِثُهُا يعني: إذا فرعنا على مذهب المدونة من التخيير فلا ميراث، وإن فرعنا على القول بالوقوف أو على افتقاره إلى حكم حاكم، فمات أحدهما، فقيل يتوارثان. ابن عبد السلام: وهو الأصح استصحاباً لحال الزوجية؛ لأن الطلاق لم يقع إلى الآن بل وقوعه متعذراً لأجل الموت. والقول الثاني: أنهما يتوارثان لحصول الشك في العصمة. والثالث لسحنون: ترثه ولا يرثها لأنه مرسل العصمة من يده بسبب يمينه. وفيه نظر؛ لأن الشك إن نهض مانعاً منع الجانبين وإلا لم يمنع منهما. وقيد اللخمي قول

سحنون بما إذا تبين له أنه كان باراً، قال: وهذا الخلاف إنما هو إذا كانت [366/ أ] يمينه بالثلاث، ولو كانت اليمين بطلقة توارثا بالاتفاق لأنه وإن كان حانثا فهو طلاق رجعي. وَمِثْلُهُ: إِنْ كَانَ أَوْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَطْنِكِ غُلامُ- فِي التَّنْجيز والْوُقُوفِ أي: فيأتي الخلاف المتقدم، قوله: (والْوُقُوفِ) يعني: وعلى الوقوف تأتي الأقوال في الميراث كما تقدم وسكت عن ذلك للعلم به. وقول ابن عبد السلام: إنما أراد التشبيه في التنجيز والوقوف ولو أراد الإرث لقال: والإرث ليس بظاهر، وهكذا كان شيخنا رحمه الله يقول. فرع: إذا قال: إن ولدت ولداً فأنت طالق اثنتين فولدت ولدين، طلقت بالأول وانقضت عدتها بالثاني، ولو قال: كلما ولدت ولداً فكذلك. ابن سحنون عن أبيه: وإن قال: إن كان حملك جارية فأنت طالق واحدة، وإن كان غلاماً فأنت طالق اثنتين، فولدت غلاماً وجارية، فإن ولدت الغلام أولاً طلقت اثنتين وتنقضي العدة بوضع الجارية ولا يلزمه بوضعها، وإن ولدت أولاً الجارية لا يلزمه إلا طلقة. وفِي مِثْلِ: إِنْ كُنْتِ تُجِيِّبنِي أَوْ: إِنْ كُنْتِ تُبْغِضِينِي؛ يُؤْمَرُ بِفِرَاقِهَا، وثَالِثُهَا: إِنْ أَجَابَتْهُ بِمَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ حَنِثَ، ورَابعُهَا إِنْ أَجَابَتْهُ وصَدَّقَهَا اعلم أنه لا خلاف في أمره بالفراق صرح بذلك ابن بشير وابن شاس، وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف، وإنما اختلف هل الأمر مع الجبر أم لا على أربعة أقوال وتصورها من كلامه ظاهر. واختلف هل مذهب المدونة عدم الجبر مطلقاً أو التفصيل بين أن تجيبه بما يقتضي الحنث فيجبر، وبين ما لا يقتضيه فلا يجبر؟ وما ذكره المصنف من تعميم الخلاف هي

طريقة بعضهم، وجعل بعضهم الثالث تفسيراً للأولين، ورأى بعضهم أنه لا يختلف في الجبر إذا أجابته بما يقتضي الحنث، وإنما اختلف إذا أجابته بخلافه. قال عبد الحميد: إن قصد لفظها فلا طلاق عليه إن جاوبته بما لا يقتضيه، وإن قصد ما في قلبها فهو من باب وقوع الطلاق بالشك فيأتي الخلاف. خليل: وينبغي إن ظاهر من قرائن أحوالها بغضه أو محبته أن يعمل عليه، وإن لم يظهر شيء فيكون محل الخلاف. وَإِذَا شَكَّ أَطَلَّقَ أَمْ لا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى أَصْلٍ لَمْ يُؤْمَرْ فهم من قوله: (لَمْ يُؤْمَرْ) عدم الجبر من باب الأولى، وحكى صاحب البيان وعياض الاتفاق على عدم الجبر هنا، وحكى التونسي في حنثه قولين، وخرج اللخمي الحنث على القول بوجوب الوضوء في حق من تيقن الطهارة وشك في الحدث، قال: وعلى القول بأن الوضوء مستحب يؤمر هنا بالفراق استحباباً، وفرق غيره بين الشك في الطلاق والحدث بفرقين: أولهما: عظم المشقة الناشئة عن الطلاق لو أمر به، ويسارتها في الوضوء. ثانيهما: أن المشكوك فيه يجب طرحهن فالشك في الوضوء شك في المشروط، وذلك يمنع من الدخول في الصلاة. والشك في الطلاق شك في حصول المانع من استصحاب العصمة فيطرح المانع. فَإِنْ اسْتَنَدَ كَمَنْ حَلَفَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحِنْثِ وهُوَ سَالِمُ الْخَاطِرِ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: أن الشك إذا استند إلى سبب أقوى منه لأنه إذا لم يستند جرى مجرى الوسوسة، ومثل المستند بمن حلف ثم شك.

ابن عبد السلام: وفي مثاله نظر، وليس مراد العلماء بالسبب هذا المعنى، لأنه لا يلزم من وجود اليمين حصول الشك لأن من حلف بالطلاق لا يدخل زيد داره ثم شك هل دخل زيد داره أم لا؟ فهذا من الشك الذي لا يؤمر فيه بطلاق، وإن رأى إنساناً دخل تلك الدار وشبهه بزيد ثم غاب ذلك الإنسان بحيث يتعذر تحققه، هل هو المحلوف على الدخول أم لا؟ ففيه الخلاف، والمشهور عند أبي عمران وجماعة من الشيوخ كما ذكر المصنف، والمشهور عند الشيخ أبي محمد الأمر من غير جبر. اللخمي: وهو المعروف وهو الذي في الخلاف، ونقله في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم. واحترز بقوله: (وهُوَ سَالِمُ الْخَاطِرِ) مما لو كان ذا وسوسة فإنه لا شيء عليه، قاله في المدونة. قال في البيان في باب طلاق السنة: الشك في الطلاق على خمسة أوجه: وجه لا يجبر فيه على الطلاق ولا يؤمر به اتفاقاً، ووجه لا يجبر عليه، ويؤمر به اتفاقاً، ووجه لا يجبر فيه، واختلف هل يؤمر به أم لا؟ ووجه اختلف فيه، هل يجبر أم لا؟ ووجه يجبر عليه باتفاق. فأما الذي لا يجبر فيه على الطلاق ولا يؤمر به فهو أن يحلف على رجل لا تفعل كذا ثم شك هل فعل أم لا؟ لغير سبب قام عنده. وأما الوجه الذي لا يجبر فيه على الطلاق ويؤمر به باتفاق فهو أن يحلف ألا يفعل فعلاً ثم شك هل فعل أم لا؟ لسبب قام عنده. وأما الوجه الذي لا يجبر على الطلاق واختلف هل يؤمر به أم لا؟ فهو أن يشك هل طلق أم لا؟ وهل حلف وحنث أو لم يحلف؟ فقال ابن القاسم: لا يؤمر بالطلاق. وقال أصبغ: يؤمر به.

وأما الوجه الذي اختلف فيه هل يجبر على الطلاق أم لا؟ فهو أن يشك في عدد الطلاق، ومن هذا إذا قال لزوجته: أنت طالق إن كانت فلانه حائضاً، فقالت فلانة: ما أنا حائض، أو حلف لصدقته، فقالت له: صدقتك، أو قال لها: إن كنت تبغضيني فقالت: لا أبغضك. وأما الوجه الذي يجبر فيه على [366/ ب] الطلاق باتفاق، فهو أن يقول: إن كان أمس كذا فأنت طالق لفعل يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون وقد عمي خبره، وكذلك إذا طلق إحدى نسائه ولم يعينها، أو قال: عينتها ونسيتها انتهى. فالوجه الثاني من كلامه الذي حكى فيه الاتفاق على أنه يؤمر ولا يجبر هو الذي ذكر المصنف أن المشهور فيه الحنث وعلى هذا فيتحصل في المذهب في هذا الوجه ثلاثة طرق: طريقة أبي عمران وهي طريقة المصنف أن المشهور الحنث، وطريقة الشيخ أبي محمد واللخمي أن المشهور عدم الحنث، وطريق صاحب البيان. وَفِيهَا: وكُلُّ يَمِينٍ بِالطَّلاقِ لا يَعْلَمُ صَاحِبُهَا أَنَّهُ فِيهَا بَارُّ فَهُوَ حَانِثُ يَعْنِي يَشُكُّ هذا استشهاد منه رحمه الله تعالى على أن مذهب المدونة موافق لما شهر، وبهذا اللفظ تمسك أبو عمران. وقوله: (يَعْنِي يَشُكُّ) هذا تفسير منه للمدونة، ولعل المصنف اعتمد في هذا التفسير على ما قاله ابن المواز: كل من حلف ثم شك في بره وحنثه فهو حانث ما لم تكن يمينه بالله تعالى. وأخرج المصنف بقوله: (يَشُكُّ) الظن والاعتقاد. خليل: وانظر هل لا يؤمر بشيء إذا ظن البر كما يفهم من تفسير المصنف، أو يكون أخف؟ فعلى القول بالجبر مع الشك يؤمر هنا بغير جبر، وعلى القول بالأمر مع الشك لا يؤمر هنا.

وَلو قَالَ: إِنْ كَتَمْتِنِي أَوْ كَذَبْتِنِي فَتُخْبِرُهُ ولا يَدْرِي أَكَتَمَتْهُ أَمْ كَذَبَتْهُ أَمْ لا؟ أمر بِغَيْرِ قَضَاءٍ، وفِيهَا: ولَوْ حَلَفَ بِطَلاقٍ فَلَمْ يَدْرِ أَحَنِثَ أَمْ لا أُمِرَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ذكر أيضاً هاتين المسألتين حجة للقول بعدم الحنث، وينبغي أن يجري في مسألة (إن كذبتني) الأقوال التي تقدمت في: إن كنت تحبيني أو تبغضيني. فَإِنْ شَكَّ أَوَاحِدَةً طَلَّقَ أَمِ اثْنَيْنِ أَمْ ثَلاثاً فَفِيهَا: قَالَ مَالِكُ: لا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ أَمْلَكَ بِهَا، ويُصَدَّقُ، وقِيلَ: رَجْعِيَّةُ- بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَحَقَّقَ التَّحْرِيمُ، وحِلَّ الرَّجْعيةِ مَشْكُوكُ، أَوْ تَحَقَّقَ مِلْك الثَّلاثُ، وسُقُوطُ اثْنَيْنِ مَشْكُوكُ ... يعني: إذا تحقق وقوع الطلاق وشك عدده، فقال مالك في المدونة: تطلق عليه ثلاثاً بمعنى إيقاع ما زاد على الواحدة لم يقع على معنى التحقيق بل على طريق الاحتياط كما سيأتي، واختلف هل على هذا القول يحكم عليه بالثلاث؟ وهو الذي فهمه أكثر الشيوخ من المدونة كعبد الحق واللخمي، ومنهم من فهمها على الأمر بذلك فقط. قوله: (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْعِدَّةِ) نحوه في المدونة، ولا إشكال فيه على الأمر بالثلاث من غير جبر، وأما على الحكم بالثلاث فلا يكون أحق، قاله بعض القرويين، وصدق لأنه شيء ما علم إلا من جهته. ابن عبد السلام: ولا يمين عليه، قال في المدونة: وإن ذكر ذلك بعد العدة كان خاطباً ويصدق في ذلك. وقوله: (وقِيلَ: رَجْعِيَّةُ) نحوه في الجواهر. ابن عبد السلام: وتبع المصنف في هذا القول بعض المتأخرين، وأنكر غيرهما من حفاظ الشيوخ وجوده في المذهب، وأصول المذهب تشهد لوجوده.

وقوله: (بنَاءً .. إلى آخره) يعني ومنشأ الخلاف أن المشهور نظر إلى أن بالطلاق حصل التحريم، والتحريم لا يرفعه إلا الرجعة إن كانت الزوجة مدخولاً بها، أو تجديد العقد إن كانت غير مدخول بها فتلك الرجعة، وذلك العقد يشترط في صحتهما بقاء بعض أهل العصمة الأولى وبقاء البعض مشكوك فيه، فحصل الشك في صحة الرجعة والعقد فيبقى على الأصل المتيقن قبلهما وهو التحريم، ورأى في الشاهد أن ملك الثلاث متيقن وقد وقع الشك فيما زاد عليها، والأصل انتفاء ما لم يتيقن وقوعه، والواحدة هي المتبقية فلا يقع غيرها. وفهم من قوله: (وحِلَّ الرَّجْعيةِ مَشْكُوكُ) أن الرجعة محرمة وهو المذهب كما سيأتي، وفهم أيضاً أن هذا الخلاف إنما هو في المدخول بها لأنها التي فيها الرجعة، وأما غيرها فالواحدة تحرمها وقد تحقق ذلك. وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَمَتَى تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ وطَلَّقَهَا وَاحِدَةً واثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلا بَعْدَ زَوْجٍ أَبَداً لِدَوَرَانِ الشَّكِّ مَا لَمْ يَبُتَّ، ورَوَى أَشْهَبُ زَوَالَهُ بَعْدَ ثَلاثِةِ أَزْوَاجٍ وتَطْلِيَقَتَيْنِ .. يعني: وإذا فرعنا على المشهور من إيقاع الثلاث ثم زوجها بعد زوج، ثم طلقها واحدة لم تحل له إلا بعد زوج، وكذلك في زوج ثالث ورابع، قال في المدونة: ومائة زوج، لأنه إذا تزوجها ثانياً وطلقها واحدة، قلنا يحتمل أن يكون طلقت اثنتين، فتكون هذه الطلقة مكملة الثلاث. فإذا تزوجها ثالثاً بعد زوج ثان فكذلك، لأنه يحتمل أن يكون المشكوك في عدده أولاً واحدة، وكذلك يفعل فيما بعد ذلك. عياض: ويجرى على هذا ولو بعد ألف زوج، ولهذا تلقب هذه المسألة بالدولابية لدورانها هكذا، وكذلك إذا طلقها اثنتين، ولا يحصل الدوران مع الاختلاف وإن كان ظاهر كلام جماعة حصوله، وبيان ذلك إذا طلقها طلقتين في الثاني وفي الثالث طلقة وفي الرابع طلقة، فإن فرض المشكوك فيه ثلاثاً فهذه الأخيرة هي أول عصمة مستأنفة، فإن فرض اثنتين فتكون ثانية، وذلك إن فرض واحدة فاعلمه.

وقوله: (مَا لَمْ يَبُتَّ) أي ما لم يطلق ثلاثاً فيزول الشك حينئذ، وإذا تزوجها بعد زوج ترجع عنده على عصمة مستأنفة. خليل: ويمكن أن يزيل [367/ أ] الشك أولاً بأن يقول: إن لم يكن طلاقي ثلاثاً فقد أوقعت عليه تكملة الثلاث، لأنه بين أحد أمرين إما أن طلقها ثلاثاً فلا شك، وإن طلقها دون ثلاث فهي في عصمته فيقع بقية الثلاث، اللهم إلا أن تنقضي العدة أو تكون غير مدخول بها، وإلى هذا أشار عبد الحميد. والله أعلم. وروى أشهب أن الشك يرتفع بعد ثلاثة أزواج. ابن يونس: ووجهه أنه لا يخلو أن يكون الطلاق الأول طلقة أو اثنتين أو ثلاثاً، فإن كان ثلاثاً فقد تزوجها بعد زوج، وإن كان اثنتين فقد طلقها بعد أن تزوجها بعد زوج فصارت ثلاثاً، ثم تزوجها بعد زوج، وإن كان واحدة فقط طلقها بعد الزوج الأول واحدة، وبعد الثاني ثانية، وطلقة الشك الأولى ثالثة فوجب أن يزول الشك بعد ثلاثة أزواج. قال في البيان: وبه قال أشهب وابن وهب وابن حبيب وقال يحيى بن عمرو: قد تدبرته فوجدته خطأ وقال ذلك فضل أيضاً، وهو كما قالا لأنه لا يرتفع الشك. ونقل ابن يونس في المسألة قولاً ثالثاً عن ابن وهب أنه إذا طلقها ثلاثاً وإن كن متفرقات فإنها ترجع على ملك مبتدأ. وأشار عياض إلى أنه وهم في ذلك وأنه راجع إلى القول الثاني وليس بثالث، لأنه إن طلق ثلاثاً مجتمعة في كلمة واحدة فلا خلاف، وأما المفترقات فمعناها من الأزواج وهو قول أشهب. فَإِنْ شَكَّ أَهِنْدُ هِيَ أَم غَيْرُهَا طُلِّقَنْ كُلُّهُنَّ بِغَيْرِ اسْتِئْنَافِ طَلاقٍ يعني: فإن طلق واحدة معينة من نسائه ونسي عينها، أو حلف بطلاقها فحنث فإن نسائه الجميع يطلقن عليه.

قال في الكافي: واتفق على ذلك قول مالك. قوله: (بِغَيْرِ اسْتِئْنَافِ طَلاقٍ) نحوه في المدونة، قال في الجواهر: ويوقف ليتذكر ولا يعجل عليه بالاتفاق لرجاء التذكر وإن طال الأمد ورفعناه ضرب له أجل الإيلاء، ونحوه للخمي وزاد: وقيل: يطلقن عليه من غير أجل. اللخمي: والصبر أحسن لأنه يرجو أن يتذكر، فإن طلق ونوى التي لم يطلق حلتا للأزواج، وإلا طلق السلطان عليه ونوى التي لم تطلق أي لتحل للأزواج، وعلى هذا فيلزم إذا لم يتذكر أن يطلق التي لم يقع عليها طلاق، فيقول: امرأتي التي لم يقع عليها طلاق طالق. خلاف قول مالك يطلقن عليه من غير استئناف طلاق، وهو مذهب أبي حنيفة، واستحسنه ابن عبد السلام. ولعل الخلاف مبني على اختلاف الأصوليين في اختلاط الميتة بالذكية هل يحرمان معاً أو إنما تحرم الميتة؟ فعلى الثاني لابد من استئناف الطلاق. وَفِي إِحْدَاكُنَّ طَالِقُ، أَوِ امْرَأَتُهُ طَالِقُ، ولَمْ يَنْوِ وَاحِدةً مُعَيَّنَةً- قَالَ الْمِصْرِيُّونَ عَنْهُ: يُطَلَّقْنَ، وقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: يَخْتَارُ كَالْعِتْقِ .. قال في البيان: المشهور المعلوم من قول مالك وأصحابه أن الجميع يطلقن وقال المدنيون: ويختار واحدة كالمشهور في العتق. والمشهور أن العتق أحق، لأنه يتبعض ولا يتنجز إذا علق على زمان آت، ويعتق فيه بالقرعة، بخلاف الطلاق، فإن قيل: فلم لم يقل المدنيون في الأولى أيضاً يختار كهذه؟ قيل: لأن الطلاق في الأولى وقع على واحدة معينة، وذلك التعيين مانع من نقله منها إلى غيرها، ولهذا قلنا: إذا تذكر المطلقة لم يلزمه في غيرها شيء، فإذا لم تعلم المطلقة احتجنا إلى طلاق الجميع، بخلاف هذه فإنه إنما ألزم نفسه الطلاق في غير معينة فكان تعيين له.

وفهم من قوله: (ولَمْ يَنْوِ وَاحِدةً) أنه لو نوى معينة لصدق. ابن بشير: بلا خلاف. قال في المدونة: ويصدق في القضاء والفتيا وظاهرها نفي اليمين لتسويته بين القضاء والفتيا. وحكى اللخمي وغيره في ذلك قولين، وهما على الخلاف في أيمان التهم، وقال اللخمي: إن لم تكن عليه بينة لم يحلف على حال، وإن كانت عليه بينة وقال: أردت فلانة وكان كلامه نسقاً صدق بغير يمين، وإن لم يكن نسقاً وقال: نويت الشابة أو الحسنة أو من يعلم منه الميل إليها لم يحلف وإن قال: نويت الأخرى حلف. ابن بشير: وهذا إن كان التعيين والزوجتان في الحياة، فإن عين بعد الموت فقال: المطلقة هي الميتة، قبل قوله، واستظهر عليه باليمين. وإن عكس فقال: المطلقة هي الحية، وليس للميتة مال قبل قوله، ولا يمين أيضاً، وإن كان لها مال. فقال اللخمي لا يقبل قوله، لأنه يريد الميراث، والأصل قبول قوله ويستظهر عليه باليمين، لأنه كان مقبول القول فلا يرجع قبول قوله بموت الميتة. فَإِنْ شَكَّ أَطَلاقُ هُوَ أَمْ غَيْرُهُ فَفِي أَمْرِهِ بِالْتِزَامِ جَمِيعِ مَا يَحْلِفُ بِهِ عَادَةً قَوْلانِ يعني: إذا تيقن أنه حلف يميناً ثم نسي ما حلف به، والقول بالأمر مذهب المدونة ففيها من لمي در بها حلف أبطلاق أو عتق أو مشي أو صدقة؟ فليطلق نسائه ويعتق رقيقه، وليتصدق بثلث ماله، وليمش إلى مكة، يؤمر بذلك من غير قضاء، وإذا تأملت كلام المصنف وجدته مخالفاً للمدونة، لأنه في المدونة إنما أمره بالتزام ما يحلف [367/ ب] به عادة كالمصنف، وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر لكنه تبع ابن شاس. وقال أصبغ: إن لم يدر بأي يمين حلف أبطلاق أو عتاق أو إيلاء أو مشي أو ظهار؟ فإنه تلزمه ولا تجري على لسانه. واعترضه اللخمي وقال: قول أصبغ أنه يجبر على المشي والصدقة خلاف المعروف من المذهب، ولعل ابن شاس رأى قول أصبغ إلا ما كان منها

ليس من أيمانه، فجعله تقييداً للمدونة وفيه بعد. وقول اللخمي إن المعروف من المذهب في المشي والصدقة عدم الجبر صحيح إلا أن ينص على الجبر فيهما إذ يحتمل أن يريد بلزوم ما ذكره في القضاء والفتيا أي يقضي عليه بما علم في غير هذا الموضوع أنه يقضي عليه به، وذلك الطلاق والعتق المعين والظهار على أن الصقة ليس لها ذكر في كلام أصبغ. التَّفْوِيضُ: تَوْكِيلُ، وتَمْلِيكُ، وتَخْبِير يقال: فوض الأمر إليه إذا رده إليه وهذا مشترك بين التوكيل والتمليك والتخيير فلذلك جعل التفويض جنساً والثلاثة أنواعاً له، والفرق بين التوكيل وغيره أن التوكيل يفعل على طريق النيابة بخلاف غيره. وأما الفرق بين التخيير والتمليك فقيل أمر عرفي لا مشاركة للغة فيه، فقولهم: في المشهور كما سيأتي أن للزوج أن يناكر المملكة دون المخيرة إنما ذلك مستفاد من العرف، وعلى هذا ينعكس الحكم بانعكاس العرف، وقيل: هو وإن كان تابعاً للعرف إلا أن العرف موافق للغة أو قريب منها؛ لأن التمليك إعطاء ما لم يكن حاصلاً، فلذلك قلنا أن للزوج أن يناكرها، لأن الأصل بقاء ملكه بيده. أما التخيير فقال أهل اللغة: خيرت فلاناً بين الشيئين إذا فوضت إليه الخيار، فيكون على هذا معنى تخيير الزوجة أن الزوج فوض إليها البقاء على العصمة والذهاب عنها وذلك إنما يتأتى لها إذا حصلت على ما لا يبقي للزوج معها رجعة. ففِي التَّوْكِيلِ: يَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ توقِعَ تصوره ظاهر، ونحوه في التلقين وهو مقيد بما إذا لم يتعلق للمرأة حق صرح بذلك ابن بشير كما إذا قال لها إن تزوجت عليك فقد جعلت أمرك بيدك أو أمر الداخلة بيدك توكيلاً لا تمليكاً فهنا قد تعلق للمرأة حق في التوكيل فلا يكون له عزلها وهذا كما قلنا أن للموكل عزل الوكيل ما لم يتعلق به حق الغير.

واقتضى كلام المصنف أنه ليس للموكل له عند وكيله ما لم يتعلق به حق الغير- الرجوع في التمليك وهو كذلك في التلقين ليس له أن يرجع إلى أن يبطل تمليكها. الباجي: وهو مما انفرد به. وَالتَّمْلِيكُ: مِثْلُ: مَلَّكْتُكِ أَمْرَكِ، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَطَلاقُكِ بِيَدِكِ، وطَلِّقِي نَفْسَكِ، وأَنْتِ طَالِقُ إِنْ شِئْتِ أَوْ كُلَّمَا شِئْتِ؛ فَتَمْنَعُ نَفْسَهَا، وَلا تُتْرَكُ تَحْتَهُ حَتَّى تُجِيبَ .. هذه صيغة التمليك وقدم (مَلَّكْتُكِ) لأنها صريح هذا الباب فلما كان (أَمْرُكِ بِيَدِكِ) أقرب في باب التمليك من (طَلاقُكِ بِيَدِكِ) جعل (أَمْرُكِ بِيَدِكِ) إثر (ملكتك) ولا يقال: لا ينبغي عد (أمرك بيدك) لأن الأمر هو الشأن وشأنها بيدها قيل قوله لأن أمرك بيدك في هذا الباب المراد منه الإنشاء. وقوله: (فَتَمْنَعُ نَفْسَهَا) أي إذا ملكها وتخصيصه هذا للتمليك يقتضي أنها ليس لها ذلك في التوكيل وهو ظاهر لأن للزوج عزلها وإذا كان لها المنع فليس لها أن تطول على زوجها وإنما لها ذلك في المجلس وشببهه كما سيأتي. وقوله: (حَتَّى تُجِيبَ) يحتمل أن يكون غاية للجملة الأخيرة وهي (وَلا تُتْرَكُ تَحْتَهُ) ويحتمل أن يكون غاية لها ولقوله: (فَتَمْنَعُ نَفْسَهَا) وهو الأقرب. وَالْجَوَابُ قَوْلُ صَرِيحُ وَمُحْتَملُ، وفِعْلُ، فَالصَّرِيحُ يُعْمَلُ بِهِ فِي رَدِّ التَّمْلِيكِ والطَّلاقِ يعني: وجواب المرأة إذا صدر من الرجل التمليك ينقسم إلى (قَوْلُ .. وفِعْلُ) والقول ينقسم إلى (صَرِيحُ وَمُحْتَملُ) لأنه إذا كان نصاً في المراد فهو صريح وإلا فهو محتمل وينبغي أن يكون الفعل أيضاً ينقسم كذلك لأنه وإن لم تكن له دلالة بالوضع بل بالقرائن المحتفة به فتلك القرائن إما أن تحتمل النقيض أو لا.

ولعل المصنف ترك تقسيمه اكتفاءً بما سيذكره. وقوله: (فِي رَدِّ التَّمْلِيكِ) كما لو قالت: رددت ما جعلت إلي أو لا أقبله (والطَّلاقِ) عطف على (رَدِّ) تقديره، وإيقاع الطلاق كما لو قالت: طلقت نفسي أو بنت منك أو بنت مني. مَا لَمْ تُوقِعْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فَلَهُ مُنَاكَرَتُهَا فِي قَصْدِهِ عَلَى الْفَوْرِ ويَحْلِفُ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً وَقَعَتِ الثَّلاثُ، فَلَوْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ طَلاقاً وقع ما زَادَته، فَإِنْ رَجَعَ فَفِي قَبُولِ قولِهِ قَوْلانِ، أَمَّا لَوْ شَرَطَ عِنْدَ نِكَاحِهِ أَوْ قَبْلَهُ- مثل: إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ- فَلا مُنَاكَرَةَ لَهُ فِي الثَّلاثِ بَنَى أَوْ لَمْ يَبْنِ .. يريد إذا أجابت صريحاً بالطلاق فإن صرحت بالواحدة إن لم تنو شيئاً وإنما صرحت بمجرد الطلاق وقعت واحدة وإن أوقعت أكثر فله مناكراتها بأن يكون: إنما قصدت واحدة بشروط أن يناكرها بالفور، فإن تراخى أي لزمه ما اوقعته وسئل أبو بكر بن عبد الرحمن عن من ملك امرأته فقضت بالثلاث فلم يناكرها [368/ أ] هل يدخل في مناكرتها بعد المجلس الخلاف الذي في المرأة ببطلان خيارها بانقضاء المجلس أم لا؟ فقال: لا يدخل وسكوته التزام بما قصدت بخلاف المملكة وإلى هذا أشار بقوله (عَلَى الْفَوْرِ). ثانيها: أن يحلف، فإن لم يحلف ففي المبسوط عن القاضي إسماعيل تلزمه الثلاث. مالك في العتبية: ولا تنقلب اليمين على المرأة لنكوله، قال في البيان ولا خلاف في ذلك إذا لم يعلم صدقه من كذبه في ما ادعاه من النية، قال وليس في حلفه خلاف. ابن عبد السلام: وأصله من يمين التهمة. فرع: ومتى يحلف؟ قال ابن المواز: إن كانت مدخولاً بها حلف مكانه إذ له الرجعة، وإن كانت غير مدخول بها لم يحلف إلا إذا أراد أن يتزوجها ولا يحلف قبل ذلك، إذ لعله لا

يتزوجها قال الباجي وغير: لا يحلف في المدخول بها إلا عند إرادة الارتجاع إذ لعله لا يرتجعها، ولعل ابن المواز إنما ألزمه اليمين ناجزاً لتحقيق أحكام الزوجية الحاصلة في المطلقة طلاقاً رجعياً للنفقة وموارثة واستمتاع عند من يراه. ثالثها: أن ينوي واحدة عند التمليك، فلوى نوى بعده أو لو لم ينو شيئاص وقع ما أوقعته وإلى هذا أشار في قوله: (فَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً وَقَعَتِ الثَّلاثُ) وأشار إلى اشتراط القطع من التمليك بقوله أولاً (فِي قَصْدِهِ). وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً) فيه نظر؛ لأنه يقتضي أنه لو نوى اثنتين أن يقع الثلاث ولو كان كما في المدونة إلا أن يناكرها الزوج مكانه فيحلف ويلزمه ما نوى من واحد فأكثر لكان أحسن. رابعها: أن يقصد بالتمليك الطلاق وإليه أشار في قوله: (فَلَوْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ طَلاقاً وقع ما زَادَته) وزادته بالزاي المعجمة وفي بعض النسخ (أرادته) من الإرادة والمعنى متقارب وقوله: (فَإِنْ رَجَعَ .. إلخ) يعني فإن أنكر أن يكون قصد الطلاق فقلنا يلزمك ما أوقعته من الثلاث فرجع وقال إنما نويت واحدة. فهل تقبل هذه النية منه؟ وهو رواية ابن القاسم عن مالك بعد حلفه أو لا يقبل منه وهو ندم من قائله وهو قول أصبغ. أصبغ: والقول الأول وهم من ناقله واختاره غير واحد وهو الذي يأتي على المشهور في ما إذا أنكر المودع الوديعة فأقام ربها البينة على الإيداع فقال المودع: رددتها؛ فلا يسمع قوله ولا بينته على الرد وكذلك إذا أنكر المدين الدين أو المشتري الشراء وأقيمت عليهما البنية بالدين والشراء فزعما الوفاء، بل قبول قوله في هذه المسألة أولى من قبول قوله في مسألة التمليك، لأن الوديعة التي قامت على ردها البينة وكذلك الدين وثمن السلعة قد يسوغ في الشرع أو يظن كثير من العوام أنه سائغ ويقول: إنما أنكرت لعلمي أنه لا

شيء له عندي وخفت متى أقررت له بذلك أن يطالبني فأتكلف إقامة بينة وهي الغائبة أو تزكيتها ونحو ذلك. وأما إنكار إرادة الطلاق بقوله (ملكتك) مع أنه يعلم من نفس إرادة الطلاق، فلا يجهله أحد فناسب ألا يعذر. أصبغ: وإنما تنفعه النية التي خرج لفظ التمليك عليها لا ما حدث له بعد القول. محمد: إلا رواية أشهب عن مالك في من ملك امرأته وهو يلاعبها فتقول: قد تركتك؛ فيقول الرجل: كنا لاعبين ولم أرد طلاقاً. قال مالك: يحلف ما أراد إلا واحدة. وفي مسألتهم شبهة قيل: أعليه حرج أن يحلف والله يعلم أنه لم يرد شيئاً قال: لا، قد أمر بذلك ويحلف ما أراد الطلاق وتكون واحدة. محمد: وليس بأصل مالك لأنه ملكها ولم يرد واحدة، والله أعلم. خامسها: أن لا يكون التمليك مشترطاً عليه في أصل العقد، فإن كان مشترطاً ففي المدونة في كتاب الأيمان بالطلاق: لها أن تطلق نفسها بالطلاق ولا مناكرة له، بنى أو لم يبن، فإن طلقت نفسها واحدة وقد بنى بها فله الرجعة وإن لم يبن بها فقد بانت وإلى هذا أشار في قوله (أَمَّا لَوْ شَرَطَ ... إلخ) وهذا هو المشهور، وفي سماع عيسى: إن لم يبن بها طلقت نفسها واحدة لا أكثر لأنها تبين بها وقد علمت أن مذهب المدونة إذا طلقت المدخول بها نفسها واحدة أن له الرجعة، وقال سحنون وغيره: لا رجعة له، لأن ذلك مشترط في أصل النكاح وقرره ابن عتاب بأنه راجع إلى الخلع، لأنها أسقطت من صداقها لشرطها، قال: وقوله في المدونة جار على غير أصوله واحترز بقوله: (إلا أن يكون التمليك مشترطاً في أصل العقد) مما لو ملكها فيه طائعاً من غير شرط فإن له مناكرتها. نص عليه غير واحد.

واختلف إذا لم يحصل التنصيص على الطوع أو الشرط فقال ابن العطار: ذلك على الطوع، وقال أبو الوليد وابن فتحون: ذلك على الاشتراط. قوله: (أَوْ قَبْلَهُ) أي قبل العقد وهو كالمستغنى عنه لأنه إن استديم إلى عقدة النكاح فلا شك في اعتباره وإن لم يتعرض له في عقدة النكاح ألغي فدار الأمر مع ذكره في عقدة النكاح وجوداً وعدماً. وَتَقَعُ الْوَاحِدَةُ ثُمَّ لا تَزِيدُ إِلا فِي كُلَّمَا، أَوْ يَكُونُ نَسَقاً لَمْ يَنْوِ بِهِ التَّاكِيدَ كَطَلاقِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ .. يعني: أن المملكة إذا أوقعت واحدة وقعت وليس لها أن تزيد عليها إلا في [368/ ب] صورتين: الأولى: أن تكون الصيغة مقتضية للتكرار. كما إذا قال: كلما شئت فأمرك بيدك. والثانية: أن تكون نسقاً فلا تقبل منه المناكرة في غرادة التكرار بخلاف الصورة التالية. واسم (يَكُونُ) في كلام المصنف يحتمل أن يعود على تمليكه وعلى ذلك مشاه ابن راشد وعليه فيقرأ (يَنْوِ) بالياء المثناة من أسفل. ويحتمل أن يعود على جوابه وعلى ذلك حمله ابن عبد السلام، وعليه فيقرأ (تَنْوِ) بالتاء المثناة من فوق والوجهان في المدونة. أما الوجه الأول: ففيها: وإن قال أمرك بيدك، أمرك بيدك، أمرك بيدك فطلقت نفسها ثلاثاً سئل الزوج عما أراد فإن نوى واحدة حلف وكانت واحدة وإن نوى الثلاث فهي الثلاث وإن لم تكن له نية فالقضاء ما قضت من واحدة فأكثر ولا مناكرة له. وأما الوجه الثاني ففيها: وإن ملكها قبل البناء ولا نية فطلقت نفسها واحدة ثم واحدة ثم واحدة فإن نسقتهن لزمه الثلاث إلا أن تنوي واحدة كطلاقه إياها إذا كان نسقاً

قبل البناء ولا ترقى على الوجه الأول بين أن يعطف تمليكه أم لا، فقد روي عن مالك في من ملك وزجته فقالت كما ملكتني؟ فقال: مرة ومرة ومرة ففارقته فليس ذلك بثلاث إذا حلف ما ملكها إلا واحدة. التونسي: وهو مشكل بأنه قد أبان بقوله: مرة ومرة ومرة أنه أراد ثلاثاً إلا أن يكون قصد إلى حكاية الألفاظ وأنه تمليك واحد. قال في البيان: إن قال أمرك بيدك فقالت قد قبلت ثم قال أمرك بيدك فقالت قد قبلت ثم كذلك، فإن لم تكن للزوج نية وقع في الثلاث بالاتفاق، وإن قال لم أنو إلا واحدة ففي الموازية عن مالك: تقع الثلاث. محمد: والأحسن أنها واحدة ويحلف. وقوله في المدونة: إن ملكها قبل البناء؛ يريد أو بعده من باب الأولى، ولهذا لم يخصص المصنف. وَالْمُحْتَمَلُ مِثْلُ: قَبِلْتُ، أَوْ قَبِلْتُ أَمْرِي أَوْ مَا مَلَّكْتَنِي فَيُقْبَل تَفْسِيرُهَا مِنْ رَدِّ، أَوْ طَلاقٍ، أَوْ بَقَاءٍ .. لما تكلم على الصريح شرع في المحتمل ومثله بثلاثة ألفاظ لأن كل واحد منها يحتمل أن يفسر بالرد أي رد التمليك والاستدامة على العصمة أو بالطلاق أو بالبقاء، أي البقاء على النظر في الأمر ولا إشكال في تفسير كل من الألفاظ الثلاثة بالطلاق والبقاء، وأما التفسير بالرد ففيه نظر بأن القبول ليس موضوعاً للرد وليس الرد من مقتضى القبول بل دافع لمقتضاه وقد يجاب عنه بأنه لما كان الرد من آثار قبول النظر في الأمر صح التفسير به على سبيل المجاز، والله أعلم. وما ذكره المصنف هو المشهور، وقيل يلزمه الطلاق إذا قالت قبلت أمري ولا تسأل وهل قبلت نفسي كقبلت أمري وهو مقتضى بالطلاق قولان:

وَالْفِعْلُ: إِنْ كَانَ مِثْلَ أَنْ تَنْتَقِلَ أَوْ تَنْقُلَ قُمَاشَهَا وتَنْفَرِدَ عَنْهُ، وَمِثْلَ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا طَوْعاً فَكَالصَّرِيحِ فِيهِمَا .. (فِيهِمَا) أي في الطلاق والرد، فنقلها لقماشها وانفرادها عنه (فَكَالصَّرِيحِ) في الرد وفيه حذف مضاف أي كاللفظ الصريح وهو يقتضي أنها لو قالت لم ترد بنقل القماش والاستتار عنه والبعد منه الطلاق لم يقبل منها؛ لأن ذلك يجري مجرى جوابها بالطلاق، وكذلك قال مالك على ما نقله اللخمي وعليه اقتصر في الجواهر. ونقل ابن محرز عن عبد الوهاب وأومئ إلى ترجيحه بأنها لو فعلت ما يدل على رضاها به كما لو قبلته لما كان لها كلام، وإن لم ترد الرضى فكذلك إذا فعلت ما يدل على فراقه. ونقل ابن محرز عن مالك: أنه لا يكون طلاقاً إلا إذا أرادت به ذلك، وبه قال ابن وهب ومحمد، وهو الذي اقتصر عليه في المقدمات، وإليه يرجع اختيار اللخمي لأنه قال: أرى أن تسأل لم فعلت ذلك؟ فإن قالت: خمرت وجهي كراهية في رؤيته، ونقلت متاعي خيفة أن يحتال علي فيه. صدقت ولم يكن فراقاً. وإذا ألزمناه بذلك الطلاق فقال عبد الملك: إن قالت بعد أن خمرت رأسها ونقلت قماشها أردت البتة، فله أن يناكرها ويحلف أنه ما ملكها إلا واحدة. قال ابن القاسم: لا ينوى. الباجي: ووجهه أن الظاهر من فعلها البينونة فترك الإنكار عليها في المجلس يقتضي الرضى بالثلاث. وقيل: عليه أن يحلف يميناً أخرى أنه لم يظن انتقالها وما فعلت يكون طلاقاً بائناً. ومقتضى قول ابن الماجشون وسحنون وأصبغ أن ذلك يلزمه مع يمينه أنه لم يملك إلا واحدة.

وقال ابن المواز: يمين واحدة تجزئة لجميع ذلك وهذا ليس بخلاف في الظاهر. انتهى. وقيد المصنف التمكين بأن تكون طائعةً لأنها لو لم تكن طائعةً كانت على خيارها، وأحرى إذا كانت غير عالمة، ويعاقب الزوج في فعله، نص عليه في المدونة. وهو وإن كان في المدونة إنما نص على المعاقبة في التخيير، فالتمليك مساوٍ له في ذلك. ونظير هذه المسألة في عدم السقوط خيارها بالوطء إذا كانت غير عالمة: الأمة تعتق تحت العبد، ومن شرط لها إن تزوج عليها أو تسري فأمرها بيدها وفعل ولم تعلم، قاله في المدونة. وإن ادعى على المملكة العلم فلا قول لها، فإن [369/ أ] أعلمها وأمكنته وادعت الجهل لم تعذر، فإن اختلفا في الإصابة فالقول قولها، إلا أن تكون هناك خلوة، وإن أصابها وقالت: أكرهني، فالقول قوله مع يمينه، بخلاف إذا قبلها فالقول قولها مع يمينها. فَإِنْ لَمْ تُجِبْ وتَفَرَّقَا، أَوْ طَالَ طُولاً يُخْرِجُ عَنِ الْجَوَابِ- فَفِي بَقَائِهِ كَالتَّخْبِيرِ رِوَايَتَانِ، وعَلَى بَقَائِهِ يَلْزمُ الْحَاكِم بِالإيقَاعِ أَوِ الرَّدِّ وإِلا أَسْقَطَ الروايتان في المدونة والذي رجع إليه مالك أنه يبقى وإن تفرقا وطال ما لم توقف أو توطأ. وأخذ ابن القاسم بالقول الأول، أنهما إذا تفرقا من المجلس أو طال بهما حتى يعلم أنهما تركا ذلك، وخرجا من الكلام الذي كانا فيه إلى غيره بحيث يعلم أنهما تركا ما كانا فيه بطل، قال فيها: وعلى هذا جماعة من الناس. ونقل أشهب أن مالكاً إنما قال ببقائه وإن انقضى المجلس مرة ثم رجع عنه إلى أن مات. واختار عبد الحميد القول بأنه بيدها وإن تفرقا. ورأى اللخمي أنها تمهل ثلاثة أيام قياساً على الشاذ في من وجبت له شفعة أنه يمهل ذلك. وفيه نظر، لأن المملك كالطالب للجواب، بخلاف حق الشفيع فإنه ثابت بالشرع، ولهذا قيل في الشفيع: إن حقه باق أبداً، وعلى القول بالسقوط بانقضاء المجلس فذلك بشرط أن يمكنها القضاء وأما لو ملكها

وأسرع القيام عنها لم يسقط خيارها ولا تمليكها قاله في الجلاب. واعلم أن هاتين الروايتين إنما هما في التمليك المطلق، أي إذا قال لها: أمرك بيدك. قال في المقدمات: وأما التمليك المفوض فهو أن يقول لها: أمرك بيدك أن شئت، أو إذا شئت، أو متى شئت أربعة ألفاظ يكون بها التفويض وهي تختلف باختلاف معانيها، فأما متى شئت فلا يختلف أن الأمر بيدها ما لم توقف وإنما يختلف هل يقطع ذلك الوطء أم لا يقطعه فيقطعه على مذهب ابن القاسم، ولا يقطعه على مذهب أصبغ. وأما: إن شئت، أو: إذا شئت، فيختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: قول مالك أن ذلك كالتمليك المطلق سواء. والثاني: قول ابن القاسم أن الأمر بيدها ما لم توقف بخلاف مذهبه في التمليك المطلق. والثالث: لأصبغ إن قال: إن شئت؛ كان الأمر بيدها في المجلس، وإن قال: إذا شئت؛ كان الأمر بيدها حتى توقف، ولا يقطع ذلك الوطء عنده في: إذا، بخلاف قوله: إن. واختلف قول ابن القاسم إذا قال: أنت طالق إن شئت، فله في المدونة أن ذلك تفويض والأمر إليها حتى توقف، وله في الواضحة أنه لا قضاء لها إلا في المجلس بخلاف قوله: أمرك بيدك إن شئت، وهو الصحيح. وقد تأول بعض الناس على ما لابن القاسم في المدونة أن: أمرك بيدك إن شئت. ليس بتفويض بخلاف قوله: أنت طالق إن شئت. ووجه ذلك بتوجيه بعيد، حكى ذلك أبو النجاء في كتابه. انتهى. وحكى ابن بشير في ما إذا قال لها: أنت مخيرة أو مملكة إن شئت، وإذا شئت، طريقين للمتأخرين: أحدهما: أن في ذلك القولين السابقين في التمليك المطلق.

والثاني: أنه يتفق على أن الخيار لها بعد المجلس، ولا خلاف أنه لو نص المخير أو المملك على أن ذلك لا يكون للمرأة إلا إن اختارت في الحال، أو نص على أن ذلك بيدها وإن تفرقا، أنه يعمل على ذلك. فرع: الأول: إذا ثبت أن لمالك فيما إذا خيرها ثم انقضى المجلس قولين، فذلك إنما هو إذا ملكها وهي حاضرة، وأما لو خيرها وهي غائبة من المجلس ثم بلغها ذلك فهل تكون بمنزلة ما لو كانت حاضرة؟ فيختلف فيه على قولين. وهي طريقة اللخمي، وقال: والقول ببقائه أحسن، لأن لفظه هنا لا يقتضي جواباً، أو يتفق هنا على أن لها القضاء وإن انقضى المجلس طريقان، وإلى الأولى ذهب صاحب المقدمات فقال: وأما إن كتب إليها أو أرسل إليها رسولاً فلم يختلف قول مالك أن ذلك بيدها وإن لم تقض ساعة وجب لها التمليك، وقيل: بيمين، وقيل: بغيرها ما لم يطل ذلك حتى يتبين أنها راضية بإسقاط حقها. والطول في ذلك أكثر من شهرين على ما في سماع ابن القاسم، إلا أن يكون الزوج حاضراً حين التمليك وتمنعه نفسها فيكون ذلك بيدها وإن طال الأمر كالأمة المعتقة تحت العبد. وروى ابن وهب أن حقها يسقط إذا لم تقض ساعة وجب التمليك كالمملكة التي تواجه بالتمليك. انتهى. تنبيه: وإن قالت المرأة في المجلس: قد قبلت أمري فلها أن تقضي بعد المجلس ولا يدخله اختلاف قول مالك، أشار إليه في المدونة، ونص عليه الباجي وغيره. صاحب البيان: وليس ذلك بالبين إلا إذا قيدت القول بالمجلس فلم ينكر عليها الزوج، ويكون سكوته كالإذن، وأما إن رد عليها وقال لها: إما أن تقضي أو تردي فالمسألة جارية على القولين.

قوله: (وعلى بقائه) أي إذا فرع على قول مالك الثاني فإن الحاكم لا يمهل أمرها ويتركها ولو رضي الزوج بذلك لحق الله تعالى في بقاء [369/ ب] العصمة على الشك بل يوقفها، فإما أن توقع الطلاق أو ترد التمليك. قوله: (وإلا) أي: وإن لم تفعل أحد الأمرين أسقط الحاكم ما بيدها. والتَّخْبِيرُ مِثْلُ: اخْتَارِينِي أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ، وهُوَ كَالتَّمْلِيكِ إِلا إِنَّهُ لِلثَّلاثِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ نَوَيَا أَوْ لَمْ يَنْوِيَا مَا لَمْ يُقَيَّدْ فَيَتَعَيَّنُ مَا قُيِّدَ .. لما انقضى كلامه على التمليك شرع في التخيير وهو كالتمليك أي فيما تقدم من عدم العزل والجواب، ثم استثنى من ذلك أنه الثلاث المدخول بها من غير مناكرة وسواء نوى الزوجان ذلك أم لا. واحترزنا بالدخول بها من غيرها كالمملكة، فله أن يناكرها فيما زاد على الواحدة، كما سيأتي ومقابل المشهور القولان الآتيان في كلامه. عياض: والمتحصل من الأقوال في مذهبنا في التخيير ستة أقوال: أشهرها مذهب الكتاب: أن اختيارها ثلاث ولا مناكرة للزوج نوت المرأة الثلاث أم لا، وأن قضاءها بدون الثلاث لا حكم له. ثم اختلف هل هو مسقط للخيار ولا قضاء لها بعد أم لها القضاء ثانية؟ الثاني: أن لها الثلاث بكل حال وإن نوت دونها أو لم تنو شيئاً ولا تسأل عن شيء، ولا مناكرة للزوج وهو قول عبد الملك. الثالث: أنها واحدة بائنة، وهو الذي ذكره ابن خويز منداد عن مالك هو أحد مذهبي علي بن أبي طالب. وتأوله اللخمي على حكاية ابن سحنون عن أكثر أصحابنا واختياره هو. الرابع: أن للزوج المناكرة في الثلاث والطلقة بائنة وهو قول ابن الجهم، وهو الظاهر عندي، من معنى ما حكاه ابن سحنون عن أكثر أصحابنا إلا ما تأوله اللخمي.

الخامس: له المناكرة والطلقة رجعية، وهو ظاهر قول سحنون، وعليه تأولها اللخمي كالتمليك وهو قول عمر وعلي أولاً. السادس: أنها إن اختارت نفسها فهي ثلاث، وإن اختارت زوجها أو ردت الخيار عليه فهي واحدة بائنة، وهو قول زيد ابن ثابت، وحكاه النقاش عن مالك. انتهى. وقوله: (مَا لَمْ يُقَيَّدْ) فيتعين ما قيد، كما لو قال لها: أنت طالق بالخيار في طلقة أو طلقتين وهل عليه يمين إذا قال: اختاري واحدة؟ فلا خلاف في وجوب اليمين أنه ما أراد إلا واحدة لأنك تختارين مرة واحدة، وإن قال: اختاري من الطلاق واحدة أو من الطلاق طلقة، أو اختاري طلقة فلا يمين عليه بلا خلاف، واختلف في وجوب اليمين إذا قال: في أن تطلقي نفسك طلقة واحدة وفي أن تقيمي على قولين، ونسب اللخمي وجوب اليمين لابن القاسم، وقال: عدم اليمين أحسن. وقد تقدم الفرق بين التخيير في أنه ليس له مناكرة بخلاف التمليك أول الباب. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهَا مَا لَمْ تُوقِعْهُ لأَنَّ الثَّلاثَ مَمْنُوعَةُ، وقِيلَ: يَجُوزُ بِآيَةِ التَّخْبِيرِ، وأُجِيبَ بِأَنَّ السَّرَاحَ فِيهَا لا يَقْتَضِي الثَّلاثَ، ولأَنَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَرْتَجِعُ .. يعني: أن اللخمي لما رأى أن التخيير مقتضي للثلاث وكان إيقاع الثلاث ممنوعاً قال: ينتزع الحاكم التخيير من يدها لتضمنه للممنوع إلا أن تسبق بالقضاء فيمضي. عياض: وذهب بعض شيوخنا إلى أنه مباح إذ ليس هو إيقاع الثلاث وإنما هو سبب له والظاهر الآية في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخيير وفعل ذلك. وهذا هو القول الذي ذكره المصنف بقوله: (وقِيلَ: يَجُوزُ بِآيَةِ التَّخْبِيرِ) وفي المسألة قول ثالث لأبي عمران يجوز التخيير وكيره للمرأة إيقاع الثلاث. وآية التخيير المشار إليها هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ

وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28 - 29]. قوله: (وأُجِيبَ .. إلى آخره) هذا جواب اللخمي عن الآية يعني أن قوله تعالى: (وَأُسَرِّحْكُنَّ) يقتضي أنه لم يجعل الطلاق إلى زوجاته وإنما هو المطلق، ولو يعلم أن الزوجة المطلقة فإنما تطلق طلقة لأن السراح لا يقتضي الثلاث لاسيما كونه وصف بالجميل، نعم هو صلى الله عليه وسلم لا يرتجع من اختارت الفراق بعد أن آثرت الدنيا على الله ورسوله والدار الآخرة، على أنه ولو سرح بالثلاث لكان ينبغي أن يكون حكمنا بذلك بخلافه لعدم حصول الندم له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يوحى إليه بخلافنا. والظاهر هنا هو الجواب الأول، وهو أنه صلى الله عليه وسلم هو المسرح وبه يبطل الاستدلال بالآية الكريمة ويؤيد هذا ما قاله القاضي إسماعيل في الأحكام: وقد ظن قوم أنه عليه الصلاة والسلام خير نساءه في الطلاق، وهذا ظن سوء منهم أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخير في طلاق ويكون ثلاثاً، وإنما خيرهن بين الدنيا والآخرة فإن اخترن الدنيا طلقن حينئذ طلاق السنة الذي علمه الله، ألا ترى إلى قوله: (أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) وقاله ابن رشد وعياض، وروى البخاري ومسلم والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام لما أمره الله بالتخيير وبدأ بعائشة وتلى عليها الآية وقال لها: "لا عليك أن لا تستعجيل حتى تستأمري أبويك". فقالت: أفي هذا [370/ أ] أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواجه مثل ذلك. وما وقع في المدونة أن بعض أزواجه اختارت الفراق، اللخمي وعياض وغيرهما: فليس بصحيح. تنبيه: استدل ابن عبد السلام على أن الطلاق المراد من الآية دون الثلاث لحصول المتعة لأنه لو كان الثلاث لم تكن متعة وليس بظاهر، لأن المذهب استحباب المتعة لكل مطلقة سواء طلقت ثلاث أم لا، إلا ما استثنى وقد تقدم ذلك.

وَقِيلَ: بَائِنَةُ، وقِيلَ: رَجْعِيَّةُ، ولَهُ مُنَاكَرَتُهَا فِيمَا زَادَ هذان القولان هما مقابل المشهور المتقدم من كلام المصنف، والقول بأنها بائنة هو الذي حكاه ابن خويز منداد عن مالك كما تقدم. وقوله: (وقِيلَ: رَجْعِيَّةُ، ولَهُ مُنَاكَرَتُهَا فِيمَا زَادَ) هو القول الخامس من كلام القاضي عياض، لأن قوله: (ولَهُ مُنَاكَرَتُهَا فِيمَا زَادَ) يدل على أنه إذا لم يناكرها تقع الثلاث، واعترض ابن عبد السلام عليه القول الأول بعدم وجوده، وقوله أنه يتفق على لزوم الثلاث عند عدم المناكرة ليس بظاهر لما تقدم. وَعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ أَوْقَعَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقَعْ، وفِي بُطْلانِ اخْتِيَارِهَا: قَوْلانِ يعني: وإذا فرعنا على المشهور أن التخيير للثلاث، فلو أوقعت المرأة واحدة لم تقع لأنها غير الذي جعل لها، وهل يبطل خيارها بعدولها عما جعل لها؟ وهو المشهور أم لا؟ ويكون لها بعد ذلك أن تقضي بالثلاث وهو قول أشهب، واستحسنه اللخمي لأن المرأة لم تترك ما جعل لها إلا على تقدير حصول الواحدة. ابن المواز متمماً للمشهور: ما لم يتبين منه الرضى بما أوقعت فيلزم ذلك، وهل اللزوم فيما أوقعت من باب الطلاق بالنية أم لا؟ فيه تردد، وعورضت هذه المسالة بما إذا قالت المخيرة: اخترت نفسي إن دخلت علي ضرتي، فقال في المدونة: توقف لتختار أو تترك، ووجه المعارضة بينهما أن المخيرة في الأولى أخذت بعض حقها وهو الواحدة وأسقطت ما زاد عليها، كما أنها أخذت في الثانية حقها في إحدى الحالتين، أعني بشرط الدخول على ضرتها، فإسقاطها لبعض حقها إن كان مقتضياً لسقوط حقها فهو سقوط فيهما وإلا فلا فيهما، ولهذا قال سحنون: يسقط حقها أيضاً في الثانية، وأجيب بأنها في الأولى تركت بعض ما جعل لها. وللزوج فيه غرض لأنها إذا أوقعت الثلاث تسقط عنه نفقة العدة،

فصارت لذلك الواحدة كأنها أمر آخر بخلاف الثانية فإنها لم تترك شيئاً للزوج فيه غرض، وإنما وقفت لحق الله تعالى في بقاء العصمة على الشك. فرع: اللخمي: إذا قال: اختاري تطليقتين. أو من تطليقتين. أو في تطليقتين فالجواب مختلف فيه فإن قال: اختاري تطليقتين، كان لها أن تقضي بهما، وإن قضت بواحدة لم يلزمه شيء. وإن قال: اختاري من تطليقتين قضت بواحدة ولم تستكمل اثنتين. واختلف إذا قال: اختاري في تطليقتين ففي المدونة تقضي بهما، وإن قضت بواحدة لم يلزمه شيء. وقال ابن سحنون: لها أن تقضي بواحدة. وعن أصبغ إذا قال: اختاري من ثلاث؛ أنها البتة. قال في المدونة: وإن قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي واحدة، لم يقع عليها شيء. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا تُوقِعُ الثَّلاثَ فلَهُ نَيِّتُهُ ويَحْلِفُ وإِلا وَقَعَتْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةُ وَقَعَتِ الثَّلاثُ .. حاصله أن الحكم في التخيير إذا كانت المرأة غير مدخول بها كالمملكة فله أن يناكرها فيما زاد على الواحدة بالشروط المتقدمة. فرع: واختلف في المدخول بها هل تعطي شيئاً على أن يخيرها، فقال مالك: تلزمه البتة باختيارها نفسها ولا مناكرة له. وقال سحنون وابن المواز: له أن يناكرها لأنها تبين بالواحدة. ابن محرز: وهو أظهر، لأنها تبين بالواحدة فكانت كغير المدخول بها؛ قال: ووجه قول مالك أنها إنما أعطته على الخيار، وحكم الخيار أنه لا مناكرة فيه بعد الدخول.

وَيبْقَى بِيَدِهَا وَإِنْ تَفَرَّقَا أَوْ طَالَ، وإِلَيْهِ رَجَع ولَوْ عُلِمَ أَنَّهُمَا خَرَجَا عَمَّا كَانَا فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، حَتَّى تُجِيبَ أَوْ يُسْقِطَهُ الْحَاكِمُ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: والأَكْثَرُ يَسْقُطُ إِنْ تَفَرَّقَا أَوْ طَالَ .. وهذا كما تقدم في التمليك سواء، ولا يؤخذ من قول المصنف (وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: والأَكْثَرُ) أن ابن القاسم قال بهذا القول، وقد قمنا أنه قال به ولم يحفظ له غيره. أَمَّا لَوْ قُيِّدَ الْجَمِيعُ بِوَقْتٍ تَقَيَّدَ بِهِ إِلا أَنْ تَرُدَّ أَوْ يُسْقِطَهُ الْحَاكِمُ (الْجَمِيعُ) أي: التمليك والتخيير ويحتمل أو يريد جميع صيغ التخيير والتمليك سواء كانت تدل على التكرار ككلما، أو على امتداد الزمان كمتى؛ كما لو قال: لك الخيار في هذا اليوم أو إلى شهر أو سنة، تقيد به ولا يتعداه، ففي المدونة وإن قال لها: اختاري اليوم كله فمضى اليوم ولم تختر فلا خيار لها. واختلف هل هذا على قوليه معاً في التمليك؟ وإليه ذهب ابن أبي زيد والقابسي وابن الحارث وغيرهم. ابن محرز وابن يونس: وهو الصواب. أو اليوم هنا مثل المجلس ويدخله القولان إذا انقضى اليوم، ونقله عبد الحق عن بعض القرويين. (إِلا أَنْ تَرُدَّ) أي ما جعل لها وتختار زوجها أو يسقط الحاكم إذا اطلع لحق الله [370/ ب] في بقاء العصمة على الشك. قال في المدونة: وإن قال لها أمرك بيدك إلى سنة وقعت متى علم ذلك ولا تترك تحته، وأمرها بيدها حتى توقف فتقضي أو ترد. ابن القاسم: وكذلك إذا قال لها إذا أعطيتني ألف درهم فأنت طالق، فإنها توقف إما أن تقضي أو ترد، إلا أن يطلقها في الوجهين وهي طائعة فيزول ما بيدها، وقال ابن شعبان: لا قضاء لها حتى يأتي الأجل وله الوطء إلى ذلك الأجل، وفي بعض الروايات لا يجوز أن

يجعل الرجل الخيار لامرأته في نفسها إلى أجل بعيد إلا أن يكون ذلك اليوم وشبهه، فيوقف عن امرأته في اليوم وشبهه حتى ترجع إليه أو تفارقه. لَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي، ونَحْوَهُ مِنَ الظَّوَاهِرِ فَهُوَ الَبَتاتُ لما قدم التخيير من جهة الرجل تكلم على الجواب من جهة المرأة، واعلم أن جوابها قسمان: صريح: كما لو قالت: طلقت نفسي ثلاثاً، ولا شك في لزوم الثلاث، كما لو قالت: اخترت زوجي، أو رددت ما جعل إلي من التخيير، فلا شك في عدم لزوم الطلاق، ولما كان هذا واضحاً أعرض المصنف عنه. والثاني ظاهر: كما لو قالت: اخترت نفسي ... ونحوه، قال في المدونة: وإن أجابته بألفاظ ظاهرة المعاني كقولها: اخترت نفسي، أو: طلقت نفسي، أو: طلقت نفسي ثلاثاً، أو: بنت منك، أو: بنت مني، أو: قد حرمت عليك، أو: حرمت علي، أو: برئت منك، أو: برئت مني، أو نحو هذا فهو البتات، ولا تسأل فيه المرأة عن نيتها في خيار ولا في تمليك إلا أن للزوج أن يناكرها في التمليك كما وصفنا قبل. واختلف إذا سؤلت: أي الطلاق أرادت بقولها: اخترت نفسي؟ فلم تكن لها نية، فقال ابن القاسم: مرة واحدة، ومرة ثلاثاً. وبالأول قال ابن الماجشون. وبالثاني قال أصبغ، وكذلك إذا قالت اخترت الفراق. وَإِنْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي ونَحْوَهُ سُئِلَتْ- فَإِنْ أَرَادَتْ ثَلاثاً وَقَعَتْ، وإِلا لَمْ تَقَعْ هذا مذهب المدونة، واختلف شارحوها إذا لم تكن لها نية فقال صاحب المقدمات: يلزم الزوج ثلاثاً إلا أن يناكرها في التمليك. وقال عبد الحق: إذا لم تكن له نية ولا لها فهي

طلقة واحدة تلزم في التمليك وسقط في التخيير. وفي المقدمات: إذا قالت: طلقت نفسي خمسة أقوال: الأول: مذهب المدونة تسأل في المجلس وبعده، في التخيير والتمليك وإن لم تكن لها نية فهي ثلاث إلا أن يناكرها في التمليك. والثاني: أنها تسأل في المجلس أيضاً وبعده في التخيير والتمليك، وإن لم تكن له نية فهي واحدة تلزمه في التمليك وتسقط في التخيير. والثالث: أنها لا تسأل في التخيير والتمليك وهي واحدة تلزم في التمليك وتسقط في التخيير، فإن قالت في المجلس أردت ثلاثاً فهي ثلاث، إلا أن يناكرها في التمليك وهو قول ابن القاسم في الواضحة. والرابع: أنها لا تسأل في التخيير والتمليك وهي ثلاث إلا أن: تقول في المجلس أردت واحدة فيسقط التخيير، وهو قول أصبغ في الواضحة. والخامس: أنها لا تسأل في التمليك وهي واحدة إلا أن تريد أكثر من ذلك فيكون للزوج أن يناكرها، وتسأل في التخيير فإن قالت: أردت ثلاثاً صدقت وكانت ثلاثاً، وإن قالت: واحدة أو اثنتين أو لم تكن لها نية أو افترقا من المجلس قبل أن تسأل سقط خيارها. قال: وأما إن قالت: أنا طالق، فلا تسأل في تمليك ولا تخيير وتكون واحدة تلزم في التمليك وتسقط في التخيير إلا أن تقول في المجلس: نويت ثلاثاً فتلزم في التخيير ويكون للزوج في التمليك أن يناكرها، ولا أحفظ في هذا نص خلاف. وأما إن قالت: اخترت الطلاق فالذي أرى فيه على أصولهم أنها تسأل فيالتخيير والتمليك لأن هذه الألف واللام قد يراد بهما الجنس فتكون ثلاثاً، ويراد بهما العهد وهو الطلاق السني المشروع فتكون واحدة. فإذا احتمل اللفظ الوجهين وجب أن تسأل أيهما

أردت؟ فإن قالت: لم تكن لي نية كانت ثلاثاً على قول أصبغ في الواضحة. ومذهب ابن القاسم في المدونة في التي تقول: قد طلقت نفسي ولا نية لها أنها ثلاث. وواحدة على قول ابن القاسم في الواضحة في التي تقول: طلقت نفسي ولا نية لها أنها واحدة. ويحتمل أن يكون الألف واللام للعهد وهو الطلاق الذي ملكها إياه فيكون ثلاثاً. وقد كان ابن زرب يتوقف في الجواب في هذه المسألة إذ لم يجد في المدونة ولا في العتبية فيها نصاً. ونحو طلقت نفسي طلقت زوجي، أو أنا مطلقة أو هو مطلق وكذلك ما تقدم من الألفاظ التي في المدونة في التي قبلها. فَلَوْ أَبَانَهَا قَبْلَ اخْتِيَارِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا انْقَطَعَ التَّخْيِيرُ لأَنَّهَا رَضِيَتْ بِخِلافِ الرَّجْعِيِّ يعني: إذا خيرها ثم أبانها إما بخلع أو بثلاث فإنه إذا تزوجها ينقطع خيارها لأنها رضيت بتزويجه، وإذا كان تمليكها من نفسها دليلاً على إسقاط حقها فإنشاء عقدة النكاح أولى بخلاف ما إذا طلقها طلاقاً رجعياً فإن خيارها لا ينقطع لأن حكمها حكم الزوجة فلها أن تختار. وَلَوْ جَعَلَهُ بِيَدِ أَجْنَبِيِّ وتفرقا في المجلس فَكَالْمَرْأَةِ فِي الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ غَابَ ولَمْ يُشْهِدْ أَنَّهُ بَاقٍ سَقَطَ، وإِنْ أَشْهَدَ أَسْقَطَهُ الْحَاكِمُ فِي بَعِيدِ الْغَيْبَةِ وجَعَلَهُ إِلَى الزَّوْجَةِ، ورُوِيَ لا [371/ أ] يَسْقُطُ فَيَكُونُ كَالْمولي اختلف أولاً هل له أن يجعل الأمر في الطلاق إلى غير الزوجة؟ وهو مذهب المدونة، وعليه اقتصر المصنف وسواء كان الأجنبي حاضراً أو قريب الغيبة، قال في سماع عيسى كاليومين والثلاثة، وقال في الواضحة عن ابن القاسم: كاليوم وشبهه، ابن القاسم وأما إن كان بعيداً رجع الأمر إليها وليس أن يجعل الأمر إلى غيرها وإن كان حاضراً ويرجع الأمر إليها فتقضي أو ترد، وهو قول أصبغ، وعلى المشهور فإما أن يكون حينئذ حاضراً أو غائباً.

وأنما تكلم المصنف على الحاضر، ثم الحاضر إن لم يغب ففي بطلان ما بيده بالقضاء المجلس القولان السابقان في المرأة وهكذا في المدونة، وزاد فيها أنه إن أمكن المملك من المرأة وزوجها زانل ما بيدها من أمرها، أي على القولين. وإذا فرع على القول بعدم السقوط بالتفرق فلو مكنت الزوجة ولم يعلم الأجنبي ففي المدونة يسقط خياره. وقال محمد: لا يسقط، واستحسنه اللخمي قال: وإذا ثبت أن للأجنبي حقاً فلا يكون للزوج أن يطأ الزوجة إلا بعد علم الأجنبي. وأما إن غاب وإليه أشار بقوله: (فَإِنْ غَابَ ولَمْ يُشْهِدْ أَنَّهُ بَاقٍ) على حقه (سَقَطَ) ما بيده، لأن عدم الشهادة دليل على إسقاط حقه، وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بين الغيبة القريبة والبعيدة، وكذلك كلام ابن بشير وابن شاس. وقال ابن عبد السلام: ينبغي أن يفرق بين طول الغيبة وقصرها كما في القسم الذي يقابله، وقد يقال إذا لم يشهد كان ذلك قرينة في إسقاط حقه ولا سيما والخلاف في أصل المسألة، أعني: هل يسقط الخيار انقضاء المجلس أم لا؟ وأما إن أشهد أنه باق على حقه ففي الجواهر: إن قربت الغيبة كتب إليه بإسقاط ما بيده وإمضاء ما جعل إليه وإن بعدت، فقيل يسقط ما بيده وينتقل إلى الزوجة لأن المملك كالنائب عنها. وفي الموازية ذلك بيده ولا يقربها الزوج لأنه قد جعل الأمر في طلاقها إلى غيره فيلزمه ما التزم. وإذا فرعنا على هذا ثم قامت بحقها في الوطء ضرب لها أجل المولي إذا رجي قدومه واستعلام ما عنده في الأجل، وأما إن لم يكن يرجى ذلك ففي ضرب الأجل قولان للمتأخرين، فقول المصنف في بعيد الغيبة، وأما في قربها فينظر ما عنده. وقوله: (ورُوِيَ لا يَسْقُطُ) هو ما في الموازية. مالك: والأجل من يوم ترفعه، وفيه نظر؛ لأن المشهور المذهب عدم ضرب الأجل في حق من امتنع من الوطء بغير يمين إلا أن يقال هذا مبني على الشاذ.

وقول المصنف في القول الأول وجعله إلى الزوجة قد يخرج منه خلاف من رواية علي عن مالك في الذي تزوج امرأة وشرطت عليه أمها في العقد إن نكح عليها أو تسري أو خرج بها من بلدها فأمرها بيد الأم، ثم ماتت الأم فلا يكون ذلك بيد أحد غير من جعله الزوج بيده، لأنه يقول: لم أكن أرضى أن أجعل أمر امرأتي إلا بيدها لنظرها وقلة عجلتها، وهو خلاف المدونة. وحكي المتيطي وغيره روايتين إذا أوصت الأم به إلى أجنبي وماتت هل ينتقل إلى من أوصت له أم لا؟ فرع: قال اللخمي: وإن ملك غائباً فإن كان قريباً كتب إليه ليعلم ما عنده، واختلف إن كان بعيداً فلمالك في الموازية: يضرب له الأجل من يوم ترفع، فإن قدم وإلا طلقت عليه بالإيلاء. محمد: فإن قدم في العدة فقضى بالطلاق لزم الزوج مع طلقه الإيلاء، وإن لم يطلق كأن أن يرتجع متى شاء ما كانت فيه العدة، وقال أيضاً: لا يرجع الأمر إليها إذا كان يرجى قدومه في الأجل. وقد اختلف في هذا الأصل هل يجعل الطلقة الآن لما كان الصبر لا يفيد وهو مضرة عليها؟ أو يصيب رجاء أن ينتقل رأيها إلى الصبر، وإذا طلق بالإيلاء كان له أن يمنعه الرجعة، لأنه ممنوع من الإجابة، وإن انقضت العدة لم يجز له أن يتزوجها لأنه ممنوع منها حتى يقدم فلان، ولا يجوز له أن يتزوج من لا يحل له وطؤها ولا يتعرض بالحائض لأن ما فوق الإزار جائز وهذه ممنوعة جملة. ولَوْ خَيَّرَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ اعْتُبِرَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ بَلَغَتْ حَدَّ الوَطْءِ مقتضى كلامه أن قول ابن القاسم مخالف للأول لعطفه عليه بالواو، وفي النوادر عن الموازية قال مالك: إذا خير زوجته قبل أن تبلغ وقبل البناء واختارت نفسها فهو طلاق إن بلغت في حالها.

ابن القاسم: يريد حد الوطء، فإن ابن القاسم إنما قصد التفسير، لكن وقع لمالك في سماع عيسى أن الطلاق يلزمه وإن لم تبلغ مبلغاً يوطأ مثلها إذا كانت قد عقلت وعرفت ما ملكت فيه. ومثله أيضاً لابن القاسم أيضاً في سماع أبي زيد فتفسيره ضعيف، لأن الموجود لمالك خلافه. ولو كانت صغيرة لم تعقل معنى الخيار لاستؤني حتى تعقل ثم تختار قاله ابن القاسم في سماع أبي زيد. انتهى. وقال سحنون في العتبية: لها الخيار وإن لم تبلغ لأنه هو الذي جعل ذلك إليها، ونحوه نقل [371/ ب] اللخمي عن أشهب وعبد الملك، قال في البيان: وقول سحنون: وإن لم تبلغ. يريد: وإن لم تبلغ الحيض، ومن تأول عليه أن لها الخيار وإن لم تبلغ مبلغاً تعرف فيه معنى الطلاق فقد أبعد، ووقع لعبد الملك في من خير المغمورة فاختارت نفسها قال: إن خيرها وهي مفيقة ثم غمرت فقضاؤها غير جائز، وإن خيرها وهي مغمرة فقضت جاز قضاؤها لأنه في حد رضي لنفسه بقضائها. قال: وكذلك لو ملك صبياً أمر امرأته لجاز قضاؤه إن كان يعقل ما جعل له وما يجيب به، فإن كان يخلط في كلامه ولا يعقل ما جعل له لم يجز. واانظر هل قوله في الصبي مخالف لقوله في المغمورة؟ وحكم التَّخْبِيرِ والتَّمْلِيكِ فِي التَّعْلِيقِ كَالطَّلاقِ فِي التَّنْجِيزِ والتَّاخِيرِ مِثْلَ إِنْ مَضَتْ سَنَةُ فَيَتَنَجَّزُ، وإِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَيَتَأَخَّرُ .. تصوره ظاهر، وقوله: (كَالطَّلاقِ) أي وفاقاً وخلافاً. وَلَوْ قَالَ: إِنْ غِبْتُ شَهْراً فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ فَغَابَ وَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وتَزَوَّجَتْ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ وإِنْ كَانَتْ قَدْ عَلِمَتْ فُسِخَ، وإِلا فَقَوْلانِ- كَمَنْ طَلَّقَ فَتَزَوَّجَتْ وقَدِ ارْتَجَعَ .. قوله: (وإِنْ كَانَتْ قَدْ عَلِمَتْ) أي بقدومه (فُسِخَ).

قوله: (وإِلا) أي: وإن لم تعلم (فَقَوْلانِ) المشهور أنها تفوت بالدخول وهاتان المسألتان من نظائر المفقود وقد تقدمتا. واعلم أنها تطلق نفسها في المسألة الأولى بعد أن تثبت الغيبة ثم تحلف لقد غاب عنها الغيبة المذكورة ولا يرجع إليها سراً ولا جهراً، ثم إذا فعلت ذلك أباح لها القاضي أن تطلق نفسها. وَلَوْ قَالَ: إِنْ قَدِمَ فُلانُ فَقَدِمَ ولَمْ تَعْلَمْ ثُمَّ وَطِئَهَا فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا تصوره ظاهر ويعاقب إن علم ووطئها. الرَّجْعَةُ رَدُّ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلاقٍ قَاصِرٍ عَنِ الْغَايَةِ ابْتِدَاءً غَيْرَ خُلْعٍ بَعْدَ دُخُولٍ ووَطْءٍ جَائِزٍ، ولَمْ يَشْتَرِطِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ جَوَازَ الْوَطْءِ .. يقال: الرجعة بفتح الراء وكسرها، الجوهري: والفتح أفصح، وأنكر غيره الكسر، ورسمها المصنف بقوله: (رَدُّ الْمُعْتَدَّةِ ... إلى آخره) فرد المعتدة كالجنس، فقال: رد المعتدة؛ لأنه لو تزوج ابتداءً وردها بعد خروجها من عدة الطلاق لم تكن رجعية وعن طلاق لا يخرج به شيء، وإنما ذكره توصلاً إلى قوله: (قَاصِرٍ) إذ لو قال: رد المعتدة عن قاصر لكان قبيحاً، وقولنا لا يخرج به شيئاً لأن رد المعتدة لا يكون إلا عن طلاق. وقال: (عَنِ الْغَايَةِ) ولم يقل عن الثلاث ليشمل الحر والعبد؛ لأن غاية طلاقه اثنتان فلو قال قاصر عن الثلاث لاقتضى أن العبد إذا طلق اثنتين أن تكون له الرجعة. وقوله: (ابْتِدَاءً) راجع إلى قوله: (قَاصِرٍ) لا إلى قوله: (طَلاقٍ) لأنه لو رجع إلى قوله طلاق لم ينعكس الحد لخروج الحر إذا طلق زوجته طلقة بائنة لأنه لا يصدق عليه أنه طلاق مبتدأ بخلاف ما إذا أعدناه إلى قاصر فإن الطلقة الثانية قاصرة عن الغاية باعتبار الابتداء.

ويمكن أن يقال ابتداء كالصفة للغاية، ويكون المعنى قاصر عن الغاية الابتدائية لا إلى الانتهائية، فإن العبد إذا طلق طلقه في رقه ثم أعتق فليس له بعد عتقه إلا واحدة تكملة غاية الأولى فانظره. واحترز بقوله: (غَيْرَ خُلْعٍ) فإنه لا رجعة فيه. وبقوله: (بَعْدَ دُخُولٍ) من الطلقة قبله فلا رجعة له، والظاهر أن قوله: (رَدُّ الْمُعْتَدَّةِ) يغني عن هذا لأن المطلقة قبل البناء لا عدة عليها، وبـ (وَطْءٍ جَائِزٍ) مما لو دخل بها ووطئها حائضاً أو في نهار رمضان فإنه لا يكون له الرجعة بذلك كما لا يقع به الإحلال والإحصان؛ لأن ذلك الوطء كلا وطء، إذ المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً. ولم يشترط ابن الماجشون في الرجعة جواز الوطء، وقوله مقيد بما إذا لم يكن الوطء محرماً بالأصالة، وأما المحرم بالأصالة وهو الوطء في الدبر فإنه يوافق على عدم اعتباره، ووجهه أنه وطء في زوجة يوجب تكميل الصداق فوجب أن يجلب للزوج الرجعة. وذهب ابن حبيب واللخمي إلى أن خلافه فيما عدا صوم التطوع وقضاء رمضان والاعتكاف وغير المنذور، وأما في الثلاث فيحل اتفاقاً لأن الصوم يفسد في هذا بأول الملاقات بخلاف رمضان والنذر المعين فإنه مخاطب بالإمساك عن التمادي، وذهب الباجي إلى أن الخلاف مطلق. واعلم أنه متى حصلت هذه القيود كان للزوج أن يرتجع الزوجة أحبت أم كرهت، والإجماع على ذلك، واعترض على الحد الذي ذكره المصنف بأنه غير جامع لأنه المطلق عليه بالإيلاء، أو لعدم النفقة لا تصح لأحدهما الرجعة إلا بعد ذهاب الموجب للطلاق بفينة المولي أو يسر العسر. واختلف إذا رضيت الزوجة بالرجعة ولم يصب قال سحنون في السليمانية في المولي وعادم النفقة لا تصح رجعتهما وإن رضيت ولا تنهدم عدة ثبتت بطلاق، بمعنى إلا بزوال ذلك المعنى الذي طلقت له.

وقال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون في الواضحة في من حلف بطلاق امرأته البتة ألا يصيبها سنة، فقامت بحقها فطلق عليها بالإيلاء، فله أن يرتجعها [372/ أ] برضاها، قالوا: لأن لها أن تقيم بغير وطء إلى انقضاء السنة، فأجازوا رجعته إذا رضيت بترك الإصابة وإن لم يرتفع السبب. اللخمي: وهو أحسن لأن الطلاق كان لحق آدمين وأيضاً فإن كل طلاق يوقعه الحاكم غير هذين الطلاقين بائن ليس للزوج فيه رجعة مع أن كلام المصنف يقتضي أن تكون له الرجعة في ذلك إذ يصدق عليها أنها معتدة من طلاق قاصر إلى آخره، فكان ينبغي للمصنف أن يزيد بعد قوله: (طَلاقٍ) غير حكمي، لتخرج هذه الصورة وقد يجاب عنهما. أما المولي والمعسر بالنفقة فلا نسلم أنه ليس لكل واحد منهما الرجعة، بل لهما الرجعة وإنما لصحتها شرط إذ لو ارتجع المعسر بالنفقة ثم أيسر في العدة صحت رجعته، وعن الثاني فإنه إنما سكت عن التنبيه على ذلك لأنه رأى أن قوله (غَيْرَ خُلْعٍ) مغن عنه لاشتراك الجميع في البينونة والله أعلم. فَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ دُخُولُ فَلا رَجْعَةَ لَهُ، ولَوْ تَصَادَقَا عَلَى الْوَطْءِ قَبْلَ الطَّلاق، ويَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ .. هذا شروع من المصنف في الكلام على ما احترز به من القيود فقوله (فَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ دُخُولُ فَلا رَجْعَةَ) إلى قوله (بَعْدَ دُخُولٍ) ولم تكن له رجعة، وإن تصادقا على الوطء لأن ذلك ذريعة إلى نكاح بلا ولي ولا صداق، إلا أن يظهر حمل ولا ينكره فتصح الرجعة لأن الحمل قاطع للتهمة وإذا لم يصدقهما فيلزم كل واحد بمقتضى إقراره، فيلزم الزوج بالنفقة والكسوة والسكنة وألا يتزوج أختها أو خامسة، وتلزم المرأة العدة وألا تتزوج غيره. وهكذا قال في المدونة، زاد فيها: ولا يتوارثان فإن لم يصدق فلا عدة عليها ولا نفقة ولا كسوة.

فَلَوْ خَلا وادَّعَى الْوَطْءَ وأَنْكَرَتْهُ فَفِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ قَوْلانِ ظاهر قوله (خَلا)، أنه لا فرق بين خلوة الاهتداء والزيارة والضمير في قوله (وأَنْكَرَتْهُ) عائدعلى الوطء. وتصور كلامه ظاهر وفي المدونة: وإن دخل بها في بيت أهلها غير دخول البناء صدق إنكاره الوطء ولها نصف الصداق. فإن أقر ههنا بالوطء وأكذبته فلها أخذ جميع صداقها بإقراره أو نصفه، ولابد لها من العدة للخلوة ولا رجعة له. انتهى. ومفهومه أنه لو كانت خلوة بناء أن له الرجعة وكذا قال اللخمي: الظاهر من قول ابن القاسم أنها تصح في خلوة البناء دون خلوة الزيارة. ونحوه لابن المواز لأنه قال: الموضع الذي يقبل قوله في الصداق يقبل قوله في إيجاب العدة وفي ثبوت الرجعة وفي دعواه دفع الصداق إليها وقاله ابن رشد. اللخمي: قال مالك في المختصر: لا رجعة له إذا انفرد بدعوى الإصابة وجعل حكم الرجعة لا يصح إلا باجتماعهما على الإصابة كالإحلال. خليل: وإذا كانت هذه المسألة جارية على الصداق فيتخرج في كل من خلوة البناء والزيارة قولان، والمشهور: يقبل قوله في خلوة الاهتداء دون خلوة الزيارة. وَإِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ أَوْ غَيْرِهِ صُدِّقَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلافِ عَادَتِهَا، وَفِي قُبُولِ النَّادِرِ: قَوْلانِ .. لما كان الارتجاع إنما يكون في زمن العدة بين المصنف أنها مصدقة في انقضائها سواء كانت بوضع أو حيض، وهو مراده بقوله (أَوْ غَيْرِهِ) وأما الأشهر فهن والرجال سواء. وقوله (بِغَيْرِ يَمِينٍ مَا أَمْكَنَ)، هو كقوله في المدونة: وإذا قال لمعتدة: قد راجعتك فأجابته نسقاً لكلامه: قد انقضت عدتي، فإن مضت مدة تنقضي في زمن مثلها صدقت

بغير يمين، وإلا لم تصدق. وقضى أبان ابن عثمان في مطلقة ادعت بعد خمسة وأربعين يوماً أن عدتها قد انقضت أنها مصدقة وتحلف، وليس العمل على التحليف إذا ادعت ما تحيط في مثله، وهذا لأنهن مأمونات على فروجهن ولا يعلم ذلك إلا من جهتهن ألا ترى قوله تعالى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) [البقرة: 228] فلولا أن قولهن مقبول في ذلك وإلا لما كان لعدم حلية الكتمان فائدة. وقوله: (وَفِي قُبُولِ النَّادِرِ: قَوْلانِ) اللخمي: واختلف إذا كانت المدة تنقضي فيها العدة للنادر هل تصدق؟ فقال مالك في المدونة: إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر، يسأل النساء فإن كن يحضن ويطهرن لذلك صدقت. وقال في الموازية: لا تصدق في شهر، وقال أيضاً: لا تصدق في شهر ونصف وما أراها إلا عجلت زمان أقل حيض النساء أن يقمن خمساً، وقال سحنون: لا تصدق في أقل من شهرين وعنه أقل ما تصدق فيه أربعون. وقال ابن العربي: عادة النساء عندنا أن تحيض في كل شهر مرة وقد قالت الأديان فلا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر. وَلا يُفِيدُ تَكْذِيبُهَا نَفْسَهَا ولا أَنَّهَا رَأَتْ أَوَّلَ الدَّمِ وانْقَطَعَ، وَلا رُؤْيَةَ النِّسَاءِ لَهَا فِي وَضْعٍ ولا حَيْضٍ .. يعني إذا قالت: انقضت عدتي؛ ثم أكذبت نفسها أو قالت: إنما قلت إن عدتي انقضت لأني رأيت دماً وظننت أنه يتمادى وقد انقطع بإثر قولي، أو نظر النساء إليها فلم يرين بها أثر حيض ولا وضع فلا عبرة بقولها ولا قولهن، وبانت بقولها الأول وتصديقها [372/ ب] ذريعة إلى إجازة النكاح بغير شروطه، ورتب المصنف هذه الثلاث مسائل ترتيباً حسناً، لأنه حكم أولا بعدم قبول قول المرأة التي أكذبت نفسها، ثم عقبه بعدم قبول قول من لم تكذب نفسها، ثم عقبه بعدم قبول قول من شهد لها النساء بصدقها.

ولا إشكال في المسألة الأولى لأن خبرها في غاية الضعف، وأما الثانية ففي المدونة ما ذكره المصنف، وفيه إشكال لأن أكثر أصحابنا قالوا أنها لا تحل بدخولها في الحيضة الثالثة إلا بشرط الدوام فينبغي أن يقبل قولها في دعواها الانقطاع وكما هي مؤتمنة فيوجوده أولاً، فكذلك تؤتمن على ماديه وانقطاعه، وكما في قبول قولها داعية إلى إجازة نكاح بغير شروطه ففي عدم قبول قولها إباحتها للغير بالشك. ولم ينص في المدونة على عدم قبول شهادة النساء إذا شهدن بعدم الوضع، وإنما نص فيها على عدم القبول إذا شهدن بعدم الحيض، لكن الظاهر ألا فرق. وَإِذَا مَاتَ زَوْجُهَا بَعْدَ سَنَةٍ فَقَالَتْ: لَمْ أَحِضْ إِلا وَاحِدَةً فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُرْضِعٍ لَمْ تُصَدَّقْ إِلا إِنْ كَانَتْ مُظْهِرَةً لِلتَّاخِيرِ فَتُصَدَّقُ .. يعني: إذا طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً ثم مات بعد سنة من يوم الطلاق، وقالت: لم أحض إلا واحدة، فإن كانت مرضعا – اللخمي: أو مريضة- صدقت، لأن الرضاع والمرض يمنعان الحيض، وإن كانت صحيحة غير مرضع فقال في الموازية ما ذكره المصنف: لا تصدق، لأنها تتهم على أخذ الميراث من الزوج بدعوى أمر نادر، إلا أن تكون قبل موت مطلقها تذكر أنها لم تحض إلا مرة واحدة لضعف التهمة حينئذ فتصدق على الأقل. وقال ابن مزين: تصدق إذا ادعت تأخير حيضها بعد انقضاء سنة وتحلف بالله ما حاضت ثلاث حيض. ولعل هذين القولين سابقين في دعوى النادر إلا أن ذلك بحسب قصر العدة وهذا بحسب طولها. قال في البيان: ولو كانت بقرب السنة لجرت على القولين في السنة وفهم من كلام المصنف أنها لا تصدق فيما دون السنة. قال في البيان: وينبغي أن تصدق في نحو الأربعة

أشهر وعشر بغير يمين وفي الستة أشهر ونحوه بيمين، قال: وأما إن ادعت بعد موت زوجها بأكثر من العام والعامين أنها لم تستكمل ثلاث حيض ألا تصدق إلا أن تكون ذكرت ذلك في حياته قولاً واحداً. اللخمي: وإن كان الطلاق بائناً صدقت لأنها معترفة على نفسها في موضع لا تهمة عليها فيه وأما إن كان الزوج حياً فإن صدقها الزوج كانت لها النفقة ولم تكن من الرجعة. ويختلف إذا كذبها هل يصدق لأنها تتهم في بقاء النفقة، ويختلف إذا ماتت الزوجة بعد مضي عدتها المعتادة هل تحمل على أنها في العدة ويرثها الزوج، فلمالك في كتاب المدنيين: إن مات بعد ثلاثة أشهر وادعى الزوج أنها كانت حاملاً فإنه يرثها، والبينة على من أراد منعه. وفي كتاب الاستبراء في من باع أمة ببراءة من الحمل وهو مقر بالوطء ولم يستبرئ فمضى لها بعد البيع قدر حيضة- محمد: وذلك قدر شهر- انتقل الضمان وكانت المصيبة من المشتري. اللخمي: فنقل الضمان وهو لا يدري هل رأت دماً أم لا؟ بل قال المشتري: لم تحض عندي؛ لم يصدق، وعلى هذا فيحمل من المرأة إذا انقضى الأمد المعتاد على أنها رأت الأقراء ثم ماتت وعلى هذا لا يرثها، وهذه المسألة دخيلة في هذا الباب لأن إرثها ليس في الرجعة بل في الميراث. والله أعلم. وَإِمْكَانُ انْقِضَاءِ الأَقْرَاءِ مَبْنِيُّ عَلَى الاخْتِلافِ فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ، فِي الْعِدَّةِ والاسْتِبْرَاءِ لما ذكر أن المرأة تصدق إذا ادعت انقضاء العدة ما أمكن- مبني على أقل الطهر، والحيض المذكور في العدة والاستبراء، وأنما قال في العدة والاستبراء لأن الحيض من باب العبادات لا حد له بخلاف العدد كما سيأتي. وأما الطهر فهو في البابين متحد كما قدمناه في باب الطهارة.

وَلَوْ أَشْهَدَ بِرَجْعَتِهَا فَصَمَتَتْ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا كَانَتِ انْقَضَتْ لَمْ يُقْبَلْ لأن سكوتها مع إشهاده كالإقرار له بصحة رجعته، فادعاؤها بعد ذلك أن عدتها كانت انقضت يعد ندماً فلذلك لا يقبل. وأجرى ابن رشد في هذه المسالة قولاً بأن سكوتها لا يعد إقراراً من خلاف ذكره في هذا الأصل. وَإِذَا قَالَتْ: حِضْتُ ثَلاثاً فَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَوْلِهَا قَبْلَهُ بِمَا يُكَذِّبُهَا صَحَّتْ رَجْعَتُهُ يعني: إذا أراد المطلق الرجعة فقالت له المطلقة: قد حضت ثالثة وذلك لمدة تنقضي فيها العدة غالباً، فقال الزوج: قد قلت بالأمس: أنك لم تحيضي أو إنما حضت مرة واحدة، فلا يلتفت إلى قوله، أشهب: ولا يقبل تصديقها له إلا أن يقيم الزوج بينة أنها قالت أمس: لم أحض. وإنما حضت مرة، فتكون له الرجعة إن لم يمض من يوم القول ما تحيض فيه كمال الثلاث. وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا لَمْ يُصَدَّقْ- أَنْكَرَتْهُ أَوْ صَدَّقَتْه- إِلا بِأَمَارَةٍ مِنْ إِقْرَارِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ تَصَرُّفِهِ، أَوْ مَبِيتِهِ، ثُمَّ تُمْنَعُ مِنْهُ ومِنَ التَّزْوِيجِ إِنْ صَدَّقَتْهُ ولَهَا النَّفَقَةُ .. قال في المدونة: وإن قال لها بعد العدة: كنت راجعتك فصدقته أو كذبته لم يصدق، ولا رجعة له إلا أن يقيم على ذلك بينة أو يعلم أنه كان يدخل عليها في العدة ويبيت عندها، فيقبل قوله. وإن أكذبته ولم يذكر مع قبول قوله يميناً ولا يبعد توجيهها، وقوله: أو يعلم أنه كان يدخل عليها، هو كقول المصنف: (أَوْ تَصَرُّفِهِ) لكن [373/ أ] ظاهر المدونة أنه لابد من مجموع التصرف والمبيت، لعطفه المبيت بالواو خلاف مقتضى كلام المصنف.

ورأى أشهب أنه لا يقبل قوله إلا أن يقيم بينه أنه جامعها في العدة أي على إقراره بذلك، وقوله في المدونة: أو يعلم أنه كان يدخل عليها. محمد: هو على أحد قوليه في منع الدخول عليها، وأما على القول بإباحة ذلك إذا كان مما يتحفظ بها فلا حجة له في الدخول والخروج. عياض: وأما المبيت فإن كان في بيتها وهي في الدار معه وحدها فهي حجة على القولين جميعاً. وقوله: (ثُمَّ تُمْنَعُ مِنْهُ) يعني أن الزوج إذا ادعى الرجعة فلزوجته حالتان: إحداهما: تكذيبه، والأخرى: تصديقه. فإن كذبته فلها أن تتزوج غيره. وإن صدقته فلا يمكن من ارتجاعها لأن تصديقها له داعية إلى نكاح بغير شروطه، لكن يلزم كل واحد من الزوجين بمقتضى إقراره، فتلزم هي بألا تتزوج غيره لاعترافها أنها في عصمة الزوج، ويلزم هو بالنفقة والكسوة لاعترافه أنها في عصمته، ويمنع من نكاح أختها أو خامسة. ونحو ذلك لبعض القرويين. ويلزم كل واحد بمقتضى إقراره إنما هو إذا تماديا على إقرارهما، وأما إن نزعا عن ذلك أو نزع أحدهما فلا يلزمان، وهذا كقولهم في المرأة تدعى أن زوجها طلقها ثلاثاً فلا يقبل منها، ثم بعد ذلك يخالعها زوجها، فيريد بعد المخالعة أن تتزوجه، فإن قالت: كنت كاذبة في قولي أن زوجي طلقني وإنما أردت الزوال عن عصمته، فلها أن تتزوجه وإن كانت متمادية على إقرارها فلا تتزوجه إلا بعد زوج. وقال غيره من القرويين يؤخذان بما تقدم من إقرارهما، إلا أن يستحدث الزوج طلاقها. عبد الحق: والقول الأول أصوب. فَإِنْ قَامَتْ بِحَقِّهَا في الوطء فِي الْوَطْءِ فَفِي تَطْلِيقِهَا بِسَبِبِهِ قَوْلانِ ظاهره أن القولين منصوصان قال اللخمي: واختلف إذا أجرى النفقة وقامت بالطلاق لعدم الوطء فالمعروف ألا مقال لها لأنه لم يقصد ضرراً والأحكام منعته، والقول الآخر أن ذلك لها قياساً على أحد قولي مالك في من قطع ذكره بعد الدخول.

والطلاق على المرتجع أبين لأنه لا منفعة له فيها إذا حيل بينه وبينها، ومن انقطع ذكره يستمتع بغير إصابة. وَلَهُ جَبْرُهَا عَلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ بِرُبُعِ دِينَارٍ لأنا إنما كنا منعناه منها لحق الله تعالى في ابتداء النكاح بغير شروطه، وإذا جدد العقد زال ذلك وليس لها الامتناع لإقرارها أنها في عصمته، وكذلك أيضاً لو أقر سيد الأمة المتزوجة لزوجها برجعته بعد انقضاء العدة لم يقبل لكن للزوج أن يجبر السيد على تجديد عقد بربع دينار. فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فَوَضَعَتْ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ رُدَّتْ إِلَيْهِ بِرَجْعَتِهِ ولا تَحْرُمُ عَلَى الثَّانِي لأَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ لا مُعْتَدَّةُ. يعني: إذا ادعى أنه راجع في العدة فكذبته وتزوجت ثم ولدت (لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ) أشهر من نكاح الثاني لحق هذا الولد بالأول وردت المرأة إلى الأول بدعواه الرجعة أولاً. (ولا تَحْرُمُ) على الزوج الثاني إذا طلقها الزوج الأول، أو مات عنها؛ لأنا لما ألحقنا الولد بالأول لزم أن يكون تزويج الثاني في عصمة الأول ولم يتزوج معتدة. وتشارك هذه المسالة ما لو ارتجعها فأجابته بأن عدتها انقضت ثم تزوجت، وما إذا أقام الزوج الأول بينة بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج الثاني على أنه كان ارتجعها. وَلَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمْ تَعْلَمْ بِمُرَاجَعَتِهِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فَكَامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ .. تصوره واضح، والقولان هنا منصوصان كما في مسألة المفقود. مالك: فإذا كان المرتجع حاضراً فرآها تزوجت ودخلت ولم يعلمها برجعته فإنها تمضي زوجة للثاني.

اللخمي: وليس بالبين ولو رأى رجل زوجته تتزوج ولم ينكر عليها لم يكن ذلك طلاقاً ولو عد ذلك طلاقاً لاحتسب بطلقة أخرى. وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوِطْءُ السَّيِّدِ كَوِطْءٍ النِّكَاحِ يعني: ولو كانت المطلقة أمة فانقضت عدتها ولم يعلم سيدها بمراجعته ووطئها، فإن وطئه فوت على المشهور كوطء الزوج الثاني في المسألة المتقدمة. واعلم أن حكمهم بالفوات بالوطء في الأولى أقوى منه في الثانية لاستناده في الأولى إلى عقد ولا يقال الملك يتنزل منزلة العقد في النكاح، لأن عقد النكاح يوجب التحريم على آبائه وأبنائه، وتحرم به الأمهات، وليس بمجرد الملك موجب لذلك بالاتفاق، بل لابد مع ذلك مع الوطء أو ما يقوم مقامه من التلذذ. وَشَرْطُ الْمُرْتَجِعِ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ ولا يَمْنَعُ مَرَضُ ولا إِحْرَامُ يعني: أن المرتجع يشترط فيه أن يكون أهلاً للنكاح فلا بد أن يكون عاقلاً بالغاً. قوله: (ولا يَمْنَعُ) أي ولا يمنع من الرجعة ما يمنع ابتداء النكاح، وحاصلة أن المتزوج والمرتجع يستويان في الشروط دون انتفاء الموانع ولا يمنع المرض، لأن المطلقة طلاقاً رجعياً ترث فلم يكن في ارتجاعها إدخال وارث، بخلاف ابتداء النكاح. قوله: (ولا إِحْرَامُ) يريد سواء كانت هي محرمة أو هو. وَيَرْتَجِعُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لأنه لما أذن له في النكاح فقد أذن له في توابعه، ولأن الرجعية زوجة. وَتكُونُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِثْلَ: رَجَعْتُ، ورَاجَعْتُ، وارْتَجَعْتُ، وردَدَتُهَا وأَمْسَكْتُهَا أي: (وَتكُونُ) له الرجعة، قوله: (مِثْلَ: رَجَعْتُ) تبين القول وهو ظاهر.

وَالْفِعْلُ مِثْلُ: الْوَطْءِ، والاسْتِمْتَاع تصوره ظاهر، ولم ينص في المدونة إلا على الوطء، لكنه نص في الموازية على القبلة والمباشرة للذة، وما أشبه ذلك كما لو وطئ قال في المقدمات وهو بيان للمدونة. وفِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ فِي الْفِعْلِ. لا خلاف إن اجتمعت النية مع الفعل أو القول في صحة الرجعة، واختلف إذا انفرد القول أو الفعل على ثلاثة أقوال: فقال أشهب: ليس ذلك برجعة. وقال ابن وهب: الوطء رجعة، وإن عري عن النية، فأخذ منه أنه لا يشترطها في القول أيضاً من باب الأولى. والثالث المشهور: يشترط في الفعل دون القول، لأن الفعل لا دلالة له بالوضع، فلذلك اشترطت معه النية لضعف دلالته، بخلاف اللفظ فإنه يدل بالوضع، ولأنه إذا قال: ارتجعتك، وقال: لم أنو الرجعة. إما أن يكون كاذباً فتلزمه الرجعة، وإما هازلاً فهزلها جد كالطلاق، وكذلك بنى غير واحد الخلاف في القول المجرد على الخلاف في صحة نكاح الهازل. قال في المقدمات: وإذا انفرد اللفظ دون النية لا تصح له بذلك الرجعة فيما بينه وبين الله، وإن حكمنا عليه بما ظهر من قوله ولم نصدقه فيما ادعاه من عدم النية إلا على مذهب من يرى أن الطلاق يلزم المستفتي بمجرد القول دون النية، وهو قائم من المدونة، إلا أنه بعيد في المعنى. واختلف هل يجوز له الوطء إذا التزام الرجعة؟ على القول الذي يرى إنها لا تصح له فيما بينه وبين الله، وعلى أن الوطء بمجرده لا يكون رجعة فليس عليه في وطئه صداق، قاله الباجي.

مالك في المختصر: ولا يطأها إلا بعد الاستبراء من وطئه ولا تكون له الرجعة إلا في بقية العدة الأولى لا في الاستبراء قاله ابن المواز. فإن انقضت العدة الأولى فلا ينكحها هو أو غيره حتى ينقضي الاستبراء. أصبغ: فإن فعل فسخ نكاحه ولم تحرم عليه للأبد كما أحرمها على غيره ولو مس؛ لأنها عدة منه، وليس هذا وغيره فيما به سواء، وقيل حكمه حكم المصيب في العدة. ومنشأ الخلاف: هل التحريم لتعجيل النكاح قبل بلوغ أجله أو لاختلاط الأنساب؟ وعلى هذا المعنى اختلفوا في من طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها قبل زوج في عدتها؟ فإن قيل: لم يكن وطء المطلق رجعة وإن لم ينوها عند ابن القاسم؟ كما كان وطء مبتاع الأمة بخيار اختياراً وإن لم ينوه. قيل: لأن البائع جعل له الخيار وأباح له الوطء، فإذا وطئ فقد فعل ما جعل له وتم ملكه ولأنه لو لم يطأ وتمادى على إمساكها حتى ذهبت أيام الخيار عد بذلك مختاراً، والرجعية محرمة على الزوج ولو تمادى على إمساكها حتى انقضت مدة الرجعة لبانت منه. فرعان: الأول: إذا انفردت النية ففي الموازية لا تصح الرجعة. ابن رشد: والصحيح أن الرجعة تصح بمجردها، لأن اللفظ إنما هو عبارة عما في النفس، فإن نوى في نفسه أنه راجعها فقد صحت رجعته فيما بينه وبين الله تعالى، وأشار إلى أنه يجري على الخلاف في الطلاق بالنية، ونحوه للخمي وعلى أن النية لا تكون بمجردها رجعة، فلو نوى ثم أصاب فإن بعد ما بينهما فليس ذلك رجعة، وإن قرب فأشار اللخمي إلى أنه يجري على الخلاف في تقديم النية في الطهارة. ونقل عن محمد ما يقتضي اشتراط المقارنة فقال: قال محمد: إن نوى الرجعة ثم قبل أو باشر أو ضم فإن فعل ذلك لكان ما نوى فهي الرجعة.

اللخمي: يريد إذا أصاب ساهياً على الطلاق لم يكن وطؤه رجعة إذا لم تقارنه نية. الثاني: سئل أبو عمران عن الذي يطلق امرأته واحدة ثم يتمادى على وطئها من غير أن يريد الرجعة حتى تنقضي عدتها الأولى ثم يحنث بالطلاق الثلاث فهل يلزمه ذلك؟ قال: يلزمه الثلاث؛ لأن ذلك كالنكاح المختلف في فساده يطلق فيه ونقل عن الشيخ أبي محمد أنه لا يلزمه الثلاث والأول أظهر. ابن عبد السلام: وهو الصحيح. وَيُؤْمَرُ بِالإِشْهَادِ وَلا يَجِبُ عَلَى الْمَشْهُورِ المشهور هو مذهب المدونة وهو الذي نقله عبد الوهاب عن المذهب والقول بوجوبه للقاضي أبي بكر بن العلاء وتأوله ابن محرز على ألا تثبت الرجعة إلا بالبينة عليها، وعليه فلا يكون في المسألة خلاف بل الاستحباب راجع إلى أن يكون مقارناً للرجعة، وقول المصنف: (وَلا يَجِبُ عَلَى الْمَشْهُورِ) ينافي حمل ابن محرز. قال في المقدمات: وليس الإشهاد عند من أوجبه شرطاً في صحة الرجعة وإنما هو فرض على حياله يأثم تاركه. وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى يُشْهِدَ يعني: أن الإشهاد وإن لم يكن واجباً إلا أن للمرأة أن تمنع نفسها، وقوله في المدونة في المانعة: قد أصابت. يفيد أن الأولى أن تمنع نفسها، بخلاف قول المصنف: (وَلَهَا). وَلا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ عَلَى نِكَاحِ أَمَتِهِ، وَلا رَجْعَتُهَا لأنه إذا شهد على النكاح كان شاهداً على فعل نفسه وإذا شهد على الرجعة اتهم في ذلك. ولمالك في العتبية: أنه تقبل شهادة السيد في الارتجاع. والفرق على هذا بين [374/ أ] الارتجاع والنكاح أن النكاح يوجب للأمة صداقاً فيتهم السيد لقدرته على انتزاعه.

وَرَجَعَ مَالِكُ إِلَى أَنَّهُ لا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَلا يَاكَلُ مَعَهَا وَيَنْتَقِلُ عَنْهَا القولان في المدونة وزاد في القول المرجوع إليه أنه لا يدخل عليها وإن كان يريد رجعتها وشرط فيها على قول مالك الأول: أن يكون معها من يحفظها وأهمله المصنف وليس بجيد ولعل هذين القولين ينبنيان على القولين في الرجعة هل هي محرمة أم لا؟ إلا أن الشرط الذي ذكرناه وقلنا إن المصنف أهمله يأبى كون الشاذ مبنياً على الإباحة. قيل: ولا خلاف أنه لا يجوز أن يرى جسدها متجرداً. وَالْمُعَلَّقَةُ مِثْلُ إِذَا كَانَ غَداً أَوْ جَاءَ زَيْدُ قَالَ مَالِكُ: لَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ، وَقِيلَ: يَعْنِي الآنَ .. يعني: والرجعة المعلقة على شرط سواء كان الشرط محققاً كقوله: إن كان غداً فقد راجعتك، أو محتملاً كقوله: إن جاء زيد فقد راجعتك. قال مالك في المدونة: ليس ذلك رجعة. لكن إنما نص فيها على المثال الأول، واختلف الشيوخ فأجراه صاحب النكت على ظاهره فقال إنما لم تكن رجعة لأن الرجعة كضرب من النكاح لأنها تبقي الزوج على العصمة، ووجدنا النكاح إلى أجل لا يصح، فكانت الرجعة إلى أجل كذلك وهذا ظاهر على القول بأن الرجعة محرمة، وأما على أنها حلال فلا. وقال ابن محرز: يعني لا تكون رجعة الآن ولكنها تكون رجعة غداً؛ لأنه حق له فكان له تنجيزه وتعليقه. ولما كان في هذا التأويل مخالفة لظاهر كلام مالك قال المصنف فيه (وَقِيلَ) وعده كالأجنبي. وفهم من عطفه بـ (قِيلَ) أن ثم قول آخر بإجراء قول مالك على ظاهره وقال اللخمي: قول مالك فيما إذا غداً ليس ذلك برجعة: يحتمل أن يكون رأى أن الرجعة إلى

أجل كالنكاح إلى أجل وأن الرجعة تفتقر إلى نية مقارنة للفعل وإذا فرعنا على فساد هذه الرجعة فإن لم يصبها حتى خرجت من العدة بانت وإن أصابها في العدة وهو يرى أن تلك رجعة كان وطؤه رجعة. اللخمي: لأنه وإن كان الارتجاع الأول فاسداً فإن حقه في الرجعة قائم وإصابته وهو يرى أنه مرتجع رجعة محدثة. مالك: وإن قال: أشهدكم أني إن طلقت امرأتي يوماً من الدهر فقد ارتجعتها ثم طلقها فإنه لا ينتفع بقوله الأول حتى يراجعها. وقاله سحنون في من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم أراد سفراً وخاف أن تحنثه في غيبته فأشهد أنها إن دخلت الدار فقد ارتجعها. انظر: ما قاله مالك وسحنون هنا مع ما قاله مالك في كتاب ابن سحنون في الحرة ذات الشرط في النكاح والتسري تقول: اشهدوا متى فعل زوجي فقد اخترت نفسي أن ذلك لها. وقال مالك في العتبية: في أمة تحت عبد أشهدت أنها متى عتقت تحته فقد اختارت نفسها أو زوجها، فليس ذلك شيئاً وهاتان المسألتان اللتان سأل عبد الملك مالكاً عن الفرق بينهما فقال له: أتعرف دار قدامة؟ ابن يونس: وقال المغيرة هما سواء ولا شيء لها. والفرق عندي بينهما أن الأمة أنما يجب لها أن تختار إذا عتقت، والعتق لم يحصل بعد فقد سلمت أو أوجبت شيئاً قبل وجوبه لها فلم يلزم، كتارك الشفعة قبل أن يستوجبها. والحرة قد أوجب لها زوجها الشرط إن فعل وملكها منه ما كان يملكه، فلها أن تقتضي به عليه قبل أن يفعل كما لو كان له أن يلزم نفسه قبل أن يفعله.

وَالرَّجْعِيَّةُ مُحَرَّمَةُ الْوَطْءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وإِنْ لَزِمَ الطَّلاق، والْخُلْعُ، والإِيلاءُ، والظِّهَارُ، واللِّعَانُ، والْمِيرَاثُ، والنَّفَقَةُ، ولَوْ قَالَ: زَوْجَاتِي طَوَالِقُ انْدَرَجَتْ .. قوله: (مُحَرَّمَةُ الْوَطْءِ) يريد: ومقدماته، ووجه المشهور أن الطلاق في الشرع مضاد للنكاح الذي هو سبب الإباحة، ولا يقضي للضد مع وجود ضده، ونظر في الشاذ إلى بقاء أحكام الزوجية، وتصور كلامه ظاهر. * * *

الإيلاءُ الْحَلِفُ بِيَمِينِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَطْءِ الزَّوْجَةِ غَيْرِ الْمُرْضِعِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَلْزَمُ الْحِنْثُ فِيهَا حُكْماً، والْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ ... اختلف في مدلول الإيلاء لغة فقال عياض: أصل الإيلاء الامتناع قال الله تعالى: (وَلا يَاتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) [النور: 22] ثم استعمل في ما كان الامتناع منه بيمين، وقال الباجي: الإيلاء في اللغة: اليمين، وقال ابن الماجشون: وكذلك قال الفضل. ويقال: آلى وتآلى وائتلاء والأول هو المستعمل عند الفقهاء يقال فيه: آلى يؤلي. إيلاء. والاسم منه: الألية، والجمع الألايا. قال كثير في عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الآلية برت ويقال أيضاً: الألوة بفتح الهمزة وضمها وكسرها، ورسم المصنف الإيلاء في اصطلاح الفقهاء بقوله: (الْحَلِفُ ... إلى آخره) والحلف كالجنس ولو قال: الإيلاء يمين يتضمن ... إلى آخره لكان أحسن. ولا حاجة إلى الحلف بيمين إذ الحلف هو اليمين. وقوله: (يَتَضَمَّنُ تَرْكَ) هذه الجملة صفة ليمين تقديره: الحلف بيمين تدل على ترك وطء الزوجة. وانظر هل أراد بقوله (يَتَضَمَّنُ) ما يدل أعم من أن يدل بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام؟ أو أراد بالتضمن حقيقته واستغنى بالتضمن عن المطابقة [374/ ب] والالتزام، والأول أظهر. وقوله: (يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَطْءِ) يريد سواء تضمنه عقلاً كحلفه ألا يلتقي معها لأن الالتقاء معها أعم من الالتقاء معها للجماع وغيره، ونفي الأعم مستلزم لنفي الأخص، أو شرعاً كحلفه ألا يغتسل عنها من جنابة؛ ولما قلناه من أن عدم الالتقاء مستلزم عقلاً لعدم الجماع كان عدم جزمه في المدونة لإيلاء مخالف هذا اليمين ليس بظاهر، ولهذا

اختصر البراذعي المسألة على السؤال والجواب، لأن عادته ألا يفعل ذلك إلا لإشكال في الموضع فقال: وإن حلف بالله ألا يلتقي معها سنة، قال: كل يمين يمنع الجماع فهو مول، فإن كان هذا يمتنع بيمين فهو مول. ولهذا قال اللخمي: هو مول بلا شك. وقال صاحب النكت: إنما تردد لاحتمال أن يريد: لا ألتقي معك في دار بعينها أو موضوع بعينه وإلا فهو مول بلا شك. اللخمي: وقوله في من حلف ألا يتطهر منها من جنابة أنه مول؛ يحتمل أن يريد أنه يحنث بنفس الإصابة لأن القصد باليمين ألا يصيب، أو لا يحنث إلا بالغسل، لأنه هو الذي علق الحنث به، فعلى الاحتمال الأول يكون قوله: لا أغتسل، كناية عن نفي الجماع وهو كقولهم في الكناية عن كرم الشخص: هو كثير الرماد طويل النجاد. وعلى هذا فيضرب له الأجل من يوم اليمين، وعلى الثاني يضرب له الأجل من يوم الرفع على المشهور لأنه لم يحلف على ترك الوطء وإنما تركه من انعقاد اليمين على وسيتبين لك هذا. ابن القاسم: وإن قال: علي نذر ألا أقربك؛ فهو مول. وقال يحيى بن عمر: ليس بمول وهو بمنزلة قوله: علي نذر ألا أكلمك وهو نذر في معصية، وقوله: (تَرْكَ وَطْءِ الزَّوْجَةِ) احترز به مما لو حلف ألا يكلمها وليهجرنها وهو يصيبها فإنه ليس عند مالك مؤلياً. اللخمي: وهو من الضرر فللزوجة أن تقوم بالطلاق لأجله إلا أنه لا يضرب له أجل الإيلاء، بل إذا تبين ذلك طلق عليه. وقال أصبغ: إذا حلف ألا يكلمها فوطئها يحنث من جهة فهمها لما يريده منها كالحالف أن لا يكلم شخصاً فيشير إليه. فعلى قوله: يكون مولياً إذا حلف أن لا يكلمها. واختلف إذا حلف على العزل عن زوجته هل يكون مؤلياً؟ وكذلك اختلف في من حلف

ألا يبيت مع امرأته والأقرب فيهما أن لها القيام ولا يضرب له أجل الإيلاء. أما لو حلف ألا يطأها ليلة، فلا قيام لها لأنه يبيت معها ويطأها نهاراً وكذلك لو حلف ألا يطأها نهاراً. وفي الموازية فيمن قال: علي الطلاق إن وطئتك إلا أن تأتيني، فهو مول وليس عليها أن تأتيه وعليه أن يأتيها. اللخمي: يريد لظاهر الحديث أنه عليه الصلاة والسلام "كان يدور على نسائه". وفي كتاب ابن سحنون في من قال: والله لا أطؤك إلا أن تسأليني، هو مول ولها أن تقيم بها إلى السلطان وليس عليها سؤال. وقال سحنون: ليس بمول؛ لأن الامتناع من جهتها. قال في المدونة وإن حلف ألا يطأها في هذه الدار فليس بمول لإمكان أن يطأها في غيرها. وقيده اللخمي بمن يحسن في حقه ذلك وأما من لا يحسن في حقه ذلك، أو كان على الزوجة في الخروج معه مضرة فهو مول كما قال في من حلف ألا يطأ زوجته في هذا المصر أنه مولٍ إذا كان يتكلف في الانتقال المؤنة. واحترز بالزوجة عن السرية وأم الولد فإنه لا يضرب له أجل الإيلاء، نعم هو ممنوع من الضرر ولاسيما أم الولد فإنه لا منفعة فيها إلا بالوطء فإن لم يطأها وأضر ذلك بها منع لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار. وقوله: (غَيْرِ الْمُرْضِعِ) احترازاً مما لو حلف ألا يطأ زوجته المرضعة حتى يفطم ولدها فإنه ليس بمول. قاله مالك في المدونة والموطأ وغيرهما. ابن القاسم: لأن هذا أراد إصلاح ولده وليس على وجه الضرر، وإنما يدخل الإيلاء على من قصد الضرر، وخالف في ذلك أصبغ ورآه مؤلياً. اللخمي: وهو أقيس؛ لأن للمرأة حقاً في الوطء ولا حق للولد ولا مضرة عليه.

لقوله عليه الصلاة والسلام: "أن ذلك لا يضر". واتفق على أنه مول إن أرضع الولد غيرها وعلى المشهور، فقال في كتاب ابن سحنون إذا حلف بطلاقها البتة ألا يطأها حتى تفطم ولدها، فإن مات الولد قبل الفطام حل له الوطء ولا حنث عليه إن كانت نيته استصلاح ولده، وإن كانت نيته أن لا يمسها حولين كاملين فهو مول، وتطلق عليه إذا أوقفه السلطان بعد أربعة أشهر؛ لأنه لا يقدر ألا يمسها ولا يفيء لأن يمينه بالبتة. وفي الموازية: وإن حلف ألا يطأ امرأته التي ترضع سنتين، وقال: أردت تمام الرضاع، فليس بمول إلا أن يموت الصبي وقد بقي من السنتين أكثر من أربعة أشهر فيلزمه الإيلاء من يومه. ابن يونس: واعترض بعض أصحابنا قوله: (من يومه)، وقال: إنما لم يعد مولياً أولاً، لأنه غير مضار، فإذا مات الولد ولم يطأ تبين أنه أراد الضرر فينبغي أن يكون أجله من يوم الحلف، وليس هو بصواب لأنه يحتمل أن يكون أراد الضرر فينبغي أن يكون أجله من يوم الحلف وليس هو بصواب؛ لأنه يحتمل أن يكون أراد الضرر اليوم بامتناعه إذ لا عذر [375/ أ] له، ويحتمل أن يكون أراده من الأول فيلغى قصد الضرر أولاً للشك فيه، ويعتبر قصد الضرر الآن إذ لا شك فيه. ابن الماجشون: وإن حلف ألا يطأ امرأته سنتين، وقال: أردت بذلك كمال الرضاع، فذلك له ولا يلزمه توقيف. الباجي: ومعناه أنه مول لأنه قد يتعلق بيمينه الضرر إن مات ابنه قبل انقضاء السنتين أو فطم قبل ذلك. وإنما الذي لا يكون به مؤلياً من حلف ألا يطأ حتى يفطم لأنه لا يتعلق بيمينه الضرر على وجه. وعورضت هذه المسألة بما سيأتي أن إيلاءء المريض لازم مع أنه لا يريد الإضرار وإنما يريد استصلاح بدنه. وإذا قيل بعدم اللزوم لأجل مراعاة الولد فلأن يقال بذلك لنفسه

هو أولى، ولهذا قال سحنون في المريض: كيف يكون مؤلياً وهو لم يحلف على ضرر؟ وخرج بعضهم من كل واحدة قولاً في الأخرى. خليل: وقد يفرق بينهما لأن إصلاح الولد فيه إصلاح لها وهي تحته، بخلاف الأخرى. وقوله: (أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أخرج أربعة أشهر فأقل فإنه لا يكون مؤلياً، وهذا هو المشهور، وروى عبد الملك أن من حلف على أربعة أشهر كان مؤلياً. ومنشأ الخلاف، الاختلاف في فهم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227] وينبني على هذا الخلاف: هل يوقف للفيئة أو الطلاق بعد أربعة أشهر أو فيها؟ وهل يقع الطلاق بمضي الأربعة أو لا؟ فعلى المشهور لا يؤمر بالفيئة إلا بعد أربعة أشهر ولا يقع الطلاق بمجرد مضيها؟ فضل: وأصحاب مالك مجمعون على الأول، إلا ما روى أشهب عن مالك من وقوع الطلاق بمرور الأجل، وحكاه ابن نافع وعبد الملك عن مالك، وتمسك المشهور بما تعطيه الفاء في قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) فإن ظاهرها يستلزم تأخير ما بعدها عما قبلها، وكذلك إن الشرطية فإنها تصير الماضي بعدها مستقبلاً، ورأى في الشاذ أن الفاء ليست إلا لمجرد السببية ولا يلزم تأخير المسبب عن سببه في الزمان، بل الغالب عليه المقارنة، ولأن مفهوم قوله: (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أن التربص مقصور عليها. قال في المقدمات: وروى أشهب عن مالك في العتبية أنه إذا وقف بعد الأربعة أشهر فقال أنا أفيء، أمهل حتى تنقضي عدتها، فإن لم يفعل بانت منه بانقضاء عدتها. وهي قولة بين القولين على طريق الاستحسان غير جارية على قياس وعلى المشهور. فأطلق في المدونة الزيادة على أربعة أشهر كالمصنف، وظاهره أنه يكون مؤلياً باليوم ونحوه وبذلك صرح في الموازية والمدونة، وقيل: لا يكون مؤلياً إلا بزيادة مؤثرة وهو قول عبد الوهاب،

ومن المتأخرين من تأول على عبد الوهاب أنه لا يكون مؤلياً إلا إذا زاد أكثر ما يتلوم به عليه إن قال: أنا أفيء. ابن رشد: وهو غلط؛ لأن التلوم أنما يكون إذا وقف فقال: أنا أفيء، ولم يفعل. وأما إذا أبى أن يفيء فإن الطلاق يعجل عليه ولا معنى للتلوم عليه، ومدة التلوم تبلغ المرة بعد المرة الثلاثين يوماً ونحوها، رواها ابن وهب عن مالك في الموازية. وقوله: (يَلْزَمُ الْحِنْثُ فِيهَا حُكْماً) كقوله: والله لا أطؤك، وإنه إذا حنث لزمته الكفارة، وإن وطئتك فأنت طالق أو فلان حر. واحترز عما لو قال: إن وطئتك فعلي المشي إلى السوق، أو هو يهودي أو نصراني، أو فكل مملوك أملكه حر، أو فكل زوجة أتزوجها طالق، فإنه لا يلزمه وليس هو بمول قاله في المدونة. وقوله: (يُلزم) مضموم الياء فعل مضارع مبني للفاعل من ألزم وفاعله الحنث فظاهر قوله: (يَلْزَمُ الْحِنْثُ فِيهَا حُكْماً) أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الحكم مشتقاً أم لا. وذهب بعضهم إلى أنه لا يكون مؤلياً إذا حلف بما لا مشقة فيه كما لو حلف بركعتين. قوله: (والْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ) هذا هو المشهور. وقيل: أجله كالحر، والعبد يحتمل أن يقرأ بالجر وبالرفع لأن قوله: (ترك)، مصدر مضاف إلى الفاعل أي ترك الحر، فالحر مجرور في اللفظ مرفوع في المحل، فلك أن تعطف على لفظه، ومحله. والله أعلم. وَالرَّجْعِيَّةُ كَغَيْرِهَا إِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْحَلِفِ قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ أي: (وَالرَّجْعِيَّةُ) في الإيلاء (كَغَيْرِهَا) لأنها في حكم الزوجات وهكذا في المدونة وغيرها.

قال في الموازية: وكذلك إذا حلف لا أراجعك. واستشكله اللخمي لأن الوقف إنما يكون لمن لها حق في الوطء، والمطلقة لا حق لها فيه، قال: ولا خلاف أن الرجعة حق له لا عليه إن شاء ارتجع وأصاب، وإن شاء لم يرتجع فكيف يجبر على أن يرتجع ليصيب أو يطلق عليه طلقة أخرى؟ وهو ظاهر، وأجاب ابن محرز وغيره بأنه إنما لزمه الإيلاء خيفة أن يكون ارتجع وكتم الرجعة. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الطَّلاق بَعْدَ الْوُقُوفِ فَلا تُطَلَّقُ عَلَيْهِ أُخْرَى قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ لما ذكر [375/ ب] أن الرجعة في إيلاء كغيرها وكان طلاق المولي رجعياً خشي أن يتوهم أنه إذا طلق عليه بسبب الإيلاء أن لها أن توقفه مرة ثانية، فبين أنها ليس لها ذلك لأنه قد طلق عليه بسبب الإيلاء. وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَنْ قَالَ- واللهِ لا وَطِئْتُكِ- واسْتَثْنَى: أَنَّهُ مُولِ إِذَا رَفَعَ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ فِي قَصْدِ الاسْتِثْنَاءِ .. هذا راجع إلى قوله في الرسم: (يلزم الحنث فيها حكماً) فيقال على سبيل الاعتراض هذا الرسم غير جامع لأن مالكاً قال في المدونة في من قال والله لا وطئتك واستثنى بالمشيئة: هو مول؛ مع أنها يمين لا يلزمه الحنث فيها حكماً لأن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين كما تقدم، ولهذا قال أشهب: لا يكون مولياً. اللخمي: هو أبين. وأجاب المصنف بأن مالكاً إنما قال ذلك إذا رفعته الزوجة إلى القاضي ولم تصدقه في أنه أراد بذلك الاستثناء حل اليمين، ولعله أراد التبرك بذكر الله. وامتناع الحالف من الوطء يدل على أنه لم يرد حل اليمين واتهام مالك هنا للمخالف كاتهامه في المدونة لمن قال لزوجته: والله لا أطؤك، فلما مضت أربعة أشهر وقف، فقال: أردت ألا أطأها بقدمي. قال فيقال له: إن وطئت نصدقك وأنت في الكفارة أعلم؛ فإن شئت فكفر أو فدع.

وأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَوْ كَفَّرَ وَقَالَ: عَنْ يَمِينِي، ولم تُصَدِّقْه يعني (وأَوْرَدَ) على قول مالك في المسألة السابقة ما قاله مالك في من حلف أن لا يطأ ثم كفر ولم يطأ بعد الكفارة فقالت له الزوجة: لم تكفر عن يمين الإيلاء وإنما كفرت عن يمين أخرى، أن الإيلاء لا ينحل عنه فيلزم كما رفع عنه التهمة هنا بأضعف الكفارات أن يرفعها عنه هناك، وكما لم يرفعها عنه هناك، وكما لم يرفعها عنه في المسألة السابقة لتهمته لأجل الامتناع من الوطء فكذلك يلزم في الثانية لامتناعه أيضاً. وفرق بأن المكفر أخرج المال وفي معناه الصوم لشدته فلم يتهم بخلاف المستثنى، وفيه نظر؛ لأن احتمال قصد غيرها باقٍ، ولهذا قال أشهب: لا ينحل عنه الإيلاء بالكفارة. وفرق صاحب النكت بأن المستثنى يحتمل بأن يكون قصد باستثناءه حل اليمين ويحتمل ألا يكون قصد به ذلك بل التبرك ونحو ذلك. والكفارة تحل اليمين بلا شك، وإن كنا لم نعرف هل قصد بها حل هذه اليمين أو غيرها؟ فلما كانت الكفارة تسقط اليمين على كل حال كانت التهمة فيها أبعد. وشَرْطُ الْمولي أَنْ يَكُونَ زَوْجاً مُسْلِماً مُكَلَّفاً يُتَصَوَّرُ وِقَاعُهُ، وقَالَ أَصْبَغُ: يَصِحُّ إِيلاءُ الْخَصِيِّ والْمَجْبُوبِ .. قوله: (أَنْ يَكُونَ زَوْجاً) أي تحقيقاً أو تعليقاً بل يصح من الأجنبية فلو قال لأجنبية: والله لا وطئتك، ثم تزوجها فهو مول صرح بذلك في المدونة ولو استغنى عن قوله: (زَوْجاً) ليعلم من قوله أولاً في الرسم الحلف بيمين يتضمن ترك وطء الزوجة فإنه يعلم من هذا الكلام أن الحالف بهذا اليمين لا يكون إلا زوجاً أيضاً، فالشرط خارج عن الماهية والركن داخل فيها، فذكر الزوج في أحد القسمين يمنع من ذكره في الآخر، قاله ابن عبد السلام.

وقوله: (مُسْلِماً) احترزاً مما لو آلى في حال كفره ثم أسلم فإنه لا يلزمه شيء قاله في المدونة، وقيل: يلزمه بناءً على أن اليمين هل تنعقد في حال الكفر أم لا؟ ولو رضي الذمي في الإيلاء بحكمنا، فحكمنا عليه به قاله في الكافي. وقول ابن عبد السلام: لا يشترط في الإيلاء الإسلام لأن الزوجين إن كانا كافرين فالمنع من الحكم فيهما في الطلاق علي ما تقدم هو المانع من الإيلاء، وإن كان الزوج وحده مسلماً لزمه الإيلاء، وليس من فروع هذه المسألة العكس، ليس بظاهر لما قلناه. وقوله: (مُكَلَّفاً) احترازاً من الصغير والمجنون؛ فإنه لا يصح إيلاؤهما فإن آلى وهو صحيح ثم جن عند تمام أجل الإيلاء؛ فقال أصبغ: يوكل السلطان عليه من يكون ناظراً في أمره فإن رأى له ألا يفيء ويطلق عليه فعل ويلزمه ذلك، وإن رأى أن يكفر عنه فعل. واختار اللخمي ألا يكون لامرأته مقال لأن امتناعه في حال الجنون ليس بيمين، وإذا يكن لها مقال إذا قطع ذكره، فالمجنون أولى؛ لأنه إن لم يصب الآن أصاب بعده، وسيأتي الكلام على ما إذا أصاب في حال جنونه عندما يتعرض المصنف لذلك. وقوله (يُتَصَوَّرُ وِقَاعُهُ) قال في المدونة: وأن آلى خصي أو شيخه كبير- وقد تقدم له فيها وطء أو آلى الشاب ثم قطع ذكره- لم يوقفوا ولا حجة لنسائهم. وخالف أصبغ في الخصي والمجبوب ورأى أنه يصح منه الإيلاء لأن لزوجته منفعة فيما آلى عنه من المضاجعة والمباشرة، ولذلك تزوجته فإذا قطع عنها ذلك وجب أن توقعه. قال: وأما الشيخ فلا إذا أقعده الكبر إلا أن يكون فيه حراك فيقطعه عنها. وَيَصِحُّ مِنَ الْحُرِّ والْعَبْدِ والصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ لأن شرط المولي موجود فيهم، واحتاج إلى التنبيه على حكمهم، لأن الشرط لا يلزم من وجوده المشروط، والدليل على صحة [376/ أ] إيلاء هؤلاء قوله تعالى: (ِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) فعم.

ابن عبد السلام: وظاهر المذهب مثل ما ذكره المصنف في المريض، ورأى بعضهم أنه إذا كان عاجزاً عن الجماع أنه لا معنى لانعقاد الإيلاء في حقه، ألا ترى أنه لو آلى الصحيح ثم مرض لما طولب بالفيئة بالجماع. وَيَلْحَقُ بِالْمولي مَنْ مُنِعَ مِنْهَا لْشَكٍّ أي: كل من كانت يمينه على حنث كما لو قال: إن لم أدخل فأنت طالق، وقد تقدم هذا عند قوله في الطلاق، (وإن كان نفياً يمكن دعوى تحقيقه ... إلى آخره) هكذا كان يقيد شيخنا هذا المحل، وهو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر. ومثل ابن راشد من منع منها للشك بما إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق، وقال: نويت واحدة معينة ونسيتها؛ فإنه يوقف رجاء أن يتذكر، فإن طال تذكره وقامتا عليه فهو كالمولي. وقول ابن عبد السلام: إن تصور كلام المصنف مشكل. ليس بظاهر. فرع: إذا قال لامرأتيه: والله لا وطئت إحداكما، ولا نية له فقيل: هو مول منهما جميعاً. وقيل: لا إيلاء عليه حتى يطأ واحدة فيكون مولياً من الأخرى. وَمِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْوَطْءِ لِغَيْرِ عِلَّةٍ وعُرِفَ مِنْهُ حَاضِراً أَوْ مُسَافِراً أي: ويلحق بالمولي من امتنع من الوطء لغير علة، بل ترك ذلك إما لمصلحة جسده أو للانقطاع للعبادة، أو لقصد الضرر. قوله: (وعُرِفَ مِنْهُ) أي أنه لم يمتنع لعلة. وقوله: (حَاضِراً أَوْ مُسَافِراً) حال من الفاعل المضمر في (امْتَنَعَ) وما ذكره المصنف مروي عن مالك لكنه خلاف المشهور؛ فإن المشهور وهو مذهب المدونة أن لها أن تقوم

بالفراق، فإذا تبين ضرره طلقت عليه من غير ضرب أجل، لأن آية الإيلاء لا تتناول هذه الصورة ولا ينطبق اسم الإيلاء عليها. بعض القرويين في هذا: ويجب ألا يضيق عليه في أجل التلوم بل يفسح له في ذلك مقدار أجل الإيلاء وأكثر، وذلك أنه يقول: أنا لو تركت الوطء بالحلف أربعة أشهر فأقل لم يكن علي شيء فكيف إذا تركت الوطء بغير يمين؟ عبد الحق- وقال لنا أنه رأى ذلك لبعض العلماء من البغداديين: ونص المدونة: ومن ترك وطء زوجته لغير عذر ولا إيلاء لم يترك، فإما وطئ وإلا طلق، وبذلك يقضى. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى قوم بخرسان: إما أن يقدموا أو يقدم نساؤهم إليهم، أو يطلقوا. أصبغ: فإن لم يطلقوا طلق عليهم، وفي النكاح الثاني منها: ومن سرمد العبادة لم ينه عن تبتله. وقيل له: إما وطئت أو طلقت. ابن القاسم في العتبية: ويتلوم للغائب السنة والسنتين. وفي سماع عيسى: والثلاثة. ابن رشد: ومعناه وإن كان يبعث بالنفقة. اللخمي: وقول مالك في من سرمد العبادة أصل في كل من ترك الإصابة غير مضار، إلا أن ذلك لا يسقط حقها من الوطء واختلف إذا لم يقدر على الإصابة لأنه قطع ذكره، أو لعلة نزلت به، فقال مالك مرة: لا مقال لها، وفي كتاب ابن شعبان: لها القيام وإن قطع ذكره ولو فعل ذلك بنفسه خطأ كان على خلاف، وقد جرى ذلك لبعضهم أراد أن يستحد فنزلت يده فقطع ذكره فإن تعمد ذلك كان لها الفراق بالاتفاق وإن شرب دواءً ليقطع منه لذة النساء كان لها الفراق، وكذلك لو شربه لعلاج علة وهو عالم أنه يذهب بذلك أو شاك، كان لها الفراق بالاتفاق.

وَمَنِ احْتَمَلَتْ مُدَّةُ يَمِينِهِ أَقَلَّ الأجَلِ أي: ويلحق بالمولي من احتملت مدة يمينه أقل الأجل كما لو قال: والله لا وطئتك حتى يموت زيد، ونحو ذلك قاله في المدونة. إِلا أَنْ أَجَلَهُمْ مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ، والأَوَّلُ مِنْ يَوْمِ الْحَلِفِ، ولِذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي وبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ زَيْدُ .. الضمير في أجلهم عائد على من ألحق بالمولي، وقوله: (والأَوَّلُ مِنْ يَوْمِ الْحَلِفِ) من حلف على ترك الوطء وحاصله أن المولي حقيقة أجله من يوم اليمين، وأما من ألحق به فأجله من يوم الرفع وهذا هو المشهور، وقيل: أجله من يوم اليمين كالأول. وقوله: (لِذَلِكَ ... إلى آخره) أي ولأجل التفرقة بين المولي حقيقة وبين من ألحق به فرق بين من حلف ألا يطأها حتى تموت أو يموت وبين أن يموت زيد، أي فيكون أجله إذا حلف أن لا يطأها حتى تموت أو يموت من يوم الحلف، لأن يمينه تناولت بقية عمره أو عمرها فكان بمنزلة من قال: والله لا أطؤك فأطلق، ويكون أجله إذا قال: حتى يموت زيد، من يوم الرفع لأن مدة يمينه محتملة لأقل من أجل الإيلاء. خليل: وظاهر المدونة يخالف هذه التفرقة لقوله: وإن حلف ألا يطأ امرأته حتى يموت فلان، أو حتى يقدم أبوه من السفر؛ فهو مول؛ فظاهره أنه يضرب له الأجل من يوم اليمين. ابن عبد السلام: والتفريق الذي ذكره المصنف غير خال من مغمز. وَفِي ابْتِدَاءِ أَجَلِ الْمُظَاهِرِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ التَّكْفِيرِ قَادِراً قَوْلانِ، وفَيْئَتُهُ تَكْفِيرُهُ يعني: اختلف هل ابتداء أجل الإيلاء في حق المظاهر إذا دخل عليه الإيلاء بسبب امتناعه من الكفارة وهو [376/ ب] قادر عليها من يوم اليمين؟ وهو الذي في الموازية، وعليه اختصر البراذعي، وغيره المدونة. أو من يوم الرفع وهو أيضاً لمالك.

اللخمي: والأول أحسن لأن المظاهر قصد تحريم الوطء، إذ معنى الظهار إن وطئتك علي حرام كأمي. وقال ابن يونس: القول الثاني أحسن، يريد: أنه لم يحلف على ترك الوطء بالتصريح، فيكون هو الجاري على المشهور في المسألة السابقة. وفي المسألة قول ثالث: أن الأجل من يوم يتبين ضرره، قيل: وهو مذهب المدونة. وقال الباجي: الثالث، والأول في المدونة. وقوله: (وفَيْئَتُهُ تَكْفِيرُهُ) أي فيئة هذه المظاهر تكفيره لا الوطء كما في صريح الإيلاء، والفرق على أن الحالف على ترك الوطء إذا وطئ زال عنه الامتناع وإنما بقي مطالباً بالكفارة. وأما المظاهر فإذا وطئ لا يرتفع عنه المانع بل يتأكد كما سيأتي. وفهم من قوله: (وفَيْئَتُهُ تَكْفِيرُهُ) أن المظاهر لو طئ لم ينهدم الأجل. والله أعلم. وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِمُضَارَّ فَلا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِيلاءُ، ولِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ إِيلاءُ لأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِ مُدَّةُ أَجَلِهِ .. يعني: فأما من ترك الكفارة لعدم القدرة وهو معنى قوله: (لَيْسَ بِمُضَارَّ فَلا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِيلاءُ) وعلى هذا فيكون هذا الكلام قسيماً في المسألة السابقة للممتنع من التكفير قادراً، فإن قيل: فإذا كان قسيمه فكان ينبغي أن يقول فأما من ليس بقادر، لأنه إنما أراد سلب وصف القدرة في قوله: الممتنع من التكفير قادراً، قيل لعله عدل عن ذلك تنبيهاً منه على أن الأجل إنما ضرب له في المسألة السابقة دفعاً للضرر وما ذكره المصنف من أن غير القادر لا يدخل عليه الإيلاء هو مقتضى المدونة. وقيده اللخمي بما إذا طرأ عليه العسر والعجز عن الصيام بعد عقد الظهار، قال: وأما إن عقده على نفسه مع علمه أنه عاجز عن حله فإنه يدخل عليه، لأنه قصد الضرر بالظهار. ثم يختلف هل يطلق عليه الآن أو يؤخر إلى انقضاء أجل الإيلاء؟ رجاء أن يحدث لها رأي في ترك القيام.

قوله: (ولِذَلِكَ) يعني ولأجل أنه لا يدخل الإيلاء على من ليس بمضار، لم يدخل على العبد إيلاء ونحوه في الموطأ ونصه قال مالك في العبد يظاهر من امرأته: أنه لا يدخل عليه الإيلاء، وذلك أنه إذا ذهب يصوم صيام كفارة المظاهر دخل عليه طلاق الإيلاء قبل أن يفرغ من صيامه. الباجي: يريد لأن صيامه شهران وأجله في الإيلاء شهران فإن أفطر ساهياً أو لمرض انقضى أجل الإيلاء قبل تمام الكفارة. قال: وتعليل مالك في الموطأ يدل على أنه لا يضرب له الأجل وإن أذن له السيد في الصوم. لكن لا يوجد هذا لمالك ولا لأحدٍ من أصحابه على هذا التفسير، ولعله أراد أن هذا من بعض ما يعتذر به العبد في رفع ضرب أجل الإيلاء عنه إن كان أراد الصوم ومنعه سيده، لأنه يضر به، فذلك عذر للعبد دخول الإيلاء عليه، وبه قال أصبغ فلم ير منع سيده من الصيام ضرراً يدخل به الإيلاء لأنه ليس من قبله، وإنما هو حق يملكه غيره. وروى ابن القاسم عن مالك: لا يدخل على العبد إيلاء إلا أن يكون مضاراً لا يريد أن يفيء أو يمنعه سيده الصيام بأمر جائز فهذا يضرب له أجل الإيلاء إن رفعته امرأته ومعناه أن يضرب له أجل الإيلاء ليشرع في الكفارة إذا امتنع، أو ليبيح له سيده في أثناء ذلك التكفير بالصيام. وقال صاحب الاستذكار: ما قاله في الموطأ هو أصله لا يدخل على المظاهر الإيلاء حراً كان أو عبداً إلا أن يكون مضاراً. وقوله: (أنه لو ذهب يصوم .. إلى آخره) هو على قول من يقول: أن بانقضاء أجل الإيلاء يقع الطلاق، فيقول: لو وقع الطلاق بعد شهرين لم تصح له كفارة؛ إذ هو لا يكفر إلا بالصوم فكيف يكون مكفراً ويلزمه الطلاق؟ وهذا محال.

ابن عبدوس: قلت لسحنون: فإذا لم يدخل على العبد إيلاء فما تصنع المرأة؟ قال: ترفعه إلى السلطان فإما فاء أو طلق عليه. أبو عمر: وهذا خلاف قول مالك في الموطأ. خليل: وكلام الباجي أولى؛ لأن ابن عبد البر جعل كلامه في الموطأ مبنياً على القول بوقوع الطلاق بمجرد مضي الزمان، وهو غير المعروف من أقوال مالك، وظاهر كلامه أنه حمل الموطأ على أنه لا يلزمه إيلاء البتة لجعله ما حكاه ابن عبدوس مخالفاً له، وهو شيء لم يقله مالك ولا أحد من أصحابه على ما قاله الباجي. ولَوْ زَالَ الْمِلْكُ عَنِ الْعَبْدِ الْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ انْحَلَّ الإِيلاءُ فَلَوْ عَادَ عَادَ إِنْ كَانَ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .. يعني: إذا قال: إن وطئتك فعبدي ميمون حر، ثم باع ميموناً انحل الإيلاء، لأنه إن امتنع الآن من الوطء فليس امتناعه من اليمين، (فَلَوْ عَادَ) أي العبد المحلوف بعتقه إلى ملكه عاد الإيلاء عليه إن كانت يمينه غير مؤقتة، أو مؤقتة وبقي من المدة أكثر من أربعة أشهر. وما ذكره المصنف من عود الإيلاء عليه إذا ملكه ثانياً [377/ أ] هو مذهب ابن القاسم. قال ابن بكير: لا يعود عليه. وقال أشهب: إن خرج من ملكه أولاً من غير اختياره، كما لو باعه الحاكم لفلسٍ لم يعد، ولو خرج أولاً باختياره عاد إليه الإيلاء، وقد تقدم توجيه الأقوال في الطلاق عند الكلام على المحل. فإن قيل في الفرق علي قول ابن القاسم بين رجوع العبد وبين رجوع الزوجة بملك مستأنفٍ فإنه وافق على أنه لا تعود عليه اليمين عادت الزوجة إليه بملك مستأنف كما سيأتي. قيل: لأنه يتهم في العبد أن يكون قصد ببيعه حل اليمين بخلاف الزوجة فإنه لا يتهم عليها، ولهذا لم يتهمه هو ولا غيره في إرث العبد لما كان ملكه جبرياً.

وَكَذَلِكَ الطَّلاق الْبَائِنْ إِذَا قَصُرَ عَنِ الْغَايَةِ ولَوْ بَعْدَ زَوْجٍ أي: فكمسالة العبد إذا قال لإحدى زوجتيه مثلاً: إن وطئتك ففلانة طالق، فطلق فلانة طلاقاً بائناً أو رجعياً وبانت، انحل الإيلاء، فلو أعادها بعد ذلك ولو بعد زوج عادت عليه اليمين ما بقي من العصمة الأولى شيء. فَلَوْ بَلَغَ الْغَايَةَ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَعُدْ هذا هو مقابل قوله أولاً: (قَصُرَ عَنِ الْغَايَةِ) أي فلو بلغ الغاية إما بأن طلقها ثلاثاً أو تكملت الثلاث ثم تزوجها بعد زوج لم تعد عليه اليمين لأن الملك الذي علق عليه اليمين ذهب. واعلم أن ما ذكره من عدم عود اليمين إذا بلغ الغاية إنما هو في المحلوف بطلاقها، وأما المحلوف على عدم وطئها فإن اليمين منعقدة عليه فيها سواء طلقها ثلاثاً ثم تزوجها أو أقل من ذلك؛ قاله في المدونة في مسألة: زينب وعزة، وقد تقدم نصها في الطلاق. أَمَّا لَوْ وُرِثَ الْعَبْدُ لَمْ يَعُدْ يعني: (أَمَّا لَوْ) عاد ملك العبد بالإرث (لَمْ يَعُدْ) عليه الإيلاء كرجوع الزوجة بعد الزوج. ولو اشترى بعض العبد وورث بعضه عاد عليه إيلاء لأجل بقاء اليمين في ذلك البعض المشترى، وكذلك لو لم يرث منه شيئاً، ولكن اشترى بعضه فإن وطأها في المسألتين عتق عليه جميع العبد، البعض المشترى منه بنفس حنثه وبقية العبد بالتقويم. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ غَيْرِهَا إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقُ وَقَعَ بِأَوَّلِهِ طَلْقَةُ رَجْعِيَّةُ وبَقِيَّتُهُ ارْتِجَاعُ ويَنْوِيهِ .. يعني: إذا قال لغير المدخول بها أو غيرها: إن وطئتك فأنت طالق، يريد واحدة أو اثنتين من الوطء في المدخول بها أو غيرها، وعلى الوطء يعود الضمير في أوله وبقيته.

ابن راشد: قوله (فيَنْوِيهِ) عائد على قوله: (ارْتِجَاعُ) وساوت غير المدخول بها لأنها تصبر مدخولاً بها بالالتقاء، وهكذا قال ابن المواز، ونص كلامه عند ابن يونس، وغن كانت يمينه بواحدة فهو مولٍ وإن وطئ فلينو ببقية مصابه الرجعة، لأنه يحنث بأول الملاقاة، وإن كان ذلك قبل البناء ضرب له أجل الإيلاء وله الفيئة في الوطء على أن ينوي ببقية مصابه الرجعة فإن وطئ على هذا وإلا طلق عليه وكذلك قال عبد الملك وإن لم ينو ببقية مصابه الرجعة فلا رجوع له مدخولاً بها أو غير مدخول بها لأنه ترك تحقيق رجعته بأن ينوي ببقية وطئه الرجعة. وحكى اللخمي في هذه المسألة خلافاً فقال: اختلف في صفة ما يباح له وهل ذلك بشرط أن ينوي الرجعة؟ فقيل: له أن يصيب وينزل، إلا أن ينوي مراجعة لأن الإنزال زائد على الوطء وقد حنث بما قبل إنزاله، وقيل: له مغيب الحشفة، لأنه يحنث بأول ما يقع عليه اسم الوطء ولم ير النزع منها وطئاً. وقيل: يمنع منها ابتداءً لأنه يحنث بمغيب الحشفة والنزع وطء. وهو أحسن على ظاهر المذهب في الحنث بالأقل ثم يختلف هل يسقط عنه بذلك الإيلاء؟ فعلى قول ابن القاسم يسقط لأنه قد حنث، وعلى قول عبد الملك لا يسقط عنه نوى أم لا؛ لأنه يقول: لا يسقط الإيلاء إلا بالمصاب وإذا كان ذلك فمن حقها الوطء التام والإنزال لحقها في الولد، فإن أصاب وهي في العدة بعد أن نوى الرجعة وإلا طلق عليه. قال: وكذلك اختلف إذا قال: إن وطئتك فأنت طالق البتة، كالاختلاف الأول. ولَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقُ ثَلاثاً، فَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ: لا يُمكَّنُ إِذْ بَاقِي وَطْئِهِ حَرَامُ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ويُنْجَّزُ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ إِذَا رَفَعَتْهُ، وقَالَ أَيْضاً: يُمكَّنُ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وينْزِعُ، وقَالَ أَيْضاً: حَتَّى يُنْزِلَ .. يعني: اختلف إذا قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً، فروى أكثر الرواة عن مالك: لا يمكن من الفيء بالوطء، هكذا في التهذيب، وهو أحسن من كلام المصنف،

لأن ما في التهذيب يؤخذ منه أنه مولٍ وإنما منع من الفيئة خاصة، بخلاف كلام المصنف لاحتماله هذا وإلا يكون مولياً، لكن لما قابل المصنف قول (أَكْثَرُ الرُّوَاةِ) بقول ابن القاسم: (ويُنْجَّزُ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ إِذَا رَفَعَتْهُ) زال هذا الاحتمال. وقوله: (إِذْ بَاقِي وَطْئِهِ حَرَامُ) هكذا اختصر ابن يونس المدونة واختصرها البراذعي: إذ باقي وطئه لا يجوز وكلاهما سواء؛ لأنه يحنث [377/ ب] بأول الملاقاة فيكون باقي وطئه حرام. ورأى ابن القاسم أنه لما كان ممنوعاً من الفيئة لم يكن في ضرب الأجل فائدة، إذ ضرب الأجل إنما هو وسيلة للفيئة. وقول ابن القاسم بتنجيز الطلاق مروي عن مالك، وهو اختيار سحنون، وقوله: (وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ويُنْجَّزُ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ إِذَا رَفَعَتْهُ) يدل على أنها لو لم ترفعه لم تطلق عليه. وقال مطرف: تطلق وإن لم ترفعه. قال في المقدمات: وتحصيل الخلاف في هذه المسالة أن فيه قولين: أحدهما: أنه مولٍ والثاني: ليس بمولٍ فعلى الأول تطلق عليه حتى يحل أجل الإيلاء، واختلف عليه إذا حل الأجل على أربعة أقوال: الأول: أنها تطلق عليه ولا يمكن من الفيء وهو مذهب ابن الماجشون. والثاني: أنه لا تطلق عليه إلا أن يأبى الفيء، فإن لم يأب مكن من التقاء الختانين فقط. وهو مروي عن مالك. والثالث: أنه يمكن من جميع لذته ولا ينزل خيفة أن يكون الولد ولد زناً وهو قول أصبغ. والرابع: أنه يمكن من الكمال؛ أي لا يقع عليه الحنث إلا بتمامه، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية.

وظاهر قوله في المدونة وما يؤخذ له فيها من خلاف ذلك فقد قيل إنه من إصلاح سحنون. وعلى أنه غير مول وفي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعجل عليه الطلاق من يوم حلف وهو قول مطرف. والثاني: أن الطلاق لا يعجل عليه حتى ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه انتهى باختصار. وذكر عياض عن شيخه ابن عتاب عن أبيه أنه يتضمن كلامه في المسألة في الكتاب أربعة أقوال: أحدها: أنه مولٍ ولا يطلق عليه إلا بعد الأجل. الثاني: أنها تطلق عليه إذا قامت وهو مولٍ. الثالث: تطلق عليه وإن لم تقم وليس بمولٍ. الرابع: تطلق عليه إذا قامت وليس بمولٍ. اللخمي: ولم يختلف أنه لو نزع قبل تمام الوطء أنه يمنع من المعاودة. واستشكل القول بأنه يمكن من التقاء الختانين- بأن ضبط النفس عن الزيادة على ذلك عسير. وَيُمَكَّنُ فِي الظِّهَارِ اتِّفَاقاً أي: إذا فرضت هذه المسألة في الظهار بأن قال: إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي، فإنه يمكن من الوطء بالاتفاق، وفي هذا الاتفاق نظر. وقد حكى اللخمي في كتاب الظهار في هذه المسألة في إباحة الوطء أربعة أقوال:

الأول: لمحمد أنه يمنع جملة لأن مغيب الحشفة يوجب الحنث والنزوع وطء ممن وقع عليه الظهار. الثاني: لعبد الملك أنه له مغيب الحشفة ثم ينزع بناءً على أن النزوع ليس بوطء. الثالث: لا يطأ ولا ينزل. الرابع: أن له ذلك وإن أنزل. قال: وظاهر المدونة أن له الإصابة التامة ثم ينعقد عليه الظهار ولا تلزمه الكفارة إلا أن يطأها بعد ذلك. وعلى هذا فلا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها لأن الزوجة تحرم هنا بالظهار كما تحرم في الأولى بالطلاق، ولكن رفع التحريم الحاصل في الظهار بيده لقدرته على التكفير. خليل: وانظر على هذا لو كان له عبد حاضر وقال: أنا أطأ وأعتقه عن ظهاري إذا أولجت، هل يتفق على تمكينه من الوطء حينئذ وهو الظاهر أم لا؟ ولا يقال: إذا كان الظاهر أنه يمكن في هذه الصورة بالاتفاق يصح كلام المصنف، لأنه لم يقيد كلامه بهذه الصورة ولا يمكن أن يريدها فقط لأنها فرض نادر. وقول اللخمي: ظاهر المدونة؛ لأن فيها: من قال لزوجته: إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي، فهو مول حين تكلم بذلك، فإن وطئ سقط عنه الإيلاء ولزمه الظهار بالوطء ولا يقربها بعد ذلك حتى يكفر، ولهذا غمز سحنون ما في المدونة. فضل: وإنما غمزها فيما أظن لأنه ذهب مذهب عبد الملك أنه لا يمكن من الوطء. قال: وإنما تكلم ابن القاسم على أحد قوليه في كتاب الإيلاء أي المسألة التي فوق هذه. صاحب النكت وابن محرز: وليس في قوله في المدونة ما يدل على تمكينه من الوطء، وإنما قال: فإن وطئها، فأنت ترى كيف أشار فضل إلى إجراء هذه المسألة على التي فوقها،

وكلام عبد الحق وابن محرز ظاهر لأنه إنما قال في المدونة: إن وطئ سقط عنه الإيلاء لأن له أن يطأها. وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُ إِحْدَاكُمَا فالأُخْرَى طَالِقُ وأَبَى الْفَيْئَةَ فَالحَاكِمُ يُطَلِّقُ إِحْدَاهُمَا. (وأَبَى الْفَيْئَةَ) أي وطء كل منهما ولا إشكال أنه لو وطئ واحدة طلقت عليه الأخرى. وقوله (فَالحَاكِمُ يُطَلِّقُ إِحْدَاهُمَا) ينبغي أن يفهم على أن القاضي يجبره على طلاق واحدة، أو يطلق واحدة بالقرعة، وإلا فطلاق واحدة غير معينة لا يمكن؛ إذ الحكم يستدعي تعيين محله، وفي تطليق معينة منهما ترجيح بلا مرجح. ومن قامت بحقها من هاتين المرأتين كان الحكم كما ذكره المصنف، ولا يشترط قيامهما معاً. ابن عبد السلام: وذكر بعضهم في تقييد هذه المسألة قولين هل يكون مولياً منهما معاً أو لا يكون مولياً إلا من إحداهما؟ وَلَوْ حَلَفَ لا يَطَأُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلا مَرَّةً فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مُولٍ حِينَئِذٍ، وقَالَ أَيْضاً: لا إِيلاءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَطَأَ وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، واخْتُلِفَ فِيهَا لَمَّا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ .. ههنا قاعدة تنبني عليها هذه المسألة، والمسألة التي قبلها وما بعدها [378/ أ] من الفروع، وهي أن الحالف إذا كان امتناعه ليمين انعقدت عليه كان مولياً باتفاق وإن امتنع لا يمين انعقدت عليه وإنما امتنع خوفاً من انعقاد اليمين فهل يكون مولياً من حين اليمين أو لا يكون موليا حتى يطأ؟ قولان. والقولان في المسألة التي ذكرها المصنف في الموازية، والقول الثاني مع بقية الكلام الذي ذكره المصنف في المدونة، ولا يلزم من تقديم المصنف للقول الأول أن

يكون هو المشهور وإنما يلزم ذلك لو صدر به ثم عطف عليه بـ (قيل)، واختار ابن المواز القول الأول. وَلَوْ حَلَفَ لا يُجَامِعُهَا فِيهَا غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَكُونُ مُولِياً، وقَالَ أَصْبَغُ: مُولٍ؛ وهُوَ غَلَطُ، نَعَمْ لَوْ وَطِئَ مَرَّتَيْنِ وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ فَمُولِ. قوله: (فِيهَا) أي في السنة، ووجه قول ابن القاسم أن له أن يترك وطئها أربعة أشهر ثم يطأها ثم يترك وطئها أربعة أشهر ثم يطأها فلا يبقى من السنة غير أربعة أشهر. وقال أصبغ: مول، قال محمد: هو غلط، وتبعه المصنف لما قلناه في توجيه قول ابن القاسم، خليل: ويمكن أن يوجه قول أصبغ بأن يقال: لو لم يلزمه الإيلاء في مثل هذه الصورة لتوصل بهذا إلى مضارة الزوجة، لأنه يمكنه أن يفعل في كل سنة كذلك فيؤدي إلى الضرر المستديم، وإبطال ما شرعه الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فتكون هذه المسألة كالسريجية، ولا سيما ومن قواعدنا القول بسد الذريعة، على أن جواب ابن القاسم بعدم الإيلاء إنما ينبني على القول بأن من حلف على ترك الوطء أربعة أشهر لا يكون مولياً وأما على الرواية الأخرى فلا. وهذا الذي أشرنا إليه في توجيه قول أصبغ رأى اللخمي أن يكون لها حق في الوقف للضرر لا للإيلاء. وقوله: (نَعَمْ لَوْ وَطِئَ مَرَّتَيْنِ وَقَدْ بَقِيَ .. إلى آخره) هو جواب لابن القاسم تقديره أن يقال: إنما ألزمه أصبغ الإيلاء لاحتمال أن يطأ مرتين في أول السنة، فأجاب عنه بأنه لو وطئ مرتين وقد بقي أكثر من أربعة أشهر لكان مولياً بالاتفاق. وَفِيهَا: إِنْ وَطِئْتُكِ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَوْ كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ مِنْ بَلَدِ كَذَا حُرُّ أَوْ صَدَقَةُ؛ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ: فِي تَعْجِيلِ الإِيلاءِ بِخِلافِ التَّعْمِيمِ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ مُولِياً .. هذان القولان مبنيان على القاعدة المتقدمة لأنه امتنع من الوطء خوفاً من انعقاد اليمين عليه في ما يملكه من البلد المسمى؛ لأنه إن جعلت الانعقاد بمنزلة ما يلزمه من

صوم أو صدقة أو نذر أو كفارة عجلت الإيلاء، وإلا لم تعجله، ولعل المصنف نسب هذه المسألة للمدونة ليبين لك أن كلاً من القولين في المسألة السابقة له أصل في المدونة. وقوله: (بِخِلافِ التَّعْمِيمِ) أي فلا يكون مولياً لأن يمينه لم تنعقد. وَلِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيَامُرُهُ الْحَاكِمُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلاقِ؛ فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ عَلَيْهِ .. قوله: (إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) هذا مبني على المعروف من المذهب، وأما على القول بوقوع الطلاق بمضي الأربعة أشهر فلا. وقوله: (أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) أي من يوم الحلف إذا كانت يمينه صريحة في ترك الوطء أو من يوم الرفع إذا كانت يمينه متضمنة لترك الوطء كما تقدم. قوله: (فَيَامُرُهُ الْحَاكِمُ بِالْفَيْئَةِ) أي الوطء (أَوِ الطَّلاقِ؛ فَإِنْ أَبَى) من كل منهما، (طَلَّقَ) الحاكم (عَلَيْهِ). وظاهر كلامه أنه لا يتلوم له، وهو الصحيح وإن كان بعضهم ذهب إليه. واعلم أن للمولي إذا وقف حالتين: الأولى: أن يقول: لا أطأ، والحكم فيها أن يطلق عليه من غير تلوم، والثانية: أن يقول: أطأ، فهذا يتلوم له فيها. وإليه أشار بقوله: فَإِنْ أَجَابَ اخْتَبَرَ مَرَّةً وثَانِيَةً فَإِنْ تَبَيَّنَ كَذِبُهُ طَلَّقَ عَلَيْهِ أي (فَإِنْ أَجَابَ) إلى الوطء، وعلى هذا فمراده بالإجابة أخص من مراده بالإباية في قوله: (أَبَى) لأن مراده به بالإباية من كل من الوطء والطلاق كما تقدم، ومراده بـ (أَجَابَ) أي إلى الوطء، على أنه يمكن أن يريد بأجاب الإجابة إلى أحد الأمرين لا يعنيه ويكون مقابلاً لقوله: أبى، لكن المسألة إنما هي منصوصة على الوجه الأول. وقوله: (اخْتَبَرَ مَرَّةً وثَانِيَةً) ظاهر كلامه أنه موكول إلى اجتهاد الحاكم.

قال في البيان: وهو المعلوم من مذهب مالك في المدونة وغيرها أنه يختبر المرتين والثلاث. ابن عبد السلام: ووقع في المذهب روايات بالتحديد أضربنا عنها لمخالفتها الأصول. اللخمي: وروى ابن وهب أنه قال: يؤخر وإن أقام في الاختبار حتى تحيض ثلاثة حيض وأكثر، ويوقف أيضاً، فإن قال: أنا أفيء خلي بينه وبينها، إلا أن يكثر ذلك فتطلق عليه، وروى أشهب أنه قال: يخلى بينه وبينها فلو لم يف حتى انقضت عدتها من يوم قال: أنا أفيء، طلقت عليه طلقة بائنة. والْفَيْئَةُ تَغَييبُ الْحَشفَةِ فِي الْقُبُلِ فِي الثَّيِّبِ وافْتِضَاضِ الْبِكْرِ طَائِعاً عَاقِلاً. (الْفَيْئَةُ) لغة الرجوع، والمراد بها [378/ ب] هنا الرجوع إلى ما كان ممتنعاً منه بسبب اليمين وهو الجماع، واحترز بالطوع من المكره، وبالعقل من المجنون، فإن وطئهما ليس فيئة. وهكذا في الجواهر، لكنه خلاف ما نص عليه ابن المواز وأصبغ في العتبية، ونقله صاحب تهذيب الطالب واللخمي وصاحب البيان أن وطء المجنون في حال جنونه فيئة، قال في البيان: لأنها نالت بوطئها في جنونه ما تنال بوطئه في صحته. ووقع في قول أصبغ زيادة أنه يحنث بالوطء ويكفر عنه وليه. قال في البيان: وهو ضعيف لأن فعله في حال الجنون كلا فعل فإذا وطئ في حال الجنون وجب أن لا يحنث بذلك، ولا تجب به الكفارة لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث"، وعد فيهم المجنون. وقياس ما قاله أهل المذهب في المجنون أن يكون وطء المكره فيئة، بل أولى، ألا ترى أنه اختلف في حد الواطئ مكرهاً ولم يختلف في سقوط الحد عن المجنون، وأيضاً فإنه قد قيل عندنا أن الإكراه إنما يكون في القول لا في الفعل والله أعلم.

وَلا يَنْحَلُّ بِالْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ أي: (وَلا يَنْحَلُّ) الإيلاء (بِالْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ) وهكذا قال في إيلاء المدونة: لا تحصل الفيئة بالوطء بين الفخذين ولا بالقبلة والمباشرة واللمس، قال فيها: إلا أن الكفارة تلزمه بالوطء دون الفرج وتحمل يمينه على الاعتزال حتى يخص بنيته الفرج. اللخمي: وعلى القول بحمل الأيمان على العادة لا يحنث بالإصابة بين الفخذين في كتاب الرجم من المدونة، فإن وطئها بين الفخذين فكفر زال إيلاؤه لأنه لو كفر قبل أن يطأ سقط إيلاؤه، فكيف إذا وطئ للإيلاء وظاهر ما قال في الإيلاء يخالف ما في كتاب الرجم، لأنه نص في الرجم على سقوط الإيلاء، وفي الإيلاء على عدم سقوطه. أبو الحسن: إلا أن يتأول قوله في الإيلاء، إلا أن الكفارة تلزمه على معنى ولم يخرجها، وأما لو أخرجها لسقط عنه الإيلاء عملاً بما في الرجم. وقال الباجي بعد أن ذكر قول مالك أنه يحنث بالوطء دون الفرج: وتحمل أيمانهم على الاعتزال لا خلاف أنه إذا أتى بما يحنث به فقد بطلت يمينه، وإذا بطلت يمينه لم يبق إيلاء وهو أعلم بما تجب عليه به الكفارة من الوطء بالفرج أو غيره، وأما فيما بينه وما بين الزوجة فلا يخرج عن حكم الإيلاء بما يدعي من أنه لم يرد الفرج فلا يقبل قوله يسقط به حكم الإيلاء عن نفسه، ويقبل فيما يوجب عليه الكفارة كما أنه لو كانت يمينه بالله فكفر بزعمه، لم يقبل ذلك فيما بينه وبين الزوجة وبالله التوفيق. انتهى. خليل: وعلى هذا فقوله في المدونة في الإيلاء أن اليمين لا تنحل بالوطء بين الفخذين، إنما هو فيما بينه وبين الزوجة، وأما يمينه فقد انحلت. ابن عبد السلام: قال بعض الشيوخ: وقد اختلف إذا لم ينو الفرج هل يحنث بما دون الفرج؟ وهو قول مالك أم لا؟ وعلى الحنث لو كفر وقال: أردت يمين الإيلاء ففي تصديقه قولان.

فإن ادعى نية في الفرج فله نيته، وإن قامت عليه البينة لأن نيته مطابقة لظاهر لفظه، إلا أن تفهم البينة على أنه أراد الاجتناب، فلا تقبل نيته حينئذ، وروى أصبغ عن ابن القاسم إذا وطئ المولي دون الفرج، وقال: نويت الفرج لم يحنث وبقي مولياً لحاله، وإن قال: لا نية لي حنث ولزمته الكفارة، فإن كفر سقط عنه الإيلاء، وإن لم يكفر بقي مولياً لأنه يتهم أن يكون نوى الفرج وكذب في قوله: لم أنو شيئاً حين لم يكفر وأراد سقوط الإيلاء عنه. وفي سماع أبي زيد في من قال: امرأته طالق إن وطئ فرجاً حراماً أبداً فضم جارية لامرأته إلى صدره حتى أنزل حنث، ولا أنويه أنه أراد الوطء بعينه. وفي الموازية من حلف أن لا يتسرى على امرأته فجرد جارية له ووضع يده على محاسنها وملاذها ليس بتسر. انتهى. وفسر ابن رشد ما في سماع أبي زيد من التحنيث بضم جارية امرأته، بما إذا حضرته البينة قال: وأما إن جاء مستفتياً فلا يحنث. أبو الحسن: وهو خلاف ما في الإيلاء من المدونة في قوله: أن يمينه تحمل على الاعتزال. وَيَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ لم يثبت هذا في نسختي ولا في نسخة ابن راشد ولا في أكثر النسخ، ووقعت في بعض النسخ وهو كلام مشكل، لأن ظاهر كلامه أنه عائد على الوطء بين الفخذين، فيكون التقدير ويجوز الوطء بين الفخذين على المشهور وليس كذلك فإنه لا خلاف في جوازه نقله ابن عبد السلام، والأقرب أن يكون قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) متعلقاً بصدر المسألة، أي ولا ينحل بالوطء بين الفخذين على المشهور وبين هذا ما وقع في بعض النسخ عوضاً عن قوله: (ولا ينحل بالوطء بين الفخذين، وفي حله بالوطء في غيره قولان) ووجد في بعض الحواشي المنسوبة إلى ابن الأنباري في هذا الموضع ما نصه لعله إنما أراد المظاهر

منها، وهو في غاية الضعف لأنه تسليم لعدم صلاحية هذا الكلام لهذا الموضع، ولأن المشهور في المظاهر منها خلاف هذا كما سيأتي. وَفِي الْمُحَرَّمِ: قَوْلانِ أي: وفي انحلال الإيلاء بالوطء المحرم، كما لو وطئها حائضاً أو محرمة أو في نهار رمضان. وأجراها اللَّخْمِيّ وغيره على الخلاف في [379/أ] الإحلال والإحصان بذلك. وَفِي كِتَابِ الرَّجْمِ: لَوْ جَامَعَ فِي الدُّبُرِ انْحَلَّ الِإيلاءُ إِلا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْقُبُلَ، وَلَمْ يُقِرَّهُ سَحْنُونٌ ... تصور المسألة واضح، وقوله: (وَلَمْ يُقِرَّهُ) أي لم يقره في المدونة وطرحه وهكذا قال الشيخ أبو محمد وابن يونس أن سحنوناً طرحه ولم يقره. وفي بعض النسخ ولم يقرأه سحنون، والأول أحسن لأنه لا يلزم من عدم القراءة الطرح. ولعل سحنوناً إنما طرح هذه المسألة لأنها توهم إباحة الوطء في الدبر وهو محرم، أو لأنها مخالفة لما في كتاب الإيلاء؛ لأنه لا فرق بين الوطء في الدبر والوطء بين الفخذين بالنسبة إلى الزوجة. خليل: ويمكن أن يقال أن مراد مالك بانحلال الإيلاء هنا إذا جاء مستفتياً لأن يمينه تحمل على الاعتزال، وإذا حنث في يمينه لم يبق مولياً. وَالتَّكْفِيرُ وَتَعْجِيلُ الْحِنْثِ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ بَعْدَ الْوُقُوفُ وَقَبْلَهُ يَنْحَلُّ بِهِ الإِيلاءُ لما انقضى كلامه على الفيئة أتبع ذلك بما يقوم مقامها وذلك نوعان: النوع الأول: التكفير، أي في اليمين بالله قبل الوقوف أو بعده ينحل به الإيلاء، وهذا هو المشهور. وقال أَشْهَب: لا ينحل الإيلاء بالكفارة قبل الحنث، إذ لعله كفَّر عن يمين سبقت، وهذا الخلاف مبنيٌ على الخلاف في تقديم الكفارة قبل الحنث، ولأنه يتهم على قول أَشْهَب أن يكون قصد يميناً أخرى.

النوع الثاني: تعجيل الحنث في المحلوف به كما لو أعتق العبد المحلوف بعتقه. قال في البيان: ولا خلاف في هذا؛ لأنه لا بقاء ليمين بعد ذلك. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْفَيْئَةِ كَالاعْتِرَاضِ يعني: في دعواه الفيئة قال في المدونة: مع يمينه، فإن نكل حلفت هي تطلق عليه إن شاءت. والمشهور أن القول قوله بكراً كانت أو ثيباً، وقيل: القول قولها إن كانت بكراً. وهذا الخلاف يؤخذ من تشبيه المصنف بالاعتراض، فإذا كان القول قوله في الفيئة، ففي الكفارة أحرى، إلا أن يقال أن الوطء يتعذر إقامة البينة عليه بخلاف الكفارة. فَلَو ْكَانَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوسَاً أَوْ غَائِباً- فَتَكْفِيرُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تُكَفَّرُ قَبْلَ الْحِنْثِ كَالْيَمِينِ بِاللهِ أَوْ تَعْجِيلِ الْحِنْثِ- كَعِتْقِ الْعَبْدِ، وَإِبَانَةِ الزَّوْجَةِ الْمَحْلُوفِ بِهما- فَإِنْ أَبَوْا طَلَّقَ عَلَيْهِمْ، وفِي عِتْقٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ: قَوْلانِ ... هذا تقسيم للفيئة وذلك لأن المولي إن كان الوطء ممكناً منه فالفيئة في حقه ما تقدم، وإن لم يمكنه الوطء كالمريض والمحبوس والغائب فتكفير اليمين على المشهور، وهو خبر المبتدأ؛ أي ففيئته تكفير اليمين على المشهور، أو مبتدأ وخبره محذوف. والشاذ يحتمل أنه يريد به ما تقدم لأشهب في الكفارة، على ما تقدم فإنه منصوص هنا، فيكون الشاذ على هذا أضيق من المشهور، ويحتمل أن يريد بما ذكره عن سحنون. وهو قوله (وقال سحنون: الأكثر أن الوعد كاف إلى أن يمكنهم، فيكون الشاذ أوسع من المشهور وهذا هو الظاهر لعمومه ولأنه المصرح به في كلامه. واستقرأ اللَّخْمِيّ من المشهور أن المسجون لا تدخل عليه زوجته في السجن، ولو كان ابن عبد الحكم قال: يجوز دخولها، وتصور قوله: أو تعجيل الحنث ظاهر، وهو يؤخذ من كلامه السابق،

والضمير في قوله: (أَبَوْا) عائد على المريض والمحبوس والغائب وقوله: (طَلَّقَ عَلَيْهِمْ) أي إذا أبوا من التكفير وتعجيل الحنث، وقوله: (بِهمَا)، عائد على العبد والزوجة. وقوله: (وفِي عِتْقٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ: قَوْلانِ) أي وفي إجزاء العتق غير المعين قولان، وقد تقدما وتقدم الكلام عليهما عندما ذكر المصنف المسألة في باب الأيمان، وذكرنا أن المشهور عدم الإجزاء. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لا يُكَفَّرُ قَبْلَهُ- كَصَوْمٍ لَمْ يَاتِ أَوْ بِمَا لا يَنْفَعُ تَعْجِيلُ الْحِنْثِ فِيهِ كَطَلاقٍ فِيهِ رَجْعَةٌ فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا- فَالْفَيْئَةُ الْوَعْدُ ... أي: (وَإِنْ كَانَتْ) اليمين (مِمَّا لا يُكَفَّرُ) قبل الحنث ولم يمكنه الوطء إن كان مريضاً أو محبوساً كما تقدم (فَالْفَيْئَةُ الْوَعْدُ). ابن راشد: ولا خلاف فيه، ومثل ذلك بما إذا حلف بصوم (لَمْ يَاتِ) زمانُه، و (بِمَا لا يَنْفَعُ تَعْجِيلُ الْحِنْثِ فِيهِ) وهو ظاهر لأنه إذا قال: إن وطئتها ففلانة طالقة، فلا فائدة في تطلقة فلانة؛ لأنه إذا طلقها طلقة رجعية فاليمين منعقدة، وكذلك أيضاً إذا قال: إن وطئتك فأنت طالق، ثم قيل له: عجل هذه الطلقة، فله أن يقول: لا فائدة في هذا التعجيل، وليست هذه المسألة هي التي قدمها المصنف، أعني قوله: (ولو قال لغير المدخول بها أو غيرها: إن وطئتك فأنت طالق، وقع بأوله طلقة رجعية وبقيته ارتجاع فينويه) كما قال ابن عبد السلام: لأ، الأولى إنما أتى بها لإفادة أنه يمكن من الوطء وأنه تقع عليه طلقة بالوطء فينوي الرجعة ببقية الوطء وهذه إنما أتى بها لإفادة أن تعجيل الطَّلاق لا يفيد. قال في البيان: وكذلك لو حلف بصيام أو صدقة أو مشي أو صدقة شيء بغير عينه فلا خلاف أنه لا ينحل عقد اليمين ولا يرتفع عنه الإيلاء بالصيام ولا بالمشي [379/ب] ولا بالصدقة إن فعل ذلك قبل الحنث وإن نوى بذلك حل اليمين عنه، وأن عليه أن يفعل ذلك مرة أخرى إن حنث، وعلى هذا فكفارته أيضاً بالوعد.

وَيُبْعَثُ إِلَى الْغَائِبِ وَلَوْ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ نحوه في المدونة. الباجي: فجعل الشهرين في حد القرب، وهو مقيد بما إذا علم مكانه، وإن لم يعلم فالحكم فيه كالمفقود. قال في البيان: وقال ابن الماجشون: لا يعذر بالغيبة وتطلق كانت يمينه مما يقدر علي حلها بالكفارة أم لا وزاد غيره في قوله: وسواء عنده قربت غيبته أو بعدت، وكذلك في السليمانية أنها تطلق عليه وإن خرج حاجاً أو غازياً، ويفهم من قوله: (وَلَوْ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ) أنه لو كان أكثر من ذلك لطلق عليه، وهو مفهوم المدونة، لكن صاحب اللباب جعل القريب بما تبلغه فيه المكاتبة فإنه قال: وإن كان بموضع تبلغ فيه المكاتبة بعث إليه، وإن كان بموضوع لا تبلغه أو تبلغه ويتعذر إتيانها ومعرفتها أو معرفة من ينقل الشهادة عنه، كان لها أن تقوَّم بالفراق؛ لأن محله في مقامه على الاختيار حتى يثبت أنه ممنوع فيكون حينئذ كالأسير. فرع: اختلف إذا أراد السفر قبل أجل الإيلاء وتقوم به امرأته، فقال ابن القاسم: يمنعه السلطان حتى يحلّ الأجل فيفيء أو يطلق عليه فإن أبى إلا السفر أعلمه أنه يطلق عليه إذا حلَّ الأجل. وقال ابن كنانة: إن كان منكراً للإيلاء منع من السفر حتى يتحاكم مع امرأته وإ، كان مقراً أطلق له السفر، فإذا حلَّ الأجل طلق عليه. وقال سحنون: يقال له إما أقمت وإما وكلت من يفيء أو يطلق فإن قال: أفيء، قيل له: كفِّر.

وَقَالَ سَحْنُونٌ: الأَكْثَرُ أَنَّ الْوَعْدَ كَافٍ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُمْ الوطء فَإِنْ لَمْ يَطَؤُوا طُلِّقَ عَلَيْهِمْ ... قد تقدم أن هذا هو مقابل المشهور ونصه في التهذيب وقد قال ابن القاسم في يمينهم بالله: إن فاؤا بألسنتهم أجزأهم. سحنون: وهذه الرواية أصح من كل ما كان من هذا الصنف على غير هذا وعليه أكثر الرواة. ابن القاسم: وأكثر الأصحاب: إذا أمكنهم من الوطء فلم يطأوا طلق عليهم. أبو الحسن: وقوله من هذا الصنف، أي أسماء الله تعالى وصفاته، والنذر الذي لا مخرج له. انظر كيف جعل المصنف هذا القول شاذاً مع أنه قول ابن القاسم وأكثر الأصحاب وصححه سحنون. فَلَوْ رَضِيَتْ لَكَانَ لَهَا الْعَوْدُ كَالاعْتِرَاضِ والإِعْسَارِ بِخِلافِ الْعُنَّةِ يعني: إذا رضيت بإسقاط حقها في الفيئة ثم أرادت الإيقاف فلها ذلك من غير استئناف أجل كالتي بالمعترض أو المعسر ثم تقوم لأنها تقول: رجوت علاجه وزوال اعتراضه وعسره، بخلاف ما إذا رضيت بالعنين أي بذي الذكر الصغير، وظاهر كلام المصنف أن لها الإيقاف من غير يمين لسكوته عنها ونحوه لمالك. وقال أصبغ: تحلف ما كان تركها على التأبيد إلا لتنظر ثم تطلق مكانه دون أجل. الباجي: وهذا الذي قاله أصبغ مخالف لقول مالك، لأن الصبر على الضرر لا يلزم الزوجة إذا كانت ممن يثبت لها الخيار كالرضى بالأثرة. وَلا مُطَالَبَةَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ والْمَجْنُونَةِ بِخِلافِ سَيِّدِ الأَمَةِ، وَلَوْ رَضِيَتْ يعني: إذا رضيت الصغيرة أو السفيهة أو المجنونة بترك الوطء فلا يكون لوليهن الإيقاف، سواء كان أبا أو غيره لأن نظر الولي خاص بالمال، ويفهم من قوله: (لا مُطَالَبَةَ

لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ) أن لولي الصغيرة المطالبة لكن بشرط أن تبلغ حد الوطء وإن لم تبلغ ذلك فلا كلام لها، قاله اللَّخْمِيّ. وقوله: (بِخِلافِ سَيِّدِ الأَمَةِ) أي فإن له إيقاف الزوج ولو رضيت الأمة بترك الوطء لأ، للسّيد حقاً في الوطء فلا يكون للأمة إسقاطه. وَلا مُطَالَبَةَ لِمُمْتَنِعٍ وَطِئَهَا لرتَقٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ يعني: أنه لا مطالبة للمرأة بالفيئة إذا امتنع وطئها لمانع سواء كان المانع عقلياً كالرتق، أو عادياً كالمرض، أو شرعياً كالحيض فإن قلت: كلامه هنا مناقض لما في اللعان بالنسبة إلى الحيض لقوله: ويؤخر لعانهما معاً، وفي المختصر: لعانها للحيض والنفاس كما يؤخر طلاقها للإعسار والعنة بخلاف الإيلاء. وروى أشهب: والإيلاء؛ فقوله: بخلاف الإيلاء، فإنه يقدم طلاق المولي في الحيض، والتطليق عليه حالة الحيض يقتضي أن يكون مطالباً للفيئة في تلك الحالة، قيل: لا يبعد أن تكون الفيئة على هذا القول بالوعد كما في نظائر المسألة، حيث تتعذر الفيئة بالوطء ويكون التطليق عليه إنما هو إذا امتنع من الوعد والله أعلم. وَتَتِمُّ رَجْعَتُهُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إِنِ انْحَلَّتِ الْيَمِينُ فِي الْعِدَّةِ بِوَطْءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ انْقِضَاءِ أَجَلٍ أَوْ تَعْجِيل حَنِثَ كَعِتْقٍ مُعَيَّنٍ وطلاقٍ بَائِنٍ، بِخِلافِ الْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ ونَحْوِهِ إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللهِ تَعَالَى وَنَحْوِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلذَلِكَ يَتَوَارَثَانِ، وَتَجِبُ النَّفَقَةُ لأَنَّهَا لَمْ تَبِنْ ... اعلم أنّ كل طلاق يوقعه الحاكم فهو بائن إلا طلاقين: طلاق المولي وطلاق المعسر بالنفقة. [380/أ] ثم إن الرجعة في المولي مشترطة بانحلال اليمين في العدة؛ لأنه إنما طلق عليه للضرر اللاحق لها بترك الجماع بسبب اليمين، فلو عادت إليه بدون الانحلال لبقي

ذلك الضرر على حاله، واختلف إذا رضيت الزوجة بالرجعة لعدم الإصابة هل تصح- وإليه ذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون- أو لا تصح وإليه ذهب سحنون. ثم بين المصنف ما تنحل به اليمين فقال: (بِوَطْءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ انْقِضَاءِ أَجَلٍ) الإيلاء. وقوله: (أَوْ تَعْجِيل حَنِثَ كَعِتْقٍ مُعَيَّنٍ) ظاهر التصور. وقوله: (بِخِلافِ الْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ) فإن حكم الإيلاء باق عليه كما تقدم وقوله: (ونَحْوِهِ) أي من المباشرة ويحتمل أن يريد بـ (ونَحْوِهِ) الوطء المحرم على الخلاف المتقدم. وقوله: (إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللهِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى قوله: (أَوْ كَفَّارَةٍ) أي إنما تجري الكفارة إذا كانت اليمين بالله ونحوه على المشهور. (ونَحْوِهِ إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللهِ) يحتمل أني ريد به النذر المبهم، فإنه فيه كفارة يمين ويحتمل أن يريد به صفاته وهو الأقرب، وإلا لقال: ونحوها، ولا يصح أن يريد بالنحو العتق غير المعين. فإن المشهور فيه أنه لا تنحل به اليمين كما تقدم. ولو قال: وتتم رجعته بما ينحل به اليمين وفاقاً وخلافاً، لكان أخصر. وقوله: (وَلذَلِكَ) أي ولو كان الطَّلاق رجعياً (يَتَوَارَثَانِ) وهو ظاهر وقوله: وروي عن مالك في كتاب ابن شعبان أنه لا نفقة عليه حتى يرتجع وهو خلاف نص المدونة. فَإِنْ لَمْ تَنْحَلَّ فِيهَا أُلْغِيَتْ رَجْعَتُهُ وَبَانَتْ وَحَلَّتْ مَا لَمْ يَكُنْ خَلا بِهَا فَإِنَّهَا لا تَنْحَلُّ بَعْدَ رَجْعَتِهِ فَتَاتَنِفُ الْعِدَّةَ ثُمَّ لا رَجْعَةَ لَهُ بِخِلافِ الْمَعْذُورِ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ إِلا أَنْ يُمْكِنَهُ الْوَطْءُ فَيَمْتَنِع .... ابن عبد السلام: الضمير في (تَنْحَلَّ) عائد على اليمين. وقوله: (فِيهَا) أي العدة. (أُلْغِيَتْ رَجْعَتُهُ) أي قدرت كالعدم، وفي المدونة: وإذا طلق على المولي وقد بنى فله الرجعة في بقية العدة بالقول، ويتوارثان ما لم تنقض، فإن ارتجعها بالقول فواسع له أن

يخلَّى وإياها؛ فإن لم يطأ حتى دخلت في أول دم الحيض الثالثة حلت ولم تكن تلك الرجعة إلا المعذور بمرض أو سفر أو سجن فرجعته رجعة بالقول فإذا أمكنه الوطء بعد العدة فلم يطأ فرق بينهما واجزأته العدة الأولى إلا أن يكون خلا بها وأقر أنه لم يطأ فلتأنف العدة ولا تكون له عليها رجعة في هذه العدة المؤتنفة لأنه أقر أنه لم يطأ. وضعف في سماع أَشْهَب وجوب العدة عليها للأزواج بسبب الخلوة ورأى التهمة عليها في ذلك بعيدة، وقال في العتبية: كل طلاقٍ رجعي إذا ارتجع انقضت العدة واستؤنفت إلى المولي وحده. وَلا رَجْعَةَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا إذا طلق عليه بالإيلاء غير المدخول بها فلا رجعة له وهو ظاهر. وَلا يَنْتَقِلُ الْعَبْدُ إِلَى أَجَلِ الْحُرِّ إِذْ عَتَقَ بَعْدَ أَنْ آلَى كَمَا لا تَنْتَقِلُ الأَمَةُ إِذَا عُتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ الرَّجْعَيَّةِ وَغَيْرِهَا إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ ... قد تقدم أن أجل العبد في الإيلاء شهران فإذا ضرب له ذلك ثم عتق لم ينتقل إلى أجل الحر كما لو زنا ثم عتق مكانه فإنه لا ينتقل إلى حد الحر لأن المعتبر حال الصدور. وقوله: (كَمَا لا تَنْتَقِلُ ... إلى آخره) ظاهر التصور.

كتاب الظهار

الظِّهَارُ تَشْبِيهُ مَنْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِمَنْ يَحْرُمُ الجوهري: الظهار قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي. عياض: وهو مأخوذ من الظهر، وكنى به عن المجامعة؛ لأن المرأة تركب كما يركب ظهر المركوب، لاسيما وعادة كثير العرب وغيرهم المجامعة على حرف من جهة الظهر ويستقبحون سواه ذهاباً منهم إلى التستر والحياء ألا تجمع الوجوه حينئذٍ ولا يطلع على العورات، وهي كانت سيرة الأنصار حتى نزل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] على إحدى الروايتين في سبب نزولها، واعلم أن الظهار كان في الجاهلية وأول الإسلام طلاقاً حتى أتت خولة بنت ثعلبة على ما رواه أبو داود في سننه وغيره تشكو زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت. وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفت الأحاديث في نص المجادلة، حتى أنزل الله قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] إلى آخرها. عبد الوهاب: والظاهر محرم للكذب كما أخبر الله عز وجل، فقال: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} لنصه في الآية على أنه منكر وزور ولقوله في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}. الشيخ أبو إسحاق: ويؤدب من ظاهر لقوله المنكر والزور. مالك في المبسوط: والظهار يمين تكفر. الباجي: وفي المدونة إن مطلق الظهار ليس بيمين، وإنما يكون يميناً إذا قال: إن فعلتْ كذا، فإنها عليَّ كظهر أمي. وحد المصنف الظهار بقوله: (تَشْبِيهُ مَنْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِمَنْ يَحْرُمُ) ودخل في قوله: (مَنْ يَجُوزُ) الأمة والزوجة، [380/ب] وشمل قوله: (مَنْ يَحْرُمُ) المحرمة على التأبيد كالأم ونحوها، والمحرمة لا على التأبيد وهي الأجنبية، ومراده بقوله: (مَنْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا) من الأصل جواز وطئها وإن كان يعرض لها عدم الجواز كما إذا حاضت الزوجة

أو الأمة أو أحرمتا أو صامتا في واجب، وبهذا يسقط اعتراض من قال: هذا الرسم غير جامع لخروج الزوجة الحائض منه إذا قال لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي، فإنه ظهار وهو تشبيه من يجوز وطؤها بمن يحرم، وغير مانع؛ لأنه يدخل فيه ما إذا قال لإحدى زوجتيه: أنتِ عليَّ كظهر زوجتي الأخرى، وهي حائض فإنه يصدق عليه الحد الذي قاله المصنف، وإنه ليس بظهار. فَيَصِحُّ ظِهَارُ السَّيِّدِ فِي الأَمَةِ لا مَالِكَ جُزْءٍ مِنْهَا وَلا الْمُعْتَقَةِ إِلَى أَجَلٍ فَيَصِحُّ ظِهَارُ الْمُدَبَّرَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالرَّجْعِيَّةِ، وَالصَّغِيرَةِ، وَالْحَائِضِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَالْكَافِرَةِ لما ذكر رسم المظاهر ذكر هذه الجملة بياناً له، ولذلك أتى بالفاء المشعرة بالسببية؛ أي فلأجل أن الظهار تشبيه من يجوز وطؤها بمن يحرم صح الظهار من الأمة؛ لأنها ممن يجوز وطؤها، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يصح الظهار من الأمة، ومنشأ الخلاف هل تدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}، ولاشك أنها من النساء لغة؛ لكن العرف يخصص هذا اللفظ بالزوجات. وقوله: (لا مَالِكَ جُزْءٍ مِنْهَا وَلا الْمُعْتَقَةِ إِلَى أَجَلٍ) لأن وطأهما غير جائز وتشاركهما المكاتبة، وصح الظهار من المدبرة وأم الولد؛ لأن وطأهما جائز. وقول: (وَالرَّجْعِيَّةِ)؛ لأنها وإن كانت محرمة فالتحريم لعارض رفعه بيده، ولو قيل: إن ظهاره منها قرينة في الارتجاع، ما بعد، كما قالوا في إسلام المجوسي على أكثر من أربع، وقوله: (وَالصَّغِيرَةِ، وَالْحَائِضِ، وَالْمُحْرِمَةِ) نحوه في المدونة. وقال: (وَالْكَافِرَةِ) ولم يقل الكتابية كابن شاس؛ ليشمل المجوسية إذا أسلم زوجها المجوسي ثم ظاهر منها بقرب إسلامه ثم أسلمت، فإن ذلك يلزمه قاله في المدونة. وقال أشهب: لا يلزمه، وعلله ابن يونس بأنها حينئذٍ غير زوجة.

صاحب المقدمات: وهو غير صحيح؛ لأنها لو كانت غير زوجة لم ترجع إليه إلا بنكاح جديد، بل هي في ذلك الوقت زوجة إلا أن لها أن تختار فراقه باختيار دينها، وليس ذلك مما يمنع وقوع الظهار عليها، فإن الرجل لو قال: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك ثلاثاً، فتزوج عليها ثم ظاهر منها، فإن الظاهر يلزمه، وهل خلاف؟ أشهب: إنما هو إذا عرض عليها الإسلام فأبت ثم أسلمت بالقرب، فيتفق على أنه مظاهر، أو الخلاف فيهما طريقان. وَفِي الْمُكَاتَبَةِ لَوْ عَجَزَتْ قَوْلانِ يعني: واختلف في صحة الظهار من المكاتبة في حال كتابتها ثم عجزت على قولين، والقول بأنه لا يصح لسحنون وعزي لابن القاسم ورأى في القول الآخر اللزوم؛ لأنها قبل الكتابة مباحة له وإنما منع من وطئها قبل العجز لأجل الشك، فيستصحب حال الملك إذا انكشف أمرها بالعجز، ومنشأ الخلاف هل رجوع المكاتبة إلى سيدها بالعجز كابتداء ملك أم لا؟ ومفهوم قوله: (لَوْ عَجَزَتْ) أنها لو لم تعجز لم يلزمه الظهار إلا أن ينوي إن تزوجها فيلزمه كما يلزمه في الأجنبية إذا علق ذلك على زواجها، وقال اللخمي وغيره: هذا هو المعروف. وقال بعض أصحابنا: إذا ظاهر من معتقة إلى أجل أو أمة له فيها شرك أو مكاتبة فتزوجهن بعد العتق أن ذلك الظهار يلزمه، ولا يطأ حتى يكفر. ابن يونس: وهو عندي غلط؛ لأن الله عز وجل إنما ألزم الظهار فيمن يحل وطؤها وتصح فيه العودة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}. قيل: والفرق على المشهور بين من ظاهر من مكاتبته ثم عجزت بقرب ظهاره أنه لا شيء عليه، وبين المجوسي يسلم على زوجته فظاهر منها ثم تسلم بالقرب أن الظهار يلزمه، والفرق أن المجوسية لم تخرج من

عصمته بعد، والمكاتبة كالأجنبية، وإن كانت قد تعجز، والأجنبية قد لا تتزوجه فلا يلزمه فيها الظهار المتقدم. وَجُزْؤُهَا مِثْلُ كُلِّهَا كَالطَّلاقِ أي: وجزء المظاهر منها مثل كلها في لزوم الظهار، فإذا قال: يدك عليَّ كظهر أمي، لزمه الظهار. وقوله: (كَالطَّلاقِ)، يحتمل معنيين، أحدهما: الاحتجاج على الشافعي؛ لأنه وافق على التطليق بالجزء، وخالف هنا في أحد قوليه. وثانيهما: الإشارة إلى أنه ليس كل جزء يلزمه به الظهار، بل هو كالطلاق، فيتفق على الظهار إن شبه بيدها أو رجلها، ويختلف في الشعر والكلام كما تقدم، وهكذا في المقدمات أنه يختلف في الشعر والكلام هنا كالطلاق، وهذا هو الأقرب؛ لأن المصنف لم يذكر مذهب الشافعي، ولأنه ليس من عادته الاحتجاج على المخالف، وليس هو مطلوباً منه، وإنما المطلوب منه معرفة الحكم، والله أعلم. وَشَرْطُ الْمَظَاهِرِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِماً بَالِغاً عَاقِلاً وَيصِحُّ ظِهَارُ الْعَبْدِ ذكر للمظاهر ثلاثة شروط، وقوله: (مُسْلِماً) صفة لمحذوف تقديره [381/أ] أن يكون زوجاً مسلماً أو سيداً، واحترز من الذمي فإنه لا يصح ظهاره هنا عندنا وإن أسلم، وحكى عن المغيرة أنه يلزم الذمي نذره وطلاقه في حال الكفر؛ أعني إذا أسلم فخرج على قوله لزوم الظهار، واحترز بالعاقل من المجنون، وبالبالغ من الصغيرن والمشهور أن المراهق لا يلحق بالبالغ. وعن ابن كنانة: إن حلف قبل البلوغ ثم حنث بعده، أنه تلزمه الكفارة، فأخذ منه بعضهم لزوم الظهار للصغير إذا تأخر النظر له حتى بلغ، وعن أشهب مثله، وتأول بعضهم قول ابن كنانة أنه في المراهق، وأخذ من قوله: (وَشَرْطُ الْمَظَاهِرِ أَنْ يَكُونَ

مُسْلِماً ... إلخ) أن المرأة لو ظاهرت من زوجها تلزمها الكفارة، وهو صحيح، وقد نص في المدونة على ذلك ابن المواز، ولو كان ملَّكها الطلاق. وقوله: (وَيصِحُّ ظِهَارُ الْعَبْدِ) لتوفر الشروط فيه. اللخمي: ويصح منه الطلاق ولو كان ممنوعاً من المال كالسفيه والعبد ولا خلاف في ذلك. وَظِهَارُ السَّكْرَانِ كَطَلاقِهِ أي: فيلزمه على المشهور، وقد تقدم الكلام على حكمه في الطلاق. وَيَصِحُّ ظِهَارُ الْعَاجِزِ عَنِ الْوَطْءِ لِمَانِعٍ فِيهِ أَوْ فِيهَا؛ كَالْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ، وَقَالَ سُحْنُونُ: لا يَصِحُّ ... القول الذي قدمه المصنف في الرتقاء هو مذهب المدونة، وأما المجبوب وفي معناه الخصي والمعترض والشيخ الفاني فما قدمه المصنف فيه هو مذهب العراقيين، وبالثاني قال أصبغ. ابن عبد السلام: واختلف الشيوخ فيما تدل عليه المدونة، وفهم اللخمي المدونة على الثاني، فإنه لما نقل عن سحنون وعلي بن زياد عدم صحة ظهار من ذكر، قال: وهذا قول مالك في المدونة؛ لقوله: لأن القبلة لا تدعو إلى خير. وخرج على هذا الاختلاف إذا قال: قُبْلَتُكِ عليَّ أو مضاجعتك عليَّ كظهر أمي، هل يلزمه الظهار أم لا؟ عياض: وما تأوله اللخمي خلاف المعروف من المذهب، فإن المقدر من مذهب مالك عند أئمتنا البغداديين وغيرهم أن جميع أنواع الاستمتاع محرم عليه، قاله محمد والأبهري وابن نصر وغيرهم. وحكى الباجي أنه اختلف في تأويل منعه ذلك في الكتب وغيره على وجهين: الأول للقاضي أبي محمد: أنه محمول على الوجوب، والثاني لعبد الملك في المبسوط: أنه محمول على الكراهة؛ للتغرير للجماع الذي لا يحل. لكن ما خرجه اللخمي

قول صحيح في المذهب وعليه يأتي قول علي بن زياد وسحنون في المجبوب والمعترض والشيخ الفاني أنه لا يلزمهم الظهار. انتهى. وما قاله اللخمي هو متمسك من تأوُّل المدونة على الموافقة لسحنون، وتمسك الآخرون بإلزامه الظهار من الصغيرة، ولم يفصل بين من بلغت حد الاستمتاع وغيرها وبإلزامه الظهار من الرتقاء. وَعَلَيْهُمَا خِلافُ الاسْتِمْتَاعِ أي: وعلى المشهور، وقول سحنون: يجري على الخلاف هل يجوز الاستمتاع بالمظاهَر منها فيما عدا الفرج؟ فعلى صحة الظهار من المجبوب والرتقاء يمنع الاستمتاع، ففرع على الخلاف المتقدم الذي ذكره الباجي العكس؛ لأنه لما حكى عن سحنون أن الظهار لا يلزم الخصي والعنين والمجبوب والشيخ الفاني، قال: عندي مبني على أن الظهار لا يحرم الاستمتاع بغير الوطء. وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فإن قلنا أن الظهار يحرم الاستمتاع كما يحرم الوطء، وهو ممكن من جميعهم، وجب أن يلزمهم الظهار، وإن قلنا أنه ليس بحرام لنفسه، وإنما هو ممنوع لئلا يكون داعية إلى الجماع، فإنه لا يصح الظهار من المجبوب ولا الخصي ولا العنين؛ لأن الجماع لا يتأتى منهم، ونحوه لصاحب المقدمات. وكلام المصنف يقتضي أنه على قول سحنون يجوز الاستمتاع بالمظاهَر منها من غير كراهة، والذي في البيان والمقدمات: اختلف في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فجعله أكثر أهل العلم على عمومه أنه لا يطأ ولا يقبل ولا يباشر، وهو مذهب مالك، وقال الحسن وعطاء والزهري: المراد الوطء خاصة، فللمظاهر أن يقبل ويباشر ويطأ في غير الفرج، واختلف الذين حملوا الآية على عمومها إن قبل وباشر في خلال الكفارة، فقال أصبغ وسحنون: يستغفر الله ولا شيء عليه، وقال مطرف: يبتدئ الكفارة.

والامتناع على قول مطرف في مقدمات الوطء واجب، وعلى قول أصبغ وسحنون مستحب، والظاهر من قول مالك التحريم كقول مطرف؛ لأنه قال: يجب على المرأة أن تمنعه نفسها وإن رفعته إلى الإمام حال بينه وبينها وقال عبد الملك له أن يقبل ويباشر وينظر إلى الشعر والصدر والمحاسن؛ نقله ابن راشد. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُظَاهِرُ مَعَهَا إِنْ أُمِنَ عَلَيْهَا أي: وعلى المشهور من عدم جواز الاستمتاع بالمظاهَر منها، وصحة ظهار الخصي ونحوه، يجوز أن يكون المظاهر معها، قال في المدونة: ويجوز أن يكون معها في بيت، ويدخل عليها بلا إذن إذا كان تؤمن ناحيته، فتجوز المساكنة معها، وزاد في العتبية الخدمة بشرط الاستتار. قال في المدونة: ولا ينظر إلى صدرها ولا إلى شعرها حتى يكفِّر، وجائز أن ينظر إلى وجهها. [381/ب] وفي الجلاب: ولا بأس أن ينظر إلى الرأس والوجه والقدمين وسائر الأطراف. قال مالك في العتبية: له النظر إلى شعرها. وأشار عياض إلى أن إجازة النظر مشروطة بأن لا يقصد بذلك اللذة، وأما إن قصدهابه فهو ممنوع كالمباشرة، قال: وعلى هذا فتكون القبلة وما في معناها ممنوعة على الإطلاق، والنظر ممنوع إذا قصد به اللذة، قال: ولو أخذ من المدونة قولاً آخر أنه يجوز النظر إلى شعرها وصدرها، من إجازته أن يدخل عليها بغير إذن ما بَعُد؛ لأن دخوله عليها بغير إذن سبب إلى أن ينظر منها ذلك. وقوله: (وَعَلَى الْمَشْهُورِ) أي وأما على مقابله فهو أولى، وإنما احتاج إلى التفريع على المشهور؛ لأنه قد يتوهم منه منع الدخول عليها، فإن قلت: فما الفرق بين المظاهَر منها، فإنكم أجزتم الدخول عليها والنظر إليها، وبين الرجعية، فإن الذي رجع إليه مالك أنه لا يدخل عليها وكل منهما محرم وطؤه، قيل: لأن الرجعية منحلة العصمة، مختلة النكاح بخلاف المظاهَر منها، فإنها ثابتة العصمة صحيحة النكاح. والله أعلم.

وَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ فَإِنْ خَافَتْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ قال في المدونة: ويجب عليها أن تمنعه من نفسها فإن خشيت منه على نفسها، رفعت ذلك إلى الإمام فيمنعه من وطئها، ويؤدبه إن أراد ذلك. وقد تقدم قوله في البيان: إن ظاهر هذا يقتضي تحريم الاستمتاع، وأن الإمام يحول بينه وبينها، فقول المصنف: (وَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَهُ) أي من الوطء ومقدماته، لا من الوطء فقط. وَفِي تَنْجِيزِهِ فِيمَا يُنْجَزُ فِيهِ الطَّلاقُ- مِثْلَ بَعْدَ سَنَةٍ- قَوْلانِ اعلم أن المصنف أشار إلى المسألتين، الأولى: إذا قال لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي بعد سنة، أو بعد شهر أو نحو ذلك. فهل يتنجز الظهار عليه من الآن كالطلاق وهو المشهور، أو لا؟ والفرق على هذا القول بين الطلاق والظهار: أن الظهار يرتفع بالكفارة، فلم يشبه نكاح المتعة بخلاف الطلاق، وظاهر كلامه أن الشاذ منصوص، وبذلك صرح في الجواهر. وقال ابن عبد السلام: هو مخرج من الشاذ في الثانية، وهو إذا قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، مثلاً ولم يعد حتى انقضت السنة، فهل يتأبد الظهار عليه حتى يكفر، وهو المشهور، بمنزلة ما لو قال لها: أنت طالق سنة، أو لا يتأبد عليه وينقطع عنه الظهار بمضي السنة، وهو قول مالك في كتاب ابن شعبان؟ ولو قال المصنف: (وفي تنجيزه فيما ينجز فيه الطلاق، وتعميمه فيما يتعمم فيه الطلاق قولان) لكان أحسن؛ لأن قوله: (فِي تَنْجِيزِهِ) إنما يتناول الصورة الأولى فقط، ولعل المصنف لما رأى أن الصورتين يشتركان في المعنى، وهو أن الظهار هل يتغير بزمان أم لا؟ اكتفى بالتمثيل.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ عِنْدَ الإِيَاسِ أَوِ الْعَزِيمَةِ يعني: إذا قال: إن لم أتزوج عليك فأنت عليَّ كظهر أمي، فلا يكون مظاهراً إلا بالإياس أو العزيمة على ترك التزويج، وزاد ابن شاس إلا أن ينوي مدة معينة، فيحنث بمضيها، ولم يتعرض المصنف لكونه هل يمنع من الوطء أي الطلاق، أو لا؟ ونص الباجي على أن الظهار كالطلاق، وأنه يحرم عليه الوطء، إذا كانت يمينه على حنث، ويدخل عليه الإيلاء، ويضرب له الأجل من يوم الرفع، والإياس يتحقق عليه إذا مات المحلوف عليها المعينة. وهل يتحقق بعلو سنه إذا كانت المرأة غير معينة؟ فيه نظر. وقوله: (أَوِ الْعَزِيمَةِ) ابن راشد: جعل العزم على الترك كالترك، ومن هنا أفتى شيخنا القرافي بالحنث في من قال لامرأته: إن لم أدخل الدار فأنتِ طالق، ثم عزم على ترك الدخول، وقول ابن عبد السلام: إن ظاهر كلام المصنف أنه لا يمنع من الوطء ليس بظاهر؛ لأن كلام المصنف ليس فيه تعرض لجوز ولا لعدمه. وَإِذَا عَلَّقَهُ لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيمُ الكَفَّارَةِ قَبْلَ لُزُومِهِ يعني: إذا علق الظهار بأن قال: إن كلمتُ فلاناً فأنتِ عليَّ كظهر أمي، لم يصح له أن يكفر قبل أن يكلم فلاناً؛ لأن الظهار إلى الآن لم ينعقد عليه، ولهذا لا يصح أن يتخرج في هذه المسألة الخلاف الذي في كفارة اليمين قبل الحنث؛ لأن اليمين هناك انعقدت، ولأن كفارة الظهار مشروطة بالعودة، والعودة مشروطة بتقديم الظهار، قال في الجواهر: ولو قال: إن دخلت الدار فأنتِ كظهر أمي، ثم أعتق عن الظهار قبل الدخول لم يجزه، كما لو قال: إن دخلت الدار فوالله لا أكلمك، ثم أعتق قبله لم يجزه.

وَإِذَا كَرَّرَهُ لَمْ يَتَعَدَّدْ وَلَوْ قَصَدَ ظِهَارَاتٍ مَا لَمْ يَنْوِ كَفَّارَاتٍ كَالْيَمِينِ بِاللهِ إِلا أَنْ يُعَلِّقَهَ بِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِخِلافِ الطَّلاقِ فِي التَّكْرِيرِ، وَإِنْ عَلَّقَهَ بِمُتَّحِدٍ يعني: إذا كرر الظهار فقال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أنتِ عليَّ كظهر أمي، أنتِ عليَّ كظهر أمي، أنتِ عليَّ كظهر أمي، لم يتعدد الظهار ولو قصد ظهارات، إلا أن ينوي كفارات، وقوله: (كَالْيَمِينِ بِاللهِ) يستفاد منه أن المسألة على ثلاثة أقسام: إن قصد التأكيد أو لم يقصد شيئاً فليس عليه إلا كفارة [382/أ] واحدة باتفاق، وإن قصد كفارات لزمه ذلك باتفاق، وإن قصد ظهارات ولم ينوِ كفارات فنص هنا على عدم التعدد، وقد تقدم له في الأيمان قولان في اليمين بالله، ولا فرق بينهما، ثم إذا قصد كفارات فقال الشيخ أبو محمد: لا يطأ حتى يكفر ما نوى من الكفارات، وقال القابسي وأبو عمران: إن كفر واحدة جاز له الوطء، والباقي إنما هو كطعام نذره. قالا: وإن مات فأوصى بهذه الكفارات وضاق الثلث قدمت كفارة واحدة على كفارة اليمين بالله، وتقدم كفارة اليمين بالله على ما بقي؛ لأنه نذر. ابن يونس: وقول القابسي هو الصواب؛ لأن الله تعالى إنما ألزم المظاهر كفارة واحدة قبل المماسة، والزائد على ذلك التزمه المكلف فلا يغير ما قدره الشرع. ابن عبد السلام: وقد يقال: إن المكلف التزم ما بقي من الكفارة قبل المماسة، فيلزمه ما التزمه، ألا ترى أنه لو صرح فقال له: عليَّ أن أعتق رقبتين قبل أن أطأ لما جاز له الوطء إلا بعد عتقهما، فلعل هذا هو الذي فهم الشيخ أبو محمد من مراد المظاهر، وفهم غيره النذر المعلق، فكأنه قال: إن وطئتها فعليَّ كفارتان، وعلى هذا فيسئل المظاهر عن مراده، وتتفق القولان. قال: وينبغي ألا يشترط العدد فيما زاد على كفارة واحدة على مذهب القابسي. وقوله: (إِلا أَنْ يُعَلِّقَهَ بِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ) أي فتتكرر الكفارات بحسب ذلك، ولا ينوي كما لو قال: إن كلمت زيداً فأنت عليَّ كظهر أمي، وإن لبست الثوب فأنتِ عليَّ

كظهر أمي، واتفق على هذا إذا حنث ثانياً بعد أن أخرج الكفارة الأولى، وأما قبله فاختلف، فقال المخزومي وابن الماجشون: تجزئه كفارة واحدة. اللخمي: وظاهر المدونة عليه لكل يمين كفارة، ومثله إذا لم يكفر عن يمينه حتى أوقع الظهار مجرداً عن اليمين، فعلى قول المخزومي تجزيه كفارة، وقال محمد: عليه كفارتان، وإن كان الأول ظهاراً مجرداً من اليمين، فعلى الأول تجزيه كفارة، وعلى قول محمد عليه كفارتان، وفرق أصبغ في الظهارين إذا كان أحدهما بيمين والأخرى بغير يمين، فقال: إن قدم ما كان بيمين وحنث ثم أردف ظهاراً مجرداً فعليه كفارة واحدة، وإن كان بالعكس فكفارتان، وربما نوقش المصنف في عبارته، فقيل: إنه يدخل في هذا الاستثناء ما لو قال لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي إن كلمت زيداً، أو أكلت الرغيف، ولبست الثوب، ويلزمه ثلاث كفارات، ألا ترى أنه يصدق عليه أنه علقه بأشياء مختلفة، مع أنه لا يلزمه عند أهل العلم إلا كفارة واحدة، ويجاب عنه بأن هذا الاستثناء من قوله وإن كرره، والمثال المذكور لا تكرار فيه. فرع: ولو أخذ في كفارة الظهار قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، فليبتدئ الآن كفارة واحدة، وتجزئه، وقيل: بل يتم الأولى ويبتدئ في كفارة ثانية. محمد: وهو أحب إلي إذا كان لم يبقَ من الأولى إلا اليسير، وأما إن مضى يومان أو ثلاثة فليتم وتجزئه لهما جميعاً، وقال أشهب: سواء مضى أكثر الكفارة أو أقلها فإنه يجزئه أن يبتدئ الكفارة عن الظهارين إذا كانا نوعاً واحداً، مثل أن يقول: أنت عليَّ كظهر أمي، ثم يقول: وقد أخذ في الكفارة مثل ذلك، وكذلك لو كان الأول بيمين حنث فيها والثاني بغير يمين، قال: ولو كان الأول بغير يمين والثاني بيمين حنث فيها فليتم الأولى وليبتدئ كفارة ثانية للظهار الثاني.

وقوله: (بِخِلافِ الطَّلاقِ فِي التَّكْرِيرِ، وَإِنْ عَلَّقَهَ بِمُتَّحِدٍ)، فـ (إِنْ) من قوله بمعنى (أو)؛ لأنها للمبالغة، وقد تقدم الفرق بين الطلاق والظهار واليمين بالله في باب الأيمان. وَكَذَلِكَ لَوْ عَادَ ثُمَّ ظَاهَرَ لَزِمَ ولأجل الفرق بين التعليق بأشياء مختلفة، فتعدد، وبين التعليق بمتفقة فلا تتعدد، لو ظاهر ثم عاد ثم ظاهر أيضاً لزمته كفارة ثانية، ولو كان ظهاره ثانياً بما ظاهر به أولاً، كما لو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي إن دخلت الدار، وعاد ثم قال ثانياً: أنتِ عليَّ كظهر أمي إن دخلت الدار؛ لأن الأولى لما تقدرت بشرطها وهو العود صارت اليمين الثانية- وإن كانت بعين ما علقت به الأولى- مخالفةً للأولى، فصار ذلك بمنزلة ما لو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي إن كلمت زيداً، وأنتِ عليَّ كظهر أمي إن دخلت الدار. وَلَوْ ظَاهَرَ بِكَلِمَةٍ عَنْ أَرْبَعٍ أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةٌ؛ مِثْلُ: أَنْتُنَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ إِنْ تَزَوَّجْتُكُنَّ- بِخِلافِ مَنْ دخلت- فَهِيَ كَظَهْرِ أُمِّي ... يعني: لو قال: لزوجاته الأربع أنتن عليَّ كظهر أمي، أو قال لهن قبل أن يتزوجهن: إن تزوجتكن فأنتن عليَّ كظهر أمين لزمه الظهار في الأولى حين التكلم، وفي الثانية بشرطه، وتجزئه كفارة واحدة في الصورتين؛ لأن اليمين واحدة، وذكر ابن خويزمنداد أن عليه لكل واحدة كفارة، كالطلاق، إذا قال: أنتن طوالق. قال في المدونة: [382/ب] ومن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن عليَّ كظهر أمي، فتزوج واحدة لزمه الظهار، ولا يقربها حتى يكفر، فإن كفر وتزوج البواقي فلا شيء عليه فيهن، وإن لم يكفر ولم يطأ الأولى حتى ماتت أو فارقها سقطت عنه الكفارة، ثم إن تزوج البواقي لم يطأ واحدة منهن حتى يكفر؛ لأنه لم يحنث في يمينه بعد، وإنما يحنث بالوطء، ولو وطئ الأولى ثم ماتت أو طلقها أو لم يطلقها لزمته الكفارة، فإن تزوج البواقي فلا يقرب واحدة منهن حتى يكفر.

وما ذكره في المدونة من أنه إذا تزوج واحدة يحنث، هو جارٍ على أصل المشهور في التحنيث بالبعض، ويتخرج فيها قولاً آخر: أنه لا يحنث إلا بالجميع بناءً على القول بأنه لا يحنث إلا بجميع المحلوف عليه. وقوله: (بِخِلافِ مَنْ دخلت) أي فيلزمه لكل امرأة كفارة؛ لأنه علق عنها الظهار على كل واحدة بانفرادها؛ لأن (مَنْ) من ألفاظ العموم، وكـ (مَنْ) في لزوم الكفارة لكل واحدة (أيتكن) قاله في المدونة. الباجي: وأما إن قال: كل من دخلت الدار فهي عليَّ كظهر أمي، فظاهر المذهب أنه بمنزلة: من دخلت منكن الدار فهي عليَّ كظهر أمي، رواه ابن المواز في العتبية من رواية ابن القاسم: تجزئه كفارة واحدة، فيحتمل أن يريد بذلك أن حكم كل امرأة مخالف لمن تزوجت منكن، وأنه بمنزلة قوله: (إِنْ تَزَوَّجْتُكُنَّ)؛ ويحتمل أن يريد الباب كله واحد، لا يجب في ذلك إلا كفارة واحدة، وما قدمنا أولى. انتهى. وقد يقال: بل الثاني أقرب؛ لأن لفظة (كل) للعموم، و (من) دونها في العموم، فإذا تعددت الكفارة مع (من) وحدها، فأحرى مع (كل)، لاسيما وقد دخلت على (من)، وقد يقال: بل اقتضاء (من) التعدد، أولى من (كل)؛ لأن (من) إنما كانت من ألفاظ العموم لإبهامها واشتمالها على الآحاد بغير تخصيص؛ لا أن مقتضى صيغتها كـ (كل)، فإنها بوضعها للاستغراق، فكانت كاليمين على شيء واحد، ولهذا كان المشهور فيها إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي عليَّ كظهر أمي، أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، خلافاً لابن نافع، قال: وتتعدد أيضاً إذا قال: كل امرأة أتزوجها عليكِ، وقاله مالك في المختصر. السيوري: وهو الصواب. ولو قال: من أتزوج من النساء فهي عليَّ كظهر أمي، عليه كفارة واحدة، وانظر هل يتخرج على ما قاله اللخمي، فيما إذا قال: من دخلت منكن، قول بإجزاء كفارة واحدة. قال في الاستلحاق: وانظر لو قال: من تزوجت فهي علي كظهر أمي، ولم يقل من النساء، هل تجزئه واحدة؟

تنبيه: وقع في كلام ابن يونس أن (من) في قوله: (من تزوجت منكن)، أو (من تزوجتمن النساء) للتبعيض. عياض وغيره: وليس كذلك، بل لبيان الجنس بدليل لو قال: (كل من تزوجت فهي عليَّ كظهر أمي)، لكان كذلك، وإن لم يقل: من النساء. فرع: إذا قال لزوجاته: إن دخلتن الدار فأنتن عليَّ كظهر أمي، فدخلت واحدة، فذكر الباجي عن المذهب أنه مظاهر من الجميع، وهو جارٍ على أصل المذهب في الحنث بالبعض، ونقل اللخمي عن ابن القاسم أنه لا شيء عليه حتى يدخلن جميعهن، وعن أشهب أنه يحنث فيمن دخلت خاصة، ولا شيء عليه في غيرها. خليل: ولعله خرج ذلك على مسألة العتق الأول من المدونة، إذا قال لأمتيه: إن دخلتما هذه الدار فأنتما حرتان، فدخلتها واحدة، فإن فيها هذه الثلاثة الأقوال، ومذهب ابن القاسم أنهما لا يعتقان حتى يدخلا معاً، وانظر لم خالف أصله في التحنيث بالبعض. وَأَلْفَاظُهُ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ وَخَفِيَّةٌ، فَالصَّرِيحُ: مَا فِيهِ ظَهْرٌ مُؤَبَّدَةُ التَّحْرِيمِ؛ مِثْلُ: كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ عَمَّتِي .... كلامه ظاهر التصور، وتقسيمه هنا كتقسيمه في الطلاق، إلا أنه هنا مثل للخفية باسقني الماء، ولم يجعل ذلك من كناية الطلاق، وقوله: (فَالصَّرِيحُ: مَا فِيهِ ظَهْرٌ مُؤَبَّدَةُ التَّحْرِيمِ) لا خلاف فيه، والمشهور قصر الصريح على ما ذكره، وعن ابن الماجشون: التشبيه بالمحارم صريح سواء سمى الظهر أم لا، ونقل عنه أيضاً أن التشبيه بالمحرمة كيفما كان صريح، وأنه لا كناية عنده. ابن عبد السلام: وقول المصنف: (مَا فِيهِ ظَهْرٌ مُؤَبَّدَةُ التَّحْرِيمِ) أحسن من قول غيره: (ذات محرم) لشمول كلام المصنف المحرمة بالرضاع والصهر.

خليل: وفيه نظر فإن المحرم بسبب الرضاع أو الصهر يطلق عليه في الاصطلاح محرماً، وقد صرح في المدونة بذلك، فقال: فمن ظاهر من شيء من ذوات المحارم من نسب أو رضاع فهو ظهار، نعم كلام المصنف أعم من وجه آخر؛ لأنه يتناول الملاعنة، وليست محرمة؛ إذ المحرم من حرم نكاحها لحرمتها على التأبيد، فقولنا: (لحرمتها) احتراز من الملاعنة؛ لأن تحريمها ليس لحرمتها، بل لعارض. وقولنا: (على التأبيد)، احتراز من أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها. ومن رأى أن وطء الشبهة لا يحرم، كالشافعي يزيد في الحد بسبب مباح؛ لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة. وَفِي تَنْوِيَتِهِ ثَالِثُهَا: يُنَوَّى فِي الطَّلاقِ الثَّلاثِ لو ادعى في صريح الظهار أنه لم يرد الظهار، وإنما أراد الطلاق، فهل يقبل مه الطلاق، أم لا؟ المازري: والمشهور أنه لا يقبل ويكون ظهاراً، رواه ابن القاسم [383/أ] وأشهب عن مالك، زاد ابن المواز: ولا يلزمه الطلاق، ولو نوى: إنك بما أقول طالق، والقول بأنه ينوي في الطلاق سواء قصد الثلاث أو دونها لعيسى وسحنون، والقول الثالث: أنه ينوي إن قصد الطلاق الثلاث، ولا ينوي إن قصد دونها، لابن القاسم، وقيد اللخمي الخلاف بما إذا كان المتكلم عالماً بموجب الظهار، وقصد الطلاق، وأما إن قصد الطلاق وهو يجهل حكم الظهار، ويرى أنه طلاق فهو مظاهر، وفي مثله نزل القرآن؛ لأن الظهار كان عندهم طلاقاً، فأنزل الله فيه الكفارة. تنبيه: والمراد بعدم تصديقه في إرادة الطلاق على القول الأول إذا جاء مستفتياً، وكذلك قال أشهب، وهو أحد قولي ابن القاسم، ومذهب المدونة في تأويل الأبهري، روى عيسى وابن سحنون أنه يصدق، وهو مذهب المدونة على تأويل ابن رشد، وأما إن حضرته البينة فإنه يؤخذ بالظهار والطلاق معاً، أما الظهار فباللفظ، وأما الطلاق فلنيته. وإن نوى

الثلاث لزمه ذلك، ثم إذا تزوجها لا تحل له إلا بعد الكفارة، هكذا أشار إليه سحنون واللخمي وغيرهما، ونص عليه صاحب المقدمات، وشبه ذلك اللخمي بما قاله ابن القاسم في مسألة ناصح ومرزوق من عتقهما معاً إذا قامت عليه البينة، فإن قيل فيما زاده ابن المواز من عدم لزوم الطلاق ولو نوى: أنك بما أقول طالق، نظر؛ لأن قاعدة المذهب كما تقدم أن كل كلام ينوي به الطلاق أو الإيلاء- اللزوم على المعروف، فجوابه أنه منع هنا من ذلك كونه تعالى أنزل الكفارة فيمن قصد بالظهار الطلاق. وَالْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ: سُقُوطُ أَحَدِهِمَا مِثْلُ: كَأُمِّي، أَوْ ظَهْرِ فُلانَةَ الأَجْنَبِيَّةِ الضمير في (أَحَدِهِمَا) عائد على الظهر ومؤبدة التحريم، ولهذا قال: (كَأُمِّي، أَوْ ظَهْرِ فُلانَةَ الأَجْنَبِيَّةِ)؛ ليذكر مثال كل نوع من الكناية الظاهرة، ونص في الجواهر أنه يلحق بقوله: (كَأُمِّي) في كونه كناية ظاهرة، كما لو قال: أنت كفخذ أمي أو رأسها أو عضو من أعضائها. سحنون وابن العطار: وإن قال لزوجته: إن فعلت كذا فأنتِ كظهر فلانة الأجنبية، فتزوج الأجنبية، ثم فعل المحلوف عليه فلا شيء عليه؛ لأنها صارت حلالاً حين الحنث. قال في البيان: ويلزم على قياسه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنتِ عليَّ كظهر فلانة، لامرأة له أخرى، ثم طلق فلانة طلاقاً بائناً ثم دخل الدار، أنه يلزمه الظهار، وقال اللخمي: واختلف هل يراعى يوم اليمين أو يوم الحنث، ومراعاة اليمين أحسن؛ لأنه المقصود للحالف، إلا أن يلاحظ كونه يمينه على بر، هذا معنى كلامه، ولهذا اختاره في البيان، قال: وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم، في قول القائل: إن كلمت فلاناً فكل عبد في ملكي حر، أن اليمين إنما تلزمه فيمن كان عنده حين اليمين.

وَيُنْوَى فِي الطَّلاقِ أي: ينوي في الكناية الظاهرة بنوعيها، ويصدق فيما قصده منه، أما النوع الأول؛ أعني: إذا شبه بذوات المحارم، ولم يذكر الظهر فتنويته في الطلاق هو المشهور، وقال ابن الماجشون: هو ظاهر، ولا يصدق في دعوى الطلاق، وروى أشهب أنه طلاق إلا أن يسمى الظهر، وقال أشهب: لا يلزمه طلاق إلا أن يريد أنها طالق إذا فرغت من اللفظ، لا طالق بنفس اللفظ، وهو قول لا وجه له، وعلى المشهور إذا نوى الطلاق فهو البتات، ولا ينوي في دونها إلا أن تكون غير مدخول بها فينوي، وقال سحنون: ينوي في المدخول بها أيضاً. صاحب المقدمات: وهو أظهر؛ لأنه ليس من ألفاظ الطلاق، فوجب أن يوقف الأمر على ما نوى. وأما النوع الثاني: وهو إذا قال: أنتِ كظهر فلانة، الأجنبية، فما قاله من أنه ظهار إلا أن ينوي به الطلاق، يكون كما نوى، هو مذهب المدونة، ففيها: وإن قال: أنتِ عليَّ كظهر فلانة، أو مثل ظهر فلانة، لجارة له أجنبية، وهي ذات زوج أم لا، فهو مظاهر، وقال غيره: هو طلاق، ولا يكون مظاهراً، زاد ابن رشد وغيره في قول غيره: إلا أن يريد بقوله: مثل فلانة في هوانها، ينوي في ذلك ولا يلزمه شيء، قاله غير واحد، وغيره هنا هو ابن الماجشون، واختلف في محل خلافه، فقال بعضهم: إنما خلافه مع ابن القاسم؛ حيث لا نية، وأما لو نوى الظهار، فيتفق على لزوم ذلك، وذهب أكثر الشيوخ إلى أنه يخالف ابن القاسم مطلقاً، وأنه يلزم عنده الطلاق ولو نوى الظهار، وذكر لفظ الظهر. وصحح في المقدمات طريق الأكثر ابن يونس، وإذا بنينا على قول عبد الملك: أنه لا ينوي في إرادة الظهار؛ فإنه إذا قال: نونيت الظهار. يؤخذ بالبتات وبالظهار، إن تزوجها بعد زوج.

أَمَّا لَوْ قَصَدَ مِثْلَهَا فِي الْكَرَامَةِ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ هذا ظاهر في الأم؛ لأنها محل الإكرام، وأما الأجنبية؛ فينبغي أن يلزمه فيها الظهار أو الطلاق، على القولين السابقين، اللهم إلا أن [383/ب] يعلم أنه مكرم لها، ومذهبنا في التشبيه بالأم أنه محمول على الظهار إلا أن يقصد الكرامة، ومذهب الشافعي بالعكس. فرع: قال في المدونة، لو قال: يا أمه أو يا أخته أو يا عمته أو يا خالته، فلا شيء عليه، وهو من كلام أهل السفه. فَلَوْ أَسْقَطَهُمَا وَشَبَّهَ بِغَيْرِ مُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمُ، فَالْمَشْهُورُ: الْبَتَاتُ، وَثَالِثُهَا: ظِهَارٌ إِلا أَنْ يَنْوِي الطَّلاقَ، ورَابِعُهَا: عَكْسُهُ وَخامسها نفيهما الضمير في (أَسْقَطَهُمَا) عائد على الظهر ومؤبدة التحريم، ولما كان سقوطهما أعم من التشبيه بغير مؤبدة التحريم؛ لشمول ذلك الصور التي يذكرها المصنف إثر هذه، احتاج إلى أن يقول: (وَشَبَّهَ بِغَيْرِ مُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمُ، فَالْمَشْهُورُ: الْبَتَاتُ)؛ أي تطلق عليه ثلاثاً. (وَثَالِثُهَا) أي والقول بأنه ظهار وإن نوى به الطلاق، وهكذا ذكره ابن شاس وغيره، والقول بأنه طلاق وإن نوى به الظهار نسبه ابن يونس لابن الماجشون، قال: ولا يكون الظهار إلا في ذوات المحارم، والقول بأنه ظهار إلا أن ينوي به الطلاق لسحنون وأشهب، والقول بعكسه حكاه اللخمي وابن بشير وعزاه في الجواهر لعبد الملك، والقول الخامس بنفي الظهار والطلاق ليس بمنصوص بل خرجه اللخمي من قول مطرف إذا شبه بالذكور، فإنه قال: لا يكون ظهاراً ولا طلاقاً، ورده ابن بشير وغيره بأن الذكر لما لم يكن قابلاً للوطء مطلقاً أشبه الجماد، بخلاف الأجنبية، وفيه نظر، فإن عدم القبول شرعاً ليس بمقتضٍ لإلغاء هذا الكلام، فإن الأم لا تقبله بالنسبة إلى المظاهر.

تنبيه: وقيد المشهور بإلزام البتات بما إذا لم تكن له نية، أو قامت عليه بينة، وأما إن جاء مستفتياً فإنه يصدق في إرادة الظهار، وإذا ألزمناه الطلاق لقيام البينة فإنه يلزمه الظهار، وإن تزوجها لإقراره به، فإن قيل: هذه المسألة وما بعدها من أي الأقسام هي؟ فإنها ليست من صريح الظهار قطعاً، ولا من الكناية الخفية، والمصنف قد أخرجها من الكناية الظاهرة، قيل: هي مترددة بين الظاهرة والخفية، فلذلك ذكرها بينهما، والله أعلم. وَلَوْ شَبَّهَ بِظَهْرِ ذَكَرٍ مِثْلَ: كَظَهْرِ أَبِي أَوْ غُلامِي، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ظِهَارٌ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَيْسَ بِظِهَارٍ وَلا طَلاقٍ ... رأى ابن القاسم أنه لما شبه بمن يحرم وطؤه كان كما لو شبه بابنته، وبه قال أصبغ، وروى ابن حبيب أنه لا يكون ظهاراً؛ لأنه غير ما نزل به القرآن، ولا طلاقاً؛ لأنه لم ينوهِ، وهو قول مطرف، وقيل: هو طلاق، وكهذه المسألة لو قال: كظهر الدابة، فإنه يلزمه الظهار عند ابن القاسم، ولا يلزمه على قول مطرف. فَلَوْ قَالَ: كَابْنِي أَوْ غُلامِي، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ تَحْرِيمٌ لا إشكال على قول ابن حبيب: أنه لا يلزمه شيء، وإنما لم يلزمه عند ابن القاسم في هذه بخلاف التي قبلها؛ لأنه رأى أن ذكر الظهر قرينة في إرادة الظهار، وقوله: (تحريم) نحوه في الجواهر، وهو يقتضي الثلاث. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي، فَعَلَى مَا نَوَى مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَظِهَارٌ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: طَلاقٌ ... الضمير في (مِنْهُمَا) يدل على الظهار والطلاق؛ أي: إن نوى بذلك الظهار والطلاق، لزماه. قال في الجواهر: هذا إذا قدم الظهار في نيته، فإن نوى أحدهما لزمه ما

نواه فقط، وتبع المصنف هنا ابن شاس، وظاهر المدونة خلاف ما قالاه، ففيها: وإن قال لها: أنتِ حرام مثل أمي، فهو ظهار؛ لأنه جعل للحرام مخرجاً حين قال مثل أمي، قال غيره: لا تحرم به؛ لأن الله تعالى أنزل الكفارة في الظهار ولا يعقل من لفظ به شيئاً سوى التحريم، ثم قال بعد ذلك: وإن قال لها: أنتِ حرام مثل أمي، أو حرام كأمي، ولا نية له فهو مظاهر، وهذا لا اختلاف فيه. انتهى. فمقتضاه أن الكلام الأول مع النية، وأنه يلزمه به الظهار، وإن نوى به الطلاق، ويدل عليه قوله في الثانية: إن هذا مما لا اختلاف فيه، وقوله هذا أيضاً يدل على أن قول الغير في الأولى خلاف هذا. قال ابن عبد السلام: في معنى المدونة، وكذلك قال غيره: لا خلاف في إلزامه الظهار، والمشهور أنه لا يلزمه، وكلام عياض قريب منه، أعني أنه يدل على أن مذهب الكتاب أنه ظهار، ولو نوى به الطلاق، فإنه قال: وإن قرن بظهاره لفظ الحرام، فقال أنت حرام مثل أمي، ففي المدونة أنه ظهار، ومثله في العتبية، وقال مالك في الموازية: ما لم يرد به الطلاق. عبد الملك: في ذلك، وفي: أحرم من أمي؛ أنه ظهار، ولو نوى الطلاق، وقال محمد: هذا إذا سمى الظهر، فإن لم يسمه فيلزمه ما نوى، وفي كتاب الوقار في: حرام مثل أمي هو البتات، ويلزمه الظهار متى رجع، وفي سماع عيسى في: أحرم من أمي، أنه ثلاث، انتهى. ونقل ابن حارث عن ابن القاسم فيما إذا قال: حرام مثل أمي أنه طلاق إلا أن ينوي به الظهار، قيل: المشهور في أحرم من أمي أنه ظهار. تنبيه: أقام بعضهم من قوله في المدونة: كأنه جعل للحرام مخرجاً [384/أ] أن من قال: الأيمان تلزمه وامرأته طالق إن فعلت كذا، ثم فعله أنه إنما تلزمه طلقة واحدة، لأنه جعل للأيمان مخرجاً حين قال: وامرأته طالق.

فرع: قال ربيعة في المدونة: وإن قال أنت مثل كل شيء حرمه في الكتاب، فهو مظاهر، وقاله ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وقال ابن القاسم وابن نافع، بل هو البتات، لأن الكتاب حرَّم الخنزير والميتة وغيرهما، فيكون بمنزلة ما لو قال لزوجته: أنت عليَّ كالميتة، وصرح ابن أبي زمنين وغيره بأنقول ابن القاسم مخالف لربيعة، وفي تهذيب الطالب: الذي قال ابن القاسم وابن نافع صواب ظاهر، ويحتمل أن يكون غير مخالف لقول ربيعة، ويكون معنى قول ربيعة: أنها تحرم عليه بالثلاث، ثم إذا تزوجها كان عليه الظهار، ويكون ربيعة إنما تكلم على الوجه المشكل، وهو الظهار. ابن يونس: بعد ذكره القولين: والصواب عندي أنه يلزمه الظهار والطلاق ثلاثاً، وكأنه قال: أنت علي كأمي وكالميتة، ومعنى ما قاله ربيعة أنه أراد ما حرم الكتاب من النساء، ولو أراد غيرهن من تحريم المطعومات وغيرها لكانت الثلاث، قال بعضهم: إن قال أنت عليَّ مثل ما حرم الكتاب فهو الطلاق بالاتفاق، وإن قال كمثل شيء حرمه الكتاب فثلاثة أقوال، ظهار وبتات والأمران جميعاً. قال ابن شهاب في املدونة: ولو قال: كبعض من حرمه عليَّ من النساء، فهو مظاهر. قال ابن شعبان: وكذلك لو قال: كبعض من حرم القرآن، ولو قال: إن وطئتك وطئت أمي فلا شيء عليه. قال ابن القاسم: وكذلك إن قال لجاريته لا أعود لمسِّك حتى أمسَّ أمي فلا ظهار عليه. وَالْخِفية: مِثْلُ- اسْقِنِي مَاءً فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الظِّهَارَ وَقَعَ كَالطَّلاقِ تصوره ظاهر، وشبه ذلك بالطلاق إشارة منه إلى إجراء الخلاف الذي تقدم فيه هناك. ولا يسْقط الطَّلاقُ الثَّلاثُ ظِهَاراً تَقَدَّمَهُ أَوْ صَاحَبَهُ مِثْلُ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثاً وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ... يعني: إذا ظاهر من زوجته فعاد، أو لم يعد، ثم طلقها ثلاثاً، فإن ذلك الطلاق لا يسقط الظهار ظهاره، فإن تزوجها بعد زوج لزمه ذلك، ولم يكن له أن يطأها إلا بعد

الكفارة، لأن الظهار والطلاق مختلفان، وأثرهما مختلف، فلم يكن أحدهما مسقطاً للآخر. قوله: (أَوْ صَاحَبَهُ) مثاله ما ذكره المصنف، إن تزوجتك فأنت طالق ثلاثاً، وأنت علي كظهر أمي، واستغنى المصنف بما ذكره عن عكسه، وهو إذا قدّم الظهار على الطلاق، فقال: أنت علي كظهر أمي وطالق ثلاثاً، ويبين لك الاستغناء قوله في المدونة بعد ذكر المثالين: والذي قدم الظهار في لفظه أبين، واختلف في سبب وقوعهما، فقال ابن محرز: لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وقال اللخمي: لقرينة التعليق، فلزما جميعاً بالعقد، حتى لو قال ذلك في مجلسين، وبدأ بأيهما شاء، فإنهما يقعان بالعقد، وقول مالك: الذي قدم الظهار أبين، يريد لأن الواو ترتب عند بعضهم، فإذا قدم الظهار ارتفع النزاع. وَإِنَّمَا يَسْقطُ مُعَلَّقاً لَمْ يَتَنَجَّزْ أَوْ ظِهَاراً تَأَخَّرَ مِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثاً، وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ... مثاله: لو قال: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، ثم طلقها ثلاثاً، فإذا عادت العصمة إلى زوجها بعد زوج لم يلزمه لم يلزمه الظهار، وإذا حققت النظر لم تجد الطلاق أسقط الظهار لأنه لم يلزم ظهار، وإنما علقه في عصمة وقد زالت، وعادت بعصمة أخرى، وهذا لو كان إنما أبانها بدون الثلاث لعادت عليه اليمين ما بقي من العصمة الأولى شيء، قاله في المدونة وغيرها، وكذلك قوله: (أَوْ ظِهَاراً تَأَخَّرَ)، فإن الظهار هنا لم يلزم البتة، لأنها لما طلقها ثلاثاً لم تبق عصمته، ومثل المثال الذي ذكر المصنف في عدم اللزوم لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق، وأنت علي كظهر أمي، وأورد على ذلك ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طالق طالق، فإن المشهور لزوم الثلاث، وأجاب ابن أبي زيد وغيره بأن الطلاق لما كان من جنس واحد عُدَّ كأنه وقع في كلمة واحدة، ولا كذلك الطلاق والظهار، فإنه لا يمكن جمعهما في كلمة واحدة.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمي فَشَاءَتْ فَهُوَ مُظَاهِرٌ لأنه ظهار معلق على شرط، فكـ (إن دخلت الدار). ابن القاسم: وذلك بيدها ما لم توقف، قال في المدونة: وقال غيره هذا على اختلاف قول مالك في المملكة، هل ينقطع حقها بانقضاء المجلس أم لا؟ ابن يونس: ومذهب ابن القاسم في كل ما كان تفويضاً إليها من تمليك أو تخيير أو طلاق، أو ظهار، أو عتاق، أن ذلك بيدها، وإن قاما من المجلس، ما لم توقف، والغير يرى أن اختلاف قول مالك يدخل على ذلك، وفرق بعض القرويين على قول ابن القاسم، بين قوله: أنت طالق إن شئت، أو أمرك بيدك إن شئت، بأن الطلاق لا خيار فيه، سواء [384/ب] قال: إن شئت أو لم يقل، فأفاد بقوله (إِنْ شِئْتِ) التفويض إليها في ذلك، وأما الذي يقول: أمرك بيدك إن شئت، فسواء ذكر: إن شئت أو سكت عنه، قد فهم عنه أن مراده إن شاءت الطلاق، وزيادة إن شئت لا تؤثر شيئاً، ووجودها وعدمها سواء، فكأن الحكم إذ ذاك يختلف. ابن يونس: وهذا قول له وجه، لكن ظاهر قول ابن القاسم ما قدمناه، وقاله أيضاً بعض القرويين. وذكر عبد الحميد عن الشيخ أبي حفص وغيره من الشيوخ، أن كلَّ ما كان على جهة التفويض فذلك بيدها، وإن تفرقا، ولا يختلف القول في ذلك، وعن السيوري أنه لا يختلف في: إذا شئت، أو متى شئت أنه على التفويض، وأما إن شئت فهذا قد اختلف القول فيه، وذكر ابن حبيب عن ابن القاسم في إذا شئت، ومتى شئت أن لها ذلك بعد المجلس، ما لم توقف أو توطأ بخلاف إن شئت. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَزِمَهُ بِخِلافِ الطَّلاقِ لأَنَّ لَهُ مَخْرَجاً، وكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُهُ ... تصور المسألة واضح، وقوله: (لأَنَّ لَهُ مَخْرَجاً) أي بالكفارة، وهذا هو الفرق بين الطلاق والظهار، فإن الطلاق لو لزم مع العموم لحصل حرج، ولا يمكن رفعه، بخلاف

الظهار، فإن حرجه يزول بالكفارة، وقوله: (فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُهُ)، هو المشهور، ولمالك في المختصر: لكل امرأة كفارة، وقاله ابن نافع، فرأى في المشهور أنها يمين واحدة، ورأى في الشاذ أن كل لما كانت من صيغ العموم أشبهت ما لو قال لأربع نسوة: من دخلت منكن الدار فهي علي كظهر أمي. وَتَجِبُ الكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ، وَالْعَوْدُ فِي الْمُوَطَّأِ: الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ والإِمْسَاكِ مَعَاً، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: العزم عَلَى الْوَطْءِ خَاصَّةً ورُوِيَ: الإِمْسَاكُ خَاصَّةً، وَفِيهَا: وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ، وَرُوِيَ الْعَوْدُ: الْوَطْءُ نَفْسُهُ ... يعني: أن وجوب الكفارة مشروط بالعودة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ الموصول، دليل على الشرطية، كقولك: الذي يأتيني فله درهم، وإذا قلنا أنها لا تجب إلا بالعود فهل يجوز إخراجها قبلها؟ روى ابن سحنون عن أبيه في المظاهر يكفر بغير نية العود، وهو يريد أن يطلقها ويقول: إن راجعتها حلَّت لي بغير ظهار، لا يجزئه حتى ينوي العودة. قال: وهو قول أكثر أصحابنا. ابن رشد: وهو المشهور المعلوم. ونقل عبد الحق والباجي عن ابن عمران أن ابن القاسم لا يراعي العودة، وإنما يراعيها ابن الماجشون وسحنون، وأنكرت نسبة هذا القول لابن القاسم، وإنما أخذ له ذلك من قوله في الدونة، في مَن ظاهر من أمته وليس له غيرها لم يجزه الصوم، وأجزاه عتقها، لأن العودة إن كانت العزم على الوطء والإمساك فهي غير ممكنة مع العتق، وأجيب باحتمال أن يكون المظاهر عزم على وطئها وإمساكها أولاً، ثم سأل غيره عما يلزمه من الكفارة، فقيل له: يلزمك عتقها، ويحتمل أن يكون وطئ الأمة، فتكون الكفارة متحتمة عليه، ولأنه لا يلزم من عدم اشتراطها هنا لتعذرها، عدم اشتراطها مطلقاً، فإن قيل: هب أن الأخذ من قول ابن القاسم هذا لم يتم، لأن قول

سحنون أو ابنه أنه قول أكثر أصحابنا، يدل على أن الأقلين على خلاف ذلك، قيل لا دلالة في ذلك لاحتمال أن يراد بالأقل ما نقله ابن رشد عن ابن نافع أن الكفارة تصح مع استدامة العصمة، وإن لم ينو المصاب ولا أراده، وهو قريب من قول الشافعي أنَّ ترك الفراق بإثر الظهار هو العودة، لكن ذكر عياض أنه تأويل منه على ابن نافع، وأن يحيى بن عمر تأول قوله على أنه يرى أن العودة قصد الإمساك، وحكى بعضهم عن مالك قولاً مثل ما حكاه ابن رشد عن ابن نافع. وذكر المصنف في تفسير العودة أربعة أقوال، وكلها روايات عن مالك، وما نسبه المصنف للموطأ تبع فيه ابن شاس، وهو ظاهر، لقوله: أن يجمع على إمساكها وإصابتها محتمل للوجهين، وما نسبه المصنف للمدونة هو فهم اللخمي منها، وفهمها ابن رشد وعياض على ما نقله المصنف عن الموطأ، وصرحا بأنه المشهور، ولا يقال إذا كان مذهبه في المدونة محتمل، فلم تثبت الرواية بأن العودة العزم على الوطء خاصة، لأ، نقول الرواية ثابتة، نقلها ابن الجلاب وغيره. الباجي: وليس من شرط العزم على الإمساك الأبدية، بل لو عزم على إمساكها سنة، كان عازماً، واستضعفت الرواية بأن العود الوطء، لأن الله تعالى اشترط في الكفارة، أن تكون قبل المماسة، واعلم أن وجوبها على مذهب المدونة بالعزم خاصة مشروط ببقاء المرأة في عصمته، وإلا فلو عزم على وطئها ثم طلقها لسقطت الكفارة، وسيأتي ذلك. وذهب داوود الظاهري إلى أن العودة [385/أ] هو أن يعود إلى لفظ الظهار، وأعرب (ما) من قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} مصدرية، ورد بأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المظاهر أن يعيد لفظ الظهار، وأيضاً فالظهار محرم، فلا يؤمر بإعادته، ورد أيضاً قول الشافعي بأن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ} يقتضي وقوع أمر في زمان متأخر عن

الظهار من المظاهر، والشافعي يرى أن مجرد مضي الزمان موجب للكفارة، وعلى مذهبنا فيكون في الآية حذف مضاف؛ أي: ثم يعودون لنقيض ما قالوا، أو يكون التقدير: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه، أو يراه بما قالوا ما حرموه على أنفسهم؛ تنزيلاً للقول منزلة المقول، وما مصدرية أو موصولة أو نكرة موصوفة. وقوله: (وَفِيهَا: وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ) يحتمل أن يكون أتى بذلك استشكالاً؛ لأنه لما ذكر عن المدونة أنها تجب بالعزم على الوطء، ذكر هذا كالمخالف له، والظاهر أنه هنا لا إشكال في هذا؛ لأن الوجوب هنا يطلق لمعنيين؛ الأول: وجوب متحتم، والثاني: غير متحتم؛ فالمتحتم بعد الوطء؛ لأنها تجب سواء بقيت الزوجة في العصمة أم لا، وغير المتحتم إذا عاد بغير الوطء، فإنها إنما تجب بشرط بقاء العصمة، فقوله في المدونة: وإنما تجب الكفارة بالوطء، مراده الوجوب المتحتم، والله أعلم. فَلَوْ عَادَ بِغَيْرِ الْوَطْءِ ثُمَّ أَبَانَهَا أَوْ مَاتَتْ فَفِي سُقُوطِهَا قَوْلانِ السقوط مذهب المدونة، ففيها: ولو طلقها قبل أن يمسها وقد عمل في الكفارة لم يلزمه إتمامها، وقال ابن نافع: إن أتمها أجزأه، وإن أراد العودة قبل الطلاق، والقول باللزوم إذا عاد ثم طلقها أو ماتت لمالك وأصبغ، واختلف هل قول ابن نافع خلاف لقول المشهور، وأنه لو أتم على قول ابن القاسم لم يجزه، وإليه ذهب صاحب تهذيب الطالب، وصاحب البيان، أو هو وفاق وإليه مال اللخمي؟ والخلاف جارٍ في الصيام وغيره، ولابن الماجشون قول ثالث بالفرق بين أن يمضي من الكفارة أقلها، أو أكثرها. قال في البيان: وأما إن لم يتم كفارته حتى تزوجها فاتفق على أنه لا يبني على الصيام، واختلف هل يبني على الإطعام على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يبني بعد انقضاء العدة وإن تزوجها، وهو قول أشهب، والثاني: أنه يبني وإن لم يتزوجها وهو قول ابن عبد الحكم

وابن نافع، والثالث: أنه لا يبني إلا أن يتزوجها، وهو قول أصبغ، والرابع: الفرق بين أن يمضي منه أكثره أو أقله، وهو قول ابن الماجشون. تنبيه: ما ذكرناه من أن مذهب المدونة السقوط، إنما هو في الطلاق البائن أو في الرجعي، وانقضت العدة، وأما لو تم عدة الطلاق فإنه يجزئه باتفاق، قاله في تهذيب الطالب، قال في البيان: وقيل ذلك إن نوى ارتجاعها وعزم على الوطء؛ لأن الكفارة لا تصح إلا بعد العودة، وإن لم ينوِ فيكون كالطلاق البائن، واختلف إذا أراد أن يبتدئ الكفارة وهي في عدة الطلاق الرجعي، فلمالك في الموازية: يرتجع ثم يكفر، وقال أشهب: إن كفر قبل أن يرتجع، وقيل: إن تبين منه فذلك جائز، وقال ابن المعذل: لا تجزئه الكفارة قبل أن يرتجع؛ لأن الكفارة إنما هي بعد أن يعود إلى الإمساك وهي في العدة بائنة. أَمَّا لَوْ وَطِئ لَمْ تَسْقُطْ لأنها وجبت وجوباً متحتماً كما تقدم. وَلِذَلِكَ لَوْ ظَاهَرَ ثُمَّ وَطِئَ وَلَوْ نَاسِياً ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ كَفَّرَ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً، وَلَوْ ظَاهَرَ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ أَعَادَهَا لَمْ يُجْزِئه؛ لأَنَّهُ كَفَّرَ قَبْلَ الْوُجُوبِ .... أي: لأجل أنها لا تسقط بالوطء، ويحتمل لأجل ما ذكره من الفرق بين أن يعود بالوطء أو بغيره لو ظاهر ثم وطئها ولو ناسياً، ثم أبانها لزمته الكفارة ولم تسقط عنه؛ لأنها تحتمت بالوطء، وما ذكرناه من قولنا: (لزمته الكفارة) أحسن من قوله: (ثُمَّ كَفَّرَ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً) لأن قوله أجزأه يوهم أن له ألا يفعل، ولا يقال: هذا الوهم يزول بقوله أولاً: (أما لو وطئ لم تسقط) لاحتمال أن يخصص الكلام المتقدم بما إذا كانت باقية في العصمة، وما حكاه من الاتفاق صحيح باعتبار النصوص، وإلا فقد أشار ابن رشد وغيره إلى أنه يلزم

على القول بأن العود الوطء نفسه ألا تجب عليه الكفارة بأول وطء، بل له أن يطأ مرة، ثم لا يطأ حتى يكفر، فعلى هذا تكون الكفارة قد وجبت بالوطء المتقدم، ويكون الحكم فيها كالمسألة السابقة، وقوله: (وَلَوْ ظَاهَرَ ثُمَّ أَبَانَهَا ... إلخ)، ظاهر التصور. وَالْكَفَّارَةُ إِحْدَى ثَلاثٍ مُرَتَّبَةٌ: الْعِتْقُ، وَالصَّوْمُ، وَالِإطْعَامُ لا خلاف في ترتيبها، وأن العتق أولاً، ثم الصيام ثم الإطعام. وقوله: (إِحْدَى ثَلاثٍ)، يقتضي أن الكسوة لا تصح فيها، وهو المعروف، وفي النوادر: قال ابن القاسم في الأسدية فيمن كسا وأطعم عن كفارة واحدة: لا يجزئه، ووقع في المجالس: يجزئه، وأظنه قول مالك، وقال أشهب: لا يجزئه. الباجي: وفي الموازية فيمن ظاهر من أربع نسوة، وأطعم عن واحدة ستين وكسا عن أخرى ستين، [385/ب] ثم وجد العتق فعتق عن واحدة غير معينة، ولم يقدر على رقبة إلى أربعة فليطعم أو يكسي، ويجزئه. الشيخ أبو محمد: وانظر قول محمد في الكسوة ما أعرفه لغيره. الباجي: وهو يحتمل عندي وجهين، أحدهما: أنه من باب إخراج القيم في الكفارة، فتخرج الكسوة عن الطعام إذا كانت في مثل قيمته أو أكثر، وهل يجب على هذا ألا يراعي قدر الكسوة، والثاني: أنه رآها خصلة رابعة قياساً على كفارة الأيمان على رأي من صحح دخول القياس في الكفارة، وهذا معنى كلامه. وفي الأول بعدٌ؛ لأنَّا وإن قلنا بإخراج القيمة فلا نأمره بذلك ابتداء، وقوله في المسألة الثانية: فليطعم أو يكسي، يقتضي أنه مأمور بذلك ابتداء. فَيُجْزِئُ عِتْقُ مَنْ يُجْزِئُ فِي الصِّيَامِ والأَيْمَانِ، وَهِيَ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ غَيْرُ مُلَفَّقَةٍ مُحَرَّرَةٌ لَهُ سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ شَوَائِبِ الْعِتْقِ وَالْعِوَضِ .. إنما قال: (يُجْزِئُ عِتْقُ مَنْ يُجْزِئُ فِي الصِّيَامِ والأَيْمَانِ) وإن لم يتقدم ما يجزئ فيها؛ لأنه أراد إفادة الحكم في الجميع، ثم شرع المصنف في بيان ما يتعلق بالقيود أولاً فأولاً.

فَلَوْ عَتَقَ جَنِيناً عُتِقَ وَلَمْ يُجْزِئه هذا راجع إلى قوله: (رَقَبَةٌ)؛ لأن الجنين لا يسمى حين العتق رقبة، وإنما ألزمناه عتقه وإن كنا سيده إنما التزم عتقه على لا رجعة، ولم تحصل لتشوف الشرع إلى الحرية، وقصده به القربة. فَلَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْنِ مِنْ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يُجْزِئه هذا راجع إلى قوله: (غَيْرُ مُلَفَّقَةٍ)، ولم يجزئه ذلك؛ لأنه لا يصدق عليه رقبة، ولم يبين رحمه الله ما احترز عنه بالأيمان، ولعل ذلك لوضوحه. واعلم أن الكافر على ضربين: كتابي وغيره، فالكتابي إن كان كبيراً قد عقل دينه لم يجز باتفاق، وإن كان صغيراً لم يعقل دينه فقال اللخمي: قال ابن القاسم: يجزئه، وقال ابن وهب وأشهب: لا يجزئه، وقال أبو مصعب: فيمن ولد من النصارى مملوكاً للمسلمين فهو على فطرة الإسلام، وقال ابن حبيب: لا يجزئ من ولد في ملك الإسلام، وسيأتي الكلام على غيره. وَمِنْ وَاحِدَةٍ فِي دُفْعَتَيْنِ قَوْلانِ يعني: إذا كان له عبد فأعتق نصفه عن كفارة، ثم أعتق النصف الباقي عن تلك الكفارة، ففي سماع عيسى: يجزيه، وإن رفع إلى السلطان وجبره على التكميل، وقال ابن الماجشون وأصبغ: لا يجزئه. ابن عبد السلام: وهو ظاهر المدونة والأظهر لأن الحكم يوجب عليه التتميم، فملكه للباقي تام.

وَلَوْ أَعْتَقَ نِصْفاً، وَالْبَاقِي لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَكُمِّلَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِئه عَلَى الْمَشْهُورِ تصوره ظاهر، والمشهور هو نص التهذيب، ومقابله لابن القاسم أيضاً، والأقرب هنا وفي الفرع المتقدم عدم الإجزاء؛ لأن الحكم لما كان يوجب عليه تتميم الباقي صار ملكه له غير تام، وعلى القول بالسراية، فالأمر أظهر. وَلَوْ اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، أَوْ مَنْ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلَى شِرَائِهِ أَوْ مِلْكِهِ، أَوِ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ- لَمْ يُجْزِهِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مَنْ كَانَ لِلْغُرَمَاء مَنْعُهُ .... هذا راجع إلى قوله: (مُحَرَّرَةٌ) لأن الأول عتق بسبب القرابة، والثاني عتق بنفس الشراء، والثالث لغيره فيه شرك؛ لأنه يضع من ثمنه لأجل العتق، فكأنه لم يعتق رقبة كاملة، ويحسن أن يكون هذا مما يتعلق بقوله: (خالية عن العوض) ولا إشكال في الفرع الأول إن بنينا على المشهور أن القرابة تعتق بنفس الملك، وأما إن بنينا على افتقاره إلى الحكم فأعتق قبل الرفع إلى الحاكم، فقد يخرج فيها الخلاف من المسألة التي قبلها، وما ذكره في المعلق عتقه على شرائه من عدم الإجزاء نحوه في المدونة، وعطف الملك على الشراء؛ لأن الملك أعم؛ إذ قد يملكه بإرث أو هبة أو غيرهما، وفي الموازية عن ابن القاسم: الإجزاء فيمن قال: إن اشتريت فلاناً فهو حر عن ظهاري. ابن عبد السلام: وتردد الشيوخ هل هو خلاف للمدونة أو وفاق؟ ومال الباجي إلى الوفاق، قال: لأنه لم يتقدم بعقده عتق إلا للظهار، وتقدم له في الأولى عتق لازم بكل حال بتقدير الشراء. ابن يونس: وذكر عن أبي عمران أنه غمز المسألة إذا كان قد ظاهر قبل قوله: إن اشتريت فلاناً فهو حر عن ظهاري، من أجل أنه لا يستقر ملكه عليه، وعتق بنفس الشراء، قال: وأما إن لم يكن ظاهراً قبل ذلك لأجزأه ذلك، فكأنه قال: إن اشتريتك فأنت حر عن ظهاري، إن وقع مني ونويت العودة، وإن لم أنوِ العودة فلا تعتق عليَّ.

الباجي: وروى أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية في المرأة تعطي زوجها رقبة يعتقها عن ظهاره أو ثمنها إن كان ذلك بشرط العتق، لم يجزه، وإن كان بغير شرط العتق أجزأه؛ لأن هذا أيضاً شرط عليه عتقه لظهار من يملكه، فكأنه هو الذي أثبت فيه العتق دون المظاهر، بخلاف ما في الموازية، فإنه هو الذي أثبت فيه عتق الظهار. وعارض أبو إسحاق ما في المدونة من عدم الإجزاء في المشتري بشرط العتق بما لو أعتق أجنبي عنه، فإن مذهب المدونة الإجزاء، ووجه المعارضة: أنكم كما حكمتم بالإجزاء في مسألة الهبة مع أن الرقبة [386/أ] موهوبة للعتق، فكذلك إذا اشتراها بشرط العتق، وإلى هذا المعارض أشار اللخمي أيضاً، فقال: اختلف إذا اشترى عبداً بشرط العتق، يعتقه عن ظهاره، فقال مالك في المدونة: لا يشتري بشطر العتق؛ لأنها رقبة ليست بتامة؛ إذ يضع عنه من ثمنها، وقال ابن كنانة في شرح ابن مزين: إن كان جاهلاً لم يؤمر بالإعادة، وقال ابن القاسم: إن كان عالماً أن ذلك لا ينبغي لم يجزئه، وإن كان جاهلاً ولا وضيعة من ثمنها أجزأه، وإن كان فيه وضيعة لم يجزئه، وقال ابن القصار فيمن قال لرجل: أعتق عبدك عن كفارتي: أجزأه، وسواء كان بجعل جعله له؛ مثل أن يقول له: أعتقه عني ولك ألف، أو بغير جعل وهو أصوب على أصل ابن القاسم؛ لأنه إذا أجزأه وهو كله هبة بغير عوض، فأحرى إن كان بمعاوضة ولم يكن في الثمن وضيعة، وقوله: (وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ) هو اللخمي استثنى من عدم الإجزاء في القريب، ومن اشترى بشرط العتق إذا كان عليه دين، واذن له غرماؤه أن يشتريه فيعتقه، أو اشتراه بغير إذنهم فأذنوا له أن يعتقه، فقال هنا بالإجزاء؛ لأن الدين يمنع من عتقه، فإذا صح ألا يعتق ويباع للغرماء صح إذنهم في عقته عن الواجب. وَلَوْ فَعَلَ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ كَفَّارَةٍ لَمْ يُجْزِهِ كما لو صام ثلاثين يوماً، وأطعم ثلاثين مسكيناً وأعتق نصف عبد لا يملك غيره، وصام ثلاثين يوماً، ولا إشكال في هذا مع القدرة؛ لأنه يجب عليه ألا يفعل الصوم إلا

بعد عجزه عن العتق وأما مع العجز، فقال ابن عبد السلام: أشار بعض المتأخرين إلى أن قول مالك اختلف في الأصل الذي تبنى عليه هذه المسألة، وهو: هل المعتبر في الكفارة يوم الوجوب أو الأداء؟ وأشار غيره إلى حصول الاتفاق في هذه الصورة على عدم الإجزاء. ابن عبد السلام: وانظر إن لم يكن اتفاق صحة الجمع بين الثانية والثالثة، وأما الجمع بين الأولى والثانية فيعارض فيه شيء آخر، وهو أنَّا إذا منعنا من التلفيق بين نصفي رقبتين فأحرى أن يمنع من التلفيق بين نصف رقبة ونصف صوم وليس هذا التعارض بالقوي. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ ثَلاثاً عَنِ أَرْبَعٍ لَمْ يُجْزِهِ لأن العتق لا يبعَّض. وَلَوْ أَعْتَقَ أَرْبَعاً عَنْ أَرْبَعٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لهذه المسألة- أعني: إذا أعتق أربع رقبات ع نأربع نسوة- أربع صور. إن قصد التشريك في كل واحدة لم تجزه واحدة منهن، وهي كالتي قبلها، وإن قصد كل واحدة عن واحدة أجزأه. واختلف إذا أطلق ولم يعين ولا شرك، فقال ابن القاسم: تجزئه، واختلف فيها قول أشهب. اللخمي: والإجزاء أحسن. فقول المصنف: (وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ) هو على قول ابن القاسم. وَلَوْ أَعْتَقَ ثَلاثاً عَنْ ثَلاثٍ مِنْهُنَّ وَلَمْ يُعَيِّنْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لَمْ يَطَا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يُكَفِّرَ عَنِ الرَّابِعَةِ، وَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ أَوْ طَلَّقَهَا ... هذا الفرع مبني على قول ابن القاسم وأحد قولي أشهب، وأما على قول أشهب بعدم الإجزاء فلا يجزيه من الثلاثة، وقوله: (لَمْ يَطَا وَاحِدَةً)؛ لأنه بمنزلة ما لو اختلطت ذات محرم بثلاث نسوة أجنبيات، أو ميتة بثلاث ذكيات، ولم تعلم، وقوله: (وَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ أَوْ طَلَّقَهَا) مبالغة؛ أي لا يطأ واحدة، ولو ماتت منهن واحدة أو طلقها، بل وكذلك اثنان وثلاث، فلا يطأ الباقية حتى يكفر لاحتمال أن تكون هي التي لم يكفر عنها.

وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إِلا أَنْ يَنْوِيَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَدَداً فَيُكَمِّلُ لِلأُخْرَى يعني: فلو صام ثمانية اشهر، ولم يعين لكل واحدة شهرين أجزأه، ولو صام ستة عن ثلاث ولم يعين، لم يطأ واحدة منهن حتى يكفر عن الرابعة، وقوله: (إِلا أَنْ يَنْوِيَ)؛ يعني إذا صام الأربع دون ثمانية اشهر وقد عين لكل واحدة عدداً، فإنه يبطل ما صام للأولى والثانية؛ لعدم التتابع، ويكمل للأخيرة، فإن نوى للأخيرة عشرة أيام بنى عليها، أو عشرين بنى عليها، ومثل هذا أيضاً لو صام ثمانية أشهر إلا أنه صامهن يوماً يوماً أو أكثر فإنه يبني على يوم واحد. وَلَوْ أَطْعَمَ مِئَةً وَثَمَانِينَ عَنْ أَرْبَعٍ أَجْزَأَهُ عَنْ ثَلاثٍ فيه حذف مضاف؛ أي مقدر ثلاث، وليس المراد أن يجزيه عن ثلاث مستقلة؛ لقوله: فَإِنْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ سَقَطَ حَظُّ الْمَيِّتَةِ إِلا أَنْ يَنْوِيَ تَشْرِيكَهُنَّ فِي كُلِّ مِسْكِينٍ فَلا يُجْزِئُهُ عَنْ شَيْءٍ .... قوله: (سَقَطَ حَظُّ الْمَيِّتَةِ)؛ أي ربع المائة والثمانين، وهو خمسة وأربعون، ولا يطأ واحدة من الثلاث، إلا بعد أن يخرج عن كل واحدة منهن كمال كفارتها خمسة عشر مسكيناً، وقال المصنف: (سَقَطَ حَظُّ الْمَيِّتَةِ)، ولم يقل: سقط خمسة وأربعون؛ ليشمل ما إذا نوى لكل واحدة عدداً، أو نوى للميتة أكثر منهن، فإنه يسقط ما نواه لها. أما إن جعل لأحد الكفارات عدداً أكثر من الأخرى ولم يعين، فإنه يجعل للميتة الأكثر، وقوله: (إلا أن ينوي تشريكهن في كل مسكين فلا يجزئه عن شيء) هذا إذا لم تعرف أعيان المساكين، ولو عرفت [386/ب] لنظر إلى ما يقع لكل واحد منهم فيكمل له تمام المد. أَوْ يَنْوي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَدَداً فَيَجُوزُ مِثْلُ عَدَدِ الْمَيِّتَةِ ابن راشد: فإذا أخرج مائة وثمانين عن أربع، فينوي لفلانة ستين ولفلانة ستين ولفلانة عشرة ولفلانة خمسين، فماتت التي نوى لها ستين، فيخرج ستين، وإن ماتت التي نوى لها

الخمسين أخرج خمسين، وإن ماتت التي نوى لها عشرة أخرج عشرة؛ إذ بها تكمل الثلاث كفارات، وفي كلامه إضمار؛ أي: فيجوز أن يخرج مثل عدد الميتة. وَالْعُيُوبُ: ثَلاثَةٌ: مَا يَمْنَعُ كَمَالَ الْكَسْبِ وَيُشِينُ؛ كَالقَطْعِ، وَالعَمَى، والبُكْمُ، والْجُنُونُ، والهرِمُ الْعَاجِزِ، وَالْمَرَضُ الَّذِي لا يُرْجَى بُرْؤُهُ- فَلا يُجْزِئُ ... هذا راجع إلى قوله: (سليمة)، وقسم المصنف العيوب إلى ثلاثة أقسام، وقسمها اللخمي إلى خمسة أقسام، وطريق المصنف أحسن؛ لأنها أخصر مع جمعها لما قاله اللخمي، وقوله: (مَا يَمْنَعُ)، خبر ابتداء؛ أي في الأول ما يمنع كمال الكسب ويشين فلا يجزئ، ومثل له المصنف بالقطع، وسواء كان مقطوع اليدين أو إحداهما أو أحد الرجلين، وكذلك الشلل والفلج. وقوله: (وَالعَمَى)، ظاهر، وقوله: (والبُكْمُ) هو بيِّن إن كان أصم كما هو غالب أحوال البكم. ابن عبد السلام: وإن لم يكن أصم فينبغي أن يجري فيه الخلاف اليذ في الأصم، وأما المجنون إن كان مطبقاً أو في أكثر الزمان، فلا يجزئ، وإن كان أقل الأزمنة، فقال مالك وابن القاسم: لا يجزئ، وقال أشهب: إن جن في كل شهر مرة أجزأ. الثَّانِي: مَا لا يَمْنَعُ كَمَالَ الْكَسْبِ ولا يُشِينُ؛ كَالْمَرَضِ الْخَفِيفِ، والْعَرَجِ الْخَفِيفِ، وَالأَنْمُلَةِ- فَيُجْزِئُ .... وكذلك الجدع في الأذن وذهاب بعض الأسنان والصمم الخفيف، قاله اللخمي. وقوله: (وَالأَنْمُلَةِ) إن كانت من غير الإبهام فبين، وأما أنملة الإبهام فإنها تمنع كثيراً من الصنائع.

الثَّالِثُ: مَا يُشِينُ وَلا يَمْنَعُ كَمَالَ الْكَسْبِ؛ كَاصْطِلامِ الأُذُنِ، وَالصَّمَمِ، وَالْعَوَرِ، وَالْمَرَضِ الْكَثِيرِ الْمَرْجُوِّ، وَالْبَرَصِ الْخَفِيفِ، والْعَرَجِ الْبَيِّنِ، والْخِصَاءِ والأُصْبُعِ- فَقَوْلانِ ... بناءً على اعتبار الشين أو الكسب، وقوله: (كَاصْطِلامِ الأُذُنِ) كلامه في التهذيب يدل على إجزاء المصطلم الأذن الواحدة؛ لقوله: (ويجزئ الجدع الخفيف كجدع الأذن)، ولكن انتقدت عليه هذه اللفظة، فقيل: إنما في المدونة: كجدع في الأذن؛ وهو يدل على أن الجدع لم يوعب الأذن، والقول بالإجزاء في مصطلم الأذن لأشهب، ونص في المدونة على أن مقطوع الأذن لا يجزئ، ومذهب المدونة أن الأصم لا يجزئ، وقال أشهب: يجزئ. والمشهور إجزاء الأعور، وفي الموازية: لا يجزئ، وهو قول عبد الملك، وأما المرض الكثير المرجو، فقال محمد: يجزئ ما لم ينازع؛ وقاله عبد الملك، واستقرأ اللخمي من قول الغير في المدونة في الأبرص: يجزئ إذا كان خفيفاً ولم يكن ممرضاً، عدم الإجزاء في المرض البين. وأما البرص الخفيف فقال ابن القاسم في الجذام والبرص: لا يجزئ جملة. اللخمي: ولم يفرق بين قليله ولا كثيره. وقال أشهب في البرص الخفيف: يجزئ، وأما الخصاء، فقال اللخمي فيه ثلاثة أقوال: كرهه في المدونة، وقال أيضاً: لا يجزئ، وقال أشهب يجزئ، وأما الأصبع فالمشهور عدم الإجزاء، وقال ابن الماجشون: يجزئ، وإن كانت الإبهام. اللخمي: وليس بالبيِّن، ولو كانت الخنصر وما والاه رأيته أن يجزئ. ويُجْزِئُ عِتْقُ الرَّضِيعِ، والأَعْجَمِيِّ بِخِلافِ الْجَنِينِ، وَمَنْ عَقَلَ الصَّلاةَ والصِّيَامَ أَوْلَى هكذا في المدونة، لكنه اشترط في عتق الرضيع والأعجمي أن يكون ذلك لقصد النفقة. أبو عمران: وهو على استحباب، وأما الإجزاء فإنه يجزئ وإن كان مع سعة النفقة.

ابن عبد السلام: وقيل: إنه شرط، فينتفي الإجزاء بانتفائه، والأول أولى؛ لأنه لا يعلم شيء من مسائل هذا الباب، وما يقرب منه كالضمان والهدايا يجزئ الفقير ولا يجزئ الغني. فرع: فإن عتق الرضيع في كفارة واحدة؛ فكبر أخرس أو أصم أو مقعداً أو مطبقاً، فقال أصبغ في العتبية: ليس عليه البدل، وكذلك لو ابتاعه فكبر على هذا الاحتمال حدوثه، وأما الأعجمي، والمراد به الكافر الذي ليس بكتابي، فنص في المدونة على الإجزاء، كما ذكرنا، ففسره سحنون وابن اللباد وابن أبي زمنين وغيرهم بأن يكون دخل في الإسلام اعتماداً على ما وقع في النذور من قوله: (والأعجمي الذي قد أجاب) واختصار ابن أبي زيد يخالف هؤلاء؛ لأنه قال في اختصاره لما في الظهار: ويجزئ عتق الأعجمي الذي يجبر على الإسلام، وإن لم يسلم، وكذلك قال في الموازية، وعلل ذلك بأنهم على دين من اشتراهم، قال: وقال أشهب: لا يجزئ حتى يجيب إلى الإسلام. وهل الخلاف في الصغير كالكبير؟ أو إنما هذا الخلاف إنما هو في الكبير وأما الصغير يشترى مفرداً عن أبويه فلا خلاف أنه يجزئ طريقان، وتعميم الخلاف أولى؛ لأنهم أشاروا إلى أن الخلاف في الإجزاء مبني على الخلاف في جبرهم، وفي ذلك ثلاثة أقوال، ثالثها: يجبر الصغار دون الكبار وعلى ما في المدونة، فقال بعض أصحابنا ينبغي [387/أ] أن يوقف عن امرأته حتى يسلم هذا الأعجمي، وإن مات قبل أن يسلم لم يجزه، وقال ابن يونس: بل له وطء زوجته حين أعتقه، ولو مات قبل أن يسلم أجزأه؛ لأنه على هذا القول على دين من اشتراه، ولما كان يجبر على الإسلام ولا يأباه في الغالب حمل عليه. وَيُجْزِئُ الْمَغْصُوبِ أي: يجزئ المظاهر أن يعتق عبده المغصوب عن كفارته، سواء قدر على تخليصه أم لا؛ لأن ملكه باقٍ عليه، فقد أخرج رقبة من الرق.

وَلا يُجْزِئُ الْمُنْقَطِعُ الْخَبَرِ عدل المصنف عن أن يقول كغيره: (الآبق المنقطع الخبر) إلى ما ذكره؛ لأنه يشمل الآبق وغيره، فكان أكثر فائدة، ولا يجزئ المنقطع الخبر؛ لأنه لا يدري أموجود هو أم معدوم، صحيح أم معيب، وعدم الإجزاء مقيد بما إذا لم تعلم سلامته بعد ذلك، نص عليه في المدونة آخر الضوال والإباق. ومن عتق عبداً آبقاً عن ظهاره لم يجزه؛ إذ لا يدري أحي هو أم ميت أم معيب أم سقيم، إلا أن يعرف في الوقت موضعه وسلامته من العيوب، فيجزئه، أو يعلم ذلك بعد العتق فيجزيه وإن جهله أولاً. انتهى. واشترط ابن حبيب وغيره أن تعلم سلامته. وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْمَرْهُونِ والْجَانِي إِنْ نفذ لأن كل واحد من المرهون والجاني باقٍ على الملكية، لكنه قد تعلق به حق الغير، فإن أنفذ ذلك الغير العتق بأن أسقط حقه أو أعطى حقه نفذ العتق وأجزأه، وهو معنى (إِنْ نفذ)؛ أي معنى نفذ العتق وفي نسخة أخرى: (إن فديا)؛ أي استوفى المرتهن والمجني عليه حقه. ولا يُجْزِئُ مُكَاتَبٌ، ولا مُدَبَّرٌ، وَلا مُعْتَقٌ إِلَى أَجَلٍ، وَلا مُسْتَوْلَدَةٍ هذا راجع إلى قوله: (خالية من شوائب العتق)، وتصور كلامه ظاهر، وينبغي أن يجري المكاتب إذا رضي هو وسيده بتعجيزه، وفسخ الكتابة إذا لم يكن للمكاتب مال ظاهر، فإن لهما التعجيز حينئذٍ على ظاهر المدونة، قاله ابن عبد السلام. فَلَوْ اشْتَرَى مُكَاتَباً أَوْ مُدَبَّراً فَأَعْتَقَهُ فَكَالْجَانِي يعني: أن اشتراءه لهما يفسخ ما لم يتصل بعتق، فهل يفسخ أيضاً ويرد العتق؛ لأنه مرتب على ممنوع، أو لا ويمضي العتق ويجزئ؛ لأنا إنما نفسخه لتعلق حقه بالحرية، وقد

حصلت ناجزاً؟ قولان. وحكى اللخمي ثالثاً: أن عتقهما ماضٍ ولا يجزيان؛ لأنه عتق مختلف فيه، فيمضي ولا تبرأ الذمة بمختلف فيه، وعلى هذا فيكون المصنف شبه المكاتب والمدبر على القول بالفسخ بما إذا لم يفتدِ الجاني، وشبههما على القول بصحة عتقهما بما إذا افتديا. وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى دِينَارٍ لَمْ يُجْزِهِ لأنه عتق لم يخلُ عن شوائب العوض، وهذا بشرط أن يكون الدينار في ذمة العبد، وأما إذا كان في يده فيجزيه، قال في المدونة: إذ له انتزاعه، وتقدير كلام المصنف: ولو أعتق السيد عبده عن ظهاره على أن يكون على العبد دينار لم يجزه، ويحتمل أن يردي ما قاله في المدونة، فيمن أعتق عبده عن رجل عن ظهاره على جعل جعله له، قال: فالولاء للمعتق عنه، وعليه الجعل، ولا يجزيه عن ظهاره، كمن اشترى رقبة بشرط العتق، فإن أراد هذا الوجه الأخير فما ذكره فيه من عدم الإجزاء هو المشهور، وحكى ابن القصار جوازه. وَفِي إِجْزَاءِ مَا عَتَقَ عَنْهُ غَيْرُهُ فَبَلَغَهُ فَرَضِيَ بِهِ. ثَالِثُهَا: إِنْ أَذِنَ لَهُ أَجْزَأَهُ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ ... قد تقدم غير ما مرة أن قاعدة المصنف أن يجعل صدر القول الثالث دليلاً على الأول، وعجزه دليلاً على الثاني، وقاعدته أيضاً إذا ذكر أقوالاً وقائلين أن يرد الأول للأول، والثاني للثاني، وعلى هذا فيكون ابن القاسم هو القائل- أي في المدونة- بالإجزاء مطلقاً، وأشهب بنفيه مطلقاً، وعبد الملك بالتفرقة، إن أذن له أجزأه وإلا فلا، وبنى ابن بشير الأولين على أن العتق هل يفتقر إلى نية أو لا، وتفرقة عبد الملك ظاهرة؛ لأنه إذا أذن له فالمعتق إنما عتقه عنه بطريق النيابة، واحترز المصنف بقوله: (وَرَضِيَ بِهِ) لما لو لم يرضَ فإنه لا يجزيه باتفاق، واختلف في محل هذه الأقوال، فذهب اللخمي والأكثر إلى أن محلها إذا وجبت الكفارة بالوطء أو بالعودة، وأما لو لم تجب فلا يجزئ العتق

باتفاق، وذهب أبو عمران إلى أن العتق يجزئ على قول ابن القاسم، وإن لم ينوِ العودة، بناءً على أن ابن القاسم لم يشترطها، وقد قدمنا أنه قد أنكرت هذه النسبة لابن القاسم. الصِّيَامُ: وَشَرْطُهُ الْعَجْزُ عَنِ الْعِتْقِ وَقْتَ الأَدَاءِ، وَقِيلَ: وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجاً إِلَى مَا بيَدِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ دَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لِمَنْصِبِهِ أَوْ مَرَضِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا لما انقضى كلامه على العتق شرع في الصيام، ولا خلاف أن من شرطه العجز عن العتق، وهل وقت الأداء- أي: إخراج الكفارة- وهو مذهب المدونة، أو الوجوب- أي وقت العود- ما تقدم، وهو ظاهر ما وقع لابن القاسم في الموازية؛ لأنه قال في المظاهر الموسر إذا لم يعتق حتى أعدم، فصام ثم أيسر: أنه يعتق، وجعله اللخمي خلافاً للأول، كالمصنف على ظاهره، وتأوله الباجي على الاستحباب، قال: لأن المؤدي لما عليه إنما ينظر لحاله يوم الأداء دون الوجوب [387/ب] كمن ضيع الصلاة، وهو قادر على القيام فأراد أن يقضيها حال عجزه عنه، فإنه يؤديها جالساً ثم لا يلزمه قضاؤها إن قدر على القيام، أو فرط في الصلاة مع إمكان أدائها بالماء، ثم قضاها بالتيمم لعدم الماء، فإنه لا يلزمه قضاؤها ثانياً عند وجود الماء. الباجي: ويحتمل أن يريد أنه لما وجب عليه العتق تعلقت الرقبة بذمته، فلما أعسر قبل العتق أمر بالصيام؛ لأنه أبلغ ما يمكنه، بشرط إن أيسر بالرقبة التي تعلقت بذمته كان عليه إخراجها، وحكم الأموال في ذلك غير حكم الأعمال، والأول أظهر. وقال بعض القرويين: إنما ذلك لمن وطئ فلزمته الكفارة بالعتق ليسره، فلم يكفر حتى أعسر بصيام، وأما إن لم يطأ حتى أعسر فصام، ثم أيسر فلا يؤمر بالعتق. وقوله: (وَإِنْ كَانَ .. إلخ)؛ يعني أنه غذا ملك رقبة لم يكن له الانتقال إلى الصوم وإن كان محتاجاً إلى ما بيده من عبد أو غيره لمرض أو منصب أو غيرهما، فإن قيل: فما الفرق بين هذا وعادم الماء، فإنه يجوز له أن يتيمم إذا كان محتاجاً لنفقة ما يشتريه به، والله سبحانه

لم يُجِز التيمم إلا عند عدم الماء، كما لم يُجِز الصيام هنا إلا عند العجز عن العتق، قيل: لأن المظاهر لما أدخل الظهار على نفسه شدد عليه، ولأنه أتى بالمنكر والزور، ولتكرار الوضوء، ولأن الحكم في الظهار معلق على عدم الوجود المطلق، بخلافه في التيمم، فإنه معلق على عدم الوجود المقيد، وهو وجدان ماء لا حرج فيه؛ لقوله تعالى في الآية: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. فَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِتْقُ، وَفِي الْيَوْمَيْنِ قَوْلانِ، وَفِيهَا: حَسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا لَوْ صَامَ يَوْماً فِي الْحَجِّ ثُمَّ وَجَدَ هَدْياً يعني: إذا صام لإعساره ثم أيسر، فإن صام ما له قدر كالربع والثلث ونحوهما، تمادى على صومه ولم يلزمه العتق، وإن كان إنما صام اليومين ونحوهما، فروى زياد بن جعفر عن مالك: يرجع إلى العتق، وروى ابن عبد الحكم: يتمادى، وقال ابن شعبان: إذا صام يوماً ثم أفاد مالاً مضى ويجزيه العتق أحب إليَّ، وجعلوا هذا القول موافقاً لرواية ابن عبد الحكم، والقولان يتجاذبهما أصلان؛ وهما: طروء الماء على المتيمم بعد تلبسه بالصلاة، وطروء الحيض على المعتدة بالأشهر، والشبه بالتيمم أقوى؛ للاتفاق أن اليسر إذا حدث بعد صوم كثير أنه يتمادى، ولو كان كالحيض لزم أن ينتقل إليه ولو بقي منه يوم واحد، وقوله: (وَفِيهَا: حَسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ)؛ أي حسن أن يرجع في اليومين ونحوهما إلى العتق، هكذا نص في المدونة، ولعله أتى بما فيها استشهاداً للقول بعدم الرجوع إلى العتق، ولا يقال إنما أتى بمذهب المدونة؛ لأنه مخالف للقولين، لأن على رواية ابن عبد الحكم يستحب أيضاً الرجوع، ألا ترى أنهم جعلوا قول ابن شعبان موافقاً لرواية ابن عبد الحكم، وقد نص ابن شعبان على استحباب الرجوع في اليوم إلى العتق كما تقدم.

أَمَّا لَوْ أَفْسَدَهُ بَعْدَ يُسْرِهِ وَجَبَ الْعِتْقُ يعني: لو أفسد الصوم بعد أن أيسر وجب العتق. ابن القاسم: ولو لم يبق من صيامه إلا يوم واحد، ووجهه أن المعتبر في حال المكفر إنما هو يوم الأداء. وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَةٍ لا يَمْلِكُ غَيْرَهَا أَجْزَأَتْهُ عَلَى الأَصَحِّ؛ لأنه لا يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ اتِّفَاقاً ... تصور المسألة من كلامه ظاهر، والأصح مذهب المدونة، وعليه فإن تزوجها بعد العتقن حلت له من غير كفارة، ومقابل الأصح ليس بمنصوص، وإنما خرجه اللخمي على القول بأن من شرط الكفارة أن تكون المرأة تستباح إصابتها، وأن الكفارة تسقط عند بينونة المرأة منه، قال: لأن عتقها خلاف العزم على الإصابة، وأشار إلى أن الإجزاء إنما يأتي على القول بأن الكفارة لا تسقط بإبانتها، وقد تقدم أن بعضهم أخذ من هذه المسألة أن ابن القاسم لا يشترط في وجوب الكفارة وجود العود، والرد عليه، وانظر كيف جعل اللخمي أن عتق هذه الأمة إنما يجزئ على القول بأن الكفارة لا تسقط بإبانتها، مع أنه مذهب المدونة، وقد نص فيها على إجزاء العتق في هذه المسألة، والظاهر أن العودة بالعزم على الوطء والإمساك في هذه الأمة؛ لأنه إذا عزم على وطئها وجبت عليه الكفارة، فإذا أعتقها زال عنه الظهار وحرم عليه فرجها إلا بتزويج، وهكذا قال أبو عمران، فإن قيل: كيف يختلف في إجزاء العتق، مع أنه لا ينتقل إلى الصوم بالاتفاق فيما يفعل على مقابل الأصح، قيل: الأمة لا حق لها في الوطء، فإن شاء السيد أمسكها ولا يستمتع بها حتى يوسر، وإن شاء باعها.

وَلَوْ تَكَلَّفَ الْمُعْسِرُ الْعِتْقَ جَازَ أي: تداين واشترى رقبة وأعتقها جاز، ولو قال: أجزأ، لكان أحسن، ومثل هذه المسألة إذا تكلف من فرضه التيمم الغسلن أو تكلف من فرضه في الصلاة الجلوس القيام، وقد تقدم التنبيه على ذلك أول هذا الكتاب. وَمَنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ حُرٍّ فَطَالَبَتْهُ امْرَأَتُهُ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، فَإِنْ لَمْ تُطَالِبْهُ صَبَرَ ... لأنه إذا كان يعتق عليه [388/أ] كل من يملكه، صار عاجزاً عن العتق، وهذا مبني على المشهور من لزوم العتق المعلق على الملك، وأما على الشاذ فلا؛ لأنه لا تلزمه اليمين، ولو قيل بلزوم العتق والصوم للاحتياط ما بَعُدَ. وَالْعَبْدُ- كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ- لا يَصِحُّ مِنْهُ الإِعْتَاقُ إِذْ لا وَلاءَ لَهُ قوله: (أَوْ بَعْضُهُ) يحتمل أن يريد به المعتق بعضه، ويكون قصد التنبيه على أنه لا فرق فيمن فيه بقية الرق بين أن يكون كاملاً أو مبعضاً، فيؤخذ من كلامه الحكم في المدبر والمعتق إلى أجل بالالتزام، ويحتمل أن يريد كل من فيه شائبة الحرية، فيدخل المعتق بعضه والمكاتب والمدبر والمعتق إلى أجل، ويؤيد الأول اصطلاح الفقهاء، ويؤيد الثاني أن كلاًّ من هؤلاء لا ولاء له، والأول أظهر. وَفِيهَا: وَفَرْضُهُ الصَّوْمُ إِنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَإِلا فَالإِطْعَامُ إِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِلا انْتَظَرَ ... قوله: (إِنْ قَوِيَ عَلَيْهِ)؛ أي من غير مضرة تلحق السيد، وأما مع المضرة فسيأتي. وقوله: (وَإِلا فَالإِطْعَامُ)؛ أي وإن لم يقوَ على الصوم، فإنه يطعم إن أذن له السيد على المشهور، وقال عبد الملك: لا يجزئه الإطعام، ولو أذن له السيد؛ لأن للسيد الرجوع قبل

أن يصرفه للمساكين، وفيه بُعد لأن العبد مالك حتى ينتزعه السيد، ولو سلمنا أنه ملك مترقب، لم يكن للسيد الرجوع بعد الإذن؛ لما تعلق للعبد من الحق، قاله اللخمي. وَفِي جَوَازِ مَنْعِ السَّيِّدِ لَهُ الصَّوْمَ- إِنْ أَضَرَّ بِخِدْمَتِهِ- ثَالِثُهَا: إِنْ أَدَّى خَرَاجَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ القول بالمنع لابن القاسم، ورواه عن مالك في الموازية، ومقابله لابن الماجشون، وأصبغ، ومحمد بن دينار بناءً على أن العبد لما أدخل الظهار على نفسه، لم يكن له أن يضر بسيده، وأن السيد لما أذن له في النكاح فقد أذن له في توابعه. الباجي: وعلى المنع ففي كتاب ابن سحنون عن مالك: إن كان يؤدي الخراج لم يكن له منعه، فمقتضاه أنه تقييد للقول بالمنع، وكذلك قال في الجواهر، وهو خلاف لحمل المصنف الثالث على أنه خلاف، والله أعلم. وَفِيهَا: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَصُومَ وإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الإِطْعَامِ فَحُمِلَ عَلَى مَا إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الصِّيَامِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَاجِزِ نَاجِزاً فَقَطْ، وقِيلَ: أَحَبُّ إِلَيَّ- لِلسَّيِّدِ- أَلا يَمْنَعَ عبده مِنْ الصَّوْمِ ... ابن القاسم: في المدونة بإثر ما حكاه المصنف عنها: بل الصيام هو الذي فرض الله، وليس يطعم أحد يستطيعه. وظاهر كلام ابن القاسم أنه حمل جواب مالك على الوهم، وصرح في ذلك في المبسوط، فقال: لا أدري ما هذا، ولا أرى جوابه فيها إلا وهماً، ولعل جوابه في كفارة اليمين بالله. وإلى مثل قول ابن القاسم نحا سحنون؛ لأنه طرح هذا الكلام، وذهب الأكثرون إلى تأويله، وذكر المصنف ثلاثة تأويلات: الأول لعياض: إن أحب باقية على بابها من ترجيح أحد الأمرين، وكلامه محمول على ما إذا منعه السيد من الصوم لأجل أنه يضر به في خدمته، والعبد قادر عليه، قال:

وهو قول محمد، فإنه قال: إذا أذن له سيده في الإطعام ومنعه الصوم أجزأه، وأصوب أن يُكفِّر، وهو مثل قوله في الكتاب في كفارة اليمين: إذا أذن له سيده أن يطعم أو يكسو يجزئ وفي قلبي منه شيء؛ والصيام أبين عندي، فلم يرَ مالك الإطعام والكسورة ملكاً مقرراً. الثاني للأبهري: حمل قوله: (الصوم أحب إليَّ) على ما إذا كان عاجزاً في الحال، قادراً على الصيام في الاستقبال، فأذن له السيد في الإطعام، فأحب إليَّ أن يصبر حتى يكفر بالصوم. واعترضه ابن محرز فإنه إذا كان مستطيعاً للصوم في الاستقبال لزمه أن يؤخر، وإن كان لا يستطيع فلا يؤخر. ابن بشير: وإنما بنى ابن محرز ذلك على قول ابن القاسم، الذي يقول: إذا عجز عن الصوم ناجزاً وهو يقدر عليه فيما بعد، أنه يلزمه التأخير، وأما على قول من يقول لا يلزمه التأخير، فيصح هذا الاعتذار. التأويل الثالث للقاضي أبي إسحاق: وأن قوله: (أحب) يرجع إلى السيد؛ أي أن إذن السيد في الصيام أحب إليَّ من إذنه في الإطعام. ابن عبد السلام: وإلى هذا مال الأكثر، ووجهه أنه لما اختلف قول مالك هل للسيد منعه من الصوم إن أضر به أم لا؟ استحب الأخذ بأحوطها، وهو الصيام، وقال أبو عمران: إن (أحب) هنا على الوجوب. وفِيهَا: قَالَ: وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ فِي الْيَمِينِ بِاللهِ أَجْزَأَهُ، وَفِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ لعله ذكر هذه المسألة استشهاداً للشاذ في أنه لا يجزئه الإطعام، وإن أذن له فيه سيده، وقال ابن عبد السلام: ذكرها بإثر السابقة، وكذلك هي في المدونة، كالمستدل بها على صحة التأويل الأول؛ لأنه لا يشك أن الشيء الذي في قلب الإمام من جهة الإطعام، إما هو عدم صحة ملك العبد أو الشك في ذلك.

وَهُوَ: شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ بِالأَهِلَّةِ، وَإِنِ انْكَسَرَ تَمَّمَ الْمُنْكَسِرَ ثَلاثِينَ مِنَ الثَّالِثِ، وَسَوَاءٌ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ ... كونه شهرين متتابعين هو نص الآية، وإن صام بغير الهلال تمم المنكسر ثلاثين من الشهر الثالث، ويصوم الشهر الثاني بالهلال، ويمكن تخريج [388/ب] الخلاف مما ذكره المصنف في العدد، وهو قوله: (فَإِنِ انْكَسَرَ) الأول تممه ثلاثين من الرابع، وقوله: (وَسَوَاءٌ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ) ظاهر. وَتَجِبُ نِيَّةُ الكَفَّارَةِ وَنِيَّةُ التَّتَابُعِ لأن الكفارة والتتابع واجبان، والواجب لابد له من نية، وقد تقدم للمصنف ما يدل على الخلاف في وجوب النية للكفارة في الزكاة. وَإِذّا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ اسْتَانَفَ لأن الله تعالى اشترط التتابع؛ لقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4]، ثم أخذ المصنف في بيان ما يقطع التتابع، فقال: وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ وَيَبْطُلُ مُتَقَدِّمُ الإِطْعَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ- وَلَوْ بَقِيَ مِسْكِينٌ- بِوَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا وَلَوْ لَيْلاً- نَاسِياً أَوْ غَالِطاً- بِخِلافِ غَيْرِهَا لَيْلاً فِي الصِّيَامِ، ولَيْلاً وَنَهَاراً فِي الإِطْعَامِ ... نوع رحمه الله العبارة في الصيام: (وَيَنْقَطِعُ) تتابعه، وفي الإطعام: (يَبْطُلُ)؛ لأن الإطعام لا يوصف بالتتابع، وقوله: (بِوَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا) متعلق بينقطع؛ يعني أن التتابع ينقطع بوطء المظاهر منها، وكذلك يبطل متقدم الإطعام على المشهور بوطء المظاهر منها، فقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى الإطعام فقط، وأما الصوم فلا يبطل باتفاق.

وقوله: (وَلَوْ بَقِيَ مِسْكِينٌ) مبالغة على المشهور؛ أي يبطل ما تقدم من الإطعام على المشهور ولو لم يبق عليه إلا مسكين، وهذه النسخة أحسن مما وقع في بعضها من تقديم قوله: (وَلَوْ بَقِيَ مِسْكِينٌ) على قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ)؛ لإيهامه حينئذٍ أن الشاذ إنما يخالف فيما إذا لم يبقَ إلا مسكين واحد، وليس كذلك، وليس الشاذ هذا؛ لأن ابن الماجشون يرى أن الوطء لا يبطل الإطعام المتقدم مطلقاً، قال: وأحب إليَّ أن يستأنف؛ لأن الله تعالى قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} في العتق والصيام، ولم يقله في الإطعام، وقيد في المشهور الإطعام بأن يكون قبل المماسة، كالأولين. وفي الشاذ نظر؛ لأنه يلزم عليه حِليَّة وطء المظاهر قبل الإطعام إذا كان هو الكفارة، ولا يحل ذلك بالإجماع، نقله بعض الأئمة، وقوله: (وَلَوْ لَيْلاً نَاسِياً)؛ يعني أنه يبطل الصوم بوطء المظاهر منها، ولو ليلاً ناسياً أو غالطاً؛ لأن الله تعالى اشترط في الكفارة أن تكون قبل المماسة، ونبه بذلك على خلاف الشافعية في قولهم: إن وطء المظاهر منها ليلاً لا يبطل ما تقدم من الصيام، فإن قيل: الحكم ببطلان الصوم والإطعام بالوطء مشكل؛ لأن سبقية بعض الكفارة على الوطء أولى من تأخير جميعها عنه، وقد قلتم بالإجزاء لو تقدم الوطء على الجميع، فالجواب أن المماسة المطلوب تقديم الكفارة عليها هي المماسة المباحة؛ لأن تقدير الآية: فصيام شهرين متتابعين من قبل أن تباح له المماسة، والمماسة الواقعة في خلال الكفارة ليست بمباحة، فاستؤنفت كفارة أخرى لتحصل كفارة مستأنفة سابقة على مماسة مباحة. فرع: واختلف إذا قبَّل المظاهر بإثرها في أثناء الكفارة، وقد تقدم ذلك، وقوله: (بِخِلافِ وطء غَيْرِهَا لَيْلاً فِي الصِّيَامِ)؛ أي فلا يبطل الصيام لصحته ليلاً أو نهاراً في الإطعام؛ لأن عدم المماسة مشروط في حق المظاهر منها فقط، والله أعلم.

وَما يُجْزِئُ عَنْ ظِهَارِهِنَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حُكْمِ الْوَاحِدَةِ، ولَوْ عَيَّنَهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ أي: إذا ظاهر من أربعٍ بكلمة واحدة، وقلنا: إنه تجزئ كفارة واحدة، فإنه يبطل متقدم الصيام والإطعام بوطء إحداهن، ولو حين الكفارة لغيرها؛ لأن الكفارة لما كانت تجزئ على الجميع لم تتعين، وقوله: (فِي حُكْمِ الْوَاحِدَةِ) فيه حذف الموصوف؛ أي حكم المرأة الواحدة، وقوله: (ولَوْ عَيَّنَهَا)؛ أي عين المرأة أو الكفارة. وَبِفْطِرِ السَّفَرِ بِخِلافِ الْمَرَضِ والْحَيْضِ، إِذَا قَضَى قَضَى مُتَتَابعاً هذا معطوف على وطء تقديره: وينقطع التتابع بوطء المظاهر منها، وبفطر السفر؛ لأنه سبب اختياري غالباً بخلاف المرض، فإنه لا يقطع التتابع؛ لأنه غير اختياري، ثم إذا قلنا بعدم قطعه يقضي ما أفطر متصلاً بصومه، وإن لم يتابعه ابتداء، وهو معنى قوله: (قَضَى قَضَى مُتَتَابعاً)، وليس كقضاء رمضان، واستشكل ذكر المصنف الحيض هنا؛ لأن صوم الظهار إنما يخاطب به الرجل، وأجيب بأن المصنف قصد أن يذكر ما يقطع التتابع، وما لا يقطعه من حيث الجملة، وقوله: (والْحَيْضِ)؛ يعني فيمن قتلت خطأ وصامت. وَالْمَرَضُ يُهَيِّجُهُ السَّفَرُ كَالسَّفَرِ يعني: إذا حصل له مرض بسبب سفر، فإنه يقطع التتابع بمنزلة السفر، وهذا هو المشهور، وقال سحنون: يجزئه البناء وإن هيج عليه السفر المرض؛ لأن السفر مباح، وقال محمد: إن أفطر في السفر ابتداءً استأنف، وإن مرض بنى. وفِي الْخَطَأِ والسَّهْوِ- ثَالِثُهَا: يَنْقَطِعُ بِالْخَطَأِ، والْمَشْهُورُ: لا يَنْقَطِعُ ولَوْ بِوَطْءِ غَيْرِهَا، ويَقْضِيهِ مُتَّصِلاً .... يعني: أنه اختلف، هل ينقطع التتابع بالفطر سهواً، كمن أفطر في يوم ناسياً أو أخطأ [389/أ] كمن صام تسعة وخمسين ثم أصبح مفطراً، معتقداً أنه كمل الصوم، وكمن

اعتقد أن الشمس غربت فأكل، أو الفجر لم يطلع فأكل، ثم تبين له خلاف ما اعتقده على ثلاثة أقوال: والأول: ينقطع في السهو والخطأ، وهو لمالك في الموازية نص فيها على القطع بالفطر ناسياً. اللخمي وغيره: وعليه فينقطع بالفطر خطأ، وفي البيان: مشهور المذهب أنه لا يعذر بالنسيان في كفارة القتل والظهار. والقول الثاني: أنه لا ينقطع بهما، قال المصنف: (وهو المشهور)، وإنما عزاه اللخمي وصاحب البيان وغيرهما لابن عبد الحكم، وقوله: (ولَوْ بِوَطْءِ غَيْرِهَا)، إذا عذر في الوطء فأحرى في الأكل والشرب. والقول الثالث: أنه لا ينقطع بالسهو؛ لأنه يعرض في كل جزء الصوم فيعسر التحرز منه بخلاف الخطأ، وبعضهم يرى هذا الثالث ظاهر المدونة، ذكره فيها إذا أصبح مفطراً بعد تسعة وخمسين يوماً معتقداً التمام، وقوله: (ويَقْضِيهِ مُتَّصِلاً)؛ أي إذا فرعنا على عدم القطع وهو ظاهر. وَلَوْ أَفْطَرَ ثَانِياً مُتَعَمِّداً انْقَطَعَ ولو أفطر ثانياً متعمداً في يوم إفطاره سهواً أو خطأ، انقطع التتابع؛ لأنه لما عذر بالنسيان صار وجود ذلك الأكل كعدمه، فصار فطره ثانياً كفطره أولاً متعمداً، هكذا مشَّى ابن راشد هذا المحل، ويحتمل لو أفطر في قضاء ما أفسده من صيام التتابع متعمداً فإنه يبطل صومه من أصله؛ إذ يلزمه في القضاء ما يلزمه في الأداء، والتمشيتان صحيحتان.

بِخِلافِ أَوَّلِ يَوْمٍ فَإِنَّه لا يَحْرُمُ فِطْرُهُ ثَانِياً كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، بِخِلافِ رَمَضَانَ والنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وصَوْمِ التَّطَوُّعِ ... أي: في بقية اليوم؛ لأنه لا حرمة للزمان، ولا يفسد بفطره ثانياً كقضاء رمضان، بخلاف رمضان والنذر المعين، وصوم التطوع صحيحاً، وإنما دخل على أنه واجب، فتبين أنه غير واجب، وقضاء رمضان مشارك له في هذا المعنى. وقوله: (لا يَحْرُمُ) وقع في بعض الروايات (ويكره) وهو ظاهر؛ لأنه دخل بنية القربة، فاستحب له إتمامها، بخلاف رمضان والنذر المعين وصوم التطوع، فإنه يحرم الفطر في الثلاثة، إذا أفطر أولاً ناسياً، أما الأولان فلتعين زمانهما، وأما الثالث، فلأن الفطر على سبيل النسيان، لما كان لا يفسده، صار فطره ثانياً عمداً كفطره أولاً. وَيَنْقَطِعُ بِالْعَمْدِ، وفِي الْجهلِ: قَوْلانِ هكذا في بعض النسخ (بالعمد) وهو بيّن، وفي بعضها (بالعيد)، فيحمل كلامه على إذا ما إذا ابتدأ في شهر العيد عالماً به، وأما الجاهل فقد أشار إليه بقوله: (وفي الجاهل) قولان، قال في المدونة: وإذا صام ذا القعدة وذا الحجة لظهار عليه، أو قتل نفساً خطأ لم يجزه إلا من فعله بجهالة، وظن أنه يجزيه، فعسى أن يجزيه، وما هو بالبين، وأحب إليَّ أن يبتدئ، ونحوه لابن وهب إن كان عالماً ابتدأ، وإن كان جاهلاً فلا شيء عليه، وقال أشهب وسحنون: لا يجزئه. عياض: هل الجهالة التي عذره بها في المدونة الجهالة بالحكم، أو الجهالة بالعدد وتعين الشهر، وغفلته أن فيه فطر، فيكون كالناسي؟ وأشار إلى أن في المبسوط والمدونة ما يبين أن المراد الثاني لأجل الحكم، واختلف في تأويل المدونة من الإجزاء، فقال أبو محمد: يريد:

ويقضي أيام النحر التي أفطر فيها وفصلها، وقال غيره: لا يجزئ إلا أن يفطر يوم النحر خاصة، ويصوم أيام التشريق، وروى نحوه عن مالك ابن يونس، وهو أصوب. ابن القصار: لأن صوم هذه الأيام إنما هو على الكراهة، وقال ابن الكاتب: معنى مسألة المدونة أنه صام يوم النحر وأيام التشريق، ويقضيها ويبني، وأما لو أفطرها لم يجزه البناء؛ لأنه صوم غير متوالٍ، بخلاف إذا لم يأكل فيها ونوى صيامها، وإن كانت لا تجزئه. ابن يونس: وهو أضعفها. ابن عبد السلام: ولا يحتمل كلام المصنف هذا القول الثالث بخلاف الأولين. ابن حبيب: وإن صام شعبان عن ظهاره ثم صام رمضان لفطره، ثم أكمل ظهاره بشوال أجزأه. ابن يونس: يحتمل أن يكون وفاقاً لقول مالك فيمن جهل فصام القعدة وذا الحجة لظهار عسى أن يجزيه، وقال بعض شيوخنا: لا يجزيه؛ لأنه تفريق كثير، والأول أولى؛ لأن الجهل عذر كالمرض في غير وجه. وَلَوْ صَامَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ لِكَفَّارَتِهِ وَفَرِيضَةً لَقَضَى ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ يعني: قضاء رمضان واستئناف الكفارة، أما رمضان فلتشريكه فيه، ويلزم من بطلان رمضان بطلان شعبان، قال في المدونة: ومن صام شعبان ورمضان ينويهما لظهاره، ويريد أن يقضي رمضان في أيام أخر، لم يجزه لفرضه ولا لظهاره، واختلف هل يدخلها الخلاف المذكور في مسألة من صام رمضان قضاء عن رمضان آخر فتجزئه الكفارة منها على رواية من روى هناك إجزاءه، وعليه قضاء الآخر (بكسر الخاء)، فيقضي هنا رمضان فقط، وعلى رواية من روى هناك الآخر (بفتح الخاء)، يجزئه هنا الصوم عن رمضان [389/ب] وحده، وإليه ذهب بعضهم، أو لا يدخله الخلاف؛ لأن ما بين الكفارة ورمضان أشد مما بين رمضان ورمضان آخر، وإليه ذهب صاحب النكت.

وعلى القطع بالنسيان لَوْ صَامَ أَرْبَعَةً عَنْ ظِهَارَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ يَوْمَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ لا يَدْرِي مَوْضِعَهُمَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَصُومُ يَوْمَيْنِ يَصِلُهُمَا ثُمَّ يَقْضِي شَهْرَيْنِ، وقَالَ سَحْنُونُ: يَوْماً وشَهْرَيْنِ ... يعني: إذا فرعنا على أن النسيان يقطع التتابع، لو ذكر أنه أفطر يومين مجتمعين ناسياً لا يدري موضعهما، هل هما من الأولى أو من الثانية، أو أحدهما آخر الأولى، والثاني أول الثانية، فقال ابن القاسم: يصوم يومين يصلهما، ثم يقضي شهرين، وقال سحنون: لاحتمال أن يكونا من الأخيرة، فلا ينتقل عنها، وهو قادر على تمامها، ثم يقضي شهرين لاحتمال أن يكونا من الأولى، أو أحدهما من الأولى والآخر من الثانية، ورأى سحنون أنهما إن كانا من الأولى فقد صحت الثانية، وإن كانا من الثانية فقد صحت الأولى، وعلى هذين الاحتمالين يبدأ بالشهرين اللذين أمر بإتيانهما، ولم يبقَ إلا احتمال واحد، وهو أن يكمل كل يوم من واحد، فيصوم يوماً ثم يقضي شهرين. فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مِثْلُهَا، وقَالَ سَحْنُونُ: يَصُومُ شَهْرَيْنِ، وهُمَا عَلَى الْخِلافِ فِيمَنْ ذَكَرَ سَجْدَةً مِنْ إِحْدَى رَكْعَتَيْنِ ..... فوجه قول ابن القاسم كما تقدم، وأما سحنون فهو إنما أمره باليوم في الأولى لاحتمال الثالث، وهو منتفٍ هنا، وقوله: (وهُمَا عَلَى الْخِلافِ) هو إشارة إلى تنظير المسألة بمسألة قد قدمها في سجود السهو، وهو ما إذا ذكر في آخر صلاته سجدة، ولا يدري من أي الركعات هي، فقال ابن القاسم: يسجد الآن سجدة لاحتمال أن تكون من الأخيرة، ثم يأتي بركعة لاحتمال أن تكون من غيرها، وقال أشهب وأصبغ: يأتي بركعة فقط، والمصنف وإن لم يقدم عن سحنون في مسألة الصلاة شيئاً، لكن كلامه هنا يدل على أن سحنون موافق لأصبغ، وهذا إن ثبت النقل فواضح، وإن كان المصنف أخذ من قول سحنون أنه موافق لأصبغ في الصلاة، وقد يفرق بينهما بقوة حرمة الصلاة، فيجوز أن

يوافق هناك على الإتيان بالسجدة، ولتأكيد حرمة الصلاة أنه لو افتتح الصلاة بالتيمم، ثم طرأ عليه الماء لم يجز له القطع، بخلاف من شرع في الصوم هنا، ثم أيسر، فإنه يجوز له الانتقال إلى العتق، والله أعلم. فَإِنْ لَمْ يَدْرِ اجْتِمَاعَهُمَا فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وفِي الْيَوْمَيْنِ الْقَوْلانِ تصوره لا يخفى عليك، لكن إنما يحتاج إلى الأربعة أشهر على قول سحنون، إذا شك في أمسه هل هو من اليومين، وإما إن تحقق أن اليومين سابقان على ذلك فيستحب بالعدد الذي صامه، ولم يتخلله فطر، والله أعلم. تنبيه: كلام ابن القاسم وسحنون هنا مبني على أن بدء النسياني قطع، وهو دليل لما شهره صاحب البيان من أن النسيان يقطع؛ لأنه قل أن يخالف المشهور، والله أعلم. وترك المصنف التفريع على القول بأن النسيان لا يقطع لوضوحه؛ لأنا إذا بنينا عليه يأتي بما نسيه فقط، واختلف عليه لو ذكر يومين مثلاً من الأولى في أثناء الثانية، فقيل: يتم الثانية، ثم يصومها؛ لأنه معذور، بما تشبث به من صيام الكفارة التي هو فيها، وقضاء الكفارة الأولى على الخلاف فيمن ذكر صلاة في صلاة، هل تفسد الأولى، وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنه يجوز له أن يقضي اليومين في أثناء الكفارة، ويبني على صيامه، ولا يعد بذلك مفرقاً لصيامه؛ إذ لم يتخلله فطر، على ما قال ابن حبيب، فيمن صام شعبان وشوال، ولا يضره ما تخلل من صوم رمضان. الإِطْعَامُ: وشَرْطُهُ الْعَجْزُ عَنِ الصِّيَامِ فَيُعْتَبَرُ مَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ غَلَبَ ظَنُّ قُدْرَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَفِي وُجوُبِ التَّاخِيرِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ ..... قوله: (وشَرْطُهُ الْعَجْزُ عَنِ الصِّيَامِ) هو نص الآية الكريمة، وقوله: (فَيُعْتَبَرُ مَا تَقَدَّمَ)؛ أي: هل يعتبر العجز يوم الأداء أو يوم الوجوب؟

قوله: (فَلَوْ غَلَبَ ... إلخ)؛ يعني فلو عجز في الحال عن الصيام، إما لمرض أو حد وغلب على ظنه أنه سيقدر عليه في المستقبل، فهل يجب عليه التأخير؟ قولان، وفهم من قوله: (فلو غلب على ظنه) أنه لو آيس من القدرة على الصيام لأطعم اتفاقاً، وهو صحيح. اللخمي: وينتظر إذا رجا الصحة بالقرب، واختلف إذا رجا ذلك بعد طول، وقوله: (ظن قدرته) يقتضي أنه لو شك لأطعم، ويتبين لك ما في هذا بسياق مسألتي المدونة، وذكر بعض من تكلم عليها، فالأولى: قال ابن القاسم: ومن صام عن ظهاره شهراً ثم مرض وهو لا يجد رقبة، لم يكن عليه أن يطعم، وإن تمادى به المرض أربعة أشهر لم يدخل عليه الإيلاء؛ لأنه غير مضارٍّ، وينتظر إفاقته، فإن صح صام، إلا أن يعلم أن ذلك المرض لا يقوى صاحبه على الصيام بعده، فيصير حينئذٍ من أهل الإطعام. وقال أشهب: إذا مرض صار من أهل الإطعام. والثانية: ومن تظاهر وهو مريض مثل الأمراض التي يصح من أمثالها الناس، فلينتظر حتى يصح ثم يصوم، إذا كان لا يجد رقبة [390/أ] وكل مرض يطول بصاحبه، ولا يدرى أيبرأ منه أم لا، ولعله يحتاج إلى أهله، فليطعم، وليصب أهله، ثم إن صح أجزأه ذلك الإطعام؛ لأن مرضه كان إياساً، وقال أشهب: إذا طال مرضه وإن وجد برأه، وقد احتاج إلى أهله، فليطعم بظهار الأولى، إن ظن القدرة في المستقبل، والتردد في ذلك يمنع الإطعام عند ابن القاسم، ولا يمنع عند أشهب، وظاهر الثانية أن التردد لا يمنع من الإطعام عند ابن القاسم؛ لقوله: ولا يدري أيبرأ منه أم لا؟ واختلف القرويون هل الثانية مخالفة للأولى أم لا؟ واختلف القرويون هل الثانية مخالفة للأولى أم لا؟ والقائلون بأنها ليست خلافاً للأولى، فرقوا بينهما بأن المكفر في الأولى دخل في الصيام، وفي الثانية لم يدخل، وللدخول في العمل تأثير في التمادي، وإلى هذا ذهب ابن شبلون، وبعض من ذهب إلى حمل المسألة على الخلاف، قال: يتحصل في المسألة أربعة أقوال:

الأول: إذا أخذه المرض، انتقل إلى الإطعام، وهو قول أشهب في الأولى، والثاني: لا ينتقل حتى يعلم صاحب ذلك المرض أنه لا يقدر على الصوم، وإن أفاق، وهو قول ابن القاسم في الأولى، الثالث: إن طال مرضه انتقل، وهو قول أشهب في الثانية، الرابع: أنه لا ينتقل حتى يشك هل يبرأ أم لا، وهو قول ابن القاسم في الثانية، ويمكن الجمع بين المسألتين على غير الوجه المتقدم، ولنتركه خشية الإطالة، واستحسن قول أشهب لأنه أسعد بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ}؛ لأنه يصدق على المريض أنه غير مستطيع، وقياساً على وجود الرقبة في الحال، ولو روعي حال المستقبل لزم ألا يكفر أحد بالصيام؛ لأنه ما من أحد إلا وهو يرجو أن يملك رقبة أو ما يساويها في المستقبل. وَعَدَدُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أَحْرَاراً مُسْلِمِينَ مُرَاعىً أي: واجب، وتصوره ظاهر. لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ، وَمُدُّ هِشَامٍ: مُدٍّ وَثُلُثَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا، وَقِيلَ: مُدٌّ وَثُلُثّ، وَقِيلَ: مُدَّانِ، وقِيلَ: بِمُدِّ الْيَمِينِ ..... قوله: (فِيهِمَا)؛ أي في كونهما بمد هشام، وكون مد هشام مداً وثلثين، ومقابل المشهور في مقدار مد هشام هو قوله: (وَقِيلَ: مُدٌّ وَثُلُثّ، وَقِيلَ: مُدَّانِ). ابن بشير: وقيل مد ونصف، واعلم أن من ذهب إلى أنها بمد اليمين اختلفوا، فقال بعضهم: بمد واحد، وأنكر أن يكون بمد هشام لفظاً ومعنى، وقال: متى كان هشام يعتبر مده، وبعضهم أنكره لفظاً فقط، وقال: بل يقال: يطعم مداً وثلثين بمده صلى الله عليه وسلم، وروى مطرف عن مالك: لكلمسكين مدان بمده صلى الله عليه وسلم، وإنما قلنا على المشهور أنه لا يكتفي هنا إلا بمد وثلثين؛ لأنها مطلقة في القرآن لم تقيد بالوسط ككفارة اليمين بالله تعالى فحملت على الشفع الكامل، كفدية الأداء، واستصوب

الباجي القول بأن مد هشام مدان، قال: وهي رواية البغداديين عن معن بن عيسى، وهو الصحيح؛ لأن معن مدني، وهو أعلم بذلك لطول مقامه بالمدينة، وقد شاهدت بالمدينة هذا المد، وحققته فوجدته كما قال مدين. فَلَوْ أَطْعَمَ مِئَةً وَعِشْرِينَ نِصْفاً نِصْفاً كَمَّلّ لِسِتِّينَ مِنْهُمْ وَإِلا اسْتَانَفَ تصوره ظاهر. اللخمي: وإذا كان الطعام قائماً بأيديهم، وعلى أنه كفارة عن ظهار انتزع من ستين منهم، وأكمل الستين، والانتزاع بالقرعة؛ لأنه ليس أحدهم أحق بالانتزاع من الآخر، ومن فوت الطعام لم يرجع عليه بشيء، واختلف شارحو المدونة، هل من شرط التكميل بقاء النصف المأخوذ أم لا؟، وقوله: (وَإِلا اسْتَانَفَ)؛ أي: وإن لم يمكن التكميل ستين، فإنه يستأنف الكفارة. وَإِذَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينٍ ثَانِيَةٍ فَلَمْ يَجِدْ إِلا مَسَاكِينَ الأُولَى، فَفِيهَا: لا يُعْجِبُنِي أَنْ يُطْعِمَهُمْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ مُخَالِفَتَهَا؛ كَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ بِاللهِ تَعَالَى، إِلا أَنْ يُحْدِثَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ .... (لا يُعْجِبُنِي) محمول على الكراهة، وهي غاية ما يمكن هنا، ولهذا قال محمد عن ابن القاسم: فإن فعل أجزأه، وفي الأسدية الجواز. ابن عبد السلام: وهو أظهر، وإن كان بعضهم لم يعد خلافاً للمدونة، وحمل المدونة على الحكم قبل الوقوع، والأسدية بعده. والْجِنْسُ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ نحوه في الباجي، فقال: والذي يجزئ هنا هو على حسب ما تقدم في اليمين بالله تعالى، وقد تقدم أن المصنف شبه اليمين بالله تعالى بزكاة الفطر، وعلى هذا فتُخرج من التسعة الأصناف، وعلى قول ابن حبيب: تخرج من عشرة، وقال ابن عبد السلام: الأقط، لا أعلم من قال بجواز إخراجه هنا.

خليل: وظاهر كلامه جواز إخراجه لتشبيبههم ذلك بكفارة اليمين بالله، وبزكاة الفطر، فإنه قد نص في البيان على أنه تُخرج من كل ما تُخرج منه زكاة الفطر، وفي كلام المصنف إشارة إلى شيء آخر، وهو إذا اقتيت غير التسعة كاللحم والقطاني، فإنه قدم في زكاة الفطر أن المشهور الإجزاء. فَإِنْ كَانَ عَيْشُهُمْ تَمْراً أَوْ شَعِيراً أَطْعَمَ عَدْلَ شِبَعِ مُدِّ هِشَامٍ مِنَ الْحِنْطَةِ حاصله: إن كان عيشهم القمح أخرج منه مداً هشامياً، وإن كان عيشهم تمراً أو شعيراً أو نحوه، أطعم عدل شبع مد هشام من الحنطة، قاله في المدونة. عياض: قيل معناه [390/ب] إذا أشبع الرجل مد حنطة، كم يشبعه من غيرها؟ خليل: وفيه نظر؛ لأنا لم نعتبر بالحنطة، بل أصل الحديث إنما ورد في التمر، وبين ذلك أن أهل التمر لا يقال في زكاة الفطر أخرجوا ما يشبع صاع القمح. ابن عبد السلام: وقال بعض الشيوخ: يراعى الشبع سواء زاد على مد هشام، فيزاد، أو نقص عن مد هشام فينقص. وَفِيهَا: ولا أُحِبُّ أَنْ يُغَدِّيَ أَوْ يُعَشِّيَ فِيهَا ولا فِي فِدْيَةِ الأَدَاء هذا كما قال في المدونة: إن الغداء والعشاء لا يبلغ المد الهشامي، وأحرى فدية الأداء. اللخمي: وقال ابن الماجشون: إن غدى وعشى أجزأه، فجعلهما ككفارة اليمين بالله تعالى. انتهى. ونص ابن المواز على أنه لو غدى وعشى لا إعادة عليه، وعلى هذا فتكون أحب على بابها، ويحتمل أن يراد بها عدم الإجزاء، ولعله نسب المسألة للمدونة، لهذا التردد الذي في قوله: (ولا يُعْجِبُنِي)، ولإشكالها أيضاً، وذلك أن الحامل لهم على التقدير بالمد الهشامي إنما هو تحصيل الشبع في يوم، وقد حصل ذلك.

وَلا يُجْزِئُ قِيمَةٌ فِي كَفَّارَةٍ، وَقِيلَ: كَالْيَمِينِ أما عدم إجزاء القيمة فقد نص في المدونة وغيرها على ذلك، وأجري في ذلك الخلاف في الزكاة. وقوله: (وَقِيلَ: كَالْيَمِينِ) ظاهره أنه قيل هنا بإجزاء القيمة، كما في اليمين بالله تعالى، وفي هذا نظر؛ لأن المصنف لم يقدر القيمة تجزي في كفارة اليمين بالله، ولا يقال: إن المصنف شبه لإفادة الحكم؛ لأن المصنف لم يذكرها هنا حكماً، والأقرب أن في هذا المحل أن يكون معنى قوله: (وَقِيلَ: كَالْيَمِينِ) أي في إجزاء الغداء والعشاء، وهو قول ابن الماجشون، كما ذكرنا، وقد يقال على بعد (وَقِيلَ: كَالْيَمِينِ) أي: إذا قلنا فيه مد بمده صلى الله عليه وسلم، فهل يزاد مثل ثلث المد أو نصفه. * * *

اللعان

اللِّعَانُ: يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِزِنىً أَوْ نَفْيٍ نَسَبٍ، ويَمِينُ الزَّوْجَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ هي مشتقة من اللعنة التي في خامسة الزوج، ولم يسمى بالغضب، وإن كان يصدر من المرأة في الخامسة، لأن القاعدة تغليب المذكر، ولأنه لما كان لعان الرجل سابقاً وسبباً في لعانها، غلب ما يصدر منه، واللعن: البعد والطرد، ومعنى لعنه الله، أي أبعده الله من رحمته، وكانت العرب إذا تمرد الشرير منهم طردوه وأبعدوه عنهم لئلا يؤاخذوا بجرائره، وسموه لعيناً، وقول المصنف: (يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ) أي على رمي زوجته (بِزِنىً) مخرجاً لرميها بمقدمات الجماع ونحو ذلك، فإنه لا لعان في ذلك، ومخرج أيضاً حلف الزوج على زوجته في الحقوق المالية، أو غيرها، وقال: (أَوْ نَفْيٍ نَسَبٍ) ليدخل فيه إذا نفى الولد، بل هذه الصورة هي المقصود الأهم من اللعان. وقوله: (ويَمِينُ الزَّوْجَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ) كالمتمم لجميع صفات ماهية جميع اللعان، وأورد هذا على التعريف أنه غير جامع؛ لأن قوله: (يَمِينُ الزَّوْجِ) يخرج به لعان المطلق مع مطلقته، فإنه ليس بزوج في الحال، ولا يقال هو زوج باعتبار الماضي، لأن الإطلاق باعتبار الماضي، والاستقبال مجاز، كما قرر في أصول الفقه، وأجيب بأن هذا إنما هو إذا كان المشتق محكوماً به، كقولك: زيد مشرك، أو زان، أو قائم، أما إذا كان متعلق الحكم، كقولك: السارق يقطع، حقيقة مطلقاً، صرح بذلك جماعة من أهل الأصول. القرافي: ولو كان مجازاً، لكان قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}، و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، وشبهها مجازات، باعتبار من اتصف بهذه الصفات في زماننا لأنه مستقبل باعتبار زمان الخطاب، ويلزم حينئذٍ أن يسقط الاستدلال بها، لأن الأصل عدم التجوز، ثم أحسن التعريفات ما كان فيه إشارة إلى سبب الحكم، فذكر الزوجة مشير إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، فكان ذكره حسناً، ولم يوجب خللاً.

فَيَصِحُّ مَعَ الرِّقِّ والْفِسْقِ أتى بالفاء المشعرة بالسببية، أي فلدخول الرق والفسق تحت الزوج صح لعانهما، سواء كان الرق أو الفسق فيهما، أو في أحدهما، ونبه المصنف بهذا على خلاف أبي حنيفة، في قوله رحمه الله: أنه لا يصح اللعان إلا ممن تصح شهادته، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ}، والجواب أنه استثناء منقطع، وهو وإن كان على خلاف الأصل، لكن يعينه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أمية: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"، ولأجل أن اللعان يمين وليس بشهادة، دخلت المرأة فيه، وليس لها مدخلاً في الشهادة على الزنا، ولأن العبد والفاسق تدعوهما الضرورة إليه، فوجب أن يباح لهما قياساً على الحر العدل. وَشَرْطُ الْمُلاعِنِ: أَنْ يَكُونَ زَوْجاً مُسْلِماً مُكَلِّفاً- فَيُلاعِنُ الْحُرُّ الْحُرَّةَ والأَمَةَ والْكِتَابِيَّةَ، وكَذَلِكَ الْعَبْدُ فِيهِنَّ .... احترز بالزوج من السيد، فإنه لا لعان عليه، ونقل المتيطي أنه وقع للشيخ أبي عمران في أسئلة الباجي، أن اللعان يكون مع شبهة النكاح، وإن لم تثبت الزوجية، وهذا مما يشكل به قول المصنف (زَوْجاً). [391/أ] وقوله: (مُسْلِماً): يخرج الكافر، فلا يصح لعانه، قال في المدونة: ولا لعان بين الكافر، فإن ترافع هو وزوجته، وتراضيا أن يحكم بينهم بحكم الإسلام، فقال أبو عمران: يتلاعنان، قال: فإن نكلت المرأة، فعلى قول عيسى: ترجم، وعلى قول البغداديين، لا ترجم، لأن أنكحتهم فاسدة، وإنما يجب على من نكل منهم الحد، كالمتلاعنين قبل البناء.

وقوله: (مُكَلِّفاً) يخرج المجنون والصبي، وقوله: (فَيُلاعِنُ الْحُرُّ الْحُرَّةَ والأَمَةَ والْكِتَابِيَّةَ) تصوره ظاهر، ويلحق بالكتابية المجوسية يسلم زوجها، ولم تسلم هي، وقوله: (وكَذَلِكَ الْعَبْدُ فِيهِنَّ) ظاهر. والنكاح الفاسد كالصحيح أي: في اللعان، لأنه لما كان يلحق فيه الولد، احتيج إلى اللعان لنفيه، قال في الموازية: كل نكاح يلحق فيه الولد ففيه اللعان، وإن فسخ بعد ذلك. وَيَتَلاعَنَانِ إِنْ رَفَعَتْهُ بِقَذْفِهَا بِالزِّنَى طَوْعاً فِي نِكَاحِهِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ- كَانَ وَلَدٌ أَوْ حَمْلٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، نَفَاهُ، أَوِ اسْتَلْحَقَهُ .... لما ذكر الملاعن وشروطه، أخذ يذكر أسباب اللعان، فبدأ بالكلام على القذف بالزنا، وشرط فيه أن ترفعه إلى الحاكم، فإن لم ترفعه فلا لعان، لأن ذلك من حقها، ثم إن لم يبلغ رميه لها الحاكم فلا كلام، وإن بلغه حد، إلا أن يلاعن، وقوله (بِالزِّنَى) يخرج ما إذا قذفها بغيره، ولا خلاف في اللعان إذا رماها بصريح الزنا، وأما إن عرَّض بذلك، فعن ابن القاسم قولان، أحدهما: أنه يلاعن، والثاني: لا، ووافقه عليه أشهب: أنه يحد ولا يلاعن، والقولان قائمان من المدونة، ففيها في اللعان: ومن قال لامرأته: وجدتها قد تجردت لرجل، وهي مضاجعة له في لحاف؛ أنه لا يلتعن بذلك إلا أن يدعي رؤية الفرج في الفرج، وإن لم تكن له بينة على ما ذكر فعليه الأدب، ولا يحد، وفي القذف منها، ومن عرَّض بالزنا لامرأته، ولم يصرح بالقذف ضرب الحد، إن لم يلتعن، وأشار عياض إلى أن الذي في كتب اللعان لا دليل فيه على انتفاء الحد، لأنه إنما أسقط الحد عن ذلك التعريض الخاص، ولا يلزم منه إسقاطه عن التعريض مطلقاً، فقال لما ذكر ما قاله في اللعان: وفي الموازية نحوه، لا لعان بينهما إلا في صريح القذف، أو تعريض يشبه القذف.

ابن عبد السلام: وفي كلامه نظر، أما أولا فلأن الخلاف في التعريض حكاه غير واحد من الشيوخ، ولم ينسبه للمدونة، وأما ثانياً فنفيه الحد، واستثناؤه رؤية الفرج في الفرج دليل على أن ما عدا هذه الصورة لا يلزمه فيها عنده حد، على أن في أواخر كتاب القذف: ومن قال جامعت فلانة بين فخذيها، أو في أعكانها، فعليه الحد، ثم قال: قال مالك: ولا يجب الحد إلا في قذف أو نفي أو تعريض، يرى أنه يريد به القذف، ولا تعريض أشد من هذا. وقوله: (طَوْعاً)، احترازاً مما لو نسبها إلى استكراه، فإنها لا تلاعن إذا ثبت الغصب، أو تصادق الزوجان عليه، نعم يلاعن هو لنفي الولد، فصار الطوع شرط في تلاعنهما معاً، لا في لعانه، ولما كان المصنف يتكلم على لعانهما معاً، قيد ذلك الزنى بالطوع. فرع: وإذا قذف الزوج زوجته وترافعا إلى الحاكم سجنه، وحكى الباجي في سجلاته في سجنه قولين، وقوله: (فِي نِكَاحِهِ)، احتراز من الصورة التي يذكرها بإثر كلامه هذا، وهو قوله: (ولو قذفها بزنى قبل نكاحه)، وقوله: (فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ)، إنما لاعنها إذا رماها بالوطء في الدبر، لأنه لو كان أجنبياً لحُدُّ في رميها بذلك، وما يُحد الأجنبي فيه يلاعن الزوج فيه. وقوله: (كَانَ وَلَدٌ أَوْ حَمْلٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، نَفَاهُ، أَوِ اسْتَلْحَقَهُ)، ظاهر التصور، ووقع في بعض النسخ بإثر هذا الكلام: (وقيل إن استلحقه حد) وسيأتي. فَلَوْ قَذَفَهَا بزِنىً قَبْلَ نِكَاحِهِ حُدَّ قد تقدم أنه احترز عن هذه الصورة بقوله أولاً: (فِي نِكَاحِهِ). الباجي: ولا خلاف في وجوب الحد هنا في المذهب.

وَيُعْتَمَدُ عَلَى يَقِينِهِ- بالرُّؤْيَةِ- وَقِيلَ: كالشهود أي: يعتمد الملاعن في قذفه بالزنى على يقينه برؤية ذلك، وقيل كالشهود، يعني أن المشهور اعتماده على الرؤية، وإن لم يصف كالشهود، وقيل: لا يجوز له ذلك حتى يصف كالشهود، وهذا القول لمالك أيضاً في العتبية، وقد حكى ابن الجلاب وعبد الوهاب الروايتين، وحكاهما الباجي وصاحب البيان وابن يونس، وقول ابن عبد السلام: الأحسن حذف الواو بين الرؤية وبين قيل، ليس بظاهر، لا يؤخذ القولان من كلام المصنف إلا بإتيانها. وقيل عَلَى يَقِينِهِ كَالأَعْمَى عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: وقيل: إذا تحقق وقوع الزنا منها جاز اللعان، وإن لم يراها تزني، كالمشهور من القولين في الأعمى، قال في المدونة: ويلتعن الأعمى في الحمل يدعي الاستبراء في القذف، لأنه من الأزواج، فيحمل ما تحمل، ومقابل المشهور في الأعمى رواه ابن القصار، وعن مالك أنه لا يجوز اللعان إلا أن يقول: مسست الفرجين. وَبِنَفْيِ الْوَلَدِ أَوِ الْحَمْلِ هذا معطوف على قوله: (بقذفها بالزنا) وتقدير كلامه: ويتلاعنان إن رفعته بنفي الولد أو الحمل، ولا خلاف في ذلك. ويُعْتَمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا بَعْدَ وَضْعٍ أَوْ فِي مُدَّةٍ لا يَلْحَقُ فِيهَا الْوَلَدُ لكَثْرةٍ أَوْ قِلَّة، ويُعْتَمَدُ عَلَى اجْتِمَاع الاسْتِبْرَاءِ والرُّؤْيَةِ وفي اعتماده على أحدهما روايتان يعني: أنه يعتمد في نفي الولد أو الحمل على ثلاثة أشياء، واختلف في رابع، ومعنى اعتماده أنه يجوز له في الشرع أن ينفي الولد بذلك:

الأول: إذا لم يطأها بعد وضع، يعني وقد طال ما بين الوضعين، بحيث لا يكون الولد الثاني من بقية الحمل الأول. الثاني: أن يكون وطأها بعد الوضع، ولكن بين هذا الحمل والإصابة مدة لا يتأتى فيها ولد، إما لقلة الزمان لخمسة أشهر ونحوها، وإما لكثرته كخمس سنين فأكثر، وإليه أشار بقوله: (أَوْ فِي مُدَّةٍ لا يَلْحَقُ فِيهَا الْوَلَدُ لِقِلَّةٍ أَوْ كَثْرَة). الثالث: إذا استبرأها من وطئه ثم رآها بعد ذلك تزني، ووقع في بعض النسخ بإثر هذا الكلام: على المشهور، وهي زيادة صحيحة، فقد حكى ابن شاس وغيره عن السيوري أنه ليس له نفيه بهما، قال: وحكى الداودي عن المغيرة مثله. وأما الرابع المختلف فيه، وإليه أشار بقوله: (وفي اعتماده .... إلخ)، والضمير في (أحدهما) عائد على الاستبراء والرؤية. عياض: والمشهور أنه يعتمد على الاستبراء، والأظهر أنه لا يعتمد على أحدهما، بل ولا عليهما، لأنه إذا كانت الحامل تحيض، فكيف يصح له النفي، والقول باعتماده على مجرد الرؤية أضعف، لأن الحيض علامة ظنية على براءة الرحم، بخلاف رؤيته، فإنه لا يدل على الحمل البتة. وقِيلَ: يُلاعِنُ لِلْقَذْفِ يعني: أنه اختلف في قاذف زوجته القذف المطلق غير المقيد برؤية، ولا بنفي حمل، فقال ابن نافع وابن القاسم في أحد قوليه: يلاعن، وقال أكثر الرواة وابن القاسم أيضاً: يحدُّ ولا يلاعن، والقولان في المدونة، واختار بعض كبار المتأخرين الأول، لصدق آية اللعان عليه. خليل: وقول المصنف: (وقيل) يقتضي معطوف عليه، ويقتضي أن ذلك المعطوف عليه هو المذهب، والأقرب أن يكون راجعاً إلى قوله: (ويعتمد على يقينه بالرؤية ... إلخ)، فإن

كلامه هنا يقتضي أنه لا يلاعن للقذف، ثم ذكر قولاً آخر، أنه يلاعن بمجرد القذف، من غير رؤية، ولعل المصنف شهر الأول، لما قال في المدونة أنه قول أكثر الرواة، وبه قال المخزومي وابن دينار، وهو أحد قولي ابن القاسم، لكن في الإرشاد، المشهور أنه يلاعن بمجرد القذف. فَإِنْ أَتَتْ بولد لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِداً بَعْدَ الرُّؤْيَةِ للعان وإِلا لَحِقَ بِهِ يعني: فإنه لاعن لسبب الرؤية، ثم أتت بولد بعد اللعان، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم الرؤية، لم يلحق به، وتعد كأنها بريئة الرحم يوم اللعان، وإن أتت به لأقل من ستة أشهر لحق به لأن لعانه إنما كان لرؤية الزنا، خاصة لا لنفي الولد. خليل: وفي هذه المسألة إشكال، لأنهم نفوا الولد، الذي الأصل فيه أن يكون للفراش، بأمر نادر، وهو وضع المرأة في ستة أشهر. واخْتَلَف قَوْلُ مَالِكٍ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ إِذَا لَمْ يَدَّعِ اسِتْبَراءً فَأَلْزَمَهُ مَرَّةً ولَمْ يُلْزِمْهُ مَرَّةً، وقَالَ بِنَفْيِهِ مَرَّةً. ابْنُ الْقَاسِمِ: وأَحَبُّ إِلَيَّ أَنَّهُ لو كَانَ ظَاهِراً يَوْمَ الرُّؤْيَةِ لَزِمَهُ، وعَنْهُ: إِنْ أَتَتْ بِهِ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الرُّؤْيَةِ لَزِمَهُ، ولا يُحَدُّ إِنْ نَفَاهُ، وقَالَ الْمَخْزُومِيُّ: إِنْ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ لِسِتَّةٍ فَصَاعِداً مِنَ يوم الرُّؤْيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، ولَوِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ وحُدَّ، ولأقَلَّ يَلْزَمُه صورة هذه المسألة أن يقول: رأيتها تزني ووطئتها قبل الرؤية في اليوم أو قبله، ولم استبرأ لاعنها للرؤية، ثم أتت بولد، فهل هذا اللعان موضوع لنفي الحد ونفي الولد معاً فلا يلحق به، ولا يحتاج إلى لعان ثان، أو هو موضوع لنفي الحد فقط، وعدوله عن دعوى الاستبراء رضاً منه باستلحاق الولد، وليس فيه تعرض للولد فيبقى الأمر موقوفاً، فقول المصنف: ألزمه مرة، أي لم ينفه باللعان الأول، ويلحق به، وإن ولدته لستة أشهر من يوم الرؤية، إلا أن ينفيه بلعان ثان، ومقابل هذا القول القولُ الثالث، وهو قوله: (وقَالَ بِنَفْيِهِ

مَرَّةً)، فإن ادعاه بعد ذلك لحق به، وهذه الأقوال التي قالها الإمام مطلقة، سواء كانت حاملاً يوم الرؤية أم لا، وهذا قال في المدونة في القول الثالث، وقال بنفيه مرة، وإن كانت حاملاً، وفصل ابن القاسم، وتفصيله ظاهر، لأنه لا يلزم من لعانه لنفي الحد عنه نفي حمل ظاهر، والظاهر أنه لا يشترط الظهور، بل إنما يشترط أن تأتي بالولد لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية، ولو قيل أنه للأول ولو أتت به لستة أشهر- لأن الوضع في ستة أشهر نادر، والأصل إلحاق الولد بالفراش- لكان حسناً، فإن قيل: في قول المصنف (أحب) نظر، إذ هو موضع الجزم لعظم أمر الأنساب، وإنما يقال أحب في باب العبادات، قيل: إنما حمله على ذلك اضطراب مدارك الإمام، فلم يستطع الجزم بمخالفته، والله أعلم. وقوله: (وقَالَ الْمَخْزُومِيُّ)، نصه في المدونة: وقال المخزومي إن أقر بالحمل وادعى رؤيةً لاعن، فإن وضعت [392/أ] لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية، فالولد منه، وإن كان لستة أشهر فأكثر فهو اللعان، وإن ادعاه بعد لك لحق به ويحد. تنبيهات: الأول: في كلام المصنف مناقشة، فإن مقتضاه أن لابن القاسم في المسألة قولين، كل منهما مخالف لقول مالك، وليس كذلك، بل قوله: (إِنْ أَتَتْ بِهِ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الرُّؤْيَةِ لَزِمَهُ)، مفسراً لقول مالك الأول الذي قال فيه: لم يلزمه مرة، كذلك هو في المدونة وغيرها، ولفظها: قال مالك: ولا يلزمه ما أتت به من ولد. ابن القاسم: إلا أن تأتي به لأقل من ستة أشهر، من يوم الرؤية فيلزمه، وفي المقدمات: اختلف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: الأول: أن الولد ينفيه باللعان على كل حال، وإن ولده لأقل من ستة أشهر، وهو أحد قولي مالك في المدونة. والثاني: أنه لا ينفيه بحال، وإن ولد لأكثر من ستة أشهر، ويلحق به، وهو قول أشهب وعبد الملك. والثالث: التفرقة بين أن يولد لأقل من ستة أشهر أو لأكثر منها، وهذا القول الثاني لمالك في المدونة، انتهى.

ولا يكون هذا القول في المدونة إلا إذا كان قول ابن القاسم تفسيراً له، وكذلك قال غيره. الثاني: اختلف في فهم المدونة في قوله: (أَلْزَمَهُ مَرَّةً ولَمْ يُلْزِمْهُ مَرَّةً، وقَالَ بِنَفْيِهِ مَرَّةً)، فمنهم من فهم ذلك على أنها ثلاثة أقوال كما قررنا به كلام المصنف، وفهمها ابن لبابة، وصاحب المقدمات على أنه ليس فيها إلا قولان، الأول: أن الولد منفي وإن أتت به لأقل من ستة أشهر، والثاني: الفرق بين أن يولد لأقل من ستة أشهر أو لأكثر، وجعلا قوله: لم يلزمه مرة وقال بنفيه مرة، قولاً واحداً. التنبيه الثالث: عياض: اختلف في قوله ف يالمدونة في القول الذي قال فيه بنفيه وإن كانت حاملاً، هل ذلك سواء عرف الحمل أو أقر به أو بشرط ألا يعلم أنها حامل، إلا بعد الوضع لأقل من ستة أشهر، فقيل: ذلك سواء علم به أو لم يعلم أقر بالولد أو لم يقر، وهو نص الموازية، وظاهر قول المخزومي في الكتاب: وأقر بالحمل، ذلك لأ، هـ لما اطلع على خيانتها صح له نفي ما كان أقر به قبل بسلامة نيته وصحة اعتقاده، وقال ابن محرز بل معنى ذلك فيمن لم يقر بالحمل ولا اعترف به حتى ظهر بعد اللعان، وأن معنى قول المغيرة: أقر بالحمل أي بالوطء، بدليل قوله بعد هذا: فإن اعترف به بعد هذا ضربته الحد، وقال شيخنا أبو الوليد: وهو بعيد. عياض: وظاهر كلام المغيرة ما قاله ابن محرز، لقوله: فإن ولدت ما في بطنها لأقل من ستة أشهر فالولد منه، وإن ولدته لستة أشهر فلا لعان، ولو كان ظاهراً، وهو مقر به حين اللعان لم يحتج إلى هذا التفصيل لِعِلْمنا على كل حال أنه كان قبل اللعان، وتأول ابن يونس قول المغيرة بأن معنى قوله: أقر بالحمل، أي الآن على معنى أنه أقر أنها حملت بهذا الولد ثم يعتبر إيلاده بعد الرؤية، فإن كان لأقل من ستة أشهر لزمه، وإن كان لستة أشهر فأكثر جاز أن يكون للرؤية وقد التعن لها وادعى أن هذا الولد لها، وهو قريب في المعنى من تأويل ابن محرز، فيأتي على قول المغيرة ثلاثة تأويلات، أولها: أن المراد الاعتراف بالوطء

لا بالحمل. الثاني: الإقرار بالحمل على ظاهره. الثالث: الاعتراف بالحمل حين الوضع لا حين اللعان، وقد حكى ابن الجلاب وعبد الوهاب فيما إذا أقر بحملها، وادعى أنه رآها تزني، ثلاث روايات: إحداهن: أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن، والأخرى أنه يلاعن وينتفي عنه الولد الذي أقر به، والثالثة: أنه يلحق به الولد ويلاعن لنفي الحد عنه، ابن الجلاب: وهي الصحيح. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْوَضْعِ لأَقَلَّ: كُنْتُ اسْتَبْرَاتُ؛ ونَفَاهُ انْتَفَى بِاللَّعَانِ الأَوَّلِ، فَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ به وَحُدَّ .... أي: في المسألنة التي قبلها، وهي ما إذا لاعنها للرؤية، ولم يكن ذكر الاستبراء على القول بذلك، وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية، وقلنا أن الولد يلحق به، فإنما يلحق به بشرط أن يسكت عن الاستبراء، فإن قال الآن: كنت استبرأت قبل الرؤية وهذا الولد ليس مني؛ اكتفى باللعان الأول، وهذا قول أشهب، وقال عبد الملك وأصبغ: إنما ينفيه بلعان ثان، قال في المقدمات: وفي المدونة ما يدل على القولين، وقوله: فإن استلحقه، يعني فإن استلحق هذا الولد بعد أن نفاه وانتفى عنه، فهو تكذيب لنفسه، فيحد ويلحق به، وقول المصنف، لأقل، ينبغي أن يكون الحكم كذلك إذا كان لستة أشهر على القول بإلحاقه به. وشَهَادَتُهُ بِالزِّنَى عَلَيْهَا كَقَذْفِه يعني: سواء شهد وحده أم مع ثلاث. ابن الماجشون وابن أبي زمنين: وإذا شهد عليها مع ثلاثة، فيقال للزوج أولاً: التعن؛ فإن أبي حُدَّ هو والثلاثة، وإن التعن، قيل لها: التعني، فإن التعنت وتم اللعان بينهما حُدَّ الثلاثة فقط، وإن نكلت عن اللعان وجب عليها الحد، وسقط الحد عن الثلاثة، لأنه قد حق عليها ما شهدوا به بنكولها عن اللعان، وإن لم يعثر على أنه زوجها حتى رجمها الإمام، فيدرأ عن الثلاثة الحد، ويحد الزوج إلا أن

يلاعن، قاله مالك في الموازية، قال: ويرثها إلا أن [392/ب] يعلم أنه تعمد الزور عليها ليقتلها، أو يقر بذلك، فلا يرثها ولا دية على الإمام، لأنه مختلف فيه، وليس بخطأ صريح كشهادة العبد والنصراني. ابن يونس: وقاله أصبغ: إلا في الميراث، فقال: لا يرثها لأنه التعن وليس بشاهد، فلا يخرج من تهمة العامد لقتل وارثه. والاسْتِبْرَاءُ حَيْضَةً، وقِيلَ: ثَلاثٌ، وفِي اعْتِمَادِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا- عَلَى الاسْتِبْرَاءِ أَوِ الرُّؤْيَةِ- رِوَايَتَانِ ..... اختلف المذهب بماذا يكون الاستبراء الذي ينتفي به الحمل، وصرح الباجي وجماعة بمشهورية الأول، كما هو مقتضى كلام المصنف، والقول بالثلاث للمغيرة، وروي أيضاً عن مالك وجه الأول، أن الاستبراء هنا ليس بعدة بل لبراءة الرحم، فأشبه استبراء الأمة. ابن عبد السلام: بعد ذكر القولين، وقال ابن الماجشون إن كانت أمة فحيضة، وإن كانت حرة فثلاث، وعن المغيرة أنه لا ينفيه إلا بعد خمس سنين، وله قولان آخران كقولي مالك. فائدة: ليس عندنا حرة تستبرأ بحيضة إلا هنا، وليس عندنا أمة تستبرأ بثلاث إلا على قول المغيرة هنا، وفيمن ادعى سيدها وطئها فأتت بولد فنفاه، وادعى أنه كان استبرأها. فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الاعْتِمَادَ فِي الْجميعِ فَفِي حَدَّهِ قَوْلانِ هذا هو القذف المجرد، وقد تقدم هذا الفرع من كلام المصنف، لكن ذكره هنا لإفادة شيء لم يستفده من الأولى، لأن الأولى إنما هي باعتبار الرؤية، وقوله هنا: (فِي الْجميعِ)، أي في الرؤية ونفي الولد، ولأنه تكلم هنا على الحد، ولم يتكلم عليه فيما سبق، وقوله: (فَفِي حَدَّهِ قَوْلانِ) أي قول بأنه يحد ولا يلاعن، وقول بأنه يلاعن ولا يحد، وقد تقدم

القولان إذا رماها بالزنا، وكذلك اللخمي وابن يونس وصاحبالبيان القولين فيما إذا نفى الحمل نفياً مطلقاً، وحمل ابن عبد السلام كلام المصنف على أن مراده بالقولين إذا قلنا: لا يلاعن، هل يحد أم لا؟ ثم اعترضه، وقال: الذي أعرفه أن القولين أحدهما يلاعن ولا يحد، والثاني أنه يحد ولا يلاعن، وأما أنه لا يلاعن ولا يحد مع أنه قاذف فبعيد ليس بظاهر، وليس في كلام المصنف دلالة على ما قاله. وَاللِّعَانُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ دَعْوَى الرُّؤْيَةِ والاسْتِبْرَاءِ، وبِالزِّنَا مَعَ الرُّؤْيَةِ كَالشُّهُودِ مُتَفِّقٌ عَلَيْهِ ........ لما ذكر أسباب اللعان وما فيها من الاضطراب أراد أن يبين ما اتفق عليه منه، فذكر أنه اتفق على صورتين، إحداهما: أن ينفي الولد مع دعوى الرؤية والاستبراء. والثانية: أن يرميها بالزنى ويدعي رؤية ذلك، ويصف كالشهود، زاد بعضهم: وتكون المرأة حين الرؤية غير ظاهرة الحمل، وكذلك ذكر في المدونة أن هذين الوجهين مجمع عليهما، وكذلك حكى الاتفاق فيهما اللخمي وصاحب البيان وغيرهما، ولا إشكال في الصورة الثانية، وأما الأولى فقد تقدم أن ابن شاس حكى فيها عن المغيرة والسيوري، أنه ليس له أن ينفي الولد باجتماع الرؤية والاستبراء، وقد تقدم أن هذا القول وقع التنبيه عليه في بعض نسخ ابن الحاجب، لكن حكاية الاتفاق هنا يبعد ثبوته، لأنه حينئذٍ يتناقض كلامه، وزاد جماعة في المتفق عليه ما إذا أنكر الوطء جملة، أو قال لم أطأها منذ كذا وكذا، لمدة لا يلحق فيها النسب، وزاد اللخمي أن يقول: لم تلد الولد. فَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ- فَرِوَايَتَانِ، والأَكْثَرُ لا يَنْتَفِي إِلا بِلِعَانِهِ هكذا ذكر القولين في المدونة وذكر أن المرأة تحد، لإقرارها بالزنا على كلتا الروايتين.

ابن يونس: وعلى رواية الأكثر إنما يلعتن الزوج فقط، لأن المرأة إنما تلتعن لدفع حد الزنا، لا لنفي الولد، إذ لا يصح نفي ما ولدته بخلاف الزوج. قيل: والمسألة على وجهين، أحدهما: أن تقول المرأة ليس الولد منك، والثاني: أن تصدقه في الزنا، وتقول: الولد منك، وفيها ثلاثة أقوال، قيل: ينتفي بغير لعان فيهما، وقيل: لا ينتفي إلا بلعان فيهما، وقيل: بالفرق، فإن صدقته في نفي الولد انتفى بغير لعان، وإلا ففيه اللعان، والأقرب ما ذهب إليه الأكثر، لأن تصديقها للزوج في أن الولد ليس منه إقرار على الغير. ابن رشد: فإن رجعت المرأة فأكذبت نفسها، فإن كان قبل الحكم لم يسقط نسب الولد، وعاد اللعان بينهما، فإن نكل الزوج لحق به الولد ولا يحد، لأنها مقرة، وإن رجعت بعده لم يقبل رجوعها، وقال ابن الكاتب: لا يقبل رجوعها بعد إقرارها لما تعلق الزوج بذلك من الحق. ابن عبد السلام: وكان ينبغي أن يسقط الحد ويبقى الولد منفياً كمن أقر بسرقة ورجع عنها، فإنه يغرم المال ولا يقطع. خليل: وقد يفرق بينهما بتشوف الشرع هنا إلى لحوق النسب. فرع: قال ابن القاسم في المطلق قبل البناء، وتقاررا على عدم المسيس، ثم مات الزوج وظهر بها حمل فقالت: هو منه، فالولد يلحق به، ولا ترثه هي ولا يتم لها صداقها. محمد: لأ، ها لم تثبت على قولها، وتصديقها فيه سقوط الولد على قول من يسقطه بتصديقها، ولا حد عليها لأنها لم تقر بزنا. محمد: والصواب أن يتم لها الصداق لأن الولد إذا لحق فقد [393/أ]، ولو تم لها المسيس، ولو مات قبل انقضاء العدة ورثته إذا كان الطلاق واحدة رجعية.

وَلَهُ نَفْيُهُ حَيّاً أو مَيِّتاً أي للزوج نفي الولد حياً أو ميتاً. ابن عبد السلام: لا خلاف أعلمه في ذلك، قال في المدونة: وإن ولدت ولداً ميتاً أو مات بعد الولادة، ولم يعلم به الزوج لغيبة أو غيرها، ثم نفاه إذا علم به، فإنه يلاعن، لأنه قاذف، وعلى هذا ففائدة اللعان بعد موته سقوط الحد عن الزوج. ولو اسْتَلْحَقَهُ مَيِّتاً لحق وحُدَّ، وقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ظاهر قوله: (وقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ)، أن الخلاف في الحد، ولا خلاف في حده، وإنما الخلاف في الإرث، ومذهب المدونة أنه يرث إن كان للولد الميت ولد، لا إن لم يكن، ففيها: ومن نفى ولداً بلعان ثم ادعاه بعد أن مات الولد عن مال، فإن كان لولده ولد طرب الحد ولحق به، وإن لم يترك ولداً لم يقبل قوله، لأنه يتهم في ميراثه، ويحد ولا يرثه، ودليل المدونة أنه يرث مع الولد السدس، وقد قال ذلك فيمن شهد في وصية له فيها نصيب يسير أن شهادته جائزة، وقال أشهب: لا شيء له، حكاه عنه البرقي وغيره، واختاره ابن القصار، وعلى هذا فلا خلاف في ثبوت الحد وسقوط الميراث، إذا لم يكن للميت ولد، واختلف في الإرث إذا كان له ولد، لكن قيد فضل عدم إرثه إذا لم يكن للميت ولد، بما إذا كان المال كثيراً، وأما إذا كان يسيراً فإنه يرثه، فقيل لابن القاسم: فإن لم يكن له مال ولا ولد، قال أصبغ: فرأيته لا يرى أن يلحق به، ورآه شيئاً واحداً إذا لم يترك ولداً. أصبغ: إذا لم يترك ولداً لم يلحق، وإن استلحقه، كان له مال أو لم يكن، وإنما يلحق به إذا كان له ولد، فيقع الإقرار على النسب. أشهب: ولو كان الولد عبداً أو نصرانياً صدق ولحق به.

أبو إسحاق: لم يتهمه إن كان له ولد، وإن كان يرث معه السدس، فكذلك العبد والنصراني وإن كانا لا يرثاه. خليل: والذي ينبغي أن تتبع التهمة، فقد يكون السدس كثيراً، فينبغي ألا يرثه، ولو كان للميت ولد، وقد يكون المال كله يسيراً، فينبغي أن يرثه، وإن لم يكن له ولد. ويَكْفِي فِي الأَوْلادِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِعَانٌ وَاحِدٌ يعني: إذا ولدت أولاداً عدة، واحداً بعد واحد، وكان الزوج غائباً، ثم قدم ونفى الجميع، فإنه يكفيه لعان واحد، كمن قذف امرأته بالزنا في مرات متعددة، فإنه يكفيه لعان واحد. فرعان: الأول: إذا قدم من سفره فوجد ولداً فنفاه، فذلك على ضربين، أحدهما: أن يقول: لم تلديه، والثاني: أن يقول: ولدتيه ولكن ليس مني، فأما الأول، فهو أن ينكر أن تكون ولدته جملة، فقال الباجي: قال ابن القاسم في الموازية: هو منه إلا أن ينفيه بلعان، وقال أشهب: المرأة مصدقة ولا لعان فيه، إلا أن يقصد بذلك نفي الولد منه، فيلاعن. ابن القاسم: فإن نكل بعد أن نفاه على هذا الوجه، ولم يلاعن لم يحد، وأما الوجه الثاني فإنه لا ينفيه إلا بلعان. الثاني: قال في المقدمات: واختلف فيمن قذف أربع نسوة في كلمة واحدة، فقال الأبهري: لست أعرفها منصوصة، والذي يجيء على مذهبنا أن يلاعن لكل واحدة، لأن اللعان بمنزلة الشهادة، ولو أتى بالشهود لزم أن تعتبر الشهادة على كل واحدة بانفرادها، ويحتمل أن يجزيه لعان واحد، كما لو قذف جماعةب كلمة واحدة، وكما لو ظاهر منهن، فإنه تكفيه كفارة واحدة، وحكي عن إسماعيل القاضي ما يؤخذ منه الاكتفاء بلعان واحد، وقال اللخمي: وقال محمد فيمن قذف امرأتيه، فقامت عليه إحداهما، فقال كذبت عليك، جلد الحد، ثم قامت الأخرى فلا حد عليه، لأن ذلك الضرب لكل من قذف قبل ذلك، فإن قال لها بعد أن ضرب: قد صدقت عليك، أو على صاحبتك، كان عليه

الحد، إلا أن يلاعن، وسواء قال ذلك لمن قامت عليه أم لا، هذا قول ابن القاسم، وقال عبد الملك: يحد للأولى، ولا لعان له فيها، لأنه قذف ثان قد أكذب نفسه فيه. محمد: ولو قال للثانية: أما أنت فقد صدقت عليك، وكذبت على صاحبتك، لا عن الثانية، وقول ابن القاسم هنا، أنه يلاعن الأولى إذا رجع بعد أن كذب نفسه، خلاف المعروف من المذهب، وخلاف الأصول، انتهى. وكَذَلِكَ فِي الزِّنَا والْوَلَدِ جَمِيعاً يعني: إذا قال: هذا الولد ما هو مني، وزنيت قبل الحمل أو بعده، فإنه يكفي فيهما أيضاً لعان واحد، لأن حاصل قوله راجع إلى قذف المرأة بالزنا مرات، وكما اكتفي لذلك الحد الواحد، كذلك اكتفى بلعان واحد. ومَنَعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْحَمْلِ لِجَوَازِ انْفِشَاشِهِ، ورُدَّ بأَنَّ الْعَجْلانِيَّ وغَيْرَهُ لاعَنَ فِي الْحَمْلِ لِظُهُورِهِ كإيجاب النَّفَقَةِ والرَّدِّ بِالْعَيْبِ .... يعني: اختلف فيمن نفى حملاً ظاهراً، فالمشهور أنه يعجل كما يقضي للمطلقة بنفقة الحمل، إذا ظهر حملها، وكما يجب الرد للمشتري إذا اشترى جارية وظهر حملها، ولا يؤخر فيهما إلى الوضع، ومنع عبد الملك اللعان قبل الوضع خشية أن ينفش، ورواه عن مالك، والفرق على قوله بين اللعان، وما ذكر أن اللعان تترتب عليه أمور عظام عظام من فسخ النكاح والحرمة على التأبيد ووجوب الحد، واستدل [393/ب] محمد للمشهور بأ، قال: السنة أن يلاعنها حاملاً، وقد لاعن النبي صلى الله عليه وسلم في عويمر وامرأته حامل، وإلى هذا أشار بقوله: (ورُدَّ بأَنَّ الْعَجْلانِيَّ وغَيْرَهُ لاعَنَ فِي الْحَمْلِ). اللخمي وغيره: وليس هذا الرد بالبين، لأن عويمر أو هلال بن أمية لم يكن سبب لعانهما إنكار الحمل، وإنما كان السبب في لعانهما الرؤية، نعم كانت امرأة العجلاني حاملاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن جاءت به على وجه كذا ... وإلا فقد كذب عليها". اللخمي: والخلاف إنما هو إذا لم تكن رؤية، أو كانت ولم تقع بقذفها.

وَلو انْفَشَّ الْحَمْلُ لَمْ تَحِلَّ أَبَداً إِذْ لَعَلَّها أَسْقَطَتْهُ وكَتَمَتْهُ هذه المسألة وقعت هنا في أكثر النسخ، وسقطت من بعضها، وتصورها ظاهر، وقوله: (إِذْ لَعَلَّها أَسْقَطَتْهُ وكَتَمَتْهُ)، نحوه في المدونة، وتقديره أن التحريم على التأبيد ثابت لحصول سببه، وهو اللعان، ورافعه هو انفشاش الحمل مشكوك فيه، لاحتمال أن تكون أسقطته وكتمته، فلا يؤثر هذا الشك في ذلك المحقق، وظاهره وهو الذي صرح به ابن عبد الحكم، أنه لو تحقق أنه انفش بحيث لا يشك في ذلك، مثل أن تلازمها بينة ولا تفارقها إلى انقضاء أمد الحمل، أن ترد إليه لزوال الشك، قيل: وقول ابن عبد الحكم تفسير للمدونة، وقال الباجي: إذا قلنا برواية ابن القاسم أنه يلاعن بظهور الحمل، فتلاعنا، ثم انفش الحمل، لم يحد الزوج، ولم تحل له أبداً، قاله ابن المواز، ووجه ذلك أن حكم اللعان قد ثبت بينهما، فلا يزول بما يتبين من الكذب، كما لو أقر الزوج بالحمل، وفهمه ابن عبد السلام على أنه خلاف للأول، وقال: الأول عندي أولى لأنه أوفق لقول مالك؛ إن أراد الباجي بقوله تفسير قول مالك، وفيه نظر، ويمكن ألا يكون ما قاله الباجي مخالفاً لما قاله ابن عبد الحكم. ولا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَزْلٍ لمَّا قدم ما يعتمد عليه في نفي الحمل، أخذ يتكلم هنا فيما يتوهم أنه مانعاً وليس بمانع، أي لا يجوز له أن يعتمد في نفي الحمل على عزل، لأنه قد يبسقه الماء ولا يشعر به. ابن عبد السلام: وأشار بعض الشيوخ إلى اعتباره في الإماء. ولا مُشَابَهَةٍ لِغَيْرِهِ ولو بالسَّوَادِ لما في الصحيح عن أبي هريرة أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي قد ولدت غلاماً أسود، وإني قد أنكرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟

فقال: نعم، فقال: ما لونها؟ فقال: أحمر، فقال: هل فيها من أورق؟ فقال: نعم؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأنى هو يكن؟ فقال: لعله يكون نزعه عرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذا لعله يكون قد نزعه عرق" زاد البخاري: ولم يرخص له في الانتفاء منه. ابن عبد السلام: ففهم الأئمة من هذا الحديث أن الأشباه لا يعتمد عليها، وأراد اللخمي أن يسلك بذلك مسلك التعليل، وزاد: فألزم عكس العلة، فقال: ولو كان الأبوان أسودان قدما من الحبشة، فولدت أبيض، فانظر هل ينفيه بذلك، لأنه لا يظن أنه كان في آبائه أبيض، أي لأنه لا يمكن أن يقال هنا، لعله عرق نزعه. ولا عَلَى الْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ إِنْ أنزَلَ لاحتمال أن يكون وصل من مائه شيء إلى الفرج، قالوا: وكذلك الوطء في الدبر، واستشكل الباجي هذا، فقال: يبعد عندي أن يلحق الولد من الوطء في غير الفرج، ولو صح هذا لما جاز أن تحد امرأة يظهر بها حمل ولا زوج لها، لاحتمال أن يكون من وطءٍ في غير الفرج. ولا وَطءٍ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ إِنْ كَانَ أَنْزَلَ قَبْلَهُ ولَمْ يَبُلْ أي لاحتمال أن يكون بقي من الماء شيء، في قناة الذكر، ولهذا إذا بال جاز له الاعتماد، لأنه لا يبقى شيء بعد البول. ويُلاعِنُ الأَخْرَسُ بِالإِشَارَةِ والْكِتَابَةِ إِنْ فُهِمَ كما يصح بيعه وشراؤه ونكاحه وطلاقه، والزوجة الخرساء كذلك، في العتبية، في المرأة الصماء البكماء، يقذفها زوجها، أنها تلاعن بما يفهم منها بالإشارة.

ويلاعِنُ الأَعْمَى فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وفِي الْقَذْفِ لا إشكال في ملاعنته في نفي الولد، وأما القذف فملاعنته فيه متفق عليها من حيث الجملة، لكن هل يعتمد على يقينه أو لا يعتمد إلا على مسيس الفرجين؟ قولان قد تقدما. أَمَّا إِذَا تَبَيَّنَ انْتِفَاؤُهُ عَنْهُ- بِأَنْ نَكَحَ مَشْرِقِيٌّ مَغْرِبِيَّةً فَأَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ إِمْكَانِ وَطْءٍ، أَوْ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ، أَوْ هُوَ صَبِيٍّ صَغِيرٌ حِينَ الْحَمْلِ، أَوْ كَانَ مَجْبُوب- فَلا لِعَانَ ..... صورة ذلك أن يعقد المشرقي وهو في المشرق النكاح على امرأة مغربية وهي بالمغرب، ويتولى عقد النكاح بينهما إما أبوها وهي بكر أو وكيلها وهي ثيب، وخالفنا في ذلك أبو حنيفة، فألحق الولد، وتمسك بعمووم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وبقوله عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش" وخصص أهل المذهب الآية والحديث، بما إذا كان الوطء ممكناً في العادة، وقوله (أقرب)، وقوله: (أَوْ كان لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ) تقديره: أو كان الولد الذي أتت به غير السقط، لأقل من ستة أشهر من حين العقد، ينتفي بغير لعان، لأنه لا يمكن أن تضع لأقل من ستة أشهر، وقوله: أو هو صغير أو مجبوب [394/أ]، أي فينتفي الولد أيضاً عنهما بغير لعان لعدم إمكان الحمل فيهما في العادة. فَإِنْ نَسَبَهَا إِلَى اسْتِكْرَاهٍ أَوْ وَطْءٍ شُبْهَةٍ لاعَنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ولَمْ تُلاعِنْ هِيَ إِذَا ظَهَرَ الْغَصْبُ ...... نحوه في الجواهر، ولفظه: فلو نسبها إلى زنى هي مستكرهة فيه، التعن هو لنفي الولد، ولم تلتعن هي إذا ظهر الغصب، إذ يمكن أن يكون منه، قال ابن عبد السلام: ظاهر هذا الكلام أنه لا يلاعن إلا إذا كان عن الغصب حمل، أو كان يخشى ذلك، فإن فقدا فلا لعان، وظاهر الروايات خلافه، ففي المدونة: إذا قذفها وقد كانت وطئت غصباً

التعن، قال غيره: وإن قذفها برؤية غير الغصب تلاعنا جميعاً، فأما إن غصبت واستمرت حاملاً، ونفى الولد لم ينتف الولد إلا بلعان، ولا تلاعن هي، إذ تقول: إن لم يكن منك فمن الغاصب. ابن عبد السلام: فلم يتعرض ابن القاسم إلى الولد بوجه، مع أنه أثبت اللعان، واختلف الشيوخ في كلام غيره، هل هو تفسير أو خلاف؟ والأقرب أنه تفسير، وأن ابن القاسم تكلم على ما إذا لم يظهر حمل عن ذلك الغصب، وتكلم غيره على ما إذا ظهر، واعلم أن المسألة على صورتين: إحداهما: أن يظهر الغصب أو يثبت، وهذه هي التي تكلم عليها المصنف. اللخمي: وإذا ثبت الاغتصاب ببينة، كان كثبوت الزناء، فيختلف إن قال: ليس مني، وقد كنت استبرأتها؛ هل ينفيه بلعان أو بغيره؟ واختلف قول ابن القاسم إذا كذبته وقالت: هو منه، وإذا كان الحكم لا ينتفي إلا بلعان، فإن اللعان على الزوج وحده، فإن نكل لم يحد، وإن لاعن لم يكن عليها لعان، لأنها تقول: يمكن أن يكون من الغاصب، وأرى ألا ينتفي إلا بلعان، لاتفاقهم إذا كانت الزوجة أمة أو نصرانية، أنه لا ينتفي إلا بلعان، وإن كان لا حد عليه في قذفها. الصورة الثانية: ألا يثبت الغصب ولا يظهر، وهي أيضاً تنقسم إلى صورتين، الأولى أن تصدقه، والثانية أن تنكر الوطء جلمة، فإن صدقته لم ينفه إلا بلعان، وتلاعن أيضاً هي. ابن المواز وابن عبد الحكم: وتقول: ما زنيت، ولقد غلبت على نفسي، وكذلك قال ابن القاسم، وتقول: بالله إني لمن الصادقين ما أطعت، وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كانت من الكاذبين. محمد: ويفرق بينهما، فإن نكلت رجمت. اللخمي: ولا نعلم لرجمها وجهاً، لأن الزوج لم يثبت عليها في لعانه زنى، وإنما أثبت غصباً، فلا لعان عليها، كما لو أثبتت البينة الغصب، ولو لاعنته لم يفرق بينهما، لأنها إنما أثبتت بالتعانها الغصب، وقد صدقها الزوج، ولها أن تقول في الأربع: أشهد بالله إنه لمن

الصادقين، ولقد صدق، وهذا خارج عما ورد في القرآن مما يوجب الحد بنكولها، أو يوجب الفراق إن نكلت، فإن قيل: لم قال ابن القاسم فيما إذا تصادق الزوجان على الغصب أن الولد لا ينتفي إلا بلعان، بخلاف ما إذا تصادقا على الزنا؟ فالجواب أن الزانية لما كانت تحد لإقرارها بالزنى انتفت عنها التهمة، بخلاف التي أقرت بالغصب، فإنه لا حد عليها، فلم تصدق في رفع النسب، قاله صاحب النكت، وأما الصورة الثانية، وهي إذا ادعى الغصب وأنكرته هي، فقال اللخمي: على قول محمد يلتعنان جميعاً، قال: والصواب إذا التعن ألاَّ لعان عليها، لأن الزوج إنما أثبت في التعانه أنه اغتصاباً. فرعان: الأول: إذا نكل الزوج عن اللعان مع ثبوت الغصب بالبينة، وتصادقا عليه، لم يحد، وكذلك إن ادعاه وأنكرته، لأن محمل قول الزوج محمل الشهادة، لا محمل التعريض، قاله محمد وغيره. الثاني: إذا قالت: كنت مغتصبة، وقال: بل كنت طائعة؛ وهي مقرة بالوطء، مدعية للغصب. اللخمي: فعلى قول ابن القاسم، تحد، ولا لعان على الزوج، وعلى قول أشهب، لا تؤخذ بغير ما أقرت به، ويلتعن الزوج، فإن نكل لم يحد، للاختلاف. فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا لاعَنَ هُوَ دُونَهَا أي: كانت الصغيرة المطيقة للوطء، لا يخشى منها الحمل، فقال ابن القاسم: يلاعن وإن نكل حُدَّ، ولا لعان عليها، لأنها لو أقرت بالزنى لم تحد، وهو جار على المشهور أن من قذف صبية غير بالغة يمكن وطؤها يحد، وقال ابن الماجشون: لا حد على من قذف من لم تبلغ من الإناث، فعلى هذا لا يلاعن ولا يحد، وخرج اللخمي ثالثاً، أنه يحد ولا يلاعن من أحد قولي مالك أن اللعان إنما يكون لنفي الحمل خاصة.

وأما إن كانت في سن من يحمل فله أن يلاعن بالاتفاق إن ادعى رؤية، وهل يجب؟ فعلى المشهور يجب، وعلى قول ابن الماجشون لا يجب، وإذا التعن وقف أمرها، فإن ظهر حمل لم يلحق به، ووجب عليها اللعان، لأن الحمل لا يصح إلا من بالغ، وظهوره يبين أنها كانت بالغاً يوم وطئت، فإن نكلت حدت حد البكر، لإمكان أن يكون بلوغها بعد إصابة الزوج وقبل الإصابة التي رماها به، ولو لم تقم هي بقذفها حتى ظهر الحمل، وجب عليها اللعان [394/ب] باتفاق، فإن نكل حد لأنه قاذف لبالغ، ولحق به الولد، وإن وجب عليها اللعان، ونكلت حدت حد البكر، وإن كانت ممن قعدت عن الحيض وادعى رؤية، تلاعنا على قول ابن القاسم، وأحد قولي مالك، وعلى أن اللعان لنفي الحمل خاصة يحد الزوج. وشَرْطُهُ فِي الْوَلَدِ أَنْ لا يَطَأَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْلِ وأَنْ لا يُؤَخِّرَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْلِ ..... أي: وشرط اللعان في نفي الولد ألا يطأها بعد الرؤية والعلم بالوضع أو الحمل، لأن وطئها رضىً منه بالبقاء، والنفوس لا تطيق الكتمان في مثل هذا، فإذا سكت دل ذلك على أن الولد منه. وقوله: (وأَنْ لا يُؤَخِّرَ) وشرطه إذا علم بالوضع أو الحمل ألا يؤخر رفعها، فإن أخر ذلك، قال في المدونة: يوماً أو يومين لم ينفعه نفيه، ويلحق به، وتبقى له زوجة مسلمة كانت أو كتابية، ويحد للحرة المسلمة، ولا يحد للأمة ولا الكتابية، قال فيها: وأما إن قدم من سفر فله أن ينفي الحمل، وإن كان ظاهراً، وقيد عبد الوهاب ذلك بما إذا لم يكن له عذر، وأما إن كان له عذر في ترك الإنكار اليوم واليومين، يريد أو أكثر فلا يدل ذلك على الرضا، وهو ظاهر، وخالف في ذلك ابن القصار، فقال: إذا أخر ذلك حتى وضعت، وقال: رجوت أن يكون ذلك ريحاً فأستريح منه، فله ذلك، إلا أن يجاوز ثلاثة أيام بعد الوضع، أو يظهر منه ما يدل على الرضى، مثل أن يقبل التهنئة قبل الثلاث، وقيد المصنف

الشرط بالولد، لأن بعضهم حكى في الرؤية إذا لم يكن عنها حمل، أن السكوت الطويل لا يمنع من اللعان، وإنما يمنع منه الوطء، وروى محمد وابن حبيب عن ابن الماجشون، أنه إذا ادعى رؤية قديمة، ثم قام بها الآن، ألا يقبل قوله، ويحد لأن سكوته حين رؤيته دليل على كذبه، وذكر ابن شعبان أنه إذا لم يقم حين رآها يحد، وإطلاق المصنف الشرط على هذا، هو اصطلاح الفقهاء، لأنهم يرون كل ما يوقف عليه الشرط يسمى شرطاً، وغلا فأهل الأصول يرون مثل هذا مانعاً، ويقولون كل ما يشترط عدمه، فوجوده مانع. وَصِفَتُهُ أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللهِ- وقَالَ مُحَمَّدٌ: يَزِيدُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ- لَرَأَيْتُهَا تَزْنِي، وقِيلَ: ويَصِفُ كَالشُّهُودِ، وقِيلَ: يَكْفِي لَزَنَتْ عَلَى الْخِلافِ الْمُتَقَدِّمِ ..... أي: وصفة اللعان أن يشهد الرجل أربع مرات، فيقول: أشهد بالله، وقيل: يجوز أن يقول: أقسم بالله، وأشهد بعلم الله، وقال بعضهم: ويجزئ بعزة الله، وإذا أجازه بالصفة، فأحرى بأسمائه تعالى. المازري: والمنصوص أنه لا يجزئ في أسمائه إلا بالله، وزاد محمد بعد قوله: أشهد بالله: الذي لا إله إلا هو، وزاد ابن كنانة في ال مجموعة على زيادة محمد: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، قال في المجموعة: يقول ذلك في اللعان وفي القاسمة وفي ربع دينار فصاعداً، وعن أشهب إن لم يزد: الذي لا إله إلا هو لا يجزئه ذلك. وقوله: (لَرَأَيْتُهَا تَزْنِي ... إلخ)، على القول بأنه يعتمد على مطلق الرؤية، ويقول في يمينه: أشهد بالله لرأيتها تزني، وعلى القول بأنه لا يعتمد إلا على الوصف، كالشهود، يقول: رأيتها تزني، يلج فرج الرجل في فرجها، كالمرود في المكحلة، وعلى القول بأنه يعتمد على يقينه كالأعمى، يقول في يمينه: أشهد بالله لزنت، وهذا معنى قوله: على الخلاف المتقدم، وظاهر كلام المصنف أنه اختلف ابتداء، هل يزيد: الذي لا إله إلا هو، وظاهر ما حكاه غيره، أنه يقوله، وإنما الخلاف إذا تركه.

خليل: وفيه نظر، وقد ذكر المتيطي وابن شاس القولين كالمصنف. ابن عبد السلام: وسكت المؤلف هل يقول مع كل مرة إني لمن الصادقين، وذكر أصبغ عن ابن القاسم أنه يقول في كل مرة، أشهد بالله إني لمن الصادقين لرأيتها تزني، وهذا أسعد بظاهر الآية. وفِي نَفْيِ الْحَمْلِ: لَزَنَتْ أَوْ: مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، وقِيلَ: لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الاعْتِمَادِ كَالأَوَّلِ، ويَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ أي: ويقول الرجل في نفي الحمل: لزنت، وهذا مذهب المدونة، وقوله: (أَوْ: مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي)، هو قول محمد، واستحب في الموازية والعتبية، أن يزيد بعد قوله: ما هذا الحمل مني، لزنت كالمرود في المكحلة، وقوله: (وقِيلَ: لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الاعْتِمَادِ) هذا القول نقله ابن شعبان، فقال: وقال بعض أصحابنا: ويقول: لقد استبرأت. اللخمي: وأرى أن يكون اللعان مبنياً على الوجه الذي ينفي به ذلك الولد، فيثبت ذلك في لعانه، وقد اختلف في الوجه الذي به يكون النفي، هل الاستبراء بانفراده أو الرؤية بانفراده، أو بمجموع ذلك؟ فمن أجاز نفيه بالاستبراء فقط أثبت في لعانه الاستبراء، وعلى الرؤية يثبتها فقط، وعلى القول بأنه لا بد من الجميع يثبت الجميع في لعانه، قوله: (الأولى) سقط هذا من بعض النسخ، وثبت في نسخة ابن عبد السلام، فقال: ومراده كالصورة الأولى التي فوق هذه، ووقع في أكثر النسخ كالأول، أي كالفرع الأول، كما كان في الزنا، لابد أن يذكر الاستبراء، كما كان في الزنا، لابد أن يذكر معتمده في الرؤية، فكذلك هنا لابد أن يذكر الاستبراء، وانظر مذهب المدونة بأنه لا يلزم من قوله: زنت، أن يكون الحمل من غيره [395/أ]. قوله: (ويَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) هو نص الآية، وأتى المصنف بـ (أَنَّ) تبعاً للآية الكريمة، والمدونة، وفي الجلاب والكافي: لعنة الله عليه من غير (أن)، وعلى هذا فلا يكون ذكر أن واجباً، ولكن ينبغي أن يكون أولى.

وتَقُولُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ باللهِ مَا رَأَىنِي أَزْنِي، أَوْ مَا زَنَيْتُ أَوْ لَقَدْ كَذَبَ لِلْجَمِيعِ، فِي نَفْيِ الْحَمْلِ: مَا زَنَيْتُ- لِلأَوَّلِ- وإِنَّهُ مِنْهُ- وَقِيلَ وتَعْكِسُ- ولَقَدْ كَذَبَ لِلْجَمِيعِ؛ وفِي الْخَامِسَةِ: أَن غَضبَ الله عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي: وتقول المرأة في القذف أربع مرات: أشهد بالله ما رآني أزني. (لِلأَوَّلِ)، أي القول الأول، وهو مذهب المدونة الذي تقدم، أعني قوله: (لرأيتها تزني)، وقوله: (مَا زَنَيْتُ)، هذا على القول بأنه يكتفي بقوله: (لزنت). وقوله: (وفِي نَفْيِ الْحَمْلِ) أي وتقول في نفي الحمل: (مَا زَنَيْتُ)، على مذهب المدونة (وإِنَّهُ مِنْهُ) على قول ابن المواز. قوله: (وقيل للجميع وتعكس)، أي وقيل: يفتقر الرجل للجميع وتعكس المرأة، وذلك أنه قدم أنه يكتفى على المشهور بقوله: لزنيت، وأنه يكتفى على قول محمد، بـ (ما هذا الحمل مني)، وهذا القول يرى أنه لا بد منهما، وهو لأصبغ، ونصه على نقل اللخمي: وقال أصبغ: يقول أشهد بالله لزنت، وما هذا الحمل مني، وتقول هي: مازنيت وإنه لمنه، ويمكن أن يكون قوله: (وقيل للجميع وتعكس)، أن ذلك خاص بالمرأة، ويكون التقدير، وقيل تفتقر المرأة للجميع وتعكس، وذلك أنه قدم أنها تقول على مذهب المدونة: ما زنيت، وعلى قول محمد: (وإنه منه) أي وقيل على كلا القولين لابد أن تثبت مجموع اللفظين، لأنه إذا قال: زنت، لزم منه نفي الحمل، وإذا قال، على قول محمد، ما هذا الحمل مني، لزم منه الزنا، فترد ما ادعاه عليها تصريحاً والتزاماً، غير أنها تقدم في لفظها ما ذكره تصريحاً، فإذا قال على مذهب المدونة: لزنت؛ تقول هي: ما زنيت وإنه منه، وإن قال على مذهب محمد: ما هو مني؛ تقول هي: إنه منه، وما زنيت، فيكون، وتعكس على هذا التقدير، ما كان مؤخراً على القول الآخر، ولم أر نقلاً يساعد هذا الوجه، فليعتمد على

الأول، وقوله: (ولقد كذب للجميع) أي لجميع الأقوال، أي سواء قال: لزنت وما هذا الحمل مني، أو ذكرهما. قوله: (وفِي الْخَامِسَةِ)، تصوره ظاهر ويقول الرجل: أن لعنة الله، متصلة بيمينه الخامسة، وكذلك المرأة، ولا يفرد اللعنة بيمين لئلا يحلف ستة، قاله ابن القاسم. ويَتَعَيَّنُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ واللَّعْنِ والْغَضَبِ بَعْدَهَا يعني: يتعين أن يقول كل واحد منهما: أشهد، ولا يجزئ أحلف ولا أقسم على المشهور كما تقدم، ويتعين اللعن في حق الرجل والغضب في حق المرأة، هكذا قال عبد الوهاب في شرح الرسالة، أن النظر يقتضي ألا يجزئ إذا بدل اللعنة بالغضب، وبالعكس. أصبغ: وإن قال في الخامسة مكان (إن كنت من الكاذبين)، (إن كنت كذبتهأ)، أجزأه، وإن قالت المرأة في الخامسة، مكان إن كان من الصادقين: إنه لمن الكاذبين أجزأها، وأحب إلينا لفظ القرآن. الباجي: فأشار إلى أن لفظ اللعان غير متعين إلا أن لفظ القرآن أفضل، وظاهر قول ابن وهب في الموازية أنه يتعين بلفظ القرآن. ابن عبد السلام: وأشار بعض أهل المعاني إلى أن الغضب أشد، فعلى هذا إن أبدلت المرأة الغضب باللعنة لم يجزها، وأعادت الخامسة على سنتها، وإن أبدل الرجل أجزأه، فإن قلت: لم اختص الرجل باللعنة واختصت المرأة بالغضب، قيل لأن قاعدة الشرع المجازاة على الفعل من جنسه، يشهد لذلك قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ....} إلى آخرها، وما ورد في الحديث: "من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة" "ومن حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" "ومن قال لصاحبه: تعالى أقامرك، فليتصدق" لأن الحلف بغير الله يتضمن تعظيمه، فكانت كفارته التوحيد، وقد قصد إخراج مال في غير وجه، فكانت كفارته أن يخرج مالاً في وجهه، ولما كان الزوج مبعداً لزوجته ونسبه، ناسب أن

يذكر اللعنة، ولما كانت المرأة مغضبة لزوجها ووليها وأهلها، ناسب أن تذكر الغضب، والله أعلم. فَلَوْ بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ بِاللِّعَانِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يُعَادُ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُعَادُ لا خلاف أن الرجل يبدأ باللعان، وهو الذي دلت عليه الآية، ووقع في حديث عويمر، وذكر عبد الوهاب أن المذهب فيها إذا أخطأ، وقدم المرأة إعادتها، ونقل ابن الكاتب واللخمي وصاحب البيان عن ابن القاسم وأشهب مثل ما نقله المؤلف، وجعل في البيان منشأ الخلاف، هل تقديم الرجل واجب أم لا، وقاس أشهب عدم الإجزاء على ما إذا حلف الطالب قبل نكول المطلوب، فإنه لا يجزئ، واختار ابن الكاتب واللخمي قول أشهب، قال في البيان: والخلاف إنما هو إذا حلفت المرأة أولاً كما يحلف الرجل، لا على تكذيب أيمانه، فقالت: أشهد بالله إني لمن الصادقين ما زنيت، وأن حملي هذا منه، وقالت في الخامسة، غضب الله عليها إن كانت من الكاذبين، فها هنا قال ابن القاسم: يلتعن الرجل فيقول: أشهد بالله إنها لمن الكاذبين، ولقد زنت وما هذا الحمل مني، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه [395/ب] إن كانت من الصادقين، وأما إن حلفت المرأة أولاً، فقالت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلا خلاف بين ابن القاسم وأشهب في إعادة المرأة، لأنها حلفت على تكذيب أيمان الزوج، وهو لم يتقدم له يمين، انتهى. فإن قلت: لم خولفت القاعة في اليمين هنا وفي القسامة، لأن الزوج وأولياء المقتول مدَّعون، والقاعدة إنما يحلف أولاً المدَّعى عليه؟ قيل: أما الملتعن فإنه مدع ومدعى عليه، ولذلك يحلف هو والمرأة، وبدئ باليمين لأنه لما قذفها طالبته بحقها، احتاج لذلك أن يحلف، إذا صار مدعى عليه الحد، وأما أولياء المقتول فإنهم مدعى عليهم حكماً، وإن

كانوا مدعين في الصورة، فإن المدعى عليه من ترجح قوله بمعهود أو أصل، وهم كذلك ترجح قولهم باللوث، والله أعلم. ويَجِبُ فِي أَشْرَفِ أَمْكِنَةِ الْبَلَدِ نحوه في الجواهر، وكذلك قال الباجي وابن راشد: إن التغليظ بالمكان شرط، لأنها يمين فيما له بال تحتاج إلى التغليظ، فكان من شرطها أن تغلظ بالمكان كاليمين في الحقوق، وعليه جماعة العلماء، هذا نص كلامهما، وهو مقتضى كلام عياض وغيره، وقال ابن عبد السلام: ليس هذا واجب، بل أولى، وعبارة المتقدمين كما في المدونة: ويلتعن في المسجد، ولم يشترط عبد الملك المسجد، بل قال: يكون عند الإمام أو في المسجد عن أمر الإمام. خليل: وفيه نظر لما ذكرناه عن الباجي وغيره. وبِحُضُورِ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ لقول سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إنما يتم الاستدلال بهذا الحديث أن لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أحضرهم، أما إن كان حضورهم اتفاقياً فلا، وأما أن أقل العدد أربعة، فلاحتمال نكول الزوجة الموجب للحد، أو إقرارها فلا يتم الحكم إلا بأربعة شهداء، على أحد القولين عندنا. وفِي إِثْرِ صَلاةٍ قَوْلانِ، عَنْ مَالِكٍ: بَعْدَ الْعَصْرِ أَحَبُّ إِلَيَّ اختلف قوله في المدونة في ذكر الوقت في هذه المسألة، فنفاه في باب الأقضية، وقال في اللعان: عند الإمام دبر الصلاة، واختلف هل هو اختلاف قول أو أراد بالنفي الصلاة المعينة، وبالإثبات الصلاة غير المعينة، ووقع لمالك في الموازية: هو جائز في كل وقت. الباجي: والتغليظ بالوقت، أي في كونه بإثر صلاة مستحب، وقال ابن الماجشون: لا يكون إلا بإثر صلاة، وكأنه جعل ذلك شرطاً كالمكان، وإذا قلنا بإثر صلاة فمقتضى

كلامه في المدونة في اللعان عدم التعيين، وكذلك قال في غير المدونة عن مالك، بإثر مكتوبة أحب إليَّ، قال: وكذلك عندنا بإثر العصر، وليس بسنة، وقال ابن شعبان: بإثر العصر والصبح، وقيل بعد الظهر أو العصر، وقال سحنون: بعد العصر سنة، واستحسنه جماعة لما في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم، رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخطه، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت فيها كذا وكذا فصدقه". عياض: وسنة اللعان أن يكون مشهوراً بحضرة الناس، وحضرة الإمام، أو من يستنيبه لذلك من الحكام، قال: وهذا إجماع أنه لا يكون إلا بسلطان، وقال اللخمي: لا يبعد أن يكون عند الفقيه الجليل. ابن عبد السلام: يريد عن أمر الإمام والقاضي. ويُسْتَحَبُّ تَخْوِيفُهُمَا- وخُصُوصاً عِنْدَ الْخَامِسَةِ- ويُقَالُ: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ الْعَذَابِ، وعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذّابِ الآخِرَةِ .... قوله: (ويُقَالُ: إِنَّهَا)، أي يقال لهما: هذه الخامسةم هي موجبة العذاب، لما في الصحيح، أنه عليه الصلاة والسلام تلا آية اللعان على الملاعن، ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، وفي النسائي أنه عليه الصلاة والسلام أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده على فيه عند الخامسة.

ويُؤَخِّرُ لِعَانُهُمَا مَعاً وفِي الْمُخْتَصَرِ لِعَانُهَا لِلْحَيْضِ والنِّفَاسِ كَمَا يُؤَخَّرُ طَلاقُهَا لِلإِعْسَارِ والْعُنَّةِ بِخِلافِ الإِيلاءِ، ورَوَى أَشْهَبُ: والإِيلاءُ .... أخر اللعان للحيض، وإن لم يكن طلاقها للمشهور، قياساً على منع الطلاق فيه، بجامع تطويل العدة، ومراعاةً لقول من قال أن الفرقة فيه طلاق (بِخِلافِ الإِيلاءِ) أي فلا يؤخر التطليق له للحيض، لئلا ياد فيما أجله إليه من الأربعة أشهر، ولعله يريد بالمختصر، مختصر ابن أبي زيد، لا مختصر ابن عبد الحكم، فإن هذه المسألة مشهورة عنه، وينبغي إذا التعن هو على ما في المختصر أن تسجن هي لأنها مطلوبة بحد الزنا، إن نكلت كما كان مطلوباً [396/أ] بحدِّ القذف، وحد الزنا آكد، على أن الباجي لم يسق ما في المختصر على أنه خلاف، بل نقله عن الأصحاب، وكذلك ساقه ابن يونس على جهة التفسير. فرع: قال الباجي: فإن كان مريضاً أو كانت مريضة أرسل الإمام إلى المريض منهما، رواه في العتبية أصبغ عن ابن القاسم، ووجه ذلك أنه حكم من سنته التعجيل، والمرض لا يدرى له غاية، فيسقط التغليظ بالمكان للضرورة. ولَوْ قَذَفَهَا بِأَجْنَبِيٍّ حُدَّ لَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: إذا سماه، فقال: رأيتها تزني مع فلان، فإنه يحد لذلك الأجنبي على المشهور. الباجي: ولا يخلصه من ذلك اللعان مع الزوجة، خلافاً للشافعية، ودليلنا أنه شخص لا يجب عليه الحد بالتعان الزوج، فلم يسقط حده بالتعانه، كالمرأة الأجنبية، أما لو حد للرجل المسمى، فقال سحنون: يسقط عنه اللعان. الباجي: ووجهه أن من حد لقذف دخل فيه كل قذف ثبت عليه قبل ذلك الحد ممن قام به ومن لم يقم به، ومقابل المشهور لم أره معزواً، ووجهه أنه قذف شخصين قذفاً واحداً، وقد

جعل الشرع اللعان يقوم مقام الحد، ولو حد لأحدهما سقط عنه الحد للآخر، وأيضاً فإن هلال بن أمية رمى زوجته بشريك بن سحماء، فلاعن ولم يحد له، وأجيب عن هذا بأنه لم يطلبه، وهو صحيح على الأصح، لأنه حق لآدمي. فرع: وأما إن لم يسم الرجل، فالمذهب أنه لا حد عليه، خلافاً للشافعي في أحد قوليه لنا أن حد القذف لا يجب استئنافه إلا بمطالبة مستحقه، والمجهول لا يستحق المطالبة، فكان كمن قال رأيت رجلاً يزني. وعَلَى حَدِّهِ- مَعَ وُجُوبِ إِعْلامِهِ- قَوْلانِ أي: وإذا فرعنا على المشهور من أنه يحد، ففي الجواهر: ليس على الإمام أن يعلمه، وروي أن ذلك عليه ومنشأهما: هل الحد حق لله فلا يجب إعلامه، أو حق للآدمي فلابد من إعلامه؟ وهو الأقرب، أما أولاً فلأنه قد يعترف فيسقط الحد، وأما ثانياً، فلأن الأصح أنه من حقوق الآدميين، بدليل أنه يورث ويسقط بالعفو، قبل بلوغ الإمام، فإن قيل هذا معترض لأنه هنا قد بلغ الإمام، فالجواب أنه ولو بلغ الإمام، فإن له العفو إذا أراد ستراً على نفسه على ظاهر المذهب، فإن بعض من رأى وجوب إعلامه، وهذه المسألة إحدى المسائل التي استثنيت من النميمة. ولَوْ لاعَنَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا لَمْ يُحَدَّ عَلَى الأَصَحِّ تصور المسألة من كلامه واضح، والأصح مذهب محمد، قال: لأنه إنما لاعن لقذفه إياها، والقول بوجوب الحد نقله عياض عن ابن نافع، ونسبه في المدونة لربيعة، وفي الموازية لابن شهاب، لأنه قذفها وليست بزوجة، واختاره التونسي، فإن قلت: ما قاله المصنف هنا مخالف لما قاله في القذف، ولو حد ثم قذفه ثانياً حد ثانياً على الأصح، قيل:

وقد فرق ابن الكاتب بين المسألتين، بأن المتلاعنين أحدهما كاذب، إلا أنه لا يدري من هو منهما، فإذا قال الزوج، ما كنت إلا صادقاً لم يحد، إذ لعله كان صادقاً، والقاذف إنما حد تكذيباً له، فإذا قال: كنت صادقاً، فهو قذف مبتدأ، فوجب أن يُحدَّ تارة أخرى، والله أعلم. ومَتَى اسْتَلْحَقَ الْمَنْفِيَّ لَحِقَ وحُدَّ، إِلا أَنْ تَكُونَ زَنَتْ بَعْدَ اللِّعَانِ فَلا يُحَدُّ، وقِيلَ: إِنْ كَانَ المنفْيُ عَنْ قَذْفِهَا بالزِّنَى .... لأن استلحاق الولد بعد نفيه إقرارٌ منه بالكذب فيما رماها به، فيحدّ، إلا أن تكون زنت بعد اللعان فحينئذ لا يحد ويصير كمن قذف عفيفاً، فلم يحد له حتى زنا المقذوف فإنه يسقط الحد عن القاذف، وهذا مذهب المدونة، قوله: (وقِيلَ) هذا القول لابن المواز، يعني يحد على القول الأول مطلقاً، سواء كان لاعن لنفي الحمل أو الرؤية، وقال محمد: إنما يحد إذا لاعن لنفي الولد، لأنه كذب نفسه باستلحاقه، وأقر بأن لعانه كان باطلاً، قال محمد: وأما إن ادعى الرؤية بانتفاء الحمل والتعن لهما معاً فلا يلزم من تكذيب نفسه في الحمل تكذيبه في الرؤية، فقد بقي للعانه محمل وهو الرؤية، هذا نص قوله: وعلى هذا فيكون قوله: وقيل: إن كان المنفي عن قذفها بالزنا، أي فلا يحد، وقوله: بالزنا، أي سواء كان الزنا بمفرده أو مع نفي الحمل، وأما إذا كان اللعان لنفي الولد فقط، فإنه يحد، وهذا خلاف ظاهر كلام المصنف، على أنه يمكن أن يقال أن قوله: (وقِيلَ)، راجع إلى قوله: (فَلا يُحَدُّ)، أي قيل لا يحد إن كان المنفي عن قذفها بالزنا. وشَرْطُ الْمُلاعِنَةِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً مُكَلَّفَةً- فَتُلاعِنُ الذِّمِّيّةُ فِي كَنِيسَتِهَا- لا فِي الْمَسْجِدِ- لِرفْعِ اللعان، فإنْ أَبَتْ أُدِّبَتْ ..... احترز بالزوجة من الأمة، وبالمكلفة من الصغيرة، فإنهما لا يتلاعنان، نعم يلاعن هو إذا كانت ممن يوطأ مثلها، كما تقدم، وقوله: (فَتُلاعِنُ)، جعله كالنتيجة عما قبله، وفي

إدخاله الذمية تحت المكلفة تسامح، لأنه إن أدخلها لأجل أنها مكلفة بالأيمان بالاتفاق، وهو تكليف مقيد فيستلزم التكليف المطلق فغير بين، لأنه إن أريد ذلك المقيد بخصوصيته، منع ذلك من تكليفها بغيره، وإن أدخلها على القول بتكليفهم بالفروع على [396/ب] معنى أنهم يؤخذون بها في الدنيا، فهذا مال إليه بعض المتأخرين، لكن الذي قاله غير واحد أن أثر التكليف إنما يظهر في الآخرة بتضعيف العذاب، والبيعة لليهودية، كالكنيسة للنصرانية، وإنما لاعنت في الكنيسة لأنها هي التي تعظم، والقصد التغليظ على الحالف، ولأن الكافر ممنوع من دخول المسجد، ومعنى قوله: (فَتُلاعِنُ الذِّمِّيّةُ) أي إذا أجابت. مطرف: معنى قول مالك في المسلم تحته النصرانية، فينفي حملها، إنما يتلاعنان، يعني إن طاوعته، ولا تجبر، لأنها لو أقرت بالزنا لم تحد، وقوله: لرفع العار، يعني أن ثمرة لعانها مخالف لثمرة لعان المسلمة، لأن المسلمة يلزمها الحد بالنكول، بخلاف الذمية، فإنها لا تحد، ولو شهد عليها أربعة بالزنا، وإنما أدبت لإذايتها زوجها المسلم، قال في الجواهر: وإذا التعنت انقطع النكاح، وإن أبت فهما على الزوجية، وترد إلى أهل دينها بعد العقوبة لأجل خيانتها زوجها في فراشه، وإدخالها الالتباس في نسبه، وهكذا روى مطرف عن مالك، أنها إذا نكلت ترد إلى أهل دينها، ولهذا قال صاحب النكت إنما فرق بين الصغيرة، وقال أنها لا تلاعن، وبين الكتابية، وقال أنها تلاعن، مع أن كلتيهما لو نكلت أو أقرت لم تحد، لأن النصرانية قد يتعلق عليها بإقرارها ونكولها حد عند أهل ملتها، لأنها مردودة إليهم. وَالطَّلاقُ الرَّجْعِيُّ لا يَمْنَعُ فِي الْعِدَّةِ، وفِي الْبَائِنِ قَوْلانِ كلام المصنف هنا باعتبار الرؤية، لا باعتبار نفي الولد، فإنه سيذكر اللعان باعتبار نفي الولد، يعني أن من طلق زوجته طلاقاً رجعياً، ثم ادعى أنه رآها تزني، فإنه يلاعن، ولا يمنع من اللعان طلاقه، لأن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة، وأما إن كانت في عدة طلاق بائن، فحكى المصنف قولين، وحكى الباجي وصاحب البيان ثلاثة أقوال،

قال ابن القاسم: وروى ابن وهب عن مالك: يلاعن، يريد لأن العدة من توابع الزوجحية، وقال ابن المواز: يحد ولا يلاعن، لأنها أجنبية، وقال المغيرة: لا يحد ولا يلاعن، وإليه مال سحنون، قال في الموطأ وغيره: ولو ادعى بعد أن طلقها البتة، أنه رآها تزني قبل أن يطلقها، فإنه يحد ولا يلاعن، وقال في كتاب أبي الفرج أنه يحد إلا أن يظهر بها حمل فينفيه فيلاعن، وقال ابن المواز أحب إليَّ أن ينظر، فإن تبين ألا حمل بها حد، وإن ظهر لاعن. الباجي: هذا مبني على قول ابن المواز أن المطلق بائناً لا يلاعن إلا لنفي الحمل، وتقدم لابن القاسم وغيره أنه يلاعن، والخلاف بين أبي الفرج وابن المواز في تأخير الحد بعد القذف، فأبو الفرج يعجل بالحد، لأن من قذف وادعى المخرج لا يمهل، وابن المواز يؤخر، بخلاف الأجنبي، لحاجة الزوج له دون غيره. وتُلاعِنُ ولَوْ تَزَوَّجَتْ إِن كَانَ الْقَذْفُ سَابِقاً ورَفَعَتْهُ يصح أن يقرأ (يلاعن) بالياء من أسفل، وبالتاء من فوق، فإن المطلق والمطلقة، يتلاعنان إذا كان قذفها بالزنا، وهي في عصمته، ثم طلقها ورفعته بعد ذلك، فقوله (سَابِقاً) أي سابقاً للطلاق. فرع: قال في الجواهر: إذا قذف أجنبية ثم نكحها وقذفها فلاعن، اندفع الحد. وأَمَّا نَفْيُ الْوَلَدِ فَيَجْرِي فِي كُلِّ مَنْ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا حَيَّة أَوْ مَيِّتَةً إِلا مِلْكَ يَمِينِهِ هذا مما يبين لك أن كلامه أولاً إنما هو باعتبار الرؤية، ويدخل في قوله: (مَنْ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا) من في عصمته أو طلقها طلاقاً رجعياً أو بائناً، سواء خرجت من العدة أم لا، ما لم تجاوز أقصى أمد الحمل، وقوله: (إلا في ملك يمينه) أي فلا لعان في ذلك. فَلَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ولا حَمْلَ حُدَّ أي: قذفها برؤية الزنا، قيل: ولا خلاف في ذلك.

وإن اشْتَرَى زَوْجَتَهُ ثُمَّ ظَهَرَ حَمْلٌ فَإِنْ وَلَدَتْه لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحُكْمُهَا فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ، وإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ فأكثر فَحُكْمُهَا حُكْمُ الأَمَةِ ..... لما قدم أن اللعان في الزوجة دون الأمة، ذكر هذه لأنها مركبة من القسمين، وهي إذا اشترى زوجته ثم ظهر بها حمل، قال في النوادر: ولو اشترى زوجته ثم ظهر بها حمل فإن علم أنها كانت يوم الشراء حاملاً، لم ينفه إلا بلعان، إلا أن يكون وطأها بعد رؤية الحمل، فلا ينفه، وإن لم يعلم أكانت حاملاً يوم الشراء أم لا، حتى ظهر الحمل، وأتت به لأقل من ستة أشهر، فالولد للنكاح، ما لم يطأ بعد الشراء. الشيخ أبو محمد: قوله: (ما لم يطأها بعد الشراء)، يريد إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر، وقد روى ابن سحنون عن أبيه، أنه إذا لم يطأها بعد الشراء فحيضتين، قال: ولو وطئها بعد الشراء، فلا ينفيه بلعان ولا بغيره، استبرأها بعد الوطء أو لم يستبرها، إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد أن وطأها، فهذا ينظر، فإن ولدت لأقل من ستة أشهر فهو للنكاح، لا ينفيه إلا بلعان، وإن ولدت لستة أشهر فأكثر، فله نفيه بغير لعان إن ادعى استبراء بعد الوطء الذي هو بعد الشراء، وإن لم يدع استبراء فهو منه، انتهى. وذكره في الجواهر بنصه، وعلى هذا فكلام المصنف مقيد بما إذا لم يعلم أنه كانت حاملاً يوم الشراء، أو بما إذا لم يطأها [397/أ]، وقولهم: إنها إذا ولدته لستة أشهر فأكثر، أن له نفيه بغير لعان، يريدون بغير يمين. وحُكْمُهُ رَفْعُ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ أَوِ الأَدَبُ كَالأَمَةِ والذِّمِّيَّةِ اعلم أنه يترتب على اللعان ستة أحكام، ثلاثة على لعانه وثلاثة على لعانها، فالثلاثة الأول: سقوط الحد عنه وهو مراد المصنف بقوله: (الْعُقُوبَةِ)، ولذلك عطف عليه (الأَدَبُ)، الثاني: وجوب حد الزنا عليه، الثالث: قطع النسب.

والثلاثة الأخر: سقوط الحد عنها، والفراق وتأبيد التحريم، وقيل في الأخيرين أنهما يترتبان على لعانه، وقوله: كالأمة والذمية راجع للأدب، فإن قاذفها لا حد عليه، وإنما عليه الأدب. وإِيجَابُهَا عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تُحَدُّ في الإِقْرَارِ مَا لَمْ تُلاعِنْ أي: وإيجاب العقوبة، وهذا هو الثاني من الأحكام المترتبة على لعانه، وأخرج بقوله: (التي تحد بالإقرار) الصبية والذمية، وتصور كلامه ظاهر. وتَحْرِيمُهَا أَبَداً بِتَمَامِ لِعَانِهَا، فلو أَكْذَبَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ قَبْلَ تَمَامِ لِعَانِهَما حُدَّ وبَقِيَتْ زَوْجَتُهُ، ويَتَوَارَثَانِ وإِنْ رُجِمَتْ .... ما ذكره من تحريمها أبداً هو المعروف، وذكر ابن شعبان عن عبد العزيز بن أبي سلمة أنه قال: تحل بنكاح جديد، وقاله ابنه عبد الملك في الثمانية. اللخمي وأشهب ينحوا إليه، وقوله: (بِتَمَامِ لِعَانِهَا): يدل على أن الفراق يقع لمجرد التعانها، وهو المذهب، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، في قوله: لا تقع الفرقة بلعانها، حتى يوقعها الحاكم بينهما. فرع: والفرقة في اللعان فسخ بغير طلاق، قال في المقدمات: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه، وقال جماعة من أصحابنا أنه طلقة بائنة، وفي الجلاب، أن الملاعنة قبل البناء لا صداق لها، خلاف قول مالك في المدونة والموطأ، أن لها نصف الصداق، وبناه اللخمي على أن فرقة المتلاعنين هل هي فسخ فلا شيء لها، أو طلاق فلها، وفيه نظر، فإن المعروف أن لها النصف، وأن فرقة المتلاعنين فسخ، ولكن لما كنا لا نعلم صدق الزوج، ولعله أراد تحريمها وإسقاط حقها من نصف الصداق، اتهم في ذلك، وألزم نصف الصداق، ويحتمل أن يكون إنما التزمه النصف مراعاة لقول من قال هو طلاق.

عبد الحق واللخمي وابن يونس وابن بشير وغيرهم: وفي الجلاب أيضاً في الذي يشتري زوجته قبل البناء أنها يجب لها نصف الصداق، وهو خلاف المعروف في المذهب. خليل: ولم أر ما ذكروه عن الجلاب فيه بل فيه النص على خلاف ما نقوله عنه، وقول المصنف: (فلو كذب أحدهما نفسه قبل تمام لعانهما حد وبقيت زوجة) ظاهر، لأن من أكذب نفسه منهما قد أقر على نفسه بما قال الآخر، فالرجل يحد حد القذف، والمرأة تحد حد الزنا، جلداً إن كان أو رجماً. قوله: (ويَتَوَارَثَانِ وإِنْ رُجِمَتْ)، لأنه إذا كذب أحدهما نفسه قبل تمام لعانهما، فهما على الزوجية، فلذلك يتوارثان ولو رجمت، لأنها رجمت وهي زوجة، واختلف إذا شهد الزوج عليها مع ثلاثة، فرجمها القاضي، ثم عثر على ذلك، فهل يرثها هذا الزوج، فقال ابن القاسم: يرثها إلا أن يعلم أنه تعمد الزور، أو يقر بذلك، وقال أصبغ: لا يرثها، والفرق بينها وبين مسألة المصنف ظاهر، لأن البينة موجبة للرجم، ومجرد الدعوى في مسألة اللعان لا توجبه، لأنها قادرة على رده بأيمانها. ولَوِ اشْتَرَاهَا وأَقَرَّ بِالْكَذِبِ أو انْفَشَّ الْحَمْلُ لَمْ تَحِلَّ له يعني: إذا لاعن زوجته الأمة، فرق بينهما، ثم اشتراها لم تحل له بالملك، لأن تحريم اللعان مؤبد، وإن أقر بالكذب لم ينفعه، كما لا ينفعه ذلك في الحرة، وقد تقدم ذلك في الحرة، وقد تقدم الكلام على انفشاش الحمل. وَقِيلَ: وبِلِعَانِهِ هذا راجع لصدر المسألة، تقديره: وتحريمها أبداً بتمام لعانها، وقيل: وبلعانه، ويقع في بعض النسخ هذا القول متصلاً بالقول الأول، وهذا القول حكاه ابن شاس، وهو مقتضى ما وقع لسحنون في نوازله، أنه إذا لاعنها ونكلت عن اللعان، أن ذلك قطع

للعصمة، وقال في البيان: لا خلاف إذا صدقته أنها تحد، وتكون زوجة، إن شاء طلق، وإن شاء أمسك، وإنما اختلفا وهل ينتفي الولد منه دون لعان، أو لا ينتفي إلا بلعان، وقد أنكر أبو بكر بن عبد الرحمن قول سحنون لمخالفته الأصول، وكذلك قال الباجي: لا خلاف عند أصحابنا أنها لو لم تلاعن أو أكذب نفسه قبل تمام لعانها لم تثبت بينهما فرقة، وكأنهما لم يعتبرا قول سحنون. وقَطْعِ النَّسَبِ إِنْ نَفَى الْوَلَدُ هذا راجع أيضاً لصدر المسألة، وهو ظاهر. فَلَوْ نَكَلَ عَنِ اللَّعَانِ حُدَّ قد تقدم هذا الفرع، وأعاده المصنف ليرتب عليه ما بعده، وهو قوله: فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ قُبِلَ، وفِي قَبُولِهِ مِنَ الْمَرْأَة: قَوْلانِ يعني: إذا أعاد الرجل إلى اللعان بعد نكوله، قبل ذلك منه، وظاهر كلامه أنه متفق عليه، لأنه لم يحك الخلاف، إلا في المرأة، وهي إحدى الطريقتين، قال في المقدمات: وهي الصحيحة، [397/ب] قال: وقيل إن الخلاف الذي في المرأة يدخل في الرجل، وحكى المتيطي في القبول من الرجل قولين، قال: والصحيح أنه لا يقبل لأن نكوله كإقراره بالقذف، وليس له الرجوع عنه. والقول بقبول اللعان من المرأة إذا عادت إليه لأبي بكر ابن عبد الرحمن وأبي علي بن خلدون. الباجي: وعندي أن لابن القاسم في الموازية مثله، والقول بأنها ليس لها الرجوع إلى اللعان لسحنون وأبي عمران وابن الكاتب، ومنشأهما هل نكولها كإقرار بالزنا، فيقبل رجوعها، أو يقال حق الزوج قد تعلق بنكولها، فلا يكون لها الرجوع، قال في المقدمات: وقبول رجوعها هو الصحيح، فإن قيل: فهل يظهر فرق على الطريقة التي ذكرها

المصنف، قيل: نعم، وذلك لأن الزوج مدع، والزوجة مدعى عليها، فإن نكل الزوج فكأنه صفح عنها، وأيضاً فإنه ما انحصر أمره، بل له أن يقيم البينة، وأما هي فإنها مدعى عليها، فإن نكلت فقد صدقته، وأيضاً فقد انحصر أمرها فيه. وَحُكْمُ التَّوْءَمَيْنِ حُكْمُ الْوَاحِدِ ولِذَلِكَ يَنْتَفِي الثَّانِي بِاللَّعَانِ الأَوَّلِ، ولِذَلِكَ ثبتت لَهُمَا أُخُوَّةُ الأَبِ أَيْضاً .... أي: حكم الولد الواحد، فلا يمكن لحوق أحدهما ونفي الآخر، ولذلك إذا لاعن لأولهما خروجاً، انتفى الثاني بذلك اللعان، وإلى هذا أشار بقوله: (فلِذَلِكَ يَنْتَفِي الثَّانِي بِاللَّعَانِ الأَوَّلِ)، وأفاد بقوله: (أُخُوَّةُ الأَبِ أَيْضاً)، أنهما إخوة أشقاء، وهذا هو المشهور، وقال المغيرة أنهما يتوارثان لأم كالمشهور في توأمي الزانية والمغتصبة، خلافاً لابن نافع في قوله أن توأمي الزانية شقيقان، وأما توأمي المسبية والمستأمنة، فإنهما يتوارثان لأب وأم، قاله في البيان. ومَتَى اسْتُلْحِقَ أَحَدُهُمَا لَحِقَ الآخَرُ وإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وأَقَرَّ بالآخَرِ حُدَّ، ولَمْ يَنْتَفِ شَيْءٌ ..... هذا لما ذكره أنهما كالولد الواحد. فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةٌ فَصَاعِداً فَهُمَا بَطْنَانِ إِلا أنَّهُ قَالَ: إِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي وقَالَ: لَمْ أَطَأها بَعْدَ الأَوَّلِ سُئِلَ النِّسَاءُ فَإِنْ قُلْنَ إِنَّهُ يَتَأخَّرُ هَكَذَا لَمْ يُحَدّ، بِخِلافِ مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدِ زَوْجَتِهِ وقَالَ لَمْ اَطَاهَا حُدَّ .... معناه أن الحكم الذي قدمه إنما هو إذا لم يكن بين وضعهما ستة أشهر، وأما إن كان بينهما ستة أشهر فأكثر، فليسا بتوأمين، إلا أنه قال، أي في المدونة: ففيها، وإن وضعت الاثني لستة أشهر فأكثر فهما بطنان، فإن أقر بالأول ونفى الثاني، وقال: لم أطأها بعد ولادة

الأول، لاعن ونفى الثاني، إذ هما بطنان، فسكت المصنف عن هذا الفرع لجريانه على أصل كونهما بطنين، ثم قال فيها: وإن قال: لم أجامعها بعدما ولدت الأول، وهذا الثاني مني فإنه يلزمه، لأن الولد للفراش، ويسأل النساء، فإن قلن أن الحمل يتأخر هكذا، لم ي حد، وإن قلن لا يتأخر، حد ولحق به، وهذا هو الفرع الذي ذكره المصنف، إلا أن فيه إشكالاً، لأن النساء إذا قلن أنه يتأخر هكذا، كان حكم الجميع حكم الحمل الواحد، فكان ينبغي أن يحد لتكذيبه نفسه في نفيه الأول، وكأنه إنما أسقط الحد لأن قول النساء لا يحصل به القطع، فكان ذلك شبهة تسقط الحد، ويرد على هذا أنه لو كان كذلك للزم أيضاً سقوط الحد إذا قلنا أنه لا يتأخر، لأن قولهن لا يحصل به القطع، وقد نص في المدونة على وجوب الحد في ذلك، وقوله: بخلاف إلخ، هكذا قال في المدونة، فقال بإثر الفرع المتقدم: بخلاف الذي يتزوج امرأة ولم يبن بها حتى أتت به لستة أشهر من يوم تزوجت، فأقر به الزوج، وقال لم أطأ منذ تزوجتها، هذا يحد ويلحق به الولد. ابن المواز: وكأنه قال: حملت من غيري، ثم أكذب نفسه باستلحاقه، ابن يونس: يريد ولا يسأل في هذا النساء، كما يسألن في المسألة التي قبلها. * * * انتهى المجلد الرابع من كتاب التوضيح للشيخ خليل بن إسحاق الجندي ويليه المجلد الخامس وأوله كتاب العدد

التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب تأليف خليل بن إسحاق الجندي المالكي (المتوفى سنة776هـ) ضبطه وصححه الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب المجلّد الخامس

بسم الله الرحمن الرّحيم

العدد

العِدَدُ: عِدَّةُ الطّلاقِ، َوعِدَّةُ الْوَفِاةِ، وَالاسْتِبْرَاءِ العِدد: جمع عدة، وسميت بذلك لاستمالها على العدد، وهي تربص المرأة زماناً، معلوماً قدره الشرع علامة على براءة رحمها مع ضرب من التعبد، وجعل المصنف أنواعها ثلاثة، وفي جعل الاستبراء من أنواع العدة تجوز في اصطلاح الفقهاء. وهيَ بالأَقْرَاءِ ِوالأَشْهُرِ، والْحَمْلِ الأقراء في الطلاق لذوات الحيض، قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] والأشهر للمتوفى عنها وللمطلقة إذا لم تكون من ذوات الحيض لصغر أو كبر، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] أي فعدتهن كذلك، ووضع الحمل عدة للحامل كانت متوفى عنها أو مطلقة، قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]. ولا عِدَّةَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] ولا مفهوم لصفة الإيمان هنا لأنه خرج مخرج الغالب، ولا فرق بين مؤمنة وكافرة. فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَجَبَتْ بِإِقْرَارِهَا لا بِإِقْرَارِه يعني: فإن لم يعلم دخول فإن أقرت هي به وجبت عليها العدة، لأنه إقرار منها على نفسها فلزمها كسائر الإقرارات بخلاف ما [398/أ] لو أقر هو فقط فإنه دعوى عليها

بغير دليل فلا يقبل كسائر الدعاوي، وهذا الكلام في نفس العدة، وأما لواحقها من النفقة والسكنى فسيأتي الكلام عليها. فَإِنْ ظَهَرَ حَمْلٌ ولَمْ يَنْفِهِ كَانَ كَالدُّخُولِ فِي الْعِدَّةِ والرَّجْعَةِ ولَوْ ظَهَرَ بَعْدَ َمْوتِهِ لَحِقَ بِهِ .... لأن الولد للفراش فهو لاحق به ولا ينتفي عنه إلا بلعان، وعلى هذا فيجب عليها إذا طلقها العدة وتكون له الرجعة، وهذا معنى قوله: (وكَانَ َكَالدُّخُولِ فِي الْعِدَّةِ والرَّجْعَةِ) وفي بعض النسخ: (ولا رجعة له) وهي غير صحيحة لأنها إذا وجبت عليها العدة كان له الرجعة، وقوله: (ولَو ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ) ظاهرٌ لأنه إنما كان ينتفي عنه في الحياة باللعان وهو لا يتأتى هنا. وأَمَّا بَعْدَهُ فَتَجِبُ، وإِنْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْء حَيثُ أَمْكَنَ شَغْلُهَا مِنْهُ بِأَيِّ خَلْوةٍ كَانَتْ .... أي: وأما بعد الدخول وهو إرخاء الستور (فَتَجِبُ) العدة سواء (تَصَادَفَا) معاً (عَلَى نَفْي الْوَطْء) أم لا لحق الله في العدة بشرط إمكان الوطء، وأما لو خلا بها لحظة تقصر عن زمان الوطء فلا، وقوله: (بِأَيِّ خَلْوةٍ كَاَنَتْ) أي: سواء كانت خلوة اهتداء زيارة. فرع: قال في المدونة: ولو كان معها نساء حين قَبَلَ وانصرف لمحضرهن فلا عدة عليها. الباجي: وكذلك امرأة واحدة، أي: لأن الخلوة قد فقدت وتَسْقُطُ النَّفَقَةُ والسُّكْنَى، وَلا يَجِبُ إِلا نِصْفُ الصَّداقِ، ولا رَجْعَةَ لَهُ هذا مفرع على ما إذا تصادقا على نفي الوطء وسقط حقها من النفقة والسكنى ومن تكميل الصداق لإقرارها بعدم الإصابة، وسقط حقه من الرجعة لإقراره أنه لم يصب،

وكذلك أيضاً لا تكون الرجعة إذا دعى أحدهما الوطء وأنكره الآخر، لأنه يتهم على الرجعة في غير محلها. ابن عبد السلام: وينبغي إذا اختلفا في المسيس أن يجري حكم النفقة والسكنى على الصداق بحيث يكمل يثبتان، وحيث لا يكمل يسقطان. ولا شَيْءَ لَهَا فِي الْفاسِدِ، وقِيلَ: تَعَاَرضَ إن كان تَلَذَّذَ بشَيْءٍ يعني: أن ما قدمه من وجوب نصف الصداق إذا طلق قبل البناء إنما هو في النكاح الصحيح وأما الفاسد فلا شيء عليه فيه، لأن الله تعالى إنما أوجب النصف إذا طلق الزوج فقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] لأنه قد أضاف الطلاق إليهم، والإضافة إليهم تستدعي وقوعه باختيارهم. وظاهر ما لابن القاسم في إرخاء الستور ما قدمه المصنف، والمنسوب فيه لغيره هو القول الثاني، وعكس هذا القول في كتب العدة فجعل القول بأنها تعارض لابن القاسم ولا تعارض لغيره. وَلا تَجِبُ بِوَطْءِ الصَّغِيرِ الَّذِي لا يُولَدُ لِمِثْلهِ وإِنْ قَوِىَ عَلَى الْجِمَاعِ، ولا بالْمَحْبوبِ ذَكَرُهُ وأُنّْثَيَاهُ .... يعني: أن العدة في الطلاق إنما تجب إذا كان الزوج يمكن أن يولد لمثله، فلذلك لا تجب بوطء الصغير الذي لا يولد لمثله، يريد إذا خالع عنه أبوه أو وصيه مثلاً فطلاقه نافذ، ولا بوطء المجبوب لكن تجب على زوجاتهما العدة في الوفاة، ولا أعلم في هذه الجملة خلافاً. بِخِلافِ الْخَصِيَّ الْقَائِمِ الذَّكَرِ، وفِيهَا فِيهِ وفِي عَكْسِهِ يُسْأَلُ النِّسَاءُ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَالْعِدَّةُ، وإِلا فَلا عِدَّةَ ولا يَلْحَقُ .... (بِخِلافِ الْخَصِيَّ الْقَائِمِ الذَّكَرِ) المقطوع الأنثيين، ومقتضى قوله (بِخِلافِ) أنها تجب العدة بوطئه وهذا قول حكاه اللخمي وغيره.

ابن عبد السلام: وهو ظاهر المذهب. وقال ابن حبيب: لا عدة على امرأته وهو ظاهر، لأن الولد لا يلحق به عند ابن القاسم. ابن حبيب: وكذلك ذاهب الخصية اليسرى. وقال ابن دينار: الولد لاحق بالخصي كيفما كان. قيل: وعكسه تجب العدة كيفما كان، وأشار عياض إلى أنه لا فرق في القليح الذكر بين أن يكون سالماً أو بعضه لأنه يصيب بما بقي من ذكره، وكذلك صرح به أشهب، وقوله: (فِيهِ وفِي عَكْسِهِ) المراد بالعكس أن يكون ما في الأنثيين مقطوع الذكر. عياض: وسبب الخلاف بين المدونة وابن حبيب ذهاب الأنثيين أو أحدهما، فمذهب الكتاب الإحالة على سؤال أهل المعرفة هل يولد له أم لا؟ ومذهب ابن حبيب الإحالة على علم الطب والتشريح لأنهم يقولون: إن البيضة اليسرى جعلت لطبخ المني فإذا فقدت لم يمكن أن يتأتى له ولد، فلا تعتد زوجته ولا يلحق به ولد بخلاف ما إذا كان مقطوع الذكر أو البيضة اليمنى، ونص ابن حبيب على أنه إن بقي معه أنثياه أو اليسرى منهما وبقي من العسيب بعضه أن الولد لاحق به. وينبغي على قوله أن يلحق به الولد وإن لم يبق من عسيبه شيء. وقوله: (إِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَالْعِدَّةُ) أي فالعدة واجبة، يريد ويلحق به الولد (وإِلا فَلا) أي وإن لم يولد لمثله (فَلا عِدَّةَ ولا يَلْحَقُ) به الولد. ولا عَلَى صَغِيرَةٍ لا تُطِيقُ الرَّجُلَ لا خلاف في ذلك لأن وطئها جرح وفساد، وفهم منه أنها إن طاقت الرجل عليها العدة وإن لم يمكن حملها وهو مذهب المدونة، واختار ابن لبابة أنها لا عدة عليها ولا على الكبيرة المسنة التي لا يخشى منها الحمل. ويَجِبُ عَلَى الْحُرَّةِ عِدَّةُ المْطَلَّقَةِ مِنْ كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الدُّخُولِ مِنْ حِينَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثَلاثُ حِيضٍ ومِنْ كُلِّ وَطْءٍ مِنْ زِنَى أَوِ اشْتِبَاهٍ عدة المطلقة [398/ب] ثلاثة أقراء في ذات الأقراء وثلاثة أشهر في اليائسة والصغيرة.

وقوله: (مِنْ كُلَّ نِكاَحٍ) أي سواء كان مجمعاً على فساده أم لا؟ وهذا هو المشهور ومذهب المدونة. اللخمي: وقيل: يكفي في المتفق على فساداه كنكاح المحرم والرضاع حيضة لأن الزيادة على الواحدة تعبد. وقوله: (بَعْدَ الدُّخُولِ) ظاهر لأنه إذا لم يجب على المطلقة قبل البناء شيء في النكاح الصحيح فأحرى الفاسد. وقيل: من حين فرق بينهما، لأنه قد يتوهم أن النكاح المجمع على فساده لما كانت الفرقة فيه لا تحتاج إلى حكم كانت في كل وقت كالأجنبية، فتكون العدة من آخر وطء. وقوله: (ثَلاثُ حِيَضٍ) هو عطف بيان على قوله: (عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ) أو بدل، ومراده بقوله: (ثَلاثُ حِيضٍ) أي ثلاثة أطهار، لأن الأقراء عندنا الأطهار كما سيأتي، ووجبت العدة في النكاح الفاسد كالصحيح لأن الولد لا يلحق به فيه. وقوله: (ومِنْ كُلَّ وطْءٍ مِنْ زنّى أَوِ اشْتِباهٍ) هذا معطوف على قوله: (مِنْ كُلَّ نكاحٍ فاسد) لكن لا يسمى هذا في عرف الفقهاء عدة وإنما يسمى استبراء ولا يَطَأُ الزَّوْجُ ولا يَعْقِدُ وإِنْ لَحِقَ الْوَلَدُ بِخِلافِ الْمَطَلِّقِ فِي الصَّحِيحِ يعني: أن من زنت زوجته أو اشتبهت فلا يطأها زوجها في مدة الاستبراء ولو كان الولد به لاحقاً، وكذلك لا يعقد على الأجنبية التي زنت أو وطئت باشتباه، لأن كل محل امتنع فيه الاستمتاع امتنع فيه العقد إلا الحيض والنفاس. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد أن النكاح الفاسد إذا فسخ لا يكون للزوج فيه أن يعقد ولا يطأ وإن لحق الولد، وهذا المعنى الثاني وإن كان قرب إلى لفظه لكن يبقى قوله: (ولا يَطَأُ) ليس فيه كبير فائدة واقتصر، وعلى الثاني بخلاف المطلق في النكاح الصحيح فإن له أن يعقد ويطأ لأن ماءه صحيح لكن يشترط أن لا تكون مريضة بحيث يحجر عليها.

ومِنْ غَيْبَةِ الْغَاصِبِ والسَّابِى عَلَيْهَا والْمُشْتَرِي ولا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِها يعني: ويجب الاستبراء أيضاً بثلاثة أطهار إذا غصبت وغاب عليها الغاصب. ابن عبد السلام: وقد اختلف لفظه في المدونة في الأمة المغصوبة يغيب الغاصب عليها ثم تعود إلى ربها فظاهر كلامه في أول الاستبراء الوجوب ونص بعد ذلك على أن استبراءها مستحب، وينبغي أن يجري ذلك في الحرة، وكذلك يجب الاستبراء بالثلاثة إذا غاب عليها السابي من الكفار أو المشتري، وسواء بيعت هذه الحرة جهلاً أو فسقاً. وقوله: (ولا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِها) أي لا تصدق المرأة إن قالت: لم يصبني. وفي بعض النسخ: (قولهما): أي الرجل والمرأة لحق الله تعالى. وفِي إِيجَابِ ذِلِكَ فِي إِمْضَاءِ الْوِلِيِّ أِوْ فَسْخِهِ قَوْلانِ يعني: إذا زوج أجنبي امرأةً مع وجود وليها غير المجبر. وقلنا بأشهر قولي ابن القاسم أن للولي الخيار في إجازته وفسخه ما لم يطل بعد البناء، فأمضاه بعد البناء بالقرب فهل هو تقرير، وكأن النكاح وقع بولي فلا يحتاج إلى استبراء، وكذلك لا يحتاج إليه في الفسخ إذا أراد أن يتزوجها بعد الفسخ؟ أو يقال: إمضاؤه كابتداء نكاح فيحتاج إلى استبراء لأن الماء الأول فاسد وكذلك يحتاج إليه في الفسخ؟ وحاصله: إن قيل أن الماء صحيح لم يحتج إليه وإلا احتاجت. والقول بالاستبراء هو ظاهر المدونة على ما وقع في بعض الروايات، ففيها: ويكره للرجل أن يتزوج امرأة بغير أمر ولي، أعني ولي نسب. ابن القاسم: فإن فعل كره له وطؤها حتى يعلم وليها فيجيز أو يفسخ، فإن فسخه الإمام أو وليها عند الإمام ثم أرداته زوجها إياه مكانها وإن كره الولي إذا دعته إلى سداد وإن لم يساوِ حسبها ولا غناها، وكان مرضياً في دينه وعقله وهذا إذا لم يكن دخل بها.

ابن يونس: يريد فإن دخل بها لم ينكحها حتى تستبرئ بثلاث حيض. لكن صرح في بعض الروايات بأن قوله: (وهذا إذا لم يدخل بها) من كلام سحنون، والأولى رواية أبي عمران لأنه قال: إن كان هذا الشرط لسحنون فهو على مذهبه في العبد يتزوج بغير إذن سيده فيجيز السيد أنه يستبرئ. قال: وقاله ابن الماجشون. وإن كان من كلام ابن القاسم فهو خلاف ما ذكره ابن حبيب أن مالكاً قال: إن كل نكاح ليس لأحد إجازته فلا يتزوجها في استبراء منه، وإن كان للولي أو السلطان إجازته فله أن يتزوجها في عدة منه. وهو في الموازية في المملوكة توطأ قبل العلم عليها الاستبراء. واستشكل جماعة الاستبراء هنا لعدم فائدته فإن الولد لاحق به. وأجيب بأن الفائدة تظهر في القذف فلو نسب الولد إلى شبهة في نسبه لم يحد من نسبه إلى ذلك إذا نشأ من الماء الواقع قبل الفسخ أو الاختيار، ويحد إذا نشأ الولد بعد ذلك. فرع: وإما إذا كان النكاح صحيحاً والوطء فاسداً كمن وطئ زوجته حائضاً فإنه لا يلزم من ذلك استبراء، قالوا: وكذلك لو كان النكاح فاسداً لصداقه. والأَمَةُ فِي النَّكَاحِ الصَّحِيحِ والْفاسِدِ كذلك، وفِي الزِّنى والاشْتِبَاهِ كذلك هكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها: وفي الزنا والاشتباه حيضة، يعني [121/ب] أن الأمة الزوجة حكمها حكم الزوجة الحرة في هذه الأحكام إلا في القدر الذي تعتد به فإنها تعتد بحيضتين وتستبرئ في الزنا والاشتباه، يريد ومن غيبة الغاصب والسابي والمشتري بحيضة واحدة. ولولا أن المصنف اعتمد على ما اشتهر من أن عدة الأمة حيضتان لكان قوله: كذلك قوله: كذلك: يوهم أن عدة الأمة ثلاث حيض، وعلى هذا فيكون التشبيه بذلك راجعاً إلى أصل الوجوب لا إلى قدره. ووقع في بعض النسخ: والأمة في النكاح الصحيح والفاسد حيضتان، وفي الزنا والاشتباه حيضة: وهي أظهر.

وتُجْبَرُ الْكتَابيَّةُ عَلَى الْعِدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي طَلاقِهِ ومَوْتِهِ كَالمْسْلِمَةِ قوله: (كَالمْسْلِمَةِ): أي: فتعتد ذات الأقراء بثلاثة قروء، واليائسة والصغيرة بثلاثة أشهر، وفي الوفاة بأربعة أشهر وعشر، هذا هو المشهور، وحكى ابن الجلاب رواية ثانية بأن الذمية تعتد في الوفاة من المسلم بثلاثة قروء، وخرج على الروايتين ما إذا توفي عنها قبل البناء فعل المشهور وتعتد في الوفاة أي المسلم بأربعة أشهر وعشر، وعلى الرواية الثانية لا عدة عليها وإنما أجبرت الكتابية على العدة لحق الزوج. واعلم أنه اختلف في الأقراء الثلاثة في عدة الحرة المسلمة فقال الأبهري: الجميع استبراء ولا تعبد فيها. وقال أبو بكر القاضي: القرء الأول لاستبراء الرحم والقرءان الأخيران عبادة. واختار ابن يونس الأول، ولا يعترض عليه بأنه يكفي في الأمة القرء الواحد لأنا نقول: ذلك كالحدود إنما هي موضوعة على حرمة المحدود من العبيد والأحرار والمحصنين والأبكار. وقال عبد الحق: قول أبي بكر هو الصواب. وخرج بعضهم على قول أبي بكر قولاً بأن الذمية تكتفي بقرء واحد في الوفاة والطلاق بناء على أن الكفار غير مخاطبين بالأحكام، ولهذا روى أبو زيد عن ابن القاسم في النصرانية يموت عنها زوجها الذمي فيتزوجها المسلم بعد حيضة أنه لا يفسخ نكاحها. وَيَتَزَوَّجُهَا الْمُسْلْمُ بَعْدَ مَوْتِ الذَّمَّيِّ بَعْدَ ثَلاثَةِ قُرُوءٍ كَطَلاقِهِ يعني: وقد دخل بها الذمي لمقابلته ذلك بقوله: فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ تَزَوَّجَهَا مَكَانَهَا فِيهِمَا أي: في موت الذمي وطلاقه، ولمالك في العتبية أنه يكتفي بحيضة واحدة من طلاق الذمي.

أَقْسَامُهَا مُعْتَادَةٌ، ومُرْتَابَةٌ بِتَأخِيرِ الْحَيْضِ، وصَغِيِرِةٌ، ويَائِسَةٌ، وحَامِلٌ، ومُرْتَابَةٌ بالْحَمْلِ الضمير في (أَقْسَامُهَا) عائد على العدة، فـ (مُعْتَادَةٌ) فيه حذف مضاف، أي عدة معتادة، ويحتمل عوده على المعتدات، ويترجح الأول بأنه لو أراد الثاني لقال: أقسامهن في الأفصح، وحصرها فيما ذكره استقراء، ثم أخذ المصنف يتكلم على كل قسم فقال: فَالْمُعْتَادَةُ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ للْحُرَّةِ، وقُرْءانِ للأَمةِ ما ذكره في الحرة هو نص الآية الكريمة، ولا فرق بين أن يكون زوجها حراً أو عبداً على المعروف. وقيل: إن العدة تتشطر بكون أحد الزوجين رقيقاً، وما ذكره في الأمة متفق عليه عندنا، ويعضده ما رواه أبو داود وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان)) لكنه ضعيف عند أهل الحديث، قيل: والصحيح أنه من كلام أبي عمران. وَالأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ، وجَاءَ لَفْظُ الْحَيْضِ مَوْضِعَهُ كَثِيراً عَلَى التَّسَامُحِ قوله بقولنا، الشافعي، وهو قول عائشة، وزيد بن ثابت، وابن عمر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وابن شهاب، وأبان بن عثمان، وأبي ثور. وقال أبو حنيفة: الأقراء هي الحيض. وهو مروي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى وغيرهم. وضعف أحمد أسانيد ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود. وبالجملة فكل من القولين مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، ولولا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] مع حديث ابن عمر في طلاق الحائض لكان مذهب أبي حنيفة أظهر، لأن المقصود من العدة إنما هو العلم أو الظن ببراءة الرحم، والدال على ذلك إنما هو الحيض، وأما الطهر فيوجد مع الحمل.

قوله: (وجَاءَ لَفْظُ الْحَيْضِ) أي إنهم قد يطلقون لفظ الحيض موضع الطهر كثيراً على التسامح. ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف هو مذهب المحققين، وذهب بعض الشيوخ إلى حمل هذه الإطلاقات على ظاهرها فنقل عن المذهب قولاً كمذهب أبي حنيفة وهو بعيد لأن هذه المسامحة جرت على لسان من علم أنه لا ينصر إلا قول مالك. وطُهْرُ الطْلاقِ تَعْتَدُّ بِهِ ولَوْ لحظَةً لا خلاف في هذا عندنا وليس كمذهب أبي حنيفة في التي تطلق في الحيض فإنها لا تعتد بذلك الحيض عنده وإن قال: القرء هو الحيض. فَتَحِلُّ بِأَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، ويَنْبَغِي أَلا تَعْجَلَ إِذْ قَدْ يَنْقَطِعُ عَاجِلاً فَلا تَعْتَدُ بِهِ .... أتى بالفاء لأن هذا مرتب على ما قبله وأيضاً فلما قدم أن الطهر الأول تعتد به ولو لحظة خشي أن يتوهم منه أن الجزء الأول من الطهر الأخير يقوم مقام جميع الطهر فتحل [399/ب] ببعضه فبين ذلك وأنها لا تحل إلا بجميعه. ومقابل المشهور رواه ابن وهب عن مالك أنها لا تبين إذا رأت الدم حتى يعلم أنها حيضة تامة. وخرج ابن رشد على قول ابن الماجشون أن أقل الحيض خمسة أيام أنها لا تحل لغير المطلق حتى تمكثها، وكذلك على القول أن أقله ثلاثة وعلى أنه يوم، وفيه نظر، ألا ترى أن مالكاً وابن القاسم يريان الدفعة ونحوها ليست بحيض في هذا الباب مع أنها تبين برؤيتها أول الدم الثالث فلا يبعد أن يسلك ابن الماجشون وغيره هذا المسلك. ابن رشد: بناء على تخريجه وعلى قول ابن الماجشون وابن مسلمة: لو انقطع الدم فإن عاد بالقرب لفق منه العدة المذكورة، وإن لم يعد إلا بعد البعد كانت تلك الدفعة ونحوها ملغاة لا يعتد بها، وحكم ذلك دم العلة والفساد، وتقضي ما تركت فيه من الصلاة.

عياض: وقول شيخنا، تقضي ما تركت فيه من الصلاة، فيه نظر لا يوافق عليه. وقوله: (ويَنْبَغِي أَلا تَعْجَلَ) يعني وإذا قلنا تحل للأزواج برؤيتها أول الدم الثالث فينبغي ألا تعجل بالتزويج لاحتمال أن ينقطع الدم عنها قبل اسبترائها حيضة. واعلم أن قوله: (ويَنْبَغِي) هو من كلام أشهب في المدونة، والكلام الأول لابن القاسم، كذا قال الجمهور، واختصر ابن أبي زمنين المدونة على أن مجموع الكلام لأشهب، وعلى الأول فاختلف هل كلام أشهب وفاق وهي طريقة المصنف وأكثر الشيوخ، أو اختلاف وإليها ذهب غير واحد وهو مذهب سحنون لقوله: هو خير من رواية ابن القاسم، وهو مثل رواية ابن وهب: أنها لا تحل للأزواج ولا تبين من زوجها حتى يتبين أنها حيضة مستقلة، وهو مذهب ابن المواز وابن حبيب. وعلى هذا فيكون قول أشهب: (وأحب) محمولاً على الوجوب، ويبين ذلك تعليل أشهب بقوله: أن قد ينقطع عاجلاً فإنه علة تقتضي الوجوب. واختلف القائلون بحمل قوله على الخلاف لو انقطع الدم ما الحكم؟ فقال أبو عمران وابن رشد وغيرهما: لا يضرها ذلك وقد حلت للأزواج برؤيته أولاً. ورأوا أن مذهب ابن القاسم في مقدار الحيض واحد في باب العبادة والعدة. ومنهم من قال: بل يضرها، وإنما لم يطلب منها ابن القاسم ما طلبه أشهب لأن الأصل عدم انقطاع الدم، وهو أيضاً الغالب فلا يلزمها وجوب ولا استحباب رعياً لمخالفة الأصل والغالب، وإلى هذا ذهب جمهورهم أنه إن لم يتماد بها الدم لا تحسب به حيضة. فرعان مرتبان على قول الجمهور: الأول: لو ماتت الزوجية بعد رؤية الدم وقبل التمادي فإنه يحمل أمرها فيه على التمادي ولا يرثها مطلقاً، وإن مات الزوج حينئذ لم ترثه إن تمادى، وإن قالت قبل موته باليوم والشيء القريب: انقطع الدم عني، وكان موته بإثر قولها ذلك ورثته، نقله ابن عبد السلام.

الثاني: عياض: واختلف إذا راجعها زوجها عند انقطاع هذا الدم وعدم تماديه ثم رجع الدم بقرب، هل هي رجعة فاسدة إذ قد ظهر أنها حيضة صحيحة وقعت الرجعة فيها فتبطل وهو الصحيح. وقيل: لا تبطل رجع عن قرب أو بعد. خليل: وهذا الكلام يدل على أنها لم يعاودها الدم أن الرجعة صحيحة وأن للزوج الرجعة وإن قالت قبل ذلك: رايت الدم ثم ادعت انقطاعه. وَلا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ ولا قَبْلَهُ فِي ثُبُوتِ الرَّجْعةِ ابن راشد: يعني إذا ادعى زوجها أنه ارتجعها قبل انقضاء العدة وأقرت هي بصحة قوله فإن قولها في ذلك غير مقبول. هذا الذي ظهر لي من قوله، وما كان يحتاج إلى هذا فقد سبق له في الرجعة ما يغني عنه. وقال ابن عبد السلام: يعني إذا فرعنا على المشهور أن لها أن تتزوج ولم تفعل ما استحب لها من التأخير فتزوجت فبعد أن عقد عليها النكاح قالت: انقطع الدم، لم يقبل قولها لأن ذلك إقرار على غيرها وهو الزوج فتتهم على إرادة فسخ نكاحه، وكذلك لو لم تتزوج فتتهم على إنشاء نكاح من مطلقها من غير صداق ولا ولي فعلى هذا لو دفع إليها المطلق ربع دينار وأحضر الولي لما منعت من ذلك إذ لا موجب للتهمة والله أعلم. وانظر كلام المؤلف ووفق بينه وبين قول أشهب في المدونة أحب إلى ألا تنكح حتى تستمر الحيضة لأنها ربما رأت الدم ساعة أو يوماً ثم ينقطع عنها فيعلم أن ذلك ليس بحيضة فإذا رأت المرأة هذا في الحيضة الثالثة فلترجع إلى بيتها والعدة قائمة ولزوجها الرجعة حتى تعود عليها حيضة صحيحة مستقيمة. انتهى كلام ابن عبد السلام وفيه نظر، لأنها إذا قالت: انقطع عني قبل التزويج فإما أن تبني على قول أبي عمران وابن راشد أن ابن القاسم يرى أن اقل الحيض لا حد له هنا كما في العبادة أولاً، فإن كان الأول فلا عبرة

بكلامها لأنها قد كمل لها حينئذ ثلاث حيض، وإن بنينا على قول الأكثر فيقبل قولها لأنها حينئذ ثلاثاً ويكون لزوجها الرجعة، وقد تقدم في الفرع الثاني من كلام القاضي عياض ما يدل [400/أ] على ذلك، وقد صرح غيره بذلك، وعلى هذا فكلام ابن راشد أحسن، والله أعلم. فَإِنْ طُلَّقَتْ فِي حَيْضٍ أِوْ نِفَاسٍ حَلَّتْ بأَوَّلِ الرَّابِعَةِ، والأَمَةُ بحِسَابِهَا لأنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها وكذلك النفاس فلأجل ذلك لا تحل إلا بالدخول في الحيضة الرابعة. قوله (والأَمَةُ بحِسَابِهَا)، أي فتحل بالدخول في الحيضة الثالثة. وَإِذَا حَاضَتْ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَفِيهَا يُسْأَلُ النِّسَاءُ أَيَكُونُ هَذَا حَيْضاً أَمْ لا، وقَالَ أَيْضاً: ولا تِكُونُ حَيْضةٌ أَقَلَّ مِنْ يَوْمَيْنِ. ابْنُ مَسْلَمَةَ: لا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. ابْنُ الْماجِشُونِ وسَحْنُونٌ: لا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ. ولِذَلِكَ قَالَ سَحْنُونٌ: لا تَنْقَضِي بأَقَلَّ مِنْ أَرْبِعَينَ وقَد تَقَدَّمَ الطُّهْرُ فِي الْحَيْضِ .... قد تقدم أن ابا عرمان وابن راشد تأولا على المدونة أنه لا حد لأقل الحيض هنا كالعبادات وأن أكثرهم خالفهما هنا في ذلك، ونص المازري على أن المشهور عن مالك نفي التحديد وإسناد الحكم إلى ما يقوله النساء أنه حيض، ونص أشهب في المدونة أن اليوم لا يكون هنا حيضاً، وحكى الخطابي عن مالك أنه لا تكون الحيضة هنا أقل من يوم، وكل من قال بالتحديد بيوم أو يومين أو ثلاثة أو خمسة فإنما قال ذلك لعادة جرت عنده. وصرح المصنف عن سحنون أنه يقول: إن أقل الحيض خمسة، وإنما يحكيه غيره استقراء من قوله أنها لا تنقضي بأقل من أربعين، أي بناء على أن أقل الحيض خمسة، وعلى المشهور أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، وذلك أنه يقدر الطلاق وقع آخر لحظة من الطهر فهذا قرء ثم حاضت بعد خمسة أيام ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم حاضت خمسة

ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم دخلت في الدم الثالث وذلك أربعون، ولو بنى على قوله أن أقل الطهر ثمانية لانقضت بستة وعشرين. قوله: (وقَد تَقَدَّمَ الطُّهْرُ فِي الْحَيْضِ) فيه حذف خطابين تقديرهما: تقدم مقدار الطهر في كتاب الحيض، وحاصل كلام المصنف أن الطهر في البابين سواء، وإنما يختلف البابان في مقدار الحيض. وَالْمُرْتَابَةُ بغَيْر ِسَبَبٍ مُعْتَادٍ- حُرَّةً أَوْ أَمَةً- تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً ثُمَّ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ عِدَّةً فَتَحِلُّ عَقِبَ السَّنَةِ، كَمَا قَضَى عُمَرُ، ولذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: عِدَّة الطَّلاقِ بَعْدَ الَّريبَةِ، وعِدَّةُ الْوَفَاةِ قَبْلَ الرِّيبَةِ لما انقضى كلامه على المعتادة أخذ يتكلم على المرتابة بتأخير الحيض. وقوله: (بغَيْر ِسَبَبٍ مُعْتَادٍ) احترز بذلك مما لو تأخر حيضها لسبب معتاد وسيأتي. وسوى المصنف بين الحرة والأمة في التربص تسعة أشهر، وهي زمان الحمل غالباً، فإذا لم يظهر بها حمل ولا رأت ما حصل الظن أنها ليست بحامل وأنها لا ترى دماً فقام ذلك مقام الإياس من كونها من أهل الأقراء فتعتد حينئذ كعدة الآيسة ثلاثة أشهر مضافة إلى التسعة ولا تدخل فيها، وهو معنى قوله: (فَتَحِلُّ عَقِبَ السَّنَةِ) ثم أشار إلى دليل هذا الكم بقوله: (كَمَا قَضَى عُمَرُ) وبه قال ابن عباس ولا يعلم لهما مخالف، وهذا هو المشهور. وذكر في الكافي قولاً آخر أن المرتابة لا تخرج من عدتها حتى تستوفي بقيتها وترفع الريبة. وقال أشهب: تعتد الأمة بأحد عشر شهراً تسعة استبراءً وشهران للعدة، وهو الظاهر لأن الثلاثة أشهر إنما لم تتشطر في حق الأمة لأجل أن الحمل لا يظهر في أقل منها وها هنا قد حصل قبلها تسعة أشهر.

وقوله: (ولذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ ... إلخ) إنما كانت عدة الطلاق بعد الريبة قبلها لأن المطلقة تطلب أولاً بالأقراء فإذ مضت لها تسعة أشهر ولم تر شيئاً علمت أن عدتها بالأشهر، والمتوفى عنها تعتد بالأشهر فإذا انقضت عدتها ولم تر حيضاً وهي ممن تحيض في ذلك القدر حصت الريبة فأمرت أن تنتظر حمل النساء غالباً، وهو تسعة أشهر- لتزول الريبة. فَإِنْ حَاضَتْ فِي السَّنَةِ ولَوْ آخِرَهَا انْتَظَرَتِ الثَّانِيَةَ كَذَلِك ثُمَّ الثَّالِثَةَ يعني: إذا قلنا تتربص سنة فإن جاءتها الحيضة ولو في آخر السنة انتقلت إلى الحيض لأن الحيض يدل على الأقراء فإذا ظهر الأصل قبل ترتب البدل وجب إلغاء البدل كما في سائر الأصول، أما لو رأت الدم بعد السنة ولو بقليل لم يكن له أثر لأن المرأة قد حلت للأزواج بانقضاء السنة، فكان ذلك بمنزلة ما لو طرأ الماء على المتيمم وهو في الصلاة، وما ذكر المصنف من انتظار الثانية والثالثة كذلك هو المشهور. وقال ابن نافع: إن حاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها أو كانت ممن تحيض فإنها تنتظر أقصى الحمل خمس سنين، وإن كانت ممن يئس مثلها من الحيض اعتدت بالسنة تسعة أشهر ثم ثلاثة. سحنون: وأصحابنا لا يفرقون بينهما والعدة فيهما بالسنة. الشيخ أبو محمد: يعني سحنون فيمن يحتمل أن تحيض، وأما من لم تحتمل ذلك فعدتها ثلاثة أشهر. فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى عِدَّةٍ أُخْرَى قَبْلَ الْحَيْضِ فَفِي الاكْتِفَاءِ بثَلاثَةِ أَشْهُرٍ قَوْلانِ يعني: إذا تمت عدتها بالسنة ثم احتاجت إلى عدة أخرى إما بأن تزوجت غير زوجها ودخل بها ثم طلقها، وإما أن يكون زوجها قد ارتجعها ثم طلقها فروى محمد عن مالك وأصحابه أن عدتها ثلاثة أشهر حرة كانت أو أمة لأنها لما اعتدت بالشهور صارت لها حكم اليائسة والقول بأنها لا تكتفي بثلاثة [400/ب] أشهر وتنتظر السنة لم أره معزواً.

وَتَكْفِي فِي الأَمَةِ الْمُشَتَراةِ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ باتِّفَاقٍ قال في المدونة: وإن اشترى معتدة من طلاق وهي ممن يحيض فارتفعت حيضتها فإذا مضت سنة من يوم الطلاق وليوم الشراء ثلاثة أشهر فأكثر حلت، وعلى هذا ففاعل (تَكْفِي) ضمير عائد على السنة، ويكون كلامه مقيداً بما إذا بقي من السنة من يوم الشراء ثلاثة أكثر، ويحتمل أن يكون ضمير (تَكْفِي) عائد على الثلاثة أشهر المتقدمة في قوله: (فَفِي الاكْتِفَاءِ بثَلاثَةِ أَشْهُرٍ قَوْلانِ) وذكر عن القابسي في معتدة من طلاق اشتريت فرفعتها حيضتها أنها لا توطأ إلا بعد سنة ولو قال القوابل بعد ثلاثة أشهر وقبل سنة لا حمل بها، فلا توطأ إلا بعد حيضتين أو سنة لا حيض فيها. قال: وليست كالمعتدة من الوفاة هذه إن قال القوابل: بعد ثلاثة أشهر وقبل تسعة لا حمل بها، حل لمشتريها وطؤها لأن العدة من الوفاة قد انقضت بمضي شهرين وخمس ليال والتربص لزوال الريبة فمتى زالت حلت، والمطلقة عدتها بعد التسعة أشهر، وفي المدونة أيضا: من اشترى معتدة من وفاة زوج فحاضت قبل تمام شهرين وخمس ليال لم يطأها حتى تتم عدتها، فإن انقضت عدتها أجزأتها من العدة والاستبراء، وإن انقضت ولم تحض حتى تتم عدتها، فإن انقضت عدتها أجزأتها من العدة والاستبراء، وإن انقضت ولم تحض بعد البيع انتظرت الحيضة فإن رفعتها حتى مضت ثلاثة أشهر وحست من نفسها انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم الشراء، فإن زالت الريبة قبلها حلت وإن ارتابت بعدها بحس البطن لم توطأ حتى تذهب الريبة. وأتيت بالكلام في المشتراة في عدة الوفاة استطراداً لأن كلام المصنف لا يتناولها، إذ هو الآن إنما يتكلم في عدة المطلقة. وَبسَبَبٍ مُعْتَادٍ كَمَنِ اعْتَادَتْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ سَنَةٍ فَفِي انْتِظَارِهَا لاعْتِبَارِ الأَقْرَاءِ قَوْلانِ، وعَلَى انْتِظَارِهَا تَحِلُ بِانْتِفَائِهَا هذا قسيم قوله: (والمرتابة بغير سبب معتاد) أي والمرتابة بسبب معتاد، وجعل المصنف الأسباب أربعة: الأول: إذا كانت عادتها أنها لا تحيض إلا في كل سنة أو نحو

ذلك. والثاني: الرضاع. والثالث: المرض. والرابع: الاستحاضةز واقتصر في الجواهر على الثلاثة الأخر، وهو أحسن، لأن في إدخال من تأخر حيضها بسبب العادة تحت المرتابة تسامحاً، والقول بانتظارها الأقراء لمحمد، وهو الذي حكاه اللخمي وغيره. ابن عبد السلام: وهو الظاهر. ابن راشد: وهو الصحيح عملاً بعموم الآية، لأن عمدة المذهب في التربص سنة إنما هو قضاء عمر، وهو إنما كان فيمن رفعتها حيضتها. ابن راشد: وقيل تحل بانقضاء السنة. وقال ابن عبد السلام: لا أتحقق وجود هذا القول في المذهب. ويمكن أن يريد المصنف أنها تحل بثلاث أشهر، لكن هذا القول إنما نقله أشهب عن طاوس ووجهه أنه حمل الآية في الأقراء الثلاثة على الغالب من حصول الطهر والحيض في شهر. وعلى الانتظار فقال محمد: إن لم تحِض عند مجيئها حلت وإن حاضت من الغد، وهذا معنى قوله: (وعَلَى انْتِظَارِهَا تَحِلُ بِانْتِفَائِهَا) وكذلك في الحيضة الثانية والثالثة، واستشكله اللخمي فقال: وليس هذا أصل المذهب، ألا تحتسب بالحيض إذا جاء من الغد لأن الحيض يتقدم ويتأخر. ثم تكلم المصنف على الرضاع فقال: والْمُرْضِعَةُ تَتَرَبَّصُ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ لا بالسَّنَةِ اتَّفَاقاً، فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّضَاعُ تَرَبَّصَتْ حِيَنِئِذٍ كالأُولَى .... ما حكاه من الاتفاق حكاه محمد فقال: لم يختلف قول مالك وأصحابه في عدة المرضع أنها لا تعتد بالسنة وعليها أن تنتظر الحيض أبداً ما دامت ترضع حتى ينقطع عنها الرضاع فتسقبل ثلاث حيض، فإن لم تحِض حتى أتت عليها سنة من يوم قطعت الرضاع حلت. وهذا معنى قول المصنف: (فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّضَاعُ تَرَبَّصَتْ حِيَنِئِذٍ كالأُولَى) وعلل محمد انتظارها للأقراء بأنا عرفنا أن الرضاع هو الذي رفع عنها الحيض فكانت عدتها بالأقراء كما قال الله تعالى، أي فلم تدخل تحت اليائسات.

وَلِلَّزْوِج انْتِزَاعُ وَلَدِهِ فِرَاراً مِنْ أَنْ تَرِثَهُ أَوْ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعَةً فِي طَلاقٍ يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْوَلَدِ .... هكذا قال مالك ومحمد وهو مئروط بأن لا يضر بالود كما إذا علق بأمه ولم يقبل غيرها. مالك في العتبية: وكذلك هي إذا طلبت طرحه إذا قبل ثدي غيرها وكان للأب مال. وإنما قال المصنف: (فِي طَلاقٍ يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ) لأنه لو كان طلاقاً بائناً لم يحتج إلى انتزاع الولد لأنها حينئذ لا ترثه وله أن يتزوج أختها أو رابعة، ثم تكلم المصنف على المرض فقال: وَالْمَرِيضَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَالْمُرْتَابَةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وقَالَ أَشْهَبُ: كَالْمُرْضِعِ قوله: (كَالْمُرْتَابَةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ) أي تتربص سنة، ورأى أشهب أن المرض يذهب الدم فكان كالرضاع، وفرق ابن القاسم بينهما بأن المرضعة قادرة على إزالة ذلك السبب فكانت قادرة على الأقراء بخلاف المريضة فإنها لا تقدر على رفع السبب فأشبهت اليائسة. وقول ابن القاسم مروي عن مالك، وبه قال أصبغ وابن عبد الحكم، واختار ابن المواز قول أشهب [401/أ] ثم تكلم المصنف على السبب الرابع وهو الاستحاضة فقال: وَأَمَّا الْمْسَتحَاضَةُ فَإِنْ كَانَتْ مُمَيَّزَةَّ بَيْنَ الدَّمَيْنِ فَرِوَايَتَانِ، ابْنُ الْقَاسِمِ: يُعْتَبرُ الْحَيْضُ الْمُمَيَّزُ، ابْنُ وَهْبٍ: كَالْمُرْتَابَة، وغَيْرُ الْمُمَيِّزَة كَالْمُرْتَابَةِ .... حاصله أن المستحاضة على ضربين: إن كانت غير مميزة فهي كالمرتابة باتفاق فعدتها سنة، وإن ميزت فروايتان، واختار ابن القاسم أنها تعمل على المميز الذي لاشك فيه وهو المشهور، واختار ابن وهب أن تعتد بالسنة كالأوىل وتمييزه برائحته ولونه، وقال ابن المواز بكثرته أي أن دم الحيض كثير ودم الاستحاضة قليل، والأمة في ذلك كالحرة.

تنبيه: الباجي: انتظارها سنة ظاهر في تقديم الاستحاضة وأما في تأخيرها ففيه نظر وذلك أن الاستحاضة لا تكون إلا بعد حيض، فإذ وجد الحيض بطل حكم الريبة بارتفاع الحيضة واعتدت بالأقراء، فلا يجوز أن يضاف ما بعد الحيض والاستحاضة إلى ما قبله، وقاله ابن القاسم. تستأنف بالمستحاضة التي ينقطع عنها الدم سنة من يوم انقطعت الاستحاضة، ووجهه أن الاستحاضة ليست من جنس انقطاع الدم فلا تلفق. وقال بعضهم: إذا قلنا تبني على أيام الاستحاضة فاختلف إذا لم تعلم أول الدم هل كان حيضاً أو استحاضة؟ فقيل: محمله على الاستحاضة وتكون السنة من يوم الطلاق. محمد: والقياس أن تكون السنة من بعد قدر حيضة والاستطهار. وأَمَّا الصَّغِيرَةُ والْيَائِسَةُ حُرَّةُ أَوْ أَمَةً فَثَلاثَةُ أَشْهُرٍ بِالأَهِلَّةِ لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] أي كذلك، وقوله: (حرة أو أمة) هو المشهور، ووجهه أن الحمل لا يظهر في أقل من ثلاثة أشهر. وحكى ابن بشير قولين آخرين: شهر ونصف. والثاني: شهران. وقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي فلم تدروا ما عدتهن، هكذا فسره مالك في العتبية، وقال ابن بكير والقاضي إسماعيل: إن ارتبتم في معاودة الحيض، قالا: ولو كانت ريبة ماضية في الحكم لكان حقها أن ارتبتم بفتح الألف من إن. قالا: واليائس في كلام العرب إنما هو فيما لم ينقطع فيه الرجاء، يقال: يئست من الحيض لشدة مرض ومن الغائب لبعد غيبته، ولا يقال: يئست من الميت الذي قد انقطع منه الرجاء. قال اللخمي: والأول أحسن لقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} ولا يجتمع الإياس والشك وقال بعض المفسرين: المعنى: إن ارتبتم هذ الدم الذي ظهر من المرأة استحاضة أو حيض معهود أو كبر؟ وقال بعضهم أنه متصل بأول السورة، والمعنى

لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة، قيل: وهو الأصح في معنى الآية. وقوله: (بِالأَهِلَّةِ) ظاهر. فَإِنِ انْكَسَرَ الأَوَّلُ تُمِّمَ الْمُنْكَسِرُ ثَلاثِينَ مِنَ الرَّابعِ، وقِيلَ: تُمِّمَ الثلاثة أي فإن انكسر الشهر الأول بأن طلقها في أثناء شهر، وما قدمه المصنف هو في المدونة على بعض الروايات، لكن صرح عياض وغيره بأن ذلك إنما هو عن ابن شهاب وربيعة. المتيطي عن بعض القرويين: وقولهما مخالف لقول مالك. وقال أبو عمران: لعل ربيعة يريد إذا لم تر الأهلة مثل أن يغم الهلال، وهو أحسن من الخلاف، والقول الثاني هو مذهب المدونة، ونص عليه في كتاب أكرية الدور، وصرح بعضهم بمشهوريته، وهو الذي يأتي على ما ذكره المصنف في الظهار بقوله: فإن انكسر الأول تمم المنكسر ثلاثين من الثالث، وهو الظاهر لأن المطلوب ما يصدق عليه ثلاثة أشهر، وذلك حاصل بهذا القدر، ووقع في بعض النسخ تقديم هذا القول وهي أحسن. قَالَ مَالِكٌ: وتُلْغِي الْيَوْمَ الأَوَّلَ، بَعْدَ أَنْ قَالَ: تَحْتَسِبُ بهِ إِلَى وَقْتِهِ أي: إذا طلقت في بعض يوم- وعلى قوله الأول- أنها تحتسب به إلى وقته فتحل في تلك الساعة. قال في البيان: ووجهه أنها تجب عليها بإجماع أن تبتدئ العدة من تلك الساعة ولتجتنب الطيب والزينة من حينئذ إن كانت عدة وفاة فيجب أن تحل في تلك الساعة. قال: ووجه الثاني أن السنة والشهر واليوم لما كان أول كل واحد منها غروب الشمس عند العرب والعجم وجب إلغاء بعض اليوم. وعلى الثاني: لو تزوجت بعد الوقت الذي هلك فيه زوجها وقبل غروب الشمس لفسخ النكاح. وقال ابن القاسم: لا يفسخ. وهو قول ثالث وهو استحسان مراعاة للخلاف.

فَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ تَمَامِهَا عَادَتْ إِلَى الأَقْرَاءِ يعني: فإن رأت الصغيرة الدم قبل تمام الأشهر فإنها تلغي ما قدم وتعتد بالأقراء ولو كان ذلك في آخر يوم من الأشهر لأنها إنما اعتدت بالأشهر لتعذر الحيض، وإنما خصصنا كلامه هنا بالصغيرة كما قال ابن راشد، ولم نعممه في الصغيرة والكبيرة كما قال ابن عبد السلام لأنه سيتكلم في اليائسة. والعدد بالنسبة إلى الصغيرة مجاز لأنه حقيقة في الرجوع إلى شيء تقدم، ثم كلامه مقيد بما إذا كانت في سن من تحيض وأما من لم تحِض فلا اعتبار به وهو دم علة وفساد كما لو رأته بنت الستة ونحوها، وهذا معنى قوله: وما تَرَاهُ مَنْ لا يَحِيضُ مِثلُها لا اعْتِدَادَ بِهِ ثم تكلم على اليائسة فقال: وَما تَرَاهُ الْيَائِسَةُ يُسْأَلُ النِّسَاءُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حَيْضاً انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَهُ كَالْمُرْتَابَةِ بَعْدَ حَيْضَة .... أي إذا قال النساء أنه حيض فليست بيائسة، وإنما معنى الكلام [401/ب] وما تراه من شك في كونها يائسة فإن قلن أنه حيض انتقلت إليه. قال في المدونة: وإن قلن ليس بحيض وكانت في سن من لم تحض من بنات السبعين والثمانين لم يكن ذلك حيضاً وتمادت بالأشهر. ونص في المقدمات في كتاب الطهارة على أنه إذا شك في هذا الدم أنه يحكم له بحكم الحيض حتى يظهر. وَاَّلتِي لَمْ تَحِضْ، وإن بَلَغَتِ الثَّلاثِينَ كَالصَّغِيرَة يريد: وأكثر من الثلاثين، وقد صرح في أصل المدونة بأن الأربعين كذلك، قال علماؤنا: وأما لو حاضت مرة في عمرها ثم انقطع عنها سنين كثيرة لمرض أو غيره، وقد

ولدت أو لم تلد ثم طلقت فإن عدتها بالأقراء ما لم تبلغ سن من لم تحض، فإن أتتها الأقراء وإلا تربصت سنة كما تقدم. وَالْحَامِلُ تَحِلُّ بِوَضْعِ جَمِيعِ حَمْلِهَا لا بأَحَدِ التَّوْءَمَيْنِ، ولِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ قَبْلَ وَضْعِ الثَّانِي، ولا فَرْقَ بَيْنَ الْكَامِلِ والْعَلَقةِ كَالاسْتِيلادِ .... لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وذلك يتناول جميع الحمل، فلذلك فلا تحل إلا بوضع الثاني، فإذا لم تحل كان للزوج الرجعة، ولفظ الحمل يتناول الكامل والعلقة ونص في المدونة في إرخاء الستور على أنها تحل بالمضغة والعلقة وتكون بها أم ولد، ونص في الاستبراء على أن الدم المجتمع كذلك. وقال أشهب: لا تحل بالدم المطلقة ولا تكون به الأمة أم ولد. قيل: وعلامة هذا الدم عند ابن القاسم أن يصب عليه الماء فلا يذوب. ابن عبد السلام: وما تقدم من أنها تحل بالدم عند ابن القاسم ولا تحل به عند أشهب هو المعلوم من المذهب وعكسه عياض في بعض تواليفه. والْمُرْتَاَبَةُ بحَسِّ الْبَطْنِ لا تُنْكَحُ إِلا بَعْدَ أَقْصَى أَمَدِ الْوَضْعِ، وهُوَ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، ورُوِيَ أَرْبَعَةٌ، وسَبْعَةٌ، وقَالَ أَشْهَبُ: لا تَحِلُّ أَبَداً حَتَّى يَتَبَيَّنَ .... ما ذكره المصنف أنه المشهور كذلك، قال ابن شاس وغيره، وهو قوله في كتاب العدة من المدونة، والقول بالأربع هو أيضاً في كتاب العتق من المدونة. عبد الوهاب: وهي الرواية المشهور. قال ابن الجلاب: هو الصحيح. وروى أشهب عنه أن أقصاه سبعة أعوام، وقال أشهب: لا تحل أبداً حتى يتبين براءتها من الحمل. قال: وأرى أن المرأة تلد أبداً إذا كانت ترى الدم حتى يذهب عنها ثم تستقبل تسعة أشهر. وهذا يصحح النسخة التي ذكرناها وهي قوله: حتى يتبين، لا ما وقع في بعض النسخ: حتى

يتأيس، من الإياس لأنه لا يلزم من بلوغها سن الإياس أن لا يكون في بطنها حمل متقدم وإنما يمنع الإياس ابتداء الحمل، ويمكن أن يكون المعنى: حتى تيأس من الحمل، فيتفق معنى هذه والأولى، وما جاء هذا الإشكال إلا من فهم الإياس من الحيض، ونقل الجوهري في إجماعه عن محمد بن الحكم أن أكثره تسعة أشهر. ابن عبد السلام: ولا أعلم له موافقاً كما لا أعلم له موجهاً لأن العيان يقتضي خلافه بما لا يشك فيه ولعله لم يصح عنه. وروي عن مالك أنه لا تحد في ذلك بل يلحق الولد بما يقول النساء أنه يلحق به. وهو أظهر، وسيأتي هذا القول من كلام المصنف. والنِّسَاءُ كُلُّهُنَّ فِيهِ سَوَاءٌ أي: فيما تقدم، وهو أكثر مدة الحمل، ولعله إنما ذكر هذا إشارة إلى دفع ما يقال أنه وجد من بني فلان من لا تلد إلى كذا، وفي بني فلان من لا تلد إلى كذا. ولَوْ أَتَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ بِوَلَدٍ لِدُونِ أَقْصَى الْحَمْل لَحِقَ بِهِ إِلا أَنْ يَنْفِيَهُ باللِّعَانِ، ولا يَضُرُّهَا إِقْرَارُهَا بانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لأَّنَّ الْحَامِلُ تَحِيضُ ... يعني: أن المرأة المطلقة- وفي معناها المتوفى عنها- إذ أتت بعد انقضاء العدة بولد فإنه يلحق به إذا أتت به لما يلحق فيه الولد، ولا ينتفي عنه إلا بلعان لأن الولد للفراش، وكلام المصنف ظاهر التصور وهو مقيد بما إذا لم تتزوج غير هذا الزوج أو تزوجت غيره وأتت به لأقل من ستة أشهر من عقد الثاني، وحينئذ ينفسخ نكاح الثاني لأنه نكاح في عدة وترجع إلى الأول، وأما إن أتت به لستة أشهر فأكثر فهو لاحق بالثاني قطعاً. وَفِيهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ خَمْسِ سِنِينَ بأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْ بِوَاحِد مِنْهُمَا وحُدَّتْ واسْتَضْعَفَهُ بَعْضُهُمْ وقَالَ كَأَنَّ تَحْدِيدَ خَمْسِ سِنِينَ فَرْضٌ .... إنما لم يلحق بالأول للزيادة على الخمس سنين ولم يلحق بالثاني لنقصانه عن أقل الحمل، إذا لم يلحق بواحد منهما فتحد قطعاً، والمستضعف لهذا هو القابسي. ابن يونس:

وكان يستعظم أن ينفى الولد من الزوج الأول، وتبعه على ذلك اللخمي، وهو استضعاف ظاهر، ولظهوره عقب المصنف ذلك بقوله: وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِمَا يُشْبِهُ لَزِمَ وإلا فكان الأليق بالمصنف أن يقدم هذا القول لما ذكر الخلاف والله أعلم. وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلا بَيِّنَةَ اسْتَانَفَتِ الْعِدَّةَ مِنْ يَوْمِ إِقْرَارِهِ وَوَرِثَتْهُ فِيهَا فِي الَّرجْعِيِّ، ولا يَرِثُهَا وَلا رَجْعَةَ لَهُ إِنِ انْقَضَى قَدْرُ الْعِدَّةِ مِنْ يَوْمِ طَلاقِ إِقْرَارِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بيِّنَةٌ فَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ طلَّقَ ... صورة المسألة من كلامه ظاهرة وإنما استأنفت العدة من يوم أقر لأن العدة حق لله تعالى [402/أ] فلا يصدق في إسقاطها ولذلك ورثته في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة، وإنما لم يرثها ولم تكن له رجعة إذا انقضت العدة من يوم طلاق إقراره لأنه أقر أنها حينئذ أجنبية، فالشرط في قوله: (إِنِ انْقَضَى) راجع إلى مسألتي الميراث والارتجاع معاً. قال في المدونة: وإن كان الطلاق بتاتاً لم يتوارثا بحال. أبو الحسن: وانظر لو قال الزوج: إنما أقررت بذلك لإسقاط النفقة والسكنى هل يصدق وتكون له الجرعة كما صدقوا المرأة إذا دعت أن زوجها طلقها ثلاثة ولم تصدق عليه ثم خالعها وأرادت نكاحه وقالت: إنما أقررت بذلك لإسقاط النفقة والسكنى لأتخلص منه أن ذلك لها وكما صدقوها إذ طلقت وادعت أنها حامل ثم تقول: لم يكن بي حمل وإنما قلت ذلك ليراجعني زوجي. وقوله: (وَإِنْ كَانَتْ بيِّنَةٌ) أي تشهد بما أقر به فالعدة من يوم شهدت البينة، لأن قيام البينة يقطع كل تهمة. قال في التهذيب، ويرجع عليها بما أنفقته من ماله بعد طلاقه قبل علمها لأنه فرط، زاد في أصل المدونة بخلاف المتوفى عنها تنفق من مال زوجها بعد موته فللورثة الرجوع عليها.

مالك في العتبية: وترجع أيضاً بما تسلفت في الطلاق. وقال ابن نافع: لا ترجع بما تسلفت بخلاف ما أنفقت. ابن المواز: ولو قدم عليها رجل واحد يشهد بطلاقها فأعلمها أو رجل وامرأتان فليس ذلك بشيء حتى يشهد عندها من يحكم به السلطان في الطلاق. وَزَوْجَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا- صَغِيراً أَوْ كَبِيراً، بنِكَاحٍ صَحِيحٍ غَيْر الْحَامِلِ مِنْهُ- تَعْتَدُّ صَغِيَرةً أَوْ كَبِيرَةً، مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً، مَدْخُولاً بهَا أَم لا- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرانِ وخَمْسُ لَيَالٍ أي: أن المسلم مطلقاً سواء كان صغيراً أو كبيراً إذا توفي عن زوجته صغيرة كانت أو كبيرة تعتد لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] الآية، ولم يفرق هنا في الزوج والزوجة بين أن يكونا صغيرين أو لا، لأن الزوج لما كان معدوماً في عدة الوفاة حسم الشرع الباب وأوجب له العدة مطلقاً بخلاف الطلاق فإن الزوج يبحث عن حال المعتدة ويذب عن نفسه. واحترز بقوله: (غير الحامل) من الحامل فإن عدتها وضع حملها كما سيأتي. وقوله: (فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً) يريد: أو فيها بقية رق. وحكى ابن أبي زيد وابن العطار عن مالك أنه لا عدة على أمة توفي عنها زوجها قبل البناء وإن كان مثلها يوطأ، وهي رواية شاذة. وَتُجْبَرُ الذِّمَّيَّةُ عَلَى الْعِدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ، ورُوِيَ فِي الْحُرَّةِ الذِّمِّيَّةِ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ ولا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .... أي: العدة المتقدمة وهي أربعة أشهر وعشر، وجبرت إما لعموم الآية وإما لأنه حق بين مسلم وكافر، وما هذا شأنه يغلب فيه المسلم، والرواية أنها تعتد بثلاثة قروء حكاها ابن الجلاب وغيره.

وقوله: (ولا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ): هكذا وقع في نسختي ولم يقع ذلك في نسخة ابن عبد السلام وابن راشد، وعلى وقوعها فليست ابتداء مسألة وإنما هي من تمام الرواية الثانية، ففي الجواهر: وروي الحرة الذمية أنها تستبرأ بثلاث حيض، ويشرط في هذه الرواية كونها مدخولاً بها وإلا فلا عدة عليها، وأما على المشهور فتعتد بأربعة أشهر وعشراً، وهكذا أشار ابن الجلاب وغيره. تنبيه: يعني: أن ما قدمه من أن المتوفى عنها تعتد بأربعة أشهر وعشراً إنما هو في النكاح الصحي، وأما الفاسد فإنها تلحق بالمطلقات فإن دخل بها استبرئت بثلاث حيض وإن لم يدخل بها استبرئت بثلاث حيض وإن لم يدخل بها فلا شيء عليها لأن الحكم يوجب فسخه، وتحقيق المذهب أن الفساد إن كان مجمعاً عليه ولم يدخل بها فلا عدة، وإن دخل بها فعليها الاستبراء خاصة على المشهور، وقيل: تعتد بأربعة أشهر وعشر، وإن كان مختلفاً فيه ولم يدخل فمن ورثها قال: عليها العدة، ومن لم يورثها لم ير عليها شيئاً. وإن كان دخل ففي اعتدادها بالأشهر أو الأقراء قولان، روى ابن المواز عن ابن القاسم فيمن تزوج في المرض ثم مات أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، وقال أيضاً أنها تعتد بثلاثة أقراء، والأول أظهر. وَقَالَ أَشْهَبُ: لابُدَّ مِنْ حَيْضَةٍ أَوْ مَا يَنُوبُ عَنْهَا فِي الْمُرْتَابَةِ، وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا. والْمَشْهُورُ: إِنْ تَمَتْ قَبْلَ عَادَتِهَا فَلا، ويَنْظُرُها النِّسَاءُ وإِلا فَنَعَمْ لا خلاف أن المعتدة في الوفاة تحل بمضي الشهر إذا حاضت في أثنائها، واختلف إذا لم تحض، فروى أشهب: لابد من حيضة كانت أيام طهرها أقل من العدة أو أكثر، وإن لم

تحض فلا بد من تسعة أشهر. وإلى هذا أشار بقوله: أو ما ينوب عنها في المرتابة. وفي قوله: (قَالَ أَشْهَبُ) نظر، لأنه يوهم أن أشهب قاله، والمنقول عنه في المنتقى والمقدمات وغيرهما كقول [402/أ] ابن الماجشون: لا يحتاج إليها، وتكفيها أربعة أشهر وعشر لأنه لو كانت الحيضة مشروطة لبينته الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] والمشهور تصوره واضح ووجهه بين، لأن تأخير الحيض إذا كانت عادتها أن تحيض قبل مضي مقدار العدة ريبة بخلاف ما إذا كانت عادتها أنها لا تحيض في قدرها، فإن التأخير هنا لا يوجب ريبة، ولذلك اتفق على أن المرضع والمريضة تحل بمضي أربعة أشهر وعشر، قاله ابن بشير لأنها لم يتأخر الحيض عنها لريبة في الحمل وإنما ذلك لما نزل بها، وعلى المشهور فتكون الآية مخصصة بمن لم تحصل لها ريبة بتأخير الحيض وهو مبني على تخصيص العموم بالمعنى. وما ذكره المصنف أنه المشهور رواه مطرف عن مالك، وحاصله أنها تبرأ بمضي أربعة أشهر وعشر بشرطين: أن تتم العدة قبل مجيء عادتها، وأن ينظرها النساء ويقلن لا ريبة بها. وإلى الشرط الثاني أشار بقوله: وينظرها النساء، أي إذا تمت العدة قبل عادتها. قوله: (وإِلا فَنَعَمْ) أي وإن قال النساء: بها ريبة، فلابد من الحيضة أو ما يقوم مقامها، وهذا الخلاف في المدخول بها. القاضي أبو محمد: وأما غير المدخول بها فتحل بمضي العدة وإن تأخر حيضها. وروى ابن المواز وابن سحنون أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر إلا أن ترتاب بتأخير الحيض فترفع لتسعة أشهر. وفِي الْمْستَحَاضَةِ قَوْلانِ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْر، وتِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَالتَّفْصِيلُ أَيْضاً فِي الْمُمَيِّزَةِ .... اقتصر الباجي على القول بأنها تعتد بتسعة أشهر، وحكاه اللخمي وابن بشير وحكيا أيضاً القول بأنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، واستحسنه اللخمي لعموم الآية. قال ابن

عبد السلام: والقولان لمالك نصاً، وأما الثالث فتخريج، ومعناه أنها إن كانت غير مميزة تربصت تسعة أشهر وإلا اكتفت بالأربعة أشهر وعشر إن أتتها فيها حيضة، كما تقدم. وَأَمَّا الأَمَةُ فَقِيلَ: لا تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْعِدَّةِ اتِّفَاقاً، وإِنَّمَا تَحِلُّ بِمَا تَحِلُّ بِهِ الأَمَةُ فِي الشِّرَاءِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ مَعَهَا، وقِيلَ: تَحِلُّ الْمُرْضِعُ بِمُضِيِّهَا، وفِي الْعُتْبِيَّةِ: تَحِلُّ مُطْلَقاً .... حاصل ما ذكره طريقان: أحدهما: أن ما تقدم من الخلاف في اشتراط الحيضة في عدة الوفاة إنما ذلك في عدة الحرة، وأما الأمة فالاتفاق على أنها لا تحل بمجرد مضيها لقصر أمدها فلا يظهر الحمل فيها. وقوله: (وإِنَّمَا تَحِلُّ ... إلخ): ليس بظاهر لأنه لا يؤخذ منه الحكم، ولا يقال: لعله شبه لإفادة الحكم لأن التشبيه لإفادة إنما يكون إذا ذكره. وقد اختلف بما تحل به الأمة المتأخر زمان حيضها في الشراء، هل بثلاثة أشهر أو تسعة؟ ومقتضى المدونة أنها تحل بثلاثة إلا أن ترتاب، ففيها: ومن اشترى معتدة من وفاة زوج فحاضت قبل تمام شهرين وخمس ليال لم يطأها حتى تتم عدتها، فإن انقضت أجزائها عن العدة والاستبراء، وإن تمت عدتها ولم تحض بعد البيع انتظرت الحيضة فإن رفعتها حتى مضت ثلاثة أشهر وحست من نفسها انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم الشراء، فإن زالت الريبة قبلها حلت وإن ارتابت بعدها بحس البطن لم توطأ حتى تذهب الريبة. قيل لابن شاش: ما فائدة التسعة وهي لا تبرأ إلا بزوال الريبة؟ قال: معنى ذلك إذا أحست شيئاً عند الثلاثة وارتفعت إلى التسعة كفتها التسعة إن لم تزد تلك الريبة، وأنها لا تزيد على التسعة إلا أن تزيد تلك الريبة. ابن عبد السلام: والمشهور أنها ترفع إلى تسعة أشهر. خليل: ولعله يريد مع الريبة ليوافق المدونة. وقول المصنف: وإنما تحل بما تحل به الأمة في الشراء: يحتمل أن يريد به القولين أو على أحدهما، والأقرب أنه يريد القول بالثلاثة

الأشهر لأنه الذي في الجواهر، وهو مقتضى المدونة كما ذكرنا، وكذلك مذهب الرسالة فإنه نص فيها على أن الأمة التي لا تحيض لصغر أو كبر وقد بني بها فلا تنكح في الوفاة إلا بعد ثلاثة أشهر، وهذه الطريقة ضعيفة فإن ما حكاه المصنف عن العتبية في الطريقة الثانية يبطل الاتفاق. وقوله: (تَحِلُّ مُطْلَقاً) أي سواء كان يخشى منها الحمل أو لا، وحكى غير واحد في هذه المسالة ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم في العتبية: تحل وإن كانت شابة يخشى منها الحمل، وفي إحدى الروايتين عن مالك أنها تكمل ثلاثة أشهر ولا تحل بدونها، وقال في الموازية: إن كانت ممن يخشى منها الحمل فثلاثة أشهر، وإن كانت صغيرة أو يائسة أو لم يدخل بها فشهران وخمس ليال. اللخمي: وهو أحسنها، والقول بأن المرضع تحل بمضيها هو أيضاً لابن القاسم في العتبية. والْحَامِلِ بِوَضْعِهَا ولَوْ لَحْظَةً، ولَهَا غُسْلُ زَوْجِهَا ولَوْ بَعْدَ نِكَاحِهَا يعني: والحامل المتوفى عنها تحل بوضعها ولو ولدت بعد موته بلحظة. (ولَهَا غُسْلُ زَوْجِهَا) ولو تزوجت غيره، وهذا مذهب الجمهور. ورأوا أن قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] مخصص لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] ونقل عن علي وابن عباس: إنما تعتد بأقصى [403/أ] الأجلين، وبه قال سحنون، ودليل الأول ما في الصحيح أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج، وصرح البخاري (لأربعين ليلة)، وفي الموطأ: (نصف شهر). الباجي: وهذه القضية من آخر ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم، لأن سبيعة كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع.

وقوله: (ولَهَا غُسْلُ زَوْجِهَا ولَوْ بَعْدَ نِكَاحِهَا): تصوره بين. ابن الماجشون: وإن ماتت الزوجة وكان قد تزوج أختها فله أن يغسلها. وقال ابن حبيب: أحب إلى إذا نكح أختها أن لا يغسلها. ابن يونس: وعندي إذا ولدت المرأة وتزوجت غيره فأحب إلى ألا تغسله. وهو ظاهر، ولا يوجد دليل على جواز نظر المرأة إلى فرج رجلين في وقت واحد. وَالْمَوْتُ يَنْقُلُ الرَّجْعِيَّةَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وقِيلَ: إِلَى أَقْصَى الأَجَلَيْنِ يعني: أن المطلقة الرجعية سواء كانت حرة أو أمة إذا مات زوجها عنها انتقلت إلى عدة الوفاة وتبطل العدة التي كانت فيها لأن المطلقة طلاقاً رجعياً حكمها حكم الزوجة في الإرث والنفقة والسكنى وهذا هو المشهور. وقال سحنون: عليها أقصى الأجلين. ورأى أن الطلاق أوجب عدة والموت أوجب أخرى فلا يبطل الموت ما تقدم بالطلاق. خليل: وانظر لو كانت حاضت حيضة قبل الموت ثم لم تأتها حيضة في عدة الوفاة فهل تكتفي بتلك الحيضة وهو الظاهر من جهة المعنى أو لا؟ وهو ظاهر كلامهم. وقوله: (وَالْمَوْتُ يَنْقُلُ الرَّجْعِيَّةَ) احترز به من المطلقة طلاقاً بائناً فإن الموت لا ينقلها. وَلا يَنْقُلُ الْعِتْقُ إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ يعني: إذا طلقها طلاقاً رجعياً ثم عتقت فإنه تتم عدة الأمة لأن العتق ليس بموجب للعدة، وحاصله أن الناقل ما أوجب عدة. وَلذَلِكَ لَوْ عُتِقَت ثُمَّ مَاتَ َفعِدَّةُ الْحُرَّةِ لِلْوَفَاةِ لأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا نَقَلَهَا صَادَفَهَا حُرَّةً، ولَوْ مَاتَ ثُمَّ عُتِقَتْ فَعِدَّةُ أَمَةٍ .... يعني: ولأجل ما قدمه من أن الموت ينقل وأن العتق لا ينقل كان الحكم فيمن طلق زوجته طلاقاً رجعيا ثم عتقت ثم مات عنها أن عليها عدة الحرة، لأن الموجب لعدة

الوفاة حصل في حال كونها حرة بخلاف ما إذا مات ثم عتقت لأن الموجب- وهو الموت- لما نقلها لم يصادف حرة فتستمر على عدة الأمة شهرين وخمس ليال. ابن عبد السلام: وسواء تقدمت لها حيضة أم لا، غير أنه إن تقدمت اكتفت بما انتقلت إليه، وإن لم تتقدم لها حيضة فاسلك بها ما تقدم في عدة الأمة للوفاة إذا لم تر فيها دماً، وكذلك تفعل في التي تقدم عتقها على موت مطلقها. وَلا تَنْتَقِلُ ذِمِّيَّةٌ تُسْلِمُ تَحْتَ ذِمِّيِّ بَعْدَ الْبِنَاِء فَيَمُوتُ فِي عِدَّتِهَا إنما لم تنتقل الذمية وإن كان الزوج أملك بها إذا أسلم لأنها في حكم البائن، وإنما كان أملك بها إذا أسلم تأليفاً على الإسلام لا لكونها رجعية، وأيضاً فالخطاب في عدة الوفاة إنما وقع للمسلمين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}. احترز بقوله: (بَعْدَ الْبِنَاِء): مما لو مات عنها قبله فإنها لا عدة عليها.

وَيَجِبُ الاسْتِبْرَاءُ بِحُصُولِ الْمِلْكِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ إِرْثٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ فَسْخٍ، أَوْ إِقَالَةٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ إِذَا لَمْ تًؤْمَنِ الْبَرَاءَةُ بِوَجْهٍ قَوِيِّ اتِّفَاقاً كَذَاتِ السَّيِّدِ والْمَسْبِبَّةِ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجِها، وإِنْ كَانَتْ لَمْ تَحِضْ أَوِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا إِذَا كَانَتَا مِمَّنْ يَحْمِلْنَ عَادَةً كًبِنْتِ َثلاثَ عَشْرَةَ، وخَمْسِينَ أصل اشتقاق الاستبراء من التبري وهو التخلص، ثم استعمل لغة في الاستقصاء والبحث والكشف عن الأمر الغامض، وفي الشرع في الكشف عن حال الأرحام عند انتقال الأملاك مراعاة لحفظ الأنساب، وهو واجب كإيجاب العدة في الزوجات لما رواه أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال في سبي أوطاس: ((لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة)). الأبهري: ويجب الاستبراء بأربعة شروط: الأول: الملك، الثاني: ألا تعلم براءة الرحم، الثالث: أن يكون وطء تلك الأمة مباحاً في المستقبل، والرابع: أن لا يكون الفرج محللاً له قبل الملك، واحترز بالأول مما لو تزوج أمة فإنه لا يجب عليه استبراؤها، وبالثاني مما لو علمت براءتها كما لو حاضت الأمة المودعة عنده ثم اشتراها، وبالثالث مما لو اشترى ذات زوج، وبالرابع مما لو اشترى زوجته، وقال غيره: إذا اجتمع نقل الملك مع عدم الحوز وجب الاستبراء، وإن انتفى الأمران أو أحدهما فلا استبراء، وكلام الأبهري أحسن لأن هذا الكلام يقتضي أن الإنسان إذا اشترى أمة متزوجة بالغير أن عليه الاستبراء وليس كذلك، وقال بحصول الملك ولم يقل كغيره ينقل الملك ليدخل في كلامه ما أخذه بالغنيمة من أيدي الكفار مما أخذوه من أموال المسلمين بالقهر فإنهم إنما لهم فيه شبهة الملك على المذهب، وقسم المصنف أنواع الملك بقوله: (أَوْ غَيْرِهِ ... إلخ). وقوله: (أَوْ إِقَالَةٍ)، يريد إلا أن يتقايلا قبل التفرق فإنه لا استبراء. نص عليه في المدونة، ويؤخذ هذا التقييد [403/ب] من كلام المصنف من قوله: (إِذَا لَمْ تًؤْمَنِ) لأنه إذا حصل التقايل قبل التفرق علمت البراءة.

وقوله: (كَذَاتِ السَّيِّدِ) هو أيضاً من الأمثلة التي لا تعلم فيها البراءة لأنها إذا كانت ذات سيد ثم انتقلت إلى غيره فذلك الغير لم يعلم براءة رحمها لاحتمال أن يكون السيد قد وطئها. وقوله: (والْمَسْبِبَّةِ) ظاهر، وفيها جاء الحديث المتقدم. وقوله: (وإِنْ كَانَتْ لَمْ تَحِضْ ... إلخ) (إن) للبالغة بمعنى (لو) أي يجب الاستبراء على كل من يمكن حملها سواء كانت من رأت دم الحيض أم لا، وجعل سن الصغيرة التي يمكن حملها ثلاثة عشر، وسن الكبيرة التي يمكن حملها خمسين، وتقدم في الطهارة فيمن سنها خمسون هل يحكم لم تراه من الدم بحكم الحيض أم لا؟ وكذلك اختلفوا هنا في العدد هل يحكم لها بحكم اليائسة أم لا؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْضَعَ فِيهَا فَاشْتْرُيِتْ فَحَاضَتْ فِي الطَّرِيقِ. يعني: وكذلك يجب الاستبراء إذا أبضع في جارية، أي إذا أرسل دراهم مع شخص ليشتري له بها جارية فاشتراها، وظاهر كلامه أنه لا فرق في ذلك بين أن يأتي بها المبضع معه أو يرسلها مع غيره، وإنما ذكر في المدونة المسالة فيما إذا أرسلها مع غيره. عياض: ووجب الاستبراء هنا لأنها قد خرجت من يد مشتريها المؤتمن عليها، ولهذا فارقت المودعة التي تخرج ولو كان مشتريها هو الذي أتى بها إليه كانت كمسألة المودعة، وقال أشهب: تجزئها حيضتها في الطريق ولو أرسلت مع وكيل، ولا استبراء عنده من سوء الظن، وعلى هذا فيقيد كلام المصنف بما إذا بعثها مع غيره، واستشكل قول ابن القاسم بوجهين: أحدهما: لو وجب الاستبراء بسوء الظن لزم ألا يطأ من إيمائه إلا من لا تتصرف، وأن لا يطأ في كل طهر إلا مرة، ثانيهما: أن ابن القاسم وافق في الأمة المودعة، وكذلك الأمة المرتهنة تفدى على أن لا استبراء فيهما، فكان يلزمه ألا يستبرئ في المسالة المذكورة لأن المبضع معه والرسول أمينان، وأجيب بأن المبضع معه بعثها مع غيره بغير

إذن ربها فأشبه الغاصب فليس استبراء سوء الظن، ولا تشبه أيضاً الوديعة للتعدي، وفيه نظر الوديعة. فإِنْ أمنت قَطْعاً أَوْ بِوَجْهٍ قَوِيِّ كَالاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَجِبِ اتِّفَاقاً كَمَنْ لا تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَكَمَنْ حَاضَتْ تَحْتَ يَدِهِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدٍ لَهُ صَغِيٍر فَيَسْتَبْرِئُهَا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ولَمْ تَخْرُجْ، أَوْ لِشَرِيكِهِ، أَوْ بِوَدِيعَةٍ ولَمْ تَخْرُجْ ولَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا وكَالْمَبِيعَةِ بِالْخِيَارِ ولَمْ تَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ ظاهره أن فاعل (أمنت) عائد على البراءة لأنه قسيم قوله: (إذا لم تؤمن البراءة) وصوابه على هذا أن يقول فإن حصلت البراءة أو اعتقدت بوجه قطعي أو بوجه ظني قوي، ويمكن أن يكون فاعل (أمنت) ضميراً عائداً على المشتراة المفهومة من السياق، والأول أقرب إلى لفظه كما ذكرنا، والثاني أولى لسلامته مما أورد على الأول، والله أعلم. قوله: (كَالاسْتِبْرَاءِ) مثال لما علمت فيه البراءة بوجه ظني. وقوله: (كَمَنْ لا تُطِيقُ الْوَطْءَ) مثال لما علمت فيه البراءة قطعاً، واعترضه ابن عبد السلام بأن الكلام إنما هو فيمن يمكن وطؤها وفيه نظر، ونص المتيطي أن بنت ثمان سنين لا تطيق الوطء وعمل بذلك وثيقة، وإنما لم يجب الاستبراء هنا لأنه إنما وجب خشية وطء الحامل، وقد انتفى الحمل إما بالقطع وإما بالظن. وقوله: (كَمَنْ حَاضَتْ) هذه أمثلة لما ظن فيها البراءة لأنها إذا حاضت تحت يده سواء كانت لزوجته أو ولده الصغير ثم اشتراها حصل الظن القوي ببراءة رحمها. وقوله: (مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ) راجع إلى مسألة الولد. وقوله: (ولَمْ تَخْرُجْ) أي وأما إن خرجت فإنه يجب عليها الاستبراء لسوء الظن، وهذا الشرط إنما هو على قول ابن القاسم وأما على قول أشهب فلا.

ابن عبد السلام: والظن في التي انتقلت إليه من ابنه أقوى منه في المنتقلة إليه من زوجته لأن نظره في الأولى أتم، ولهذا فصل أشهب في جارية زوجته على ما حكاه عنه محمد، فقال: إن كانت معه في دار هذا الذاب عنها والناظر في أمرها أجزأه كانت تخرج أم لا تخرج، فظاهر هذا أن الزوج لو لم يكن هو الذاب عنها لكان لها حكم غير هذا. وقوله: (أَوْ لِشَرِيكِهِ) أي اشترى نصيب شريكه وهي تحت يده. وقوله: (أَوْ بِوَدِيعَةٍ ولَمْ تَخْرُجْ ولَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا) لا خفاء في اشتراط عدم دخول سيدها، وأما اشتراط عدم خروجها فهو مبنى على قول ابن القاسم لا على قول أشهب. وقوله: (أَوْ بِوَدِيعَةٍ) معطوف على قوله: (وَكَمَنْ حَاضَتْ تَحْتَ يَدِهِ لِزَوْجَتِهِ) تقديره كمن حاضت تحت يده حالة كونها لزوجته أو بوديعة. وقول ابن عبد السلام أن قوله (بِوَدِيعَةٍ) معطوف على قوله (بِوَجْهٍ قَوِيِّ)، أو على ما عطف عليه بوجه قوي ليس بظاهر، لأن الوديعة أحد أمثلة الوجه القوي. وقوله: (وكَالْمَبِيعَةِ بِالْخِيَارِ) أي إذا اشترى أمة على الخيار إما له أو للبائع أو لأجنبي، وقبضها المشتري وحاضت في أيام الخيار، ثم أمضى من له الخيار البيع فلا يحتاج إلى استبرائها، وهذا حكم المشتري [404/أ] وأما البائع ففي المدونة: ومن اشترى جارية بالخيار ثلاثة فتواضعاها أو كانت وخشاً فقبضها، فاختار من له الخيار ردها فلا استبراء على البائع، لأن البيع لم يتم فيها، قال: وأن أحب البائع أن يستبرئ التي غاب عليها المشتري وكان له الخيار خاصة فذلك أحسن، إذ لو وطئها المبتاع لكان بذلك مختاراً وإن كان منهياً عن ذلك، كما استحب استبراء التي غاب عليها الغاصب. عياض: وأحب في مسألة الغاصب محمولة على الوجوب. قال: ويبينه ما وقع في أول الكتاب من قوله: (وعليه أن يستبرئها). قالوا: وعلى الغاصب نفقتها ومنه ضمانها حتى تخرج. نص في الجواهر على استحباب الاستبراء إذا غاب عليها المشتري على ظاهر المدونة. وقال

القاضي أبو الفرج: القياس إذا غاب عليها المشتري وجوب الاستبراء. واستحسنه اللخمي. انتهى. خليل: والأقرب حمل المدونة على الوجوب في مسألة الخيار ولاسيما إذا كان الخيار للمشتري. فَإِنْ أَمِنَتْ بِوَجْهٍ قَوِيٍّ يَقْصُرُ عَنِ الاسْتِبَراءِ فَقَوْلانِ، وهُوَ مَرَاتِبُ هذا الكلام يتم به تقسيمه الذي بين فيه من يجب في حقه الاستبراء ومن لا يجب، وجعل الأقسام ثلاثة، إما ألا تعلم البراءة ولا تظن أولاً، فالأول يجب فيه الاستبراء ودخل فيه من ظن شغل رحمها ومن شك. والثاني إما أن تعلم براءة الرحم أو تظن بوجه قوي كالاستبراء الحاصل عنده قبل حصول ملكه أو يظن دون ذلك. وذكر في القسم الثالث في وجوب الاستبراء قولين، وجعله مراتب ولم يجعله مسائل لوجهين، لأن المراتب تفاوت الوجوه التي يقوى بها الاستبراء ويضعف، لأن المرتبة الواحدة يدخل تحتها مسائل، والمشهور في جميع المراتب الوجوب إلا الأولى. الأُولَى: الْحَاصِلَةُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ بِشَرْطِ أَلا يَمْضِيَ مِقْدَارُ حَيْضَةِ اسْتِبْرَاءٍ، فَالْمَشْهُورُ: لا يَجِبُ .... تصور كلامه ظاهر، ومقابل المشهور حكاه ابن شعبان وفضل عن أشهب أنه لابد من حيضة أخرى. وقوله: (بِشَرْطِ أَلا يَمْضِيَ مِقْدَارُ حَيْضَةِ اسْتِبْرَاءٍ) هكذا فسر محمد ذلك، وهو أحسن من قوله في المدونة: ومن ابتاع أمة في أول الدم أجزأه من الاستبراء، وأما في آخره وقد بقي منه يوم أو يومان فلا، لأن قوله في أول الدم أعم من المقصود، فإنها إذا كانت عادتها اثني عشر يوماً أو نحوها واشتراها بعد أربعة أيام صدق عليها أنها في أول الدم مع أنها لا تستغني ببقية هذا الدم عن الاستبراء. لكن ما أشار إليه المصنف إنما يأتي على رأي

أبي بكر بن عبد الرحمن، وذلك أنه اختلف في معظم الحيضة فذهب أبو بكر بن عبد الرحمن إلى أنه يراعى أكثر الأيام، وحكى ابن القصار عن ابن مناس أن معظم الحيضة اليوم الأول والثاني، لأن الدم فيهما يكون أكثر اندفاعاً من باقي الحيضة وإن كثرت الأيام، والدم القوي وهو الذي يدفع ما في الرحم لا الرقيق. الثَّانِيةُ: مَنْ تَحْتَ يَدِهِ إِذَا كَانَتْ تَخْرُجُ أَوْ مَنْ كَانَتْ لِغَائِبٍ أَوْ لِمَجْبُوبٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيِّ أَوْ مُكَاتَبَةٍ تَتَصَرَّفُ ثُمَّ عَجَزَتْ ويُسَمَّى اسْتِبْرَاءَ سُوءِ الظَّنِّ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ. وقَالَ أَشْهَبُ: لا يجِبُ خاف ابن القاسم عليها الحمل من زنا أو اغتصاب فأوجب الاستبراء. ابن راشد: وهو أقيس لفساد الزمان، ولم يعتبر أشهب هذا الاستبراء الذي أوجبه ابن القاسم لسوء الظن، لأن الدليل قام على الغاية في مملوكته التي تتصرف. وقد يجاب لابن القاسم أنه لو خوطب بالاستبراء في المملوكة لشق ذلك لتكرره بخلاف المشتراة، وألحق في الجواهر المشتراة من الصبي ونحوه المشتراة من محرم، وصرح بمشهورية قول ابن القاسم. وما ذكره المصنف من وجوب الاستبراء في المكاتبة هو نص قول ابن حبيب، وهو الذي نقله التونسي وابن شاس عن ابن القاسم، وهو ظاهر نقل المازري، لأنه قال: أثبت فيها ابن القاسم الاستبراء ونفاه أشهب. والذي في المدونة في أول كتاب الاستبراء: ومن كاتب أمته ثم عجزت أحببت له الاستبراء إلا التي في يده لا تخرج فالاستبراء عليها. وعلى هذا فيكون معنى أحببت أنه يجب عليه الاستبراء. وحمل أبو الحسن وابن عبد السلام المدونة على ظاهرها، وجعل المصنف مخالفاً لها. وقد اختلف ظواهر مسائل المدونة في رجوع المكاتب إلى يد ربه بسبب العجز، هل هو ملك مستأنف أم لا؟ وخلافهم في مسألة المكاتبة راجع إلى هذا المعنى.

خليل: وفيه نظر لأنه خلاف ما نقله التونسي وغيره عن ابن القاسم، ولأن علة ابن القاسم حاصلة في المكاتبة كغيرها. وَالثَّالِثَةُ: كَالْمُطِيقَةِ وَالْياَئِسَةِ لا يَحْمِلانِ عَادَةً. وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِلذَّرِيعَةِ وِلِعُسْرِ تَبَيُّنِهِ .... قال في الجواهر: كبنت التسع والعشر فإنه يمكن وطؤها ولا تحمل في العادة، وكبنت الخمسين. والقول بوجوب الاستبراء رواه ابن القاسم عن مالك، والقياس هو الشاذ، وهو رواية ابن عبد الحكم وابن غانم، لأن الاستبراء معلل بخشية الحمل، والفرض أن العادة تنفيه لولا ما عارضه من التعليل الذي أشار إليه المصنف، لأنه لو قيل بذلك لتوسل إلى [404/ب] من يمكن الحمل منها، وأيضاً فإنه يعسر تمييز الزمان الذي يمكن فيه الحمل مما لم يمكن فيه، فلذلك أمر بالاستبراء في الجميع حسماً للذريعة. وَالرَّابعَةُ: كَالْوَخْشِ وَالْبِكْرِ ذكر في الجواهر أن المشهور الوجوب فيهما، والقول بنفي الوجوب في الوخش حكاه المازري وغيره. والقول بنفي الوجوب في البكر للخمي، ورآه مستحباً على وجه الاحتياط. ابن عبد السلام: واحتمال الحمل في الوخش أقوى منه في البكر، فكان ينبغي ألا يجمع بينهما في مرتبة واحدة، بل احتمال الحمل في الوخش أقوى منه في الصغيرة واليائسة المذكورتين في المرتبة الثالثة، والذي قاله ظاهر لاسيما إن كانت الوخش شابة. وَالْخَامِسَةُ: كَالْمُشْتَرَاةِ مُتَزَوِّجَةً فَتُطَلَّقُ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: تَحِلُّ مَكَانَهَا يعني: إذا اشترى أمة ذات زوج ولم يبن بها، فبعد انعقاد البيع طلقها زواجها قبل أن يبني بها، فقال ابن القاسم: ليس للمشتري أن يطأها في تلك الحال، ولابد له من الاستبراء، لأنها لو أتت بولد لستة أشهر فأكثر من يوم عقد النكاح عليها لحق بالزوج.

وقال سحنون: تحل للمشتري مكانها، إذ لا موجب عنده للاستبراء، لأن الفرض أنها غير مدخول بها. قول ابن القاسم أظهر لما ذكرناه، ولأن الزوج إنما يباح له وطؤها بإخبار السيد لأنه لا طريق له غير ذلك بخلاف المشتري، فإنا لو أجزنا له الوطء لكان أيضاً معتمده إخبار السيد، والمشتري لا يجوز له الاعتماد على ذلك باتفاق. وَيَجِبُ بِرُجُوعِهَا مِنْ غَصْبٍ أَوْ سَبْيٍ القاعدة أنه متى حيزت الأمة على وجه استباحة وطئها وجب استبراؤها إذا غلب عليها غيبة يمكن فيها الوطء، ولا تصدق الأمة إن قالت لم يطأني كما لا تصدق الحرة في ذلك. عياض: قالوا وعلى الغاصب نفقتها ومنه ضمانها حتى تخرج، قالوا ويلزم هذا فيمن زنى بأمة رجل طائعة أو مكرهة، لأن طوعها لا يبطل حق سيدها. وَيَجِبُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ بِعِتْقٍ أَوْ مَوْتِ سَيِّدِ أُمِّ الْوَلَدِ فِي غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ والْمُعْتَدَّةِ مِنْهُمَا .... لما كان موجب الاستبراء ضريين، حصول الملك وزواله، وتكلم على الأول أتبعه بالثاني. ابن هارون: يعني أن الأمة الموطوءة كانت مستولدة أم لا إذا عتقها السيد أو مات سيد أم الولد فلا تتزوج كل واحدة منهما إلا بعد الاستبراء بحيضة، وإن عقد قبل الاستبراء فسخ قبل الدخول وبعده لوقوع العقد في حالة يحرم الاستمتاع فيها لحق الغير. ثم إن هذا الاستبراء إنما يحتاج إليه إذا لم يكونا متزوجتين أو معتدتين، فإن كانا كذلك فلا استبراء، لأنهما إنما وجب استبراؤهما إذا لم يكونا معتدتين أو متزوجتين، لأنه لا مانع هناك للسيد من وطئهما، فاحتمل أن يكونا موطوءتين له بخلاف ما إذا كانتا متزوجتين أو معتدتين فإن هناك مانع له. وهذا معنى قوله في غير المتزوجة والمعتدة منهما، أي من الأمة وأم الولد.

وَلَوِ اسْتَبْرَأَهُمَا أَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا اسْتَانَفَتْ أُمُّ الْوَلَدِ دُونَهَا يعني: إذا استبرأ السيد الأمة أو أم الولد أو انقضت عدتهما من وفاة زوج كل منهما أو طلاقه، ثم أعتقهما وأراد السيد أن يزوجهما، فإن الأمة تكتفي بذلك الاستبراء المتقدم أو العدة المتقدمة بخلاف أم الولد فإنها لا تكتفي بذلك الاستبراء المتقدم أو العدة المتقدمة، وتحتاج بعد العتق إلى الاستبراء بحيضة، لأن أم الولد لما كان فيها عقد حرية كانت الحيضة في حقها كالعدة، فصارت بمنزلة الزوج يطلق امرأته بعد استبرائها بثلاث حيض فإنها لا تكتفي بذلك ولابد لها من استئناف العدة، لأن أم الولد فراش لسيدها ولا يخرجها عن ذلك إلا تزويجها، وإذا زالت عصمة النكاح عادت إلى الفراش بخلاف الأمة فإنها وإن كانت رائعة ليست بفراش حتى يقر السيد بوطئها. وَاسْتَانَفَا فِي الْمَوْتِ مَعاً، وَلَوْ كَانَ غَائِباً إِلا غِيبَةً عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ َيْقَدَمْ مِنْهَا يعني: لو مات سيد أم الولد أو الأمة فإنهما يستأنفان معاً حيضة، لأن الميت يحتاط له. وقوله: (وَلَوْ كَانَ غَائِباً) مبالغة، وسواء كانت الأمة أقر السيد بوطئها أم لا. ابن عبد السلام: ولو قيل في الأمة المتوفى عنها سيدها ولم يقر بوطئها لا تحتاج إلى استبراء كان السيد غائباً أو حاضراً ما كان بعيداً، ألا ترى أنها لو أتت بولد لم يلحق بسيدها، فلم يبق إلا الاستبراء من سوء الظن، وفيه ما قد علمت. وقوله: (إِلا غِيبَةً عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ َيْقَدَمْ مِنْهَا) أي: ولا يمكنه أن يأتي خفية. وفي معنى الغيبة التي يعلم أنه لم يقدم منها ما إذا كان مسجوناً. وما ذكره صحيح في الأمة، وأما في أم الولد فمخالف لما في المدونة، ففيها: وإن مات السيد وهي في أول دم حيضتها أو غاب عنها فحاضت بعده كثيراً ثم مات عنها، فلابد لها من استئناف حيضتها بعد موته لأنها عدته، وإنما يأتي كلام المصنف على ما قاله عبد الوهاب في معونته أن الحيضة في الدم استبراء محض وليس بعدة.

وَلَوْ مَاتَ فِي أَوَّلِ دَمِهِمَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ لأَنَّهُ لَهَا كَالْعِدَّةِ [405/أ] يعني بخلاف الأمة فإنها تعتد به كما تقدم في الشراء. وما حكاه من عدم الاكتفاء في أم الولد هو المشهور، وفي الاستذكار عن القاضي إسماعيل أنها تكتفي بالحيضة التي مات وهي عليها، وهو جار على أن الحيضة في حق أم الولد استبراء محض. وَيَجِبُ قَبْلَ تَزْوِيجِ الأَمَةِ، ويُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ أي ويجب الاستبراء، وهذا مقيد بالموطوءة. وأما إن لم يطأها ففي المدونة: لا يحتاج فيها إلى استبراء. وقبل قول السيد في الاستبراء لأنه لا يعلم إلا من جهته. وَلَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ مُدَعِّيِ اسْتِبْرَاءٍ ولَمْ يَطَاهَا جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ .... يعني: إذا اشترى أمة وزعم بائعها أنه استبرأها قبل بيعها على ما هو الأولى له. وقوله: (ولَمْ يَطَاهَا) يوهم أن له وطئها بدعوى البائع، وهو لا يجوز حتى يستبرئها. وقوله: (جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا) على المشهور، لأنه قد انتقل إلى المشتري حكم البائع. ووجه الشاذ أن البائع كان له ذلك حيث كان له الوطء بخلاف المشتري، وهو قول سحنون. وقال ابن القاسم فيمن اشترى زوجته قبل البناء فأراد أن يزوجها: ليس له ذلك حتى يستبرئها، لأن بائعها لم يكن له أن يطأها. وقال سحنون: له أن يزوجها، لأن الوطء له جائز. وبالجملة فابن القاسم راعى حال البائع، وسحنون راعى حال المشتري. وَيَجِبُ عَنِ الْوَطْءِ الْفَاسِدِ كَمَنْ وُطِئَتْ بِاشْتِبَاهٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَمَنْ وَطئ أُخْتَ أَمَةٍ وَطأهَا ثُمَّ حَرَّمَ الأُولَى .... ابن راشد: ولا خلاف في هذا وتصور كلامه ظاهر.

وَفِي اسْتِبْرَاءٍ الأَبِ أَمَةً لابْنِهِ فَوَطأهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَبْرَأَهَا فَقُوِّمَتْ عَلَيْهِ قَوْلانِ يعني: إذا وطئ الرجل جارية ولده فقومت عليه فإن لم يكن استبرأها قبل وطئها لم يطأها حتى يستبرئها، وإن كان قد عزلها عنده واستبرأها ثم وطأها، فالمشهور أنه لا يحتاج إلى استبراء. والمشهور ومقابله في المدونة، ففيها: ابن القاسم: ومن وطئ جارية ابنه فقومت عليه فليستبرئها إن لم يكن الأب قد عزلها واستبرأها. وقال غيره: لابد أن يستبرئها لفساد مائه وإن كانت مستبرأة عند الأب إذا تلذذ بجارية ابنه حرمت على الابن ووجب على الأب قيمتها، ولم يكن للابن التمسك بها على المعروف. وهذه لما كانت مستبرأة عند الأب فبأول وضع اليد عليها وجلوسه بين فخذيها حرمها على الابن ووجبت على الأب القيمة، فصار وطؤه في مملوكه له بعد الاستبراء. وأشار التونسي إلى أن قول الغير مبني على قول ابن عبد الحكم أن الأب لا يضمن قيمتها بوطئها بل يكون للابن أن يتماسك بها في عسر الأب ويسره. وحكاية المصنف القولين تدل على أن قول الغير مخالف لقول ابن القاسم وهي طريقة الأكثر، وذلك أن الأكثر فهموا أن قول ابن القاسم إن لم يكن الأب عزلها عنده واستبرأها، أنه لو كان استبرأها قبل الوطء لا يحتاج إلى استبراء بعده. وخالفهم ابن اللباد وابن الشقاق وفهما قوله: (إن لم يكن عزلها عنده واستبرأها) على أن المراد بعد وطئه. وصحح هذا ابن مرزوق، وخالفه تلميذه ابن رشد، وصحح مذهب الأكثرين، واحتج لابن القاسم بما احتج به القابسي. واختار عياض قول ابن اللباد بدليل قول ابن القاسم في آخر المسألة لأنه وطء فاسد. وَالاسْتِبْرَاءُ لِلْمُرْتَابَةِ قُرْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَيْضَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض)) ومقابل المشهور أنه طهر كالعدة، ولم أره منصوصاً، وإنما خرجه المازري على قول أشهب أن المشتراة في أول دمها لا تكتفي بذلك.

وَالْمُرْتَابَةُ بِتَاخِيرِ حَيْضِهَا، قِيلَ: تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ثَلاثَةً ويَنْظُرُهَا النِّسَاءُ، فَإِنِ ارْتَبْنَ فَتِسْعَةٌ. وكَانَ يَقُولُ تَحِيضُ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ انْتَظَرَتْهَا .... يعني: أنه اختلف في استبراء الأمة المرتابة، والقول بأنها تتربص تسعة أشهر لمالك في المدونة ورواية ابن وهب، والقول الذي نقله المصنف عن ابن القاسم بقوله: ثلاثة وينظرها النساء، هو له في العتبية، ورواه ابن القاسم وابن غانم في المدونة. ابن القاسم: وإن ارتفعت الريبة قبل التسعة حلت. وسئل ابن مناس: ما فائدة التسعة على هذا القول وهي إن زالت ريبتها قبلها حلت، وإن لم تزل بعد التسعة زادت؟ فأجاب بأن قال: فائدة ذلك إذا لم تزد تلك الريبة بها الحاصلة بالثلاثة وبقيت على حالها، نعم إن زادت بالحس والتحريك زادت على التسعة. وفصل ابن القاسم بين من تكون عادتها بتأخير حيضتها، كما إذا كانت تأتيها الحيضة في ستة أشهر أو سبعة أو نحو ذلك، وبين من يتأخر حيضها أكثر من تسعة أشهر كما إذا كانت تحيض كل سنة، فالأولى تنتظر الحيضة، والثانية تبرأ بثلاثة [405/ب] أشهر، وقول المصنف وكان يقول: إن كانت تحيض كل ستة أشهر ليس هو على معنى الاشتراط، والمعنى إن كانت عادتها تحيض فيما دون تسعة أشهر، ولكن ذكر المصنف الستة تبعاً للرواية، وهذه الرواية رواها يحيي عنه. خليل: وانظر على هذا القول إذا كانت عادتها ستة أشهر فانتظرتها ولم تأتها الحيضة فيها، هل تحل بانتفائها كما تقدم في عدة الحرة إذا كانت عادتها أن تحيض كل سنة أو ترجع إلى ستة أشهر غالب أمر الحمل. وَالْمُرْضِعُ والْمَرِيضَةُ كَذَلِكَ أي: مثل المرتابة، وظاهر تشبيهه في الخلاف المتقدم، ويحتمل في الاستبراء بثلاثة أشهر، وينظرها النساء فإن ارتبن فتسعة وهو أقرب، لأنه الذي رأيته منصوصاً، ولأن قوله إثر هذه والمستولدة كذلك.

وقيل: (تسعة) يقتضي أنه لم يرد التشبيه في الجميع وإلا لاستغنى عن قوله: وقيل (تسعة). لكن في كلامه على هذا نظر، فإنه ليس في كلامه ما يدل على أنه أراد بالتشبيه ذلك. وَالْمُسْتَوْلَدَةُ كَذَلِكَ، وقِيلَ: تِسْعَةٌ المستولدة هي أم الولد، وتصور القولين بين. وَالمْسُتْحَاضَةُ: الْمَشْهُورُ: ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ إِلا أَنْ تَشُكَّ فَتِسْعَةٌ، أَوْ تَرىَ مَا تُوقِنُ هِيَ وَالنِّسَاءُ أَنَّهُ حَيْضٌ .... مقابل المشهور أنه تتربص تسعة ولو ميزت. وَالصَّغِيرَةُ وَالْيَائِسَةُ: ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ أي: بشرط أن يمكن وطء الصغيرة، ففي البيان: أما التي لا يوطأ مثلها فلا خلاف أنها لا استبراء عليها، وإنما الخلاف في الصغيرة التي يوطأ مثلها ويؤمن الحمل منها، فذهب مالك وعامة أصحابه إلى وجوب الاستبراء فيها والمواضعة إن كانت من ذوات الأثمان بثلاثة أشهر، لأن الحمل لا يتبين في أقل منها. وقيل: شهران. وقيل: شهر ونصف. وقيل: شهر. وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أنها لا يجب فيها استبراء ولا مواضعة. ونقل بعضهم القول بالشهرين والشهر والنصف في اليائسة أيضاً بعض الموثقين، وكذلك أيضاً يلزم من قال أن استبراء الصغيرة شهران يقول بذلك في اليائسة. وَالْحَامِلُ: بِوَضْعِ حَمْلِهَا أي: واستبراء الحامل، وهو ظاهر. وَالْمُرْتَابَةُ بِحَسِّ الْبَطْنِ أَقْصَى أَمَدِ الْوَضْعِ يعنى على الخلاف المتقدم.

وَيَحْرُمُ فِي زَمَنِ الاسْتِبْرَاءِ جَمِيعُ الاسْتِمْتَاعِ. ابْنُ حَبِيبٍ: لا يَحْرُمُ مِنَ الْحَامِلِ مِنْ ِزنَّى والْمَسْبِيَّةِ إِلا الْوَطْءُ .... ابن عبد السلام: والأول هو المعروف في المذهب. وقال ابن حبيب: أما المسبية تقع في سهمه أو يبتاعها في المقاسم فله أن يلتذ منها بالقبلة والمباشرة والتجريب وغيره ما عدا الوطء لئلا يسقي ماءه ولد غيره، وهذه قد تم ملكه فيها، وبيع المقاسم بيع في براءة وإن ظهر بها حمل لم ترد به. أبو محمد: وهذا الذي ذكر ابن حبيب أنه تدخل البراءة من الحمل في بيع السلطان ليس بقول مالك إلا أن يعني في الوخش. وقد قال ابن المواز: بيع الرائعة بالبراءة مطلق جائز ولا يدخل في ذلك الحمل، وإن تبرأ منه فسد البيع. ونقل المازري وصاحب الجواهر عن ابن حبيب في الحامل من زنى مثل ما نقله المصنف وكذلك ابن راشد. وقال ابن عبد السلام: ما ذكره المؤلف عن ابن حبيب في الزنا لا أحفظه عنه، لكن قال سحنون فيمن اشترى أمة بالبراءة من حمل ظاهر أنه لا بأس أن ينال منها ما ينال من الحائض إذا كان من غير السيد، وكذلك إن قال بعد البيع أن أرضى بحمل إن كان بها ولم يكن البائع يطأ. ابن يونس: ولعله ترخص في هذا للشيخ، لأنه يملك نفسه كما أرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة في الصوم، وأما الشاب فلا. التَّدَاخُلُ: وَإِذَا طَرَأَ مُوجِبٌ قَبْلَ تَمَامِ عِدَّةٍ أَوْ اسْتِبَراءٍ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُتَّحِداً بِفِعْلٍ سَائِغٍ انْهَدَمَتِ الأُولَى واسْتَانَفَتْ مَا هِيَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ أَقْرَاءٍ أَوْ شُهُورٍ أَوْ حَمْلٍ كَالْمُرْتَجِعِ ثُمَّ يُطَلِّقُ أَوْ يَمُوتُ- مَسَّ أَوْ لَمْ يَمَسَّ- إِلا أَنْ يُفْهَمَ ضَرَرٌ بالتَّطْوِيلِ فَتَبْنِي الْمُطَلَّقَةُ مَا لَمْ تُمَسَّ كَمَا تَبْنِي إِذَا لَمْ تُرْتَجَعْ مُطْلَقاً .... يعني: إذا كانت في عدة أو استبراء ثم تجدد قبل تمام ما هي فيه موجب آخر، فإما أن يكون الموجبان من رجل واحد أو رجلين، وإذا كانا من رجل فإما أن يكونا بفعل سائغ- أي جائز- أم لا. وذكر المصنف أنه إذا كان الرجل واحداً بفعل سائغ فإن العدة الأولى

تنهدم وتستغني بالثانية عنها، سواء كانت الثانية من نوع الأولى أو من نوع آخر، وهو مراده بقوله: (مِنْ أَقْرَاءٍ أَوْ شُهُورٍ أَوْ حَمْلٍ). ومثل ذلك بالمرتجع ثم يطلق، يعني إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم ارتجعها ثم طلقها أو مات عنها قبل انقضاء العدة، ولا فرق في ذلك بين أن يمسها بعد ارتجاعه أم لا، ففي الموطأ: والسنة عندنا أن الرجل إذا طلق امرأته وله عليها رجعة فارتجعها ثم فارقها قبل أن يمسها فلا تبني على ما مضى من عدتها، وإنما تستأنف من يوم طلقها عدة مستأنفة. وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها، يعني لأن الرجعة تهدم العدة فإن الزوجية تنافي العدة. [406/أ]. وقوله: إِلا أَنْ يُفْهَمَ ضَرَرٌ بالتَّطْوِيلِ) هذا الكلام لابن القصار، وقيد به الطلاق مالك المتقدم، وهو ظاهر، لأنه إذا قصد بهذا الارتجاع التطويل عليها في العدة فيعاقب بنقيض مقصوده، وتبني على العدة الأولى بشرط ألا يكون مسها في الارتجاع. وقوله: (كَمَا تَبْنِي إِذَا لَمْ تُرْتَجَعْ مُطْلَقاً) يعني إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم أتبعها في العدة طلقة أخرى فإنها تبني على العدة من الطلقة الأولى مطلقاً، سواء تخلل الطلاقين حيض أم لا، وهو أحد قولي الشافعي، فنبه المصنف بالإطلاق على مخالفته في أحد قوليه. وفي بعض النسخ: (إذا لم ترتجع مطلقاً) وهي واضحة. وَكَالْمُتَزَوِّجِ زَوْجَتَهُ الْبَائِنَ ثُمَّ يُطَلِّقُ بَعْدَ الْبِنَاءِ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا قَبلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنَّهَا تَسْتَانِفُ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: إِنْ مَاتَ قَبْلَهُ فَأَقْصَى الأَجَلَيْنِ وضُعِّفَ، أَمَّا لَوْ طَلَّقَ قَبْلَ الْبِنَاءٍ لَمْ تَنْهَدِمْ .... هذا معطوف على قوله: (كَالْمُرْتَجِعِ) يعني إذا طلق زوجته طلاقاً بائناً ثم تزوجها وطلقها أو مات عنها فإنها تستأنف، ولا فرق في الموت بين أن يموت عنها قبل البناء أو بعده، بخلاف الطلاق فإنه إن طلقها بعد البناء استأنفت، لأن وطئه هادم للعدة. وإن طلقها قبل البناء بانت، لأن المطلقة طلاقاً بائناً في حكم الأجنبية. وإلى مساواة حالها في

الموت أشار بقوله: (أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا قَبلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) وإلى الفرق في الطلاق أشار بقوله: (ثم يطلقها بعد البناء). ثم صرح بما أفهمه الكلام آخراً فقال: أما لو طلق قبل البناء لم تنهدم. وروى محمد: إن مات قبله فأقصى الأجلين، أي: وعليها الإحداد في الأربعة أشهر وعشر. هكذا قال في الرواية. والمراد بالأجلين الثلاثة قروء والأربعة أشهر وعشر، ومعنى أقصى الأجلين، أي: أبعدهما، فإن انتهت الأقراء أولاً انتظرت الأشهر، وإن انقضت الشهر انتظرت تمام الأقراء. تنبيه: وقع في نسخ عديدة: وروى محمد بن مسملة، وكذلك هو في نسخة ابن راشد. وفي نسخة ابن عبد السلام: (وَرَوَى مُحَمَّدُ) فقط وفسره بابن المواز. وكذلك هو في ابن يونس فليعتمد عليه هنا، على أنه لا يلزم من أن ابن المواز رواه ألا يكون محمد بن مسلمة رواه. واعترض أبو عمران ما رواه محمد فقال: إما أن يجعلها تمضي على عدة الطلاق، أو يجعل النكاح قد هم عدة الخلع فتعتد الوفاة فقط. قال: ويلزمه على هذا أن الحامل إذا خالعها زوجها ثم تزوجها وتوفي عنها قبل الدخول أن يوجب عليها أقصى الأجلين. وأجاب ابن يونس بما حاصله أن عدة الخلع لما خالفت عدة الوفاة في الجنس لزم ألا تدخل إحداهما في الأخرى، بخلاف الحامل فإن عدتها في الخلع والوفاة وضع حملها، فلم يكن اعتبار أقصى الأجلين. وَمَا سِوَاهُ فَأَقْصَى الأَجَلَيْنِ كَالْمُعتَدَّةِ الْبَائِنِ يَطَأهَا الْمُطَلِّقُ أَوْ غَيْرُهُ وَطْئاً فَاسِداً بِزِنَى أَوْ اشْتِبَاهٍ أِوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ .... حقيقة أقصى الأجلين إذا كان كل من الأجلين يمكن أن يكون أبعد كالأقصى فيما تقدم، ويطلق مجازاً على معنى آخر وهو المذكور هنا، ومعناه أن المرأة إذا طلقت طلاقاً

بائناً ثم وطئها مطلقها أو غيره وطئاً فاسداً إما بزنى أو اشتباه، أو تزوجها المطلق أو غيره تزويجاً فاسداً. والفساد في حق غير المطلق ظاهر لأنه نكاح في عدة الغير، وأما المطلق فلا يكون بسبب العدة وإنما يفسد لغير ذلك من وجوه الفساد. ومعنى أقصى الأجلين أنه يبتدئ من حين الوطء الثاني ثلاث حيض. وقوله: (كَالْمُعتَدَّةِ الْبَائِنِ يَطَأهَا الْمُطَلِّقُ) يريد وكذلك الرجعية إذا وطأها بغير نية ارتجاع على المشهور فإنها تستبرئ بثلاث حيض، وكأن المصنف إنما خص المعتدة البائن للاتفاق عليها. وَكَالْمُعْتَدَّةِ فِي وَفَاةٍ أَوْ طَلاقٍ تَتَزَوَّجُ ويُدْخَلُ بِهَا. وقَالَ ابْنُ الْجَلابِ: تُتِمُّ ثُمَّ تَسْتَانِفُ عِدَّةً أُخْرَى. وهُوَ فِي الْمُوطَّأِ عَنْ عُمَرَ يعني: وممن هي مخاطبة بأقصى الأجلين على المشهور المعتدة، سواء كانت معتدة من طلاق أو وفاة إذا تزوجت ودخل بها في العدة وفسخ النكاح، وأقصى الأجلين في حق المطلقة مجاز كما ذكرنا بخلافه في المتوفي عنها. وقوله: (وقَالَ ابْنُ الْجَلابِ) أحسن منه: وفي الجلاب، لأن ابن الجلاب لم يقله وإنما نقل في المسألتين روايتين، إحداهما ما شهره المصنف، والثانية أنها تتم بقية العدة الأولى ثم تعتد بعد ذلك للزوج الثاني عدة أخرى. ثم كلامه يوهم أن ابن الجلاب ذكر في مسألة الموت والطلاق، وإنما ذكره في مسالة الطلاق. وَكَالْمُسْتَبْرَأَةِ مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ أُوْ يَمُوتُ يعني: وكذلك يجب أقصى الأجلين على من وجب استبراؤها من الزوجات لأجل وطء فاسد يزني أو اشتباه ثم طلقها الزوج أو مات عنها.

وَوَضْعُ الْحَمْلِ اللاحِقِ بِالنِّكَاحِ الصَّحٍيحٍ يَهْدِمُ غَيْرَهُ مثاله: إذا تزوجت المعتدة لغير [406/ب] مطلقها أو غصبت أو زنت أو وطئت باشتباه ثم أتت بولد وألحق بالأول، وهو معنى قوله: (بِالنِّكَاحِ الصَّحٍيحٍ) فإن ذلك الوضع (يَهْدِمُ غَيْرَهُ) أي: الاستبراء من الوطء الثاني، لأنه إنما كان خشية الحمل وهو مأمون هنا، ولا خلاف في هذا، قاله عياض وغيره. وَوَضْعُهُ مِنَ الْفَاسِدِ يَهْدِمُ أَثَرَ الْفَاسِدِ، ولا يَهْدِمُ فِي الْمُعْتَدَّةِ لِلْوَفَاةِ اتِّفَاقاً، فَعَلَيْهَا أَقْصَى الأَجَلْينِ، وفِي الْمُعْتَدَّةِ لِلطَّلاقِ قَوْلانِ. وَعَلَى أَلا يَهْدِمَ فَقِيلَ: أَقْصَى الأَجَلَيْنِ. وَقِيلَ: تَاتَنِفُ بَعْدَهُ عِدَّةً .... يعني: وإن ألحق بالنكاح في العدة فإن كان وطأها بعد حيضة فإن ذلك الوضع يبرئها من الاستبراء، وهو معنى قوله: (أَثَرَ الْفَاسِدِ) ثم هل يهدم هذا الوضع أثر العدة؟ لا يخلو إما أن تكون العدة الأولى من وفاة أو طلاق، فإن كانت من وفاة فقال المصنف وغيره: لا يهدمها هذا الوضع بالاتفاق. وحكى بعضهم فيها خلافاً كالمعتدة من الطلاق. وهذه الطريقة أولى لأن المثبت أولى ممن حكى الخلاف. أبو محمد: عن أشهب فإنه حكى عنه في المنعي لها زوجها أن الوضع من الآخر يبرئها منهما، قال: وهو خلاف قولهم كلهم. فإن قلت: كيف يصح قوله: (ولا يَهْدِمُ فِي العدة لِلْوَفَاةِ) ولا يمكن أن يكون أقصى الأجلين إلا الحمل، فإن الفرض محكوم له بأنه من الثاني، ولا يحكم به أنه من الثاني إلا بعد كونه آتياً بعد ستة أشهر، وعلى هذا فيكون الحمل هو أقصى الأجلين، ويصح قوله أن: (وَضْعُهُ مِنَ الْفَاسِدِ ... لا يَهْدِمُ فِي الْمُعْتَدَّةِ لِلْوَفَاةِ) فالجواب أنه يتصور في المنعي لها زوجها إذا اعتدت وتزوجت وحملت من الثاني ثم ثبت أنه لم يمت أولاً وإنما مات الآن، وفسخ نكاح الثاني لأنه نكح ذات

زوج، فإن وضعت قبل تمام أربعة أشهر وعشر من يوم موت الزوج الأول لم تحل حتى تنقضي الأربعة أشهر وعشر، وإن انقضت الأربعة أشهر وعشر قبل وضع الحمل بأن تبين موت الأول وهي في أول الحمل لم تحل حتى تضع حملها، والله أعلم. وقوله: (وفِي الْمُعْتَدَّةِ لِلطَّلاقِ قَوْلانِ) يعني: وهل يهدم الحمل اللاحق بالنكاح الفاسد عدة الطلاق؟ قولان. والقول بالهدم مذهب المدونة عند غير واحد من الشيوخ، لأن فيها: وأما الحامل فالوضع يبرئها من الزوجين جميعاً، فظاهره وإن كان من الآخر. وصرح بعضهم بذلك في اختصاره للمدونة، وهو قول ابن القاسم في مختصر ابن أبي زيد، ورواية أشهب في الموازية وضعفه محمد. والقول بأنه لا يبرئها ولابد لها من ثلاث حيض لأصبغ، والأول أظهر لأن العدة شرعت لبراءة الرحم، ومع الوضع تتحقق البراءة. ورأى أن عدة الطلاق أيضاً فيها ضرب من التعبد، ولولا ذلك لاقتصر على قرء واحد. وعلى الأول إنما تبرأ بالحمل إذا كان بشبهة، وأما إذا كان بزنى صراح فإنه لا يبرئها ذلك من عدة وجبت عليها. وقاله ابن القاسم، لكن اعترضه أبو إسحاق وقال: لا ينبغي أن يفرق في ذلك إذا القصد براءة الرحم. وقوله: (وَعَلَى أَلا يَهْدِمَ ... إلخ) يعني: وإذا فرعنا على القول بعدم الهدم فعليها أقصى الأجلين، أي لا تكتفي بالحمل وتنتظر بقية الأقراء. وهذا من المواضع التي أطلق فيها المصنف الأقصى بالمجاز، وهذا القول هو المعروف، والقول بأنها تستأنف ثلاث حيض نقله صاحب النوادر، لكن قال عبد الحق: لا يصح ما نقله أنها تستأنف ثلاث حيض، ولفظه في الأمهات: لم يكن لها بد من بقية الثلاث. ابن يونس: وهذه العبارة هي الصواب لأن الحمل لا يكون من الآخر إلا أن يتزوجها بعد حيضة وتضعه بعد ستة أشهر فأكثر، فقد مضت لها حيضة فتتم بقية الثلاث حيض. وفي التنبيهات ما وقع من نقل بعضهم أنها تستأنف ثلاث حيض بعد الوضع فإنما معناه أنها لم

تحض قبل. قيل: ولا يقول أحد أن الوضع يهدم ما مضى من عدتها، فإن قلت هذا ليس بظاهر لأنه إنما يلحق بالثاني بعد الحيضة. قيل: يحتمل أن يكون ذلك قبلها ويكون الأول نفاه، فإنه حينئذ يلحق بالثاني كما قال المصنف في المسألة التي تليها. ابن عبد السلام: القول باستئناف الثلاث ذكره محمد واختاره، وظاهره أن النفاس في هذه الصورة لا يقوم مقام حيضة، وقال بعضهم بل يقوم مقامها، وهو الأظهر عندي. انتهى. وَمَهْمَا أَتَتْ غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا بِوَلَدٍ يَحْتَمِلُهُمَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ حَيْضَةٍ لَحِقَ بِالَّثانِي إِلا أَنْ يَنْفِيَهُ باِللِّعَانِ فَيَلْحَقُ بِالأَوَّلِ. وَلا تُلاعِنُ هِيَ لَأَنَّهُ نَفَاهُ إِلَى فِرَاشٍ، فَإِنْ نَفَاهُ تَلاعَنَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حَيْضَةٍ فَالأَمْرُ بِالْعَكْسِ .... جرت عادة غير المصنف بفرض هذه المسألة في النكاح في العدة، وأتى المصنف بعبارة شاملة لها ولغيرها، فإن قوله: (غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا) يدخل فيه النكاح في العدة والموطوءة باشتباه، ولا يقال: يدخل في كلامه الأمة المشتركة إذا وطئها الشريكان كما أشار إليه ابن عبد السلام، لأن قوله بعد: (هَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ) يرده. وأخرج بقوله (غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا) الزانية والمغتصبة، ومعناه: إذا تزوجت المعتدة ثم أتت [407/أ] بولد لما يحتمل أن يكون لكل واحد من الواطئين بأن تأتي به لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني. فإن كان وطء الثاني بعد حيضة لحق الولد بالثاني، لأن الحيضة تدل على براءة رحمها من الأول، وهذا مذهب المدونة وهو المشهور. وروى المدنيون عن مالك: يلحق بالأول ولو وطأها الثاني بعد حيضة أو حيضتين لصحة ماء الأول وفساد وطء الثاني. وقوله: (إِلا أَنْ يَنْفِيَهُ باِللِّعَانِ فَيَلْحَقُ بِالأَوَّلِ) تصوره ظاهر ولا تلاعن هي لأنه لم يرمها بزنى، وإنما نفاه إلى فراش، فإن نفاه الأول أيضاً التعنت حينئذ، لأنه لم يبق من يلحق به هذا الولد. وهذا معنى قوله: (فَإِنْ نَفَاهُ تَلاعَنَا).

قوله: (فَإِنْ كَانَ قَبْلَ حَيْضَةٍ فَالأَمْرُ بِالْعَكْسِ) أي فيلحق بالأول إلا أن ينفيه بلعان فينتفي عنه ويلحق بالثاني، ولا تلاعن هي إلا أن ينفيه الثاني أيضاً فحينئذ تلاعن. وعلى ما رواه المدنيون إذا نفاه الأول تلاعن لأنه لا يلحق بالثاني، وإذا ألحق بالأول فإنها تحرم على الثاني لكونه وطأها في العدة. قاله في المدونة. تنبيهان: الأول: قد تقدم أن قول (غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا) يشمل المعتدة والموطوءة باشتباه، ولم أر هذا لحكم في المشتبهة. الثاني: احترز المصنف بقوله: (يَحْتَمِلُهُمَا) مما لو أتت به لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني، فإنه لا يلحق بالثاني أصلاً ويلحق بالأول إلا أن ينفيه بلعان. ابن القاسم: وفي معنى الستة ما إذا كان الشهر السادس تسعة وعشرين ولا يلحق في أنقص من ذلك. وقال ابن دينار: يلحق به وإن نقص ليلتين أو ثلاثاً قدر ما بين الأهلة. عياض: وقد وقعت قديماً بفاس مسألة في امرأة جاءت بولد لخمسة أشهر وأربعة وعشرين يوماً هل يلحق به أم لا؟ واختلف فيها فقهاء بلدنا أيضاً، والصواب ألا يلحق به، إذ لا يصح توالي ستة أشهر نقص، وبه أفتى أحمد ابن القاضي ومحمد بن العجوز وغيرهما، وخالفهما أبو على السبتي. ثُمَّ مَنِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ بِهِ وَيْحَدُّ إِنْ كَانَ الْمُسْتَلْحِقُ الْمُلاعِنَ الثَّانِيَ. وَقِيلَ: الْمُسْتَلْحِقُ مِنْهُمَا يُحَدُّ .... لا خفاء فيما ذكره أن من استلحقه منهما يلحق به كما في سائر مسائل اللعان. ابن المواز: فإذا استلحقه أحدهما فلا دعوى للثاني فيه، ولو ادعاه الأول قبل لعان الثاني لم يقبل منه، لأنه ابن الثاني، ولو استلحقه كلاهما بعد التعانهما كان الأول أحق به وتحرم على الثاني للأبد، سواء التعن أم لا، لأنه ناكح في عدة.

سحنون: ولا تحرم على الأول- وإن التعن- لأنه لم تلاعنه كالتي تغتصب فينفي الزوج حملها، أنه يلاعن ولا تحرم عليه. وقال أصبغ: إن تلاعنا جميعاً حرمت على الأول والثاني. وقال عبد الحميد، وابن عبد السلام: إذا استلحقاه فإنه يكون لمن يقتضي الحكم إلحاقه به لو لم يكن لعانٌ، فإن كان بعد حيضة لحق بالثاني، وإن كا قبلها فبالأول. ابن عبد السلام: هكذا نصوا. وينبغي أن يحمل على ما إذا استلحقاه في زمان واحد، وأما إن تقدم أحدهما فيلحق بالمستلحق الأول، فانظره مع كلام ابن المواز. وقوله: (وَيْحَدُّ ... إلخ) يعني: ويحد المستلحق إن كان هو الملاعن الثاني لأنه هو الذي نفاه إلى غير فراش، وأما إن استلحقه الملاعن الأول فإنه لا حد عليه لأنه إنما نفاه لفراش. وهذا قول محمد. وقوله: وقيل: (الْمُسْتَلْحِقُ مِنْهُمَا يُحَدُّ) أي: سواء كان الأول أو الثاني. وهو قول أصبغ واستصوبه التونسي، قال: لأن لعانها لهما. هَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الْقَافَّةُ فَفِي الأَمَةِ يَطَأهَا السَّيِّدَانِ فِي طُهْرٍ يعني: أن الكم الذي ذكره خاص بالنكاح، وليس في الحرائر قافة وإنما القافة في الإماء، وهذا هو المشهور. وروي عن مالك أنه يعمل به في الحرائر أيضاً، واختاره اللخمي وغيره. والقافة جمع قائف. أبو عمران: وإنما اختصت القافة بالإماء على المشهور لأن الأمة قد تكون بين جماعة فيطأونها في طهر واحد، فقد تساورا في الملك والوطء. وكذلك ما حكم به عمر رضي الله عنه في وطء الزنا في الجاهلية لتساوي الوطء، وليس أحدهما أقوى من الآخر. وكذلك الأمة إذا ابتاعها رجل وقد وطأها البائع ووطأها المبتاع في ذلك الطهر، لأنها استويا في ذلك الملك، وأما الحرة فإنها لا تكون زوجاً لرجلين في حالة واحدة، فلا يصح فيها

فراشان متساويان. وأيضاً ولد الحرة لا ينتفي إلا بلعان، وولد الأمة ينتفي بغيره. والنفي بالقافة إنما هو ضرب من الاجتهاد، فلا ينقل ولد الحرة من اليقين إلى الاجتهاد، ثم من ألحقته القافة لحق به، فإن قالت: هو منهما. فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن الاشتراك في الماء لا يصح، ويصير إلى أن يبلغ فيوالي من شاء منهما. وسيأتي من كلام المنصف من آخر أمهات الأولاد في هذه المسالة أربعة أقوال. فرع: فإن قالت القافة: ليس هو لواحد منهما. قال أصبغ: تغير عليه القافة، فإن استوى كلامهم وهما مقران بالوطء وإلا أيهما [407/ب] شاء. وقال سحنون: يدعى له آخرون ثم آخرون، هكذا أبداً حتى يلحقه بعضهم بأحدهما، لأن القافة إنما دعيت لتحلق لا لتنفي. وهل يُجتزأ بقائف واحد، وهو الذي رواه ابن حبيب عن مالك، وشرط في الرواية أن يكون عدلاً، أو لا يجتزأ إلا باثنين، وهو الذي رواه ابن نافع عن مالك بناء على إلحاقه بباب الخبر أو بباب الشهادة؟ بعض الشيوخ: والقياس أن يحكم بقائف واحد وإن لم يكن عدلاً، لأنه علم علم يؤديه وليس من طريق الشهادة، كما يقبل قول النصراني الطبيب فيما يحتاج إلى معرفته من ناحية الطب. زاد التونسي: وكذلك اختلف في الترجمان والناظر في العيوب هل يُجتزأ بواحد أو لابد من اثنين؟ وَالْمُشْتَراةُ فِي الْعِدَّةِ عَلَيْهَا أَقْصَى الأَجَلَيْنِ مِنْ حِينِ الشِّرَاءِ يعني: سواء كانت معتدة من وفاة أو طلاق، أما المعتدة في الوفاة ففي المدونة: إن حاضت قبل شهرين وخمس ليال لم يطأها حتى تنقضي عدتها، وإن تمت عدتها ولم تحض فإن رفعتها حتى مضت ثلاثة أشهر وحست من نفسها انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم الشراء، وأما المطلقة فأشار إليها بقوله:

فَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَتَأَخَّرَ حَيْضُهَا اعْتَبَرَتْ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ شَرَائِهَا، وإِنْ زَادَتْ عَلَى سَنَةِ الْعِدَّةِ .... لأنها إذا طلقت وهي مرتابة بتأخير الحيض فعدتها سنة كما تقدم واستبراؤها بثلاثة أشهر كما تقدم فتنتظر أقصى الأجلين، فإن بيعت وقد بقي من العام ثلاثة أشهر فقد دخل الاستبراء في العدة، وإن بيعت وقد بقي من السنة يوم دخل يوم من الاستبراء في العدة. خليل: ولو قيل: يكتفي بالسنة على الاستبراء لكان قولاً حسناً، لأن الاستبراء معقول المعنى، وقد حصلت براءة الرحم بالسنة، والله أعلم. وَمَنْ أَعْتَقَ لَمْ يَسْتَبْرِئُ لِنِكَاحِهِ عَنْ وَطْئِهِ يعني إذا كانت له أمة يطأها ثم أعتقها وأراد أن يتزوجها لم يستبرئ لنكاحه، لأن وطئه أولاً صحيح، والاستبراء إنما يكون عن الوطء الفاسد. وسمعت ممن أثق به أن في المسألة قولاً آخر بالاستبراء، ولم أره الآن وهو أظهر، ليفرق بين ولده من وطء الملك فإنه ينتفي بمجرد دعواه من غير يمين على المشهور، وبين ولده من وطء النكاح فإنه لا ينتفي إلا بلعانه. وَمَنِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا لِحَلِّ وَطْءِ الْمِلْكِ يعني: أن الإنسان إذا كان متزوجاً لأمة ثم اشتراها فليس عليه استبراء، لأنه إن لم يدخل بها فواضح إذ لا وطء منه ولا من غيره حتى يجب الاستبراء منه، وإن دخل فوطؤه صحيح والماء ماؤه، وهو ماء صحيح في وطء صحيح. عياض: وقال ابن كنانة: في غير المدخول بها ويستبرئها. وانظر ما حكاه القاضي عن ابن كنانة هل معناه وإن كانت بعد البناء لم يحتج إلى استبراء أو إنما تحتاج إليه بعده من باب الأولى، ويكون نبه بالأخف على الأشد وهو الظاهر. وذكر أن الولد إذا أحدث بعد الملك كانت به أم ولد باتفاق.

واختلف إذا حملت به في النكاح وولدته بعد الشراء هل تكون به أم ولد أو لا؟ فتحتاج إلى الاستبراء ليحصل هل هي أم ولد أو لا؟ فَلَوْ بَاعَ الْمَدْخُولَ بِهَا أَوْ أَعْتَقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ وَطْءِ الْمِلْكِ لَمْ تَحِلَّ لِلسَيَّدِ وَلا لِلزَّوْجٍ إِلا بِقُرْءَيْنِ عِدَّة فسخ النِّكَاح، وكَانَ يَقُولُ: حَيْضَةٌ. ثًمَّ رَجَعَ .... يعني: فلو باع هذا الزوج الذي اشترى زوجته وكان قد دخل بها أو أعتقها أو مات عنها قبل أن يطأها بالملك، أو كان هذا الزوج مكاتباً اشترى زوجته فعجز فرجعت إلى سيده قبل أن يطأها المكاتب لم تحل واحدة منهن لزوج إن تزوجت أو لسيد إن حصلت سيده قبل أن يطأها المكاتب لم تحل واحدة منهن لزوج إن تزوجت أو لسيد إن حصلت إلا بعد قرءين عدة فسخ النكاح، وكان مالك يقول في كل من اشترى زوجته من حر أو عبد ثم باعها أو أعتقها أنه يستبرئها بحيضة ثم رجع عنه إلى حيضتين. ذكر ذلك في المختصر الكبير، وكتاب ابن المواز. وبالمرجوع إليه أخذ ابن القاسم، ولكنه في المدونة إنما ذكر مسألة المكاتب، قيل: وسبب الخلاف هل هي من ملك ولم يفعل كمن فعل، وذلك أن المكاتب ونحوه قد ملك أن يطأ فهل يعد كأنه وطئ أم لا؟ عياض: وقيل سبب الخلاف الخلاف في المطلوب في الفسوخ هل هو استبراء أو عدة؟ أبو الحسن وغيره: وإذا بنينا على القول المرجوع إليه فالحيضة الأولى هي التي للمواضعة ويبرأ بها المبتاع، والثانية إنما هي لتتميم عدة فسخ النكاح وضمانها حينئذ من المشتري. وكتب ابن عتاب أن المواضعة في الحيضتين معاً، وهو ظاهر ابن أبي زمنين. ونص ما في كتاب ابن عبدوس: وذلك أنه إن ظهر بها حمل فيهما صارت أم ولد للبائع، وقول المصنف عدة مجرور إما بدل أو عطف بيان من قرءين.

وَبَعْدَهُ بِحَيْضَةٍ لأَنَّ وَطْئَهُ فَسْخٌ لِلْعِدَّةِ. الضمير المجرور ببعده عائد على الوطء، يعني: وإن باع المدخول بها أو مات عنها أو أعتقها بعد أن وطئها اكتفت بحيضة، لأن وطئه هادم لعدة فسخ النكاح. ولما كان المطلوب في الفرع الأول على القول المرجوع [408/أ] إليه إنما هو عدة، قال المصنف بقرءين، لأن الأقراء هن الأطهار بخلاف المطلوب هنا فإنه استبراء محض، فلذلك قال بحيضة ولم يقل بقرء، لأنه تقدم أن المطلوب به في الاستبراء حيضة على المشهور. إِلا أَنْ يَحْصُلَ قَبْلَ ذَلِكَ حَيْضَةٌ أَوْحَيْضَتَانِ فَتَحِلُّ بِحَيْضَةٍ الاستثناء راجع إلى صدر المسألة- أعني محل القرءين- والإشارة بذلك عائدة على البيع والعتق والموت، وعجز المكاتب المفهومة من قوله: (فلو باع المدخول بها أو أعتقها أو مات عنها أو عجز المكاتب) يعني إلا أن تحصل قبل انتقال الملك بأحد تلك الوجوه حيضة أو حيضتان فتحل بحيضة، لأنه إن حصل قبل ذلك حيضة كانت هذه الحيضة التي تحل بهما مكملة للعدة ونائبة عن الاستبراء، وإن كان الحاصل قبل حيضتان كانت هذه الحيضة استبراء فقط. وَمَتَى الْتَبَسَ الأَمْرُ فَالأَحْوَطُ كَالْمَرْأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطَلَّقٌة، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَتَبَيَّنْ فِيهِمَا فَعِدَّتُهُمَا أَقْصَى الأَجَلَيْنِ فَإِنْ تَبَيَّنَتْ فَكَالْمَطَّلَقةِ .... الكلام المتقدم في التداخل هو باعتبار موجبين، والكلام الآن إذا كان الموجب واحداً ولكنه التبس بغيره، ثم التباسه إما أن يكون من جهة محل الحكم وإما من جهة سببه، ومثل المصنف للأولين بمثالين أشار إلى الأول بقوله: (كَالْمَرْأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ) وإلى الثاني بقوله: (أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطَلَّقٌة) يعني: إذا كانت له امرأتان إحداهما

بنكاح فاسد كما لو تزوج أختين من الرضاع ولم تدر السابقة منهما، ثم مات الزوج فتعتد كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر وثلاثة قروء، لأن الحكم فيهما لو علمت السابقة أن تعتد بأربعة أشهر وعشر، وتعتد الأخرى بثلاثة قروء، لكن لا يعلم ذلك طلب في كل واحدة مجموع الأمرين إذ لا تتحقق حليتهما للأزواج إلا بذلك، والتعليل في المسألة الثانية كالأولى. وقوله: (ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ) هو عائد للمسألتين معاً. وقوله: (وَلَمْ تَتَبَيَّنْ) أي: المنكوحة نكاحاً فاسداً أو المطلقة فيهما، أي في المسألتين. وقوله: (فَعِدَّتُهُمَا أَقْصَى الأَجَلَيْنِ) واضح. وقوله: (فَإِنْ تَبَيَّنَتْ) أي المنكوحة نكاحاً نكاحاً فاسداً (فَكَالْمَطَّلَقةِ) أي: فإن مات عنها قبل البناء فلا شيء عليها، وإن مات بعده تربصت ثلاثة قروء، ثم أخذ يتكلم على الالتباس من جهة سبب الحكم، فقال: وَكَالْمُسْتَوْلَدَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ يَمُوتُ السَّيِّدُ والزَّوْجٌ وَلَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَإِنِ احْتَمَلَ مَا بَيْنَهُمَا عِدَّةَ الأَمَةِ فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ مِنْ مَوْتِ الثَّانِي، وحَيْضَةٌ فِيهَا أَوْ إَلَى تَمَامِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَهَذَاَ عَلَى أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْمُسْتَوْلَدَةِ بِذَلِكَ لا عَلَى أَنَّهُ ثَلاثَةٌ أَوْ سِتَّةٌ وإِنْ لَمْ يَحْتَمِل فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ مِنْ مَوْتِ الثَّانِي، وَحُكْمُ الْحَيْضَةِ مَا فِي عِدَّةِ الحُرَّةِ لِلْوَفَاةِ، ولابُدَّ مِمَّا تَحِلُّ بهِ الأَمَةُ الْمُعتَدَّةُ مِنَ الْوَفَاةِ مِنْ مَوْتِ الأَوَّلِ ... يعني: إذا زوج الرجل أم ولد ثم غاب عنها سيدها وزوجها وماتا، وعلم أن أحدهما مات قبل الآخر لكن لم يعلم السابق منهما، فلذلك صورتين: الأولى: أن يكون بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال، وهو معنى قوله: (فإن احتمل ما بينهما عدة الأمة). وانتهى كلامه على هذه الصورة عند قوله: (ثَلاثَةٌ أَوْ سِتَّةٌ) والصورة الثانية: ألا يكون بين موتهما شهران وخمس ليال، وهو معنى قوله: (وإِنْ لَمْ

يَحْتَمِل .... إلخ). وإنما طلبت في الأولى بأربعة أشهر وعشر وحيضة، لأنه على تقدير احتمال موت السيد أولاً لا يلزمها بسببه شيء لأنه مات عنها وهي في عصمة زوج ولم تحل لسيدها، لكن يجب عليها أربعة أشهر وعشر، لأن زوجها مات عنها وهي حرة، وعلى احتمال موت الزوج أولاً تجب عليها العدة منه بشهرين وخمس ليال، لأنه مات عنها قبل سيدها لكن يجب عليها الاستبراء بحيضة، لأنها قد حلت للسيد إذ الفرض أن بين موتهما مقدار العدة، فلأجل ذلك لا تحل إلا بمجموع الأمرين أربعة أشهر وعشر وحيضة، فإن أتتها الحيضة في أربعة أشهر وعشر وإلا انتظرتها إلى تسعة أشهر، فإن لم تأتها ولم تحس بريبة حلت، وهذا معنى قوله: (وحيضة فيها أو إلى تمام تسعة أشهر). واختلف الشيوخ في الشهرين وخمس ليال، هل لها حكم أكثر منها؟ وبه فسر المدونة ابن يونس، أو الأقل وإليه ذهب ابن شبلون لأنه لم يمض وقت تحل فيه للسيد، ولو جهل مقدار ما بينهما هل أقل أو أكثر لكانت كما لو تحقق أنه أكثر ولزم الأخذ بالأحوط. قاله بعض الشيوخ. قوله: (وَهَذَا) أي: ما قلنا من الرفع إلى تسعة أشهر إنما هو إنما هو أن تستبرأ أم الولد إذا توفي عنها سيدها وارتابت بتأخير الحيض تسعة أشهر لا على القول بأنها ترفع ثلاثة أشهر، فإنها على هذا القول تكتفي بأربعة وعشر لدخول الثلاثة فيها ولا على أنها ترفع إلى ستة أشهر فإنها تستغني بستة أشهر. وهذا القول الذي قدمه عن ابن القاسم بقوله: وكان يقول إن كانت تحيض كل ستة أشهر انتظرتها. وكلام المصنف يوهم أن ابن القاسم يقصد خصوصية الستة، وإنما قال [408/ب] ذلك على طريق المثال كما تقدم، واعلم أن ما قاله المصنف من أنها على القول بأنها تكتفي بثلاثة أشهر تكتفي هنا بالأربعة أشهر وعشر، هو قول غير واحد من القرويين، ورده ابن يونس بأن القول بالاكتفاء بالثلاثة إنما هو في الأمة القن إذا ارتابت، والحيضة في أم الولد من وفاة سيدها أو عتقه

إياها عدة لقول الاختلاف فيها بخلاف الأمة. وإذا كانت عليها عدة من سيدها وعدة من زوجها وجب أن تطالب بأقصى الأجلين، كقول ابن القاسم فيمن تزوجت في عدة وفاة ودخل بها، وصححه عياض. خليل: وإنما يظهر أثر اشتراط الحيضة فيما إذا احتمل على قول من لا يراعى الحيضة في عدة الوفاة، وأما من يعتبرها- كأشهب وأحد قولي ابن القاسم- فإن حيضة استبرائها تدخل في الحيضة المشترطة في العدة. وقوله: (وإن لم يحتمل) هذه هي الصورة الثانية، يعني فإن لم يكن بين موتهما شهران وخمس ليال بل أقل من ذلك فعليها أربعة أشهر وعشر لاحتمال موت الزوج بعد موت السيد، وعلى احتمال موت الزوج أولاً فعليها شهران وخمس ليال وهي مندرجة في الأربعة، فلذلك اكتفت بالأربعة أشهر وعشر ولم تحتج إلى حيضة الاستبراء، لأنها إنما احتاجت إليها في المسالة السابقة لكونها حلت للسيد، وها هنا لم تحل له، لأنه وإن مات زوجها أولاً فهي معتدة منه. وقوله: (وَحُكْمُ الْحَيْضَةِ ... إلخ) فيحتاج إليها على قول أشهب، ولا يحتاج إليها على قول عبد الملك، ويفرق على المشهور. ابن عبد السلام: واختلف حذاق الشيوخ هل طلب الحيضة في عدة الوفاة في حق من كانت عادتها أن تحيض في أقل من زمان العدة عام في كل معتدة أو لا يحتاج إليها هنا لرفع الريبة في تلك العدة فصارت من باب اعتبار الشك المركب، وقد تقدم إطراحه في الفقهيات لأنه من الوساوس؟ قوله: (ولابُدَّ مِمَّا تَحِلُّ بهِ الأَمَةُ الْمُعتَدَّةُ للوفاة). ابن راشد: هذا الموضع مشكل لأن فرض المسألة أن الأول مجهول، فإن فرضنا أن الأول هو الزوج فهذه تعتد عدة الأمة، وتقدم الخلاف هل لابد من حيضة أو تحل بثلاثة أشهر أو تحل بانقضاء العدة؟

وإن كان السيد هو الأول فعدتها أربعة أشهر وعشر، ويختلف هل تحل أم لا تحل حتى تحيض- كما سبق- فأي فائدة في ذكره فتأمله؟ خليل: ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أنها تتربص تسعة أشهر على قول وذلك لأنه قدم أن الأمة، قد لا تحل بمجرد مضي عدتها بل لابد مما تحل به الأمة. وقد تقدم أن في ذلك قولين: أحدهما أنها تتربص تسعة أشهر. والثاني أنها تتربص ثلاثة. فعلى الأول أنها تتربص تسعة لابد لهذه المستولدة من تسعة إذا ضعف أمرها أن تكون كالأمة، والله أعلم. فرع: ولا ترث أم الولد من زوجها شيئاً في الصورتين لاحتمال موت الزوج قبل موت السيد. قاله في المدونة وغيرها.

الإِحْدَادُ: وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ لِلْوَفَاةِ خَاصَّةً وِإنْ كَانَتْ صَغِيرَةً دُونَ الطلَّاقِ أبو زيد وأبو عبيد: يقال حدث المرأة فهي حاد، وأحدث فهي محد، ولم يعرف الأصمعي (حدت) وأصله من حاددت الرجل من كذا إذا منعته، ومنه الحدود الشرعية من الجلد والرجم والقطع لأنه تمنع أن يؤتى مثل ذلك الفعل، ومنه أيضاً الحدود للماهيات لأنها تمنع من أن يدخل في تلك الماهية غيرها، ولذلك قيل للبواب حداد لأنه يمنع غيره، والدليل على وجوبه في عدة الوفاة ما في الصحيحين وغيرهم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قُسطٍ وأظفار)). قيل: والعصب ثيا من اليمن فيها بياض وسواد، والنبذة- بضم النون- القطعة والشيء اليسير، والقسط- بضم القاف- والأظفار نوعان من البخور، ورخص فيه في الطهر من الحيض لتطييب المحل وإزالة كراهته. ولهذا الحديث ونحوه قصد مالك الإحداد على عدة الوفاة، وحكمة مشروعيته الإبعاد مما تراه المرأة له صوناً للأنساب. مطرف وابن الماجشون: وإن ارتابت فعليها الإحداد حتى تنقضي الريبة وإن بلغت إلى خمس سنين. قال: وكذلك سمعنا مالك يقول. قوله: (وِإنْ كَانَتْ صَغِيرَةً) يريد وإن كانت في المهند ويجنبها أهلها، لأنها لما وجبت عدة الوفاة على الصغيرة والكبيرة وجب عليها الإحداد، ودخل في قوله: (كُلِّ زَوْجَةٍ لِلْوَفَاةِ) الأمة والحرة، وهو صحيح. وَفِي زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ والْكِتَابِيَّةِ قَوْلانِ المشهور مذهب المدونة وجوب الإحداد عليهما، ولم يوجبه عبد الملك وسحنون على امرأة المفقود، لأن الرجل لم تتحقق وفاته بدليل أنا لا نقسم ميراثه، واختار اللخمي أن

يكون عليها أقصى الأجلين. والقول بعدم وجوب الإحداد على الكتابية رواه ابن نافع عن مالك، وبه قال هو وأشهب، إما [409/أ] لأنها لم تدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لامرأة بالله واليوم الآخر)). وإما بناء على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة كما أشار بعضهم، وقد يقال: إن المشهور وقول ابن نافع مبنيان على الخلاف في عدتها، هل تعتد بأربعة أشهر وعشر أو بثلاث حيض. فالمشهور مبني على الأول، وقول ابن نافع مبني على الثاني. وَهو تَرْكُ الزِّينَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلا تَتَحَلَّى وَلَوْ بِخَاتَمٍ، ولا تَتَطَيَّبُ، وَلا تَدَّهِنُ بِالأَدْهَانِ الْمَطِّيَبةِ بِخِلافِ الشَّيْرَقِ والزَّيْتِ .... لما ذكر أن الإحداد واجب أتبعه على حقيقته، ولما كان ترك التحلي والتطيب من نتيجة قوله (تَرْكُ الزِّينَةِ) أدخل الفاء في قوله: (فَلا تَتَحَلَّى وَلَوْ بِخَاتَمٍ، ولا تَتَطَيَّبُ). عيسي: وسواء كن ذلك الخاتم فضة أو ذهبا. مالك في رواية محمد: ولا تلبس حالياً ولو كان حديداً. ولم ينص أصحابنا على الجوهر والياقوت. الباجي: وهو داخل تحت قوله في الموطأ: ولا تلبس خاتماً ولا خلخالاً ولا غير ذلك من الحلي. محمد عن مالك: ولا تحضر عمل الطيب ولا تتجز فيه، وإن لم يكن لها كسب غيره حتى تحل. ولو مات زوجها بعد أن مشطت رأسها فقال مالك: لا تنقض مشطها، أرأيت لو اختضبت. قال في البيان: إن كانت امتشطت بغير طيب، وأما إن كانت امتشطت بطيب أو تطيب في سائر جسدها فيجب عليها غسله كنزع الثوب المصبوغ إذا توفي زوجها ولا لابسة له، وكما يجب على الرجل إذا أحرم وهو متطيب أن يغسل الطيب عنه. وقال بعض القرويين: إذا لزمت المرأة العدة وعليها طيب ليس عليها غسله بخلاف الذي يحرم. عبد الحق: لأن المحرم أدخل الإحرام على نفسه ولو شاء نزع الطيب قبل أن يحرم أو

أخر الإحرام حتى يذهب، فلم يعذر لاختياره بخلاف العدة فإنه لا خيار للمرأة فيها. والشيرق بكسر الشين المعجمة وآخره قاف، ويقال بالجيم ويقال أيضاً بالحاء المهملة المفتوحة. النووي: وهو بفتح الراء وليس بعربي، وهو دهن السمسم. وَلاَ تَمْتَشِطُ بِحِنَّاءٍ ولا كَتَمٍ وَلاَ بِماَ يَخْتَمِرُ فِي رَاسِهَا قال في المدونة بإثر هذا: وتمتشط بالسدر وبما لا يختمر في رأسها. عياض: والحناء ممدود، والكتم بفتح التاء الوسمة التي يصبغ بها الشعر. وقال أبو عبيد: بتشديد التاء. وهو يذهب حمرة بيان الضعر ولا يسوده كما زعمه بعضهم مما أخطأ في ذلك. وَلا تَدخُلُ الْحَمَّامَ، ولا تُطْلِي جَسَدَهَا هكذا قال أشهب أنها لا تدخل الحمام ولا تطلي جسدها بالنورة، ولا بأس أن تستحد. هكذا نقل اللخمي وابن يونس عن أشهب. ونقل ابن عبد السلام عن أشهب أنها لا تدخل الحمام إلا من ضرورة. ونقل عن غيره أنها لا تدخله، قال: وظاهره ولو مع الضرورة. وأجاز لها ابن لبابة دخول الحمام، وأجاز في السليمانية الإطلاء بالنورة. مالك في العتبية: ولا باس أن تخرج إلى العرس ولا تتهيأ بما لا تلبسه الحاد ولا تبيت إلا في بيتها، ولا بأس أن تنظر في المرآة وتحتجم وتقلم أظفارها وتنتف إبطيها. وَلا تَكْتَحِلُ إِلا لِضَرُورَةٍ وَتَمْسَحُهُ نَهَاراً، وقِيلَ: وَلا لِضَرُورَةٍ قال في المدونة: ولا تكتحل إلا من ضرورة، ولا بأس وإن كان فيه طيب ودين الله يسر. زاد مالك في الموازية أنها تكتحل ليلاً وتمسحه نهاراً كما قال المصنف. ولمالك في المختصر أنها لا تكتحل بإثمد فيه طيب وإن اشتكت عينها. الباجي: ويحتمل ما في المختصر أنها لم تضطر إلى الطيب. الباجي: وجدت لمالك ولم أتحققه أنها لا تكتحل بالإثمد ولا بشيء فيه سواد ولا صفرة ولا بما فيه طيب وإن اشتكت

عينها. ومعنى ذلك ألا تدعو إلى ذلك ضرورة، وهذا على تأويل الباجي يرجع إلى الأول. ونقل ابن عبد الحكم عدم الجواز ولو حصلت الضرورة، ودليله ((أن امرأة توفي زوجها فأتت أمُّهَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن بنتي اشتكت عينها أفأكحلها؟ قال: لا قالت: إني أخشى أن تنفقئ عينها. قال: وإن انفقأت)). عبد الحق: وإسناده صحيح. وفي الموطأ أنه عليه الصلاة والسلام قال لامرأة معتدة اشتكت عينها: ((اكتحلي بكحل الجلاء بالليل وامسحيه نهاراً)). ولعل تعارض الحديثين هو سبب الاختلاف هنا. وَتَلْزمُ الْمَسكَنَ أي: وتلزم المتوفى عنها المسكن الذي توفي عنها زوجها فيه. ونبه بهذا على قول ابن عباس وجابر أنها تعتد حيث شاءت. ودليلنا ما رواه مالك وأبو داود والترمذي وصححه أن الفريعة بنت أخت أبي سعيد الخدري جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبُدٍ له أبقوا له حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)). فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت، فقال: ((كيف قلت))؟ [409/ب] فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)) واللفظ لأبي داود. وَلَا تَلْبَسُ مَصْبُوغاً إِلا الأَسْوَدَ وَالأَدْكَنَ وَالأَكْحَلَ إِلا أَنْ لاَ تَجِدَ غَيْرَهُ هكذا وقع كما ترى أن الأدكن داخل في المستثنى، ونحوه في الجلاب، فإنه قال: ولا بأس بلباس البياض والسواد والدكن والكحليات. ومذهب المدونة خلافه، ففيها: ولا

تلبس خزاً ولا ما صبغ من ثياب أو جباب حرير أو كتان أو قطن أو صوف وإنه كان أخضر أو أدكن إلا أن لا تجد غيره، وتكون بموضع لا تجد استبدالاً، فإن وجدت بدلاً ببيع فليس ذلك لها. اللخمي: وكذلك إذا قدرت على تغيير صبغة بسواد. ولا فرق في المصبوغ الممنوع بين الصوف والحرير وغيرهما. ابن رشد: ولو رجع في أمر اللباس إلى الأحوال لكان حسناً، فرب امرأة يكون شأنها لباس الخز والحرير فإذا لبست ثوب كتان أي لون كان فلا يكون زينة لها. خليل: وعلى هذا فتمتنع الناصعة البياض من السواد فإنه يزينها. وكذلك قال اللخمي: أرى أن تمنع من الثياب الحسنة وإن كانت بيضاء لأنها تزيد في الوضاءة، وتنظر حينئذ لنفسها ويتشوف لها، وكذلك الرفيع من السواد، ولا أرى من تمنع الأخضر والأزرق والزيتي. وَتَلْبَسُ الأَبْيَضَ- ولَوْ إِبْرِيسَماً- وغَلِيظَ عُصُبِ الْيَمَنِ، وَأَبْيَضَ الْخَزِّ وأِسْوَدَهُ ما ذكره هو المشهور. قال في المدونة: وتلبس رقيق البياض كله وغليظه. ومال غير واحد إلى المنع من رقيق البياض. وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِدَّةِ يعني: وليس الإحداد شرطاً في العدة، بل لو تركته أثمت وحلت بانقضاء العدة. وَعَلَى مَنِ اشْتَرَى أَمَةً مُعْتَدَّةً إِبْقَاؤُهَا فِي مَوْضِعِ اعْتِدَادِهَا، ويَجُوزُ إِخْرَاجُهَا نَهَاراً لِلْبَيْعِ، وَلاَ تَتَزَيَّنُ بِمَا لا تَلْبَسُهُ الْحَادُّ .... لأن بقاء المعتدة في موضع اعتدادها مأمور به، فإذا احتاج سيدها للبيع جاز له إخراجها نهاراً كما جاز للحرة أن تخرج لحوائجها طرفي النهار، ولا يتركها تتزين بما لا تتزين به الحاد، وإنما لم يكن للمشتري إخراجها لأنه حل محل البائع.

وَلِلْمُعْتَدَّةِ الْمَدْخُولِ بها مُطْلَقاً مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاقٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ لِعَانٍ السُّكْنَى يعني: أن للمدخول بها السكنى في العدة مطلقاً سواء كانت من وفاة أو طلاق أو خلع، وعطفه الخلع على الطلاق من باب عطف الخاص على العام، ولأنه قد يتوهم إسقاط السكنى لها لما بذلته، ولينبه على أنه لا فرق في الطلاق بين البائن وغيره. والمشهور في المتوفى عنها ما ذكره المصنف، وروى ابن خويز منداد عن مالك سقوط السكنى لها، وقاله ابن القصار، لأن ملك الزوج للدار قد زال بموته، وأسقط أحمد بن حنبل السكنى للبائن. ودليلنا قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] ولم يذكر في ذلك شرطاً. ثم قال في النفقة: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فشرط وجود الحمل. وقوله: (أَوْ فَسْخٍ) أي في النكاح الفاسد، لأنها محبوسة من أجله، ولأن الولد يلحق به كالصحيح. قوله: (أَوْ لِعَانٍ) هو المشهور. وقال القاضي إسماعيل: لا سكنى لها. وهو اختيار ابن رشد لانقطاع الزوجية وأسبابها، ولو أتت بولد لم يلحق به. وَإِنْ نَقَلَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاتَّهَمْ رَجَعَتْ لِلَأوَّلِ يعني: إذا نقل الرجل زوجته من موضع سكناه المعروف إلى غيره، واتهم على إسقاط حق الله تعالى في السكنى، كما لو طلقها بالقرب فإنها ترجع إلى المنزل الأول، ولم يكتفوا منه هنا باليمين. فرع: فإن كانت إقامتها في غير منزلها لحق آدمي مثل أن تكون ظئراً استؤجرت بشرط أن تكون في دار أبوي الصبي، فمات الزوج عنها أو طلقها.

التونسي: فاعرف في هذا أنه تفسخ الإجارة وترجع إلى بيتها بخلاف حق الله تعالى من العكوف والإحرام. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ ِبَها يَمُوتُ زَوْجُهَا فَلا سُكْنَى لَهَا إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْكَنَهَا فَتَكُونُ كَالْمَدْخُولِ بِهَا .... لأنها إنما تعتد في موضع سكناها إلا أن يكون قد أسكنها فلها السكنى، وسواء كانت كبيرة أو صغيرة لا يجامع مثلها. قاله في المدونة، وقيده أبو بكر بن عبد الرحمن بما إذا كان قد ضم الصغيرة إليه لا ليكفلها، وأما إن أخذها ليكفلها ثم مات فليس لها. ابن يونس: وأظن أن ابن المواز ذكره، وهو بين فاعلمه. ابن حارث: واختلفوا في الصغيرة التي لا يدخل بمثلها إذا أسكنها زوجها في حياته ثم مات، فقال ابن القاسم: هي أحق بالسكنى حتى تنقضي العدة. قال سحنون: وكيف تكون أولى بالسكنى وإنما هو متطوع لها بها في حياته. محمد: ولو اكترى لها منزلاً فجعلها فيه ونقد الكراء، أو كان لنفسه فهي أحق به وإن لم يبن. اللخمي: وليس هو أصل المذهب إلا أن يكون موته بعد أن صارت إلى ذلك المسكن. وَلا سُكْنَى لِلأَمَةِ مَا لَمْ تَتَبَوَّا بَيْتاً يعني: إذا لم تتبوأ بيتاً اعتدت في بيت سيدها، وإن تبوأت فكالحرة. وبالجملة فأحكمها بعد [410/أ] الموت أو الطلاق باعتبار السكنى كحالها في حال الزوجية. بعض الأندلسيين: وهو يدل على أن سكنى المعتدة تبع لسكنى العصمة، فيؤخذ منه أن الحرة إذا طاعت لزوجها بالسكنى في دارها دون كراء ثم طلقها فطلبت منه كراء أمد العدة أنه لا يلزمه السكنى، وبهذا أفتى أبو عمر ابن المكوي وابن العطار والأصيلي، وذهب ابن زرب وابن عتاب إلى أن عليه الكراء، وإليه ذهب اللخمي، وأفتى به المازري لأن المكارمة قد زالت بالطلاق.

وَلَوْ خَرَجَ بِهَا إِلَى الحْجَ ِّفَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا بَائِناً أَوْ رَجْعِياً رَجَعَتْ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَبْعُدْ أَوْ تُحْرِمْ .... يعني: ولو سافر الزوج بزوجته فأما إلى الحج أو غيره، فإن سافر بها إلى حجة الفريضة فما قاله المصنف قاله أبو بكر بن عبد الرحمن، وأما غيره: فترجع إن بعدت كالسفر إلى الرباط ونحوه، وسوى غيره بين الفرض والنفل بخلاف العزو والرباط. عياض: وفرق بين ذلك بفروق ضعيفة، والأول أصوب. وأشار التونسي إلى أنه ينبغي على الثاني أن يلحق بذلك الغزو ونحوه، وما ذكره من أنها ترجع إذا طلقها أو مات عنها في الثلاثة الأيام نحوه في المدونة، ونص على أن ما قرب من الثلاثة بمنزلتها وأنها ترجع إن وجدت ثقة. قال: وترجع من ملل وذوي الحليفة من المدينة، وردهن عمر رضي الله عنه من البيداء، ولا يفسخ كراء كريها، ولتكر الإبل فيمثل ما اكترت ولو بعدت كإفريقية من الأندلس أو المدينة من مصر تمادت، وأما إذا أحرمت فلتنفد قربت أو بعدت. وملل موضع بينه وبين المدينة ثمانية عشر ميلاً. قوله: (إن وجدت ثقة) يريد محرماً أو ناساً لا بأس بهم. قاله اللخمي وابن عبد السلام وغيرهما. وفهم اللخمي من قول مالك أنها ترجع في اليومين والثلاثة أن الحج عنده على التراخي، قال: وعلى قوله أنه على الفور يكون عليها أن تنفد لما خرجت إليه وإن لم تكن بعدت عن بلدها، وكذلك لو لم تكن خرجت لكان عليها أن تخرج. ابن عبد السلام: وفي قوله: (لكان عليها أن تخرج) نظر، فإنه حينئذ يكون كواجبين تعارضا، لأن مكثها في بيتها فرض، والحج كذلك، فيسلك مسلك الترجيح. فرعان: الأول: قال أبو عمران: وإذا طلقها ورجعت فعليه الكراء في رجوعها لأنها إنما رجعت من أجله وحبست له، فذلك بمنزلة ما يجب لها من السكنى عليه.

الثاني: قال أبو الحسن: قوله: وأما إذا أحرمت فلتنفد، ظاهره أنها أحرمت قبل موت الزوج، ولا إشكال في هذا وهي غير عاصية، ولو أحرمت بعد موت الزوج نفدت وهي عاصية، بخلاف المعتكفة فإنها لا تنفد إذا أحرمت بالحج وتبقى على اعتكافها حتى تتمه، إذ لو قيل أنها تخرج إلى الحج الذي أحرمت به لبطل اعتكافها، لأنه لا يكون إلا في المسجد، بخلاف الإحرام فإنه لا يخل بجملة العدة وإنما يخل بالمبيت. وَتَرْجِعُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ إِنْ كَانَ خَرَجَ لإِقَامَةِ الأَشْهُرِ لا لِلْمُقَامِ إِذَا وَجَدَتْ ثِقَةً، وَإِنَّمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِذَا بَقِي لَهَا شَيْءٌ مِنْ عِدَّتِهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى بَيْتِهَا بِالتَّقْدِيرِ، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ لِلانْتِقَالِ اعْتَدَّتْ فِي أَقْرَبِهمَا أَوْ أَبَعْدِهِمَا أَوْ فِي مَكَانِ الْمَوْتِ إِنْ شَاءَ وأَمْكَنَ .... يعني: وإن سافر بها في غير الحج فإن ذلك على وجهين: أحدهما: أن يخرج لا للسكنى بل ليقيم شهراً أو شهوراً كما لو خرج لرباط أو زيارة أو تجارة. والثاني: أن يخرج للإقامة رافضاً لسكناه بمحله. وذكر المصنف أنها في الوجه الأول ترجع وأطلق، ونص في المدونة على أنها ترجع ولو وصلت إلى المكان الذي خرجت إليه. واختلف إذا قامت بالمكان الذي خرجت إليه الأشهر أو السنة، فذكر التونسي وغيره قولين: أحدهما: أنها ترجع، وهو ظاهر المدونة. والثاني: أنها لا ترجع، وهو قول مالك في الموازية. ابن عبد الحكم: والأول أحسن. وقال اللخمي: الثاني أحسن. وقوله: (وَإِنَّمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ .... إلخ) يعني: وحيث أمرناها، إنما ذلك حيث يكون لرجوعها فائدة بأن تعتد في منزلها، وأما إن كانت لو رجعت لا تدرك منزلها إلا بعد فراغ العدة فلا ترجع لعدم الفائدة حينئذ في الرجوع. وظاهر كلامه إذا بقي من العدة شيء أنها ترجع ولو أدركت يوماً واحداً، وهو ظاهر المدونة، لكن قيد ذلك اللخمي بأن تدرك ما له قدر، وقال: وإن لم يبق من العدة إلا ما لا قدر له لم ترجع، وتعتد في موضعها إن كانت

في مستعتب أو تنتقل إلى أقرب المواضع إليها وإن كانت في غير مستعتب، ولا مستعتب دون الموضع الذي خرجت إليه فيكون لها أن تبلغه، وإن كان انقضاء العدة قبله، ولا إشكال في التقدير في ذات الأشهر، وأما ذات الحيض فالتقدير في حقها بما عرفته من عادتها. ثم أخذ المصنف يتكلم على القسم الآخر وهو ما إذا كان خروجه للانتقال، فقال: وإن كان السفر للانتقال ... إلخ. والضمير في أقربهما أو أبعدهما عائد على المكان الذي خرجت منه والذي خرجت إليه. وحاصل كلامه أنها تخير في أحد ثلاثة أمور: أن ترجع [410/ب] إلى المكان الأول، أو تذهب إلى المكان الذي خرجت إليه، أو تقييم بالمكان الذي مات فيه زوجها. قوله: (وأَمْكَنَ) الظاهر عوده على الثلاثة، ويحتمل من جهة اللفظ أن يعود إلى قوله: (أَوْ فِي مَكَانِ الْمَوْتِ) وما ذكره من التخيير في الثلاثة نحوه في المدونة، وعلل ذلك فيها بأنه مات ولا قرار لها لرفض قراره ولم تصل بعد إلى قراره، ونص فيها على أن المطلقة طلاقاً بائناً أو رجعياً كذلك. اللخمي: ولها أن تعتد في موضع الموت وإن مات في مستعتب، أو تنتقل إلى غيره إذا كان مأموناً، ولا تبعد لأنها وإن كانت لا تتعين عليها العدة في مسكن فلا يسقط خطابها بما تخاطب به المعتدة من الحفظ، وأن لا تبيت عن المسكن الذي تبيت فيه، وإذا كان كذلك لم يكن لها أن تجعل عدتها في أسفار ومناهل وقفار، وإن مات الزوج بعد وصوله إلى البلد الذي أراد سكناه ثم مات قبل أن يتخذ لها مسكناً كالزوجة التي لا مسكن لها، وكانت بالخيار بين أن تعتد في الذي مات فيه أو بغير ذلك من تلك المدينة أو غيرها إذا كانت قريباً، ولو اكترى منزلاً فلم ينتقل إليه حتى مات كانت بالخيار أيضاً حسبما تقدم لو لم يكثر، فإن انتقل إليه تعين عليها فيه العدة. انتهى.

وقول اللخمي: (لم يكن لها أن تجعل عدتها في قفار .... إلخ) ظاهر، ويلزم عليه أن لا تكون مخيرة في أن تذهب إلى أبعد المكان بل يلزمها أن تذهب إلى الأقرب. وفي قوله أن لها إذا وصل بها إلى البلد الذي أراد سكناه ولم يتخذ لها به مسكناً أن تخرج من تلك المدينة نظر، وقاله ابن عبد السلام. وَتَنْتَقِلُ الأَمَةُ مَعَ ساَدَاتِهَا نحوه في المدونة. وسواء كانت معتدة من طلاق أو وفاة. حمديس: وهو خلاف ما وقع في المدونة أنه لا يجوز بيعها إلا ممن لا يخرجها في العدة، وإذا لم يجز لمشتريها ذلك فبائعها أولى. ونص ابن القاسم في الموازية على أنها إن تبوأت مع زوجاً بيتاً فليس لسادتها الانتقال بها. وجمع غير واحد بين مسألتي المدونة على ما في الموازية، فالتي لا تباع إلا ممن لا ينقلها هي التي تبوأت، والتي تنتقل مع سادتها هي التي لم تتبوأ، وإليه أشار أبو عمران بقوله: إن ما في الموازنة لا خلاف فيه. وأجاب ابن يونس عن معارضة حمديس، وقال: لا يلزم هذا ابن القاسم، لأن بائعها لا يخرجها إلا أن يضطر إلى الخروج، وليس هو بمضطر في بيعها أن يبيعها ممن يخرجها وهو يجد من لا يخرجها لأن المشترين كثير، ولو اضطر بعد شرائه إلى الخروج لأمر حدث لجاز له أن يخرجها كسيدها. وَلِلْبَدَوِيَّةِ الرَّحِيلُ مَعَ أَهْلِهَا لا مَعَ أَهْلِ زَوْجِهَا نحوه في المدونة، واحترز من الحضرية فإنها لا تنتوي ولو انتوى أهلها. قال في المدونة: ولا تنتوىي. ونص يحيي بن عمر على أن نساء أهل الخصوص يعتددن في البيوت التي كن فيها قبل الطلاق والوفاة. وعلى هذا فالمراد هنا بالبدوية ساكنة العمود، فسره الباجي.

ابن عبد السلام: وقال اللخمي، وعياض، وابن راشد: المراد سكانة الخصوص والعمود. خليل: وكلام الباجي أصح لأن أهل الخصوص تلزمهم إقامة الجمعة على الأصح، فدل على أنهم في حكم الحاضرين. وما ذكره المصنف من أنها تنتقل مع أهلها لا مع أهل زوجها إنما ذلك إذا كان لها ولزوجها أهل، وأما إن لم يكن لها أهل فإنها تعتد حيث كانت مع أهل زوجها وترحل معهم. تنبيهان: الأول: قوله: (تنتوي) أي: ترحل وتبعد، من النوى وهو البعد، وهو يدل على ما أشار بعض الشيوخ إنما يكون لها أن تنتوي مع أهلها إذا كان رحيلهم لغير القرب لانقطاعهم عنها وانقطاعها عنهم، وأما إذا كان على قرب بحيث لا تنقطع عنهم وترجع إليهم عند تمام عدتها فتقيم مع أهل زوجها. الثاني: قوله: (لا مَعَ أَهْلِ زَوْجِهَا). ابن عبد السلام: إن كان المراد أن الحكم بذلك رخصة وأن الأصل كان أن تنتوي مع أهل زوجها لولا مع عارضه من مشقة الرجوع إلى أهلها عند انقضاء عدتها فظاهر، وإن كان المراد أن هذا هو الأصل عند مالك وأنها لو ارتكبت تلك المشقة وارتحلت مع أهل زوجها لما كان لها ذلك، فلا يتبين وجهه. وعلى الاحتمال الأول فهمها الشيوخ. وَلَهَا مُفَارَقَةُ الْمَسْكَنِ بِعُذْرٍ لاَ يُمْكِنُهَا الْمُقَامُ مَعَهُ لِخَوْفِ سُقُوطٍ أَوْ لًصًوصٍ، ثُمَّ تَلْزَم الثَّانِيَ والثَّالِثَ كَذَلِكَ .... يعني: أنه يجب على المعتدة الاعتداد في البيت الذي هي فيه في الطلاق والوفاة إلا أن لا يمكنها المقام لعذر فلها حينئذ مفارقته، وذلك إما لخوف سقوط الدار أو خوف لصوص.

اللخمي: أو خوف جار سوء على نفسها، أو وجدت وحشة لانتقال من حولها أو خشية الانتقال من جيرانها. قال في المدونة: وإن كانت في مدينة فلا تنتقل لضرر جواز ولترفع ذلك إلى السلطان. اللخمي: وإن حصل الشرك بينها وبين من تسكن معهم وكان الشر منها ارتحلت عنهم، وفي مثل هذا جاء الحديث في فاطمة بيت قيس، وإن كان الشر من غيرها أخرجوا عنها، [411/أ] وإن أشكل أقرع أيهم يخرج، ثم إن انتقلت إلى موضع لمانع صار الموضع الثاني في لزوم السكنى كالأول، ثم إن حصل مانع في هذا الثاني كالأول، وهذا معنى قوله: (ثم تلزم الثاني والثالث كذلك). ابن عبد السلام: كالحالف أن لا يرتحل من موضعه إلى انقضاء سنة مثلاً فعرض له مانع من سكناه. بل مسألة العدة جعلوها أصلاً لمسألة اليمين. وَإِذَا انْتَقَلَتْ لِغَيْرَ عُذْرٍ رُدَّتْ بِالْقَضَاءِ سواء أذن لها المطلق أم لا، لأن بقاءها في بيتها حق لله تعالى. وَلاَ كِرَاءَ لَهَا فِيمَا أَقَامَتْ فِي غَيْرِهِ نحوه في المدونة، ومعناه أن المعتدة إذا خرجت من موضع اعتدادها وسكنت غيره هروباً منه فردها القاضي إلى الأول، أو لم يردها وطلبت كراء البيت الذي هربت إليه، فلا كراء لها لأنها تركت ما كان واجباً لها فلا يلزم غيرها عن ذلك عوض. وأقاموا من هذه المسألة مسألتين: الأولى: إذا كان له ولد فهربت به إلى موضع لا يعلمه، ثم أتت بعد ذلك تطلب ما أنفقت عليه أنه لا شيء لها. الثانية: أقام منها ابن الشقاق أنه لا نفقة للناشزة مدة نشوزها ولا رجوع لها بذلك خلاف ما لمالك في الموازية. وفرق بينهما بوجهين: أولهما لابن رشد أن الكراء

تعين لها في ذلك المسكن لا في ذمة الزوج بمنزلة ما لو دفع النفقة فأتلفتها، ونحوه لأبي بكر بن عبد الرحمن. ثانيهما لأبي عمران أن البقاء في المنزل حق لله فشدد عليها فيه حتى لا تسقطه، بخلاف بقائها مع الزوج فإنه حق له. وظاهر المدونة وقول المصنف لا كراء لها فيما أقامت في غيره أنه لا فرق في ذلك بين أن يكري المنزل الذي هربت منه أو يتركه خالياً. وقال اللخمي: إن خرجت لغير عذر فطلبت كراء المنزل الذي انتقلت إليه لم يكن لها ذلك إن خرجت عن مسكن يملكه الزوج أو اكتراه وحبسه ولم يكره بعد خروجها، وإن أكراه رجعت بالأقل مما اكترت أو أكرى. وَتَخْرُجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَاراً وطَرَفَيِ اللَّيْلِ يعني: أن السكنى التي تلزم المعتدة هي أن تلزم مسكنها بالليل، وأما النهار فلا بأس أن تتصرف فيه وكذلك في طرفي الليل. قال في المدونة: ولها التصرف نهارها والخروج سحراً قرب الفجر وترجع فيما بينها وبين العشاء الآخر. وهذا هو مراد المصنف بطرفي الليل. ابن عبد السلام: قال بعضهم: ويدخله قول ابن القاسم أن لها الرجوع إلى ثلث الليل. ورواية مطرف وقول محمد إلا قدر هدوء الناس، قال: ويدخله قول إلى نصف الليل دليله ما في كتاب الحج لأنه قال: لا دم على من بات في ليالي منى بغير منى إلا ليلة كاملة أو جلها. واختار اللخمي أن تؤخر الخروج لطلوع الشمس وترجع لغروبها، قال: وهذا في بعض الأوقات أو عند الحاجة، وليس لها أن تجعل هذا عادة تكون سائر النهار في غير الموضع الذي تعتد فيه. مالك: ولا أحب أن تكون عند أمها النهار كله. فرع: وتسكن في البيت على حسب ما تسكن فيه مع زوجها وإن كان في الدار بيوتٌ كثيرةٌ وكانت تسكن بيتاً منها وفيه كان متاعها، فقال مالك: لا تبيت إلا فيه في بيتها أو أسطوانها أو حجرتها التي كانت تتصرف فيها أو تتقيظ.

ابن القاسم: ومعنى ذلك أن جميع المسكن الذي كانت فيه تبيت فيه حيث شاءت. ولم يرد أنها لا تبيت إلا في الذي كان فيه متاعها. وقال بعض القرويين: معنى ذلك أن تبيت في كل ما لو سرقت منه من دار زوجها لم تقطع. عياض: وفيه نظر. قال في المدونة: وإن كان في الدار مقاصير فلا تبيت إلا في مقصورتها. الباجي وغيره: يريد أن تلك المقاصير لغيرها. وذهب الأبهري وابن القصار إلى أنها لا تبيت إلا حيث كانت تبيت. عياض: وهو استحسان. ولعل كلامه في الكتاب على هذا، واخلف لفظه على المستحب. وَالْمُعْتَدَّةُ أَحَقُّ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاِء بِالْمَسْكَنِ الْمَمْلُوكِ لَهُ والْمَنْقُودِ كِرَاؤُهُ لما قدم أن للمعتدة السكنى في الطلاق والوفاة أخذ يذكر المحل التي تكون فيه أحق في الوفاة، ولا شك في عدة الطلاق أن عليه ألا يخرجها من المنزل، وأما في الوفاة ففي المدونة وغيرها كما قال المصنف أنها أحق من الورثة والغرماء بالمسكن المملوك لزوجها أو المنقود كراؤه. وإنما ألحق المنقود كراؤه بالمملوك، لأنه إذا نقد كراؤه صار يملك السكنى فيه. وقيد أبو عمران المنقود كراؤه بما إذا انتقلت إليه، وأما إذا لم تنتقل إليه فلا شيء لها. ابن زرقون: وروى ابن دينار عن ابن القاسم في المدونة: إن كان المنزل له فلها السكنى، وإن كان بكراء فلا سكنى لها. وحكى ابن خويز منداد عن مالك أنه لا سكنى لها وإن كان المنزل له، فإن نقد بعض الكراء كانت أحق بمقدار ما نقد، وحكمها في الباقي حكمها فيما لم ينقد. فَإِنْ كَانَ مُكْتَرىً غَيْرَ مَنْقُودٍ فَفِيهَا: لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ فًتًخْرُجَ إِلا أَنْ يَكْرِيَهَا الْوَرَثَةُ كِرَاءً مِثْلَهُ. ورُوِىَ أَنَّهَا أَحَقُّ بِالْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَاخْتَارَهُ عَبْدُ الْحَقَّ، وَحَمَلَ الْمُدَوَّنَةَ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ .... يريد: فظاهر المدونة أنها ليست أحق ولو كان فيها التصريح بما قاله [134/أ] المصنف لم يحسن خلاف الشيوخ في معناها، ولفظها: وإن كانت الدار بكراء ولم ينقد

الزوج الكراء وهو موسر فلا سكنى لها في ماله، وتؤدي الكراء من مالها، ولا تخرج إلا أن يخرجها رب الدار أو يطلب من الكراء ما لا يشبه فظاهر قوله (ولم ينقد الزوج الكراء وهو موسر فلا سكنى لها) أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الكراء مشاهرة أو وجيبة أي مدة معينة، وعلى هذا الظاهر حمله الباجي وغيره، واحتجوا بأن المسألة وقعت لمالك كذلك في الموازية. وذكر في النكت عن بعض القرويين أنه حمل المدونة على المشاهرة، وأما الوجيبة فإنها أحق بالسكنى سواء نقد أم لا، واحتج لذلك بقوله في المدونة: إلا أن يطلب منها صاحب المنزل ما لا يشبه، فإن ذلك يدل على أنه لم يكن الكراء لسنة بعينها لأنه لو أكرى لسنة بعينها لكان الكراء قد لزم بما تعاقداه، وليس لرب المسكن أن يطلب غيره. واحتج لذلك أيضاً في تهذيب الطالب، فإن ابا قرة روى ذلك عن مالك، أي أنها تكون أحق في الوجيبة مطلقاً. وحمل الأولان قول مالك إلا أن يطلب صاحب المسكن ما لا يشبه على أن مدة الكراء قد انقضت. تنبيه: قول المصنف إلا أن يكريها الورثة ليس في المدونة، وانتهى ما حكاه المصنف عنها عند قوله: (لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ). وقوله: (فًتًخْرُجَ .... إلخ) هو مفرع عليها. الباجي: وإن رضى الورثة في مدة الكراء أو أهل الدار بعد انقضاء مدة الكراء أن يأخذوا منها الكراء ويقروها على السكنى لم يكن لها الخروج. قال في المدونة: إلا أن يطلب منها ما لا يشبه من الكراء فلها الخروج ولرب الدار إخراجها. وقيده عياض بما إذا كان إخراجهم لحاجة لهم بالدار من سكنى أو بناء وشبهه، قال: هكذا فسره ابن كنانة في المدونة والمبسوط، قال: وليس لرب الدار إخراجها إلا لعذر مجحف مخافة على داره إن تركت فيها، وليس لهم أن يتزايدوا عليها في الكراء، والسكنى لها بالكراء الذي كان يتكاراه زوجها، ومعنى ذلك عندي أن يكون ذلك من قبل أنفسهم، وأما لو جاء من

يكتريها بأكثر فلهم إخراجها إلا أن تلزم الزيادة هي أو الزوج، ولا خلاف أن أهل الدار متى تركوها بكراء مثلها أنه لازم للزوج في الطلاق ولها في الوفاة. وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ بَيْعُ الدَّارِ إِلا فِي ذَاتِ الأَشْهُرِ، وفِي الْمُتَوَقَّعِ حَيْضُهَا إِذَا اشْتَرَطَهُ قَوْلانِ نحوه في الجواهر، وعلل ذلك بأن تأخير القرء والحمل غير معلوم بخلاف الأشهر، وكذلك قرره ابن راشد. والمراد بذات الأشهر الصغيرة واليائسة، وأما المتوفى عنها فستأتي. وإنما جاز هنا لأنه بمنزلة من باع داره واستثنى منفعتها ثلاثة أشهر. والقولان في المتوقع حيضها مبنيان على اعتبار الحال أو الطوارئ، فمن نظر إلى الحال أجاز ومن راعى الطوارئ منع. وقوله: (وفِي الْمُتَوَقَّعِ حَيْضُهَا) أي: كبنت ثلاثة عشر وخمسين. وَالْحُكْمُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْجوَازٌ، وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: فَاسِدٌ لِجَوَازِ الرِّيبَةِ هكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها: (وقال محمد: فاسد لجواز الريبة) فيكون المراد محمد بن عبد الحكم، لأن هذا القول إنما هو معلوم له لا لمحمد بن المواز. وقوله: (وَالْحُكْمُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْجوَازٌ) أي: لأن عدتها بالأشهر. وفسر على قول محمد بن عبد الحكم للتعليل الذي ذكره المصنف وهو أنها قد ترتاب فتطول عدتها، وهذه المسألة ذكرها في المدونة في كتاب العدة وكتاب بيع الغرر، وفرضها في بيع الغرماء دار الميت لدين عليه، وفرضها الباجي في بيع دار الورثة. ابن عبد السلام: وهو ظاهر كلام المصنف. واعترض بعضهم كلام الباجي لما يوهمه من إجازة بيعهم إياها اختياراً، فقال: إنما أجاز ابن القاسم هذا البيع إذا بيعت للغرماء، وأما إذا أراد الورثة البيع في غير دين فلم ينص عليه ابن القاسم. قال: وعندي أنه غير جائز.

خليل: وفي كلام ابن عبد السلام نظر، وذلك أنه إنما قال هذا الكلام لما تكلم على قول المصنف وليس للزواج بيع الدار، فيوهم أن كلامه في المدونة وقول ابن عبد الحكم في المعتدة بالأشهر، وكلامه في المدونة. وقول ابن عبد الحكم وكلام الباجي إنما هو في المتوفى عنها. ثُمَّ إِذَا بِيعَتْ وارْتَابَتْ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَحَقُّ بِالْمُقَامِ وأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ .... يعني: وإذا فرعنا على المشهور من جواز البيع في المتوفى عنها فارتابت، فقال مالك في الموازية: هي أحق بالمقام، أي: إلى منتهى العدة، لأن ذلك القدر ملك لها لا يجوز لها ولا لأحد إسقاطه، وللمشتري الخيار للضرر الداخل عليه لو ألزم بالبيع. وقال ابن القاسم في العتبية: لا خيار للمشتري. وقال سحنون: لأنه كالذي دخل عليه. ولهذا لم يجز مالك بالخيار فيما حكاه المصنف عنه بل قال: وأحب. وذكره الباجي على أنه من لفظه في المدونة، وعن سحنون أيضاً أن الخيار للمشتري. وَالبَيْعُ بِشَرْطِ زَوَالِ الرِّيبَةِ فَاسِدٌ خِلافاً لِسَحْنُونٍ يعني: والبيع بشرط المشتري على البائع أن لا [412/أ] تكون له ريبة أو تكون وتزول في زمن العدة، وإن استمرت فلا بيع بيننا- فاسدٌ، وهكذا في الواضحة، وهو اختيار ابن المواز، ولعل سحنوناً قاس ذلك على اشتراط ري الأرض فإنه جائز إذا لم ينقد الثمن، والفرق أن الضرورة ملجئة في بيع الأرض كذلك بخلاف الدار. وزاد الباجي وغيره في قول سحنون: ولا حجة للمشتري ولو تمادت الريبة إلى خمس سنين. وروى نحوه أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية. الباجي: وهو عندى على قول من يرى للمبتاع الخيار في الفرع الذي قبل هذا، وأما على قول من يلزمه ذلك فلا تأثير للشرط. واعترض التونسي قول ابن المواز هنا أن البيع

فاسد ورآه مخالفاً لقوله بالخيار إذا بيعت الدار واستثنى مقدار العدة ثم حصلت الريبة. قال: لأنه إذا ملك الخيار في الأخذ أو الترك كان أخذه على أن يسكن بالمرأة إلى انقضاء ريبتها كابتداء الشرط على ذلك إلا أن يكون هذا القول على أحد التأويلين فيمن خير بين شيئين فاختار أحدهما، كمن أمر أن يبيع سلعة بعشرة نقداً فباعها بعشرين إلى أجل فأجاز ذلك رب السلعة بعد فواتها. ابن عبد السلام: ولا كبير اعتراض فيه إذا تأملته. وقال صاحب البيان: ل لا أدري ما معنى قول التونسي أ، ذلك يتخرج على أحد التأويلين، إذ لا اختلاف فيها أحفظه، كما أنه لا اختلاف في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل سلعته بعشرة نقدا أو بخمسة عشر إلى أجل على أن البيع لازم له بأحد الثمنين، وإنما يتخرج جواز ذلك على القول بأن من اشترى سلعاً فاستحق منها جلها على العدد فله أن يتماسك بما بقي بما ينوبه من الثمن، وإن كان مجهولاً لا يعرف إلا بعد التقويم. ويحتمل أن يكون معنى قول محمد يخير بين أن يرد البيع أو يتماسك به على أنه بالخيار في الرد ما لم تنقض الريبة لا على أنه يتماسك به على أن البيع لازم له طالت الريبة أم قصرت. هذا أولى ما حمل عليه قول محمد. انتهى. ابن عبد السلام: وخرج بعضهم من إجازة بيع هذه الدار لغرماء الميت أن من ترك حاملاً وعليه دين أن عقاره يباع في دينه. وخالف فيه ابن أيمن وقال: لا يباع حتى تضع الحمل. واختلف إذا أوصى بوصية وثم حمل هل يعطى الموصى له الوصية أو حتى تضع؟ واختلف أيضاً في المرأة إذا كانت حاملاً وطلبت ثمنها عاجلاً. عياض: ولو اشترط أقصى ما تمسك النساء للريبة لم يجز النقد. ثم إن ذهبت الريبة بعد هذا الشرط قبل الأجل كانت الدار بقية الأجل للورثة، ولو كان العقد على أن تزول الريبة قربت أو بعدت لم يجز على كل قول للغرر وجهالة وقت قبض الدار.

وَيُبْدِلُهَا الزَّوْجُ فِي الْمُنْهَدِمِ وِالْمُعَارِ وَالْمُسْتَاجَرِ إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ يعني: أن المعتدة في الطلاق لا في الوفاة إذا اعتدت في ملك في منزل سواء كان له أو لغيره فانهدم، أو اعتدت في منزل معار له أو مستأجر فانتهت مدة الإعارة أو الإجارة فإن الزوج يبدلها غيره. اللخمي: ولا خلاف أن العدة لا توجب على المكري والمعير إذا ضربا الأجل مدة سوى العدة التي ملكها الزوج، وكذلك إذا لم يضربا أجلاً ولا يلزم المكري والمعير ما لم يعقده على نفسه. وقال ابن القاسم في المستخرجة في رجل أسكن أخاه منزلاً وطلق المسكن زوجته، وقال لها صاحب المسكن: اخرجي، إنما أسكنت أخي. فقال: لا تخرج حتى تنقضي العدة. يريد أن الأخوين يتهمان أن يكونا قصدا إخراج الزوجة خاصة ليس أن ينتزع العارية من أخيه. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَكَانَيْنِ وَلاَ ضَرَرَ أُجِيبَت الْمَرْأَةُ نحوه في المدونة، قال: إلا أن تدعوه إلى ما يضر به لكثرة كراء أو سكنى فتمنع، ولو أسقطت الكراء سكنت حيث شاءت. ومعنى ضرر السكنى أن تكون في جوار قوم غير مأمونين أو تسكن بالبعد منه ونحو ذلك، قاله ابن يونس. اللخمي: والقول قولها إذا دعت على موضع مأمون وكان كراؤه أزيد وتحملت الزيادة. وقوله: (فإن أسقطت الكراء سكنت حيث شاءت) ابن يونس: يريد بحيث يعلم أنها معتدة ويبلغه خبرها. وَامْرَأَةُ الأَمِيرِ الْمُعْتَدَّةُ لا يُخْرِجُهَا الْقَادِمُ فِيهَا يعني: إذا طلق الأمير امرأته وهي في دار الإمارة فعزل أو مات عنها وقدم آخر قبل انقضاء العدة فليس له إخراج زوجة الأمير السابق حتى تتم عدتها. ولم يجعلوا ما يستحقه

الأمير من السكنى كالأجرة حقيقة، فإنه لو جعلوها كذلك لما استحقت ما زاد على قدر الولاية، وفي معنى زوجة الأمير زوجة القاضي إذا كان ساكناً في موضع القضاء. وَفِي الْحَبْسِ حَيَاتَهُ تَسْكُنُ عِدَّتَهَا، وَلَوْ خَمْسَ سِنِينَ لأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَيِّتِ قوله: (وَفِي الْحَبْسِ حَيَاتَهُ) أي: العمرى. وقوله: (تَسْكُنُ عِدَّتَهَا) أي: سواء كانت عدة طلاق أو وفاة. اللخمي: وقولهم في الطلاق ظاهر، لأن حق المحبس عليه قائم لوجود حياته، وأما المتوفى عنها فاستحسان لأن الأجل الذي أعطاه هو حياة المحبس عليه، وقد انقضى كالكراء إذا انقضى أجله إلا أن تكون هنا عادة. وقول المصنف: (وَلَوْ خَمْسَ [412/ب] سِنِينَ)، هكذا قال محمد. اللخمي: وفيه ضرر على المحبس لأنه لم يرد هذا، ودار الإمارة الأمر فيها أوسع لأنها ليست لأحد. بِخِلافِ سِنِينَ مَعْلُومَةٍ يعني: فليس لها أن تزيد عليها وهو ظاهر. وَكَذَلِكَ حَبْسُ مَسْجِدٍ بِيَدِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: لَيْسَ حَبْسُ مَسْجِدٍ بِيَدِهِ كَالْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ .... يعني: فليس للإمام الجديد أن يخرجها في مدة العدة، وهكذا قال ابن شبلون. وذكر ابن عادت أنه الذي جرى عليه العمل بقرطبة، ولكن أكثر الشيوخ كعبد الحق والباجي وابن زرقون وابن راشد وغيرهم يقتصرون على ما قاله ابن العطار ويفرقون بينه وبين مسألة الأمير، فمنهم من فرق بأن سكنى الإمام على معنى الإجارة بخلاف الإمارة، وإلى هذا ذهب عبد الحق والباجي وغيرهما، ومنهم من قال لأن أجرة الإمام مكروهة، وإليه ذهب ابن المناصف، ومنهم من قال لأن امرأة الأمير لها حق في بيت المال، ودار الإمارة

من بيت المال بخلاف دار المسجد، وإليه ذهب ابن رشد، وقال ابن زرقون: الذي قاله ابن العطار مقصور على ما إذا كانت الدار حبساً على المسجد حبساً مطلقاً، وأما إن حبست على أئمة المساجد فإن الإمام إذا مات لا تخرج زوجته حتى تنقضي العدة كما في دار الإمارة. خليل: وإنما يقصد الناس في زماننا هذا في أئمة المساجد الإجارة فيقوى قول ابن العطار. ولعل القول الأول مبني على الغالب من عادتهم في الزمان المتقدم من الاحتساب في ذلك. وَلأُمِّ الْوَلَدِ- تُعْتَقُ، أَوْ يَمُوتَ عَنْهَا- السُّكْنَى هذا مذهب المدونة. وقوله: (السُّكْنَى) أي: مدة استبرائها بالحيضة، لأنها في حقها كالعدة. وكذلك أن قلنا هي استبراء محض لأنه محبوسة بسببه. وقال في الموازية: لا سكنى لأم الولد ولا عليها. وروى أشهب: ذلك لها، وعليها من غير إيجاب. وقال ابن القاسم: إن كانت حاملاً فلها السكنى إن أعتقها، وإن لم تكن حاملاً فلا سكنى لها. هكذا حكى اللخمي، وحكى غيره قولاً آخر بأن السكنى حق لها إن شاءت أخذته وإن شاءت تركته. قال: وقيل: تركها مكروه. وَلَهَا فِي الْعِتْقِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ وَالسُّكْنَى لو سكت عن قوله: (السُّكْنَى) لكان أحسن لأنه قد قدمه وكأن لها النفقة لأجل الحمل. وفهم من قوله: (وَلَهَا فِي الْعِتْقِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ) أنه ليس لها ذلك في الموت، وكذلك نص عليه ابن القاسم وأشهب وأصبغ، لأن الحمل وارث فلم تكن له نفقة كما لو توفي عن الزوجة حاملاً. ابن عبد السلام: وحمل بعضهم على المدونة قولين في وجوب النفقة لها في الوفاة إذا كانت حاملاً. فقال ابن القاسم: لها النفقة. وقال غيره وهو عبد الملك: لا نفقة لها. وليس في لفظ التهذيب عندي ما يقتضي أن ابن القاسم يقولك بوجوب النفقة لها فتأمله فيه. وقال ابن محرز: إذا كانت قد ولدت قبل ذلك من سيدها رجوت أن لا يختلف ابن القاسم وعبد الملك في أن لا نفقة لها.

وَلِلْمُرْتَدَّةِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ وَالسًّكْنَى قال في التهذيب: وللمرتدة الحامل النفقة والسكنى ما دامت حاملاً، فإن لم تكن حاملاً لم تؤخر واستتيبت، فإما أن تقتل أو ترجع إلى الإسلام فيكون ذلك طلقة بائنة ويكون لها السكنى. وقال ابن اللباد: ليس لها السكنى إن لم تتب، لأنه تسجن حتى تضع. فغير البرادعي لفظها لما يعتقده من معناها، ولفظه في الأمهات: قلت أرأيت المرتدة أيكون لها النفقة والسكنى إن كانت حاملاً ما دامت حاملاً: نعم، لأن الولد يلحق بأبيه فمن هناك لزمته النفقة. فقال بعضهم: إنما وقع ذكر السكنى في السؤال لا في الجواب، وإنما جاب عن النفقة فقط، ألا ترى إلى تعليله بلحوق الولد ولم يجب عن السكنى إذ هي محبوسة على ما قاله ابن اللباد. واختصرها المختصرون على أن النفقة والسكنى لها لقوله: نعم في أول الجواب بعد السؤال عنها. وقيل: معنى هذه السكنى أنه غفل عن سجنها. عياض: وقد يقال ذلك إذا كان الموضع الذي يعتقل فيه يطلب عندهم كراؤه. فرع: اللخمي: إذا قال الزوج: حاضت قبل الردة ولم أصبها استتيبت، فإن تابت وإلا قتلت. وإن قال الزوج لم تحض بعد أن أصبتها وأشكل أمرها هل هي حامل أم لا كان من حق الزوج أن تؤخر حتى تحيض أو تمر لها ثلاثة أشهر من يوم أصاب، فإن لم يظهر حمل قتلت، وهذا لحق الزوج في الماء، فإن أسقط حقه في ذلك ولم يمض للإصابة أربعون يوماً لم تؤخر، لأن الماء حينئذ لم يخلق منه ولد، وإن مضى له أربعون يوماً لم يعجل بقتلها لإمكان أن يكون الولد قد صار علقة، فلا يجوز قتلها حينئذ كما لا يجوز للأم أن تشرب ما تسقطه به. ولو زنت ولا زوج لها رجمت إذا لم تمض لها أربعون يوماً ولا تؤخر، فإن مضت لها أربعون يوماً أخرت حتى يظهر أمرها، وإن أخرت الزوجة حتى ينظر هل هي حامل لم يكن على الزوج في ذلك نفقة عند ابن القاسم، لأن ارتدادها طلقة بائنة، ولا عند

أشهب وعبد الملك وإن كان يريان أن الطلاق مترقب، فإن أسلمت كانت على الزوجية من غير طلاق، لأنها فعلت فعلاً منعت به نفسها، [413/أ] فإن تبين حمل أنفق في المستقبل وأتبعته بالماضي، وتبيت في بيتها على القول بأن الارتداد طلاق ويتحفظ بها فيه، وعلى القول أنه فسخ أو مترقب فإن رجعت إلى الإسلام كانت على الزوجية، فيستحب نقلها إلى موضع تعتد فيه. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ تُحْبَسُ بِسَبَبِهِ فِي السُّكْنَى، وَنَفَقَةُ الْحَمْلِ كَفَسْخِ النِّكَاحِ لإِسْلامِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَكَمَنْ نَكَحَ مَحْرَماً ولَمْ يَعْلَمْ وبَنَى .... هكذا في المدونة أن كل امرأة حبست بسبب شخص في عدة أو استبراء لها السكنى، وإن حصل حمل كانت لها نفقته. وليس ما قاله في النفقة على إطلاقه، فإن حمل الأمة من حر أو عبد، وحمل الحرة أو الأمة من عبد لا نفقة له، وكذلك حمل الملاعنة، وظابطه كل حمل لو وضعته وجبت نفقته على أبيه فلها عليه النفقة وإلا فلا. وذكر المصنف للضابط الذي ذكره ثلاثة أمثلة: الأول: إذا فسخ النكاح لإسلام أحد الزوجين بعد البناء فإنه يجب للمرأة السكنى ونفقة الحمل إن كان، وقوله: (بَعْدَ الْبِنَاءِ) يعني وأما قبله فلا لعدم العدة. الثاني: إذا نكح محرما ولم يعلم وبنى فإن لها السكنى في مدة الاستبراء ونفقة الحمل إن كان. وقيد ذلك بعدم العلم لتتم الشبهة وإلا فلو كان عالماً وهي لم تعلم كان لها أيضاً عليه السكنى ولم يكن لها عليه نفقة الحمل لعدم لحوق الحمل. ثم أشار إلى المثال الثالث بقوله: وَفِي الْغَالِطِ بِغَيْرِ الْعَالِمَةِ ذَاتِ زَوْجٍ قَوْلانِ ابن هارون وابن راشد: لم أقف على ما حكاه المصنف. وقال ابن عبد السلام: يعني إذا غلط بامرأة أجنبية يظنها زوجته أو أمته فوطئها فلا حد عليه، وتستبرأ الحرة بثلاث حيض فإن

حملت منه كان لها عليه النفقة والسكنى، ولا أعلم في هذا خلافاً في المذهب. وظاهر كلام المؤلف أنه مختلف فيه فانظره. واختلف المذهب إذا لم تحمل وكانت زوجاً لآخر هل تجب نفقتها على نفسها أو على واطئها؟ وَلامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ خَبَرُهُ دُونَ امْرَأَةِ الأَسِيرِ أَنْ تَرْفَعَ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَيُؤَجَّلُ الْحُرُّ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَالْعَبْدُ سَنَتَيْنِ مُنْذُ يَعْجِزُ عن خَبَرَهُ بَعْدَ الْبَحْثِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ كَالْوَفَاَةِ .... فقد الشيء عدمه، ومراده المفقود في بلاد المسلمين احترازاً من الأسير فإن حكمه سيأتي، ومعنى كلامه أن لامرأة المفقود أن ترفع امرها سواء كانت مدخولاً بها أم لا إلى الحاكم. وأطلق في (الْحَاكِمِ) فيشمل الخليفة ووالي البلد والقاضي. قال في المدونة: ويجوز ضرب ولاة المياه وصاحب الشرطة الأجل للعنين والمفقود. أبو الحسن: والمراد بولاة المياه السعاة لأنهم يبعثون عند حصول المياه. القابسي وأبو عمران: وإن كانت في موضع لا حاكم فيه رفعت أمرها إلى صالحي جيرانها وكشفوا عن خبر زوجها وضربوا لها الأجل، لأن فعل الجماع كحكم الإمام. وقال سحنون: لا يجوز كتاب ولاة المياه إلى قضاة الأمصار الكبار من سائر البلدان. وأنكر ما ذكر عن مالك أن والي المياه يضرب أجل المفقود وهو لا يضرب إلا بعد أن يكتب إلى البلدان، وولاة المياه لا يجوز أن يكتبوا إلى البلدان، فعلى هذا قيل: لا يضرب لها الجيران. اللخمي: والمعروف من المذهب أن الكشف عن خبره إلى سلطان بلده وإن تولى ذلك بعض ولاة المياه، والمفقود منهم أجزأ. وقال أبو مصعب: لا يجوز في ذلك حكم سلطان إلا الخليفة الذي تمضي كتبه في الدنيا. ابن عبد السلام: وجعله بعضهم كقول سحنون. وقال ابن الماجشون: إذا كان الإمام الأعظم حاضراً لم يضرب غيره. وقال غير واحد: إذا رفعت المرأة أمرها إلى الحاكم كلفها

إثبات الزوجية والغيبة، فإذا أثبت ذلك سأل زوجته وأقاربه وإخوانه وأهل محلته وسوقه، فإن كان عندهم علم أنه كان يريد بلداً كتب إلى ذلك البلد الذي كان يظن أنه فيه، وإلا كتب إلى بلد الجامع إن لم يظن أنه في بلد بعينه ويعرفه في كتابه باسمه وصفاته ومتجره، ويكتب هو إلى نواحي بلده، وإن كان مطلوباً بدم أو آبقاً لم يقتصر في الكتب على الجهة التي خرج إليها، لأن هذا ينتقل ولا يستقر في بلد بعينه، فإذا جاء الجواب بعدم العلم ضرب له الأجل وهو أربعة أعوام للحر. واختلف في العبد، فالمشهور ما ذكره المصنف أن أجله نصف اجل الحر كالإيلاء والطلاق. ابن عبد السلام: وقيل: أجله كالحر. خليل: وتنصيف الأجل هنا وفي الاعتراض والإيلاء مشكل، والأظهر الشاذ في الجميع. وقوله: (مُنْذُ يَعْجِزُ عن خَبَرَهُ) هو المشهور. وقال ابن عبد الحكم: من يوم الرفع، وعليه فلا يكتب إلى البلدان ويضرب له الأجل إذا ثبتت الزوجية والغيبة. وقاله ابن عبد الحكم، وزاد: إلا أن يبلغ سن التعمير. والأصل في التحديد بالأربع سنين ما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((أيما امرأة فقد زوجها فلم تدر أين هو فإنما تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشر ثم تحل)). عبد الوهاب: وأجمع الصحابة عليه لأنه روى أيضاً عن عثمان وعلي وجماعة من التابعين ولم يعلم لهم في عصر الصحابة مخالف. قيل: وحد بالأربعة لأنها [413/ب] غاية الحمل. وقيل: لأنها المدة التي تبلغها الكتابة في بلدان الإسلام ذهاباً وإياباً. وقيل: لا علة لذلك إلا الاتباع لقول عمر. اللخمي: وهو أحسن. واستضعف الأول لقول مالك: أنها لو أقامت عشرين سنة فإنها تستأنف الأجل. ولقولهم إذا كانت الزوجة صغيرة أو الزوج صغيراً أنه يضرب له الأجل وليس هناك ما يخشى منه الحمل، وكذلك إذا كانت يائسة، ولأنه لو كان مبنياً على أكثر الحمل لاختلف فيه على الخلاف.

واستضعف أيضاً الثاني لقول مالك أنها تستأنف الأربعة من بعد الإياس. وقيل: إنما ضرب له أربعة أعوام، لأنه جهل إلى أي ناحية سار من الأربع جهات. وهذا لا معنى له. وقوله: (ثُمَّ تَعْتَدُّ كعدة الْوَفَاةِ) لقول عمر المتقدم. ابن عبد السلام: ومن أهل المذهب من ألزمها أقصى الأجلين، وأجراه بعضهم على الخلاف في لزوم الإحداد ولم يبينوا هل هي حيضة واحدة. وهذا إن أراده فقريب كما تقدم في الذي علمت وفاته أو هي ثلاث حيض، ولا يحتاج إذا انقضى الأجل إلى إذن الإمام لها في العدة ولا بعد انقضائها إلى إذنه في التزويج. عبد الوهاب: لأن إذنه حصل بضرب الأجل. تنبيه: ما تقدم من أن العبد الآبق والمطلوب بدم لا يقتصر في حقهما على الكتب إلى جهة واحدة، يدل على أن حكمهما حكم المفقود، وقد نص محمد على ذلك. وكذلك قال مالك فيمن أخذ متاع زوجته وهرب أنه: يضرب له أجل المفقود. وقال اللخمي: أرى أن يطلق على هؤلاء عند رجوع الكشف بعدم العلم بخلاف المفقود لأنهم فروا اختياراً، ومعلوم أنهم قاصدون التخلف عن الرجوع وحالهم بين ميت ومختار للإقامة. فرعان: الأول: إنما يضرب له الأجل المتقدم إذا كان له مال ينفق عليها منه وإلا فحكمها حكم زوجة المعسر بالنفقة. الثاني: إذا غاب عن أم الولد سيدها وطلبت أن يضرب لها أجل لم تمكن من ذلك، وتبقى إلى انقضاء تعميره فتعتق عليه. نقله ابن راشد.

فَإِنْ جَاءَ أَوْ ثَبَتَتْ حَيَاتُهُ قَبْلَ تَزْوِيِجها فَامْرَأَتُهُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ لِلثَّانِي، وَفِي رُجُوعِ الأَوَّلِ غَيْرِ الدَّاخِلِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ رِوَايَتَانِ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ قَالَ مَرَّةً: الْعَقْدُ فَوْتٌ. ثُمَّ رَجَعَ .... يعني: أن الحكم نافذ لها ما لم يتبين خلافه، وأما إن تبين خلافه فذلك على أربعة أوجه: الأول: أن يجئ أو يتبين حياته وهي إلى الآن في العدة، فلا خلاف أنها زوجته. الثاني: أن يتبين ذلك بعد خروجها من العدة وقبل أن يعقد عليها، فالمعروف من المذهب عدم فواتها كالأول. وذكر ابن عيشون الطليطلي عن ابن نافع أنها تفوت. قال في المقدمات: وهو بعيد، لأن الحاكم إذا حكم باجتهاد ثم تبين له أو لغيره أنه أخطأ في حكمه خطأ متفقاً عليه نقض ذلك الحكم بإجماع. فلو قيل على قياس هذا أنها له ولو دخل بها الزوج الثاني كالمنعي لها زوجها لكان له وجه في القياس، ولكنه لم يقوموا ذلك، فأين هذا من قول ابن نافع، إلا أنه يشبه ما روي عن مالك فيمن خرص الخارص عليه في تحلة أربعة أوسق فوجد فيها خمسة أنه يعمل على ما خرص. أبو عمران: وتآليف ابن عيشون مختلفة، ونقله ضعيف. وروى اللخمي مثل قول ابن عيشون، قال: لأن الحاكم أباحها للأزواج مع إمكان حياته، وما كشف الغيب أكثر مما كان يظن. وقول المصنف: فإن جاء أو ثبتت حياته قبل تزويجها فامرأته، يشمل هذين الوجهين الوجه الثالث أن يدخل بها الثاني والحكم أنها تفوت على الأول وتكون للثاني. وإلى هذا أشار بقوله: وبعد الدخول للثاني. اللخمي: ولم يختلف قول مالك أن الدخول فوت. وخرج فيها قول بعدم الفوت بالدخول على أحد القولين في النصرانية تسلم وزوجها غائب، فإن ابن الماجشون قال: إن ثبت أنه أسلم قبلها أو بعدها في العدة كان أحق بها وإن ولدت من الثاني.

ابن راشد: وفيه نظر، لأن امرأة المفقود اجتهد لها الحاكم بعد الكشف وضرب الأجل وأذن لها في النكاح بخلاف النصرانية تسلم. فرع: فإن دخل بها الثاني في نكاح فاسد فالأول أحق بها إن فسخ بغير طلاق لا إن فسخ به. نص عليه الباجي وغيره. قوله: (وَفِي رُجُوعِ الأَوَّلِ غَيْرِ الدَّاخِلِ .... إلخ). اعلم لولا أنه اختلف إذا فقد الزوج قبل البناء وضرب الحاكم الأجل، وفرق بينهما سواء تزوجت أم لا، فعن مالك أنها تعطى جميع الصداق، وبه قال سحنون. ابن بطال: وبه القضاء. وفي الجلاب أنها تعطى نصف صداقها فقط، فإن ثبتت بعد ذلك وفاته أكمل لها صداقها، وكذلك إن مضى عليها من السنين ما لا يحيي إلى مثله. وقاله عبد الملك وابن دينار. وقال جماعة: إن لم تكن قبضته لم تعط إلا نصف صداقها، وإن كانت قبضته لم ينزع منها. وقيل: لا تأخذ النصف إلا بعد إلزامه الطلقة، وذلك عند عقد الثاني أو عند دخوله على الخلاف. ابن محرز: والقياس أن يكون لها النصف إلا على مذهب من يرى أن المرأة تستحق الجميع بالعقد. وعلى أنها تأخذ الجميع فقال مالك: يعجل لها [414/ا] المعجل ويبقى المؤجل إلى أجله. وقال سحنون: بل يعجل لها الجميع. ومنشأ الخلاف أن هذه المرأة فيها شائبتان، شائبة الموت بدليل أنها تعتد عدة الوفاة، وشائبة الطلاق بدليل أن دخول الثاني يوقع على الأول طلقة، فمن غلب الشائبة الأولى أوجب لها الجميع، ومن غلب الثانية لم يوجب لها إلا لنصف. وكلام المصنف مبني على القول بأنها لا تأخذ الجميع، لأن ذكره الخلاف في رجوع الأول بنصف الصداق فرع عن أخذها الجميع. والروايتان اللتان حكاهما المصنف

حكاهما ابن الجلاب وهما مرويتان عن ابن القاسم، والذي رجع إليه أنها لا ترد شيئاً كالميت. والمعترض بعد التلوم، قيل: وبه العمل لأنه حكم مضى. وقال ابن راشد: الأول أصح. وهو الخيار اللخمي لأنه طلاق قبل الدخول، والفرق بينه وبين المعترض أن المعترض قد استمتع بها وأخلف شورتها. الوجه الرابع: أن تتبين حياته أو موته بعد عقد الثاني وقبل دخوله، ففيه القولان اللذان حكاهما المصنف بقوله: (قَالَ مَرَّةً: الْعَقْدُ فَوْتٌ. ثُمَّ رَجَعَ). وبالفوات قال المغيرة وابن كنانة وابن دينار، وبعدمه قال ابن القاسم وأشهب. قال في الكافي: المرجوع إليه أصح من طريق الأثر. وليست مسألة نظر لأنا قلدنا فيها عمر رضي الله عنه. فرع: أبو عمران: وإذا اعتدت أو مضى بعض العدة لم يكن لها أن ترجع إلى عصمته، وقد وجبت عليها العدة والإحداد، فليس لها أن تسقط ما وجب عليها باختيارها، وأما في الأربع سنين فلها ذلك لأنها لم تجب عليها عدة. قال: ومتى رجعت بعد ذلك أبتدأ لها الضرب. أبو بكر بن عبد الرحمن: وإذا ضرب لها الأجل واعتدت ثم أرادت أن تبقى على عصمة المفقود فليس لها ذلك، لأنها قد صارت مباحة للأزواج فلا حجة لها أن لو قدم كان أملك بها لأنها إنما أمرت بالعدة للفراق فتجري على ذلك حتى تظهر حياته، ألا ترى أنها لو ماتت بعد العدة لم يوقف لها منها ميراث، وإن كان لو علمت حياته ردت إليه. وَعَلَيْهِمَا لَوْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بَيْنَهُمَا، بِخِلافِ مَا قَبْلَهُمَا فَإِنَّهَا كَغَيْرِهَا يعني: وعلى القولين في فواتها بالعقد إذا ثبت أنه مات بينهما، أي: بعد العقد وقبل الدخول. فإن قلنا أن العقد مفيت مضت زوجة للثاني، وإن قلنا ليس بفوت فسخ لأنه تزوج زوجة الغير. وبالجملة موته كقدومه بخلاف ما لو ثبت موته قبل العقد والدخول، فإن هذه المرأة كغيرها من النساء، فإن عقد الثاني بعد خروجها من عدة الأول صح نكاحه، وإن عقد قبل خروجها من العدة فهو كالنكاح فهيا، وإليه أشار بقوله:

وَفِيهَا: لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فِي عِدَّةِ مَوْتِ الأَوَّلِ فَنِكَاحٌ فِي عِدَّةٍ يُفْسَخُ، وَتَحْرُمُ بِالدُّخُولِ أَبَداً .... تصوره ظاهر. وقوله: (وَتَحْرُمُ بِالدُّخُولِ) أي: في العدة، وأما لو لم يدخل إلا بعد العدة لجرى على الخلاف المتقدم في باب النكاح. ولعل المصنف نسب المسألة للمدونة لإشكالها، وذلك أن الزوج الثاني استند في عقده إلى حكم حاكم فلم يستعجل وليس هنا اختلاط أنساب فكان تأبيد التحريم مشكلاً، ولهذا روى البرقي عن أشهب أنه إذا دخل بها الثاني في عدة الأول لم يفسخ نكاحه وثبت ولم تحرم عليه. ابن المواز: ولو دخل بها الثاني ثم علم أن المفقود مات قبل دخول الثاني فنكاح الثاني مفسوخ لأنه كالناكح في العدة، إذ مرة لها زمان العدة وهي معقود عليها كالرامي من الحل تخرق رميته الحرم ويصيب في الحل. ابن يونس: وقد تقدم لابن المواز ما يدل على خلاف هذا، قال: إذا اعتدت المنعي لها زوجها وتزوجت ودخل بها ثم تبين أن الأول مات بعد عقد الثاني وقبل دخوله فليفرق بينهما ويؤمر التورع عنها، وهي أخف ممن نكح في العدة ودخل بعدها، وهي كمن واعد في عدة ونكح بعدها، لأنه عقد نكاحها وهي ذات زوج فعقده كلا عقد، فلينتزه عنها أحب إلى. ابن يونس: وما تقدم أقيس لأنه عقد لو قدم بعد الدخول فيه لم ترد إليه وليثبت ذلك العقد. وإن كانت يوم العقد ذات زوج فإذا مات الأول قبل دخول الثاني فقد صادفتها العدة وهي معقود عليها فهي كمن عقد في العدة ودخل بعدها، أصله الرامي من الحل تخرق رميته الحرم ثم يصيب في الحل، والله أعلم. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَرِثَتْهُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَرِثْهُ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا الْقَوْلانِ لأنه إذا مات قبل العقد فهي زوجة، ويأتي على ما حكي عن ابن نافع أنها لا ترثه إذا خرجت من العدة، فإذا ثبت أنه مات بعد دخول الثاني فليست له زوجة، لأنها فاتت على

الأول بالدخول. وإن مات بعد عقد الثاني وقبل دخوله فالقولان، فعلى الفوات لا ترث منه، وعلى مقابله ترث. اللخمي: وإن جهلت التواريخ وقد دخل الثاني لم يفسخ نكاحه ولم ترث الأول، لأنه لا يفرق بينها وبين الثاني بالشك، ولا ترث الأول أيضاً بالشك. وَعَلَى الثَّانِي: لا يَقَعُ الطَّلاقُ إِلا بِالدُّخُولِ ويعني: وعلى قول مالك المرجوع إليه من أنها لا تفوت إلا بالدخول لا يقع طلاق على الأول إلا بدخول الثاني، وأما على الفوات بالعقد فالطلاق [414/ب] يقع بنفس العقد، ابن رشد، واختلف متى تقع الطلقة عليه، فقيل: أنها تقع عليه بالدخول أو بالعقد على الاختلاف في ذلك، وقيل: إنما تقع عليه يوم أبيحت للأزواج ويكشف ذلك العقد أو الدخول، وفائدة هذا الاختلاف، لو كان هذا الأول طلقها اثنتين ثم تزوجت وقدم زوجها الأول بعد أن دخل بها هذا الثاني، هل يحلها هذا الزوج للقادم أم لا؟ والظاهر أنها تحل بفراغ العدة ولو كان الطلاق إنما يقع بعقد الثاني أو بدخوله لكان نكاحه فاسداً. وِلَوْ طَلَّقَهَا الثَّانِي بَعْدَ الُّدخُولِ وَكَانَ الأَوَّلُ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ لَحَلَّتْ لَهُ، أَصْبَغُ: لا تَحِلُّ بِذَلِكَ لأَنَّهَا لَمْ تُنْكَحْ بَعْدَ الطَّلاقِ، وَرَدَّهُ اللَّخْمِيُّ يعني: لو كان المفقود طلقها طلقتين قبل فقده ثم فقد وأباح لها الحاكم التزويج وتزوجت ثم طلقها الثاني بعد دخوله، فهل تحل للمفقود قبل زوج وهو قول مالك وبه قال أشهب، وقال أصبغ: لا تحل، وصوبه أبو عمران بما حكاه المصنف عن أصبغ بقوله: (لأَنَّهَا لَمْ تُنْكَحْ بَعْدَ الطَّلاقِ)، يعني أن الطلقة الثانية إنما تقع بدخول الثاني ولم يحصل بعدها نكاح وحليتها مرقوفة على حصول نكاح بعد الثلاث، ورده اللخمي بما تقدم من أن الظاهر أن الطلاق وقع قبل العقد وقبل الدخول وإلا لزم فساد النكاح.

فرع: محمد: ولو قدم المفقود بعد أن خلال بها الثاني، فقال للأول: ما قربتها، لحرمت على الثاني، لأنه أقر أنها زوجة للأول، ولم تحل للأول لظهور الإفاتة إلا أن يخطبها بعد ثلاث حيض، وجعل اعترافه كالطلاق، وإن لم يطلق فتحل لذلك الزوج ولا تحل لغيره وإن اعترفت أن الثاني لم يصبها لأنها مقرة أنها زوجة للأول، وإن ادعت أنه أصابها حلت له ولغيره لأنه يعد ذلك منه طلاقاً، وإن أنكرت أن يكون أصابها ولم يصدقها الأول ولا راجعها كان لها أن ترفع أمرها إلى السلطان فيطلقها على الأول لأنها تقول: لا أبقى بغير نفقة، ولو أنفق عليها لكن لها أن تقوم بعدم الإصابة لأن إنكار الأول أن تكون صدقت، وقوله أولاً: لا علم عندي لا يكون طلاقاً. وَالَّتِي تَعْلَمُ بِالطَّلاقِ وَلاَ تَعْلَمُ بِالرَّجْعَةِ كَذَلِكَ يعني: أن من طلق امرأته طلاقاً رجعياً فاعتدت وتزوجت غيره، فأثبت هو أنه ارتجعها قبل نكاح الثاني فكذلك، أي إن اطلع على ذلك قبل دخول الثاني فالأول أحق على قول مالك، الثاني: وإن دخل فالثاني أحق بها، ورأي اللخمي أنها لا تفوت بالدخول، وفرق بينها وبين امرأة المفقود بأن هذه لم يكن فيها قضية من حاكم. وفي قوله: (كَذَلِكَ) إشارة إلى إجراء حكم هذه المسألة على المتقدمة في الميراث، وبذلك صرح في المدونة، عبد الملك: وهذا إذا أقام بينة أنه ارتجع قبل عقد الثاني، وأما قوله بعد عقد الثاني ارتجعت قبل عقده فلا يقبل. مالك: وإن كان حاضراً فلم يعلمها برجعته ورآها تزوجت ودخلت فإنها تمضي زوجة. اللخمي: وليس ببين لأنه لو رأي أن الزوجة تزوجت ولم ينكر عليها لم يكن ذلك طلاقاً. ابن عبد السلام: وكلام اللخمي ظاهر إن قامت له بينة أنه ارتجع قبل ذلك، وهو الذي أراد كما قاله عبد الملك. خليل: وقد يجري ما قاله مالك في هذه المسألة على أحد الأقوال فيمن

باع زوجته أو زوجها إلا أن يقال أنه إذا باعها أو زوجها فعل فعلاً محققاً يدل على تمليكها لغيره بخلاف هنا فإنه سكت وهو أضعف. وَأَمَّا الْمَنْعِي لَهَا زَوْجُهَا تَتَزَوَّجُ فَيَقْدَمُ فَلَيْسَتْ كَامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ عَلَى الْمَشْهُورِ، بَلْ تُرَدُّ وَلَوْ وَلَدَتِ الأَوْلادِ إِذْ لاَ حُجَّةَ لَهَا بِاجْتِهَادِ الإِمَام .... عياض: يقول الفقهاء: المنعى بضم الميم وفتح العين، وهو عند أهل العربية خطأ، وصوابه عندهم المنعي بفتح الميم وكسر العين وتشديد الياء، وهي التي أخبرت بموت زوجها فاعتمدت على الأخبار وتزوجت ثم قدم زوجها، فالمشهور وهو مذهب المدونة أنها ترد إلى الأول، والفرق بينها وبين المفقود عنها ما ذكره المصنف بقوله: (إِذْ لاَ حُجَّةَ لَهَا بِاجْتِهَادِ الإِمَام)، وقال القاضي إسماعيل، وأبو عمران: أنها كامرأة المفقود في اختلاف قول مالك، وتتنزل البينة منزلة حكم الحاكم لامرأة المفقود هكذا ذكرها ذا القول صاحب تهذيب الطالب، وظاهره أنه يختلف إذا عقد عليها الثاني ولم يدخل، وقال ابن راشد: إن لم يدخل الثاني بها فهي للأول اتفاقاً، قال: وفي المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أنها تفوت بالدخول، قاله مالك في كتاب القاضي إسماعيل، والثاني: أنها لا تفوت وترجع إلى الأول وهو قول محمد، وسواء حكم بموته حاكم أم لا، وهو المشهور، وثالثها: التفرقة فإن حكم بموته حاكم فاتت وإلا لم تفت، قاله القاضي إسماعيل. ابن عبد السلام: والأقرب أن البينة إن كانت رفعت إلى القاضي فقبلها أو عدلت عنده فهي كامرأة المفقود، وإن كانت اعتمدت هي على أخبار البينة دون رفع القاضي فليست كامرأة المفقود، وإذا فرق بينها وبين الآخر على المشهورة، ففي المدونة لا يقربها الأول حتى تحيض أو تضع حملها إن كانت حاملاً، وتعتد في بيتها الذي كانت تسكن فيه مع الآخر ويحال بينه وبين الدخول [415/أ] عليها.

عياض: ولا إشكال في منع مائه زرع غيره، وأما ما عداه من الاستمتاع فمباح لأنها زوجته، وإنما حبست عنه لأجل اختلاط النسبين كما لو استبرأها من زنا أو غصب، وبدليل لو كانت المغصوبة ظاهرة الحمل من زوجها لجاز له وطؤها إذ الولد ولده عند ابن القاسم وغيره، وكرهه أصبغ كراهة تنزيه لا تحري. أَبُو عِمْرَانَ: ولَوْ ثَبَتَ مَوْتُهُ عِنْدَهَا بِرَجُلَيْنِ فَتَزَوَّجَتْ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلافُهُ لَمْ يُفْسَخْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ إِلَّا بِقَوْلِهِا فَإِنَّهُ يُفْسَخُ إِنْ تَبَّيَن أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الصِّحَّةِ حُكِمَ بِهِ، وَفُسِخَ كُلُّ عَقْدٍ بَعْدَهُ قوله فيما نقل عن أبي عمران (فَتَزَوَّجَتْ) لا يؤخذ منه جواز ذلك ابتداء، ونقل عنه ابن يونس وغيره أنه يجوز لها أن تتزوج بخبر العدلين وليس عليها أن ترفع إلى الحاكم ولا يفسخ. أبو عمران: وإنما يفسخ إذا كانت البينة غير عدول أو لم يعلم ذلك إلا من قولها إذ ليست على صحة من استباحتها. قوله: (ثم إِنْ تَبَّيَن أَنَّهُ) أي النكاح المفسوخ (وَقَعَ عَلَى الصِّحَّةِ) لثبوت موت الزوج الأول أو طلاقه أو انقضاء العدة منه، فإن هذه المرأة ترد إلى الذي فسخ نكاحه ويفسخ ما بعد ذلك ولو تعددت الأنكحة، وإلى ذلك أشار بقوله: (وَفُسِخَ كُلُّ عَقْدٍ بَعْدَهُ). ابن عبد السلام: وليس هذا موضع قوله (كُلُّ عَقْدٍ بَعْدَهُ)، وإنما يحسن مثل هذه العبارة في البيوع، أي لأنها لا تكون إلا في عصمة زوج فكان ينبغي أن يقول: وفسخ ما بعده. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَتِ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَهُ وَقَعَ عَلَى الصِّحَّةِ فَقِسْ عَلَيْهِ .... هذا أيضاً من كلام أبي عمران، ومعناه إذا تزوجت امرأة المفقود في أثناء العدة ففسخناه، ثم ثبت أن المفقود عنها انقضت عدتها منه إما من وفاة أو طلاق قبل أن يتزوجها الثاني فإنا نردها إلى الثاني ولو تزوجت زوجاً ثالثاً ودخل بها كالمنعي لها زوجها.

فرع: لو تزوجت في العدة ففسخناه حرمت على الثاني إلا أن يثبت أن الأول حي فلا تحرم عليه، محمد: لأنها صارت زوجة للمفقود بغير طلاق ولا وفاة. وقوله: (فَقِسْ عَلَيْهِ) أي قس على هذه المسألة والتي قبلها ما يشبهها في المعنى كما لو تزوجت امرأة المفقود في الأربعة أعوام وفسخ ثم ثبت أنه على الصحة. وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ نِسَاءٍ مَفْقُودٍ رَفَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فَتَفَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: أَرَى إِنْ ضُرِبَ الأَجَلُ لِلْوَاحِدَةِ ضُرِبَ لِجَمِيعِهِنَّ .... زاد يحي بن عمر وهو راوي هذه المسألة عن ابن القاسم: وأبي سائرهن. وكذلك نقل ابن شاس، وهو أحسن من كلام المصنف لاحتمال كلام المصنف أن يكون سائر النساء سكتن، وحكى ابن الفخار وابن يونس عن مالك مثله. بعض القرويين: كما أن تفليس الواحد للمديان تفليس لسائر الغرماء، وقال أبو عمران: ليس ضرب القاضي الأجل لواحدة ضرب لجميعهن بل حتى ترفع كل واحدة، قال: ولا يحتاج إلى الكشف للمرأة الثانية لأنه قد كشف أول مرة، ابن يونس: وهو واضح. وَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ فِي الأَجَلِ دُونَ الْعِدَّةِ لها النفقة في الأجل لأنها محكوم لها بحكم الزوجة، وأما في العدة فلا نفقة لها لأنها عدة وفاة، ولا نفقة للمتوفى عنها. ابن عبد السلام: فإن قلت، قد قيل إنها عدة طلاق، وقد تقدم عن المدونة وغيرها أن دخول الثاني طلاق، فينبغي أن ينفق عليها في تلك العدة، قيل: ولو سلم أنه طلاق لكان طلاقاً أوقعه القاضي، والأصل فيه البينونة، وفي هذا الجواب نظر، والأولى منع كون الفرقة طلاقاً حقيقياً لايجابهم عدة الوفاة، وأصل المسألة مشكل فلذلك أشكلت الفروع المبينة عليها، وظاهر كلام المصنف أن النفقة واجبة

للمدخول بها وغيرها، وكذلك أطلق في المدونة كالمصنف، وقال المغيرة: لا نفقة لغير المدخول بها إلا أن يكون فرض لها قبل ذلك، قال في المقدمات: والصواب أن لها النفقة لأنها كزوجة الغائب. ولم يختلف أن من غاب عن زوجته قبل دخوله بها أن لها النفقة، وإنما اختلف في الغيبة القريبة، وظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن لها النفقة إذ لم يفرق فيه بين قرب الغيبة وبعدها. فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَخَذَتْ شَيْئاً بَعْدَ وَفَاتِهِ رَدَّتْهُ وَكَذِلكَ أَوْلادُهُ يعني: فإن ثبت بعد أخذها النفقة أنها أخذت شيئاً بعد وفاة المفقود ردته لأنها أخذت ما لا يجب لها إذ النفقة تسقط بالموت، وكذلك قوله: (وَكَذِلكَ أَوْلادُهُ)، يعني: إن ثبت أنهم أخذوا شيئاً بعد وفاته ردوه كالزوجة، وهكذا نص عليه ابن القاسم في المدونة، وينفق عليهم ما داموا صغاراً فقراء، وتأول سحنون ذلك على أن الأيتام كانت لهم أموال. أبو عمران: إن لم يتأول على ما قاله سحنون وإلا فهو خلاف لقول ابن القاسم في مسألة الوصي ينفق علي اليتيم من مال أبيه ثم يطرأ دين يغترق المال، أنه لا يرجع على اليتامى بما أنفق عليهم إن لم يكن لهم مال، ويكون وفاقاً لقول المغيرة وأشهب بالرجوع عليهم مطلقاً. وفرق بعض المتأخرين بأن الورثة تتعلق حقوقهم بالذمة لا بالعين، ومن تعلق حقه بعين شيء فأتلف عليه فله [415/ب] المطالبة بخلاف ما يتعلق بالذمة، واعترض فضل تأويل سحنون بأنه لو كانت لهم أموال لم ينفق عليهم إلا أن يقال إنما ظهر لهم المال ولم يكونوا عالمين به. أبو عمران: يستغنى عن قول فضل هذا لأن هذا المال الذي ورثوه من أبيهم هو مال استوجبوه من يوم الموت، وإنما انكشف لنا ذلك الآن. ومعنى قوله: (يرجع عليهم) أنه يقاصهم بما أنفق عليهم من ميراثهم.

عياض: ولا يستغنى عنه بهذا إذ قد يكون ما أنفق عليهم أضعاف ما يجب لهم من التركة لكثرة الورثة معهم، قال في المدونة: ولا يؤخذ من الزوجة والأولاد حميل بهذه النفقة. وَلاَ يُقْسَمُ مَالُهُ إِلا بَعْدَ التَّعْمِيرِ عَلَى الْوَارِثِ حِينَئِذٍ يعني: أن المال ليس حكمه حكم الزوجة في أنه يقسم بعد الأربعة أعوام بل يوقف حتى يتبين موته أو يأتي عليه سن التعمير إذ لا إرث بشك، وكان الأصل في الزوجة أن لا تباح إلا كذلك لكن غرضنا قوة الضرر، وحكى ابن راشد قولاً أنه يقسم ماله بعد الأربعة أعوام، قال: واختلف في حد التعمير على ستة أقوال: أحدها أنه سبعون، قاله مالك وابن القاسم وأشهب. عبد الوهاب: وهو صحيح لحديث معترك المنايا. ثانيها: خمس وسبعون، وبه أفتى ابن زرب، الباجي في سجلاته، وبه القضاء. ثالثها: ثمانون، رواه ابن الماجستون وابن حبيب عن مالك، وبه أخذ ابن القاسم ومطرف، واختاره الشيخان أبو محمد وأبو الحسن، وبه كان يفتي القاضي ابن السليم. ورابعها: أنه الثمانون أو التسعون، قاله ابن القاسم أيضاً. وخامسها: مائة، قاله أشهب، ابن حبيب وابن الماجشون: وإليه رجع مالك. وسادسها: أنه مائة وعشرون، وحكاه الداودي عن ابن عبد الحكم، وبه المتيطية: إن غاب وهو ابن الثمانين عمر إلى انقضاء التسعين، وإن غاب وهو ابن التسعين عمر إلى انقضاء المائة، وإن غاب وهو انب المائة عمر بأعوام يسيرة بقدر الاجتهاد، وقيل: يتلوم بالعشرة، وقيل: بالعام والعامين، وإن غاب وهو ابن مائة وعشرين تلوم بعام واحد، قال في المقدمات: ولم يختلف فيمن عمر بمائة وعشرين أنه يتلوم له بالعام ونحوه. وقوله: (عَلَى الْوَارِثِ حِينَئِذٍ). أي: حين انقضاء التعمير.

وَلاَ يُضْرَبُ لِلأَسِيرِ أَجَلٌ وَتَبْقَى زَوْجَةٌ أي: لا يضرب لمن أسره العدو أجلاً، وتبقى زوجة حتى يثبت موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله، قال في المدونة: وسواء علم موضعه أم لا لأنه معلوم أنه قد أسر ولا يصل الإمام من كشف حاله إلى ما يصله في المفقود. قيل: وإذا هرب الأسير من أرض الحرب وثبت هروبه ثم جهل خبره فإن ثبت دخوله بلاد الإسلام فكالمفقود، وإن لم يثبت فكالأسير لاحتمال عدم خروجه من بلاد الحرب، وخرج اللخمي قولاً بأن امرأة الأسير تطلق عليه قياساً على قطع ذكره، وذكر ابن حارث أنهم اتفقوا على الأسير يعرف مكانه وحياته أنه لا تتزوج امرأته حتى يموت، واختلف إذا لم يعرف فقال أصبغ: قال قوم هو كالمفقود في أرض الإسلام، وقال آخرون كمذهب مالك، وقال ابن حارث: إن كان لا يدخلها التجار ولا الطوافون فهو هكذا وإن كانوا يدخلونها فهو كالمفقود. فَلَوْ تَنَصَّرَ الأَسِيرُ وَجُهِلَ طَوْعُهُ وَإِكْرَاهَهُ فَهُوَ كَالطَّوْعِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيُوقَفُ مَالُهُ .... يعني: إذا تنصر الأسير فإن علم إكراهه فكالمسلم، وإن علم طوعه فكالمرتد، وإن لم يعلم طوعه من إكراهه فالمشهور وهو مذهب المدونة ما ذكره المصنف أنه محمول على الطوع لأنه الأصل في الأفعال الواقعة من العقلاء والغالب أيضاً، وروي عن مالك أنه محمول على الإكراه لأنه الغالب من حال المسلم. واختلف إذا تزوجت زوجته ثم ثبت أنه تنصر مكرهاً فقيل: حاله في زوجته كالمفقود، وقيل: كالمنعي لها زوجها، قيل: وإن شهدت بينة بالطوع والأخرى بالإكراه، فبينة الإكراه أعمل لأنه علمت ما لم تعمل الأخرى.

وقوله: (وَيُوقَفُ مَالُهُ)، قال في المدونة: فإن مات مرتداً كان ماله للمسلمين وإن أسلم كان له. فرع: واختلف إذا تنصر، فقال ابن القاسم: يتفق على ولده من ماله، وقال أصبغ: لا ينفق عليه من ماله إذا تنصر طائعاً. وَمَفْقُودُ الْمُعْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِيَن تَعْتَدُّ زَوْجَتُهُ بَعْدَ انْفِصَالٍ الصَّفَّيْنِ، وَرُوِيَ: بَعْدَ التَّلَوُّمِ بِالاجْتِهَادِ، ورُوِيَ: بَعْدَ سَنَةٌ، ورُوِيَ: سَنَةٌ فِيهَا الْعِدَّةُ، وفِي قَسْمِ مَالِهِ أَوْ وَقْفِهِ قَوْلانِ، وِرُوِيَ: إِنْ كَانَ بَعِيداً فَكَالْمَفْقُودِ فَيُوقَفُ مَالُهُ ... المفقود على أربعة أقسام: مفقود في بلاد المسلمين وحكمه ما تقدم، ومفقود في أرض الشرك فكالأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يثبت موته، أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله في قول أصحابنا إلا أشهب فإنه حكم له بحكم المفقود في المال والزوجة، ومفقود في قتال المسلمين للكفار وسيأتي، ومفقود في الفتن الواقعة بين المسلمين، وكلام المصنف [416/أ] الآن فيه، وحكى فيه أربعة أقوال: الأول لمالك وابن القاسم: أن زوجته تعتد من يوم التقى الصفين، وكان أشباه ذلك في ما مضى يوم صفين والحرة. الثاني لأصبغ: يضرب لامرأته بقدر ما يستقصى أمره ويستبرأ خبره، وليس لذلك حد معلوم. ابن عبد السلام: وجعله المصنف خلافاً للأول، وجعله بعضهم تفسيراً له. الثالث لابن القاسم: تتربص زوجته سنة ثم تعتد. الرابع: أن العدة داخلة في السنة، قال في المقدمات: وهو الصواب لأنه إنما تلوم له مخافة أن يكون حياً، فإذا لم يوجد له خبر حمل على أنه قتل في المعترك.

وفي العتبية خامس بالقرب فيما قرب من الديار يتلوم الإمام لزوجته باجتهاد بعد انصراف من انصرف وانهزام من انهزم ثم تعتد وتتزوج، وما بعد مثل إفريقية ونحوها تمكث زوجته سنة فإذا خلت نظر الإمام في ذلك، وفرق بين القرب والبعد. وفي الموازية سادس: إن كان بعيداً حكمه كالمفقود تتربص أربعة أعوام. اللخمي: من قال إن العدة من يوم التقاء الصفين ورث ماله حينئذ، ومن جعل لزوجته التربص أربع سنين وقف ماله إلى التعمير، واختلف على القول أن زوجته تتربص سنة، فقيل يورث ماله ذلك الوقت، وقيل: يوقف ماله إلى التعمير، قال في المقدمات: وهذا الخلاف إنما هو إذا شهدت البينة العادلة أنه شهد المعترك، وأما إن كان رأوه خارجاً عن العسكر ولم يروه في المعترك فحكمه حكم المفقود في زوجته وماله باتفاق. وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ والْكُفَّارِ: ثَلاثَةٌ- كَالأَسِيرِ وَكَالْمَفْقُودِ، وَتَعْتَدُّ بَعْدَ سَنَةٍ بَعْدَ النَّظَرِ .... أي: ثلاثة أقوال، والقول بأنه كالأسير لمالك في العتبية، أي أن زوجته لا تتزوج ولا يقسم ماله حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله، والقول بأنه كالمفقود في ماله زوجته حكاه ابن المواز وعابه، أي لأنهم يأسرون المسلمين ولا يستطاع البحث عنهم كما في بلاد المسلمين. اللخمي: وروى عنه أشهب أنه قال فيمن فقد بين الصفين في أرض الإسلام أو في أرض الحرب تتربص زوجته سنة من يوم ينظر السلطان في أمره ثم تعتد، وهذا هو القول الثالث في كلام المصنف. وقوله: (بعد النظر)، يريد بعد الرفع، هكذا صرح به في المقدمات في هذه الرواية، وعمل أهل قرطبة بهذه الرواية الثالثة.

فرع: اللخمي وغيره: يحمل من فقد من بلد زمن الطاعون أو في بلد توجه إليه وفيه الطاعون على الموت، وذكر أصحاب مالك أن الناس أصابهم سنة بطريق مكة سعال، فكان الرجل لا يسعل إلا قليلا ثم يموت، ففقد ناس ممن خرج إلى الحج فلم يأت لهم خبر حياة ولا موت، فرأى مالك أن تقسم أموالهم ولا يضرب لهم أجل المفقود ولا غيره للذي بلغه من موت الناس من ذلك السعال، وكذلك الشأن في أهل البوادي في الشدائد ينتجعون من ديارهم إلى غيرها من البوادي ثم يفقدون أنهم على الموت، وقد علم ذلك من حالهم إذا توجهوا إلى البلد الذين يمضون إليه تبلغهم الضيعة والموت. ***

كتاب الرضاع

الرَّضَاع: شَرْطُ المُرْضِعُ أَنْ تَكُونَ آدَمِيَّةً أُنْثًى بِلَبَنٍ فَلَوْ كَانَ مَاءً غَيْرَ لَبَنٍ لَمْ يُعتَبَرْ يقال إرضاع ورضاع ورضاعة بفتح الراء وكسرها. الجوهري: ويقال رضع الصبي أمه يرضعها رضاعاً مثل سمع يسمع سماعاً، وأهل نجد يقولون رضع يرضع رضعاً مثل ضرب يضرب ضرباً. عياض: وارتفعت أمه وامرأة مرضع أي لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت مرضعة. وذكر أهل اللغة أنه لا يقال في بنات آدم لبن وإنما يقال فيهن لبان واللبن لسائر الحيوان غيرهن، وجاء في الحديث كثيراً خلاف قولهم. وشرط المصنف في المرضعة التي ينتشر التحريم برضاعها ثلاثة أوصاف: الأول: أن تكون آدمية، فلا يحرم لبن غيرها من سائر الحيوانات، ولا خلاف في ذلك. الثاني: أن تكون أنثى، فلا يعتبر لبن الذكر إذا در، وهذا هو المشهور لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء23] ولا يستحق وصف الأموية إلا الآدمية الأنثى. وقال ابن اللبان الفرضي: يقع بلبن الذكر الحرمة. اللخمي: وبه قال بعض شيوخنا. وقال ابن شعبان: وروى أهل البصرة عن مالك والشافعي أنهما كرها له نكاحها. ووجه القول بالتحريم أن الحرمة إذا حصلت باللبن الناشئ عن وطئه فلأن تحصل بلبانه من باب الأولى، والآية خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها. الثالث: أن يكون ذلك بلبن، فإن أرضعته بغيره لم يحرم. وفي كتاب ابن سحنون: لو حلب من ثدي المرأة ماء أصفر لم يحرم ما يحرم منه إلا ما كان غذاء يغني عن الطعام، ولا يقال كان ينبغي أن يستغنى بقول (آدَمِيَّةً) عن قوله (أُنْثًى) لاحتمال أن يكون المراد نفساً آدمية والنفس تطلق على الذكر والأنثى.

ويُعْتَبَرُ اللَّبَنُ وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ وَلَمْ تُوطَا يعني: إذا در للبكر لبن فإنه ينشر الحرمة لدخولها [416/ب] في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}. قال في الجلاب: وإذا أرضعت المرأة التي لم تلد أو العجوز التي قعدت عن الولادة صبياً فرضاعها يحرم. وَلَبَنُ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ عُلِمَ أي: ويعتبر لبن الميتة، والمشهور مذهب المدونة لدخولها تحت قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} والشاذ حكاه صاحب الجواهر وغيره. وذكر ابن بشير أن الشاذ مما جرى في المذاكرات وعلله بأن الحرمة لا تقع بغير المباح، فإن قيل: لم أوقعتم التحريم برضاع الميتة على المشهور وظاهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ ْ} يخرجها، لأن الميتة لا توصف بأنها أرضعت فجوابه أن الإرضاع خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وأيضاً فإنه منقوض بما لو حلب غيرها من ثديها كرهاً وأرضع به صبياً أو رضع منها الصبي وهي نائمة، قال في المدونة: وإذ حلب من ثدي المرأة في حياتها أو بعد وفاتها فوجر به صبي أو دَبَّ فرضعها وهي ميتة وعلم أن في ثديها لبان فالحرمة تقع بذلك، ولا يحل اللبن في ضروع الميتة. قيل: فلم أوقعتم الحرمة به؟ قيل: لأن من حلف ألا يشرب لبناً فشرب لبن الميتة أو لبناً ماتت فيه فأرة حنث إلا أن ينوي اللبن الحلال، ويحد من وطئ ميتة. وأخذ من هنا أن مذهبه نجاسته، وهو خلاف ما دل عليه ماله في كتاب الجنائز فيخرج من الكتب قولان. اللخمي: وإنما وقعت به الحرمة لأن تنجيسه لا يخرجه عن كونه غذاء.

وقوله (ويحد من وطئ الميتة) استدلال منه على الحرمة أي كما يجب الحد بوطء الميتة وكذلك يحرم لبنها. وقوله (ويحرم من وطء الميتة يريد ولا صداق لها) نص عليه محمد وغيره. قال في النكت: وإنما قالوا بالحد ولم يوجبوا لها صداقاً لأن الصداق من حقوق الآدميين فلما وجدناه لو قطع لها عضواً لا قصاص فيه ولا دية فكذلك هنا. وأما الحدود فمن حقوق الله تعالى فيجب عليه لعظم ما انتهكه، ولا إشكال في وجوبه إن كانت الموطوءة أجنبية على المعروف من المذهب كما سيأتي في باب الزنى إن شاء الله تعالى. واختلف في الزوجة هي يحد على قولين: عياض وإلى الإسقاط قال أكثرهم والمحقق منهم. قال في النكت: وعاب بعض شيوخنا وجوب الحد عليه، قال: ألا ترى أنه يغسلها مجردة وينظر إليها فأي شبهة أعظم من هذا؟ وقول المصنف (إِنْ عُلِمَ). ابن عبد السلام: لا يظهر له في كلام المصنف كبير فائدة بخلافه في المدونة. وَفِي لَبَنِ مَنْ نَقَصَتْ عَنْ سِنِّ الْمَحَيْضِ: قَوْلانِ يعني: أن لبن من لم تحمل على ضربين: إن كانت ممن تحيض حرم. ابن بشير: بلا خلاف. وقد قدم المصنف ذلك بقوله ويعتبر اللبن وإن لم تحمل ولم توطأ، وإن كانت ممن نقصت عن سن المحيض فقولان حكاهما المصنف تبعاً لابن بشير وابن شاس. وفي المدونة: وإذ درت بكر لا زوج لها أو يئست من المحيض فأرضعت صبياً فهي أم ولد. وفي الجلاب: وإذا حدث للصبية الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لبن فأرضعها صبي لم تقع به حرمة، وحملها اللخمي على الخلاف وهو ظاهر كلام ابن يونس وهو مقتضى ما نقله المصنف وابن بشير وابن شاس.

خليل: ولا يبعد أن يحمل ما في المدونة على ما إذا كانت في سن من يوطأ مثلها، ولا يكون ما الجلاب خلافا لما في المدونة والله أعلم. ولا يُعْتَبَرُ لَبَنُ الذَّكَرِ إِذَا دَرَّ عَلَى الْمَشْهُورِ هذه المسألة وقعت هنا في بعض النسخ، وقد تقدم الخلاف فيها فأغنى عن إعادتها. وَشَرْطُ الرَّضِيعِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجَاً لِلَّرضَاعَ، وَصَلَ اللَّبَنُ إِلَى جَوْفِهِ صِرْفاً أَوْ مَخْلُوطاً، وَفِي لَغْوِ المْغَلُوبِ بِالْمُخَالَطَةِ قَوْلانِ، لابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ .... قوله (محتاجاً) أي فلا يعتبر رضاع الكبير لما في الصحيحين وغيرهما: ((إنما الرضاع من المجامعة)). وفي الصحيح أيضاً من حديث سهلة قالت عائشة: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ((يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه، فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير)) وفي رواية أخرى: ((أرضعيه خمس رضعات تحرمي عليه)) وفي رواية أخرى: ((وأبي سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام أن يدخلن عليهن أحد بتلك الرضاعة)) وقلت لعائشة: ما نرى هذه إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، وأخذت عائشة بحديث سهلة وكانت إذا أحبت أن يدخل عليها أحد من الرجال تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر وبنات أخيها أن يرضعن من أحب دخوله. المازري: والجمهور حملوا الحديث على الخصوص. الباجي: وقد انعقد الإجماع على أن رضاع الكبير لا يحرم.

ابن المواز: ولو أخذ بحديث سهلة: ((أرضعيه خمس رضعات)) في الحجاب خاصة لم أعبه وتركه أحب إلي، ولا فرق في التحريم باللبن بين أن يصل صرفاً أو مخلوطاً كما [417/أ] قاله المصنف، وهذا إن لم يغلب اللبن بالمخالطة وأما إن كان مغلوباً فقال ابن القاسم: لا ينشر الحرمة وهو مذهب أبي حنيفة. وقال أشهب وابن الماجشون: يحرم وهو قول الشافعي، وهذا معنى قوله (وَفِي لَغْوِ المْغَلُوبِ بِالْمُخَالَطَةِ قَوْلانِ) لأن تقديره وفي لغو المغلوب بالمخالطة وعدم لغوه قولان لابن القاسم وابن الماجشون، فابن القاسم يلغيه وابن الماجشون لا يلغيه. وقوله: (كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ) الأول للأول والثاني للثاني، والأقرب قول عبد الملك إذ لو انفرد اللبن لحرم، وهو الذي رجحه ابن محمد السوسي واللخمي وغيرهما، ونظيرها إذا حلف ألا يأكل خلاً فأكل طعاماً فيه خلاً مستهلكاً، وهذا إنما هو إذا كان اللبن مخلوطاً بغير اللبن. وأما إن اختلط لبن امرأتين فقال مالك والشافعي: تحرم المرأتان معاً. وقال ابن يوسف: الحكم للغالب منهما. وأخذ عياض من المدونة التحريم من مسألة من حملت من زوج آخر أن اللبن يكون للزوجين. قال: وتردد بعضهم: هل يقول ابن القاسم بلغو المغلوب بلبن آخر كالطعام أم لا أو يفرق بين اللبن والطعام، انتهى. وحكى بعضهم الاتفاق على التحريم. وَالرَّضَاعُ وَالْوَجُورُ- قَلِيلُهُمَا وَكَثِيرُهُمَا وَلَوْ مَصَّةً- سَوَاءٌ (وَالْوَجُورُ) بفتح الواو ما يدخل في وسط الفم، وقيل ما يصب في وسط الحلق، وفعله وجر وأوجر واللدود ما صب تحت اللسان، وقيل ما صب في جانب الفم واللديدان جانبا الفم، يعني أنه لا فرق في التحريم بين الرضاع والوجور، ونبه بذلك على قول داود القائل بعدم التحريم إلا بما يرضع من الثدي. ومذهبنا أن المصة الواحدة كافية في التحريم لظاهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}.

وَفِي الْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ وَشِبْهِه يَصِلُ إِلَى الْجَوفَ ثَالِثُهَا يَخْتَصُّ السَّعُوطُ (الْحُقْنَةِ) معلومة، (وَالسَّعُوطِ) بفتح السين. قال الجوهري: هو الدواء يصب في الأنف. قوله (وَشِبْهِه) أي وشبه ذلك ولذلك ذكر الضمير، وأراد بالشبه الاكتحال والصب في الأذن. وحكي في الجميع ثلاثة أقوال وتصورها من كلامه ظاهر. أما الحقنة ففي المدونة: إن وصل إلى جوفه حتى يكون له غذاء حرم وإلا لم يحرم. ابن المواز: معناه حتى يكون غذاءً له لو لم يطعم ولم يسق فحينئذ يحرم وإلا فلا. وأطلق ابن حبيب التحريم بالحقنة. ابن يونس: وقول ابن القاسم أصح. وفي الجلاب أن الحقنة لا تحرم وأما السعوط ففي المدونة: يحرم إن وصل إلى جوفه، قال فيها: وكان عطاء الخراساني لا يحرم السعوط ولا الكحل باللبن. ابن يونس: وأطلق ابن حبيب التحريم به وقول ابن القاسم أصح، لأن الاعتبار في الرضاع ما يقع به الاغتذاء وهو إذا لم يصل إلى الجوف كان وصوله إلى الدماغ كجريانه في ظاهر البدن. وأما لعين فقال ابن حبيب: إن به اكتحل الصبي بكحل فيه لبن، فإن كان دواء ينفذ مثل المر والصبر والعنزروت وشبهه حرم، وإن كان مما يبقى في العين ولا يصل إلى الجوف كالإثمد وشبهه فلا يحرم. ابن يونس: وسواء عند ابن القاسم كان مما ينفذ أم لا فإنه لا يحرم، لأنه لا يكون منه غذاء وقد دخل من غير مدخل الطعام والشراب فلا يحرم حتى يكون للصبي غذاء كما قال في الحقنة. ابن رشد. وعلى هذا يجئ الجواب فيما صب من الأذن. ابن بشير: وإن استدخل اللبن من الإحليل فهو لا يصل إلى محل الطعام فلا تقع به حرمة، وكذلك إن عمل منه فتائل.

تنبيهات: الأول: جعل المصنف محل الخلاف إذا وصل من هذه المنافذ، ومفهومه أنه لو لم يصل لم يحرم. وقد قدمنا أن ابن حبيب قال بالتحريم في الحقنة والسعوط وإن لم يصل على ما ذكره ابن يونس، وكذلك ذكر الباجي واللخمي عنه. الثاني: مقتضى كلامه أن في المذهب قولاً بأن السعوط لا يحرم مع الوصول وذكره بعضهم. ابن عبد السلام: وأنكر عبد الوهاب أن يكون في المذهب من يقول إن السعوط لا ينشر الحرمة إذا علم وصوله على الجوف. الثالث: يشترط على مذهب المدونة في انتشار الحرمة بالحقنة ألا يكون اللبن مغلوباً، لأنه إذا اشترط ذلك فيما يصل من الفم فهنا أولى، قاله عياض وغيره. الرابع: ما ذكره من القول بالتفصيل هو مقتضى ما في الجلاب لأنه نص على أن السعوط يحرم ونص على أن الحقنة لا تحرم، وإذا لم تحرم الحقنة فالعين ونحوها أولى. الخامس: قال اللخمي: ومحمل قول ابن القاسم في المدونة من التحريم بالسعوط إن وصل يريد أن صوله مشكوك فيه، فقوله ذلك عبارة عن الوقوف وكأنه إنما تقع الحرمة إذا وصل ولا يدري هل وصل لأنه ليس بكثير فيحس بوصوله، ورده ابن بشير بأنه ليس بشك وإنما أحل الأمر فيه على تحقيق الوصول وعدمه. السادس: فإن قلت: لم اشترط ابن القاسم هنا في الحقنة أن تكون غذاء ولم يشترط ذلك في الصوم؟ قيل: إن المراعاة في الرضاع ما ينبت اللحم وينشر العظم ولا يشترط هذا في إفطار الصائم، بل ما [417/ب] يصل إلى محل الطعام والشراب. فَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةٍ قَريبَةٍ وَهُوَ مُسْتَمِرُّ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنْ فِصَالِهِ اعْتُبِرَ، وَفِي الْقَرِيبَةِ أَقْوَالٌ- أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ وَشَهْرٌ، وَشَهْرَانِ، وَثَلاثَةٌ لما قدم أن شرط المرضع أن يكون محتاجاً وأنه لا عبرة برضاع الكبير أخذ يذكر الزمان الذي تنشر الحرمة فيه، وذكر أن الرضاع إما أن يكون بعد الحولين أو فيهما، فإن

كان بعدهما بمدة قريبة وهو مستمر الرضاع أو بعد يومين من فصاله نشر الحرمة لأنه لو أعيد إلى اللبن لكان له غذاء وعشاء وهذا هو المشهور، وروي عن مالك أنه يعتبر الحولان من غير زيادة. وعلى المشهور فاختلف في حد القرب على خمسة أقوال حكاها اللخمي وغيره، قال في الحاوي: مثل نقصان الشهور وإليه ذهب سحنون. وقال في المختصر: الأيام اليسيرة. وقال ابن القصار: يحرم مثل الشهر، قال وليس بالقياس لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] يريد أن القياس لا يزاد على الحولين، وروى عنه عبد الملك أنه لا يزاد على الشهر ونحوه، وقال في المدونة: الشهر والشهرين. وروى عنه الوليد بن مسلم ثلاثة أشهر. اللخمي: وهو أحسن. ومحمل الآية في السنتين أنها كافية للمرضع ليس أنه لا منفعة فيما زاد لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام)) وهذا حديث صحيح ذكره الترمذي، فعلق التحريم بما كان قبل الفطام وقبل أن ينتقل غذاؤه من اللبن، وهذا لم يفطم واللبن قوام جسمه يشبع لوجوده ويجوع لعدمه، ولم يقع القول الأول في كل النسخ ووقع في نسخة ابن راشد وسقط في نسخة ابن عبد السلام. فَلَوْ كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، فَقَوْلانِ يعني: إذا فصل في الحولين فإن لم يستغن نشر الحرمة باتفاق، وإن استغنى فإما بمدة قريبة أو بعيدة، فإن كان بمدة بعيدة لم يعتبر وإن كان بمدة قريبة فقولان، المشهور وهو مذهب المدونة أنه لا يحرم، قال في الجواهر: إلا أن يكون زمن الرضاع قريباً من زمن الاستغناء. والثاني لمطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة يحرم إلى تمام الحولين. وقال بعض الشيوخ: إن كان الرضاع مصة أو مصتين لم يحرم، وإن أعيد إلى الرضاع وأسقط الطعام حرم، ولم يتعرضوا في هذا القسم إلى تحديد القريبة كالقسم الأول، ولعل لأنهما متقاربان.

وَيَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ والأصل فيه قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] وقوله عليه الصلاة والسلام: ((يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. والمحرمات بالنسب سبع: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. فالرضاع كالنسب فأمك كل من أرضعتك أو أرضعت بواسطة أو بغيرهما وأمهاتهما، وبنتك كل من أرضعتها زوجتك بلبنك أو أرضعتها ابنتك من نسب أو رضاع، وأخواتك كل من ولدت من أرضعتك أو ولد لفحلها فإن أتى من أمك وفحلها ولد فهو أخ شقيق من الرضاعة وإن ولد لأمك من غير ذلك الفحل فهو أخ لأمك وإن ولد لأبيك من غير أمك أماً من زوجة أخرى أو سرية فهو أخوك لأبيك، وأخوات الفحل عمات الرضيع وأخوات أم الرضيع خالات له، ولا يخفى عليك بنات الأخ وبنات الأخت. لكن استنثى العلماء من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ((يحرم الرضاع ما يحرم النسب)) مسائل يحرمن من النسب وقد لا يحرمن بالرضاع: الأولى: أم أخيك وأم أختك من النسب هي أمك أو زوجة أبيك وكلتاهما حرام، ولو أرضعت أجنبية أخاك لم تحرم. الثانية: أم نافلتك والنافلة ولد الولد مطلقاً ذكراً كان أو أنثى، لأنها إما بنتك أو زوجة ابنك وهما محرمان، وفي الرضاع قد لا تكون ابنتك ولا زوجة ابنك بأن ترضع أجنبية نافلتك. الثالثة: جدة ولدك من النسب إما أمك أو أم زوجتك وهما حرامان، وفي الرضاع قد لا تكون أماً ولا أم زوجة كما إذا أرضعت أجنبية ولدك فهي حلال لك وأمها وإن كانت جدة ولدك إذ ليست بأمك ولا أم زوجتك.

الرابعة: أخت ولدك في النسب حرام لأنها إما بنتك أو ربيبتك ولو أرضعت أجنبية ولدك فبنتها أخت ولدك فليست ببنت ولا ربيبة. الخامسة: يجوز للرجل أن يتزوج أم عمه وعمته من الرضاع بخلاف النسب. السادسة: يجوز للرجل أن يتزوج أم خاله وخالته من الرضاع بخلاف النسب. فَيُقَدَّرُ الطِّفْلُ خَاصَّةً وَلَداً لِصَاحِبَةِ اللَّبَنِ، وَصَاحِبِهِ إِنْ كَانَ- فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخُوهُ نَسَباً أُخْتَه وَأُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ .... يعني: أن الحرمة إنما تنتشر بين الرضيع ومن تقدم خاصة دون أحد من قرابته، وقال (وصاحبه إن كان) لأنه قد تقدم أن البكر إذا درت على صبي ورضعها أن الحرمة تنتشر بذلك. ابن عبد السلام: وانظر إذا كانت البكر معقودة النكاح ولم يدخل بها زوجها هل تنتشر الحرمة بين [418/أ] الرضيع والزوج؟ خليل: والمذهب في هذا أنه لا يعتبر وسيذكره المصنف في الفرع الذي يلي هذا، ولأجل أن التحريم إنما يعتبر بين الرضيع وأبويه لا في أحد من قرابته جاز لأخيه من النسب أن يتزوج الطفلة التي رضع معها أخوه والأم التي أرضعت أخاه لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع، وكذلك يجوز لصاحب اللبن أن يتزوج أخت ابن من الرضاعة. واعلم أن أخت الأخ قد لا تحرم من النسب كما لا تحرم من الرضاع، وصورتها أن يكون لك أخ من أب وأخت من أم فيجوز لأخيك من الأب نكاح أختك من الأم. وَيُعْتَبَرُ صَاحِبُهُ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ ويعني: أن الحكم فيما بين الرضيع والمرضعة ظاهر، وأما فيما بينه وبين الفحل فإنما يعتبر من حين وطئه. وقوله (مِنْ حِينِ الْوَطْءِ) يدل على أنه لا يعتبر اللبن فيما بين الفحل وبين الرضيع في الفرع الذي جعله ابن عبد السلام محل نظر وهو مقتضى كلام اللخمي

وابن رشد وابن بشير وابن شاس، وبذبك صرح صاحب النكت، قال: إنما يكون له اللبن إذا دخل وأما قبل بنائه فلا. وقد صرح ابن راشد بالاتفاق على ذلك فقال: إذا تزوج الرجل امرأة لا لبن لها ثم درت فرضعها طفل فإن لم يكن وطئها قبل رضاعه لم يكن أباً، وإن كان وطئها فهو له ولد، ولو لاعب أو قبل أو باشر أو وطئ ولم ينزل فدرت لم يكن بذلك أباً بلا خلاف. فَإِنْ كَانَ مِنْ وَطْءٍ يُحَدُّ فِيهِ فَقَوْلانِ يعني: فإن كان اللبن نشأ عن وطء يحد فيه فهل ينشر الحرمة بين الرضيعة والفحل؟ قولان. وأما بين الرضيعة والمرضعة فإنه ينشر الحرمة على كل حال، والقولان حكاهما ابن حبيب عن مالك. ونص ما نقله ابن يونس عنه، قال ابن حبيب: اللبن في وطء صحيح أو فاسد أو حرام أو زنا تقع به الحرمة من قبل الرجل والمرأة، وكما لا تحل له ابنته من الزنا فكذلك لا تحل له من أرضعتها المزني بها من ذلك الوطء، لأن اللبن لبنه والولد ولده وإن لم يلحق به الولد. وقد كان مالك يرى أن كل وطء لا يلحق فيه فلا يحرم لبنه من قبل فحله، ثم رجع إلى أنه يحرم وهو أصح وقاله أئمة من العلماء، وبالتحريم قال سحنون وغيره وهو ظاهر من المذهب، قاله ابن عبد السلام. قال: وأجرى غير واحد القولين على القولين في المخلوقة من ماء الزاني هل يحل له نكاحها أم لا؟ وهو مناسب لولا أن ابن المواز منع الزاني من نكاح المخلوقة من مائه وكره له نكاح هذه، وإن وقع لم يحكم بفراقها. قالوا: وأما إن تزوج من لا يحل له نكاحها جاهلاً فلحق به الولد فإنه يحرم الرضاع من جهة الفحل كالنكاح في العدة، وكذلك إن كان عالماً على القول بأنه لا حد عليه.

وَالْمَنْكُوحَةُ إِذَا وُطِئَتْ بِاشْتِبَاهٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ مُحْتَمَلٍ فَلَبَنُهَا لِمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْوَلَدُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُمَا ..... مثاله لو وطئ السيدان الأمة في طهر واحد وألحقته القافة بأحدهما فعلى المشهور إنما تنتشر الحرمة بين الولد وبين من لحق به، وعلى قول محمد تنتشر الحرمة بين الرضيع والواطئين وإن كان الولد إنما يلحق بأحدهما، لأن اللبن ليس هو مبنياً على لحوق الولد بدليل التحريم على ظاهر المذهب في الفرع السابق وإن كان الولد فيه غير لاحق، ومثاله أيضاً في النكاح لو نكحت المعتدة وأتت بولد محتمل لهما. وَلَبَنُ الدَّارَّةِ لِصَاحِبِهِ إِلا أَنْ يَنْقَطِعَ وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَقِيلَ: إِلى أَنْ تَلِدَ وقيل: وَإِلى أَنْ تَحْمِلَ، وَقِيلَ: إِلى أَنْ يَطَأَهَا زَوْجٌ ثَانٍ .... يعني: أن لبن المرأة منسوب لواطئها عند ابتداء وجود اللبن، ولا إشكال في ذلك إذا لم تزل في عصمته أو رقه، وإن فارق الزوجة وتزوجت غيره فأربعة أقوال: الأول أنه محكوم به للأول إلى أن ينقطع، وهو مذهب المدونة لقوله: وإذا تزوجت المرضع المطلقة فحملت ثم أرضعت صبياً فإنه لبن للزوج الأول. والثاني إن كان لبن الأول لم ينقطع لكن لم يقل فيها ولو بعد سنين كثيرة كالمصنف، ولم أر ذلك مصرحاً في الروايات لكن هو ظاهر المدونة والموازية، وتبع المصنف ابن شاس فإنه قال: ولو بعد عشر سنين. والقول بأنه ينقطع بالولادة في مختصر الوقار، ورواه ابن نافع، وحكى ابن المنذر أن عليه إجماع العلماء، والقول بأنه ينقطع بالحمل ذكره ابن بشير وابن شاس ولم يعزواه، والقول بأنه ينقطع بوطء الثاني لابن وهب، ولسحنون خامس: أن اللبن محكوم به للأول إلى أن تمضي خمسة أعوام أقصى مدة الحمل من فراق الأول، أما لو انقطع اللبن لسقط حكم الأول.

اللخمي: إلا أن ينقطع ثم يعود فيكون الحكم فيه للثاني إن عاود الإصابة. قال: وإن أصاب الرجل زوجته وهي ذات لبن من غيره ثم أمسك عنها أو غاب وطالت غيبته أو مات وعاد اللبن إلى ما كان عليه سقط حكم الوطء. وَحَيْثُ لَمْ يُحْكَمْ بِانْقِطَاعِهِ فَالْوَلَدُ لَهُمَا لأَنَّ الْوَطْءَ يُدِرَّ اللَّبَنَ يعني: إذا لم يحكم بانقطاعه فالولد محكوم له بأنه ابن للأول والثاني من الرضاع، لأن هذا اللبن لهما، إذ أصله من الأول وتكثيره من الثاني، لأن وطئه يدر اللبن. وَالْغَيْلَةُ: وَطْءُ الْمُرضِعِ، وَقِيلَ: إِرْضَاعُ الْحَامِلِ الأكثر على [418/ب] ضبط هذه اللفظة بكسر الغين. عياض: ولا تفتح إلا مع حذف الهاء وأصله من الضرر، وقيل: من الزيادة. وقيدها بعض شيوخنا بفتح الغين في غير المدونة وكذلك عبد الحق في المدونة، والقول الأول هو مذهب الموطأ والمدونة وهو قول الأصمعي. وقوله: (وَطْءُ الْمُرضِعِ) ابن حبيب: وإن لم ينزل. وقال أبو عمران: إنما الغيلة الوطء مع الإنزال، والقول الثاني ذكره في المدونة أيضاً وهو قول الأخفش، والأول هو الظاهر، لأن المشاهدة تدل على أن إرضاع الحامل مضر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نفى عن الغيلة الضرر. ففي الموطأ وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((لقد هممت أن أنهى الناس عن الغيلة حتى ذكرت أن فارساً والروم يصنعون ذلك، فلا يضر ذلك أولادهم)). وَمَنْ أَرْضَعَتْ طِفْلاً كَانَ زَوْجَهَا حَرُمَتْ عَلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ، لأَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ هذا الفرع وقع لابن القاسم في العتبية، ومعناه إذا عقد أبو الرضيع له على امرأة ثم خالع له وتزوجت غيره وحدث لها لبن فأرضعت به الطفل الذي كان زوجها، فصار هذا الطفل ولداً لها ولزوجها الثاني فتحرم على زوجها، لأنها حليلة ابنه، إذ لا يشترط في

حليلة الابن دوام الوصف بدليل أن الابن لو تزوج امرأة فمات عنها أو طلقها لم يجز لأبيه أن يتزوجها، لأنها من حلائل أبنائه. وَمَنْ أَبَانَ صَغِيَرًة حَرُمَتْ عَلَيْهِ مَنْ تُرْضِعُها، لأَنَّها أُمُّ زَوْجَتِهِ وَعَكْسُهُ بِنْتُ زَوْجُتِهِ وَلا يُنْظَرُ للتَّارِيخِ فِي مِثْلِهِ .... يعني: إذا تزوج رضيعة ثم طلقها فأرضعتها امرأة حرمت عليه تلك المرأة، لأنها أم زوجته، ولو أبان امرأة لها لبن فأرضعت صبية حرمت عليه تلك الصبية، لأنها بنت زوجته، وهذا معنى قوله: (وَعَكْسُهُ .... إلخ). ابن راشد قال: ولا ينظر إلى التاريخ في مثله ليعم هذا الفرع والفرعين قبله وما في معناهما أنه لا ينظر إلى أن تكون المرضعة في حالة الرضاع زوجته، بل ولو بانت. وَمَنْ تَزَوَّجَ رضيعتين أَوْ أَكْثَرَ فَأَرْضَعَتْهُمُ امْرَأَةٌ اخْتَارَ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتِ الأَخِيرَةَ اختار واحدة لأنهما صارتا أختين. قال في المدونة: ولا يفسد نكاحها كما يفسد عند من تزوج الأختين في عقد واحد لفساد العقد فيهما وصحته في هاتين، وهذا هو المشهور. وقال ابن بكير: لا يجوز أن يختار واحدة، ورأى ذلك بمنزلة من تزوج الأختين في عقدة واحدة. تنبيه: لمرضعة الصغيرتين ثلاث صور: الأولى: أن تكون المرضعة أجنبية وحكمها ما تقدم. الثانية: أن تكون أماً للزوج أو أختاً أو نحو ذلك فلا يجوز له أن يتمسك بواحدة منهما بالاتفاق لصيرورتهن أخوات أو بنات أخوات. الثالثة: أن تكون المرضعة أيضاً زوجة له وإليها أشار بقوله:

فَلَوْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ زَوْجَتَهُ وَلَمْ يَبْنِ بِهَا حَرُمَتْ مَعَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَنَى حَرُمَ الْجَمِيعُ .... حرمت الكبيرة للأبد بالعقد على ابنتها. وقوله: (مَعَ ذَلِكَ) أي مع تحريم إحدى الرضيعتين وإن بنى بالكبيرة حرم الجميع، أما الكبيرة فللعقد على بناتها، وأما الصغيرتان فلأنهما بنتان لزوجة مدخولاً بها. وَتُؤَدَّبُ الْمُتَعَمِّدَةُ للِإفْسَادِ وَلا غُرْمَ عَلَيْهَا نحوه في المدونة، يعني أن الكبيرة التي أرضعتهن سواء كانت زوجة أو أجنبية إن لم تكن معتمدة للرضاع فلا أدب عليها، وإن كانت متعمدة أدبت لإفسادها عصمة أو أكثر على الزوج. ابن عبد السلام: وهذا بين إن كانت عالمة بالحكم وفي الجاهلة نظر. قوله: (وَلا غُرْمَ عَلَيْهَا) لأن الزوج لا غرم عليه وهذا على المشهور، أما على قول ابن حبيب ومحمد فلا. وقد تقدم الكلام على ذلك كله عندما تكلم المصنف على هذه المسألة في فصل إسلام المجوسي، وتقدم أيضاً عن ابن القابسي أن الفسخ على قول ابن القاسم فسخ بغير طلاق. وَإِذَا اتَّفَقَ الَّزْوَجانِ عَلَى الرَّضَاعِ فُسِخَ وَلا صَدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْمُسَمَّى بَعْدَهُ يعني: إذا تزوج امرأة ثم اتفق هو وإياها على أنها أخته من الرضاع، فإن كان ذلك قبل بنائه بها فسخ ولم يكن لها شيء كسائر الفسوخات، وإن كان بعد البناء فسخ أيضاً وكان لها المسمى لها بما استحل من فرجها. والذي نص عليه ابن الكاتب وغير واحد أنه إنما لها بعد البناء ربع دينار كالتي غرت من نفسها وتزوجت في العدة ورجع عليها بالصداق إلا بالربع، زاد عبد الحق إلا أن

تعذر بسبب ما مما يسقط كونها غارة فلا يرجع عليها بشيء. وقال اللخمي: أو يكون الزوج عالماً فيكون لها الصداق إذا وقع الدخول. وحمل ابن عبد السلام قول المصنف: (ولَهَا وَالْمُسَمَّى بَعْدَهُ) على ما إذا لم تكن عالمة، قالوا: أما إن كانت عالمة حين العقد فيسقط جميع المسمى إلا ربع دينار إن لم يكن الزوج حين العقد والدخول عالماً وكانت كالغارة، قالوا: ولها ربع دينار، وعلى هذا فيحمل كلام ابن الكاتب وغيره على ما إذا كانت عالمة حين العقد، وكلام المصنف على ما إذا لم تكن عالمة. وَإِنِ ادَّعَاهُ فَأَنْكَرَتْ أَخَذَ بِإِقْرَارِه، وَلَهَا نِصْفُهُ (أَخَذَ بِإِقْرَارِه) أي يفرق بينهما لإقراره بذلك كالطلاق، فلذلك كان لها نصفه إن كان إقراره بذلك قبل البناء، وجميعه إن كان ذلك بعده. فَإِنِ ادَّعَتْ فَأَنْكَرَهُ لَمْ يَنْدَفِعْ وَلا تَقْدِرُ عَلَى طَلَبِ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ يعني: وإن ادعت المرأة أنهما أخوان من الرضاع وأنكر ذلك الزوج [419/أ] لم يسمع منها ذلك، لأنه تتهم على فسخ النكاح فلا يفسخ، وهو معنى قوله: (لَمْ يَنْدَفِعْ وَلا تَقْدِرُ عَلَى طَلَبِ الْمَهْرِ) ولا شيء منه قبل البناء لإقرارها بفساد العقد. فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِمَا قَبْلَ الْعَقْدِ حُكِمَ عَلَيْهِمَا هكذا في المدونة. ولا فرق بين أن يدعي ذلك أحد الزوجين أو لا يدعيه، وقامت البينة على وجه الاحتساب، ولا إشكال إن قامت البينة على إقرار الرجل لأن إقراره بعد العقد كافٍ في وجوب التفرقة، فأحرى هنا، ولهذا سقط الصادق عنه هنا مع قيام البينة بخلاف ما لو تقم، وأما إن قامت على إقراره المرأة فيجب قبول قولها، لأن المانع من قبوله مفقودة وهو تهمتها على فسخ النكاح.

وَإِقْرَارُ الأَبَوَيْنِ قَبْلَ النِّكَاحِ كَإِقْرَارِهِمَا، وَلا يُقْبَلُ بَعْدَهُ يعني: أن إقرار مجموع أبوي الزوجين كإقرار الزوجين، وسيتكلم على ما إذا أقر أحد الأبوين. وقوله: (كَإِقْرَارِهِمَا)، أي ويفسخ النكاح. ابن حبيب: وعلى هذا اجتمع مالك وأصحابه، فأما بعد الدخول فلا يقبل إلا أنه يتنزه عنها. وَيَثْبُتُ الرَّضَاعُ بشاهدين أو بامرأتين إِنْ كَانَ فَاشِياً مِنْ قَوْلِهِمَا قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِلا لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْمَشْهُورِ .... يعني: ويثبت الرضاع بشاهدين ولا خلاف في ذلك، وبامرأتين، لأن هذا من الأمور التي لا يطلع عليها غالباً إلا النساء. ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنه متفق على ذلك. وقد صرح بذلك غير واحد. ونقل بعضهم عن ابن الجهم أنه لا يقبل في ذلك إلا أربع نسوة. وقوله: (إِنْ كَانَ فَاشِياً مِنْ قَوْلِهِمَا) عائد على المرأتين فقط، وأما الرجلان فلا يشترط فيهما ذلك. قوله: (وَإِلا) أي وإن لم يكن فاشياً لم يقبل قولهما على المشهور. والمشهور مذهب المدونة، والشاذ لمطرف وابن وهب وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ. اللخمي: وهو أبين. وقد يكون سكوتهما، لأنه لم يحتج إلى شهادتهما، فلو توجه الأداء عليهما لشهدتا إلا أن ينعقد النكاح بحضرتهما ولم ينكرا. وقال غيره: الأول أصح، لأن من شأن النساء التحدث بمثل ذلك، فإن لم يسمع ذلك منهما إلا بعد العقد كان ذلك تهمة توجب رد شهادتهما.

وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُمَا أي: يشترط الفشو على المشهور. واختلف الشيوخ هل يشترط العدالة مع الفشو، أو إنما تشترط مع عدم الفشو على مذهبين، وإلى الثاني ذهب صاحب البيان، والأول مقتضى كلام اللخمي. ابن عبد السلام: وهو ظاهر إطلاقاتهم. وَفِي الْوَاحِدَةِ فَاشِياً مِنْ قَوْلِهِما، قَوْلانِ المشهور عدم القبول، ويستحب التنزه وهو مذهب المدونة، والقول بالقبول أيضاً لمالك، ورأى أيضاً أن الفشو يقوم مقام شاهد آخر. وَفْي انْفِرَادِ أُمِّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَبِيِهِ إِذَا لَمْ يَتَوَلَّ الْعَقْدَ، قَوْلانِ تصور كلامه ظاهر، ومراده إذا أقر بذلك قبل العقد وإلا فقد تقدم أنه لا يقبل إقرارهما معاً بعده. وما ذكره المصنف نحوه في ابن بشير وابن شاس، قالا: واختلف في أم الزوج أو الزوجة هل هي كالأجنبية في هذا أو أرفع فتقع الفرقة بقولها، لأنه لا يعرف إلا بقولها ولنفي التهمة. وكذلك اختلف في أب الزوجة أو الزوج هل هو كالأجنبي؟ وذلك إذا لم يكن هو متولٍ عقد النكاح، فإن كان متوليه كان كالزوج أو الزوجة، وإذا أخبر ثم تولاه فسخ، فإن لم يفسخ حتى كبر الولد وصار الحكم إليه فهل يفسخ نظراً إلى توليه أو لا يفسخ ويكون شاهداً نظراً إلى الحال؟ فيه خلاف. ومذهب المدونة التفرقة بين إقرار الأب والأم، ففيها: وإذا قال الأب رضع فلان أو فلانة مع ابني الصغير أو مع ابنتي، ثم قال: أردت الاعتذار، لم يقبل منه، وإن تناكحا فرق السلطان بينهما. وفيها: وإن قالت الأم لرجل: أرضعتك مع ابنتي، ثم قالت: كنت كاذبة أو معتذرة، لم يقبل قولها الثاني، ولا أحب له أن يتزوجها.

أبو محمد: فإن تزوجها لم يفرق القاضي بينهما، فانظر كيف فرق بين إقرار الأب وإقرار الأم. ونقل ابن حبيب عن مالك عدم التفرقة فقال ما نقله اللخمي عنه، قال مالك وأصحابه: إذا قالت ذلك في ابنتها أو ابنها أو قاله الأب في ولده أن التفرق تقع بينهما بذلك، ويحكم بالفراق إذا قالوه قبل النكاح. وقال الشيخ أبو إسحاق: الأقرب ما في المدونة إلا أن تكون الأم وصية، أي لأنها تصير كأنها العاقدة للنكاح فكانت كالأب. عياض: وقيل: لا فرق بين أن تكون وصية أو غيرها بخلاف الأب. قال في النكت: وينبغي أن يلحق الوصي بالأب، لأن عقد النكاح إليه فهو كالأب. عياض: واختلف إذا فسخ نكاحهما بقول الأب، ثم كبر الابن ورشد هل ذلك القضاء تحريم وكالحكم بصحة رضاعهما، وهو قول غير واحد، وإنما هو حل للعقد لاعتراف عاقده وهو الأب بفساده ولا يسرى ذلك إلى تحريم النكاح فيها بعد إذا لم يثبت. قال في النكت: ولو كان الأب إنما قال ذلك في ابنته الثيب أو ابنه الكبير لم يقبل ذلك لا يعقد عليها كرهاً، ولو قال ذلك في صغر الابنة، ثم كبرت وصارت ثيباً فنكحته أمر الزوج بالفراق ولا يقضى عليه به. ابن عبد السلام: وقال بعضهم فيما إذا قال ذلك في صغر الابن أو البنت ثم كبرا فنكحا قولين: أحدهما: أنه يقضى عليه بالفراق، والثاني: أنهما يؤمران به من غير جبر. قال: وقد قيل [419/ب] أيضاً يدخل فيه قولان إذا كان كبيرين وإن لم يتقدم له قول في حال صغرهما. وَيُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ وَلَوْ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَمْ يَفْشُ مِنْ قَوْلِهَا يعني: أنه حيث لم توجب الشهادة الحكم بالتفرقة، إما لأنه قول رجل أو امرأة أو امرأتين ولم يفش من قولهما، أو أم أحد الزوجين على القول بعدم إيجاب الفراق بذلك،

فيستحب التنزه ولو كانت الشهادة أضعف الشهادات وهي شهادة الأجنبية التي لم يفش ذلك من قولها، لأن الصداق ممكن ولا ينبغي لشخص أن يقدم إلا على فرج مقطوع بحليته، وفي الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج بنتاً لأبي إهاب فجاءت أمة سوداء وقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: ((كيف وقد زعمت)) وفي رواية: ((دعها عنك)) ففارقها ونكحت زوجاً غيره. وقوله: ((دعها)) ظاهر في وجوب التفرقة لكن قوله: ((كيف وقد زعمت)) ظاهر في حمل ذلك على الاستحباب. وَيُعْتَبَرُ رَضَاعُ الْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ يعني: كالنسب، فكما أن النسب لا يرتفع بالإسلام فكذلك الرضاع ولا خلاف فيه. ***

النفقات

النَّفَقَاتُ: وهِيَ بِنِكَاحٍ وَقَراَبٍة ومِلْكٍ يعني: أن أسباب وجوب النفقة ثلاثة وبقي رابع وهو الالتزام، وسكت عنه لكونه إنما أراد ما تجب به في أصل الشرع. فَتَجِبُ فِي النَّكَاحِ بِالدُّخُولِ أَوْ بِأَنْ يُبْتَغَي مِنْهُ الدُّخُولُ ولَيْسَ أَحَدُهُمَا مَرِيضاً مَرَضَ السِّيَاقِ، وِبمِا يَجِبُ به الصَّدَاقُ .... الأصل في الوجوب ما في الصحيحين من حديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي وَلَدَكِ)). وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غَنِيٌّ، وِالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَا بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الْوَلَدُ: أَطْعِمْنِى إِلَى مَنْ تَدَعُنِي)) قالوا: يا أبا هريرة هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة، وقال: النسائي في هذا الحديث: ((ابدأ بمن تعول))، فقيل: فمن أعول يا رسول الله، قال: ((امرأتك تقول أطعمنى أو فارقني، وخادمك تقول: أطعمني واستعملني، وولدك يقول: إلى من تركتني)). وقوله: (أَوْ بِأَنْ يُبْتَغَي مِنْهُ الدُّخُولُ) يعني أن النفقة تجب بأحد وجهين: إما بالدخول، وإما بأن يدعى إلى الدخول، وكل واحد منهما صحيح أو مريض مرضاً لا يبلغ حد السياق.

واعلم أن المرض على ثلاثة أقسام: إن كانت مريضة يمكن منها الاستمتاع وجبت لها النفقة، وإن بلغت حد السياق لم تجب، وإن لم تبلغ حد السياق ولم يمكن منها الاستمتاع فمذهب المدونة الوجوب، ومذهب سحنون في السليمانية عدمه كالصغيرة. اللخمي: وهو أحسن وهو المفهوم من قول مالك. وكلام المصنف جارٍ على مذهب المدونة، لأن قوله: وليس أحدهما مريضاً مرض السياق، يقتضي أن أحدهما إن كان مريضاً مرض السياق لا نفقة عليه، ويقتضي أن ما دون ذلك لا يمنع النفقة. ابن عبد السلام: وأنكر بعض المتأخرين عن اللخمي حكاية الخلاف في القسم الثالث. وقد ذكر ابن حارث الخلاف كما ذكره اللخمي، وليس قوله: وبما يجب به الصداق سبباً ثالثاً لوجوب نفقة الزوجة وإنما هو من تمام السبب الثاني، إذ لا يكفي الدعاء إلى الدخول مع السلامة من المرض، بل حتى يكون الزوج بالغاً على المشهور ومطيقاً للوطء على الشاذ وأن تكون هي مطيقة للوطء. وفهم من كلام المصنف أن النفقة لا تجب بمجرد العقد وهو المشهور، وفهم جماعة من كتاب الزكاة الثاني من المدونة وجوب نفقة الزوجة بعقد النكاح وجعلوه خلافاً لما في النكاح. وحكى صاحب الطرر وغيره عن سحنون التفرقة بين ذات الأب واليتيمة، فتجب لليتيمة بالعقد دون ذات الأب. وَتُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ، والْبَلَدِ والسِّعْرِ اتِّفَاقاً يعني: أن الاعتبار في النفقة بحال الزوج والزوجة في العسر واليسر وكذلك أيضاً يعتبر البلد والسعر، إذ ليس بلد الجدب كبلد الخصب وليس زمان الرخاء كزمان الغلاء فإن الناس يقنعون بالقليل في زمن الغلاء بخلاف الرخص، وقد يقال: الاتفاق الذي

حكاه المصنف منقوض بما سيأتي لابن القاسم أنه لا يلزم الحرير مطلقاً وإن كان عادتهم فانظره، إلا أن يقال: كلامه هنا إنما هو بالنسبة إلى النفقة. وإِنْ وَقَعَ خِلافٌ فَلِتَغَيُّرِهِ يعني: أن ما وقع في المذهب من الخلاف في قدر النفقة وشبه ذلك فإنما هو لتغير حال البلد أو السعر. وفي بعض النسخ (فلغيره) وليست بجيدة، لأنه ليس الخلاف لغير المذكور بل لما ذكر. ويحتمل ضمير فلتغيره أن يعود على المتقدم، ويحتمل عوده على البلد، ألا ترى قوله: (وَقَدَّرَ مَالِكٌ .... إلخ). ابن راشد: ويحتمل أن يعود على الحال، أي ليس في المذهب خلاف في اعتبار حال الزوج والزوجة. ويحتمل أن يعود على السعر وهو عندي أصوب، لقوله: (وَقَدَّرَ مَالِكٌ الْمُدَّ [420/أ] في اليوم ... إلخ) قال: ولكن ما ذكره من اعتبار حال الزوج يشكل بالمرأة الأكولة جداً فإن الواجب عليه أن يشبعها أو يفارقها، فإذا كانت المرأة تأكل ربية وحاله مداً ومدين فأين اعتبار حاله. وإنما ذكر ما هو الغالب، أما لو استأجر أجيراً بطعامه فظهر أكولاً ففي المبسوط له أن يفسخ الإجارة، لأنه كعيب وجده إلا أن يرضى الأجير بطعام وسط فليس عليه أن يجبره على ذلك، لئلا يضر به. بعض الأصحاب: ويحتمل أن يعطيه طعاماً وسطاً كمن استؤجر على حمل رجلين لم يرهما فأوتي بهما عظيمين فلا يلزمه حملهما ويأتي بالوسط وفيه نظر، لأن المحمول لا يتعين فلذلك ألزم فيه بالوسط. وَقَدَّرَ مَالِكٌ الْمُدَّ فِي الْيَوْمَيْنِ، وقَدَّرَ ابْنُ الْقَاسِمِ ويتبين ونِصْفاً فِي الشَّهْر إِلَى ثَلاثَةٍ، لأَنَّ مَالِكاً بِالمْدَيِنَةِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ بِمِصْرَ، وقَالَ: إِنْ أَكَلَ النَّاسُ الشَّعِيَر أَكلَتْهُ ..... هذا تمثيل للخلاف الواقع لاختلاف البلد أو السعر، والمراد بالمد هنا المد الهشامي وهو منسوب إلى هشام بن إسماعيل المخزومي وكان أميراً بالمدينة في خلافة هشام بن

عبد الملك، كانت المرأة تأتيه ليفرض لها النفقة فكان يستقل أن يفرض لها بالمد الأصغر فرأى الزيادة عليه فزاد ثم زاد، ثم جمعه وجعله مداً، وتبعه على ذلك حكام المدينة وبلغ ذلك مالكاً فاستحسنه لما كان هو غالب أقواتهم. ابن حبيب وغيره: وفي الويبة اثنان وعشرون مداً بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (لأَنَّ مَالِكاً ... إلخ) بيان للوجه الذي قاله كل منهما لتوسع أهل مصر واقتصار أهل المدينة على القليل. وقوله: (وَلَوْ أَكَلَ النَّاسُ الشَّعِيَر ... إلخ) تصوره ظاهر. وَأَمْرُ الإِدَامِ كَذَلِكَ، ولا يُفْرَضُ مِثْلُ الْعَسَل، والسَّمْنِ، والْحَالُومِ، والْفَاكِهَةِ، ويُفْرَضُ الْخَلُّ، والزَّيْتُ، والْحَطُب، والْمَاءُ، والْمِلْحُ، واللَّحْمُ المْرَةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، قَالَ: ولَيْسَ الْمُرْضِعُ كَغَيْرِهَا فَتُزَادَ مَا تَتَقَوَّى بِهِ ..... كذلك: أي فيعتبر بحال الرجل والمرأة والسعر والبلد. ابن حبيب: ولا يفرض لها فاكهة ولا عسل ولا جبن ولا طير ونحوه، نقله اللخمي عن محمد إلا أنه لم ينص على عدم فرض الفاكهة. قال: وقول ابن حبيب: لا ترفض فاكهة، يحسن في المتوسط لا في ذي اليسار. وزاد ابن شاس عنه بعد قوله: ولا فاكهة لا خضراء ولا يابسة ولا القطنية ولا ما أشبه ذلك، ويفرض الخل والزيت للأكل والوقيد والماء للشرب والغسل والوضوء. وقوله: (واللَّحْمُ المْرَةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ) قالوا: ولا يفرض كل يوم. وقوله: (ولَيْسَ الْمُرْضِعُ كَغَيْرِهَا) أي فتزداد بحسب الحال. فرعان: الأول: لو أراد الرجل أن تأكل معه المرأة ولم ترض المرأة إلا بالفرض فالقول قولها، نص عليه غير واحد. وكذلك أيضاً تضم نفقة بنيه الأصاغر إلى نفقتها إلا أن يكون مقلاً

فلا تضم نفقتهم معها، وينفق على ولده بقدر طاقته وإلا فهم من فقراء المسلمين، ولا يفرق بينهم وبين أمهم وجد ما ينفق عليهم أم لا، قاله المتيطي. الثاني: لو مرضت المرأة فقل أكلها أو خرجت قليلة الأكل وطلبت قوتاً كاملاً فهل يقضى لها به أم لا يقضى لها إلا بكفايتها؟ أبو عمران: يقضى بالوسط وتصرف الباقي فيما أحبت، وتردد في ذلك ابن سهل، وقال المتيطي: الصواب عندي أنه لا يكون لها إلا ما تقدر عليه من الأكل وذلك أحق في المريضة من الصحيحة، إذ النفقة في مقابلة الاستمتاع. ابن راشد: وليس لمالك فيها نص. وأَمْرُ الْكِسْوَةِ كَذَلِكَ أي: فيرجع أيضاً في جنسها، وقدرها إلى حالها وحاله في النفقة، ويعتبر أيضاً الزمان والمكان. مِمَّا يَصْلُحُ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ مِنْ قَمِيصٍ، وجُبَّةٍ، وخِمَارٍ، ومِقْنَعَةٍ، وإِزَارٍ، وشِبْهِهِ مِمَّا لا غَنَاَء عَنْهُ، وغِطَاءٍ، ووِطَاءٍ، وَوِسَادَةٍ، وسَرِيرٍ، إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِعَقَارِيبَ أَوْ بَرَاغِيثَ أَوْ فِئْرَانٍ .... تصوره واضح. وذكر ابن حبيب أكثر مما قاله المصنف على حسب ما اقتضته بلاده كالفرو واللفافة. وقوله: (وإِزَارٍ) يحتمل أن يريد به ما تشده في وسطها، ويحتمل أن يريد بها ما تتأزر به في خروجها فيؤخذ من كلامه أنه يفرض عليه الإزار للخروج. وفي اللخمي: ويختلف في ثياب خروجها كالثياب التي جرت العادة أن تخرج بها والملحقة، والظاهر من المذهب لا شيء لها، وقال في المبسوط: يفرض على الغني ثياب خروجها. ابن حبيب: وعليه حصير من حلف أو بردي يكون تحت الفراش، وينبغي أن يرجع إلى العرف في جميع هذه الأشياء.

قَالَ أَشْهَبُ: ومِنْهُنَّ لَوْ كَسَاهَا الصُّوفَ أَنْصَفَ، وأُخْرَى لَوْ كَسَاهَا الصُّوفَ أُدِّبَ هذا ظاهر، لأن حكم الكسوة يختلف باختلاف أحوال الزوجات. قَالَ مَالِكٌ: ولا يَلْزَمُهُ الْحَرِيرُ. فَعَمَّمَهُ ابْنُ الْقَاسَمَ، وتَأَوَّلَهُ ابُن الْقَصَّارِ لِلْمَدنِيَّةِ لِقَنَاعَتِهِمْ .... تأويل ابن القصار هو الصواب عند جماعة من الشيوخ. وَالأَصْلُ أَنَّ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ يُفْرَضُ، ومَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي مَعْنَى السَّرَفِ لا يُفْرَضُ، ومَا هُوَ مِنَ التَّوَسُّعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا ولَكِنَّهُ عَادَتُهَا فِيهِ قَوْلانِ .... هذا الضابط الذي ذكره [420/ب] المصنف لابن بشير، ومن أمثلة ما هو من التوسع بالنسبة إليها ولكنه عادتها الحرير. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: ولا يَلْزَمُهُ مَا هُوَ مِنْ شُورَتِها الَّتِي هِيَ مِنْ صَدَاقِهَا مِنْ مَلْبَسٍ وَغِطَاءٍ وَوِطَاءٍ، وَلَهُ عَلَيْهَا الاسْتِمْتَاعُ مَعَهَا بِهِ .. ما ذكره عن عبد الملك قاله ابن حبيب وجماعة من الشيوخ أيضاً، وهو جارٍ على المشهور أن المرأة يلزمها ان تجهز بصداقها، وأما على الشاذ فلا. ابن حبيب: وإن طال العهد وخلقت الشورة أو لم يكن في صداقها ما تتشور به، فعليه الوسط من ذلك لما يصلح للشتاء والصيف، وكذلك قال أصبغ يفرض الوسط لمن لا شورة لها. وَلَهَا مِنَ الزِّينَةِ مَا تَسْتَضِرُّ بِتَرْكِهِ كَالْكُحْلِ الْمُعْتَادِ، والْحِنَّاءِ، والدُّهْنِ لِمُعْتَادَتِهِ، ونَفَى ابْنُ الْقَاسِمِ الْمُكْحُلَةَ هو ظاهر التصور. ابن المواز: وعليه الحناء لرأسها. ابن حبيب: وعليه دهن رأسها ويسير حناء ومشط وكحل.

وروى ابن المواز عن ابن القاسم: ليس عليه نضوح ولا صباغ ولا مشط ولا مكحلة. وروى يحيي بن يحيي عن ابن وهب: لها الحناء لرأسها وليس عليه الطيب والزعفران وخضاب اليدين والرجلين إلا أن يشاء. الباجي: ومعنى ذلك عندي أنه ليس من زينتها إلا ما تستضر بتركه كالكحل الذي يضر تركه من تعتاده والمشط بالحناء والدهن لمن اعتاد ذلك، لأن ترك ذلك لمن اعتاده يفسد الشعر ويمزقه. والذي نفى ابن القاسم إنما هو المكحلة ولم ينف الكحل نفسه، فتضمن القولان أن الكحل يلزمه دون المكحلة، وعلى هذا يلزمه ما تمتشط به من الدهن والحناء دون الآلة التي تمتشط بها. وَلا يَلْزَمُهُ دَوَاءٌ، ولا أُجْرَةُ حَجَّامٍ هذا أكثر نصوصهم وهو قول ابن حبيب، ونقل ابن زرقون عن ابن حبيب محمد بن عبد الحكم أنه يلزمه أجر الطبيب والمداوة، وهو الظاهر. بِخِلافِ أُجْرَةِ الْقَابِلَةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الأَصَحِّ أي: فتلزمه، والأصح لأصبغ وهو اختيار غير واحد، لأنها مما لابد لها منه كالنفقة. ونقل المتيطي وغيره قولاً أن الأجرة كلها على المرأة. وقال محمد: إن كانت المنفعة للمرأة فعليها، وإن كانت للود فعلى الأب، وإن كانت لهما فذلك بينهما. ويمكن أن يكون مراد المصنف بـ (الأَصَحِّ) قول محمد لقوله: (لِلْوَلَدِ) والله أعلم. وَأمْرُ السَّكنَى كذَلِك أي: فيقدر بحالهما كما في النفقة والكسوة.

وَلَهَا إِخْدَامُهَا بِكِرَاءٍ أَوْ شِرَاءٍ إِنْ كَانَتْ ذَاتَ قَدْرٍ وكَانَ قَادِراً اختلف هل يجب الإخدام على جميع الأزواج كالنفقة والكسوة أو يشترط الاتساع لذلك؟ وكلام المصنف محتمل لكل منهما، لأنه إن أراد بالقدرة مطلق القدرة كان كالقول الأول، وإن أراد بالقدرة الاتساع كان كالثاني. وقوله: (بِكِرَاءٍ أَوْ شِرَاءٍ) يريد: أو ينفق على خادمها. الباجي: أو يخدمها هو بنفسه. فرعان: الأول: فإن ادعى الزوج أنه غير مستطيع للإخدام ففي كونه القول قوله أو قولها قولان حكاهما صاحب الطرر. الثاني: إذا عجز عن الإخدام وقدر على النفقة والكسوة ففي البيان: المشهور أنه لا يطلق عليه بذلك. وروى المغيرة عن ابن الماجشون أنه يطلق به عليه. قال الجوهري: والخادم ما يقوم بأمرها مما يليق بمثلها. وَفِي إِلْزَامِهِ أَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ فِي الرَّفِيعَةِ- ثَالِثُهَا: إِنْ طَالَبَهَا بِأَحْوَالِ الْمُلُوكِيَّةِ لَزِمَهُ .... القول باللزوم لمالك وابن القاسم، ومقابله لابن القاسم في الموازية وقاله أصبغ، والثالث ذكره ابن بشير. قال ابن راشد: وجعله إسحاق بن إبراهيم على ما نقله عنه ابن مزين تفسيراً للأول والأظهر الأول، وعندنا بمصر من يحتاج إلى خدام كثيرة. فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ واخْتَارَتْ بَقَاءَهَا لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا هكذا قال مالك وابن القاسم: أنها إن طلبت الإنفاق على خادمها دون خادمه أن القول قولها.

ابن شاس: إلا أن تضمر ريبة. قيل: ولا يكون القول قوله بمجرد دعواه ذلك إلا أن يأتي بينة على قوله أو يعرف ذلك جيرانه. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَهْلاً لِلْخَادِمِ أَوْ كَانَ فَقِيراً فَعَلَيْهَا الْخِدْمَةُ الْبَاطِنَةُ مِنْ عَجْنٍ وكَنْسٍ وفَرْشٍ بِخِلافِ النَّسْجِ والْغَزْلِ وشِبْهِهِ .... تصوره ظاهر. ابن شاس: وكذلك عليها الطبخ واستقاء الماء إن كان معها في الدار، وإن كانت ببلد عادتهم استقاء الماء فعليها ذلك، وإن كان ليس عادتهم استسقاء قال في البيان: إلا أن تكون الزوج من أشراف الناس الذين لا يمتهنون أزواجهم في الخدمة فعليهم الإخدام، وإن لم تكن زوجته من ذوات الأقدار. ابن خويز منداد: وعلى المرأة أن تخدم خدمة مثلها، فإن كانت ذات قدر فخدمتها الأمر والنهي في مصالح البيت، وإن كانت دنية فعليها خدمة البيت. وقوله: (بِخِلافِ النَّسْجِ والْغَزْلِ) يريد: والخياطة ونحوها، لأنه ليس من خدمة البيت، وإنما هو من أنواع التكسب وليس عليها أن تتكسب إلا أن تتطوع به. فرع: للزوج أن يمنع زوجته من أكل الثوم والكرات وكل ما له رائحة كريهة، وله منعها من الغزل ونحوه نقله ابن راشد. وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَبَوِي الْمَرْأَةِ وَوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَدْخُلُوا إِلَيْهَا، وإِنْ حَلَفَ أُحْنِثَ إنما لم يكن له منع أبويها وولدها من غيره من الدخول إليها، لأن العادة تقتضي الدخول إليها [421/أ] والتزاور، وقد ندب الشرع إلى ذلك المشاور، فإن اتهمهما في إفسادها زاراها في كل جمعة مرة بأمينة تحضر معهما لئلا يَخْلوَا بها. وفي المتيطية: إذا كان للمرأة أولاد من غيره قضى للأصاغر بالدخول عليها في كل يوم وللكبار في كل جمعة.

وظاهر قوله: (وإِنْ حَلَفَ أُحْنِثَ) أنه يحنث بمجرد حلفه ألا يدخلوا إليها، وهو قول مالك في سماع أشهب. وقال ابن حبيب: لا يحنث حتى يحلف ألا يدخلوا إليها ولا تخرج إليهم، وينبغي أن يكون الحال في الولد أشد ولاسيما مع صغر السن، فإن حلف على أبويها أن لا يدخلا ولا تخرج إليهما، فقيل: يجبر على تحنيثه باي الأمرين شاء، إما بدخولهما إليها وإما بخروجها إليهما، وقيل: يجبر على الدخول أو الخروج ولا يحنث حتى يزيد في يمينه، ولو حكم عليه حاكم وهما على الخلاف في إكراه القاضي هل يمنع من الحنث أم لا؟ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مَنْعِهَا هِيَ مِنَ الْخُرُوجِ لَمْ يُحَنِّثْ إنما لم يحنث هنا، لأنه حلف على من له عليه الحكم بخلاف ما سبق. وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهِما فِي لَوَازِمِ الْحُقُوقِ: ولُوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُحَنَّثْ .... هذه المسالة لم تثبت في كل النسخ وسقطت من نسخة ابن عبد السلام وثبتت في نسخ ابن راشد، فقال: يريد ما قاله مالك أرى أن يقضى عليه بأن تشهد جنازة أبيها وأمها وتزورهما في الأمر الذي فيه الصلاح والصلة، وأما الحمام والجنائز فلا أرى عليه ذلك. وتحقيق المذهب أن المرأة إذا أرادات الخروج إلى أبيها وأمها فإن كانت متجالة فلا خلاف أنه يقضى لها بالخروج على زيارتهما، وإن كانت شابة وهي غير مأمونة فلا خلاف أنها لا يقضى لها بذلك ولا إلى الحج، كذا رواه ابن عبد الحكم عن مالك، وإن كانت مأمونة فقولان: أحدهما: أنه يقضى عليه بذلك، والآخر أنه لا يقضى حتى يمنعها من الخروج إليهم ويمنعهم من الدخول إليها، فحينئذ يقضى عليه بأحدهما. قال ابن حبيب: والشابة محمولة على أنها مأمونة حتى يثبت أنها غير مأمونة، وعلى هذا فقول المصنف: فلو حلف على ذلك لم يحنث، ليس على إطلاقه.

فرعان: الأول: قال مالك في العتبية: ليس للرجل أن يسكن أولاده من امرأة مع امرأة له أخرى، ولا يجمعهم في مسكن واحد إلا أن ترضى. مالك: وليس له أن يسكن معها أبويه إلا برضاها. قال في البيان: لما عليها من الضرر من اطلاعهم على أمرها وما تريد أن تستره عنهم من شأنها. وقال ابن الماجشون في المرأة تكون هي وأهل زوجها في دار واحدة فتقول: إن أهلك يؤذونني فأخرجهم عني، أو أخرجني عنهم: رب امرأة لا يكون لها ذلك يكون صداقها قليلاً وتكون وضيعة القدر، ولعله أن يكون على ذلك تزوجها وفي المنزل سعة، فأما ذات القدر فلابد له أن يعزلها عنهم، وإن حلف ألا يعزلها أحمل على الحق أبره ذلك أو أحنثه. قال في البيان: وليس قول ابن الماجشون عندي خلافاً لمذهب مالك. الثاني: إذا كان للمرأة أولاد من غير زوجها وأراد إخراجهم عنه وأبت ذلك، فإن لم يكن لأولادها من يحضنهم فليس للزوج إخراجهم، وليس له إلا البقاء معهم أو التطليق علم بهم أو لم يعلم، وإن كان للأولاد من يحضنهم فإن لم يعلم الزوج بهم فلا يلزمه أن يكونوا معه وله إخراجهم، وكذلك إذا علم بهم وأبى من البناء بها لأجلهم، وأما إن علم بهم وبنى بالأم وهو عالم أن لها ولداً ثم أراد إزالته عنها ففي ذلك قولان، ظاهر ما في العتبية أنه ليس له إزالته، وقال ابن الماجشون: له ذلك. وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى عَنْ جَمِيعِ لَوَازِمهَا ثَمَناً إِلا الطَّعَامَ فَفِيهِ قَوْلانِ ظاهره أن الذي على الزوج في الأصل هو ما يفرض للمرأة لا ثمنه، وأن للزوج أن يعطي الثمن عن ذلك، وهو ظاهر المذهب. وقال ابن وهب: هو بالخيار إن شاء فرض ذلك وإن شاء فرض ثمنه، واستشكله عياض وقال: القياس ألا يكون له دفع الثمن إلا

برضاها، لأنه إنما هو وجب عليه طعام وكسوة ولم تجب عليه قيمة فلا يلزم الزوج غير ذلك، وكذلك لا يلزمها قبول الثمن لما يلزمها من مؤنة تكليف الشراء، وقد تختلف الأثمان بارتفاع الأسواق فيضر ذلك بها. وحكى أبو الحسن في المسألة أربعة أقوال: قيل: يفرض الثمن، وقيل: العين، وقيل: إن كانت الأعيان مما يجوز بيعها قبل قبضها فرض لها الأثمان، وإن كانت مما لا يجوز بيعها قبل قبضها فرض لها الأعيان، وقيل: الإمام مخير بين أن يفرض لها الأثمان أو الأعيان. وأخذ من المدونة من قوله: إن للرجل أن يحاسب امرأته بدينه الذي له عليها من نفقتها أنه إن شاء دفع النفقة عيناً لم يجبر على غير ذلك. وقوله: (إِلا الطَّعَامَ فَفِيهِ قَوْلانِ) منشأهما: هل تحريم بيع الطعام قبل قبضه غير معلل فيمنع، أو معلل بالغيبة فيجوز، لأنها مفقودة بين الزوجين؟ وَتَقْدِيرُ زَمَانِ النَّفَقَةِ عَلَى حَالِ الزَّوْجِ فَقَدْ يَكُونُ بِالْيَومِ أَوْ بِالْجُمُعَةِ أَوْ بِالشَّهْرِ وقَدْ يَكُونُ بِخُبْزِ السُّوقِ .... لأن من الناس من [421/ب] يكون رزقه باليوم كصناع والأجراء فيفرض عليهم به، ومنهم من يكون بالجمعة فيفرض عليهم بها، ومنهم من يكون بالشهر فيفرض عليهم به، وأجاز ابن القاسم أن يفرض بالسنة ومنع ذلك سحنون لحوالة الأسواق، وقد يكون بخبز السوق، لأن بعض الناس لا يقدر إلا على ذلك. اللخمي: وأما الكسوة فتفرض مرتين في الشتاء والصيف، لأنها مما لا يتبعص، وتكون بالشهر والأيام وكذلك الغطاء والوطاء. وَتضْمَنُهَا بِالْقَبْضِ، وكَذَلِكَ نَفَقَةُ وَلَدِهَا يعني: أن المرأة إذا قبضت نفقة مدة مستقبلة فضمانها لو هلكت منها، وسواء قامت لها البينة على الضياع أم لا، هذا ظاهر المدونة ونص الموازية.

وخرج اللخمي قولاً بسقوط الضمان مع قيام البينة على الضياع مما قيل في الصداق العين. ابن بشير: ولا يلزم، لأن الخلاف في الصداق إنما هو إذا طلق فوجب الرجوع بنصفه، وفي المذهب قولان: هل تستحق جميعه بالعقد أم لا؟ وأما النفقة فقد وجبت لها. وقوله: (وكَذَلِكَ نَفَقَةُ وَلَدِهَا) أي تضمنها. عياض: إلا أن تقدم لها بينة على الهلاك فلا تضمنها، لأنها لم تقبضها لنفسها ولا هي متمحضة للأمانة، لأنها إنما أخذتها لحق ولدها فتضمنها كالرهان والعواري، وهذا إنما هو فيما تأخذه لولدها من كسوة ونفقة للإنفاق عليهم، وأما ما تأخذه أجرة للرضاع بعد الطلاق فهو كنفقتها. ابن عبد السلام: وذكر بعضهم فيما تلق مما قبضته لها ولولدها من كسوة ونفقة ببينة ثلاثة أقوال: قيل تضمنه وقيل لا تضمنه، والفرق بين ما تقبضه عن نفسها فتضمنه وما قبضته عن ولدها فلا تضمنه، وقيل: كل ما تقبضه لولدها أنها مصدقة في تلفه وتحلف. وَيُحَاسِبُهَا مِنْ دَيْنِهِ إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، وإِلا فَلا يعني: إذا كان له على زوجته دين وطلبته بنفقتها فله المقاصة ما لم يؤد ذلك إلى ضررها كما إذا كانت فقيرة. وكذلك قال في المدونة: قيل: ومعناه أن دينها من نوع ما فرض عليه. وأخذ من هذه المسألة شيئان: أولهما إلزام المتداينين المقاصة إذا دعا إليها أحدهما وهو المشهور وسيأتي، وثانيهما أن للزوج دفع النفقة عيناً ولا يجبر على غير ذلك، إلا أن هذا الثاني لا يتم على تأويل من تأول أن الدين من جنس ما وجب لها عليه والله أعلم. وَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِالنُّشُوزِ ابن شاس: هذه هي الرواية المشهورة. وذكر ابن بشير أن الأبهري وغيره حكوا الإجماع عليها وفيه نظر، لأن في الموازية أنها لا تسقط به.

المتيطي: وهو الأشهر. وفرق سحنون: فإن نشزت لبغضه فلها النفقة لا إن كان لدعواها الطلاق، والسقوط هو اختيار الباجي واللخمي وابن يونس وغيرهم، وهو قيد بها إذا لم تكن حاملاً، نص عليه صاحب الكافي وغيره. وَهُوَ مَنْعُ الْوَطْءِ وَالاسْتِمتَاعِ، أَوِ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ولا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا، وأَمَّا الْقَادِرُ فَيَتْرُكُهَا فَلَهَا اتِّبَاعُهُ بِالنَّفَقَةِ .... هذا تفسير للنشوز المسقط للنفقة وتصوره ظاهر، والخروج مرفوع بالعطف على منع، وكلام المصنف يقرب من كلام صاحب الجواهر. وفي كتاب الوقار: وإن حجبت نفسها من زوجها وطلبت منه النفقة لا نفقة لها ما حجبت عنه نفسها، وإن كانت معه في منزل فمنعته نفسها فعليه النفقة وعليه الاحتيال في الوصول إليها، وظاهر كلام المصنف أنها إذا منعته الوطء فهو نشوز وإن كانت معه في الدار. قوله: (وأَمَّا الْقَادِرُ فَيَتْرُكُهَا فَلَهَا اتِّبَاعُهُ بِالنَّفَقَةِ) هكذا نص عليه ابن القابسي وهو ظاهر، لأن النشوز حينئذ لا يتحقق، إذ قدرته على الرد قدرة على الاستمتاع، ولكن يؤدبها هو أو غيره على خروجها بغير إذنه. ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون وجوب النفقة لها هنا متفقاً عليه وهو ظاهر كلام بعضهم، على أن بعضهم عده قولاً آخر للقابسي. وَلَهُ السَّفَرُ بِهَا وَإِنْ كَرِهَتْ هذا بشرط أن يكون مأموناً عليها، وأن يكون البلد الذي يسافر إليه مأمونا، والسفر كذلك نص عليه ابن الجلاب.

وَتَسْقُطُ بِالطَّلاقِ الْبَائِنِ دُونَ الرَّجْعِيَ سقطت بالبائن لانقطاع الزوجية ولقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] والمراد المطلقة البائن، فدل على أنه لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً، وأما الرجعى فهي في حكم الزوجة. وَالْبَائِنُ فِي السُكْنَى ونَفَقَةِ الْحَمْلِ كَالرَّجْعِيَّةِ للآية المتقدمة، واعلم أن أصحابنا حيث ذكروا نفقة الحمل فإنما يريدون حمل البائن، وأما من العصمة والرجعية والمتوفى عنها فلا نفقة لحملهن، أما الأوليان فلاندراج نفقة الحمل في النفقة عليهما، وأما المتوفى عنها فحملها وارث، وحيث ما وجبت النفقة وجبت الكسوة. ابن القاسم: وإن طلبت المبتوتة الحامل الكسوة فإن كانت في أول الحمل فذلك لها، وإن لم يبق من آخر الحمل إلا ثلاثة أشهر ونحوها قوم ما كان يصير لتلك الشهور من الكسوة لو كسيت في أول الحمل ثم أعطيت تلك القيمة دراهم. قال في البيان: وقوله: إن كانت في أول الحمل فذلك لها، إنما هو إذا كانت الكسوة مما تبلى [422/أ] في مدة الحمل، وأما إن كانت مثل الفرو وشبهه فالوجه أن ينظر إلى ما ينقصه اللباس في مدة الحمل فيعرف ما يقع للأشهر الباقية. فروع: الأول: قال اللخمي: اختلف إذا بليت الكسوة قبل الوقت الذي فرض لها هل يكون كحكم مضى أم لا كالخارص يتبين خطأه والذي أخذ دية عينه ثم برئت، فقد اختلف في ذلك. الثاني: قال في كتاب القذف من المدونة، قال مالك: وإن دفع إليها نفقة سنة أو كسوتها بفريضة أو بغير فريضة ثم مات أحدهما بعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين فلترد النفقة

بقدر ما بقي من السنة، واستحسن في الكسوة ألا ترد إذا مات أحدهما بعد أشهر لا ترد شيئاً، فقال: لا يعتدل هذا تعطيها الكسوة تلبسها ثلاثة أشهر ثم لا تتبع بشيء. الثالث: سئل ابن عتاب عن المطلقة المرضع أو الحامل هل لها خدمة على الزوج إن كانت عنده مخدومة قبل الطلاق؟ فقال: لا خدمة لها وعليها خدمة نفسها. قال: ويحتمل أن تزاد المرضع في الأجرة لاشتغالها بالولد وما تتكلفه من مؤنته. أبو الأصبغ: وفي المدونة في الحامل والمحضونين خلاف ما ذكره. فَلَوْ مَاتَ فَالْمَشْهُورُ وُجوُبُهَا فِي مَالِهِ، ورَوَى ابْنُ نَافِعٍ: هِيَ والْمَتَوَفَّى عَنْهَا سَوَاءٌ يعني: فلو طلقها زوجها طلاقاً بائناً فوجب لها السكنى ثم مات عنها قبل أن تنقضي عدتها فالمشهور لا يسقط ما وجب لها بموته، لأن السكنى وجبت ديناً عليه. (ورَوَى ابُن نَافِعٍ: هِيَ والْمُتَوفَّى عَنْهَا سَوَاءٌ) لا سكنى لها. واختار هذه الرواية يحيي بن عمر وصاحب البيان. وقال في البيان: لأن السكنى لم تتقرر في ذمته بدليل أنه لو أعسر في حياته لسقط عنه السكنى، قال: ولو كان الطلاق رجعياً لم يختلف في سقوط السكنى كما تسقط النفقة لأن المرأة ترجع إلى عدة الوفاة فلا سكنى لها إلا أن تكون الدار للميت أو نقد كرائها. انتهى. واختلف الشيوخ في فهم رواية ابن نافع، ففهمها بعضهم على أنه لا سكنى لها حيث لا سكنى للمتوفى عنها زوجها، أعني إذا لم تكن الدار للميت ولا نقد كرائها وإلا فتجب كما تجب للمتوفى عنها وهو ظاهر لفظ التسوية المذكورة في الرواية. ومن فهمها على الوجه الأول عد التفرقة قولاً ثالثاً لأنه وقع نصاً لابن القاسم في المدونة.

تنبيه: ما ذكره المصنف أنه المشهور وهو مذهب المدونة نص عليه في باب نفقة المعتدات، وعارضه فضل بما في غرخاء الستور إذا خالع حاملاً فلزمته النفقة ثم مات أنها تنقطع عنها بموته. قال فضل: هذا خلاف ما له في كتاب طلاق السنة وهو موافق لرواية ابن نافع وفرق بعض القرويين بأن النفقة حق للحمل على أبيه وبعد موت الأب صار الحمل وارثاً فلم تجب له نفقة في مال الميت بخلاف السكنى فإنها حق تعلق بذمة المطلق لمطلقته فلا يسقطها الموت كسائر الديون. فَلَوْ كَانَتْ مُرْضِعَةً فَعَلَيْهِ مَعَ نَفَقَةِ الْحَمْلِ نَفَقَةُ الرَّضَاعِ يعني: فلو كانت البائن الحامل مرضعة لزيد لها مع نفقة الحمل نفقة الرضاع، وظاهره أنها تأخذ جميع النفقتين على الكمال. وصرح في العتبية بذلك، قال في البيان: لأنها لا رضاع عليها إلا أن تشاء فتكونه لها الأجرة لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] فليس وجوب النفقة لها بسبب الحمل بالذي يسقط ما وجب لها من الأجرة. ابن عبد السلام: وقيل: إنما تأخذه نفقة واحدة. وحكى بعضهم الخلاف في ذلك مجملاً، قيل: وهو دليل المدونة أنه ليس لها إلا نفقة الحمل وحدها، لأن في كتاب الرضاع منها أن على المرأة أن ترضع ولدها بعد الطلاق في العدة ما دامت النفقة على الزوج. قال في البيان: فذهب بعضهم إلى أن هذا مخالف لما في التعبية وليس بصحيح. وَلِلْمُلاعِنَةِ السُّكْنَى لا نَفَقَةُ الْحَمْلِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا إنما وجب للملاعنة السكنى لكونها محبوسة بسببه كما تقدم. وقوله: (لا نَفَقَةُ الْحَمْلِ) لأنه غير لاحق به كالمتوفى عنها تشبيه في الحكم فقط لا في سبب، لأن سبب عدم وجوب النفقة لحمل الملاعنة عدم لحوقه، وسبب عدم الوجوب للمتوفى عنها لأن حملها وارثاً.

وَلا نَفَقَةَ لِحَمْلِ أَمَةٍ لأَنَّهُ رَقِيقٌ وِإنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرّاً يعني: أن من تزوج أمة ثم طلقها طلاقاً بائناً فلا نفقة لحملها سواء كان زوجها حراً أو عبداً، لأن حمل الأمة ملك لسيدها ولا ينفق على عبد الغير. وَلا عَلَى عَبْدٍ لِحَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ وإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً إِلا أَنْ تَكُونَ رَجْعِيَّةً فِيهِمَا يعني أن العبد إذا تزوج امرأة حرة كانت أو أمة فطلقها بعد البناء طلاقاً بائناً وهي حامل لم يكن لها نفقة لذلك الحمل، لأنه لا يجب على العبد أن ينفق على ولده، لأنه إتلاف لمال سيده فيما لا يعود على سيده منه منفعة، فإن أعتق العبد قبل الوضع فإن كانت حرة أنفق على حملها بخلاف الأمة إلا أن تعتق هي أيضاً. قاله في المدونة. وقوله: (إِلا أَنْ تَكُونَ رَجْعِيَّةً فِيهِمَا) أي في هذ الفرع والذي [422/ب] قبله لأن الرجعية في حكم الزوجة. وَتَجِبُ بِثُبُوتِ الْحَمْلِ بِالنِّسَاءِ يعني: إذا شهدت امرأتان بظهور الحمل وبتحرك الولد وهو راجع إلى المشهور. وسمعت بعض شيوخنا يقول: إنه ثالث. ونظير هذه المسألة هل تلاعن لظهور الحمل أم لا؟ قال في الجلاب: وتعطى حين يظهر حملها بحركته نفقة الحمل كله من أوله إلى آخره. وَفِي رُجُوعِهِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ بِحُكْمٍ رَجَعَ، ورَابِعُهَا: عَكْسُهُ أي: وإذا فرعنا على المشهور وأنفق لظهور الحمل ثم تبين ألا حمل فهل يرجع بالنفقة أم لا؟ أربعة أقوال: فالرجوع مطلقاً، قال في البيان: هو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك. واختاره ابن المواز وغيره لأنه إنما أنفق على الحمل لا على وجه الصدقة والصلة. وعدم الرجوع مطلقاً لمالك في الموازية. والثالث لمالك في العتبية: إن دفع لها بحكم رجع

عليها لأنه قد استبان أن الأمر على خلاف ما ثبت، وإن دفع بغير حكم لم يرجع عليها لأنه متطوع. والرابع عكسه: ووجهه أنه مع قضاء القاضي لو رجع عليها لكان في معنى نقض الحكم بخلاف ما إذا لم يقض، ونسبه ابن راشد لعبد الملك، قال: ورواه عن مالك. خليل: وفيه نظر، فإن الذي لعبد الملك إنما هو القول الأول على ما في البيان وغيره، قال في البيان: ولهذه المسألة نظائر منها مسألة كتاب الشفعة من المدونة في الذي يثبت على الصدقة وهو يظن أن الثواب يلزمه، ومنها مسألة كتاب الصلح فيها في الذي يصالح عن دم خطأ وهو يظن أن الدية تلزمه. وَتَسْقُطُ بِالِإعْسَارِ فِي زَمَانِ وُجُوبِهَا فَلا تَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَتْهُ فِي غَيْبَتِهِ أَوْ حُضُورِهِ يعني: أن نفقة الزوجة لا تجب إلا بشرط الملاء ولو كان الزوج قد دخل بزوجته وهو مراده بقوله: (فِي زَمَانِ وُجُوبِهَا) ودليله قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} [الطلاق:7]، وهذا معسر لم يؤته الله شيئاً، وإذا لم يكلف بها لم ترجع عليه بما أنفقت في تلك المدة. بِخِلافِ مَا أَنْفَقَتْهُ عَلَيْهِ مُعْسِراً أَوْ مُوسِراً كَالْمُنْفِقِ عَلَى أَجْنَبِيِّ إِلا أَنْ يَكْونَ بِمَعْنَى الصَّلَةِ، ولا يُقْضَي بِالسَّرَفِ مِنْ ذَلِكَ كَدجَاجٍ وخِرَافٍ .. أي: فترجع بما أنفقته عليه ولو كان معسراً، إذ كأنها أسلفته، والتسلف يثبت في ذمة المعسر فترجع عليه كما ترجع إذا أنفقت على أجنبي إلا أن يكون بمعنى الصلة، أي في الزوج والأجنبي فلا ترجع ولا إشكال في ذلك. وخالف اللخمي في الزوج ورأى أنها لا ترجع بما أنفقته عليه وإن لم تكن على وجه الصلة لأن ذلك مكارمة، ولأنه قيل من قول ابن القاسم إذا أسكنته دارها، ولأنه لا ثواب بين الزوجين إلا أن يشترط أو يرى ذلك.

وقوله: (ولا يقضي ... إلخ) يعني إذا وجب الرجوع لها على زوجها بما أنفقته عليه أو على نفسها أو ولدها ووجب الرجوع بما أنفقته على الأجنبي فإنه ترجع عليه بالمعتاد في حق المنفق عليه، فأما ما كان سرفاً بالنسبة إليه فلا ترجع به على المنفق عليه، لأن المفهوم من قصد المنفق العطية إلا أن تكون التوسعة في زمنها كالأعياد فترجع بذلك، ولم يذكروا في ذلك خلافاً. وقد اختلف في مسألة مشترى الدار على أن ينفق على البائع حيلة هل يرجع المشتري إذا فسخ البيع بالسرف أم لا، وفرقوا بينها وبين مسألة الزوجة بأن العطية في مسألة الشراء لأجل الشراء فترجع بها على ما هو الأصل في الهبة لأجل البيع ولأجل النكاح. ابن عبد السلام: وهذا إنما ينهض حيث تقول المرأة قصدت الرجوع بما أنفقت، ويقول زوجها أو الأجنبي إنما ظننت أن النفقة على وجه الصلة، لم يقبل ذلك منه وقضي لها، وأما إن اتفق المنفق والمنفق عليه أن النفقة على الرجوع فلا يتحقق ذلك الفرق، والله أعلم. فرعان: الأول: لا تسقط النفقة بما إذا تعذر الوطء من غير جهتها كمرض أو حيض أو جنون، وكذلك لو دخل على رتقها، وكذلك إذا أذن لها في حج التطوع، وأما الفريضة فإن النفقة لها ولو خرجت بغير إذنه إذا خرجت مع محرم أو رفقة مأمونة وتكون لها نفقة حضر لا نفقة سفر. ولها النفقة إذا حبست في دين، لأن المنع ليس من جهتها، ولا تسقط بحبس زوجها ولو حبسته هي في حقها، حكاه ابن الجلاب وغيره. الثاني: قال في المدونة: ومن أنفق على صبي صغير لم يرجع عليه بشيء إلا أن يكون للصبي مال حين أنفق. ابن يونس: يريد والمنفق عالم فيرجع بما أنفق عليه في ماله، فإن تلق ذلك المال أو كبر الصبي فأفاد مالاً لم يرجع عليه بشيء. وزاد غيره ثلاثة شروط: أن يقول المنفق إنما أنفقت لأرجع ويحلف على ذلك، وأن يرجع بالمعتاد لا بالسرف. قيل: وما ذكره ها هنا في المدونة

مناقض لما في كتاب تضمين الصناع فيمن أنفق على صبي فإذا له أب أن يرجع على الأب بما أنفق، ولا فرق بين أن يكون للصبي مالٌ لم يعلم به المنفق أو أب لم يعلم به المنفق. فَإِنْ كَانَ مُوسِراً ثُمَّ أَعْسَرَ اسْتَقَرَّ الْمَاضِي فِي ذِمَّتِهِ فَرَضَهُ الْحَاكِمُ أَوْ لَم يَفْرِضْهُ يعني: أن الإعسار إنما يسقط نفقة زمانه فقط ولا يسقط ما قبل ذلك، وكلامه ظاهر. وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ أي: تسقط بالإعسار ولا يسقط الإعسار ما قبله. والْقَادِرِ بِالْكَسْبِ كَالْقَادِرِ بِالْمَالِ إِنْ تَكَسَّبَ ولا يُجْبَرُ عَلَى التَّكسُّبِ يعني: والقادر بالكسب يجب عليه النفقة كالقادر بالمال بشرط أن يتكسب. ويؤخذ من قوله: (كَالْقَادِرِ) أنه لم ينفق في زمن تكسبه أن النفقة تستقر في ذمته ولا يسقط الإعسار، وإذا لم يجبر الغرماء المديان على التكسب فأحرى الزوجة، لأن الضرر اللاحق لرب الدين أقوى من ضرر الزوجة فإنها قادرة على رفع ضررها بالطلاق بخلافهم، ولا يجبر على التكسب لئلا يصير كالعبد. وذهب بعض الشيوخ إلى جبر الصانع على العمل ليوفي الدين لأنه على ذلك عومل، ولا يبعد مثله في النكاح. وَيَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ بِالْعَجْزِ عَنِ النَّفَقَةِ الْحَاضِرَةِ لا الْمَاضِيَةِ، حُرَّينِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ .... يعني: أن للمرأة إذا عجز زوجها عن النفقة عليها في الوقت الحاضر أن تفسخ وأن تبقى معه بغير نفقة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الزوجان حرين أو عبدين أو أحدهما حر والآخر عبد. وكان لها أن تفارق لقوة ضررها، ولأن النفقة في مقابلة الاستمتاع فأشبه المعاوضة، ولا يجبر صاحب السلعة على دفع السلعة بغير ثمنها.

ابن المسيب في المدونة: والتفريق لأجل الإعسار بالنفقة سنة. وقوله: (لا الْمَاضِيَةِ) يعني: فلا يثبت لها حق الفسخ بالنفقة الماضية وهي كسائر الديون. مَا لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ فَقْرَهُ ورَضِيَتْ بِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مِنَ السُّؤَّالِ يعني: إنما يكون لها الفراق إذا لم تكن عرفت حال العقد أنه من الفقراء أو من السؤال، وأما إن علمت ذلك فلا، وهذا قول مالك في المبسوط. وقال في الموازية: تطلق عليه وإن كان حال العقد فقيراً وعلمت بذلك. واقتصر المصنف على الأول، لأنها بمنزلة من علمت بعيب زوجها ورضيت به. ونص القابسي على أنه إن كان ممن يطوف للسؤال ثم ترك ذلك أن لها القيام، ونحوه للخمي قال: وكذلك أيضاً إن كان لا يسال وكان مقصوداً مشهوراً بالعطاء ثم تعذر ذلك فلها أن تقدم بالطلاق. ونص ابن مغيث على أنه تقييد، وهو ظاهر. فَيَامُرُهُ الْحَاكِمُ بِالإِنْفَاقِ أَوْ الطَّلاقِ، فَإِنْ أبَى طَلَّقَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ إنما يأمره بالإنفاق إذا لم يثبت عنده فقره، وأما إن ثبت فلا، إذ لا يأمره بما ثبت عنده العجز عنه، وإن أبى من الطلاق والإنفاق طلق الحاكم عليه. واختلف هل الحاكم الذي يطلق عليه كما هو ظاهر كلامه؟ ابن عبد السلام: وهو الصحيح. أو يبيح للمرأة الإيقاع على قولين؟ لا يمين على الرجل إن صدقته المرأة على عسره، إذ لا يحتاج إلى إقامة بينة، وأما إن لم تصدقه فلابد من البينة على الإعسار واليمين، ثم يتلوم له القاضي على المشهور المعمول به. وقيل: تطلق عليه من غير تلوم، وعلى المشهور فاختلف في مقدار التلوم، وإلى ذلك أشار بقوله:

وَرْوِيَ شَهْرٌ، ورُوِي ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، والصَّحِيُح: يَخْتَلِفُ بِالرَّجَاءِ اختلف في مقدار التلوم، فلمالك في المبسوط أنه اليوم ونحوه مما لا يضر بها الجوع، ولمالك في الواضحة الثلاثة الأيام ونحوها، وفي الموازية: ما علمت أنه يضرب له الأجل إلا الأيام ولا أعلم له أجلاً. وقال محمد: الذي عليه أصحاب مالك في التلوم الشهر. وقال ابن الماجشون في الواضحة: الشهر والشهرين. وقال أصبغ: إن لم يطمع له بمال فالشهر إذا لم تجد هي ما تنفق، ولا يبلغ بها الشهرين إلا إذا كان لها ما تنفق. وقيل: إنه لا يتلوم له بشيء إذا لم يكن لها ما تنفق على نفسها. وما صححه المصنف صححه ابن عبد البر، وهو مذهب المدونة، قال فيها: ويختلف التلوم فيمن يرجى له ومن لا يرجى له وتطلق عليه لعدم القدرة على الكسوف. اللخمي: وكذلك لو عجز عن الغطاء والوطاء. أشهب: ويستأنى في الكسوة الشهرين ونحوهما. فرع: إذا مرض وسجن في خلال الأجل فمنعه ذلك عن النظر فيما يأتيها به، فقال ابن الماجشون في المبسوط: يزداد في الأجل بقدر ما يرى ويرتجى شيئاً وإلا طلق عليه. قال: وإن غاب مختاراً طلقت عليه. فَإِنْ وَجَدَ فِي الْعِدَّةِ يَسَاراً يَقُومُ بِوَاجِبِ مِثْلِهَا فَلَهُ الَّرجْعَةُ قد تقدم في غير موضع أن كل طلاق يوقعه الحاكم فهو بائن إلا طلاقين: طلاق المؤلى والمعسر بالنفقة، لكن شرط الرجعة في الإيلاء أن تنحل يمينه كما سبق في محله وفي الإعسار اليسار، أما لو رضيت الزوجة بالرجعة مع عدم يسره كانت رجعة، قاله في

الواضحة وغيرها. وقال سحنون في السليمانية: لا تصح الرجعة. واحترز بواجب مثلها من أن يجد يساراً يكفي دونها فإن ذلك غير معتبر لعدم حصول مقصدها. ولم يتعرض المصنف لقدر الزمان الذي إذا أيسر به كانت له الرجعة، واختلف في ذلك، فلابن القاسم وابن الماجشون: إن أيسر بنفقة الشهر وإلا فليس له الرجعة. وفي كتب ابن مزين: قوت نصف شهر فأكثر. وعن ابن الماجشون إذا وجد ما لو قدر عليه أولاً لم تطلق عليه، وينبغي أن [423/ب] تتأول هذه الأقوال على ما إذا ظن أنه يقد بعد ذلك على إدامة النفقة. قال في البيان: وإذا قدر أن يجريها مياومة، فإن كان ممن يجريها قبل الطلاق مياومة فله الرجعة. واختلف إذا كان يجريها مشاهرة، فقيل: له الرجعة. وقيل: لا. ولأجل أن الطلاق هنا رجعي كان لها النفقة إذا أيسر سواء ارتجع أم لا على مذهب المدونة خلاف ما تأوله بعضهم على الواضحة، ورواه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أنه لا نفقة على المولى في العدة حتى يرتجع، ونقله ابن شعبان عن مالك. تبينه: فهم من قوله: أن له الجرعة إن أيسر في العدة، أن هذا خاص بالمدخول بها، إذ لا عدة على غير المدخول بها وهو المعروف. وفي الكافي روي عن مالك: إن أيسر في العدة كان له الرجعة في المدخول بها وغيرها. ولا أدري ما هذا لأنه لا رجعة في غير المدخول بها. خليل: ولعل هذه الرواية محمولة على ما إذا خلا بها وتصادقا على نفي الوطء وإلا فلا يصح قوله في العدة، إلا لا عدة على غير المدخول بها بنص القرآن. ويُعْتَبَرُ الْعَجْزُ عَنِ الْقُوتِ وعَنْ مَا يُوَارِي الْعَوْرَةَ، قَالَ مَالِكٌ: ولَوْ مِنَ الْخُبْزِ والزَّيْتِ، وغَلِيظِ الْكَتَّانِ، غَنِيَّةً كِانَتْ أَوْ فَقِيرَةً .... يعني: أن المعتبر الموجب للفراق هو العجز الموجب للفراق هو العجز عن النفقة والكسوة جملة، أما لو ضاقت حاله بعد التوسعة حتى لم يجد غير القوت لها دون خادمها من قمح أو شعير،

ولو كان مأدوماً بزيت أو لم يجد الإدام، وإنما وجد الخبز فقط فإنه لا يفرق بينهما، وكذلك أيضاً لا يفرق بينهما إذا وجد من الكسوة ما يسترها ولو من غليظ الكتان وإن كانت ذات شرف وغنى، قاله مالك في الموازية والواضحة. وفي البيان عن أشهب: إذا عجز عما يشبهها فرق بينهما. وكذلك اختلف إذا لم يقدر إلا على الشعير وأهل بلده يأكلونه. فَإِنْ وَجَدَ مَا يُمْسِكُ الْحَيَاَة أَوِ الصَّحَّةَ خَاصَّةً فَلا عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: فإن قصر عما ذكرنا من القوت لكن قدر على ما يحفظ حياتها خاصة فالمشهور لا يلزمها المقام معه، لأن إلزامها المكث حينئذ ضرر كثير ولاسيما إذا كان لا يرجى تغير حاله إلا بعد طول. وفي المدونة عن يحيي بن سعيد: إذا وجد الفقير قواماً من الخبز والزيت وغليظ الثبات لم يفرق بينهما. ربيعة: أما الشملة والعبادة فلا. والشاذ حكاه اللخمي عن مالك أنه لا يفرق بينهما حتى لا يجد أقل ما تعيش به، واستشكله لأن في ذلك حرجاً، إذ تصبح وتمسى جائعة. وَحُكْمُ الْغَائِبِ ولا مَالَ لَهُ حَاضِرٌ حُكْمُ الْعَاجِزِ أي: فتطلق عليه، وهذا هو المشهور. وقال ابن القابسي: لا يفرق على غائب لأنه لم يستوف حجته. وعلى الأول فلابد من أن تثبت الزوجية وأنه قد دخل بها أو دعي إلى الدخول، والغيبة بحيث لا يعلم موضعه أو علم ولم يمكن الإعذار إليه فيه، وأما إن علم وأمكن الإعذار إليه فإنه يعذر إليه ولابد أن تشهد لها بينة بأنها لا تعلم أن الزوج ترك لها نفقة ولا كسوة ولا شيئاً يعدا فيه بشيء من مؤنتها، ولا أنه بعث بشيء وصل إليها في علمهم إلى هذا الحين ثم بعد ذلك يضرب لها أجلاً على حسب ما يراه كما تقدم، ثم يحلفها على ما شهدت لها البينة به، وحينئذ إن دعت إلى الطلاق طلقها هو أو أباح لها التطليق كما تقدم.

فرع: ولو كانت هذه المرأة أم ولد فغاب عنها سيدها وأثبتت مغيبة فإن الحاكم يتلوم لسيدها الشهر ونحوه ثم ينفذ عتقها على الغائب. هكذا قال ابن عتاب والقرشي والتميمي، وروى ذلك على بن زياد. وقال ابن الشقاني وابن العطار: لا تعتق وتسعى في معيشتها. وبه قال ابن القطان، قال: وتبقى حتى يصح موت سيدها أو ينقضي تعميره. ابن سهل: والأول هو الصواب. واحتج الأولون بقول أشهب إذا عجز الرجل عن نفقات أمهات أولاده أنهن بمنزلة أزواجه إذا لم يقم بأمرهن، فيضرب له أجل الشهر ونحوه، فإن وجد لهن أدنى ما يكفي وإلا أعتقهن. ابن سهل: قلت لابن عتاب: هل عليها عدة إذا حكم بعتقها؟ قال: تعتد بحيضة: قلت: فهل عليها يمين أن سيدها لم يخلف عندها شيئاً ولا أرسل إليها شيئاً كما يلزم زوجة الغائب؟ قال لي: لا يمين عليها، وبذلك أفتيت لطول أمد المغيب. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مَوْجُودٌ بِيعَ وفُرِضَ مِنْهُ بَعْدَ يَمِينِهَا أَنهَّا تَسْتَحِقّهَا يعني: فإن كان للغائب مال بيع وفرض للزوجة النفقة من ثمنه إن لم يصلح أن يفرض منه كالدار وشبهها بعد يمينها أنها تستحق النفقة. واستغنى بقوله (أَنهَّا تَسْتَحِقّهَا) عما قاله المتيطي وغيره أنها تحلف ما ترك لها نفقة ولا بعث بها إليها ولا أسقطتها عنه. قال في المدونة: ولا يفرض على الغائب النفقة لزوجته إلا أن يكون له مال يعرى فيه وتباع فيها عروضه ورباعه إن لم يكن له عين، ولا يؤخذ منها بما تأخذه كفيلاً، ويقوم الزوج على حجته إذا قدم، وهكذا يصنع فيه لو أقيم عليه بدين وهو غائب. وإن كان للزوج ودائع وديون فرض للزوجة نفقتها في ذلك ولها [424/أ] أن تقيم البينة على من جحده من غرمائه أن لزوجها عليه ديناً ويقضى عليهم بنفقتها. وقد علمت أن مذهب المدونة أنه تفرض نفقة الزوجة ويوفى الغريم من ودائعه.

المتيطي: وهو المشهور المعمول به. ونحوه لسحنون في أسئلة ابن حبيب، وحكى عنه ابن اللباد أنه لا يقضى منها دين ولا غيره. أبو عمران: وهو القياس، إذ لو حضر الغائب وأنكرها لم يكن للغرماء إليها سبيل، إذ لا يجبر على قبول الصفة لقضاء دينه، ولأنه قد يقول: ليست لي ولا للمقر وهي لغيرنا. واعلم أن الحاكم لا يبيع الدار حتى يكلف المرأة إثبات ملكية الزوج لها وتشهد البينة بأن الدار لم تخرج عن ملكه في علمهم. ابن القاسم: ولا يجوز أن يقولوا في شهادتهم لم يبتها، وعليه العمل وجرى به الحكم. وأجاز ابن الماجشون أن يشهدوا على البت. واختلف هل لا يبيع الحاكم الدار بعد الشهادة المذكورة إلا بعد أن يوجه شاهدين مع هذه البينة ليشهدوا بالحيازة، فكان بعض الموثقين لا يشترطون ذلك. ابن أبي زمنين: واشترطه بعضهم. وهو الذي رأيت وأدركت عليه فقهاءنا، وصفة ذلك أن يوجه القاضي مع البينة شاهدين فتطوف البينة بالدار داخلاً وخارجاً، وتقول: إن هذه الدار التي حزناها هي الدار التي شهدنا بملكها للغائب. ابن العطار: ولا تعمل الحيازة شيئاً حتى يقول الشهود بحضرة الحائرين عليهم: هذا الذي حزناه هو الذي شهدنا به عند فلان قاضي موضع كذا. فإن لم يقولوا ذلك جهلاً منهم أو من الموجهين معهم لم تتم الشهادة والحيازة، وكذلك لا تتم الحيازة حتى يكون الموجهون ممن يعرف العقار ويحدوه بحدوده. فرع: وإذا أحبت المرأة أن تفرض لها النفقة إذا لم يكن له مال حاضر فقال ابن القاسم: لا يفرض عليه شيء حتى يقدم إذا لعم عدمه أو جهل أمره. وفي البيان عن ابن حبيب: إذا أحبت الصبر عليه أشهد السلطان عليه إن كان فلان زوج فلانة اليوم ملياً في

غيبته فقد أوجبت عليه فريضة مثلها من مثله، أما إن علم أنه موسر فإنه يفرض لها نفقة مثلها. قال في الموازية: وتداين عليه ويقضى لها عليه به. وَلَهَا طَلَبُ غُرَمَائِهِ وإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمْ كَمَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ قد قدمنا هذا من المدونة، وإن لم يقم للزوج غير شاهد واحد حلفت معه. وَلَوْ تَنَازَعَا فِي الإِعْسَارِ فِي الْغَيْبَةِ، فَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ الْقَاسَمَ: إَن قَدِمَ مُعْسِراً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وإِلا فَقَوْلُهَا .... يعني: إذا قدم الزوج فطالبته بالنفقة في مدة الغيبة فزعم أنه كان معسراً لا تستحق عليه في مدة الغيبة شيئاً وأنكرت ذلك المرأة فثلاثة أقوال: والقول بأن القول قوله لابن كنانة وسحنون ووجهه أن الأصل العدم. والقول بأن القول قولها لابن الماجشون وابن حبيب، قالا: عليه النفقة إلا أن يقيم البينة على ذلك. ووجهه أن الغالب الملك ولأن كل غريم ادعى العدم فعليه البينة على المذهب. قال في البيان: وتأويله بعض أهل النظر على المدونة. واستدل ابن القاسم بحال قدومه على حال غيبته، لأن الأصل عدم تغير الحال. قال في البيان: وهو معنى المدونة. وهذا الخلاف عند صاحب البيان وغيره إذا جهل حال الزوج عند خروجه، وكذلك روي قول ابن القاسم فيه مبيناً، وأما إن علم حال خروجه من عسر أو يسر فإنه يستصحب ذلك الحال باتفاق. وتأول أن زرب على ابن كنانة وسحنون أنهما يقولان: إن القول قول الزوج وإن خرج موسراً. قال في البيان: وهو تأويل بعيد. وقال ابن زرقون: ليس هو بشيء. ورأيت لبعض من تكلم على التهذيب أنه إن سافر ملياً وقدم كذلك فالقول قولها بالاتفاق، وكذلك القول قوله في عكسه باتفاق، ويختلف فيما إذا سافر ملياً وقدم معسراً أو بالعكس.

وَإِنْ تَنَازَعَا فِي إِعْطَائِهَا أَوْ إِرْسَالِهَا فَثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: إِنْ كَانَتْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ ... يعني: إن قال الغائب تركت لك النفقة أو أرسلتها ولم تصدقه في ذلك وطلبت منه نفقتها، فروى عن مالك أن القول مع يمينه ولو رفعته إلى الحاكم، هكذا نقل ابن الجلاب هذه الرواية. وروى عن مالك أن القول قولها مع يمينها، والمشهور إن رفعت أمرها إلى الحاكم فالقول قولها من يومئذ، لأن رفعها قرينة تقوي قولها، وإن لم ترفع فالقول قوله مع يمينه. مالك في الموازية: وليس له أن يحلف أنه بعث بذلك إليها، إنما يحلف أنها قبضت ذلك ووصل إليها ويبرأ. وعلل الباجي المشهور بأنها إذا رفعت أمرها إلى الحاكم ولم تجد له مالاً وأباح لها الإنفاق على نفسها لترجع به صارت اليد لها فيما تنفقه فكان القول قولها بخلاف إذا لم ترفع فإن البيت بيته، ولهذا اختار من الروايتين اللتين رويتا عن مالك هو يتنزل رفعها إلى العدول وجيرانها منزلة الحاكم أم لا؟ الرواية بأن ذلك لا يتنزل منزلة الحاكم لأنه لم يتقدم قضاء عليه ولا حكم، واختار اللخمي أن ذلك [424/ب] كرفعها إلى الحاكم. بعض الموثقين: والمشهور ما اختاره الباجي وبه الفتوى والعمل. ولابن القاسم في العتبية: إذا اختلفا عند قدومه في الإنفاق على أولاده الصغار أنه يفرق في ذلك بين أن ترفع أم لا كما تقدم. فَأَمَّا الْحَاضِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِلْعُرْفِ حكى في البيان الاتفاق على ذلك، لأن العرف يشهد بصحة قوله ولابد له من اليمين، صرح بذلك في الكافي وفي الطرر. وقال ابن رشد: إنما يصدقه الرجل أنه دفع

النفقة إذا ادعى بعد مضي المدة أنه كان ينفق عليها أو كان يدفع النفقة إليها شيئاً بعد شيء أو جملة واحدة، وأما لو ادعى أنه دفع إليها مائة دينار عن نفقتها فيما مضى وأنكرت ذلك فلا يصدق إجماعاً، وحكى ابن زرب خلافه وخطأه. وَلَهَا طَلَبُهُ عِنْدَ سَفَرِهِ بِنَفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فَيَدْفَعُهَا أَوْ يُقِيمُ لَهَا كَفِيلاً يُجْرِيهَا عَلَيْهَا هذا مذهب المدونة. وقال ابن الماجشون: لا يقيم لها حميلاً وهي في العصمة، وإذا سافر فمن الشيوخ من حمله على ظاهره وعده خلافاً ومنهم من تأوله على المعدم فلا يكون خلافاً، فإذا اتهم أنه يقيم أكثر من السفر المعتاد حلف أنه لا يقيم أكثر من ذلك أو يقيم حميلاً. اللخمي: وأما إذا كانت المرأة مطلقة طلاقاً بائناً وهي حامل كان مطالباً بالأقل من مدة سفره والباقي من أمد الحمل، وإن كانت غير حامل والطلاق بائن فلا نفقة لها. واختلف إذا طلبت حميلاً خوف الحمل: فلم ير مالك ذلك لها، وقال أصبغ في الموازية: ذلك لها. والأول أحسن إذا كان قيامها بعد حيضة، لأن الظاهر البراءة، والثاني إن لم يكن حاضت فيقيم حميلاً بالأقل من مدة السفر أو الحمل على تقدير ظهوره، وإن كان الطلاق رجعياً كان عليه على قول مالك أن يقيم رزق الأقل من مدة السفر أو انقضاء العدة التي هي ثلاث حيض، وعلى قول أصبغ تراعى مدة الحمل كالمطلقة طلاقاً بائناً فيقيم حميلاً بالزائد على مدة الحيض. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِيمَا فَرَضَهُ الْحَاكِمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُشْبِهُ، وإِلا فَقَوْلُهَا فِيمَا يُشْبِهُ وإِلا ابْتَدَأَ الْفَرْضَ .... هكذا في المدونة لكنه فرضها فيها إذا مات القاضي أو عزل، لكن الأظهر أنه لا فرق بينه وبين قاضي وقتها، ولعل ذلك هو السبب في إسقاط المؤلف ما ذكره في المدونة، وإنما

كان القول قول الزوج لغرمه. قيل: ومذهب ابن القاسم أنه لا يمين على من أشبه قوله منهما إذ لا يحلف على حكم حاكم مع شاهد. وحمل غيره المدونة على أنه يحلف. عياض: وهو الظاهر. وهو حجة لجواز الحلف مع الشاهد في قضاء القاضي، وقد نبه على ذلك ابن سهل خلاف ما قاله بعض أصحاب سحنون وما لابن القاسم في العتبية. عياض: وعندي أن مسالة الكتاب خارجة عن هذا الأصل المتنازع فيه، إذ قضاء القاضي فيها ثابت باجتماعهما عليه ثم وقع الخلاف في مقدار ما فرض فكانت دعوى في مال في ذمة الزوج، فالقول قول من أشبه منهما مع يمينه وليس على القضاء كما قيل. وذكر عن سحنون: إنما هي في ما مضى من الفرض، وأما ما يستقبل إذا تنازعا فيه فالسلطان يستأنف النظر في ذلك. وقد اختار رواية المدونة هنا، والذي في روايتنا إذا لم يشبه ما قالا أعطيت نفقة مثلها فيما يستقبل يفرض لها القاضي نفقة مثلها وعليه اختصر المختصرون. وروي في بعض النسخ: (وفيما يستقبل) بزيادة واو وكانت في كتابي فغربت عليها إتباعاً لرواية شيوخي، وإثباتها أصح معنى ولفظاً ويصحح ما قاله سحنون، وعلى إسقاطها يأتي الكلام الأخير مكرراً ويشكل، هل أراد به الماضي أو الآتي؟ وَتَجِبُ عَلَى الأَبِ الْحُرِّ نَفَقَةُ وَلَدِهِ الْمَحْضُونِ الْفَقِيرِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ لما ذكر نفقة الزوجة أتبعه بنفقة الأولاد، واحترز بالحر من أن يكون الأب عبداً أو فيه شائبة من شوائب الحرية فلا نفقة لولده عليه، وكذلك أيضاً لا نفقة للود الرقيق على أبيه كما تقدم. ولعل المصنف استغنى بما قدمه وبولده عن ولد ولده أو غيره فلا تجب نفقته، واعلم أن الاصطلاح إنما يطلق المحضون والمكفول على الولد إذا لم تكن له زوجة بأن يكون الأب ميتاً أو مطلقاً، وأما إن كان عند أبيه وأمه وهما زوجان فلا يطلق عليه ذلك، وعلى هذا فتخصيص المحضون ليس بظاهر، لأن من بين أبويه كالمحضون بالاتفاق.

وشرط المصنف في وجوب نفقة الولد أن يكون فقيراً، يعني وأما إن كان له مال قال في المدونة: أو يكون له كسب يستغنى به فلا تجب نفقته، وكذلك أيضاً إذا كان للبنت كسب تستغني به فلا تجب نفقتها، فإن كانت الصنعة لا تكفي أعطيا تمام الكفاية. اللخمي: وإذا كسدت الصنعة عادت النفقة على الأب، واشترط هنا الفقر ولم يشترط في الزوجة لأن نفقة الولد مواساة بخلاف نفقة الزوجة فإنها معاوضة. وقوله: (عَلَى قَدْرِ حَالِهِ) أي حال الولد لأن المراد سد خلته. وَحَضَانَةُ الذَّكَرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ عَاقِلاً غَيْرَ زَمِنٍ بِمَا يَمْنَعُ التَّكَسُّبَ، وقِيلَ: حَتَّى يَحْتَلِمَ مقتضى كلامه أن المشهور هو الأول وليس كذلك بل هو الثاني وهو مذهب المدونة، والقول [425/أ] الذي صدر به لابن شعبان. وروى ابن وهب عن مالك: إذا أثغر الغلام خرج عن حضانة الأم. ولمالك في كتب المدنيين: يخير الصبي إذا أثغر بين أ، يكون عند أبيه أو أمه. واستحسن ابن العطار وابن رشد وغيرهما من الشيوخ إسهام الأبوين على الذكر إذا أثغر على ما ورد في بعض الأحاديث، وكان المصنف التبس عليه باب الحضانة بباب النفقة وظن تساويهما، لأن المشهور أن النفقة لا تنقطع بالبلوغ بل البلوغ بشرط أن يكون عاقلاً غير زمن. والْبِنْتِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَلوْ أَسْلَمَ وبَقِيَتْ كَافِرَةً أي: وحضانة الأنثى حتى يدخل بها زوجها ولا تنقطع حضانتها بالبلوغ كالذكر، ولم أر في ذلك خلافاً، ولو أسلم الأب بعد بلوغ ابنته البكر، وأدخل هذه الصورة في حكم ما قبلها لأنه قد يتوهم خروجها لاختلاف الدينين. وكذلك نص اللخمي على الوجوب في عكس هذه الصورة، أعني إذا أسلمت بعد بلوغها وبقي هو كافر لم تسقط نفقتها عنه لأنه حكم بين مسلم وكافر.

وَلَوْ عَادَتْ بَالِغَةً أَوْ عَادَتِ الزَّمَانَةُ لِلذَّكَرِ لَمْ تَعُدْ يعني: فلو زوج الأب ابنته الصغيرة ثم طلقها زوجها أو مات عنها وعادت إلى أبيها بعد البناء بالغة لم تعد نفقتها على الأب. مالك: فإن طلقت قبل البناء فهي على نفقتها. ومفهوم كلام المصنف أنها لو عادت غير بالغة لوجب على الأب الإنفاق، وهو قول سحنون، قال: تعود نفقتها ولا يسقطها بلوغها حتى تتزوج زوجاً آخر. وقال غيره: لا تعود أصلاً، وقيل: تعود إلى أن تبلغ فتسقط. وهو الذي قدمه المتيطي، قال: ولا تسقط النفقة لترشيده لابنته. قوله: (أَوْ عَادَتِ الزَّمَانَةُ) يعني إن بلغ الابن زمناً وقلنا باستمرار نفقته على المشهور ثم صح وحكمنا بسقوط نفقته ثم زمن فإن النفقة لا تعود إلى الأب. واعلم أن الخلاف في هذا الفرع موجود سواء بلغ زمناً أو صحيحاً، وفيه ثلاثة أقوال: قال ابن القاسم: إن بلغ زِمناً أو أعمى لم تسقط وإن طرأ ذلك عليه بعد البلوغ لم تعد. وقال ابن وهب في الموازية: لا نفقة له بلغ على ذلك أو طرأ عليه. وذكر ابن الجلاب عن ابن الماجشون أن نفقته لأبيه بلغ على ذلك أو أحدث به. اللخمي: وهو أحسن. ولما لم يذكر المصنف في هذه المسألة خلافاً كان انتصاره في فرض المسألة على ما إذا عادت الزمانة حسباً، لأنه تنبيه منه بالأخف عن الأشد، لأن النفقة إذا لم تعد لأجل الصحة الواقعة بين الزمانتين فلأن لا تعود إذا بلغ صحيحاً ثم زمن أولى، إذ لقائل أن يقول: لا عبرة بالصحة الواقعة بين الزمانتين. فرع: نص محمد على ما إذا دخل بها وهي زمنة ثم طلقت أنه تعود نفقتها، وكذلك قال الباجي إن كان للولد الزمن مالك ثم ذهب أنه تعود نفقته.

ثُمَّ لَهُمَا أَنْ يَذْهَبَا حَيْثُ شَاءَا، إِلا أَنْ يُخَافَ سَفَهٌ فَيَمْنَعَهُمَا الأَبُ أَوِ الْوَلِيُّ يعني: ثم للان والبنت أن يذهبا بعد بلوغهما حيث شاءا، وهكذا قال مالك في المدونة، وحمله ابن رشد على ظاهره من ذهابهما بأنفسهما ومالهما، واحتج لذلك بأنه وقع لمالك هكذا في رواية زياد، وتأوله الشيخ أبو محمد وأكثرهم على أنه يريد بأنفسهما لا بمالهما، قالوا: لأن المعروف لمالك في غير موضع أنه لا يحكم للولد بالرشد بنفس البلوغ لا سيما الأنثى ولو كانت مدخولاً بها حتى يعرف من حالهما ما يستوجبان به الرشد، فحمل المدونة على ما يعرف لمالك في المدونة وغيرها أولى من حلمه على رواية شاذة لا يعرفها كل الناس. ثم إن خيف عليهما السفه في المال فلا شك أن للأب والولي منعهما، وإن كان في الدين فلهما منعهما وللأم ولسائر المسلمين إلا أن الأب والولي أخص بالمنع من غيرهما. ونَفَقَةُ ولَدِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَيْهَا إِنْ كَانُوا فِي كِتَابَتِهَا إِلا أَنْ يَكُونَ الأَبُ فِي كِتَابَتِهِمْ فَنَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ .... يعني: أن من كاتب أمة فحدث لها أولاد بعد كتابتها أو كان لها أولاد موجودون وكاتبت على نفسها وعليهم كتابة واحدة فإن الولد على الأم لأنها أحرزت نفسها ومالها وولدها ومالها من سيدها، وليس عندنا أنثى تجب عليها النفقة إلا هذه، وفي التحقيق أن النفقة من السيد، لأنه اشترط ذلك عليها أو كأنها من جملة الكتابة. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ الأَبُ فِي كِتَابَتِهِمْ فَنَفَقَتُهُمْ) أي الأولاد والأم (عَلَيْهِ). وَلَيْسَ عَجْزُهُ عَنْهَا كَعَجْزِهِ عَنِ الْكِتَابَةِ والْجِنَايَةِ يعني: ليس عجز المكاتب عن نفقة ولده كعجزه عن الجناية والكتابة، لأن الجناية والكتابة متعلقان برقبته بخلاف النفقة فإنها مواساة بشرط اليسار.

وَيَجِبُ عَلَى الأُمِّ الإِرْضَاعُ إِنْ كَانَتْ تَحْتَ أَبِيهِ أَوْ رَجْعِيَّة ولا مَانِعَ مِنْ عُلُوِّ قَدْرٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ .... إنما وجب على الأم الرضاع إذا كانت في العصمة أو رجعية بغير أجر، لأن عرف المسلمين على توالي الأعصار في جميع الأمصار على أن الأم ترضع الولد. وألحقت الرجعية بمن في العصمة، لأن أحكام الزوجية منسحبة. وقوله: (ولا مَانِعَ) يعني: وأما أن كانت ممن [425/ب] لا ترضع لشرفها فلا رضاع عليها، لأن العرف ألا تكلف هذه الشريفة الإرضاع، والعرف كالشرط. قال في الجواهر: ويجب على الأم أن ترضع ولدها إذا كانت تحت أبيه إلا أن يكون مثلها لا يرضع لسقم أو قلة لبن أو لشرف وعلو قدر. ولذات الشرف أن تأخذ الأجرة من الأب إذا رضيت أن ترضعه، نص على ذلك اللخمي وابن بشير وابن عبد السلام. خليل: وأفتى بعض مشايخ شيخي بأن الشريفة إذا تواضعت للإرضاع لا أجر لها لإسقاطها حقها، ولا كبير مؤنة عليها في لبنها. وكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الأَبُ عَدِيماً ولَمْ يَقْبَل غَيْرهُا إنما يظهر هذا في الشريفة وفي معناها المطلقة طلاقً بائناً، وأما في حق من في العصمة والرجعية فلا، لأنه إذا كان الإرضاع عليهما وإن كان الأب ذا مال فكيف إذا كان عديما؟ ولو قال المصنف إلا أن يكون الأب عديماً كما قال في الجواهر لكان أبين. وهكذا قال اللخمي وغيره أن الأب إذا كان عديماً كان على الشريفة الإرضاع، وهو مقيد بما إذا لم يكن للولد أيضاً مال، وأما إن كان له مال فلها الأجرة في ماله. قاله صاحب البيان وغيره. وقوله: (ولَمْ يَقْبَل غَيْرهُا) والأحسن أن يقول أو لم يقبل، لأنه إذا لم يقبل غيرها يجب عليها الإرضاع كان الأب عديماً أم لا، والواقع فيما رأيته في نسخ كثيرة ولم يقبل بالواو، ولعل ذلك ليكون مقابلاً لقوله:

فإن قبل فالمشهور وجوبه بخلاف النفقة. وفي الجلاب: لا يجب ظاهر كلامه أن هذا من تمام ما قبله، وإنما ذكره في المدونة والجلاب في الموت، ونص المدونة: وإن مات الأب وللصبي مال فلها ألا ترضعه وتستأجر له من يرضعه من ماله إلا ألا يقبل غيرها على أن ترضعه بأجرها من ماله، فإن لم يكن للصبي مال لزمها إرضاعه بخلاف النفقة التي لا يقضى بها عليها، ولكن يستحب لها أن تنفق عليه إن لم يكن له مال. وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر، لأنه لا يؤخذ منه حكم الموت أصلاً، اللهم إلا أن يقال أن المصنف لم يتكلم على مسألة الموت وإنما كلامه مفرع على ما قبله، ومعناه أن المرأة إذا كانت شريفة أو بائناً وكان الأب عديماً وقبل الابن غيرها فالمشهور وجوب الإرضاع عليها. فإن قيل هو لم ينص في المدونة على هذه الصورة. قيل: لا فرق بين أن يموت الأب ولا مال للصغير وبين أن يكون الأب عديماً في المعنى. ولهذا حكى ابن بشير المشهور وقول ابن الجلاب في الأب العديم، وعلى كل تقدير فكلامه ليس بظاهر، لأنه إن أراد مسألة الموت وهي التي في المدونة والجلاب فكلامه لا ينبئ عن ذلك، وإن أراد التفريع على مسألة الشريفة فليس بظاهر لأن التخريج وإن كان صحيحاً فكلامه لا ينبئ عن التخريج، والظاهر أنه أراد هذا الثاني، لأن كلامه لا ينبئ على الموت ولا سيما على ما وقع في بعض النسخ: (فإن قبل غيرهما) بضمير التثنية فيتعين الثاني، لأن الضمير ليس له شيء يعود إليه إلا الشريفة والبائن. وفي بعضهما: (غيرها) فيعود على الأم. وبما في الجلاب قال عبد الوهاب. ابن الجلاب: ويكون إرضاعه في بيت مال المسلمين. وقوله: (بخلاف النفقة) أي فلا تجب على الأم بالاتفاق. وحمل بعضهم ما في المدونة وهي المشهور والذي حكاه المصنف على أن ذلك إذا تعذر الاستئجار من بيت المال، والفرق للمشهور بين النفقة والإرضاع أن اللبن مستخف.

ابن عبد السلام: ورأيت في بعض كلام ابن العربي عن ابن المواز أنه يقول: نفقة الولد على الأبوين على قدر الميراث، فقال هو: لعله أراد أنها على الأم عند عدم الأب. ابن عبد السلام: فإن صح نسبة هذا القول لابن المواز فتأويل ابن العربي بعيد، لأنه إذا كان الأب عديماً أو معدوماً فكيف يمكن أن يؤدى من النفقة شيئاً فضلاً عن الثلثين اللذين هما نصيبه من الميراث. تنبيه: قد تبين لك من كلامه في المدونة أن للأم إذا لم يقبل الولد غيرها أن تأخذ على ذلك الأجرة، وإن كلام للأم ذلك فالأجنبية أولى. قال شيخنا رحمه الله وأبو الحسن: ويجري فيهما قول آخر أنهما يكون لهما شيءٌ قياساً على أحد القولين في المواساة الواجبة بفضل طعام أو شراب، وذلك بأنه إذا لم يقبل الولد غيرهما تعين عليهما الإرضاع، والله أعلم. وعلى وجوب في إيجاب الاستئجار عليها إن لم يكن لها لبن قولان يعني: وإذا فرعنا على المشهور من وجوب الإرضاع عليها فلو لم يكن لها لبن فهل يجب عليها أن تستأجر من يرضعه، لأنها لما كان عليها الإرضاع فعليها خلفه أو لا لأن هذا من النفقة ولا تجب عليها؟ قولان، والقول بالوجوب لمالك في الموازية وهو قول القاضي إسماعيل أبو عمران وهو قولهم كلهم، والقول بعدم الوجوب لعبد الوهاب وهو اختيار التونسي واللخمي. وما عدا ذلك فعلى الأب الإشارة بذلك عائدة على وجوب الإرضاع حيث قلنا أنه على الأم فعلى الأب، أي إذا طلقت طلاقاً بائناً أو كانت شريفة وقبل الولد غير الأم وكان الأب ملياً

فإن لم يقبل غيرها تعينت بأجرة المثل أي: فإن لم يقبل الطفل غير أمه تعينت بأجرة المثل، وظاهر كلامه سواء كانت بائناً أو شريفة [426/ا] ولا إشكال في ذلك في حق البائن. ابن عبد السلام: لقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]. وأما الشريفة فكلام المصنف موافق لما تقدم. وقد تقدم عن بعضهم أنه خالف في ذلك على أن الظاهر أنه لم يتعرض المصنف هنا للشريفة، لأن الفروع التي ذكرها بعد هذا إنما ذكروها في البائن. فإن قبل غيرها خيرت فيه بأجرة المثل يعني: فإن قبل الولد غير أمه المطلقة خيرت هي في أن ترضعه بأجرة المثل أو تتركه لمن يرضعه بذلك. إلا أن يجد الأب من يرضعه عنده بدونها فتخير بذلك اتفاقاً، فإن لم يكن عندها فقولان .... يعني: فإن وجد الأب من يرضعه بأقل من أجرة المثل فإن كانت الظئر ترضعه عند أمه فاتفق على أنه لا مقال لها في طلب أجرة المثل، بل إما أن ترضعه بالقدر الذي وجده الأب أو تسلمه للظئر، وإن كانت الظئر لا ترضعه عند أمه فهل يكون كما لو كانت ترضعه عندها أو لا ويكون القول قولها في طلب أجرة المثل؟ قولان. واعلم أن هذين القولين وقعا لمالك في الموازية مطلقين، ثم اختلف الشيوخ فحكى ابن بشير عن بعضهم أنه فهم أن محلهما إذا كانت الظئر لا ترضعه عند الأم كما قال المصنف، ومنهم من جمع بين القولين فحمل الرواية بخيار الأب على ما إذا كانت الظئر ترضعه عند الأم، والرواية الأخرى على ما إذا أبت الظئران أن ترضعه عند الأم. ومنهم من جعل القولين مطلقين سواء كانت ترضعه عند الأم أم لا.

وحمل ابن يونس وغيره المدونة على أن القول قول الأم في أجرة المثل وإن وجد الأب من يرضعه عندها بأقل من ذلك، ونصها على نقل ابن يونس: قلت: فإن قالت بعدما طلقها ألبته لا أرضعه إلا بمائة درهم كل شهر. وأصاب الزوج من يرضعه بخمسين، قال: قال مالك: هي أحق به بما ترضعه به غيرها وليس للأب أن يفرق بينها وبينه، فإن أبت أن ترضعه بذلك فلا حق لها إلا أن يكون الولد لا يقبل غيرها وخيف عليه الموت فإنها تجبر على رضاعة بأجرة مثلها. ابن يونس: قوله إذا وجد الأب من يرضعه بخمسين وقالت الأم لا أرضعه إلا بمائة فقال مالك: الأم أحق به بما يرضعه به غيرها. يريد بأجرة مثلها لا بخمسين. وقاله بعض القرويين، وإليه رجع ابن الكاتب وهو الصواب. وسواء وجد من يرضعه عند الأم أم لا، وإن كان عند الأم فهي لا تباشره بالرضاع والمبيت، وذلك تفرقة بين الأم وولدها، فلذلك كانت الأم أحق به بأجرة مثلها وهو أبين. عياض: ويشهد لهذا قوله بعد: (وليس للأب أن يفرق بينه وبينها إذا أرادت أن ترضعه بما ترضعه به الأجنبية ... إلى قوله في آخر المسألة: (فإنها أحق بأجرة رضاع مثلها). وقوله أيضاً آخر الكتاب: إذا وجد من يرضعه باطلاً وهو موسر لم يكن له أخذه، وعليها رضاعه بما يرضعه به غيرها ويجبر الأب على ذلك. وحمل بعضهم المدونة على أنها إنما تكون أحق بأجرة المثل إذا لم يقبل غيرها أو لم يوجد من يرضعه عندها، وأما إن وجد من يرضعه عندها باطلاً أو بدون أجرة المثل فلا حجة لها، ونحوه في كتاب ابن سحنون لأبيه، وقد يشهد أيضاً لهذا من الكتاب قوله إذا علق بالأم لا صبر له عليها وكان لا يقبل غيرها أو خيف عليه فأمه أحق به بأجرة مثلها. واختار اللخمي التفصيل، فإن كان الزائد الذي تبتغيه الأم يسيراً فالقول قولها، وإن تباين

ما بين الأجرتين أو وجد من يرضع ولده فالقول قول الأب إذا كانت الظئر ترضعه عند الأم، وإن قالت أنا أرضعه عندي لم يكن ذلك للأب لأن للأم حقاً في الحضانة وليس للأب أن يحول بينه وبينها. وإن وجده مجاناً وهو موسر فقولان يعني: فإن وجد الأب من يرضعه مجاناً فإن كان معسراً فله ذلك إلا أن ترضى هي أن ترضعه بلا شيء، فإن لم يكن معسراً فهل له ذلك لأنه حق له أو لا نظراً لحق الأم في الحضانة؟ قولين: مذهب المدونة ليس له ذلك. واقتصر في الجواهر عليه، والقول الآخر لمالك من رواية ابن وهب. قال في البيان: ومعناه عندي إذا كان الذي وجده الأب يرضعه عند أمه ولا يخرجه عن حضانتها. ***

الحضانة

والحضانة في النساء: للأم، ثم أمها، ثم جدة الأم لأمها، ثم الخالة، ثم الجدة للأب، ثم جدة لأبيه، ثم الأخت، ثم العمة، ثم بنت الأخت .... تصوره ظاهر، وقدم بعضهم على بعض على نحو ما ذكره المصنف، لقوة الشفقة في المقدم، ولهذا قال اللخمي: لو عُلِمَ مِمَّنْ قدمناه قلة الحنان، والعطف لخلق بجفاء أو قسوة أو لأمر بينها وبين أم الولد أو أبيه، وعُلِمَ من أحدٍ مِمَّنْ أخرناه الحنان والعطف، لقدم على من علم منه القسوة أو غير ذلك. وذكر المصنف بينت الأخت، وأسقط بينت الأخ، وهي التي في التهذيب وفي اختصار ابن يونس بعد الأخت، ثم بنت الأخت ثم العمة ثم بنات الأخ، ولم يجعل لبنت الأخت ولا لبنت الخال، ولا لبنت العمة ملك في الواضحة حقاً في الحضانة. اللخمي: ومعناه في العصبة وإلا فهم أحق من الأجنبيين، واستبعد ابن محرز وابن رشد وغيرهما ما في الواضحة لأن بنت الأخت رحم محرم، ولهذا قيل: بل تقدم بنت الأخ عليها للاتفاق عليها. وقيل: هما [426/ب] سواء ينظر في أحرزهن وَأَكْفَئِهِنَّ. ونص عبد الوهاب واللخمي وصاحب المقدمات وغيرهم أن الأخت الشقيقة مقدمة على التي للأب، وكذلك الخالة والعمة، وكذلك يقدم الأخ للأم على الذي للأب، بل قيل إسقاط الأخ للأب، وروي عن مالك وابن القاسم في كتب المدنيين أنه لا حق للأخت للأب، لأن التعاطف بين الأختين للأم، والشنآن بينهما إذا كانتا للأب لاختلاف ما بين أمهاتهم. قال في المقدمات: وإنما تستوجب الحضانة بوصفين: الأول: أن تكون ذات رحم. والثاني: أن تكون محرمة عليه. فإن كانت ذات رحم منه ولم تكن محرمة عليه كبنت الخالة، وبنت العمة وما أشبههما لم يكن لها حق في الحضانة، وكذلك إن كانت محرمة عليه، ولم تكن ذات رحم منه كالمحرمة عليه والمصاهرة والرضاع.

وفي إلحاق خاله الخالة بالخالة قولان يعني: اختلف على قولين: هل لخالة الخالة حق في الحضانة أو لا؟ وهي أخت الجدة للأم، قيل: وكذلك عمة العمة، وهي أخت الجدة للأب. ومذهب ابن القاسم إلحاق خالة الخالة بالخالة، وقدمها على الجدة للأب، واستشكله اللخمي. ابن عبد السلام: وفي عبارة المؤلف قلق، لأن القول بعدم إلحاق خالة الخالة لا يلزم منه سقوط حقها مطلقاً، لما علمت أن عدم إلحاقها بالخانة أعم من سقوطها بالكلية. وفي المذكور: للأب ثم الأخ ثم الجد ثم ابن الأخ ثم ابن العم ثم المولى الأعلى والأسفل على المشهور فيهما .... الترتيب بين الحاضين على ثلاثة أوجه بين النساء بانفرادهن، وبين الرجال بانفرادهم، وبينهما. ولما تلكم على الأول أتبعه بآخرين. والترتيب الذي ذكره المصنف ذكره ابن المواز أن أحق العصبة الأخ بعد الأب، ثم الجد ثم ابن الأخ ثم العم. قال في المقدمات: فيحتمل أن يريد أن الجد وإن علا أحق من ابن الأخ والعم، ويحتمل أن يريد أن أحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ، ثم الجد الأدنى ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم وإن سفل الأقرب فالأقرب ثم أبو المجد ثم عم العم ثم ابن عم العم، وإن سفل الأقرب فالأقرب ثم جد الجد، ثم ولده ثم ولد جد الأب، ثم ولده على هذا الترتيب. قال: فترتيب الحضانة يسن لحي على ميراث المال ولا على ميراث الولاء، والصلاة على الجنائز لأن الجد وإن علا أرفع مرتبة في الميراث من الأخ، ولأن بني الإخوة يسن لهم حق مع الجد وإن علا، وابن الأخ في باب الولاء أحق من الجد

اللخمي: ولم أر للجد للأم في الحضانة نصاً، وأرى أن له في ذلك حقاً، لأن له حناناً، ولهذا غلطت الدية فيه، وأسقط عنه القود، وفي الوثائق المجموعة: إن اجتمع الجدان فالجد للأب أولى من الجد للأم. وهو قول ابن العطار، ونص في المقدمات على أنه لاحق له، ثم المولى الأعلى- أي بعد العصبة- وهو المعتق والأسفل يريد بعد الأعلى نص على ذلك اللخمي: على المشهور فيهما، أي في الأعلى والأسفل. والمشهور مذهب المدونة إثبات الحضانة لهما. وقال ابن محرز: لا حق في الحضانة للمولى الأعلى إذ لا رحم له. وعلى قوله فلا حق للأسفل من باب الأولى. اللخمي: ومن شرط من له الحضانة من الرجال وجود الأهل من زوجة أو سرية، قال: وهذا في الذكر، وأما الأنثى فحق الأولياء في حضانتها على ثلاثة أقسام: ثابت، وساقط، ومختلف فيه. فيثبت فيمن بينهن وبين محرم كالأخ وابنه والجد، ويسقط في كل من ليس بمحرم إذا كان غير مأمون أو مأموناً، ولا أهل له، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يخلُ رجل بامرأة ليس بينه وبينها محرم)). واختلف إذا كان مأموناً وله أهل، فقال في الموازية في الصبيةِ تتزوجُ أمُها، ولها جد وعم لهما أن يأخذاها، وأما الوصي فليس بينه وبينها محرم، وتكون مع زوج أمها لأنه صار كالمحرم منها إلا أن يخاف عليها عنده، فيكون الوصي أولى بها. وقال أصبغ: الوصي أولى بها من الأم إذا تزوجت، ومن العم فالإناث وإن كن قد بلغن أبكاراً، والأولياء إذا لم يكن بينهم وبينها محرم كالأوصياء. وقول مالك أصوب، لأنه لا ينفك مَنْ تكون في ولايته أن يطلع منها على ما لا يحل، لأن طول الصحبة والتربية يسقط التحفظ، وهذا فيمن بلغ منهن حد الوطء، وأما فيمن كان صغيراً فيصح أن يقال يكفلها الوصي إلى أن تبلغ حد الوطء فتزوج، ويصح أن يقال بمنع ذلك لما عليها من الضرر في التنقل من قوم إلى قوم لأنها يشق عليها نقلها عمن ألفته، وما ذكره من أول

الفصل أن شرط الرجل في الحضانة أن يكون له أهل هو قول مالك في مختصر ابن عبد الحكم إذا تنازع الأب والخالة في الحضانة، الأب أولى إذا كان عنده من يحضنه فراعى أهله لأنهن العمدة في القيام بالأطفال، والغالب من الرجال التصرف، فإذا لم يكن لهم من يكفلهم ضاعوا، انتهى. وقول مالك: (إذا كان عنده من يحضنه) أحسن من قول اللخمي: (إذا كان عنده زوجة أو سرية)، لصدق كلام مالك على ما إذا كانت أمة للخدمة أو قرابة، لأن الغرض من يقوم بمصالح الصبي. المتيطي: [427/ا] ولمالك في المدونة: الوصي أحق بالولد إذا نكحت الأم وليس له جدة ولا خالة. بعض القرويين: أراه يريد الولد الذكر. قال في الموازية: ولا يأخذ الأنثى إذ ليس بينه وبينها محرم. فجعل بعض شيوخنا ما في الموازية تفسيراً لظاهر المدونة، وظاهر المدونة محتمل، لأن لفظ الولد والصبيان يقع على الذكور والإناث. والأم ثم أمها أولى من الجميع هذا هو الوجه الثالث، أعني إذا اجتمع الرجال والنساء، وقوله من الجميع، أي جميع الرجال والنساء، وحكى اللخمي والمتيطي وابن رشد وغيرهم الاتفاق على ذلك. وفي الأب مع بقيتهن. ثالثها المشهور: يقدم على من بعد الجدة للأب القول بتقدمة الأب على من عدا الأم وأمها لمالك في الموازية، والقول بتقدمة الجميع عليه لمالك في الواضحة. والمشهور مذهب المدونة: يقدم على من بعد الجدة للأب، فيقم على الأخت وما بعدها، وتقدم الجدة عليه، ولو كانت نصرانية. وزاد اللخمي رابعاً لابن القاسم في كتب المدنيين أن الخالة تبدأ على الأب ويبدأ هو على أمه. وزاده غيره خامساً أن الأب يقدم على من عدا الأم، والجدة إن لم يكن مسلمات، وإن كن قدمن عليه، ونقل عن

أشهب. وذكر في المقدمات في تقديم الأب على جميع قرابته أو تقديمهن عليه أو تقديمه على من عدا الجدة من قبله ثلاثة أقوال. وقيل: الأب أولى من الأم عند إثغار الذكور يعني: فأحرى أن يكون مقدماً على غيرها، وهذا القول رواه ابن وهب عن مالك، ووجهه أن احتياج الولد إلى أبيه بعد الإثغار أكثر، لأنه يحتاج حينئذ إلى التربية والتعليم. واستحسن ابن القصار وابن رشد وغيرهما من الشيوخ استهام الأبوين على الذكر إذا أثغر على ما وقع في بعض الآثار، وذهب إليه بعض العلماء خارج المذهب، وذهب الشافعي إلى أن الولد الذكر يخير بين أبويه، واختاره بعض الشيوخ، وترجح في الأنثى إذا كانت عند غير الأم. وبقية النساء أولى من بقية الذكور ابن عبد السلام: لا خلاف في هذا في المذهب. اللخمي: وكل من ذكر أنه له حظاً في الحضانة فليس ذلك بواجب عليه، وهو في ذلك بالخيار من أب أو غيره، لأن لكل حناناً وعطفاً، ما خلا الأم. واختلف هل تخير أم لا؟ أي بناء على أنه حق لها، أوله ابن محرز، والصواب عندي أنه حق مشترك بين الحاضن والمحضون. وأم الولد تعتق كالحرة الأصلية على الأصح يعني: إذا عتق أم ولده- وله منها ولد- فإنها أحق بحضانة ولدها على الأصح. والأصح هو مذهب المدونة، ووجهه أن الفرقة حصلت بين الأبوين بالعتق هنا، كما حصلت بالطلاق. وقال ابن وهب: لا حضانة لها. قال: وإنما ذلك للحرة يطلقها زوجها.

كالأمة المتزوجة في ولدها الحر يعتق قوله: (يعتق) - بالياء المثناه من تحت- عائد على الولد، قال في المدونة: وإذا أُعتق ولد الأمة وزوجها حر فطلقها فهي أحق بحضانة ولدها، إلا أن تباع إلى بلد غير بلد الأب، فالأب أحق به، أو يريد الأب انتقالاً إلى غير بلده فله أخذه. محمد: وكذلك أيضاً إذا تزوجت الأم فالأب أحق به. قيل: وظاهر المدونة خلافه، وفيه نظر، وليس في المدونة ما يؤخذ منه أنها إذا تزوجت لا تسقط حضانتها، وإذا سقطت حضانة الحرة بالتزويج فالأمة أولى، وأسقط المصنف حرف العطف من قوله: (كالأمة) لأنه قصد بذلك الاستدلال على مسألة أم الولد، وذلك لأن الأمة المطلقة إذا لم يسقط حقها في الحضانة فالحرة التي كانت أم ولد وعتقها سيدها أَولى لأن الحرة أقوى على صيانة ولدها من الأمة. واستشكل اللخمي وجوب الحضانة للأمة، لأنها مقهورة مشغولة بحق ساداتها، وإذا سقطت حضانة الحرة بالتزويج لما يتعلق بها من حقوق الزوجية، فالأمة أولى لأن سلطنة الرق أقوى من سلطنة الزوجية. وقد جنح مالك إلى هذا المعنى في مختصر ما ليس في المختصر، فقال: إذا أُعتق الصغير وأمه مملوكة وأمها حرة فتنازعاه، فأمه أحق به- دنيا-، إلا أن يكون ذلك مضراً به. فقوله: (مضراً به) جنوح منه إلى النظر فيمن كان في الرقم. وإلى هذا الإشكال أيضاً ذهب ابن رشد، فقال: القياس أن تكون الجدة الحرة أحق بالحضانة من الأم من أجل سيدها، كما إذا تزوجت الأم. قال: وإنما جعل الأم أحق، أي: في مسألة المختصر، لأنه رأى ألا يفرق بينه وبين أمه ورآها أحق بحضانته من الجدة الحرة، لأن سيده هو الذي ينفق عليه من أجل أنه أعتقه صغيراً، ألا ترى أن من قول مالك وغيره في المدونة وغيرها أن من أعتق صغيراً وأمه عنده أنه لا يبيعها إلا ممن يشترط عليه نفقته ليكون مع الأم في نفقة سيدها.

ابن هارون وابن عبد السلام: إنما يتم هذا لو كان زمان الحضانة هو الزمان الذي ينفق فيه السيد على عبده، والزمان الذي لا يعرف بينه وبين الأم وولدها المعتق، وهي أزمنة ثلاثة: زمان الحضانة في الذكر إلى الاحتلام، وزمان النفقة على هذا المعتق أقل الأجلين، إما بلوغ الحلم، وإما بلوغه قدر ما يسعى فيه على نفسه، والزمان الذي لا يفرق فيه بين الأم [427/ب] وولدها الإثغار على ما عرف في المذهب. فالجواب على إشكال اللخمي أن المرأة إذا تزوجت حصل بين زوجها الثاني وبين مطلقها بعض العداوة له ولولده فَنُزعَ الولد من الأم لهذا المعنى بخلاف الأمة فإنها وإن شغلت بخدمة ساداتها لا يبغضون ولدها كما يبغضه الزوج، ولا سيما إن كانوا هم الذين أعتقوه. وينبهك على ما أشرنا غليه من البغض ما لمالك في الموازية: إذا نكحت الأم فالجدة للأم أولى بحضانة الولد إذا كان لها منزل تضمهم فيه، ولا تضمهم مع أمهم. وقال سحنون في أسئلة ابن حبيب: إذا كانت الجدة لا زوج لها وهي ساكنة مع ابنتها في دار زوجها الثاني لم يلزمها الخروج من الدار، ولم يكن للزوج حجة في بقاء الولد مع الأم والزوج الثاني في موضع واحد. ابن هشام: وبما في الموازية أفتى ابن العواد، وهي الرواية المشهورة عن مالك وأصحابه، ولعل سحنوناً أراد الصبي لأنه لا كشفة فيه، وقد يقول في الصبية الكبيرة أن أباها يكره اطلاع زوجها عليها، ويمكن أن يكون ما قاله مالك في الموازية ليس معللاً بالبغض، بل لأن للأب كما قال في المدونة تعاهد الولد عند الأم وأدبهم وبعثهم إلى المكتب، ولا يبيتون إلا عندها، فإذا سكنت الحاضنة عند أمهم لم يكن للأب تعاهدهم عندها بسبب ما يحدث بذلك مما لا يخفى. والأب والوصي أولى من جميع العصبة على المنصوص، ويسافر بهم سفر نقله، وقيل: كولي النكاح .... يعني: أن الذي نص عليه في الرواية أن الوصي أولى من سائر العصبة.

ابن بشير: وينبغي أن يجرى الأمر على قولين، هل يكون مقدماً أو غير مقدم. وقد قدمنا في الصلاة على الميت وفي ولي النكاح ما يقتضي الخلاف في هذا الأصل، وهي أن هذه الحقوق هل تكون كالحقوق المالية، فلمالكها أن يتصرف فيها وينقلها إلى غيره، أو لا تكون كالحقوق المالية لأنه إنما ملك بسبب موجود فيه، لا في المنقول إليه؟ وهذا معنى قوله (وقيل: كولى النكاح) وعلى هذا فيكون قوله: (وقيل: كولى النكاح) مقابل المنصوص، وكان ينبغي أن يبين أن هذا القول مخرج، وعلى هذا فقوله أولى على المنصوص، أي: ومقابله لاحق له في الولاية، وإن كان لفظه يحتمل أن له حقاً في الولاية، وليس بأولى لكن لم أرَ ذلك. وكذلك يحتمل أن يكون قوله: (وقيل: كولي النكاح) اختلاف طريقة، ويكون أشار بذلك على أنه هل يكون أولى من الولي أو الولي أولى منه، أو هما سواء، أو كالأجنبي؟ لكن لم أر نقلا يساعده. وقوله: (ويسافر بهم سفر نقلة) ظاهر لأنه إذا كان للولي السفر بالطفل والوصي أولى منه، كان الوصي أولى بذلك. بعض الشيوخ: وإنما يقدم الوصي على الأولياء، ما لم يعلم أن ذلك من الأب، لشنآن بينه وبين جد الولد أو أخيه، فيقدمان على الوصي. قال: ولو كان الشنآن بينه وبين عم الولد أو ابن عمه لتقدم عليه الوصي، لأنهما يتهمان في عداوته والإساءة له لعداوة الأب. وإذا اجتمع المتساوون رجح الشقيق ثم بالصيانة والرفق وقع في بعض السخ: (الشقيق) من الشقاقة، وهو صحيح، وقد تقدم، وفي بعضها (الشفيق) من الشفقية وهو أيضاً صحيح ظاهر المعنى، وثم يرجح بالصيانة ثم بالسن لأن الغالب أن الأسن أقرب إلى الرفق والصبر من غيره.

فإن غاب الأقرب، فالأبعد لا السلطان هذا ظاهر، ولا مدخل له هنا، بخلاف النكاح. وشرط الحضانة: العقل، والأمانة، والكفاية، وحرز المكان في البنت يخاف عليها، ولو كان أباً أو أماً، ويأخذها منهم الأبعد ... لمن يستحق الحضانة شروط: أولها: العقل، فلا حضانة لمجنون ولو كان غير مطبق، ولا لمن به طيش. ثانيها: الكفاية، فلا حضانة لمن به زمانة، أو بلغ به المرض أو الكبر ما لا يملكه معه التصرف. اللخمي: أو يمكنه بمشقة. ثالثها: الأمانة، فلا حضانة لمن يبذر ما يأخذه من نفقة المحضون، أو كان غير مأمون في دنيه، لأن من هذا حاله يخاف أن يدخل على المحضون فساداً. فرع: ويحتاج الحاضن أن يثبت الأمانة على ما ذكره ابن العطار وابن الهندي وغيرهما من الموثقين، واحتجوا لذلك بما في إرخاء الستور من المدونة: أن الحضانة يستحقها من الأولياء من كان في كفاية وحرز وتحصين، وقد يكون الأب غير مأمون، فرب أب شريب يذهب يشرب ويترك ابنته أو يُدخل عليها الرجال، فهذا لا تضم إليه. ابن القاسم: وينظر لها السلطان. المتيطي: فيما قيده الموثقون نظر عندي، والواجب أن يحمل على الأمانة فيهم، ولا يكلف بينة حتى يثبتوا عليه ذلك. رابعها: المكان في البنت التي يخاف عليها، بخلاف الصبي والصغيرة التي لا يخاف عليها. وقوله: (ولو كان أباً) يعني: أن هذه الشروط تعتبر في الحاضن مطلقاً، ولو كان أقرب الحاضنين أو الحاضنات، ولا يقال أن قربه يسقط بعض هذه الأوصاف.

واختلف في السفيهة، فقيل: لها الحضانة، وقيل: لا. وهو قوله في الموازية، قال: ولا حضانة لسفيهة، [428/أ] ابن القاسم في وثائقه: ويلزم عليه العمى والصمم والقعد والخرس، وقال اللخمي: إن كانت سفيهة في عقلها ذات طيش وقلة ضبط، لا تحسن القيام بالمحضون ولا أدبه، أو كانت سفيهة فيما تقبضه، تبذره قبل انقضاء الأمر، فلا حق لها في الحضانة، بخلاف ما إذا كانت سفيهة مولى عليها ذات صيانة وقيام، ويشترط في الحاضنة ألا تكون جذماء ولا برصاء، وإن كان خفيفاً لم يمنع، وإذا كانت الحضانة لرجل روعي ذلك فيمن يتولى الحضانة من نسائه في القيام، ودفع المضرة. قوله: (ويأخذه منهم الأبعد) أي: إذا عدم من الأقرب بعض هذه الصفات أخذه الأبعد، وهو ظاهر. وخلو المرأة من زوج دخل بها إلا جد الطفل على الأصح لما ذكر الشروط المطلوبة ذكر أن الحاضنة يشترط فيها أن تكون خالية من الزوج، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((أنتِ أحق به ما لم تنكحي)) وسقطت حضانتها بالزواج لاشتغالها بحقوق الزوج عن المحضون، وهذا هو المعروف. وفي المتيطية عن مالك أنه ليس للوالد أخذ الولد من الأم، وإن تزوجت ودخل بها زوجها إذا كان الابن في كفاية. قوله: (إلا جد الطفل) أي: فإن تزوج الحاضنة به لا يسقط حضانتها لشدة حنوه على الولد. واعلم أن تزويج الحاضنة بجد الطفل لا يمكن أن يتصور ذلك في حق الأم لاستحالة أن يتزوج أم الولد بجده، وإنما يتصور في جدة الطفل ونحوها، والأصح مذهب المدونة، ومقابله لابن وهب أنه لا يستثنى عنده أحدٌ من الأزواج، بل مطلق التزويج عند مُسقط نظراً لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما لم تنكحي)).

وقوله: (جد الطفل) الأحسن جد المحضون، لأن الذي يتبادر إلى الذهن في العرف من الطفل أنما هو الواحد الذكر، وإن صح إطلاقه على أكثر من واحد لقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31]. تنبيه: قوله: (إلا جد الطفل) نحوه لابن شاس وابن بشير: إن تزوجت الأم أو من لها الحضانة، فإن لم يكن ولياً للطفل فقد سقطت حضانتها، وإن كان ولياً فقولان، المشهور ثبوت حضانتها، فأطلق في الولي. ونحوه للخمي وصاحب المقدمات ففي المقدمات: وإن زوجها ذا رحم من المحضون، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون محرماً، والثاني: ألا يكون محرماً، فإن كان محرماً عليه فسواء كان ممن له الحضانة كالعم والجد للأب، أو ممن لا حضانة له كالخال، والجد للأم لا تأثير له في إسقاط الحضانة. وأما إن كان غير محرم عليه فلا يخلو أن يكون ممن له الحضانة كابن العم أو ممن لا حضانة له كابن الخال، فإن كان ممن له الحضانة فهي أحق ما لم يكن للمحضون حاضنة أقرب إليه منه فارغة من زوج، وإن كان ممن لا حضانة له سقطت حضانتها بكل حال، كالأجنبي سواء. وإن كانت وصية فقولان يعني: اختلف هل يستثنى من النساء إذا تزوجن المرأة الموصاة أم لا؟ قولان، وهما لمالك، وروي عن أشهب وابن نافع: إذا أرادت النكاح له أن ينتزع الولد منها إن نكحت، لأن المرأة إذا تزوجت غلبت على جل أمرها حتى تعمل ما ليس بصواب. وقال في موضع آخر: إن أفردت لهم بيتاً مع من يخدمهم، وأحسنت النظر لم ينزعوا منها. فائدتان: قال غير واجد: لا يُسقط التزيجُ بالأجنبي الحضانةَ في ست مسائل هذه على أحد القولين: وإذا كان الولد رضيعاً لا يقبل غير أمه، وإذا قبل وقالت الظئر لا أرضعه إلا

عندي، لأن كونه في رضاع أمه- وإن كانت متزوجة- أرفق له من أن يسلم لأجنبية- وإذا كان من بعدها ممن له الحضانة غير مأمون، وإذا كا من بعدها عاجزاً أو غائباً، وإذا لم يكن للولد قرابة من الرجال ولا من النساء، ويزاد سابعة وهي: إذا كان الأب عبداً والزوجة حرة، فلا يكون للأب أن ينتزعه منها إذا تزوجت. ابن القاسم في الموازية: إلا أن يكون مثل العبد القيم بأمور سيده، أو التاجر الذي له الكفاية، فيكون أولى بولده إذا تزوجت الأم، وأما العبد الذي يخرج في الأسواق ويبعث في الأسفار فلا. الفائدة الثانية: قال في المقدمات: اختلف بماذا يسقط الزوج الأجنبي حضانة زوجته، فقيل بالدخول، وقيل: بالحكم عليها، وقيل: بأخذ الولد منها. وعلى هذا يأتي اختلافهم فيمن طلق امرأته وله منها ولد، فتزوجت ولم يعلم بتزويجها حتى مات عنها أو طلقها أو علم بذلك ولم تطل المدة، هل له أن يأخذ الولد منها عبد خلوها من الزوج أم لا؟ وأما إن علم بتزويجها ولم يقم حتى طالت المدة ثم طلقها الزوج أو مات عنها فليس له أن يأخذ الولد منها، لأنه يعد بذلك تاركاً لحقه على الخلاف في السكوت، هل هو بمنزلة الإقرار أم لا؟ ولا يشترط الإسلام على المشهور، وتضم إلى ناس من المسلمين ولو كانت مجوسية أسلم زوجها .... لا يشترط في الحاضن والحاضنة أن يكونا مسلمين على المشهور، وهو مذهب المذونة، والشاذ لابن وهب: لا حق لكافرة لأنه إذا لم يكن لمن أثنى عليه بشر حضانة، فالكافر أولى، واستحسنه [428/ب] اللخمي.

وقوله: (وتضم إلى ناس من المسلمين) ظاهره أنها تضم مطلقاً. وفي المدونة: والذمية إذا طلقت والمجوسية يسلم زوجها وتابى هي الإسلام فيفرق بينهما، ولهما من الحضانة ما للمسلمة، وتمنع أن تغذيهم بخمر أو خنزير، وإن خيف أن تفعل ذلك ضمت إلى ناس من المسلمين ولا ينتزعوا منها، فلم يقل إنها تضم، إلا إذا خيف منها. ولا تعود بعد الطلاق أو الإسقاط على الأشهر إلا في إسقاطه لعذر يعني: فلو تزوجت الأم أو غيرها من الحاضنات أو أسقطه هي فهل لها أن تعود في الطفل فتأخذه إذا طلقت أو مات زوجها. فالشهر وهو مذهب المدونة أنها لا تأخذه ولا تعود لها الحضانة، والشاذ لابن وهب أنها تأخذه. وزاد في المقدمات ثالثاً: أنها تسقط حضانتها في حال تزويجها، فإن طلقها الزوج أو مات عنها رجعت في ولدها. وفيه نظر، لأن هذا القول هو قول ابن وهب لأن ابن وهب لا يقول أن لها الحضانة وهي متزوجة. وهكذا قال ابن عبد السلام: صاحب المقدمات وغيره. هذا الخلاف إنما هو على مذهب من يرى أن الحضانة حق للحاضنة، وأما على قو ابن الماجشون الذي يرى أن الحق في الحضانة للمحضون فلها أن تأخذ الولد متى خلت من الزوج. ابن عبد السلام: واختلف في سكوت الحاضن الأقرب عن الحاضن الأبعد يأخذ الطفل أو غيره ممن كان له في الحضانة حق فتزوج مثلاً، وبقي الطفل بيده هل يكون سكوته تركاً لحقه في الحضانة؟ على قولين، إلا في إسقاطه لعذر كمرض أو لسفر حجة الفريضة ونحو ذلك، فإن لها الحضانة إذا زال عذرها. فرعان: أولهما: قال في الموازية: وإن تزوجت الأم فأخذتهم الجدة للأم ثم فارق الأم زوجها فللجدة أن تردهم عليها، وليس للأب في ذلك حجة. ابن محرز والمتيطي: أما لو ماتت الجدة وطلقت المرأة فهي أحق من الأب.

الثاني: قال أشهب عن مالك فيمن توفي زوجها فتركت أولادها خمسة أشهر أو سبعة ثم قيل لها: أنت أحق بهم ما لم تنكحي. فقالت: والله ما علمت بهذا. قال: الثاني في هذا قريب، وهو يجهل السنة. وقد سئل عمن فارق زوجته وله منها بنت فطرحتها وألحقت بأهلها، فقامت عندهم ما شاء الله ثم تزوجت لا تتعرض لبنتها ولا تريدها حتى ماتت، فقامت أمها تطلب ابنة ابنتها، فقال: إن كان لذلك سنة فأكثر فلا شيء لها، فقد تركوها ورفضوها، فإن كان لذلك سنة إلا يسيراً فارى لها أخذها، وإن تزوجها تزويجاً فاسداً لا يُقران عليه، ودخل بها الزوج، ونزع منها الولد ثم علم بفساد النكاح ففسخ، فقال بعضهم: يرجع إليها الولد. وغيره: لا يرجع. ابن يونس: وهو أصوب، وفسخ نكاحها كطلاق زوجها في النكاح الصحيح. ويسقط حق الأم وغيرها من الحضانة إذا سافر ولي الطفل الحر أبا أو غيره سفر نقلة ستة برد، ولو كان رضيعاً لا سفر نزهة وتجارة إلا أن تسافر معه ... يعني: إذا سافر ولي الطفل سواء كان الولي أباً أو غيره، ودخل في قوله: (أو غيره) الوصيُّ وغيره، والحر أولى. يصح أن يقرأ بالخفض صفة للطفل، وبالرفع صفة للولي، لأنه إذا كان الولد أو أبوه رقيقاً لم يكن السفر مسقطاً للحضانة، بل إن كان العبد هو الولد فليس لأبيه إذا سافر كلام، بل هو تحت نظر سيده في الحضن، وكذلك للسيد أن يسافر به، ولأمه اتباعه إن أحبت، وإن كان العبد هو الأب ففي المدونة ليس له حق إذا سافر والأم أحق به، كانت حرة أو أمة، لأن العبد لا قرار له ولا مسكن. قوله: (سفر نقلة) أي سفر انتقال، وأما إن سافر سفر نزهة أو تجارة فلا حق له، وإليه أشار بقوله: (لا سفر نزهة وتجارة) أي ونحوهما. وقوله: (ستة برد) هو بيان للسفر المسقط، يعني: وأما لو سافر سفراً قريباً فأن ذلك لا يسقط حضانتها، لإمكان نظر الولي، وهذا التحديد لمالك في الموازية.

وقوله: (ولو كان رضيعاً) مبالغة، وهو المشهور، بشرط أن يقبل غير أمه. ولابن القاسم: ليس له أخذه إلا أن يكون فطيماً قد استغنى عن أمه. ولمالك في الموازية: لا يخرجوا بهم حتى يثغروا. وقوله: (إلا أن تسافر معه) يعني: أنه تسقط حضانتها بالسفر المذكور إلا أن تتبعه فهي على حضانتها، ولا كلام للولي، وإنما سقطت الحضانة بهذا السفر، لأن نظر الولي لوصية عام، ونظر الأم إنما هو في أمور خاصة، فكان تحصيل ما ينظر فيه الولي أولى من تحصيل ما تنظر فيه الأم، ولهذا كان الوصي مقدماً على الأولياء إذا أراد سفراً بالمحضون. بعض شيوخنا: وإن كان للولد وليان، وهما في القعد سواء، فسافر أحدهما، فليس له الرحلة بالولد، والمقيم أولى لبقاء الولد مع أمه، وكذلك إن لم تكن له أم، لأنه هو المقدم في نكاحها إن كانت أنثى. فرعان: الأول: قال جماعة: يشترط في إسقاط الحضانة بالسفر أن تكون الطريق مأمونة، يسلك فيها بالمال والحريم، وكذلك البلد الذي ينتقل إليه، ولا يشترط أن لا يكون بين البلد الذي سافر إليه الأب وبلد الحضانة بحر على الأصح، قاله ابن الهندي [429/أ] وغيره لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]. الثاني: إذا قلنا: للولي الانتقال بالولد. فقال ابن أبي زمنين: كان بعض من أدركنا من شيوخنا المقتدى بهم في الفتوى يفتون بأن الولي لا يكون أحق حتى يثبت عند حاكم البلد الذي فيه الحاضنة أنه قد استوطن الموضع الذي رحل إليه. وقال ابن الهندي وابن الفخار وغيرهما: بل له الأخذ إذا أراد الرحيل. واحتجوا بقوله في المدونة: إذا أراد الأب أن يرتحل إلى بلد، أن للأب أن يخرج بولده معه إذا ارتحل، وكذلك الأولياء، فلم يكلفه بينة أنه قد استوطن. وعابوا الأول لأنه يؤدي إل المشقة في الراحل إلى البعيد، وقد آوى إلى إسقاط حقه.

ابن الهندي: ويحلف لقد يريد استيطان ذلك البلد. بعض القرويين: وهذا يحسن في المتهم، وأما المأمون فلا يمين عليه. ووقع لسحنون في أسئلة حبيب أنه كان يكشف عن انتقاله كشفاً شافياً، فإن تبين ضرره منع، وإن كان خروجه حقيقة لا مضاراً بالأم لم يمنع، وقيل للأم: اتبعي ولدك إن شئت. واستدل بعضهم على صدقه بقرائن الأحوال، فإن باع ربعه أو نحو ذلك صدق، وعلى أنه لابد من الاستيطان بمدة غير محدودة، بل يرجع إلى اجتهاد الحاكم. عبد الخالق: ووقع في وثائق ابن الطلاع: تحرير المدة بالعام. وقال أصبغ: بريدين قوله: (وقال أصبغ: بريدين) يقتضى ثبوت معطوف عليه، وهو قوله: (ستة برد). ابن عبد السلام: ولم يثبت قوله (ستة برد) في كل النسخ، ولم أر أنا نسخة إلا وفيها ذلك. وقال أصبغ في الموازية: لأن فيها عنه: ليس للأم أن تنتجع بولدها من الأسكندرية إلى الكريون. اللخمي وغيره: وبينهما بريدان. وقريب منه ما قاله مالك: في البعيد مرحلتان. أبو إسحاق: وقول أصبغ ظاهر المدونة، لأنه قال: القريب البريد ونحوه. ولمالك أن مسيرة اليوم قريب للأم أن تخرج بالولد إليه. قيل: وهو الأقرب قياساً على سفر القصر. ولمالك: حد القريب أن يكون بموضع لا ينقطع خبر الولد منه، من غير أن يحده بأميال. اللخمي: وهو بين، فرب قريب لا ينقطع خبر الولد منه، واستعلام حاله لكثرة تردد أهله بين الموضعين، ورب قريب لا يعرف فيه حال الولد لقلة التصرف فيما بين الموضعين. وقال ابن مغيث: الذي مضت الفتوى به عند شيوخ المذهب ما ذكره المصنف أولاً: ستة برد. وقيل: إذا كان على رأس البريد هو بعيد. وروى ابن وهب في الموطأ: حتى يرتحل من المدينة إلى مصر. ومثله عن أشهب.

وسفره أو سفر الأم به دون ذلك، لا يسقط. وفيها: كالبريدين يعني: وسفر الولي أو سفر الأم دون المسافة المسقطة لا يسقط حق الحاضنة، لأن ذلك لا يمنع الولي من النظر في أمر الطفل. وفي المدونة: تحرير القرب بالبريد ونحوه. وقد تقدم أن أبا إسحاق أخذ منه أن البعيد بريدان كما قاله أصبغ، وكذلك قال ابن رشد في قول أشهب: لا يرحل بهم ثلاثة برد. هذا مثل ما في المدونة لا ينتجع بهم إلا في المكان القريب، البريد ونحوه. وما ذكره من تسوية سفر الولي والحاضنة نص عليه اللخمي وغيره. ابن راشد: وحيث قلنا تخرج بهم الأم فحقهم في النفقة باق على أبيهم في ظاهر المذهب وحكى في الطرر عن ابن جماهير الطليطلي أن الأم خرجت ببنيها إلى الصائفة سقط الفرض عن أبيهم مدة مقامهم، ولو طلبت الانتقال بهم إلى موضع مصر، فشرط الأب عليها نفقتهم وكسوتهم جار ذلك، وكذلك إذا خاف أن تخرج بهم بغير إذنه، فشرط عليها إن فعلت ذلك فنفقتهم وكسوتهم عليها، لزمها ذلك، قاله بعض الأندلسيين. وفي استحقاق الحاضنة عنها شيئاً قولان بناء على أنه حق له أولها قوله: (عنها) أي عن الحضانة. وما ذكر المصنف من منشأ الخلاف ذكره صاحب المقدمات وابن بشير، فقالاً: من رأي الحضانة حقاً للمحضون أوجب للحاضن الأجرة على المحضون، ومن رآها حقاً للحاضن لم ير له أجرة. وما قاله ابن عبد السلام من عكس هذا البناء ليس بظاهر. قال في المقدمات: من رأى أن ذلك من حقها لم ير لها سكنى، ومن رأي ذلك من حق المحضون رأى أن لهما كراء المسكن على الأب. خليل: وفيه نظر، لأن المشهور أن الحق للحاضنة، والمشهور أن على الأب السكنى، وهو مذهب المدونة خلافاً لابن وهب. وعلى المشهور فقال سحنون: يكون السكنى على حسب الاجتهاد. ونحوه لابن القاسم في الدمياطية، وهو قريب لما في المدونة. وقال يحيي

ابن عمر: على قدر الجماجم. وروي: لا شيء على المرأة ما دام الأب موسراً. وقيل: إنها على الموسر من الأب والحاضنة. وحكى ابن بشير قولاً بأنه لا شيء على الأم من السكنى، ورأى اللخمي أن الأب إن كان في مسكن يملكه أو بكراء ولو كان ولده معه لم يزد عليه في الكراء شيئاً، لأنه في مندوحة عن دفع الأجرة في سكناه، وإن كان يزاد عليه في الكراء، وعليها هي لأجل الولد، فعليه الأقل مما يزاد عليه أو عليها لأجله، فإن كان ما يزاد عليها أقل أخذته لأنه القدر الذي أضر بها، وإن كان ما يزاد عليه غرمه لأنه مما لم يكن له بد ولو كان عنده. وفي الطرز: لا سكنى للرضيع على أبيه مدة الرضاع، فإذا [152/ب] خرج من الرضاعة كان عليه أن يسكنه. خليل: ولا أظنهم يختلفون في الرضيع. فائدة: في المذهب مسائل اختلف فيها، هل هي على الرؤوس أم لا؟ منها هذه، ومنها أجرة كاتب الوثيقة، ومنها كانس المراحيض، ومنها حارس الأنذر، ومنها أجر القاسم، ومنها التقويم على المعتقين، ومنها الشفعة إذا وجبت لشركاء، ومنها العبد المشترك في زكاة الفطر، ومنها النفقة على الأبوين، ومنها إذا أرسل أحد الصائدين كلباً والآخر كلبين، ومنها إذا أوصى بمجاهيل من أنواع. وعلى الاستحقاق فإن استغربت أزمانها فنفقة وإلا فاجرة يعني: وعلى القول باستحقاق الحاضنة على الحضانة أجرة، فإن أشغلها ما يتعلق بالولد في جميع أزمانها وجبت لها النفقة كالزوجة، وإن لم تستغرق أزمانها وجب لها من الأجرة بحسب ما يقرره أهل العرف لها. اللخمي: وإن كان الولد يتيماً فللأم أجرة الحضانة إن كانت فقيرة والابن موسراً، لأنها تستحق النفقة في ماله، واختلف إذا كانت موسرة، فقال مالك: لا نفقة لها. وقال مرة: لها النفقة إذا قامت عليه بعد وفاة أبيه. وقال أيضاً: تنفق بقدر حضانتها إذا كانت لو تركته لم يكن له بد من الحضانة. فجعل لها في هذا القول الأجرة دون النفقة.

اللخمي: وأرى إن تأيمت لأجلهم وكانت هي الخادمة والقائمة بأمورهم أن لها النفقة، وإن كانت أكثر من الأجرة لأنها لو تركتهم وتزوجت أتى من يقف عليها- وكأن من النظر للولد كونهم في نظرها- وإن لم تكن تأيمت لأجلهم أو كانت في سن من لا يتزوج كان لها الأجرة، وإن كانت دون نفقتها، وإن كان لهم من يخدمهم واستأجرت من يقوم بخدمتهم فإنها هي ناظرة بما يصلح للولد فقط لم أر لها شيئاً. فرعان: الأول: إن لمن الولد في حضانتها من أم أو غيرها أن تأخذ ما يحتاج إليه الولد من نفقة أو كسوة وغطاء ووطاء. وإن قال الأب: هو يأكل عندي ثم يعود إليك لم يكن له ذلك، لأن في ذلك ضرراً على الولد وعلى الحاضنة، إذ الأطفال يأكلون في كل وقت، قاله غير واحد. وكتب شجره إلى سحنون في الخانة الحاضنة إذا قال الأب: إنها تأكل ما أعطيه، وطلب الأب أنه يأكل عنده ويعلمه، فكتب إليه أن القول للأب، فجعل للحاضنة يأوي إليها فقط، والأول هو الأصل، ولعله ظهر صدقه في السؤال، وقد ذكر ابن يونس عن مالك هذا التفصيل نصاً في العتبية. الثاني: اللخمي: اختلف في خدمة الولد، ففي المدونة: إن كان لابد للولد من خادم لضعفهم عن أنفسهم والأب يقوى على الإخدام أخدمهم. وقال ابن وهب في الدمياطية: ليس عليه أن يخدمهم، وبذلك قضي أبو بكر على عمر رضي الله عنهما. وتجب على الولد نفقة أبويه الفقيرين- صحيحين أو زمنين، مسلمين أو كافرين- صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، وإن كره زوجها .... يعني: أنه يجب على الولد أن ينفق على أبويه سواء كان صحيحين أو زمنين مسلمين أو كافرين، صغيراً أو كبيراً، وكذلك أيضاً لو كان هو كافر وهما مسلمان، هذا هو القول

المشهور، وروى ابن غانم عن مالك أنه لا نفقة للأبوين الكافرين، واشترط أن يكونا فقيرين، لأنه لا نفقة لهما إذا كان غنيين. ابن لبابة: ويحلفه الولد على فقره استبراء للحكم. وقال غيره: لا يحلفه، لأنه من الحقوق، وبه الحكم. ولا يسقطها تزويج الأم لفقير أي: إذا تزوجت الأم فقيراً فوجوده كعدمه، ونفقتها مستمرة على الولد، وكذلك أيضاً لو كان الزوج ملياً وافتقر، ولو كان يقدر على بعضها تمم الابن باقي النفقة ولو كان الزوج ملياً. وقال: لا أنفق عليها إن رضيت، وإلا فارقتها، فرضيت الأم. فقال الباجي: ينفق الابن. وقال اللخمي: لا ينفق، إلا أن تكون قد أسنت والزوج على غير ذلك، أو يقوم الدليل على صحة قوله. فإن كان أولاد موسرون وزعت، وفي توزيعها على الروؤس أو على اليسار قولان القول بأنها على الرؤوس لابن الماجشون وأصبغ، والقول بأنها على قدر اليسار لابن المواز. وقال مطرف وابن حبيب: على قدر الميراث. فرع: إذا كان للأب مال فوهبه أو تصدق به ثم طلب الابن بالنفقة فللولد أن يرد فعله، وكذلك لو تصدق به على أحد ولديه كان للولد الآخر أن يرد فعله، قاله اللخمي. وكذلك خادمه وخادمها على المشهور هذا عائد على صدر الفصل، يعني: وكذلك يجب على الولد نفقة خادم الأب وخادم الأم على المشهور، والشاذ لابن عبد الحكم: ليس عليه أن ينفق على خادم أبيه. وفي المدونة: يلزمه أن ينفق على خادم أبيه وخادم زوجة أبيه، لأن خادم زوجة أبيه تخدمه.

ويحتمل كلام المصنف من حيث اللفظة أن يكون قوله: (وكذلك خادمه) راجع إلى مسألة توزيع النفقة، وهو بعيد. وكذلك إعفافه بزوجة يعني: وكذلك يجب على الولد أن يعف والده بزوجة، هذا قول أشهب، واختاره ابن الهندي، قيل: وهو المشهور عن مالك وابن القاسم أنه ليس على الولد ذلك. وقاله المغيرة وابن عبد الحكم، وفي رواية [431/أ] ابن نافع وأشهب: إن كان رجلاً نكاحاً يأتي امرأة لها شأن، فما أرى ذلك عليه. اللخمي: إن كان محتاجاً إلى النساء زوجه، وإن لم يكن محتاجاً لهن ويخدم نفسه لم يكن عليه تزويجه، وإن لم يكن قادراً على خدمة نفسه، أو كان مثله لا يتكلف ذلك، كان تزويجه حسناً. قال ابن راشد: لو تحققنا حاجة الأب إلى النكاح، لا نبغي ألا يختلف في وجوب ذلك على الابن، فالاختلاف إنما هو عائد إلى تصديق الأب فيما يدعيه من الحاجة إلى النكاح. اللخمي: وينفق الابن على زوجة الأب، سواء كان الأب محتاجاً إليها في الإصابة أم لا، لأنه وإن أسن يحتاج إلى رفق من يقوم به، ولأن عليه مضرة ومعرة في فراق زوجته لعدم النفقة، قال في المدونة: وينفق على زوجة وإخوة لا أكثر. ولا إشكال في هذا إن كانتا أجنبيتين، وأما إن كانت إحداهما أمه، فاختلف في ذلك إذا كانت أم الولد فقيرة، فقيل يلزمه نفقتهما أما الأم فلفقرها، إذ لو فارقها الأب لكان عليه نفقتها، وأما الأخرى، فلأنها لو كانت وحدها لزمتها نفقتها. وقيل: لا يلزمه إلا نفقة أمه. ابن يونس: وهو أشبه بظاهر الكتاب، إذ ليس عليه أن ينفق إلا على امرأة واحدة، وقال اللخمي: إنما ينفق على أمه فقط، إلا أن تكون أمه قد أسنت، والأخرى شابة. وفي الأبنية فعليه أن ينفق عليهما جميعاً، ونقل ابن عيشون عن ابن نافع أنه ينفق على أربع زوجات الأب.

فرع: ولا يلزم الولد أن ينفق على زوج أمه الفقير. وقال في الكافي: على الابن أن ينفق عليه. وفي الإرشاد أنه يجب على الابن أن ينفق على زوج الأم إن أعسر، إلا إن تزوجته فقيراً. فإن كانت له دار لا فضل في ثمنها لم تعتبر كما يأخذ من الزكاة تصوره ظاهر، واختلف إذا كانت للابن دار يسكنها، وليس للأب مال، فقال ابن القاسم: لا تباع دار الابن لأجل نفقة الأب. وقيل: بل تباع. وعلى هذا فيبيع دار الأب لينفق منها على نفسه أولى. وشرط نفقة الولد والأبوين- اليسار يعني: كما يشترط في طالب النفقة الفقر فكذلك يشترط في معطيها اليسار. الباجي: وتلزم نفقة الأبوين المعسرين، وإن قويا على العمل. وقال اللخمي: إن كان للأب صنعة تقوم به وبزوجته أجبر على عملها، وإن كانت تكفيه لبعض حاجته تمم الابن الباقي. فرع: إذا طلب الأب من الابن النفقة وادعى الفقر وأنكر الابن فقر أبيه، وادعى أنه عديم، فقال ابن العطار وابن أبي زمنين: الابن محمول على الملاء حتى يثبت خلافه، وعليه أن يثبت العدم. وقال ابن الفخار: بل على الأب إثبات ملاء ابنه. قال: وإن كان للأب ولد آخر وجب على الابن المدعي العدم إثبات عدمه، لأن أخاه يطالب بالنفقة معه. ابن العطار: وأما الوالد في نفقة الولد إن لم يثبت أنه ملك شيئاً، فالقول قوله مع يمينه، ومن ادعى أن له ملكاً فعليه البينة.

وتسقط عن الموسر بمضي الزمان بخلاف الزوجة يعني: لو كان الأب عديماًن والولد موسراً أو العكس، فتحميل الموسر في النفقة زماناً لم يكن له الرجوع بما تحيل على من تجب عليه نفقته لأنها مواساة تدفع لسد خلة المحتاج في وقتها، وإذا انسدت تلك الخلة بوجه سقط الوجوب، بخلاف نفقة الزوجة فإنها واجبة بمعنى المعارضة، ألا ترى أنها تجب لها ولو كانت غنية. إلا أن يفرضها الحاكم أو ينفق غير متبرع إلا أن يفرضها الحاكم فيرجع ولو مضى زمانها، وكذلك أيضاً إذا أنفق غير متبرع، فإنه يرجع بما أنفق على الابن. ولا رجوع بنفقة الآباء والأبناء إذا أيسروا بعد لأنهم لو أخذوا في الفقر بوصف الاستحقاق فكان ذلك بمنزلة ما لو أخذ الفقير من الزكاة، ثم طرأ غناؤه، ولأنه لو كان له الرجوع لكان المدفوع أولاً سلفاً، والفرض خلافه. ولا تجب نفقة جد ولا جدة ولا ولد الولد هذا هو المذهب. فرع: اللخمي: ولو كان للابن صنعة فيها فضل عن نفقة لزمته نفقة أبويه، فإن كان له زوجة، فللأب ما فضل عن نفقته ونفقتها، واختلف إذا كان له ولد، فقيل: يقسم الفاضل بينهما، وقال ابن خويز منداذ: يبدأ بالابن. وتجب نفقة ملك اليمين، وإلا بيع عليه تصوره ظاهر.

فرع: إذا تبين ضرره بعبده في توجيعه وتكلفه من العمل ما لا يطيق وتكرر ذلك منه بيع عليه. وسئل ابن حارث عن مملوكة اشتكت إضرار سيدها بها وضربها، فقال: ليس الضرب- وإن صح- بالذي يدل على الضرر، إذ للمالك أن يؤدب مملوكه، وهو مصدق إلا أن يظهر تعديه فيباع، ولا يكلف مملوكه إثبات الضرب إلا أن يكون السيد مشهوراً بالشر والتعدي ويعرف بذلك، وثبت ذلك عليه مع أثر الضرب. ابن زرب: وروي [430/ب] عن مالك في المملوكة تطلب أن تباع: ينظر في أمرها، فإن كان ما هي فيه ضرر بيعت، وإلا فلا، قال: وكان بعض شيوخ بلدنا يفتون بأن تكرير الشكية منها يوجب بيعها، غير أن هذا إنما يكون في المجهول الحال، وأما إن كان السيد من أهل الخير فلا يجوز بيعها إلا بثبوت الضرر. وكذلك الدواب إن لم يكن مرعى أي: إن لم يكن مرعى فتعلق أو تباع، كذلك أيضاً إن كان المرعى لا يكفيها، ولا يكلف الدواب أيضاً فوق طاقتها. ولا يجوز من لبنها إلا ما لا يضر بنتاجها تصوره ظاهر. ***

كتاب البيوع

البيوع أتى بجمع الكثرة لتعدد الأنواع. وحد المازري البيع بأنه: نقل الملك بعوض. وهذا يشمل الصحيح والفاسد، بناء على أن الفاسد ينقل الملك، قال: وإن قلنا أنه لا ينقل لم يشمله، لكن العرب قد تكون التسمية عندهم صحيحة، لاعتقادهم أن الملك قد انتقل على حكمهم في الجاهلية وإن كان لم ينتقل على حكم الإسلام. خليل: وإن أردت إخراجه بوجه صحيح لاشك فيه فتزيد بوجه جائز. ابن راشد: ويرد عليه أسئلة. الأول: أن البيع علة في نقل الملك، فنقول: انتقل الملك لمشتري الدار لأنه ابتاعها، والعلة مغايرة للمعلول فلا يمكن حد البيع بالنقل. ثانيها: أن النقل حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني، والمجاز لا يستعمل في الحدود. ثالثها: أن الملك مجهول، لأنا إن قلنا: هو التصرف انتفض لتصرف الوصي والوكيل، لأنهما غير مالكين وهما يتصرفان. وقد يوجد الملك ولا تصرف في المحجور عليه، وقد يوجدان معاً في ملك الرشيد. وإذا كانت حقيقة الملك مجهولة، فيكون عرف البيع بما هو أخفى منه. والأقرب ما قاله ابن عبد السلام: أن حقيقة البيع معروفة لكل أحد لا تحتاج إلى حد. وهذا الباب مما ينبغي أن يهتم به، لعموم البلوى. وقول بعض الناس: يكفي ربع العبادات ليس بشيء، إذ لا يخلو مكلف غالباً من بيع وشراء فيجب أن يعرف حكم الله في ذلك قبل التلبس به. للبيع أركان: الأول: ما يدل على الرضا من قول أو فعل فتكفي المعاطاة. ويعني، فيقول: بعتك اللام للاختصاص. والركن: جزء الشيء وهو داخل في الماهية، وذكر للبيع ثلاثة أركان: ما يدل على الرضا، والعاقد- والمراد به البائع والمشتري- والمعقود عليه. وسيأتي كل

واحد منهما. وعلى هذا فقوله: (للبيع أركان) فيه حذف مضاف، أي: ثلاثة أركان. أو على حذف الصفة، أي: أركان ثلاثة. وإنما كان المتعاقدان من أركان البيع، لتوقف البيع عليهما. وقوله: (الأول) أي: الركن الأول ما يدل على الرضى من قول، كقولك: بعت، وقول المشتري: قبلت. أو فعل كالمعطاة. وقول الشافعية: لا دلالة للأفعال بالوضع فلا ينعقد بها البيع ليس بظاهر، لأنه لا يلزم من نفي الدلالة الوضعية نفي مطلق الدلالة، لبقاء الدلالة العرفية على الرضا وهو المقصود، إذ المقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منهما، لقوله تعالى {لَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وقدم هذا الركن، لأنه الموجود أولاً طبعاً فوجب تقديمه وضعاً، وتاليها السلعة. وقوله: (بعني) فيقول: بعتك، معطوف على المعاطاة، أي: ويكفي قول بعني من المشتري، فيقول البائع: بعتك بعد قوله بعني بقوله، لأنه دال على الرضا. وفيها: لو وقفها للبيع، فقال: بكم؟ فقال: بمائة، فقال: أخذتها، فقال: لا أرضى، يحلف ما أراد البيع .... ذكر هذه المسألة إثر الأولى لما بينهما من الارتباط، كما فعل ابن القاسم فيها. قال فيها: فإن قلت لرج: بعني سلعتك بعشرة، فقال: قد فعلت لا أرضى. فقال: قال مالك فيمن وقف سلة للسوم، فقال: بكم هي؟ فقال: بعشرة، فقلت قد رضيت، فقال: لا أرضى أنه يحلف ما أراد البيع، وإن لم يحلف لزمه. قال ابن القاسم: فكذلك مسألتك. وذكر صاحب البيان في هذه المسالة ثلاثة أقوال: الأول: نفي اللزوم للمدونة إذا حلف. الثاني لمالك في العتبية: اللزوم. الثالث للأبهري: أنه إن كان ذلك قيمة السلعة وكانت تباع بمثله، لزم البيع وإلا حلف ما أراد البيع ولم يلزمه. قال: وهذا الاختلاف إنما هو في السلعة الموقوفة للبيع، وأما إن لقي رجلٌ رجلاً في غير السوق، فقال له: بكم عبدك هذا، أو ثوبك هذا لشي لم يقفه؟ فقال: بكذا. فقال:

أخذته به، فقال: لا أرضى إنما كنت لاعباً وشبه ذلك، فإنه يحلف على ذلك ولا يلزمه البيع باتفاق، إلا أن يتبين صدق قوله فلا يمين عليه باتفاق. وقد ذهب بعض الناس إلى أن الخلاف في ذلك إن لم تكن السلعة موقوفة للبيع. خليل: وعلى هذا فيتحصل في المسالة أربعة أقوال: الثلاثة الأقوال المتقدمة، والرابع: الفرق بين أن تكون موقوفة للبيع أو لا. قال في البيان: ومثل هذا المثال في الخلاف لو قال السائم: أنا آخذه بكذا، فقال البائع: قد بعتك، فقال السائم: لا آخذه بذلك. ابن أبي زمنين: إذا قال البائع: قد بعتك بكذا أو أعطتيك بكذا، فرضي المشتري وأبى البائع، وقال: لم أرد البيع، لم ينفعه ولزمه [431/ا] البيع. وكذلك إذا قال المشتري: قد ابتعت منك بكذا فرضي البائع، لم يكن للمشتري أن يرجع. ولو قال البائع: أنا أعطيكها بكذا أو أبيعها بكذا فرضي المشتري، وقال البائع: لم أرد البيع فذلك له ويحلف. وكذلك لو قال المشتري: أنا أشتريها منك أو آخذها، فرضي البائع ورجع المشتري كان ذلك له ويحلف. قال: فافهم هذه الوجوه، فهي كلها مذهب ابن القاسم وطريقة فتياه. وحاصله: التفرقة بين أن تكون الصيغة بلفظ الماضي فيلزم، أو بالمضارع فيحلف. وإتيان المصنف- رحمه الله- بمسألة المساومة بعد، يعني: يحتمل الاستدلال ويكون المصنف رأي التساوي بينهما كما رآه ابن القاسم. ويحتمل أن يكون ذكره تنبيهاً على ضعف قياس ابن القاسم كما أشار إليه بعضهم، لأن دلالة اللفظ في الأولى على الرضا أقوى منه في الثانية، لأنه طلب بلفظ صريح في الطلب، وقد أمضى له البائع ذلك بقوله: قد فعلت، فكلامه الثاني لا أرضى يعد ندماً فلا يقبل منه. وأما الثانية: فيتحمل أنه أوقفها ليعلم ما تساوي ولا يبيعها، أو ليعلم ما تساوي ثم يبيعها لآخر طلبها منه.

وقول السائل: (بكَمْ) هو يحتمل أن يريد: بكم اشتريتها أو بكم تبيعها، فإذا قال له السائل: قد رضتيها، فلابد من جواب البائع، لكن لما كان كلامه الأول محتملاً حلفه مالكٌ لرفع الاحتمال، ولعل مالكاً لو سئل عن الأولى ما قبل فيها من المشتري يميناً. ولهذا الذي أشرنا إليه من أن اللزوم في بعني أقوى، ذكر صاحب البيان بعد أن ذكر الخلاف المتقدم في قوله: بكم، أنه اختلف إذا قال المشتري: بعني بكذا، فلما أراد البائع أن يلزمه ذلك أبى، أو قال البائع: خذها بكذا، فلما أراد المشتري أن يأخذها أبي، فقيل: إن ذلك كالمساومة، يدخل في ذلك الاختلاف المذكور، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، لأنه ساوى بينهما. وقيل: إن قول المشتري بعني، بمنزلة قوله: اشتريت. وأشتريها بكذا، بمنزلة قوله: قد بعت، يلزم ذلك كل واحد منهما إذا أجابه صاحبه بالقبول، وإلا مضى في المجلس قبل التفرق في بابه. والله أعلم. ابن راشد: فرع: إذا تراخى القبول عن الإيجاب، فهل يفسد البيع أم لا؟ أشار ابن العربي في قبسه إلى الخلاف في ذلك، ثم قال: والمختار جواز تأخيره ما تأخر. وفي شرح الجلاب المنسوب بإفريقية للشار مساحي ما يدل على اعتبار القرب، قال فيه: وإذا نادى السمسار على السلعة فأعطى فيها تاجر ثمناً لم يرض به البائع، ثم لم يزده أحد على ذلك، فإنها تلزمه بذلك الثمن إلا أن تطول غيبته. وفي المقدمات: الذي يأتي على المذهب أن من أوجب البيع لصاحبه من المتبايعين إن أجابه صاحبه بالقبول في المجلس، لم يكن له أن يرجع. ومقتضى ذلك: أنه إن لم يجب في المجلس أنه لا يلزمه. والظاهر ما قاله ابن العربي، بدليل أن المحجور عليه إذا باع من ماله أن لوليه الإجازة، وإن طال الأمر ولم يحصل غير الإيجاب من المحجور مع قبول المبتاع،

وإيجاب المحجور كالعدم. وكذلك بيع الفضولي، يقف القبول على ربه على المشهور، وإن طال. ويمكن أن يقال: حصل الإيجاب والقبول، ونظر الوصي والمالك أمر جرت إليه الأحكام. انتهى كلام ابن راشد. الثاني: العاقد، وشرطه: التمييز. وقيل: إلا السكران أي: الركن الثاني: العقاد، ويعني به: البائع والمشتري. وشرطه التمييز، أي: شرط صحة بيع العاقد وشرائه أن يكون مميزاً، فلا ينعقد بيع غير المميز ولا شراؤه لصغر، أو جنون، أو إغماء، أو سكر. ولا إشكال في الصبي، والمجنون، والمغمى عليه. وأما السكران، فهو مقتضى ما ذكره ابن شعبان وغيره، فإنه قال: ومن الغرر بيع السكران وابتياعه إذا كان سكره متيقناً، ويحلف بالله مع ذلك مع عقل حين فعل، ثم لا يجوز ذلك عليه. وظاهره أنه لا ينعقد، لأنه جعله من الغرر، والذي ذكره صاحب البيان، وصاحب الإكمال: أن مذهب مالك وعامة أصحابه: أنه لا تلزمه عقوده، حتى تأول ابن رشد قول مالك في التعبية في نكاحه: لا أراه جائزاً، على أن معناه: لا أراه لازماً لا أنه فاسد. وقال في موضع آخر: لا يقال في بيع السكران بيع فاسد، وأن مذهب مالك: أنه غير منعقد، وإنما يقال: أنه غير لازم. وإنما لم يصح بيع السكران أو يلزمه، لأنا لو فتحنا هذا الباب مع شدة حرص الناس على أخذ ما بيده وكثرة وقوع البيع، لأدى إلى أن لا يبقى له شيء، بخلاف طلاقه وقتله وغير ذلك مما يتعلق به الحق لغيره، فإنا لو لم نعتبره لتساكر الناس ليتلفوا أموال الناس وأرواحهم. والشاذ لابن نافع: يلزم بيعه كطلاقه. قال في الجواهر: والجمهور على خلافه. وإليه أشار بقوله: (وقيل: إلا السكران) أي: وقيل يشترط التمييز، إلا أن يكون العاقد سكراناً فلا يشترط فيه التمييز.

وجعل المصنف الخلاف في السكران الذي لا يميز، وكذلك ذرك ابن شعبان والقاضي عياض، وعليه فلا خلاف في لزوم البيع لغير الطافح، وطريقة ابن رشد بالعكس. وقد تقدم في الطلاق. [431/ب]. والتكليف شرط اللزوم يعني: شرط لزوم البيع أن يصدر من مكلف، وأما لو صدر من صبي فلوليه إمضاؤه ورده، ولا يلزم كل مكلف، إذ قد يقوم به مانع كالسفه وغيره ممن حجر عليه، هذا هو الظاهر هنا. وقال ابن راشد: عبر بالتكليف عن الرشد والطوع، لأن السفيه لا يلزمه بل لوليه أن يفسخه، وكذلك من أجبر على البيع لا يلزمه البيع، أعني: إذا أجبر جبراً حراماً. ابن سحنون: وأجمع أصحابنا على أن بيع المكره غير لازم، واحترزنا بقولنا: جبراً حراماً عن المجبر جبراً شرعياً، كجبر القاضي المديان على البيع للغرماء، وجبر العمال على بيع أموالهم، فإنه جائز ويلزمه البيع، سواء كان السلطان يرد المال على من كان أخذه منه أو يأخذه لنفسه، كالمضغوط في دين لزمه، لأن إغرام الوالي العمال ما أخذوه من الناس حقٌ فعله الوالي وعليه أن يرده إلى أهله، فإذا حبسه فهو ظالم في حبسه، نقله ابن حبيب عن مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ. خليل: وما ذكره من أن المكره غير مكلف صحيح، لأن أهل الأصول نصوا على أن الإكراه الملجئ يمنع التكليف. وأما السفيه فلقائل أن يقول: لا نسلم أنه ليس مكلفاً بالبيع، فإن قيل: لو كان مكلفاً به لزمه البيع، قيل: يحتمل. ولو قلنا: إنه مكلف بالبيع أن لا نقول بإمضائه للحجر عليه فتأمله. ولا إشكال في عدم لزوم البيع لمن أجبر جبراً حراماً، فقد نص ابن القاسم على أن الذي يضغط في الخراج فيبيع متاعه، أنه يرد متاعه عليه بلا ثمن إذا كان بيعه إياه على عذاب، أو ما أشبه ذلك من الشدة، قال: لأن أخذ الثمن على ذلك ليس بأخذ.

ابن راشد: وسئل اللخمي عن شاب مراهق أو بالغ نسب إليه أنه جنى جناية فسجنه السلطان وهو يتيم كفله بعض أقاربه، فكفله السلطان أن يغرم مالاً ويخرجه من السجن، فلم يقدر اليتيم على الخلاص من هذا المال بوجه، فباع شيئاً من رباعه بعد خروجه من السجن ليؤدي من ثمنه ذلك المال، وكان هذا الفعل على وجه النظر له، لأنه يبقى عليه لو لم يجب إلى غرم بعض ذلك المال أن ينفيه من البلد، أو يأخذ بعض رباعه فيه، أو يأخذه كلها، أو لا يخرجه من البلد وإنما يسجنه بالضرب والعذاب. فقال: إذا كان الأمر على ما وصفت فبيع ماض، ويغلب على ظني أني رأيت للسيوري نحو ذلك، وقال: المشتري من المضغوط مأجور، لأنه يخلصه من العذاب. ابن رشد: والمذهب على خلاف ذلك، فقد تقدم قول ابن القاسم في ذلك. وقال مطرف: سمعت مالكاً يقول: في أهل الذمة يضغطون فيما يعتدى عليهم في جزيتهم حتى يلجئوا إلى بيع متاعهم في ذلك لا يجوز عليهم، وهم أولى بما باعوه أن يأخذوه بلا ثمن ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم. مطرف: وكذلك في بيع المسلم المضغوط، لأنه أعظم حرمة ولأنه بيع إكراه، والمكره لا يلزمه بيع ما أكره عليه. ابن حبيب: وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وقالا: هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. مطرف: وسواء دفع المبتاع الثمن للمضغوط ودفعه المضغوط إلى الظالم الذي يضغطه وقبضه الظالم من المبتاع، فللبائع أخذ متاعه إذا ظفر به بيد مبتاعه منه، أو بيد من ابتاعه منه، ويرجع به على من ابتاعه منه ويرجع هو على الظالم. قال: ولو قبضه منه وكيل الظالم فللمبتاع أن يرجع على الوكيل إن شاء، أو على الظالم إذا ثبت أنه أدى المال إليه، أو ثبت أنه أوصى الوكيل بقبضه، وكلاهما ضامن ما خرج به، ولو وجد المضغوط متاعه قد فات،

فله الرجوع بقيمته أو بثمنه الذي بيع به إن كان الثمن أكثر، إن شاء على الوكيل، وإن شاء على الموكل. وقال ابن عبد الحكم، وأصبغ مثل ذلك. مطرف: ولا قول للوكيل إن قال: كنت مكروهاً على القبض وخفت منه على نفسي إن لم أفعل، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)). ولو باع متاعه في مظلمة ثم لا يدري هل وصل ذلك الثمن إلى الظالم أم لا؟ نظر، فإن كان ظلمه له وعداه عليه وقهره له معلوماً حين باع متاعه، فيحمل على أن الثمن وصل للظالم حتى يتحقق أن المضغوط صرفه في مصالحه، فلا يصل حينئذ إلى أخذ متاعه إلا بدفع الثمن، وسواء علم المبتاع بأن ما اشتراه للمضغوط أو لم يعلم. قيل لمطرف: إنهم يخرجون عندنا بغير كبل فيطوفون لبيع متاعهم، فإذا أمسوا ردوا إلى السجن، وقد وكل بهم حراس أو أخذ عليهم حميل والمشتري لا يعلم ذلك أو يعلم، ومنهم من هو في كبل أو عذاب، ومنهم هارب قد أخذ متاعه فباع أو قد أمر بعض أهله ببيعه. قال: كل ذلك سواء وهو إكراه، لأنه أسير مغلوب فلا يبالي بعلم المبتاع أو جهله إلا أن من علم مأثوم، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، قالوا: وسواء كان عنده عين فتركها وباع خشية أن يزاد عليه أو لم تكن. مطرف: ومن كان عالماً بحال المضغوط فاشترى شيئاً من متاعه فهو ضامن كالغاصب، وأما من لم يعلم فيشتري في السوق فلا يضمن الدور والحيوان ويضمن ما انتفع به بأكل أو لبس والغلة له، وأما العالم فلا غلة فيه وهو لها ضامن. قال: وكل ما أحدث [432/أ] المبتاع فيه من عتق أو تدبير فلا يلزم المضغوط، وله أخذ رقيقه من المبتاع سواء علم بحاله أو لم يعلم، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. ولو أعطى المضغوط حميلاً فتغيب فأخذ المال من الحميل لم يرجع الحميل عليه بشيء، ولو

أخذ ما أضغط به من رجل سلفاً، فقال أصبغ: يرجع عليه بما أسلفه، لأن السلف معروف. قال فضل بن سلمة: وعلى أصلها فيرجع الحميل، لأن الحمالة معروف. ولو باع ولد والمضغوط أو زوجته متاع نفسه برسم فدائه فالبيع لازم، لأن هؤلاء الناس لم يضغطوا، ولو لم يبيعوا متاعهم لم يطلبوا، قاله مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ. حكى جميع ذلك ابن أبي زيد في نوادره ما عدا ما ذكرناه عن اللخمي والسيوري. انتهى كلام ابن راشد. والإسلام: شرط المصحف والمسلم، وفيها: يصح، ويجبر على بيعه في هذا الكلام حذف مضافين، أي: شرط جواز شراء المصحف والمسلم، وهذا متفق عليه، فليس الذي في المدونة خلافاً. ويحتمل أن يكون التقدير: شرط صحة شراء المصحف والمسلم، ويدل عليه مقابلته له بما في المدونة. ويكون المصنف قدم الأول، إما لأنه قول سحنون وأكثر أصحاب مالك، وإما لأصحيته بحسب الدليل. قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] وهو في معنى النهي، والمذهب أن النهي يدل على الفساد. والاحتمال الثاني أقرب إلى لفظه، ويرجح الأول: بأن الغالب أن المصنف لا يرجح غير في المدونة. وصرح المازري: بمشهورية ما في المدونة، لأن الفساد يندفع ببيعه، والشاذ لمالك في الواضحة، قال: ويعاقبان، وينبغي أيضاً على مذهب المدونة أن يعاقب. اللخمي: وأصل سحنون في كل بيع حرام أن البيع غير منعقد، وهو بعد القبض على ملك البائع. ووقع لمالك في مختصر ما ليس في المختصر مثل ما تقدم له في الواضحة، أنه يفسخ ولو باعه لمسلم وتداولته الأيدي ويترادون الأثمان، فإن هلك عند النصراني ولم يبعه كانت عليه القيمة.

اللخمي: ومحمل قوله في رد البياعات أن ذلك عقوبة لئلا يعود لمثل ذلك، ولو كان البيع عنده لا ينعقد كما قال سحنون لم يضمن قيمته. ورده ابن عبد السلام بأنه لا مانع من عدم انعقاده مع تعلق الضمان بمشتريه إذا قبضه، لأنه قبضه لحق نفسه قبضاً غير شرعي. وقيد ابن رشد الخلاف بأن يكون البائع عالماً بأن المشتري نصراني، قال: ولو باعه من نصراني وهو يظنه مسلماً لبيع عليه ولم ينفسخ اتفاقاً. وعورض مذهب المدونة هنا بما في كتاب المديان فيمن له دين على رجل فباعه من عدوه المديان أنه يفسخ، ولم يقل: يباع على مشتريه. والجامع انتقال الملك إلى العدو في المحلين. وأجيب: بأن الدين يتعذر بيعه غالباً بخلاف المسلم والمصحف، ويلحق بالمسلم والمصحف بيع آلة الحرب للحربي، وبيع الدار لمن يتخذها كنيسة، والخشبة لمن يجعلها صليباً، ونحو ذلك. والإسلام شرط مختص بالمشتري اتفاقاً دون البائع. وله العتق والصدقة والهبة وإذا قلنا بمذهب المدونة: أو أسلم العبد، فالغرض خروجه عن ملكه، فله أن يعتقه ويتصدق به ويهبه. وظاهره ولو كانت الهبة لمن يعتصر منه، كما لو وهبت النصرانية المسلم لولدها الصغير من زوج مسلم، وهو قول ابن الكاتب، وأبي بكر بن عبد الرحمن خلافاً لابن شاس. المازري: بناء على أن من ملك أن يملك، هل يعد مالكاً أم لا، واختار ابن يونس الجواز، واحتج المانع بما في المدونة فيمن ملك أختين فوطئ إحداهما لا يحل له وطء الأخرى حتى يحرم الأولى، ولا تكفيه هبتها لولده الصغير، لقدرته على الاعتصار. وأجاب ابن يونس: بأن مالك الأختين مسلم فجاز له الاعصتار، بخلاف النصرانية لا يجوز لها أن تعتصر العبد المسلم، كما لا يجوز لها أن تشتريه. قال: فإن وقع الاعتصار منها بيع عليها. ويجب على قول غير ابن القاسم أن ينقض اعتصارها.

فرع: لو وهب النصراني العبد المسلم للثواب فلم يثبه فله أخذه ليباع عليه، فإن وهب مسلم أو نصراني عبداً مسلماً لنصراني أو تصدق به عليه، جاز ذلك وبيع عليه والثمن له. بخلاف الرهن ويأتي برهن ثقة، وقيل: بل يعجل أي: أن البعد المشتري على مذهب المدونة، وكذلك العبد إذا أسلم ليس للسيد الكافر رهنه لكونه باقياً على ملكه، وحذف المعطوف عليه، أي: فيباع العبد ويأتي برهن ثقة. وحذف الشرط، أي: إن أراد الكافر أخذ الثمن، وإلا فلو عجله في الدين لكان له ذلك، وهذا هو مذهب المدونة. وقيده بعض القرويين بما إذا انعقد البيع على رهن مطلق، وأما إن رهنه هذا العبد بعينه ليبيع عليه وحل حقه ولم يكن له أن يأتي فرهن آخر. ابن يونس: وعاب عض أصحابنا هذا القول وهو جيد. وقيل: بلي يعجل الثمن للمرتهن، وإن أتى الراهن برهن ثقة. ونسبه اللخمي، وابن شاس، وابن راشد لسحنون. وحكى ابن يونس عن سحنون أن ثمن العبد يبقى تحت يد المرتهن ولا يعجل له ولا يلزمه قبول رهن آخر، لأنه قد تحول أسواقه عند الأجل. [432/ب] وعورض قول ابن القاسم هنا: أنه لا يلزمه تعجيل الثمن، بقوله فيمن أعتق العبد الرهن أنه يعجل الثمن، وإنما يأتي على قول عبد الملك: إن له أن يأتي برهن آخر. وأجاب ابن محرز بأن المرتهن كان عالماً بإسلام العبد فرهنه على ذلك فكان النصراني متعدياً في رهنه لحق العبد دون حق المرتهن، فلذلك كان له أن يأتي برهن آخر، بخلاف الراهن يعتق الرهن فإنه تعدى على المرتهن. خليل: ولو قيل: إذا ارتهنه منه مسلم وهو عالم بإسلام العبد بطل الرهن لكان له وجه، لأنه دخل على رهن لا يجوز.

وجعل اللخمي محل الخلاف إذا كان الإسلام قبل الرهن، وأما إن أسلم بعد الرهن لم يعجل ثمنه إذا أتى برهن مكانه. وفي رده عليه بعيب أو الأرش قولان لابن القاسم وأشهب، بناء على أنه فسخ أو ابتداء .... أي: وفي رد العبد المسلم على الكافر بسبب عيب كان في ملكه أو تعيين الأرش قولان. والمبنى الذي ذكره ظاهر، فإن قلنا أنه فسخ جاز رده وهو قول ابن القاسم، والقول الآخر لأشهب وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب. ولو كان الخيار لبائع مسلم ففي منع إمضائه قولان لابن القاسم وأشهب، بناء على أنه ابتداء أو تقرير .... أي: لو باع مسلم عبداً كافراً لكافر على أن الخيار للبائع، ثم أسلم العبد في مدة الخيار فهل يمنع المسلم من إمضاء البيع أو لا؟ قولان، منشأهما هل بيع الخيار منحل فيمنع، لأنه كابتداء بيع، أو منبرم فيجوز؟ والظاهر: المنع، لأن المعروف من المذهب انحلاله، والظاهر المنع إن قلنا أنه منبرم، إذا لا فرف بين ما بيد المسلم ورفع تقريره، وبين ابتداء بيعه بجامع تملك الكافر للمسلم في الوجهين. وظاهره: أن القولين منصوصا، وإنما ذكرهما المازري تخريجاً على الخلاف في بيع الخيار. وقوله: (لبائع) منون، و (مسلم) صفة له، ولا يجوز أن يقرأ بائع مسلم بالإضافة، لأنه يقتضي أن العبد مسلم ويبقى البائع أعم، وليس كذلك. وتقييده الخيار بالبائع يقتضي أن الحكم بخلاف ذلك إذا كان الخيار للمشتري، كما لو باع النصراني عبداً للنصراني على أن الخيار للمشتري فأسلم العبد، فإن كان المشتري نصراني استعجل استعلام ما عنده من رد أو إمضاء ولم يمهل إلى تمام مدة الخيار، لئلا يدوم ملك الكافر للمسلم. وإن كان المشتري مسلماً.

المازري: فظاهر المدونة أن المشتري يمهل إلى انقضاء أيام الخيار، لتعلق حقه بالتأخير وهو مسلم، ولا يبطله حق مسلم آخر، وهو العبد الذي أسلم. انتهى. أي: فإن رده بيع على ربه. وفي ابن يونس عن بعض أصحابنا: إن كان المتبايعان كافرين والخيار إلى أجل تعجل، إذ لابد من بيع فلا فائدة في تركه إلى الأجل، وإن كان أحدهما مسلماً لم يعجل الخيار، إذ قد يصير للمسلم منهما. فرع: إذا أسلم العبد وسيده غائب وهو كافر، فإن كان بعيد الغيبة باعه السلطان، وإن كان قريب الغيبة كتب إليه، لئلا يكون قد أسلم قبله، قاله في المدونة. فرع: قال المازري: وإذا أسلم عبد النصراني وجب بيعه عليه من مسلم ولا يؤخر إلا بحسب الإمكان. وهل يجوز له أن يبيعه على الخيار له؟ فيه نظر، لأن المبيع على الخيار على ملك البائع وخراجه له، أو يقال: قد يحتاج إلى إثبات الخيار للاستقصاء في الثمن، والعدول عن ذلك تضييق على الذمي، ولا يدفع ضرر بإثبات ضرر. وفيها: الصغير كالمسلم، وقيل: لا ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الصغير الكافر لا يباع إلا من مسلم، وأنه إن بيع من كافر أجبر على بيعه، هذا هو حقيقة التشبيه والذي في المدونة. قال ابن نافع عن مالك في المجوس: إذا مُلِكوا أجبروا على الإسلام، ويمنع النصارى من شرائهم ومن شراء صغار الكتابيين، ولا يمنعون من كبار الكتابيين، فلم يتعرض إلا للمنع ابتداء، وأما إذا وقع فهل يجبر على بيعه؟ لم يتعرض له، ولهذا قال في الجوهر: لما نقل عن المدونة منع البيع قال في العتبية: فإن بيع منه فسخ البيع. قال الإمام: ويتخرج فيه على القول الآخر أنه يباع. فجعل فسخ البيع وصحته والجبر على البيع مفرعاً على ما في المدونة.

قال في تهذيب الطالب: قال مالك: وإذا بيع من النصارى من يجبر على الإسلام بيع عليهم ما اشتروا، إلا أن يتدينوا بدينهم فيتركون، عبد الحق: يعني مثل المجوس. وتأول صاحب التنبيهات ما في المدونة من بيع الصغار الذين لا آباء لهم، لأنهم إذا لم يكن لهم آباء فهم على دين من اشتراهم، فإذا اشتراهم مسلم لم ينبغ له أن يبيعهم من كافر، سواء وافق الصغير المشترى في الدين أو خالفه. قال: وعلى هذا تأول المسألة بعض مشايخنا، وتأولها بعضهم على الصغار الذين ليسوا على دين مشتريهم، كصغار اليهود مع النصارى أو العكس، للعداوة التي بينهم، قال: وهو بعيد لتفريقه بين الصغار والكبار. وقوله: (وقيل: لا). هو قول ابن المواز، قال: لأنا لسنا على يقين من قبوله الإسلام. وقوله في المدونة: ولا يمنعون من كبارهم، قال في الجواهر: بشرط أن يسكن به في أرض الإسلام، وأما إن كان يخرج به منع، لما يخشى [433/أ] من إطلاعه أهل الكفر على عورة المسلمين. وفي اليهودي مع النصراني قولان أي: وفي حكم اليهودي مع النصراني يباع أحدهما من الآخر قولان: أحدهما: أن ذلك جائز، لأن المالك يشفق على ملكه وليس فيه حق لله تعالى، وإن أداه أمكن تدارك حقه بالمنع أو البيع. والثاني: عدم الجواز لما بينهما من العداوة. والأول حكاه سحنون عن بعض أصحاب مالك، وهو ظاهر قول مالك من رواية ابن نافع عنه في المدونة، وقد تقدمت. ونسبه اللخمي، والمازري، وابن شاس لابن المواز. والثاني لابن وهب، وسحنون. اللخمي: وهو أحسن، للعداوة التي بينهم.

وفي الكتابي يشتري غيره، ثالثها: يمنع في الصغير، وخرجت على إجبارهم يعني: أنه اختلف في جواز بيع المجوسي وغيره ممن لا كتاب لهم من كتاب على ثلاثة أقوال، وهكذا حكى المازري الثلاثة، الجواز مطلقاً: قال: وهو ظاهر المدونة، قال: وفيها ما علمته حراماً وغيره أحسن. قال: وأطلق الجواب في الصغير والكبير. والمنع مطلقاً: وعزاه لابن عبد الحكم. والثالث: الفرق، الجواز في الكبار والمنع في الصغار، وعزاه للعتبية. وقيد صاحب البيان هذا الخلاف بالمجوسي المسبي الذي لا بصيرة له في دينه، وأما الذي ثبت على دينه بين ظهراني المسلمين، فلا خلاف أنه لا يجبر على الإسلام. وقوله: (وَخرجت) هذا التخريج للمازري، وهو تخريج توجيه، لأن الثلاثة منصوصة على ما تقدم، أي: فعلى القول بإجبارهم مطلقاً يمنع من بيعهم للكفار مطلقاً، وتصوره واضح. وذكر صاحب البيان في باب الجنائز أنه لا خلاف في جبر الصغير من المجوس، وقد قدمنا كلامه في باب الجنائز، وهو يخالف ما ذكره المازري والمصنف من حكايتهما الخلاف مطلقاً، ويمكن أن يحمل كلام المازري على ما إذا كان مع الصغير أبوه، وكلام ابن رشد على ما إذا لم يكن فيتفق الكلامان. وفسر المازري واللخمي الإجبار هنا بالتهديد والضرب لابالقتل. المازري: لأنه لم يتدين بدين الإسلام ثم ارتد عنه. الثالث: المعقود عليه طاهر منتفع به مقدور على تسليمه معلوم أي: الركن الثالث: المعقود عليه، وهو الثمن والمثمون، وشرط فيه أربعة شروط واحترز بكل شرط عما يقابله، فاحترز بالطاهر من النجس، ولا يريد العموم في كل نجس بل ما نجاسته ذاتية أو كالذاتية، وأما إن كانت نجاسته عرضية فلا خلاف في عدم اعتبارها. ثم أخذ- رحمه الله- يتكلم على الأول منها فالأول، فقال:

وفيها: منع بيع العذرة، ورد ابن القاسم منع الزبل مخرجاً هذا ما يتعلق بقوله (طاهر). وظاهر ما نسبة للمدونة التحريم كابن شاس. والذي فيها: وكره مالك بيع العذرة. قيل لابن القاسم: فما قول مالك في زبل الدواب؟ قال: لم أسمع منه فيه شيئاً إلا أنه عنده نجس، وإنما كره العذرة لأنها نجسة فكذلك الزبل أيضاً، ولا أرى أن ببيعه بأساً. قال أشهب في زبل الدواب: والمبتاع أعذر من البائع. فانظر كيف عبر بالكراهة في موضعين، نعم عبر أبو عمران وعياض عن مالك بـ (لا يجوز) وهو موافق للمصنف، ولعل الذي حملهم على ذلك التعليل بالنجاسة. ونقل اللخمي عن أشهب في تمام كلامه الذي في المدونة: وأما العذرة في خير فيها. ونقل عنه أيضاً أنه قال في الموازية: بيعها للاضطرار والعذر جائز والمشتري أعذرهما. وقال محمد ابن عبد الحكم: وما عذر الله واحداً منهما وأمرهما في الإثم واحد، ويجوز أن يبيع العذرة، قاله ابن الماجشون. وأجرى اللخمي قولاً لابن القاسم بجواز بيع العذرة من إجازته بيع الزبل، وأنكر ذلك عليه ابن بشير وزعم أنه تخريج في الأصول من الفروع، وهو عكس القواعد. وما قاله اللخمي هو الظاهر، لأنه لا مانع لبيع كل منهما غير النجاسة، وإذا سلم اتحاد العلة وجب وجود الحكم معها حيث وجدت. وما فرق به أبو عمران من أن نجاسة الزبل مختلف فيها ونجاسة العذرة متفق عليها، مبني على مراعاة الخلاف والأصل عدمه، وهذا القدر لا يوجب تخطئة الأئمة على أن هذا الفرق لا ينهض عند ابن القاسم، لأنه لو نهض عنده لما ألزم مالكاً منع بيع الزبل بالقياس على العذرة. والزيت النجس يمنع في الأكثر، بناء على أنه لا يطهر، وفي وقوده في غير المسجد وعمله صابوناً قولان .... قول الأكثر مبني على عدم تطهيره، وصرح المازري بمشهوريته، ومقابله رواية وقعت لمالك وبها كان يفتي ابن اللباد. وفيه قول ثالث بجواز البيع لغير المسلم، وهو

ضعيف، لأن المسلم لا يبيع ما لا يحل له، وقد تقدم هذا الفرع في باب الطهارة. والمشهور: أنه يستصبح به في غير المساجد ويعمل صابوناً، لكن تطهر الثياب بعد ذلك بالمطلق، ودل كلامه على منعه في المسجد اتفاقاً. وعظام الميتة، ثالثها: يجوز في ناب الفيل الخلاف مبني على الخلاف في الطهارة، والمشهور: أنه نجس فلا يباع. والثاني: لابن وهب، لأنه هو القائل بالطهارة. والثالث: نسبه في الجواهر لمطرف وانب المجاشون، ولا عندهما بين أن يغلى أو لا. اللخمي: وناب الفيل كالقرن يجري ما في القرن فيه، قال: وهو قرن منعكس وليست بأنياب ولا في الفم، وأجرى الخلاف الذي في أطراف القرون في الظفر إذا [433/ب] قطع من موضع لا يألم. وللأبهري قول رابع: بالكراهة. ولابن وهب خامس: بالجواز إذا غليت، والمنع إذا لم تغل. فائدة: منع مالك في العتبية الخبز المخبوز بروث الحمير، ونصها: وسألته عن الطعام يوقد تحته بأرواث الحمير أيؤكل أم لا؟ فقال لي: أما الخبز الذي ينضج فيه فلا يؤكل، وأما ما طبخ في القدور فأكله خفيف وهو يكره بدءاً، وقال سحنون مثله. وعلل ذلك في البيان بأن ما في القدور لا يصل إليه من عين النجاسة شيء من أجل الحائل الذي بينه وبينه وإنما يكره من أجل دخان الروث، لما في ذلك من الشبهة من أجل من يقول: إن الدخان نجس وإن لم يكن عندنا نجس. ابن القاسم: ولا أرى أن يوقد بعظام الميتة في الحمامات، ولا أرى به بأساً أن يخلص بها الفضة، وقال في المدونة: لا يطبخ بعظام الميتة أو يسخن بها الماء لوضوء أو عجين، ولا بأس أن يوقد بها على طوب أو حجارة.

عياض: وظاهره جواز الانتفاع بعظام الميتة، بخلاف ما في الموازية أنه لا يحمل الميتة إلى كلابه. وقيل: لعله تكلم بعد الوقوع لا في الجواز ابتداءً. وقيل: لعله وجدها مجتمعة وأطلق النار فيها، فكانت كسوق الكلاب للميتة، وهو بعيد، لأن طبخ الجير لا يتصور إلا بترتيب وعمل، وظاهر المسألة استعمال الطوب والجير في كل شيء، لأنه وإن باشر النجاسة أو داخله من رطوبتها شيء فقد أذهبت النار عينها وأثرها. وكذلك ما طبخ من الفخار بها، بخلاف ما ينعكس فيه دخانه من الطعام، أو يلاقيه من رطوبة الشواء والخبز، وإن كان أبو جعفر الأبهري حكى عن مالك في الفخار يطبخ بالنجاسة: أنه لا يجوز استعماله وإن غسل، وهو قول القابسي وغيره. وقال ابن شبلون: لا تستعمل إلا بعد غسلها وتغلية الماء فيها كقدور المجوس وهو الصواب عندي، بل هي أخف، لأن الدهنية التي دخلت قدور المجوس باقية بخلافها هنا، لأن الدهنية قد أكلتها النار فلم يبق لها عين ولا أثر. انتهى بمعناه. وقال شيخنا- رحمه الله-: ينبغي أن يرخص في الخبز بالزبل في زماننا بمصر، لعموم البلوى به، وأن يراعى فيه قول من رأى النار تطهر، وأن النجاسة إذا صارت رماداً طهرت، ولنا قول بطهارة زبل الخيل، وقول بكراهته منها ومن البغال والحمير، فيخف الأمر مع مراعاة هذا الخلاف، وإلا فيتعذر على الناس أمر معيشتهم غالباً، والحمد لله على خلاف العلماء فإنه رحمة للناس. وفيها: منع جلود الميتة وإن دبغ، وقيل: يجوز. وفيها: جواز جلد السبع المذكى وإن لم يدبغ، وقيل: لا يجوز .... القولان في جلد الميتة مبنيان على الطهارة وعدمها بالدباغ، ومقابل المشهور لابن وهب: جواز البيع بعد الدبغ بشرط البيان، وهو قول مالك في المختصر.

ومقابل المشهور في جلد السبع لأشهب: مقيد بعدم الدبغ، وأما إذا دبغ فيجوز. كذا نقله ابن عبد البر عنه. وفرق ابن حبيب بين العادية فيمنع، وغير العادية كالهر والثعلب فيجوز بيعها والصلاة عليها، بناء على أن الذكاة تتبعض. وفي كلب الصيد والسباع قولان هذا راجع إلى القيد الثاني، وهو قوله: منتفع به، وكذا قال ابن راشد، أي: وفي منع بيع الكلب أو جوازه، والمشهور: المنع. قال في البيان: وهو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، والجواز لابن كنانة وابن نافع وسحنون. سحنون: أبيعه وأحج بثمنه وشهره بعضهم. وعن مالك ثالث: بالكراهة. وعن ابن القاسم: أفتى بجواز اشترائه ومنع بيعه، حكاه ابن زرقون، وحكى عنه ابن رشد وغيره كراهة بيعه. ولمالك في المدونة: يجوز بيعه في الميراث والدين والمغانم، ويكره بيعه للرجل ابتداء. وهذا الخلاف إنما هو في مباح الاتخاذ، وأما غيره فلا خلاف في عدم جواز بيعه وأن ثمنه لا يحل، نقل ذلك في البيان. وعلى المشهور: فروى أشهب: يفسخ إلا أن يطول، وحكى ابن عبد الحكم: يفسخ وإن طال. وقوله: (والسباع) قال بعض من تكلم على هذا الموضع: أي وفي الكلب الذي يحرس الماشية من السباع وفي معناه كلب الزرع، فإن اتخاذ الكلب لذلك جائز. واختلف في بيعه كما ذكره المصنف، ونقله الباجي وغيره. وذكر المازري خلافاً في الكلب الذي يتخذ لحراسة الدور والقياصير والفنادق، وللمنع ذهب ابن القصار، وأجاز فيه شيخنا- رحمه الله- وجهاً آخر، وهو أن يريد بالسباع التي في معنى الكلب كالفهد ونحوه، وهو الذي اقتصر عليه ابن راشد، فقال: يعني السباع كالفهود ونحوها، بناء على وجود المنفعة فيها، أو كونها منفعة يسيرة فلا تقابل بالعوض.

ويجوز بيع الهر والسباع لتذكيتها لجلودها، فإذا ذكيت بيعت جلودها وصلي فيها وعليها بخلاف الكلب مطلقاً .... هذا معنى ما في المدونة في كتاب الضحايا، وعلى القول: أن جلود السباع لا تعمل فيها الزكاة لا يجوز البيع هنا، واستشكل الجواز لوجهين. أحدهما: لا يدري أيسلم الجلد أم لا؟ وأجيب بأنه يحتاط له من اللحم. والثاني: لا يدرى أرقيق أم غليظ؟ وأجيب بأنه مما يعلم بالعادة لاسيما القصابون. ويؤخذ من هذه المسألة جواز بيع الجلد وهو على [434/أ] ظهره الحيوان، لأنه لما كان السبع لا يؤكل لحمه على المشهور، فإذا بيع لجلده فكأن البائع لم يبع إلا جلده فقط. وحصل في البيان في بيع الجلد قبل الذبح ستة أقوال. الأول: الجواز. والثاني: الكراهة ويمضي بالثمن. والثالث: الكراهة ويفسخ، إلا أن يذبح البائع الشاة فيمضي بالثمن. والرابع: الكراهة ويفسخ، إلا أن يقبضه المبتاع فيمضي بالثمن. والخامس: يفسخ، إلا أن يقبض المشتري الجلد ويفوت عنده فيمضي بالثمن. والسادس: إن شراءه لا يجوز ويفسخ، فإن فات عند المشتري صح بالقيمة. وقوله: (بخلاف الكلب مطلقاً) ابن راشد: يعني أن الكلب غير المأذون في اتخاذه لا يجوز بيعه لمن يبقيه حياً أو يذكيه لأخذ جلده، لوجود النهي عن بيعه وعن اتخاذه. خليل: ويدخل في قوله: (مطلقاً) المأذون في اتخاذه. ولا يباع من في السياق ابن عبد السلام: من هنا ابتدأ بالكلام على ما يتعلق بقوله: (منتفع به) وما تقدم أولى، لأن النافع إذا كانت ممنوعة شرعاً فهي كالمعدومة حساً، وهو الذي في الجواهر، لأنه تكلم على مسألة الكلب وما بعدها لما تكلم على قوله: (منتفع به) ولأنه لو كان قال ابن

عبد السلام للزم أن يكون الكلام على الكلب داخلاً في مقابل قوله: (طاهر) وليس بجيد، لأن الكلب عندنا طاهر. وما ذكره المصنف خاص بالرقيق وما لا يؤكل لحمه، لأنه من أكل المال بالباطل وأما مأكول اللحم فيباع ليذكى، فيجوز بيعه لحصول المنفعة به، قاله ابن عبد السلام. ويجوز بيع المريض المخوف عليه والحامل المقرب على الأصح إن كان الحيوان مما يؤكل لحمه فيجوز بيعه، لأن المنفعة به حاصلة في الحال، وإن كان مما لا يؤكل لحمه والمرض خفيف فيجوز أيضاً، وإن كان مخوفاً، أو الحامل مقربا من الولادة، فكذر المصنف أن الأصح الجواز وهو الأقرب، وأشار غيره إلى أن الأصح المنع، لأن الموت حينئذ كثير، بدليل منعه ما زاد على الثلث. ولعل الخلاف خلاف في حال. ولا يباع الطير في الهواء، ولا السمك في الماء، ولا الآبق والشارد، والإبل المهملة لاستصعابها .... هذا راجع إلى قوله: (مقدور على تسليمه) وتصوره ظاهر. اللخمي: وبيع الآبق فاسد إن شرط أنه من المشتري، أو على أنه من البائع حتى يقبضه المشتري، أو على أن طلبه على المشتري، أو على البائع بشرط النقد، أو بغير النقد على أنه للمشتري بأي صفة وجد عليها، أو على أنه على صفة كذا ولا يدري متى يجده قريباً أو بعيداً وإن كان البيع بغير نقد، وعلى أن طلبه على البائع، فإن وجده على صفة كذا أو في وقت كذا أو ما يقارب ذلك جاز، لأنه لا يجوز فيما عقد على هذه الصفة. وقد قال ابن القاسم فيمن قال: اعصر زيتونك فقد أخذت زيته كل رطل بدرهم وكان يختلف خروجه، لا خير فيه إلا أن يشترط إن خرج جيداً، أو أنه بالخيار ولا ينقد وإن عرف مكانه وقبض عليه وسجن وعرف حاله بعد وجوده ولا خصومة فيه وقرب

موضعه، جاز العقد والنقد، وإن بعد جاز العقد وحده، وإن لم تعلم صفته لم يجز عقده ولا غيره، إلا أن يقول: إن وجد على ما كنت أعرفه، أو على أنه إن كان الآن على صفة كذا فيجوز العقد، أو يكون بالخيار فيجوز وإن لم يذكر صفة، وفي الاستذكار: تحصيل مذهب مالك في بيع الآبق أنه لا يجوز، إلا أن يدعي مشتريه معرفته فيشتريه ويتواضعان الثمن، فإن وجده على ما يعرفه قبضه، وإلا رد الثمن وضمانه من البائع، وإن كان الآبق عند المشتري فإن علم البائع حاله جاز البيع، لأنه قد يزيد وينقص. مالك: وبيع العبد في إباقة فاسدة وضمانه من بائعه ويفسخ وإن قبض. وكلام ابن عبد البر مخالف لكلام اللخمي، إذ مقتضاه أنه لا يجوز بيعه إذا كان طلبه على البائع بشرط أن يجده على صفة كذا، أو على أنه بالخيار. وقد صرح المازري وابن بشير: بأن ما قاله اللخمي اختيار له، وما ذكره المصنف في الإبل المهملة نحوه في العتبية من رواية أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يجوز بيع الصعاب من الإبل وما لا يؤخذ إلا بالإزهاق ولا يعرف ما فيها من العيوب. ابن القاسم: ولا يجوز بيع المهاري والفلاء الصغار بالبراءة ولا يعلم بها عيب أم لا. قال أصبغ في العتبية: إن بيع الفلاء ونحوها بالبراءة جائز. قال في البيان: وقول أصبغ هو الصحيح. المازري: اختلف في تعليل المنع، فمنهم من أشار إلى لا يمكن قبض الإبل إلا بالإزهاق، ومنهم من أشار إلى كونها لا تعلم صفتها. ويمنع بيع طير الهواء وسمك الماء بشرط التعيين، وأما مطلق السمك والطير فيجوز. والمغضوب إلا من غاضبه هو معطوف على الطير. أي: ولا يباع المغصوب إلا من غاصبه، لأنه تحت يده. وجعل ابن رشد وغيره بيع المغصوب من غير غاصبه على ثلاثة أوجه، إن كان مقدوراً

عليه مقراً بالغصب فهو جائز باتفاق. وإن كان ممتنعاً من دفعه وهو ممن لا تأخذه الأحكام مقراً أو غيره لم يجز بيعه من غيره اتفاقاً. وإن كان منكراً وهو ممن تأخذه الأحكام وعليه بالغصب بينة فقولان، بناء على القولين في اشتراء ما فيه خصومة. ابن رشد: والمشهور منهما المنع، لأنه غرر، وأما من بيعه من غاصبه فجعله ابن رشد على ثلاثة أوجه: الأول: أن يعلم أنه عازم على رده. والثاني: أن يعلم أنه غير عازم على رده وإن طلبه ربه. والثالث: أن يشكل أمره. فالأول يجوز باتفاق، والثاني عكسه، والثالث فيه قولان. قال: وإلى هذا ترجع الروايات. انتهى. وبالفساد قال مطرف ورواه عن مالك، [434/ب] وبذلك حكم القاضي ابن بشير في جارية بقرطبة لم يتم السلطان شراءها حتى طحنت لصاحبها ستة أشهر بعد ردها إليه من الغاصب، لئلا يكون بيع المضغوط، والجواز هو ظاهر قول مالك في العتبية، ورواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الغصب. ابن عبد السلام: وأكثر نصوصهم أنه لا يجوز البيع للغاصب، إلا بعد أن يقبضه ربه ويبقى بيده مدة طويلة حدها بعضهم بستة أشهر فأكثر، ورأى أن بائعه إذا باعه على غير ذلك فهو مضغوط، أي: يبيعه ببخس مكرها استخلاصاً لبعض حقه، والذي في المدونة جواز ذلك. خليل: وكذلك لا يجوز أيضاً أن يبيعه من غير الغاصب إذا كان المشتري يقدر على خلاصه بجاهه، لأنه يأخذه ببخس فيكون من أكل المال بالجاه. تنبيه: قال في المدونة: ولو باعها ربها من رجل غير الغاصب ممن رآها وعرفها كان نقضاً لبيع الغاصب. أي: إذا اشتراها شخص من الغاصب غير عالم، وظاهره جواز بيعها من غير الغاصب، وهو خلاف ما ذكره المصنف، إلا أن يتأول على أن ربها لم يبعها من غير الغاصب إلا بعد تمكنه من أخذها، ولهذا قال الشيخ أبو الحسن: إن الشيوخ يقولون إن معناها: إذا سلم من شراء ما فيه خصومة.

وفيها: لو باعه الغاصب ثم ورثه فله نقضه، بخلاف ما لو اشتراه من ربه لتسببه، وقال ابن القاسم: البيع تام فيهما .... أي: إذا باعها الغاصب ثم مات ربها وكان الغاصب وارثه، فله نقض ذلك البيع، لأنه لما باع باع ما لم يكن ملكاً له- وتصور كلامه واضح- كأنه نسب المسألة للمدونة لاستشكاله الفرق بين الإرث والبيع، إذ لا يبعد تخريج النقض في الشراء من الميراث، لأنه إما تمام فيهما أو منتقض فيهما، والتسبب وعدمه وصف طردي لا كبير مناسبة له، والضمير في (فيهما) عائد على مسألة الوارث والمشتري. ابن عبد السلام: انظر لو اشترى الغاصب السلعة من ربها بأقل مما باعها به للأجنبي، هل يكون له ما بين الثمنين أو لا؟ وقد قال محمد فيمن تعدى على سلعة رجل فباعها بغير أمره، ثم اشتراها بأقل مما باعها للأجنبي ليس له ربح، لأنه ربح ما لم يضمن. أو يفرق بينهما بأن الغاصب هنا كان ضامناً، ولم يكن المتعدي في مسألة محمد ضامناً. والمرهون يقف على رضا المرتهن أي: وبيع الراهن الشيء المرهون يصح ويقف لزومه على رضا المرتهن، يعني: بعد القبض والحوز، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في باب الرهن. وملك الغير على مالكه، وقيل: لا يصح وقع لفظ الغير- كما ترى- بـ (أل) وكذلك وقع في كلام جماعة من الأئمة، وأنكر ذلك بعض أئمة العربية، وقال: إنها لا تستعمل إلا مضافة في اللفظ، والتقدير: وبيع ملك غيره بغير إذنه ويقف لزومه على رضا مالكه، وهو مذهب أحد بن حنبل، وتعرف هذه المسألة ببيع الفضولي. ودليلنا: ما خرجه الترمذي عن أبي لبيد لما رواه عن عروة البارقي قال: دفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً لأشترى له شاة، فاشتريت له

شاتين، فبعت أحداهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما كان من أمره، فقال له: ((بارك الله لك في صفقة يمينك)) فكان يخرج بعد ذلك إلى الكوفة فيربح الربح العظيم، فكان من أكثر أهل الكوفة مالاً. عبد الحق: وأبو لبيد أثنى عليه أحمد ثناء حسنا، وخرجه البخاري عن شبيب. وظاهر كلامه: أن البيع يصح ولو علم المشتري أنه لغير البائع، وهو ظاهر المذهب. وقال أشهب: لا يصح إذا علم المشتري بالتعدي. ابن عبد السلام: وبعضهم قيد الخلاف بما إذا لم يكن المشتري عالماً بأنها ملك الغير، وأما إن كان عالماً لم يصح البيع. ومنهم من يرى أن لا فرق. ومنهم من يقول: إنما يلزم هذا لبيع للمشتري إذا كان المالك حاضراً أو قريب المكان، وأما إن كان بعيد المكان فلا يلزمه البيع، لما يلحقه بسبب الصبر من الضرر. وقوله: (وقيل: لا يصح) أي: ولو أمضاه مالكه، وحكي عن مالك، وهو مذهب الشافعي. وإن قيل: لا يظهر لهذا الخلاف جدوى، لأن البيع على المشهور إنما يمضي برضا البائع، وحينئذ فلا نسلم استناد البيع إلى العقد الأول بل إلى رضا المالك، ولاسيما على المذهب في الاكتفاء بالمعاطاة، فجوابه: أنه لو رضي المالك ولم يرض المشتري للزم على المشهور، وهو واضح. والعبد الجاني يقف على ذي الجناية فيأخذ الثمن أو العبد، وللسيد أو المبتاع دفع الأرش، وفي كونه عيباً في الخطأ قولان ... يعني: أن من باع عبده الجاني، فإن إمضاء بيعه يقف على رضا ذي الجناية، أي: المجني عليه، لتعلق حقه بعين الجاني فجاز له أن يأخذه، إلا أن يفتكه السيد، وكذلك له أن يقتص منه إن كان في الجناية القصاص.

وقوله: (فيأخذ الثمن) أي: يأخذ المجني عليه إن شاء الثمن الذي باعه به سيده، وإن شاء فسخ البيع وأخذ العبد، وهذا إذا لم يدفع السيد ولا المبتاع أرش الجناية. وحذف المصنف هذا الشرط، للدلالة عليه بقوله: (وللسيد أو المبتاع دفع الأرش) فإن امتنع السيد من دفع الأرش وادعى عليه المجنى عليه أنه إنما باع لأنه رضي بحمل الجناية، حلف ما أراد حملها، فإن حلف خير المجني عليه بين إجازة البيع وأخذ الثمن، وبين رد البيع، قاله في المدونة. وحيث دفع المبتاع [435/أ] الأرش، فإنه يرجع به على البائع، إلا أن يكون الثمن أقل منه فلا يرجع إلا به. وقوله: (وفي كونه عيباً) أي: إذا دفع السيد الأرش أو عفا المجني عليه، فهل يكون للمشتري مقال في رده بعيب الجناية؟ إن كان عمدا فله القيام اتفاقاً، وإن كان خطأ فقولان، سببهما: هل ذلك عذر أم لا؟ إذ لا تؤمن منه العودة، وهما في المدونة، ففيها: ولو افتكه البائع فللمبتاع رده بهذا العيب، إلا أن يكون البائع بينه له فيلزمه البيع. قال غيره: هذا في العمد، وأما في الخطأ فلا وهو كعيب ذهب. وحكاية المصنف القولين يدل على أن قول غيره ليس تقييداً لقول ابن القاسم، وجعله في النكت تقييداً، قال في قوله ابن القاسم: يريد به العمد كما قال غيره، فعلى هذا لا يختلف في الخطأ أنه ليس بعيب، ولا في العمد أنه عيب. وفيها: قال ابن دينار: من حلف بحرية عبده فباعه نقض البيع وعتق أجمل في هذه المسألة إذ لم يبين هل كانت يمينه على بر أو حنث، وابن دينار إنما قاله في الحنث، ولو كان على بر لم ينقض البيع. وصورة المسألة: إذا حلف ليضربن أمته مثلاً ضرباً يجوز له. قال في المدونة: منع من البيع والوطء حتى يفعل، فإن باعها نقض البيع. والمشهور: يرد إلى ملكه، فإن مات قبل

الضرب عتقت عليه في ثلثه. والشاذ لابن دينار: أنه ينقض البيع وتعتق عليه، قال: ولا أنقض صفقة مسلم إلا إلى عتق ناجز وضعف، فإنا ننقض البيع للكتابة والتدبير، وأدخل المصنف هذه المسألة هنا لما كان البائع لا قدرة له على تسليم العبد لأجل يمينه. وفيها: بيع عمود عليه بناء للبائع وقيده المازري بانتفاء الإضاعة وبأمن الكسر نسب هذه المسألة للمدونة لإشكالها، لكونه أطلق جواز البيع. وقوله: (بيع عمود) أي: جواز بيع عمود عليه للبائع بناء. وتقييد المازري لابد منه، وقد سبقه اللخمي للتقيد بالقيدين المذكورين. وقوله: (بانتفاء الإضاعة) أي: إضاعة المال، فإن إضاعته لا تجوز، كما إذا كان لا يقدر على إخراجه إلا بهدم الغرفة التي فوقه، لأن ذلك من الفساد. اللخمي: إلا أن يكون قد أضعف له في الثمن، أو تكون الغرفة تحتاج إلى النقض، أو كان عليه بناء يسير، ولم يذكر المصنف من عليه النقض، والمنصوص لمالك أنه على البائع. ذكر المازري عن بعض الأشياخ أنه استبعده، قال: ولا وجه لاستبعاده. وفي المدونة: ولا بأس بشراء صل سيف دون حليته وينقض البائع حليته. ابن يونس: ولو اشترى الحلية دون النصل لكان على المشتري، كاشتراء الصوف على ظهور الغنم جزافا، واشتراه التمر في رءوس النخل جزافا. وجعل اللخمي نقض الحلية على البائع إذا باعها كما في بيعه النصل، قال: لأن على كل بائع أن يمكن من المبيع، واختلف في هذا الأصل، فقيل: فيمن باع صوفا على ظهور الغنم، أو تمراً في رءوس النخل على البائع، وقيل: على المشتري وأشار المازري أيضا إلى هذا الإجراء، قال ولو باع شاة واستثنى جلدها، فظاهر المذهب أن الذبح على المشتري.

اللخمي: وأرى أن يكون الذبح عليهما، لأن التذكية منفعة لهما، ثم يختلف هل تكون الأجرة عليهما على السواء، أو على قدر ما لكل واحد منهما ويكون السلخ على صاحب الجلد لأنه على صاحب الجلد لأنه على اللحم، فعلى من له الأعلى أن يزيله. المازري: وعندي أنه يختلف في السلخ، فإن قلنا: أن المستثنى مشترى جرى على القولين في شراء صوف الغنم، وإن قلنا: أنه مبقى على ملك البائع فالسلخ على البائع. وفيها: بيع هواء فوق هواء ويبني البائع الأسفل وقيده بوصف البناء صورتها: أن يقولك له بعني عشرة أذرع فوق سطحك. فيقول: وأنا محتاج إيضاً إليها. فيقول له: فبعها لي فوق ما تبينه. فيشترط في جواز ذلك وصف البناء الأسفل والأعلى، وهل بآخر أو حجر إلى غير ذلك. وظاهرة: أن التقييد في هذه المسألة للمازري، وبه صرح ابن شاس. وهذا التقييد في المدونة في كتاب الغرر فلا حاجة إلى المازري، على أنه يمكن أن يعود الضمير في كلام المصنف على مالك كما مشاه ابن عبد السلام. فائدة: قال علماؤنا: من ملك أرضاً أو بناءً مالك هواها إلى أعلى ما يمكن، واختلفوا هل يملك باطنها أو لا؟ على قولين. ورجح بعضهم الملك، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من غصب قيد شبر طوقه الله من سبع أرضين)). وفيه نظر. وقال القرافي: ظاهر المذهب عدم الملك. فرع: وفرش السقف بالألواح على من شرط عليه، وإن سكت عنه، فقيل: على المبتاع لأنها أرضه، وقيل: على البائع لأن السقف سقفه. ابن القاسم: الموثق وهو الأصح، قال: ولا يجحوز للمبتاع بيع ما على سقفه إلا بإذن البائع، لأن الثقل على حائطه.

وفيها: غرز جذع في حائط، فقال: إن ذكر مدة فإجارة تنفسخ بانهدامه، وإلا فمضمون .... يعني: يجوز لك أن تشتري من غيرك قدر ما تضع عليه خشبة أو أكثر من جداره، فإن ذكرت مدة فهو إجارة تنفسخ بانهدام الجدار، لأنه قد هلك ما يستوفى منه المنفعة. وإن لم تتعين المدة فهو مضمون، فعليه أن يعيده لتستوفي منفعتك، كما على صاحب [435/ب] السفل لصاحب العلو. وفاعل (قال) عائد على المازري، لأنه هو الذي قيد الكلام الذي نقله المنصف عن المدونة فلا يرد ما قاله ابن عبد السلام: إنه كلام حسن في إجرائه على المذهب، وأما نسبته إلى المدونة فليس بصحيح، لأنه فهم أن فاعل (قال) عائد على مالك. والجهل بالثمن والمثمون جملة وتفصيلاً مبطل، كزنة حجر مجهول، وكتراب الصواغين .... هذا راجع إلى قوله: (معلوم). وقوله: (والجهل بالثمن) يحتمل أن يريد بقدر الثمن، ويحتمل بشأنه، ليندرج قدره وصفته وعينه. ومراده بـ (الجملة) مجموعة، وبـ (التفصيل) أجزاؤه. والصور المقدرة بحسب الجهل بالثمن والمثمون والعلم بهما أو بأحدهما أربع: مجهولان، ومعلومان، وأحدهما مجهول، والآخر معلوم، ولا يجوز منها إلا صورة واحدة وهي المعلومان. وقوله: (كزنة حجر مجهول) يحتمل في الثمن، ويحتمل في المثمون، ولا إشكال في هذا الحضر حيث لا تعدم الموازين. ابن عبد السلام: وأما في البوادي، فقد يتخرج الجواز فيه على البيع بمكيال لا يعرف المشتري قدره. فإن قيل: الفرق أن الجهالة في الكيل هناك في جانب المشتري فقط، وهنا في

جانب البائع والمشتري معاً. قيل: فلنا أن نفرض الجهالة هنا في جان المشتري وحده. (وكتراب الصواغين) لأنه لا يدري هل فيه شيء أم لا، كثير أم قليل. فرعٌ مرتبٌ: فإن وقع بيع التراب فسخ، وإن فات بذهاب عينه فقيمته يوم قبض على غرره إن كان على حاله، وإن خلصه المشتري رده على المشهور. وقال ابن أبي زيد القيرواني: على المشتري قيمته على غرره، وعلى المشهور فله أجر تخلصيه. وأجرى الأشياخ ذلك على الخلاف فيمن اشترى أشجاراً بوجه شبهة فسقى وعالج ثم ردت إلى ربها، أو اشترى أبقاً فأنفق على رده نفقة ثم فسخ البيع ورد إلى ربه، هل يرجع بالنفقة في جميع ذلك أم لا؟ وأصل ذلك: أن النفقة إن كان لها عين قائمة رجع بها بلا خلاف، وإن لم تكن لها عين قائمة، فقال ابن القاسم: يرجع. وقيل: لا. وصرح ابن بشير بأن المشهور الرجوع بنفقة الآبق، حيث قلنا: إن المشتري يرجع بأجرة عمله فزادت الأجرة على قيمة الخارج، فهل يرجع بها، أو إنما يرجع بها ما لم تزد على أجرة الخارج؟ أجرى ذلك ابن محرز على القولين فيمن أنفق على الثمرة، هل يرجع بجميع النفقة، أو إنما يرجع بها ما لم تزد على قيمة الثمرة؟ واقتصر ابن يونس على أنه إنما يرجع بها بشرط ألا تزيد على الخارج. وعلى هذا فلا تكون له أجرة إذا لم يخرج شيئاً، وعلى الأول تكون الأجرة في ذمة البائع. بخلاف معادن الفضة، وفي معادن الذهب قولان أي: بخلاف تراب معادن الفضة فيجوز بيعه، لأنه يحزر ما فيه من الفضة لقلة ترابه، والمشهور في معادن الذهب قولان: الجواز نص عليه المازري. والشاذ لابن حمدون.

ومنشأ الخلاف فيه خلاف في حال، هل يمكن حزره كالفضة أو لا؟ وروى ابن القاسم عن مالك: جواز قسمة تراب المعادن، ومنع ذلك يحيي بن عمر. وكرطل من شاة قبل سلخها على الأشهر، بخلاف بيعها قبله هذا معطوف على (كزنة حجر) وكلما عطف هنا بالكاف فهو ممنوع، إلا قوله: (وكذلك الدقيق) وكلما عطف بخلاف فهو جائز، يعني: أن بيع رطل لحم من شاة قبل سلخها لا يجوز على الأشهر، لأنه لا يدري على أي صفة يأخذه، وأما من أي موضع فلم يشترطوه في السلم. وقوله: (بخلاف بيعها قبله) أي: فيجوز بيع جميعها قبل السلخ قياساً على بيع الحي الذي لا يراد إلا للذبح، ولأنه لما لم يقصد شيئاً معيناً خف الغرر في الجميع ولم يخف في الرطل. قال في البيان: والأصل في هذا أن كل ما يدخل بالعقد في ضمان المشتري فليس من بيع اللحم المغيب كالشاة المذبوحة وما لا يدخل في العقد في ضمانه كالرطل فهو بيع اللحم المغيب. قال شيخنا- رحمه الله-: وقد يعكس لكثرة الغرر في الجميع وخفته في الرطل. واعترض ابن عبد السلام كلام المصنف بوجهين، أحدهما: أن مقابل الأشهر قول أشهب بالكراهة لا الإباحة، كما هو ظاهر كلامه. وثانيهما: إن عنى بقبلية السلخ في الموضعين بعد الذبح فلا يصح، لأن أشهب نص على أن ذلك قبل الذبح. وإن عنى الأعم فيلزمه أن ينسب لابن القاسم جواز بيع لحم شاة وهي حية، لقوله بخلاف بيعها قبله، وهذا لا يوجد إلا في مسائل الاستثناء. وأجيب عنهما: بأن غير الأشهر حكاه ابن شعبان، فاقل: واختلف في بيع اللحم والبهيمية قائمة على الحبس أو بعد ذبحها أو نحرها وقبل الكشف عنها فكرهه أشهب في المدونة، وإن حبسها وعرفها وشرع في الذبح جاز. زاد أشهب في الموازية: وإن كان بعد يوم أو يومين فسخ.

فظاهر ما حكاه ابن شعبان: الجواز من غير كراهة كما ذكر المصنف. وعن الثاني: بأن مراده بقبلية السلخ الأعم، أي: قبل الذبح وبعده، وقد ذكر ابن شعبان الخلاف مطلقاً. ولا يلزم أن يحمل مقابل الأشهر على قول أشهب، ولو سلم حمله عليه فلا فرق بين ما نص عليه وهو قبل الذبح، وبين ما سكت عنه وهو بعده وقبل السلخ. وأما ما ألزمه أن ينسب لابن القاسم فهو مذهبه في العتبية من رواية عيسى عنه، قال: وما لا ينتفع به إلا اللحم، مثل الداجن كدجاجة لا تبيض، لا بأس أن تباع بما لا يستحيى من الطير على التحري. واعترض على المصنف بأن قوله: (وكرطل) يقتضي أنه مثال للمجهول جملة وتفصيلاً لأنه عطف على ما قبله وليس كذلك بل هو معلوم الجملة، [436/أ] وإنما الجهل حصل في صفة اللحم، قال: ويحتمل أن يكون إنما شبه في المنع خاصة. وبخلاف بيع الحنطة في السنبل والتبن، والزيت في الزيتون على الكيل والوزن أي: فيجوز لمعرفة الصفة بفرك بعض السنبل وتذرية بعض التبن عنه. الباجي: ولا خلاف في الجواز، أعني: إذا كان على الكيل، وهذا ظاهر إن اشترى من المجموع كيلاً معلوماً. وأما إن اشترى الجميع على الكيل، فيخرج على قول من منع بيع جميع الصبرة على أن كل قفيز بكذا ها هنا المنع، بل أولى لعدم رؤية الجميع هنا. أبو الحسن، أي: تأخر تمام دراسه وليس يعني تأخير المزروع. وقد اختصره ابن يونس: وإن كان مكثه في حصاده ودراسه وذروه إلى عشرة أيام أو خمسة عشر فهذا قريب. وشرط في المدونة في جواز الزيت أن يكون خروجه لا يختلف، قال فيها: وإن اختلف لم يجز إلا أن يكون مخيراً فيه ولا ينقده، ويكون عصره قريباً إلى عشرة أيام ونحوها.

بعض الأندلسيين: وينبغي أن يشترط الخيار لهما معاً، وإلا لم يجز إذا كان يختلف وذهب اللخمي إلى أنه لا يلزم، وهو ظاهر ما اختصر عليه المختصرون. قال: فإن هذا من الباب الذي حكاه سحنون في كتاب الغرر عن جل أصحاب مالك في البيع على أنه بالخيار إذا رأى وهي المسألة بعينها، وعلى ما ذكر البغداديون أنه غير جائز. وقوله: (على الكيل والوزن) أي: الكيل راجع إلى القمح، والوزن راجع إلى الزيت، ولا يصح جعلهما للقمح والزيت، فإنه نص في المدونة على منع بيع القمح بالوزن. اللخمي: ويجوز فيه الوزن بمصر، لأن ذلك العادة عندهم في الدقيق يبيعونه وزنا، ويسلمون القمح للطحان بالوزن، وكذلك نص على جواز بيع الزيت بالكيل والوزن إذا كان العرف جارياً بذلك. وعلى هذا فلا يبعد أن يعود قول المصنف على الكيل والوزن إلى كل واحد من القمح والزيت. وكذلك الدقيق قبل الطحن على الأشهر قال: (وكذلك) ولم يقل: وكالدقيق، لئلا يتوهم عطفه على (كزيت) فيكون الأشهر فيه المنع وليس كذلك، فإن الأشهر فيه الجواز. ثم له حالتان، تارة يقول: آخذ منك من دقيق هذا القمح صاعاً بكذا، فهو في ضمان البائع حتى يوفيه مطحوناً. وتارة يقول: أشتري منك هذا الصاع على أن تطحنه، فإذا وفاه إياه حباً خرج من ضمانه، وهو بيع وإجارة. والمصنف إنما أراد الأول، فوجه الأشهر أن الطحن متقارب، ورأي مقابله أنه مما يختلف ولا يدري كيف يخرج، هل هو فاخر أو لا؟ وبخلاف صاع، أو كل صاع بدرهم من صبرة معلومة الصيعان، أو مجهولتها فيهما ..... الضمير في فيهما عائد على الصورتين، أي: صورة صاع، وكل صاع. أما مسألة: صاع بكذا فلا إشكال فيها. وأما مسألة: كل صاع بكذا، فثلاثة أحوال، إن قال: أشتريها

كل صاع بكذا وهي معلومة الصيعان فلا إشكال أيضاً في جوازها. وإن كانت مجهولة الصيعان فالمذهب أيضاً الجواز، وحكى أبو عمران عن بعض أصحابنا الكراهة. ومنعها بعض الأئمة خارج المذهب. وإن قال: أخذت منك منها كل صاع بكذا، فاختلف الشيوخ في ذلك- سواء كان عدد صيعان الصبرة معلوماً أو مجهولاً- فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه. واختار ابن عبد السلام المنع، قال: لأن (من) هنا لا شك أنها للتبعيض وهو يقل ويكثر. ومال أيضاً المازري إليه، بشرط أن يريد المتعاقدان بـ (من) التبعيض. وأما إن أرادا بيان الجنس، والقصد أن يقول: أبيعك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فلا. وقال ابن راشد: إذا قال أبيعك من هذه الصرة حساب كل عشرة أقفزة بدينار ولم يبين ما باعه منها، فقال القاضي أبو محمد: ما علمنا فيها نصاً. وقال بعض المعاصرين: البيع فاسد، وهو قول الشافعي. القاضي: ويحتمل أن تكون (من) زائدة فيحمل على ذلك، وهو أولى من حمله على الفساد، ويحتمل أن يلزمه البيع في مقدار ما علق البيع عليه، وهو عشرة أقفزة على ما رواه عبد الملك فيمن قال: اكتريت منك هذه الدار حساب كل شهر بكذا، أن الإجازة تلزمه في شهر واحدٍ. فإن جهل التفصيل، كعبدين لرجلي بثمن واحد، فقولان لما ذكر المجهول جملة وتفصيلاً، والمجهول الجملة المعلوم التفصيل كالصبرة، أعقبه بالمجهول التفصيل المعلوم الجملة ومثله بالعبدين. وكلامه يصدق على ثلاثة صور، إذا كان لكل واحد منهما عبد. أو لأحدهما عبد لا شركة فيه والآخر مشترك. أو هما مشتركان بينهما على أجزاء متفاوتة. وأشهر قولي ابن القاسم المنع. قال في البيوع الفاسدة من المدونة: لأنه لا يدري بما باع، ثم قال: وأجازه أشهب وقد كان ابن القاسم يجيزه، فإن وقع على المشهور من قول ابن القاسم فسخ. وإن فات، ففي الموازية: يمضي بالثمن

مفضوضا على القيم. وفي غير الموازية: أنه يمضي بالقيمة كالبيع الفاسد. التونسي: وهو أشبه. فإن قلت: كلامه معترض لأنه يصدق على ما إذا كانا مشتركين بينهما [436/ب] على السواء، وهي جائزة اتفاقاً. فالجواب: لا نسلم دخولها، لأنه جعل العبدين مثالاً لمجهول التفصيل، وإذا حصلت الشركة على السوية فالثمن معلوم التفصيل. وقوله: (بثمن واحد) ظاهره لو سمى لكل واحد ثمناً جاز، وكذا قال ابن لبابة، وأحسبهم يجيزون إن سميا لكل سلعة ثمناً، كالمرأتين في النكاح. وأشار غيره إلى أنهما إذا قوما أو دخلا على المساواة فلا يختلف في الجواز. ابن عبد السلام: إن كان دخلوهما على المساواة بعد التقويم فظاهر، وإن كان باتفاقهما فقط لا يفيد، لأن المذهب أن المتبايعين إذا سميا لكل سلعة ثمناً ثم طرأ عيب أو استحقاق لا يلتفت إلى تلك التسمية. وأشار التونسي إلى أن هذا الخلاف إنما هو إذا علم المشتري بذلك، وأما إذا لم يعلم وظهر أنهما شريكان في السلعتين جميعاً فإنه لا يفسخ البيع، لأن الفساد من جهة أحد المتبايعين لا من جهتهما. وقال المازري: إذا لم يعلم المشتري يجري ذلك على الخلاف في علم أحد المتبايعين بالفساد. ولو قال المصنف: كشيئين مكان عبدين لكان أصوب. بخلاف سلة وخمر على الأصح أي: إذا اشتمل على ما لا يجوز وما يجوز كما مثل به، فالأصح بطلان الجميع وهو مذهب المدونة، لأنه إذا بطل بعض الصفقة بطلت كلها. وأشعر كلام المصنف بأن الأصح البطلان لذكره الخمر، فإنه إنما يناسب الإبطال، ومقابل الأصح إبطال الحرام وإمضاء الحلال بما يقابله، ذكره ابن القصار تخريجاً.

المازري: وتعلق فيه بقول ابن القاسم فيمن اشترى شاتين فوجد إحداهما غير ذكية وهما متكافئتان، يلزمه البيع في الذكية، وهو صحيح إن كان مراد ابن القاسم أن العقد وقع والمتعاقدان عالمان بغير الذكية، وأما إن لم يعلمها فهذا مما اضطرب فيه المذهب، هل يفسخ العقد أو يمضي الحلال ويفسخ الحرام، ويكون ما ظهر أنه حرام كالمستحق من الصفقة التي اعتقد أنها لبائعها ثم ظهر أن بعضها ليس له، وكمن تزوجت على عبد ثم ظهر أنه حر، وكمن باع خلاف ثم ظهر أنها خمر. وخرج بعض المتأخرين الاختلاف من رواية ذكرها ابن عبد الرحمن بن زياد الأندلسي عن مالك أنه قال فيمن أسلم مائة دينار وقبض خمسين وتأخر خمسون: أنه يبطل السلم في مقدار ما تأخر وهذا أيضاً فيه نظر، فإن التأخير بغير شرط لا يفسد السلم على أحد القولين ولو تأخر جميع رأس المال، فيمكن أن يكون راعى هذا الاختلاف. انتهى. وعلى الصحة يقسط الثمن فيهما أي: إذا فرعنا على الصحة في هذا الفرع وفي الذي قبله، فيقسط الثمن في المسألة الأولى على السلعتين، ليأخذ كل بائع ما ينوب سلعته، وقسط الثمن في المسألة الثانية، فأخذ البائع منه ما قابل السلعة وبطل ما قابل الخمر. فإن باع ملكه وملك غيره فرد وكان وجه الصفقة فللمشتري الخيار يعني: لو باع سلعتين إحداهما له والأخرى لغيره، فهو في التي لغيره فضولي، فإن أمضى غيره البيع لزم ذلك المشتري ولا مقال له، وإن رد فكان المردود وجه الصفقة، فإن المشتري يخير في التمسك بالباقي بما يخصه من الثمن أو رده، وهذا قول ابن حبيب. والمشهور خلافه، أنه إذا رد وجه الصفقة الانتفاض في الجميع وليس له التمسك بالباقي.

ويجوز بيع الشاة واستثناء أربعة أرطال فأدنى، وإليه رجع بد منعه ابن القاسم، وسنه أشهب، وقدر الثلث كالصبرة والثمرة باتفاق .... هذا يشبه المعلوم جملة والمجهول تفصيلاً، لكن باعتبار الثمن، وقد تقدم أنه لا يجوز بيع رطل من شاة قبل سلخها على الأشهر، لكن أجاز مالك هذه على وجه الاستثناء بشرط اليسارة، وإلى هذا رجع مالك بعد أن كان يمنعه. ووجهه: أن المستثنى إما مشترى فلا يجوز، لأنه شراء لحم مغيب. وإما مبقى فيكون ما عداه مشترى وهو مغيب. ثم ذكر في حد اليسير ثلاثة أقوال. ابن عبد السلام: والثلاثة أرطال رواها ابن المواز، والذي في المدونة أربعة أرطال. خليل: قد جاء في المدونة الثلاثة على رواية ابن وضاح كما ذكره المصنف، وفي بعض الروايات جواز استثناء الثلث، والذي نقله ابن يونس عن الموازية: جواز الخمسة والستة لا الثلاثة كما نقله ابن عبد السلام. ابن راشد: واتفق على أن ما زاد على الثلث كثير. ابن عبد السلام: وقيد الاتفاق راجع إلى الثمرة، لأن الخلاف في الصبرة، فقد روى ابن الماجشون وقال به: أنه لا يجوز أن يستثني من الصبرة قليلاً ولا كثيراً، كيلاً ولا جزءاً مشاعاً، لأن الجزاف إنما بيعه للضرورة، وهي مشقة الكيل والوزن، فإذا استثنى منها جزءاً فلابد من الكيل، فلم يقصد بالجزاف إلا المخاطرة، والثمرة لا يتأتى فيها الكيل فافترقا، وعلى هذا فالثمرة مبتدأ خبره محذوف، أي: يجوز فيها استثناء الثلث باتفاق، يريد: على رءوس الأشجار. وقال بعض من تكلم على هذا الموضع: بل هو راجع إليهما، والمقصود به الاستدلال على ابن القاسم بما اتفقا عليه. وقد حكى ابن المواز ذلك، فقال: واتفق ابن القاسم وأشهب على جواز الاستثناء من الصبرة والثمرة كيلاً قدر الثلث فأقل.

[437/أ] وفرق المازري لابن القاسم بأن الصبرة مرئية فخف الغرر، وعلى الجواز في الثمرة، فقال أشهب: يجوز، سواء كان ذلك تمراً أو رطباً أو بسراً، وهو ظاهر على أن المستثنى مبقى، وفيه نظر على أنه مشترى، فإن كانت الثمرة أنواعاً فاستثنى من نوع منها أكثر من ثلثه إلا أنه أقل من ثلث الجميع، فاختلف فيه قول مالك بالإجازة والمنع، وأخذ ابن القاسم وأشهب بالمنع. ويجيز على الذبح، وقيل: إن كانت معلولة ما صدر به المصنف، قال المازري: وهو المعروف، لأن المشتري دخل على أن يدفع للبائع لحماً ولا يتوصل إليه إلا بالذبح، وحكى بعضهم الاتفاق عليه. وقوله: (وقيل: إن كانت معلولة) وقع في بعض النسخ: معلوفة بالفاء، وظاهره: أنها إذا كانت كذلك أجبر، وينبغي أن يقدر إن كانت معلولة لم يجبر على الذبح ليوافق المنقول. ففي الواضحة من رواية مطرف عن مالك: فيمن باع جزوراً واستثنى رأسها أو أرطالاً يسيرة من اللحم، فإن أخرها المبتاع حتى ماتت أو صحت وكانت مريضة، قال: إذا بيعت لمرض أو علة فخيف عليها الموت فبيعت لذلك بيسير الثمن ولولا ذلك لبيعت بدنانير كثيرة، فإن أخرها عامداً فهو ضامن لما استثنى عليه منها، وإن صحت وذهب ما كان بها من مرض فعلى المبتاع شراء ما استثنى عليه البائع أو قيمته، ولا يجبر على نحرها، لأنه كان ضامناً لما استثنى عليه. وإن كانت حين البيع صحيحة فتربص بها المبتاع الأسواق فزاد ثمنها أو سمنت فكره المبتاع نحرها، فالبائع شريك بقدر ما استثنى منها. وانظر كيف لم يجعله في هذه الرواية شريكا إذا كانت مريضة وجعله شريكاً إذا لم تكن مريضة وزادت أسواقها، ولعل ذلك لأنها إذا كانت مريضة لا يكون لها كبير ثمن، فإذا صحت ارتفع ثمنها فصارت الرأس المبيعة وهي مريضة كأنها قد فاتت. والله أعلم.

ولا يأخذ منه لحماً على الأصح أي: لو اتفقنا على أن يعطي المشتري البائع لحما عوضاً عن المستثنى، فالأصح وهو مذهب أشهب منعه. وصححه المصنف لما ذكره ابن المواز أنه يدخله بيع اللحم بالحي، ولذلك قال: بخلاف الجلد، أي: فيجوز. والجواز ظاهر قول مالك في رواية مطرف. وفي المدونة ما يقتضيه، وهو قوله: فيمن استثنى الجلد أو الرأس، أو أبى المشتري من الذبح أن عليه شراء جلده أو قيمته، فلم يجعله من بيع اللحم بالحيوان فاعلمه. واختلف هل للبائع أن يبيع ما استثناه بناء على أنه مبقى، أو لا بناء على أنه مشترى فيدخله بيع الطعام قبل قبضه، على قولين. ولو استثنى جزءاً جاز، ولو كان على الذبح كما لو باع شاة والمستثنى نصفها أو ثلثها أو غير ذلك من الأجزاء. المازري: ولا خلاف فيه. قوله: (ولو كان) مبالغة في الجواز، وهو ظاهر. وفي جبر من أباه حينئذ قولان قوله: (حينئذ) أي: حين باع على الذبح. ابن عبد السلام: والظاهر الجبر لدخوله على ذلك، والمؤمنون عند شروطهم. وقال ابن يونس: الصواب عدمه، لأنهما قد صارا شريكين، فمن دعا إلى الذبح فذلك له، قال: فإن قيل قد قال ابن القاسم: يجبر على الذبح إذا استثنى أرطالاً فما الفرق؟ قيل: لأنه هنا إذا تشاحا بيعت عليهما ووقع لكل واحد منهما ثمن معلوم، بخلاف الأرطال. انتهى. واقتصر اللخمي على القول بعدم الجبر. المازري: وهو الذي نص عليه الأشياخ.

خليل: ويدل عليه قولهم: يجوز ولو كان على الذبح، إذ لو كان يجبر فإن فيه شراء اللحم المغيب. والله أعلم. وحكى بعضهم الأول ولم يعزه. وذكر ابن يونس والمارزي أن بعض الشيوخ توقف في الجبر وعدمه. ولو استثنى الجلد والرأس، فثالثها: المشهور يجوز في السفر لا في الحصر أي: لو باع شاة واستثنى جلدها أو رأسها، فثلاثة أقوال، الجواز في الحضر والسفر: حكاه فضل عن ابن وهب وعيسى. والمنع فيهما: حكاه الأبهري رواية عن مالك. والثالث المشهور: يجوز في السفر دون الحضر، ودليله ما رواه أبو داود في مراسله عن عروة بن الزبير: أن النبي- عليه الصلاة والسلام- حين خرج هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدين مرَّ براعي غنم اشترى منه شاة وشرط له سلبها. ولا يقاس الحضر عليه، لأنه إنما جاز في السفر لكونه لا قيمة له هناك فخف الغرر. تنبيه: جعل المصنف المشهور عدم الجواز في الحضر، والذي في المدونة: أجاز مالك استثناء الرأس والجلد في السفر إذ لا ثمن له هناك، وكرهه للحاضر إذ كأنه ابتاع اللحم، فظاهره الكراهة فقط، وبذلك فسرها أبو الحسن فاحتج بقول ابن حبيب: خفف مالك ذلك في السفر وكرهه في الحضر، إذ له هناك قيمة، ولا يفسخ إن نزل. لكن أضاف المازري إلى المذهب المنع كما فهم المصنف، فقال: وأما استثناء جلد الشاة المبيعة في الحضر فمنعه في المذهب وأجازه ابن وهب، وأما في السفر فعن مالك روايتان: الجواز وهو المشهور، والمنع ذكره الأبهري وغيره. وقال القاضي أبو محمد: إن المحققين من أصحابنا نزَّلوا هاتين الروايتين على اختلاف حالين، فالمنع في السفر إذا كان للجلد قيمة، والجواز إذا لم تكن له قيمة.

وأشار ابن حبيب إلى منع هذا التأويل وأجاز استثناء الجلد والأكارع حيث تكون لها قيمة، واعتل بأنه شيء معين. وتردد الأبهري في الإجازة في السفر إذا كانت له قيمة، فقال: يحتمل أن لا يجوز ويحتمل أن يجوز، لأن الحكم للأغلب، والأغلب ألا قيمة له هناك، والاحتمال الثاني أوضح والأول أقيس. ابن يونس: والصواب جوازه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أجازوه ولم يعللوا لم جاز. قال: وأما استثناء الرأس والأكارع، فلا يكره في سفر ولا حضر، كمن باع شاة مقطوعة الأطراف [437/ب] قبل السلخ. ولا يجبر على الذبح على الأصح أي: حيث قلنا بإجازته، فالمشهور- قال المصنف: وهو الأصح- عدم جبره على الذبح إذا أباه ارتكاباً لأخف الضررين، إذ أمر الجلد والرأس يسير وقيمته أو مثله تقوم مقامه، وفي إجبار المشتري على الذبح إفساد مال. ومقابل الأصح ليس منصوصاً، وإنما قال المازري: إنه التحقيق، لدخوله على ذلك اللحم. وقد حكى عياض الاتفاق على الأول، فقال: لا يختلف في أن المشتري يخير أولاً في أن يذبح ويعطي الجلد، أو يمسك فيعطي مثله أو قيمته. انتهى. وهذا الكلام مخالف أيضاً لما صححه المصنف من تحتم القيمة على القول الذي صححه بقوله: وعليه القيمة لا المثل على الأصح إذ معناه: أنا إذا فرعنا على عدم الجبر، فهل يقضى عليه بقيمة الجلد والرأس، أو بمثلهما؟ قولان، والأصح القضاء بالقيمة، لأنهما من المقومات. ولم ار من صرح بهذا القول الذي حكاه المصنف.

والذي حكاه ابن يونس وغيره عن ابن القاسم بعد أن حكى عنه التخيير بين القيمة والمثل، والقيمة أعدل، ابن يونس وغيره، وقاله سحنون. وكذلك أيضاً ظاهر كلامه أن مقابل الأصح القضاء بالمثل فقط، وليس كذلك، بل التخيير بينهما، وهو مذهب المدونة. واختلف الشيوخ فيمن له هذا التخيير، فقيل: للمشتري لأنه الذي جعل له الخيار أولاً بين أن يذبح ويعطي الجلد. وقيل: للبائع لأنه صاحب الحق. وقيل: للحاكم، وهو أضعفها. فلو مات ما استثني منه معين، فثالثها: يضمن المشتري الجلد والرأس دون اللحم .... مراده بالمعين: خلاف الجزء الشائع، كالثلث والربع فإنه لا ضمان عليه في ذلك. وحاصل ما ذكره: أنه اختلف في مسألة الأرطال والجلد والرأس، فقيل: يضمن في الجميع بناء على أنه يجبر، أو يضمن في مسألة الجلد والرأس بناء على عدم جبره، دون مسالة الأرطال فإنه يجبر، ثلاثة أقوال، والثالث هو مذهب المدونة. ونسب ابن يونس وغيره القولين في ضمان الجلد لابن القاسم، فعنه في العتبية: أنه لا ضمان عليه في الجلد. وروى عنه أصبغ أنه ضامن. خليل: والرأس في معناه. وذكر صاحب البيان عن ابن دحون: أنه حمل القول بعدم الضمان على ما إذا لم يفرط، وأما إن تواني في الذبح فيضمن، وهو معنى الرواية بالضمان، وعلى هذا فلا خلاف في المسألة. قال ابن دحون: إنما جعل المصيبة من المشتري، لأنه إنما جاز أن يشتري بهذا الاستثناء في السفر، لأنه لا قيمة للمستثنى في السفر، فكأنه اشترى الجميع.

قال في البيان: وهو كلام غير صحيح، إذ لا معنى للتفرقة بين أن يفرط أو لا، وإن كان ابن حبيب نحا إلى هذا، ورواه أبو قرة عن مالك فيمن باع بهيمة واستثنى رأسها فلم يذبحها حتى ماتت، فعليه قيمة رأسها الذي فرط فيه، لأنه ترك ما اشتراها له من الذبح. وإن حسبها بإذن البائع حتى هلكت فلا شيء عليه. وإن صحت فأبى أن يذبحها فعليه قيمة رأسها، وإن استحياها بإذن شريكه فهو شريك معه، وهو استحسان على غير قياس، إذ لا يخلو أن يكون للبائع على المشتري حق توفيه أو لا. فإن كان فلا يسقط عنه ترك التفريط، وإن لم يكن فلا يجب عليه التفريط. وأما قوله: (وقيل: إنما جعل المصيبة من المشتري) إلخ. فهو كلام متناقض، لأن كون الجلد لا قيمة له في السفر يقتضي أن البيع لم يقع عليه وأن المشتري لا يكون ضامناً له. فالصحيح في المسألة: أن قولي ابن القاسم محمولان على الخلاف، وأن الخلاف في ذلك هل هو مبقى فلا يكون على المشتري ضمان، أو مشترى فيكون عليه الضمان فكأن البائع باع جميع الشاة بعشرة وبجلدها، فإذا كانت قيمته درهمين رجع عليه بسدس قيمة الشاة، كأنه بمنزلة من باع شاة بعشرة وعرض. انتهى. وفي تهذيب الطالب، وابن يونس عن بعرض القرويين: إنه لم يختلف في مسألة استثناء الأرطال أنه لا ضمان على المشتري، ولا يدخل في ذلك الخلاف الذي في الجلد، لأنه لما لم يجبر في الجلد على الذبح كان الجلد في ذمته لا في معين، بخلاف مسألة الأرطال فإنه مجبور على الذبح. وهذا بخلاف ما حكاه المصنف من تعميم الخلاف في جعله الثالث تفصيلاًز وفي اشتراء البائع مال العبد المبيع بماله، قولان لابن القاسم وأشهب هذه المسالة مشكلة حكماً ونقلاً. أما الحكم: فظاهر كلامه أن أحد القولين جواز اشترائه، وإن كان فيه طعام ونقد ودين بما شاء من الثمن، وفي ذلك من وجوه المنع ما لا خفاء فيه، حتى قال ابن عبد السلام: إنه لا يعلم خلافاً أن البائع فيها كالأجنبي.

قال شيخنا- رحمه الله-: ويمكن لو ساعده النقل التفرقة بين البائع وغيره، فإن البائع عالم بمال عبده غالباً بخلاف غيره، قياساً على ما أجازوه للبائع أن يستثني أربع نخلات من حائطه. وأما النقل: فقد بحث ابن عبد السلام وغيره عن هذه المسالة في مظانها فلم يجدها. ثم اختلف الأشياخ، فمنهم من وهمه، ومنهم من حسن الظن به وتكلف له جواباً، ثم لهم في ذلك وجوه: أولها: أنها على ظاهرها، والشراء محمول على الإقالة، أي: أراد البائع أن يستقيل المشتري في مال العبد بما ينوبه من الثمن، فإن عددنا الإقالة حل بيع جاز، وإن عددناها [438/أ] ابتداء بيع كان ما يخص مال العبد من ثمنه غير معلوم، إذ لا يعلم إلا بعد تقويم رقتبه على انفرادها وماله على انفراده، ويكون هذا كالثمن المعلوم جملة دون تفصيل، ويكون المصنف غير لفظ الإقالة بلفظ الشراء تنبيهاً على سبب القول بالمنع، لأنه لو عبر بالإقالة لم يفهم السبب المقتضي للمنع، وفيه نظر، لأن المعلوم جملة المجهول تفصيلاً منعه ابن القاسم وأجازه أشهب، عكس ما نسب المصنف، إلا أن يقدر: وفي منع، وهو تأويل ابن عبد السلام. ثانيها: أن المسألة على ظاهرها، والخلاف فيها بالأحرى على قولي ابن القاسم وأشهب في العبد إذا باعه بدون ماله، ثم أراد المشتري أن يزيد البائع شيئاً ويلحق المال بالبيع، فروي عن مالك جوازه وبه أخذ ابن القاسم، وروي عنه منعه وبه أخذ أشهب وابن وهب وابن عبد الحكم، ولابن القاسم ثالث بالجواز إذا كان بحضرة البيع. قال في المبسوط: ومعنى القرب، أن لا يدخل المال زيادة ولا نقص، بناء على أن الملحقات بالعقود، هل تقدر واقعة في أصل العقد فيجوز، أولا تقدر واقعة فيه فيمتنع في الصورتين. ونسب المصنف القولين لهما، بناء على أن لازم القول قول، وهو تأويل ابن راشد.

ثالثها: أن اشتراء، مصدر وهو مضاف إلى المشترى منه. والفاعل محذوف، وهو المشتري، أي: وفي اشتراء المشتري من البائع مال العبد المبيع بماله، أي: بمال المشتري. والخلاف فيها منصوص لابن القاسم وأشهب، كما ذكره في الوجه الثاني، وفيه تعسف. رابعها: أن البائع بمعنى المشتري، لأن كلام منهما بائع في المعنى، واشترى بمعنى باع، وضمير (ماله) يعود على المشتري، وفيه تعسف، وإن كان البائع يطلق في اللغة على المشتري لكن الفقهاء لا تستعمله، وإنما يستعمله من يريد الألغاز. تنبيه: ما تقدم من تمشية ابن راشد من خلاف ابن القاسم وأشهب، إنما ذلك إذا اشترى المال على وجه لو انفرد المال لم يجز، كما لو كان المال عيناً وعرضاً واشتراه بعين، وأما لو اشتراه على وجه لو انفرد جاز فلا خلاف في الجواز. والمتعين ولا غرض في عدده، أو قل ثمنه يجوز جزافاً لما ذكر أن من شرط البيع أن يكون معلوماً خشي أن يتوهم منع الجزاف، فذكره ليعلم أن حكمه الجواز. وأن الحزر أقيم فيه مقام العلم. وقوله: (والمتعين) أي: المشاهد المرئي، بذلك فسره ابن راشد، وتفسير ابن عبد السلام المتعين بالمقوم بعيد جداً. وذكر علماؤنا لبيع الجزاف شروطاً: أولها: أن يكون مرئياً، فلا يجوز بيع غائب جزافاً، إذ لا يمكن حزره. ثانيها: ألا تكون آحاده مقصودة، كالجوز واللوز والعصافير وصغار الحيتان، فلا يجوز بيع الرقيق والحيوان والثياب جزافاً، وإليه أشار بقوله: (ولا غرض في عدده). وفي الواضحة: جواز بيع الأترج والبطيخ جزافاً وإن اختلفت آحاده في الكبر والصغر.

المازري: وهو لا يأتي على ما أصلناه من المنع فيما يراد آحاده، إلا أن يكون الثمن لا يختلف عند المتعاقدين بالصغر والكبر. ثالثها: أن يكون مما يتأتى حزره، فإن كان من الكثرة بحيث لا يتأتى حزره لم يبع جزافاً، لكثرة الغرر، ذكره الباجي وغيره. رابعها: جهل المتعاقدين بكميته. وسيأتي هذا الشرط من كلام المصنف. خامسها: أن يكون عالمين بالحزر. اللخمي: فإن كان قوم لا يعتادون ذلك أو اعتاده أحدهما لم يجز، لأن الغرر يعظم. سادسها: أن يكون في أرض مستوية، ذكره جماعة. وقوله: (أو قل ثمنه) ظاهره ولو قصدت آحاده، وبذلك صرح ابن راشد، ومثل ذلك بالبيض والرمان والقثاء واللوز والأترج والبطيخ. وكذلك قال ابن عبد السلام، فإنه قال: الفقوس والبطيخ والرمان وشبهه من المعدود الذي تقصد آحاده ولا يتعلق الغرض بعدد عندهم يجوز بيعه جزافاً. ابن عبد السلام: ويقع في بعض النسخ (أو قل عدده) موضع (ثمنه) وذكر الثمن هو الصواب، وأما قلة العدد فإنما تناسب المنع، لأنه لا كبير كلفة في عدده، إذ هو مما تقصد آحاده ويتعلق الغرض بعدده، فإن قل ثمنه قام ذلك مقام كونه لا تقصد آحاده. انتهى. وقد صرح ابن أبي زيد: بأن ما قل ويمكن عده بلا مشقة لا يجوز بيعه جزافاً. ومنع ابن القاسم في العتبية شراء الخشب الملقى بعضه على بعض جزافاً، لأنه تخف مؤنة عده بمنزلة الغنم. قال: ولا باس بشراء صغار الخشب جزافاً. تنبيه: ما قدمناه من بيع العصافير جزافاً نص عليه مالك، وأوله ابن القاسم على أن ذلك بعد الذبح، وأما قبله في الأقفاص فلا، لأن بعضها يدخل في بعض فلا يمكن حزره.

وكذلك نص ابن حبيب على الجواز بعد الذبح وعلى عدمه قبله. وفي الموازية لا باس ببيع برج الحمام فيما فيه جزافاً. وفي الطرر ذكر القاضي أبو الوليد في كتابه الكبير: أن بيع الطير في القفص جزافاً غير جائز باتفاق، وفي بيع الحمام في الأبراج قولان بالجواز والمنع، بناء على أن عدها ممكن أو لا. وفرق بين ظرف مملوء، وملئه وهو فارغ ابتداء، أو بعد أن اشتراه جزافاً وفرغه [438/ب] أي: ولأجل اشتراطنا في الجزاف أن يكون مرئياً، فرق بين ظرف مملوء فيجوز بيع ما فيه جزافاً. وبين ملئه وهو فارغ ابتداء، وبين ملئه ثانياً بعد أن اشتراه أولاً جزافاً فلا يجوز فيهما لعدم الرؤية. وكذا نص عليه ابن القاسم وأصبغ ومحمد وغيرهم. المازري: وقد يهجس في النفس أنه لا فرق بين ما أجازوه ومنعوه، إذ لا يختلف حزر الحازر لزيت في قارورة أو لمقدار ملئها زيتا. ولهذا اختار بان يونس جواز شراء ملء هذه القارورة، قال: ولو قاله قائل في الغرارة لما بعد وهو في القارورة أبين، لأن ملئها لا يختلف. ولا يقال: يرد على التفرقة التي ذكرها المصنف ما أجازه في العتبية من شراء سلة تين ثانياً بعد أن اشتراها أولاً، لقوله: بخلاف غرارة القمح، ألا تراه لا يسلم في غرارة القمح ويسلم في سلتين تينا لأنه معروف. فإنه أشار في تعليل المسالة على أن السلة في التين مكيال له كالويبة بالنسبة إلى القمح، فصار كأنه إنما اشترى شيئاً معلوماً، وأكد ذلك بقوله: بخلاف غرارة القمح. فرع: واختلف أصحابنا إذا وقع التبايع بمكيال مجهول. قال أشهب: لا يفسخ وجعله بمنزلة الجزاف. ورأى غيره: أنه يفسخ، لأن العدول عن المعتاد له من المكيال إلى المجهول غرر.

فأما الغائب ونحو القمح في التبن قولان أي: ولا يجوز بيع الجزاف غائباً. وعطفُ القمحِ في التبن على الغائب، إما من باب عطف الخاص على العام، وإما أنه ليس غائباً حقيقة ولكنه في حكم الغائب. ولا خلاف فيما ذكره المصنف، قاله صاحب الإكمال. بخلاف الزرع قائماً، وكذلك المحصود على الأشهر لا خلاف عندنا في جواز القائم، لما في الصحيح: أنه- عليه الصلاة والسلام- نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري. والأشهر في المحصود الجواز قياساً على القائم. وقيل بالمنع قياساً على ما كان منه حال الدرس، وهو قول التونسي. وظاهر كلامه: أن الجواز أعم من أن يكون حُزماً أو لا. وينبغي أن يقيد بما إذا كان حُزماً، فقد قال صاحب الإكمال: لا خلاف أنه لا يجوز بيعه إذا خلط في الأندر للدارس، أو كدس بعضه على بعض قيل تصفيته. واختلف عندنا إذا كان حُزماً أو قطعاً يأخذها الحزر والتحري على قولين. ولو رأى المشتري ما في الأندر وهو قام قبل أن يحصد جاز، لأنه علم حزره وهو قائم. ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون خلافاً في حال، فإن لم يختلط وبقي السنبل إلى جهة واحدة، فالنفس أميل إلى الجواز ولا يحاط به مع ذلك كما يحاط بالقائم، وإن كان على خلاف هذه الحال فلا شك في المنع. خليل: وقد يمشي كلام المصنف على ظاهره، ويعتمد في ذلك ما نقله الباجي، فإنه قال: روى القاضي إسماعيل أنه يجوز بيعه في أندره وقبل درسه. وروى عن ابن نافع أنه لا

يجوز بيعه إلا إذا كان حُزَماً يرى سنلة وينظر إليه. فعطفة قول ابن نافع على رواية القاضي دليل على أنه يجوز على وراية القاضي وإن لم يكن حُزَماً. والمسكوك، والتعامل بالوزن يجوز جزافاً، وبالعدد لا يجوز، وقيل: فيهما قولان احتزر بالمسكوك من التبر والمصوغ ونحوهما، فيجوز جزافاً، المازري: ولو كان الحلي محشواً، إذا عرف قدر الساتر للمحشو من الذهب والفضة بأن تعلم رقته من غلظة وأمكن حزره. وشمل قوله: (المسكوك) الفلوس، وهو صحيح نص مالك في الموازية عليه. قوله: (والتعامل بالوزن) أي: كدراهم مصر، وهي المجموعة يجوز بيعها جزافاً. وإن كان التعامل بالعدد كدراهم المغرب فلا يجوز بيعها جزافاً. وحكى ابن بشير، وابن شاس عن القاضي أبي الحسن الكراهة إذا كان التعامل بالعدد. واعلم أنه نص في المدونة على منع بيع الدراهم والدنانير جزافاً وأطلق، وحملها اللخمي على الإطلاق ولم يذكر في المنع خلافاً إذا كان التعامل بالعدد، وحكى عن ابن القصار الكراهة فيما إذا كان التعامل بالوزن. قال المازري: اختلف البغداديون في معنى المنع، فقال ابن القصار: إنه كرهه، وإليه أشار ابن عبد الحكم بقوله: لم أر أحداً من أصحابنا يجترئ على فسخ بيع الدراهم والدنانير جزافاً. وذهب الأبهري وعبد الوهاب على أن المنع على التحريم. فمقتضى قول ابن القصار عدم الفسخ، لأنه مكروه. ومقتضى قول الأبهري وأبي محمد الفسخ إذا لم يراعيا الخلاف. واختلف في علة المنع، فقال ابن مسلمة: لكثرة ثمن العين فيكثر الغرر وهو منقوض، لإجازتهم بيع الحلي جزافاً، واللؤلؤ إذا لم تقصد آحاده، وإن كان القاضي أبو محمد أطلق عدم جواز بيع الجواهر جزافاً، لكن التحقيق ما قلته. وعلل الأبهري وأبو محمد المنع: بأن الغرر هنا من وجهين، من جهة الكمية، ومن جهة الآحاد، لأنه يرغب في كثرة آحاده ليسهل شراء السلع اليسيرة الثمن، بخلاف

غيره من المبيعات، فإن الغرر فيها إنما هو من جهة واحدة وهي جهة الكمية. انتهى كلام المازري. وقول المصنف: وقيل فيهما قولان، أي: سواء كان التعامل بالوزن أو بالعدد، هذه طريقة الباجي، وبنى الخلاف في ذلك على الخلاف في الدنانير والدراهم، [439/أ] هل تتعين بالعقد أول لا؟ فإن قلنا: إنها لا تتعين بالعقد لم يجز بيعها جزافاً، لأن العقد عليها يتناول الذمة والجزاف لا يصلح أن يثبت في الذمة. وإن قلنا: تتعين جاز بيعها كسائر الموزونات والمكيلات. وهذا فهم حسن من المصنف لكلام الباجي، وإن كان ابن بشير إنما نقل عن الباجي أنه قال: إن كان التعامل بالعدد لم يجز المجازفة باتفاق، وإن كان وزناً فقولان. فإن كلام الباجي لا يؤخذ منه الاتفاق فيما إذا كان التعامل بالعدد، وتعليله بالتعيين وعدمه ينافيه. خليل: ولكن في كلام الباجي نظر من جهة أخرى، وذلك أنه ينبغي إن قلنا: إن الدراهم والدنانير لا تتعين، فينبغي أن يتفق هنا على تعيينها لأنها جزاف، والجزاف مجهول والذمة لا يكون فيها مجهول. والله أعلم. وشرط الجزاف استواؤهما في الجهل بقدره أي: وشرط جواز بيع الجزاف استواء البائع والمبتاع في الجهل بقدر المبيع، لأنهما لو اشتركا في العلم بقدره لم يكن جزافاً، وإن انفرد أحدهما لم يجز العقد عليه، ولاسيما إن أعلمه بعلمه، لأنهما تعاقدا على مخاطرة وغرر، وهذا أولى من كلام ابن عبد السلام. فرع: لا إشكال فيما ذكره المصنف في المكيل والموزون والمعدود الذي لا تختلف مقاديره بالكبر والصغر. وأما المختلف كالقثاء والبطيخ، فقد روى ابن وهب عن مالك في

المبسوط: جواز بيعه ممن يعرف عدده جزافاً. وقال ابن المواز: إذا عرف أحد المتابعين العدد لم يجز بيعه جزافاً. ووجه الباجي الرواية الأولى بأن الغرض في مبلغه دون عدده، فإذا انفر بمعرفة عدده فلم ينفرد بمعرفة المقدار المقصود منه، كما لو انفرد بمعرفة عدد القمح أو معرفة وزنه. فإن علم المشتري بعلمه بعد العقد فله الخيار فإن علم المشتري بعلم البائع بقدر المبيع جزافاً بعد العقد فللمشتري الخيار، كما لو اطلع على عيب دلس به البائع. وحكى عبد الوهاب عن ابن القصار استشكال كون هذا عيباً، لأن العيب إذا أعلم به البائع جاز للمشتري الرضا به، ولو أعلم البائع المشتري بأنه عالم به ورضي كان فاسداًن نص على الفساد في كتاب محمد. وحكي سحنون أن البيع جائز، واستبعده ابن عبد السلام. خليل: ويمكن أن يجاب عما أورده ابن القصار، بأنه هنا إذا أخبره بأنه عالم بكيله ثم اشترى منه بعد ذلك، فقد خل معه على المغامرة والمخاطرة، بخلاف غيره من سائر العيوب. وأجاب القاضي أبو محمد على الإشكال بأنه: لا ملازمة بين أن يكون الشيء يفسد به العقد إذا قارنه، ولا يفسد إذا اطلع عليه بعد ذلك، لدخوله في الأول على الغرر دون الثاني، كما قال سحنون فيمن باع أمة وشرط أنها مغنية أن البيع فاسد، ولو اطلع على ذلك لم يفسد وكان له الخيار. خليل: وعلى هذا فلا يصح بيع المغنية مع التبيين بعد العقد، وإنا يجوز بيعها بشرط عدم التمييز ثم يبين بعد العقد، وفيه نظر. وينبغي أن يقيد ما قالوه: من أنه ذكر أنها مغنية لم يجز شراؤها بما إذا كان القصد من ذلك زيادة الثمن، وأما إن كان القصد التبري فيجوز.

وقوله: (فإن علم المشتري) يريد: وكذلك العكس، فقد ذكر المازري أن المعروف من المذهب مساواة البائع في ثبوت الخيار له إذا اطلع على علم المشتري كالعكس. قال: ورأيت بعض أصحابنا حكى فيه عن بعض أهل المذهب خلافاً، وأن البائع لا خيار له. ابن رشد: فإن فات المبيع في مسالة الجزاف التي حكموا فيه بتخيير المشتري لزم فيه الأقل من الثمن أو قيمة الجزاف، وفي مسالة الجاف التي حكموا فيها بفساد البيع إن فاتت الصبرة ففيها القيمة ما بلغت. قال: وإن أراد المبتاع أن يصدق البائع في الكمية وردها له لا نبغى ألا يجوز على أصولهم في الاقتضاء من ثمن الطعام طعاماً. فرع: وهل يجوز أن يجمع مع الجزاف غيره في عقدة واحدة؟ اعلم أولا أن من الأشياء ما الأصل فيه أن يباع كيلاً جزافاً كالحبوب. ومنها: ما يباع جزافاً ويجوز كيلاً كالأرضين والثياب. ومنها: عروض لا يجوز بيعها كيلاً ولا وزناً كالعبيد والحيوان. فالجزاف مما أصله أن يباع كيلاً كالحبوب لا يجوز بيعه مع المكيل منه، ولا مع المكيل مما أصله أن يباع جزافاً كالأرضين والثياب باتفاق. والجزاف مما أصله أن يباع جزافاً لا يجوز أن يباع مع المكيل منه باتفاق أيضاً، واختلف في بيعه مع المكيل مما أصله أن يباع كيلاً على قولين، أحدهما: الجواز، وإليه ذهب ابن زرب وأقامه من إجازته في السلم الأول من المدونة أن يسلم في ثياب وطعام صفقة واحدة. ولا خلاف في جواز بيع المكيلين صفقة واحدة وكذلك الجزافان، ويجوز بيع الجزاف مع العروض صفقة واحدة إلا عند ابن حبيب، فإنه ذهب إلى أن الجزاف مما أصله أن يباع كيلاً لا يجوز بيعه مع العروض في صفقة واحدة وهو بعيد، قاله صاحب المقدمات. وقال المازري: لا إشكال في جواز بيع الجزافين من الحبوب. واختلف في جزاف ومكيل، فمن أجاز رأى أن الغرر لم يكثر بإضافته هذا [439/ب] المكيل إلى الجزاف، ومن

منع رأى أن المكيل معلوم مبلغه والجزاف مظنون، واجتماع معلوم ومظنون في عقد واحد يصير في المظون غرراً لم يكن فيه. وكذلك اختلف إذا ضم إلى المكيل ثوب أو عرض. خليل: وحكاية المازري الخلاف في الفرع الأول خلاف ما في المقدمات. قال في المقدمات: أما بيع الجزاف على الكيل، فلا يضاف إليه شيء في البيع بحال على الصحيح من الأقوال، وهو مذهب ابن القاسم. وأما بيع الجزافين على الكيل، فإن كانا على صفة واحدة وكيل واحد جاز باتفاق، وإن اختلف الكيل والصفة جميعاً لم يجز باتفاق، وإن اتفق أحدهما واختلف الآخر جاز عند أشهب ولم يجز عند ابن القاسم. ورؤية بعض المثلى كالقمح والشعير، والصوان كقشر الرمان والبيض كافية يعني: ليس من شرط البيع عندنا أن يرى جميع المبيع، بل رؤية بعض المثلي كافية في جواز العقد على الجميع لتماثل آحاده كالقمح والشعير، ولا فرق في ذلك بين ما كان حاضراً بالبلد أو غائباً، وينبغي الاحتفاظ على المعين فيكون كالشاهد عند التنازع. وقوله: (والصوان) أي: ورؤية ما له صوان كافية عن المصون. والصوان بكسر الصاد وضمها: الوعاء الذي يصونه ويحفظه، ونقل الجوهري ثالثة وهي صيان. وتقييد المصنف بالمثلى يدل بمفهومه أنه لا يكفي ذلك في المقوم، وهو ظاهر المذهب، وهو مفهوم المدونة في بيع الخيار. وممن نص على عدم اللزوم في المقوم الشيخ أبو محمد، وابن شلبون، وعبد الحق وغيرهم من الشيوخ. الشيخ: ولو قال قائل أنه كالمثلى يلزم باقيه إذا كان على الصفة ما بعد. خليل: وهو مقتضى ما في سماع ابن القاسم من العتيبة، قال: ومن باع أعدالاً من كتان أو بز ونظر إلى ثوب أو ثوبين، أو رطل أو رطلين، ثم وجد الباقي لا يشبه، فأما ما هو قريب مما رأى فلا رد له، وكذلك القمح والتمر في بيت يكون أوله خيراً من داخله. وأما التغيير القريب فلا حجة له، وأما الأمر الفاسد فليرد. انتهى بمعناه.

ابن رشد: وهي مسالة صحيحة مبينة لما في المدونة وغيرها. قال في المدونة: وإن خرج آخر الحنطة مخالفاً لأولها، لم يلزم المشتري من ذلك شيء وله رد الجميع إن كان الاختلاف كثيراً، وليس للمبتاع أن يقبل ما رضي بحصته من الثمن ويرد ما خرج مخالفاً إلا أن يرضى البائع، ولا البائع أن يلزمه ذلك إذا أبى المبتاع وكان الاختلاف كثيراً، وكذلك في جميع ما يوزن أو يكال. عبد الحق: وإنما يلزم الباقي إذا وافق، بشرط ألا يكون الأول معيباًن لأنه يقول: ظننت أن الباقي سليم فاغتفرت العيب فيما رأيت أولاً. وقوله: (إن كان الاختلاف كثيراً). أبو الحسن: اختلف في حد الكثير، فقال أبو محمد: النصف، وقال أبو إسحاق: الثالث، وقال ابن يونس: الربع. وقد ذكر ابن رشد أن وجود العيب بالطعام على خمسة أوجه، وقد ذكرت كلامه عند قول المصنف: وتلف بعضه أو استحقاقه كرده بعيب، فانظره. والرؤية تتقدم بمدة لا يتغير فيها كافية أي: يجوز العقد على سلعة غائبة برؤية متقدمة إذا مضت مدة لا تتغير فيها إلى وقت العقد. ومفهوم كلامه: أنه لو مضت مدة تتغير فيها لا يجوز العقد، وبذلك صرح ابن شاس، فقال: وأما البيع على رؤية متقدمة فيشترط في صحته ألا تطول مدة الرؤية طولاً يتوقع فيه تغير المبيع عادة. وكذلك يفهم من كلام بعضهم. وفي ابن يونس: وأن رأى عبداً منذ عشرين سنة ثم اشتراه على غير صفة. قال: إذا طال ذلك وتقادم ما يتغير العبد في مثله فالبيع فاسد إلا بصفة مستقبلة. وفي كتاب محمد: البيع جائز إذا علم البائع أن المشتري قد كان رآه، لأنه إنما باعه على تلك الصفة التي كان رآها. زاد أبو محمد: ولا ينقده. انتهى.

وفي اللخمي: وإن بعدت الرؤية بما يمكن أن تتغير فيه لم يجز بشرط النقد، وإن لم يشترط النقد جاز، وهو الذي يأتي على ما ينقله المصنف عن المدونة أنه يجوز الشراء من غير صفة. والقول قول البائع في بقائه خلافاً لأشهب أي: إذا حصل العقد برؤية متقدمة، فلما رأى المشتري المبيع عند القبض زعم أنه تغير عن حالته الأولى على ما هو دون، فقال ابن القاسم: القول للبائع. وقال أشهب: القول للمشتري، بناء على أن الأصل بقاء ما كان على حاله أو براءة ذمة المشتري من الثمن. أما لو تنازعا في عين السلعة، فالقول للمشتري بالاتفاق مع يمينه، لأنه لم يرد نقض بيع في سلعة اتفقا على البيع فيها. وقيد اللخمي الخلاف بأن يكون ما مضى من المدة يشكل الأمر، هل يتغير فيه أم لا؟ أما إن قرب ما بين الرؤيتين بحيث لا يتغير في مثله، فالقول البائع اتفاقاً، وكذلك العكس إذا بعد ما بينهما مما يقال أن المبيع يتغير فالقول للمشتري. قال: وتسقط اليمين علن البائع حيث يقطع بكذب المشتري، كما إذا اشترى زيتاً أو قمحاً بالأمس، ويقول: اليوم قد تغير الزيت واحْمَرَّ وتسوس القمح. ويشترط في لزوم بيع الغائب وصفه بما يختلف الثمن به، وفيها صريح في الجواز من غير صفة، وللمشتري خاصة الخيار، وأنكره بعضهم .... قوله: (ويشترط في لزوم) ظاهره أن الجواز لا يشترط فيه ذلك ويخير في أخذه وتركه، وهو معنى ما ذكره عن المدونة، فكان ينبغي أن يقول: ويشترط في جواز، ليكون ما في المدونة خلافاً. والقول الأول نسبه في المدونة لبعض كبار أصحاب مالك. وما في المدونة مقيد بما إذا انعقد البيع على أن [440/أ] المشتري بالخيار، وأما إن انعقد على الإلزام أو سكتا عن شرط الخيار فالبيع فاسد.

وكلام المصنف لا يقتضي أن ذلك من شرط الصحة، لاحتمال أن يكون قوله: (وللمشتري خاصة الخيار) من نتائج العقد لا أنه مشترط وليس كذلك. ابن عبد السلام: وظاهر ما في السلم من المدونة، أنه لا يشترط ذكر جنس المبيع بالكلية. وأنكر الأبهري، وابن القصار، وعبد الوهاب ما وقع في المدونة، وزعم بعضهم أن هذه المسألة إنما هي من كلام الحنفية، لأن أسد بن الفرات سألهم أولاً ثم أخذ بمذهب مالك، وأن أسد بن الفرات أبقاها في المدونة وهو باطل، لأن نسبة الوهم بغير دليل إلى أسد وسحنون لا يجوز. المازري: وما في المدونة هو المعروف، ونقله اللخمي عن جل الأصحاب. وقال في المقدمات: وفي المدونة في كتاب الغرر دليل على أنه لابد من الوصف، وهو الصحيح الذي يحتمله القياس. وأن لا يكون بعيداً جداً كإفريقية من خراسان هذا شرط ثان لبيع الغائب، وهو معطوف على وصفه، أي: ويشترط في جواز بيع الغائب كونه غير بعيد جداً، لكثرة الغرر فيه. ولا قريباً جداً تمكن رؤيته بلا مشقة على الأشهر هذا شرط ثالث، وهو شرط في الجواز كالثاني، لأن عدولهما عن الرؤية مع إمكانها إلى الصفة ضرب من الغرر. وما ذكر أنه الأشهر هو مذهب الموازية، ومقابله مذهب العتبية، فقد أجاز فيها بيع ما في صندوق بين أيديهما على الصفة، وظاهر المدونة في خمسة مواضع. ففي آخر السلم الثالث: وإن ابتعت من رجل رطل حديد بعينه في بيته ثم افترقتما قبل قبضه ووزنه جاز ذلك.

وفي الرد بالعيب: وإن ابتعت سلعة حاضرة بسلعة في بيتك أو بموضع قريب يجوز فيه النقد ووصفتها جاز ذلك. وفي بيع الغرر: وإن استأجرت منه داراً بثبوت في بيتك ووصفته ثم اشتريته منه وهو بيدك بعين أو بثوبين من صفته أو بسكنى دار لك فجائز. وفي آخر الجعل: لما ذكر بيع الزرع على أن الدرس على البائع، قال: وليس ذلك كحنطة في بيتك، تلك لابد فيها من صفة أو عيان. وفي أكربة الدور: وإن أكريته داراً بعبد بعينه على أن تقبضه فمات بيد المكتري، فهو منك والكراء يلزمك كالبيع، وإن كان بثبوت بعينه في بيت المكتري وقد وصفه كان منه وانتقض الكراء. فهذه المواضع تدل على أن الأشهر الجواز، لكن ذكر ابن شاس: أن الأصحاب نزلوا ما في المدونة من تجويز العقد بالسوق على سلعة في البيت على ما إذا كان في رؤيتها مشقة وكلفة. فإن كان بمشقة جاز على الأشهر أي: فإن كان إمكان رؤية الغائب بمشقة جاز بيعه على الصفة على الأشهر، فهذا كبيع الأعدال على البرنامج وكبيع الغائب على مسافة يوم، والأشهر مذهب المدونة والموطأ، ومقابله في مختصر ابن شعبان منعهما. وفيها: ويجوز بيع الأعدال على البرنامج، بخلاف الساج المدرج وشبهه، فرق بينهما عمل الماضين وأجازهما، وذا مسافة يوم مدة ومنعها مدة ذكر مسألة المدونة استدلالاً على ما ادعاه من الأشهر. والبَرنامِج بفتح الباء وكسر الميم، وهي لفظة فارسية استعملتها العرب، والمراد بها الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل.

والساج المدرج: طيلسان مطوي. والمراد بشبه الساج، الثوب المدرج في طيه ولم يكن رفيعاً كما في الساج. والضمير في: (أَجَازَ) عائد على مالك، والضمير في: (هُمَا) عائد على الساج المدرج والبرنامج. (وذَا) معطوف على مفعول أجاز، أي: وأجاز ذا مسافة يوم مرة، وهو قوله في الموازية، ومنع الجميع، وهو قوله في مختصر ابن شعبان. وحاصل ما ذكره في البرنامج، والساج، وذا مسافة يوم، ثلاثة أقوال، يفرق في المشهور فيجوز في البرنامج، وما على مسافة يوم، ويمنع الساج وهو مذهب المدونة. فرع: ولا يشترط في جواز البيع على الصفة أن يصفه غير البائع على ظاهر المذهب، وأخذه جماعة من المدونة. ابن العطار: وبه العمل. وفي الموازية والعتبية: اشترط ذلك لأن البائع لا يوثق بصفته، إذ قد يقصد الزيادة في الصفة لينفق سلعته. وذكر المتيطي أن الشيوخ اختلفوا في تأويل المدونة على القولين، وجعل اللخمي وصاحب المقدمات ذلك شرطاً في جواز النقد. اللخمي: ويشترط في البيع على الصفة أن يكون المشتري ممن يعرف ما وصف له. ثم إن صحت الصفة فلا خيار أي: فإن اتفق المتبايعان، أو شهدت بينة عند اختلافهما أن المعقود عليه موافق للصفة التي وقع العقد عليها، لزم البيع ولا مقال لواحد منهما، ونبه به على خلاف أبي حنيفة، فإنه يرى الخيار للمشتري ولو وافقت الصفة. والقول قول المشتري أي: عند تنازعه مع البائع، هل صفة المبيع الآن هي التي وقع عليها التعاقد أم لا؟ والفرق بينه وبين ما تقدم من أنه إذا انعقد على رؤية متقدمة وتنازعا، فالقول قول البائع على الأشهر أن البيع في مسألة الرؤية معلق على بقاء صفة المبيع والأصل بقاؤها، فمن

ادعى الانتقال فهو مدع وهو المشتري، بخلاف البيع على الصفة فإن الأصل عدمها وهو موافق لقول المشتري. ويرجع في كونه عليها لأهل المعرفة أي: إذا اتفقا على أن البيع وقع [440/ب] على الصفة واختلفا في المبيع، هل هو عليها أم لا؟ نظر أهل المعرفة، فإن قالوا: إنه عليها لزمه، وإلا فلا. وانظر هل يكتفي بواحد أو لابد من اثنين؟ وانظر إذا اختلف أهل المعرفة. والأعمى يصح بيعه وشراؤه بالصفة، وقيل: إلا الأصلي ذكر الأعمى في بيع الغائب، لكونه لما كان لا يبصر وإنما يشتري على الصفة شابه شراؤه شراء الشيء الغائب، والظاهر أن الصحة في الأعمى أظهر منها في بيع الغائب على الصفة، لأن الأعمى أعذر، إذ لا يمكن في حقه إلا ذلك. فإن قيل: يمكنه التوكيل، قيل: لا يمكنه ذلك في كثير من الصور. وحاصل ما ذكره المصنف فيه: أنه إن تقدم منه إبصار صح بيعه وشراؤه اتفاقاً. وإن لم يتقدم، فقال عبد الوهاب: يصح بيعه وشراؤه، ومنع ذلك أبو جعفر الأبهري. هكذا نقل اللخمي. ابن عبد السلام: وفي معنى من لم يتقدم له إبصار من تقدم له إبصار في سن الصغر حتى لا يتخيل الألوان، قال: وينبغي أن يكون الخلاف في الصفات التي لا تدرك إلا بحاسة البصر، وأما ما يدرك بغير ذلك فلا مانع. والأصلي: هو الأكمة. والنقد في الغائب بغير شرط جائز أي: وبشرط لا يجوز، لأنه يؤدي إلى أن يكون تارة مبيعاً وتارة سلفاً، وهذه المسالة في منع النقد بشرط وجوازه بغيره. المبيعُ على عهدة الثلاث، والأمة المتواضعةُ والمبيعُ على

الخيار، والأرض المبيعة على المزارعة، ومسائل الجعل. وإذا اشترط في الأجير المعين والدابة المعينة أن تقبض منفعتها بعد شهر. وإنما جاز النقد مع عدم الاشتراط، لضعف التهمة، وظاهر كلام المصنف- وهو ظاهر المدونة- على ما نص عليه عياض: أن نقد الثمن في الغائب بغير شرط جائز في كل شيء. وذهب ابن محرز إلى أنه يجوز التطوع في المثلي من المكيل والموزون، لأن الغائب إن هلك أو وجد على غير الصفة وانحلت العقدة رد مثله فلم يكن على أحد ضرر، بخلاف السلع والرباع فإنها قد تتغير فيردها ناقصة فيضر ذلك بالبائع، أو تهلك فيغرم المشتري قيمتها، فكأن البائع يدفعها على أنه إن سلمت الصفقة كانت للمشتري وإن انحلت رد القيمة. قال: ولو دفع العروض على أن البيع إن انحل رد مثلها جاز، ولو كان الثمن سكني دار لم يجز نقدها بشر ولا طوع. وقال اللخمي: إنما يجوز النقد إذا كان الثمن مما يصح فرضه، لأن تعجيل الثمن بغير شرط فرض، فإن كان الثمن داراً أو جارية أو جزافاً فلا يصح تعجيله. قال: وإن تطوع المشتري بالنقد في هذا لم يصح البيع ويرجع بمثل ما دفع لا بقيمته، لأنه قرض فاستوى فيه المكيل والموزون والعبيد والثياب، ولو عجل الثمن على أن يرجع بالقيمة إن لم يجد المبيع لم يجز، لأنه بيع على قيمة مجهولة. وإن لم يشترطا في حين التعجيل الرجوع بالقيمة ولا المثل وكانا يظنان أن الحكم الرجوع بالقيمة، حُمل على ذلك ويرجع بالقيمة- كالبيع الفاسد- إذا كان الثمن عبداً أو ثوباً. انتهى. ابن راشد: وقوله: إذا تطوع المشتري بتعجيل ذلك فسد البيع، فيه نظر. وكيف يفسد البيع بشيء وقع منفكاً عنه، وإنما ينبغي أن يفسد القرض خاصة، فتأمله. فإن شرط في العقار وشبهه جاز وإن بعد خلافاً لأشهب يعني: وإن وقع البيع في العقار وشبهه، والمراد، بـ (وشبهه) الأشجار وعيون الماء، جاز شرط النقد ولو كان بعيد الغيبة.

الباجي: وهو المشهور لغلبة الأمن فيها. ونقل الباجي عن أشهب ما نقله المصنف، من أنه منع اشتراط النقد مع البعد، وإنما يجوز اشتراط النقد على المذهب إذا لم يشترها بصفة صاحبها، كذا روى أشهب عن مالك. ابن رشد: وهو تفسير لما في المدونة وغيرها. والعقار بفتح العين، الجوهري: الأرض والضياع والنخل، ومنه قولهم: ماله دار ولا عقار. تنبيه: وهذا الخلاف إنما هو إذا بيع العقار جزافاً، وأما إن بيع مذارعة فلا يصح النقد فيها، قاله أشهب في العتبية. وكذلك قال مالك: من اشترى داراً غائبة مذارعة لم يجز النقد فيها، قاله أشهب في العتبية. وكذلك قال مالك: من اشترى داراً غائبة مذارعة لم يجز النقد، وكذلك الحائط على عدد النخل، قال مالك في العتبية: وضمانها من بائعها. وفيما قرب من الحيوان قولان أي: وفي جواز شرط النقد فيه قولان، قال في المدونة: ومن باع عروضاً، أو حيواناً، أو رقيقاً، أو ثياباً بعينها خاصة حاضرة أو قريبة الغيبة مثل يوم أو يومين جاز ذلك، وجاز النقد فيه بشرط. والقول بالمنع لابن عبد الحكم. وفي قربه خمسة أيام، ويومان، ونصف يوم، وبريد وبريدان أي: وفي حد القريب. وكان ينبغي أن يقول: يوم ونحوه، فإنه كذلك روي عن مالك في المدونة، والقول باليومين مذهب المدونة كما تقدم. ونصف اليوم نقله ابن شاس ولم يعزه، ولعله راجع إلى البريد. والقول بالبريدين لمالك أيضاً- والبريد اثنى عشر ميلا- ونقل اللخمي عن ابن وهب: أنه كره النقد في الطعام وإن كان على نصف يوم، قال: لأنه يسرق ويفسد بالمطر إلا أن يكون قريباً جداً. وفيما قرب من غيرهما الجواز باتفاق أي: غير الحيوان والعقار. واتفقا هنا على جواز اشتراط النقد دون الحيوان، لأن الأمن في العروض أقوى منه في الحيوان.

ابن راشد: وما ذكره من الاتفاق لا يصح، فقد قال ابن راشد: وأما النقد في السلعة الغائبة بالشرط فلا يجوز في بعيد الغيبة، واختلف قول مالك في قريب الغيبة. وفي ضمان الغائب بعد العقد، ثالثها: من البائع إلا أن يشترطه. ورابعها: إن كان عقاراً فمن المشتري .... [441/أ] احترز بـ (بعد العقد) من ضمانه قبله فهو من البائع اتفاقاً، حكاه صاحب البيان والمقدمات. وظاهر كلامه أن الأول من الأربعة، الضمان من البائع ولو اشترطه على المشتري. والثاني: عكسه. والثالث: أنه من البائع إلا أن يشترطه على المشتري. والرابع: الفرق، ففي العقار من المشتري ولو اشترطه، وفي غيره من البائع ولو اشترطه على المشتري. ابن عبد السلام: ولا وجود للأولين في المذهب أصلاً. وتردد في الرابع، قال: والذي حكاه الناس أن مالكاً قال أولاً: إن الضمان من المشتري إلا أن يشترطه على البائع، ثم رجع إلى العكس أنه من البائع إلا أن يشترطه على المشتري، وهو الذي في المدونة. ثم هل القولان في الرباع، أو الرباع من المشتري اتفاقاً؟ طريقان، والثانية لابن حبيب. وألحق بالعقار أيضاً ما قرب في أن ضمانه من المشتري باتفاق. والصواب أن له قولاً في الرباع بأن ضمانها من البائع. وقد يجاب بأن الأول، وهو أن الضمان من البائع مطلقاً قد أقامه اللخمي من العتبية، فقال: واختلف على القول بأن المصيبة من البائع هل يجوز أن يشترطها من المشتري؟ فأجازه في المدونة، وقال في العتبية: لا يجوز بيع الطعام على شرط إن أدركته الصفة، مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد ورآه بمنزلة من اشترى ما فيه عقد إجارة، لأن الإجارة تمنع من التصرف في الحاضر كمنع التصرف للغيبة. وأما الثاني: على ظاهره من أنه من المشتري مطلقاً، فهو متعذر الوجود، لكن يمكن أن يقدر على أنه من المشتري إلا أن يشترطه على البائع، عكس الثالث. وأما الرابع: فهو

لمالك في الموازية، ففيها وقال أيضاً: الديار والعقار من المشتري وما سوى ذلك من البائع، وهذا هو الذي يؤخذ من كلام المصنف لا على ما زاده ابن عبد السلام فيه. فرع: واختلف إذا لم يشترط أحدهما على الآخر الضمان ثم أراد أن يشترطه على الآخر بعد العقد، فقولان: بالجواز والمنع. واستشكل اشتراط نقل الضمان من أحدهما إلى الآخر، فإنه ضمان بجعل، لأن له حصة من الثمن. وأجيب: بأنه إنما اشترط كل واحد منهما على صاحبه ما يلزمه على قول، وحاصله: مراعاة الخلاف. تنبيه: وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يكن في المبيع حق توفيه، وأما إن بيعت الدار مذارعة فالضمان من البائع بلا إشكال. وعلى تضمين المشتري لو تنازعا، فقولان لتعارض أصلي السلامة وانتفاء الضمان أي: إذا فرعنا على تضمين المشتري فتنازعا في أن العقد صادفها باقية، أو هالكة، أو سالمة، أو معيبة، فقال ابن حبيب: ضمانها من المشتري. وذكر اللخمي: أنه مثل قول ابن القاسم في كتاب محمد، بناء على أن الأصل السلامة إلى حين العقد. وقال ابن القاسم في المدونة: ضمانها من البائع. ولو قال المشتري: لا أعلم متى ماتت، فلا يمين على المشتري، بناء على أن الأصل انتفاء الضمان عن المشتري فلا ينتقل إلى ضمانه إلا بأمر محقق. وهكذا كان شيخنا وغيره يمشون هذا المحل، وكذلك مشاه ابن راشد، وهو أولى مما قاله ابن عبد السلام. ولو تنازعا في الثمن فطلب البائع تعجيله وطلب المشتري التأخير، فهل يكون القول قول البائع ويجبر له المشتري وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن، أو لا وهو قول أبي عمران وابن محرز وابن القصار.

وقد نبه ابن القصار على الخلاف في ذلك، وذكر أن الصحيح من مذهب مالك فيما اختاره أبو عمران إلا أن يشترط ذلك في العقد. واستشكل ابن عبد السلام- رحمه الله- على ما فهمه منشأ الخلاف المذكور، واعترض عليه أيضاً بناء على ما فهمه بما حاصله: أن هذا الخلاف الذي بين أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران إنما هو في العقار، وأما في غيره فلا يلزم نقد الثمن باتفاق. وقال المصنف: وعلى تضمين المشتري لأنا لو بنيا على تضمين البائع لكان الضمان منه بلا إشكال. فرع: ذكر اللخمي أن من اشترى غائباً فعليه أن يخرج لقبضه ولا يكون على البائع أن يأتي به. ويحرم الفضل والنساء فيما يتحد جنسه من النقود، ومن المطعومات الربوية، فلابد من المماثلة والمناجزة .... لما قدم الكلام على أركان البيع أتبع ذلك بشروط وموانع ليست عامة في جميع المبيعات. والفضل: الزيادة. والنساء: ممدود مهموز التأخير، نقله الجوهري وغيره. وحاصله: أنه إن اتحد الجنس من النقود أو المطعومات الربوية دخل ربا الفضل فلا يجوز شيء منها بأكثر منه، وربا النساء فلا يجوز شيء منها ولو بمثله نسيئة. وقوله: (فلابد من المماثلة) أي: لينتفي ربا الفضل والمناجزة، لينتفي ربا النساء. ويحرم النساء خاصة فيما يختلف من النقود ومن المطعومات كلها أي: ويحرم التأخير فقط فيما اختلف نوعه من النقود كالذهب والفضة، وفيما يختلف من المطعومات كلها، أي: لا يختص ربا التأخير بالربوي، بل لا يجوز طعام بطعام إلى أجل، سواء كانا ربويين أو لا. ولابد من إثبات (من) في قوله: (ومن المطعومات) كما

فعله، لئلا يتوهم تحريم النساء بين النقود والمطعومات. والأصل فيه ما في مسلم عن عبادة بن الصامت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضلة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف [441/ب] فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)). النقود العلة غلبتها في الثمنية، وقيل: الثمنية وعليهما في الفلوس، ثالثها: يكره .... نحوه في الجواهر. والمراد بالنقود: الذهب والفضة على أي صفة كانا، مسكوكين أو مصوغين أو لا. واختلف في العلة، فقيل: الثمنية. أي: مطلق الثمنية من غير تقييد بالغلبة. أي: مطلق التعامل من غير اعتبار الغلبة، وعليه فيدخل الربا في الفلوس. وقيل: الغلبة في الثمنية، أي: كونها أصول الأثمان غالباً فلا تدخل الفلوس، وإلى هذا أشار بقوله: (وعليهما في الفلوس، ثالثها: يكره) أي: للتوسط بين الدليلين، وجعل قول مالك فيها الكراهة. وما ذكره المصنف هنا من أن العلة هل هي الثمنية، أو الغلبة فيها أولى من قول من قال: إن القول بعدم جريان الربا في الفلوس مبنى على أن الربا في الذهب والفضة غير معلل، بل معلق بما يسمى ذهبا وفضة، لأن المازري أنكره ونقل اتفاق العلماء على تعليل الحكم هنا، وإنما اختلفوا في العلة. والمفارقة اختياراً تمنع المناجزة، وقيل: إلا القريبة المشهور الأول. وقد قال مالك في المدونة في الذي يصرف ديناراً من صيرفي فيدخله تابوته ثم يخرج الدراهم: لا يعجبني. وإذا قال هذا في التأخير اليسير فما بالك بغيره. وقوله: (وقيل: إلا القربية) ليس هذا القول على إطلاقه، بل مقيد بما إذا كانت المفارقة القريبة بسبب يعود بإصلاح العقد، كما لو فارقه الحانوث أو الحانوتين لتقليب ما

أخذه أو وزنه، وهو مذهب الموازية والعتبية. وحمله اللخمي على الخلاف كالمصنف. وتأوله صاحب البيان على الوفاق، فقال: وقد قيل إن ما في العتبية مخالف لما في المدونة وليس هو عندي خلافاً، لأنهما في مسألة المدونة قاما بعد عقد التصارف وقبل التقابض من مجلس إلى مجلس ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومسألة العتبية إنما قاما فيها بعد التقابض للضرورة. وفي الغلبة قولان أي: وفي الفرقة الواقعة بين المتصارفين بسبب الغلبة من أحدهما أو من غيرهما قولان، أحدهما: أنها كالاختيار فيفسد. والثاني: أنها لا تفسد. الباجي: والظاهر من المذهب فساد البيع إذا غلب أحدهما على الفرقة. والقول بعدم الفساد لمالك في العتبية والموازية، ففيهما: إذا اشترى قوم قلادة من ذهب وفيها لؤلؤ فلم ينقدوا حتى فصلت القلادة وتقاوموا اللؤلؤ وباعوا الذهب، ثما أرادوا نقض البيع لتأخر النقد، ولم يرض بتأخيره، وإنما هو رجل مغلوب. وتأول أبو بكر بن عبد الرحمن هذه الرواية على أن المذهب فيها يسير تابع للحجارة، وأما إن كانت الحجارة يسيرة والذهب كير فيفسخ البيع. ابن يونس: وفيه نظر، لأنه لو كانت العلة ما ذكر لبينها مالك وابن القاسم، وإنما لم يبطله مالك، لأن البائع مغلوب- كما ذكر- واتهم المشتري على قصد البطلان فعوقب بنقيض قصده. ابن عبد السلام: والنفس أميل إلى عدم الفساد. وذكر اللخمي الخلاف في الغلبة، سواء غلبا معاً أو غلب أحدهما. وجعل ابن شاس ذلك خلافاً مركباً، هل يصح إذا غلبا معاً أم لا؟ وعلى البطلان فيما إذا غلبا، فهل يبطل إذا غلب أحدهما، قولان. قال: والصحيح في الصورتين ما اختار أبو بكر.

ولو وكل فقولان هذه المسألة وقعت في بعض النسخ، أي: وكل على القبض وهو ظاهر، ولا إشكال في الجواز إذا وكله على العقد والقبض، كما لو تولاهما بنفسه. أما إذا تولى في أحدهما ووكل في الآخر ولم يغب، وليس فيها إلا أن العاقد غير القابض، فذكر المصنف قولين، وظاهرهما الجواز والمنع. وأضاف المازري إلى ابن القاسم أنه قال: لا خير فيه. قال: وأمضاه أشهب إن وقع، وقال يفسخ إذا افترقنا قبل قبض الوكيل. وقال ابن وهب: لا بأس به. قال: وبعض الشيوخ ينسب لابن القاسم أن من شرط صحة الصرف أن يكون العاقد هو القابض، وغيره إنما يشترط في صحته حصول القبض على الفور فقط من غير اعتبار كون العاقد هو القابض. ولو وكل في القبض وغاب، فالمشهور المنع يعني: ولو وكل أحدا لمتصارفين بعد انعقاد الصرف على قبض ما وجب له وغاب الموكل، فالمشهور المنع. ابن عبد السلام: وهو ظاهر الروايات ونص عليه أشهب. وحمل اللخمي ما وقع في المذهب من المنع على الكراهة، وإن كان ظاهراً من جهة الدليل- لأن المناجزة المطلوبة قد حصلت ولم يقم دليل على اشتراط اتحاد العاقد والقابض- لكن ظاهر الروايات يأباه. المازري: ولا خلاف في المذهب منصوص في النهي عن ذلك وفسخه إن وقع، لكن بعض أشياخي يحمل المنهي عن ذلك عن الكراهة، وعلى هذا فمقابل المشهور من كلام المصنف هو قول اللخمي. والله أعلم.

وفي غيبة النقد، المشهور المنع يمنكن حمله على مسألة التسلف، ويرد هذا الوجه أن هذه المسألة ستأتي. وحمله ابن عبد السلام على أن المجرور معطوف على المجرور في الكلام الأول، أي: ولو وكل في غيبة النقد، قال: ولكن ذكره للأولى مغن عن هذه، لأنه إذا امتنع الوكيل مع حضور النقد على المشهور فأحرى مع غيبته. ابن عبد السلام: ولا يصح حملها على الوديعة، لأنه سيتكلم عليها بعد ذلك، وحمله بعضهم على أنه قاعدة لما بعدها من الفروع المشتملة على غيبة النقد. ورد بأن الفروع التي بعده مختلفة في المشهور كما [422/ا] سيأتي. والأقرب هنا ما قاله بعضهم من حمله هنا على ما إذا كان النقد غائباً عن موضع العقد غيبة قريبة كداره وحانوته، وفيهما قولان- كما ذكر- مشهور هما المنع. ورد بأن مذهب المدونة في هذا الكراهية، ففيها: وأكره للصيرفي أن يدخل الدينار تابوته أو يخلطه ثم يخرج الدراهم، ولكن يدعه حتى يزن الدراهم فيأخذ ويعطي. وقد يقال: البعد في الدار والحانوت أكثر من البعد في إدخال الصيرفي الدينار التابوت فلا يكون ما في المدونة مخالفا. وفي المواعدة مشهورها المنع أي: في المواعدة على الصرف ثلاثة أقوال: المنع، والجواز، والكراهة. ابن راشد: والمنع ظاهر المذهب. ابن عبد السلام: وهو المشهور، لأن فيها: ولو قال له المبتاع اذهب بنا إلى السوق بدراهمك فإن كانت جياداً أخذتها منك كذا وكذا درهماً بدينار لم يجز، ولكن يسير معه على غير مواعدة.

ابن راشد: وهو عندي نص في المنع. وكذا قال ابن بشير: الكراهة محمولة على المدونة وظاهرها المنع. ونسب اللخمي الكراهة لمالك وابن القاسم، وصرح المازري بأنها المشهور من المذهب. والجواز لابن نافع وابن عبد الحكم، والمنع لأصبغ. أصبغ: ويفسخ إن وقع، وقاله ابن القاسم في سماع أصبغ. وقال في سماع يحيي: إن وقع لم يفسخ. اللخمي: ورأى أصبغ أن الصرف فاسد، وقاسه على المواعدة في العدة، لأن كليهما مبايعة. واستبعد ابن عبد السلام التحريم. واستحسن اللخمي الجواز، وفرق بين هذا والمعتدة، بأن المعتدة إنما منعت مواعدتها خيفة أن تكون حاملاً حفظاً للأنساب. وأجاز ابن شاس هنا التعريض، وهو صحيح، لأنه إذا جاز التعريض في النكاح فهو هنا أولى. والتأخير كثيراً كالمفارقة يعني: أن طول المجلس بعد التعاقد وقبل التقابض مثل المفارقة، يعني: اختياراً بالأبدان في إفساد الصرف، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إلا هاء وهاء). يعني: وفي الخيار، المشهور: المنع أي: المشهور منع عقد الصرف على الخيار، والشاذ الإجازة وهو لمالك في الموازية، لأن فيها: في رجل اشترى سواري ذهب بمائة درهم على أن يذهب بهما إلى أهله، فإن رضوهما رجع فاستوجبهما، قال أرجو أن يكون هذا خفيفا. محمد وغيره: هذا من قول مالك. الباجي: وتحتمل هذه الرواية أن يكون المراد بها المواعدة وتقرير الثمن دون عقد، ولذلك قال: إن رضيهما أهله رجع فاستوجبهما، فذكر أن الإيجاب لم يقع بعد وإنما كان ذلك على سبيل تقرير الثمن إن رضيهما أهله. المازري: وهذه الرواية وإن كان فيها احتمال، لكن ما

نقله ابن شعبان من اختلاف قول قول مالك بالإجازة والمنع عليه يعول في نقل الخلاف في المذهب. وصرح الباجي والمازري بالمشهورية كالمنصف، وبنى المازري الخلاف على الخلاف المعلوم في عقد الخيار هل هو منحل أو منبرم؟ وهكذا حكى ابن شاس هذا الخلاف، وقال في المقدمات: لا خلاف أن الصرف فاسد سواء كانا جميعاً بالخيار أو أحدهما، لعدم المناجزة بينهما بسبب الخيار. والصرف في الذمة وصرف الدين الحال يصح خلافاً لأشهب قال شيخنا- رحمه الله-: إن جعلنا قوله: (والصرف في الذمة) ترجمة كما في بعض النسخ فلا إشكال، وإن أثبتنا الواو فصرف ما في الذمة تطارح ما في الذمتين، وهو أن يكون لواحد على الآخر دنانير وللآخر عليه دراهم فيتصارفان بما في ذمتهما، وصرف الدين الحال إذا كان من جهة واحدة فالمعروف من المذهب جوازه. قال في الجواهر: وحكى المتأخرون عن أشهب الإبطال فيه. ومقتضى كلام المصنف: أن أشهب- رحمه الله- يخالف في المسألتين، وبذلك صرح ابن راشد وهو ظاهر، لأنه إذا منع أشهب فيما إذا كان الدين من أحدهما فأحرى إذا كان من جهتهما. وقد نقل في الإكمال عن مالك وأصحابه جواز المسالتين، أعني: إذا صرف ما في ذمتهما أو في ذمة أحدهما، وهكذا مشى ابن راشد وغيره هذا الموضع، وهو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر. وطول ابن عبد السلام ها هنا بما ليس فيه كبير فائدة للفقيه. والمؤجل، المشهور: المنع أي: وصرف الدين غير الحال يمتنع على المشهور، بناء على أن المعجل لما في الذمة يعد مسلفاً، وإذا حل الأجل يقتضي من نفسه فلم يحصل التناجز، وعلى الشاذ بالبراءة يجوز الصرف هنا.

فإذا تسلفا أو أحدهما وطال بطل اتفاقاً، وإن لم يطل صح خلافاً لأشهب هذه المسألة يلقبونها بالصرف على الذمة. قال في التهذيب: وإن اشتريت من رجل عشرين درهماً بدينار وأنتما في مجلس، ثم استقرضت أنت ديناراً من رجل إلى جانبك واستقرض هو الدراهم من رجل إلى جانبه، فدفعت إليه الدينار وقبضت الدراهم، فلا خير فيه. ولو كانت الدراهم معه واستقرضت أنت الدينار، فإن كان أمراً قريباً كحل الصرة ولا تبعث وراءه ولا تقوم لذلك جاز، ولم يجزه أشهب. والحاصل منه: أنهما إن تسلفا، فاتفق ابن القاسم وأشهب على الفساد، لأن تسلفهما مظنة الطول فلا يجوز وإن لم يطل، لأن التعليل بالمظان لا يختلف الحكم فيه عند تخلف العلة كالقصر في الصلاة للمملوك. ابن راشد: وإن تسلف أحدهما وطال فكذلك، وإن لم يطل فالخلاف. وعلى هذا ففي كلام المصنف مناقشة، لإيهامه أن خلاف أشهب جار [422/ب] في تسلفهما معاً، إلا أن يجعل قوله: (وطال) قيد في تسلف أحدهما. واختلف الشيوخ هل الخلاف في تسلف أحدهما مقيد بما إذا لم يعلم الذي عقد على ما عنده أن الآخر لم يعقد على ما ليس عنده، وأ/اإن علم ذلك فيتفق على البطلان أو الخلاف مطلقاً علم أو لم يعلم؟ على طريقين حكاهما المازري. والمغضوب الغائب إن كان مصوغاً، فالمشهور: المنع وجه المشهور: أنه متعين فيقع الصرف من غير قبض في الحال. ووجه الجواز: كونه في الذمة فأشبه الحاضر، هذا معنى كلام المصنف. ابن عبد السلام، وقال غيره: إن علم وجود المغصوب حين التعاقد فالقولان، وهما جاريان على صرف الوديعة الغائبة عن موضع التعاقد، وإن لم يعلم وجوده حينئذ فلا تجوز

المصارفة عليه، لاحتمال أن كيون قد تلف فيلزم الغاصب القيمة والمصارفة بجنسها فيؤدي إلى التفاضل. فإذا دهب فعلى خلاف صرف الدين، لأنه يضمن قيمته أو زنته أي: فإن ذهب هذا المصوغ وجب ضمانه على الغاصب، جازت المصارف عليه حينئذ على المشهور في جواز صرف ما في الذمة، ثم ينظر فيما يتعلق بذمة الغاصب هل قيمته أو مثله، والمشهور القيمة، بناء على أن الشيء إذا كان مثلياً ثم دخلت فيه صنعة، هل يصير من المقومات أو المثليات كالغزل؟ قال شيخنا- رحمه الله-: وصرفه على القولين مشكل، لأنا إذا قلنا بالقيمة، فقد يكون وزنه خمسة دنانير ويساوي الآن مائة وعشرين لصنعته وصرف الدينار عشرين، فيأخذ ستة عن خمسة وهو ربا فضل ونساء. وإن قلنا: يأخذ مثله كسوار مثلاً، فإنه يأخذ عن ذهب فضة أو بالعكس وذلك صرف مستأخر. ودليله: أنهم قالوا فيمن استهلك طعاماً فلا يأخذ عنه طعاماً من غير جنسه، إذ هو طعام بطعام إلى أجل فاعرفه. فإن بقي على حال خيار أخذ العين أو التضمين، فعلى خلاف إحضار العين وخلاف صرف الدين .... أي: فإن لم تذهب عينه بالكلية، ولكنه تعيب عيباً يوجب لصاحبه الخيار في أخذه أو تضمينه الغاصب، وإن اختار أخذه فإن أحضره ثم صارفه عليه جاز اتفاقاً، وإن لم يحضره فالمشهور المنع، وإن اختار أخذ القيمة فهي دين له في ذمة الغاصب، فإن أراد مصارفته عليها جاز على المشهور. وقال في الجواهر: والمشهور جار على أن من خير بين شيئين لا يعد منتقلاً، بل يعد كأنه لم يستحق غير ما اختار، وأما إن عددناه منتقلاً فلا يجوز صرف أحدهما.

فإن كان مسكوكاً، فالمشهور: الجواز هذا قسيم قوله: (مصوغاً) أي: وإن كان المغصوب مسكوكاً، فالمشهور جواز صرفه، وفي معناه ما لا يعرفه بعينه من المكسور والتبر. قال الباجي: بناء على أن النقود لا تتعين أي: أن الباجي أجرى القولين في إجازة الصرف ومنعه على القولين في أن الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ فمن رأى عدم التعيين أجاز، لأنها حينئذ تتعلق بذمته وإبراؤه منها قبض. وإن قلنا: تتعين امتنع كما في المصوغ. ورده ابن بشير بأن المشهور: تتعين، وبالاتفاق في ذوي الشبهات أي: رد ابن بشير كلام الباجي بوجهين، أحدهما: أن الدراهم والدنانير في الصرف تتعين على المشهور فكيف ينبني المشهور على الشاذ. والثاني: أنهم اتفقوا أنها تتعين بالنسبة إلى من كان ماله حراماً أو كان في ماله شبهة، فإذا أراد من هو من أهل الخير أخذ عين دنانيره ودراهمه من الغاصب الذي ماله حرام أو فيه شبهة مكن من ذلك اتفاقاً، ويكون وجه الرد على الباجي من هذا الوجه: أنه بنى المشهور على وجه اتفق على عدمه. ونبه المصنف بالأدنى وهو ذو الشبهة، على الأعلى وهو من كان ماله حراماً. وما حكاه المصنف عن ابن بشير تبع فيه ابن شاس وليس هو فيه تنبيهه، فلعلهما اطلعا على ذلك في غيره. وانظر الاتفاق الذي حكاه المصنف مع قول ابن الجلاب: ومن غصب دراهم فوجدها ربها بعينها فأراد أخذها وأبى الغاصب أن يردها وأراد رد مثلها، فذلك للغاصب دون ربها، قاله ابن القاسم. فائدة: الدراهم والدنانير تتعين في ذوي الشبهات على المشهور، نقله ابن عبد السلام وتتعين في باب الصرف على المشهور حرصاً على المناجزة، نقله ابن بشير. وكذلك نقل

صاحب المقدمات، فقال: مذهب مالك وجمهور أصحابه في الصرف أنها إن عينت تعينت، وإن لم تعين فإنه تعين إما بالقبض أو المفارقة. وحكى المازري الاتفاق على أنها تتعين بالمفارقة. وقال ابن القصار: الظاهر من المذهب أنها لا تتعين. المازري: وفي كونه الأظهر نظر، لأن في المدونة ما يدل على اختلاف قول ابن القاسم في هذا، ففي السلم: أنها لا تتعين، لأن فيه: إذا أسلمت إليه في طعام أو غيره ثم أقالك قبل التفرق ودراهمك في يده فأراد أن يعطيك غيرها، فذلك له وإن كنت اشترطت استرجاعها بعينها. وفي كتاب كراء الرواحل: من اكترى بدنانير معينة ولم يشترط النقد ولا كانت العادة النقد، فإن ذلك لا يجوز إلا بشرط الخلف. وقال أشهب: لا يفتقر إلى هذا الشرط، والحكم يوجب الخلف. فهذا من ابن القاسم ذهاب إلى أنها تتعين، لأنه لم يلزم خلفها إذا ضاعت إلا بالاشتراط. وبعض أشياخي يشير إلى أن المذهب على ثلاثة أقوال، التعيين، وعدمه، والثالث: يتعين في جانب [433/أ] المشتري دون البائع. فالأوليان مبنيان على الخلاف في الوفاء باشتراط ما لايفيد، ورأى في الثالث أن المشتري إذا اشترط التعيين كان له غرض صحيح في اشتراط تعيينها، لأنه يمكن ألا يكون عنده سواها فيشترط تعيينها لئلا يكلف خلفها إن ضاعت، بخلاف البائع فإنه لا يظهر لاشتراطه فائدة. انتهى. وعلله بأن الأصل تعلقها بالذمة ولا تعرف بعينها لما رد ابن بشير توجيه الباجي ذكر هو توجيهاً حاصله: أنا وإن قلنا أنها تتعين، فهي مضمونة بوضع اليد عليها ولا تعرف بعينها، وإذا كانت لا تعرف شابهت الدين،

والمشهور جواز صرفه. ولا يريد ابن بشير أن كل واحد منهما علة مستقلة، وإلا لزم جواز صرف المصوغ لتعلقه بالذمة بوضع اليد. والرهن، والعارية، والمستأجر، والوديعة إن كان مصوغاً فكالمغضوب، وإن كان مسكوكاً، فالمشهور: المنع .... قوله: (فكالمغضوب) يعني: إما أن يبقى على حاله أو يتلف، أو يبقى على حال خيار كما في المغضوب، غير أن الوديعة لا ضمان فيها وكذلك المستأجر. فمعنى (فكالمغضوب) أنه إذا كان حاضراً جاز، وإن كان غائباً فالمشهور المنع، وإن وجبت القيمة جاز على المشهور. قوله: (وإن كان) أي: الغائب مسكوكاً، فالمشهور: المنع. والفرق بين هذه المواضع والمغضوب، أنه في هذه غير متعلق بالذمة ولم يزل في ملك ربه، والمغضوب قد تعلق بذمة الغاصب بوضع يد العداء عليه، فلذلك تعاكس المشهور. وظاهر قوله: (وإن كان مسكوكاً) يقتضي أن المسكوك تتصور فيه الإجارة والعارية. وقد قال المصنف في الإجارة: المشهور منع إجارتها، وقيل: إن لازمها ربها صح. وقال في العارية: لا تصح إعارة الدنانير والدراهم وأن إعارتها قرض. ويجاب عنه: بأن هذا من باب صرف الكلام لما يصلح له وحذف ذلك للعلم به، ولما سيأتي، وشهرته عند طلبة العلم. وكلامه في الجواهر أحسن من كلام المصنف، لأنه لا يرد عليه هذا، لأنه قال بعد ذكر مسائل: المسالة الرابعة صرف المرهون، فإن كان مصوغاً ففيه قولان، المنع حتى يحضر، والجواز نظراً إلى مكان التعلق بالذمة، وإن كان مسكوكاً فأجيز في رواية محمد ومنعه ابن القاسم. والجواز لاحدى علتين، حصول المناجزرة بالقبول، والالتفات إلى إمكان التعلق بالذمة فأشبه المغصوب، إذ هو على الضمان إن لم تقم بينة على تلفه، وقولان إن قامت، والمنع نظراً إلى الحال وهو على ملك ربه، وإنما يقبضه لنفسه عند حضوره فأشبه صرف الغائب.

الخامسة: صرف الوديعة، وفي الكتاب المنع منه، وروى أشهب الجواز في المسكوك منها. واختلف في تعليله على طريقين، إحداهما: أنه مبني على أن يعقد المودع التسلف ثم يصارف، قاله الباجي. قاله الباجي: ويجب على هذا ألا يجوز في الحلي باتفاق. والطريق الثاني: النظر إلى حصول المناجزة بكمال القول والشيء تحت يده، فعلى هذا يجري الخلاف في المصوغ، وقد ظهر تعليل بما قدمناه في المرهون. فرعان: أحدهما: العارية وحكمها حكم الرهن، قاله الباجي. قال بعض المتأخرين: وهو ظاهر. الثاني: المستأجر وحكمه حكم الوديعة. انتهى كلامه في الجواهر. والصرف على التصديق في الوزن والصفة ممتنع خلافاً لأشهب أي: إذا تصارفا وصدق أحدهما أو كل منهما الآخر في الوزن أو الصفة، فالمشهور المنع، وعلل بمراعاة الطوارئ، إذ يحتمل أن يوجد على غير تلك الصفة فيصير العقد مترقباً حله. وما عزاه المصنف لأشهب تبع فيه اللخمي والمازري، وعزا صاحب البيان إليه المنع. ووجه الجواز: أن النفوس مجبولة على حب المال، فلا يصدق المخبر إلا إذا كان من أهل الدين أو قامت قرينة فلا يتهم على تضييع حق الله تعالى. ومن هذا تبادل الطعامين، فابن القاسم منعه على التصديق، وحكى عنه الإجازة في بدل الطعامين دون الصرف. وعلى جواز التصديق في الصرف يجوز في تبادل الطعامين بل هو أولى، ومنعه ابن نافع في تبادل الطعامين فأحرى في الصرف. فائدة: قال بعضهم: لا يصدق في الوزن والكيل في مسائل، المبادلة: فلا يصدق فيها في وزن ولا عدد لئلا يوجد نقص فيدخله التفاضل والتأخير. والطعام الربوي بجنسه أيضاً. والقرض:

لئلا يوجد نقص فيلتزمه المقترض عوضاً عن معروفه فيجر نفعاً. والطعام المبيع إلى أجل: لئلا يلتزم النقص لأجل تأخيره، ورأس مال السلم، والمعجل قبل أجله، والصرف. ونقص المقدار بالحضرة إن رضي به أو بإتمامه ناجزاً صح لما قدم الكلام على الافتراق أتبعه بما يطرأ على العقد من نقص أو استحقاق. والباء للظرفية، والمجرور في محل حال، وتقدير كلامه: إن رضي الأخذ بالنقص أو رضي الدافع بإتمامه، فحذف رضي من الثاني لدلالة الأول عليه، فهو من عطف الجمل لا من عطف المفردات. وقوله: (ناجزاً) من تمام الثانية، ويدل على محذوف مثله في الأول. وإن لم يرض وكان غير معين أجبر الممتنع، وفي المعين قولان أي: وإن لم يرض الدافع بالإتمام ولا الأخذ بالنقص، فإن كان العقد وقع على دراهم أو دنانير غير معينة أجبر من امتنع منهما على إتمام ما دخلا عليه. واختلف: هل يجبر الممتنع إن دخلا على معين. ولعل سببهما الخلاف في الدراهم [433/ب] والدنانير هل تتعين بالتعيين أو لا؟ وإن كان بعد المفارقة أو الطول، فإن قام به انتقض على المنصوص كتأخير البعض، وإن لم يقم، فثالثها: إن كان قليلاً صح .... يعني: فإن وجد نقص المقدار بعد افتراقهما من المجلس أو بعد طوله، فإن أقام به وأخذ النقص بنقصه، فحكى الباجي والمازري: أنه لا خلاف في نقض الصرف. وأجرى ابن شاس فيه قولاً بالصحة من الشاذ في تأخير البعض بل هنا أولى، لعدم الدخول عليه. واعلم أن تأخير البعض له صور:

الأولى: أن يقع بشرط، ففي المقدمات: الاتفاق على بطلان الجميع. وخرج ابن القصار قولاً بإمضاء المتناجز فيه من أحد القولين في الصفقة إذا جمعت حلالاً وحراماً، وذكره اللخمي قولاً صريحاً. الثانية: أن يدخلا على قبض الجميع ثم يؤخرا شيئاً، ففي المقدمات: ينتقض الصرف فيما وقع فيه التأخير باتفاق، إن كان درهماً انتقض صرف دينار ما بينه وبين أن يكون الذي فيه التأخير أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينار آخر ثم كذلك. واختلف فيما وقعت فيه المناجزة، فمذهب ابن القاسم في المدونة بطلانه، وهو قول محمد، ولابن القاسم في الموازية قول بصحته. وخص المازري، وابن شاسن وابن بشير هذا الخلاف بما إذا كان المؤخر أقل الصفقة، وأما إن كان أكثر الصفقة فينتقض بالاتفاق، إلا ما خرجه ابن القصار، وجعل ابن بشير النصف كالكثير في الاتفاق عليه. وقال المازري: علم من المذهب قلة النصف في العروض، وأما الطعام فالنصف فيه عند ابن القاسم في حكم الكثير، وقال أشهب: الطعام كالعروض. وظاهر ما قاله في المدونة: إن النصف في الدراهم والدنانير في حكم القليل، لقوله فيمن صرف مائة دينار بألفي درهم فلم يجد إلا خمسين: إن الصرف ينتقض، بخلاف ما لو وجد الخمسين زيوفاً، فإنه إنما ينتقض بقدرها، لكون الزيوف لا يفسد الصرف بوجودها. انتهى. الصورة الثالثة: أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة فيتأر شيء مما وقع الصرف عليه بنسيان، أو غلط، أو سرقة من الصراف، أو ما أشبه ذلك مما يغلبان عليه، أو أحدهما، فيمضي الصرف فيما وقع فيه التناجز ولا ينتقض باتفاق.

ابن رشد: واختلف هل ينتقض فيما لم يحصل فيه التناجز إن تجاوز النقصان، مثل أن يصرف منه ديناراً بدراهم فيجد في الدراهم درهماً ناقصاً، فيقول: أنا أتجاوزه، أو لا ينتقض من الصرف شيء، على قولين، أحدهما: أن ذلك لا يجوز وينتقض من الصرف صرف دينار، إلا أن يزيد النقص عليه فينتقض ديناران. والثاني: أن الصرف يجوز ولا ينتقض منه شيء إن تجاوز النقصان كالزائف إذا رضي به. قوله: (وإن لم يقم) أي: فإن رضي الأخذ بالنقص ولم يقم به، فحكى المصنف تبعاً للمازري وابن شاس ثلاثة أقوال. المازري: وهو روايات: الأولى: يفسخ جميع الصرف، لكون الفساد قد دخل بعضه فسرى إلى كله. والرواية الثانية: أنه يمكن من ذلك ولا يفسخ ما تناجزا فيها، كما يمكن من الرضى بالزيوف. والثالثة: تمكينه من ذلك إن كان النقص يسيراً، والمنع منه إن كان كثيراً. ابن عبد السلام: وأكثرهم على أنه لا يفسخ. خليل: والأقرب هو الثالث، لأنه الذي تسمح به النفوس، والمشهور: جواز الرضى مطلقاً، لكن بشرط أن يكون النقص في الوزن، وأما إن كان النقص في العدد فإنه لا يجوز الرضى على المشهور. والقليل: ما تختلف به الموازين. وقيل: دانق في دينار، ودرهم في مائة هذا فرع على القول الثالث، وجعل صاحب المقدمات اختلاف الموازين توفيقاً بين قولي ابن القاسم، فإنه روى اغتفار الدانق والدانقين مرة وعدم اغتفارهما مرة، وأنه رأى في الأولى: أن ذلك القدر مما تختلف به الموازين. وفي الثانية: أنه مما لا تختلف به، وأنه لا خلاف في اغتفار ما تختلف به الموازين.

قال شيخنا- رحمه الله تعالى-: وليس المراد بالدانق في القول الثاني ما سيأتي وهو السدس، بل الدانق في اصطلاح الْحُسَّابِ: أن الدينار أربعة وعشرون قيراطاً وكل قيراط أربعة دوانق، فيكون الدانق جزءاً من ستة وتسعين جزءاً ليكون مناسباً للدرهم في مائة. قيل: وتبع في قوله: (ودرهم في مائة) ابن شاس، والمنقول إنما هو الدرهم في الألف. وروى أصبغ عن ابن القاسم في الموازية: إن نقصت الألف درهم مثل الدرهم فهو خفيف. والدانق بفتح النون وكسرها، الجوهري: وربما قالوا داناق. ونقص الصفة إن كان كرصاص، فكالمقدار على الأظهر لما كان النقص قسمين، نقص مقار، ونقص صفة. وتكلم على نقص المقدار اتبعه بالكلام على نقص الصفة. وإدخاله ما كان كالرصاص في نقص الصفة فيه تجوز والعلاقة المشابهة، فإنه شابه الزائف في وجوده حساً، والقولان للمتأخرين، قاله ابن بشير. وقوله: (كالمقدار) أي: إن رضي به أو بإتمامه ... إلخ. التفصيل: ووجه الأظهر أن وجوده كعدمه. ورأى مقابله أن هذا هنا مقبوض، وكونه لا قيمة له لا يضر كما في المشغوش. وإن كان مغشوشاً فإن رضي به صح كالمعاير بمصر، وتسميه المغاربة النحاس، وفي المدونة الستوق. الباجي، والمازري: ولا خلاف فيه، لأن القبض في المقدار المعقود عليه حصل، وإنما وقع النقص في صفته فله الرضى به كسائر العيوب. وإن لم يرض وكان غير معين، فقولان: النقص، وجواز البدل. وفي المعين طريقان: جواز البدل، والقولان ... [444/أ] أي: وإن لم يرض قابض المغشوش به، فإن كان الصرف بينهما على دراهم ودنانير غير معينة، كما لو قال: بعني عشرة دنانير بمائتي درهم، فقولان، أحدهما: النقض.

المازري: وهو المشهور. والثاني: جواز البدل لابن وهب. وحكى اللخمي هذين القولين فيما إذا وقع التعيين من جهة دون أخرى، ولم يحك في البطلان إذا لم يحصل التعيين خلافاً. وبنى المازري وغيره الخلاف على أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله فلا يجوز لعدم المناجزة، أو نقض له الآن وابتداء مبايعة فيجوز. وإن كان الصرف بينهما على شيء معين، كما لو قال: بعني هذا الدينار بهذه العشرين درهماً، فحكى المصنف طريقين، إحداهما للخمي، وأصلها لأبي بكر بن عبد الرحمن: أن المذهب كله على إجازة البدل، لأنهما لم يفترقا وفي ذمة أحدهما شيء، فلم يزل مقبوضاً إلى وقت البدل لأنهما لم يفترقا، بخلاف غير المعين فإنهما تفرقا وذمة أحدهما مشغولة. والثانية، قال في الجواهر: هي لجل المتأخرين، وأصلها لابن الكاتب أن القولين في هذه كالتي قبلها، ولا فرق بين التعيين وعدمه، ولذلك أدخل المؤلف الألف واللام التي للعهد على القولين، وهذه الطريقة أشد، لتقدم الخلاف في الدنانير والدراهم، هل تتعين بالتعيين أم لا؟ ابن عبد السلام: ولم يتعرض المصنف في هذا الفصل للنقض، هل هو في القليل أو الكثير كما تعرض لذلك في الذي قبله، ومسائلهم تدل على تخصيص القليل. وإذا قيل بالنقض للنقص مطلقاًن فخمسة: فقيل ينقض الجميع مطلقاً، وقيل: إن لم يسم لكل دينار. وقيل: دينار. وقيل: أو كسر إن كان النقص مقابله أو أقل. وقيل: ما قابل النقص ... أي: وإذا انتقض الصرف لأجل النقص مطلقاًن أي: في المقدار، والصفة، والتعيين وعدمه، فخمسة أقوال- ولذلك أتى بالتاء-: الأول: ينتقض الجميع، وعزاه اللخمي لابن القاسم في العتبية، لأن الصفقة إذا بطل بعضها بطل كلها.

والثاني: ينتقض الجميع إن لم يسم لكل دينار شيئاً، كما إذا قال: هذه العشرة دنانير بمائتي درهم. وأما إن سمي، كقوله: كل دينار بعشرة، فإنما ينتقض في دينار إن لم يقابل الزائف أكثر منه، وهو للقاضي إسماعيل، وابن الجلاب، وعبد الوهاب. وزعم الباجي: أن الخلاف يرتفع إذا سمى لكل دينار وأنه لا ينتقض إلا دينار، وإنما الخلاف إذا لم يسم. ورد عليه المازري: بأن الروايات وقعت مطلقة وإنما فصل هذا التفصيل من تقدم ذكرهم. والقول الثالث: إنما ينتقض دينار واحد سمي أو لا، المازري، وابن راشد، وابن عبد السلام وغيرهم، وهو المشهور. والقول الرابع: أنه ينتقض صرف أصغر الدنانير. والفرق بينه وبين الثالث، أنه على الثالث ينتقض صرف دينار كامل ولا ينتقض على الرابع إلا صرف أصغر الدنانير، وتبع في هذا ابن شاس، وابن بشير. وفي نقلهم نظر، لأن المازري وغيره إنما ذكروا أربعة أقوال وجعلوا القول بنقض الدينار أو أقل منه قولاً واحداً، ونحوه لابن يونس. المازري: وإذا تقرر أن المذهب المشهور اختصاص الفسخ بدينار، فإنه يقتصر في ذلك على أقل ما يوجد في الدنانير. ونقله الباجي أيضاً عن ابن القاسم فقال، قال ابن القاسم: يرد منها أصغر قرض. الخامس: على نقل المصنف ينتقض ما قابل النقص. اللخمي، والمازري: وهذا بناء على القول بجواز أن يصرف بعض دينار. وسبب الخلاف، هل المجموعة في مقابلة الأجزاء، أو الأجزاء في مقابلة الأجزاء، أو يفصل بين أن يسميا شيئاً أو لا، لأنهما إذا سميا لكل دينار شيئاً صارت كأنها عقود متفرقة.

تنبيه: جعل اللخيم محل هذا الخلاف إذا وقع الصرف على غير معين، وأما إن وقع على معين، فإن قابل الزائف دينار واحد أو وجد العيب بدينار واحد، ينتقض صرف دينار واحد بالاتفاق. فرع: ولو كان في الصرف سكك مختلفة، فقال أصبغ: يختص الفسخ بالدينار الأعلى والأطيب. وقال سحون بفسخ الجميع. وشرط البدل: الجنسية، والتعجيل خلافاً لأشهب فيهما قرره ابن راشد على ظاهره. وقال بعض من تكلم على هذا الموضع: هذا الخلاف الذي ذكره لا يعرف في البدل، وكيف يكون في البدل ومذهب ابن القاسم وأشهب منعه، وإنما هو في الصلح عن القيام بالعيب، ولذلك قال ابن عبد السلام: إنما يعرف هذا الخلاف لابن القاسم وأشهب في مسألة الطوق المذكورة أول الصلح. وقد ذكرها المصنف في الصلح، وسيأتي الكلام عليها. خليل: ولعل المصنف بنى على أن لازم القول قول، فنسب لابن القاسم وأشهب ما ذكره. وقد خرج اللخمي قولي ابن القاسم وأشهب من مسألة الطوق في هذه المسألة ونصه: وإن لم يرد، أي: الزائف، وصالح على الزائف بعين أو عرض، فأجاز ذلك محمد ومنعه ابن شعبان، قال: إلا أن يتفاسخا ثم يعملا على ما يجوز، واستشهد بمسالة كتاب الصلح في الطوق، واختلف فيه على ثلاثة أقوال، فأجاز ابن القاسم أن يرضيه على شيء يدفعه إليه نقداً ولا يرده إلى أجل. وأجازه أشهب نقداً وإلى أجل. ومنعه سحنون إذا افترقا فيهما.

وعلى هذا يجري الجواب في الدينار، فيجوز على قول ابن القاسم إذا نقد ذلك، وعلى قول أشهب يجوز وإن كان إلى أجل، ولا يجوز على قول سحنون إذا افترقا لا نقداً ولا إلى أجل، والجواز أحسن. وفي ابن يونس: إذا باع طوق ذهب بألف درهم، ثم وجد بالطوق عيباً فصالحه بائع الطوق على دنانير أو دراهم، فقال ابن القاسم: يجوز ذلك إن كانت الدراهم من نوع الدراهم [444/ب] التي قبض منه، وإن كانت من غير سكة ما قبض منه لم يجز، وكذلك لو صالحة على نقرة، وقال أشهب: لا باس بذلك كله. والمزيد بعد الصرف كجزئه، وقيل: كالهبة أي: من صارف رجلاً ديناراً مثلاً بدراهم، ثم زاد أحدهما صاحبه زيادة لأجل الصرف، فإنه إذا فسخ الصرف لفساد في العقد، فإنه يرد جميع ما أخذ مع المزيد، وهذا معنى قوله: (كجزئه) وقيل: كالهبة، فلا يرد إلا المدفوع أولاً ولا يرد المزيد، ويحتمل أن يريد بقوله: (كجزئه) أنه اطلع على عيب في المزيد أن له القيام ونقض الجميع. (وقيل: كالهبة) فلا قيام له إن اطلع فيه على عيب. ورأينا أن نأتي بالمسألة من المدونة ثم نذكر ما يتعلق بها ونبين ما هو الأليق بكلامه، قال فيها: وإن صرفت من رجل ديناراً ثم لقيته بعد أيام، فقلت له: قد استرخصت مني الدينار فزدني فزادك دراهم نقداً أو إلى أجل، فجائز ولا ينتقض الصرف، وليس لك رد الزيادة لعيب فيها، وإن كان الدينار رديئاً فرددته أخذ منك الذي زادك مع دراهمه، لأنه للصرف زادك فترده برده. وكذلك الهبة بعد البيع للبائع إن رد السلعة بعيب أخذها. ولأشهب عن مالك في الموازية: أنه يبدل المزيد الزائف. فحمله بعض الأشياخ على الخلاف، وبعضهم على الوفاق، ولهم في التأويل وجهان، أحدهما لابن القاسم وغيره: أن

ما في الموازية محمول على إيجاب الزيادة، لأنه قال فيها: لقيته، فقال: نقصتني من صرف الناس فزدني فزاده، أنه يفهم إذا زاده فقد ألحقه بصرف الناس وقد أوجب الزيادة. والتأويل الثاني ذكره صاحب النكت عن بعض شيوخه: أن الخلاف مبني على تحقيق فرض المسألة، فإن قال له: أزيدك هذا الدرهم فوجده زائفاً فلا يرده، لأنه إنما رضي أن يهبه ذلك الدرهم على ما هو به فلا يلزم بغيره. وإن قال: أزيدك درهماً فعليه البدل، لأنه قد أوجب على نفسه درهماً فعليه البدل، لأنه قد أوجب على نفسه درهما جيداً، وإليه ذهب اللخمي. ورد المازري هذا التفصيل، لأن في المدونة ما يمنعه، لأنه قال فيها: فزاده درهماً نقداً أو إلى أجل، والذي إلى أجل هو في الذمة. وقد نص على أنه ليس عليه بدله. وفي كلام عبد الحق إشارة إلى الجواب، لأنه تأول قوله: إلى أجل. على أنه قال له: أنا أزيدك، أو قال: تأتني عند أجل كذا وكذا، ثم عند الأجل أتاه فأعطاه درهماً فوجده زائفاً فليس عليه بدله، لأنه رضي بما دفعه غليه ولم يلزم غيره، بخلاف قوله: أزيدك درهماً. فإنه يحمل على الجليد. وقال القاضي إسماعيل: الزيادة كالجزء يبطل الصرف بتأخرها كما لو تأخر جزء من الصرف، ونص كلامه في المبسوط: إن كان الذي زاده بعد المصارفة إنما هو لإصلاح ما مضى ولمخالفة أن ينتقض ما بينهما، أو لمعنى من المعاني، فإن الزيادة تبطل الصرف. واستدل بقول عبد الملك في رجلين اشتريا شاة من رجل، ثم إن البائع وضع لأحدهما شيئاً من الثمن، فإن كان ذلك شيئاً يشبه إصلاح ذلك البيع فهو بينه الشريكين، وإن كان لا يشبه إصلاح ما مضى، مثل أن يحط عنه أقله أو أكثره فإنما هي هبة وليست من البيع. فإذا تقرر هذا فادعى بعض من تكلم على هذا المحل أن الحق هنا حمل كلام المصنف على الوجه الثاني، أي: هل ينتقض الصرف بتأخيرها؟ قال: وهو مذهب القاضي إسماعيل. أو لا ينتقض؟ قال: وهو مذهب المدونة.

خليل: وفيه نظر، لأنه يلزم أن يكون المصنف قدم غير المشهور. وقال ابن عبد السلام: إن قوله في المدونة يوافق القول الأول على الاحتمال الأول، أي: إذا رد، رد الزيادة. قال: ويكون القول الثاني على الاحتمال الثاني من تمامه. ولو استحق المسكوك بعد المفارقة أو الطول أو التعيين انتقض على المشهور، وإلا فالعكس .... أي: إذا اصطرفا بمسكوك من الجانبين أو من جانب فاستحق المسكوك بعد المفارقة، أو بعد أن طال المجلس ولم يفترقا، أو كان المسكوك المعقود عليه معيناً وإن لم يحصل طول ولا مفارقة، فإن الصرف ينتقض على المشهور، إذ لا يلزمه غير ما عين، وإن لم يعين فقد تعينت بالقبض أو المفارقة على ما نقله ابن رشد كما تقدم. ورأى في الشاذ أنها لا تتعين، فيجبر على البذل في الثلاثة. وقوله: (وإلا فالعكس) أي: فإن لم تكن مفارقة ولا طول ولا تعيين لم ينتقض. قال بعض من تكلم على هذا الموضع: والمراد بالعكس عدم النقض فقط، لا باعتبار دخول الخلاف وانعكاس المشهور، لأنه إذا لم يكن طول ولا افتراق ولا تعيين أجبر على البدل إذا كان عنده غيرها اتفاقاً. وكلام المصنف قريب من كلام صاحب الجواهر، وذكر أن المشهور مذهب المدونة، وعزا الشاذ لأشهب، وجعل هذا الخلاف إذا حصلت المفارقة أو الطول. وقال ابن الكاتب: إنما اختلاف ابن القاسم وأشهب إذا حصل استحقاق بالحضرة، فعند ابن القاسم لا يلزمه الإتيان بمثلها سواء وقع الصرف على معين أم لا، وعند أشهب لا يلزمه ذلك إذا كانت الدراهم معينة، وأما إذا كانت غير معينة فينتقض.

وذكر ابن عبد السلام أن القرويين اختلفوا في محل القولين اللذين في المدونة، هل هو عند الاقتران أو الطول، أو عند عدم كل واحد منهما. ولنذكر لفظه في المدونة ليتبين لك الفهمان، قال فيها: ومن اشترى إبريق فضة بدنانير أو دراهم، فاستحقت الدنانير أو الدراهم انتقض البيع لأنه صرف، ومن صرف دنانير بدراهم فاستحقت الدراهم [445/أ] انتفض الصرف. وقال أشهب: لا ينتقض إلا أن تكون دراهم معينة يريه إياها، وإنا باعه بدراهم عنده أو من كيسه أو تابوته فعليه مثلها مكانه ما لم يفترقا. ابن القاسم: ولو أنه إذا استحقت ساعة صارفه، قال: خذ مثلها مكانه قبل التفرق جاز، ولو طال أو تفرقا لم يجز. فقوله في قول أشهب: مكانه ما لم يتفرقا. دليل على أنه إنما يخالف إذا كان بالحضرة. وقوله في المدونة في أول المسألة: ينتقض الصرف. يحمل على ما إذا لم يكن بالحضرة. تنبيهان: الأول: قيد ابن يونس قوله في المدونة: إنها إذا استحقت وقال له ساعة صارفه: خذ مثلها جاز بما إذا تراضيا، وكذلك قال ابن المواز. وغمز أبو بكر بن عبد الرحمن ما قاله ابن المواز من اشتراط التراضي، قال: لأنه لو كان مراده أن الخلف إنما يجوز بالتراضي لم يكن لتقييد هذا الجواب بقوله: ما لم يفترقا معنى، لأنهما إذا افترقا وتراضيا على خلف الدراهم المستحقة صار ذلك مستأنفاً لا يمنع منه ما تقدم من عقد بطل باستحقاق الدراهم. المازري: وهذا قد يعتذر عنه بأنه قيد بقوله: ما لم يفترقا، لأنهما إذا افترقا وتراضيا ببدل الدراهم المستحقة صار ذلك تتميماً للعقد المتقدم الذي كشف العيب أنهما لم يتناجزا فيه، وقد تتطرق التهمة لكون العاقدين أو أحدهما قصد إلى ذلك في أصل العقد. التنبيه الثاني: ما تقدم في متن كلام المصنف والتعيين ثابت في كل النسخ التي رأيتها، وكذلك ثبت ذلك في نسخة ابن رشد وسقط من نسخة ابن عبد السلام. والإثبات

موافق لكلام المازري وابن شاس، فإنهما أشارا إلى أنه إن حصل التعيين انتقض الصرف ولو مع الحضرة على المشهور، لأنهما نص على أن هذه المسألة تجري على الخلاف في تعيين الدراهم بالتعيين، وقد صرح اللخمي بذلك، أعني: بالنقض إذا كانت الدراهم معينة، سواء استحق بالحضرة أم لا، لكنه مخالف لما تقدم من أن ابن القاسم يجيز البدل في الدراهم مطلقاً، سواء كانت معينة أو لا، وإنما يأتي الإثبات على قول أشهب فتأمله. ولو استحق المصوغ انتقض مطلقاً يعني: لو وقع العقد على مصوغ من الجهتين أو أحدهما فاستحق، انتقض الصرف سواء كان بحضرة العقد، أو الافتراق، أو الطول، وإليه أشار بقوله: مطلقاً، لأن المصوغ يراد لعينه. ثم إن كان لم يخير المصطرف، فللمستحق إجازته على المشهور فيهما، بناء على أن الخيار الحكمي ليس كالشرطي ... أتى بـ (ثم) للتراخي: أي: إذا عقد الصرف بمصوغ ثم انتقض بسبب الاستحقاق، فإن أراد المستحق إجازة العقد فلا يخلو المصطرف- وهو المشتري لهذا-: إما أن المستحق مخبر بأن المصوغ ليس ملكاً للدافع أو لا، فإن لم يخبره فللمستحق إجازته على المشهور فيهما، أي: في المصوغ والمسكوك، قاله بعضهم وهو الظاهر. وقال ابن عبد السلام: وهو عائد على الصورتين المفهومتين من السياق، وهما: كون الاستحقاق بحضرة الصرف أو بعد ذلك. قال: ويحتمل أن يعود الضمير على صورتين منطوق بهما، وهما: كون الاستحقاق بعد الطول وقبل المفارقة، والثانية بعد المفارقة، ورجح هذا على الأول بأن عود الضمير على منطوق به أولى.

وقوله: (على المشهور). أي: لأن خيار المستحق أدى إليه الحكم. والشاذ لأشهب: يمنع كخيار الشرط. ونظيرها ما إذا قال لوكيله: أبدل لي فولاً بقمح فأبدله بشعير، وكذلك فيما يطلب فيه التناجز. وأطلق المصنف في المشهور، وهو مقيد بحضور المصوغ، نص عليه في التهذيب. وناقض سحنون قول ابن القاسم هذا بحضور اشتراط الخلخالين، بقوله فيمن استودع قمحاً فباعه بطعام مخالف: إن للمستحق إجازة البيع، ولم يشترط حضور القمح. والفرق أن المودع ضمن القمح بتعديه بالبيع فوجب في ذمته مثله فأخذ عنه تمراً، ذلك جائز، إذ لا معنى لاشتراط حضور ما بقي في الذمة، بخلاف الذي تولى الصرف في مسألة الخلخالين فإنه غير متعد فلم تتعلق بذمته، فأشبه صرفها صرف الوديعة، فلذلك اشترط الحضور. وناقض اللخمي والمازري قول أشهب هنا بقوله: في العبد يتزوج حرة بغير إذن سيده ويدخل بها، ثم توجد هي تزني، أن رجمها موقوف على إجازة السيد النكاح، فإن أجازه كانت محصنة ورجمت، وإن لم يجزه لم ترجم وحدت حد البكر، وهو اعتراض ظاهر. فلو أخبره، فهو كصرف الخيار أي: فلو أخبره دافع المصوغ أنه ليس له وأنه تولى الصرف فيه بغير إذن ربه، فهو كصرف الخيار الشرطي، وقد تقدم أن المشهور منعه. والصرف والبيع ممتنع، خلافاً لأشهب إلا في اليسير أي: أنه لا يجوز أن يجتمع في العقد بيع وصرف إلا في اليسير، وجوزه أشهب في اليسير والكثير. والاستثناء يحتمل أن يرجع إلى قوله: (ممتنع) ويحتمل أن يرجع إلى (خِلاف) أي: إلا في اليسير، فإن أشهب لا يخالف في ذلك. ووجه المشهور بوجوه:

أحدهما: أن اجتماع البيع معه يؤدي إلى ترقب حله بوجود عيب في السلعة. ثانيها: لأن الصفقة قد جمعت بين عقدين مختلفي الأحكام، لأن الصرف لا يجوز فيه التأخير والخيار بخلاف البيع. ثالثها: لئلا يؤدي إلى صرف بنسيئة، من حيث أن السلعة قد تستحق فلا يعلم ما يصيب الصرف من الثمن إلا في ثاني حال. سند: وليس هذا من باب النسيئة، [445/ب] وإنما هو من باب الجهالة. ورأى أشهب أن العقد قد اشتمل على جائزتين فلا منع. فإن وقع على المشهور، فقيل: هو كالعقود الفاسدة يفسخ ولو مع الفوات، وقيل: هو من البياعات المكروهة فيفسخ مع القيام لا مع الفوات. ابن رشد: وهو المذهب. فائدة: قال القذافي: لا يجتمع مع البيع يجمعها قولك: (جص مشنق) فالجيم: للجعالة. والصاد: للصرف، والميم: للمساقاة. والشين: للشركة. والنون: للنكاح والقاف: للقراض، لتضاد أحكامها. ونظمها بعضهم فقال: عقود منعناها مع البيع ستة ... ويجمعها في اللفظ جص مشنق فجعل وصرف المساقاة شركة ... نكاح قراض منع هذا محقق فإن كان الجميع ديناراً فيسير، وقيل: مع كون أحدهما ثلثا فأدنى، وقيل: مع كونه كالدرهم يعجز .... الأول: هو مذهب المدونة، ولا يشترط فيه أن يكون الصرف أو البيع تابعاً، بل كيفما كان فهو جائز، لأن الضرورة داعية إلى الوقوف في مثل هذا كثيراً. والقول الثاني: عدم الجواز إلا بشرط التبعية، إما بأن يكون البيع تابعاً للصرف أو العكس، والتابع هو الثلث فأقل.

والقول الثالث: لا يجوز الصرف والبيع في دينار إلا أن يكون البيع يسيراً، مثل أن يصرف ديناراً بعشرة دراهم فيعجز الدرهم أو النصف فيدفع إليه عرضاً بقدره لتحقق الضرورة، وهو قول عبد الوهاب. ولابن القاسم في الموازية رابع: جواز كون الصرف في الدينار الواحد تابعاً الثلث فأقل، ومنع عكسه وهو كون البيع تابعاًز فإن كان الصرف في أكثر من دينار، فاليسير أن يكون البيع بأقل من دينار، وقيل: أن يكون ثلثا فأدنى .... أي: فإن كان الصرف في أكثر من دينار، فلابد أن يكون البيع في أقل من دينار، أي: لابد من اشتراك البيع والصرف في دينار، كما لو صارفه عشرة دنانير بمائة وتسعين ونصف إردب قمحاً والصرف بعشرين، وكلامه ظاهر التصور. ونسب في الجواهر القول الذي صدر به المصنف لابن مناس، وذكر أن القول الثاني نقله ابن محرز عن بعض الأشياخ. وأما إذا كان البيع أكثر لم يجز اتفاقاً، إلا في صرف أقل من دينار يعني: أن الخلاف المتقدم إنما هو إذا كان الصرف أكثر، وأما إذا كان البيع الأكثر، فالاتفاق على أنه لا يجوز إلا إذا كان الصرف في أقل من دينار كالقول الأول. والمراد بالاتفاق: اتفاق القائلين بمنع اجتماع الصرف والبيع. وأما على قول أشهب الذي يجيزهما مطلقاً، فلا. ولا يقال ينتقض الاتفاق الذي حكاه المصنف بما حكاه بعضهم عن ابن حبيب من جواز دينار فأقل، لأن ابن يونس والمازري أنكراه. والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، أن الصرف أضيق من البيع، فإذا كان البيع تابعاً انسحب عليه حكم الصرف فكان أحوط، بخلاف العكس، واستشكل لأنهم يغلبون

حكم الصرف وإن كان قليلاً في وجوب تقديم السلعة على المعروف، خلافاً للسيوري في إبقاء كل من البيع والصرف على حكمهما على الانفراد، فأوجب تعجيل الصرف وأجاز تأخير السلعة. وأما المستثنى اليسير، فروي أنه الدرهم، وروي الثلاثة، وروي قدر ثلث دينار، كسلعة بدينار إلا درهماً ... إن قلت: لم جوزا في مسألة الاستثناء ما لم يجوزوه في مسألة اجتماع البيع والصرف مع أنها راجعة إليها، إذ حاصل قوله: هذه السلعة بدينار إلا درهماً. بعتك السلعة والدرهم بدينار، وهو بيع وصرف. وإنما قلنا: إنهم أجازوا هنا ما لم يجيزوه هناك، لأنهم أجازوه هنا مع تأخير النقدين وتقدم السلعة. فالجواب: أنه سؤال حسن، ولعلهم راعوا أن الاستثناء اصله أن يكون يسيراًن والضرورة تدعو إلى اليسير، والمتبايعان إنما بنيا كلامهما أولاً على البيع، فكان الصرف غير مقصود، بخلاف البيع والصرف، فإنهما لما أتيا أولاً بالصرف والبيع علم أنهما مقصودان. وقوله: (فروي أنه الدرهم) مقتضاه: أنه لا يجوز في الدرهمين. والذي في المدونة وغيرها: أن الدرهمين في حكم الدرهم. ولم أر من اقتصر على الدرهم كما فعل المصنف، بل صرح المازري بالاتفاق على يسارة الدرهمين، والرواية بالثلاثة لابن عبد الحكم، والقول بأجازة الثلث للأبهري، هكذا نقله الباجي وابن شاس، ولم أر أحداً صرح بأنه رواية ابن راشد. وهذا الخلاف إنما هو إذا وقع البيع وفيه التأجيل على ما سيأتي إن شاء الله، وأما مع الانتقاد فيجوز أكثر من ذلك.

فإن كان نقداً فجائز، وفي تأجيل الجميع ممتنع أي: إذا كان الجميع السلعة والدينار والدرهم نقداً فجائز. ابن راشد: بلا خلاف. وإن تأجل الجميع فهو ممتنع، لأنه صرف مستأخر، ودين بدين إن كانت السلعة غير معينة، وبيع معين يتأخر قبضه إن كانت معينة. وفي تأخير النقدين يجوز للتبعية يعني: فإن تقدمت السلعة وتأخر النقدان جازت المسألة، وعلل ذلك بالتبعية، أي: أن السلعة لما قدمت وتأخر الدينار علم أنهما غير مقصودين فلا يكون صرفاً مستأخراً. وذكر ابن المواز الاتفاق فيه، لكن ذكر المازري وابن شاس أن ابن عبد الحكم خالفه، فمنع لكونه ديناً بدين وصرفاً مستأخراً. قال في الجواهر، قال بعض المتأخرين: وقول ابن عبد الكم هو القياس، لاسيما إذا راعينا الاتباع في أنفسنا. وفيها: ويقضي بما سميا، وقيل: بدراهم ويتقاصان [446/أ] يعني: إذا وقعت هذه المسألة على الوجه الجائز فاختلف فيما يقع فيه القضاء، فحكي عن المدونة أن البائع يعطي الدرهم والدرهمين أو يأخذ الدينار أو الدينارين، وليس ما نسبه للمدونة صريحاً فيها، بل هو ظاهرها عند الأكثرين. وصرح المازري بمشهوريته. ومنهم من فهمها على القول الثاني، وهو أن البائع إذا حل الأجل إنما يأخذ صرف دينار ينقص درهماً أو درهمين. وتأجيل السلعة أو أحد النقدين ممتنع على المشهور يعني: لو تقدم النقدان وتأخرت السلعة، أو تقدمت السلعة وأحد النقدين وتأخر النقد من أحدهما، المشهور فيها المنع، وهو مذهب المدونة. وقيل: المشهور فيما إذا تأجلت

السلعة مقيد في الموازية بما عدا التأخير اليسير، قال فيها: إلا أن يتأخر بمثل خياطته، أو حتى يبعث في أخذه وهو بعينه فلا بأس به. والشاذ: الجواز فيهما. ونقل في المدونة الشاذ في مسألة تأجيل السلعة عن مالك من رواية أشهب. ونقل صاحب الجواهر وغيره الشاذ في مسألة التأخير في أحد النقدين عن مالك من رواية ابن عبد الحكم. وقد يظهر ما رواه ابن عبد الحكيم ببادئ الرأي، لأنه إذا جاز تأخير النقدين معاً فلأن يجوز تأخير أحدهما أحرى. والفرق للمشهور أن الاعتناء بالتقديم يدل على أنه المقصود عند المتباعين، فإذا تقدمت السلعة وتأخر النقدان دل تقديمها على أن البيع هو المقصود، بخلاف ما إذا تقدم أحدهما، فإنه يدل على أن الصرف مقصود ولم يحصل شرطه وهو المناجزة. فإن استثنى دراهم من دنانير، فثالثها: يجوز في النقد. مثال ذلك: لو باع مائة ثوب بمائة دينار ينقص كل دينار درهماً، فمن أجاز رأى أن نسبة درهم إلى مائة دينار كنسبة الدرهم إلى الدينار، ويحتمل أن يكون مبنياً على جواز الصرف والبيع مطلقاً. ومن منع نظر إلى كثرة، ولا خفى عليك توجيه الثالث. وتبع المصنف في حكاية هذه الأقوال ابن بشاس، وإطلاق الأقوال هكذا مشكل، ولاسيما الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً. والمقصود في الموازية: فيمن ابتاع مائة جلد كل جلد بدينار إلا ثلاثة دراهم، وذلك كله نقله ابن عبد السلام أن هذا جائز، ثم تحاسبا بعد البيع فصارت أربعة عشر ديناراً، فلا خير في هذا البيع. محمد: تحاسبا أو لم يتحاسبا لكثرة الدراهم في المؤخل. مالك: ولو قطعوا صرف الدراهم قبل العقد ووعت الصفقة بدنانير معلومة جاز ذلك

نقداً ومؤجلاً، مثل أن يقول: إن وقع بيننا بيع بدراهم فبيعها كذا وكذا بدينار فهذا الجائز، وإلا لم يجز نقداً ولا إلى أجل، لأنه صرف وبيع إلا في دراهم يسيرة. وقال مالك في التعبية: إذا كان ذلك قبل البيع. وقد حققها في البيان تحقيقاً شافياً، فقال: إن وقع البيع بينهما على أن يتقاصا من الدنانير ما اجتمع من الدراهم المستثناة بسوم سمياه ولم يفضل من الدراهم شيء بعد المقاصة، مثل أن يبيع ستة عشر ثوباً كل ثوب بدينار إلا درهماً على أن يحسبا ستة عشر درهماً بدينار، جاز البيع نقداً أو إلى أجل، لأن البيع انعقد بخمسة عشر. وكذلك أن فضل بعد المقاصة درهم أو درهمان، لأنه يجوز أن يبيع الرجل السلعة بدينار إلا درهماً وإلا درهمين على أن يتعجل السعلة ويتأخر النقدان، فإن فضل بعد المحاسبة دراهم كثيرة فيجوز البيع إن كان نقداً ولا يجوز إلى أجل. وإن لم يقع بينهما على شرط المحاسبة، فيجوز إن كانت الدراهم المستثناة الدراهم والدرهمين نقداً أو إلى أجل، ويجوز إن كانت كثيرة دون صرف دينار إن كان نقداً، ولا يجوز إلى أجل. وإن كانت أكثر من صرف دينار، فلا يجوز نقداً ولا إلى أجل غير مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. ولا تنفع المحاسبة بعد البيع إذا لم يقع البيع بينهما على ذلك. فإن استثنى جزءاً جاز مطلقاً، وقيل: كالدراهم، بناء على أن جزء الدينار ذهب إلى القضاء أو ورق .... كما لو باع بدينار إلا سدساً أو خمساً ونحو ذلك، فالمشهور: أنه يجوز مطلقاً بالنقد والأجل، بناء على أن جزء الدينار ذهب فيقاصه. والقول الثاني: لا يجوز في هذه الصورة إلا ما جاز في مسألة الدراهم، بناءً على أن جزء الدينار ورق، إذ لا يقضي القاضي عليه عند المناجزة إلا بالورق.

المماثلة، ولطلب تحققها منع بيع دينار ودرهم أو غيره بدينار ودرهم أو غيره لما فرغ من المناجزة أتبعها بالمماثلة، ولا شك في طلبها، ولأجل أنه لابد منها منع ما يوجب شكاً فيها، فلا يجوز أن يضاف إلى أحد النقدين جنس آخر كما مثل، خشية أن تكون الرغبة في أحد الدرهمين أكثر فيقابله من الجهة الأخرى أكثر من درهم، فيؤدي إلى التفاضل. وقوله: (أو غيره) أي: ثوب أو غيره من الطعام ونحوه. [446/ب]. فأما درهم بنصف فما دونه أو فلوس أو طعام، فجائز للضرورة، وبأكثر من نصف ممتنع. وقيل: لا يجوز إلا في أقل من نصف. وقيل: لا يجوز إلا في غير الفلوس. وقيل: لا يجوز بحال وإن قل .. هذا مستثنى من القاعدة المذكورة، وعلل الجواز فيه بالضرورة. ومعنى المسألة: أن يعطي الإنسان درهماً فيأخذ بنصفه فلوساً أو طعاماً ويرد عليه النصف الآخر فضة. وذكر الشوشاي، وأبو الحسن وغيرهما لهذه المسالة ستة شروط: أولهما: أن يكون في الدرهم الواحد، لأن الضرورة غالباً إنما تدعو إليه، فلا يجوز في أكثر ولا في دينار، لقول مالك في كتاب محمد: فيمن اشترى بثلث دينار قمحاً فدفع ديناراً وأخذ قطعة ذهب منقوشة أكره ذلك، وعلله اللخمي باختلاف بيع الدينار وكسره، بخلاف الدرهم وكسره. الثاني: أن يكون في بيع وما في معناه كالإجارة، احترز به من القرض، لأنه لا ضرورة تدعوهم في القرض. الثالث: أن يكونا مسكوكين. الرابع: أن يكونا المردود النصف فما دون، وأجاز أشهب ثلاثة أرباع. الخامس: أن ينقد الجميع، وإن تأخر أحد العينين جرى على الخلاف في مسألة الدرهم والدرهمين إذا تأخر أحد العينين.

السادس: أن تكون السكة واحدة. وزاد أبو الحسن سابعاً: وهو أن يكونا معروفي الوزن. وثامناً: أن يكون في بلد لا فلوس فيها ولا خراريب ولا أرباع. وقد حكى المصنف في هذا الأخير الخلاف. قوله: (وبأكثر من نصف ممتنع) هكذا عبر المازري بالمنع، والذي في المدونة إنما هو الكراهة في رد الثلثين فضة، لكن كثيراً ما يعبر مالك عن الممنوع بالمكروه. وقوله: (وقيل: لا يجوز إلا في أقل من نصف) لتحقق التبعية. وهذا القول في الموازية لابن القاسم وأشهب. وقيل: لا يجوز إلا في غير الفلوس، أي: إلا في غير بلد الفلوس، وأما في بلدها فلا يجوز أن يأخذ بنصف طعاماً وبنصف فضة، لأن الضرورة زالت لوجود الفلوس، ونسبه اللخمي لأشهب. وهكذا مشى هذا القول الثالث الشارحون، ويمكن أن يمشى على أنه لا يجوز أن يأخذ مع النصف الفضة فلوساً، وإنما يأخذ طعاماً وما أشبهه، لأن الفلوس لما كانت تشبه النقد صاراً نقدين في مقابلة نقد، وهذا القول لمالك في التعبية، لكن إنما قال في العتبية: لا أحب أن يأخذ بنصفه فلوساً ونصفه فضة، ولا بأس أن يأخذ بنصفه فضة ونصفه طعاماً، فعبر: بلا أحب، وكذلك عبر صاحب البيان بالكراهة. لكن كثر تعبيرهم عن الممنوع هنا بالكراهة، وقد نقله عياض بلفظ المنع عن الموازية، ولفظه: وأجاز في الموازية أن يأخذ بكسر الدرهم سلعة ويأخذ بباقية درهماً صغيراً، ومنع ذلك في نصفه فلوساً ونصفه فضة، ورواه يحيي عن مالك، ووافقه عليه ابن القاسم في الموازية. وأشار عياض وغيره إلى أن ما منعه أشهب- أعني: إذا كان في البلد فلوساً- وما أجازه إذا كان في البلد دراهم صغار متناقض، قال: وهو خلاف من قوله، ولا فرق بينهما.

وقيد ابن يونس المذهب بما إذا لم تكن الأنصاف والخراريب غالبة، وأما إن كانت غالبة فلا يجوز الرد بوجه. قوله: (وقيل: لا يجوز بحال) هو لمالك في الموازية، واختاره ابن عبد السلام قال: لأن الضرورة لم يثبت أن الشرع اعتبرها. وفي التبر يعطيه المسافر دار الضرب وأجرته ويأخذ وزونه قولان هذا أيضاً مستثنى مما تقدم، يعني: أنه اختلف في المسافر يأتي دار الضرب بفضة أو ذهب يدفعها إليهم ويدفع أجرتها ويأخذ وزن ما دفع مسكوكاً، والقولان لمالك. أجازه في سماع ابن القاسم، وابن وهب، وقال ابن القاسم: أراه جائزاً للمضطر وذا الحاجة. مالك: وقد عملت به الناس زمان بني أميه ويفعله أهل الورع. وبالمنع قال الأكثرون، وذكر ابن حبيب أنه سأل عن ذلك من لقي من المدنيين والمصريين فلم يرخصوا فيه بحال، ولهذا قال في البيان: والصواب عدم الجواز إلا مع الخوف على النفس الذي يبيح أكل الميتة. ابن حبيب: وأما الصائغ فلا يجوز معه ذلك قولاً واحداً. واختلف قول مالك أيضاً في خلط ذهب الناس في الضرب بعد تصفيتها ومعرفة وزنها، فإذا خرجت أخذ بحسب ذهبه. وكذلك الزيتون بالزيت أي: وكذلك اختلف في الزيتون يعطيه لأهل المعصرة ويأخذ قدر ما يخرج، والمنع هنا أقوى لوجهين: أحدهما: أن الضرورة هنا أضعف من الضرورة في التبر لكثرة المعاصر. والثاني: أن خروج الزيت مما يختلف.

وإذا بيع محلى مباح من أحد النقدين بصنفه، فإن كان الحلي تبعاً جاز معجلاً على المشهور، وفي المؤجل قولان .... هو أيضاً مستثنى لأجل الضرورة الداعية إليه مع كونه جائز الاتخاذ، أي: إذا بيع شيء محلى بذهب أو فضة، وهو معنى قوله: (من أحد النقدين) كمصحف أو سيف بصنفه، أي: كان محلى بفضة وبيع بفضة، أو بذهب وبيع بذهب فيجوز على المشهور، خلافاً لابن عبد الحكم بثلاثة شروط: الأول: أن تكون الحلية تبعاً للمحلى، وإليه أشار بقوله: (تبعاً). الثاني: أن تكون الحلية مباحة. الثالث: أن تكون مسمرة على المحلى في نزعها ضرر، وإن لم يكن في نزعها ضرر فلا. قال الباجي: كالفصوص [477/أ] المصوغ عليها، أو حلية المصحف المسمرة عليه، وحلية السيف المسمرة في حمائله وجفنه. وأما القلائد التي لا تفسد عند نظمها، فظاهر المذهب أنه لا تأثيرها لها في الإباحة، وبه قال ابن حبيب. وهذا الشرط أيضاً يؤخذ من كلام المصنف، لأنه لا يقال: محلى مع الانفصال. وذكر ابن رشد عن المتأخرين قولين، بالجواز، والمنع إذا كان يغرم ثمناً في رد الحلية بعد فصلها. وقال اللخمي: لم يختلفوا إذا كانت الحلية منقوشة وهي تبع له أنه لا يجوز أن يباع نصل السيف وحليته بجنسها نقداً ولا إلى أجل. قال: وأرى إذا كانت قائمة بنفسها صيغت ثم ركبت وسمرت أن يكون لها حكم المنقوض، لأنه ليس في ذلك أكثر من أنها سمرت بمسامير.

قوله: (وفي المؤجل قولان) المازري: المشهور المنع خلافاً لسحون وأشهب. وهذان القولان مفرعان على المشهور، وإلا فابن عبد الحكم الذي يمنع في النقد بمنع المؤجل أولى، وفي مسألة التأخير قول ثالث لمحمد بالكراهة. إن قيل: لم أجازوا هنا ما لم يجيزوه في البيع والصرف؟ قيل: للضرورة إلى استعماله وللمضرة الحاصلة في نزعه. والله أعلم. المتيطي: فإن بيع بصفة إلى أجل فسخ ورد، إلا أن يفوت بتفصيل حليته فيمضي ولا يرد، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، وقال أشهب: يكره ابتداءً، فإن وقع مضى ولا يرد. وإن لم يكن تبعاً لم يجز يعني: وإن لم تكن الحلية تبعاً لم يجز بيعه بصنف حليته نقداً ولا إلى أجل، لعدم تحقق التماثل. فإن بيع بغير صنفه، فإن كان تبعاً جاز معجلاً، وفي المؤجل قولان كما لو كان محلاً بفضة وبيع بذهب، ولا خفاء في الجواز مع النقد إذا كان تبعاً، لأن الصرف غير مقصود، والمشهور من القولين في المؤجل: المنع خلافاً لسحنون. فإن لم يكن تبعاً جاز معجلاً فقط أي: وإن بيع بغير صنفه والحلية ليست تبعاً جاز معجلاً. وظاهر كلامه: أنه لم يختلف فيه كما في البيع والصرف، ولعله لعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وظاهر كلام اللخمي: أنه يجري فيه ما جرى في البيع والصرف. والتبع: الثالث. وقيل: دونه. وقيل: النصف الأول: هو المذهب. والثاني: خرجه ابن بشير مما قيل في المذهب أن الثلث كثير. والقول بتبعية النصف مشكل، لأن النصف لا يكون تبعاً لنصف آخر، لكن استدل له

بقوله سبحانه وتعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل:2 - 3] وهذا القول حكاه الباجي عن بعض العراقيين، وخرجه الباجي أيضاً من إجارتهم الشراء بنصف درهم ورد نصف درهم. ويعتبر بالقيمة. وقيل: بالوزن مع قيمة المحلى سببهما، هل تعتبر الصياغة أم لا؟ ومعنى كلامه: أنا إذا بنينا على المشهور من أن التبع الثلث، أو على غيره من الأقوال، فهل يعتبر التبع بالقيمة أو بالوزن فقط؟ فإن كان وزن الحلية عشرين، ولصياغتها تساوي ثلاثين، وقيمة النصل أربعين، جاز على الثاني دون الأول. والقول باعتبار القيمة هو ظاهر الموطأ والموازية، قاله ابن يونس. والثاني: ذكر الباجي أنه ظاهر المذهب قياساً على النصاب في السرقة والزكاة. ورد ابن بشير: بأن من أصلنا التحريم بالأقل، وأما السرقة والزكاة فإنا رتب النصاب فيهما على الوزن. وما قلنا: من أنه تنسب قيمة الحلية مصوغة أو وزنها غير مصوغة إلى مجموع المبيع، فإن كانت ثلثه جاز، هو المذهب الذي قاله الناس كما في بياض المساقاة. ونسبها ابن بشير إلى قيمة المحلى، فإن كانت ثلث ذلك جاز وإلا امتنع، وليس كذلك، لأنه إذا نسبت إلى النصل والجفن مثلاً فكانت ثلثهما كانت ربع الجميع. والثوب الذي لو بك خرج منه عين كالمحلي، وإن لم يخرج فقولان يعني: والثوب الذي نسج فيه أو طرز بالذهب أو الفضة إن كان يخرج منه لو سبك عين فَأَجْرِهِ على ما تقدم في المحلى، وإن لم يخرج كالورقة فللأشياخ قولان بناءً على استهلاكه أو قيام صورته.

والحلي من النقدين وحده، أو مع سلعة ممتنع بعين أحدهما اتفاقاً أي: إذا كان المحلى مصوغاً من الذهب والفضة، سواء بيع وحده أو مع سلعة وليس أحدهما تبعاً. وحذف المصنف ذلك اكتفاء بذكر التبعية في قسيمه، فلا يجوز بيعه بواحدة من الصنفين اتفاقاً، لأنه إذا امتنع بيع سلعة وذهب بذهب فأحرى بيع فضة وذهب بذهب. فإن كان أحدهما تبعاً لم يجز بصنف الأكثر، وفي صنف التبع قولان أي: فإن كان الذهب تابعاً للفضة أو العكس لم يجز بيع ذلك بصنف المتبوع. واختلف في بيعه بصنف التابع، ومذهب المدونة: أنه لا يباع به. وفي الموازية: وما حلي بذهب وفضة، قال ابن القاسم عن مالك: فليبع بأقلهما إن كان الثالث فدون يداً بيد، وإن تقاربا بيع بالعروض أو الفلوس. ثم رجع مالك، فقال: لا يباع بورق ولا بذهب على حال، وبهذا أخذ ابن القاسم. وبالجواز أخذ ابن زياد، وأشهب، وابن عبد الحكم. وأورد ابن عبد السلام على المصنف: أنه ذكر إذا لم يكن أحدهما تابعاً للآخر الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه بأحدهما. قال: وليس كذلك، لأن ابن حبيب أجاز بيعه بكل واحد من النقدين إذا كان مجموعهما تبعاً للسلعة، سواء كان أحدهما تبعاً للآخر أو لا إذا كان نقداً، قاله في الواضحة. بل قال اللخمي: ولم يختلف في المحلى يكون فيه ذهب وفضة، ولؤلؤ وجوهر، والذهب والفضة الثلث فأقل، واللؤلؤ والجوهر الثلثان فأكثر، أنه يباع بأقل من ذلك كالسيف. وقال صاحب الإكمال: [447/ب] فإن كان فيهما عرض وهما الأقل بيع بأقلهما قولاً واحداً. والتبعية بالقيمة، وقيل بالوزن القولان كالقولين المتقدمين.

والمغشوش: مقتضى الروايات جواز بيعه بصنفه الخالص وزناً، لأنه كالعدم، وقيل: لا يجوز .... والمغشوش: خلط جسم بجسم حتى لا يمكن التمييز بينهما. والظاهر أنه لا يريد بالروايات هنا أقوال مالك، وإن كان ذلك الاصطلاح، وإنما أراد منصوصات المذهب. ومعنى كلامه: أنه يؤخذ من روايات المذهب جواز إبدال المغشوش بالخالص وزنا. والجواز حكاه ابن شعبان. وحكى في البيان القولين صريحين، قال: والصحيح عدم الجواز لعدم التماثل. ولم يقم دليل على تقديرهم الغش في القول الأول كالعدم، لكن الأول هو الذي يؤخذ من كلام ابن القاسم في المدونة وكلام غيره، وذلك هو الذي أشار إليه المصنفات بالروايات، ولقول ابن القاسم: ولا يعجبني بيع الدرهم الرديء- وهو الذي عليه النحاس- بدرهم فضة وزناً بوزن ولا عرض، لأن ذلك داعية إلى إدخال الغش في أسواق المسلمين، لكن يقطعه ويجوز حينئذ بيعه إذا لم يكن يغر به ولم يكن يجري بينهم. فقول ابن القاسم: يقطعه وحينئذ يجوز بيعه. يقتضي جواز بيعه بصنفه الخالص، لأنه إنما منعه أولاً للغش وقد انتفى الغش. قال في المدونة، وقال أشهب: إن رد لغش فيه لم أر أن يباع بعرض ولا فضة حتى يكسر. وإذا تقرر هذا علمت أنهم إنما تكلموا في المغشوش الذي لا يجرى بين الناس، ويؤخذ من كلامهم جواز بيع المغشوش بصنفه الخالص إذا كان يجري بين الناس كما بمصر عندنا، والأقرب حمل كلام المصنف على هذه الصورة لا على الأولى، وهو ما أراده المصنف بالروايات، ويجوز بدله على وجه الصرف بدراهم جياد وزناً بوزن، وهو يشبه البدل. وقال صاحب النكت، وابن يونس: وقول أشهب وفاق لقول ابن القاسم، ومراد أشهب بعد كسره، وظاهر قول أشهب جواز بدل المغشوش بالخالص ولو كثر مراطلة. وأبقاه ابن محرز وغيره على هذا الظاهر، وتأوله ابن الكاتب واللخمي على أنه إنما يجوز

عنده في القليل، الدرهمين والثلاثة، لقوله: كالبدل. ورد بأن قوله: وزناً بوزن. ينافي ذلك، لأن المبادلة لا يراعى فيها القدر بالوزن وإنما الاعتبار بالعدد. وتردد أبو عمران في قول أشهب هل هو وفاق لقول ابن القاسم أم لا؟ وكذلك المغشوش بالمغشوش على الأصح أي: وكذلك تجوز مراطلة المغشوش بمغشوش مثله. ابن عبد السلام: ولعل هذا مع تساوي الغش، وأما مع اختلافه فلا. انتهى. وذكر صاحب البيان عن شيخه ابن رزق: أنه لا يجوز بدل المغشوش بالمغشوش، لأنه فضة أو ذهب ونحاس بذهب ونحاس. قال: ولا أقول به، بل أرى ذلك جائزاً، لأن الفضة التي مع هذه كالتي مع هذه والنحاس كالنحاس، فلا يتقى في هذا ما يتقى في ذهب وفضة منفصلين بذهب وفضة منفصلين. ويكسر الزائف إن أفاد وإلا سبك أي: إن أمن مع قطعة أن يغش به، وإن لم يؤمن فلابد من سبكه. قال في البيان: ولا يحل أن يغش بها أحداً ولا أن يبيعها ممن يغش بها، ويكره أن يبيعها ممن لا يأمن أن يغش بها كالصيارفة. واختلف في بيعها ممن لا يدري ما يصنع بها، فأجازه ابن وهب وجماعة من السلف، وكرهه ابن القاسم ورواه عن مالك. ويجوز أن تباع ممن يكسرها أو ممن يعلم أنه لا يغش بها باتفاق. فإن باعها ممن يخشى أن يغش بها فليس عليه إلا الاستغفار. وإن باعها ممن يعلم أنه يغش بها وجب عليه أن يستردها، فإن لم يقدر فثلاثة أقوال: أحداهما: أنه يجب عليه أن يتصدق بجميع الثمن. والثاني: أنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمتها لو باعها ممن لا يغش بها. والثالث: لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منها ولكنه مستحب.

المراطلة

ويعتبر الربا بين السيد وعبده على المشهور أي: لا يجوز بين السيد وعبده ربا الفضل ولا ربا النساء. والشاذ لابن وهب، إما لأن العبد لا يملك، أو لأن السيد قادر على الانتزاع. وينبغي أن يقيد هذا بمن له انتزاع ماله ليخرج المكاتب ونحوه، ولهذا قالوا: إن كان على العبد دين لم تجز مراباته اتفاقاً. بعض المتأخرين: إلا أن يلتزم السيد الدين فالخلاف، وليس هذا خاصاً بالربا، بل يجري في فسخ الدين، وضع وتعجل، وحط الضمان وأزيدك، وما أشهبه. والمراطلة: لقب في بيع العين بمثله وزنا اعلم أن العين إن بيع بعين مخالف سمي صرفاً، وإن بيع بمماثل سمي مماثلة، فإن كان وزناً سمي مراطلة، وإن كان عدداً سمي مبادلة. والمراطلة: مفاعلة، ومعناها: موازنة ذهب بذهب حتى كأن أحدهما رطل وزن به الآخر. والظرفية بـ (في) مجاز، أي: مستقرة في بيع العين بمثله وزناً، ويحتمل أن يكون (في) بمعنى (على). واعترضه ابن عبد السلام بأن هذا الحد غير مانع لدخول ما ليس بمراطلة في اصطلاح الفقهاء فيه، وهو بيع الفضة بالذهب مثلاًز قال: ولا يصح أن يريد بالمثلية النوع، لأن (وزناً) تمييز لتلك المثلية. وقد يجاب عنه: بأن (وزناً) حال، و (بمثله) صفة لمحذوف يدل عليه ما تقدم، أي: بعين مثله حال كونه موازنة. والمراطلة جائزة في غير المسكوك بلا إشكال، وكذلك المسكوك على الصحيح، وهو قول أبي عمران، وأبي بكر بن عبد الرحمن وغيرهما، وعليه حمل عياض المدونة، [448/أ] ومنع ذلك القابسي إلا بعد معرفة وزنه، لئلا يؤدي إلى بيع المسكوك جزافاً، وإليه يرجع كلام الباجي. ابن يونس: والأول هو الصواب، إذ لا غرر فيه، لأنه إنما يأخذ مثل ذهبه أو دراهمه.

عياض: وعلى قول القابسي إذا كانت عدداً فلابد من معرفة عدد الدراهم من الجهتين أو الدنانير بخلاف الوزن، لأن معرفة وزن أحدهما معرفة لوزن الآخر، بخلاف معرفة العددي إلا في مثل القائمة وشبهها، المعروف اتفاق وزنها وعددها، فمعرفة ما في الكِفَّةِ الواحدة منها معرفة لما في الأخرى من وزن أو عدد. فإن كانا سواء، أو أحدهما أجود جاز اتفاقاً، وإن كان أحدهما بعضه أجود وبعضه أدنى، امتنع وفاقاً .... أي: فإن كان الذهبان أو الفضتان متساويين في الجودة أو كان أحدهما أجود جاز اتفاقاً، لانحصار الفضل في جهة. وقاعدة هذا ونحوه: أنه مهما تمحض الفضل من جانب جاز، لانتفاء قصد المكايسة، وإن دار الفضل من الجانبين امتنع اتفاقاً لقصد المكايسة كما قال. وإن كان أحدهما بعضه أجود وبعضه أدنى امتنع اتفاقاً، مثاله: لو كان لأحدهما درهم أسكندري ودرهم مغرب وللآخر درهمان مصريان، لأن صاحب المصريين إنما ترك جودة مصرية الواحد بالنسبة إلى الأسكندري لجودة درهم الآخر المغربي على جود المصري فيحصل التفاضل متقابلاً. ابن المواز: وقد خفف مالك في القطعة من الذهب تجعل مع الجيد من المالين ليعتدل الميزان فيها ثمن أو سدس أو ثلث إذا لم يغتن بها فضل عيون التي معها. وظاهره أنه قيد المنع بما إذا كان الرديء الذي مع الجيد كثيراً، لكن قال محمد بإثراء هذا الكلام: ما لم تكن القطعة رديئة. مالك: وإن كان فيها قدر الدينار لم يجز، إلا أن يكون مثل المفردة فأجود.

فرع: ابن يونس وغيره: ولا يجوز إذا رجح ذهب أحدهما أن يترك ذلك ولا أن يأخذ عنه شيئاً. وإن كان أحدهما بعضه أجود وبعضه مساو، جاز خلافاً لسحنون مثاله: درهمان مغربيان في مقابلة درهم مغربي ودرهم مصري، فالمذهب الجواز لتمحض الفضل. ورأى سحنون أن الدنئ قد يقصد لشيء فيه، فيبقى قصد المكايسة. وثبت هنا في بعض النسخ ما نصه: قاسها على مدي شعير بمد قمح ومد شعير، للذريعة أي: أن سحنوناً قاس المنع في هذه الصورة على ما منعه مالك وابن القاسم في صورة الطعام، وإن كان ابن حبيب أجاز مدي قمح بمد قمح مد شعير. والجامع بينهما عند سحنون ما ذكره من الذريعة إلى التوسل للتفاضل، لأنهما لم يتبايعا على هذا الوجه إلا لغرض لهما في المكايسة، إذ لو كان الغرض المكارمة بالأجود لباعه بالأدنى ولم يخلط المساوي، فخلطهما دليل على قصد المبايعة. وفرق اللخمي بأن الذهب يساوي ما كان منه من سكة واحدة قطعاً، بخلاف الطعام فإن الأعراض تختلف فيه. ابن عبد السلام: وبقي عليه إذا كان بعضه أردأ وبعضه مساوٍ، فأجازها أيضاً ابن القاسم ومنعها سحنون. خليل: وفيه نظر، لأنه إذا كان بعضه أجود وبعضه مساو لزم ببديهة العقل أنه من الجانب الآخر، أحدهما أدنى والآخر مساو- وهو واضح- فليس هما صورتين بل صورة واحدة، والله أعلم. و (بعضه) يحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء، و (أجود) خبره، ويحتمل أن يكون بدلاً من أحدهما فينصب أجود خبراً لكان.

والوزن بصنجة جائز، وقيل: في كفتين الصنجة- بفتح الصاد-: لفظ عربي، قاله الجوهري. ابن السكيت: ولا يقال سنجة. الجوهري: وكل ما استدار سمي كِفة- بكسر الكاف- ككفة الميزان وكفة الصائد وهي حبالته. ويقال أيضاً: كَفة بالفتح. وظاهر كلام المصنف: أن الخلاف في الجواز، وليس كذلك بل لا خلاف في جوازها، وإنما الخلاف في الأرجح. فقيل: الأول أرجح، وهو أن يزن أحدهما ثم يزن الآخر بالصنجة التي وزن بها الأول ليتحقق التماثل، سواء كان في الميزان عيب أو لا، وإليه ذهب صاحب البيان. وقيل: الثاني أرجح، وهو أن يضع هذا ذهبه من ناحية والآخر ذهبه من الناحية الأخرى لسرعة التناجز. وفي اعتبار زيادة السكة والصياغة كالجودة طريقان: الأولى ثالثها الصياغة خاصة .... قد تقدم أن الجودة يدور بها الفضل من الجانبين ولا خلاف في ذلك. واختلف هل تعتبر السكة والصياغة كالجودة على طريقين. الأولى: فيها ثلاثة أقوال، الأول: يعتبران، لأن الغرض يتعلق بهما كالجودة، كالعرضين مع التعيين، وهو الظاهر. الثاني: لا يعتبران، لأن الشرع إنما طلب المساواة في القدر خاصة، وهو منقوص بالجودة، وهو قول القابسي، واختاره ابن يونس. ابن عبد السلام: وفهم الأكثرون المدونة عليه، ومنهم من تأولها على الأول.

الثالث: اعتبار الصياغة دون السكة، لأن الصياغة مقصودة لنفسها دون السكة، فإن المقصود فيها إنما هو العلامة. الثانية: تقييد الأقوال باتحاد العوضين واعتبارهما إذا اختلف العوض يعني: أن أصحاب الطريقة الثانية يرون أن الخلاف المذكور إنما هو إذا اتحد العوضان، وأما إن اختلفا حتى يقوى اختلاف الأغراض فيهما فيتفق على اعتبارهما إلحاقاً بالجودة. وهكذا نقله ابن شاس وعليه مشاه ابن راشد وغيره، وعكس ابن عبد السلام هذا التقييد [448/ب] ولعله سهو. المبادلة لقب في المسكوكين عدداً أي: لقب في بيع المسكوكين عدداً بشرط اتحاد النوع. وهي جائزة في العددي دون الوزني يعني: فلا تجوز إلا في الدنانير والدراهم إذا كان التعامل بها عدداً، وهو مراده بالعددي. أما لو كان التعامل بها وزناً لم يجز إلا بالوزن فتعود مراطلة، وكان الأصل منعها، إلا أنهم رأوا أنه لما كان التعامل بالعدد أن النقص يجري مجرى الرداءة والكمال يجري مجرى الجودة، ولأنه لما كان النقص حينئذ لا ينتفع به صار إبداله معروفاً، والمعروف يوسع فيه ما لم يوسع في غيره، وبخلاف التبر وشبهه. ولا يقال هذا تكرار مع الأول، لأن الأول أفاد أن المبادلة بيع مسكوك بمسكوك عدداً، وهو أعم من أن يكون التعامل في ذلك المسكوك وزناً وعدداً، والثاني أفاد اشتراط أن يكون التعامل بينهم فيه بالعدد لا بالوزن. واللخمي: ويشترط في الجواز أن تكون السكة واحدة.

ويجوز إبدال القليل بأوزن منه يسيراً للمعروف والتعامل بالعدد أي: إذا كان التعامل بينهم بالعدد جاز بدل الناقص بالوازن، بشرط أن يكون ذلك في القليل وأن يكون دافع الأكثر قصد المعروف في حال كون التعامل بالعدد. ورأوا أن قصد المعروف يخصص العمومات كما في القرض، ألا ترى أن بيع الذهب بالذهب نسيئة ممتنع، فإذا كان على وجه القرض جاز. واحترز بالقليل من الكثير فلا يعتبر ذلك، وبالوزن من الزيادة في العدد فلا يجوز، وباليسير مما لو كان أوزن منه كثيراً، لأن اليسير هو الذي يسمح به في العادة غالباً، فلذلك قصروا الجواز على الرجحان اليسير في العدد اليسير. والثلاثة قليل، والسبعة كثير، وفيما بينهما قولان أي: فلا يجوز بدل سبعة بأوزن منها، لزيادته على ضعف أقل الجمع، ويجوز ذلك في الثلاثة اتفاقاً لأنها أقل الجمع. ومذهب المدونة فيما بينهما على ما في الأمهات الجواز، فإنه أجاز له أن يبدله ستة تنقص سدساً بستة وازنة على المعروف، والقول الآخر في الموازية. وأصلح سحنون المدونة عليه، وجعل موضع الستة الثلاث. ومن شرط المبادلة أن تكون بلفظ المبادلة وأن تكون بغير مراطلة، وأن تكون واحداً بواحد احترازاً من واحد باثنين. واليسير: سدس في الدينار، وقيل: دانقان الدانقان: الثلث. وفي الجواهر: الدانق: السدس. والأنقص أجود ممتنع باتفاق أي: لا يجوز أن يبدل الناقص الأجود بالأكمل الأردأ اتفاقاً، لدوران الفضل من الجهتين.

وإلا فجائز باتفاق أي: وإن لم يكن الأنقص أجود بل كان متساويا جاز، لتمحض الفضل من جهة واحدة. وأورد ابن عبد السلام إذا كان الأوزن أجود فإن كلامه يدل على أنه متفق عليه، ونص الباجي على أنه مختلف فيه. وأجيب بأنه لما لم يكن بين الأزيد والأجود سكة وبين الأزيد والأجود جوهراً فرق اكتفى بذلك الخلاف. والأزيد أجود سكة جائز عند ابن القاسم، ممتنع عند مالك وهو مشكل، وعلل بأن السكك يختلف نفاقها فيمتنع كما منع القمح عن الشعير قبل الأجل في القرض .... يعني: أن ابن القاسم أجاز بدل الأوزن الأجود سكة كضرب ملك الوقت لتمحض الفضل من جهة، ومنعه مالك وربيعة، واستشكل لانحصار الفضل من جهة. وعلل أبو الطيب ابن خلدون قول الإمام بأن السكك تختلف فيها أغراض الناس بحسب البلدان والأزمان، فربما كان الأدنى في بلد أو في زمان أنفق فلا يتمحض الفضل. وقاس المصنف ذلك على منع اقتضاء القمح عن الشعير قبل الأجل في القرض وإن كان القمح أفضل، لأن الشعير قد يرغب فيه في وقت أو بلد. وعللها القابسي بأن الأصل منع التفاضل بين الذهبين. فخض الإجماع ببدل الناقص بالوازن من سكة واحدة وبقاء ما سواه على الأصل. والقضاء بالمساوي، والأفضل صفة جائز القضاء: أداء الدين، ثم لا يخلو أن يكون عن قرض أو عن ثمن مبيع. والكلام الآن على الأول، وأما الثاني فسيأتي، ولا شك في جواز التساوي.

وأما الأفضل صفة، فالأصل في جوازه ما في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام استسلف بكراً فقدمت عليه إبل من الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكراً، فرجع إليه وقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه إن خير الناس أحسنهم قضاء. ولهذا أجاز أصحابنا إذا كان التعامل بالعدد لمن استسلف عشرة دراهم ناقصة أو أنصافاً يقضيه عشرة دراهم كاملة بغير خلاف. فإن قيل: لا دلالة فيه لأنه عليه الصلاة والسلام اقترضه للمساكين، وإلا فلو اقترضه لنفسه لما أعطاه من الصدقة لكونها لا تحل له، وعلم صلى الله عليه وسلم أن المقرض مسكين فأعطاه الزيادة لفقره. قيل: التعليل ينافيه، لكن قد يقال: ظاهر التعليل يقتضي جواز الزيادة في الوزن والعدد. فإن قلت: زيادته صلى الله عليه وسلم رخصة والأصل عدمها، ولا يصح القياس على الرخص على الصحيح. قيل: لم نتمسك بالقياس وإنما تمسكنا بعموم النص. والله أعلم. وبالأفضل مقداراً، لا يجوز إلا في اليسير جداً، وقال أشهب: مطلقاً أي: فإن قضاه أجود قدراً فلا يجوز إلا أن تكون الزيادة يسيرة جداً، كما قال ابن المواز، مثل رجحان الموازين. [449/أ] وقال أشهب: تجوز الزيادة اليسيرة، أي: مطلقاً، سواء كانت الزيادة اليسيرة مقيدة بحد أو لا. وكذا نقل اللخمي: والمازري، وابن يونس، وابن شاس وغيرهم عن أشهب، وإنما نقلوا في الزيادة مطلقاً كثيرة كانت أو قليلة الجواز عن عيسى بن دينار وابن حبيب، وفسر أشهب في الموازية الزيادة اليسيرة بزيادة إردب أو إردبين في المائة، أو درهم أو درهمين فيها. وهذا تقييد زيادة في القول الأول كما ذكرناه.

وقوله: (وبالأفضل مقداراً) يريد في الوزن، وأما الأفضل عداً فلا، وإن كان ظاهر لفظه يتناوله، لأن المشهور لا تجوز الزيادة في العدد. قال في الرسالة: ومن رد في القرض أكثر عدداً في مجلس القضاء، فقد اختلف في ذلك إذا لم يكن فيه شرط ولا وأي ولا عادة إلى أن قال: فأجازه أشهب وكرهه ابن القاسم ولم يجزه. وظاهره أنه يجوز عند أشهب مطلقاً، وقد يتمسك بهذا في أن أشهب يجيز زيادة القدر مطلقاً، لأنه إذا جاز في العدد فأحرى في الوزن. لكن نقل ابن زرقون قول أشهب وبين فيه أن أشهب إنما يجيز الزيادة اليسيرة في العدد. وبالأقل صفة ومقداراً جائز بعد الأجل ممتنع قبله جاز بعد الأجل لأنه حسن اقتضاء، ومنع قبله لأنه ضع وتعجل. فإن كل الفضل في الطرفين منع وفاقاً كالمراطلة مثاله: لو اقتضى تسعة محمدية عن عشرة يزيدية، فإنه يمنع سواء كان بعد الأجل أو قبله، لأنه ترك فضل العدد لفضل المحمدية وهو ظاهر. وثمن المبيع من النقود كالقرض يعني: أن من باع سلعة بدنانير أو بدراهم أو بعين غير مسكوكة، فإنه يعتبر في قضاء ثمن تلك السلعة مما يجوز ويمتنع ما اعتبر في قضاء القرض إلا ما خصصه من جوازه بأكثر. واعترضه ابن عبد السلام بأن إطلاقه القضاء في القرض وتخصيصه في القرض وتخصيصه ثمن المبيع بالنقود لا يصح، لإيهامه عموم حكم القرض بالنسبة إلى العين والطعام وخصوص الثمن بالنقود، وليس كذلك، بل هما متساويان. ورد بأن تخصيص المصنف صواب، لأن قضاء الأفضل قبل الأجل في البيع ممتنع، سواء كان عرضاً أو طعاماً، لما فيه من حط الضمان وأزيدك قولاً واحداً، بخلاف القرض فإنه جائز إلا أن يكون الفضل في

النوعية، كأخذ سمراء عن محمولة قبل الأجل فيه خلاف في المدونة وغيرها. فقد تبين الاختلاف في الطعام إذا كان ثمناً وإذا كان قرضاً، فلهذا خصصه المصنف بالنقود كابن بشير وابن شاس. ولم يختلف في جوازه بأكثر مقداراً لأنه حسن قضاء، وفي القرض سلف جر منفعة فافترقا. والسكة والصياغة في القضاء كالجودة اتفاقاً يعني: أن حكمها إذا كانا في مقابلة التبر والقراضة حكم الجودة بالاتفاق، فحيث يمتنع فيها يمتنع هنا. مثاله: لو كان عنده عشرة مسكوكة أو مصوغة فاقتضى عنها عشرة تبراً أطيب. ابن راشد: وإنما اتفقوا على اعتبارهما في القضاء واختلف فيهما في المراطلة، لأن المراطلة لم يجب لأحدهما قبل الآخر شيء فيتهم في ترك الفضل لأجل ما أخذ، وها هنا قد وجب له أخذ ذهب مسكوك أو مصوغ، فإذا أخذ عنه تبراً أجود فيتهم أن يكون ترك فضل السكة أو الصياغة لفضل الجودة. والاتفاق الذي حكاه المصنف إنما هو فيما بين المسكوك أو المصوغ والتبر لا فيما بين المصوغ والمسكوك، لأنه اختلف في جواز اقتضاء المسكوك من المصوغ على قولين حكاهما ابن عبد السلام وغيره. وخرج اللخمي مما إذا باع أو أسلف قائمة وزناً جاز أن يقضي مجموعة وزنها إلغاءهما، ورده ابن بشير بأن التعامل بالوزن يلي معه العدد .... يعني: وخرج اللخمي إلغاء السكة والصياغة من مسألة المدونة، وهي: إذا باع قائمة بالوزن أو أسلف قائمة بالوزن جاز أن يأخذ مجموعة بوزنها، لأنه قد ألغى الجودة، إذ لو

اعتبرها لمنع اقتضاء المجموعة من القائمة، لأن القائمة فضلت المجموعة بالجودة، والمجموعة فضلتها بالعدد. و (إلغاءهما) مفعول خرج، و (قائمة) يتنازعه: باع وأسلف وأعمل فيه أسلف، و (وزناً) حال. واعترض ابن عبد السلام التخريج بأن دوران الفضل إنما يكون حيث يكون في كل منهما ما ليس في الآخر وليس هنا كذلك، إذ القائمة والمجموعة مشتركتان في السكة. ولئن سلم هذا التحريم في السكة فلِمَ قلت: إنه يلزم مثله في الصياغة، فإن الأمر فيها أشد عند بعضهم كما تقدم. ورد بوجهين. الأول: بأن الجهتين هنا كما ذكرنا. والثاني: بأنه إنما يرد لأجل أن المصنف لم يذكر الصورة التي خرج منها اللخمي إلغاء الصياغة، ولو ذكرها لم يأت. وهي: من أصدق زوجته مائة دينار ثم قضى وزونها من الحلي، فمنع ذلك في الموازية، قال فيها: ويفسخ إن قوع، لأن الدنانير لها فضل السكة وليس ذلك للحلي، وللحلي فضل الصياغة وليس ذلك للدنانير. وأجاز ذلك في مختصر ابن عبد الحكم، بناء على إلغاء الصياغة والسكة، وعلى ذلك خرج اللخمي. ورد ابن بشير تخريج اللخمي بأن العدد يعتبر إذا كان التعامل به، وأما إذا كان التعامل بالوزن فلا، لأن العدد حينئذ مطرح، لأنه لما ترتبت في الذمة بالوزن فلم يدخل إلا عليه. ابن عبد السلام: وهذا الرد ضعيف، لأنه عير محل النزاع، لأن كلام اللخمي إنما هو في السكة والصياغة لا في العدد. ورد بأن اللخمي استقرأ إلغاء السكة بناء على اعتبار العدد، لأن الفضل إنما يدور من جهتين إذا كان العدد معتبراً، فرده ابن بشير بأن العدد هنا غير معتبر فلم يدر الفضل من جهتين. لكن صورة الموازية والمختصر لا يتصور [499/ب] فيهما هذا الرد.

ولو قطعت الفلوس، فالمشهور المثل أي: لو باعه بفلوس أو أسلفه فلوساً فقطع التعامل بها، فالمشهور أنه لا يلزمه إلا مثلها، لأنها من المثليات. وذكر ابن بشير أن الأشياخ حكوا عن كتاب ابن سحنون أنه يقضي بقيمتها، وظاهره بقيمة الفلوس. لكن حكى بعضهم عن كتاب ابن سحنون أنه يتبعه بقيمة السلعة، وعلى هذا فالشاذ في كلامه متنازع في معناه. لكن ذكر المازري عن شيخه عبد الحميد أنه أوجب قيمة الفلوس، لأنه أعطى شيئاً منتفعاً به لأخذ منتفع به فلا يظلم بأن يعطي ما لا منفعة فيه. وألزمه اللخمي عليه أن لمن أسلم في طعام ثم صار الطعام لا يساوي شيئاً له قدر أن يبطل السلم. وأجاب المازري بأن الأصل في السلم ألا يجوز، لأنه بيع ما ليس عندك، ولكن رخص فيه لأجل الرفق، والارتفاق الذي هو سبب الرخصة إنما هو اختلاف الأسواق، ولهذا لم يجز مالك السلم الحال، فلو أثر اختلاف الأسواق في فسخه وهو السبب في جوازه وصحته لكان كالمتناقض بخلاف الدراهم والدنانير. فلو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم اعلم أن اجتماعهما لا يحصل إلا بالأخير منهما، وحاصله: إن كان الاستحقاق أولاً فليس له القيمة إلا في يوم العدم، وإن كان العدم أولاً فليس له القيمة إلا يوم الاستحقاق، وهذا كأقصى الأجلين في العدة. وما ذكره المصنف من وجوب القيمة يوم اجتماع الاستحقاق والعدم هو اختيار اللخمي وغيره. وقال بعض الشيوخ: تؤخذ منه القيمة يوم التحاكم، لأنها لم تزل في ذمته إليه.

وفيها: لا تقضي المجموعة من القائمة والفرادى، وتقضي القائمة منهما، وتقضى الفرادى من القائمة دون المجموعة .... نسبها للمدونة لإشكالها لما سيذكره من قوله: (ومقتضى) .... إلخ. وإنما لم تقض المجموعة من القائمة والفرادى، لأن القائمة والفرادى أطيب والمجموعة أكثر عدداً، فدار الفضل وأجاز اقتضاء القائمة منهما، لأن القائمة أوزن منهما فجاز اقتضاؤها منهما لانفرادها بزيادة فيهما. وبأن اقتضاء الفرادى من القائمة لانفراد القائمة بفضيلة الوزن، ولم يجز اقتضاء الفرادى من المجموعة لدوران الفضل، إذ الفرادى أطيب والمجموعة أكثر عدداً. اللخمي: وهذه الثلاثة في الاقتضاء على ثلاثة أوجه، فيجوز في القائمة والفرادى أن يقتضى بعضها م نبعض من غير مراعاة في الفرادى. ولا يجوز في الفرادى والمجموعة أن يقتضى بعضها من بعض على حال. ويجوز أن تقتضي القائمة من المجموعة ولا تقتضي المجموعة من القائمة. هذا قوله في الكتاب، والصواب جواز اقتضاء المجموعة من القائمة كما يجوز أن تقتضي القائمة منها. فالمجموعة: المجموع من ذهوب ومن وازن وناقص أخذ يفسر معاني هذه الألفاظ. وقوله: (من ذهوب) أي: ذهوب مختلفة من جيد ورديء، وكذلك قال ابن شاس. ولم يذكر في المدونة ولا غيرها في تعريفهما إلا الاختلاف في الوزن. والذهوب: جمع ذهب، ويجمع على أذهاب، قاله الجوهري. والقائمة: جيدة تزيد إذا جمعت أي: هي نوع واحد جيد، كاملة في قدرها إذا جمعت منها المائة تزيد قدر الدينار، وهذا في المدونة.

والفرادى: جيدة تنقص يسيراً إذا جمعت هي كالقائمة إلا أنها تنقص الدينار في المائة، وهي أجود من المجموعة وأردأ من القائمة، قاله المازري. فللقائمة فضل الوزن والجودة أي عليهما. وللمجموعة فضل العدد أي عليهما. وللفرادى فضل الجودة والعدد أي: لها فضل الجودة بالنسبة إلى المجموعة. أما العدد فليس كذلك، لأن عددها وعدد القائمة واحد، والمجموعة أفضل عدداً كما تقدم. ومقتضى منع المجموعة من القائمة منع القائمة منها، وفرق بأن المجموعة لما ثبتت في الذمة والاعتبار فيها بالوزن ألغي العدد فصار الفضل في جهة .... أي: ومقتضى منع اقتضاء المجموعة من القائمة منع اقتضاء القائمة منها، لأن للمجموعة فضل العدد وللقائمة فضل الوزن والجودة فدار الفضل. وقد قيل: يمتنع اقتضاء كل منهما عن الأخرى وقد ذكرنا أن اللخمي أجاز اقتضاء كل من الأخرى. وفرق ابن أبي زيد بأن المجموعة إذا تقدم ترتبها في الذمة فإنما دخل صاحبها على الوزن فقط، لأنه لم يترتب له عدد معلوم، ولو أعطاه أقل ما يمكن من العدد ما كان له أن يمتنع ولا يدري ما يعطيه، بخلاف ما إذا تقدمت القائمة في الذمة فإنه قد ترتب له عدد، فإذا قضاه مجموعة فإن النفس إذ ذاك تتشوف إلى زيادة العدد فافترقا.

المطعومات: ما يعد طعاماً لا دواء لما انقضى كلامه على النوع الأول من الربوي أتبعه بالكلام على النوع الثاني. وليس المارد بالمطعوم ما له طعم، بل الأخص وهو ما كان مقتاتاً مدخراً في زمنه في سائر الأقطار. ولا خلاف بين العلماء أن الحكم ليس مقصوراً على الأربعة المذكورة في الحديث الصحيح، أعني: قوله عليه الصلاة والسلام: ((البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، يداً بيد، مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)). واختلف في العلة، فقيل: المالية. فكل مالين من جنس واحد يحرم فيه التفاضل، فلا يباع ثوب [450/أ] بثوبين، ونسبه بعضهم لابن الماجشون. المازري: وأنكر بعضهم هذا النقل وأضاف الغلط لناقله. ومذهب الشافعي: أنها الطعم في الجنس الواحد. ومذهب أبي حنيفة: أنها الكيل مع الجنس. ومذهب ربيعة: أنها مالية الزكاة. وليس الغرض هنا الحجاج مع الخصوم ولا التطويل بالتوجيه والفروع، بل ذكر ما لابد منه مما يتعلق بكلام المصنف. العلة: الاقتيات، وفي معناه: إصلاحه. وقيل: الادخار. وقيل: غلبته. وقيل: الاقتيات والادخار، وعليه الأكثر. وقيل: أو التفكه والادخار، وأنكره اللخمي. وقال القاضيان: الاقتيات والادخار للعيش غالباً، وأنكره اللخمي انظر كيف قدم القول بالاقتيات وهو خلاف ما عليه الأكثرون، ولعله- والله أعلم- لما سيقوله أن لبن الإبل يقوي الاقتيات، يعني: أنه اختلف في العلة في مذهبنا. فقال القاضي إسماعيل، وابن بكير: العلة الاقتيات، خلاف ما عليه الأكثرون. وفي معنى الاقتيات إصلاحه ليدخل الملح والتوابل.

والقول بالادخار لابن نافع، وبغلبته لمالك، هكذا قال الباجي وغيره. ويظهر الفرق بين الادخار وغلبته في العنب الذي لا يزبب، والرطب الذي لا يثمر، فعلى الادخار يخرج وعلى غلبته يدخل. فما نسبه المصنف للأكثر عليه تأول ابن رشد مذهب الكتاب. وقوله: (وقيل: أو التكفه) يعني: أن هذا القائل يرى أن العلة الادخار مع الاقتيات أو مع التفكه، وذكره الأبهري عن بعض الأصحاب، فقال: من أصحابنا من يعلل الأربعة التي في الحديث بثلاث علل: فالبر مدخر، فكل مقتات مدخر فهو مردود إليه. والتمر متفكه مصلح للقوت، فكل ما وجد فيه ذلك فهو مثله. والملح مؤتدم، فكل ما وجد فيه ذلك فهو مثله. اللخمي: والقول بأن التمر متفكه غلط، لأنه كان بالمدينة أصلاً للعيش، وكذلك مدائن اليمن هو العمدة في أقواتهم، ويلزم القائل بأنه متفكه أن يسقط الزكاة منه أو يوجب الزكاة في الفواكه. والقاضيان ابن القصار، وعبد الوهاب. وتأول أبو جعفر القرطبي مذهب المدونة على مذهبهما. وأنكر اللخمي التعليل بكونه أصلاً للمعاش غالباً، قال: وإنما يحسن أن يكون هذا تعليلاً لوجوب الزكاة، ولهذا لم تجب الزكاة في الجوز واللوز وما أشبه ذلك. وفي الموطأ: أن الجوز ونحوه ربوي، وهو قول ابن حبيب. وفي المدونة ما يدل عليه، لأن فيها: وكل طعام أو إدام يدخر فلا يجوز التفاضل فيه إلا ما لا يدخر من رطب الفواكه، كالتفاح، والرمان، والخوخ، واللوز، والموز ولبن الإبل يقوي الاقتيات، وأجيب بأن دوام وجوده كادخاره، وبالخلاف في الموز .... يعني: أن اتفاق أهل المذهب على أن لبن الإبل ربوي دليل على أنه يكفي وصف الاقتيات فقط. وأجيب: بأنه وإن تخلف منه وصف الادخار لكن خلفه ما يقوم مقامه،

وهو دوام الوجود. وأجيب أيضاً: بأن الخلاف في الموز هل هو ربوي أو لا، وليس بمدخر إلا أن دوام وجوده يقوم مقام ادخاره. ومذهب المدونة والموطأ جواز التفاضل في الموز. قال في البيان: وهو الصحيح خلافاً لابن نافع. فما اتفق فيه وجودها فربوي كالحنطة، والشعير، والسلت، والعلس، والأرز، والدخن، والذرة، والقطاني، والتمر، والزبيب، واللحم، والملح، والزيتون، والخردل، والقرطم، وبذر الفجل لما يعتصر منها، والبصل، والثوم، وتردده في التين لأنه غير مقتات بالحجاز، وإلا فهو أظهر من الزبيب .... ابن عبد السلام: الضمير المضاف إليه (وجود) عائد على الاقتيات والادخار. وكأ، هـ وقع في نسخته: (وجودهما) على التثنية، وفيه نظر، فإن الموجود فيما بأيدينا من النسخ: (وجودها) ولأن غرض المصنف أن يجعل الأقسام ثلاثة: قسم اتفق على أنه ربوي. ومقابله. والثالث مختلف فيه. ولا يحصل الاتفاق بمجرد حصول الاقتيات والادخار، لأن من يشترط في الادخار أن يكون للعيش غالباً لا يكتفي بمطلقه. والذي يؤخذ من كلام ابن شاس أنه عائد على الثلاثة: الاقتيات والادخار والاتخاذ للعيش غالباً، فإنه قال: وينقسم الطعام ثلاثة أقسام: قسم اتفق أهل المذهب على أنه ربوي، فهو ما اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة فكان مقتاحاً مدخراً للعيش غالباً. خليل: ويمكن عوده على الستة، وعلى ذلك مشاه ابن راشد. فإن قيل: المصنف مثل بأشياء لم يتفق وجودها في بعضها كالملح والزيتون وما بعده. قيل: ينبغي أن يكون في الكلام حذف معطوف، أي: فما اتفق فيه وجودها أو كان مصلحاً للقوت.

ابن رشد: ويرد على المصنف، وابن شاس قول ابن القاسم في المستخرجة: إن كل زريعة تؤكل ويخرج من حبها طعام فلا تباع حتى تستوفى ولا يباع منها اثنان بواحد، وكل زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها ما يؤكل فتباع قبل أن تستوفى ويباع منها اثنان بواحد ويباع بعضها ببعض إلى أجل. فعلى هذا يباع حب الفجل الأحمر بعضه ببعض إلى أجل وهو خلاف ما في الجواهر. انتهى. والربوي- بكسر الراء- منسوب إلى الربا. والسلت: قال في المشارق: حب بين البر والشعير لا قشر له. الجوهري، والعلس: ضرب من الحنطة تكون حبتان في قشر، وهو طعام أهل صنعاء. والقطاني: مفرده قطنية، عياض: بضم القاف وكسرها وتسهيل الياء. والفجل: بضم الفاء، الجوهري: هو معروف واحده فجلة. [450/ب] وكذلك قال في الثوم: معروف. وذكر الجوهري في الأرز ست لغات: أَرُزٌّ تتبع الضمةُ الضمةُ. وأُرْزٌ، وأُرُزٌ، مثل: رُسْلٌ ورُسُلٌ. ورُزٌّ ورُنْزٌ. والخردل: بالدال المهملة. ابن قتيبة: ويقال: قُرطم وقِرطم بالضم والكسر، وهو حب العصفر. والأظهر في التين أنه ربوي لما قاله المصنف أنه فيه أظهر من الزبيب، وقد ذكر صاحب التلقين فيه خلافاً. وما لم يوجد فيه أحدها فغير ربوي، كالخس، والهندباء، والقضب، والفواكه التي لا تقتات ولا تدخر، وكذلك ما ليس بمطعوم كالصبر، والزعفران والشاهترج .... الخَس- بالفتح- معلوم. والهندباء: يمد ويقصر يقال: هندبة وهندبات بفتح الدال وهو البقل. والقضب: هو الفصفصا وهي من العلف.

وقوله: (والْفوَاكِهِ) أي: كالبطيخ والقثاء والأترج. الجوهري: والصِّبر: بكسر الباء هو الدواء المر، ولا يسكن إلا في ضرورة الشعر. ونقل ابن سحنون إجماع العلماء على أن الزعفران ليس بطعام، ويجوز بيعه قبل قبضه. وما اختلف فيه قد يكون كذلك كاللوز، والفستق، والجوز، والبندق، والجراد، لأنه يدخر ولا يقتات، أو لا يدخر للاقتيات .... الإشارة بذلك للخلاف في العلة، فإنه قد يوجد في الشيء أحد الأوصاف، فإن الجوز، واللوز، والبندق، والجراد يدخر ولا يقتات. المازري: المعروف من المذهب أن الجراد ليس بربوي خلافاً لسحنون. وذكر سند أن ظاهر المذهب أنه ربوي، واختاره اللخمي. ونسب اللخمي القول بأنه ليس بربوي لأشهب. وقوله: (لأنه يدخر ولا يقتات، أو لا يدخر للاقتيات) ابن راشد: والضمير في (لأنه) يحتمل أن يعود على الجراد لأنه أقرب مذكور، ويحتمل أن يعود على الجميع. وجوز فيه ابن عبد السلام وجهين: أحدهما: أن يرجع قوله: (لأنه يدخر ولا يقتات) لما قبل الجراد، ويرجع قوله: (أو لا يدخر للاقتيات) للجراد خاصة، لأنه يقتات ولا يدخر، لذلك فتكون (أو) للتفصيل. والثاني: أن تكون (أو) للإبهام ويكون القسمان راجعين إلى مجموع ما تقدم. والُستَق: بضم الفاء وفتح التاء. والبُنُدق: بضم الباء والدال، وفيه لغة أخرى بالفاء عوض الباء.

وكاللبن، لأنه يقتات ولا يدخر أي: أن اللبن مما اختلف فيه، لأنه مما وجد فيه الاقتيات دون الادخار. فإن قيل: قد ذكر أولاً ما يقتضي أنه غير مختلف فيه، لأنه لو كان الاختلاف حاصلاً فيه لما تمت له التقوية. وقد تقدم أنهم جعلوا دوام وجودة يقوم مقام ادخاره، فكيف يعده من المختلف فيه؟ فجوابه أن فيه خلافاً ولكنه ضعيف، وسيذكره المصنف، وهو قوله: (والمعروف أن اللبن مطلقاً ربوي) وذلك أن وجود الخلاف لا ينافي التقوية، وهذا الخلاف إنما هو في اللبن المخيض، كما سيأتي، وأما الحليب، والجبن بالجبن، والأقط بالأقط، والزبد بالزبد، والسمن بالسمن، فيمتنع التفاضل في ذلك بالاتفاق، صرح به اللخمي. وكالعنب الذي لا يزبب، والرطب الذي لا يتمر، لأنه يدخر غالبه ولا يدخر هذا ظاهر مما تقدم، ولما كان غالبه يدخر لا يلتفت إلى نادره. وكالرمان، والخوخ والكمثرى مما يدخر في قطر دون قطر، لأنه يدخر ولا يدخر غالبه، أو لا يقتات .... القول بأنه ربوي لابن نافع، وأجاز مالك في الموطأ التفاضل في الخوخ والرمان، والمشهور- وهو مذهب الكتان- جواز التفاضل في الخوخ والرمان وشبهه، بناء على اعتبار الادخار الغالب، وأنه لا يلتفت إلى الادخار النادر. والفرق بين هذين وبين العنب الذي لا يزبب: أن العنب غالبه يدخر وهذه على العكس، ولأن ذلك في المقتات وهذه في الفواكه. والكمثرى: بفتح الميم المشددة، والثاء المثلثة، الجوهري: الواحدة كمثرات، وهي نوع من الإجاص.

وقد يكون لتحقق العلة كالبيض، قيل: يدخر، وقيل: لا. وقيل: يقتات، وقيل: لا .... هذا الذي يقول الفقهاء فيه: خلاف في شهادة، وخلاف في حال. والمشهور في البيض أنه ربوي. وذكر ابن شعبان قولاً بجواز التفاضل فيه، واختار الباجي، وقال: إنه مقتات. وقال ابن بشير: ليس بمقتات. ونص المتيطي على أن القولين في علة البيض روايتان. محمد: والبيض كله صنف، بيض ما يستحيي وبيض ما لا يستحيي، وما يطير وما لا يطير. وكالسكر والعسل يعني: أنه مما اختلف فيهما لتحقق العلة هل هما إدامان أو دواءان. والأقرب في العسل أنه ملحق بالإدام، لغلبة هذا المعنى فيه في أكثر البلاد دون السكر. وقد نص في المدونة على أن السكر ربوي. وكالتوابل: كالفلفل، والكزبرة، والأنيسون، والشمار، والكمونين. قال ابن القاسم: مطعم مصلح للقوت مدخر، وقال أصبغ: دواء، بخلاف البصل والثوم عياض: الفلفل بضم الفاءين. الجوهري: والكزبرة بضم الباء وقد تفتح، وأظنه معرباً. وقال عياض: والكسبرة بضم الكاف والباء، ويقال بالزاي أيضاً. وكلامه ظاهر التصور. ونسب المصنف لأصبغ أن الفلفل وما عطف عليه دواء. قال بعض من تكلم على هذا الموضع: وليس كذلك، إنما حالف في الأنيسون والشمار والكمونين. ففي الموازية، قال ابن القاسم: والشمار والأنيسون صنف، وذلك كله من الطعام.

وقال أصبغ ومحمد: هذه الأربعة ليست من الطعام هي من الأدوية، وإنما التي من الطعام: الفلفل، والكرويا، والكسبرة، والقرفة، والسنبل. قال: وإنما وهمه في ذلك ابن شاس، فإنه ذكر التوابل ولم يعرف، ونسب الخلاف فيها إلى ابن القاسم وأصبغ. انتهى. وذكر المازري أنه اختلف في التوابل، قال: كالفلفل، والكمون، والكرويا هل هي من الربويات أم لا؟ وقوله: (بخلاف البصل الثوم) [451/أ] أي: أنهما لم يختلف في أنهما ربويان، لأنهما مصلحان للطعام، وهما جنسان مختلفان، حكاه ابن المواز عن مالك. وكالحبة وفيها: طريقان، الأولى: ثالثها الخضراء مطعوم، واليابسة دواء. والثانية: الثالث .... أي: ومما اختلف فيه لتحقق العلة الحلبة، وفيها طريقان، الأولى: وفيها ثلاثة أقوال: الأول لابن القاسم في الموازية: أنها طعام مطلقاً. الثاني لابن حبيب: أنها دواء مطلقاً. والثالث لأصبغ في الموازية: أن الخضراء طعام واليابسة دواء. ورأى بعض المتأخرين هذا التفصيل تفسيراً، وأن المذهب على قولٍ واحد. وعلى هذا فالخلاف في الحلبة إنما هل هي طعام أو دواء؟ لا في أنها ربوية أو لا، وكلام المصنف يوهم ذلك، لأنه إنما تكلم في الربوي. والله أعلم. وكالطلع، والبلح الصغير، وقيل: والكبير، ولم يختلف في البسر أنه ربوي اعلم أن الخلاف الذي في الطلع والبلح الصغير إنما هو هل هو طعام أو ليس بطعام؟ هكذا ذكر ابن شاس وغيره، ومذهب المدونة في البلح الصغير أنه علف، وإذا كان كذلك فالطلع أحرى.

وفي الموازية: لا بأس بالطلع متفاضلاً أو بصغير البلح، وكذلك الجمار. والطلع: طعام فلا يصح بالطعام يداً بيد، نقله ابن يونس. وكذا ذكر اللخمي الخلاف في البلح الصغير، فقال: اختلف فيه هل له حكم الطعام؟ فقال مالك: هو علف. وقال ابن القاسم: هو بمنزلة البقل. قال: وأرى أن ينظر للعادة فيه، فإن كانوا يريدونه للعلف واستعماله للأكل قليل فله حكم العروض، وإن كانوا يريدونه للأكل وغيره نادر وكان استعماله في كليهما كثيراً فله حكم الطعام. وأما البلح الكبير فليس الخلاف فيه هل هو طعام أو لا؟ وإنما الخلاف فيه هل هو طعام ربوي يحرم فيه التفاضل؟ ففي المدونة: لا يجوز إلا مثلاً بمثل وهو المشهور. وقال الشيخ أبو إسحاق: وليس هو بربوي، لأنه لا يدخر فأشبه الخضروات. اللخمي: وهو أحسن لأنه غير مدخر، فكذلك البلح الكبير بالبسر أو الثمر. قال مالك: لا خير فيه. وقال في مختصر ما ليس في المختصر: تركه أحب إلي، وعسى أن يجوز. قال: وهذا أقيس، لأنه قد يدخر ما ليس بمدخر. وإذا تقرر ما ذكرناه فكان ينبغي للمصنف ألا يخلط البلح الكبير مع الصغير والطلع، لأن الخلاف فيهما متباين كما ذكرنا. وخلطه لهما ملزم لأحد أمرين، لأن ظاهر كلامه أن في البلح الكبير طريقين، وإن أراد أن الطريقين في أنه طعام أو لا؟ فليس كذلك، لأنه طعام اتفاقاً، وإنما الخلاف هل هو ربوي أو لا؟ وإن أراد أن الطريقين فيه في أنه ربوي أو لا؟ وعليه حمله بعضهم فيبقى كلامه يفيد أن في البلح الصغير قولاً بأنه ربوي، وليس بموجود. والمعروف أن اللبن مطلقاً ربوي، وخرج اللخمي من المدونة من قوله: ويجوز سمن بلبن قد أخرج زبده، فقال: لو كان ربويا لكان من الرطب باليابس. ورده ابن بشير بأن السمن نقلته الصنعة والنار مقابل المشهور للخمي، فإنه رأى جواز التفاضل بين المخيض والمضروب. فإن قلت: لِمَ لَمْ يجعل مقابل المعروف تخريجاً؟ قيل: لأنه لو أراد ذلك لقال على المنصوص، كما هو الأغلب في كلامه.

فإن قلت: اللخمي إنما رأى ذلك اعتماداً على ما فهمه من المدونة. قيل: لا بل ذكر أولاً التخريج ثم ذكر بعد ذلك رأيه فيه، وسيظهر لك ذلك من لفظه. ومراد المصنف بالإطلاق، سواء كان لبن الإبل أو غيرها مضروباً أو غيره. ابن بشير: لم يختلف أهل المذهب في كون اللبن ربوياً على اختلاف أصنافه، وهو وإن كان لا يدخر على حالته فإنه يستخرج منه ما يدخر كالسمن والجبن. وقال اللخمي: لم يختلف في بيع المخيض بالمخيض، والمضرب بالمضروب متفاضلاً، لأنهما لا يدخران، فمن منع التفاضل فيهما منع أن يباع شيء منهما بحليب أو زبد أو سمن، لأنه كالرطب باليابس، ومن أجاز التفاضل أجاز بيع أحدهما بأي ذلك أحب، كان من الحليب أو غيره. قال، وقال مالك في المدونة: لا بأس بالسمن باللبن الذي قد أخرج زبده. وهذا لا يصح إلا على القول أن التفاضل بينهما جائز لا أنه كرطب باليابس. وأرى أن يجوز التفاضل بين المخيض والمضروب، لأنه مما لا يدخر. ومن منع ذلك. حمله على الأصل. انتهى. ورد ما أشار إليه اللخمي من التخريج أنه إذا ثبت له أنه ربوي قبل إخراج زبده لكونه مقتاتاً وكون دوام وجوده كادخاره، فلا يزيل عنه إلا زوال ذلك الوصف. نعم لو ثبت له حكم الربوية، لأنه مشتمل على الزبد أمكن زوال الحكم بزوال الزبد. قوله: (ورده ابن بشير) يعني: رد ابن بشير ما خرجه اللخمي من هذه المسألة أن السمن صار بالصنعة والنار كجنس آخر وسيأتي ذلك. وتبع المصنف في نسبة هذا لابن بشير ابن شاس، وليس هو في تنبيهه ولعله في غيره.

ووهما فإن بعده فأما بلبن فيه زبد فلا أي: وهم اللخمي في تخريجه، وابن بشير في رده، لأن بعد اللفظ الذي خرج منه اللخمي: (فأما بلبن فيه زبد فلا) فأما وهم ابن بشير فظاهر، لأن السمن لو نقلته الصنعة لجاز باللبن الذي فيه الزبد. وأما وهم اللخمي منه ففيه بعد، ولهذا وقع في بعض النسخ (ووهم) بالإفراد. ووجهه على (بعده) أن ترتيب المنع على وجود الزبد فيه، لقوله: (فيه زبد) دليل على أن المنع لأجل الزبد لما يؤدي إليه من المزابنة، وحينئذ يكون من باب الرطب باليابس، إذ لا يعلم [451/ب] مقدار الأجزاء التي فيه من الزبد لو تجمعت هل هي مساوية لأجزاء السمن المجموعة أم لا؟ وليس كذلك إذا لم يكن فيه زبد، لأنه ليس فيه ما يتقى منه المزابنة المقتضية للمنع مطلقاً، إلا أنه لا يجوز به متفاضلاً كما توهم اللخمي. والمعروف أن الماء ليس بربوي يجوز فيه التفاضل والنسيئة. وخرجه عبد الوهاب على غير المشهور في منع بيع الماء بالطعام إلى أجل يعني: أن المشهور جواز بيع الماء بالطعام إلى أجل، ومنعه ابن نافع، وخرج عبد الوهاب قولاً بمنع التفاضل فيه من قول ابن نافع، لأنه لما دخل فيه ربا النساء دخل فيه التفاضل. ووهم بأن هذا حكم الطعام غير الربوي أيضاً هذا التوهيم للمازري، ووجهه: أن ربا النساء أعم من ربا التفاضل فلا يلزم من وجود ربا النساء الذي هو الأعم وجود ربا الفضل الذي هو الأخص، ألا ترى أن الخس ونحوه يمتنع بعضه ببعض إلى أجل.

واختلاف الجنسية يبيح التفاضل، والمعول في اتحادها على استواء المنافع وتقاربها .... لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)). ثم ذكر ضابط الجنس الواحد والجنسين الواحد والجنسين، فإن كان الطعامان يستويان في المنفعة كأصناف الحنطة أو يتقاربان كالقمح والشعير كانا جنساً، وإن تباينا كالتمر مع القمح كانا جنسين. فمنه ما اتفق على جنسيته، كأنواع الحنطة وأنواع التمر وأصناف الزبيب هذا ظاهر. وكلحوم دواب الأربع مطلقاً أي: إنسية كانت أو حشية، صغيراً أو كبيراً. وكلحوم الطير أي: أنها صنف واحدٌ إنسيتها ووحشيتها، لتقارب منافعها. وكدواب الماء أي: كذلك صنف واحد. وكالجراد أي: جنس مفرد على القول بأنه ربوي وقد تقدم، وقيل: إنه من جملة الطير. وكالألبان مطلقاً، وإن لم تتساو في وجود الزبد والجبن أي: فإنها جنس، والجبن: بسكون الباء وهي الفصحى، ذكرها صاحب الفصيح. ويقال: جبن بضم الباء والنون مع تخفيفها وتشديدها.

ومنه ما اتفق على اختلافها كبعض ما ذكر مع بعض أي: كبعض ما ذكر أنه متحد مع غير جنسه ونوعه، كالتمر مع الزبيب. ومنه ما اختلف فيه، كالقمح والشعير المنصوص الجنسية لتقارب منفعتهما في القوتية .... مقابل المنصوص اختيار السيوري وتلميذه عبد الحميد أنهما جنسا، وهو مذهب الشافعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم)) ووجه المصنف المشهور بقوله: لتقارب منفعتهما في القوتية، ودليله ما في مسلم عن معمر بن عبد الله: أنه أرسل غلامه بصاع من قمح، فقال: بعه، ثم اشتر به شعيراً. فذهب الغلام وأخذ صاعاً وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمراً فأخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذ إلا مثلاً بمثل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الطعام مثلاً بمثل)) وكان طعامنا يومئذ الشعير. قيل: فإنه ليس مثله، قال: فأنا أخاف أن يضارع. مالك في الموطأ بعد أن ذكر ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن الأسود، ومعيقيب الدوسي- رضي الله عنهم- مثله: أنه الأمر عندنا. ومثله السلت، وقيل: والعلس أي: السلت ملحق بالقمح والشعير، ولعله إنما فصله عنهما لعدم تحقق قول السيوري فيه. والمشهور أن العلس لا يلحق بالثلاثة، وهو قول المصريين، وضمه المدنيون إليها. بخلاف الأرز، والذرة، والدخن على المشهور أي: أن المشهور أن الأرز وما ذكر معه لا يضم إلى القمح، والشاذ لابن وهب، وهو بعيد.

ثم في جنسيتها قولان أي: إذا فرعنا على المشهور من أنها مباينة لما تقدم، فهل هذه الثلاثة جنس واحد أو أجناس؟ المازري، والمتيطي: والمشهور أنها أجناس. ونقل عن ابن وهب أنها جنس. واختلف في القطاني، فقيل: جنس، وقيل: أجناس، وقيل: الحمص واللوبيا جنس، والبسيلة والجلبان جنس .... الحمص: قال ثعلب: الاختيار فيه فتح الميم. وقال المبرد: هو بكسر الميم. وذكر المصنف ثلاثة أقوال: القول بأنها كلها جنس واحد، رواه ابن وهب. والقول بأنها أجناس، رواه ابن القاسم وهو المشهور. والقول الثالث في الجلاب، ونسب لابن القاسم وأشهب. وروى أشهب عن مالك: أن الحمص والعدس صنف واحد وسائر القطاني أصناف. والكرسنة: قيل: من القطاني، وقيل: لا القول بأنها منها لمالك في التعبية، والآخر لابن حبيب. واختلف في الأمراق باللحوم المطبوخة المختلفة، والمشهور أنها جنس لا شك أن المطبوخة صفة للحوم، والمختلفة الأحسن جعلها صفة للأمراق، ويكون بمعنى أنه اختلف في اللحوم إذا طبخت بأمراق مختلفة، والباء بمعنى مع، فالمشهور أن ذلك جنس. قال في المدونة: والمطبوخ كله صنف وإن اختلفت صفة طبخة كقلية بعسل وأخرى بخل أو لبن، يعني: وكذلك إذا اختلفت اللحوم. ومقابل المشهور للخمي قال: القياس جواز التفاضل لتباين الأغراض. ويجوز أن تكون المختلفة صفة للحوم ويصير المعنى: أنه اختلف اللحمان من جنسين مختلفين كلحم الوحش ولحم الطير هل يصيبر بالطبخ جنساً واحداً أو لا؟

وقلنا: الوجه الأول أحسن، لأن المسالة منقولة عنه في الدواوين عليه. وتكلم في الجواهر على الصورتين، [452/أ] فقال: المذهب أن الأمراق واللحوم المطبوخة صنف، ولا يلتفت إلى اختلاف اللحوم ولا اختلاف ما يطبخ به. وتعقب هذا بعض المتأخرين ورأي أن الزبرباج يخالف الطباهجة، وكذلك ما يعمل من لحم الطير مخالف لما يعمل من لحم الغنم. واختار ابن يونس أن اللحمين المختلفي الجنس إذا طبخا لا يصيران جنساً واحداً. والباء في الأمراق للمصاحبة كما تقدم. باللحوم، أي: تعاوضا لحمين مع كل واحد منهما مرق. ولا ينبغي أن تكون سببية لإيهامه أن التعاوض في المرقتين وليس هو مراده، وكذلك لا يجوز أن تكون للعوض، لأنه يلزم أن يكون المعنى أنه اختلف في التعاوض بين اللحم وحده مع المرق وحده وليس هو مراده. واعلم أن ظاهر المذهب جواز بيع المطبوخ وزناً، وهو الذي يؤخذ من المدونة. سند: وعلى قول ابن حبيب يمنع القديد بالقديد، والمشوي بالمشوي، لا يجوز المطبوخ بالمطبوخ لاختلاف تأثير النار. وعلى الجواز، فهل تراعى المثلية في الحال أو حال كون اللحم ينافيه، قولان، وإن راعينا المثلية في الحال. سند: وهو الظاهر. فمذهب ابن أبي زيد القيرواني: أن الأمراق داخلة في حكم اللحم وأنها معها جنس واحد، فإنه قال: يتحرى اللحمان وما يتبعهما من المرق، لأن المرق من اللحم. قال: وكذلك الهريسة بالهريسة. وقال غيره: إنما يتحرى اللحم خاصة حيث كان نيئاً ولا يلتفت إليه بعد ذلك ولا إلى ما معه من المرق. وصححه عبد الحق وأيده بتحري الخبز بالخبز، والعجين بالعجين أنه يتحرى ما دخلها من الدقيق ولا يراعى تماثل الأعيان الآن. وأما ما يطبخ تبعاً مع اللحم فضربان: ضرب له بعد الطبخ عين قائمة، كاللفت والباذنجان، فابن أبي زيد يجعله تبعاً لحكم اللحم- وقد تقدم قوله في الهريسة- وغيره يقول: لا يباع مع اللحم ولا يتبعه، لأنه لحم وبقل بلحم وبقل.

ويجوز بيع بعضه ببعض متماثلاً ومتفاضلاً إن كان من البقول غير المدخرة، وإن ادخر كالبصل والثوم فلا يباع منها متفاضلاً. وضرب ليس له عين قائمة، فمن أصحابنا من يعطيه حكم اللحم، ومنهم من يعطيه حكم الماء، لأنه في أصله جنس غير اللحم فلا يتغير بطبخه معه. واختلف في التوابل أنها ربوية، والمشهور أنها أجناس، وقال ابن القاسم: الأنيسون والشمار جنس، والكمونان جنس وأنكره الباجي التوابل: جمع تابل بفتح الباء. وتبع المصنف في تعيين المشهور ابن شاس، وهو مقتضى النقل، ففي ابن يونس أن ابن القاسم قال في الموازية: الفلفل، والقرفاء، والسنبل، والكسبرة، والقرنباد وهو الكرويا، والشونين وهو الكمون الأسود، والملح هذا كله طعام لا يباع إذا اشترى على الكيل والوزن حتى يستوفى، ولا يصلح منه اثنان بواحد إلا أن تختلف الأنواع. ابن المواز، قال ابن القاسم: ومثله الشمار، والأنيسون، والكمونان كلها صنف واحد وهو طعام. وقال أصبغ، ومحمد في هذه الأربعة أصناف: أنها ليست بطعام وهي من الأدوية. قال أشهب، قال مالك: كل واحد من ذلك صنف. انتهى. فما رواه أشهب عن مالك مؤيد لما شهره المصنف أنها أجناس. ومقابل المشهور في كلامه يحتمل أن يريد به قول ابن القاسم، ويحتمل أن يريد به أنها كلها جنس. وأنكره الباجي- أي: قول ابن القاسم- وفي بعض النسخ: (وكرهه) وهي بمعناها. وليس المراد الكراهة التي تقابل الإباحة. ولفظه في المنتقى بعد أن حكى قول ابن القاسم: والأظهر عندي أن تكون أجناساً لاختلاف منافعها وتباين الأغراض فيها، وأنها لا تتمازج في منبت ولا محصد، ولا يجزئ بعضها عن بعض في شيء، وإنما يجمعها اسم الكمون، وليس بظاهر في الكمون الأسود، لأن اسم الشونين فيه أظهر لفظاً وأكثر استعمالاً. قوله: (على أنها ربوية) أي: على قول ابن القاسم المتقدم.

واختلف في الأخباز المختلفة الحبوب، وفي الخلول أما الأخبار، ففيها ثلاثة أقوال، الأول: أنها كلها صنف. ابن رشد: وهو المشهور. الثاني: أنها تابعة لأصولها، وهو قول البرقي. والثالث: أن خبز القطاني صنف وخبر غيرها صنف، ونسب لان القاسم وأشهب. والمعروف من المذهب أن الخلول صنف لاتحاد المنفعة، والمشهور: أن الأنبذة أيضاً جنس، خلافاً لأبي الفرج. واختلف في الخبز والكعك بالأبزار، والمذهب أنهما جنسان الأبزار راجعة إلى الكعك. وذكره الخلاف أولاً مع ذكر المذهب ثانياً فيه إشارة على أن القول بأنهما جنس، إما اختيار أو تخريج، وهو كذلك. قال ابن شاس، قال بعض المتأخرين: وانظر هذا، أي: كونهما جنسين مع قولهم أن الألوان كلها صنف، ومقتضى هذا أن يجعل الكعك والخبز صنفاً واحداً. ومفهوم كلامه أنه لو كان الكعك بغير أبزار لكان مع الخبز جنساً واحداً. وألحق اللخمي بالأبزار ما إذا كان يده، قال: لأن الزيت ينقل الطعم كما ينقل الأبزار. خليل: والظاهر أن الكماج حكمه حكم الخبز، لأنه الكعك الذي لا أبزار فيه. والصنعة متى كثرت أو طال الزمان نقلت على الأصح، لأن المصنوع يصير معداً لغير الأصل كالتمر وخله، والزبيب وخله .. لما ذكر أن الجنس [452/ب] الواحد من الربوي لا يجوز فيه التفاضل، أتبعه بأن الصنعة إذا كثرت أو طال الزمان تنقل على الأصح، لأن المصنوع يصير معداً لغير الأصل، ومثل المصنف ذلك بالتمر وخله.

وقد حكى الباجي واللخمي هذا الخلاف، وعزا الباجي الشاذ للمغيرة، وزاد عن ابن الماجشون ثالثاً بالجواز في اليسير دون الكثير للمزابنة. واستبعد ابن عبد السلام وجود الخلاف، قال: ولا يلزم من وجود الخلاف في هذين المثالين وجوده في القاعدة لاحتمال أن يكون مبيناً على خلاف في شهادة. وقد يقال: هذا لا يلزم، لأنه تابع لابن شاس، وابن بشير في حكاية الخلاف. وعبر بالأصح عن المشهور، لكن لم يذكر الخلاف إلا في الطول، وعلى هذا فيكون الأصح راجعاً إلى الطول فقط، ويمكن أن يرجع لهما لما حكاه ابن زرقون عن ابن نافع: أنه لا يجوز القمح أو الدقيق بالخبز. وعن ابن عبد الحكم: أنه لا يجوز اللحم النيئ بالمطبوخ بحال، وإن طبخ بأبزار أو خل. ومتى قلت بغير نار لم تنقل على الأصح، كالتمر ونبيذه، والزبيب ونبيذه قال في المدونة: سألت مالكاً عن النبيذ بالتمر، قال: لا يصلح. والعصير مثله. وغيره: الأصح ليس نصاً بل أشار الباجي إلى أخذه من رواية أبي زيد عن ابن القاسم في الفقاع بالقمح أنه لا يجوز لتغيير الطعم. وأجاب سند: بأن الفقاع قد انتقل بما فيه من كثرة الصنعة والتوابل. والمشهور أن نبيذ التمر والزيت صنفان، والزيوت أصناف هذه الجملة وقعت في بعض النسخ ونحوه لابن شاس، وهو وهم، بل مذهب المدونة وهو المشهور على ما قاله المازري: أنهما صنف واحد. ونقل الباجي، واللخمي، والمازري ما شهره المصنف عن أبي الفرج. وما ذكره من أن الزيوت أصناف هو كذلك في المدونة، وعلله باختلاف منافعها، أي: لأن منافعها مختلفة وليست كالخلول واللحم.

اللخمي: والعسول أصناف، قال: ويجوز التفاضل في زيت الكتان لأنه لا يراد للأكل غالباً، ويجوز بيعه بزيت الزيتون نقداً أو إلى أجل، ويجوز التفاضل في زيت اللوز لأنه لا يراد للأكل غالباً، وإنما يراد للعلاج ويدخل في الأدوية، وكذلك الجوز. والمذهب أن الطحن والعجن لا ينقل قال سند: ذهب عامة الفقهاء إلى أن القمح بدقيقه جنس واحد، إلا أبا ثور فإنه جعلهما جنسين وجوز فيهما التفاضل، ووافقه المغيرة من أصحابنا واحتج باختلافهما في الاسم، وأنه لو حلف ألا يأكل دقيقاً لم يحنث بأكل القمح، وكذلك العكس. فلعل المصنف عبر المذهب عن المعروف، كما في قوله: والمذهب أنهما جنسان. وإن كانت بنار لمجرد تجفيف لم تنقل، وإن كانت بزيادة أبازير كشي اللحم بها، أو تجفيفه بشمس بها، أو طبخه بماء أو غيره، أو خبز الخبز فناقل .... قوله: وإن كانت- أي: الصنعة- بمجرد تجفيف- أي: كشي اللحم- بلا أبازير، فإن ذلك لا ينقل ليسارة الصنعة، وفيه إشكال، لأن المقصود منه حينئذ غير المقصود من غير المشوي. وإن كانت الصنعة بزيادة أبازير كشي اللحم بها- أي: بالأبزار- أو تجفيفه بشمس بها، أو طبخه بماء- أي: مع الأبازير- وغيره كالخل مثلاً مع الأبازير، وخبز الخبز، يعني: بتابل. وقوله: (فناقل) راجع إلى جميع ما تقدم من قوله: (وإن كانت بزيادة أبازير) والضمير في (بها) في المواضع الثلاثة عائد على الأبازير. اللخمي، والمازري: وإن طبخ بالماء صرفاً والملح لم ينتقل. واستشكل شيخنا- رحمه الله- جواز الخبز بالعجين لأنه مزابنة، قال: ولو جعلوا السلق ناقلاً ولم يجعلوا الخبز ناقلاً للمزابنة لكان أقرب.

وفي قلي القمح وشبهه قولان المشهور: النقل، لأنه يزيل المقصود من النقل غالباً، وإذا كان مجرد القلي ناقلاً فمن باب أولى السويق بالقمح. اللخمي: ويجوز الدقيق بالمقلو بالاتفاق. وفي السلق، ثالثها في الترمس ناقل، وفي الفول غير ناقل الثلاثة للأشياخ، والأقرب النقل. والله أعلم. ورأى في الثالث أن السلق في الترمس ناقل، لأنه لا يمكن إلا بعد صنعة طويلة، بخلاف غيره مما لا يؤكل إلا مسلوقاً. ونص ابن القاسم في العتبية على أنه لا يجوز بيع البيض المسلوق بالنيئ متفاضلاً. وتعتبر المماثلة حال الكمال، فلا يباع رطب بتمر ونحوهما باتفاق، لتوقع الربا، ولأنه مزابنة .... لما قدم أن المماثلة تطلب ذكر الوقت الذي تعتبر فيه، وذكر أنها تعتبر في حال كماله لأنه المقصود، ولهذا لم يجز بيع الرطب بالتمر، لأن الرطب إلى الآن لم يكمل، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: ((أينقص الرطب إذا جف؟)). فقالوا: نعم. فقال: ((فلا إذاً)). صححه الترمذي. واعترض عليه في لفظه التوقع، لأنها إنما تستعمل في المتوهم، والربا هنا متحقق. وأجيب بأن التوقع بمعنى الوقوع، أو عبر بذلك اعتباراً بالغالب في الأمور المستقبلية، ولأن بعض الرطب لا يتمر فلا يتحقق فيه النقص. وظن اللخمي أنه كاللحم الطري باليابس يعني: أن اللخمي خرج قولاً بجواز بيع الرطب بالتمر من أحد القولين اللذين يذكرهما بعد في جواز بيع اللحم الطري بغير الطري.

ابن البشير: ليس كما ظن، لأن الرطب حالة كماله اليبس وله يُرادُ، واللحم حالة كماله الرطوبة فلا يطلب فيه شيء بعد ذلك كما يطلب في الرطب. وإلى هذا الرد أشار بقوله: (وظن) إذ هو مشعر به، وكأنه [453/أ] اكتفى بما قدمه أولاً من أن المعتبر في المماثلة حال الكمال، ولأن قياس اللخمي فاسد الوضع لمقابلة النص. والمشهور: جواز الرطب بالرطب الشاذ لابن الماجشون، ومنشأ الخلاف هل يعتبر الحال فيجوز، أو المآل فيجوز؟ لاحتمال أن ينقص أحدهما من الآخر. الباجي: وانظر إن كان نصف التمر بسراً ونصفها قد أرطب، فهل يجوز بيع بعضه ببعض أو قديمين. فرع: ويجوز بيع التمر بالتمر إذا كانا جديدين أو قديمين. اللخمي: واختلف في الجديد بالقديم، فأجازه مالك في الموازية، ومنعه عبد الملك وهو أحسن. وفي الحليب بالحليب قولان مذهب المدونة الجواز. ابن شاس: وهو المشهور. والمنع رواية أبي الفرج. ولعله- والله أعلم- لم يعين المشهور في هذه لقوة الشاذ هنا، لأن الحليب بالحليب قد يطلب منهما الزبد فتظهر المزابنة فيهما، وليس كذلك الرطب. والله أعلم. ويجوز الزيتون بمثله اتفاقاً كاللحم باللحم، واختلف في رطبهما بيابسهما بتحري النقص .... نقل ابن شاس الاتفاق في الزيتون، وابن بشير الاتفاق في اللحم. ووجهه اللخمي: بأنه يجوز بيع القمح بالقمح وإن كان الريع يختلف، فكذلك الالتفات إلى الزيت.

ابن عبد السلام: ولولا الاتفاق لكان الأنسب في الزيتون المنع، لأن المطلوب الزيت وهو غير معلوم التساوي بخلاف اللحم باللحم. وقيد اللخمي الجواز في اللحم بأن يكونا ذبحا في وقت واحد أو متقارب. ويريد: كل واحد من العوضين رطب، أو كل واحد منهما يابس بدليل ما سيقوله بعد. وقوله: (كاللحم باللحم) تنظير في كل وجه. والقولان في جواز بيع رطبهما بيابسهما لمالك في المدونة. والذي رجع إليه وأخذ به ابن القاسم المنع، إذ لا يحاط بالتحري. ووجه الجواز: أن الرطوبة في الزيتون واللحم هي حالة الكمال، وهذا مقيد بأن لا يكون في القديد أبازير، وأما إن كان فيه أبازير فهو جنس آخر. والمشهور: منع القمح المبلول بمثله، وجواز المشوي بالمشوي، والقديد بالقديد مقابل المشهور في المبلول في الجلاب الجواز، بشرط كون البلل واحداً. وتبع المصنفُ في حكايته القولين اللخميَّ، وقيد اللخمي الشاذ بما إذا كان البلل واحداً كما ذكرنا. وزعم سند أن ما في الجلاب هو قول ابن القاسم الذي علل عنه المصنف بالمشهور. قال: لأن ابن القاسم علل باختلاف البلل، فإذا تحقق الاتحاد جاز. والشاذ في القديد بالقديد، والمشوي لابن حبيب. والفرق للمشهور: أن البلل في القمح يكثر فيه الاختلاف عادة، ولأن أسفله لا يساوي أعلاه، بخلاف الشيء فإنه لا يختلف في الغالب، وفيه نظر. وأجاز في المدونة بدل العفن بالعفن إذا اشتبها في العفن. ابن رشد: وأجاز سحنون بدل العفن بغيره. ابن عبد السلام: يعني- والله أعلم- بالسالم، وعلى ذلك ساق المسالة التي ذكر فيها هذا القول، قال: ومنع بدل المأكول بغيره، يعني: بالمأكول المسوس. قال: ومنع أشهب بدلهما بغيرهما. وذكر عن مالك، وابن القاسم، وابن وهب إجازة ذلك في المأكول.

فإن لم يكن فبالعادة العامة، فإن اختلفت فبعادة محله فإن لم يكن للشرع فيه معيار، فالمعتبر العادة العامة. الباجي: كاللحم الذي يعتبر بالوزن في كل بلد. وقوله: (فإن اختلفت) أي: العوائد، كالجوز، والرمان، وكالسمن، واللبن فبعادة محله. فإن عسر الوزن، فثالثها: يتحرى في اليسير خص العسر بالوزن، لأن الكيل لا يعسر، الباجي: ولو تغير المكيال المعهود. وذكر ابن شاس عن بعض المتأخرين جواز التحري مطلقاً من غير تقييد بوزن ولا يسارة. وقال ابن عبد السلام: تقييد المصنف لهذه المسالة بعسر الوزن هو مذهب الأكثر، وظاهر المدونة عدم هذا الشرط، وأنه جار في القليل والكثير. انتهى. وكذلك ذكر ابن رشد أن ظاهر المدونة جواز التحري وإن لم تدع إليه ضرورة. وذكر ذلك قولاً صريحاً لبعضهم، خلاف مفهوم قول المصنف عنه، فإنه يفهم منه عدم الجواز إذا لم يعسر. وفي البيان: الاتفاق على أن ما يباع كيلاً لا وزناً مما يحرم فيه التفاضل أصلاً أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض على التحري، ولا قسمة على التحري. وحكى المصنف ثلاثة أقوال، الجواز مطلقاً، وقيده ابن رشد بأن لا يكثر جداً حتى لا يستطع على تحريه. الثاني: المنع مطلقاً، رواه ابن القصار وهو أقرب، لأن التساوي مطلوب وهو غير محقق. والقول الثالث لابن حبيب، وعزي لمالك. زاد ابن رشد رابعاً: لا يجوز عند عدم الميزان إلا في الطعام الذي يخشي فساده. أما من وجب عليه طعام لا يجوز التفاضل فيه، فلا يجوز أن يأخذ عنه تحرياً إلا عند عدم الميزان، قاله سحنون.

فرع: واختلف فيما يجوز فيه التفاضل، هل تجوز قسمته وبيع بعضه ببعض تحرياً؟ على ثلاثة أقوال، أحدهما: الجواز فيما يباع وزناً أو جزافاً، والمنع فيما يباع كيلاً، وهو مذهب ابن القاسم، حكاه عنه ابن عبدوس. والثاني: أن ذلك جائز فيما يبتاع كيلاً أو وزناً أو عدداً، وهو مذهب [453/ب] أشهب وابن حبيب، ونسب أيضاً لابن القاسم. والثالث: أنه لا يجوز مطلقاً، وهو في آخر كتاب السلم الثالث من المدونة: أنه لا يجوز أن يقسم البقل حتى يجز. وفي القمح بالدقيق طريقان، الأولى ثالثها: بالوزن لا بالكيل، والثانية: الثالث يعني: أن الطريق الأولى في المذهب ثلاثة أقوال: يجوز بيع أحدهما بالآخر مطلقاً. ابن عبد السلام: وهو المشهور. والثاني: المنع لمالك أيضاً، لاختلاف الريع. والثالث: يجوز موازنة ولا يجوز كيلاً، حكاه اللخمي عن ابن القصار، وعكسه غيره. ثم اختلف في القول الثالث، هل هو خلاف للقولين الأولين وهو قول أهل الطريقة الأولى، أو تفسير لهما وهو قول أهل الطريقة الثانية. وحكى ابن الماجشون عن مالك قولاً آخر، وهو أنه يجوز في اليسير على وجه المعروف بين الرفقاء، فإذا كثر وخرج إلى حد المكايسة فلا يجوز. ابن عبد السلام: والطريقة الثانية باطلة، لأن ابن القصار الذي هو أصل هذه الطريقة فسر قولي مالك بما نص مالك على خلافه، وذلك أن لمالك في كتاب الصرف من المدونة أنه لا يباع القمح بالقمح وزناً، فإذا لم يجز بيعه بمثله وزناً خشية الوقوع في التفاضل لو كيل بمكياله الشرعي، فكيف يجوز بيعه وزناً بالدقيق. وقد تقدم أنه تعتبر المماثلة بمعيار الشرع.

والمشهور إلغاء العظام، وقيل: تتحرى وتسقط أي: إذا بيع اللحم باللحم وزناً أو تحرياً فهل يباع بعظمه على ما هو عليه ويعد العظم كأنه لحم وهو المشهور، واحتجوا له ببيع التمر بالتمر من غير اعتبار بنواه. والقول الثاني لابن شعبان: أنه يتحرى ما فيه من العظم ويسقط العظام معنى لا حساً. فعلى المشهور إذا بيع تحرياً إنما يتحرى المجموع، وعلى قول ابن شعبان لابد فيه من تحريين، قاله ابن عبد السلام. وقال شيخنا: إنما يحتاج إلى التحري في اللحم فقط، وأما العظم فيسقط. والله أعلم. وهو أظهر من جهة المعنى، لكن كلام ابن عبد السلام هو الذي يؤخذ من كلام المصنف. واستحسن سند قول ابن شعبان، وفرق بأن التمر يفسد بنزع النوى. فرع: فإذا بنينا على المشهور أن البيض ربوي وأجزنا بيع بعضه ببعض تحرياً، فإن كان فيه بيض نعام فاختلف هل لا يجوز بيعه إلا أن يستثني بائعه قشره، لأنه كسلعة مع ربوي، أو لا، لأنه غير مستقل إلا بالقشر ولا يمكن بقاؤه مفرداً، فهو من ضرورته فيعطى حكم العدم أو حكم ما هو حافظ له. وكذلك جلد الشاتين المذبوحتين أي: جلد الشاتين كالعظم، وذكره الخلاف في الجلد يقتضي جوازه ابتداء وهو المشهور. قال في المدونة: ولا خير في شاة مذبوحة بشاة مذبوحة إلا مثلاً بمثل تحرياً إن قدر على تحريهما. ومنعه أصبغ، لأنه لحم مغيب. ورده الباجي بأن ذلك لا يلزم إذا قلنا أن الجلد لحم. ورأى اللخمي المنع ولو استثنى الجلدين. وعلى الجواز، فظاهر المدونة دخول الجلد في البيع، وهو الذي يؤخذ من تشبيه المصنف.

وقال فضل بن أبي سلمة: لا ينبغي ذلك وإن استطيع تحريهما، إلا أن يستثني كل واحد جلد شاته. وروى يحيي بن يحيي نحوه عن ابن القاسم، لأنه لحم وجلد بلحم وجلد. ورده الباجي بما تقدم، فإنه يؤكل كثيراً مسموطاً. سند: وعلى قول الباجي الصوف فيفرق بين المجزورتين وغيرهما. ونقل بعضهم قولاً بجواز بيع الشاتين المذبوحتين في السفر لا في الحضر. وأجيز بيع الخبر بالخبز تحرياً، وفي التحري، ثالثها: بالدقيق في خبز الصنفين، وبالرطوبة الواحد. قال الباجي: ينبغي الوزن وحده ... يعني: أنه يجوز بيع الخبز بالخبز تحرياً، نص مالك على ذلك في الموطأ، وفي السلم الأول من المدونة. وحكى بعض الشيوخ عن مالك أن الخبز بالخبز يجوز فيه التفاضل، وهو مشكل. وقوله: (وفي التحري) أي: إذا أجزنا بيع بعضه ببعض متماثلاً فاختلف في كيفية التحري على ثلاثة أقوال، الأول: يتحرى دقيقهما، وهو قول ابن القاسم في العتبية. الباجي: وهو مذهب جمهور أصحابنا. وقال في موضع آخر: هو ظاهر المذهب، لكن قيده بما إذا كان الخبزان من صنف واحد. وذكر ابن راشد: لا خلاف أن المعتبر في الخبزين إذا كان أصلهما مختلفاً على مذهب من يرى أن الأخبار كلها صنف واحد، فليس هذا القول على عمومه كما قاله المصنف. والثاني: أن المعتبر الوزن، وهو الذي أراده بقوله: (وبالرطوبة) أي: أنه تعتبر الرطوبة في الوزن فلا التفات إلى الدقيق. الرطوبة: ما يجعل في الدقيق من الماء والملح والخبز. والثالث: أنه يتحرى الدقيق إن كانا من صنفين ويتحرى الوزن إن كانا من صنف واحد. وفي كلامه نظر من وجوه:

أولها: ما تقدم أن كلامه يقتضي أن الأول يعتبر الدقيق مطلقاً، وليس كذلك. ثانيها: أن القول الثالث عكس فيه النقل، لأن المنقول أن الخبزين إن كان الأصل الذي خبزا منه لا يحل التفاضل فيه كقمح وشعير يوزن الدقيقان لا يوزن الخبزان. وإن كان ما خبزا منه يجوز فيه التفاضل كقمح وفول اعتبر تساويهما في الوزن، قاله بعض القرويين، هكذا نقله المازري، وابن يونس وغيرهما. [454/أ]. ثالثها: أن هذا لا يكون ثالثاً إلا إذا كان القول الأول على عمومه، وقد تقدم ما فيه. رابعها: يوهم ما نقله عن الباجي أنه قول رابع، وليس كذلك إذ هو الثاني. والمذهب أن النهي يدل على الفساد إلا بدليل هكذا حكاه عبد الوهاب، وهو المختار عند أهل الأصول، ومحل ذلك كتب الأصول، ويستدل لهذه القاعدة بالحديث الصحيح: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)). فمنه بيع الحيوان باللحم، ومحمله عند مالك على الجنس الواحد للمزابنة، فيجوز بيع الطير بلحم الغنم وبالعكس .... روى مالك في مراسله عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم. والمحمل: اسم مصدر، أي: اسم للحمل. فقياسه على هذا: أن يكون مفتوح اليمين، لأن كل مضارع على يفعل كيضرب، ولم تكن فاؤه واواً اسم مصدره على مفعل بفتح العين، وللزمان والمكان بكسرها، أي: ومحمل هذا النهي عند مالك- رحمه الله- على الجنس الواحد، لأن بيع اللحم بالحيوان بيع معلوم بمجهول، وهو معنى المزابنة. وفي كلامه إشارة إلى أنه لو كان هذا الحيوان غير مباح الأكل لجاز بيعه باللحم وهو كذلك، فيجوز بيع الخيل باللحم لعدم المزابنة حينئذ. وأشار بقوله: (عند مالك) إلى محمل الليث والشافعي، فإنهما حملاه على عمومه. وروي عن أشهب جواز بيع اللحم بالحيوان.

قوله: (فيجوز بيع ...) إلى آخره. لأن المزابنة شرطها اتحاد الجنس. وخصصه القاضيان بالحي الذي لا يراد إلا للذبح أي: كالشاة المعلوفة والكبيرة، فهو تخصيص للنهي بعد تخصيص الإمام، وهو متجه لظهور القصد إلى المزابنة في هذا النوع وبعدها في الصحيح، وهو قول الأبهري وغيره من البغداديين. فلا يقال: يرد عليه ما أورده المازري وغيره على قول مالك من أن المزابنة تمتنع حيث لا تكثر في إحدى الجهتين كثرة بينة. ومالك منع مطلقاً فلم تطرد العلة، لأنا نقول: إذا ظهرت الزيادة فالمنع لأجل التفاضل عندهما- وإن شك- فالمنع عندهما للمزابنة والتفاضل. ولأجل أن مالكاً لم يطرد العلة وقال بالمنع وإن ظهر الفضل، مع كونه علل بالميزانية، أجرى اللخمي قولاً ثالثاً بالجواز في الجنس الواحد إذا تبين الفضل. وما لا تطول حياته وما لا منفعة فيه، إلا اللحم كاللحم خلافاً لأشهب، وهما روايتان .... يعني: أن قول مالك اختلف فيما لا تطول حياته من الحيوان كطير الماء، وما لا منفعة فيه من الحيوان إلا اللحم. ابن عبد السلام: كالخصي من المعز، هل هو كاللحم فلا يجوز بيعه بحيوان من جنسه وبه أخذ ابن القاسم، أولاً وبه أخذ أشهب، لأنه يصدق عليه أنه حيوان. ومنع ابن القاسم أيضاً بيع هذا الحيوان بلحم، لأنه حي إلا أن يجعله مع الحيوان لحماً ومع اللحم حيواناً احتياطياً. فإن طالبت أو كانت المنفعة يسيرة كالصوف في الخصي فقولان يعني: إذا فرعنا على ما أخذ به ابن القاسم، فإن كان الحيوان تطول حياته كالشارف الذي لا يراد إلا للذبح، أو كانت منفعته يسيرة كصوف الخصي من الضأن، ففي كل نوع قولان. أما ما تطول حياته، فقال ابن المواز: كره مالك، وابن القاسم الشارف والمسكور

من الأنعام باللحم، ثم أجازه مالك، وخففه أصبغ. والمراد بالكراهة التحريم. وقد صرح اللخمي بذلك في تعليله. وأما ما فيه منفعة يسيرة، فقال ابن القاسم: لا يجوز بيع الكبش الخصي بالطعام إلى أجل، إلا أن يكون مما يقتني لصوفه. قال: وأما التيس الخصي بالطعام إلى أجل فلا يحل، لأنه لا يقتني لصوفه إنما هو للذبح، وأجازه أصبغ وأشهب، كان فيه منافع أو لا. وفهم من قوله: (المنفعة يسيرة) أنها لو كانت كثيرة- كما إذا كان لها صوف ولبن ويقصد منها الولادة- أنها ليست كاللحم. ابن رشد: ولا خلاف في ذلك. ومن ثم اختلف في بيعه بالطعام نسيئه يعني: ولأجل الخلاف في كونه كاللحم أو كالحيوان اختلف المذهب في بيع هذا الحيوان بالطعام إلى أجل، فمن عده طعاماً منع، لأنه طعام بطعام إلى أجل، وهو قول ابن القاسم. قال ابن القاسم في العتبية: فلا يجوز بيع الكبش الخصي بالطعام إلى أجل إلا أن يكون كبشاً يقتني لصوفه. مالك: ,اما التيس الخصي بالطعام إلى أجل فلا يحل، لأنه لا يقتنى لصوفه إنما هو للذبح. ابن المواز: وأجازه أشهب وأصبغ. مالك: وليس كل شارف سواء، وإنما ذلك في الذي قد شارف الموت، فأما ما كان يقبل ويدبر ويرتفع فلا. وفي المطبوخ بالحيوان قولان ظاهر كلامه: أن القولين بالإجازة والمنع، والذي حكاه ابن المواز أن ابن القاسم أجازه، وأشهب كرهه. وإذا كان اللحم ينتقل بالطبخ عن جنسه فلا يجوز بالحيوان من باب الأولى. ووجه الكراهة: الوقوف مع لفظ الحديث.

ومنه المزابنة، وهو بيع معلوم بمجهول ومجهول بمجهول من جنسه، فإن علم أن أحدهما أكثر جاز فيما لا ربا فيه ... أي: ومن المنهي عنه- وكذلك في كل ما يأتي- وصح من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالعنب كيلاً. وضمير (هو) يعود على المضاف المحذوف، أي: بيع المزابنة. وتفسيرها الواقع في الحديث إنما هو في الربوي، لأن غير الربوي وإن لم يدخل تحت المزابنة فثم عمومات يدخل تحتها كالنهي عن الغرر. وقوله: (فإن علم أن أحدهما أكثر جاز فيما لا ربا فيه) لانتفاء المزابنة عنه إذ منعت من حلابها، ومنه الزبانية لدفعهم الكفرة، فكان كل واحد من المتابعين يدفع صاحبه عن مراده ويعتقد أنه الغالب، فإذا علم أن أحدهما أكثر انتفى هذا. وعموم قوله: (جاز فيما لا ربا فيه) يشمل غير المطعومين والمطعومين غير الربويين، وهو مقتضى النظر، لكن ذكر ابن راشد في جواز بيع الرطب باليابس إذا كان غير ربويين ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز وإن تبين الفضل، وهو دليل ما في سماع عيسى وما في سماع أصبغ، لعموم النهي عن الرطب باليابس. الثاني: أنه يجوز بشرط تحري المساواة، وهو أيضاً في سماع عيسى. والثالث: التفصيل- كما أشار المصنف إليه- جائز إن لم يتبين الفضل، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد.

ابن عبد السلام: وهو الصحيح. وقد ذهب فضل إلى أن هذا ليس باختلاف، وأن القولين الأولين راجعان إليه. ولو دخلته صنعة معتبرة جاز أي: أن المصنوع يصير معداً لغير الأصل كالخبز بالعجين. وقوله: (جاز) يعني: البيع إن كان نقداً أو إلى أجل، تقدم المصنوع أو تأخر زمناً لا يُصنع في مثِلِه مثلُهُ، فإن تأخر قدر ما يصنع فيه منع لأنه مزابنة. وفيها: منع بيع الفلوس بالنحاس نقداً لأنه مزابنة، وجواز بيع النحاس بالتور النحاس نقداً، واستشكله الأئمة، وفرق بقلة الصنعة في الفلوس .... التور: بالتاء المثناة المفتوحة. الجوهري: إناء يشرب فيه. ونسب هذه للمدونة لإشكالها، لأنه جعل الصنعة في الفلوس غير معتبرة بخلاف التور. وما حكاه المصنف من التفرقة هو المشهور. ومسألة الفلوس في السلم من المدونة. ابن عبد السلام: ومسألة التور ليست بجلية في المدونة، ولكن هو المشهور. وذكر في البيان: في تور النحاس ثلاثة أقوال: أحدهما: جواز ذلك نقداً وإلى أجل لأجل الصنعة، وهو قول مالك في إحدى روايتي ابن وهب. الثاني: جوازه نقداً وإن لم يتبين الفضل، ولا يجوز إلى أجل، وهو ظاهر المدونة لتشبيهه فيها ذلك بالكتان بثوب الكتان، وهي رواية ابن وهب الأخيرة. والثالث: أن ذلك لا يجوز إلى أجل ويجوز في النقد إن تبين الفضل، وهو قول مالك في العتبية، وعليه تأول التونسي المدونة، وتأول غيره عليه عدم الجواز وإن تبين الفضل.

قال في البيان: ولا أعلم خلافاً في منع بيع الفلوس بالنحاس للمزابنة. قال: وأما مصنوع بمصنوع من النحاس فلا خلاف في جوازه. واعترضه التونسي وقال: لا فرق في القياس بين مصنوع بغير مصنوع أو مصنوع، لأن الصناعة إذا لم يكن لها تأثير في جهة فكذا في جهتين. انتهى. واستشكل الأشياخ المنع في الفلوس، وقالوا: القياس جوازه، لأن الصنعة نقلته كما في التور. والفرق الذي ذكره المصنف لابن بشير، وفيه نظر. ومنه بيع الكالئ بالكالئ الكالئ: مهموز، مأخوذ من الكلاءة بكسر الكاف، وهي الحراسة والحفظ. فإن قيل: فالدين مكلوٌّ فكيف أطلق عليه كالئاً، فجوابه: يحتمل أن يكون مجازاً في المفرد، أطلق الكالئ على الدين المكلو مجازاً والعلاقة الملازمة. وقد يرد اسم الفاعل بمعنى المفعول، كقوله تعالى: {مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] أي: مدفوق. ويحتمل في الإسناد، أي: إسناد الفعل إلى ملابس له بتأويل، أي: كالئ صاحبه كعيشة راضية. ويكون في الحديث إضمار تقديره: نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع مال الكالئ بمال الكالئ، لأن كل واحد من المتابعين يكلأ صاحبه، أي: يحرسه لأجل ما له قِبَلَهُ، ولهذا وقع النهي عنه لأنه يفضي إلى كثرة المنازعة والمشاجرة. والنهي المشار إليه ذكره عبد الرازق، وقال: أخبرني الأسلمي، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو، وضعفه دينار قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، وهوالدين بالدين. قال عبد الحق: الأسلمي هو إبراهيم بن محمد بن يحيي وهو متروك، كان يرمى بالكذب. قال بعض من تكلم على هذا الموضع: ووثقه الدارقطني، والشافعي، ومحمد بن سعيد الأصفهاني، وقد رواه الدارقطني من حديث موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار:

أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. وموسى بن عقبة مولى آل الزبير ثقة روى له الجميع. وحقيقته بيع ما في الذمة بشيء مؤخر اعلم أن هنا ثلاث حقائق: الأولى: فسخ الدين في الدين، وهو أن تبيع الدين ممن هو عليه بشيء مؤخر من غير جنسه أو من جنسه، وهو أكثر، والمنع في هذه أشد من الأخيرتين، لأنها ربا الجاهلية أو من رباها فهي محرمة بالقرآن، بخلاف الأخيرتين فإن الآية لا تقتضيها، وإنما المنع فيهما بالحديث. ولا يجوز فيهما التأخير إلى مثل ذهابه إلى البيت، وأما أن يفارقه ثم يطلبه فلا يجوز إلا قدر ما لا يمكن القبض إلا به، فإن كان يسيراً فبقدر ما يأتي بمن يحمله. فإن كان طعاماً كثيراً جاز مع اتصال العمل ولو شهراً، قاله أشهب. قال: وهذا إذا كان ما يأخذه منه حاضراً أو في حكمه كالشيء [455/أ] يكون في منزلة أو حانوته فيذهبان من فورهما إلى قبضه، وأما إن كان على ستة أميال، فقد كرهه مالك في الموازية حل الدين أو لم يحل. الحقيقة الثانية: ابتداء الدين بالدين، وهو تأخير رأس مال السلم، وهذه المرتبة أخف المراتب، لأنهم أجازوا التأخير فيه بلا شرط ثلاثة أيام على المشهور. الحقيقة الثالثة: بيع الدين بالدين، وهي كالواسطة بينهما. اللخمي: واختلف في التأخير في بيع الدين، فمنع ذلك في المدونة إلا على المناجزة. وقال محمد: يجوز التأخير اليوم واليومين. قال: وهو أصوب، ولا فرق بين بيع الدين وابتداء الدين. وحكى ابن بشير في الصرف قولين: هل يلحق بيع الدين بابتداء الدين أو بفسخ الدين؟ ولابد في حقيقة بيع الدين أن تتقدم عمارة الذمتين أو أحدهما، كمن له دين على رجل ولثالث دين على رابع فباع كل واحد ما يملك من الدين بدين صاحبه. وكذلك لو

كان لرجل دين على رجل فباعه من لثالث بدين. وعلى هذا فلابد في حقيقة بيع الدين بالدين من ثلاثة أشخاص، بخلاف فسخ الدين في الدين فإنه لا زيادة فيه على اثنين، فقد اتضح الفرق بينهما وبين ابتداء الدين بالدين، لأن ابتداء بالدين إنما يعمر الذمتين عند المعاوضة بخلافهما. إذ تقرر هذا فكلامه يشمل بيع الدين بالدين، وفسخ الدين في الدين، لأن كلا منهما قد بيع فيه ما في الذمة بشيء مؤخر، ولا يشمل ابتداء الدين بالدين، لأنه لم يبع شيئاً قد تقرر في الذمة. وقد يقال: بل كلامه يشمل الثلاثة، لأن تقدير كلامه: بيع شيء كائن نفي الذمة بشيء مؤخر، والكائن في الذمة أعم من أن يكون تقرر قبل ذلك أولاً، وإنما يأتي الحمل الأول إذا جعلت (ما) موصولة، وأما إذا جعلت نكرة موصوفة فلا، على أنه يمكن أن يشمل كلامه الثلاثة ولو جعلناها موصولة. واعلم أن العقود التي تشترط فيها المناجزة ستة: الصرف، وبيع الطعام بالطعام، والإقالة من الطعام، والإقالة من العروض وفسخ الدين في الدين، وبيع الدين بالدين. قال في المقدمات: وباب الصرف أضيق أبواب الربا. ابن راشد: والإقالة من العروض دون الإقالة من الطعام في طلب المناجزة، لأن الإقالة من الطعام يحذر فيها من بيع الطعام قبل قبضه ومن فسخ الدين بالدين، والإقالة من العروض إنما يحذر فيها من فسخ الدين في الدين. وتقدم الخلاف في بيع الدين هل هو كابتداء الدين أو فسخه؟ وكذلك بيعه بمنافع، وقيل: إلا منافع عين يعني: وكذلك يمتنع بيع الدين بمنافع مطلقاً، سواء كانت منافع معين أو منافع مضمونة.

وقال أشهب: إنما يمتنع إذا كانت المنافع مضمونة، وأما منافع معين فيجوز، لأن المنفعة إذا استندت إلى معين أشبهت المعينات المقبوضة لأنه أسندت إلى معين، كأن يفسخ الدين في ركوب دابة معينة إلى بلد، أو في كراء مضمون إلى بلد، وسبب الخلاف هل قبض الأوائل كقبض الأواخر؟ ورأى ابن القاسم أن المنافع وإن كانت معينة كالدين لتأخر أجزائها، أي: لأنها لا تقبض ناجزاً، ولأن الضمان من مالك الرقبة. وسبب الخلاف في المعين هل النظر إلى التعيين، أو النظر إلى عدم القبض وتأخيره. وكلام المصنف هنا إنما هو في بيع الدين من المدين، لأنه سيتكلم في بيعه من غيره. وصحح المتأخرون قول أشهب، لأنه لو كانت منافع المعين كالدين يمتنع فسخ الدين فيها لامتنع اكتراء الدواب واستئجار العبد وشبهه بدين، والمذهب جوازه. وفرق بأن اللازم في محل المنع هو فسخ الدين، وفي محل الجواز ابتداء الدين بالدين، وهو أخف. وفي بيعه بمعين يتأخر قبضه كالدار الغائبة والمواضعة، والمتأخر جذاذه، قولان .... يعني: فلو باع الدين لمن هو عليه بدار غائبة أو أمة متواضعة أو ثمر بدا صلاحه ولا يجذ في الحال، فقولان: المشهور، وهو مذهب المدونة: المنع، لأنه قد تأخر القبض فأشبه الكالئ بالكالئ. والقول بالجواز لأشهب. واستشكل الشيوخ المنع في الدار الغائبة، لأنه كالمقبوضة بنفس العقد على المشهور كما تقدم، بخلاف الأمة المتواضعة فإن ضمانها من بائعها، وكذلك المتأخر جذاذه فيه ضمان الجوائح. ولهذا قال جماعة: إن معنى المسألة أن الدار بيعت مدارعة فصار فيها حق توفيه. فإن بيع من غير المدين اشترط حضوره وإقراره يعني: فإن بيع الدين من غير من عليه الدين فيشترط حضور المديان وإقراره، أما حضوره فليعلم ملاؤه وعدمه، وأما إقراره فلئلا يكون من شراء ما فيه خصومة

وهو غرر. وإذا حصل هذا الشرطان جاز شراؤه اتفاقاً، وأما شراؤه وهو على ميت فمنعه في الموطأ. ابن رشد: ولا خلاف فيه لأنه غرر، إذ قد يكون عليه أكثر من تركته فلا يكون له إلا ما نابه في الخصاص، وهو مجهول. وأما إن كان حياً ولكنه غائب فإن لم تكن عليه بينة فنص مالك في غير موضع على المنع. وظاهر قول أصبغ في العتبية: جواز بيعه، وعلى ذلك فهمها ابن رشد، وتأوله في موضع آخر على أن الغيبة قريبة، وإن كانت عليه بينة فالمشهور: أنه لا يجوز، إذ لا يدري أهو حي أم ميت، مقر هو أم منكر؟ ابن رشد: وأجازه ابن القاسم في سماع موسى إذا كانت غيبته قريبة بحيث يعرف حاله، وقاله أصبغ في نوازله، ورواه ابن دينار عن مالك. وإن كان حاضراً فهل يشترط إقراره؟ المشهور: اشتراطه. ابن رشد: وتقوم إجازته [455/ب] من إجازة ابن القاسم بيع الدار التي في خصومة على ما وقع في بعض روايات المدونة. ومنه بيع الغرر، وهو ذو الجهل والخطر وتعذر التسليم في مسلم: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وبيع الغرر. وهو يشتمل على ثلاثة أنواع، أحدها: هذا، والجهل بينه في قوله: (كزنة حجر مجهول، وكتراب الصواغين). الثاني: هو الخطر، وهو ما تردد بين السلامة والعطب، كبيع المريض في السياق، والآبق، والشارد، والثمار قبل بدو صلاحها على التبقية. الثالث: تعذر التسليم نحو الطير في الهواء، والسمك في الماء، وقد يحتمل اثنان في محل واحد كالطير في الهواء، وكلامه ظاهر.

وبعضه معفو، قال الباجي: اليسير. وزاد المازري: غير مقصود للحاجة إليه أي: وبعض الغرر مفعو، إذ لا يكاد يخلو بيع عنه. وقوله: (قال الباجي) هو تفسير للبعض المعفو عنه. و (اليسير): خبر مبتدأ محذوف. وزاد المازري مع قيد اليسارة قيدين آخرين: أن يكون غير مقصود، وأن يكون محتاجاً إليه. وقرره في المعلم بأن العلماء أجمعوا على فساد بعض بياعات الغرر، كالأجنة، والطير في الهواء، والسمك في الماء. وأجمعوا على صحة بعضها، كالجبة وإن كان حشوها مغيباً، وكإجازة الدار مشاهرة مع كون الشهر ناقصاً وكاملاً، وكدخول الحمام والشرب من السقاء مع اختلاف الناس في الاستعمال والشرب من السقاء. واختلفوا في بعضها، فيجب أن يبحث عن الذي يعرف منهم اتفاقهم واختلافهم، ففهمنا عنهم أنهم إنما منعوا بيع الأجنة لعظم غررها وأن الغرر فيها مقصود، وأجازوا تلك المسائل لأن الغرر فيها يسير غير مقصود وتدعو الضرورة إلى العفو عنه. والخلاف في بعضها لتحققه، ففي بيع الإماء وغيرهن بشرط الحمل الظاهر، ثالثها: إن قصد البراءة منه صح وإلا فسد .... يعني: والخلاف في بعض البياعات المشتملة على الغرر لتحقق ذلك القدر هل هو من اليسير فيعفى عنه أو من الكثير فلا يعفى عنه. وينبغي إذا شك في محل هل هو من اليسير أو من الكثير المنعُ، لأنه أسعد بظاهر الحديث. وقد يقال: بل الغرر مانع والشك فيه غير قادح، إذ الأصل الجواز. وقوله: (ففي بيع الإماء) إلى آخره. يعني: أن المذهب اختلف في جواز بيع الأمة، والشاة، والناقة، والبقرة بشرط أنها حامل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جائز، سواء قصد بشرط التبرؤ أو زيادة الثمن، لأنه تبرأ في الأول من عيب، وفي الثاني الغالب سلامته وولادته.

الثاني: أنه ممتنع وهو مذهب المدونة، وعلله بأنه كأنه أخذ لجنينها ثمناً. والثالث: لمالك في الموازية: إن قصد البراءة صح، وإن قصد الاستزادة لم يصح. ابن عبد السلام: وهو الأقرب، وبعضهم رد القولين الأولين عليه. خليل: وفي كلام المصنف نظر، لأنه يقتضي أن القول الثاني أنه لا يصح وإن قصد البراءة، وهذا لا ينبغي أن يختلف في جوازه. وقد صرح ابن زرقون بذلك، وإنما الخلاف إذا قصد الاستزادة في الثمن والمشهور المنع ولفظ ابن زرقون: اختلف في بيع الجارية التي يزيد في ثمنها الحمل على أنها حامل والبقرة وغيرها، على ذلك فمنعه مالك في سماع ابن القاسم وإن كانت ظاهرة الحمل، وأجازه سحنون إذا ظهر الحمل، وأجازه أشهب وإن لم يظهر. فإذا قلنا بهذا القول فوجدها غير حامل، فقال أشهب: يردها. وقال ابن أبي حازم: إن باعها وهو يظن أنها حامل فإذا هي غير حامل فلا يردها، وإن علم أنها غير حامل بمعرفته أن الفحل ينزو عليها فله أن يردها، لأنه غره وأطمعه. وأما إن كانت الجارية رفيعة ينقصها الحمل فباعها على أنها حامل وهي ظاهرة الحمل، فلا خلاف في جوازه، لأن ذلك على معنى التبرؤ، وإنما لا يفسد البيع في الرمكة على أنها حامل في قول من أجازه إذا قال ذلك قولاً مطلقاً. ولو قال: إنها حامل من فرس أو من حمار لفسد البيع، لاحتمال أن يكون انفلت عليها غير الذي سماه. وأما بشرط الخفي ففاسد إلا في البراءة أي: فلا يجوز اشتراط الحمل الخفي إذا قصد به الاستزادة، قد تقدم قول أشهب أنه أجازه، سواء كانت ظاهرة الحمل أم لا. وما ذكره من جواز التبرؤ في الحمل الخفي إنما هو في الأمة الوخش، وأما الرائعة فلا يكون بيعها بشرط البراءة منه، لأن الحمل يضع من ثمنها كثيراً ذلك غرر، نص عليه في المدونة وغيرها. قال: وهذا مع انتفاء السيد من

بيع الملامسة

وطئها، وأما إن أقر بوطئها لم يجز بيعها وإن كانت وخشاً، إذ لا خلاف أن البراءة لا تنفع من حمل يلزمه. ومنه بيع المضامين والملاقح، وحل الحبلة، وفي الموطأ، المضامين: ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح: ما في بطون الفحول. وعكس ابن حبيب، وفيه حبل الحبلة: بيع الجزور إلى أن ينتج نتاج الناقة. وروى ابن حبيب: بيع نتاج نتاج الناقة .... النهي في الموطأ، وكلامه ظاهر التصور. ومنه بيع الملامسة: وهو أن يلمس الثوب فيجب البيع من غير تبيين. ومنه بيع المنابذة: وهو أن يتنابذا ثوبين فيجب البيع .... في الصحيح: أنه- عليه السلام- نهى [456/أ] عن بيعتين في بيعة، وعن بيع الملامسة، وبيع المنابذة. قال في البخاري، الملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه ولا يقبله. والمنابذة: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه وينظر إليه. وفي مسلم، الملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك. والمنابذة: أن ينبذ بالرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض به. ومنه بيع الحصاة: وهو أن تسقط حصاة من يده فيجب البيع، وقيل: أن تسقط على ثوب فيتعين، واستشكلهما المازري ... سبق اللخمي المازري إلى هذا الإشكال، ووجهه ظاهر، لأنه إذا جعل سقوط الحصاة أو رميها دليلاً على البيع، فإذا حصل بذلك فلا غرر لأنه رضى.

وكلام المازري الذي أشار إليه المصنف هو في المعلم، لأنه قال فيه: قيل في هذا الحديث تأويلات منها: أن يكون المراد أنه يبيع من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة، ولا شك أن هذا مجهول لاختلاف الرمي. وقيل معناه: أيُّ ثوب وقعت عليه حصاتي فهو مبيع، هذا أيضاً مجهول كالأول. وقيل معناه: ارمِ بالحصاة فما خرج فلك بعدده دنانير أو دراهم، وهذا أيضاً مجهول. وهذه تأويلات تتقارب، وكلها يصح معه المنع. وقيل تأويل رابع، وخامس، فقيل معناه: أنه إذا أعجبه الثوب ترك عليه حصاة، وهذا إذا كان بمعنى الخيارة، وجعل رمي الحصاة علماً على الاختيار لم يجب أن يمتنع إلا أن تكون عادتهم في الجاهلية أن يضيفوا إلى ذلك أموراً تفسد البيع، ويكون ذلك عندهم معروفاً ببيع الحصاة، مثل أن يكون متى ترك الحصاة ولو بعد عام وجب له البيع فإنه فاسد. وقيل: إن كان الرجل يسوم الثوب وبيده حصاة، فيقول: إذا سقطت من يدي فيجب البيع، وهو أيضاً كالذي قبله. انتهى. ومنه بيعتان في بيعة ومحمله عند مالك: على سلعة بثمنين مختلفين، أو سلعتين مختلفتين بثمن واحد على اللزوم لهما أو لأحدهما وإلا جاز .... روى الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. ومحمله عند مالك على صورتين، الأولى: أن يبيع الرجل سلعته بثمنين مختلفين، وسواء اختلفا في الجنس، أو القدر، أو الصفة على وجه يتردد نظر العاقل فيه، كما لو قال: بعشرة نقداً، أو بعشرين إلى أجل. ولو عكس جاز، لأن كل عاقل لا يختار إلا الأقل في المقدار والأبعد في الأجل. وكلام المصنف لا يؤخذ منه هذا، وكأن المصنف أسقطه لنذوره. والصورة الثانية: أن يبيع منه سلعتين مختلفتين بثمن احد. ونقل ابن عبد السلام عن ابن حبيب الجواز في الصورة الأولى. أعني: إذا كان الثمن عيناً من صفة واحدة واختلف الأجل.

وقوله: (على اللزوم) أي: وشرط منع النوعين معاً أن يكون المبيع لازماً للمتبايعين أو لأحدهما، وإن لمن يكن على اللزوم لهما أو لأحدهما جاز. ووجه الفساد مع اللزوم: الغرر، إذ لا يدري البائع بما باع ولا المشتري بما اشترى، ولأنه يلزم منه فسخ الدين في الدين، وقد يختار الأقل ثم يفسخه في الأكثر، وإن كان بذهب وفضة لزم منه أيضاً الصرف المستأجر. وأجمل المصنف في اختلاف السلعتين. وذكر بعضهم في المسألة أربعة أقوال، أولهما للمدونة: أن ذلك ممتنع فيما عدا الجودة والرداءة من صنفيه، أو صفة، أو رقوم. وأما إن اختلفا بالجودة والرداءة فقط فيجوز، وإن اختلفت القيمة وليس من بيعتين في بيعة. ثانيها لابن المواز: إن اختلفا في الصنفية أو الصفة اختلافاً متبايناً يبيح سلم أحدهما في الآخر فلا يجوز. وإن اختلفا في الصفة ولم يتباينا يجوز سلم أحدهما في الآخر جاز. وثالثها لأشهب وعبد الملك: يجوز وإن اختلفا بالصنفية أو الصفة اختلافاً يبيح سلم أحدهما في الآخر. ورابعها لابن حبيب: لا يجوز إلا أن يكون صنفاً واحداً أو صفة واحدة وقيمتها واحدة، ولو اختلفا بالجودة والرداءة وبالقيمة لم يجز. ابن عبد السلام: وهو الأقرب، لأن الإلزام مع اختلاف القيمة موجب للجهالة، وأشد منه إذا اختلفت صفاتها. ولو قيل: لا يجوز وإن تساوت قيمتها لكان له وجه. وقوله: (وإلا جاز) أي: وإن لم يختلف الثمنان ولا المثمونان أو اختلفا وكان المتبايعان معاً بالخيار جاز.

فلو قال: خذ بأيهما شئت. فروايتان، بناء على أنه التزام أو لا يعني: لو قال البائع للمشتري: خذ هذا الثوب أو هذه الشاة بدينار، ولم يزد على ذلك. فعن مالك- رحمه الله- روايتان سببهما ما ذكره المصنف. والبطلان رواية لابن القاسم، وابن وهب. ابن المواز: وهي أصح، والصحة رواية لأشهب. ولو اشترى على اللزوم ثوبا يختاره من ثوبين أو أكثر جاز، وكذلك العبيد، والبقر، والغنم، والشجر غير المثمر ما لم يكن طعاماً .... قوله: (يختاره من ثوبين) ظاهره: ولو كانا مختلفي الثمن، وهو مذهب المدونة كما تقدم. وهذه المسألة مقيدة بما إذا كان الخيار للمشتري، وأما إن كان للبائع لم يجز كما بينه في النكاح من المدونة فيمن نكح امرأة على أحد عبديه. وذكره المصنف في باب الصداق، فقال: ويجوز على عبد تختاره لا يختاره هو كالبيع. وقوله: (ما لم يكن) يعني: المشترى طعاماً، وسيأتي. وإن اختلفت الأجناس لم يجز كحرير وصوف، أو بقر وغنم هذا ظاهر، وهو حقيقة بيعتين في بيعة. ولو اشترى نخلة مثمرة، أو ثمرة نخلة من نخلات لم يجز لما ذكر أولاً قوله: (ما لم يكن طعاما) تكلم على ذلك، يعني: ولو فرضنا المسألة السابقة في طعام لم يجز، سواء كان مع عرض، وهو قوله: (نخلة مثمرة) أو لا عرض معه، [459/ب] وهو قوله: (ثمرة نخلة) وسواء كان الطعام متفقاً كما مثل به، أو مختلفاً كثمرة وقمح. صرح بذلك في المدونة، وعلل بعلتين: التفاضل في بيع الطعام من صنف واحد، وبيعه قبل قبضه إن كان على الكيل، لاحتمال أن يدع واحدة بعد اختيارها ويأخذ أخرى.

واختلف إذا تساوى الطعام هل يجوز ذلك فيه أم لا؟ فقال فضل: يجوز. وفي كتاب أبي الفرح والواضحة: المنع في ذلك. ابن حبيب: ويدخله بيع الطعام قبل استيفائه. وضعفوا هذا التعليل، وقالوا: بل يدخله طعام بطعام على خيار وليس يدخله بيعه قبل قبضه، لأنه لو أسلم في محمولة جاز أن يأخذ سمراء مثل الكيل بعد الأجل وهو بلد. واختار اللخمي في ذلك الجواز، ويحال المشتري في ذلك على دينه، ويؤمر إذا اختار شيئاً ألا ينتقل عنه. وروى ابن حبيب عن مالك فيمن قال: أبيع منك من هذه الصبرة عشرة آصع وإن شئت من هذه الصرة التي هي من جنسها بدينار وعقدا على ذلك، لم يجز. ابن الكاتب، ومعنى ذلك: إذا تأخر الاختيار عن وقت العقد. وقال ابن محرز: إذا اشترى عشرة أقفزة يختارها من صبرتين من جنس واحد، توقف فيها الشيخ أبو الحسن، وأجازها من لقينا من الشيوخ. فضل: وظاهر المدونة الجواز وفيه مغمز، لأن الطعام بالطعام لا يجوز فيه خيار ساعة. ابن عبد السلام: لا أدري من أين أخذها من المدونة، وفي أواخر كتاب الخيار من المدونة خلافه فانظره. بخلاف البائع يستثنى أربع نخلات أو خمساً من حائطه إن كانت يسيرة يختارها، فإن مالكا أجازه بعد أن وقف أربعين ليلة، وكرهه ابن القاسم .... أي: البائع يخالف المشتري في المسألة المتقدمة إذا كان الخيار له، فأجازه مالك إذا كان ما استثنى يسيراً. ولم يكتف المصنف بالأربع عن التقييد باليسير، لأن الحائط قد تكون نخلاته كلها يسيرة.

بيع عسيب النخل

ومراده بـ (اليسير) قدر الثلث فأدنى، كما تقدم. ونسب لابن القاسم الكراهة، الذي في الرواية، وقال ابن القاسم:: لا يعجبني ذلك، فإن وقع أمضيته لقول مالك فيه. قال: وما رأيت من أعجبه ولا أحب لأحد أن يدخل فيه. وقد أضاف الباجي إليه المنع. ونقل عنه ابن محرز أنه قال: لا خير فيه. ابن عبد السلام: والمنع أقرب إلى لفظه. أبو الحسن: ولو كان مراده الكراهة على بابها، لمضى على قوله ولم يحتج إلى التعليل بمراعاة قول مالك، وعلى هذا فنسبة الكراهة إليه ليست بجيدة. واختلف في الجواب عن توقف الإمام، فقال عبد الخالق: لأن البائع يعلم من حائطه جيده من رديئته، فلا يتوهم فيه أن يختار هذه ثم ينتقل، بخلاف المشتري. وقيل: لأن مالكاً يرى أن المستثنى عنده مبقى غير مشترى، ولو قال: إنه مبيع لمنع. ومنه بيع عسيب الفحل، وحمل على استئجار الفحل على عقوق الأنثى، ولا يمكن تسليمه، فأما على أكوام أزمان فيجوز .... روى البخاري عن ابن عمر قال: نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن عسيب الفحل. ويقال: عسب وعسيب بالياء ودونها. عياض في المشارق: وعسب الفحل المنهي عنه هو كراء ضرابه، العسيب هو نفسه الضراب، قاله أبو عبيدة. وقال غيره: لا يكون العسيب إلا الضراب، والمراد: الكراء عليه، لكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقيل: العسيب ماؤه. وفي الجوهري: العسيب الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل. ونهى عن عسب الفحل، تقول: عسب فحله يعسبه، أي: أكراه. وعسب الفحل أيضاً، ويقال: ماؤه.

بيع وشرط

وحمل أهل المذهب ذلك على الإجارة المجهولة، وهو أن يستأجره حتى تحمل الأنثي، وهذا هو مراده بعقوق الأنثى، وهذا القدر مجهول، لأنه قد لا تحمل فيغبن صاحب الأنثى، أما إذا كانت الإجارة مضبوطة بأكوام أو زمان فهي جائزة. عياض: والأكوام جمع كَوم بفتح الكاف، وهو الضراب والنزو. ويقال: كامها يكومها إذا فعل بها ذلك. فلو سيما أكواماً فعقت في الأولى انفسخت أي: انفسخت الإجارة في بقية المرات، وسيأتي نظائرها في باب الإجارة إن شاء الله. وصواب قوله: (عقت): أعقت. الجوهري: وأعقت الفرس، أي: حملت فهي عقوق، ولا يقال: معق إلا في لغة رديئة، والجمع: عقق كرسول ورسل. ومنه بيع وشرط، وحمل على شرط يناقض مقصود العقد، مثل ألا يبيع ولا يهب غير تنجيز العتق للسنة .... ذكر عبد الحق في أحكامه عن عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا أبو حنيفة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. وحمله أهل المذهب على الشرط الذي لا يتم معه المقصود من البيع. ومثل ما يناقضه بأن لا يبيع ولا يهب، ثم استثنى من ذلك تنجيز العتق، فإنه وإن كان يناقض مقتضى العقد فهو جائز. وأشار بالسنة إلى حديث بريرة، واحترز بالتنجيز من تدبيره أو عتقه إلى أجل أو نحو ذلك، فإنه فاسد. فرعان مرتبان: الأول: إذا أجزنا البيع بشرط العتق فهل يجبر عليه وهو قول أشهب، وابن كنانة، أو لا وهو قول ابن القاسم، ثم اختلف [457/أ] الأشياخ في محل الخلاف، فقيل: إن

المشترط عليه إن عقد الشراء على أنه بالخيار في إبقائه لم يجبر، وإن قصد أنه حر بنفس التزام الشراء ألزم ذلك، كذلك إن التزم ذلك، ويجبر عليه إن امتنع وإلا أعتقه عليه الحاكم، وإنما الخلاف فيما إذا وقع الشراء على الإطلاق، وإليه ذهب اللخمي. وقيل: الخلاف فيما إذا اشترط العتق على جهة الإيجاب. الثاني: إذا قلنا بفساد البيع لأجل اشتراط التدبير ونحوه، وقلنا بفسخه، فلو أسقط البائع شرطه، فقال ابن القاسم: يمضي. وقال أشهب: لا يمضي. أو يعود بخلل في الثمن، كشرط السلف من أحدهما هذا قسيم قوله: (على شرط يناقض مقتضى العقد) أي: المنهي عنه قسمان، قسم: يناقض مقتضى العقد. وقسم: يعود بجهالة في الثمن، لأنه لما وقع البيع على السلف صار من جملة الثمن والانتفاع به مجهول. والذي علل به الكثير من علمائنا المنع بأنه يؤول إلى سلف جر منفعة. وعلى هذا فيدعي أن الحكم معلل بعلتين، وما علل به المصنف هو في ابن شاس، وعلل به صاحب الاستذكار. فلو أسقط، فقولان أي: لو أسقط مشترط السلف شرطه، فالمشهر صحة البيع إذا تبين أنه لا مقابل له. والشاذ لابن عبد الحكم: لا يصح، لأنهما دخلا على الفساد ابتداء. ورواه المدنين عن مالك. وعلى المشهور من تخيير المتسلف في إسقاط شرطه ويصح البيع، فهل يشترط في التخيير ألا يكون قبض السلف وغاب عليه؟ وأما إن غاب عليه فلا يخير ويرد السلعة وينقض البيع، إذ ثم الربا بينهما للذي اشترط ذلك، ذهب إلى ذلك سحنون وابن حبيب، قالا: وإن فاتت بيدي المشتري ففيها القيمة ما بلغت. وذكر أصبغ عن ابن القاسم أن الغيبة على السلف لا تمنع تخيير المشتري، فيرده إن كانت السلعة قائمة، وإن فاتت فعلى

المشتري الأكثر من الثمن أو القيمة. واختلف على ما تحمل عليه المدونة من القولين، والأكثرون حملها على قول ابن القاسم. وصرح ابن عبد السلام بمشهوريته. وذكر ابن راشد قول سحنون ثالثاً. وظاهر إطلاقهم وإطلاق المصنف أنه لا فرق بين أن يكون الإسقاط قبل فوات السلعة أو بعد فواتها، لكن ذكر المازري أن ظاهر المذهب أنه لا يؤثر إسقاطه بعد فواتها في يد مشتريها، لأن القيمة حينئذ قد وجبت عليه فلا يؤثر الإسقاط بعده. وذكر المازري أن بعض الأشياخ خرج قولاً بالصحة مع إسقاط الشرط ولو مع الفوات، واعترضه. وتركته خوف الإطالة. ومفهوم قوله: (أسقط) أنه إن لم يسقط لم يختلف في فساده، وهو كذلك. فإن كانت السلعة قائمة ردت، وإن فاتت فثلاثة أقوال: روى يحيي عن ابن القاسم أن عليه القيمة ما بلغت، كان السلف من البائع أو من المبتاع، ويرد السلف. الثاني مذهب المدونة- نص عليه في كتاب الآجال-: إن كان السلف من البائع فله الأقل من الثمن أو القيمة يوم القبض ويرد السلف وإن كان الثمن مائة والسلف خمسين وكان السلف من المشتري فعليه الأكثر، فإن كانت القيمة أكثر من مائة وخمسين أخذها البائع وإن كانت أقل من مائة وخمسين لم ينقص المشتري من ذلك، لأنه رضي بمائة ثمناً ومعها خمسون يدفعها سلفاً، فإذا قبضنا من المائة وأسقطنا عنه الخمسين فقد أحسنا إليه، وإن كان السلف من البائع فله الأقل منهما، فإن كانت القيمة خمسين أو ستين أخذها، وإن كانت أكثر من مائة لم يزد عليها. الثالث الأصبغ: قال كذلك إلا لأنه رأى أن القيمة إذا زادت على المائة التي هي الثمن والخمسين السلف لا يقضى للبائع بأكثر منها، لأنه يقال له: أنت رضيت بالمائة تملكها

وتتبعه بالخمسين، فإذا ملكناك السلف فقد أحسنا إليك. لكن اختلف هل هو وفاق لما في الكتاب أو خلاف، والظاهر هو الأول. عياض: وظاهر الكتاب خلاف أصبغ. وأورد على المشهور لو باع سلعة وخمراً بثمن فإن البيع لا يصح ولو أسقط الخمر. وفرق القاضي إسماعيل بأن مشترط السلف يخير في أخذه وتركه، وإنما تكون كالسلف لو قال: أبيعك على أني إن شئت أن تزيد في زق خمر زدتني وإن شئت تركته، فلو تركه جاز البيع. ورده صاحب الاستذكار بأن مشترط الخمر لو شاء تركه كمشترط السلف سواء فلا فرق. وأجاب ابن زرقون: بأن مشترط السلف إذا تركه لم يجبر على أخذه، بخلاف مشترط الخمر، لأنه مشترى له، ومن اشترى شيئاً أجبر على قبضه. وفرق أيضاً: بأن البيع والسلف أصلان لو انفرد كل واحد منهما لجاز، والخمر لو انفردت وحدها لم يجز، وبأن الفساد في مسألة راجع إلى ماهية المبيع، لفساد المعقود عليه، بخلاف البيع والسلف، فإن الفساد خارج عن الماهية. فلو باعه المدين سلعة على ألا يقاصه، ففي منعه قولان لابن القاسم وأشهب، بناء على أنه شرط للتأخير أو لا .... يعني: لو كان لرجل دين حال على آخر فباع المدين سلعة لرب الدين بثمن من جنس الدين وشرط في عقده البيع ألا يقاصه، فقال ابن القاسم: يمنع [457/ب] لأن العرف في مثله يقتضي أن ذلك قرينة في تأخيره، ومن أخر ما عجل عد مسلفاً. قال شيخنا: ولو علل أيضاً بأنه يسامحه فيكون هدية مديان لكان له وجه. وروى أشهب أنه ليس في التزام عدم المقاصة ما يقتضي تأخيره، ولو شرط التأخير فسد اتفاقاً.

بيع العربان

فأما الرهن والكفيل والأجل فلا أي: وأما البيع باشتراط هذه الأربعة فليس من المنهي عنه. ومنه بيع العربان، وهو أن يعطي شيئاً على أنه إن كره البيع أو الإجارة لم يعد إليه .... روى مالك، وأبو داود: أنه- عليه الصلاة والسلام- نهى عن بيع العربان. وكلامه ظاهر التصور. والعربان: العربون، وفيه ست لغات: عُربون وعَربون وعُربان، وبالهمزة موضع العين في الثلاثة. فرع: فلو وقع البيع والكراء على ذلك، فقال عيسى بن دينار: يفسخ، فإن فاتت مضت بالقيمة. ومنه بيع الكلب، وفي المأذون الكراهة والتحريم. وأما من قتله فعليه قيمته، وأما غير المأذون فلا شيء على قاتله، لأنه مما يقتل قد تقدم هذا في أول البيوع. ومنه تفريق الأم من ولدها، قال مالك: ما لم يستغن عن أمه. فقيل: الإثغار. وقيل: سبع سنين. وقيل: البلوغ ... لقوله عليه الصلاة والسلام: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبابه يوم القيامة). حسنه الترمذي. وما ذكره المصنف عن مالك من تفسير النهي بحالة عدم الاستغناء هو لمالك في المدونة، وفسر فيها الاستغناء بأن في أكله وشرابه ومنامه وقيامه. واختلف هل النهي لحق الولد- وعليه ما في المختصر- إذا رضيت الأم بالتفرقة فلا بأس؟

واختار اللخمي، وابن يونس وغيرهما الأول. وقوله: (فقيل: الإثغار) هو كالتفسير للاستغناء. وظاهر كلامه: أن هذه الأقوال لأهل المذهب في تفسير الاستغناء الذي نص عليه مالك، وهو جيد لو لم يكن مالك نص على بعض هذه الأقوال. وقد نص على الأول في المدونة، فقال: وحد ذلك الإثغار ما لم يجعل به جواريَ كنَّ أو غلماناً. والقول بسبع سنين لابن حبيب، والقول بالبلوغ رواه ابن غانم، وقال ابن وهب: حد ذلك عشر سنين. المازري: وقال محمد بن عبد الحكم: لا يفرق بينهما ما عاشا. ولأجل المنع من التفرقة قالوا: إذا اشتراهما شخص ثم اطلع على عيب بأحدهما فليس له إلا رد الجميع. فإن فرقا، فقيل: يفسخ مطلقاً ويعاقبان، وقيل: إن لم يجمعاهما. وقيل: يباعان يعني: فإن فرقا إما ببيع، أو إجارة، أو نكاح، أو نحو ذلك. والقول بفسخه- يعني مطلقاً سواء جمعاهما أو لا- ذكره ابن حبيب عن مالك وأصحابه. والقول بفسخه إن لم يجمعاهما- أي في ملك- هو مذهب المدونة. وكان ينبغي تقديمه لأنه المشهور، وقد صرح المازري بمشهوريته. والثالث لابن المواز، قال: وأما الفسخ فلا. ومنشأ الخلاف هل منع التفرقة حق لله تعالى فيكون العقد على أحدهما فاسداً فلابد من فسخه كالخمر، أو حق لآدم فيكفي اجتماعهما؟ ثم هل في الحوز أو في الملك؟ فإن فرقا بغير عوض، فقيل: يباعان إن لم يجمعاهما في ملك. وقيل: إن لم يجمعاهما في حوز .... كما لو وهب الأم دون ولدها أو العكس، أو وهب كلاً منهما لشخص، لم يختلف أنه لابد من الجمع. واختلف قول مالك هل لا يكتفي إلا بالاجتماع في الملك كما لو فرقا

بعوض، أو يكتفى بالاجتماع في الحوز؟ لأن السيد لما ابتدأ فعله بالمعروف من الصدقة والهبة والغالب أنه لم يقصد الضرر فكان كالعتق. وهذا الثاني هو ظاهر المدونة عند أبي زيد. وقال ابن المواز: أحب إلينا الاجتماع في الملك وإلى من لقينا، ولو جاز هذا الجاز في الوارثين. وقد قال مالك: لا يقتسمان وإن شرط ألا يفترقا في الحيازة. وحكي عن ابن حبيب ثالث: وهو جواز الجمع في الحوز إذا كان الشمل واحداً، مثل أن تتصدق المرأة على زوجها أو هو عليها، والأب على ابنه والابن على أبيه، لا إن لم يكن الشمل واحداً، وتصح الهبة والصدقة ويؤمر بالمقاواة أو ببيعهما من واحد ويأخذ كل واحد ما ينوبه من الثمن. تنبيه: منع التفرقة خاص عندنا بالأم، وتجوز التفرقة في الأب والجد للأب أو للأم، قاله في المدونة وغيرها. واختار اللخمي منع التفرقة في الأب. فإن قلت: يلزم هنا وفيما إذ فرقا بعوض وامتنعا من جمعهما في ملك جمع الرجلين سلعتهما في البيع كما أشار إليه بعضهم، قيل: يمكن أن يدفع ذلك بأن يقوَّم كل من الولد والأم قبل البيع ثم يفض الثمن عليهما فلا تقع جهالة، أو أجيز ذلك هنا للضرورة الداعية إلى ذلك بخلاف الاختيار. وأجاب بالأول غير واحد، وبالثاني أيضاً عياض.

البيع على البيع

ومنه أن يبيع على بيع أخيه، ومحمله إذا ركن البائع، وفي فسخه قولان كالنكاح في الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له)). وعلى ظاهره من أن النهي للبائع أن يبيع على بيع أخيه إذا ركن المشتري إليه، حمله الباجي وعياض. وقال ابن حبيب: إنما النهي للمشتري دون البائع. وعدم الفسخ لمالك في الواضحة. ابن القاسم: ويستغفر الله ويعرضها على الأول بالثمن، زاد ابن القاسم ويؤدب. الباجي: ولعله يريد من تكرر ذلك منه، ونقل بعضهم عن مالك: أنه يفسخ ما لم يفت. وإذا قلنا: يعرضها على الأول، فإن كان الثاني أنفق نفقة [458/أ] زادت بسببها أعطاه النفقة مع الثمن، وإن نقصت فإن شاء أخد المبيع ولا شيء عليه وإن شاء تركه، قاله مالك. ابن عبد السلام: والمنصوص في المذهب أن البائع إذا ركن ليهودي فلا يزاد عليه. ومنه: بيع النجش، وهو أن يزيد ليغر في الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلقوا الركبان للبيع، ولا يبع بعضكم على بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)). قوله: (وهو أن يزيد ليغر) هو معنى تفسير مالك له في الموطأ. ولا يخلو إما أن يجعل بائعها من يزيد فيها، أو يفعل ذلك أحد من قبل نفسه ليفتدي به ويزيد عليه من يرغب فيها وليس مراده هو الشراء، فهذا إذا وقع وجب به الرد كما سيأتي. والنجش في اللغة: هو الإثار والتحريك، لأنه يثير الصدق ويحركه، والناجش للبيع يثير للفساد.

فإن وقع بدسه أو بعلمه، وقيل: أو بسببه كابنه وعبده ونحوهما، فقال ابن القاسم، وهو المشهود: له أن يرد، فإن فاتت فالقيمة ما لم تزد، وقال مالك: يفسخ كالنكاح في العدة .... ضمير (دسه) وما بعده للبائع، يعني: أنه اتفق على وقوع النجش إن دس البائع من زاد في السلعة، أو زاد فيها أحد لا يريد شراءها وعلم البائع ولم ينكر. وقوله: (وقيلَ ....) إلى آخره. هو قول ابن حبيب، لكنه لم يسقه على أنه خلاف بل على المذهب. وقد اعترضه بعض من تكلم على هذا الموضع بذلك، ثم ذكر المصنف في الحكم بعد الوقوع قولين، المشهور: أن البيع لا يفسخ. وكذلك صرح المازري بمشهوريته. والمبتاع بالخيار بين أن يتماسك بالمبيع على ثمنه في النجش أو يرد هذا في قيام السلعة، وأما في فواتها فعليه القيمة وكأنه أتلفها ما لم تزد على الثمن الذي رضي البائع وهو ثمن النجش وينبغي أن يتم هذا القول وما لم تنقص عن الثمن الذي كان قبل النجش، ونسب المصنف هذا القول لابن القاسم، ونسبه غيره لمالك. والشاذ: ذكره القزويني عن مالك، ووجهه: القياس على النكاح كما أشار إليه المصنف، وكون الأصلي في النهي أن يدل على فساد المنهي عنه. خليل: وهذا التعليل الثاني أظهر، وأما القياس فالوصف الجامع غير ظاهر. واختار ابن العربي أن الناجش إذا بَلَّغ السلعة القيمة فهو مأجور، وفيه بعد، لأنه إن لم يرد الشراء فهو إتلاف لمال المشتري، وإن كان مع إرادة الشراء فليس بناجش. ونص ابن العربي على منعه من الزيادة على القيمة. أشهب عن مالك: وإن أراد بيع سلعة وقال: أعطيت بها كذا وهو صادق، فلا بأس به إذا كان أعطى عن سوم، وأما النجش فلا، أو يكون عطاء قديماً فيكتم قِدَمَه والمبتاع يظن أنه حديث. فرعان: الأول، لمالك في الموازية: فيمن قال لرجل ما أُعطِيتَ في سلعتك فلك زيادة دينار، فقال: أعطاني فلان مائة فزاده وأخذها، ثم قال فلان: لم أعطه إلا تسعين. قال مالك:

يلزمه البيع ولو شاء لتثبت، إلا أن تكون بينة حضرت عطاء فلان دون ذلك فيرد البيع إن شاء ذلك. مالك في العتبية: ولا يمين عليه. ابن رشد: وإذا قامت البينة فاتت السلعة بما يفوت به البيع الفاسد، ففيها القيمة ما لم تزد على ما تبايعا عليه أو تنقص عما شهدت عليه البينة. الثاني: عكس الزيادة في النجش سؤال المشتري لبعض أهل السوق الكف عن الزيادة ليشتري بدون القيمة، فإن سأل أهل السوق أو الكثير منهم لم يجز، وإن سأل الواحد، ففي الموازية عن مالك: لا بأس أن يقول المشتري لرجل حاضر كف عني ولا تزد علي، فأما الأمر العام فلا، وكره أن يقول: كف عني ولا تزد علي، فأما الأمر العام فلا، وكره أن يقول: كف عني ولك نصفها ويدخله الدلسة، ولا ينبغي أن تجتمع الباعة فيقولوا: لا تزيدوا على كذا. ونقل في البيان عن ابن دحون، ووافقه عليه أنه لو قال: كف عني ولك دينار جاز ولزمه اشترى أو لم يشتر. قال: وإنما لم يجز قوله: ولك نصفها في الرواية إذا كان على طريق العطية، فكأنه أعطاه على أن يكف عنه ما لا يملك. ولمالك في العتبية والواضحة: في عبدين ثلاثة، قال أحدهم لآخر: إذا تقاومناه فلا تزد ليقتدي بك صاحبنا والعبد بيني وبينك، ففعل وثبت ذلك ببينة أو إقرار أن البيع مردود. قال ابن حبيب: ولم يأخذ به أصبغ ولم يره من النجش وبه أقول، لأن صاحبه لم يرد أن يقتدي بزيادته إنما أمسك عن الزيادة رأساً ليرخصه على نفسه وعلى صاحبه فلا بأس بذلك. ابن عبد السلام: الذي يظهر ببادئ الرأي قول أصبغ، لكن هؤلاء الثلاثة لما جلسوا للمقاواة صاروا كجميع أهل السوق، وقد قدم عدم الجواز في أهل السوق.

بيع الحاضر للبادي

ومنه بيع الحاضر للبادي، وفي الموطأ: محمله على أهل العمود لجهلهم بالأسعار، وقيل: بعمومه، لقوله: ولا يبيع مدني لمصري ولا مصري لمدني قد تقدم النهي، وما نسبه للموطأ تبع فيه ابن شاس، وليس في الموطأ ما ذكراه، ولعلهما اعتمدا في ذلك على ذكره الحديث وسكوته ففهما منه أنه أبقى الحديث على ظاهره، والبادي ظاهر في أهل العمود. وذكر صاحب البيان في كتاب السلطان، في أهل القرى ثلاثة أقوال: أحدها: أن النهي إنما يتناول أهل العمود خاصة دون أهل القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها وهي رواية أبي موسى قرة بن [458/ب] طارق عن مالك. الثاني: أنه يتناول أهل العمود والقرى دون أهل المدن. الثالث: أنه يتناول أهل العمود والقرى وأهل المدن. ابن عبد السلام: وكل من القولين الأخيرين لمالك في العتبية والموازية. (وقيل: بعمومه) أي: بعموم الهي لأهل العمود والقرى، هذا هو القول الثاني الذي حكاه ابن رشد. وقوله: (لقوله) أي: لقول مالك في الموازية: (ولا يبيع مدني لمصري ولا مصري لمدني). فإن وقع ففي الفسخ قولان، قال مالك: لا يشار على البادي ولا يخير بالسعر أي: فإن باع حاضر لباد ففي فسخ البيع قولان، والقولان لابن القاسم. والفسخ مروي عن مالك وبه قال أصبغ، وبعدم الفسخ قال ابن وهب وابن عبد الحكم. وروى عيسى عن ابن القاسم: يفسخ، فإن فات فلا شيء عليه. وروى عنه هو وسحنون أنه يؤدب الحاضر البائع للبادي، زاد عيسى عنه: إذا كان معتاداً. وقال ابن وهب: يزجر ولا يؤدب وإن كان عالماً بمكروهه، ولا يشار عليه، أي: باليد ولا بالعين.

البيع بعد نداء الجمعة

فرعان: الأول: لو وجه البدوي متاعاً مع رسول إلى الحضري ليبيعه، فذكر القزويني عن الأبهري جواز بيعه له، وحكى الباجي عن مالك وابن القاسم فسخ البيع في هذه الصورة، وهو الأظهر. المازري: وهو المعروف من المذهب. الثاني: أجاز مالك في الموازية والعتبية الشراء لهم. وقال ابن حبيب: الشراء كالبيع، وروي أيضاً عن مالك. ومنه: البيع بعد نداء الجمعة الموجب للسعي على المتبايعين أو أحدهما، فإن وقع فالمشهور الفسخ، وثالثها في حق من اعتاد ذلك النهي هو ما ورد في القرآن بصيغة الأمر بقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]. وقيد النداء بالموجب للسعي احترازاً من النداء الأول، وسواء كان المتبايعان ممن تجب الجمعة عليهما أو على أحدهما. والفسخ مذهب المدونة والمشهور، وعدم الفسخ لمالك في المجموعة، والثالث لعبد الملك. ورجح الثاني بأن المنع هنا من جهة الزمان وحده والعقدة صحيحة في أركانها وشروطها. واختلف أيضاً فيمن أخر صلاة حتى لم يبقَ من وقتها الضروري إلا مقدار ما يوقعها فيه فباع في ذلك الوقت، فقال القاضي إسماعيل: يفسخ بيعه، وهو اختيار الشيخ أبي عمران، لوجود العلة في صلاة الجمعة هنا. وقال ابن سحنون: لا يفسخ. المازري: ويمكن أن يقال بعدم الفسخ هنا، بخلاف الجمعة فإن الجماعة شرط فيها، فمن المصلحة منع كل ما أدى إلى افتراق جمعهم والإخلال بشرط لا تصح الجمعة إلا به، بخلاف غيرها من الصلوات فإن الجماعة ليست شرطاً فيها.

تلقي السلع

وألزم القائل بالإبطال أن يبطل بياعات الغاضب، لأنها واقعة في زمان كان يجب عليهم فيه التشاغل برد الغصوبات. وألحق الغرناطي بالبيع يوم الجمعة البيعَ وقت الفتنة، يريد في حق من طلب منه الخروج. ابن رشد: ويحرم البيع في المكان المغصوب. فإن فاتت فالقيمة، وقيل: الثمن القول بالقيمة لابن القاسم وأشهب، والقول بالثمن للمغيرة، وعلله ابن عبدوس بأن فساده في عقده لا في ثمنه، كالنكاح يفسد من جهة عقده. ويقوم وقت البيع بتقدير الحل، وقال أشهب: بعد الصلاة هذا فرع على القول بوجوب القيمة، يعني: إذا ألزمناه القيمة، فقال ابن القاسم في الواضحة: تقوم وقت قبضها سائر البياعات الفاسدة، فإنها تقوم مضافة إلى زمان قبضها. وعبارة المصنف عنه بوقت البيع ليست بجيدة، لأنها أعم من وقت القبض. وقال أشهب: الرجوع على القيمة إنما هو لتصحيح الفاسد، والفاسد في هذا البيع إنما هو من جهة زمانه، فلو أضفنا إليه القيمة لكان تصحيحاً للفاسد بالفاسد، وفيه نظر، لأن هذا إنما هو من باب التقدير، كما تقوم أم الولد وجلد الأضحية والكلب، وإن قلنا أنه لا يجوز بيعهم. ابن عبد السلام: وحكى بعض المعاصرين عن أصبغ وجوب القيمة يوم التحاكم، ولعله لم يصح عنه فإني لم أقف عليه في شيء من كتب الفقه. ومنه تلقي السلع، وروي في حده ثلاثة: الميل، والفرسخان، واليومان قد تقدم النهي، واختلف العلماء هل النهي لحق الجالب وهو مذهب الشافعي، أو لحق أهل السوق وهو مذهب مالك. واختار ابن العربي أنه من حقهما. وظاهر المذهب أن

المنع من ذلك على التحريم. وقال ابن الجهم: كان النهي عن التلقي في أول الإسلام، لئلا ينفرد المتلقي بالرخص دون أهل السوق، وأما الآن فلا يقدم أحد إلا وهو على بصيرة بسعر ما يقدم به، فينبغي أن يكره ولا يحرم. والأقوال الثلاثة التي حكاها ظاهرة التصور. وقال الباجي: يمنع التلقي قرب أو بعد، وهو ظاهر الحديث. وأما الغلات التي يَلحق أهلَ الأصولِ ضررٌ بتفريق بيعها كثمار الحوائط التي حول البلد، فاختلف هل يجوز لبعض أهل المدينة أن يخرج ليشتريها ثم يبيع هو لأهل المدينة؟ فروى ابن القاسم عن مالك: لا بأس بذلك. وقال في سماع أشهب: هو من التلقي، رواه عن مالك. ولو ورد خير السلعة فاشتراها شخص على الصفة، فقال مالك: هو من التلقي. وإن كان الأمر بالعكس فوصلت السلعة ولم يصل بائعها فتلقاه رجل فاشتراها منه، فقال [459/أ] الباجي: لم أر فيه نصاً وهو عندي من التلقي. ومن مرت به سلعة ومنزله بقرب المصر المجلوب إليه على نحو ستة أميال فله أن يشتري ما يحتاج إليه لنفسه لا للتجارة، ولو كانت داره بالبلد نفسها فمرت به السلعة فقولان، ولو لم يكن للسلعة سوق فإذا دخل بيوت الحاضرة والأزقة جاز شراؤه، قاله مالك وأصحابه. وإذا بلغت السلعة سوقها ثم انقلب بها، فلا بأس أن يشتريها من مرت به. فإن وقع، فثالثها: يمضي ولطالبها الاشتراك أي: فإن وقع شراء التلقي، ففي المسألة ثلاثة أقوال، الأول: يمضي ولا يفسخ. المازري: وهو المشهور، وهو قول مالك وغيره من الأصحاب. الثاني: لمحمد وابن حبيب: يفسخ. المازري: وعلى عدم فسخه فروى ابن القاسم أنه لا ينتزع من يد المتلقي، وبه قال ابن القاسم. وروى ابن وهب أنها تنزع من يده. انتهى. ورواية ابن وهب هي القول الثالث في كلام المصنف. ابن القاسم عن مالك: ويُنْهَى، فإن عاد أُدِّبَ.

بيوع الآجال

وفي الإكمال: المشهور عن مالك وأكثر أصحابه أن تعرض على أهل السوق، فإن لم يكن سوق فأهل المصر يشترك فيها من شاء منهم. بيوع الآجال لقب لما يفسد بعض صوره منها، لتطرق التهمة، فإنها قصدا إلى ظاهر جائز ليتوصلا به إلى باطل ممنوع حسما للذريعة .... لما انقضى كلامه على البيوع التي نص الشرع على المنع منها عقبها ببيوع يتوصل بها إلى الممنوع، منعها أهل المذهب وغيرهم وسميت ببيوع الآجال، لأنها لا تنفك عن الأجل. وقوله: (لقب) أي: علم، ولعله عبر باللقب إشارة إلى الذم، لأن قوله: (لما يفسد) فيه إشارة إلى ذلك. ثم هل كلٌّ من لفظة البيوع والآجال باق على دلالته، أو سلبت دلالة كل واحد وصار المجموع اسماً لما ذكره فيه احتمال، والثاني أظهر. و (ما) في: (لما يفسد) يحتمل أن تكون موصولة أو موصوفة، وضمير: (صوره) عائد على (ما) لا على اللقب كما قال ابن راشد، لأن الفاسد بعض الملقب لا بعض اللقب. وقيل: الاسم للمسمى تكلف ويلزم عليه خلو الموصول من عائد، وضمير: (منها) عائد على بيوع الآجال. ولا يقال: يلزم الدور لأنه عرف الشيء بنفسه، لأن المراد شرح اللفظ لا الحد والرسم. و (لتطرق) متعلق بـ (يفسد) و (حسما) مفعول لأجله عامله محذوف، أي: فمنعه الشارع لأجل حسم الذريعة، والذريعة: بالذال المعجمة الوسيلة، وأصله عند العرب لما تألفه الناقة الشاردة من الحيوان لتنضبط به فنقلت إلى البيع الجائز للتحيل به على ما لا يجوز فهو من مجاز المشابهة. وأورد ابن عبد السلام دخول ما ليس من بيوع الآجال، كبيع فضة رديئة من شخص يذهب ثم يشتري به منه فضة طيبة دون الأولى وزناً في مجلس أو مجلسين متقاربين،

وكاقتضاء طعام من ثمن طعام مخالف له وغير ذلك. وعلى ما تقدم من أن المراد: شرح اللفظ لا يرد هذا، ولو سلم أن المراد: الرسم، ففي صدر كلامه ما يخرجها، لأنه قال: لقب لما يفسد، أي: لقب لصور مخصوصة من البيوع الأجلية يفسد بعضها للتهمة. وتلك الصور المخصوصة مذكورة في الباب، وليست الصورتان وشبههما منها. وأجمعت الأمة على المنع من بيع وسلف ولا معنى سواه أتى بهذا حجة لسد الذرائع، يعني: أن كل واحد من البيع والسلف على انفراده جائز بإجماع الأمة، وأجمعت على المنع من اجتماعهما للذريعة، ولا سبب إلا التهمة على الزيادة في السلف. والأصل: عدم غيره، ولاسيما وقد يحث على غير ذلك فلم يوجد، ولا يقال: لم لا يجوز أن يكون تعبداً لأنه خلاف الأصل، ولأن المتعقل أقرب إلى الانقياد فوجب الحمل عليه. وإذا ثبت هذا فتمنع كل صورة فيها تهمة للإجماع على المنع لأجلها. وقد يعترض هذا الدليل بأن حكاية الإجماع ليست بجيدة، لأنه إما أن يكون ذلك إذا لم يكن السلف بشرط، أو إذا كان فالأول لا يصح، لأن الشافعي يجيزه، والثاني المنع فيه عند الشافعي إنما هو لأجل الشرط لا للتهمة، لكن الظاهر منع هذه البياعات، لأن إجازتها تستدعي الوقوع في المحرم البين كما هو مشاهد بالديار المصرية. فإن كان مما يكثر القصد إليه كبيع وسلف، أو سلف جر منفعة منع وفاقاً لما قرر المنع وكانت أسبابه مختلفة بالقوة والضعف أخذ يبين ذلك، والقوي: ما يكثر القصد إليه. وقوله: (فإن كان) أي: الباطل الممنوع، ومثل ما يكثر القصد إليه ببيع وسلف، وسلف جر نفعاً. وإنما كان مما يكثر القصد إليه لما فيه من الزيادة، والنفوس مجبولة على حبها فلذلك يتحيل عليها.

مثال البيع والسلف: أن يبيع سعلتين بدينار إلى شهر ثم يشتري واحدة منهما بدينار نقداً، وقاعدة مالك- رحمه الله- وأصحابه: عدُّ ما خرج من اليد وعاد إليها لغوا، وكأن البائع خرج من يده سلعة ودينار نقداً يأخذ عنهما عند الأجل دينارين، أحدهما عوضٌ عن السلعة وهو بيع، والثاني [459/ب] عوضٌ عن الدينار المنقود وهو سلف جر منفعة. ومثال سلف جر منفعة- المسألة التي هي أصل هذا الباب-: أن يبيع ثوباً بعشرة إلى شهر، ثم يشتريه بثمانية نقداً، فقد رجع إليه ثوبه وخرج من يده ثمانية يأخذ عنها عشرة. وقوله: (منع) أي: البيع الموصل إلى هذا الممنوع. وأشار ابن راشد إلى أنه كان ينبغي أن يكتفي ببيع وسلف، لأن ذكر سلف جر منعفة يغني عنه، لأن البيع والسلف إنما منع لأدائه إلى سلف جر منفعة. وأجيب: بأنه وإن كان مؤدياً إليه إلا أنه تعليل بالمظنة فهو أضبط. وإن كان مما يقل، كدفع الأكثر مما فيه الضمان وأخذ أقل منه إلى أجل، فقولان .... (إلى أجل) متعلق بـ (دفع) أي: وإن كان الباطن الممنوع قليل الوقوع لقلة من يقصد إليه، لأن الغالب دفع الأقل لتحصيل الأكثر لا العكس، كما لو باع ثوبين بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشترى منه عند الأجل أو قبله ثوباً منهما بالعشرة فآل أمره إلى أنه دفع له ثوبين ليضمن له أحدهما بثوب إلى أجل. وظاهر المذهب من القولين الجواز لبعده. ابن بشير، وابن شاس: والقولان مشهوران، ولا خلاف أن صريح ضمان بجعل ممنوع، لأن الشرع جعل الضمان والجاه والقرض لا يفعل إلا لله بغير عوض، فأخذ العوض عليه سحت. وإن كان بعيداً جداً، كأسلفني وأسلفك، فالمشهورة: جوازه (وأسلفك) منوصب بعد الواو على معنى الجمع، أي: ليجتمع سلف منك وسلف مني. والشاذ لابن الماشجون، ومثاله: لو باعه ثوباً بدينار إلى شره ثم اشتراه بدينار نقداً

وبدينار إلى شهرين، والسلعة قد رجعت إلى صاحبها ودفع الآن ديناراً يأخذ بعد شهر دينارين إلى شهرين أحدهما عوض عما كان أعطاه، والثاني كأنه أسلفه على أن يعطي عند مضي شهر آخر، واستبعد ابن عبد السلام أن يكون هذا أضعف مما قبله، لأن العادة طلب المكافأة على السلف بالسلف. وأجيب: بأن المستبعد الدخول على أن يسلفه الآن ليسلفه بعد ذلك بشهر، إذ الناس يقصدون السلف عند الاضطرار. ولو اعتبر البعيد لمنع بالمثل وبأكثر نقداً، وبأقل إلى أبعد إذا كانت السلعة بيده متمكناً من الانتفاع، وقد التزمه بعضهم .... يعني: أنه لا ينبغي أن يعتبر الباطن إذا كان بعيداً إذ لو اعتبر للزم المنع في ثلاث صور، وهي جائزة اتفاقاً، أولها: أن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل فتقيم عند المشتري مدة يمكنه الانتفاع بها، ثم يشتريها بمثل ذلك الثمن نقداً. ثانيها: كذلك ويشتريها بأكثر نقداً. ثالثها: كذلك ويشتريها بأقل إلى أبعد، كما لو باعها أولاً بعشرة إلى شهر، ثم اشتراها بعد خمسة عشر يوماً بخمسة إلى شهرين. ابن عبد السلام: وتبع المصنف في هذا ابن بشير. وكلامه في هذا الفصل مختل، وإنما يصح المعنى الذي قصدوه في الصورة الثالثة، لأن البائع دفع عشرة يأخذ عنها خمسة بعد ذلك والانتفاع الذي حصل من السلعة، فيكون بيعاً وسلفاً، وإنما يجوز إذا رجع إليه المثل أو الأقل، فإن رجع إليه الأكثر فلا يجوز. وأما الصورتان الأولتان، فابن القاسم وغيره يجيزهما ولا مانع فيهما محقق ولا متوهم. وقال شيخنا: بل المعنى كما قال المصنف، وهو أن المنع يترتب على كل ما لو نطقا به ابتداء لمنع، والمنع فيهما لأجل الضمان بجعل، لأنه إذا اشتراها بالمثل نقداً فقد جعل

ذلك الانتفاع جعلاً على ضمانها في مدة الانتفاع والزيادة. وإذا تبين لك ذلك في المثل كان بيانه مع الزيادة أحرى، لكون الجعل حينئذ الانتفاع والزيادة. فقول ابن عبد السلام: وكلام ابن بشير مختل ليس بظاهر، وقول المصنف: إذا قامت السلعة بيده، تنبيه على المعنى الموجب للتهمة. وقوله: (التزمه بعضهم) عبر بالالتزام، وعبر ابن بشير بالإلزام، فقال: وألزم بعضهم على مراعاة التهم البعيدة أن يمنع، وذكر الثلاث صور كما ذكرها المصنف. ولم يعلل ابن بشير المنع في الثلاث بما علله به شيخنا، بل علل بالبيع والسلف، ويكون الثمن سلفاً والمنفعة مبيعة بالسلعة. وبقي هنا شيء وهو: إن كان المراد ببعضهم غير ابن محرز فحسن، لكن لم أقف عليه، وإن كان هو المراد كما قيل ففيه نظر، لأن ابن محرز إنما تكلم على الصورة الثالثة، ويتبين لك ذلك بالوقوف على كلامه، فقال: إذا باع سلعة بمائة إلى شهر، ثم اشتراها بمائة نقداً أو إلى الأجل، أو أبعد منه فذلك جائز، لأنه لا تهمة في ذلك من وجه، إلا أنه إذا اشتراها بمثل الثمن أو أقل منه إلى أبعد من الأجل كان بيعاً وسلفاً، فإن قدر ما يرجع إلى المشتري سلفاً وما زاد على ذلك ثمناً للإجارة فيما انتفع بالسلعة فصار بيعاً وسلفاً. وكذلك إن اشتراها بأقل من الثمن إلى أبعد من الأجل، لأنه يكون إجارة وسلفاً، ولم أر يذهب إلى هذا، وإنما يعتبرون بصورة الحال عند العقد الثاني، فإذا لم تكن فيه تهمة أجازوه. فعلى هذه الطريقة [460/أ] لا يعتبرون ما تقدم من انتفاعه بالسلعة قبل العقدة الثانية، إلا أن أبا الفرج ذكر في كتابه عن ابن الماجشون أنه قال: لا يجوز أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يشتريها بذلك الثمن إلى أبعد من الأجل.

ابن محرز: ولا أعلم له وجهاً إلا ما ذكرته من الانتفاع بالسلعة. المازري: ولم أقف على ما نقله ابن محرز في الحاوي. قال: وإنما حكى أبو الفرج عن عبد الملك أنه يمتنع أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها وسلعة أخرى بذلك الثمن أو بأكثر منه إلى أبعد من ذلك الأجل. خليل: وستأتي هذه المسألة في كلام المصنف في آخر الباب. فمن باع سلعة تعرف بعينها إلى أجل ثم اشتراها، فاعتبر ما خرج وما رجع وألغ الوسط، فإن جاز وإلا بطل .... هذا هو القانون لهذا الباب، واحترز بقوله: (تعرف بعينها) من المكيل والموزون، فإن له حكماً يخصه سيأتي. وقوله: (إلى أجل) أي: بثمن إلى أجل، فاعتبر ما خرج من اليد، أي: السابقة بالعطاء، سواء كانت يد البائع أو المشتري، وما عاد إليها ثانياً. (وألغ الوسط) وهي السلعة المبيعة. فإن جاز بأن الراجع مثل ما خرج منها أو أقل، وحذف جواب الشرط، أي: جاز البيع - وسيظهر لك ذلك - وإلا بطل، أي: وإن لم يكن ما رجع مثل الخارج أو أقل بطل، وقد تقدم. فإن كانت الأولى نقداً لم يتهم على المشهور إلا أهل العينة فيهما، وقيل: أو في أحدهما .... أي: فإن كانت البيعة الأولى نقداً. ومفهوم كلامه: أن الثانية إلى أجل، فالمشهور وهو مذهب ابن القاسم وأشهب: أنه لا يتهم في ذلك إلا أهل العينة. والشاذ: أنه يتهم في ذلك كل واحد، وهو لمالك في الموازية. ابن عبد السلام: وأما إذا كانت معاً نقداً فلا يتهم إلا أهل العينة باتفاق. وقوله: (فيهما، وقيل: أو في أحدهما) أي: في المتبايعين، يعني: إذا لم يتهم إلا أهل العينة فلابد أن يكون المتبايعان من أهلها.

وقيل: يكتفى بأحدهما وهو لمحمد. ووجهه: أنه قد يحمل صاحبه عليها. اللخمي: يريد إلا أن يكون الآخر من أهل الدين والفضل، فلا يحمل على أنه عامله عليها. فإن كان الثمنان عيناً على صفة واحدة فقد يكون الثاني نقداً مساوياً، وأقل، وأكثر فهذه ثلاث، وقد يكون إلى أجل في الثلاث، ثم الأجل مساو، وأقل، وأكثر صارت اثنتي عشرة صورة، فإن تعجل منها الأقل امتنع، وهي ثلاث قوله: (على صفة واحدة) أي: سكة واحدة ونوع واحد. وقوله: (فقد يكون الثاني نقداً) أي: مع أن البيعة الأولى إلى أجل. وحاصله: أن للشراء أربعة أحوال، إما نقداً، أو إلى أجل دون الأجل، أو إلى الأجل نفسه، أو إلى أبع منه. ثم كل من هذه الأربعة: إما بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر. صارت اثنتي عشرة صورة يمنع منها ثلاث، أشار إليها بقوله: يمتنع منها ما تعجل فيه الأقل. وهي: بأقل منه نقداً، وبأقل إلى دون الأجل، وبأكثر إلى أبعد من الأجل. وتجوز التسع البواقي، وضابطها أن تقول: إن تساوى الأجلان فاحكم بالجواز ولا تبالي باختلاف الثمنين. وإن تساوى الثمنان فاحكم بالجواز ولا تبالي باختلاف الأجلين. وإن اختلفا فانظر لليد السابقة بالعطاء، فإن رجع إليها مثل ما خرج منها أو أقل جاز، وإن رجع إليها أكثر امتنع. بيانه: أنه باعه بعشرة إلى شهر، ثم اشتراها بثمانية نقداً أو إلى أجل نصف شهر، فقد رجعت إليه سلعته وخرج منها ثمانية يأخذ عنها بعد ذلك عشرة. وكذلك إذا اشتريت باثني عشر إلى شهرين يعطي المشتري بعد شهر عشرة يأخذ بعد ذلك اثني عشر، وعاد المشتري في هذه الثالثة مسلفاً.

ويشكل منها بأكثر إلى أبعد أي: يشكل من الثلاث الممنوعة الصورة الأخيرة، وهي: (بأكثر إلى أبعد). ابن عبد السلام: ولا إشكال فيها، لا باعتبار نقلها فإنها منقولة في المدونة وغيرها، ولا باعتبار وجهها، ووجهها بما تقدم. وأجاب شيخنا - رحمه الله- بأن قال: بل وجه المنع فيها ضعيف، لأنه تقدم أن ظاهر المذهب الجواز فيما يبعد القصد إليه، وهذه أيضاً كذلك يبعد أن يدخل البائع مع المشتري على أن يسلفه المشتري عشرة بعد شهر ليأخذ عنها اثنى عشر مثلاً، لأن الغالب في أحوال الناس احتياجهم إلى السلف ناجزاً، والتحيل إنما يكون على ما يحتاج إليه غالباً لا نادراً. ولو اشترى بأقل إلى أجله، أو أبعد ثم رضي بالتعجيل، فقولان للمتأخرين يعني: لو وقع البيع على وجه جائز، كما لو باعه سلعة بعشرة إلى شهر، ثم اشتراها بثمانية إلى شهر أو إلى أبعد منه، ثم رضي البائع والمشتري بتعجيل الثمانية، فهل يجوز ذلك لأن البيع قد انعقد أولاً جائزاً، ولاسيما حيث يكون الثمن عيناً، فإن الأجل من حق من عليه الدين فلا تهمة أو يمتنع ذلك لاتهامها، والقولان للمتأخرين. وكذلك الخلاف إذا اشترى بأكثر إلى أجله ثم تراضيا بالتأخير. انتهى. وينبغي أن ينظر هنا إلى قرب الزمان فتقوى التهمة، وإن طال طولاً يخرجان به عن التهمة فيجوز، وهكذا قال: ينبغي في العكس إذا اشتراها بأكثر فلا يقبض إلا بعد الأجل. فلو أفات البائع السلعة بما يوجب القيمة فكانت أقل، فقولان [460/ب] مثاله: لو باعه شاة بعشرة إلى شهر، ثم تعدى عليها فذبحها مثلاً فكانت القيمة ثمانية، فلا خف في تمكين المشتري من القيمة لينتفع بها. ثم هل يدفع للبائع عند

الأجل العشرة لبعد التهمة، وهو قول في المجموعة، أو إنما يدفع مثل ما أخذ منه فقط وهي ثمانية، إذ يتهمان على السلف بزيادة، وهو قول ابن القاسم في العتبية. وظاهر كلامه: أن القولين في تمكين المشتري من قبض تلك القيمة وليس كذلك، بل لا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف كما ذكرنا. فإن التهمة فيها أبعد لو كانت الأولى نقدا، وفرق بقوة تهمة دين في دين اختلف في تأويل هذا المحل، فقيل: هو إشارة منه إلى توجيه الشاذ الذي يتهم فيه أهل العينة وغيرهم فيما إذا كانت البيعة الأولى نقداً، وكأنه يقول: التهمة على التحيل بإفاتة السلعة لتجب القيمة أبعد مما إذا كانت الأولى نقداً والثانية إلى أجل، لأنهما وإن اشتركا في سلف بزيادة، إلا أن صورة الإتلاف يبعد القصد إليها، لأنه قد لا يحصل الغرض باختلاف الأسواق. ثم أجاب: بأن المنع قوي في مسألة الفوات بأنه دين بدين، لأن البائع لما أفات السلعة وجبت عليه القيمة للمشتري وله في ذمة المشتري دين. وقيل: إن ضمير (فيها) عائد على الصورة التي استشكلها في قوله: (ويشكل منها بأكثر إلى أبعد) وأن هذا توجيه لذلك الإشكال، أي: أن التهمة فيما يباع بعشرة إلى شهر ثم يشتريه بعشرين إلى شهرين أبعد مما لو كانت البيعة الأولى نقداً، كما لو باع بخمسة نقداً ثم يشتريه بعشرة إلى شهر، فإن المشتري مسلف في الصورتين، لأن السلف في هذه حاصل ناجز، أو هو مقصود غالباً، بخلاف الأولى فإن السلف فيها إنما يحصل بعد شهر، وهو مما يبعد القصد إليه. وإذا جاز في صورة النقد على المشهور مع قرب التهمة كان المنع المتفق عليه في صورة التأجيل مشكلاً لأنه أبعد، ثم فرق أن صورة التأجيل في البيعيتن ينضم فيها إلى السلف بالزيادة مانع آخر وهو تهمة دين بدين، وليس هو موجوداً إذا كانت الأولى نقداً. ويؤيد

هذا الوجه وقوع هذا الكلام، أي: (فإن التهمة ....) إلخ. في بعض النسخ بعد قوله: (ويشكل منها بأكثر إلى أبعد). وقال ابن راشد وغيره غير هاتين الوجهين. ولم أر من ذكر ذلك، والثاني أقرب، والأول هو الذي يؤخذ من كلام ابن عبد السلام. لكن على كلامه اعتراض، لأنه قال بعد أن قال: هذا توجيه منه للقول الشاذ في مسألة النقد كما تقدم، وكأن المصنف يقول: التهمة في مسألة الإفاتة منها في مسألة النقد، هكذا رأيته في نسخ وبعضها صحيح. وصوابه أن يقول عوض أقوى، أضعف. والله أعلم. ولذلك فسد في تساوي الأجلين إذا اشترطا عدم المقاصة، وصح في أكثر إلى أبعد إذا اشترطا المقاصة .... أي: ولأجل أن التهمة دائرة مع الدين بالدين منع ما أصله الجواز، وهو ما إذا تساوى الأجلان وشرطا عدم المقاصة لما فيه من عمارة الذمتين، وأجيز لذلك ما أصله المنع، وهو ما إذا اشتريت بأكثر إلى أبعد وشرطا المقاصة للسلامة من دفع قليل في كثير. لا يقال المنع في الأولى إنما نشأ من الشرط، بخلاف ما تقدم فإنما فيه التهمة فقط، لأنا نقول: المتهم عليه في هذا الباب كالمدخول عليه. فإن اختلفا في الجودة والرداءة، أو في ذهب وفضة امتنع، لأنه صرف مستأجر هذا قسيم قوله: (على صفة واحدة) ونوعه إلى قسمين، أحدهما: الاختلاف في الجودة والرداءة مع اتحاد النوع، كمحمدية ويزيدية. والثاني: الاختلاف بالنوع، كذهب وفضة. لما يؤدي إليه في الأول إن سلما من دفع قليل في كثير من ربا النساء وربا الفضل، والنساء إن لم يسلما، ولما يؤدي إليه في الثاني من صرف مستأخر. واكتفى بذكر علة الثاني لوجهين، أحدهما: لأنه تفهم منه علة الأول، ولأن ما ذكره من التفريع إنما هو في الصرف. ووجد في بعض النسخ: لأنه صرف أو بدل مستأخر، فذكر العلتين.

وفي بعض النسخ ما نصه: فإن اختلفا في الجودة والرداءة فأربع وعشرون صورة. فالجودة والرداءة كالقلة والكثرة، فإن عجل منها الأقل والأدنى امتنع، إلا أن المشهور المنع إن تساويا قدراً وأجلاً وهو مشكل، أو في ذهب وفضة امتنع، لأنه صرف مستأخر، انتهى نص هذه النسخة. أي: لأنه قد يكون الجيد من عند البائع والرديء من عند المشتري وعكسه، وفي كل أثنتي عشرة صورة وجه الإشكال الذي ذكره: أن الغالب في التحيل إنما هو حينما تحصل المنفعة ولا منفعة مع التساوي. خليل: وهذه النسخة أولى لاقتضاء الأولى المنع فيما إذا باعه عشرة يزيدية إلى شهر ثم اشتراه بعشرة محمدية نقداً. والنسخة الأولى هي التي وقعت في كلام ابن عبد السلام وقررها على ظاهرها من المنع في المثال المفروض وليس بظاهر، لأن في الجواهر مقتضى المعروف من المذهب الجواز في المثال المذكور بخلاف عكسه، وهو الذي ذكره ابن يونس وعزاه لبعض الأصحاب، وقال: إنه بين، وهو مذهب ابن القاسم وعبد الملك [461/أ] في المجموعة، قالا: وإن باعها بعشرة هامشية إلى شهر ثم اشتراها بعشرة عتق نقداً أو إلى أجل فجائز، ولا يجوز إلى أبعد من الأجل، لأن الهاشمية أدنى من العتق. ابن القاسم: وإن كانت الهاشمية أكثر عدداً فإن كانت بزيادتها مثل العتق المؤخرة أو أكثر فلا بأس به، وإن لم تكن مثلها فلا خير فيه. قالا: وإن باعها بمائة عتق تنقص خروبة إلى شهر، ثم اشتراها بمائة هاشمية وازنة. ابن يونس: يريد نقداً، فإن كان في زيادة وزنها ما يحمل جودة العتق فأكثر جاز، وإلا لم يجز. إلا أن يكون المعجل أكثر من قيمة المتأخر جداً، وقيل: ومثله هذا استثناء من المنع، أي: أنه إذا كان الثمن الثاني أكثر جداً مما باع به أولا جاز لخروج ذلك عن المعهود من أحوال المتهمين. وما صدر به المصنف هو مذهب المدونة،

قال فيها: وإن بعته بثلاثين درهماً إلى شهر- يعني: الثوب- فلا تبتعه بدينار نقداً فيصير صرفاً مؤخراً، ولو ابتعته بعشرين ديناراً جاز لبعدهما من التهمة. قال: وإن بعته بأربعين درهماً إلى شهر جاز أن تبتاعه بثلاثة دنانير نقداً لبيان فظلها، ولا يعجبني بدينارين وإن ساوياها في الصرف. ومنع أشهب مطلقاً مبالغة في الاحتياط للصرف، ولأنه قد يكون لدافع الدنانير في الدراهم أو العكس غرض. اللخمي: وتجوز بالمساوي على قول ابن القاسم وعبد الملك في المجموعة، وكذلك قال في الجواهر، واستقرأ اللخمي قولاً ثالثاً أنه يجوز بالمساوي، وهو أحسن. ومراده: التساوي في القيمة، لأنه يخسر الصبر ولا يعود إلى يده أكثر مما خرج منها، وإلى هذا أشار بقوله: (وقيل: ومثله) ففيه مسامحة. خليل: والظاهر أن الاستثناء عائد على مختلف النوع فقط، كما ذكرنا لقوله: (من قيمة المتأخر) إذ لا يقال ذلك في متفق النوع، لكن يبقى فيه نظر، وهو أنه يبقى مختلف الصفة باق على إطلاق المنع، فلا يجوز إن كان المعجل أكثر من قد المتأخر وليس كذلك، بل يجوز ذلك ويجوز إن كان قدره وكان المتأخر أردأ، كما نص عليه ابن القاسم في الهاشمية والعتق، كما تقدم. والمشهور: المنع إذا تساويا قدراً وأجلاً، لأنه دين بدين ابن عبد السلام: يعني كما لو باعه ثوب بعشرين درهماً إلى شهر ثم اشتراه بدينار إلى ذلك الشهر، قال المصنف: لأنه دين بدين، ولا شك أن ذلك مقتض للمنع. وأكثر ما يعللون به هنا الصرف المؤخر، لأنه أضيق. ثم قال: واستعمل المصنف في هذا الموضع التساوي في القدر في مختلفي الجنس، ومراده: التساوي في القيمة، لأن أحد الثمنين ذهب والآخر فضة.

وحمله ابن راشد وغيره على ما إذا اتفق النوع واختلف الصفة كمحمدية ويزيدية، وهو ظاهر قوله: (تساويا قدراً وأجلاً) وذكر أن المشهور المنع لأنه مذهب المدونة. قال فيها: وإن بعث ثوباً بمائة درهم محمدية إل شهر فلا تبتعه بمائة يزيدية على ذلك الشهر لرجوع ثوبك إليك، وكأنك بعت يزيدية بمحمدية إلى أجل. ابن يونس وغيره: ولا فرق بين أن تتقدم اليزيدية أو المحمدية، لأنه بيع يزيدية بمحمدية، أو محمدية بيزيدية إلى أجل، ونقله ابن محرز عن أكثر مذاكريه. ونقل عن بعضهم: إن كانت البيعة الأولى باليزيدية والثانية بالمحمدية ما لم يكن في ذلك تهمة جاز. ابن محرز: وهو مذهب ابن القاسم وعبد الملك، لأنهما قالا: لو كان الثمن الأول هاشمية ثم اشتراها بمائة عتق إلى الأجل أو أقرب منه كان جائزاً. ولابن القاسم في المجموعة: إذا باع بمائة قائمة إلى شهر ثم ابتاع بمائة مجموعة نقداً لم يجز، وأما إلى الأجل أو أبعد فجائز لنفي التهمة، وهو الشاذ الذي حكاه المصنف. فإن كان الثمنان طعاماً نوعاً واحداً على صفة واحدة فاثنتا عشرة صورة كالعين، إلا أنه اختلف إذا تعجل منها الأكثر، بناء على قرب ضمان بجعل أو بعده .... لا إشكال في تصور الاثنتى عشرة صورة كالعين، إلا أنه اختلف هنا في صورتين هما جائزتان في العين اتفاقاً، إذا استردها بأكثر مقدار نقداً، أو بأقل منه إلى أبعد من الأجل. وسببهما كما قال المصنف: هل الضمان بجعل يقصد غالباً أم لا؟ واعترضه بعض من تكلم على هذا الموضع بأنه قدم أن الضمان بجعل بعيد لأنه مما يقل القصد إليه على القولين، فكيف بجعه هنا قريباً. فإن اختلفا في الجودة والرداءة أو كانا نوعين فكما تقدم الجودة والرداءة كالسمراء والمحمولة، والنوع كالقمح والفول، فكما تقدم، أي: في العين.

فإن كان الثمنان عرضا نوعا واحدا فكالطعام إنما شبهها بالطعام لا بالعين لمشاركة العرض للطعام في الصورتين المختلف فيهما، لدخول الضمان بجعل فيهما ولا ضمان في العين على ما علم في غير هذا الموضع. فإن كان نوعين جازت الصور كلها، إذ لا ربا في العروض كما إذا باع شاة بثوب إلى أجل ثم اشتراها بفرس أو غيره مما هو مخالف للثوب. ومراده بالصور كلها: صور النقد الثلاثة. وأما صور [461/ب] الأجل التسع فممنوعة لأنه دين بدين. وكان المصنف أطلق في قوله: (لا ربا في العروض) ومراده: نفي ربا التفاضل لوضوحه، إذ لا يخفى على من له أدنى مشاركة أن ربا النساء يدخل في العروض، وهكذا كان شيخنا رحمه الله يقول. فإن كانت السلعة طعاماً أو مما يكال أو يوزن لا مثلها صفة ومقداراً كعينها يعني: ٍ فإن باع طعاماً أو غيره مما لا يعرف بعينه بثمن إلى أجل ثم اشترى مثل ذلك المبيع في صفته ومقداره، فإن ذلك المثل يكون كما لو اشترى منه عين مبيعة نسيئة، فيمتنع ما امتنع فيها، لأن ما لا يعرف بعينه يقوم المثل فيه مقام مثله في أكثر المسائل. ويمتنع بأقل إلى الأجل كما إذا باع إردبا بدينارين إلى شهر ثم اشترى مثله بدينار إلى ذلك الشهر. وأطلق في المنع، وهو مقيد بغيبة المشتري عليها، لأنهم يعدون الغيبة عليها سلفاً، فكأن البائع أسلف المشتري إردباً على أن يعطيه ديناراً بعد شهر ويقاصه بدينار عند الأجل فآل إلى سلف جر منفعة.

وهذه المسألة مخصصة لعموم التشبيه في قوله: فمثلها صفة ومقداراً كعينها، لأن ما يعرف بعينه تنتفي فيه علة المنع، وهي السلف بزيادة، لا يقال: إذا غالب على ما يعرف بعينه فقد انتفع به، والسلف لا يتعين فيه رد المثل، بل يجوز فيه رد العين والمثل فلم لا تعدوه سلفاً، لأنا نقلو: لما رجعت العين فكأنهما اشترطا ذلك فخرجا عن حقيقة السلف، وفيه نظر. فإن قيل: يفهم من قوله: (ويمتنع بأقل إلى الأجل) أنه يجوز بأقل إلى أبعد من الأجل، والمنقول فيها المنع. ذكره صاحب المقدمات وعلله بسلف بزيادة. فالجواب: لا يفهم ذلك منه، بل يفهم منه المنع مع التأمل للمساواة في العلة، وهي السلف بزيادة. وعلى هذا فالممتنع من الاثنتي عشرة مما لا يعرف بعينه خمس: فثلاث لقوله أولاً. فمثلها صفة ومقداراً كعينها. ورابعة لقوله: ويمتنع بأقل إلى الأجل. وخامسة: وهي بأقل إلى أبعد لمساواتها لهذه، ويمتنع على قول ابن الماجشون. سادسة: وهي بمثل الثمن إلى أبعد، بناء على اعتبار أسلفني وأسلفك. فإن اختلفا في المقدار وكان الراجع أقل، فكسلعتين ثم اشتريت إحداهما وإن اختلفا، أي: المبيعان مما لا يعرف بعينه في المقدار فاسترد أقل، فكسلعتين بعتهما ثم اشتريت إحداهما. والتشبيه يعم التصور والحكم. فأما التصور: فمتوجه من حيث الجملة، فلا خفاء في تصور الأثنتي عشرة صورة، ومن حيث التفصيل تتضاعف صور المشبه، وهو ما لا يعرف بعينه باعتبار الغيبة وعدمها، فيتصور اثنتا عشرة عينا. وأما التشبيه في الحكم: فيصح مع عدم الغيبة، لتساويهما في الممتنع والجائز.

فالممتنع خمس وهي: أن يشتري الأقل بالأقل من الثمن نقداً. أو إلى أجل دون الأجل. أو يشتريه إلى أبعد بمثل الثمن. أو أقل. أو أكثر. والجائز: ما بقي. ولا يصح مع الغيبة لزيادة الصور الممتنعة، فتزيد مع الخمس صورة أخرى وهي: أن يشتريه بأقل من الثمن إلى مثل الأجل، مثل: أن يبيع إردبين بعشرة إلى شهر ثم يشتريه إردباً بالخمسة إلى الأجل، فقد أسلف البائع إردباً رجع إليه وخرج من يده إردب وله خمسة يقاص المشتري بها عند الأجل، ويخرج من يد المشتري خمسة مقابلة الإردب، وهي جائزة مع عدم الغيبة. واختلف في سابعه، وهي: أن يبتاع منه بمثل الثمنأقل من الطعام مقاصة، فإن قول مالك اختلف يها واضطرب فيها أيضاً المتأخرون، فقد تبين أن تشبيه المصنف لا يصح على إطلاقه. ويقع في بعض النسخ عقب قوله: (في المقدار) ما نصه: (فاجعل الزيادة والنقص في المردود مثلهما في الثمن، ولكن على العكس) أي: اجعل الثمنين هنا متساويين لا يتغيران، والتغيير في المثمونين والأجل أيضا كما كانت السلعة في الصورة المتقدمة لا تتغير، وإنما كان يتغير الثمن والأجل. وانظر هذا أيضاً إن رجع إلى اليد السابقة بدفع الثمن أقل أو مساو جاز، وإن رجع إليها أكثر امتنع، وهو الذي أشار بقوله: (على العكس). لكن في كلامه على هذا قصور، لأن الاثنتي عشرة صورة إنما تتصور مع اختلاف الأجل أيضاً. والله أعلم. فإن كان أكثر فكسلعة، ثم اشتريت مع أخرى وسيأتيان أي: فإن كان الراجع في المسالة بحالها أكثر مما خرج، فهو في التصور والحكم كمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم اشتراها مع سلعة أخرى، وستأتي. إلا أن صور المشبه تبلغ

أربعاً وعشرين صورة باعتابر الغيبة وعدمها، كما قلنا في التي قبلها، بخلاف صور المشبه به فإنها اثنتا عشرة، إذ لا فرق بين الغيبة وعدمها فيما يعرف بعينه. فالممتنع من المشبه به سبع، وهي: بمثل الثمن نقداً، أو إلى أجل أقل، أو بأقل منه نقداً، أو إلى أجل قبل الأجل، والعلة في الأربع: أو بأكثر من الثمن نقداً، أو إلى أجل قبل الأجل، أو بعده، والعلة في الثلاث: بيع وسلف. وتبقى خمس جائزة. وأما مع الغيبة فيما لا يرعف بعينه فالجميع ممتنع، إما لسلف [462/أ] جر منفعة إن اشترى بالمثل أو أقل، وإما بيع وسلف إن اشترى بأكثر. فتبين أن ما ذكره من التشبيه ليس على إطلاقه. فإن إختلفا في الجودة والرداءة، فهما كالزيادة والنقص يعني: فإن كان ما اشتراه ثانياً أجود مما باع أولاً، فحكمه حكم ما إذا اشترى ما باعه مع زيادة، وإذا اشترى أراد فحكمه حكم ما إذا اشترى أقل مقداراً، لأن الجودة زيادة والرداءة نقص. فإن كان غير صنفه كالشعير، أو السلت مع القمح، أو المحمولة مع السمراء، فحكى عبد الحق جوازه .... أي: فإن كان الطعام الثاني من جنس الأول لا من صنفه كالقمح مع الشعير، أو السلت أو المحمولة مع السمراء، فهل يكونا كسلعتين، كما لو باع منه ثوباً إلى أجل ثم اشترى منه فرساً، هكذا حكى عبد الحق في النكت عن بعض شيوخه القرويين. ورأى ابن يونس أنه بالخيار على مذهب ابن القاسم، وأن المنع يأتي على مذهب سحنون ومحمد في العرض المردود مثله. وسيأتي.

وكأن المصنف نسب المسألة لعبد الحق تبرياً، إذ المعروف من المذهب أن القمح والشعير جنس واحد فكان ينبغي المنع. ولعل ما ذكره عبد الحق جار على أحد القولين في تأويل مسالة السلم الثاني، وهي: ما إذا أسلم في حنطة سلماً فاسداً وفسخ العقد بينهما ووجب للمسلم أخذ رأس ماله. قال في المدونة: فيجوز له أخذ ما شاء عن رأس ماله سوى الصنف الذي أسلم فيه، أي: لأنه إذا أخذ الصنف الذي أسلم فيه فقد تم العقد الفاسد. فذهب فضل، وابن أبي زمنين إلى أنه يجوز أخذ المحمولة إن كان أسلم في سمراء وبالعكس، وهكذا قال غيرهما، وهو في الموازية والواضحة أيضاً. ومنعه ابن محرز، والأبياني، وقالا: لا يجوز أخذ السمراء عن المحمولة، ولا الشعير عن القمح. فما قاله عبد الحق جار على التأويل الأول. ويعتبر في الطعام مطلقاً أن من باع طعاماً إلى أجل لم يجز أن يشتري بذلك الثمن ولا ببعضه طعاماً، وإن خالفه قبل الأجل، ولا بعده إلا أن يكون كيله وصفته، إن محمولة فمحمولة، وإن سمراء فسمراء .... هذه المسألة نافعة للناظر في مذهب مالك، لدخول أشياء كثيرة تحتها، وهي ليست من بياعات الآجال، وإنما أتى بها- والله أعلم- لمناسبتها لإلغاء الوسط وسداً للذريعة. والأليق بها كتاب السلم والصلح، ومعناها: أن من باع طعاماً مطلقاً ربوياً أو غيره بثمن إلى أجل، لم يجز له ولا للمحال عليه أن يأخذ بذلك الثمن ولا ببعض ما هو عليه طعاماً، وإن خالفه قبل الأجل أو بعده، إلا أن يكون مثل الطعام الذي خرج من يده صفة ومقداراً لعدم التهمة حينئذ، ويعد حينئذ إقالة. وقوله: (بثمن) يريد: وكذلك بحال تأخر قبض الثمن حتى افترق المتبايعان. وليس هذا مخصوصاً في المذهب بالطعام، بل لا يجوز أخذ اللحم عن ثمن الحيوان ولا العكس، ولا أخذ طعام من أجرة كراء أرض للحرث، قاله في المدونة. ولا أخذ الثياب عن ثمن الغزل إذا مضى زمن يمكن أن ينسج فيه، لأنه

إجارة مجهولة، ولا أخذ القصيل عن ثمن الشعير بعد زمن يصير فيه قصيلا، ولا السيوف عن الحديد. وضابطه: كل ما لا يجوز أن يباع أحدهما بالآخر نقداً، فلا يجوز أن يقتضي أحدهما من ثمن الآخر، كاللحم عن الحيوان والعكس، والطعام عن ثمن الأرض. وكل ما لا يجوز أن يباع أحدهما بالآخر إلى أجل فلا يجوز أن يقتضى أحدهما من ثمن الآخر، كأخذ الطعام عن ثمن الطعام، وأخذ ثوب عن ثوبين أو العكس، وأخذ غزل عن ثمن كتان بعد مدة يمكن فيها النسج، وأخذ ثياب عن ثمن غزل في مدة يمكن فيها النسج، وأخذ قصيل عن شعير بعد مدة يمكن فيها نباته. وجاء في منع أقل منه بمثل الثمن قولان لمالك وابن القاسم هكذا وقع في بعض النسخ (منع) ولا حذف فيها. وفي نسخة: (بيع) وفيها حذف مضاف، أي: منع بيع أقل وجوازه. فالمنع لمالك في المدونة، والجواز له في الموازية وهو الأشهر عن ابن القاسم. فنسب لكل منهما ما هو الأشهر عنه، ولم ينقل عن ابن القاسم قول صريح بالمنع، بل نقل عنه أنه قال مرة بالجواز، وقال مرة لا يعجبني. وليس مراده أن لكل منهما قولان، لأنه خلاف عادته، ولأن ابن القاسم لم يصرح بالمنع كما ذكرنا، ولأن هذه المسالة مستثناة من قوله: (إلا أن يكون ككيله وصفته) وأفردها لينبه على الخلاف فيها. والخلاف في المسألة مبني على الخلاف في قرب ضمان بجعل أو بعده. والأردأ مثله ظاهره أن القولين فيه كما في الأقل وليس كذلك، لأن مالكاً نص في المدونة على الجواز في الأردأ وعلى المنع في الأقل، فهما مفترقان عنده.

وإذا كانت السعلة عرضاً فمثله كمخالفه على الأصح، وقال ابن المواز: مثله كعينه، كمن أسلم ثياباً ثم أقال في مثلها وزيادة هذه المسالة مقابلة لقوله: (قيل: فإن كانت السلعة طعاماً أو مما يكال أو يوزن) أي: وإن كانت السلعة عرضاً يعرف بعينه كالثياب والحيوان فمثله كمخالفه. فإذا باع ثوباً أو شاه بعشرة إلى شهر، ثم اشترى البائع من المشتري شاة أو ثوباً بأقل نقداً، فالأصح- وهو مذهب المدونة- الجواز، كما لو اشترى فرساً أو غيره من مخالفة في الجنس. واحتج ابن القاسم [462/ب] بأن ذوات القيم لا يقوم المثل فيها مقام المثل، فوجب أن يكون المثل فيها كالمخالف. ومقابل الأصح لسحنون، وابن المواز وغيرهما: أن المثل كالعين، لا أن المثل يقوم في ذوات القيم مقام المثل، ولكن لمعنى آخر وهو السلف بزيادة بيانه من لو باع ثوباً بعشرة إلى شهر ثم اشترى منه مثل ثوبه بخمسة نقداً، فآل الأمر إلى أن مثل سلته قد رجعت إليه وخرج من يده خمسة يأخذ بعد شهر عشرة. زاد ابن المواز: فشبه ما قرره من وجه المنع بمن أسلم ثوباً في شاة أو باعه بدراهم ثم أقال من تلك العقدة على أن أخذ ثوباً وزيادة. وفرق ابن المواز بأن المسألة الأولى المتنازع فيها لم يقصد المتبايعان نقض البيعة الأولى، بل أبقياها واستأنفا بيعة ثانية لا تعلق لها بالأولى، فوجب بقاء كل حالة منهما على حالها. ومسألة الإقالة التي شبه بها قصَد المتبايعان نقضَ البيعة الأولى بالإقالة، فوجب من أجل ذلك النظر إلى ما خرج من اليد وعاد إليها، كما في بياعات الآجال بل أولى، فقصارى مسائل الآجال أن يتهما على القصد إلى نقص البيعة الأولى، وها هنا قد صرح بذلك.

فلو تغيرت السلعة كثيراً، فقيل: كعينها. وقيل: كغيرها يعني: لو باعه سلعة من المقومات كدابة بعشرة إلى سنة فركبها، قال في الموازية: إلى مثل الحج وبعيد السفر، فتأتي وقد نقصها ذلك، فهل يمنع أن يشتريها بائعها بتسعة مثلاً. أجازه في رواية ابن القاسم، ومنعه في رواية أشهب وبه أخذ سحنون. وذكر في رواية أشهب أنه قال: إذا أُحدث بها عور أو عرج أو قطع حتى يعلم أنهما لم يعملا على فسخ البيع، فلا يصلح هذا ولا يؤمن عليه أحد. قال في النكت: والرواية الأولى أقيس، لأن السلعة إذا تغيرت تغيراً شديداً بعدت التهمة. ابن رشد: اختلافهما هناك اختلافهما في الرواحل إذا استقال المكري الكري بزيادة بعد أن سار من الطريق ما له بال، أجازه ابن القاسم ورأى أن هذا السير يمنع التهمة، ومنعه أشهب. فإن كان الثاني بعضه نقداً وبعضه مؤجلاً- وهي تسع- فإن تعجل الأقل أو بعضه امتنع .... يعني: فإن كان الثمن الثاني بعضه نقداً وبعضه مؤجلاً، فالأجل: إما مساوٍ، أو أقل، أو أكثر. والثمن: إما مساوٍ، أو أقل، أو أكثر. فهذه تسع وإليه أشار بقوله: (وهي تسع) وإنما انتفت صور النقد الثلاث، لأن الفرض أن بعض الثمن مؤجل، وإذا كان مؤجلاً لا يصح أن يكون نقداً وبين الممتنع منها بقوله: (فإن تعجل الأقل أو بعضه امتنع) كما لو باع سلعة بعشرة إلى شهر، ثم اشتراها بتسعة فأقل، عجل منها خمسة مثلاً وأخر أربعة، وسواء أخرها إلى

أقل من الأجل، أو إلى الأجل، أو إلى أبعد، لأنه إذا باع ثوباً بعشرة إلى شهر ثم اشتراه بثمانية، أربعة نقداً وأربعة إلى نصفه، أو إلى الشهر أو إلى الشهرين، فإن ثوبه قد رجع إليه ودفع الآن أربعة وأربعة بعد نصف شهر يأخذ عنها عشرة عند تمام الشهر. وهذه الصورة قد تعجل فيها كل الأقل. وكذلك إذا كانت الأربعة مؤخرة إلى الشهر، فإنه يسقط بسببها إلى أربعة من العشرة لأجل المقاصة، وآل الأمر إلى أن البائع دفع الآن أربعة يأخذ عنها عند حلول الشهر ستة، والتعليل كذلك في الشهرين. وهاتان الصورتان تعجل فيهما بعض الأقل، وهما والأولى مندرجة تحت قوله: (فإن تعجل الأقل أو بعضه). ويدخل في كلامه صورة رابعة مشاركة للأولى في تعجيل كل الأقل، وهي ما إذا اشتراها بأكثر وعجل بعضه وأخر بعضه إلى أجل أبعد من الأجل الأول، كما لو باعه بعشرة إلى شهر، ثم اشتراه باثني عشر، خمسة نقداً وسبعة إلى شهرين، فإن الثوب رجع لربه، ودفع الآن خمسة يأخذ عنها مثلها عند تمام الشهر، ويدفع له المشتري حينئذ خمسة يعطيه البائع عوضاً عنها بعد شهر آخر سبعة. فالعشرة أقل من الاثني عشر، فيصدق عليها قوله: (تعجل فيها الأقل). فعلى هذا، فـ (أو) من قوله: (فإن تعجل فيها الأقل أو بعضه) للتفصيل. فتعجل الأقل كله هو في الصورة الأولى والرابعة، وتعجل بعضه هو في الثانية والثالثة كما قررنا. وبه يندفع ما قاله ابن عبد السلام هنا، من أن كلامه لا يشمل الصورة الرابعة، وأن قوله: (تعجل الأقل) خارج عن فرض المسألة، إذ فرضها أن بعضه مؤجل، فلا يتعجل فيها جميع الأقل.

ومنع ابن الماجشون المؤجل إذا كان مساوياً للباقي، بناء على اعتبار: أسلفني وأسلفك، وهو بعيد .... يعني: أن ابن الماجشون منع الصور التسع صورةً أخرى هي جائزة على المشهور، وهي ما إذا كان المؤجل أبعد من أجل الثمن الأول وهو مساوٍ له، كما لو باعه بعشرة إلى شهر ثم استردها بخمسة نقداً أو خمسة إلى شهرين. وقد تقدم الكلام عنها أول الفصل حين أشار إليها المصنف بقوله: (وإن كان بعيداً جداً، كأسلفني وأسلفك). ولو باع ثوبين بعشرة إلى سنة، ثم اشترى أحدهما نقداً بتسعة لم يجز، لأن بيع وسلف ... هذه إحدى المسألتين اللتين تقدمت الإحالة عليهما قبل هذا بقوله: (وسيأتيان). ومعناها: أن من باع ثوبين بعشرة إلى سنة مثلاً ثم اشترى أحدهما بأقل من الثمن الأول نقداً كتسعة أو ثمانية أو أقل، فالثوب الراجع كأنه لم يقع فيه بيع وآل أمره إلى أنه دفع تسعة وثوباً معجلين في عشرة إلى شهر، [463/أ] فتسعة منها تقابل تسعة سلف، والثوب مبيع بالدينار العاشر، فقد اجتمع بيع وسلف. ابن عبد السلام: قيل: إنما تظهر هذه التهمة إذا كان الثوب يساوي ديناراً أو نحوه، وأما لو كان يساوي خمسة ونحوها فالتهمة حينئذ بعيدة. وينبغي على أصل ابن القاسم الجواز إذا اتضح ارتفاع التهمة، كما أجاز في الصرف إذا كانت قيمة المعجل أكثر من قيمة المتأخر جداً، ألا ترى أن البيع والسلف يكثر القصد إليه بخلاف الصرف المستأخر.

ولو اشتراه بعشرة فأكثر جاز، خلافاً لابن الماجشون، وهي اثنتا عشرة صورة يمتنع منها ما تعجل فيه الأقل .... يعني: فلو اشترى أحد الثوبين بمثل الثمن الأول فأكثر جاز لانتفاء التهمة، لأن البائع دفع عشرة وثوباً نقداً يأخذ عنهما عشرة بعد سنة، ولا تهمة في ذلك. وما نسبه لابن الماجشون ليس بنص، وإنا نصوا له على المنع فيمن باع ثوباً بعشرة إلى شهر ثم اشتراه بثوب وعشرة، فقدر الثوب المردود مبيعاً بالثوب المدفوع والعشرة سلف بعشرة، وستأتي هذه المسألة. وألزمه التوني منها المنع في الصورة التي ذكرها المصنف، لأن البائع خرج من يده ثوب وهو الباقي بيد المشتري، ورجع له ثوب عوضاً عنه وهو الذي كان خرج من يده أولاً، وهذا بيع. وخرج من يده عشرة نقداً يأخذ عشرة بعد شهر، وهذا سلف. وكأن المصنف قوي عنده هذا الإلزام فجرى على أحد القولين في أن لازم القول قول فنسبه إليه. وحل المازري هذا الإلزام بأن ابن الماجشون قال في المسألة المنصوصة: ولاسيما إن كان الثوب المدفوع آخراً أدنى من الثوب الأول. فأشار بقوله: (أدنى) إلى اتضاح التهمة برجوع ثوب آخر مخالف، إذ اختلاف الأعواض دليل على اختلاف الأغراض، وهذا بخلاف أن يعود إلى يده عين ما خرج منها، فلا تهمة لاتحاد العوض. وقوله: (وهي اثنتا عشرة صورة) لأنه إذا باع ثوبين بعشرة ثم اشترى أحدهما، فإما: بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر. والبيع إما: نقداً، أو دون الأجل، أو إلى الأجل، أو أبعد منه. وقوله: (يمتنع منها ما تعجل فيه الأقل) ظاهر، وقد تقدم وهو: ما إذا اشترى أحدهما بتسعة. وظاهر كلامه أنه لا يمتنع إلا هذا، وليس كذلك، فإن الصور الثلاث التي بعد الأجل كلها ممتنعة، نص على ذلك المازري وهي: أن يشتري أحدهما ثانياً بمثل الثمن أو أقل، أو أكثر، أو أبعد من الأجل.

أما الأولى: فلتهمة سلف جر نفعاً، كما لو باعها بعشرة إلى شهر ثم اشترى أحدهما بعشرة إلى شهرين، لأنه البائع خرج من يده ثوب على أن يسلفه المشتري عشرة بعد شهر يأخذها منه بعد شهرين، والثوب عوض انتفاعه بالسلف. وأما الثانية: وهي أن يشتريه بأقل إلى أبعد، فلأنه بيع وسلف، لأن البائع إذا اشتراه ثانياً بخمسة إلى شهرين، فقد خرج من يده ثوب يعطيه المشتري عند حلول الأجل عشرة، خمسة منه عوض عن الثوب، وخمسة يسلفها له يأخذها منه بعد شهرين. وأما الثالثة: وهي أن يشتريه بأكثر على أبعد، فهو سلف جر نفعاً، وتصوره ظاهر. وقد يمكن أن تندرج هذه الصورة الثالثة- وهي أن يشتري بأكثر إلى أبعد- في قوله: (تعجل فيه الأقل) لأن ما يأخذه البائع بعد شهر أقل، ويتعجل بالنسبة إلى ما يأخذه بعد شهرين. وأما الأوليان فلا تندرجان في كلامه. ولو اشترى أحدهما بغير صنف الثمن الأول، فقالوا: يمنع مطلقاً، وعندي في النقد المربي على جميع الثمن، الظاهر: الجواز .... مراده بغير الصنف: أن يكون الثمن الأول ذهباً والثاني فضة، أو يكون الأول محمدية والثاني يزيدية، فيئول الأمر إلى أن البائع رجع إليه أحد ثوبيه وخرج من يده ثوب وذهبٌ يأخذُ عند الأجل فضة، أو خرج من يده ثوب ومحمديةٌ يأخذ عند الأجل يزيدية. وقوله: (فقالوا: يمنع مطلقاً) أي: سواء كان الثمن الثاني أقل، أو أكثر، أو مساوياً، نقداً، أو إلى أجل دون الأجل، أو إلى الأجل نفسه أو أبعد. ابن بشير: ولا خلاف في ذلك، وعلله بأن السلعة المردودة سلف، وما خرج من الثوب والذهب أو المحمدية مبيع بما في ذمة المشتري من الفضة أو اليزيدية مع ما فيه من الصرف المستأخر أو البدل المستأخر.

وتبرأ المصنف من هذه بقوله: (قالوا) لإشكاله، لأن القياس على ما تقدم في البيع والصرف أن يجوز إذا كان المنقود أكثر من المؤجل جداً، لانتفاء التهمة فيه كانتفائها فيما تقدم في قوله: (إلا أن يكون المتعجل أكثر من قيمة المتأخر جداً) ولا فرق بين المسألتين. ويدل على أن هذا الوجه هو المقتضي للتبرؤ ما وقع في بعض النسخ: (وعندي في النقد المربي على جميع الثمن، الظاهر، الظاهر: الجواز). وقوله: (المربي) أي: الزائد على جميع الثمن. ولم يصرح بتعميم المنع في الصور كلها من غير خلاف إلا ابن بشير، وإنما أطلق غيره من غير خلاف إلا ابن بشير، وإنما أطلق غيره من المتقدمين. وعلى هذا ففي كلام ابن بشير نظر، لاحتمال أن يكونوا أطلقوا المنع اتكالاً على ما ذكروه في الصرف. وقد صرح اللخمي به هنا، فقال: ينبغي الجواز حيث يكون الثمن المعجل أكثر من الثمن المؤجل بأمر بيِّن فأحرى، وهو نحو ما نسبه المصنف لنفسه. ولو باعه بعشرة ثم اشتراه مع سلعة نقداً بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر لم يجز، لأنه بيع وسلف .... هذه المسألة الثانية المحال عليها أولاً، ومعناها: أنه إذا باع ثوباً بعشرة إلى شهر ثم اشتراه مع ثوب آخر بعشرة لم يجز، لأنه قد آل أمره إلى أن ثوبه رجع إليه وخرج منه عشرة يأخذ [463/ب] عنها بعد شهر عشرة وقد ازداد ثوباً أولاً. وإذا ظهر لك هذا في الشراء بمثل الثمن كان فيما إذا اشتراها بأكثر أوضح، وهي الصورة الثالثة من كلام المصنف. أما إذا اشتراها بأقل كما لو اشتراها بثمانية نقداً، فقد رجع إليه ثوبه وآل الأمر إلى أنه دفع ثمانية دنانير نقداً أخذ عنها ثوباً نقداً وعشرة دنانير إلى أجل، لا خفاء في فساده لأنه بيع وسلف.

وقد صرح المازري وابن عبد السلام: بأن المع في المثل وأقل لسلف جر نفعاً كما ذكرنا. فقول المصنف: (لأنه بيع وسلف) يحتمل أن يعود على صورة الأكثر وفيه بعد، ويحتمل أن يعود على الثلاث وهو ظاهر كلام ابن بشير. فكأنه وزع المنقود على السلعة المزيدة من جهة المشتري وعلى ما يقتضيه عند الأجل من ذمته، فيجتمع فيه البيع والسلف، وتقرير المازري أظهر. والله أعلم. وكذلك بأكثر منه أو بمثله إلى أبعد، ويعد المشتري مسلفاً، بخلاف الأقل على الأصح .... أي: ويلتحق بالصور الثلاث في المنع صورتان أيضاً، الأولى: أن يشتري ذلك الثوب مع سلعة أخرى بأكثر من الثمن الأول إلى أبعد من الأجل الأول، إلا أن البائع كان في المسألة السابقة مسلفاً وفي هذه المشتري هو المسلف. مثاله: إذا باع ثوباً بعشرة إلى شهر، ثم اشتراه مع ثوب آخر باثني عشر إلى شهرين، فقد رجع إليه ثوبه وآل أمرهما إلى أن المشتري يدفع للبائع عند تمام شهره عشرة، وقد كان أعطى مع الثوب المسترجع ثوباً آخر يدفع له عن ذلك كله اثني عشر، والمشتري مسلف وبائع. وأما الصورة الثانية: وهي ما إذا كان بمثل الثمن فلا مانع، وإنما تبع المصنف ابن بشير، فهو الذي ذكر المنع وحده ولا وجه له. وقد نص ابن محرز والمازري على الجواز، وبيانه: أن البائع إذا اشترى الثوب الذي كان باعه مع ثوب آخر بمثل الثمن الأول إلى أبعد، فقد رجع إلى يد البائع ما خرج منها، وأخذ الآن ثوباً مع عشرة يأخذها من المشتري عند حلول الأجل، فالمشتري وإن كان مسلفاً ولكنه سلف لم يجز نفعاً بل جر له خسارة.

وإذا ظهر لك الجواز في المثل ففي أقل من باب أولى، فلا معنى للخلاف في قوله: (على الأصح) فإن المنع لا حظ له في الصحة فضلاً عن أن يكون صحيحاً مقابلاً للأصح. ولم يذكر المازري في هذه المسألة غير الجواز، نعم ذكر ابن بشير الخلاف وهو مشكل. تنبيه: هذه المسالة تتصور فيها اثنتا عشرة صورة كما تقدم في غيرها، وتصورها واضح. وتعرض المصنف للحكم فيما إذا اشتراها بالنقود، والحكم فيما إذا اشترى إلى أجل أبعد وسكت عما إذا اشتراه لأقل من الأجل لأنه مساو للنقد، وعما إذا كان اشتراه إلى الأجل، لأن الحكم حينئذ الجواز. ولو كان ثوباً بعشرة، ثم اشتراه بخمسة وسلعة لم يجز، لما تقدم هذه المسالة عكس التي قبلها، فإن زيادة السلعة كانت في الأولى من المشتري الأول وفي هذه من البائع الأول. ومعناها: أن من باع ثوباً بعشرة إلى شهر مثلاً ثم اشتراه بخمسة وشاة. وصورها أيضاً اثنتا عشرة، لأن البيعة الثانية إما أن تكون بأقل من الثمن الأول، أو بمثله، أو أكثر نقداً، أو إلى الأجل نفسه، أو إلى أقل منه، أو أبعد. ولا يجوز منها إلا إذا كان البيع إلى الأجل نفسه. بيان ذلك: أن ثوبه قد رجع إليه فصار لغواً وآل الأمر إلى أنه دفع خمسة وشاة نقداً يأخذ عنها عشرة إلى شهر، وذلك بيع وسلف. وكذلك، إلا أن المشتري هنا هو المسلف. وأما إذا كانت الخمسة تحل بحلول الأجل الأول فلا مانع، لوجوب المقاصة. وحذف المصنف (إلى أجل) في قوله: (ولو كان ثوباً بعشرة، ونقداً) من قوله: (واشتراه بخمسة) اعتماداً على ذكرهما في الصورة المتقدمة، لأنها مثلها في المعنى. ولهذا أشار إلى اشتراكهما في العلة في قوله: (لم يجز لما تقدم).

ولو اشتراه بعشرة فأكثر جاز، خلافاً لابن الماجشون فإنه جعل السلعة مبيعة بالسلعة، والعشرة المؤجلة والعشرة النقد سلفاً، وهو وهم، وصحح البيع الأول .... أي: لو باع ثوباً بعشرة إلى شهر، ثم اشتراه بشاة وعشرة أو أكثر نقداً، جاز عند ابن القاسم، لأن مآل أمر البائع أنه دفع شاة وعشرة دنانير أو أكثر نقداً يأخذ عوضاً عن ذلك العشرة دنانير إلى شهر، ولا تهمة فيه. ومنع ذلك ابن الماجشون، قال: ولاسيما إن كان الثوب المدفوع آخراً أدنى من الأول. ومن هذه خرج التونسي المنع في المسألة المتقدمة كما تقدم. وبين المصنف سبب المنع بقوله: (فإنه جعل ....) إلخ. أي: جعل السلعة العائدة إلى يد البائع- وهي التي خرجت من يده أولاً- مبيعة بالسلعة الخارجة من يده ثانياً، وجعل العشرة النقد سلفاً في العشرة المؤجلة، فيكون بيعاً وسلفاً. وقال: وهو وهم، أي: والجعل المذكور وهم. وبين علة وهمه بقوله: (وصحح البيع الأول) أي: أن الثوب إنما يكون مبيعاً بالشاة في الفرض المذكور إذا قدرنا أنه انتقل إلى ملك المشتري، وإذا انتقل إلى ملك المشتري الأول في المعارضة الأولى [464/أ] لزم أن تكون تلك المعاوضة صحيحة، وإذا صحت كانت العشرة قد تقررت في ذمة المشتري الأول من بيع صحيح، وذلك مانع، لأنه يعد قضاء عن سلف، إذ الشيء الواحد لا يكون ثمناً وسلفاً. وحاصله: أن تصحيح الأولى يستلزم صحة ما بعدها لعدم السلف وهو ظاهر، إن كان عبد الملك قد قال: (جعلت السلعة ....) إلخ. وإن كان إنما قال بالمنع، وتأولوا عليه ذلك، فقد يعلل المنع بغير ما ذكر وهو الضمان، لأنه ضمنه السلعة بالشاة وتعجيل العشرة.

وفيها مسألتا الحمار والفرس وقع هنا نسختان: (منها)، و (فيها) والثانية أحسن، لأن الضمير في: (فيها) يعود على المدونة. والضمير في: (منها) ظاهره أنه عائد على بياعات الآجال وهما ليستا منها، ويحتمل أن يعود أيضاً على المدونة. وتسمى الأولى منها مسألة البرذون لفرضها فيه في أصل المدونة، وفرضها البرادعي في فرس. والثانية ذكرها ربيعة وهي موافقة لأصول المذهب، ولذلك أتى بها سحنون. فالأولى: إذا أسلم فرساً في عشرة أثواب، ثم استرده قبل الأجل مع خمسة لم يجز، لما فيه من بيع وسلف، وضع وتعجل، وحط الضمان وأزيدك .... أي: فالمسألة الأولى، وتصورها ظاهر، ثم أخذ يتكلم على بيان العلل الثلاث، فقال: فأما البيع والسلف، فمبني على المشهور من أن المعجل لما في الذمة مسلف، ثم يقتضيه من ذمته عند أجله لا أنه أداه وبرئ، وصوب المتأخرون الشاذ .... أي: أن البيع والسلف ينبني على المشهور من أن المعجل لما في الذمة مسلف، ثم يقتضيه من ذمته عند أجله، لأنه لما ترتب له في ذمته عشرة أثواب إلى شهر ثم أعطاه خمسة الآن وفرساً، فالخمسة سلف يقتضيها من نفسه عند تمام الشهر، والفرس مبيع بالخمسة الأخرى. وأما على الشاذ من أن المعجل لما في الذمة لا يعد مسلفاً ويبرأ، فيجوز كما لو كان حالاً، وهو قول البرقي. ولكن لا يدل هذا على أنه يجيز المسألة للعلتين الأخيرتين. وقوله: (وصوب ....) إلخ. فمن ذلك ما احتج به اللخمي من أنه لو كان مسلفاً لرب الدين للزم إذا أفلس المعجل أن يكون لغرمائه القيام على رب الدين ويأخذوا منه ما عجله له بمثابة من له دين وعليه دين، ثم قام الغرماء على أحدهما، فإن الآخر لا يكون أحق بما في ذمته.

ورده المازري، وابن بشير بأن أدنى درجات الأثواب المعجلة في هذه الصورة أن تكون هنا بيد من عجلت له فيكون أولى بها. وأجيب: بأن مشهور المذهب في الرجلين إذا كان لكل منهما دين على الآخر، أنه ليس لغير المفلس منهما التمسك بما في ذمته رهناً، بل يحاص فيه الغرماء، خلافاً لأشهب في الاختصاص. ورد بأن المعجل في مسألة الأجل لأجل المؤجل فصار كالرهن به بخلاف الدينين ابتداء. وصوب ابن بشير الشاذ لعله أخرى، وهي: أنهما قصدا إلى براءة الذمة، فينبغي أن يمضيا على ما قصدا، وتعجيل السلف حتى يقتضي من الذمة بعيد. والثاني على أن الفرس يساوي أقل أي: والمانع الثاني- وهو: ضع وتعجل- يدخل المسألة بتقدير أن الفرس مساو لأقل من خمسة، كما لو ساوى أربعة تبقى ستة عجل له منها خمسة على أن وضع عنه السادس، والمعروف منع ضع وتعجل. وحكى بعضهم عن ابن القاسم جوازه. ابن زرقون: أراه عنه وهماً. والثالث على أنه يساوي أكثر أي: ويدخل المانع الثالث على تقدير أن يكون الفرس يساوي أكثر، كما لو ساوى ستة فتبقى أربعة، فيحط عنه ضمانها على أن يزيده ثوباً قال في المدونة: ويدخله تعجل حقك وأزيدك دخولاً ضعيفاً. فائدة: شرط ضع وتعجل، وحط الضمان وأزيدك اتحاد الجنس. أشار إليه التونسي وغيره.

وقد نص مالك في الموازية على أنه لو أخذ عرضاً في دينه قبل أجله يساوي أقل ما له عليه مع تخالفهما أن ذلك جائز، وإن كان أقل من القيمة كثيراً. ولم يخالف في ذلك إلا الليث. وكذلك نص ابن يونس على أن ضع وتعجل لا يدخل إلى الجنس الواحد، لكنه قال: وأما حط الضمان وأزيدك يدخل في الجنس والجنسين فيما لا يجب تعجيله. ولهذا أول صاحب النكت قول مالك في هذه المسألة أنه يدخلها ضع وتعجل، وقول ربيعة في الذي بعدها على أن المراد إنما هو خوف أن يقصدا بهذا الفعل ضع وتعجل. وإذا تقرر هذا ظهر لك أنه لا ينبغي أن تعلل هذه المسألة بضع وتعجل، وحط الضمان وأزيدك، لاختلاف العوضين وهما الفرس والأثواب، ولهذا لم يعتمد الأشياخ إلا على المانع الأول، ولأنه عام ساوى خمسة، أو أقل، أو أكثر بخلافهما. وقيل: تجوز أي: وقيل تجوز هذه المسألة، لا يقال هذا تكرار، لأنه فهم من قوله أولاً. وصوب المتأخرون الشاذ، لأن ذلك خلاف في القاعدة وهذا خلاف في المسألة، ولا يلزم الخلاف في القاعدة بجواز هذه المسالة، لم تقدم أن هذا الشاذ لم يقع نصاً في عينها، وإنما وقع في نظيرها لابن القاسم في الموازية: فيمن أسلم ذهباً في عبدين أو فرسين، فعوض عنهما قبل الأجل [464/ب] عبداً مثل شرطه وعرضاً معه، ذلك جائز مع أن أحد العبدين المعجل سلف وقد عوض عن الآخر بالعرض. وهذا إذا كان المردود عين رأس المال أو غيره والمزيد معجلاً، فإن كان المزيد مؤخراً منع، لأنه دين بدين، وبيع وسلف محقق قوله: (عين رأس المال) أي: الفرس أو غيره. يعني: من غير جنسه، وأما إن كان غيره- وهو موافق- فسيأتي. وهذا هو صورة المسالة المتقدمة، وإنما ذكره ليواطئ، لقوله:

(فإن كان المزيد مؤخراً ....) إلخ. يعني: فإن كانت الأثواب التي مع الفرس ومؤخرة عن الأجل فهو فسخ دين في دين، وهو مراده بقوله: (لأنه دين بدين). وقوله: (وبيع وسلف) أي: بيع الخمسة الأثواب بالفرس مع تأخير الدين عن أجله الذي وجب قضاؤه فيه، وذلك سلف بلا إشكال ولا خلاف، لأن الخلاف إنما هو فيمن عجل ما أجل هل يعد مسلفاً أم لا؟ أما من أخر ما عجل، فإنه يعد به مسلفاً اتفاقاً. فإن قيل: من شرط فسخ الدين في الدين التي فسرت به كلامه أن يكون في الجنس على أكثر مما في الذمة، أو يكون في غير الجنس، وقد انتفى كل واحد منهما هنا. فجوابه: لا نسلم الانتفاء، لجواز أن يكون الفرس يساوي ستة فتبقى أربعة فسخها في خمسة إلى أبعد، قال معناه ابن عبد السلام. خليل: ويمكن أن يعلل المنع في تعليل الأثواب بعلة أخرى، وهي: السلف بزيادة والضمان بجعل، لأنه إذا أخر الخمسة كما ذكرنا يحتمل أن تكون الفرس لا تساوي الأربعة فيكون ضماناً بجعل، ويحتمل أن يكون ستة فيكون قد أسلف أربعة بخمسة، فتأمله. وإن كان إلى مثله جاز أي: وإن كان المزيد إلى الأجل جاز، لأن الفرس حينئذ مبيع بخمسة، والخمسة الأخرى باقية إلى الأجل نفسه، ولا مانع منه. وأورد أن ظاهره يقتضي أنه وقعت زيادة ولم تقع، بل الخمسة باقية إلى الأجل نفسه، وكذلك أيضاً قوله: (إلى مثل الأجل) وإنما هو في نفس الأجل. وأجيب بأنه مساها زيادة بالنسبة إلى المعاوضة الأولى، وأطلق المثل وأراد به النفس، وهو كأحد التأويلين في قوله تعال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: ليس كذاته شيء، والتأويل الثاني أن الكاف زائدة.

فإن كان المردود مثله منعت الصور كلها، لأنه سلف بزيادة يعني: فإن كان المردود عن الفرس فرساً آخر مثل الفرس، فقد آل أمرهما إلى أنه أسفله فرساً رد إليه مثله، وكل ما يعطيه معه فهو زيادة لأجل السلف. وقوله: (الصور كلها) أي: سواء كان المزيد منقوداً في الحال، أو إلى الأجل الأول، أو أبعد. الثانية: إذا باع حماراً بعشرة إلى أجل، ثم استرده وديناراً نقداً لم يجز، لأنه بيع وسلف، وضع وتعجل، وذهب وعرض بذهب متأخر أي: المسألة الثانية، وتصورها ظاهر، وذكر لها ثلاثة موانع، الأولى: بيع وسلف، لأن المشتري تقررت في ذمته عشرة دنانير دفع عنها معجلاً الحمار الذي اشتراه مع دينار ليأخذ من نفسه عند حلول الأجل عشرة، تسعة عن الحمار ودينار عن الدينار المتقدم. وقوله (وضع وتعجل) أي: على تقدير أن يكون الحمار يساوي ثمانية فأقل. وقولهِ: (وذهب وعرض بذهب متأخر) ظاهر من الكلام الأول. ولا يدخل هنا حط الضمان وأزيدك، إذ لا ضمان في العين. هذا إذا كان البيع نسيئة والمزيد عيناً معجلاً. ليس غرضه بهذا الاحتراز عن شيء، وإنما هو الحكم المتقدم، ولكن ذكره ليرتب عليه ما بعده. فإن كان مؤخراً عنه، أو إلى مثله، أو دونه امتنع، لأنه دين بدين، إلا أنه في جنس الثمن إلى الأجل جائز، لأن حقيقته بيعه بالبعض .... اسم (كان) عائد على المزيد، يعني: بشرط أن يكون من العين، سواء كان مماثلاً أو مخالفاً ويدلك على أن مراده العين. قوله بعد ذلك: (فإن كان المزيد غير عين) فإن

قيل: لم لا يعود الضمير في (كان) على العين المزيد مع الحمار سواء كان من جنس الثمن أو لا؟ قيل: لو أراد ذلك لقال: كانت، لتأنيث العين. وقوله: (دين بدين) أي: فسخ دين في دين. وقوله: (إلى مثله) أي: إلى الأجل نفسه. وقوله: (إلا استثناء من الممتنع) أي: إلا أن يكون المزيد من جنس الثمن إلى الأجل وهو جائز، كما لو باعه حماراً بعشرة إلى شهر، ثم استرده وديناراً يأخذه عند تمام الشهر. وعلله بقوله: لأن حقيقته بيعه بالبعض. أي: لأن حقيقة الأمر فيه ومآله أنه اشترى الحمار بتسعة دنانير من العشرة، ولا محذور فيه. خليل: وعلى هذا فالصور ستة، لأن المزيد له صورتان: موافق، ومخالف. وكل منهما إما: إلى دون الأجل، أو إلى نفس الأجل، أو أبعد منه. لا يجوز منها إلا صورة واحدة، وهي التي استثناها المصنف بقوله: (إلا أنه في جنس الثمن إلى الأجل). وقد يعلل المنع بغير ما ذكره المصنف، فيعلل فيما إذا كان المزيد من غير جنس الثمن الأول بالصرف المؤخر، ويعلل فيما إذا كان المزيد من جنس الثمن الأول إلى أبعد من الأجل بالبيع والسلف. والله أعلم. فإن كان المزيد غير عين معجلاً جاز، وإلا منع مطلقاً، لأنه فسخ دين في دين هذا قسيم قوله: (والمزيد عيناً) أي: وإن كان المزيد مع الحمار عرضاً غير عين، فإن كان معجلاً جاز، لأنه باع عيناً في الذمة بعرض وحمار ولا مانع، وإلا- أي: وإن لم يكن العرض معجلاً [465/أ] بل كان مؤخراً، وسواء كان إلى الأجل، أو أبعد، أو أقل- منع، لأنه فسخ دين في دين. أي: لأنه انتقل من الدين الذي له في ذمة المشتري إلى حمار معجل وعرض مؤجل.

وإن كان البيع نقداً لم يقبض والمزيد معجلاً، جاز كغيره من القضاء، وإلا منع مطلقاً، لأنه في النقد المثلي بيع وسلف محقق، وفي غيره فسخ دين في دين أو صرف مستأخر .... مراده بالنقد المعجل لا النقد الذي هو مقابل العرض، يعني: فإن باع الحمار بعشرة دنانير مثلاً نقداً ولم يقبضها البائع فأعطاه المشتري الحمار وزيادة عوضاً من تلك الدنانير، فإن عجل الزيادة التي مع الحمار جاز كغيرها من الصور، وهذا صحيح إن لم تكن الزيادة فضة، فإن كانت فضة فيدخله البيع والصرف، فأجره على ما تقدم. وأطلق المصنف اعتماداً على ما تقدم وفي معنى هذه الصورة ما لو باعه بدراهم يزيدية ثم استردها مع زيادة محمدية، أو بالعكس. قوله: (وإلا منع مطلقاً) أي: وإن لم يكن المزيد معجلاً بل تأخر امتنع مطلقاً، لأنه إن كان المزيد من جنس الثمن الأول فهو تأخير في بعض ذلك الثمن بشرط، وذلك سلف اقترن بالبيع. وهذا معنى قوله: (لأنه في النقد المثلي بيع وسلف محقق) وإن كان المزيد من غير جنسه، فإن كان عيناً فهو صرف مستأخر، وإن كان غير عين فهو فسخ دين في دين. وظاهر كلامه أنه إذا كان البيع أولاً نقداً لأنه لا يختص الممتنع منه يقوم دون قوم. وقيده ابن أبي زيد بأهل العينة، لأن البيعة الأولى نقداً بخلاف القسم الذي قبله، فيتهم فيه أهل العينة وغيرهم وخالفه غيره وأبقاه على إطلاقه كالمصنف، لأن الفساد هنا أقوى، إذ الفساد في البيعة الثانية لا يتوقف على انضمامه إلى الأولى، بخلاف بيوع الآجال إنا يتم فيها الفساد بالبيعتين، وما يتصور فيه الفساد بنفسه أقوى مما يتوقف على غيره. وقيد ابن أبي زيد أيضا المنع فيها بأن المشتري لم ينقد العشرة أولاً، إذ لو نقد لجاز أن يشتري البائع منه معجلاً ومؤجلاً، لأنها بيعة ثانية، وهو ظاهر تقييد المصنف بقوله: (لم يقبض).

وخالفه غيره ورأى أن المنع يتصور في المسألة وإن نقد، لأنه يقدر أنه اشترى الحمار بتسعة على أن أسلفه قابضها العاشر إلى الأجل. فإن كانت الزيادة من البائع جاز مطلقاً أي: وإن استرد البائع الحمار الذي باعه على أن دفع البائع للمشتري زيادة وأخذ الحمار جاز مطلقاً، سواء كانت البيعة الأولى نقداً أو إلى أجل، كان المزيد من جنس الثمن أو لا. إلا أن تكون مؤجلة من صنف المبيع فيمتنع، لأنه سلف بزيادة أي: إلا أن تكون تلك الزيادة حماراً مؤجلاً، وهو مراده بقوله: (من صنف المبيع فيمتنع) وعلل المنع بسلف بزيادة، أي: يعد المشتري كأنه أسلف البائع حماراً يقضيه منه إلى أجل على أن أسقط البائع عنه العشرة التي له في ذمته، وهذا سلف بزيادة. ويفسخ الثاني من بيوع الآجال باتفاق دون الأول على الأصح يعني: إذا وقعت بياعات الآجال على الوجه الممنوع، كما لو باعها بعشرة إلى شهر ثم اشتراها بثمانية نقداً، فقال المصنف، والمازري: يفسخ البيع الثاني باتفاق. أي: إذا كانت السلعة قائمة، كما يدل عليه كلامه بعد. فإن قيل: ففي الاتفاق نظر، لأن اللخمي حكى عن ابن عبدوس أنها لا تفسخ، ولكن لا يكون للمشتري الثاني- وهو البائع الأول- إذا حل الأجل الأول إلا ما خرج من يده. قيل: قد نازعه المازري في نقل هذا القول هكذا، وقال: الذي نقله غيره من هذا القول أنه يمنع من رد المبيع من يد مبتاعه الأخير بشرط أن يفوت، فيحتمل أن يقول كقوله بإمضاء البيعتين مع الفوات، كما سيأتي. وقوله: (دون الأول على الأصح) هو قول ابن القاسم في المدونة، لأن الفساد إنما دار مع الثاني وجوداً وعدماً، وبالقياس على اقتضاء الطعام من ثمن الطعام وشبهه.

ومقابله لابن الماجشون فسخ البيعتين، قال: إلا أن يصح أنهما لم يتعاملا على العينة، إنما وجدها تباع فابتاعها بأقل من الثمن، فتفسخ البيعة الثانية فقط. ووجهه: أن الفساد إنما حصل من مجموع البيعتين، لاتهامهما أنهما قصدا دفع القليل في الكثير، ولأنه ظاهر قول عائشة- رضي الله عنها- فقد روى مالك عنها: أن محبة- أم ولد لزيد بن أرقم- ذكرت لعائشة- رضي الله عنها- أنها باعت من زيد عبداً بثمانمائة إلى العطاء، ثم ابتاعته بستمائة نقداً. فقالت عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً أن قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. فقالت لها: أرأيت إن تركت المائتين وأخذت ستمائة؟ فقالت: نعم {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] وظاهره فسخ البيعتين. ورواه بعضهم: (بئس ما شريت، أو بئس ما اشتريت) على الشك من الرواي. وفي هذا الخبر دليل على المنع فيما قلناه من هذه البياعات. أبو محمد: ولم تطلق عائشة ما قالت إلا وتحريم ذلك عندها مقرر. ابن يونس: يريد أن ذلك لا يعلم قياساً، وإنما يعلم من طريق التوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وقول من قال أصحابنا: لعلها إنما قالت ذلك لوقوع البيع إلى العطاء وهو مجهول ليس بظاهر، لأن المنقول عن عائشة- رضي الله عنها-[465/ب] جواز البيع إلى العطاء، ولأن آخر الآثار ينافيه. وضعف بعض الشيوخ هذا الخبر لما فيه من قولها: (أبطل جهاده) وظاهره إبطال الذنوب للأعمال، وهو خلاف كتاب الله، وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم، ومذهب جماعة أهل السنة.

عياض: ووجه تأويل قولها عندي- على موضوع كلام العرب ومجاز لفظها- أنها رأت أن مقارفة هذا الذنب من مثله والاقتداء به فيه، واقتداء من يأتي بعده بفعله ويجعله حجة بين الله وبينه، مما يرجح مجموع هذا في الميزان على جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم. فإن فاتت في يد المشتري الثاني والقيمة أقل، فسخاً على الأصح الفوات هنا يكون بحوالة السوق وغيرها كما في البيوع الفاسدة، ونص عليه سحنون هنا. وقيل: لا تفيتها حوالة سوق وإنما تفيتها العيوب المفسدة أو ذهاب عينها. ونقل أيضاً عن سحنون، وابن كنانة، وإليه ذهب التونسي وغيره. يعني: فإن فاتت بيد البائع الأول- وهو المشتري الثاني- وكانت قيمتها أقل من الثمن الأول- كما لو كانت قيمتها ثمانية والثمن الأول عشرة- فسخت البيعتان معاً، ويكون للبائع على المشتري الثمن الذي دفع إليه. وعبر بعضهم عن الأصح بالمشهور، ووجهه: أنا لو فسخنا الثانية خاصة لزم دفع القيمة معجلاً وهي أقل، ثم يأخذ عند الأجل أكثر، وهو عين الفساد الذي منعنا منه ابتداء، بخلاف ما إذا لم تفت كما تقدم، أو فاتت وكانت القيمة مساوية للثمن الأول أو أكثر، فإنا إذا فسخنا الثانية بقيت الأولى على حالها فلا يلزم محذور، وهذا الأصح من مذهب ابن كنانة وسحنون. وتأول ابن أبي زمنين مذهب ابن القاسم عليه. والذي نقله اللخمي والمازري وغيرهما عن ابن القاسم فسخ البيعتين مع الفوات مطلقاً، لأن البيعتين لما ارتبطت إحداهما بالأخرى صارتا في معنى العقد الواحد. وصرح ابن شاس بأنه المشهور. وعلى هذا ففي المسألة ثلاثة أقوال، ولابن مسلمة رابع بفسخ البيعة الثانية مع القيام، فإن فاتت السلعة مضت البيعتان، للخلاف في جواز هذه البيوع ابتداء. ويفهم من تقييده الفوات بأن تكون بيد المشتري أنها لو فاتت في يد المشتري الأول لفسخت الثانية خاصة، وهو اختيار الباجي، قال: ولم أره نصاً

بيع أهل العينة لما فرغ من بيوع الآجال التي لا تخص أحداً أعقبها ببيع أهل العينة، لاتهام بعض الناس فيها. والعينة: بكسر العين، وهي فعيلة من العون، لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده. وقيل: من العناء وهو تجشم المشقة. وقال عياض: سميت بذلك لحصول العين وهو النقد لبائعها، وقد باعها بتأخير. مثل: اشتر لي هذه وأربحك. فإن سمى الثمن وأوجب البيع إلى أجل فسلف جر منفعة .... أي: فإن قال له: اشتر لي وأنا أربحك وسمى الثمن، كما لو قال: اشتريها لي بعشرة وأنا أشتريها باثني عشر إلى أجل فإنه لا يجوز، لأنه سلف جر منفعة. ولا فرق بين أن يقول: اشتر لي وأربحك، أو اشتر وأربحك في هذا. نعم بين الصيغتين فرق من وجه آخر سيأتي. وإن كان نقداً فقولان: يجوز بجعل المثل، ويمنع أي: وإن كان الثمن الذي أوجباه به البيع نقداً، مثل: اشتر لي سلعة كذا بعشرة وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً، ففيها قولان، أحدها: الجواز، ويكون للمأمور جعل المثل. والثاني: المنع، لأنه من بيع ما ليس عندك. وتبع المصنف في هذه المسألة ابن بشير، وابن شاس. والصواب جوازها إن كان النقد من الآمر، أو منم المأمور بغير شرط، لأنه لما قال له: اشترها لي ولك كذا، فقد استأجره بدينارين على اشتراء السلعة. وإن كان النقد من المأمور بشرط فإجارة فاسدة، لأنه استأجره بدينارين على أن يبتاع له السلعة ويسلفه ثمنها من عنده، هكذا نقله ابن رشد، وابن زرقون وغيرهما.

وإن لم يسم، فجعل المثل أي: وإن لم يسم الثمن ولم يوجب البيع، فعلى الآمر جعل المثل، ولم يصرح المصنف بأنها جائزة أو لا. ونص عياض على المنع إذا قال: [466/أ] اشتر لي وأنا أربحك كذا وإن لم يسم ثمناً، وأنه ربا ويفسخ. وأما إن قال له: اشتر سلعة كذا وأنا أربحك فيها وأشتريها منك من غير تسمية ربح ولا مراوضة، فنص ابن حبيب على الكراهة، قال: وإن وقع مضى. وذلك قال مالك: لا أبلغ به الفسخ. عياض: وكذلك كرهوا له أن يقول له: لا يحل في أن يعطيك ثمانين بمائة، ولكن هذه السلعة قيمتها ثمانون خذها بمائة. وقد قسم ابن رشد وعياض العينة على ثلاثة أقسام: جائر، وممنوع، ومكروه. فالجائز: أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة، فيقول له: هل عندك سلعة كذا أبتاعك منك؟ فيقول: لا. فينقلب من غير مراوضة ولا تسمية ربح ولا أي ولا عادة فيشتريها، ثم يلقاه بعد فيخبر أنه قد اشتراها، فيبيعها بما شاء منه نقداً أو نسيئة. والمكروه، أن يقول: اشتر لي سلعة كذا وأنا أربحك وأشتريها منك من غير مراوضة ولا تسمية ربح، ولا يصرح بذلك ويعرض، فهذا هو الذي قاله ابن حبيب يكره، فإن وقع مضى. وكذلك قال ابن نافع عن مالك كما تقدم. والحرام: أن يراوضه على الربح ويسمي الثمن، أو يقول: أنا اشتريها على أن تربحني فيها كذا، أو العشرة من كذا، أو العشرة من كذا. ابن حبيب: فهذا حرام. قال: وكذلك لو قال اشترها لي وأنا أربحك وإن لم يسم ثمناً. قال: وذلك كله ربا، وليس فيه إلا رأس المال. وقسم ابن رشد هذا الممنوع على ستة أقسام: ثلاث في قوله: (اشتر لي) وثلاث في قوله: (اشتر) دون أن يقول: (لي).

فأما الثلاث الأول، فالأولى: أن يقول اشتر لي سلعة بعشرة نقداً وأنا أشتريها باثني عشر نقداً، وحكمها- كما تقدم-: إن كان النقد من عند الآمر أو المأمور بغير شرط فهي جائزة، وإن كان من عنده بشرط فهي إجارة فاسدة، لأنه أعطاه الجعل على أن يسلفه، فهي إجارة وسلف، وللمأمور الأقل من الدينارين أو جل مثله على مذهب ابن القاسم في السلف والبيع. وعلى قول ابن حبيب: إذا قبض السلف يكون له أجر مثله بالغاً ما بلغ. وقال ابن المسيب: لا أجر له. ابن رشد، وابن زرقون: وهو الأصح، لئلا يكون تتميماً للفاسد. الصورة الثانية: أن يقول اشترها لي بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثنى عشر إلى أجل. وهي الصورة التي ذكرها المصنف أولاً، فهي أيضاً غير جائزة، لأنه سلف بزيادة، وتلزم الآمر لأن الشراء كان له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة به ويسقط عنه ما أربى. واختلف فيما يكون له من الجعل على الأقوال الثلاثة. الصورة الثالثة: أن يقول اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا اشتريها بعشرة نقداً. فهي أيضاً غير جائزة حرام، لأنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه فينتفع بها إلى الأجل ثم يردها إليه، فيلزم السلعة باثنى عشر إلى أجل، ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، فإن كان قد دفعها إليه وصرفها عنه ولم تترك عنده إلى الأجل، كان له جعل مثله بالغاً ما بلغ في هذا الوجه باتفاق. وأما الثلاث الأخر، فهي كهذه إلا في إسقاط (لي): الأولى: اشتر سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً، أو قال: أنا أربحك. فاختلف فيها قول مالك، فمرة أجازه إذا كانت البيعتان نقداً وانتقد، ومرة كرهه للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور.

الخيار

والصورة الثانية: أن يقول اشتر سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا لا يجوز. ابن حبيب: ويفسخ البيع الثاني إن لم تفت، فإن فاتت ردت إلى قيمتها معجلة يوم قبضها الآمر، كما يصنع بالبيع الحرام، لأنه باع ما ليس عنده. وروى سحنون عن ابن القاسم عن مالك: إذا وقع مضى ويلزم الآمر الاثنا عشر إلى أجلها، لأن المأمور كان ضامناً لها، ولو شاء الآمر ألا يشتريها منه كان له ذلك، ويستحب للمأمور أن يتورع فلا يأخذ من الآمر إلا ما نقد. الصورة الثالثة: أَنِ اشترها باثني عشر إلى أجل وأشتريها منك بعشرة نقداً. فروى سحنون عن ابن القاسم أنه مكروه، ويمضي إن فات ولا يكون على الآمر إلا العشرة. وظاهر هذه الرواية: أن البيع الثاني يفسخ ما لم تفت السلعة. وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني على كل حال، وإن فاتت ردت إلى قيمتها يوم القبض. تبنيه: ما تقدم من تقسيم المسألة لثلاثة أوجه قاله غير واحد، وزاد عياض وجهاً رابعاً مختلفاً فيه، وهو: ما اشتري ليباع بثمن بعضه معجل وبعضه مؤجل. وظاهر مسائل الكتاب والأمهات جوازه، وفي العتبية كراهته لأهل العينة. الخيار ترو ونقيصة، فالتروي بالشرط لا بالمجلس كالفقهاء السبعة. ابن حبيب: وبالمجلس لحديث الموطأ .... وسمي التروي من الرأي، لأنه يرى فيه رأيه وينظر هل هي غالية أو رخيصة؟ وهل فيها عيب أو لا؟ وخيار النقيصة ما كان من جهة المبيع. وجعل الخيار قسمين، لأن موجبه إما من جهة العاقد أو المعقود عليه. أو يقال: إما أن يكون موجبه مصاحباً للعقد أو متقدماً. والأول فيهما هو التروي، والثاني فيهما هو النقيصة.

وخيار التروي مستثنى من بيع الغرر للتردد في العقد، لكن أجازه الشرع ليدخل من له الخيار على بصيرة من الثمن والمثمون، ولهذا قال الشافعي- رضي الله عنه-: لولا الخبر عن رسول الله ما جاز الخيار أصلاً لا في ثلاث ولا في غيرها. وفرع الخيار فرع على البيع اللازم، لأن الغالب هو اللازم، ولأنه إنما يكون بالشرط وقوله: (فالتروي بالشرط لا بالمجلس) تنبيه على خلاف الشافعي في قوله بخيار المجلس ما لم يتفرقا. وحكى ابن شاس والمصنف وغيرهما أنه قال: كقولنا الفقهاء السبعة. وذكر المازري، وصاحب الإكمال أن سعيد بن المسيب لا يقول بخيار المجلس، وهو من الفقهاء السبعة بلا خلاف. وعلى هذا، ففي قوله: (كالفقهاء السبعة) نظر. وكأن المصنف- والله أعلم- أضاف الحديث للموطأ لينبه على أنه لا ينبغي أن يقال هنا أن مالكاً لم يعلم الحديث، بل علمه ورواه، ونبه على أنه إنما ترك ذلك لما هو راجح عنده، فقد قال- رحمه الله- في الموطأ بعقبه: وليس لهذا حد معروف ولا أمر معمول به فيه. ابن العربي: يريد أن تفرقتهما ليس لها وقت معلوم. وقال: وهذه جهالة يقف البيع عليها، فيكون [466/ب] كبيع الملامسة والمنابذة، أو كبيع على خيار إلى أجل مجهول، وما كان كذلك فهو فاسد. وإلى هذا التأويل- أعني: أنه قصد أن الحديث مخالف لعمل أهل المدينة- ذهبت المغاربة وبعض البغداديين. وذهب ابن القصار وحذاق أئمتنا البغداديين أن كلام الإمام راجع إلى آخر الحديث: (إلا بيع الخيار) أي: ليس لبيع الخيار حد معروف، بل بحسب ما تختبر فيه السلعة، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي أنه ثلاثة أيام في كل شيء. وقد أكثر أهل المذهب والحنفية من الأجوبة عن هذا الحديث، وقد أتى بأكثرها المازري في شرح التلقين، وابن دقيق العيد في شرح العمدة.

وحده يختلف باختلاف السلع بقدر الحاجة، ففيها: في الدار الشهر ونحوه، وقيل: الشهران .... تصوره واضح. وطول زمن الخيار في الدار، لأنه يحتاج إلى النظر في حيطانها وأساسها ومرافقتها، واختبار جيرانها ومكانها مع كونه مأمونة لا يسرع إليها التغيير. وفي قوله: (بقدر الحاجة) إشارة إلى أنه يضرب من الأجل أقل ما يمكن تقليلا للغرر المذكور. وما نسبه المصنف للمدونة، المتيطي: هو المشهور من مذهب مالك وأصحابه. والقول بالشهرين في الموازية، وقاله ابن حبيب في الواضحة. ونقل عن ابن القاسم، وقال: الأرضون كلها كذلك. ابن يونس وابن رشد: والربع مساو للدار، وجعلا ما في الموازية والواضحة من الشهرين تفسيراً للمدونة لا خلافاً كما فعل المصنف. ابن عبد السلام: وينبغي أن يفترق حكم الدار من الأرض، لأن الحاجة إلى اختيار الدور أكثر. وفي الإكمال عن الداودي أن المدة في الدار الشهران والثلاثة. وحكى الخطابي عن مالك في الضيعة السنة. فرع: ولا يجوز على مذهب ابن القاسم أن يشترط في الخيار سكنى الدار مدة الخيار، لأن اختبار ذلك مما يعرف بالنظر إليها. وقال غير واحد من شيوخ المذهب: يجوز ذلك في الدار، لأنه بذلك يختبر جيرانها ويعرف الصالح من الطالح. قال القابسي، واللخمي: إن كان المشتري من أهل المحلة فلا يمكن من سكناها، لأنه عالم بالجيران، وإن لم يكن من المحلة جاز.

وفيها: في الرقيق الجمعة ونحوها، وقيل: شهر لكتمانه عيوبه نقل المدونة على المعنى تبعاً لابن شاس، لأنه إنما فيها الجارية لكن لا فرق فيها، والجارية مثل الخمسة الأيام والجمعة وشبه ذلك لاختبار حالها. ابن المواز: وأجاز ابن القاسم الخيار في العبد إلى عشرة أيام. محمد: وإن وقع في العبد أو الأمة إلى عشرة أيام لم أفسخه، وأفسخه في الشهر. والقول بالشهر رواه ابن وهب عن مالك. ابن المواز: وأباه ابن القاسم وأشهب. وقوله: (لكتمانه عيوبه) يحتمل أن يكون تعليلاً لرواية ابن وهب، ويحتمل أن يكون تعليلاً لطول المدة في الرقيق بالنسبة إلى ما يذكره في الدواب والثياب. فإن قيل: التعليل بكتم العيوب ليس موجوداً في الصغير. قيل: التعليل بالمظنة وهو كونه رقيقاً، لأن الوقت الذي يكتم فيه عيوبه لا ينضبط كالمشقة في السفر. وفيها: تركب الدابة اليوم وشبهه، ولا بأس أن يشترط البريدين، هذا في الركوب، وإلا فتجوز الثلاثة .... أي: أمد الخيار في الدابة يختلف باختلاف ما يريده المشتري، فإن أراد اختبار حالها بالركوب، فنص ابن القاسم في المدونة على جواز اشتراط اليوم وشبهه والبريد. الباجي: يحتمل أن يريد ركوب اليوم في المدينة على حسب ما يركب الناس في تصرفاتهم، والبريد والبريدان لمن خرج من المدينة يختبر سيرها، ونحوه للخمي قال: إن كان قصده معرفة حسن سيرها فاليوم وبعض اليوم يجزئ من ذلك حسن، وإن أراد سفراً ليختبر سيرها وصلابتها فالبريدان في ذلك حسن.

قوله: (ولا بأس أن يشترط البريدين) هذا الكلام لأشهب في المدونة. واختلف الشيوخ في قول ابن القاسم: البريد. وقول أشهب: البريدين. فحمله بعضهم على البريد في الذهاب والرجوع، وكذلك البريدان. وقال أبو عمر: البريد للذهاب خاصة وللرجوع مثله، وكذلك البريدان للذهاب وللرجوع مثلهما. وعل هذا يصح اشتراط سيرها يومين، إذ ليس كل دابة تمشي أربعة برد من يومها، وإنما تقطع ذلك الدابة القوية. وعلى هذين التأولين فابن القاسم، وأشهب مختلفان. عياض: وقد يحتمل موافقة القولين بريد في الذهاب على قول ابن القاسم، وبريدان أحدهما في الذهب والآخر في الرجوع على قول أشهب. وإذا تقرر هذا فاعلم أن نقل المصنف لهذه المسألة ليس كما ينبغي، إذ لم يبين أن الكلام الأول لابن القاسم، ولا أن الثاني لأشهب، ولا هل هو خلاف أو وفاق، ولكن ظاهر كلامه الموافقة، لكون ساقهما مساقاً واحداً. واختلف: هل للمشتري أن يركب الدابة بمقتضى عقد الخيار ليختبر سيرها وحملها من غير أن يشترط ذلك وهو مذهب أبي بكر بن عبد الرحمن؟ عياض: وقول أبي بكر هو الصحيح. قوله: (وإلا فتجوز الثلاثة) أي: وإن لم يقصد الركوب بل كان القصد تقليبها واختبار حالها، جاز أن يوسع في المدة، نص على ذلك ابن حبيب. وفي الثوب الثلاثة ولا يشترط لباسه، بخلاف استخدام الرقيق جعلوا الزمان في الثوب كالدابة، وإن كانت الدابة تفتقر في العرف [467/أ] إلى زمان أطول من زمان الثوب، لأنه لا يحتاج فيه إلا إلى قياسه ومعرفة الثمن خاصة.

الباجي: لأنه لا يسرع إليه التغير ولا يشترط لباسه. قال في المدونة: لأنه لا يختبر باللباس كما تختبر الدابة بالركوب والبعد بالاستخدام، لأنه إنما يحتاج إلى قياسه طوله وعرضه. فرع: فإن شرط لباسه، فقالوا: يفسد العقد. فإذا فسخ، لزمه الكراء لأجل اللبس. ابن يونس: بلا خلاف. ولم يجعلوه كسائر البيوع الفاسدة إذا فسخت، فإنه لا يلزم المشتري رد الغلة. وذكر ابن يونس عن بعض الأصحاب أنه اختلف إذا فسد البيع باشتراط النقد، هل ضمانها من البائع، أو من المبتاع؟ ابن يونس: فعلى أن الضمان من المبتاع لا يكون عليه شيء في اللبس كسائر البيوع الفاسدة. وتأمل كلام ابن يونس فإن حكايته الخلاف ثانياً يخالف ما حكاه أولاً من الاتفاق، وقاله أبو الحسن. ولا يغاب عل ما لا يعرف بعينه، لأنه يصير تارة بيعاً، وتارة سلفاً يعني: أنه يجوز شراء ما لا يعرف بعينه على الخيار كالمكيل والموزون، فإذا اشترى الخيار لم يجز على شرط غيبة المشتري عليه، لأنه إن مضى البيع فيه كان بيعاً، وإن لم يمض وجب رده، وقد يكون تصرف فيه ويرد مثله فيكون ذلك سلفاً. ولم يذكر المصنف مدة الخيار كما في المدونة، قال: ومن اشترى شيئاً من رطب الفواكه والخضر على أنه بالخيار، فإن كان الناس يشاورون في هذه الأشياء غيرهم ويحتاجون فيها إلى رأيهم فلهم من الخيار في ذلك بقدر الحاجة مما لا يقع فيه تغيير ولا فساد. وأطلق المصنف في قوله: (ولا يغاب) ومراده: الغيبة بالشرط، وإلا فلو تطوع البائع بإعطاء السلعة للمشتري جاز لأن التعليل يرشد إليه، لأنه إنما يكون تارة بيعاً وتارة سلفاً

مع الاشتراط كما في الثمن. فإن قيل: هل يصدق قوله: (ولا يغاب) على البائع كالمشتري. قيل: ظاهره كذلك. وقد نص في الموازية على امتناع غيبة البائع أيضاً على ما لا يعرف بعينه. قال: ويخرج عنهم جميعاً. والتعليل المذكور حاصل، ويقدر كأن المشتري التزمه وأسلفه، فيكون بيعاً إن لم يرده وسلفاً إن رده. وأجاز بعض الشيوخ أن يبقى عنده، قال: لأنه عين شيئه. فرع: ولا يجوز في شيء من السلع أن تكون مدة الخيار فيه مجهولة، فإن عقد على ذلك، كقولهما: إلى قدوم زيد ولا أمارة على قدومه، أو إلى أن يولد لفلان ولد ولا حمل عنده، أو إلى أن ينفق سوق السلعة ولا سلعة، أو يغلب على الظن عرفاً أنها تنفق فيه. إلى غير ذلك مما يرجع إلى الجهل بالمدة فالبيع فاسد. لكن إن وقع العقد على أنه بالخيار ولم يعين مدة معلومة ولا مجهولة، فالعقد صحيح، ويحمل على خيار مثل السلعة كما تقدم، ولو زاد في مدة الخيار على ما هو أمد خيارها فسد البيع. والنقد بغير شرط جائز، وفي فساد البيع باشتراطه قولان قد تقدم نظائر هذه المسألة، والمعروف مع الاشتراط الفساد. ابن محرز: ومن المذاكرين من يذهب في هذه المسألة مذهب البيع والسلف، ويقول: إذا أسقط البائع الشرط كان البيع جائزاً. وذكر في المقدمات أن هذا القول هكذا في كتاب سحنون.

ولو طلب وقفه كالغائب والمواضعة على المشهور فيهما لم يلزم، لأنه لم ينبرم يعني: لو طلب البائع وقف الثمن، أي: أخراجه من يدا المشتري ووضعه على يد أمين حتى يتبين مآل أمر البيع، هل يتم فيأخذه البائع أو لا فيرجع إلى يد المشتري؟ والمشهور راجع إلى الغائب والمواضعة لا إلى الخيار، لأن بعضهم حكى في بيع الاتفاق. وفرق بينه وبين الأمة المتواضعة وبيع الغائب بما ذكره المصنف، وهو أن البيع فيها قد انبرم وبيع الخيار لم ينبرم. وحكى ابن عبد السلام عن بعض الشيوخ: أنه جعل الاتفاق من حق البائع، وقاسه على الغائب والمواضعة. ولو زاد على مدة الخيار انفسخ وإن أسقطه مشترطه تصوره واضح، وقد تقدم. ولو أسقط شرط النقد لم يصح، بخلاف مسقط السلف، وقيل: مثله هكذا ثبت في نسخة صحيحة، وهو كالتكرار مع قوله: وفي فساد باشتراطه قولان. لكن ذكره لفوائد ليبين أن الفساد حاصل على القول به، ولو أسقط الشرط وإن عدم الفساد على القول به إنما هو مع إسقاط الشرط، ويشير على طلب الفرق بين هذه المسألة على المشهور، ومسألة البيع والسلف. والفرق على المشهور بينه وبين مسقط السلف: أن الفساد في اشتراط النقد واقع في الماهية، لأنه غرر في الثمن، إذ المقبوض لا يدرى هل هو ثمن أم لا؟ ومسألة شرط السلف الفساد خارج عن الماهية.

وإذا اشترى أو باع على مشورة فلان، فله الاستبداد وإن لم يشاور، وقيل: إن كان بائعاً .... يعني: أن من اشترى سلعة أو باعها على أن يشاور غيره، ثم أراد أن يبرم البيع أو الشراء دون مشورة، فإن كان بائعاً فله ذلك اتفاقاً، وكذلك له الاستبداد إن كان مشترياً على المشهور، على ما حكاه المصنف، إذ لا يلزم من الاستشارة الموافقة ومن حجته أن يقول: هب أني اشتريته فلا مانع لي من مخالفته. والتحقيق عندهم: التسوية بين البائع والمشتري في المشورة والرضا والخيار. وحكى [467/ب] عياض وابن رشد أنه لا خلاف منصوص أن لمشترط المشورة تركها، قالا: إلا ما تأول التونسي على الموازية أن المشورة كالخيار. ونقل ابن أبي زيد أن ابن مزين حكى عن ابن نافع: أنه يرى لفظ المشاورة كلفظ الخيار والرضا. المازري: وتعقب عليه هذا النقل بأن الذي ذكره ابن مزين ع ابن نافع، أنه إن باع على مشورة فلان على أن فلاناً إن أمضى البيع مضى بينهما. وهذا اللفظ يقتضي وقف البيع على اختيار فلان، بخلاف ما إذا كانت المشورة مطلقة، ونحوه للخمي. وهكذا أيضاً رد صاحب المقدمات ما تأوله التونسي على الموازية، وقال: الذي في الموازية إنما هو في مشورة مقيدة. وكذلك قال عياض: إن ما تأوله التونسي غير صحيح. ولم أر القول الذي ذكره المصنف بالتفرقة بين البائع والمشتري، ولعله لاحظ أن البائع أقوى يداً لتقدم ملكه. وفهم من كلام المصنف جواز الشراء على مشاورة فلان، وما في معناه وهو المشهور.

وروى أصبغ عن ابن القاسم منعه، كمذهب أحمد بن حنبل. ورواه أيضاً سحنون عنه ثم رجع إلى الجواز، ولعله مبني على أنه رخصة فلا يتعدى المتعاقدين. فإن كان على رضاه، فقيل: مثلها، وقيل: لا يستبد أي: فإن اشترى أو باع على رضا فلان. وقوله: (مثلها) أي: في الخلاف. ويحتمل في القول الأول وهو الاستبداد. ويرجح هذا بوجهين، أولهما: أن ابن عبد السلام قال في الزكاة أن المصنف إذا شبه مسالة بأخرى وكان قدم في المشبه بها مشهوراً أو راجحاً، فإنه يشبه فيه فقط. وثانيهما: أن ما يذكره المصنف بعد هذا في الخيار ينفي أن يكون مراده بالتشبيه التشبيهَ في جميع ما تقدم، كما ستقف عليه. والقول بأنه يستبد في الرضا، سواء كان بائعاً، أو مشترياً نقله عبد الوهاب عن ابن القاسم، ونقل عنه قولاً آخر أن للبائع أن يخالف خيار من اشترط خياره أو رضاه دون المشتري. ابن يونس: فلم يختلف قوله أن البائع له أن يخالف، وإنما اختلف في المشتري. قوله: (وقيل: لا يستبد) ظاهره: كان بائعاً أو مشترياً، وهذا القول هكذا تأول على المدونة. وعلى هذا فيتحصل في كل من الرضا والخيار ثلاثة أقوال، ثالثها: يستبد البائع دون المشتري. والفرق ظاهر المدونة، لأن فيها: إذا اشترى على رضا فلان أو خياره، فليس للمبتاع رد ولا إجازة دون خيار من اشترط رضاه. وقال في البائع: إذا اشترط رضا فلان فرضي فلان أو رضي البائع، فالبيع جائز. ابن رشد: وحمل بن أبي زيد وغيره المدونة على هذا الظاهر، لقوة يد البائع وتقدم ملكه. عياض: وذهب جماعة في تأويل المدونة إلى التسوية بينهما، وأنه ليس لواحد منهما خلاف، ورأوا أنه لما نص فيها على أن المشتري ليس له المخالفة يرد كلامه في البائع إلى ذلك، ويكون معنى قوله: أو رضا البائع. أي: مع رضا الآخر. وذهب آخرون إلى التسوية بينهما

أيضاً، لكنهم يجعلون من له الرضا كالوكيل لهما، وأن لمشترط رضاه الرضا دونه، لكنهم يقولون: إن سبق من جعل هل الرضا أو الرد مضى فعله ولم يرد، كالوكيل مع موكله، اشترطا ذلك معاً أو أحدهما، ونحوه في الموازية وهو اختيار ابن محرز، وأشار إليه أبو إسحاق في البائع. ويلزمه ذلك في المبتاع، واستدلوا بقوله في المدونة: فإن رضي البائع أو رضي المبتاع، فهو جائز، وفيه نظر. وقال آخرون: هو حق لهما جميعاً، حق للبائع إن أراد إمضاء البيع وأراد فلان الرد، وحق للمبتاع إن أراد فلان إمضاء البيع وأراد البائع الرد. ومثله إذا كان مشترطاً ذلك لفلان المبتاع وأراد الآخر الرد، فله ذلك وإن رد فلان، وكذلك إن أراد فلان الإجازة وأراد المبتاع الرد كان للبائع إلزامه البيع. ففي اشتراط المبتاع على ما يلزم البائع رضا المبتاع، ويلزم المبتاع رضا فلان. وفي اشتراط البائع يلزم المبتاع رضا البائع، ويلزم البائع رضا فلان. وتأول آخرون كلامه في المسألتين في الموضعين على اختلاف من قوله، لا أنهما اختلاف مسألتين. فعلى ظاهر قوله في البائع أولاً: له مخالفته. يلزم مثله في المبتاع، وعلى قوله في المبتاع آخراً: ألا يخالفه. التفريق بين اشتراط البائع والمبتاع. وهذان القولان هما اللذان حكى عبد الوهاب. ومنهم من تأول جوابه في المسألة أولاً أن البائع اشترط ذلك لنفسه خاصة، وجوابه آخراً في المشتري أن الشرط لهما جميعاً. ونحوه لأبي محمد بن أبي زيد وغيره من القرويين. وهذا الأصل عند الحذاق، وهو نص ما في الواضحة، واختيار ابن لبابة. ومنهم من قال: إن (أو) في قوله: (فإن رضي البائع، أو رضي فلان البيع) بمعنى الواو. ومنهم من تأولها على الفرق بين الرضا والخيار، فإن اشترط رضا فلان فله أن يخالفه، وإن اشترط خياره فليس له أن يخالفه.

فإن كان على خياره، فقيل: مثل رضاه، وقيل: لا يستبد، وقيل: الجميع سواء هذا مما يبين لك أنه لم يرد بالتشبيه التشبيهَ في جميع ما تقدم، لأنه لو أراد ذلك لاستغنى عن قوله: (وقيل: لا يستبد) وعلى هذا يكون المصنف إنما شبه بالمشورة في القول الأول وهو الاستبداد، لأنه أصل المذهب. ثم حكى قولاً ثانياً في الرضا بنفي الاستبداد، ثم شبه الخيار بالرضا في القول الأول وهو الاستبداد، ثم حكى قولاً ثانياً وهو نفي الاستبداد، ثم قال: وقيل: الجميع سواء. فيستفاد منه قول ثالث في المشورة بنفي الاستبداد، ويستفاد فيها قول ثالث بالفرق بين [468/أ] البائع والمشتري. هذا أنسب ما قيل، وفيه نظر، لأنه كان يمكنه أن يجمع الرضا والخيار والمشورة، ويذكر في الجميع ثلاثة أقوال. ونقل عن أبي على ناصر الدين أنه كان يعتذر عنه بأن ما ذكره طرق لا أقوال، وفيه نظر، لأنهم لم يذكروها طرقاً، ولا إشكال في وجود الثلاثة الأقوال في الخيار والرضا. وأما المشورة: فقد ذكرنا أن ابن رشد وغيره حكى الاتفاق، وذكرنا أنا لم نطلع على القول الذي ذكره المصنف بالتفرقة فيها. نعم يتحصل فيها ثلاثة أقوال على ما نقله المصنف من التفرقة وعلى ما نقله ابن أبي عن ابن نافع، لكن قد قدمنا عليها الاعتراض في ذلك. ابن عبد السلام: والصواب التسوية بين البائع والمشتري، والصواب التفرقة بين شرط المشورة والرضا، وأن الخيار كالرضا. وفيها: الخيار بعد البت لأحدهما لازم، وقيد إن كان نقداً، وإلا أدى إلى خيار بيع الدين وفي ضمانه حينئذ قولان .... قال فيها: ومن اشترى سلعة م رجل ثم جعل أحدهما لصاحبه الخيار بعد تمام البيع، فذلك يلزمهما إذا كان يجوز في مثله الخيار. وهو بيع مؤتنف بمنزلة بيع المشتري لها

من غير البائع. وقيدها أكثر الشيوخ بشرط أن يكون انتقد الثمن في سلعة وإلا لم يجز ذلك، لأن البائع حينئذ يكون أخذ عن دين وجب له سلعة بخيار وذلك لا يجوز، وإليه أشار بقوله: (وقيد إن كان نقداً، وإلا أدى إلى خيار بيع الدين) أي: بيع الدين بخيار. وأبقى اللخمي المدونة على ظاهرها من الجواز مطلقاً. فعلى هذا يكون هذا التقييد مخالفاً للمدونة. ولهذا يقع في بعض النسخ: (وقيل) باللام على هذه الطريقة. والنسخة الأولى أحسن، لأنها على طريق الأكثر. ووجه ما ذهب إليه اللخمي: أن القصد بهذا التخيير إنما هو تطييب نفس من جعل له، وليس المقصود منه حقيقة البيع حتى يلزم عليه هذا المانع المذكور، ولأن البيعة الأولى قد تمت، فإذ جعل المشتري لبائعها الخيار، فقد صار المشتري كبائع سلعة على الخيار، وكأنها شيء ثان لا تعلق له بالأول. وقوله: (وفي ضمانه حينئذ قولان) أي: أنه اختلف في ضمان المبيع على خيار بعد بيعه على البت، ففي المدونة: هو من المشتري لأنه صار بائعاً. ابن يونس، والمازري وغيرهما: وظاهرها سواء جعل البائع الخيار للمشتري أو العكس. قالا: وروي عن المخزومي أنه قال: إن جعله البائع للمشتري فالضمان منه، لأنه خيار ألحقه بعقده فكأنه فيه، وإن جعله المشتري للبائع، فالضمان منه لأنه صار بائعاً. وعلى هذا، فإن جعله المشتري فالضمان منه اتفاقاً، وإن جعله البائع فقولان، بناء على أن اللاحقات بالعقود هل تقدر واقعة فيها أم لا؟ فقد أطلق المصنف في محل التقييد. والملك للبائع، فالإمضاء نقل لا تقرير، وقيل: للمشتري بالعكس يعني: أن المشهور أن بيع الخيار منحل والسلعة على ملك البائع، فإذا أمضى البيع كان ذلك نقلاً للسلعة إلى ملك المشتري. والشاذ: أنه منبرم، فالإمضاء تقرير لما انبرم أولاً.

والغلة للبائع، إذ الخراج بالضمان أي: ما يحدث في أيام الخيار من غلة، كلبن، وبيض، وثمرة ونحو ذلك، فهو للبائع، لما رواه الترمذي وصححه: أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((الخراج بالضمان)). والضمان من البائع اتفاقاً، ولا يقال: الاتفاق على الضمان يرد قول من قال: إن الملك قد انتقل، لأن الملك لم ينتقل المشتري انتقالاً تاماً، فيبقى الضمان مستصحباً من البائع. قاله المازري. وهذا الحكم عام في أنواع الغلة، إلا في الصوف فإنه للمشتري، لكونه كان موجوداً يوم البيع، نص عليه اللخمي، وهو ظاهر. وقد أشار المصنف إليه بقوله: ولو ولدت الأمة فأمضى، فقال ابن القاسم: يتبعها كالصوف. وقال أشهب: كالغلة فينفسخ. وقيل: أو يجمعا نفي ملك. وقيل: أو في حوز يعني: لو باع أمة على خيار فولدت في أيام الخيار وأمضى من له الخيار البيع، فقال ابن القاسم: الولد للمشتري كصوف الغنم. وهو مقتضى كلامه أن أشهب يوافق على الصوف، وإلا لما حصل لاستشهاده به كبير فائدة، وهو مقتضى كلامه في الجواهر. وعلل ذلك أن الصوف مشترى، لأنه إذا اشترى كبشاً وعليه صوف فكأنه اشتراهما. وقال أشهب: بل يكون للبائع كالغلة. فإن بنينا على قول ابن القاسم فلا تفريغ، وإن بنينا على قول أشهب، فهل يفسخ أو يجبران على الجمع بينهما؟ قولان، بناء على أن ما أوجبته الأحكام هل هو كالمدخول عليه أو لا. وعلى الثاني فهل يكفي الحوز وهو ظاهر كلام أشهب، أو لابد من الملك، قولان. ابن محرز: والصحيح الملك. ابن بشير: هو الأصل. وكان حق المصنف أن يؤخر القول بالفسخ ويقدم القولين بعد، لأنهما تأولا على أشهب، فهما من تمام قوله السابق. والقول بالفسخ لغيره، لكن ممن وافقه على أن الولد

للبائع وتعقب فضل بن سلمة، وابن أبي زمنين، هذه المسألة من حيث أن الأمة ولدت في أيام الخيار، وذلك يستلزم بيعها بقرب الولادة، وبيع الحامل المقرب لا يجوز. وأجاب فضل: بأن البائع لم يخير المشتري بحملها، فلم يدخلا على الفساد. ورده المازري: بأن حمل المرأة لا يكاد يخفي قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة. ورواه أيضاً ابن محرز وعياض: بأن المشهور أن علم أحد المتبايعين بالفساد يوجب فساد البيع. [468/ب] وأجاب ابن محرز، والمازري: بأن المرض عند ابن القاسم وأشهب- وإن بلغ الخوف على صاحبه- لا يمنع من صحة بيع المريض، وإنما يمنع إذا بلغ السياق. وحاصله أن بيع الأمة المقرب صحيح، وقد تقدم أن الأصح صحته. وأجاب عياض: بأنه يمكن أن يكون باعها في آخر الشهر السادس وولدت في أول السابع، وفيه نظر، لحمل المعنى على معنى نادر. وعارض الباجي قول ابن القاسم هنا، بأنه قال فيمن اشترى عشر جوار من مائة يختارهن، فلم يختر حتى وضعن، لم يكن له خيار في الأمهات، ويفسخ البيع للتفرقة. فجعل الولد للبائع هنا وفي الأولى للمشتري، وكلا العقدين مدخول فيه على خيار. وأجيب: بأن مسألة المدونة وقع فيها العقد على معين، بخلاف الأخرى. وقيل في مسالة العشر الإماء: أنه لا يفسخ ويكون الولد للبائع، ويجمع بينهما في ملك أو يباعان. وما يوهب للعبد البائع، وقيد في غير المستثنى ماله يعني: إذا وهب للعبد المبيع بالخيار مال في مدة الخيار فهو للبائع، قاله في المدونة. وقيده ابن الكاتب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بأن يباع بغير ماله، وأما لو بيع بماله لتبعه هذا المال الموهوب كما تبعه ماله المشترط لأجل الشرط.

وما يعد رضا من المشتري فهو رد من البائع. قال اللخمي: قد يؤجر البائع، لأن الغلات له ولا يعد رداً .... أجاب- رحمه الله- يتكلم على ما يدل على الرضا. ونقل ابن شاس هذا الضابط عن سحنون، قال: قال سحنون: وكل ما يعد من المشتري قبولاً فهو من البائع إذا كان له الخيار فسخ. فقوله: ما يعد من المشتري قبولاً. يريد: والخيار له. اللخمي: ولا يجزئ ذلك مطلقاً، لأن الغلات للبائع، فإذا آجره أو أسلمه للصنعة، فإنما فعل ما هو له، فلا يكون ذلك رضا، بخلاف المشتري فإن الإجارة في حقه دليل على الرضا. ابن بشير: وهذا الذي قاله اللخمي يختلف الأمر فيه، فإن طول الإجارة أو مدة التعليم يظهر مع هذا أنه قصد الرد. وقوله: (وما يعد) يريد من الفعل، لأن القول لا يقال فيه يعد لدلالته وضعاً، فلا يرد عليه قول المشتري أمضيت المبيع ونحوه، فهو رضاً منه بالشراء، وكذلك هو أيضاً رضاً من البائع. ويكون بترك وفعل، فالترك الإمساك عما يدل إلى انقضاء المدة (يكون) أي: الرضا، أو يعود على (ما) في قوله: (وما يعد) فإن قلت، قوله: (ويكون بترك وفعل) ويدل على أن الترك يدل على الرضا. وقوله بعد ذلك: (فالترك الإمساك عما يدل) يقتضي أن الترك لا يدل على الرضا، فيلزم أن يكون الترك دليلاً على الرضا وغير دليل عليه. قيل: متعلق بدل محذوف للدلالة عليه، تقديره: أي: الإمساك عما يدل من قول أو فعل. وتقييد الدلالة بالقول أو الفعل أخص من مطلق الدلالة، فلم ينفِ عن الترك الدلالة مطلقاً. وقد صرح بذلك ابن شاس، فقال: وأما الترك فمثل إمساكه عن القول أو الفعل الدالين على تعيين أحد الوجهين إلى أن تنقضي مدة الخيار.

وهو اختيار لها ممن هي في يده، وإلا فالعكس يعني: أن إمساك السلعة إلى انقضاء المدة اختيارٌ لها بالرد إن كانت بيد البائع، والخيار له وإمساكها إلى انقضاء المدة اختيار لأخذ السلعة إن كانت بيد المشتري والخيار له، وإلا فالعكس. أي: وإن لم تكن في يد من له الخيار وأمسك من له الخيار عما يدل إلى انقضاء المدة، فإذا كان الخيار للبائع والسلعة في يد المشتري وأسك عما يدل على الصفة المذكورة، كان ذلك اختياراً لعوض السلعة فهو إمضاء، وإذا أمسك المشتري عما يدل على الصفة المذكورة والخيار له والسلعة في يد البائع فهو اختيار للثمن ورد للسلعة. فلذلك كان اختياراً منهما لمن هي في يده أي: فلما قلناه من أن إمساك السلعة اختيار لها ممن هي بيده وبالعكس، كان الإمساك اختياراً من كل واحد من المتبايعين إذا كان الخيار لهما لمن هي في يده. أي: فلأجل الطرد والعكس كان سكوتهما معاً يرد البيع، وإن كانت بيد المشتري فهو اختيار منهما. والفرق بين هذا وبين ما تقدم، أن الأول أفاد الحكم إذا كان الخيار لأحدهما، والثاني أفاد الحكم إذا كان الخيار لهما. وفي قربه برده قولان أي: وفي رد المبيع بخيار بقرب انقضاء المدة، وعدم رده. والأول في المدونة، ففيها: وإن كان بعد غروب الشمس من آخر أيام الخيار، أو كالغد أو قرب ذلك فذلك له، واحتج بالتلوم للمكاتب. والقول بأنه ليس له ذلك بالقرب لأشهب وابن الماجشون، قالا: بغروب الشمس من آخر أيام الخيار ينقطع الخيار، لأن المؤمنين عند شروطهم. وعلى المشهور، فإن شرط في بيع الخيار إن لم يأت بالسلعة قبل مغيب الشمس من آخر أيام الخيار لزم البيع، ففي المدونة لم يجز هذا البيع، أرأيت إن مرض المبتاع أو حبسه

سلطان. لكن عورض ذلك بقوله في المدونة في غير موضع: إذا اشترط البائع على المبتاع إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا فلا بيع بيننا، أن العقد صحيح والشرط باطل. فعارض الأشياخ إحدى هاتين المسألتين بالأخرى، وخرجوا من الثانية الخلاف في الأولى، وإن كان بعضهم فرق بينهما بفرق فليس بالقوى. والقول الثاني عند ابن عبد السلام أظهر، وهو الذي اقتضاه الشرط، وسببهما ما قرب من الشيء هل يعطي حكمه أم لا؟ والفعل: مثل العتق، والكتابة، والاستيلاء، وتزويج الأمة، والوطء، وقصد التلذذ [469/أ] لما فرغ من بيان الترك شرع في الفعل، ولا خفاء في دلالة العتق، والكتابة، وتزويج الأمة، والوطء على اختيار من له الخيار من المتبايعين. وفي معنى الكتابة، التدبير، والاستيلاء، والعتق إلى أجل. وقوله: (وقصد التلذذ) أي: إذا أقر بذلك، ففيها: وإن كان الخيار للمبتاع فجردها في أيام الخيار ونظر إليها، فليس ذلك رضا إلا أن يقر أنه فعل ذلك قصد التلذذ. قال: ونظر المبتاع إلى فرج المرأة رضا، لأن الفرج لا يجرد في الشراء ولا ينظر إليه إلا النساء، أو من يحل له الفرج. وكذلك رهن المبيع وإجارته وإسلامه للصنعة، وتزويج العبد، والسوم بالسلعة، خلافاً لأشهب في أنه يحلف ما كان ذلك رضا الأفعال ثلاثة أقسام، الأول: متفق على أنه يعد رضاً، وهو ما تقدم. والثاني: لا يعد رضاً باتفاق، كاختيار العمل. والثالث: مختلف فيه، وهو الذي ذكره المصنف هنا. أي: المشهور أن هذه الخمسة دالة على الرضا بإمضاء البيع إن كانت من المشتري، أو رده إن كانت من البائع، ولا يقبل قوله أنه لم يرد بذلك رضاً، قاله في المدونة.

وخالف أشهب فرأى أن ذلك لا يدل على الرضا بعد يمينه، لكن ذكر في المدونة يميه على ثلاثة منها فقط، قال فيها: ولم ير أشهب الإجارة، وتزويج العبد، والرهن، والسوم، والجناية، وإسلام العبد للصنعة، وتزويجه العبد رضاً بعد أن يحلف في الرهن، والإجارة، وتزويج العبد. لكن في الموازية عنه النص على اليمين في الجميع. ولا يخفى عليك الفرق بين تزويج الأمة والعبد على قوله، وقول أشهب ظاهر في السوم والإجارة والإسلام للصنعة إن كانت مدة ذلك تنقضي في مدة الخيار، وبعيد في الرهن والتزويج. وأما بيع المشتري، فقيل: الربح للبائع. وقيل: يخير فيه وفي نقضه. وقيل: يصدق مع يمينه أنه بائع بعد اختار .... أطلق الأفعال المتقدمة ولم يضفها لبائع ولا لمشترٍ، إشارةً إلى أن الحكم متحد فيه. وقيد مسألة البيع بالمشتري، لأن هذه الأقوال لا تتصور إلا فيه. ومعناه: أن المشتري لو باع والخيار له قبل أن يخير البائع باختياره أو يشهد على اختياره، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال، أحدها: أن الربح للبائع، نقله اللخمي عن ابن المواز. ثانيها: رواية ابن زياد في المدونة أن بيعه ليس باختيار ورب السلعة بالخيار، إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، وإن شاء نقض البيع. وطرح سحنون التخيير من هذا القول، وصوب ابن يونس طرح سحنون، قال: لأنه إنما يتهم أن يكون باع قبل أن يختار، فيقول له البائع: قد بعت ما في ضماني فالرح لي. وليس له نقض البيع، لأن بيع المبتاع لا يسقط خياره، فلو نقض البيع لكان له أخذ السلعة بمقتضى الخيار. وهذا التضعيف هو الذي أراده بقوله: وضعف. وإنما يتم هذا التضعيف إذا كانت أيام الخيار لم تنقضِ، وأما إن نقضت فالمشتري لا يمكنه أخذ السلعة بعد النقض. ثالثها: حكاه ابن حبيب عن مالك وأصحابه، وهو لابن القاسم في بعض روايات المدونة. وفي الموازية أنه يصدق مع يمينه إن كذبه صاحبه. وظاهر كلام المصنف- وهو

ظاهر الرواية- أنها يمين تهمة تتوجه على البائع وإن لم يحققها. وقال في النوادر: يريد بعلم يدعيه، ونحوه لابن يونس وكان الشيخ- رحمه الله- رأى أن قوله في الراوية: إن كذبه صاحبه يناسب أنها دعوى محققة. زاد في هذا القول: وإن قال بعت قبل أن أختار فالربح لربه، لأنه في ضمانه. وصوبه اللخمي، لأن الغالب فيمن وجد ربحاً أنه لا يدفعه لغيره. ولا يقبل أنه رد أو اختيار لفظاً إلا ببينة أي: فإن ادعى من له الخيار بعد انقضاء المدة أنه كان قد رضي فلا يقبل ذلك إلا ببينة تشهد له بصحة دعواه، لأن ادعى شيئاً الأصل عدمه. فإن طرأ مانع، ففي الموت ينتقل إلى وارثه، وليس لمن اختار التمسك إلا الجميع .... أي: فإن طرأ على مشترط الخيار ما يمنعه منه، والمواقع ثلاثة. وبدأ بالموت، وانتقاله إلى الوارث ظاهر، لأن من مات عن حق فلورثته. المازري: فإن مات المشتري وترك وارثاً واحداً يجوز ماله، فإنه يحل محله فيخير بين قبول المبيع بنصيبه من الثمن، ولا مقال هنا للمتلزم الشراء، لكونه قد وصل إلى غرضه واستكمل جميع حقه في الميراث. وإن لم يرض البائع التشقيص كلف من أجاز أن يرد ما في يده ليكمل جميع المبيع لبائعه. هذا القياس عند أشهب، والاستحسان عنده أن يمكن من أراد الإجازة من أخذ نصيب من رد ويدفع جميع الثمن للبائع لترتفع العلة التي شكلها من التبعيض، لكن القياس أن البائع لما رد عليه الممتنع عن الإجازة لنصيبه عاد إلى ملكه على ما كان، فلا يلزمه بيعه إلا ممن أحب. وهذا التفصيل يجري في موت المشتري والبائع. انتهى.

فقوله: (وليس لمن اختار التمسك إلا بالجميع) محتمل للقياس والاستحسان، لأن الجميع يحتمل أن يريد به جميع الورثة، والباء للمصاحبة، أي: ليس له التمسك إلا مع اختيار جميع الورثة وهو القياس. ويحتمل [469/ب] أن يريد بالجميع جميع السلعة وهو الاستحسان. وهذا تقرير هذا المحل. ولا يقال: لعل المصنف أراد بقوله: (وليس لمن اختار ....) إلخ. أن من اشترى سلعاً ثم أراد الإجازة، فليس له أن يتمسك إلا بجميعها، لأن السياق ينفيه. واعلم بأنه إنما نص في المدونة على ما ذكرناه من القياس والاستحسان في ورثة المشتري. وظاهر كلام المصنف: أنه لا فرق في ذلك بين ورثة البائع والمشتري، ولعله بنى على كلام المازري المتقدم وهو أحد الطريقين، لأن الشيوخ اختلفوا هل يدخل القياس والاستحسان في ورثة البائع، فمنهم من قال يدخل وينزل الراد من ورثة البائع منزلة المجيز من ورثة المشتري فيدخله القياس، وهو أنه ليس له إلا نصيبه. والاستحسان: وهو أن له أن يأخذ نصيب أخيه المجيز، لأن الذي أراد الإجازة من ورثة البائع قد رضي بإخراج نصيبه من يده وأخذ الثمن فيه، فإذا قال للذي أراد إبطال البيع: أنا آخذ نصيبك وأعطيك الثمن الذي أردته ودعوت إليه، كان ذلك له، كما للمجيز من ورثة المشتري أن يأخذ نصيب أخيه الراد، وإلى هذا ذهب ابن أبي زيد في غير المختصر. وقال بعض القرويين: لا يدخله الاستحسان، وليس لمن رد أن يأ×ذ نصيب من أجاز، لأن من أجاز إنما أجاز للأجنبي لا لأخيه. تنبيه: أقام الشيخ أبو محمد صالح على ما نقله عنه أبو الحسن من قوله: أن الخيار يورث أن الثنيا تورث. أي: الجائزة. وهي إذا قال المشتري بعد تمام البيع: إن جئت بالثمن فسلعتك رد عليك، أعني: إذا مات المتطوع له بها.

واختلف إذا مات المشتري الذي تطوع بالثنيا، هل يلزمك ذلك ورثته وهو قول أبي إبراهيم، أو لا يلزم ورثته وهو قول أبي الفضل راشد، واختاره أو الحسن؟. واحتج أبو إبراهيم بما نقله ابن يونس عن الموازية في الذي قال لأمته: إن جئتني بألف درهم فأنت حرة فمات، أن العتق يلزم ورثته إن جاءتهم بالألف. أبو الحسن: ولا حجة فيه، لأن هذه قطاعة وهي من ناحية الكتابة وهي لازمة. وفي المستخرجة عكسه: أن العتق لا يلزمهم. وذكر ابن الهندي فيمن باع سلعة بثمن إلى أجل على أن يبقى الدين إلى أجله فمات المطلوب، ثم مات الطالب بعده، أن ورثة الطالب لا يلزمهم التأخير، وهو يدل على أن الثنيا لا تلزم ورثة المشتري. وفي الجنون: ينظر السلطان أي: إذا جن من له الخيار من بائع أو مشتر، فإن الحاكم ينظر في ذلك فيفعل المصلحة من رد أو إمضاء، ولا خلاف فيه، قاله ابن عبد السلام. وفي الإغماء: يوقف، فإن طال فسخ. وقال أشهب: كالجنون تصوره واضح. وقوله: (فإن طال فسخ) أي: وليس له أن يجيز. وقول أشهب مقيد ببقاء أمد الخيار وإلا تعين الرد. ووقع لابن القاسم في العرصة المعارة يريد هدمها المعار والمعير غائب، أن السلطان ينظر فإن رأى أخذ النقض لرب العرصة بقيمته ملقى فذلك له. فعارضها بعضهم بقوله هنا، وقال: يجب على قوله في العرصة أن يكون له هنا إجازة البيع كقول أشهب. ابن يونس: ويمكن أن يفرق بينهما بأن الإغماء الغالب زواله عن قرب، والغائب قد تطول غيبته فكان كالمجنون والصبي.

خيار النقيصة

خيار النقيصة: وهو نقص يخالف ما التزمه البائع شرطاً أو عرفاً في زمان ضمانه ..... هذا هو النوع الثاني، و (ما) موصولة، أو نكرة موصوفة. وقوله: (شرطاً أو عرفاً) بيان لموجب الالتزام. والأولى أن يقول: ما ثبت بنقص، إذ النقص سبب للخيار لا نفس الخيار، فلا ينبغي أن يعرف الخيار بالنقص. فإن قيل: لعله عرف المضاف إليه وهو النقيصة، كأنه قال: والنقيصة التي توجب الخيار نقص، إلى آخره. قيل: لو قصد ذلك لقال: وهي. وقد يقال: أعاد الضمير عليها باعتبار معناها، وفيه بعد. فإن قلت: هو تعريف غير جامع، لأن خيار النقيصة يكون أيضاً بتغرير فعلي، ولم يذكره. وقد ذكره ابن شاس، فقال: ما ثبت بفوات أمر مظنون نشأ الظن فيه من التزام شرطي، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي. قيل: هو راجع إلى الشرطي، ألا ترى قوله بعد ذلك: والتغرير الفعلي كالشرطي. لكن قد يقال: إنه غير جامع من وجه آخر، لأن عيوب الدار تخالف ما التزمه البائع ولا توجب خياراً. وأجيب: لا يرد هذا على القول بأنها توجب الخيار كغيرها، وعلى القول الأخير فهذا على خلاف القياس، وفيه نظر. وقوله: (في زمان ضمانه) أي: أن النقص المذكور لابد أن يكون حاصلاً في الزمان الذي يضمن فيه البائع المبيع للمبتاع. فالشرطي: ما يؤثر في نقص الثمن كصانع، وكاتب، وتاجر لما قسمه أولاً إلى قسمين تكلم على الأول، والظاهر أن الشرطي ما يشترطه المشتري. وفي البيان: إذا نادى الذي يبيع الجارية في الميراث أنها عذراء أو غير ذلك، ثم وجد خلافه كان له الرد. فنزلوا هذا منزلة الشرط.

فإن شرط ما لا غرض فيه ولا ماليه فيه، ألغي على المعروف كما لو اشترط أنه أمي فيجده كاتباً، أو جاهلاً فيجده عالماً. ومقابل المعروف ذكره صاحب البيان وابن زرقون، فلا التفات إلى قول ابن بشير: لا أعلم فيه خلافاً. وقد [470/أ] يجري الخلاف فيه على وجوب الوفاء بشرط ما لا يفيد. وما فيه غرض ولا مالية فيه، فيه روايتان هذا يتصور في حق بعض الناس، كما لو اشترى أمة على أنها نصرانية فوجدها مسلمة، وقال: أردت أن أزوجها غلامي النصراني، أو اشتراها على أنها ثيب فوجدها بكراً، وقال: على يمين ألا أطأ الأبكار، أو اشترط جنساً فوجدها من جنس آخر أرفع. وقد ذكر ابن بشير، وابن شاس القولين. قال في البيان: والصحيح أن له الرد عملاً بالشرط. وحصل صاحب البيان، وابن زرقون فيه وفي الذي قبله ثلاثة أقوال، الأول لسحنون: أنه له الرد. والثاني: مخرج على رواية ابن نافع في مسلم غر نصرانية نكحته على أنه نصراني أنه لا خيار لها، فأحرى أن يقول ذلك في الأمة. والثالث في سماع عيسى: إن كان له وجه رد به وإلا فلا. ومثله في المدونة. والعرفي: ما تقتضي العادة بأنه إنما يدخل على السلامة منه ما يؤثر في نقص الثمن، أو المبيع، أو في التصرف، أو خوفاً في العاقبة .... (أل) في (العرفي) للعهد، أي: والنقص العرفي، و (من) في قوله: (منه) لبيان الجنس. ومعنى كلامه: والعيب الذي تقتضي العادة الدخول على السلامة منه. وقوله: (في نقص الثمن) أي: من غير نقص في المبيع، كما لو وجده آبقاً، أو سارقاً، أو في المبيع من غير نقص في الثمن، كالخصاء في العبد، أو نقص التصرف، كالعسر أو التخنيث في العبد، أو خوفاً في العاقبة، كجذام أحد الأبوين إذ يخشى عليه حينئذ الجذام.

فالعمى، والعور، والقطع ونحوه متفق عليه لما ذكر ضابطاً كلياً شرع في تعداد العيوب لتكون كالمثال لما ذكره، وهو ظاهر. ابن عبد السلام: وهذا الاتفاق إنما يصح في بيع الغائب، وأما الحاضر فقد يدخل بعض هذا الخلاف من اختلافهم في البيع الظاهر، هل للمشتري القيام به أم لا؟ ويمكن أن يريد المصنف الاتفاق على كون هذه الأشياء وشبهها عيوباً، لا على وجوب القيام بها. والخصاء عيب يعني: في العبيد، وهو ظاهر. وسقوط ضرسين عيب، والواحد في العلي تصوره ظاهر، وخص الأضراس تبعاً للباجي والمازري. ولعل ذلك على جهة المثال، لأن سقوط سِنَّيْنِ مطلقاً عيب. ففي الواضحة: وما زاد على السن الواحدة فهو عيب في كل العبيد ما كان في مقدم الفم أو مؤخره. وفي قوله: (والواحد في العلي) نظر من وجهين، أحدهما: تخصيص الأضراس. والثاني: ظاهره أنه مطلق في الأمة والعبد، وهو خاص بالرائعة. ابن عبد السلام: وأطلق المؤلف في العلي، وظاهره سواء نقص من الثمن أو لم ينقص، إلا أن يقال: كلامه هنا هو مثال لما ينقص الثمن. قال في الموازية: ولا يرد العبد إذا وجدت سنه منزوعة إلا أن يكون ذلك في الجارية الرائعة وينقص ذلك من ثمنها. وفي الواضحة: السن الناقصة عيب في الرائعة في مقدم الفم أو مؤخره، وليست في الدنية ولا في العبد عيباً إلا في مقدم الفم. فأنت تراه كيف لم يجعل السن الواحدة عيباً في الذكر.

ابن حبيب: والسن الزائدة عيب في العبد والأمة رفيعين كانا أو وضيعين. والوخش في الرقيق الخسيس مأخوذ من قولهم: وخشت الشيء أخشه وخشاً إذا خلطته، فكان الوخش لا يعرف لخساسته، إذ هو من أخلاط الرقيق، وأصله الحقير من كل شيء. والعلي: بفتح العين وكسر اللام مخففة وتشديد الياء صفة للجنس، أي: من الجنس العلي. الجوهري: وفلان من علية الناس وهو جمع عليٍّ، أي: شريف مثل صبي وصبية. وكذا ذكره عياض، قال: وقيل بكسر اللام وتشديدها، والأول أشهر. وكالحمل فيهما، وقال أشهب: في العلي حاصله: أنه اتفق على أن الحمل عيب في العلي، واختلف في الوخش. وما قدمه المصنف هو مذهب المدونة، قال: وقاله لنا مالك حين خالفنا ابن كنانة في الوخش. ولابن القاسم ثالث: أنه عيب في الوخش إن اشترى جارية ودها لا إن اشتراها في جملة رقيق. ولابن حبيب رابع: أنه عيب لأهل الحاضرة دون البادية. وفيها: كونها زلاء ليس بعيب، وقيد باليسير الزلاء بالمد: الصغيرة الإليتين، ولابد من التقييد باليسير، ولهذا قال في المدونة: إلا أن تكون ناقصة الخلق. وروى أشهب: الصغيرة القبل ليس بعيب إلا أن يتفاحش. والشيب الكثير في العلي عيب، وفي القليل فيه والكثير في غيره قولان أي: لا خلاف في الكثير أنه عيب في العلي، ولا في اليسير أنه ليس بعيب في الوخش، واختلف في القيل في العلي، فظاهر المدونة أنه عيب. وقال ابن عبد الحكم: ليس بعيب. وكذلك في الواضحة عن مالك. وجوز الباجي أن يكون تقييداً للمدونة.

وأما الكثير في غير العلي، فظاهر المدونة أنه ليس بعيب، قال فيها: ولا يرد به غير الرائعة إلا أن يكون عيباً ينقص من ثمنها. وقيل: إن كان الشيب لا إن قل، إلا أن يكون بائعها قد علم بذلك فكتمه على تعمد، فيرد وإن كان قليلاً. ابن المواز: وذلك كله في الشابة. والاستحاضة فيها عيب أي: في العلي والوخش، وهذا ظاهر المذهب وهو الصواب، لأنه يضعف الجسم. وعن ابن القاسم: يسال عن الدنية، فإن كان عيباً ينقص من الثمن ردت به. قال: وهذا إذا ثبت استحاضتها عند البائع. وأما الموضوعة للاستبراء تحيض حيضة لا شك فيها، ثم تستمر مستحاضة فمن المشتري ولا ترد، وقاله أشهب، أي: لاحتمال أن يكون حدث بها. قال في الموازية: والاستحاضة التي ترد بها شهران. وارتفاع [470/ب] الحيض عيب في ذات سنه، قاله في المدونة. وعلله اللخمي: بأن ذلك صلاح لأجساد النساء، وهو يشمل العلي والوخش. وفي العلي وجه آخر وهو: منع الوطء. وأفتى ابن عتاب: بأنه عيب في الوخش. وعن ابن القاسم: أنه عيب في العلي فقط. قال في المدونة: وإن تأخر حيضها، قال في الأمهات: شهرين أو ثلاثة فذلك عيب، ولأشهب أنها لا ترد إلا فيما زاد على ثلاثة أشهر. ولسحنون وغيره: أنها ترد بخمسة وأربعين يوماً. مالك: وللبائع أيضاً أن يفسخ البيع لأجل نفقته. والبول في الفرش في الوقت المستنكر عيب أي: في الذكور والإناث، قاله ابن حبيب عمن كاشف من أصحاب مالك. ومراده بالوقت المستنكر: الزمان الذي لا يبول فيه الصغير غالباً، قال معناه ابن حبيب.

واحترز من البول في زمن الصغر، فإنه لا يستنكر فليس بعيب. ابن حبيب: ولا يثبت أنه عيب حتى يقيم المبتاع بينة أنها كانت تبول عند البائع، لأنه مما يحدث في ليلة وأكثر، فإن لم تكن بينة حلف البائع على علمه، ولا يحلف بدعوى المبتاع حتى توضع بيد امرأة أو رجل له زوجة فيذكران ذلك، ويقبل قول المرأة والرجل عن زوجته في ذلك، ويجب اليمين على البائع، وليس بمعنى الشهادة. ولو جاء المشتري بقوم ينظرون مرقدها بالغد مبلولاً، فلابد من رجلين، لأنه بمعنى الشهادة، ثم يحلف البائع. وفيها: التخنيث في العبد، والفحولة في الأمة إن اشتهرت عيب، فقيل: التشبيه فيهما، وقيل: الفعل .... التفسير الأول لابن أبي زيد، فقال: تشبيه الذكر بالأنثى بتكسير المعاطف، وتشبيه الأنثى بالذكر بفحولة الكلام. والثاني لصاحب النكت، فقال، قوله: إذا وجد العبد مخنثاً- أي: يؤتى- والمرأة مذكرة- أي: فحلة كشرار النساء- فإذا اشتهرت بذلك فهو عيب. وهكذا وقع لمالك في الواضحة، وصرح في الواضحة بأن التشبيه ليس بعيب. وجعل عبد الحق الواضحة مفسرة للمدونة، وهي على تفسير ابن أبي زيد خلاف. واحتج أبو عمران للأول بأنه لو أراد الفعل لكان عيباً ولو مرة واحدة، ولكان لا يحتاج إلى قيد الاشتهار في الأمة. أبو عمران: وإنما خص بهذا القيد الأمة ولم يجعل الرجل مشاركاً لها فيه، لأن التخنيث في العبد يضعفه عن العمل وينقص نشاطه، والتذكير في الأمة لا يمنع جميع الخصال التي في النساء ولا ينقصها ذلك، فإذا اشتهرت بذلك كان عيباً، لأنها ملعونة في الحديث. وجعل في الواضحة هذا الاشتهار عائداً على الأمة والعبد. عياض: ورأيت بعض مختصري المدونة اختصرها على ذلك.

خليل: وينبغي أن يقيد كلام عبد الحق وما في الواضحة بالوخش، وأما الجارية المرتفعة فالتشبه فيها عيب، إذ المراد منها التأنيث، وقاله عياض. والزعر عيب الجوهري: الزعر: قلة الشعر. ونص المسألة في المدونة فيمن اشترى أمة فوجدها زعراء العانة فهو عيب. ابن سحنون: لأن الشعر يشد الفرج فإن لم يكن شعر استرخى الفرج. قال في الموازية: وكذلك إذا لم ينبت في غير العانة فهو عيب. ابن حبيب: وهو مما تتقى عاقبته من الداء السوء. وقال سحنون: ليس هو في غير العانة عيباً. وحمل بعضهم الأول على أنه تفسير للمدونة. بعض الموثقين: والذكر والأنثى فيه سواء. والثيوبة ليست بعيب إلا فيمن لا يفتض مثلها أي: إذا وجدها ثيباً وهي في سن من توطأ، فقال سحنون في العتبية: ليس ذلك بعيب، كانت من أعلا الرقيق أو وخشه. وقال في البيان: لأنها محمولة حينئذ على أنها قد وطئت، وإن كانت في سن من لا توطأ فوجدها مفتضة فذلك عيب، لأنها محمولة في هذا السن على عدم الوطء. وظاهر كلام المصنف: أنه لا فرق في ذلك بين الرائعة والوخش، وليس بظاهر، فإن الذي في المتيطية وغيرها ونص عليه ابن القاسم وسحنون: أن ذلك عيب في الرائعة فقط. قال في البيان: لأن وطء الوخش لا ينقص من الثمن، إلا أن يشتريها على أنها غير مفتضة بشرط. قال: وهذا قائم من المدونة. والعسر عيب العسر: بفتح العين المهملة وفتح السين.

الجوهري: وهو الذي يعمل بيساره. ابن حبيب: هو عيب في العبد والأمة رفيعين أو وضيعين. ابن المواز: كالعثار في الدابة. والأضبط ليس بعيب الجوهري: الأضبط هو الذي يعمل بكلتا يديه، تقول: منه ضبط الرجل يضبط والأنثى ضبطت. قال في موضع آخر: وأما الذي يعمل بكلتا يديه فهو أعسر يسراً ولا يقال: أعسر أيسر. وكان عمر بن الخطاب أعسر يسراً. ابن حبيب: وليس بعيب إذا كانت اليمنى في قوتها والبطش بها، فإن نقصت فهو عيب. والزنى، وشرب الخمر، والبخر عيب قوله: (عيب) أي: مطلقاً في العلي والوخش. المتيطي: وسواء كان البخار في فم أو فرج. قال غيره: وهو في الفرج عيب في الرائعة فقط. وفي الموازية: في الأمة توطأ غصباً أن ذلك عيب. والوالدان والولد عيب، والإخوة والأجداد ليس بعيب أي: أن أحد الوالدين عيب وأحرى اجتماعهما، والولد عيب صغيراً كان أو كبيراً، حراً أو رقيقاً، لأن وجود أحدهم مما يشغله عن خدمة سيده، وإنما لم تكن الإخوة والأخوات والأجداد عيباً، لعدم الميل لهم كما فيمن تقدم. المتيطي: وانفرد [471/أ] ابن العطار فرأى الأخ عيباً. ونقل صاحب الجواهر، وابن راشد عن بعض أصحابنا المتأخرين أنه ألحق الجدة للأم بالوالدة دون الجدة للأب.

وجذام الأب عيب، بخلاف مس الجان مراده بـ (الأب) الجنس فيدخل الجد، وصرح به في الموازية والعتبية والواضحة. ولفظ الواضحة: وإن كان أحد أبويهما أو جديهما مجذوماً فهو عيب في الجارية والعبد، والعلي والوخش، وهذا هو المشهور. وقال ابن كنانة: ليس بعيب. ورواه داود بن جعفر عن مالك. وقال ابن دينار: لا يرد به إلا أن يقول أهل العلم: إنه مرض يعم الأقارب حتى لا يخطئ أحداً منهم فيرد، وإن كان ربما أصاب أو لم يصب فلا يرد به. وأما مس الجان فظاهر، إذ لا يخشى منه ما يخشى من الجذام. وفي سواد الأب في العلي قولان مراده بـ (الأب) أيضاً الجنس، فيدخل الجد. ففي الموازية والعتبية: أنه ليس بعيب. وفي الواضحة: هو عيب لما يخاف من خروج ولدها أسود. والأولى لو قال: الرائعة كما في الرواية، لأن العلي يصدق على الذكر. وكونهما من زنى في العلي عيب، وفي الوحش قولان الضمير عائد من الأمة والعبد، والقول بأنه لا يرد في الوخش في الموازية، وبالرد لابن القاسم في المدونة وابن وهب. ولم يجعل صاحب البيان العلي محل اتفاق، بل جعل القول بالفرق ثالثاً. ابن عبد السلام: وقيل في الوخش الفرق بين الذكر والأنثى هو ظاهر ما حكاه ابن حبيب عن مالك.

والقلف في الذكر والأنثى من المولودين، وطول الإقامة كذلك إلا الصغير القلف: بفتح القاف واللام، الجوهري: رجل أقلف بيِّن القَلَفِ وهو الذي لم يختن. قال، ويقال: أغلف، بالعين المعجمة. واستعمل المصنف القلف في الذكر والأنثى، أي: أن متروك الختان ومتروكة الخفاض إذا ولدا في الإسلام أو في العجم ولكنهما طالت إقامتهما بين المسلمين كذلك، وأما إن لم تطل فليس بعيب لدخول المشتري على ذلك، بل نص ابن حبيب على أنه لو وجد المجلوبين مختتنين على أنه عيب، لما يخاف أن يكون أغار عليهما العدو أو أبق إليهم من رقيقنا، وقال به ابن القاسم. وروي عن ابن القاسم أيضاً أن ذلك ليس بعيب. قال في البيان: والأول أوضح في المعنى وأشبه في النظر. واستثنى المصنف الصغير- كما ذكر ابن حبيب- لأنه لم يثبت ذلك فيه فلا يكون عيباً، وكذلك لو كان والأمة نصرانيين، فإنهما لا يردان بترك الختان والخفاض، قاله ابن حبيب. وقوله: (كذلك) أي: لكونهما من زنا، فيكون القلف عيباً في العلي، وفي الوخش قولان. وذكر في البيان ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يرد به الرفيع والوضيع من الغلمان والجواري، قاله ابن حبيب. الثاني: لا يرد بذلك إلا الرفيع منهما، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسي. الثالث: وهو الصحيح في القياس والنظر أنه لا يفرق في الختان بين رفيع ووضيع، بخلاف الجواري في الخفاض. ولو قالت أنها مستولدة لم تحرم، ولكنه عيب يلزم المبتاع أن يبين إذا باع يعني: لو اشترى أمة ثم قالت وهي بيد المبتاع أنها أم ولد للبائع، لم تحرم بذلك على المبتاع لأنها مدعية، وتتهم أيضاً على إرادة الرجوع إلى البائع، لكنه عيب يوجب لربه الرد على البائع، فإن رضي به ثم أراد بيعها لزمه البيان، لأن النفوس تكره الإقدام على مثل هذا.

قال في البيان: وكذلك له أن يردها إذا قالت ذلك في عهدة الثلاث أو الاستبراء، لقول مالك: إن ذلك عيب يجب عليه البيان إذا باعها، لأن ما حدث من العيوب في العهدة والاستبراء ضمانه من البائع. وبذلك أفتى ابن لبابة، وابن مزين، وعبد الله بن يحيي ونظراؤهم، ووقع ذلك في أحكام ابن زياد، خلاف ما روى المدنيون عن مالك أن ذلك ليس بعيب، إذ لا يقبل ذلك منها. وقد روى داود بن جعفر عن مالك نحوه إذا سرق العبد في عهدة الثلاث رد به، وإن أقر على نفسه بالسرقة لم يرد، لأنه يتهم على إرادة الرجوع إلى سيده، إذا كانت سرقته التي أقر بها إنما لا يجب القطع فيها. انتهى. وفيها: في الصدع في الجدار وشبهه إن كان يخاف على الدار أن تنهدم رد به، وإلا فلا .... نسبها للمدونة لإشكالها، لتفرقته في الدار بين العيب اليسير والكثير. والضمير في (شبهه) يحتمل أن يعود على الصدع أو على الجدار. وظاهر قوله: (إن كان يخاف على الدار) أنه لو خيف على حائط لم يرد، وبه صر اللخمي. عياض: وهو ظاهر الكتاب. بخلاف ما ذهب إليه عبد الحق، وابن سهل وغيرهما، وقالوا: إنه إن خشي هدم الحائط من الصدع الذي يه أنه يجب الرد. وقد قيل: إنما يرد لخوف هدم الحائط إذا كان ينقص الدار كثيراً. عياض: وهو صحيح المعنى، أرأيت لو كان الحائط الذي هو واجهة البيت، إذ لا يمكن سكنى الدار إلا بعد إصلاحه. واستدل من لم ير له الرد بهدم الحائط: بأن الحائط لو استحق لم يكن له رد فكيف إذا كان به صدع. وفرق الآخرون: بأنه في الاستحقاق لا ضرر عليه، لأنه يأخذ قيمته بخلافه هنا، فإنه يضطر إلى بنائه والنفقة فيه.

عياض: ولم يختلفوا فيما قطع منفعة من منافعها كتهوير بئرها، أو غور مائها، أو فساد مطهرة مرحاضها، أو تعفن قواعد بئرها، أو وجد ماء بئرها مالحاً ف البلاد [471/ب] التي ماء آبارها حلوٌ وشبه ذلك، أنه يجب به الرد. وتممه محمد، فقال: لا يرد، ولكن يرجع بقيمته إن كان يسيراً. وصوبه الأئمة، وقيل: كغيره .... أي: وتمم ابن المواز ما في المدونة، فقال: ولكن يرجع بما نقص من الثمن. وعدوه وفاقاً لا خلافاً، وأيده بما في قسم المدونة: أن أحد الشريكين إذا اطلع على عيب في نصيبه رجع بقيمته. ومذهب المدونة بتتميم. محمد: أنه يفرق بين الدور وغيرها، وهو المشهور المعمول به. وقيد قوله: (يرجع بقيمته) بما إذا لم يكن يسيراً جداً، فقد قال عبد الحق: عيوب الدار ثلاثة أقسام قسم لا ترد به الدار ويرجع بقيمته ليسارته، يريد كالشرفات. وقسم ترد من أجله، كخشية سقوطها. وقسم لا ترد به ويرجع بقيمته، كصدع في حائط ونحوه. وقوله: (وقيل: كغيره) أي: ترد باليسير في الدور كغيرها. وحكاه الباجي عن بعض الأندلسيين. وفي المسألة قول ثالث: أن العروض كالدور لا يجب الرد فيها باليسير. قال في المقدمات: وعلى هذا كان الفقيه ابن رزق يحمل الروايات حيثما وقعت، ويقول: لا فرق بين الأصول وغيرها. ويؤيد تأويله ما رواه ابن زياد عن مالك: فيمن ابتاع ثوباً فاطلع فيه على خرق يسير، لا يرد ويوضع قدر العيب، ونحوه في المختصر الكبير، وهو خلاف ظاهرها وخلاف تأويل الجمهور عليها. والفرق هو المشهور، وفرق له بوجوه: أولها: أن الدور تراد للقنية غالباً، والسلعة للتجارة. ثانيها: أن الدور لا تنفك عن عيب، فلو ردت باليسير لأضر بالبائع.

ثالثها: أن عيوب الدار لا يحاط بها. رابعها لابن يونس: أن الدور ليست لها أسوا فيضر بالمشتري ردها، إذ قد لا يجد ما يشتري، والبائع إذ قد لا يجد من يشتري. خامسها: أن الدار كالأجزاء، فعيب اليسير منها كاستحقاقه فيرجع بنسبته. سادسها: أن الدور مأمونة والعيب لا يفوت عينها، لأنها وإن انهدمت تبقى قاعتها ونقضها. سابعها: أن عيب الدار يصلح ويزول بحيث لا يبقى منه شيء، وصوبه ابن محرز. واختلف في حد اليسير: فمنهم من رد ذلك إلى العادة وهو الأصل. وقال ابن أبي زيد: ما ينقص معظم الثمن فهو كثير. ولاشك أن هذا كثير، ولكنه إن عني أنه لا يرد بما دون ذلك- وهو ظاهر ما فهموه عنه- فضعيف، لأن النصف ليس بمعظم الثمن. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما نقص عن الثلث وأما الثلث فكثير. وسئل ابن عتاب عن ربع الثمن، فقال: كثير. وقال ابن القطان: المثقالان يسير والعشرة كثير. ولم يبين من كم. وقال ابن رشد: والعشرة من المائة كثير. ولعل قوله تفسير لابن القطان. والنقص الذي لا يطلع عليه إلا بتغيره كسوس الخشب بعد شقه لا يرد به على المشهور ولا قيمة، قال مالك: لأنه أمر دخلاً عليه .... أي: إذا بيع شيء وفي باطنه عيب يجهله المتبايعان لا يطلع عليه إلا بعد الشق كالخشب، فلا قيام للمشتري به ولا شيء له على البائع. وعلله في الموازية، فقال: وهو أمر ثابت في هذه الأشياء معروف، يشتري عليه المشتري ويبيع عليه البائع وإليه أشار بقوله: (لأنه أمر دخلا عليه).

ومقابل المشهور رواه المدنيون عن مالك أنه يرد به كسائر العيوب، وذكرها ابن شاس وغيره. وفرق ابن حبيب فلم يثبت الخيار بما كان من أصله الخلقة وأثبته بما طرأ، كوضع الخشب في مكان ندي فيتعفن. وحمله ابن يونس على الخلاف لمذهب المدونة، والمازري على الوفاق. وعن ابن الماجشون: أنه لا رد في اليسير بخلاف ما كثر، ولو شرط البائع البراءة منه لم يجز، لأنه خطر. وأما الجوز والتين وشبهه، فقيل: مثله، وقيل: إن أمكن اختياره بكسر الجوزتين رد له ... (وشبهه) الفقوس، والخيار، والبطيخ. وقوله: (مثله) يحتمل أن يكون للتشبيه في المشهور فقط، فإن المشهور فيه نفي الرد بما يظهر من أمر البطيخ ونحوه. نص عليه في المدونة. ويحتمل التشبيه في دخول القولين وهما أيضاً فيه. وقوله: (وقيل) هو في الموازية، يعني: أنه إن كان مما يمكن اختباره والاطلاع عليه حال العقد كالقثاءة والقثاءتين. أشهب: بإدخال العود الرقيق فيها. وكالجوزة والجوزتين مما يتحيل عليه بشيء فيعرف حالهما قبل الكسر، فله الرد به. قال: وأما الأحمال الكثيرة فلا رد إلا أن يكون كله فاسداً أو أكثره فيرد، إذ لا يخفي على البائع. قال: وأما اليسير من الكثير فلا يرد ويلزمه البيع. ولم ينقل المصنف هذا القول بكماله وذكر الاختيار بالكسر، وفي الرواية: إنما هو بالتحيل قبل الكسر. ابن عبد السلام: وما في الموازية أظهر عندي. وعن ابن الماجشون وأصبغ، أنهما قالا بإثر قول مالك: هذا في اليسير منه، فأما الكثير فيرد، ولو شرط البائع البراءة منه لم يجز. وهذا كأنه عكس ما في الموازية، هكذا فهمه بعض الشيوخ. وعندي أن معنى قولهما:

أنه إذا اشترى كثيراً، أو ماله قدر فوجد منه الجوزة والجوزتين، فإنه لا قيام له بذلك، إذ لا يكاد يسلم منه، وعلى هذا لا يكون عكس ما في الموازية، ولأجل ذلك قال صاحب هذا القول: وهذا في معنى قول مالك، أي: غير خارج عنه. خليل: وانظر إذا بنينا على المشهور من نفي الرد فاشترط المشتري أنه إن وجده مُراً رده، وكذلك إذا اشترط الرد في [472/أ] البطيخ إن وجده غير حلو، هل يوفى له بهذا الشرط أو لا؟ والأظهر أنه يوفى له بذلك، لأن الأصل إعمال الشروط ما لم يعارض ذلك كتاب أو سنة. ونص في المدونة على أن البيض يرد لفساده ويرجع بالثمن. قال: لأنه مما يعلم ويظهر فساده قبل كسره، أي: إذا كان مدلساً. قال في الموازية: وإن كان غير مدلس وكسر المشتري البيض وأتلفه، فإنه يرجع بما بين القيمتين إن كانت له قيمة يوم باعه بعد الكسر، وإلا رجع بالثمن كله. ابن القاسم: وهذا إذا كسره بحضرة البائع، وإن كان بعد أيام لم يرد به، لأنه لا يدري أفسد عند البائع أو المبتاع، وقاله مالك. والتغرير الفعلي كالشرطي وهو فعل يظن منه كمال كتلطيخ الثوب بالمداد يريد بالتغرير الفعلي: أن يفعل البائع في المبيع فعلاً يستر به عيبه فيظهر في صورة السالم وليس كذلك، كصبغ الثوب القديم فيوهم جدته، وكتلطيخ ثوب العبد بالمداد فيظن أنه كاتب ولا يوجد ذلك. وقوله: (كالشرطي) أي: الذي اشترطت سلامته لفظاً. وأصله التصرية، فإنها كاشتراط غزارة اللبن أي: وأصل اعتبار هذا السبب والرد به، ما صح من حديث التصرية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)).

والتصرية: جمع اللبن في الضرع يوماً أو يومين حتى يعظم ثديها، ليوهم مشتريها أنها تحلب كل يوم مثل ذلك. وهذا معنى قوله: (فإنها كاشتراط غزارة اللبن) أي: فيوجب الخيار لفقدها. فلو ظن من غير تغرير لم ترد به ما لم تكن ذات لبن مقصودة له وكتمه مع علمه، وقال أشهب: وإن لم تكن ذات لبن، وقال محمد: إن زاد كذلك .... أي: فلو ظن المشتري غزارة البن مع عدم تغرير البائع، كما لو كان الضرع لحماً، فلا رد له إلا بثلاثة شروط: أن تكون ذات لبن، وعبر عنه في المدونة بأن يكون اشتراها في إبان الحلاب. وأن يكون مقصوده الحلاب، وهو كقوله في المدونة: أن تكون الرغبة فيها إنما هي اللبن. وأن يكون البائع قد علم قدر حلابها وكتمه عن المبتاع. وقوله: (مع علمه) زيادة إيضاح، لأن الكتم لا يكون إلا مع العلم. وقال أشهب: للمبتاع ردها وإن لم يكن في إبان الحلاب، سواء علم البائع أم لا، لأنه عيب، والعلم إنما يظهره أثره في التدليس لا في مطلق الرد. ونصه عند ابن يونس، وقال أشهب: إذا كان البائع يعرف حلابها، فللمبتاع ردها حلبت أو لم تحلب، إلا إذا كانت شاة لبن. وقال ابن المواز: أرى أن ينظر في ثمنها، فإن كان في كثرته ما يعلم أن ذلك لا لشحمها ولحمها ولا لرغبة في نتاج مثلها، وظهر أن الغالب من ذلك إنما هو اللبن، فليردها إذا كتمه البائع وثبت ذلك. وجعل اللخمي محل الخلاف بين المذهب، وبين قول أشهب، وقول محمد إذا كان البيع في غير إبان الحلاب، وأنه يتفق على الرد إذا كان في إبانه. وهذه المسألة ليست من التصرية، وإنما هي عندهم من الرد بالعيب، ولهذا قال يحيي بن عمر: اللبن هنا للمشتري ولا صاع عليه إذا رد لضمانه، بخلاف المصراة.

فإن حلبها ثالثة، ففيها: إن كان ما تقدم اختباراً فهو رضا، وقال مالك: له ذلك .... الضمير في (حلبها) عائد على المصراة، قال فيها: فإن حلبها ثالثة، فإن جاء من ذلك ما يعلم أنه إنما حلبها بعد أن تقدم له من حلابها ما فيه خبرة، فلا رد له ويعد حلابها بعد الاختبار رضا بها، ولا حجة عليه في الثانية، إذ بها يختبر الناس ذلك ولا يعرف بالأولى. وقد علمت أن الضمير في: (فهو رضا) عائد على الحلاب الثالث. وقوله: (وقال مالك) هو في الموازية: له أن يحلبها ثالثة ولا يعد ذلك رضا وجعل المصنف هذا خلافاً للمدونة كاللخمي. وقال عيسى بن دينار: إذا حلبها الثانية فنقص لبنها وظن أن ذلك من إنكار الموضع أو نحو هذا، ثم حلبها الثالثة فتبين له أنها مصراة فأراد رده، فيحلف بالله ما كان ذلك منه رضا. وقال محمد: إذا حلبها ثالثة فذلك رضا. ابن يونس: وقول محمد هذا، وقول عيسى راجعان لما في المدونة. واختار اللخمي ما في الموازية، لما رواه البخاري، ومسلم، والترمذي وصححه، أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام)). أما إن حلبها رابعة فهي رضا باتفاق، حكاه ابن راشد. فإن ردها معها صاعاً من تمر ولو غلا، وقيل: من غالب قوت البلد أي: فإن ردها بعيب التصرية رد معها صاعاً من تمر للحديث. قال في المدنة: ولا لأحد في هذا الحديث رأي. فقدم الخبر على القياس. عياض: وهو مشهور مذهبه، خلاف ما يحكيه العراقيون عنه.

وقدم في كتاب ابن عبد الحكم القياس، فقال: لا يرد معها شيئاً. ورواه أشهب في العتبية، وقال به ابن يونس. ولعل أشهب رأى أن حديث: (الخراج بالضمان) ناسخ له. وفيه نظر، لأن حديث: (الخراج بالضمان). عام، وحديث المصراة خاص ببعض ما اشتمل عليه الخراج بالضمان، والخاص يقضى به على العام. وقوله: (ولو غلا) مبالغة. وهذا القول حكاه ابن يونس عن بعض الأصحاب. وقدمه المصنف لأنه ظاهر الحديث، وتبعاً لابن شاس، فإنه قال: ثم قدر الصاع معين، فلا يزاد عليه لكثرة [472/ب] اللبن وغزارته، ولا ينقص منه لقلته ونزارته، ولا يلتفت إلى غلائه ورخصه، بل قال بعض المتأخرين: إ كانت قيمته تساوي قيمة الشاة أو تزيد، فظاهر المذهب أن عليه الإتيان به. ولكن مذهب المدونة هو الثاني، ففيها: وإن كان ذلك ببلد ليس عيشهم التمر أعطى الصاع من عيش ذلك البلد، وعيش أهل مصر الحنطة فليعطوا منها. وحملوا ذكر التمر في الحديث على أنه غالب قوت المدينة، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه: ((وصاعاً من طعام لا سمراء)) فلم يذكر التمر بخصوصيته، وأخرج منه السمراء، لأنها ليست بطعام أهل الحجاز، وهو تنبيه على هذا المعنى أيضاً. فلو كلف التمر في كل بلد لزم أن يرد المشتري ما يساوي نصف قيمتها أو أكثر، وهو مانع من ردها الذي دل الحديث على ثبوته. وروى زياد عن مالك: يرد مكيل ما حلب تمراً أو قيمته. واستبعده في البيان لمخالفته الحديث. تنبيه: الرد بعيب التصرية مشروط بأن لا يعلم المشتري بذلك حين البيع وأما إن علم حين البيع أنها مصراة فلا مقال له، إلا أن يجدها قليلة اللبن دون المعتاد من مثلها.

ابن القاسم: ولو رد عين اللبن لم يصح ولو اتفقا، لأنه بيع الطعام قبل قبضه. وقال سحنون: إقالة .... أي: لو أراد المشتري أن يرد المصراة وما حلبه منها لم يجز ذلك، لأنه بيع الطعام قبل قبضه، فإن البائع وجب له صاع من طعام باعه قبل قبضه باللبن. وقال سحنون: يجوز ذلك ويعد إقالة. وقاله ابن وضاح وقيده بما إذا لم يغب على اللبن، ذكره في البيان. وحمل اللخمي المدونة: على أن الحلاب تأخر، أما لو كان بفور العقد رده بعينه ولا يلزم المشتري عوضه، لأن وجوب الصاع إنما كان مع التراضي لاختلاط ملك البائع بملك المشتري، لأن ما حدث في ضرعها بعد الشراء فهو للمشتري، وهذا منتف بفور العقد لتمحض ما في الضرع للبائع. ورده المازري: بأن اللبن إذا حلب غيَّره الهواء، فكأنه هو الذي ليس في الضرع. ولا يصح أيضاً حمل المدونة على ما ذكره، لأنه قال فيها: لو تراضيا على رد اللبن بعينه لم يجز، ولو كان لأجل الاختلاط لكان الحق للمشتري، فإذا رضي جاز. فإن تعددت، ففي الاكتفاء بصاع قولان أي: فلو تعددت المصراة اثنان فأكثر، فهل يكتفي في الجميع بصاع وهو قول الأكثرين، أو لابد في كل واحدة من صاع وهو قول ابن الكاتب، واختاره اللخمي وابن يونس. واحتج أحمد بن خالد الأندلسي للأكثرين بأن غاية ما يفيده تعددها كثرة اللبن، وهذا لا يلتفت إليه، ألا ترى أن في لبن كل من الشاة والبقر والناقة صاعاً واحداً. وأجيب بأن هذه الألبان وإن اختلفت قدراً فقد اختلفت في الطيب، فالأقل منها قدراً أطيب، وإنما يلزم ما قاله ابن خالد لو اختلفت في القدر واستوت في الطيب. وفي

جامع البيوع من البيان قول ثالث، وهو: لا شيء عليه فيما احتلبه منها، بخلاف الشاة الواحدة، لقوله في الحديث: ((من اشترى شاة مصراة)). فلو رد بعيب غيره، ففي الصاع قولان أي: فلو رضي المشتري بعيب التصرية ثم اطلع على عيب آخر فرد به، فقال محمد: لا يرد الصاع لحلابها. واختاره التونسي. وعن أشهب: أنه يرد الصاع بناء على أنه لما رد بغير عيب التصرية كانت كأنها غير مصراة، أو يصدق عليه أنه رد مصراة. وإذا اشترط البائع البراءة مما لم يعلم، فطريقان، الأولى ثالثها في الموطأ: تفيد في الحيوان مطلقاً. ورابعها في المدونة: تفيد في الرقيق خاصة. وخامسها: تفيد من السلطان. وسادسها: ومن الورثة لقضاء دين وشبهه .... لما ذكر خيار النقيصة شرع في موانعه، وهي قسمان: مانع مطلقاً، ومانع على تقدير. فالأول أربعة أنواع: أولها: أن يشترط البائع البراءة من العيوب التي لا علم له بها. وذكر المصنف فيها طريقين، الأولى، المذهب على ستة أقوال: الأول: أن شرط البراءة ينفع من كل بائع في كل مبيع، وهو قول مالك في كتاب ابن حبيب، وقيد بما عدا الحمل الخفي من الرائعة، إذ لا تصح البراءة منه لعظم الخطر. وقيدها الباجي والمازري أيضاً بما لا يشترط فيه التماثل، أما ما يشترط فيه كمد قمح بمد قمح، فلا يجوز اشتراط البراءة فيه، لما يؤدي إليه من التفاضل. قالا: وكذلك لا يجوز التبرؤ في عقد القرض، لأنه إذا أسلف عبداً وتبرأ من عيوبه دخله سلف جر منفعة. الثاني: أن البراءة لا تنفع مطلقاً، ذكره القاضي أبو محمد عن مالك، لأن البراءة توجب غرراً.

الثالث: وقع في بعض روايات الموطأ، وفي الموازية، والواضحة أنها تنفع في الحيوان مطلقاً، ناطقاً أو غيره، ولا تصح في غيره. الرابع، قال ابن عبد السلام: هو أشهر الأقاويل. الباجي- وهو الظاهر من المذهب-: أنها تفيد في الرقيق فقط. ووجهه: أنه قد يكره بعض السادات ويرغب في بعض، فيظهر من العيوب ما ليس فيه ويكتم ما فيه، تحيلاً منه على انتقال الملك. وتصور الخامس ظاهر، وهو مقيد بما باعه السلطان لغيره، وأما كان لنفسه فهو كسائر الناس. وتصور السادس ظاهر، وشبه الدين الوصية. وقد أقيمت من المدونة الستة الأقوال. وزاد عياض: سابعاً: [473/أ] لابن القاسم في الموازية: أنها لا تنفع في الحيوان والثياب إلا في الشيء اليسير التافه غير المضر، وأما ما هو مضر فيرد به، ونحوه في العتبية. وثامناً: أنه لا يفيد إلا فيما طالت إقامته عند البائع واستغنى المصنف عن هذا بما سيذكره بقوله: فلو باع بحدثان ملكه، فالمشهور: لا يفيد. وتاسعاً: أنها لا تنفع إلا من السلطان خاصة في البيع للدين، ونحوه في الرقيق خاصة، وهو نص الموازية وعاشراً لابن حبيب: إن كان البيع طوعاً فلا يفيد إلا في الرقيق خاصة، وأما ما باعه السلطان في فلس، أو موت، أو على الأصاغرة، فهو بيع براءة في الرقيق والحيوان والعروض وإن لم يشترط البراءة. وقاله مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ وغيرهم. وبهذا يظهر رجحان هذه الطريقة على الطريقة الثانية، لأن من حفظ مقدم.

الثانية: تفيد إن كان يسيراً، أو من السلطان، وفي غيره قولان هي لابن أبي زيد، وابن الكاتب، وابن محرز، قالوا: اتفق قول مالك على أن بيع السلطان بيع براءة، كان البيع يسيراً أو كثيراً، أو أن العيب اليسير تصح البراءة منه، كان البائع سلطاناً أو غيره. ابن الكاتب: وإنما كان كذلك، لأنه حكم منه بالبيع. وبيع البراءة مختلف فيه، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء، لم ترد قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به. المازري: وفيه نظر، فإن السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ولا وفاق، ولا قصد فيه إلى حكم بإنفاذ بيع على البراءة لينفذ حكمه، وإنما فعل ذلك لما أوجبه الشرع عليه. ونسب للمغيرة أن اليسير الثلث فدونه، لكن لم أر له أن بيع السلطان بيع براءة. قوله: (وفي غيره) أي: وفي غير ما ذكر، وهو الكثير من غير قول السلطان قولان. فأما فيما علم فلا تفيد أي: أن الأقوال المتقدمة في الطريقين إنما هي فيما لم يعلم البائع به، وأما ما علمه من العيوب فلا يفيد البراءة حينئذ اتفاقاً. فلو باع بحدثان ملكه، فالمشهور: لا تفيد قال في المدونة في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامته عندهم، قال: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلاً لا تنفعهم البراءة. والشاذ لعبد الملك قياساً على السلطان.

وبيع السلطان على تفريع البراءة لا يحتاج إلى اشتراطها يعني: حيث فرعنا على أن بيع السلطان بيع براءة، فالحكم يقتضيها ولا يحتاج في إثباتها إلى شرط. وظاهر كلامه: أن هذا مقصور على الحاكم، وحكى غيره هذا القول فزاد مع السلطان أهل الميراث، وزاد فيه أيضاً أن البراءة لا تنفع في غيرهما ولو اشترطت. ولو ظن المشتري أنه غيره، فقولان: الخيار، واللزوم أي: وإذا فرعنا على أن بيع الحاكم بيع براءة، فظن المشتري أن البائع غير القاضي، ففي المدونة: له الخيار بين أن يرد أو يحبس بلا عهدة. وقال ابن حبيب: يلزمه وإن لم يذكر متوليه أنه بيع ميراث أو فلس. وكأنه رأى أن بيع ذلك لا يخفى، فلا يقبل دعواه الجهل. وإذا تبرأ من عيب لم ينفعه حتى يعلم بموضعه، وجنسه، ومقداره، وما في الدبرة من نقل وغيره، وكذلك لو أجمل كسرقة العبد أو إباقة، فيوجد ينقب، أو قد أبق من مصر إلى المدينة .... لما تكلم على البراءة العامة في جميع العيوب أخذ يتكلم على البراءة من عيب معين، أو تقول: لما تكلم على البراءة مما لم يعلم تكلم فيما يعلم. ثم لا يخلو إما أن يتفاوت العيب في نفسه بالقلة والكثرة أو لا، فبراءة الثاني تسميته كقطع اليد مثلاً والعور. والأول لا ينفعه إلا بثلاثة شروط: أولها: أن يقول هو به. ابن المواز: ولا ينفعه لو أفرده، فقال: أبيعك بالبراءة من كذا حتى يقول: إن ذلك به. ورأى ابن يونس العيب يبرأ إذا أفرده بالذكر، سواء قال ذلك العيب به أو لا. ثانيها: أن يطلعه على ما يعلم من حاله بشهادة، أو خبر يقوم مقامها.

ثالثها: أن لا يحملها مع غيره، ففي المدونة وغيرها: وإن تبرأ إليه من عيوب بعضها فيه وبعضها ليست فيه لم تنفعه البراءة، وللمبتاع الرد بما اطلع عليه مما سمى له ولم يره إياه. وعلل ذلك بأنه لما ذكر له ما ليس فيه اعتقد المبتاع أن جميع ما ذكر كذلك، فكان بمنزلة من لم يتبرأ من عيب. قوله: (حتى يعلم بموضعه) لأنه يغتفر بموضع دون آخر، (وجنسه) لأنه يختلف اختلافاً كثيراً، ولو لم يبينه كان العقد فاسداً، (ومقداره) لأن القدر يختلف. واختلف إذ باع ولم يبين قدره، فقال ابن القاسم عن مالك: البيع ثابت، فإن ظهر على الفاحش من ذلك فله الرد. وقال أشهب: يفسخ البيع، قاله في الدبرة، والكي، والقروح، والجراحات. وقول ابن القاسم أحب إلي، لأن أشهب وافق في مسالة الإباق أن البيع ثابت وله الرد. وقوله: (وما في الدبرة من نقل). الجوهري: الدبرة بالتحريك واحدة الدبر والأدبار، مثل: شجرة وشجر وأشجار، يقول منه دبر بالكسر وأدبره القتب. قال: وبرئ الجرح، وفيه شيء من نقل بالتحريك أي فساد. وعطف مسألة الدبرة على ما تقدم، والعطف يقتضي المغايرة، وكان ينبغي أن يجعلها مثالاً لما تقدم، لأنها راجعة إلى بيان القدر. وإذا فات المبيع حساً بتلف، أو حكماً بعتق، أو استيلاد، أو كتابةـ، أو تدبير فاطلع على العيب الأرش، فيقوم سالماً ومعيباً، ويأخذ من الثمن نسبة ما بين القيمتين .... [473/ب] هذا هو المانع الثاني، وتصوره واضح. ومثال التقويم: لو كان العبد يساوي صحيحاً مائة ومعيباً ثمانين، فيرجع عليه بخمس الثمن، لأن نسبة العشرين إلى المائة الخمس. فلو كان الثمن مائتين رجع عليه بأربعين، لأنه صار لكل عشرين من القيمة أربعون من الثمن. والأرش، قال ابن قتيبة وغيره: مأخوذ من قول العرب أرشت بين

الرجلين تأريشاً، إذا أغريت أحدهما على الآخر وأوقعت بينهما الخصومة. فسمى نقص السلعة أرشاً، لكونه سبباً للتأريش وهو الخصومة. وإن كان بإجارة أو رهن، فقال ابن القاسم: إذا عاد إلى يده رده. وقال أشهب: إن خلصه عاجلاً .... أي: فإن تعذر رد عين المبيع مع بقاء عين الملك فيه لتعلق حق آخر، كما لو أجرها أو رهنها ثم اطلع فيها على عيب وهي بيد المستأجر أو المرتهن، فقال ابن القاسم في المدونة: يبقى الأمر في العيب موقوفاً حتى يفتكها من الإجارة أو الرهن. فإن خرجت من الإجارة والرهن وهي على حالها ردها، وإن فاتت أو تغيرت حكم فيها بحسب ما يقتضيه المذهب في ذلك من القلة، والكثرة، والتوسط. وقال أشهب أيضاً في المدونة: إن افتكه حين علم بالعيب فله رده، وإلا كان فوتاً فيرجع بالأرش. ووقع في أكثر النسخ- وهي: نسخة ابن راشد، وابن عبد السلام-: فقال ابن القاسم: إذا عاد في نحو الشهر رده. واعترض ابن عبد السلام عليها من أجل أن ما ذكره عن ابن القاسم مخالف لما تقدم. وذكر الباجي عن ابن القاسم الفرق بين اليسير والكثير كما ذكره المصنف، لكنه لم يقيد بالشهر، وإنما قيده ابن حبيب، فقال: إن كل أجل ذلك قريباً كالشهر ونحوه فليؤخر إلى انقضائه وهو على أمره، فإن بعد كالأشهر والسنة فهو كالفوت، ويرجع بقيمة العيب إلا أن يفتكها معجلة. أبو محمد: وهذا خلاف قولي ابن القاسم وأشهب. فإن تعذر الرد لعقد آخر، فإن كان لغير معاوضة فالأرش أي: كالهبة والصدقة، وهذا هو المشهور. وروى زياد عن مالك: أنه إذا تصدق به أو أعتقه أن ذلك فوت، ولا رجوع له بقيمة العيب، ولعله يقول مثل ذلك في الهبة. وعلى

المشهور، فقال سحنون، وعيسى في العتبية: يكون الأرش للمتصدق لا للمتصدق عليه. واختلف إذا وهبه لابن له صغير، فقال ابن حبيب: ذلك فوت. وقال ابن الكاتب: ليس بفوت، إذ له الإعتصار. فإن كان بمعاوضة مع البائع بمثل الثمن الأول، فلا كلا م له يعني: فإن اطلع المشتري على عيب في المبيع بعد أن أحدث فيه عقد معاوضة مع بائعه، فإن باعه بمثل الثمن الأول فلا كلام للمشتري على البائع، لأن ثمنه قد رجع إليه. وإن كان بدونه استتم كما لو اشتراه بمائة ثم باعه للبائع بثمانين ثم اطلع على العيب، فله أن يرجع بعشرين تمام الثمن الأول. وفي الرجوع إذا لم يكن البائع مدلساً نظر، لإمكان أن يقال: إن المشتري إما أن يعلم بالعيب حين البيع أو لا، فإن علم فقد رضي، وإن لم يعلم فالنقص ما كان لأجل العيب وإنما كان بحوالة الأسواق. وهذه حجة ابن القاسم إذا باعه من أجنبي. وعلى هذا فلا يبعد أن يخرج في هذه المسالة الأقوال الآتية في البيع من أجنبي. والله أعلم. وإن كان بأكثر، فإن كان مدلساً فلا كلام له، وإن كان غير مدلس رد ثم رد عليه .... أي: وإن كان المشتري قد باعه من بائعه بأكثر مما اشتراه به، فإن كان البائع أولاً مدلساً فلا كلام له لأنه رضي. وإن كان غير مدلس رد علي المشتري، ثم للمشتري أن يتماسك أو يرد. مثاله: لو اشتراه بعشرة ثم باعه البائع بخمسة عشرة، فله أن يرد ويأخذ خمسة عشر.

وإن كان مع غير البائع ونقص، فثلاثة في الموطأ: يرجع بقيمة العيب، وروي: يرجع بالأقل من النقص وقيمة العيب إن كان نقص، وفيها: لا كلام له ..... أي: وإن كان العقد بمعاوضة مع غير البائع ونقص الثمن في هذه المعاوضة عما كان اشتراه، فثلاثة أقوال: الأقوال: يرجع بقيمة العيب، قاله مالك في المختصر، واختاره محمد بن عبد الحكم وزعم أن هذا مذهب مالك في موطئه، لقوله فيه: إذا فات العبد بوجه من وجه الفوت فللمشتري الرجوع بقيمة العيب، قال محمد: والبيع فوت. قال في التلقين: وهذا هو الصحيح. الثاني: رواه أشهب عن مالك: أنه يرجع بأقل الأمرين من نقص الثمن أو قيمة العيب، لأنه إن كانت قيمة العيب أقل فأخذها فلا مقال له، كما لو كان سليماً. وإن كان الذي نقصه أقل فأخذه فلا مقال له، لأنه لو لم ينقص ثمنه لم يرجع بشيء، وهو قول أشهب، واختاره ابن حبيب، وروي أيضاً عن مالك. وقوله: (إن كان نقص) تكرار، لأن فرض المسألة مع النقص. والقول الثالث في المدونة: لا يرجع بشيء إلا أن ترجع إليه السلعة فله ردها. واحتج بأن المشتري إن كان عالماً بالعيب حال البيع فقد رضي، وإلا فالنقص إنما كان بحوالة السوق لا للعيب، واختاره ابن المواز، وقال: إلا أن يكون نقص من أجل العيب، مثل: أن يبيعه بالعيب وهو يظن أنه حدث عنده ولم يعلم أنه كان عند بائعه، أو يبيعه وكيل له ويظن [474/أ] ذلك فيرجع عليه بالأقل، كقول أشهب. وظاهر كلام ابن يونس: أن قول محمد تقييد لقول ابن القاسم، وبذلك صرح غيره ولم يذكر ابن الجلاب ذلك على أنه تقييد، بل قال: ولو باعه ثم ظهر بعد البيع على عيب لم

يرجع على البائع بشيء. وقيل: بيعه كموته وعتقه، ويرجع على البائع بأرشه. وقد قيل: إن كان قد نقص من ثمنه لأجل عيب وظن أن العيب حدث عنده، ثم علم أنه كان قديماً عند بائعه، أن له أن يرجع بأرش العيب عليه. وقيد المصنف المسألة بالنقص، لأن لو باع بمثل الثمن الأول فأكثر، فأحرى ألا مقال له على قول ابن القاسم، وكذلك لا مقال له على قول أشهب. وأما على ما نسب للموطأ فله قيمة العيب، لأنه جعل خروج المبيع من يد مشتريه بالبيع كخروجه بالهبة وشبهها. فإن عاد إليه بالرد بالعيب، أو بملك مستأنف من بيع، أو هبة، أو إرث فله الرد. وقال أشهب في البيع: يخير في رده على البائع الأول أو رده على المشتري الثاني، فإن رده رده ..... أي: فإن عاد إلى البائع الثاني الذي هو مشتر أولاً، فإن رد عليه بعيب فله رده على البائع الأول، ولا يخالف أشهب في هذا الوجه. وأما إن رجع إليه بغير الرد بالعيب، بل بملك مستأنف من بيع، أو هبة، أو ميراث، فقال ابن القاسم في المدونة: له الرد بالعيب على البائع الأول. وقال أشهب: إن رجع إليه ببيع خير بين ما قاله ابن القاسم وبين أن يرده على الذي اشتراه منه آخراً، لأنه صار بائعاً، فإن رده على الأول أخذ منه الثمن الأول، وإن رده على المشتري الأخير أخذ منه الثمن، ثم يخير المشتري الأخير بين أن يتماسك به فيتم العمل، أو يرده على المشتري الأول، فإن رده عليه فله أن يرده على البائع الأول. وهذا معنى قوله: (فإن رده رده) أي: فإن رده المشتري الأول على المشتري الثاني رده المشتري الثاني على المشتري الأول إن شاء، ثم يرده على البائع الأول إن شاء. وظاهر قول ابن القاسم في المدونة: أنه يرد على البائع، سواء قام عليه بالعيب قبل أن يرجع إليه المعيب أم لا.

وقال ابن حبيب: إن كان قام عليه قبل أن يرجع فحكم له بعدم الرجوع لخروجه من يده بمثل الثمن فأكثر فلا قيام له. أبو محمد: وهو بعيد من أصولهم. ابن يونس: لأنه إنما منع من القيام عليه لعلة وقد ارتفعت. والسكوت من غير عذر والفعل الدال على الرضا كالقول هذا هو المانع الثالث، وهو ظهور ما يدل على الرضا به من السكوت عن القيام به ولا مانع من خوف ونحوه، أو فعل دال على الرضا كما سيأتي. وشبكه السكوت والفعل بالقول، لأنه أصرح منهما. وهذا لأن الرد بالعيب على الفور، ويبطل بالتأخير من غير عذر، إذ الأصل في البيع اللزوم، فإذا تمكن من الرد وتراخى عنه لزمه. قال في المدونة: إلا أن يكون كاليوم ونحوه بعد أن يحلف أنه ما كان منه رضا. ابن عبد السلام: وما ذكره من أن السكوت يدل على الرضا هو ظاهر المذهب، وإن كان بعض الشيوخ يذكر اختلافاً في السكوت هل يتنزل منزلة النطق؟ والذي تدل عليه مسائل المذهب: أن: كل ما يدل على ما في نفس الإنسان من غير النطق، فإنه يقوم مقام النطق. نعم يقع الخلاف في المذهب في فروع، هل حصل فيها دلالة أم لا؟ فإن كان البائع غائباً أشهد شاهدين، فإن عجز أعلم القاضي فتلوم ثم قضى عليه بعد أن يثبت العهدة .... أي: فإن كان البائع حاضراً معه في البلد رد عليه، وإن كان غائباً أشهد شاهدين أنه لم يعجز يرض بالعيب، ورد عليه إن أمكن بأن تكون غيبته قريبة أو له وكيل حاضر. فإن عجز عن الرد لبعد الغيبة رفع إلى القاضي فيثبت عنده الشراء وصحته ملك البائع إلى حين البيع، وأنه اشترى على بيع الإسلام وعهدته- أي: على حقه في العيب والاستحقاق- وليس مراده عهدة الثلاث أو السنة.

وهذا الشرط وقع في المدونة وقيده بما إذا لم يرد أن يحلف، لأن القول قول المشتري مع يمينه على في البراءة. وفصل اللخمي، فقال: إن كانت العادة البيع على البراءة لم يحكم له بالرد إلا أن يثبت أنه ابتاع إلى العهدة، وإن كانت العادة العهدة أو لا عادة بواحد منهما، فهو على العهدة ويستظهر عليه باليمين. ابن لبابة، وابن رشد وغيرهما: ويثبت يوم التبايع، لأن العيوب تقدم وتحدث. وقوله: (فتلوم) أطلق في التلوم، وقيده في المدونة في كتاب العيوب بأن يكون بعيد الغيبة وطمع في قدومه. ابن بطال: تلوماً يسيراً. ولم يذكر في المدونة في باب التجارة لأرض الحرب وباب القسم تلوماً. المتيطي: وحمل ذلك غير واحد من الشيوخ على الخلاف. خليل: ولا يبعد على الوفاق، والذي اعتمد عليه أصحاب الوثائق التلوم. قال في المدونة: ولا يعجل بالقضاء على قريب الغيبة. واختلف الشيوخ إذ قالت البينة لا نعلم مكانه، هل يكون ذلك كشهادتهم ببعد الغيبة ويقضى عليه وهو قول ابن مالك القرطبي، أو ذلك بمنزلة الغيبة القريبة فلا يقضى عليه وهو قول ابن سهل؟ والأول أصوب، وهو الذي تدل عليه المدونة والمسائل، وساق مسائل تدل على ما ذكره [474/ب] من أن مجهول الغيبة بمنزلة بعيدها. وما تقدم من أنه لابد من إثبات صحة الشراء كذلك هو في المدونة، وقيده بما إذا لم يرد أن يحلف. فضل: لأن وجوب اليمين في العهدة أكد منها في هذا، لأن البينة إذا شهدت بصحة العقد يكون وقوع الفساد بعيداً بخلاف البراءة، لإمكان أن يكون أبرأه بعد. ويثبت أيضاً أنه نقد الثمن، وأنه كذا وكذا إن أراد أخذه، قاله في المدونة.

ابن رشد وغيره: إلا أن يكون قد مضى من المدة ما لو أنكر البائع القبض كان القول قوله مع يمينه أنه قد دفعه إليه، وذلك العام والعامان على ما ذهب إليه ابن حبيب، والعشرون عاماً ونحوها على ما ذهب إليه ابن القاسم. ويثبت وجود العيب الذي يوجب الرد، وأنه أقدم من أمد التبايع، قالوا: ويحلف على أنه بيع صحيح وأنه لم يبرأ منه، وأنه ما اطلع عليه بعد البيع ورضيه، ولا استخدام العبد بعد اطلاعه على العيب. وتصرف المضطر- كالمسافر على الدابة- ليس برضا، خلافاً لأشهب لما قدم أن التصرفات الاختيارية تدل على الرضا تكلم على ما لا يدل على ذلك كالتصرف حال الاضطرار، ومثل ذلك بالمسافر يطلع على عيب في الدابة فيتمادى على ركوبها، وفي معناه الحمل عليها. وقوله: (ليس برضا) هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في العتبية، وبه أخذ أصبغ وابن حبيب لأنه كالمكروه، قال في هذه الرواية: وليس عليه شيء في ركوبها بعد علمه، ولا عليه أن يكتري غيرها ويسوقها وليركب، فإن وصلت بحالها ردها، وإن عجفت ردها وما نقصها، أو يحبسها ويأخذ قيمة العيب. قال في البيان: ولا يجب عليه الرجوع بها إلا أن يكون قريباً لا مؤنة عليه في الرجوع، ويستحب له أن يشهد أن ركوبه إياها ليس برضا منه بالعيب، فإن لم يفعل لم يضره ذلك، وقال أشهب في الموازية، ورواه عن مالك: أن حمله عليها رضا كالإقامة، وبه قال ابن عبد الحكم. وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (خلافاً لأشهب). ووقع في بعض النسخ بعد قوله: (ليس برضا)، (لأنه غلبة) وهو تعليل لا يحتاج إليه، لأن المضطر يغني عنه. ونقل في البيان عن ابن كنانة: إذا وجد العيب بالدابة في سفر

فليشهد عليه ويردها ولا يركبهرا في ردها، إلا أن يكون بين قريتين فيبلغ عليها إلى القريبة ليشهد. وعن ابن نافع: أنه لا يركبها ولا يحتمل عليها، إلا أن لا يجد من ركوبها والحمل عليها بداً في السفر، فليشهد على ذلك ويركب أو يحمل إلى الموضع الذي لا يجوز له أن يركبها. يعني: حتى يجد حكماً وبينة تشهد له بذلك الموضع بما يستوجب ردها، قال: فاعرف أنها ثلاثة أقوال. وعلى هذا فيتحصل فيها بقول أشهب أربعة أقوال. وما لا ينقصه- كالدار- ليس برضا، لأنه غلة أي: إذا اشترى داراً فسكنها واطلع على عيب بها وبائعها غائب أو حاضر، فله التمادي على الكسنى من غير هدم. المازري وغيره: ولا يلزمه إخلاؤها، بل يبقى على استعمالها وهو يخاصم، لأن ذلك غلة وخراج، والخراج بالضمان وضمانها منه. اللخمي: والغلة له حتى يحكم بالفسخ. وقوله: (لأنه غلة) جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلاً يقول: فإذا لم يكن سكناه دليلاً على الرضا وهو قد سكن عالماً بالعيب عازماً على الرد، فينبغي أن يرد الكراء. فأجاب: أنها غلة والخراج بالضمان، وليس مراده تعليل تمادي السكنى بالغلة، لأن ذلك منقوض بالثوب والعبد ونحوهما. ويحتمل أن تكون غلة موصوفاً حذفت صفته، والتقدير: أنه غلة غير منقصة، ودل على هذا المحذوف صدر المسألة وهو قوله: (وما لا ينقصه) وعلى هذا فتكون العلة في حصول الرضا الاستغلال المنقص. بخلاف العبد والدابة على المشهور، فينزل عن الدابة ما لم يتعذر قودها أي: أن الحكم في العبد والدابة ونحو ذلك كالثياب مخالف للدار، لأن العبد والدابة يغيرهما الاستعمال. ومراده في حق الحاضر، لجعله هذا قسيماً للمسافر.

والشاذ لابن حبيب: لا بأس أن يركب الدابة في مكانها بالمعروف إذا ألجأه البائع إلى الخصومة حتى يحكم له بردها، لأن عليه النفقة ومنه الضمان، وكذلك الجارية والعبد له أن يستخدمها بالمعروف. واتفق على أنه إن لبس الثوب أو وطأ الجارية أن ذلك رضاً، لأن اللبس ليس غلة وهو ينقص الثوب، والوطء لا يحل في أمة لا يختار إمساكها. وقوله: (فينزل عن الدابة) تفريع على المشهور، وتبع المصنف في هذا ابن شاس، وهو مخالف لظاهر قوله في العتبية. وأما الحاضر فإن ركبها ركوب احتباس لها بعد أن علم بالعيب لزمه، وذلك رضاً. وأما إن ركبها ليرده وشبه ذلك، فلا شيء عليه. وفي البيان: وأما الحاضر فليس له أن يركبها بعد وجود العيب ها إلا في ردها. وفيما ذكره المصنف حرج، إذ نزول ذي الهيئة عن الدابة وقودها عليه من أعظم الحرج، والظاهر: أن له ركوبها إلى منزله، ويمكن حمل كلام المصنف عليه بأن يقال، قوله: (ما لم يتعذر قودها) معناه: سواء كان تعذر القود من جهتها أو من جهة المشتري، لأن المشتري إذا كان من ذوي الهيئات يتعذر عليه قودها. وإذا زال العيب منع الرد، إلا فيما له علقة كالطلاق، واحتمال عود البول هذا هو المانع الرابع، أي: إذا زال العيب قبل القيام به فلا رد له، لأن [475/أ] العلة في تخيير المشتري في الرد وجود العيب، فإذا زال العيب على وجه تؤمن معه العودة فيزول التخيير. ثم استثنى ما له علقة كطلاق العبد، لبقاء التشوف بعد الطلاق للزوجة، وما لم تؤمن عودته كالبول في الفراش، وهكذا قال ابن القاسم. وقال أشهب: إن انقطع انقطاعاً بيناً كالسنين الكثيرة فليس بعيب، وإن كان اليسيرة فهو عيب. وحمل اللخمي قول أشهب على الخلاف، وقال ابن محرز: إذا تحقق الانقطاع فابن القاسم يوافق أشهب، ورأى أن الخلاف بين ابن القاسم إنما هو للاختلاف في

الصورة. وقال الباجي: يحتمل أن يكون قول ابن القاسم وأشهب في ذلك واحداً إذا انقطع عنها العشرة أعوام ونحوها. ولم يذكر المصنف في الطلاق خلافاً. وذكر فيه ابن رشد وفي الموت ثلاثة أقوال: أحدها لمالك: أنه لا يذهب بذلك لاعتياده بالزوجة، وكذلك الأمة لاعتيادها بالزوج، والطلاق أشد لما يخشى من تعلق نفسه بها وتعلق نفسها به. الثاني لابن حبيب، وأشهب: أن العيب يذهب بالموت دون الطلاق. ابن حبيب: إلا أن تكون الأمة رائعة، يعني: في الموت. ابن رشد: وهو أعدل الأقوال. الثالث: أن العيب يذهب بالموت والطلاق، تأوله فضل على المدونة من قوله: إذا اشترى الأمة وهي في عدة من طلاق فلم يعلم بذلك حتى انقضت العدة، أنه لا رد له قال: وليس ببين، لاحتمال علمه بالزوجية دون العدة. واختار التونسي أيضاً: أنه يرتفع بالموت والطلاق ليس من هذا الموضع، ولكن احتج عليه بأنه لو لم يكن كذلك لزم إذا وهبها لعبد يظأها ثم انتزعها أن عليه البيان. ابن رشد: ولعمري إن بينهما لفرقاً، لحق الزوجة في الوطء دون الأمة. ابن عبد السلام: وهذا الفرق ليس ببين، لأن علة كون الزوجية عيباً ليس هو وطء الزوج أو الزوجة، وإنما هو تأنس العبد والأمة بالوطء، وذلك لا يفترق فيه سيد من زوج. وتغير المبيع اليسير كالعدم، والمخرج عن المقصد مفيت بالأرش، وما بينهما يخير المشتري في أخذ أرش القديم، وفي رده ودفع الحادث لما تلكم على ما يمنع الرد مطلقاً شرع فيما يمنعه على وجه، وحاصله: أن العيب الحادث عند المشتري ثلاثة أقسام: إن كان يسيراً، فلا أثر له ووجوده كعدمه، والحمل فيه على البائع أولى، لأنه إما مفرط بعدم بحثه عن المبيع فكان المدلس، وإما مدلس.

واختلف في اليسير، فقيل: ما أثر نقصاً يسيراً في الثمن- وإليه أشار في المدونة- وقيل: ما لا يؤثر فيه نقصاً أصلاً، وإليه ذهب الأبهري. وإن كان كثيراً يخرج المبيع بسببه عن المقصود، فيمنع من الرد، لأن ذهاب المنافع المقصودة منه تصيره كالعدم. وإن كان متوسطاً خير المشتري كما ذكر، لأن البائع أدخله في أمرين عليه في كل منهما مشقة، فعليه في التزام المبيع مع كونه معيباً تكرهه النفوس مشقة. وكذلك في إلزامه قيمة العيب الحادث إذا رد المبيع، كما لو اشتراه بمائة ثم اطلع على عيب كان فيه وحدث به آخر، فيقوم صحيحاً بمائة، ومعيباً بالأول بثمانين وبالثاني بستين. فإما أن يرد ويعطي عشرين، أو يتماسك ويأخذ عشرين، فلو كان اشتراه بمائتين، لكان إما أن يرد أربعين أو يأخذ أربعين. وبالجملة فاجعل القيمة كالميزان، ولا فرق على المشهور في العيب بين أن يكون بسبب المشتري أو من الله تعالى. وقال أبو الفرج: لا يرد لما حدث عنده إن كان حدث بأمر من الله تعالى، بخلاف ما حدث بسببه فيرد معه ما نقص. عياض: وهو خلاف أهل المذهب. ما لم يقبله البائع بالحادث فيتعين على الأصح يعني: أن تخيير المشتري بين ما ذكر مشروط بكون البائع أبا من قبول المبيع على حاله بلا أرش، فإن قبله البائع بالحادث من غير أرش ارتفع تخيير المشتري وتعين رد المعيب، إلا أن يتمسك به المشتري بغير أرش، هذا مذهب المدونة وهو الأصح، لأن العلة في تخيير المشتري إنما كانت لما يلزمه من الغرم للحادث، وقد ارتفع السبب وهو الغرم، فيرتفع مسببه وهو التخيير.

وقال ابن نافع، وعيسى بن دينار: التخيير باق للمشتري ولو ارتفع عنه الغرم عملاً بالاستصحاب، وهذا مقابل الأصح. وقال ابن كنانة: إن كان البائع مدلساً فالتخير باق وإلا فلا. عياض: وهو جيد في الفقه. هذا أصل المذهب، والمختلف فيه لتحققها أي: ما ذكره من التقسيم هو الأصل في المذهب، وإن اختلف في شيء فإنما هو خلاف في تحقيق مناط، هل هو من هذا أو من هذا. ففيها: الوعك، والرمد، والحمى من الأول. وروى أشهب: من الثالث أي: من الأول. يريد: ولا شيء عليه. و (من الثالث) أي: يخير. وليس في المدونة الوعك. وتبع المصنف في نسبة الوعك للمدونة المازري وابن شاس، ولعلهما رأيا أنه في معنى الحمى. وألحق فيها الكي، والدماميل، والصداع، وذهاب الظفر. قال فيها: وأما زوال الأنملة ففي الوخش خاصة. وحمل الباجي قول ابن القاسم في الحمى على الخفيفة دون ما أضعف ومنع التصرف. واختار اللخمي أن يوقف في الرمد والحمى حتى ينظر مآل أمرهما، كقول ابن كنانة في مرض العبد الحادث عند المشتري: أنه يوقف حتى ينظر هل يصح أو يموت. وقال ابن القاسم: يرده إلا أن يكون مرضاً مخوفاً. ابن عبد السلام: ولم أقف على ذكر [475/ب] الرمد في رواية أشهب، وإنما نقل الباجي عنه الوعك والحمى ولم يذكر ذلك رواية، وإنما ذكره عن أشهب.

وفيها: العمى والشلل من الثالث. وقال ابن مسلمة: من الثاني صرح المازري بمشهورية ما في المدونة، وقول ابن مسلمة أظهر، لأن العمى والشلل يبطلان المنفعة، وهذا هو تأويل الجمهور. وتأول عياض المدونة على الوفاق لقول ابن مسلمة، وقال: لا شك أن العمى فوت، وإنما ذكره أول الباب في العيوب المفسدة. خليل: وفيه بعد من جهة اللفظ، لكنه الظاهر من جهة المعنى. وفيها: كبر الصغير من الثاني، وقيل: من الثالث تصوره واضح، فرأى في المدونة أن كبر الصغير يصير نوعاً آخر، والقول الآخر لمالك في الموازية. وعجف الدابة مثله، وهرم الرقيق مثله، وقيل من الأول مقتضى كلامه أن المشهور في هرم الرقيق وعجف الدابة أنهما مفتيان، لأنه شبههما بكبر الصغير، وهو صحيح في الهرم، فإن المشهور- وهو مذهب المدونة- أنه فوت. وكذلك ذكر في الجواهر أيضاً في عجف الدابة، فقال: اختلف في عجف الدابة هرم العبد والأمة. فالمشهور: أن ذلك من الضرب الثالث، ورآهما ابن مسلمة من الضرب الأول. والضرب الأول في كلامه هو الثاني في كلام المصنف، والأول في كلامه هو المفيت. وكذلك نص اللخمي على إلحاقه بالهرم، لكنه شرط فيه أن لا يرجى ذهابه، وفيه شيء، فقد قال أصبغ: لم يختلف قول مالك أن عجف الدابة مما يخير فيه المشتري. وزاد المصنف في الهرم قولاً ثالثاً: بأنه من الأول، أي: فيرد ولا شيء عليه إن تمسك ولا شيء له. وهذا لم أقف عليه ولاحظ له في النظر. وكذلك قال ابن راشد: إنه لم يقف عليه.

فرع: وما حد الهرم؟ ذرك أبو بكر الابهري عن مالك: أن ذلك إذا ضعف وذهبت قوته ومنفعته أو أكثرها. وقال عبد الوهاب: إذ هرم هرماً لا منفعة فيه فإنه فوت. الباجي: والصحيح عندي إذا ضعف عن منفعته المقصودة ولم يمكنه الإتيان بها، أن ذلك فوت ويرجع بقيمة العيب. ووطء الثيب من الأول، وقيل: من الثاني. وافتضاض البكر من الثالث القول بان وطء الثيب من القسم الأول هو المشهور عن مالك وأصحابه، قاله المازري. والقول الثاني لابن وهب، وابن نافع، وأصبغ. وأما وطء البكر: فهو عند مالك من الثالث. وقيده الباجي بالعلي، وأما الوخش فذلك لا ينقصها بل يزيدها. وهكذا نقل المازري عن بعض المتأخرين أنه قال: لا شيء عليه وطء الوخش. وتزويج الأمة مشهورها من الثالث أي: أن من اشترى أمة فزوجها ثم اطلع على عيب قديم، ففيها ثلاثة أقوال: الأول: أنه من القسم الأول، فيرد ولا شيء عليه، أو يتمسك ولا شيء له. نقله المازري عن بعض المتأخرين، وأخذه أيضاً من قول ابن القاسم في العتبية: أنه إذا اشترى جارية ثم اطلع فيها على عيب بعد أن تزوجها وولدت، أنه إن اختار ردها بالعيب لم يرد قيمة عيب النكاح الحادث عنده. قال: إلا أن يقال: إنما قال ذلك لزيادة الولد، فيكون ولدها جبر عيب النكاح. القول الثاني: أنه من المفيت. وهذا أجراه اللخمي على قول ابن مسلمة، فقال: وعلى قول ابن مسلمة في العبد إذا عمي أو ذهبت يده النكاح فوتاً ويرجع بقيمة العيب

ولا يرد، لأن النكاح يبطل الغرض منها إن كانت من جواري الوطء، وإن كانت من الوخش فمن أجل تردد الزوج إليها أو ترددها إليه، وإن شرط الزوج أن يتبوأ بيتاً فأبين. والقول الثالث، وهو المشهور: أنه من القسم الثالث. وفي جبره بولد قولان يعني: إذا فرعنا على المشهور فولدت، فهل يجبر الولد عيب التزويج؟ قال ابن القاسم في المدونة: يجبره ويرد ولا شيء عليه. وقال مالك، وأشهب: لا يجبره. وأكثرهم يصوب قول مالك وأشهب، لأن قول ابن القاسم يشبه قول الشافعي: أو الود غلة. ورد ذلك اللخمي: بأنه لم يحكم بذلك، لأنه لا خلاف أن ولد الحرة من العبد حر، وولد الأمة من الحر عبد، وولد المعتق بعضها بمنزلتها، وولد المدبرة مدبر. ولو كان الولد غلة لبطل ذلك، وإنما رآه من باب: ((لا ضرر ولا ضرار))، لأن الأم إذا عادت بالولد على مثل القيمة الأولى لم يكن عليه ضرر. وعلى الجبر، فالذي فهمه الأكثر وهو الصحيح: أنه إنما يجبر إذا كانت قيمة الولد تساوي قيمة عيب النكاح فأكثر، وأما إن كانت قيمة الولد أنقص، فلابد أن يرد مع الولد ما بقي. وفهم ابن المواز أن ابن القاسم يقول: إن الولد يجبر وإن كانت قيمته أنقص، وجعل ذلك سبب رجحان قول أشهب. وحادث بيع التدليس إن كان من التدليس- كقطع يده من السرقة، وقتله من حرابة، وموته من حمى، أو كان سماوياً، أو بتصرف معتاد في مثله، وهو من الثالث فيهما- فهدر، وإلا فتخييره يعني: أن من اشترى شيئاً رقيقاً أو غيره دلس له البائع بعيب فيه فحدث بسبب العيب في المبيع حادث، ومثله بثلاث صور، الأولى: أن يكون البائع دلس بعيب السرقة فسرق عند المشتري فقطعت يده. الثانية: أن يدلس بعيب الحرابة فيقتل بها. الثالثة: أن بالحمى فيموت بها.

قوله: (أو كان سماوياً) اسم كان عائد على الحادث، أي: لم يحدث بسبب عيب التدليس، كما لو دلس بالإباق [476/أ] فأبق فمات. وهذا مقيد بأن يكون الحادث في زمان عيب التدليس كما مثلنا. وما ذكره المصنف في السماوي: من أن المشتري يرجع بجميع الثمن، هو المشهور، لأن الإباق هو الذي حال بينه وبين منافعه. وقال ابن دينار: يرج بأرش الإباق خاصة، بخلاف ما لو هلك بسبب الإباق، كما لو اقتحم نهراً فهلك، أو تردى فهلك، أو دخل موضعاً فنهشته حية. ابن حبيب: وبالمشهور قال جميع أصحاب مالك. قوله: (أو بتصرف معتاد) كما لو اشترى مقطعاً فقطعه قميصاً أو سراويلات، ولو قطعه قلانس لكان تصرفاً غير معتاد. وأطلق في التصرف المعتاد وهو مقيد بألا ينتفع به، وأما لو انتفع به، مثل: أن يشتري ثوباً فيلبسه لبساً ينقصه، فإنه يرد مع الثوب قيمة اللبس، لأنه صون به ماله. ولو اشترى أمة فافتضها، فالرواية أنها كاللبس. وقال ابن الكاتب: لا يلزمه قيمة الافتضاض كقطع الثوب. قوله: (وهو) عائد على الحادث. وقوله: (فيهما) عائد على السماوي والتصرف المعتاد. وقوله: (فهدر) جواب للشرط، والجملة الشرطية جواب عن قوله: (وحادث بيع التدليس). والهدر: الذي لا شي فيه. وحاصله: أن ما حصل بسبب التدليس لا يفصل فيه، وما حدث بسماوي أو بتصرف معتاد، فإن كان من الثالث فهدر، وإلا فكغير الحادث من التدليس، ويعمل فيه على ما تقدم. وتبع المصنف في قوله: (وهو من الثالث) ابن شاس، وهو قيد ليس بظاهر، لأن السماوي سواء كان مفيتاً أو لا يرجع فيه بجميع الثمن على المشهور كما تقدم.

وأما التصرف المعتاد: فإن لم يكن من الثالث بل من المفيت فليس بمعتاد. فالتقييد بالمعتاد يغني عن التقييد بكونه من الثالث. فإن قلت: هذا إنما يأتي إذا حملنا قوله: (أو كان سماوياً) على أن ذلك السماوي حدث في زمان الإباق كما ذكرنا. ولم لا حملت ذلك على ما إذا لم يكن في زمان الإباق. فالجواب: لا يصح حمله على ذلك، لأنه مخالف للمنقول، لأن في المدونة: وما حدث من غير سبب عيب التدليس فلا يرده إلا مع ما نقصه. فروع: الأول: لو ادعى المدلس أن المشتري علم بالعيب ورضيه، ففي المدونة: ليس له أن يحلف المبتاع إلا أن يدعي علم رضاه لمخبر أخبر، أو يقول: قد بينته له فرضيه. قال فيها: وكذلك إن قال له احلف أنك لم تر العيب عند الشراء، فلا يمين عليه حتى يدعي أنه أراه إياه فيحلفه. ورأي أشهب: أنه ليس له أن يحلفه وإن ادعى علم رضاه لمخبر أخبره، لأنه قد يكذب ليتوصل إلى غرضه، وصوبه اللخمي. ابن أبي زمنين: وعلى الأول فيحلف أولاً البائع لقد أخبره مخبر. بعض شيوخنا: ويزيد مخبر مصدق. المازري: ولو ذكر المخبر وأحال على حاضر لاستغنى عن اليمين. ابن يونس: وإن كان المخبر مسخوطاً. الثاني: إذا أبق العبد عند المشتري بقرب الشراء، وقال المشتري للبائع: أخشى أنه لم يأبق بقرب البيع إلا وقد أبق عندك فاحلف لي. ففي المدونة: لا شيء عليه. وما جهل أمره، فهو على السلامة حتى يقوم ببينة. اللخمي: والمسألة على ستة أوجه: إن قال: يمكن أن يكون سرق عندك أو أبق ولم يحصل ذلك عنده. أو يقول: أخبرت أنه سرق عندك أو أبق فاحلف أنه لم يثبت مثل ذلك عندك.

أو يقول: سرق عنيد أو أبق فاحلف أو أبق فاحلف أنه لم يحدث مثل ذلك عندك. أو يعلم أنه سرق عند المشتري أو أبق، فيقول: احلف أنه لم يكن مثل ذلك عندك. أو يقول: علمته أنه حدث مثل ذلك عندك فعليه اليمين في هذا القسم، لأنه اجتمع فيه الوجهان ثبوت السرقة أو الإباق، ودعوى العلم أنه فعل مثل ذلك عند البائع. ولا يمين في القسم الأول، ولا خلاف في هذين، واختلف فيما سوى ذلك. الثالث: إذا أقر ببعض العيب وكتم بعضه، كما لو قال: أبق عندي شهراً وكان قد أبق سنة وهلك في الإباق، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن: إن هلك في المقدار الذي بينه فلا يكون كالمدلس، وإنما يرجع عليه بقيمة العيب، وإن هلك في المقدار الذي دلس به فيرجع بجميع الثمن، وكذلك إذا ذكر أقرب من المسافة التي أبق إليها. ابن يونس: وقال غيره من أهل بلدنا، إذا قال: أبق عندي مرة وكان أبق مرتين، وأبق عند المشتري وهلك بسبب الإباق، فإنه يرجع بقدر ما كتمه، بخلاف التدليس بجميع الإباق. وقال غيره: إن بين له أكثر العيب الذي هلك بسببه، رجع المشتري بجميع الثمن. فلو باعه المشتري فهلك بعيب التدليس، فقال ابن القاسم: يرجع الثالث على الأول بجميع الثمن، فإن زاد فللثاني، وإن نقص كمله الثاني أي: فلو باع المشتري العبد الذي دلس به عليه البائع ولم يعلم بعيب التدليس وأبق عند المبتاع الثاني ومات، قال المازري، وابن شاس، والمصنف، فقال ابن القاسم: يأخذ الثالث الثمن من الأول، أعني: الذي كان أخذه من الثاني، فإن كان مساوياً للثمن الأول فلا إشكال، وإن كان أنقص منه كمله الثاني، وإن كان أكثر أخذ الثالث منه مقدار ثمنه وأخذ الثاني بقية ذلك. وصرح المازري، وابن شاس: بأن الثالث يأخذ جميع الثمن وإن زاد على ما دفعه الثالث للثاني.

خليل: وفيه نظر، إذ ليس بوكيل للثاني على الزيادة وقد يبرئه منها. ومن حجة المدلس أن يقول للثالث: معاملتي لم تكن معك ولو الثمن الذي [476/ب] خرج من يدك لما كان لك علىَّ مقال فلا يكون لك غيره. ووجه المازري هذا القول: بأن ابن القاسم قدر أنه وإن لم يدلس عليه من باشر البيع له فإن المدلس على من باع منه يقدر مدلساً عليَّ فأنت سبب إتلاف الثمن علىَّ. وظاهر ما نقله المازري، وابن شاس، والمصنف: أن الثالث إنما يرجع ابتداء على الأول. والذي نقله في الموازية من رواية أصبغ، ونقله ابن يونس وغيره: أنه إنما يرجع على الأول إذا كان الثاني عديماً، وقاله سحنون وغيره. فلعل كلام المصنف والمازري مقيد بهذا، ولابن القاسم قولان. وصرح المازري وابن شاس: بأنه إذا نقص عن ثمن الثاني أن الثاني يكمله. وهو خلاف ما في النوادر. وابن يونس عن ابن القاسم: أنه إذا أخذ من الأول الثمن فلم يكن فيه إلا أقل من الثمن الآخر، فليس له غيره ولا يرجع بتمامه على بائعه، إذا لم يدلس إلا أن يكون الثمن الأول أقل من قيمة العيب من الثمن الثاني فليرجع على بائعه بتمام قيمة عيبه. ابن عبد السلام: وإنما الذي يقرب من كلام المؤلف- وإن لم يكن هو- ما قاله سحنون: إذا أخذ الثمن من الأول في عدم الثاني فلم يكن فيه مثل رأس مال المشتري، فإنه يرجع على البائع الثاني بالأقل من تمام ثمنه أو قيمة العيب من ثمنه. وقال أصبغ: يرجع على الأول بقيمة العيب ويأخذ الثاني بقية الثمن يريد، وقال أصبغ: إذا كان الثاني عديماً يؤخذ الثمن من الأول فيدفع إلى الثالث منه قيمة العيب التي يستحقها على الثاني لو انفرد به، وتسلم بقيته للأوسط. وهكذا نقل

المازري، وابن يونس، وابن شاس. وإلى دفع البقية للأوسط للأوسط أشار المصنف بقوله: (ويأخذ الثاني بقية الثمن). ابن يونس: ووجهه أن الأول مدلس بعيب هلك العبد بسببه فوجب أن يرد الثمن على بائعه. أصله: لو أبق عند الثاني، وأما الثاني فلم يدلس في الثالث فلم يجب له إلا قيمة العيب من ثمنه، فإذا أخذه من بائعه الأول فلا كلام له. وليس هو قول أصبغ، وإنما رواه عن ابن القاسم. وهذا تقرير هذا المحل. وما ذكره ابن راشد: أن مراد المصنف أن الثالث بعد أن يأخذ قيمة العيب من الأول يأخذ بقية الثمن من الثاني ليس بظاهر، ولعل ذلك لأن في نسخته: (بقية الثمن) والصواب: (بقية) كما ذكرنا. وقال محمد: يرجع الثالث، إما على الثاني بالأرش فيكون على الأول للثاني الأقل مما غرم وكمال الثمن الأول. وإما على الأول بالأقل من الأرش وكمال الثمن الأول فلا يكون على الأول للثاني شيء .... أي: يرجع الثالث على الثاني إن تأتي له الرجوع عليه بأرش عيب التدليس، ثم يكون على الأول لهذا الثاني الأقل من الأرش أو كماله ثمنه. مثاله: لو باعه الأول بمائة والثاني بمائة وعشرين، وكان الأرش خمسين، فيبقى بيد الثاني سبعون، فيرجع بثلاثين تمام مائته. ولو كان الأرش ثلاثين لرجع بعشرة تمام ثمنه، لأنه إن كان تمام الثمن الأقل فقصاراه أن يكون العبد هلك، ولو هلك عنده لما كان عليه إلا الثمن الذي أخذ منه، وإن كان ما غرمه أقل لم يرجع بغيره، لأنه لولا الغرم لما توجه له رجوع. وإن لم يتأتى للثالث على غريمه رجوع فيرجع على الأول، لأنه غريمه فيلزم أن يدفع له أقل الأمرين المذكورين، لأنه قصارى ما يلزم الأول للثاني.

وتحصيل هذا القول عند ابن يونس: أنه لا يغرم الأول للثالث إلا ما كان يرجع به على الثاني لو غرم الثاني للثالث قيمة العيب، وهو الأقل من قيمة العيب من ثمن الثالث أو من ثمن الثاني، أو تمام رأس مال الثاني. قال: وهو الذي أراد محمد. خليل: وفي كون الثالث لا يرجع عليه إلا بأقل الأمرين نظر. والظاهر: أنه يرجع عليه بمجموع الثمن الذي أخذه لتدليسه. والله أعلم. وإذا أحدثت زيادة كالصبغ أخذ الأرش أو رد وكان شريكاً بما زاد، لا بقيمته ولا بمساو، دلس أو لم يدلس .... أي: أن من اشترى ثوباً فصبغه فزادت به قيمته ثم اطلع على عيب، فإنه يكون مخيراً بين أن يأخذ قيمة العيب ويتماسك بالثوب، أو يرده على بائعه ويكون شريكاً معه في الثوب بما زاده الصبغ، وسواء دلس البائع هنا أو لم يدلس. مثاله: لو كانت قيمته بلا صبغ عشرة، وبالصبغ اثني عشر فيكون شريكاً بالمسدس. واختلف الشيوخ هل تعتبر هذه الزيادة يوم البيع كما يعتبر النقص وهو اختبار ابن يونس، أو لا تعتبر إلا يوم الحكم وهو قول ابن المواز والقابسي. وقوله: (كان شريكاً بما زاد) كذلك قال سحنون: فيمن ألقت الريح ثوبه في قصرية صباغ. فرع: فلو كان الصبغ منقصاً في مسألة البيع كان له ردها بغير غرم إن كان البائع مدلساً، أو حبسها وأخذ الأرش، وإن كان غير مدلس كان كعيب حدث، وقد تقدم حكمه قاله في الجواهر. والصبغ بكسر الصاد: هو ما يصبغ به وهو مراد المصنف، وأما بالفتح فهو المصدر.

وأشار بقوله: (لا بقيمته) إلى مخالفة هذا الاستحقاق، فإنه إذا اشترى ثوباً فصبغه، ثم استحق من بيده فأبى البائع أن يعطي قيمة الصبغ وأبى المشتري أن يعطي قيمة الثوب، فالمشتري يكون شريكاً بقيمة الصبغ. وفرق بأنه في الاستحقاق أخذت من يده قهراً فكان شريكاً بالقيمة، إذ قد لا يزيد الصبغ فيمضي [477/أ] باطلاً، بخلاف العيب فإنه يخير فيه. وذكر المازري عن بعض الأشياخ: أنه جعل الرد بالعيب كالاستحقاق. وقال أصبغ في العامل في القراض يصبغ الثوب من عنده فلم يعطه رب المال ما صبغه به، أنه يكون شريكاً بما أدى. وفرق بأن له حصة في السلعة وهو مأذون له في تنمية المال، فكأنه صبغه بإذن ربه. وقالوا فيمن دفع ثوبه إلى صباغ فأخطأ وصبغه بغير ما أمر به واعترف الصباغ بذلك: أن له أن يعطيه قيمة الصبغ ويأخذ ثوبه، أو يضمنه قيمته يوم قبضه كالغاصب والسارق. وقالوا في الغاصب والسابق يصبغان الثوب: يخير ربه في إعطاء قيمة الصبغ أو يضمنها قيمة الثوب غير مصبوغ، ولا يكونان شريكين لتعديهما. واعلم أن المصنف إنما نص على قوله: (دلس أو لم يدلس) تنبيهاً على أن التدليس لا فرق بينه وبين غيره هنا، وإن كان يفترق في مسائل أخرى. قال جماعة: والمسائل التي يفترق فيها حكم المدلس من غيره خمس، الأولى: إذا صبغه صبغاً ينقص به، فإن كان البائع غير مدلس فذلك عيب حادث عند المشتري، فيخير إما أن يرد ويعطي أرش ما حدث عنده، أو يتماسك ويأخذ ارش القديم، وإن كان البائع مدلساً لم يكن على المشتري للنقص شيء. والثانية: أن يحصل عيب أو عطب من العيب الذي باعه به، مثل: أن يكون ابقاً فيأبق عند المشتري، أو سارقاً فيسرق وتقطع يده. فإن كان البائع مدلساً كان ما أصابه عند المشتري منه، وإن لم يكن مدلساً فالضمان في ذلك على المشتري.

والثالثة: أن يبيع الرجل سلعة وبها عيب، ثم يشتريها من المشتري بأكثر مما باعها به، فإن كان البائع مدلساً لم يكن له رجوع على المبتاع، وإن كان غير مدلس رجع عليه بما زاده على الثمن. والرابعة: إذا دلس بعيب في سلعة فردت عليه، لم يلزم السمسار أن يرد الجعل، بخلاف ما إذا لم يدلس. والخامسة: من باع البراءة ما يجوز بيعه بالبراءة، فإنه يبرأ مما لم يعلم به، ولا يبرأ مما علم ودلس به. والله أعلم. ويقوم القديم والحادث بتقويم المبيع يوم ضمنه المشتري لما ذكر حكم النقص والزيادة تكلم في كيفية التقويم بهما وفي وقته. وقوله: (بتقويم المبيع) أي: لا يقومان بانفرادهما، وإنما يقال: كم قيمة المبيع بالعيب القديم، وكم قيمته بالحادث. و (يوم ضمنه) معمول ليقوم، أي: يقوم بالعيبين إذا احتيج إلى قَيمتها معاً، وإلى قيمة القديم وحده يوم ضمن المشتري المبيع، لا يوم الحكم ولا يوم العقد، ولا يفصل فيقال: يقوم القديم يوم ضمان المشتري والحادث يوم الحكم، خلافاً لابن المعذل، وسيأتي. فإن أمسك قوم صحيحاً والعيب القديم أي: فإن اختار المشتري التمسك بالمبيع وأخذ قيمة القديم حيث يكون له التخيير، فإن المبيع يكفي فيه حينئذ تقويمان، يقوم صحيحاً، ثم معيباً بالقديم. فمهما نقص أخذ نسبة النقص من الثمن. الباجي: مثل أن تكون قيمتها سالمة عشرة وبالعيب ثمانية، فيعلم أن العيب خمس الثمن، فيرجع على البائع المشتري، فإن كان اشتراه بخمسة عشر رجع عليه بخمسها وهي ثلاثة.

وإن رد قوم ثالثاً بهما أي: وإن اختار الرد قوم تقويماً ثالثاً بالعيبين معاً- القديم والحادث- فما نقصته القيمة الثالثة عن القيمة الثانية حسب ذلك من القيمة الأول ورد المشتري على البائع تلك النسبة من الثمن. وهكذا قال الباجي، فإنه قال بعد الكلام الذي ذكرناه: فإن أراد الرد فإن القيمتين لابد منهما، فإذا تقدمتا جعلت قيمة السلعة بالعيب القديم أصلاً، ثم يقومها قيمة ثالثة بالعيبين القديم والحادث، فيرد من ثمن المبيع بقدر ذلك. وذلك كما لو قيل في مسألتنا: إن قيمتها بالعيبين ستة. فيعلم أن العيب الحادث عند المشتري نقص من قيمة المبيع بعيبه الربع فيرجع من ثمنه بذلك، وقد علمنا أن الباقي بعد البيع الأول اثنا عشر فيرد مع العبد ربع ثمنه بالعيب القديم، وذلك ثلاثة. هذا معنى ما ذكره ابن القاسم في المدونة وغيرها. انتهى. وإن شئت قلت: يرد خمس الثمن. ومثاله أيضاً: لو كان يساوي صحيحاً مائة، وبالعيب الأول ثمانين، وبالثاني ستين وكان الثمن مائتين، فإما أن يتمسك ويأخذ أربعين، وإما أن يرد ويعطي أربعين. وهكذا نص عليه ابن يونس، ومحمد، والمازري، وصاحب المقدمات. فإن كانت زيادة قوم رابعاً بالجميع، وكان شريكاً بنسبة ما زاد عليها كلام المصنف يقتضي أنه مع حدوث الزيادة لابد من أربع قيم، وفيه تفصيل، لأنه إن تمسك فلا يحتاج إلى تقويمين، يقوم صحيحاً، وبالعيب القديم ليرجع المشتري على البائع بما يقابله. ولم يتكلم المصنف على هذا لوضوحه، وإنما تكلم على الرد لأن قوله: (فإن حدثت زيادة) مفرع على قوله: (فإن رد قوم ثالثاً). وما ذكره المصنف من الأربع قيم نحوه في المازري، فإنه قال بعد أن فرض أن الزيادة التي زادها المشتري خياطة، وإن كان العيب الذي حدث عند المشتري هو قطع الثوب،

أعني: إذا كان البائع غير مدلس أو كان مدلساً لكنه قطعه غير القطع المعتاد كما قدمناه. ويقال: ما قيمة هذا الثوب لا عيب فيه؟ فإن قيل: وما قيمته وبه العيب الذي كان [477/ب] عند البائع؟ فإن قيل: تسعون. قيل: وما قيمته مقطوعاً؟ قيل: ثمانون. قيل: وما قيمته مخيطاً؟ فإن قيل: تسعون. فقد علمت أن العشرة التي وجبت على المشتري لنقص القطع قد جبرها ما فعل من الخياطة، فلا يكون على المشتري قيمة نقص القطع. وإن قيل: قيمته مخيطاً خمسة وثمانون. فقد جبرت الخياطة نصف مقدار العيب، ويطالب بمقدار نصف عشر الثمن. وإن قيل: ثمنه مخيطاً خمسة وتسعون. فقد جبرت الخياطة قيمة النقص وزادت على ذلك خمسة دنانير وهي نصف العشر، فيكون المشتري شريكاً في الثوب بمقدار ذلك. وقال ابن عبد السلام: فيما ذكره المصنف نظر. ولا احتياج على تقويمه صحيحاً، بل ذكر التقويم صحيحاً يوهم أن يكون البائع شريكاً بقيمته صحيحاً. ولا يصح لأنه إنما خرج من يده معيباً، وكذلك أيضاً لا احتياج إلى تقويمه بالحادث، لأن الزيادة إنما تظهر بعد بجبره بالصنعة المزيدة. فلو شارك المشتري البائع بما زادته الصنعة على مجموع العيبين مع أن العيب الثاني إنما حدث في ملك المشتري، لكان في حيف على البائع. نعم يحتاج إلى ثلاث قيم إذا شك في الصبغ هل يجبر الحادث، أم لا؟ فالذي يوجبه النظر أن يقوم بالعيب القديم وحده، لأن ذلك هو الذي خرج من يد البائع، ثم يقوم بالصنعة الحادثة، فإن وقعت زيادة على ذلك في مثل تلك الزيادة تكون الشركة الواجبة للمشتري مع البائع. خليل: وفيه نظر، لأنه لابد من تقويمه بالعيب الحادث ثم بالصنعة، ليعلم هل تلك الصنعة تجبر العيب الحادث أم لا، وقد سلم أنه يقوم بالعيب القديم، فهذه ثلاث تقويمات.

وقوله: نعم قد يحتاج إلى ثلاث قيم إذا شك. يقتضي أنه قد يستغنى عن بعض هذه الثلاث ولا يمكن ذلك، وحينئذ إنما ينتفي تقويمه صحيحاً. وجوابه: أنه لا يعلم العيب القديم إلا بتقويمه صحيحاً، ولو كان كما قال، لزم فيما إذا لم يحدث زيادة ألا يقوم إذا أراد المشتري الرد إلا تقويمين، يقوم بالعيب القديم، إذا لم يحدث زيادة ألا يقوم إذا أراد المشتري الرد إلا تقويمين، يقوم بالعيب القديم، ثم بالحادث، ويرد نسبته لأنه لا احتياج إلى تقويمه صحيحاً، لأن السلعة لم تخرج من يد البائع إلا معيبة. ولا خفاء في عدم ذلك كما صرح به الباجي والمازري وغيرهما. والله أعلم. وقيل: يقوم الحادث يوم الرد هذا قول أحمد بن المعدل بناه على أن الرد بالعيب فسخ بيع. وإذا تعدد البائع، جاز رد حصة أحدهما يعني: إذا باع رجلان فأكثر سلعة أو سلعاً على الشركة فاطلع المشتري على عيب، فله أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر، ولا مقال لمن رد عليه، لأن ملكه تبعض ابتداء. وفي رد أحد المشتريين قولان اختلف إذا تعدد المشتري واتحد البائع، هل لأحد المشتريين الرد دون الآخر قياساً على تعدد البائع أو لا، لأن في التشقيص ضرر على البائع؟ ورجع مالك إلى الأول. ابن القاسم: وهو أبين، إذ لو فلس أحدهما لم يتبع إلا بنصف الثمن. وأخذ أشهب بالثاني، فقال: ليس لهما إلا أن يرد أو يحبسا. والقولان في المدونة. ومنشأ الخلاف: هل العقد يتعدد بتعدد المبتاع كما لو تعدد بتعدد البائع أو لا؟ وإذا فرعنا على الرواية التي اختارها أشهب ولم يرض البائع بتبعيض الصفقة، فقال ابن وهب: إذا أراد أحدهما الرد وأبى الآخر تقاوما، لأن البائع لا يقبله إلا كله. وقال ابن المواز: للمتمسك أخذ نصيب الرادَّ.

وحكى عبد الوهاب عن المذهب: إذا أبى أحد المتبايعين من الرد مع صاحبه لم يكن لصاحبه الرد، وكان له الرجوع بقيمة العيب. الباجي: وهكذا يجب أن يكون الصحيح من المذهب مثل ما حكاه ابن القاسم عن مالك في الذي يشتري عبداً فيبيع نصفه ثم يطلع على عيب فيريد الرد، فإنه يخير البائع إما أن يقبل النصف الباقي أو يدفع قيمة نصف العبد. الباجي: وهذا مقتضى القياس. وعلى قول أشهب يحتمل أن يكون معنى قوله: إما أن يردا جميعاً أو يمسكا جميعاً، ولم يبين إذا رد أحدهما. وإذا تعدد المبيع، فإن كان المعيب وجه الصفقة أو كأحد الخفين فكالمتحد لما تكلم على تعدد البائع والمشتري تكلم على تعدد المبيع، أي: إذا وجد عيباً في وجه الصفقة، أو بأحد الشيئين الذي لا يستغني أحدهما عن الآخر كأحد الخفين، وكذلك الأم مع ولدها، لأن الشرع منع من التفرقة بينهما فكالمتحد، فليس له إلا رد الجميع. ولهذا كان الصحيح فيمن استهلك أحد المزدوجين وجوب قيمتها. واختلف فيمن استهلك سِفْراً من ديوان أو سِفْرَين، فقال بعضهم: يرد السالم وما نقص. وظاهر كلام عبد الوهاب في شرح الرسالة عند ذكر النعلين: أنه يغرم الجميع. وإلا فليس له رد المعيب بحصته يوم عقده هذا ظاهر، ونص ابن المواز على أن وجه الصفقة ما زاد على النصف، وهو معنى ما في المدونة على ما نص عليه ابن يونس، وهذا إنما هو فيما عدا المثليات، وأما المثليات فلها حكم آخر سيأتي.

فإن كان الثمن سلعة، فقيمة الحصة التي قابلت المردود لا جزءها على الأصح، لضرر الشركة .... مثاله: لو اشترى ستة كتب بدار ثم اطلع على عيب في أحدها ورده، فإنه يرجع بنسبته من قيمة الدار لا في جزء الدار على الأصح. فلو [478/أ] كانت الدار تساوي ستمائة وكل كتاب يساوي مائة فعلى الأصح يأخذ مائة، وهو مذهب المدونة والمشهور. وعلله المصنف بضرر الشركة، أي: على تقدير الرجوع في الدار. وعليه فهل تعتبر القيمة يوم البيع وهو ظاهر كلام المتقدمين، أو إنما تعتبر يوم الحكم وهو اختيار التونسي؟ ومعناه: إذا كانت قائمة يوم الحكم ولم تفت قبل ذلك، وعلى مقابله يرجع في سدس الدار وهو لأشهب في الموازية، وهو الأصل، ولاسيما إن كان المعيب النصف فإنه ينوبه من الثمن النصف، وليس تغليب حق البائع على المشتري أولى من العكس. وعلى هذا القول فهل ينقلب الخيار للبائع لما لحقه من ضرر الشركة؟ ذكر بعضهم في ذلك قولين. وإذا تنازعا في العيب الخفي أو قدمه، فالقول قول البائع إلا أن تشهد العادة للمشتري فالقول قوله .... قال في الجواهر: والنزاع في العيب في صورتين، الأولى: في وجوده، ولا يقبل دعوى المبتاع أن بالسلعة عيباً دون أن يبينه بالمشاهدة إن كان مشاهداً، أو بالبينة إن كان غير مشاهد. الصورة الثانية: النزاع في قدمه وحدوثه لا يخلو إما أن يكون مما لا يحدث عند المشتري، أو مما يعلم أنه لم يكن عند البائع. فالقول في الموضعين قول من قوي سببه منهما مع يمينه، وأن يكون محتملاً فيثبته المبتاع بالبينة. ثم قال: فإن لم توجد البينة فالقول قول البائع مع يمينه، إذ الأصل لزوم العقد. وعلى هذا فقول المصنف في حدوث العيب إشارة إلى الصورة، أي: في وجود العيب الخفي. وأشار إلى الثانية بقوله: أو في قدمه.

وحمل ابن عبد السلام كلامه هنا على صورة واحدة، وهي: إذا تنازعا في القدم والحدوث. ورد الحمل الذي قلناه بأنه لو حمل كلامه الأول- أعني قوله: إذا تنازعا في الخفي- على ما إذا تنازعا في وجود العيب وعدمه، لزم أن يكون كلامه على خلاف ما نص عليه أهل المذهب: أن القاضي لا يلزم البائع الجواب عن قدم العيب وحدوثه، ولا غير ذلك من أحكامه حتى يثبت المشتري وجود العيب، أو يوافقه البائع عليه. خليل: وفيه نظر، لأن ما ذكره المصنف من أن القول قول البائع إذا تنازعا في وجود العيب وعدمه لا خلاف فيه. وما ذكره من أن القاضي لا يُلزم البائع الجواب يدل له لا على خلافه، نعم هو شرط لما قاله. وقوله في الجواهر: فالقول قول من قوى سببه منهما مع يمينه. يريد: إذا رجحت البينة قول أحدهما فقط، وأما لو قطعت البينة بالقدم أو الحدوث فلا يمين، نص عليه محمد. فرع: فلو أقام المبتاع شاهداً واحداً بقدم العيب حلف معه على البت ورجع، قاله ابن المواز، وابن القاسم، وابن نافع، والمخزومي. وقال ابن كنانة: لا يحلف معه. ومنشأ الخلاف: هل يقبل الشاهد الواحد فيما ليس بمال إذا كان يؤدي إلى المال أم لا؟. واعلم أنه إنما يكون القول قول البائع في العيب المشكوك فيه إذا لم يصاحبه عيب قديم، أما إن صاحبه عيب قديم، فالقول قول المشتري أنه ما حدث عنده مع يمينه، لأن البائع قد وجب عليه الرد بالعيب القديم فصار مدعياً على المبتاع في الحادث، وبه أخذ ابن القاسم، وأشهب حسنه. ومفهوم قوله في الخفي: أن الظاهر لا قيام للمشتري به لاطلاعه عليه، وهو قول ابن حبيب، وعليه يعتمد جماعة ممن صنف في الأحكام، ويعتمد عليه أصحاب الوثائق.

ومذهب المدونة عند جماعة: أنه لا يلزم المشتري سوى اليمين أنه لم يره وقت البيع ويحكم له بالرد، وهو الذي ذكره المتيطي، وقد أوجب في المدونة الرد في الزلاء والأقطع والأعور. وكثرة وقوع هذه المسائل وأشباهها يضعف تأويل من تأول على المدونة، لعل ذلك إنما كان في أمة أو عبد غائبين. فرع: وإذا تنازعا فادعى البائع أنه أخبره بالعيب أو أراه إياه وأنكر ذلك المبتاع، فإنه يلزم المبتاع اليمين، فإن حلف رد بالعيب، وإن نكل حلف البائع وبرئ منه، قاله الباجي. وإن لم يوجد عدول قبل غيرهم للضرورة. قال الباجي: ولو كانوا غير مسلمين أي: إذا احتيج إلى أرباب المعرفة في إثبات القدم والحدوث، فإن وجد عدول لم يعدل عنهم، وإلا فقال الباجي، والمازري وغيرهما: يقبل غيرهم ولو كانوا على غير الإسلام للضرورة. وفي المتيطية: الواحد منهم أو من المسلمين كافٍ والاثنان أولى، إذ طريق ذلك الخبرُ لا الشهادةِ على المشهور المعمول به. وقال محمد: لا يرد بعيب إلا ما اجتمع عليه عدلان من أهل النظر والمعرفة. ابن الماجشون: وإن كان العبد ميتاً أو غائباً فلا يثبت إلا بعدلين باتفاق أصحاب مالك من أهل المعرفة. وفي الطرر: إذا شهد شاهد بعيب أنه أقدم من أمد التبايع، وشهد آخر أنه أحدث من أمد التبايع، فقال في الاستغناء: شهادتهما لا توجب حكماً بالرد إذا لم يتفقا على شيء واحد، وإن كان العيب لا يطلع عليه الرجال كالعيوب التي تكون في جسد الأمة أو في فرجها تثبت بشهادة امرأتين.

وقال سحنون: ما كان بالجسد بُقِرَ عنه الثوب ونظر إليه الرجال، وما كان في أحد الفرجين شهد فيه النساء. ويمينه: بعته وأقبضته وما به من عيب. بتا في الظاهر، ونفيا للعلم في الخفي. وقال أشهب: نفيا للعلم فيهما .... أي: إذا كان القول قول البائع مع يمينه فصفة يمينه: أن احلف أني [478/ب] بعته وما به عيب. ويزيد فيما فيه حق توفية: بعته وأقبضته. وعلى هذا فقوله: (بعته وأقبضته) للتفصيل، والواو بمعنى أو. وقوله: (وما به من عيب) جارٍ فيهما، وبهذا صرح في الجواهر. وإنما قلنا: إن أقبضته خاص بما فيه حق توفية، لأن ما ليس فيه حق توفية ينتقل إلى ملك المشتري بالعقد فلا يحتاج إلى الحلف بأنه أقبضه سالماً، فلا يكلف بما لا يلزمه. وفي قوله: (وما به من عيب) نظر، إذ لا يلزمه أن يحلف إلا على ما ادعاه المشتري من العيب المخصوص. وكذا قال غيره: أنه يحلف ما باعه وهذا العيب به في علمه. وقوله: (في الظاهر) أي: كالعرج، وضعف البصر، والخرق في الثوب. والخفي: كالزنا، والسرقة، وهذا مذهب المدونة وهو المشهور. وعن ابن القاسم، وابن نافع: أنه يحلف على البت فيهما، واحتج ابن نافع بأنه لو ثبت قدم العيب والبائع غير عالم لرد عليه ولم ينفعه عدم علمه، فلا ينفعه الحلف على عدم علمه. وأجاب المازري بأن البينة إذا أثبتت قدم العيب فقد ثبت السبب الموجب للرد ووجب حل البيع المنعقد، وإذا لم يثبت العيب وكان مشكوكاً فيه لم يجب حل المنعقد. وقال أشهب: يحلف على نفي العلم فيهما. واحتج بأنه إن علم به فهو حانث، وإلا فلا يلزمه حتى يثبت قدمه فلا يحلف إلا على علمه. واختلف في يمين المشتري إذا نكل

البائع على ثلاثة أقوال، روى عيسى ابن القاسم: أنه يحلف على العلم في الظاهر والخفي، لأن التدليس يكون من جهة البائع دون المبتاع. وروى يحيي عنه: أنه كالبائع يحلف على البت في الظاهر وعلى العلم في الخفي، لأن الأصل في اليمين أن تنقلب على نحو ما توجهت، واختاره ابن حبيب. وقال ابن نافع، وابن أبي حازم: يحلف المبتاع على البت. ولو ثبت العيب فاختلف البائع والمبتاع في تاريخ البيع، فادعى البائع تاريخاً قديماً يكون العيب حادثاً بالنسبة إليه، وقال المشتري: إنما كان في تاريخ يكون ذلك العيب قديماً بالنسبة إليه. فقال ابن القاسم، وسحنون: القول قول البائع والمشتري مدَّعٍ. وذكر ابن حبيب اختلافاً في هذا الأصل. ابن عبد السلام، وقوله: يحلف البائع لقد بعته. لا معنى له، لأن القاضي لا ينظر في أمرهما في هذه المسألة إلا بعد إقرار المدعى عليه بحصول البيع منهما، أو بعد ثبوته بالبينة. خليل: وفيه نظر، لأن اليمين هنا ليست في حصول البيع، وإنما هي على وقوع البيع في حال عقد البيع والقبض فيما فيه حق توفيه. ويرد النتاج دون الاستغلال وقيمة الانتفاع يعني: إذا رد المبيع لعيب رد معه النتاج، وسواء اشتراها حاملاً أو حملت عنده، لأن الولد ليس بغلة دون الاستعمال، لما صححه الترمذي: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بأن الخراج بالضمان. فائدة: والمشتري لا يرد الغلة في خمسة مواضع: في الرد بالعيب، والبيع الفاسد، والاستحقاق، والشفعة، والتفليس.

وهذا إذا فارقت الثمرة الأصول، أما إن لم تفارق، فالمشهور: أنها لا ترد مع أصولها إذا أزهت ولم تجذ ولا يبست في الرد بالعيب وفي البيع الفاسد. وأما الشفعة، والاستحقاق: فترد وإن أزهت ما لم تيبس، فإذا يبست لم يجب ردها. وفي التفليس: ترد ولو يبست ما لم يجذها. وقيل في هذه المسائل: إن الإبار فوت. المازري: وكان بعض أشياخي يري أنه لا فريق بين هذه المسال، وأنه يخرج في كل واحدة ما هو منصوص في الأخرى. وفي رد ثمرة ما اشتراه مأبوراً، أو صوف الغنم قولان يعني: أن من اشترى نخلاً مؤبراً واشتراطه، أو اشترى غنماً عليها صوف تام، فجذ الثمرة وأخذ الصوف ثم اطلع على عيب، فقال ابن القاسم: يرد ما أخذه من ثمرة أو صوف، لأن لهما حصة من الثمن. وقال أشهب: لا يرد، لأنها غلة. ابن المواز: واتفق ابن القاسم، وأشهب على عدم رد اللبن وإن كان في الضرع يوم البيع، وذلك خفيف. وعلى قول ابن القاسم، فيرد الثمرة إن كانت قائمة، وإن فاتت رد مكيلتها إن علمت، أو القيمة إن لم تعلم، وأمضاها ابن القاسم في الشفعة إذا لم تعلم بما ينوبها من الثمن. وعد ذلك سحنون اختلافاً من قوله. ونص ابن يونس في الصوف التام إذا لم يعلم وزنه أنه يرد الغنم بحصتها. قال في المدونة: فإن ردت الثمرة كان لك أجر سقيك وعلاجك. ابن يونس: يريد ما لم يجاوزه قيمة الثمرة. الباجي: وعندي أنه لا يكون له من العمل إلا ما لولا الثمرة لم يعمله، لأنهم لم يذكروا في مسألة الغنم الرجوع بالرعي والسقي، وإنما يرجع بالجز عندي. قال: ولم أر فيه نصاً.

تنبيه: وقع لابن القاسم أنه لو هلكت الثمرة المأبورة عند المشتري بأمر من الله تعالى لم يضمنها المشتري. فعارض هذا بعضهم بما قاله من أنه يرد الثمرة، لأن قوله: يرد الثمرة. يدل على أن لها حصة من الثمن. وقوله: أنه لا يضمنها. يدل على أنها غير مشتراة. واعتذر عن ذلك بأنه إنما لم يضمنها لكونها غير مقبوضة للمشتري، ولهذا منع أن تشترى النخل المؤبرة بطعام، لكون الثمرة يتأخر قبضها. وقال بعض المتأخرين: إنه يضمن الثمرة إذا اشتراها بعد الزهور وإن هلكت بأمر من الله سبحانه، قاله المازري. ولو رده فتلف قبل إقباضه، ففي ضمانه قولان، بناء على أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله فعلى البائع، أو بيع الآن أو نقض الآن فعلى المشتري [479/أ] أي: لو رد المشتري المعيب بحكم أو بغيره فتلف قبل قبض البائع له، فقيل: ضمانه من البائع، وقيل: من المشتري. ومنشأ الخلاف كما قال: هل الرد بالعيب نقض للبيع من أصله فيكون ضمانه من البائع، أو هو نقض الآن فيكون من المشتري. قال في البيان: واختلف فيما يدخل به المردود بالعيب في ضمان البائع على أربع أقوال، الأول لأصبغ: يدخل في ضمانه بإشهاد المبتاع على العيب، وأنه غير راض به وإن لم يرض البائع بقبضه. والثاني: أنه لا يدخل في ضمانه حتى يرضى بالقبض، أو يثبت العيب عند السلطان وإن لم يحكم، وهو الذي يأتي على مذهب مالك في الموطأ وقول ابن القاسم في شهادات المدونة. والثالث: أنها لا تدخل وإن رضي، حتى يمضي من المدة ما يمكنه القبض فيه، وهو معنى قول مال في العتبية.

والرابع: لا يدخل في ضمانه حتى يقبضه، ولو مضى زمان يمكنه فيه القبض، وهو ظاهر العتبية أيضاً. قال: وهذا هو القياس على القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع، وأن على البائع فيه حق توفية دخل عليه مع علمه بأن المبيع قد يرجع إليه. وزاد القابسي، فقال: ولم يعلم السمسار بتدليسه، وأما إن علم فله أجر مثله. وقال ابن يونس: أرى أن يكون له ما سمى من الجعل، كما يكون للبائع المدلس الثمن لا القيمة، إلا أن يتعاقد مع البائع على التدليس فحينئذ يكون له أجر مثله، لأن رب السلعة قال له دلس، فإن ثم البيع فلك كذا وإلا فلا شيء لك، وهو غرر. وزاد ابن سحنون قيداً آخر للمدونة، فقال: بشرط أن يكون الرد بقضاء قاض لا تبرعاً، ولو استحقت من يد المشتري رجع بالثمن ورجع بالجعل، وإن فاتت السلع بيد المشتري فوجب له الرجوع بقيمة العيب، رجع بتلك النسبة من الجعل. وقال بعضهم على ما نقله ابن يونس متمماً لهذا: ولو اطلع المشتري على عيب بالمبيع عبد أن حدث به عيب يوجب له الخيار، فإن اختار التمسك والرجوع بأرش العيب القديم، فيرد السمسار من الجعل ما ينوب العيب، وإن رد المشتري السلعة وقيمة الحادث، فيرد السمسار الجعل إلا قدر ما ينوب العيب. فرع: إذا كان المبيع يحتاج إلى حمل ومؤنة، كالأزيار والخشب، فاستأجر المشتري على حملها، ففي المتيطية: إن ثبت أن البائع مدلس، لزمه أخذ المبيع حيث وجده ولم يكن على المبتاع رده حيث قبضه، وكذلك إذا ادعى المبتاع عليه التدليس فنكل عن اليمين. وحكى اللخمي قولاً آخر: إن على المشتري أن يردها حيث قبضها منه، وصوب الأول. وإن كان البائع غير مدلس، بأن حمل المبيع إلى موضع قريب، لزمه رده إلى حيث أخذه، وإن نقله إلى موضع بعيد كان فوتاً يوجب له الرجوع بقيمة العيب بعد ثبوته.

وإذا صرح الوكيل أو علم، فالعهدة على الموكل الأصل أن العهدة في الرد بالعيب والاستحقاق على متولي البيع إلا في الصورتين اللتين استثناهما المصنف، الأولى: أن يصرح بأنه وكيل. والثانية: أن يعلم كونه وكيلاً. هذا مذهب المدونة، لأن فيها: ومن باع لرجل سلعة بأمره من رجل فإن أعلمه في العقد أنها لفلان فالعهدة على ربها، فإن ردت بعيب فعلى ربها ترد وعليه الثمن لا على الوكيل. وإن لم يعلم أنها لفلان حلف الوكيل وإلا ردت السلعة عليه. وما باعه الطوافون في المزايدة مثل النخاسين وغيرهم، أو من يعلم أنه يبيع للناس فلا عهدة عليهم في عيب ولا استحقاق. وقال أصبغ: العهدة على المتولي إلا أن يشترط عند البيع ألا عهدة عليه. وهذا الخلاف في الوكيل غير المفوض، وأما المفوض عليه، لأنه أحل نفسه محل البائع، وكذلك المقارض والشريك المفاوض. وأما القاضي والوصي، ففي المدونة: لا عهدة عليهما فيما وليا بيعه [479/ب] والعهدة في مال اليتامى، فإن هلك مال الأيتام ثم استحقت السلعة فلا شيء على الأيتام. وحمله اللخمي على ما يبيعه للإنفاق عليهم للضرورة، قال: وإن تجر الوصي لليتيم أتبعت ذمته كالوكيل المفوض. وقال ابن المواز: الذي آخذ به في الوصي والوكيل المفوض أن عليهما اليمين، وإن ذكر أنه لغيرهما، إلا أن يشترط ذو الفضل منهما أن لا يمين عليه، فذلك له اتباعاً واستحساناً لقول مالك. فرع: فإن علم المبتاع بعد البيع أن المبيع لغير المتولي، فخيره مالك في الرد، أو على أن عهدته على الآمر، إلا أن يرضى الرسول أن يكتبها على نفسه فلا حجة للمشتري.

ابن المواز: وكذلك إذا ثبت أنه لغيره. وعارضه ابن يونس: بأن المذهب في الغاصب إذا باع ما غصبه ثم قام المغصوب منه ورضي بالبيع لا خيار للمشتري، ولم يدخل على أن العهدة على المغصوب منه. وأجاب: بأن ذمة المغصوب منه خير من ذمة الغاصب. ورَدَّ: بأن هذا الحكم ليس مقصوراً على الغصب، بل ولا مقال للمشتري في إجازة المستحق. وأجيب: بأنه خلف ذلك علة أخرى، وهي أن الاستحقاق قائم في جميع البياعات أو أكثرها، فصار كالعيب الذي يجهله المتبايعان، وما هذا شأنه لا يقام به، بخلاف الوكالة فإن احتمالها ضعيف، إذ الغالب أن المتولي هو المالك. وانظر ما ذكره من انتقال العهدة وقابله بما قاله عياض في الاستحقاق، لما ذكر عن المدونة في مكتري الأرض فتستحق منه فيجيز المستحق الكراء، أنه يمضي ولا يكون للمكتري ترك الكراء، ويقول: إنما كانت عهدتي على الأول فلا أرضى أن تكون عهدتي عليك أيها المستحق، فقال هو: هذا كلام غير محصل. وقد عابه سحنون، وقال: ليس بصواب، ولو رضي بذلك لم تكن عهدته عليه، لأن العهدة لا تنتقل، كما لو باعه الغاصب فاستحقه سيده، فالعهدة على الغاصب لا تنتقل عنه، قاله مالك. انتهى. فرع: فإن سئل السمسار عن رب السلعة، فقال: لا أعرفه. فقال ابن أبي زمنين: يحلف أنه ما يعرف. كذا رأيت لكثير من أشياخنا. قال: وينبغي على أصولهم إن نكل عن اليمين واسترابه السلطان أن يعاقبه بالسجن على قدر ما يراه، إن شاء الله.

وفي النقيصة التي لا يتغابن بمثلها طريقان، الأولى: قولان، الخيار مطلقاً، والخيار لغير العارف بها .... هذا يسمى القيام بالغبن، سواء كان المغبون بائعاً بائعاً أو مشترياً. والغبن: بفتح الغين وسكون الباء عبارة عن اشتراء السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله أو اشترائها كذلك، وأما ما جرت العادة به فلا يوجب رداً اتفاقاً. والطريق الأول عبد الوهاب في المعونة. وحاصله: أنه لا خلاف في ثبوت الخيار لغير العارف، وفي العارف قولان. الثانية: إن كان استسلم وأخبره بجهلة فأوهمه فله الرد، وإن كان عالماً غير غالط بالغبن فلا رد، وفي غيرهما قولان ..... هذه الطريقة للمازري، وحاصلها: إن استسلم، أي: أخبر أنه غير عارف بقيمتها، فقال له البائع: قيمتها كذا فله الرد، فإن كان عالماً بالمبيع وبثمنه فلا رد له، ولا خلاف في هذين القسمين، وفيما عداهما قولان. ابن عبد السلام: ومشهور المذهب عدم القيام بالغبن. ولصاحب المقدمات طريقة ثالثة: إن وقع البيع والشراء على وجه الاسترسال والاستمانة، فالقيام بالغبن واجب بإجماع، كما لو قال: اشتر مني سلعة مثل ما تشتري من الناس. وإن وقع على وجه المكايسة فلا قيام بالغبن اتفاقاً، ولا بالغلط على المشهور. ومعنى الغلط: أن يبيع شيئاً ثم يظهر خلافه، كما لو باع حجراً بالثمن اليسير فظهر أنه ياقوت أو بالعكس. والقول: بأنه يرجع بالغلط هو ظاهر ما في أقضية المدونة، والذي يشتري ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري أن البيع يرد. وهذا الخلاف في الغلط إنما هو إذا سمى الشيء بجنسه، كما لو قال في الياقوتة: من يشتري هذا الحجر؟ لأن الياقوت

يسمى حجراً، وأما لو سماه بغير اسمه، كقوله: من يشتري مني هذه الزجاجة؟ فلا خلاف في وجوب الرد، قاله صاحب البيان وغيره. والغبن، قيل: الثلث. وقيل: ما خرج عن المعتاد أي: واختلف في الغبن الذي يقام به، وتصور كلامه ظاهر. وقال ابن القصار: إذا زاد على الثلث فيكون ثالثاً. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين الغبن المتفق عليه والمختلف فيه، وظاهر كلام غيره أن الغبن المتفق على اعتباره لا يوصل فيه إلى الثلث ولا إلى ما قاربه، بل إذا خرج عن الثمن المعتاد في ذلك المبيع صح القيام به. واختلف في عهدة الثلاث، وعهدة السنة، فروى المدنيون: يقضى بها في كل بلد. وروى المصريون: لا يقضى بها إلا بعادة أو بحمل السلطان عليها العهدة خاصة بالرقيق، ومعناه: كون الرقيق المبيع في ضمان البائع بعد العقد، وهي عهدتان: قليلة الزمان كثيرة الضمان، وهي عهدة الثلاث، لأنه يضمن فيها كل شيء. وكثيرة الزمان قليلة الضمان، لأنه إنما يضمن ثلاثة أمراض: الجنون، والجذام، والبرص. واختلف في وجوب الحكم بها على القولين اللذين ذكرهما المصنف. وفي البيان ثالث: [481/أ] لا يحكم بها وإن اشترطوها. قال: وهو قول ابن القاسم في الموازية. ومحمد بن عبد الحكم يرى عهدة السنة حراماً لا يعمل بها. انتهى. وعلى رواية المدنيين يجب حمل الناس عليها، وعلى رواية المصريين فهل يستحب أن يحمل غير بلاد العهدة عليها؟ روى ابن القاسم: وددت أن يحمل الناس عليها. وروى أشهب: لا يحمل أهل الآفاق عليها وليتركوا على حالهم.

فائدة: قال المتيطي: إحدى وعشرون مسألة لا عهدة فيها على المشهور، الأمة والعبد اللذان ينكح عليهما، والرأس المخالع به، والمصالح به في دم، والمسلم فيه، والمسلم به، والقرض، والغائب يشتري على الصفة، والمقاطع به من الكتابة، والذي يبيعه السلطان على مفلس أو غيره، والمشتري للعتق بشرط، والمأخوذ من دين، والمردود بالعيب، ورقيق الميراث، والعبد المرهون والأمة يشتريها زوجها، والعبد الموصى بشرائه للعتق، والعبد المكاتب به، والعبد الموصى ببيعه من زيد، والموصى ببيعه ممن أحب، والذي يباع بيعاً فاسداً. قال: وفي بعض ما ذكرنا تنازع بين مالك وأصحابه. ففي الثلاث جميع الأدواء على البائع. والنفقة والكسوة بخلاف الغلة على المشهور هذا ظاهر، وإنما كانت النفقة والكسوة عليه، لأن الضمان منه، ولذلك كان أرش الجناية له، قاله في المدونة. ورأى ابن أبي زمنين أن البيع يفسخ هنا، لأن الحكم بالأرش موقوف على البرء، والبرء لا يعلم أمره، فلا يتأتى للمشتري انتفاع بالعبد من أجل وقفه للجناية. قال: إلا أن يسقط البائع عن الجاني القيام بالجناية، فيزول المنع حينئذ لزوال الوقف. قال: إلا أن تكون الجناية مهلكة فلا يجوز البيع، لأنه بيع مريض يخاف موته. قال في المدونة في كتاب الخيار: وما وهب له في عهدة الثلاث من مال وتصدق به عليه فللبائع. ابن حبيب: إلا أن يكون المشتري اشترط عليه ماله، فيكون ما وهب له أو تصدق به عليه للمشتري. ومقتضى هذا: أن تكون الغلة له، وجعل المصنف هذا غير المشهور، وهو قريب من كلامه في الجواهر. وفي نقلهما نظر، لأن في العتبية فيما ربح العبد في الثلاث، أو أوصى له به ولم يستثن المشتري ماله فهو للبائع.

المازري: والقاضي أبو محمد أشار في بعض كتبه إلى ارتفاع الخلاف في الغلة وأنها للمشتري، قال: ولكن المنصوص هنا أن ذلك للبائع. وفي السنة الجنون، والجذام، والبرص، ومستندهما عمل المدينة أي: ودليلنا على العهدتين عمل أهل المدينة. وفي الموطأ: أن أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل كانا يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاث حين يشتري العبد أو الوليدة وعهدة السنة. ونقل ابن عبد البر: أن عمر بن عبد العزيز قضي بها. وبها قال الفقهاء السبعة. ابن شهاب: والقضاة مما أدركنا يقضون بها. وخرج أبو داود عن الحسن عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عهدة الرقيق ثلاثة أيام)). وذكر ابن أبي شيبة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عهدة الرقيق ثلاثة)). قالوا: ولم يسمع الحسن من عقبة، واختلف في سماعه من سمرة. وفي البيان: ضعف بعضهم حديث عقبة. وابتداؤهما أول النهار من المستقبل، وقال سحنون: من حين العقد قد تقدمت هذه ونظائرها في باب العقيقة. وظاهر كلام المصنف أن قول سحنون نص هنا. والذي في الباجي والمازري: أنه مخرج على قوله في الصلاة، وهذا إذا كان البيع بتاً، فإن كان بيع خيار فمن يوم إمضاء البيع. وفي تداخلهما قولان القولان لمالك، والأقرب عدم التداخل. ابن بزيرة: وهو المشهور، لأن الضمان في كل منهما غير الآخر فصارا كأجنبيين.

وقال بالتداخل ابن الماجشون، وهو قول ابن القاسم، فإن اجتمع مع ذلك استبراء، فقال ابن القاسم: عهدة الثلاث داخلة في الاستبراء. وكذلك روى ابن القاسم عن أشهب في العتبية. ابن المواز: وقال ابن الماجشون: يدخل في السنة الثلاث والاستبراء. وكذلك روى ابن حبيب عن مالك أن عهدة السنة من يوم البيع. ابن يونس: ووجه رواية ابن القاسم أن الثلاث والاستبراء في البيع التام الضمان فيه من البائع من كل شيء، ولا يجوز النقد فيهما بشرط. فلما استويا دخل بعض ذلك في بعض، وعهدة السنة الضمان فيها من المبتاع من كل شيء، إلا من ثلاثة أدواء فوجب أن لا يدخل عليها. ووجه قول ابن الماجشون: أن المراعى في عهدة السنة مرور الفصول الأربعة بذهاب السنة لبيان السلامة، فوجب أن يكون من يوم العقد. وفي الكافي قولٌ أن عهدة الثلاث لا تدخل في الاستبراء. وقال المشيخة السبعة: يبدأ بالاستبراء ثم بالثلاثة ثم بالسنة. وما يطرأ واحتمل فيها وبعدها، فمن المشتري على الصحيح يعني: أن ما حدث في زمان العهدة فإنه من البائع إذا علم أنه حدث فيها، وأما إن أشكل أمره هل طرأ في العهدة أو بعدها، فذكر المصنف أن الأصح أنه من المشتري- وهو قول ابن القاسم- لأنه قال في العبد يأبق في العهدة وقد [480/ب] كان البائع قد تبرأ من إباقة فلم يعلم هلاكه أن ذلك من المشتري حتى يعلم أنه أصابه في العهدة، بناء على أن الأصل السلامة وانبرام العقد. والمنقول في اللخمي، والباجي وغيرهما عن مالك: أن ذلك من البائع. وفي جعله مقابل الأصح نظر. وقد قال اللخمي: إن قول مالك أقيس، لأن الأصل أنه في ضمان البائع، ووجوده بعد الثلاث مشكوك فيه، فلا ينتقل عن ضمان الأول بشك.

وللمشتري إسقاطها بعد العقد أي: إذا وقع العقد على العهدة فللمشتري إسقاطها، لأنه حق له. وللبائع قبله كعيب غيره هكذا وقع في بعض النسخ: (وللبائع) بلام الجر، وعليها تكلم ابن راشد، فقال: يعني وللبائع إسقاط العهدة قبل العقد، كما له أن يتبرأ من سائر عيوب الرقيق. وفي بعض النسخ: والبائع قبله كعيب غيره، فيحتمل هذا ويحتمل غيره، وهو الذي قاله ابن عبد السلام: أن البائع حكمه في العيب قبل الإسقاط كعيب غيره، أي: كالعيب مع عدم الإسقاط، كما لو اشترى عبداً على عهدة الثلاث، قبضه فبقي يوماً أو يومين ثم أسقط حقه، ثم اطلع على عيب حدث في اليوم الأول أو في الثاني، فحكمه في ذلك حكم من اشترى عبداً أو اطلع فيه على عيب قديم. فإن حدث ما يمنع الرد كالعتق، فقيل: تسقط بقيتها. وقيل: تبقى ويرجع بالأرش. وقيل: تبقى ويرد العتق .... أي: فلو اعتق المشتري العبد المبيع على العهدة، أو كاتبه، أو دبره، أو أولدها ونحو ذلك، ففي الموازية: تسقط بقية العهدة. وعليه فتقسط النفقة على البائع. وقال أصبغ وسحنون: ينفذ العتق ويرجع بقيمة العيب. اللخمي: وهو أحسن. وروى ابن حبيب عن ابن القاسم ثلاثةَ أقوال: اثنين كالمتقدمين، والثالث: يرد العتق. وذكر هذا القول في عهدة السنة. الباجي: وهو في عهدة الثلاث أولى. وألزم المازري على نقض العتق بما يحدث في العهدة نقضه أيضاً بعيب قديم ثم اطلع عليه، على طريق من قال: أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله.

وفيها: ولا ينقد في عهدة الثلاث بشرط بخلاف السنة تقدمت هذه المسألة مع نظائرها، وفهم من قوله: (بشرط) أنه لو طاع بذلك الجاز. قالوا: ولو تطوع به ثم أراد استرجاعه ووضعه على يد أمين لم يكن له ذلك، وجاز الاشتراط في عهدة السنة، لأنها في عيوب يسيرةٍ الغالبُ السلامة منها، فيؤمن من الوقوع في: تارة بيعاً وتارة سلفاً. ولعله نسب المسألة للمدونة لإشكالها، لأنه منع اشتراط النقد في الثلاث، وألزم النقد في بيع الثمار بعد الزهو بمجرد العقد وكلاهما في ضمان البائع. وفرقوا بغلبة الأمن في الثمار، ولأن ما يطرأ في الثمار يستوي فيه المتبايعان بخلاف الثلاث، لاحتمال تقدم علم البائع بالعيب. فروع: الأول: إن بنينا على عدم الجواز بشرط قبض، محمد: على أن يجوز في المواضعة وضع الثمن عنده مختوماً عليه. بعض الموثقين: وعهدة الثلاث لا شك فيها. الباجي: ويجيء على قول القاضي أبي محمد في مسألة بيع العربان أن ذلك جائز. بعض القرويين: وإنما لم يجز هنا للطبع عليه بخلاف الرهن، لأن الثمن في المواضعة عين الحق، بخلاف الرهن فإنه وضع توثقاً. الثاني، قال محمد: ولو لم يتطوع أولاً به وتشاح هو والبائع في بقائه بيد ثقة إلى انقضاء العهدة أو الاستبراء، فهل يجب ذلك على المبتاع أم لا؟ فيه عن مالك روايتان: إحداهما في العتبية: أنه لا يلزمه ذلك، وقاله في المبسوط. والأخرى في الموازية: أن ذلك لازم له، وقاله ابن القاسم، وابن حبيب، وابن عبدوس.

الباجي في وثائقه: ودليل المدونة ما في العتبية، لأنه قال: وإذا اشترى الجارية وهي ممن يتواضع مثلها أيصلح أن يشترط مواضعة النقد على يد رجل؟ قال: نعم. فيدل على أنه لو لزمه لما احتاج البائع إلى الشرط. الثالث: إن تلف هذا المال عند المودَع وخرج المبيع من العهدة سالماً، فإن ضمان الثمن من البائع وأخذ المبتاع عبده دون شيء، وإن هلك المبيع فهو من البائع ومصيبة الثمن من المبتاع. وإن ظهر بالمبيع عيب حدث في العهدة، أو كان به قبلها وأراد المبتاع الاستمساك به، فهل يكون له ذلك مع ضياع الثمن أم لا؟ فيه عن مالك روايتان، إحداهما: أن له ذلك. ابن القاسم: بالثمن التالف. والأخرى: أنه ليس له ذلك. قال ابن الماجشون: ويفسخ البيع بينهما، إلا أن يأخذ بثمن آخر فيكون ذلك له. وقال سحنون: إن تلف الثمن قبل حدوث العيب فلا يأخذه إلا بثمن آخر، وإن تلف بعد حدوثه وقبل رضا المبتاع به فله أخذ المبيع دون ثمن. الجنون الذي يرد به في السنة: هو ما كان عن مس الجان، ومعناه الوسوسة. الباجي وغيره: وهو مذهب مالك، إلا ابن وهب فإنه رأى الجنون مطلقاً موجباً للرد ولو كان بضربة أو غيرها. الرابع: لو ظهر أحد الأدواء الثلاث ثم ذهب قبل الرد، فقال مالك وسحنون: يرد بالجنون إذ لا تؤمن عودته. وأما الجذام والبرص، فقال ابن حبيب: هو كالجنون. وقال ابن القاسم: لا رد له إلا أن يقول أهل المعرفة أن عودته لا تؤمن. وعلى هذا فالخلاف خلاف [481/أ] في حال. وأما ما ذهب من العيون الحادثة في الثلاث قبل الرد، فإن كانت مما تؤمن عودته فلا رد، كذهاب البياض من العين، وأما ما يتقى عوده كالحمى، فقال سحنون: له الرد. وقال أشهب بالتوقف حتى ينظر، فإن لم يتبين ذهابها فلا رد، وإن عادت بالقرب رد.

وينتقل الضمان على المشتري بالعقد الصحيح، إلا فيما فيه حق توفيه من كيل، أو عدد، أو وزن .... لما فرغ من الكلام في لزوم العقد وجوازه شرع في بيان حكمه قبل القبض وبعده، وتكلم في أمور ثلاثة: في انتقال الضمان، وفي صورة القبض، وفي وجوبه. ثم إن البيع قسمان: صحيح، وفاسد. وبدأ بالصحيح، والدليل على انتقال الضمان بالعقد- إلا فيما استثناه المصنف- قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ((لخراج بالضمان)). والإجماع أن الخراج للمشتري بالعقد. وفي الثمار قبل كمال الطيب، وفي المحبوسة بالثمن عند ابن القاسم خاصة هذا معطوف على ما فه حق توفية، أي: أن هذين لا ينتقل فيهما الضمان بالعقد، أما الثمار فلبقاء ضمان الحوائج فيها، وأما المحبوسة، أي: سلعة بيعت وليست من الثمار قبل الطيب ولا فيها حق توفية وحبسها البائع لأجل ثمنها، فضمانها من بائعها، وهذه إحدى الروايتين عن مالك. والثانية: أن الضمان من المشتري. ابن المواز: وإنما اختلف قول مالك في هذا إذا لم ينقد، والمشهور من قول ابن القاسم أنها تضم كالرهان، إلا أن يكون المشتري هو التارك لها فكالوديعة. ولهذا قال سحنون في نوازله، جميع أصحاب مالك: أن المحبوسة بالثمن ضمانها من المبتاع، إلا ابن القاسم فإنه رأى حكمها كالرهن. قال في البيان: وهو المشهور من قوله. قال: ويتحصل في تلفها إن قامت بينة عليه قولان، أحدهما: أن مصيبتها من البائع ويفسخ البيع. والثاني: أن مصيبتها من المبتاع ويلزمه الثمن. وإن لم تقم بينة على تلفها أربعة أقوال:

أحدها: أن البائع يصدق مع يمينه على ما ادعاه من تلفها، كانت قيمتها مثل الثمن أو أقل أو أكثر، وينفسخ البيع، وهو قول سحنون. الثاني: أنه يصدق مع يمينه على ما ادعاه من تلفها ويفسخ البيع، إلا أن تكون قيمتها أكثر من الثمن فلا يصدق إلا أن يصدقه المبتاع، وهو بالخيار بين أن يصدقه فيفسخ البيع، أو يضمنه القيمة ويثبت البيع، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية. وهذا القولان على قياس القول بأن المصيبة من البائع، وينفسخ البيع إذا قامت البينة على التلف. الثالث: أن البائع يصدق مع يمينه فتلزمه قيمتها إذا كانت أقل من الثمن أو أكثر ويثبت البيع، وهو الذي يأتي على المشهور من قول ابن القاسم أن المحبوسة بالثمن حكمها حكم الرهن. الرابع: أن البائع مصدق مع يمينه في تلفها وتلزمه قيمتها، إلا أن تكون أقل من الثمن فلا يصدق، لأنه يتهم أن يدفع إليه القيمة ويأخذ الثمن وهو الأكثر، إلا أن يصدقه المبتاع فتكون بالخيار أن يصدقه فيأخذ القيمة ويدفع إليه الثمن، وإن كان أكثر أو لا يصدقه وينقض البيع. وهذا القولان على قياس القول بأن مصيبة المحبوسة بالثمن مصيبتها من المبتاع إذا قامت البينة على تلفها كالرهن. انتهى. ونقل غيره عن مالك قولاً بالتفصيل، لأنه قال في مختصر ما ليس في المختصر: إن كان المشتري من أهل البلد وهو موسر فالمصيبة من البائع، وإن كان غريباً أو ليس بموسر فالمصيبة من المشتري. وقوله: (خاصة) عائد على ابن القاسم، أي: أن ابن القاسم انفرد به دون أصحاب مالك كما قاله سحنون. وجعله ابن عبد السلام عائداً على المحبوسة لا إلى ابن القاسم،

قال: لأن ابن القاسم لم ينفرد به، بل هو أحد قولي مالك في المدونة. قال: وكذلك المحتبسة لأجل الإشهاد عند المتأخرين. فرع: إذا بقيت السلعة بيد البائع على سبيل المساكنة فاختلف المتأخرون، هل تلحق بالمحبوسة بالمثمن، أو بالوديعة؟ على قولين، بناء على وجوب التسليم بمجرد العقد حتى يتبين قصد احتباسها. والأصل: بقاؤها على ملكه، وإنما يرضى بتسليمها إذا قبض ثمنها. وقيل: يشترط مضي زمن يتسع للقبض. وقيل: بشرط تمكين البائع. وقيل: لا ينتقل إلا بالقبض كالشيء الغائب والمواضعة هذه الأقوال راجعة لصدر المسألة. أي: المشهور أن الضمان ينتقل بالعقد، وقيل: إنما ينتقل بالعقد بشرط مضي زمن يتسع فيه للقبض، حكاه المازري عن بعض الأشياخ. وقيل: بشرط تمكين البائع من القبض، وليس أخص من الذي قبله، لأنه قد يوجد تمكين البائع للمشتري من القبض إثر البيع قبل تمام الزمان الذي يتسع للقبض. وتصور الثالث ظاهر، وعزاه ابن رشد لأشهب، وحكاه أيضاً المازري عن بعض الأشياخ، وأنكره ابن دحون، ورد عليه ابن رشد بوجوده. وقوله: (كالشيء الغائب) أي: كما أن الشيء الغائب والمواضعة لا ينتقل ضمانها إلا بالقبض فكذلك هذا. وفي بعض النسخ: كالمستثنى والغائب، فيكون مراده بالمستثنى ما استثنى أولاً بقوله: (إلا فيما فيه حق توفية ...) إلى آخره. وليس ذكر المواضعة بيناً، لأن ضمان البائع فيها ينتهي بخروج الأمة من الحيض. بل الذي نقله الباجي أن الضمان ينتهي برؤية الدم، قال: لأن ابن القاسم [481/ب] في المدونة أجاز للمشتري برؤية الدم الاستمتاع.

وما ذكره المصنف من أنها في ضمان البائع إلى قبض المشتري، ابن عبد السلام: قد أنكر وجوده في المذهب بعض كبار الشيوخ وحفاظهم. وبنى على هذا الإنكار تخطئة ما يثبته الموثقون وغيرهم من الحكم على البائع بإنزال المشتري في الربع المبيع بطواف الشهود عليه. وقال: لو كان هذا لازماً للبائع لكان ذلك حق توفية، فيكون ضمان الدار المبيعة من بائعها حتى يقبضها المشتري. وأثبت بعضهم هذا القول في المذهب، ورأى أن القول بإنزال المشتري مبني عليه. وبالجملة فهو قول مختلف في ثبوته بين الشيوخ وأصول المذهب تأباه. والقبض في المكيل بالكيل، وفي المؤزون بالوزن، وفي المعدود بالعدد هذا هو القسم الثاني في صورة القبض وهو ظاهر. فرع: وهل أجرة الكيل على البائع أو على المشتري؟ في الموازية قولان: ابن شعبان: أجرة الكيل والوزن في المبيع على البائع، وفي الثمن على المشتري. عياض: وهذا موافق للقول أنه على البائع، إذ كل واحد منهما بائع لشيئه من صاحبه، وهو الأقرب. وفي اعتبار قدر المناولة قولان أي: إذا وزن أو كال فهل ينتقل بمجرد ذلك، بحيث لو أتلف حينئذ كان ضمانه من المشتري، أو لابد من اعتبار قدر المناولة؟ وأطلق الخلاف تبعاً للمازري وابن شاس. وزاد المازري ثالثاً: إن كان المشتري هو المتولي الكيل لنفسه فالضمان منه. وتبع ابن راشد، وابن عبد السلام هذه الطريقة. وقال في البيان: إن تولى البائع أو أجيره الكيل ثم سقط المكيال من يد البائع وقبل أن يصبه في وعاء المشتري، فلا خلاف أن ضمانه من البائع، وإنما الخلاف إذا تولى ذلك المشتري أو أجيره، فروى يحيي عن ابن القاسم أن مصيبته من

البائع، ورواه أشهب عن مالك. وقال سحنون في نوازله: إن مصيبته من المبتاع، وسواء كان المكيال من البائع أو المبتاع، إلا أن يكون المكيال هو الذي ينصرف به المبتاع إلى منزله ليس له إناء غيره، فيكون ضمانه ما فيه منه إذا امتلأ، كان له أو للبائع واستعاره منه المبتاع، قاله ابن وهب في رواية أبي جعفر عنه. وفي العقار التخلية أي: والقبض في العقار بالتخلية، أي: يخلي البائع بينه وبين المشتري ويمكنه التصرف فيه بتسليم المفتاح، وشرط الشافعية فيه تفريغة من أمتعة البائع. وبه فسر ابن راشد كلام المصنف وليس بظاهر، لأن المصنف إنما قاله: التخلية. وإنما يأتي ما قالاه لو قال: الإخلاء، بل يكتفي بالتسليم وإن لم يحصل الإخلاء، لأن مقتضى كلام اللخمي: أنه يكتفي في الدور بمجرد التسليم، قال: إلا في دار السكنى فلابد من إخلائها من الشواغل. وقد نص المصنف في الرهن على أن قبضه كقبض المبيع. وفي غيرهما العرف أي: والقبض في غير المثلي والعقار ما يعد في العرف قبضاً، كاختبار الثوب وإعطائه رسن الدابة. وإذا اختلفا في البداية أجبر المشتري، وقيل: يخليان، فمن سلم أجبر له الآخر هذا هو القسم الثالث وهو الإجبار عليه. ولا شك أن كلاً من المتبايعين يجب عليه تسليم العوض، فإن اختلفا، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض. وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض.

المازري: ولا أعرف فيها نصاً لمالك ولا للمتقدمين. ابن القصار: والذي يقوى في نفسي على المذهب أحد أمرين، جبر المشتري وهو مذهب أبي حنيفة، أو إعراض الحاكم عنهما، ومن تطوع منهما أجبر له الآخر، قال: وأن يجبر المبتاع أقوى. فأنت ترى كيف لم يجزم بشيء، والمصنف قد حكى الاحتمالين قولين وليس بجيد. وخرج عبد الحميد قولين، أحدهما: جبر المشتري من جبر الزوج على دفع الصداق قبل الدخول، لأن الزوج مشتر والمرأة بائعة. والثاني: تبدئة البائع من اختلاف المكتري وصاحب الدابة، فإنه قال في الأكرية من المدونة: يبدأ صاحب الدابة بالدفع، فكلما مضى يوم أخذ حصته من الكراء. ونقل بعض من تكلم على هذا المحل عن شيخه الزواوي: أنه كان يتعجب من احتياجهم إلى مثل هذا الاستقراء على ضعفه وفي المدونة ما هو نص أو كالنص على تبدئة المشتري، ففي كتاب العيوب منها: ومن اشترى عبداً فللبائع أن يمنعه من قبضه حتى يدفع إليه الثمن. وكذا قال ابن عبد السلام وزاد موضعاً آخر كهذا، وهو أنه قال في هبة الثواب: فأما هبة الثواب فللواهب منعها حتى يقبض العوض كالبيع. وقال القاضي إسماعيل: يدفع الثمن والمثمون إلى رجل فيدفع الرجل إلى كلًّ منهما ما يستحقه. وصحح المازري أن المتبايعين يخرج كل واحد منهما ما عنده ويمد يده إلى صاحبه، وإن تعذر هذا انتقلا إلى القرعة.

قال ابن القاسم: لا ضمان في الفاسد إلا بالقبض. وقال أشهب: أو بالتمكين، أو بنقد الثمن .... لما قدم ما ينتقل به الضمان في البيع الصحيح أخذ فيما ينتقل به الضمان في البيع الفاسد. وتصور كلام ابن القاسم ظاهر. وزاد أشهب شيئين آخرين للضمان، وهما: تمكين المشتري من السلعة، وإعطاء الثمن للبائع. وقال سحنون: إنما يضمن بعد العقد ضمان الرهان. [482/أ] والأظهر قول ابن القاسم، لأن المشتري إنما قبضه لحق نفسه على نحو ما يقبض المالك، ولم يقبضه للانتفاع بالمثمن كالرهن، ولا للانتفاع به مع بائقه كالعواري، ولا دخل به على احتمال رده كالخيار. ويقوم وقت ضمانه لا وقت العقد أي: أن المبيع فاسداً إذا فات ووجب ضمانه فيقوم في أول أزمته ضمانه، وهو يوم القبض عند الجميع، أو يوم التمكين، أو دفع الثمن عند أشهب. ابن راشد: وما ذكره المصنف هو المشهور. وقيل: يقوَّم يوم العقد. وقيل: يوم الفوت. واستعماله مطرح، إذ الخراج بالضمان أي: ما استغله المشتري من المبيع بيعاً فاسداً فهو له، ولو فسخ البيع ورد المبيع، وعلله بما ذكره. ولا ينتقل الملك فيه إلا بالقبض والفوات يعني: أنَّا وإن قلنا: الضمان في المبيع بيعاً فاسداً ينتقل بالقبض، فالملك لا ينتقل بذلك، بل لابد من ضميمة الفوات. وفي بعض النسخ: على المعروف، إشارة إلى ما ذهب إليه سحنون: أن الملك لا ينتقل بوجه في الحرام البين. وذهب ابن مسلمة إلى أن الفسخ بعد القبض استحسان، وظاهره أن العقد الفاسد إذا اتصل به القبض نقل الملك.

قال ابن القاسم في الحرام البين: المثل في المثلى والقيمة فيما سواه، وما كرهه الناس يمضي بالثمن، وقيل: بتعميم الأول .... نسب هذا لابن القاسم لاختصاصه به، أي: أن ابن القاسم فرق في الفاسد بين أن يكون حراماً صريحاً ثبت تحريمه بنص أو إجماع وشبه ذلك، وبين أن يكون مدركُ تحريمه قياساً وعموماً بعيداً، فالأول تلزم فيه القيمة في المقوم والمثل في المثلى، والثاني يمضي بالثمن، أي: يمضي بالثمن بعد الفوات، نص عليه في الجواهر. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنه يمضي بالعقد الأول ولا يرد، وليس بظاهر، لأن كلام المصنف ليس فيه ما يعطيه أنه يمضي بالعقد. وباشتراطه الفوات علم أنه لم يرد المكروه الذي هو مقابل المندوب، وإنما أراد ما جرت به عادة المتقدمين من إطلاق المكروه على نوع من الحرام. ولهذا أكد الحرام بالبين في القسم الأول. ومثل ابن القاسم المكروه بمن أسلم في حائط بعينه قد أزهى ويشترط أخذ ثمره، فإنه يفوت بالقبض. وقوله: (وقيل: بتعميم الأول) الذي هو الحرام البين، فيفسخ مطلقاً، فإن فات وجبت فيه القيمة إن كان مقوماً والمثل إن كان مثلياً، وهو قول ابن نافع وسحنون. وحكى اللخمي في المختلف فيه أربعة أقوال: قيل: يمضي بالعقد. وقيل: بالقبض. وقيل: بالفوات فيمضي بالثمن. وقيل: بالقيمة كسائر البياعات الفاسدة، وهو قول من لم يراعِ الخلافَ. فإن كان درهمان وسلعة تساوي عشرة بثوب فاستحقت السلعة وفات الثوب: فله قيمة الثوب بكماله على الأصح، ويرد الدرهمين لا قيمة نصفه وثلثه ..... يعني: فلو كان التعاوض بأن دفع رجل درهمين وسلعة تساوي عشرة دراهم وأخذ ثوباً فاستحقت السلعة من يد من أخذها، فحقه أن يرد الدرهمين ويرجع فيأخذ ثوبه،

لأنه لما استحق جل ما بيده انتقضت الصفقة كلها. لكن المصنف فرض فوات الثوب، وفواته بحوالة السوق فأعلى. وقوله: (فله) أي: مع الفوات قيمة الثوب كاملاً ويرد الدرهمين لصاحب السلعة، بناءً على أن الصفقة إذا استحقت جلها انفسخت كلها به، وهذا هو المشهور. وقيل: إنما له قيمة خمسة أسداسه في المثال المذكور، بناءً على صحة البيع فيما قابل الدرهمين لعدم استحقاقهما، لأنك قد علمت أن قيمة السلعة عشرة دراهم، فإذا أضفت إليها الدرهمين كانت نسبتهما من الجميع السدس، فيمضي البيع في سدس الثوب، فلو كانت قيمته خمسة عشر مثلاً قاصه بدرهمين ويرجع بثلاثة عشر على المشهور، وعلى مقابله باثني عشر ونصف. فلو كانت قيمته تسعة رجع على المشهور بسبعة وقاصه بدرهمين، وعلى مقابله بسبعة ونصف. أما لو كانت قيمته اثني عشر كعوضه، رجع بعشرة اتفاقاً ويقاص بدرهمين على المشهور ويملكها على مقابله بغير مقاصة. وزعم ابن عبد السلام أن قوله: (لا قيمة نصفه وثلثه) لا يريد به خصوصية هذه المسألة، لاستحالة أن تكون السلعة ثلثاً ونصفاً، وإنما مراده: لا قيمة ثلثه إن كانت السلعة ثلث الصفقة كما لو كانت تساوي درهماً واحداً، ولا قيمة نصفه كما لو كانت تساوي درهمين وهذا ليس بظاهر، لما ذكرناه. والفوات بتغيير الذات، وتغيير السوق، والخروج عن اليد بالبيع الصحيح، وتعلق حق الغير بها كرهنها أو إجارتها لما ذكر أن الملك ينتقل بالفوات ذكر له أربعة أسباب، الأول: تغيير الذات. الثاني: تغيير السوق. الثالث: الخروج عن اليد ببيع أو هبة أو صدقة أو عتق. وليس تخصيص المصنف البيع بظاهر. والرابع: تعلق حق الغير بها كما ذكرنا.

وظاهر كلامه يقتضي أن تغير الذات يفيت المثلي، وقاله ابن شاس. والذي في اللخمي والمازري وابن بشير: أنه لا يفوت، لأن المثل يقوم مقامه. ويعتبر فوات الغرض المقصود فتفوت الدار بالهدم والبناء أي: ويعتبر في التغيير الموجب للفوات أن يكون ذلك التغيير مفيتاً للمقصود، ولا شك أن التغيير على هذا الوجه مفيت، ومفهومه: أن العيب الذي لا يفيت الغرض ليس [482/ب] بفوت، وظاهر النقول خلافه، ففي المدونة: ومن اشترى أمة بيعاً فاسداً فولدت عنده ثم مات الولد فذلك فوت. وقال اللخمي: تغيير المبيع في نفسه بزيادة أو نقص مفيت وأطلق. وقوله: (فتفوت الدار بالهدم) قال في البيان في باب جامع البيوع: إن الحائط في البيع الفاسد لا يفوت بالبناء اليسير. قال في العتبية: ويكون على ربِّ الحائطِ إذا رُدَّ إليه ما أنفق في بينان جدار أو حفر بئر. وقيل: قيمة ما أنفق. والأرض بالغرس وقلعه قال في الجواهر: وكذلك حفر الآبار وشق العيون، ولا شك أن هذا مفيت. وقسمها أصبغ في العتبية على ثلاثة أقسام: فقال فيمن اشترى أرضاً بيضاء شراء فاسداً فقبضها فغرس حولها شجراً حتى أحاط بالأرض وعظمت في ذلك المئونة وبقي أكثرها بياضاً: أنه فوت لجميعها، وإن كان إنما غرس ناحية من الأرض فاتت تلك الناحية. وإن كان إنما غرس يسيراً لا بال له رد جميعها وكان على البائع للغارس قيمة غرسه. ابن محرز والمازري: والصواب أن يكون له قيمتها قائمة، لأنه غرسها بشبهة. وخرج بعضهم قولاً بأنه يأخذ ما أنفق، وجعل في البيان الناحية التي تفوت بالغرس أن تكون قيمتها ثلث المجموع أو ربعه. وعلى هذا فيكون اليسير الذي لا يفوت به ما دون الربع يسقط.

ونقل في البيان قولاً آخر في الغرس في الناحية: أن البيع يفسخ في الأرض كلها، فيبطل عن المبتاع جميع الثمن إن كان لم يدفعه، ويرد إليه جميعه إن كان دفعه، وعليه قيمة الناحية التي فوت بالغرس بالغة ما بلغت، وهذا القول قائم من الدمياطية لابن القاسم، واحترز بالغرس من الزرع فلا يكون فوتاً، قاله ابن القاسم. قال ابن المواز: فإن فسخ في إبان الزراعة لم يقلع وعليه كراء المثل، وإن فسخ بعد الإبان فلا كراء عليه. فلو باعه قبل قبضه فقولان أي: فلو باع المشتري المبيع بيعاً فاسداً بيعا صحيحاً، فإن كان البيع بعد قبض المبيع فات، وإن كان قبله فهل يفوت؟ قولان لمالك في الموازية. عياض: واختلفوا في حمل المدونة عليها، لا يختلفوا أنه لو علم بالفساد ثم باعها قصداً للتفويت أن بيعه غير ماض. وقوله: (باعه) ثانياً أي: بيعاً صحيحاً، وأما الفاسد فلا أثر له. ابن عبد السلام: وما قاله عياض إنما يتم إذا كان المشتري منه واطأه على قصد التفويت، وأما إن لم يقصده فلا يبعد أن يختلف فيه على أن بعضهم أشار إلى وجود الخلاف فيه نصاً. ووقع في الرواية: أن المشتري إذا قصد إلى تفويته بالبيع من غيره، فإنه لا يفوت بذلك إلا العتق. انتهى. وفي اللخمي: البيع الصحيح يفيت البيع الفاسد وإن قصد بذلك التفويت. فانظره مع كلام عياض.

وتغير السوق يعمل في الحيوان والعروض دون العقار، وذوات الأمثال من المكيل والموزون من المعدود، وقيل: في الأربعة كغيره .... يعني: أن تغير السوق بزيادة أو غيره أو نقص يعمل، أي: يفيت الحيوان والعروض باتفاق، ولا يعمل في العقار وذوات الأمثال على المشهور. وقال ابن وهب: يعمل أيضاً فيهما، وإليه أشار بقوله: وقيل في الأربعة كغيره، لأنه أراد بالأربعة العقار، وثلاثة أنواع: المثلى المكيل، والموزون، والمعدود. وفرق للمشهور بأن غالب شراء العقار للغنية، فلا يطلب فيه كثرة الثمن وقلته بخلاف غيره، وبأن الأصل في ذوات الأمثال القضاء بالمثل والقيمة كالفرع، فلا يعدل إليها مع إمكان الأصل. وفي بيعه قبل قبضه قولان أي: وفي بيع المذكور وهو العقار وذوات الأمثال، وهما القولان المتقدمان. وكرره، لأنه لما لم يعمل فيها تغيير السوق فلا يتوهم لأجل ذلك لا ملك يعمل فيه تغير، فلا يخاف أن يتهم أنه يعمل فيها غيره من المفوتات، على أن الظاهر أن مراده بهذا خلا ف الأول، ويتضح لك ذلك بما قاله في الجواهر، فلو باع ما اشتراه شراء فاسداً فقد رأى المتأخرون في نفوذ المتأخرون في نفوذ البيع له وهو في يد بائعه قولين، قالوا: وكذلك عكسه، وهو أن يبيع البائع ما باعه بيعاً فاسداً بعد قبض من اشتراه الشراء الفاسد. وجعلوا سب الخلاف كون البيع الفاسد هل ينقل شبهة الملك أم لا؟ انتهى. فيحمل كلامه في هذا الفرع على الفرع الثاني الذي في ابن شاس، وقد حكى ابن بشير هذا الخلاف أيضاً. وفي طول الزمان في الحيوان قولان أي: وفي مجرد الطول فقط. والقول بأنه يفيت مذهب المدونة، القول الآخر ذكره ابن شاس. وعلى المشهور فذكر فيها في العيوب أن مرور الشهر فوت، وذكر في السلم أن

الشهرين لا يكون فوتاً، وحمله اللخمي على الخلاف، ورأى المازري أنه ليس بخلاف وإنما هو اختلاف شهادة. تنبيه: سكت المصنف عن الطول في غير الحيوان، أما العقار، فقال في البيان: واختلف قول ابن القاسم في طول الزمان هل هو فوت في الأرضين والدور أم لا؟ والقولان في كتاب الشفعة من المدونة نص في موضع منها أن طول الزمان فوت، وفي موضع آخر أن الستين والثلاث ليس بفوت، فدل أن طول الزمان فوت. ونص اللخمي والمازري أن مالكاً وابن القاسم قالا: لا يفيتها الطول. قالا، وقال أصبغ: [483/أ] إلا أن يكون الطول عشرين سنة، فإن هذا لابد أن يدخله التغيير في بعض الوجوه والبلاد. وأشار المازري إلى أن ما ذكر أصبغ لا يخالف فيه، والرواية المذكور فيها: أن مجرد الطول لا يفيت، إنما أطلقت على أن طول الزمان لم يغير عينها. وأما العروض، ففي المدونة: لا يفيتها الطول، إذ لم تتغير في نفسها ولا حال سوقها. وذكر ابن راشد أن طول الزمان في العروض مفيت، قال: لسرعة التغيير فيها. ونقل العروض والمثلي من بلد إلى بلد بتكلف أو إجارة، ووطء الأمة كتغير السوق .... أي: فيفيت غير المثلي ولا يفيت المثلى على المشهور، وهذا ظاهر كلامه وفيه نظر، لأن الذي نقله المازري وغيره: أن نقل العروض والمثلي مفيت، ولم أر خلافه. وتقييده بتكلف وإجارة يخرج الحيوان الذي ينتقل بنفسه فلا يكون نقله فوتاً. قال المتأخرون: إلا في خوف الطريق وأخذ مكترٍ عليه، فلذلك فوت لما فيه من الضرر. ونبه بقوله: (بتكلف أو إجارة) على وجه إلحاقه بتغير السوق، وهو ما يلحق من زيادة فيها.

وما ذكره المصنف من وطء الأمة هو في الموازية لابن القاسم، ووجهه: أنه يفتقر إلى إيقافها إلى الاستبراء، ويمنه السيد من التصرف فيها بالبيع والوطء وغيره، فيلحق البائع الأول الضرر. اللخمي: ولم يجعل ابن القاسم الغيبة عليها فوتاً ولا يعلم الوطء إلا بذلك، فإن قال: وطئتها، صدق. فإن قال: لم أصبها وصدقه البائع، ردت ووقفت للاستبراء، وإن كذبه وكانت من العلي لم ترد، وإن كانت من الوخش فالقول قوله: أنه لم يصب، وردت ولم توقف. ولو ارتفع السبب قبل الحكم بالفوات، فإن كان بتغير سوق ثم عاد لم يرتفع، وفي ارتفاعه بالبيع ثم يرجع، وبالعتق والتدبير ثم يرده الغريم، وبالإجارة والرهن والعيب ثم يزول قولان لابن القاسم وأشهب أي: إذا وقع البيع فاسداً وحصل هنالك مفيت من الأنواع المفيتة، ثم ارتفع ذلك المفيت قبل أن يحكم القاضي بعدم الرد، وأما لو حكم لمضى اتفاقاً. فإن كان المفيت تغير سوق ثم زال، فإنه يقدر كأن التغيير حاصل، وإليه أشار بقوله: (لم يرتفع) إلى الفوات. وإن كان غيره- كما ذكر المصنف- فقال ابن القاسم: يرتفع الفوات ويكون له الرد. وقال أشهب: لا يرتفع كحوالة الأسواق. وفرق لابن القاسم بوجوه، أولها: أن السوق الثانية غير الأولى بخلاف البيع، فإن البيع إذا رجع فهو الأول بعينه قطعاً. ورده المازري بأن المعتبر وقوع السبب وهو البيع لا السوق، فلا فرق بين سوق تغيرت ثم عادت، أو سلعة بيعت ثم عادت. ثانيها لأبي عمران: أن حوالة الأسواق تغير في عين السلعة، لأن المقصود ثمنها. وأما خروج السلعة من يد المشتري فليس بتغير، وإنما هو لأجل أن يد المشتري فيه حائلة، فإذا زالت انتقض. المازري: وهو قريب من الأول.

ثالثها: لصاحب النكت وابن يونس: بأن تغير السوق ليس من سببه فلا يتهم بخلاف غيره. ورده المازري: بأنه فرض المسألة في المدونة فيما إذا عادت بميراث، ولا تهمة فيه مع أنه ساوى بينه وبين ما إذا عادت بشراء. وتلف المبيع البت بسماوي وقت ضمان البائع يفسخ العقد لما تكلم على الضمان في الصحيح والفاسد تكلم فيما يتعلق به من تلف أو استحقاق، أي: من اشترى شيئاً فهلك بسماوي، أي: تلف بأمر من الله لا صنع لآدمي فيه وقت ضمانه من بائعه، فإن البيع ينفسخ وإلا لم يكن لضمانه فائدة. واحترز بالبت من الخيار، وسيأتي. ودخل في قوله: (وقت ضمان البائع) المحتبسة للثمن، والإشهاد، والبيع المحتاج إلى توفية، والثمار المشتراة بعد بدو صلاحها. ولا يقال: يرد عليه تلف المبيع بخرجه، لأن البيع في السلم ليس هذا هو، وإنما هو الضمان في الذمة. وتعييبه يثبت الخيار يصح أن يقرأ بالغين المعجمة، أي: إذا غيبه البائع، وقال: هلك، يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع عن نفسه، لأنه لم يتمكن من المبيع. والفرض أن ضمانه من بائعه وفي التماسك به، ويطلب البائع بمثله إن كان مثلياً أو قيمته، وذلك بعد يمين البائع أنه هلك، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد السلام. ويحتمل أن يقرأ بالعين المهملة وهو ظاهر، وهو الذي قاله ابن راشد وغيره ممن تكلم على هذا الموضع، والمعنيان صحيحان. وتلف بعضه أو استحقاقه كرده بعيب، إلا أنه لا يلزمه باقي جله بحصته على المشهور للجهل بالثمن أي: وتلف بعض المبيع واستحقاقه، يريد: والبعض المستحق معين، لأن الشائع له حكم سيأتي، كرد البعض بعيب فينظر في الباقي بعد التلف والاستحقاق، فإن كان وجه

الصفقة- أي: أكثر من الصنف- لزمه الباقي بنسبته من الثمن، وإن كان التالف أو المستحق هو الجل، فقال المصنف: لا يلزمه باقي جلِّه على المشهور، أي: لا يجوز له التمسك بالباقي خلافاً لابن [483/ب] حبيب. هكذا الخلاف لا ما هو ظاهر كلام المصنف، ولهذا اعترض عليه ابن راشد، ولعل المصنف اكتفى بقوله: (للجهل بالثمن) لأنها علة تقتضي المنع، فرأى في المشهور أن البيع قد انحل بتلف جله أو استحقاقه، فتمسك المشتري بباقية كإنشاء عقدة بثمن مجهول، إذ لا تعلم نسبة الجزء الباقي إلا بعد تقويم أجزاء المبيع على الانفراد ونسبة كل واحد من تلك الأجزاء المعينة من مجموع الصفقة. ورأى ابن حبيب أن هذه جهالة طرأت بعد تمام العقد فصارت بمنزلة الجهالة الطارئة إذا اطلع على عيب بالمبيع، وبناه على أحد قولي ابن القاسم في جواز جمع الرجلين سلعتهما في البيع. والذي علل به ابن حبيب هو الأول، وقال: يجوز له أن يتمسك بباقي الصفقة، لأنه بيع قديم، ثم قال: بخلاف من باع عبداً أو جارية- وهي الصفقة- فهلكت في المواضعة، فلا يجوز التمسك بالعبد، لأنه بيع لم يتم. بخلاف المثلي فيهما، فإنه يلزم بحصته إلا أن يكون جله فللمشتري الخيار أي: في التلف والاستحقاق، فإنه إن كان التالف أو المستحق نصف الصفقة فأقل، لزمه الباقي بما يخصه من الثمن. ولا مخالفة للمثلي في هذا الوجه للمقوم، وإنما يخالفه في قوله: (إلا أن يكون جله فللمشتري الخيار) أي: في التمسك بالباقي بحصته، أو فسخ العقد عن نفسه ولا يكون كالمقوم. والفرق بينهما: أن ما ينوب المثلي من الثمن معلوم بخلاف المقوم. واعترضه ابن عبد السلام بأن كلامه يقتضي أن لا خيار له في المثلي باستحقاق النصف وليس كذلك،

بل قال ابن القاسم: يخيره في الثلث فأكثر. وأشهب: لا يخيره فيه ولا في الجل، فإنه لا يرى الخيار في المثلي بالجل ولا ما دونه، ويلزمه الباقي بما ينوبه من الثمن. خليل: وقيل إنما يخير في الطعام بالنصف. وفي ابن يونس: يخير فيه بالربع، فقال: جعلوه مخيراً إذا وجد ربع الطعام معيباً كالكثير من العروض، فإذا وجد ربع الطعام معيباً، لم يكن للمبتاع إذا وجد ربع الطعام معيباً كالكثير من العروض، فإذا وجد ربع الطعام معيباً، لم يكن للمبتاع رد المعيب وأخذ السالم إلا برضى البائع، لكمال حاجة الناس إلى الطعام فجعل له مزية، كما ضمنه الحمالون ونهى عن بيعه قبل قبضه، بخلاف العروض. وفي البيان: وجود العيب بالطعام على خمسة أوجه: أحدها: أن يكون العيب مما لا ينفك عنه الطعام كقيعان الأهراء. الثاني: أن يكون العيب مما ينفك عنه إلا أنه يسير لا خطب له. الثالث: أن يكون ذلك كالربع والخمس. الرابع: أن يكون ذلك كالثلث والنصف. الخامس: أن يكون أكثر من الصف. فأما إن كان العيب مما لا ينفك عنه كقيعان الأهراء، فإنه يلزم المشتري ولا يوضع عنه لذلك شيء من الثمن، وإن كان مما لا ينفك عنه إلا أن يسير لا خطب له، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن فذلك له بلا خلاف. وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم بحصته من الثمن فليس له ذلك على ما في المدونة، وكذلك على رواية يحيي عن ابن القاسم، وأما إن كان ذلك كالربع والخمس، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن فذلك له بلا خلاف. وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم بحصته من الثمن فليس له ذلك.

وأما إن كان ذلك والنصف، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري ذلك بحصته من الثمن، فليس له ذلك على قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وله ذلك على قول أشهب واختاره سحنون، وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم بحصته من الثمن فليس له ذلك بلا خلاف. وأما إن كان ذلك أكثر من النصف، فليس للبائع أن يلزمه للمشتري السالم بحصته من الثمن، ولا المشتري أن يلتزمه إلا برضاهما. انظر ما حكاه في الربع من الاتفاق على أن للبائع أن يلزم المشتري السالم بحصته، فإنه خلاف ما حكاه ابن يونس، وقاله أبو الحسن. خليل: وروى ابن يونس قوله في المدونة في باب القسم: ومن اشترى مائة إردب قمحاً فاستُحق منها خمسون خير المبتاع بين أخذ ما بقي بحصته من الثمن أو رده، فإن أصاب بخمسين إردباً منها عيباً أو بثلث الطعام أو بربعه، فإن له أخذ الجميع أو رده. فائدة: لهم ثلاث مسائل: مسألة: لا يجوز التمسك فيها بباقي الجل، وهي المسألة التي خالف فيها ابن حبيب. ومسألة: يلزم التمسك فيها بباقي الجل، وهي ما في الجائحة. ومسألة: يخير فيها، وهي باقي العيب. والجزء المشاع يستحق فإنه يخير مطلقاً يعني: وأما إذا استُحق جزء شائع فإنه يخير مطلقاً، سواء كان الجزء يسيراً أو كثيراً، لضرر الشركة. وكل ثوب ونحوه بدرهم لغو، فالقيمة أي: لو وقع العقد على سلع متعددة وسميا لكل سلعة جزءاً من الثمن، كمن اشترى ثمانية أبواب بثمانية دنانير وسميا لكل ثوب ديناراً ثم استُحق واحد منهما، فالتسمية لغو ولابد من الرجوع إلى القيمة، لأنه قد يكون أحدهما أردأ.

وقسم في البيان في الأكرية هذه المسائل على ثلاثة أقسام، فقال: إن خالفت التسمية القيمة وشرط الرجوع بها لا بالقيمة عند الاستحقاق ونحوه، فلا خلاف أن البيع فاسد. وإن شرطا الرجوع إلى القيمة فلا خلاف أن البيع جائز. وإن دخلا على السكوت، فقال ابن القاسم ورواه عن مالك: التسمية لغو والبيع [484/أ] صحيح. وقاله سحنون، وأصبغ، وروى ابن القاسم أيضاً: أن مراعاة التسمية فاسد. وإتلاف المشتري قبض هذا قسيم ما تلف بسماوي، أي: إذا أتلف المشتري ما اشتراه وهو في ضمان البائع فهو كقبضه له فيلزمه الثمن. وحكى ابن عبد السلام الاتفاق على ذلك، سواء علم أنه المبيع أم لا، سلطه البائع عليه أو لا. وإتلاف البائع والأجنبي يوجب الغرم أي: من باع سلعة ثم أتلفها هو أو أجنبي قبل قبض المشتري لها، فإن ذلك الإتلاف يوجب الغرم، ولم يبين المصنف ما يغرم، وصرح في الجواهر: يغرم القيمة في حق البائع والأجنبي. وفي اللخمي في كتاب العيوب تفصيل، فقال: إن هلكت خطأً فسخ البيع ولا شيء للمشتري ولو كانت القيمة أكثر من الثمن، وإن هلكت عمداً أو كانت القيمة أكثر غرم البائع فضل القيمة عن الثمن. فإن اختلف الثمن والقيمة في الجنس كان المشتري بالخيار بين أن يفسخ البيع عن نفسه أو يدع الثمن الذي اشترى به ويرجع بالقيمة. وعلى القول بأن المصيبة من المشتري يكون العمد والخطأ سواء، وعلى المشتري الثمن وله القيمة، فمن كان له فضل أخذه. قال: وإن أهلكه أجنبي خطأً أو عمداً فعليه الأكثر من القيمة أو الثمن، لأنه أبطل على البائع الثمن الذي له في ذمة المشتري، هذا على القول

بأن الضمان من البائع، وعلى القول الآخر تكون القيمة للمشتري على الجاني وعليه الثمن للبائع. خليل: وهذا إنما هو في المحتبسة. وكذلك تعييبه أي: تعييب المبيع كإتلافه، فيفضل فيه بين البائع والمشتري والأجنبي كما تقدم. وإتلاف المشتري والأجنبي الطعام المجهول كيله يوجب القيمة لا المثل أي: من اشترى طعاما على الكيل فأتلفه المشتري أو الأجنبي قبل معرفة كيله فالواجب فيه القيمة، وتبع في هذا ابن بشير، وفصل المازري فجعل هذا في الأجنبي فقط، وأما المشتري، فقالوا: يعد بإتلافه قابضاً لما يتحرى فيه من المكيلة. وفي المدونة: وإن ابتعتها على كيلٍ كلُّ فقيزٍ بكذا فهلكت قبل الكيل بأمر من الله تعالى، كانت من البائع وانتقض البيع. وإن هلكت بتعدي البائع أو أفاتها بيع فعليه أن يأتي بمثلها تحرياً يوفيها على الكيل، ولا خيار لك في أخذ ثمنه أو الطعام. ولو أهلكها أجنبي غرم مكيلتها إن عرفت وقبضت على ما اشتريت، وإن لم يعرف كيلها أغرمناه للبائع قيمتها عيناً، ثم ابتعنا بالقيمة طعاماً مثله ووفيناكه على الكيل. قيل: وإنما ألزم البائع مثلها تحرياً والأجنبي قيمتها، لأنه لو ألزم الأجنبي المثل لما أمن من التفاضل بين الطعامين، وقيل: لأن الغالب في البائع علم المكيلة، فلو التزم القيمة لكان البائع قد يربح. ابن يونس: قال بعض أصحابنا: فإذا رغم الأجنبي تلك الصبرة فاشترى مثلها، فإن فضلت فضلة لرخص حدث فالفضلة للبائع، لأن القيمة له إن غرمت، ألا ترى أن المتعدي لو أعدم أو ذهب فلم يوجد كانت المصيبة من البائع، فلما كان عليه التوابع كان له النماء. والمشتري إذا أخذ مثل صبرته التي اشترى لم يظلم، وإن لم توجد بالقيمة إلا أقل كان ما نقص كالاستحقاق، فإن كان كثيراً فللمشتري فسخ البيع، وإن كان يسيراً أسقط عنه حصته.

ابن أبي زمنين: والذي يدل عليه لفظ الكتاب أن البائع هو الذي تولى الشراء بالقيمة، وقيل: إن المتولي هو الأجنبي المتعدي. وحكى ابن بشير أنه على المشتري. قوله: (لا المثل) أي: ليس عليهما غرم المثل، إذ الجزاف مقوم لا خصوصية للطعام، بل كذلك كل جزاف بيع على الكيل. ولا ينفسخ على الأصح ظاهر كلامه أن القولين في الصورتين، أي: سواء كان التلف من المشتري أو الأجنبي، والخلاف إنما هو في الأجنبي، ففي المدونة: يفسخ كما تقدم. وقال أشهب: لا يفسخ. وأما إن كان المشتري هو المتلف فقد يحمله على إتلافها قبل الكيل استغلاؤها فيستهلكها لتلزمه القيمة ويسقط عنه الثمن، فلا يمكن من الفسخ لذلك. والضمان في الخيار من البائع فيما لا يغاب عليه، ومن المشتري إذا كان بيده ما يغاب عليه، ويصدق المشتري مع يمينه ما لم يظهر كذبه .... قد تقدمت هذه المسألة مع نظائرها، أي: سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما، أو لأجنبي. هذا راجع إلى قوله: (وتلف المبيع البت بسماوي). قوله: (ويصدق المشتري) أي: فيما لا يغاب عليه إذا ادعى هلاكه مع يمينه. واختلف هل يحلف المتهم وغيره، أو المتهم فقط ما لم يظهر كذبه، كدعواه موت العبد والدابة في حاضرة وله جيران لا يعلمون ذلك، فإنه يصدق ولا يحلف، لأنَّا إنا نحلفه إذا لم يضمن. إلا أن يقبض المشتري ما يغاب عليه إلا أن تقوم له بينة الاستثناء الأول منفصل، لأن ما تقدم فيما لا يغاب عليه، وهو مخالف لما يغاب عليه. ويحتمل الاتصال، لأن قوله: (ويصدق المشتري مع يمينه) عام أخرج منه ما يغاب

عليه، أي: أن المشتري يصدق مع يمينه إلا في قبض ما يغاب عليه، فلا يصدق فيه مع يمينه، وهذا هو المشهور. وقال ابن نافع: إذا كان الخيار للبائع فضمان المبيع منه مطلقاً. وفي المازري: إذا كانت في يدي البائع فضمانها منه مطلقاً كان الخيار له أو للمشتري أو لهما [484/ب] معاً، وإن كانت بيد المبتاع والخيار له، فإن المذهب: يضمن ما يغاب عليه إلا ببينة. ابن راشد: إن كانت في يده والخيار للبائع، فالمشهور أن المبتاع ضامن. وذهب ابن كنانة إلى أن الضمان هنا من البائع أشهر. ونقل اللخمي عنه أن الضمان من مشترط الخيار. وأما الاستثناء الثاني وهو قوله: (إلا أن تقوم له بينة) فمتصل بلا شك، أي: أنه لا يصدق إلا إذا قامت له بينة. ابن عبد السلام: انظر هل يدخل خلاف أشهب المذكور الذي في الرهن والعارية وأنه لا يبرأ وإن قامت بينة؟ خليل: أشار اللخمي وابن راشد وغيرهما إلى تخريج قوله هنا. فإذا غاب عليه المشتري والخيار للبائع، ضمن الأكثر، إلا أن يحلف فيضمن الثمن، وقال أشهب: الأكثر .... فإن غاب المشتري على ألا يغاب عليه والخيار للبائع، فقال ابن القاسم: يضمن المشتري الأكثر من الثمن والقيمة، لأنه إن كان الثمن أكثر مضى البيع، وإن كانت القيمة أكثر رد، إلا أن يحلق المشتري أنه لم يتلف المبيع ولقد هلك بغير سببه، فيلزمه الثمن. وقال أشهب: يضمن الأكثر مطلقاً، ولم يقبل اليمين وهو الأظهر.

وإن كان الخيار للمشتري ضمن الثمن، وقال أشهب: الأقل ويحلف أي: فإن كان الخيار للمشتري والمسالة بحالها، فقال ابن القاسم: يضمن المشتري الثمن، لأنه يعد راضياً بتعييب المبيع. وقال أشهب: هذا إذا كان الثمن أقل، وإن كان أكثر ولم يحلف على ضياع المبيع فكذلك، وإن حلق على ضياعه وأنه لم يرض بالشراء فليس عليه إلا القيمة. تنبيه: وقع في بعض النسخ: أو الأقل بإثبات أو وليست بجيدة، لأن الأقل هو الأقل من الثمن أو القيمة، وكيف يعطف الأقل على الثمن. وإذا غاب عليه البائع والخيار للمشتري ضمن الثمن. وقال أشهب: أو الأقل ويحلف .... أي: إذا لم يقبض المشتري المبيع وهو مما يغاب عليه، أو قبضه ورده للبائع والخيار للمشتري فادعى البائع تلفه، فإنه يضمن للمشتري الثمن ويصير كمن استهلك سلعة وقفت على ثمن. وقال أشهب: إذا حلف البائع أنه لم يتلف المبيع فيضمن الأقل. هكذا قال المصنف، وصوابه أن يقول، وقال أشهب: الأكثر، وهكذا قال اللخمي. ابن راشد: هو فساد في الأصل ووجهه ظاهر، لأنه إذا كان الثمن أكثر فالبائع قد أتلف ما يقابله، وإن كانت القيمة أكثر فالبائع يتهم في إتلافها لاسترخاصها. والخيار للبائع واضح أي: إذا صار بيد البائع والخيار له فغاية الأمر أنه تصرف فيه اختياراً، وذلك رد للبيع.

فلو اشترى أحد ثوبين وقبضهما ليختار أحدهما والخيار له: فأحدهما مبيع وهو في الآخر أمين، وقيل: إلا أن يكون سأل في إقباضهما. وقال أشهب: ليس بأمين .... أي: إذا اشترى ثوباً من ثوبين وقبضهما ليختار واحداً منهما إن شاء، وإن شاء ردهما فليس له أن يتمسك إلا بواحد منهما، فيضمن أحدهما بالاتفاق، لأنه بيع على خيار، واختلف في الآخر على ثلاثة أقوال، مذهب ابن القاسم وهو المشهور: أنه فيه أمين، لأنه مقبوض على أن يرد على صاحبه. والثاني له أيضاً في الموازية: وإن لم يسال في الإقباض فكالأول، وإن سأل البائع ضمنهما، واختار محمد الأول. والثالث لأشهب في الموازية، وقال: ضامن لهما، لأن كل واحد منهما يمكن أن مبيعاً. فإن ادعى ضياعهما، فعلى المشتري ضمان واحد بالثمن لا غير، وقال أشهب: يضمنهما أحدهما بالثمن أو الأقل، والآخر بالقيمة .... هذا تفريع الأقوال، وبدأ بالتفريع على الأول لأنه المشهور، أي: فعليه أن يضمن واحداً بالثمن كما تقدم، ولا ضمان عليه في الثاني لأمانته فيه. وعلى قول أهب يضمنها، أحدهما: بالقيمة لكونه غير مبيع، ويضمن الآخر بالأقل من الثمن أو القيمة، لأنه إذا كان الخيار له قادر على أن يلزمه بالثمن أو يريده، فيضمنه بالقيمة بعد حلفه. وقوله: (بالثمن أو الأقل) يريد بالثمن إن كان أقل، أو بالقيمة إن كانت أقل، ولو أسقط بالثمن واكتفى بالأقل لكان أحسن. ولم يفرع المصنف على القول بالتفرقة لوضوحه، لأنه إن سأل فكقول أشهب وإلا فكالمشهور.

وإذا ادعى ضياع أحدهما، فعلى المشهور: يضمن نصف ثمن التالف، وله أن يختار كل الباقي. وقال محمد: لا يختار إلا نصفه. وعلى قول أشهب: إن أخذ الباقي أخذه بالثمن والتالف بالقيمة، وإن رده فعليه للتالف الأقل من الثمن أو القيمة .... أي: فإذا كانت المسألة بحالها ولكن ادعى المشتري ضياع أحدهما لا جميعهما، فعلى المشهور: يكون الضياع نصفه مبيعاً ونصفه الآخر هو فيه أمين، فيلزمه نصف الثمن الضائع، واتفق ابن القاسم ومحمد على هذا، ثم اختلفا، فقال ابن القاسم: له أن يختار جميع الثوب الباقي لضرر الشركة. وقال ابن المواز: ليس له أن يختار إلا نصف الباقي، إلا أن يرضى البائع. قال: لأنه لم يبعه ثوباً ونصفاً وإنما باعه ثوباً واحداً، ونسب المصنف هذا القول لمحمد. والذي في ابن يونس عن الموازية: أن السالم بينهما والعيب بينهما وعليه نصف ثمن كل منهما. وعلى قول أشهب: إن أخذ الباقي كان عليه بالثمن، والتالف بالقيمة، لأن البيع لم يتم فيه، وإن رده فعليه التالف بالأقل من الثمن أو القيمة على ما [485/أ] تقدم فوق هذا. ولو اشتراهما والخيار له فيهما أو في أحدهما، فكلاهما مبيع أي: اشترى الثوبين معاً على أنه بالخيار فيهما بين أن يردهما أو يمسكهما معاً، أو اختار أحدهما دون الآخر، فجميع الثوبين مبيع. فإن ادعى ضياعهما والخيار له فيهما فيلزمه ثمنهما عند ابن القاسم ويلزمه الأقل عند أشهب، وإن كان الخيار في أحدهما والثاني لازم وادعى ضياعهما معاً، لزمه قيمتهما عند ابن القاسم وثمن أحدهما، والأقل في الآخر عن أشهب كما تقدم. واقتصرنا على هذا القدر في هذه المسالة قصداً لحل كلام المصنف، وإلا فالمسالة في كتاب الأصحاب أوسع من هذا.

وإن جنى البائع والخيار له عمداً، فرد. وقال أشهب: كالخطأ يعني: من باع عبداً أو غيره على خيار فجنى عليه البائع عمداً ولم تتلفه الجناية، فقال ابن القاسم: ذلك رد للبيع كسائر الأفعال الدالة على الفسخ. وقال أشهب: لا تكون جنايته عمداً دليلاً على الرد، لأن البائع إذا كان الخيار له قادر على الرد مع السلامة، فرده المبيع بواسطة العيب لا يقدر من عاقل وهو الظاهر، وهذا المعنى هو الذي أراد المصنف بقوله: (كالخطأ). وإن تلفت انفسخ أي: تلفت السلعة بالجناية انفسخ العقد على القولين، لذهاب عين المعقود عليه. وإن جنى البائع خطأ، فللمشتري خيار العيب أي: ولو كانت المسالة بحالها إلا أن جناية البائع خطأ، فللبائع أن يمضي البيع بحكم خيار التروي، لأن جناية البائع خطأً لا يكون رداً للمبيع، لأن الخطأ مناف لقصد الفسخ، فإن أراد البائع إمضاء البيع كان للمشتري الخيار بعيب النقيصة، لأن ما حدث من العيوب في زمن الخيار كالعيب القديم. وإن تلفت انفسخ هو ظاهر. وإن جنى البائع والخيار للمشتري عمداً، فله أخذ الجناية أو الرد واعلم أن المصنف- رحمه الله- تكلم على صور هذه المسألة كلها، وهي ست عشرة مسألة، في جناية البائع ثمان، وفي جناية المشتري ثمان، لأنه إذا جنى البائع فإما أن يكون خطأً، أو عمداً، والجناية إما متلفة، أم لا. فهذه أربع، وكل من الأربع تارة يكون الخيار للمشتري وتارة يكون للبائع، وكذلك الكلام في جناية المشتري.

ولما تكلم المصنف على الأربع شرع فيما بعدها، أي: إن جنى البائع على المبيع بالخيار والخيار للمشتري وكانت الجناية عمداً ولم تتلف المبيع، فالمشتري مخير بين أن يختار الإمضاء ويأخذ أرش الجناية أو يرده، لأن الخيار بيده. وقوله: (فله أخذ الجناية) فيه حذف مضاف، أي: فله أخذ أرش الجناية، وهو أعم من أن يكون عيباً أم لا، ولكن فيها أرش مسمى كالموضحة والمنقلة فيأخذه وإن برئت على غير شين. خليل: وفي هذه المسألة نظر، والقياس أن المشتري لا يكون له أخذ الأرش، لأن البائع إنما جنى على سلعته، إذ بيع الخيار منحل على المعروف، وأكثر هذه المسائل على الاستحسان، والله أعلم. فإن تلف ضمن الأكثر أي: وإن كانت الصورة بحالها، لأن جناية العمد إن أتلفت المبيع، فإن البائع يضمن للمشتري الأكثر من الثمن أو القيمة. فإن كان الثمن أكثر، فللمشتري الفسخ عن نفسه. وإن كانت القيمة أكثر، فمن حق المشتري أن يجيز البيع، فيدفع الثمن ويطالب البائع بقيمة المبيع، فيقاصان في الثمن ويأخذ الزائد. وإن جنى خطأ فله أخذه ناقصاً أو رده أي: وإن جنى البائع خطأً والخيار للمشتري ولم يتلف المبيع، فالمشتري مخير بين أن يأخذه معيباً ولا شيء له، أو يرده. وإن تلف انفسخ تصوره ظاهر.

وإن جنى المشتري والخيار له عمداً، فالقولان في أنه رضا لما فرغ من صور البائع شرع في صور المشتري. و "أل" في القولين للعهد، أي: قولي ابن القاسم في الصورة الأولى. فإن تلف ضمن الثمن وفي بعض النسخ، وقال سحنون: القيمة. أي: فإن جنى المشتري والخيار له عمداً وتلفت السلعة بجنائية، ضمن المشتري الثمن، وهو ظاهر قول ابن القاسم، لأن جناية العمد دالة على الرضا، وقول سحنون يجري على أنها لا تدل على الرضا، وسقط قوله في كثير من النسخ. إن جنى خطأ، فله رده وما نقص أي: فإن جنى المشتري جناية خطأً ولم تتلفه والخيار له، فللمشتري رد ذلك المعيب بحكم الخيار، لكن بقيمة العيب، وله أن يتمسك به معيباً ولا شيء عليه، لأنه تبين له أنه جنى على ملكه، والقياس أن يغرم للبائع الأرش، لأنه في ضمانه. وإن تلفت ضمن الثمن كله، وقال سحنون: القيمة أي: فإن تلفت السلعة بجناية المشتري خطأً والخيار له، ضمن الثمن كله، قاله ابن القاسم في المدونة. وقال سحنون: القيمة. فقيل: وفاق. ثم قيل: مراد ابن القاسم بالثمن القيمة. المازري: وهو خلاف ظاهر اللفظ. وقيل: مراد ابن القاسم إذا ثبت أن المشتري اختار قبل أن يجني. المازري: وهو تعسف. وقال ابن محرز: خلاف. والقولان مبنيان على الخلاف فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، فهل يضمن الثمن الذي وقفت عليه، أو القيمة؟ وأنكر اللخمي بناء الخلاف على هذا، لأن ذلك الخلاف إنما هو في سلعة كثر فيها العطاء، وتواطأ جماعة من الناس عليه حتى صار كالحاصل.

وأجاب المازري بأن أصله في تضمين الثمن المسمى كون المشتري يعد بإتلافه السلعة كالمتلف لثمنها، فكان للبائع أن يلزمه إياه فيدخله الخلاف كالسلعة الموقوفة. وإن جنى المشتري والخيار للبائع عمدا أو خطأ، فله أخذ الجناية أو الثمن، فإن تلف ضمن الأكثر .... يعني: إذا كانت الجناية من المشتري على المبيع ولم يتلفه، وجمع بين العمد والخطأ لاتحادهما في الحكم، فللبائع أن يرد البيع ويأخذ [485/ب] ارش الجناية من المشتري، وله أن يمضي البيع ويأخذ منه الثمن. وفي إمضائه البيع نظر، لأن الضمان منه فيكون للمشتري خيار العيب. أما إن تلفت ضمن المشتري للبائع الأكثر من الثمن، إذ له أن يمضي البيع أو القيمة، إذ له أن يرده. وإن جنى أجنبي فالأرش للبائع، وقيل: إن أمضي البيع فللمشتري لما فرغ من جناية البائع والمشتري شرع في جناية الأجنبي. والمشهور أن الأرش للبائع، سواء كان الخيار له أو للمشتري أو لغيرهما، لأن المبيع على ملك بائعه. وقال ابن حبيب: إن أمضى البيع فللمشتري الأرش، ولعله مبني على أن بيع الخيار منعقد. وبيع المشتري قبل القبض جائز إلا في الطعام مطلقاً يصح في المشتري كسر الراء من إضافة المصدر إلى الفاعل ويكون المفعول محذوفاً، أي: ما اشتراه. ويحتمل أن يفتح قوله: (مطلقاً) أي: ربوياً كان أو غيره، لما في الموطأ والبخاري ومسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ((من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله)).

وهل المنع من بيع الطعام قبل قبضه تعبد، أو معقول المعنى؟ قولان. وعلى الثاني فقيل: إنما نهى عن ذلك لأن أهل العينة كانوا يتوصلون إلى الفساد ببيع الطعام قبل قبضه، فنهى عن ذلك سداًّ للذريعة والفساد. وقيل: لأن للشرع غرضاً في ظهوره، فإنا لو جوزنا بيعه قبل قبضه لباعه أهل الأموال بعضهم من بعض من غير ظهور، بخلاف ما إذا منعنا ذلك، فإنه حينئذ ينتفع به الكيال والحمال، ويظهر للفقراء وتتقوى نفوس الناس به، والله أعلم. بشرط كونه معاوضة فيما فيه حق توفية من كيل أو شبهه، بخلاف الهبة، والقرض، والصدقة، وكذلك الجزاف على الأصح هذا الشرط راجع إلى المستثنى، أي: بشرط كون الطعام وجب عن معاوضة وكونه فيه توفية، فاحترز بمعاوضة من القرض والهبة والصدقة، أي: فإنه يجوز بيعه في هذه الوجوه قبل قبضه. قال بعض من تكلم على هذا الموضع: وفي اشتراطه المعاوضة نظر، لأن الاستثناء دل على منع بيع الطعام المشتري. فإما أن يريد بالمعاوضة نفس الشراء أو أعم، فالأول يلزم منه اتحاد الشرط والمشروط، ويلزم عليه أيضاً جواز بيع الطعام إذا لم يكن من شراء، كما لو كان عن منافع، أو نكاح، أو خلع، أو صداق، أو مثلاً لمتلف، أو أرش جناية، وذلك لا يجوز. وإما أن يريد ما هو أعم فلا يصح، لأن الشرط مقيد لمشروطه فلا يكون أعم. وهذا إنما يأتي إذا كان كلام المصنف يشتمل على شرطين، أما إن جعل شرطاً واحداً مشتملاً على جزءين فلا. تنبيه: جعل في الواضحة ما يأخذه القضاة والمؤذنون وصاحب السوق من الطعام من باب المعاوضة، فمنع من بيعه قبل قبضه.

وحكى ابن بشير فيما يأخذه المستحقون من بيت المال قولين: الجواز، والمنع بناءً على أنه عن فعل غير معين فأشبه العطية، أو مستحق على أمر واجب فأشبه المأخوذ في الإجارة. وأجاز في المدونة بيع ما على المكاتب من الكتابة بعرض أو عين خاصة قبل الأجل، فلا يجوز بيع ذلك من الأجنبي حتى يقبضه. ابن حبيب: إلا أن يكون يسيراً تافهاً. قاله مالك في المدونة. ولا يجوز أن يبيع من المكاتب نجماً قبل قبضه، وإنما يجوز أن يبيع جميع ما عليه ويعجل لحرمة العتق، وقاله سحنون: وقيل: يجوز وإن لم يتعجل العتق، لأن الكتابة ليست بدين ثابت. واختلف الشيوخ على مذهب ابن القاسم على أن القولين يحمل. ابن بشير: ولو ثبت الطعام في الذمة عن تعد أو غصب، ففي بيعه قبل قبضه قولان. واقتصر في البيان على منح البيع قبل القبض في أرزاق القضاة وولاة السوق والمؤذنين والكتاب والأعوان والجند الذين يرزقون من الأطعمة، أما إن كان الطعام رفقاً وصلة على غير عمل، أو إن شاء عمل وإن شاء لم يعمل، فيجوز البيع قبل القبض، قاله في البيان. قال: ويجوز بيع الأرزاق والعطايا السنة والسنتين إذا كان مأموناً، قال: ولا يجوز بيع أصل العطاء، لأنه يبطل مئونته، قال ذلك أشهب، وابن وهب، وجماعة من التابعين رضي الله عنهم. واحترز المصنف بكونه مما فيه حق توفية من الجزاف، لأنه مقبوض بنفس العقد وليس فيه حق توفية. وذكر المصنف في الجزاف قولاً بالمنع، وهو مروي عن مالك رواه الوقار. فوجه الأصح ما في أبي داود من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-: أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يبيع أحد طعاماً اشتراه بكيل حتى يستوفيه. ومفهومة يقتضي جواز الجزاف، لأنه لم يشتر بكيل. ووجه مقابله في مسلم عن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى

يستوفيه)). قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه. ولعله أظهر، لأنه كالنص في الباب. فرع: وعلى المشهور في جواز بيع الجزاف قبل القبض، فاختلف إذا كان ضمان الجزاف من البائع، مثل: أن يشتري لبن غنم بأعيانها، فهل يجوز بيعه قبل قبضه نظراً على كونه جزافاً [486/أ] وهو قول أشهب، أو لا نظراً لكونه في ضمان البائع وهو قول ابن القاسم؟ ووقع لمالك في العتبية فيمن اشترى نصف ثمرة بعدما بدا صلاحها، فقال: ليس له بيعها حتى يستوفيه. ابن القاسم: ثم سألناه عنه، فقال: بيعه قبل استيفائه جائز. ولو باع أشجاراً واستثنى ثمرتها، فهل يمنع من بيع ما استثناه قبل قبضه، أو لا؟ لمالك قولان، واختار ابن عبد الحكم والأبهري الجواز. ولا ضمان هنا على المشتري، وإنما الخلاف هنا مبني على الخلاف في المستثنى هل هو مشترى، أو مبقى؟ فمن ابتاع طعاماً جاز له إقراضه أو وفاؤه عن قرض، ومن اقترضه جاز له بيعه منه ومن غيره .... اعلم أن الممتنع من بيع الطعام ما توالى فيه بيعان لا يتخللهما قبض، فلذلك جاز لمن ابتاع طعاماً مكيلاً أن يقرضه أو يوفيه عن دين ترتب عليه، وكذلك جاز لمن اقترضه أن يبيعه قبل قبضه. ابن عبد السلام: فإن قيل قوله: (ومن اقترضه) تكرار لما قدمه المؤلف من قوله: (بخلاف القرض) فالجواب: لا، لأن الأول محمول على من أقرض طعاماً فله أن يبيعه قبل قبضه، والثاني محمول على من اقترض- أي: تسلف- فله بيعه قبل قبضه من مسلفه.

وليس لمن صار إليه منهما بيعه قبل قبضه الضمير في (منهما) عائد على المقرض الذي دل عليه إقراضه وعلى المقترض الذي دل عليه وفاؤه، أي: من اقترض ممن ابتاع طعاماً ولم يكن المشتري قبضه من بائعه، فلا يجوز له بيعه قبل القبض، وكذلك لا يجوز للمقرض البيع قبل القبض إذا أوفاه له المبتاع ولم يكن المبتاع قبضه، لأن المقترض في الصورة الأولى والمقرض القابض لدينه في الثانية كما كان تنزلاً منزلة المشتري. فكما لا يجوز للمشتري فيهما بيعه قبل القبض، فكذلك هما لأنهما حلا محله. ويجوز لهذا المقترض أن يقبضه لآخر قبل قبضه كما كان ذلك للمشتري، ويمتنع المقترض من المقرض من بيعه قبل قبضه من بائعه، فهذا هو الحكم. ولو كثر المسلفون والمستسلفون، وكذلك من أحاله المشتري على طعام البيع بسبب طعام كان عليه من سلف، فلا يجوز له أن يبيعه قبل قبضه. قال في السلم في البيان: من صار إليه الطعام بأي وجه كان، من هبة، أو صدقة، أو قرض، أو اقتضاء من قرض أو ميراث يحل محل المشتري الذي صار إليه الطعام، فلا يجوز له بيعه قبل استيفائه على معنى ما في المدونة وغيرها. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك أنه خفف ذلك في الهبة والصدقة، قال: ولا اختلاف أن الوارث يحل محل موروثه في أنه لا يجوز له بيعه قبل قبضه، وكذلك من اقترضه أو اقتضاه من قرض كان له. قال: ويحتمل أن يدخل ذلك من الاختلاف ما دخل فيمن وهب له أو تصدق به عليه على ما حكاه ابن حبيب عن مالك. وقيل: يمنع في الربويات خاصة. وقيل: فيما فيه حق توفيه مطلقاً هذا راجع إلى صدر المسألة، يعني: أن المشهور منع بيع الطعام مطلقاً. وفي المذهب قولان آخران، أحدهما رواه ابن وهب: جواز بيع الطعام غير الربوي قبل قبضه، لأن

المتداول بينهم الربوي فيخص النهي عن بيع الطعام، لكن هذا إنما يجري على التخصيص بالعادة، والصحيح أنه لا يختص به كما تقرر في محله. والقول بالمنع: في كل ما فيه حق توفية سواء كان طعاماً أم لا، لابن حبيب. ولا يقبض بنفسه لنفسه إلا من يتولى طرفي العقد كالأب في ولديه، والوصي في يتيميه .... فيهما تفسيران، أولهما: لا يجوز لمن وكل على شراء طعام أو بيعه أن يبيعه من نفسه ولا أن يقبض لنفسه، ولو أذن له في ذلك الموكل، لأنه يقبض لنفسه من نفسه. قال في المدونة: وإن أعطاك بعد الأجل عيناً أو عرضاً، فقال لك: اشتر به طعاماً وكله ثم اقبض حقك لم يجز، لأنه بيع الطعام قبل قبضه، إلا أن يكون رأس مالك ذهباً أو ورِقاً فيجوز بمعنى الإقالة. الثاني وهو الذي قاله ابن عبد السلام: أنه لو كان عنده طعام وديعة وشبهها فاشتراه من ماله، فإنه لا يجوز له بيعه بالقبض السابق على الشراء، لأن القبض السابق لم يكن قبضاً تاماً، بدليل أن رب الطعام لو أراد إزالته من يده ومنعه من التصرف لكان له ذلك، إلا أن يكون ذلك القبض قوياً كما في حق الوالد لولديه الصغيرين، فإنه إذا باع طعاماً لأحدهما من الآخر وتولى البيع والشراء عليهما كان له أن يبيع ذلك الطعام على من اشتراه قبل أن يقبضه قبضاً ثانياً، وكذلك الوصي في يتيميه. وتبع المصنف في استثنائه من يتولى طرفي العقد ابن شاس ولم آره لأصحابنا، وفي النفس شيء من جواز هذه المسألة، ولاسيما والصحيح عند أهل المذهب أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه متعبد به.

وأرخص في الإقالة والتولية والشركة، وقيل: دون الشركة وروى سحنون في المدونة عن ابن القاسم عن سليمان بن القاسم عن ربيعة عن ابن المسيب أنه قال: من ابتاع طعاماً فلا يبيعه قبل أن يستوفيه، إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة. ورواه أبو داود، وقال: هذا قول أهل المدينة، ولأن هذه الثلاث باب معروف فكانت كالقرض. والإقالة: أن يقيل البائع المشتري أو العكس. والتولية: أن يولي ما اشتراه لآخر. والشركة: أن يشرك غيره في بعض المبيع. والقول باستثناء الشركة رواه أبو الفرج عن مالك، لأن المعروف إنما يظهر في الجميع، ورأى في المشهور أنها تولية في البعض. فرع: [486/ب] وهل أجرة الكيل في الإقالة والتولية والشركة على المقيل والمولي والمشرك كما أن العهدة عليه كالبيع، أو لا كالقرض بجامع المعروف، ولأنه لو هلك الطعام المشرك فيه قبل الكيل لكانت مصيبته منهما، وذلك يدل على أنه ليس على الذي أشركه أن يكيله. ابن يونس: وهو أبين من الأول، والقولان للقرويين. فينزل المشتري الثاني منزلة المشتري الأول بشرط استواء العقدين في المقدار والأجل وغيرهما سلما كان أو غيره .... الثاني: هو المقال والمولى والمشرك منزلة المشتري، وهو المقيل والمولي والمشرك. قوله: (بشرط استواء العقدين في المقدار) اعلم أنه إن كان رأس المال عيناً جازت الإقالة عليه وعلى مثله. وإن كان عرضاً مقوماً جازت الإقالة عليه إذا لم يتعين بنفسه ولم تجز على مثله. وإن كان مثلياً، فهل تجوز الإقالة على مثله؟ المشهور: المنع خلافاً لأشهب.

وأما التولية والشركة فلا يمكن فيهما رد عين رأس المال، فإن كان رأس المال عرضاً منع، ويجوز إذا كان عيناً. ابن يونس: وإن كان مكيلاً أو موزوناً فهو كالعين على قول أشهب، وأما ابن القاسم فإنه نص في الموازية على أنه لا يجوز التولية على مثله. اللخمي: وأجازه في المجموعة وهو أحسن، وإن كان المثل مما يختلف الأغراض فيه كالنحاس. قوله: (والأجل) لا ينافي المساواة فيه إلا أن يكون العقد الثاني بإثر الأول، وإلا فالمعتبر بقية الأجل. وقوله: (وغيرهما) أي: من الصفة والكيل والرهن. وقوله: (سلما كان أو غيره) نبه به لئلا يتوهم اختصاص التساوي في الأجل بالسلم. وظاهر قوله: (نزل الثاني منزلة الأول) أن عهدة المولي والمشرك على من كانت عهدة المشتري عليه. ونقل المتيطي ذلك عن مالك. ونقل في البيان قولاً ثانياً: إذا كانت الشركة والتولية في حضرة البيع، أنها على الذي أشركه أو أولاده، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول. وذكر في جواز اشتراطها على البائع الأول بعد الافتراق أو الطول ثلاثة أقوال: المشهور: المنع، إلا برضاه فيكون من باب الحمالة. والثاني: الجواز. والثالث: لأصبغ: بجواز اشتراطها على البائع وإن افترقا ما لم يطل. وكذلك نقل أيضاً فيما اشترى شيئاً ثم باعه، هل يجوز له أن يشترط العهدة على البائع الأول طال أو لم يطل، أو لا يجوز فيهما، أو يجوز في الحضرة دون الطول؟ ثلاثة أقوال.

فإن لم يستويا فبيع كغيره أي: فإن لم يستو العقدان في جميع الشروط بطلت الرخصة ويصير بيعاً، إن قبض المشتري ما اشتراه فصحيح، وإن لم يقبض ففاسد، ونبه على هذا لئلا يتوهم أنه إذا انتفت الإقالة والتولية والشركة المرخص فيها فيبطل العقد. وإذا أقلت من السلم تعجل الثمن يحتمل أيها المشتري أو أيها البائع عجل الثمن، أي: يجب تعجيل رأس المال لئلا يؤدي إلى فسخ دين في دين. مالك: ولا يجوز له أن يفارقه ساعة ولا يفارقه حتى يقبض من الذي وليته أو أقلته، وكذلك الصرف. اللخمي: والمعروف من المذهب أن الإقالة أوسع من الصرف، وأنه تجوز المفارقة في الإقالة ليأتي بالثمن من البيت أو ما قارب ذلك، والتولية وبيع الدين أوسع من الإقالة، لأنه لا يجوز له تأخير الإقالة اليومين والثلاثة بشرط بغير خلاف، واختلف هل يجوز مثل ذلك في التولية وبيع الدين؟ انتهى. بخلاف تأخير رأس المال، فإنه يجوز تأخيره اليوم واليومين ولو بالشرط. والفرق بينهما: أن اللازم في الأول فسخ دين في دين، وفي الثاني ابتداء الدين وهو أخف، فلذلك وسع فيه، وما ذكره المصنف هو المشهور. اللخمي: واختلف في الإقالة إذا وقع التراخي فيها بغير عذر شرط على ثلاثة أقوال، منعه في المدونة. وقال مالك في الموازية: بل يتبعه بالدينار ولا يرجع في الطعام. قيل له: إن المشتري يقول له: إن الإقالة لا تصلح إلا بمناجزة فأنا أرجع في طعامي. قال: ليس له ذلك. وقال أشهب: إذا كانا من أهل العينة فسخت الإقالة، وإن لم يكونا كذلك ولا

عملاً عليها رأيت أن يلح عليه حتى يأخذ، وهو تفسير لقول مالك: إن كانت تهمة فسخت الإقالة، وإن قام دليل على عدم التهمة كان هو موضع الخلاف المتقدم. ابن محرز: وأضيق الأبواب الصرف، ثم الإقالة في الطعام، ثم التولية فيه، ثم الإقالة في العروض، وفسخ الدين في الدين، ثم بيع الدين المستقر في الذمة. وعند ابن المواز: في بيع الدين أنه لا بأس أن يؤخر ثمنه اليوم واليومين كرأس مال السلم، ثم تأخير رأس مال السلم. ***

المرابحة: والبيع مرابحة جائز معناه أن يخير البائع المشتري بما اشترى السلعة به ثم يزيده شيئاً، وهو يحتاج إلي صدق مبين وإلا أكل الحرام فيه بسرعة، لكثرة شروطه ونزوع النفوس فيه إلى الكذب. ولهذا قال ابن عبد السلام: كان بعض من لقيناه يكره للعامة الإكثار من بيع المرابحة، لكثرة ما يحتاج إليه البائع من البيان. فلو قال بربح العشرة أحد عشر، فزيادة عشر الأصل مدلولها عرفا ما ذكره المصنف، وإلا فمدلولها لغة أن يربح لكل عشرة أحد عشر. قوله: (بربح العشرة) يحتمل أن يقرأ بالإضافة، ويحتمل أن ينون ويرفع العشرة على أنه مبتدأ وخبره أحد عشر. والجملة مفسرة [487/أ] لقوله: (بربح) فذكر هنا ألفاظاً اصطلح عليها التجار على كيفية بيع المرابحة. وبوضعية العشرة أحد عشر فينقص جزء من أحد عشر من الأصل على الأصح أي: بتصيير الأحد عشر عشرةً، أي: بخسران درهم في كل عشرة، وهذا مما يبين لك عدم صحة هذا الكلام على مدلوله اللغوي، لأن إسقاط أحد عشر من عشرة غير معقول، والأصح أنه يقسم الثمن الذي اشترى به المشتري على أحد جزءاً، كمائة وعشرة مثلاً فينقص عنه جزء من أحد عشر، وهي العشرة الزائدة على المائة، ومقابله: يقسم على عشرة أحد عشر جزءاً ويحط جزءاً، وتبع المصنف في هذين القولين ابن شاس، وعبر عنهما ابن بشير بطريقين، وفي كلامه نظر، ولا ينبغي أن يعد هذا خلافاً، لأنه راجع إلى الأول بعد طول ولا فرق بينهما في المعنى، وإنما قلنا: إن مقابل الأصح ما ذكرنا، لأن بناء كتابه في الغالب على متابعة ابن شاس وابن بشير، ولم يذكرا غير ما ذكرناه.

وقد ذكر ابن محرز قولاً أن يكون مقابل الأصح، ونصه: فقال عن ابن اللباد قال لي أحمد بن داود: وإذا باع بوضعية العشرة خمسة، فإنه ينظر كم خمسة من خمسة عشر، فيأخذ الثلث فيوضع عنه من رأس المال ثلثه، وكذلك للعشرة عشرة تضاف العشرة إلى عشرة، ثم يقال: كم هي منها، وللعشرة أحد عشر، فيقال: كم أحد عشر من أحد وعشرين. لكن قوله بعد هذا: (أو العشرة عشرون باتفاق) يرد هذا، لأنا إذا ضممنا عشرين إلى عشرة فنسبة العشرين من المجموع ثلثاها، فيحط عنه من كل عشرة ثلثاها، وتصور كلامه ظاهر. فما له عين قائمة من أجرة طرز وصبغ وقصارة وخياطة بحسب ثمنه وربحه ألحق في المدونة بهذه الأربعة الكمْدَ، وزاد صاحب النكت وصاحب المقدمات الفتل، وزاد المتيطي التطرية. وما يزيد في الثمن من حمولة وإنفاق يحسب ثمنه لا ربحه قوله: (من حمولة) قيده اللخمي بأن يكو ن في البلد المنقول إليه أغلى، وأما إن كان سعرهما سواء فلا يحسبه، ولو كان أرخص لم يبع حتى يبين، وإن أسقط الكراء. واستحسن المازري كلامه إذا حمل البائع المبتاع إلى ذلك البلد وهو عالم أنه لا يربح فيه. قوله: (وإنفاق) أي: على الرقيق ونحوه. وقيده اللخمي بألا تكون له غلة، فإن كانت أقل حسب ما بقي، وإن كانت أكثر فله ولا يحسب. المازري: وإن أنفق على سقي النخل وعلاجه أو العقار، فإن ساوت الغلة الإنفاق أو زادت فله البيع مرابحة، وإن قصرت الغلة عن النفقة التي بها حيي النخل حسب ما فضل من النفقة عن الغلة، فلا ربح كالنفقة على الرقيق. ولا يؤثر في بيع المرابحة ما اغتله من لبن احتلبه.

فإن قلت: لا إشكال أن البائع لو بين الحمولة ونحوها واشترط على ذلك الربح أنه جائز، وإن لم يبين فهو غير جائز، فما صورة هذه المسألة؟ قيل: مفروضة فيما إذا قال البائع: هي علي بكذا رأس، مالها بكذا وصبغها بكذا وحمولتها بكذا، وباع بربح العشرة أحد عشر، فإنه حينئذٍ يحسب الربح كما ذكرنا أن له الربح ولا يحسب الحمولة ونحوها. المازري: ويستعمل في ربح بيع المرابحة أحد أربعة ألفاظ: إما أن يقول: اشتريتها بمائة والربح كذا، أو أربح في كل عشرة كذا، أو يقول: رأس مالي فيها كذا، أو يقول: قامت عليَّ بكذا وهي بكذا. فإن كان أنفق فيها نفقة مما يحسب له فإنه يُسقَط من هذه العبارتان الأوليان، وهما: اشتريتها بكذا، أو رأس مالي فيها كذا، لأن هاتين العبارتين عبارة عما دفع فيها للبائع، لكنه يقول: هي عليَّ بكذا، أو قامت عليَّ بكذا. وأما إن كان تولى عملها بنفسه- كالصبغ وغيره- فإنه لا يجوز له أن يعين عن ذلك شيئاً من هذه العبارات، لأنه لم يخرج ثمن ذلك، وغاية ذلك أن يقِّوم عمله، والبيع على التقويم لا يجوز. والله أعلم. وإلا لم يحسب فيها كالطي، والشد، وكراء البيت أي: وإن لم يكن مما عين قائمة، ولا مما له تأثير في الثمن لم يحسب فيهما، أي: لا في الثمن ولا ربحه. وقوله: (كالطي، والشد) هذا مقيد بما إذا لم يعلم المشتري أنه يحتاج في ذلك إلى نفقة، وأما إن علم أنه يحتاج إلى النفقة يحسب ثمنها كالحمل. وقيد التونسي والباجي وابن رشد كراء البيت بما إذا أكراه لنفسه فيكون المتاع تبعاً، وأما إن أكراه للمتاع خاصة فيحسب ثمنه بغير ربح. وكذلك نص عليه محمد.

وما أخذه السمسار فكالثمن على الأصح، وقيل: من الثاني، وقيل: من الثالث المراد بالسمسار هو الجلاس، لا الذي يتولى الشراء للمشتري كما تفعله سمسارة الإسكندرية، وليس مرادهم متولي البيع فإن أجرة هذا على البائع، وهي من الثمن بلا شك فيه. وقوله: (فكالثمن) أي: يحسب، ويحسب ربحه، وهذا قول عبد الوهاب واختاره ابن محرز، لأنه مما لا يحصل ملك المشتري إلا به فيكون كالثمن. والقول الثاني لأبي محمد وابن رشد، لأنه ليست له عين قائمة. والقول الثالث هو مذهب المدونة والموطأ، ووجهه: أنه ليس له عين قائمة ولا يزيد في الثمن وكثير من الناس يتولى الشراء بنفسه، ولهذا [487/ب] قال محمد: إلا أن يكون المبتاع مما جرت العادة أنه لا يشترى مثله إلا بواسطة سمسار، فيحسب حينئذٍ أجرته في الثمن دون الربح. ولابد من علم المشتري بجميعه قبل العقد هذا خاص بالقسمين الأولين، وأما الثالث فهو غير محسوب فلا حاجة إلى بيانه. وما ذكره المصنف هو مذهب سحنون، وقيل: وهو قياس ابن القاسم. سحنون: وإن لم يبين فيرد السلعة إن كانت قائمة إلا أن يرضى المشتري أخذها بذلك، فإن فاتت مضت بذلك ولم ترد إلى القيمة. وقال محمد وابن حبيب: لا يلزمه البيان. واختاره التونسي قياساً على ما إذا اشترى سلعتين وباعهما مرابحة. عياض: وظاهر الموطأ كقول سحنون. وقال اللخمي: يختلف إذا باع ولم يبين. وأصل ابن القاسم أنها مسألة غش فلا يلزم المشتري وإن حط ذلك القدر. وعلى مذهب سحنون هي مسألة كذب فإن حط ذلك القدر لزمه.

وفي المقدمات: إذا قال: قامت علي بكذا، أو أبيعها بربح العشرة أحد عشر، ولم يبين هذه الأشياء، فالعقد فاسد، لأن المشتري لا يدري كم رأس المال وكم أضيف إليه. وقال في الموازية: أنه يعمل في ذلك على ما ذكرناه مما يحسب ويحسب ربحه، وما لا يحسب ولا يحسب ربحه. وهو ظاهر قول سحنون في العتبية في نوازله. وهو بعيد، والصواب ما قدمناه. ونص ابن بشير على أن العقد لا يفسد بعدم التبيين. فرع: قال في المدونة: وإن ضرب الربح على الحمولة ولم يبين ذلك، وقد فات المبتاع بغير سوق أو بدن، حسب ذلك في الثمن ولم يحسب له ربح، وإن لم تفت رد البيع إلا أن يتراضيا على نحو ما يجوز. وقوله: "إلا أن يتراضيا" جعل ذلك كاستئناف بيع. واختلف الشيوخ بعد الفوات: هل هي مسألة غش أو كذب؟ فقيل: إنها مسألة غش، لأنه لم يكذب فيما ذكر من ثمنه ولكنه أبهم فيسقط عنه ما يجب إسقاطه، ورأس المال ما بقي فات أو لم يفت، ولا ينظر إلى القيمة. وهو تأويل أبي عمران على الكتاب، وإليه نحا التونسي والباجي وابن محرز وأنكره ابن لبابة. وقيل: هو من باب الكذب، لزيادته في الثمن ما لا يحسب فيه وحمله الربح على ما لا يحسب حمله عليه، فيقال للبائع: أسقط ما يجب إسقاطه من نفقة وربح، فإن فعل لزم المشتري ما بقي وربحه، وإن أبى فسخ إلا أن يحب المشتري التماسك، فإن فاتت فهي كالكذب. وإن لم يضع البائع ما ذكرنا لزمت المبتاع بالقيمة ما لم تكن أكثر من جميع الثمن بغير طرح شيء فلا يزاد له، أو يكون أقل من الثمن الصحيح بعد طرح كل ما يجب طرحه فلا

ينقص، وهو قول سحنون في كتاب ابنه وقول ابن عبدوس، وفسر به بعضهم مذهب الكتاب، قالوا: وإنما لم يذكر في الكتاب القيمة، لأن ذلك عنده أقل مما بقي بعد الطرح. وإليه مال أبو عمران وعبد الحق وابن لبابة. ويجب ذكر ما لو علم المشتري به قلت رغبته هذا لا يختص ببيع المرابحة، وإنما يختص ببيع المرابحة بذكر الثمن وحاله من تعجيل وتأجيل، وما أشبه ذلك. فيذكر التأجيل أي: يجب في المرابحة عليه أنه إذا اشترى إلى أجل أن يبيِّن ذلك للمشتري، لأن الأجل له حصة من الثمن، ويختلف الثمن أيضاً بقرب الأجل وبعده، فإن لم يبيِّن وباعها بالنقد فقال في المدونة: البيع مردود. فقيل: أراد إذا اختار المشتري الرد. وقيل: يفسخ وإن رضي المشتري بالنقد. واستبعد لأنه حق لمخلوق. وفي طول الزمان قولان أي: هل يجب بيانه أو لا؟ ومذهب المدونة وغيرها التبيين، قال فيها: إلا أن يطول الزمان أو تحول الأسواق فليبيِّن ذلك. هذا نص التهذيب وفي العتبية نحوه. والذي في أصل المدونة: أحب إليَّ أن يبين. وعلل ذلك في المدونة بأن الناس أرغب في الطري من القديم، والقول بعدم البيان للخمي، قال: وهذا إذا لم يكن بان عليه، وأما إذا بان فإنه يبيِّن. وما نقده عن الثمن: النقد إن كان عيناً وجب، وفي ذكر الأول قولان، فإن كان عرضاً ففي ذكر الثاني قولان، فإن كان طعاماً فقولان كالأول وكالثاني .... حاصله أنه إذا اشترى بنقد- أي: ذهب أو فضة- ثم نقد غير ما عقد عليه، فإذا باع مرابحة فله ثلاثة أقسام:

الأول: أن يشتريها بذهب وينقد عنه فضة أو بالعكس، فإذا باع مرابحة على ما عقد وجب عليه بيان ما نقد. قاله اللخمي وغيره، ونص عليه في الواضحة. المازري: وحكى ابن المواز عن أشهب جواز ذلك إذا لم يزده على صرف الناس. وإن باع مرابحة على ما نقد ففي ذكر الثمن الذي عقد عليه قولان، والقول بوجوب التبيين في الواضحة، وهو ظاهر المدونة. المازري: وهو ظاهر المذهب. والقول بعدم الوجوب لمالك في الموازية. والقولان خلاف في حال هل هو مما تكرهه النفوس أم لا؟ القسم الثاني: أن ينقد عن العين التي اشتراها عرضاً مقَّوماً. اللخمي: ولا يبيع على ما نقد حتى يبيِّن، وإن باع على ما عقد فمذهب المدونة أنه يبيِّن ما نقده من العرض، لأن ما عقد عليه لم يستقر ثمناً. ابن عبد السلام: وهو ظاهر المذهب. وقال ابن المواز: يجوز وإن لم يبيِّن. القسم الثالث: أن ينقد عن العين طعاماً- يريد: أو مثلياً- وخصصه بالذكر [488/أ] إما على طريق التمثيل، وإما لأنه الواقع في المدونة. اللخمي وعياض وغيرهما: وظاهر المدونة وجوب التبيين. وفي الموازية: يجوز له أن يبيع على ما نقد وإن لم يبيِّن في الدنانير والدراهم والمكيل والموزون وسائر العروض، وتأوَّل فضل المدونة عليه. وعلى هذا فقوله: كالأول وكالثاني تفسير للقولين، والقول بأنه كالأول هو مذهب المدونة كما تقدم. وقوله: (وكالثاني) هو مذهب الموازية. ولا يمكن أن يريد بقوله: (كالأول) أنه يجب ذكر الطعام، ويختلف في ذكر العين. وبقوله: (وكالثاني) بيان للعين عليه. ويختلف في بيان العرض، وإن كان ابن عبد السلام قال ذلك، لأن الحمل على ذلك يستلزم الطرق لا الأقوال، على أن النقل لا يساعده.

فإن كان الثمن عرضاً غير مثلي ففي جواز البيع مرابحة قولان، بخلاف المثلي أي: فلو اشترى سلعة بعرض غير مثلي فهل يجوز بيعها مرابحة؟ أجازه ابن القاسم ومنعه أشهب وسحنون، لأنه بيع ما ليس عندك، أي: لأن المشتري دخل على الحلول وكان كالسلم الحالِّ. وحمل اللخمي قول ابن القاسم على ظاهره، وتأول النهي عن بيع ما ليس عندك على بيع معين في ملك غيره. وإلى هذا أشار ابن يونس، لأنه قال: ليس هذا من باب بيع ما ليس عندك، لأنه لم يقصد ذلك، بدليل اتفاقهم في الشِّقص المبيع بشيء مما يكال أو يوزن أن للشفيع أن يأخذه بمثل ذلك وإن لم يكن عنده، والأخذ بالشفعة كبيع ثانٍ. انتهى. ورده عياض بأن الشفعة لا يقدر فيها إلا على ذلك، بخلاف هنا فإنهما قادران على البيع مساومة. واستقرأ بعضهم من قول ابن القاسم في هذه المسألة جواز السلم الحال، وحمل القاضي قول ابن القاسم على أن العرض حاضر عند المشتري، فيتفق القولان على جواز بيعه مرابحة، لأن ذوات الأمثال توجد غالباً. ونحوه لابن بشير، وهو وهم، لأن أشهب نص في المدونة على المنع في الجميع، بل لو لم ينص عليه لكان لازماً له، لأن السلم الحال ممتنع فيهما. وقاله ابن راشد وابن عبد السلام. ولو أتم بعض المبيع بالشراء من شريكه فالرواية كالأجنبي، وفيه نظر يعني: إذا اشترى جزءاً من سلعة ثم أتم بقتيها من شريكه الشراء فإن له بيع الجميع مرابحة من غير بيان. كما أن للأجنبي إذا اشترى الجزء الباقي أن يبيع هو والمشتري الأول جميع السلعة من غير بيان. وأشار بالنظر إلى الفرق بينهما، لأن من اشترى بقيتها قد يزيد فيه ليكمل له الملك والمشتري يكرهه. فينبغي أن يقال بوجوب التبيين، بخلاف الأجنبي فإنه قد دخل ابتداء على الشركة، وذلك مما ينقص الثمن، وهذا لا يكرهه المشتري في بيع المرابحة.

وقد أشار ابن بشير إلى هذا النظر، وقيد اللخمي الجواز بأن الزيادة لصلاحية السلعة كذلك، أو بغلاء السوق، وأما إن كانت لدفع ضرر الشركة فيجب البيان. ولو كان متعدداً مختلف الصفات فقومه وجب بيانه كما لو اشترى ثياباً أو غيرهما في صفقة واحدة، ثم جعل لكل سلعة من الثمن قسطاً، فلا يجوز أن يبيع إحداهما على ذلك إلا بعد التبيين، لأنه قد يخطئ في التوصيف وقد لا يخطئ، ولكن زاد لرغبته في الجملة أو في سلعة منها. وإن كان متفق الصفات كثوبين مثلاً فثالثها: إن كانا عن سلم جاز أي: وإن اشترى متعدداً متفق الصفات كثوبين متفقين. وحذف الصفة للعلم بها. وقوله: (مثلاً) حشو، لأن الكاف يفيده. والجواز لابن نافع، لأن اتفاق الصفات يبعد معه الخطأ في التقويم. والمنع لسحنون، لأنه قد يرغب في الجملة والتفصيل، وهو مذهب المدونة. (إن كانا عن سلم جاز) وإن كانا معينين لم يجز، لأنه قد يقصد أحدهما بخلاف السلم، لأنه إنما انعقد على الصفة، والفرق أنها مستوية، وقيد فيها الجواز في السلم بألا يكون تجاوز عنه في الصفة، أي: أخذ أدنى مما في الذمة. وقيده اللخمي أيضاً بألا يكون أحدهما أجود مما وصف، فإن كان أجود وصف الزائد عليه وعلى ثوب المرابحة، لأن الزيادة كهبة لأجل البيع فيجب توصيفها. واختلف إذا وجب عليه البيان ولم يبين: هل هي مسألة غش أو مسألة كذب؟ وأما في المثلي فجائز أي: وأما لو باع ما اشتراه من المثلي مرابحة فله ألا يبيِّن. وهكذا نص عليه في المدونة. وتعقبه المتأخرون بأن شراء الجملة يرغب فيه، فيكون ثمن بعضه منفرداً أقل منه بانضمامه إلى الجملة، ولاسيما على ما تقدم أن استحقاق الثلث مقتض لرد جميعه.

ولو أقال مشتريه منه وجب بيانه. أي: ولو أقال المشتري من البيع فلا يجوز له أن يبيعه حتى يبيِّن، لأن ذلك مما تكرهه النفوس. وقوله: (أقال) أي: على مثل الثمن الأول، لقوله بعد هذا: (فإن كل بزيادة .... إلخ). والظاهر أن وجوب التبيين عام على قول من يرى أن الإقامة حل بيع أو ابتداء بيع، لما ذكرناه من كراهة النفوس. فائدة: الإقالة عندنا بيع من البيوع إلا في ثلاث مسائل: الإقالة في المرابحة، والإقالة في الطعام، والإقالة في الشفعة. فلو كانت بزيادة أو نقص فالمشهور الجواز [488/ب] أي: وإن كان التقايل على زيادة أو نقص فالمشهور- وهو مذهب المدونة- جواز بيعه على الثمن الذي تقايلاه من غير بيان، لأن الخلاف في الإقالة: هل هي حل بيع أو ابتداء بيع؟ إنما هو إذا كانت على مثل الأول، وأما إن كانت بأزيد أو بأنقص فهو بيع حقيقة. والشاذ لابن حبيب بالمنع ولو استقال بنقص. واستشكل قوله: مع النقص، لأنه خير للمشتري. وتأول اللخمي قوله بما يمنع هذا الإشكال، فقال: إنه إنما يمنع إذا استقال بنقص بشرط أن يكون الثمن الذي استردها به أكثر مما اشتراها به أو المثل، مثل أن يكون اشتراها أولاً بعشرة، ثم باعها بخمسة عشر، ثم أقال على اثني عشر، فيتهم على أن البيع صورة، ليتوصل إلى بيعها باثني عشر.

والأكثر على أن قول ابن حبيب خلاف. وذهب فضل إلى أن المذهب قول ابن حبيب، وتأول مذهب المدونة على أنه اشتراها من غير من باعها منه. فلو كان شراء ثانياً منه ففي جعله كالإقالة قولان المحققون من الشيوخ يرون أن لا فرق بين هذه والتي قبلها في المعنى، لأن شراءه ثانياً إن كان بمثل الثمن فهو إقالة، وإن كان بأقل أو بأكثر فالمشهور الجواز. وإنما افترقنا في اللفظ فقط، ففي الأولى رجعت بلفظ الإقالة، والثانية بلفظ الشراء، والمعول عليه المعنى دون اللفظ. ولو باعا مرابحة- والثمن مختلف- ففي قسم الثمن والربح قولان، أحدهما: كالانفراد والثاني: كالمساومة .... أي: ولو اشترى رجلان سلعة في عقدين بثمنين مختلفين، كما لو اشترى أحدهما نصفها بمائة والآخر نصفها بخمسين، ثم باعاها معاً صفقة واحدة بربح مائة، فاختلف المذهب في كيفية قسمهما الثمن والربح. فقال ابن القاسم وهو المشهور: يقسمان ذلك أثلاثاً بينهما. وإليه أشار بقوله: (كالانفراد) أي: كما لو باع كل واحد منهما نصفه منفرداً. وقال أشهب: يقسم الثمن والربح نصفين. كما لو باعا مساومة بمائتين وخمسين، لأن المشتري دخل على ذلك. ابن عبد السلام: وكذلك يرجع عليهما في العيب والاستحقاق. ومنشأ الخلاف: هل ينظر إلى الأثمان أو الحصص؟

ولو باعا بوضيعة فالمشهور كالانفراد ومنشأ الخلاف المشهور كالمشهور، والشاذ أجراه الأشياخ على قول أشهب. ولا يجب بيان غلة الربع والحيوان خص الرَّبع والحيوان، لأنهما لا يتغيران بالاستعمال، بخلاف الثياب وشبهها. والرَّبع يشمل الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر، وهو مقيد بألا تكون ثمرة الشجرة مأبورة يوم العقد فيجب عليه بيانه. وكذلك الصوف، قال في المدونة: لأنه إن كان يوم البيع تامّاً فقد صار له حصة من الثمن، وإن لم يكن تامّاً فلم يثبت إلا بعد مدة يتغير فيها. وأما الأولاد ليست غلة فلا تندرج في كلامه، قال في المدونة: وإن توالدت الغنم لم تبع مرابحة حتى يبيَّن وإن باعها بأولادها. إذا كذب في الثمن- والسلعة قائمة- فله ردها إلا أن يحط الكذب وربحه، وقيل: ولو حط لخبث مكسبه .... كما لو اشتراها بعشرة وقال: باثني عشر، وسواء كذب عمداً أو خطأً، قاله ابن حبيب وهو صريح الكذب. وألحق به سحنون تقدير الكذب وهو ما له تأثير في زيادة الثمن، مثل: أن يشتري بثمن مؤجل فيبيع نقداً، أو يشتري ثوبين صفقة فيبيع أحدهما بما ينوبه. وهو خلاف مذهب ابن القاسم، قاله ابن رشد. قوله: (فله ردها) لا شك أن له أن يتمسك بها وله أن يردها، إلا أن يسقط البائع الكذب وربحه فلا مقال للمشتري حينئذٍ، لأن الخيار كان له بسبب الزيادة وقد سقطت. هذا هو المشهور. وقال عبد الملك: للمشتري الخيار ولو أسقط البائع، لأن البائع قد تبين خبث مكسبه.

وأشار المازري واللخمي إلى أنه وفاق، وحملا قول مالك على أن المشتري قام بالكذب وحده، ولو قام بخبث المكسب لكان ذلك له، كقول عبد الملك. ابن عبد السلام: وفيه نظر، لأنه لو كان هذا يدل على خبث المكسب للزم أن يكون الخيار لمن اشترى منه غيرها مساومة. ونقل ابن بشير عن المتأخرين أنه إن ظهر على كذب البائع من غير أن ينفصل منه فللمشتري الخيار لخبث المكسب، أي: لحرام المكسب، وإن أتى البائع منفصلاً من كذبه نادماً على ما صدر منه فكالمشهور. فإن فاتت فالبائع مخير بين أخذ الصحيح وربحه أو قيمتها ما لم تزد على الكذب وربحه، وقيل: يتعين الصحيح وربحه .... أي: فإن فاتت السلعة المكذوب في ثمنها فالمشهور يخير البائع بين أن يأخذ الصحيح وربحه، وبين أن يرجع إلى القيمة بشرط ألا تزيد على الكذب وربحه، لأنه قد رضي بالكذب وربحه فلا يزاد عليه، يريد: ما لم ينقص عن الثمن الصحيح وربحه. المازري: وهذا على المشهور، وأما على قول عبد الملك فإن الواجب فيها مع الفوات تفصيل منه: وينظر إلى من يستحق قيمة هذه السلعة أو ثمنها، أو يمكن البائع من المطالبة بما باعه من مال حرام في يديه أم لا. والقول بتعيين الصحيح وربحه لمالك في الموازية ورجع عنه. وفي المسألة قول ثالث: إن على المبتاع قيمتها يوم قبضها، إلا أن يكون ذلك أكثر من الثمن بالكذب وربحه فلا يزاد عليه، أو يكون [489/أ] أقل من الثمن الصحيح وما قابله من الربح فلا ينقص منه. وفي الفوات بحوالة الأسواق قولان لما كان الحكم يختلف بقيامها وفواتها احتاج إلى بيان العيب، وذكر المختلف فيه وهو حوالة الأسواق، وسكت عما فوقه لاتفاقهم عليه.

ابن رشد: ورواية ابن القاسم أنها مفيتة. وروى ابن زياد عن مالك في المدونة أن السلعة إذا فاتت بنماء أو نقص وجبت فيها القيمة. الشيخ أبو محمد وغيره: هذه الرواية مخالفة لرواية ابن القاسم في أن حوالة الأسواق لا تفيت على هذه. وقال جماعة: يحتمل أن يكون مراده في هذه المسألة حكم هذا البيع مع الفوت، لا بيان حكم ما يفيت هذا البيع. وتكون الروايتان متفقتين، وعلى طريقة ابن أبي زيد مشى المصنف. وكذلك اختلف في فهم رواية ابن القاسم أن القيمة في هذه السلعة المكذوب في ثمنها يوم القبض، ورواية ابن زياد أنها يوم البيع: هل ذلك خلاف على ظاهر الكلام، أو هما راجعان إلى شيء واحد؟ والمعنى يوم البيع، ومعنى رواية ابن القاسم أن القبض كان يوم البيع. واختلف في هذه المسألة المكذوب في ثمنها إذا هلكت بيد البائع: هل يكون ضمانها من البائع، وإليه ذهب أبو بكر بن عبد الرحمن، أو من المشتري وهو مذهب أبي عمران؟ وما يكال أو يوزن كالقائم يرد مثله في موضع القيمة يعني أن ما تقدم من التفرقة بين القيام والفوات خاص بالمقوَّم، وأما المثلي فإن فوات عينه كلا فوات، لقيام المثل فيه مقام العين. وقوله: (يرد مثله في موضع القيمة) أي: في الموضع الذي كانت تجب فيه القيمة في المقوم. ولو نقص غالطاً، وصدقه في الثمن، أو قامت بينة فعليه ما صدقه وربحه، أو يردها .... أي: لو غلط على نفسه فباعها بأقل مما اشتراها به، كما لو اشتراها بمائة وأخبر أنه اشتراها بتسعين فلا يصدق بمجرد دعواه، بل حتى يصدقه المشتري أو تقوم له بينة. قال

في كتاب القسم من المدونة: أو يأتي من رقم الثوب بما يستدل به على الغلط، فيحلف البائع ويصدق. وزاد الباجي: أو يرى من حال الثوب ما يدل على صدقه. وقوله: (فعليه .... إلخ) أي: أن المشتري مخير بين أن يدفع الثمن الذي شهدت به البينة وربحه، وبين أن يرد السلعة. فإن فاتت فالمشتري مخير بين إعطاء الصحيح وربحه، أو قيمتها ما لم تنقص عن الغلط وربحه .... أي: فإن فاتت بنماء أو نقصان. ولم يجعل في المدونة تغير السوق مفيتاً كما في الزيادة، لأنه غلط على نفسه. وحاصله أن له القيمة ما لم ينقص عن الثمن المغلوط به وربحه، ما لم يزد على الثمن الذي تبين وربحه. وعارض ابن الكاتب هذه المسألة بمسألة تضمين الصناع إذا باع ثوباً فغلط فدفع غيره فقطعه المبتاع، فإنه قال: يرده ولا شيء عليه في القطع. ولم يجعل القطع فوتاً كما جعل ابن القاسم في بيع المرابحة هنا. وفرَّق هو بأن ثوب الكذب في المرابحة لو هلك بعد القبض ببينة لكان هلاكه من المشتري، وثوب الغلط لو هلك ببينة لكان هلاكه من البائع. وهو يرجع في المعنى لما فرق به غيره: أن المسألة تضمين الصناع لم يجز فيها بيع، والبائع سلط المبتاع فلم يكن عليه شيء، بخلاف القطع في بيع المرابحة فإنه وقع في بعض ما وقع العقد عليه، وانتقل الملك فيه إلى المشتري. وتقويمها يوم قبضها، وقيل: يوم البيع الضمير في: (وتقويمها) يحتمل أن يعود على السلعة المغلوط فيها. والقول بتقويمها يوم القبض مذهب الموطأ، وتقويمها يوم البيع مذهب المدونة، لأنه صحيح على ما تقدم ويحتمل أن يعود على التي زاد فيها أو نقص فيعم الصورتين.

ابن عبد السلام: وأشار غير المصنف إلى أن الخلاف في مسألة الغلط مخرج من مسألة الكذب، لأنه منصوص. ولفظ الأرض يشمل الأشجار والديار ونحوها ولفظها يشملهما يعني: أنه إذا باع شخص أرضاً بكذا ولم يزد فإنه يتناول ما اتصل بها من بناء وشجر، وكذلك لو باع البناء والشجر اندرجت في العقد للعرف، ونحو الديار الآبار والعيون والمطامير. ولا يندرج المأبور والمنعقد إلا بشرط يقال: أبرت النخل بفتح الباء مخففة، آبر بضم الباء أبراً وإباراً مخفف فهي مأبورة. وأبَّرتها مشدد الباء أؤبرها تأبيراً مشددة فهي مؤبرة، وتأبرت النخل وائتبرت. واختلف في معناه: ففي الإكمال: هو تعليق طلع الذكر في الأنثى، لئلا يسقط ثمرها وهو اللقاح. ونحوه في الجواهر، قال: يقال: أبر فلان نخله، أي: لقحه وأصلحه. ثم قال: وتأبير النخل تلقيحه. وقال ابن حبيب: الإبار: شق الطلع عن الأنثى. وقوله: (ولا يندرج المأبور) يريد: إذا اشترى النخل، وكذلك لو اشترى الأرض والنخل فإنه لا يندرج في ذلك الثمرة المأبورة والمنعقدة، وقاله ابن الجلاب. وأفتى ابن الفخار وابن عتاب باندراج الثمرة وإن أبرت وطابت، قالا: لأن الشجر أنفسها تندرج وإن لم تشترط، وإذا أدخلت الأصول فالفروع أولى. وما قالاه هو القياس، لكن المنصوص لمالك خلافه، ودليله ما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((من ابتاع نخلاً قد أبرت فثمرها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع)). والتأبير خاص بالنخل، [489/ب] وما له زهر ثم ينعقد بانعقاده كإبار النخل، ولذلك عطف المصنف المنعقد على المأبور. وما لا زهر له يعتبر فيه أن تبرز جميع الثمرة عن موضعها وتتميز عن أصلها، فهو بمنزلة التأبير فيها.

وفهم من كلامه أن الثمرة غير المأبورة تابعة، واختلف إذا اشترطها البائع لنفسه قبل الإبار، فقيل: لا يجوز ذلك. وقيل: يجوز. اللخمي: وهو الصحيح من المذهب بناء على أنه مبقى على ملكه. فإن تأبر الشطر فله حكمه أي: ما أَبَّر للبائع وما لم يؤبر فللمبتاع. وألحق في الواضحة والموازية ما قارب الشطر به. وقال محمد بن دينار: ما أبر تبع لما لم يؤبر، فالكل للمبتاع. وقال ابن القاسم: يقال للبائع: إما أن تسلم جميع الثمرة، وإلا فسخ البيع ولو رضي المبتاع بالنصف. هكذا حكى الباجي هذه الأقوال. قال: وهذا إذا كانت الثمرة المأبورة متميزة، بعضها أبر وبعضها لم يؤبر، وأما إن كانت الثمرة حين تأبيرها وكان في سائر الثمار قد ظهر بعض الثمرة وبعضها لم يظهر، فرأى ابن حبيب أن ذلك للبائع، ورأى ظهور بعضها كظهور جميعه أصله الإزهاء. وروى ابن المواز أن ذلك لا يجوز، إلا أن يشترط المبتاع الثمرة، ورأى أنه لما لم تؤبر لا يجوز أن يشترط البائع ما لم يؤبر، فلم يبق إلا أن يشترط المبتاع نصيب البائع. وحملها ابن رشد على خلاف هذا فقال: الأقل تباع للأكثر شائعاً أو غير شائع، فإن لم يكن أحدهما تبعاً وكانا متناصفين أو متقاربين، فإن كان ما أُبِّر على حدة وما لم يؤبَّر على حدة فللبائع ما أُبِّر وللمبتاع ما لم يؤبَّر، على ما قاله المخزومي، وإن كان ذلك شائعاً في كل نخله فأربعة أقوال: أحدها: أن الخيار للبائع، إما أن يسلم الحائط بثمرته للمبتاع، وإلا انفسخ البيع. وهو قول ابن القاسم. الثاني: أن البيع يفسخ على كل حال، إلا أن يكون وقع بشرط أن تكون الثمرة للمبتاع. وهو قول ابن القاسم وسحنون فيما حكى الفضل.

الثالث: أنه كله للمشتري. وهو قول ابن دينار. والرابع: أنه كله للبائع. وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وذكرها ابن زرقون على نحو ما ذكره ابن رشد، وذكر أن الباجي لم يحسن تحصيل هذه المسألة. وذكر ابن القطان أن الذي به القضاء أن البيع لا يجوز إلا برضا البائع بتسليمه الجميع للمبتاع. ابن العطار: أو يرضى المبتاع بتسليمه للبائع. وإن تأبر الأكثر حكم بحكمه للجميع هذا قول مالك الذي عليه أكثر أهل المذهب، وروي عنه أنه مثل ما لو تَأَبَّر الشطر. ولكليهما السقي ما لم يضر بالآخر قال ابن راشد وشيخنا وغيرهما: يعني البائع والمشتري، أي: حيث يحكم بالثمرة للبائع بانعقادها أو بإبارها فله السقي ما لم يضر بالمشتري، ولمشتري الأصول سقيها ما لم يضر بثمرة البائع. وقال ابن عبد السلام: كل واحد من صاحبي المأبور والمنعقد السقي ما لم يضر ذلك بالمشتري. ومعناه: إلى الوقت الذي جرت العادة أن تجد الثمرة فيه. وانظر لو تقابل الضرران فإني لم أر لأصحابنا فيها شيئاً، وللشافعية فيها ثلاثة أقوال: هل يقدم البائع أو المشتري، لأن البائع قد التزم سلامة الأشجار له، أو يتساويان فيفسخ العقد لتعذر التسليم إن لم يصطلحا. نعم تكلم علماؤنا فيمن يلزمه السقي، فقال مالك في الموازية: هو على البائع حتى يسلم الأصل لمشتريه، وقال المخزومي في بائع النخل دون الثمرة أن السقي على مشتري الأصول.

فرع: فإن اشترط المبتاع بعض ما أبر أو بعض ما خرج من الزرع لم يجز على المشهور، لأنه قصد بيع الثمار قبل بدو صلاحها، بخلاف اشتراط بعض ما أزهى وبعض ما يبس من الزرع. وقال أشهب: يجوز اشتراط بعض ذلك كاشتراط الجميع. ولو كان المبيع فدانين واشترط زرع أحدهما لم يجز عند ابن القاسم، وقيل بالجواز على مذهبه، لأنه لو أفرد كل فدان بالبيع واشترط زرعه جاز، حكاه في الطرر. ولا تشمل الأرض الزرع الظاهر. وفي الباطن روايتان اختلف في إبان الزرع، فروى أشهب أنه ظهوره من الأرض، ورواه ابن القاسم، وروى عنه ابن القاسم أيضاً هو أن يفرك، وروي عن مالك في الأسدية أنه خروجه من يد باذره. ولا الحجارة المدفونة على الأصح يعني: أنه إذا باع أرضاً فوجد حجراً أو رخاماً أو أعمدة، فالمعلوم من مذهب ابن القاسم أنه لا حق في ذلك للمبتاع وهو البائع. وذهب سحنون وابن حبيب وابن دينار إلى أنها للمبتاع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في العتبية. وقيد صاحب البيان هذا الخلاف بالمجهول الذي لا يعلم صاحبه، وأما إن ثبت أن ما وجد في الأرض مغيباً من متاع البائع، أو من متاع من ورثه عنه، فلا خلاف أنه له. وكذلك إن علم أن ما وجده أحد الورثة في حصته أنه لموروثهم، فهو بينهم بلا خلاف. وكذلك إذا ثبت أن البيت أو الجب الموجود تحت الأرض كان البائع عمله ونسيه فلا خلاف أن للبائع أن ينقض البيع، ولمن لم يوجد ذلك في حظه أن ينقض القسمة.

والدار تشمل الثوابت كالأبواب، والرفوف، والسلم المسمر أي: إذا باع داراً فإنها تشمل الأشياء الثوابت، فالثوابت جمع ثابت كالأبواب والرفوف وهو ما تعلق عليه الأثواب، [490/أ] وكذلك الطاقات. واشتراطه في السُّلَّم أن يكون مسمراً يقتضي أنه لو كان غير مسمر لكان للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، وهو قول ابن عتاب. وألحقه ابن العطار وابن زرب بالمسمر، واحتج له ابن سهل بقول ابن القاسم فيمن اكترى من رجل منازل سنة وفيها علو وليس لها سلم، فقال المكتري لصاحب المنزل: اجعل لي سلماً، فتوانى حتى انقضت السنة، فقال: ينظر إلى ما يصيب ذلك العلو من الكراء فيطرح. ورده صاحب البيان بأن الكراء يتضمن التمكين من الانتفاع، ولا يتوصل إليه إلا بسلم، فإذا لم يجعل له سلماً لم يحصل التمكين، وأما الشراء فيتضمن التمكين من ذات المبيع وقد حصل. وليس شرط التمكين من الذات دفع السلم، وإلا وجب على البائع أن يأتي بسلم إن لم يكن. وهذا لم يقله ابن العطار. واحترز المصنف بالثوابت مما ينتقل كالحبل والدلو فإن ذلك خارج. ابن عتاب: وتندرج المطحنة المبينة. وقال ابن العطار: السفلية فقط. فرع: ولو كان في الدار جرار ونحوها فأراد البائع إخراجها ولم يسعها الباب، أو كان فيها بعير صغير فكبر ولم يخرج من الباب، فقال ابن عبد الحكم: ليس على المبتاع قلع الباب، ويذبح هذا بعيره ويكسر جراره. ونزلت بإشبيلية وكتب بها إلى القيروان، فقال أبو عمران: الاستحسان أن يهدم الباب ويبينه البائع إن لم يبق بعد البناء عيب، وإن بقي بعده عيب ينقص الدار قيل للمبتاع: ادفع قيمة الجرار، فإن أبى قيل للبائع: أنزله وأعطِ قيمة العيب، فإن أبى تُرِكا حتى يصطلحا.

وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: إن علم المبتاع بها ووقع الشراء على أنه للبائع لزمه إخراجها، وإن لم يعلم وكان الذي يهدم لها يسيراً هدمه وأصلحه. والعبد يشمل ثياب المهنة التي عليه دون ماله إلا باشتراطه يعني: أن إطلاق لفظ العبد يشمل الثياب التي يمتهنها في خدمته بحكم العرف، وكذلك الأمة، بخلاف الرفيعة. فرع: واختلف إذا اشترط البائع ثياب المهنة: هل يوفى له بالشرط، وهو رواية عيسى عن ابن القاسم، وصححه ابن رشد وذكر أن به مضت الفتوى، أو يبطل شرطه، وهو رواية أشهب عن مالك؟ ابن مغيث في وثائقه: وبه مضت الفتوى عند الشيوخ. فائدة: ذكر المتيطي وغيره ست مسائل قال مالك فيها بصحة البيع وبطلان الشرط: الأولى: هذه على ما ذكر ابن مغيث. الثانية: من اكترى أرضاً بزرع أخضر على أن الزكاة على البائع. الثالثة: البيع على ألا مواضعة على البائع. الرابعة: ألا عهدة عليه. الخامسة: على أن المبتاع إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا، وإلا فلا بيع بيننا. السادسة: إذا اشترى الثمرة على ألا قيام له بجائحة، خلافاً لما في السليمانية أنه يوفى بالشرط. هكذا نقل ابن عبد السلام. ونقل اللخمي عن السليمانية أن البيع فاسد قال: وقال ابن شهاب: البيع جائز والشرط جائز. خليل: ويزاد على هذا إذا اشترط المشتري ما لا غرض فيه ولا مالية فإنه يلغى كما تقدم. وذكر ابن لبابة عن مالك في: "إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا" ثلاثة أقوال:

أحدها: ما تقدم. والثاني: صحة البيع والشرط. والثالث: فسخ البيع. وفرق في الدمياطية بين: إن جئتني، وبين: إن لم تأتني. وإن قال: "أبيعك على إن جئتني بالثمن فالبيع بيني وبينك" فالثمن حال كأنه رآه بيعاً ثانياً، وإنما يريد فسخه بتأخير النقد. وإن قال: "إن لم تأتني بالثمن" فكأنه لم ينعقد بينهما بيع، إلا أن يأتيه فلا يجبر على النقد إلا إلى الأجل. وقوله: (دون ماله إلا باشتراطه) لما صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي الله عنه: ((من باع عبداً فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)). وبيع الثمار ونحوها قبل بدو صلاحها على القطع يصح قوله: (ونحوها) أي: من الزرع، والمقاتي، والمباطيخ، النوار كالورد. وقوله: (على القطع) أي: في الحال أو قريباً منه، ولا يؤخرها إلى زمان تزيد فيه. وقيده اللخمي بثلاثة شروط: الأول: أن ينتفع به، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال. ثانيها: أن تدعو إلى ذلك حاجة، وإلا كان من الفساد. وثالثها: ألا يتمالأ أهل البلد على ذلك، لئلا يعظم الفساد. وعلى التبقية يبطل وبيعها على شرط التبقية باطل، لما في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل له: يا رسول الله وما تزهي؟ فقال: ((حتى تحمر أو تصفر)).

وفي الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع النخل حتى تزهي، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري. فإن أطلق فظاهر المدونة يصح، وقال العراقيون: يبطل أي: لم يشترط القطع ولا التبقية، فظاهر المدونة: يصح، لقوله في البيوع الفاسدة: ومن اشترى ثمراً فجذه قبل إزهائه فا فالبيع جائز إذا لم يشترط تركه إلى إزهائه. ووقف مع هذا الظاهر ابن محرز وعبد الحميد واللخمي وغيرهم من المتأخرين، ورجحوه بأن مقتضى العقد المناجزة في الثمن والمثمون، والتأخير فيهما أو في أحدهما لا يكون إلا بشرط أو عادة. ومذهب العراقيين البطلان، [490/ب] وهو المذهب عندهم. الباجي والمتيطي: وهو المشهور عن مالك، وتأول ابن أبي زيد المدونة على ذلك، لأنه تأولها على أنه اشترط الجذ. واختار اللخمي أن يستدل على الجذاذ والتبقية بقلة الثمن وذكرته، إذ ثمن ما على القطع أقل. فرع: إذا وقع العقد على التبقية فسخ، والثمرة من ضمان البائع ما دامت في رؤوس النخل، فإن جذها المبتاع رطباً رد قيمتها، وإن جذها ثمراً رده بعينه، وإلا رد مثلها. وكذلك يفسخ إذا بيع على الإطلاق، وقلنا أن ذلك يقتضي التبقية. وبيعها لمشتري الشجر يصح على الأصح يعني: أنه اختلف فيمن اشترى نخلاً مأبورة، وقلنا: إن الثمرة للبائع، هل يجوز للمشتري أن يشتري الثمرة؟ الأصح وهو المشهور: الجواز، كبيع الخلفة بعد شراء الأصل، وكاشتراء الأرض فيها زرع لم يبد صلاحه مجردة من الزرع، ثم اشتراه، وكبيع مال العبد في عقد ثان بناء على أن اللاحق للعقد واقع فيه أم لا. وحكى بعضهم في مسألة المصنف وفي مال

العبد أربعة أقوال: هذين القولين، والثالث: الجواز في الثمرة دون مال العبد. ورواه أشهب أيضاً وقال به. والرابع: يجوز ذلك بحدثان العقد، رواه أصبغ عن ابن القاسم. يحيي: وحد العبد في ذلك عشرون يوماً. قال بعض الشيوخ: ولو جذ الأصل ثم اشترى الخلفة فلا يجوز اتفاقاً، لأنه يشتريها غير مستندة إلى شيء، وهذا يأتي في العبد إذا اشتراه فمات أو أعتقه أو باعه، ثم أراد بعد ذلك أن يشتري ماله، فلا يجوز باتفاق، وكذلك النخل والأرض إذا باعها على الإطلاق، ثم أراد أن يشتري زرع الأرض أو ثمرة النخل. فاعلمه. وبعد بدو الصلاح يصح ما لم يستتر نحو البزر من الكتان أي: ويجوز بيع الثمار بعد بدو الصلاح منضمة إلى الأصل ومفردة على القطع أو التبقية، لكن بشرط ألا تستتر في أكمامها كبزر الكتان مجرداً عن أصله، وكالحنطة مجردة عن سنبلها، والجوز واللوز مجرداً عن قشرة على الجزاف. الباجي: ولا خلاف فيه وهو ظاهر، لأنه بيع مغيب. وفي بعض النسخ: (ما لم يستثن) أي: ما كان من الحبوب مستتراً، وعليه تكلم ابن عبد السلام فقال: قوله: (ما لم يستثن) يظهر منعه على القول بأن المستثني مشترى لانتفائه عن ملك البائع، ويجوز على القول بأن المستثنى مبقى. والنسخة الأولى أصوب، وهي التي تكلم عليها ابن راشد وغيره. ويلزم من الثانية مخالفة المشهور فقد قال المتيطي: ويجوز لبائع الثمرة أن يستثني جزءاً شائعاً منها قليلاً كان أو كثيراً، لأن البيع لم يتناول الجزء المستثني، هذا هو المشهور من المذهب. وقال عبد الملك: لا يجوز استثناء الأكثر، ويجوز في النصف فأقل. وبدو الصلاح في بعض حائط كاف وفي المجاورة في الجنس الواحد إذا كان طيبه متلاحقاً، وقيل: في حوائط البلد أي: لا يشترط عموم بدو الصلاح في كله، بل يكتفي أن يكون في بعضه، أو في بعض حائط مجاور له، ولو كانت شجرة واحدة بشرط ألا تكون باكورة.

ولذلك قال: (إذا كان طيبه متلاحقاً). واحترز بقوله: (في الجنس الواحد) من الجنسين فلا يباع جنس بطيب آخر. فإن كان الجنس الذي لم يطب تبعاً لما طاب، فقيل: يجوز. ومنعه سحنون، لعدم الضرر في تأخيره. والقول بأنه يجوز بيع جميع حوائط البلد ببدو الصلاح في حائط منها لابن القصار، وإن لم تكن مجاورة. وزاد ابن رشد قولاً آخر: أنه لا يجوز بيع الحائط حتى يعمه الزهو. قال: وما استعجل زهوه من الثمار لعارض وسبب من مرض في الثمرة وما أشبه ذلك، فلا اختلاف أنه لا يبيح له بيع ذلك الحائط. وصلاحها: زهوها وظهور الحلاوة فيها لما في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الزهو فقال: ((أن تحمر أو تصفر)). فإن قلت: الزهو يغني عن الحلاوة، لأنها لازمة له، قيل: إن الواو في كلامه للتنويع، أي: الزهو خاص بالثمرة، وظهور الحلاوة عام به وبغيره. وفي كلام المصنف نظر، لأن قوله: (وظهور الحلاوة) لا يعم، لأن بعضها قد لا تظهر فيه الحلاوة كالموز فإنه يباع في شجره. قال ابن المواز: لا يباع حتى ينزع. الباجي: يريد إذا بلغ مبلغاً إذا نزع عن أصله تهيأ للنضج. قال: وبدو صلاح التين أن يطيب وتوجد فيه الحلاوة، ويظهر السواد في أسوده والبياض في أبيضه. وكذلك بدو الصلاح في العنب الأسود أن ينحو إلى السواد، وفي الأبيض أن ينجو إلى البياض مع النضج. والهاء في (صلاحها) للثمرة. وفي البقول وشبهها بإطعامها أي: وبدو الصلاح في البقول بإطعامها، أن ينتفع بها في الحال.

الباجي: وأما الجزر واللفت والثوم والبصل فبدو صلاحه إذا استرق ورقه وتم وانتفع بها، ولم يكن في قلعه فساد. وقصب السكر إذا طاب سكره. والبر والفول والجلبان والحمص إذا يبس ذلك. قال: وعلى هذا عندي حكم اللوز والجوز والفستق. وأما الورد والياسمين فبأن تنفتح أكمامه ويظهر نوره. والقصيل والقضب والقرط إذا بلغ أن يرعى دون فساد. وفي الزيتون أن ينحو إلى السواد. وفي القِثَّاء والفقوس أن ينعقد ويوجد له طعم. واختلف في البطيخ، فقال ابن حبيب: صلاحه إذا نحا ناحية الاصفرار، لأنه الغرض المقصود منه. وقال أشهب: أن يكون فقوساً، وأما الاصفرار فلا. أصبغ: فقوساً [491/أ] قد تهيأ للتبطخ، وأما الصغير فلا. فرع: فإن بيع الفول والحنطة أو العدس أو الحمص بعد أن أفرك وقبل يبسه، ولم يُشترط قطعه ولا إبقاؤه، فقال ابن عبد الحكم: يفسخ كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها. وقال ابن القاسم: يفوت باليبس ويمضي. وفي المدونة: أكرهه، فإذا وقع فات فالأولى أن يفسخ. الشيح أبو محمد: معناه يفوت بالقبض. وفي الموازية: إن نزل لم أفسخه. وظاهره أنه يمضي بمجرد العقد. وما يخلف كالياسمين فللمشتري لا إشكال أن ما لا يخلف إذا بيع يتناول جميعه، ولهذا لم يتعرض المصنف له. وأما ما يخلف فإن تميزت بطونه فلا تدخل الخلفة إلا بشرط. ابن حبيب: ولا يجوز اشتراطها إلا في الأرض المأمونة، أرض النيل وشبهه، وأما المطر فلا يجوز اشتراط خلفتها، إذ قد لا تمطر فلا يكون له خلفة. وإن لم يتميز بطونها كالياسمين والخس والبطيخ والمقاتي، وله آخر، فأجاز مالك بيعه للمشتري في جميع تلك الغلة إلى آخرها.

قال في المدونة: ولا يجوز اشتراء ما تطعم المقاتي شهراً، لاختلاف الحمل فيه في قلة الحر وكثرته. فإن استمر كالموز فلابد من الأجل أي: إن كان ما يخلف ليس له إبان ينتهي إليه- كالموز- فلا يجوز بيعه إلا بضرب الأجل، وهو غاية ما يمكن. قال مالك: ويجوز اشتراط خلفته السنتين، وقال ابن نافع: لا يجوز إلا السنة ونحوها. تنبيه: وقع في نسخة ابن راشد هنا زيادة مسألة نصها: ولو كانت الأشجار تطعم بطنين ففي بيع البطن الثاني ببدو صلاح الأول قولان، مشهورهما المنع بناء على أن البطن الثاني تبع للأول فيجوز بيعه بصلاح الأول، أو مستقل فلا يجوز. وكذلك قال الباجي: المنع ظاهر المذهب.

العرايا

العرايا: وبيع العرايا مستثنى من الربا، والمزابنة، وبيع الطعام نسيئة (العرايا) جمع عرية كعطية وعطايا، وسميت بذلك، لأن نخيلها معراة عن المساومة عند البيع، وفعله رباعي أشار غليه صاحب العين، وقيل: لأن الثمرة معراة عن السوم عند البيع، وقيل: هي اسم للثمرة المطلوبة من عروت الرجل أعروه، أي: طلبته، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما دخلت فيها الهاء لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة والأكيلة، وقيل: سميت بذلك لأن الذي عريها يختلف إليها ويحل بأهلها لاجتناء ثمرتها، وهو قريب مما قبله، وقيل: سميت بذلك لتخلي مالكها عنها من بين ماله كأنها عرية من جملة النخل، فهي على هذا بمعنى فاعلة، وقيل: هي عرية من تحريم المزابنة، وخلت من ذلك، ويرد على هذا تسميتها قبل ورود الشرع المحلل والمحرم، وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن يع التمر بالتمر، وقال: ((ذلك الربا والمزابنة))، إلا أنه أرخص في بيع العرية النخلة والنخلتين يأخذهما أهل البيت بخرصهما تمراً ليأكلوها رطباً. وذكر المصنف أنها مستثناة من الربا- أي: ربا التفاضل وربا النساء- ومن المزابنة، لأنه بيع معلوم بمجهول من جنسه، وهي أيضاً مستثناة من رجوع الإنسان في هبته. وهي ثمرة نخل أو شجر مما ييبس ويدخر كالتين والزيتون واللوز يهبه من حائطه .... هذا تعريف العرية المرخص في جواز بيعها بخرصها، وإلا فالعرية حيث هي جائزة في كل شيء.

فيجوز شراء المعري أو من يتنزل منزلته ببيع أو ميراث أو هبة من المعري أو من يتنزل منزلته بعد صلاحها بخرصها من نوعها يدفعه عند الجذاذ لا قبله في ذمته لا في معين، فقيل: لدفع الضرر، وقيل: بقصد المعروف، وعلل مالك وابن القاسم بهما، فعلى الأول لا يشتري بعضها ولا جميعها إن كانت كل الحائط، ولا من شريط حصته. وشرطه: خمسة أوسق فأدنى، وقيل: أدنى اعلم أنه لا يجوز شراء العرية بخرصها إلا بشروط: الأول: وهو متفق عليه، أن يكون مشتريها هو معريها أو من يتنزل منزلته، إما ببيع أو هبة أو ميراث من المعرى، أو من يتنزل منزلته. الثاني: وهو متفق عليه أيضاً، أن يبدو صلاحها للنهي عن بيع الثمرة قبل ذلك قصراً للرخصة على محلها. الثالث: عياض: وهو متفق عليه أيضاً، أن يشتريها بخرصها بكسر الخاء، أي: بكيلها، وأما بفتحها فهو اسم للفعل، لما في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق. فشك الراوي في ذلك، وفيه نظر، فإنه روي عن مالك جواز شرائها بغير حرصها. الرابع: وهو متفق عليه أن يشتريها بنوعها، إن صيحانيّاً فصيحاني وإن عجوة فعجوة، وأجاز القابسي أن يتراضيا عند الأجل على ثمر من غير صنفها، وشبهه بالقرض بجامع المعروف، وألزم على شبهه أن يجوز بيعه قبل القبض كما في المشبه به، وأجيب بأن جواز البدل بغير الصنف لا يلزم منه جواز بيعه قبل قبضه كالسلم، ورد بأن الإلزام للتشبيه بالقرض لا على وجه البدل، وأجراها ابن يونس في البدل مجرى السلم، وبالجملة فقد اختلف الأشياخ في إجراء العرية مجرى البيع أو القرض.

الخامس: يشترط أن يكون العوض مؤخراً إلى الجذاذ، ولا يجوز بشرط التعجيل، وحكى عياض الاتفاق عليه، وحكى ابن يونس عن مالك أنه لا يجوز شراء العرية بخرصها وإن [491/ب] جذها مكانه. أصبغ: ويفسخ إن نزل حتى يبقى فيها ما يحل بيعه، فإن فاتت رطباً رد مثلها إن وجد وإلا قيمتها، قال أصبغ: وإن اشترى ما أعرى من رطب الفواكه التي لا تيبس، وقد أزهت بخرصها يدفعه من غيرها نقداً أو إلى تناهيها لم يصح ذلك، فإن لم يفت ذلك رد وإن فات أنفذ ولم يرد، وكذلك في كل عرية ما كانت يدخلها رخصة العرية ورفقها. قال: ولو أجيزت للرب من غير كراهة هي لم تكن لأجنبي، ولو أجيز هذا ابتداء لم يكن خطأ، لأن النقد أبلغ في المعروف. وفي بعض النسخ: (يوفيه في يده). ولا حاجة إلى هذه الزيادة، قال في الواضحة: وإن تطوع له بتعجيل قبل الجذاذ من غير شرط جاز له، وهل يجبر الموهوب على جذها؟ أشار ابن يونس إلى أنه يتخرج على القولين في أنها هل هي كالقرض أو كالبيع؟ السادس: أن يكون العوض في ذمة المعري لا في حائط معين إتباعاً للرخصة، فإن وقع التعيين، فقال المازري: الأظهر على المذهب الفسخ لكونه بيعاً فاسداً. وفي المبسوط يبطل شرط التعيين ويكون في الذمة. السابع: أن يشتري جملة العرية لا بعضها، ولما أراد المصنف الكلام على هذا الشرط قدم قبل ذلك ما هو مرتب عليه، فقال: (فقيل: لدفع الضرر .... إلخ) يعني أنه اختلف في علة الجواز بالشروط المتقدمة على ثلاثة أقوال: أحدها لابن الماجشون: أنها دفع الضرر عن المعري بسبب دخول المعري عليه في حائطه واطلاعه على أهله وشبه ذلك.

الثاني: أنها قصد المعروف. الثالث: لمالك وابن القاسم التعليل بهما، أي: على طريق البدل لا على الجمع، ثم فرع على هذه فقال: (فعلى الأول ... إلخ) وتصوره واضح. ومعنى قوله: (ولا من شريك حصته) أنه لو أعرى جماعة رجلاً بعض حائطهم فلا يجوز لأحدهم على التعليل بالضرر شراء حصته لبقاء الضرر بسبب دخول المعرى لما بقي له. الثامن: أن يكون خمسة أوسق فأقل، وهو المشهور، وروى أبو الفرج عن مالك: لا تجوز في أقل من خمسة أوسق وهو أظهر، لأنه المحقق والخامس مشكوك فيه، ولما في أبي داود قال: وحديث جابر إلى أربعة أوسق. التاسع: أن يكون مما ييبس، وهو مأخوذ من كلام المصنف أولاً، وليس ذلك خاصاً بالتمر والعنب على المشهور، وكلام المصنف يدل عليه تشبيهه باللوز، ولمالك في الموَّازيَّة: لا يشتري بخرصه إلا التمر والعنب، ثم رجع إلى ما في المدونة. العاشر: أن يكون بلفظ العرية على المشهور، ولو أعطاه بلفظ الهبة والمنحة لم يجز له الشراء اتباعاً للفظ الحديث، خلافاً لابن حبيب وغيره، وهذا لا يؤخذ من كلام المصنف، إلا أن يقال: قوله: (المعري) يدل على أن هذا لا يجوز إلا للمعري. ولو أعراه عرايا من حوائط ففي شراء أكثر من عريته ثالثها: إن كانت بلفظ واحد منع .... يعني: فإن اتحد المعري والمعرى لكنه أعراه عرايا في حوائط متعددة في مرة أو أكثر في كل خمسة أوسق فأقل، ثم أراد شراء عشرة أوسق من حائطين فقال ابن القاسم يجوز في الوجهين، أعني: سواء كان في مرة أو مرات: وقال يحيي بن عمر وابن أبي زيد

وغيرهما: لا يجوز فيهما بناء على أن العقد هل يتعدد بتعدد المعقول عليه أم لا؟ وتأول المدونة على نحو قوله، وفرق ابن الكاتب فمنع في الأول وأجاز في الثاني، ورجحه ابن يونس لقول مالك فيمن اشترى حوائط فأصابتها جائحة أنها إن كانت في صفقة واحدة اعتبر ثلث الجميع، وإن كانت في صفقات اعتبر ثلث كل واحد. وبيعها على مقتضى الشرع للمعري وغيره قليلة أو كثيرة جائز أي: أن ما تقدم من الشروط إنما هو في بيعها بخرصها، وأما بيعها بغير خرصها فهو جائز على مقتضى البيوع لرب الحائط وغيره، فيجوز شراؤها بالدنانير والدراهم وبطعام يخالفها إذا حصلت المناجزة في الطعام، وهكذا قال في المدونة وغيرها، وفي الإكمال: المشهور من قول مالك قصر جواز بيعها من ربها بخرصها تمراً إلى الجذاذ، وذلك بعد صلاح العرية، وروي عنه لا يجوز بحرصها ويجوز بغيره، وعنه أنه يجوز بخرصها وبغيره وبالعروض وبالطعام، ويريد على الجذاذ، وروي عنه أنه لا يجوز شراؤها إلا بخرصها ولا يجوز بغير ذلك من دنانير أو دراهم أو غير ذلك، لأنه من باب العود في الهبة وبالخرص رخصة لا تتعدى، قال: واختلاف قوله في ذلك على اختلاف أهل الأصول في تقديم خبر الواحد على القياس، أو تقديمه عليه، وعلى أن الرخص لا تتعدى بها مواضعها، ثم قال: وأما مشهور فإنه لا يجوز إلا بخرصها عند الجذاذ، فلم ير تعدي الرخصة عن وجهها، وهو أظهر. انتهى. فانظره مع ما في المدونة. وتبطل العرية بموت المعري قبل حوزها لأنها عطية كسائر العطايا، ولا خلاف فيه في المذهب.

وحوزها أن تكون فيها ثمرة وأن يقبضها، وقال أشهب: بالإبار أو تسليم الرقبة، والزكاة على المعري كالسقي بخلاف الواهب، وقال أشهب: على المعري كالهبة إلا أن يعريه بعد الزهو، وعلى الأول: إذا كانت العرية كل الحائط أخرج منه، وعلى الثاني من غيره، ولو كانت دون خمسة أوسق كملت .... لما كان الحوز شرطاً في تمامها فسره وذكر فيه قولين. الأول: لابن حبيب قال: وحيازة العرية بوجهين: قبض الأصول [492/أ] وأن يطلع فيه ثمر قبل موت المعري، وإن قبضها ولم يطلع فيها ثمر حتى مات المعري بطلت، وإن طلع الثمر ولم يقبض الشجر حتى مات المعري بطلت، قال مالك، وهو مذهب المدونة عند ابن العطار، وفضلٌ، وجماعة، ثم اختلف هؤلاء في وجه موافقتها لقول ابن حبيب، فقال ابن العطار: العرية والهبة والصدقة سواءٌ لا يتم حوزها إلا بأمرين، وقال ابن زرقون: إنما يوافقه في العرية لا في الصدقة والهبة، وذهب بعضهم إلى أن مذهب المدونة والاكتفاء بحوز الأصل وحده، وإليه ذهب أبو عمران وابن مالك. والقول الثاني لأشهب الاكتفاء بأحد الأمرين إما ظهور الثمرة بالإبار، وإما بحصول رقاب الثمرة بيد المعْرَى دون رب الحائط، وهذا القول هو الصواب عند ابن يونس، وإن كان لم يصرح بتأويل على أحد التأويلين المتقدمين. واستدل لهما في كتاب الهبات لابن القاسم إذا وهب ما تلد أمته أو ثمرة نخله عشرين سنة جاز ذلك إذا حاز الأصل والأمة أو حاز له أجنبي، فهذا يدل على خلاف ما قاله ابن حبيب، لأن ثمرة عشرين سنة لم تأت بعد. (والزكاة على المعري كالسقي بخلاف الواهب، وقال أشهب: على المعرى كالهبة إلا أن يعريه بعد الزهو .... إلخ) يعني أن العرية والهبة إما أن يكونا بعد الزهو أو

قبله، فإن كانتا بعد الزهو فعلى المعري والواهب، وإليه اشار بقوله: (إلا أن يعريه بعد الزهو)، وإن كان قبل الزهو ففي المسألة أربعة أقوال. ووقع في نسخة ابن راشد ما نصه: (وفي كون الزكاة على المعطي أو المعطى ثالثها لابن القاسم: في العرية على المعري وفي الهبة على الموهوب له، ورابعها لسحنون: على من كانت الأصول بيده) ومنشأ الخلاف: هل العرية والهبة يقتضيان عرفاً التزام الزكاة أم لا؟ ولفظ العرية يشعر بذلك بخلاف الهبة، وذكر ابن المواز أنهم لم يختلفوا في السقي أنه على رب الحائط، وعلى الأول، أي أنها على المعري لو كانت جميع الحائط للزم رب الحائط أن يخرج من غيرها ويأخذها كلها المعرى، وإن كان دون خمسة أوسق كلمت، أي: ضمها رب الحائط إلى ما بيده، انظر لو أعسر المعري فهل تؤخذ من المعرى ولها نظائر. الجوائح: والثمار من ضمان البائع في الجوائح لما في مسلم من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. وفيه أيضاً قال: ((لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق)). والحديثان وإن كان ظاهرهما إسقاط الجائحة مطلقاً، لكن من المعلوم أن المشتري دخل على أنه لابد أن يرمي الهواء بعضه وتأكل الطير منه ونحو ذلك، فقد دخل على اليسير، واليسير المحقق ما دون الثلث، والثلث وإن كان في كثير من أبواب الفقه فقد جعل هنا كثيراً، ولأنه روي من حديث أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصيب ثلث الثمرة فقد وجب على البائع الوضيعة)). وعن ربيعة عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر بوضع الجوائح إذا بلغت ثلث الثمرة فصاعداً) لكن فيهما ضعف. والجوائح جمع جائحة، وهي المصيبة المهلكة.

وقال ابن القاسم: إذا كان بقاؤها لينتهي طيبها، فلو انتهت كالعنب يطيب والبقول والقصيل فلا جائحة كالثمر على النخل، وقال سحنون: فيه الجائحة .... قسم المصنف على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون الثمرة محتاجة إلى إبقائها في أصولها ليكمل طيبها، ولا خلاف في ثبوت الجائحة فيه، قاله ابن شاس، ونسبة الجائحة لابن القاسم وحده ليست بجيدة. الثاني: أن ينتهي طيبها، ولكن يحتاج إلى التأخير لبقاء رطوبة كالعنب المشترى بعد بدو صلاحه. وحكى لمصنف فيه قولين. الباجي: ومقتضى رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يراعى البقاء لحفظ النضارة، وإنما يراعى كمال الصلاح، قال: ويجب أن يُجرى هذا المجرى كل من كان هذا حكمه كالقصيل والقصب والبقول والقَرَظ، فلا توضع جائحة في شيء من ذلك، قال: ومقتضى رواية سحنون أن توضع الجائحة من جميعه. الثالث: ما لا يحتاج إلى بقائه في أصله لتمام صلاحه ولنضارته كالثمر اليابس والزرع، فلا جائحة فيه. وإليه أشار بقوله: كالتمر على النخل، إذ الكاف هنا للقياس والاستدلال. وأما الأولى فهي في كلامه للتمثيل، وما حكاه عن سحنون حكاه غيره، وحكى ابن يونس عن سحنون: إذا تناهى العنب المشتري وحان قطافه حتى لا يكون تأخيره إلا لسوق يرجوها أو لشغل يعرض له فلا جائحة فيه. ابن عبد السلام: وهذا مخالف لما حكاه المؤلف وغيره عنه، وأشار بعض الأندلسيين إلى إجراء هذين القولين فيما بيع قبل بدو صلاحه أو بعده على أن يجده مشتريه، وهو ظاهر. انتهى.

وفي حمل كلام سحنون على الخلاف بحيث لا يخفي، ونص في المدونة على أنه لو اشترى ثمرة على الجذاذ فيها الجائحة إذا بلغت الثلث، كالثمار لا كالبقول، وسأل ابن عبد الحكم سحنوناً فقال: لم جعل فيها الجائحة ولا سقي على البائع؟ فقال: لأن معناه أن المشتري يأخذ ذلك شيئاً بعد شيء على قدر الجائحة، ولو دعاه البائع أن يأخذه في يومه لم يكن له ذلك، بل يمهل في ذلك، وهو وجه الشأن. ويشترط أن يكون مفرداً عن أصله في بيع محض بخلاف المهر، وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة .... [492/ب] أي: يشترط في وضع الجائحة شرطان: الأول: أن يكون البيع على الثمرة بانفرادها، وأما إن اشتراها على أصولها فلا جائحة فيها، اشتريت قبل بدون الصلاح أو بعده، أما المشتراة قبل فبالاتفاق، وأما المشتراة بعد فهو المشهور، وقال أصبغ: أما ما عظم خطره من الثمرة ففيه الجائحة، ويقبض الثمن على الثمرة وعلى الأصل، لأن المشتري زاد لها في الثمن، واحتج في المدونة للأول بأنه وإن أوجبه الاشتراط فكان كمن ابتاع عبداً ثم استثنى ماله فهلك ماله ثم رد العبد بعيب أو استحق فإنه يرجع بجميع الثمن، ولا يحط بمال العبد منه شيء. وظاهر كلامه أنه لو اشترى الثمرة مفردة عن أصلها أن فيها الجائحة، وإن اشتراها مع غيرها ولو كانت تبعاً كمكتري دار فيها ثمر دون الثلث فقد نص في المدونة على أنها لا جائحة فيها لكونها تبعاً للكراء، واختلف إذا كانت قد أزهت، فقيل: فيها الجائحة، لقوله في المدونة "ولم يطب"، وعلى هذا اختصر ابن يونس المدونة، وقيل: لا جائحة فيها، لأنه قال: ومن اكترى أرضاً فيها سواد قدر الثلث فأدنى فاشترطه جاز ذلك ولا جائحة في ثمره فأطلق، وكلام اللخمي يأتي على الأول، لأنه قال: وإن اكترى داراً فيها ثمرة فاشترطها فإن كانت لم تطب وهي الثلث فأقل فلا جائحة فيها إن سقطت، وإن طابت فأكلها ثم انهدمت الدار

غرم ما ينوبها، وإن كانت الثمرة قد طابت فاستثناها وهي الثلث فأكثر كانت فيها الجائحة، وإن أصيب ثلثها رجع بما ينوبه، واختلف إذا كان جميع الثمرة أقل من الثلث فأصيب جميعها أو الثلث فأكثر، فقيل: فيها الجائحة كالأولى، وقيل: لا جائحة فيها، لأنها تبع، والأول أحسن، لأنها مشتراة وليست ملغاة. ابن يونس: جعل في الدار التبع دون الثلث وهو لمالك، وجعل في الأرض التبع الثلث، وهو لابن القاسم، وهو أصل اختلف فيه قول مالك في كراء الأرض، قال بعد ذلك: وأخذ ابن القاسم بالقول أنه الثلث فأدنى، وأخذ ابن حبيب وابن المواز بما دون الثلث. الشرط الثاني: أن تكون الثمرة المفردة في بيع محض فلا ترجع الزوجة على زوجها إذا أصدقها ثمرة وأجيحت، لأنه مبني على المكارمة، واختار ابن يونس وغيره قول ابن الماجشون لأنا نمنع بيع المهر إذا كان طعاماً قبل قبضه أو رد بعيب إلى غير ذلك من أحكام البيوع. ويؤيده قول ابن القاسم بإيجاب الجائحة في العرية مع أنها ليست بيعاً محضاً. قال ابن القاسم: الجائحة: ما لا يستطاع دفعه لو علم به، فالسرقة ليست بجائحة، وفيها: لو أن سارقاً سرقها فجائحة. ابن الماجشون: الجائحة: الآفة السماوية دون صنع الآدمي. وفيها: الجيش جائحة .... ما لا يستطاع دفعه عادة ليدخل فيه الجيش، إذ لا يستطاع دفعه بخلاف السارق، لأنه لو علم به لدفع، فإنه إنما يأخذه على وجه الخفية، فالعلم مانع له من السرقة. وتبع المصنف الباجي في نسبة هذا القول لابن القاسم، قال: هو في الموَّازيَّة. ونقل ابن أبي زيد أن السارق جائحة، واستشكل بأن السابق لو كان جائحة لكان حفظ الثمرة على بائعها كما يكون عليه سقيها. وعلى القول الأول في كلام المصنف الأكثر، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه المشهور. وعلى أن السارق جائحة فالجيش أولى، ولذلك كان الأحسن

بطريقة المصنف في الاختصار أن يقول: وفيها الجيش جائحة. وعلى قول ابن الماجشون لا يكون جائحة. قال الشيخان وغير واحد: وإنما يكون السارق عند ابن القاسم جائحة إذا لم يعرف، وأما إن عرف فيتبعه المشتري مليّاً أو معدماً. فرع: فلو لم تهلك الثمرة بل تعيبت كالغبار يعيبها والريح يسقطها قبل أن يتناهى طيبها فينقص قيمتها، ففي البيان: المشهور أن ذلك جائحة ينظر إلى ما نقص هل الثلث أم لا؟ وقال ابن شعبان: وهو أحد قولي ابن الماجشون. والقول الثاني: ليس ذلك جائحة، وإنما هو عيب، والمبتاع بالخيار بين أن يتماسك أو يرد. فإن كانت من العطش وضعت كلها هذا لأن السقي على البائع، فأشهب ما فيه حق توفية، وكذلك لو كانت بعلا، قال في المدونة: لأنه باعها على حياتها من الماء. وظاهر قوله: (وضعت كلها) ولو كان ما نقص لا خطب له، وهو ظاهر المدونة في كتاب الحوائج، لأنه قال: يوضع عنه قليل ما هلك بسببه وكثيره، ولكن لابن القاسم في كتاب الشفعة ما يوهم خلاف ذلك، لأنه قال: ولا بأس بشراء شرب يوم أو يومين أو شهر أو شهرين يسقي به زرعه في أرضه دون شراء أصل العين. مالك: فإن غار أصل الماء فنفد أو نقص بقدر ثلث الشرب الذي ابتاع وضعه عنه كجوائح الثمار. ابن القاسم: وأنا أرى أنه مثل ما أصاب الثمرة من قبل السماء فوضع عنه إن نقص شربه ما عليه فيه ضرر بيِّن، وإن كان أقل من الثلث إلا ما قل مما لا خطب له فلا يوضع لذلك شيء. فانظر قوله: "إلا ما قل مما لا خطب له" هل مقصور على المشبه وحده أو عليه وعلى المشبه به؟ انتهى كلام ابن عبد السلام.

وجعل ابن راشد هذا فرعاً آخر، وذلك أنه لما ذكر جائحة العطش وأنه توضع مطلقاً قال: تنبيه: ومن اشترى شِرْباً معلوماً، ففي المدونة: لا بأس، ثم ذكر الكلام السابق. ومن غيره وضع الثلث فما فوقه أي: من غير العطش، وتصوره واضح، ثم إن وافقه المشتري على أن التالف الثلث فلا إشكال، وإلا فلابد من [493/أ] إثبات ذلك بأن يحضر عدلان في وقت الشراء بحضرة المتبايعين، ثم ينظران بعد الجائحة، ويشهدان أن ما تلف الثلث فأكثر. وفي البقول ثالثها كالثمار هي روايات، والمشهور أنها توضع جائحة البقول وإن قلت، لأن إتلافها من العطش. وروى علي بن زياد وابن أشرس عن مالك أن جائحتها لا توضع حتى تبلغ الثلث، وفي الجلاب: لا جائحة فيها قلت أو كثرت. واختلف في الأصول المغيبة، مثل الجزر واللفت والبصل والإسفنارية، هل هي كالبقول أم لا؟ ومذهب المدونة أنها كالبقول، وألحق ابن القاسم وابن المواز وابن حبيب الموزَ والمقاتي بالثمار، وألحق أشهب المقاتي بالبقول، فيوضع القليل والكثير. اللخمي: ولا خلاف أن الجوائح توضع في المقاتي. ابن رشد: وروي عن مالك أن جائحة الموز توضع مطلقاً، وألحقوا الزعفران والريحان والقَرَط والقضب بالبقول، وفي قصب السكر ثلاثة أقوال كالبقول، ومذهب المدونة فيه عدم القيام بالجائحة، وعلله فيها بأنه إنما يباع بعد أن يطيب، واختلف في ورق التوت، فقال ابن حبيب: هو كالثمار. وقال ابن القاسم في العتبية: هو كالبقول. وهذا إذا كانت الآفة فيه، وأما إذا كانت الآفة من غيره كما لو مات دود الحرير، فقال ابن القاسم: الأشبه أنه جائحة. وشبهه بمن اكترى حَّماماً أو فندقاً فجلا ذلك البلد ولم يجد من يسكنه، فقال المتقدمون: له أن ينحل عن الكراء.

ابن يونس: وكذلك عندي من اشترى ثمرة في بلد ثم انجلى أهله لفتنة أو نحوها، فإن مصيبة ذلك من البائع، لأن المشتري إنما اشتراه لمن يبيعه منه. ويعتبر ثلث المكيلة لا ثلث القيمة مطلقاً عند ابن القاسم، فيحط من الثمن قدر قيمته من قيمة باقيه كانت أقل من الثلث أو أكثر. وقال أشهب: المعتبر ثلث القيمة، فإن كان مما يحبس أوله على آخره كالعنب والرطب فالمكيلة باتفاق .... لما كانت الجائحة إنما توضع بشرط أن تبلغ الثلث بيَّنه وقسمه قسمين: قسم لا يحبس أوله على آخره، وقسم يحبس أوله على آخره. وذكر في الأول قولين: الأول لابن القاسم: المعتبر ثلث المكيلة لا ثلث القيمة، لأن الجائحة في الثمرة إنما هي في نقص الثمرة لا في نقص ثمنها، لأن الثمرة لو مرضت من غير جائحة لم يكن للمشتري قيام، فلو كان ثلث المكيلة يساوي عشر الثمن وضع، ولو كان دون ثلث المكيلة- وهو يساوي تسعة أعشار الثمن- لم يوضع، كما قال في المدونة فيمن اشترى مقتاتا بمائة درهم فأجيج منها بطن ثم جنى بطنين فانتقصت، فإن كان المجاح قدر ثلث النبات في زمانه، فإن قيل: قيمته ثلاثون لغلاء أوله، والبطن الثاني عشرون، والثالث عشرة لرخص آخره رجع بنصف الثمن. إلا أنهم اختلفوا في قوت تقويمه على قول ابن القاسم، فقال سحنون وابن أبي زمنين: يقوم يوم البيع بقدر قيمة كل بطن في زمانه لا يوم نزول الجائحة. وقال آخرون: يقوم التالف يوم الجائحة. ثم اختلف هؤلاء: هل يتعجل التقويم فيما بقي من البطون الآن على ما جرى من عرف عادتها، أم يُستأنى حتى يجني جميع بطونها، فتقوم على يقين لا على تخمين، واختاره صاحب النكات؟ وقوله: (مطلقاً) يحتمل كان يطعم بطناً أو بطوناً كالمقاتي والورد والياسمين، ويحتمل بلغ ثلث القيمة أم لا، والقول الثاني لأشهب: أن المعتبر ثلث القيمة، وإن كان

عشر المكيلة. ثم ذكر القسم الثاني أن المعتبر فيه المكيلة، لأنه إذا يحبس أول الثمرة على آخرها فأجزاؤها متشابهة، فلا وجه لاعتبار القيمة. وحكى جماعة أيضاً هذا الاتفاق، لكنه مقيد بأن يكون صنفاً واحداً، ولو كان أصنافاً كالبرني والصيحاني لجرى على الخلاف. فإن كانت أجناساً في عقد واحد، فقيل: يعتبر كل جنس على حدة، وقيل: يعتبر ثلث الجميع. وقال ابن القاسم: يعتبر نصاب الجنس بالمكيلة وينسب إلى الجميع بالقيمة فإن فقد أحدهما فلا جائحة .... يعني: فإن اشتملت الصفقة على أصناف كتمر وتين وعنب وأجيح جنس منها، فقال مالك في رواية ابن حبيب: يعتبر كل جنس منها على حدته بما ينوبه من الثمن بناء على أن العقد يتعدد بتعدد المعقود عليه، فكأن عقد على كل جنس عقداً مفرداً. والقول الثاني أن المعتبر ثلث الجميع، فإن بلغ ما أجيح ثلث الثمرة وُضع من غير اعتبار بقدر الجائحة من الثمن. هكذا ذكر صاحب البيان هذا القول وعزاه لأشهب، وهو مبني على أن العقد لا يتعدد بتعدد المعقول عليه. وقال ابن القاسم: إن المجاح من الجنس إنما يوضع بشرطين: أحدهما: أن تكون قيمة ذلك الجنس الثلث بالنسبة إلى قيمة جميع الأجناس. الثاني: أن يكون أجيح منه ثلث مكيلته، فإن فقد أحدهما فلا يوضع، ونسبه المصنف لابن القاسم كالباجي، ونسبه ابن يونس لابن المواز قال: وهو كقول ابن القاسم أكترى داراً وفيها ثمر طابت فاشتراها المكتري، وهي أكثر من الثلث فذلك جائز، فإن أصيب منها أقل من ثلث الثمرة في عين المسألة، وقد [493/ب] ذكر ابن يونس أنه طالع الأمهات في هذه المسألة وعول عليها.

والضمير في ينسب عائد على الجنس لا على المصاب منه، قال في البيان: أما لو اشترى حوائط في صفقة واحد فحكمها في الجائحة حكم الحائط الواحد إن بلغ المجاح ثلث ثمرة الجميع وضع عن المبتاع ثلث الثمن، كان الذي أجيح بعض حائط أو من كل حائط، هذا إن كان الثمر من صنف واحد متساوياً في الطيب أو قريباً بعضه من بعض، واختلف إذا كان بعضه أفضل أو أطيب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا قيمة في ذلك، وإنما يعتبر ثلث الثمر، وهو قول ابن القاسم. والثاني: إن بلغ المجاح ثلث الثمر أو أكثر وضع عن المشتري ما ينوب ذلك من الثمن، وإن أجيح أقل من الثلث لم يوضع عنه شيء وإن كان ذلك من الثمن أكثر من الثلث، وهو قول أصبغ. والثالث: إن أجيح ما قيمته من ذلك الثلث فصاعداً وضع، وإن كان عشر الثمرة، وإن كان قيمة الذي أجيح أقل من الثلث لم يوضع، وإن كان تسعة أعشار الثمرة، وهو قول أشهب. ويلزم المشتري ما بقي وإن قل بخلاف ما استحق من الطعام لدخوله عليها يعني: إذا بقي بعد الجائحة شيء يلزم المشتري بما ينوبه من الثمن ولو قل، بخلاف ما إذا استحق بعض المبيع على ما تقدم. وفرق المصنف بينهما بأن الجوائح متكررة، والمشتري قد دخل عليها فيلزم ما بقي لدخوله عليها، بخلاف الاستحقاق فإنه لندوره مما لم يدخل عليه. ومن اشترى عريته ففيها الجائحة، خلافاً لأشهب هذه أحسن مما في بعض النسخ- عرية بغير إضافة- فإن الخلاف إنما هو إذا اشتراها المعري أو من يتنزل منزلته، فوجه المشهور أنه مشترٍ، ووجه قول أشهب أنه معروف، وأطلق الخلاف وهو مقيد بوجهين:

أولهما: أن يكون اشتراها بخرصها، إذ لو اشتراها بغيره لكانت كسائر البيوعات. ثانيهما: أن يكون على ثمر نخلة معينة، ذكره الباجي، إذ لو كانت أوسقاً من حائط فلم يبقَ إلا مقدار تلك المكيلة لزم المبتاع أداؤها، بمنزلة من أوصى بثمرة حائطه يعطي إنساناً، ولآخر منه بخمسة أوسق فتلفت الثمرة إلا خمسة أوسق فإن جميعها له دون من أوصى له بسائر الثمرة. قاله في المبسوط. ومن استثنى من الثمرة مكيلاً معلوماً فأجيحت بما يعتبر وضع من المستثنى بقدره، وروي: لا يوضع شيء .... قوله: (مكيلاً معلوماً) أي: الثلث فأدنى- كما تقدم- مثاله: لو استثنى عشرة أرادب من ثلاثين فأجيح ثلث الثمرة، فلا خلاف أنه يحط عن المشتري مقابل المجاح من الثمن. واختلف: هل يحط ثلث العشرة؟ في ذلك روايتان. الأولى: أنه يحط. قال في البيان: وهي رواية ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك، وبها أخذ ابن القاسم وأصبغ، وهذا على القول بأن المستثنى بمنزلة المشتري، لأنه إذا باع حائطاً واستثنى منه عشرة أرادب، فكأنه في التمثيل على هذا القول قد باع جميع الثمرة، وفيها ثلاثون إردباً بعشرة دنانير، وبعشرة أرادب التي استثنى، فإن أجيح من ثمر الحائط نصفه سقط عن المشتري نصف الثمن، وهو نصف العشرة دنانير، ونصف العشرة أرادب المستثناة، لأنها من ثمرة الحائط، وكذلك على هذا القياس. والثانية: رواية ابن وهب: لا يوضع من العشرة أرادب شيء. وقال في البيان: لأن المستثنى مبقى، لأنه على هذا القول إنما باع من حائطه ما بقي بعد ما استثنى، لأن الذي استثناه أبقاه على ملكه لنفسه ولم يبعه. وقوله: (فأجيحت بما يعتبر) احترز به مما دون الثلث، إذ لا يوضع حينئذٍ من المستثنى بقدره، ويأخذ البائع جميع ما استثنى.

فإن اشترى الثمرة مع الأصل فلا جائحة هذا ظاهر، وهو مفهوم مما تقدم من قوله: (ويشترط أن يكون مفرداً عن أصله)، ولعله أعاده ليرتب عليه ما بعده. ولو اشترى الثمرة بعد صلاحها ثم الأصل ففيها الجائحة أي: لوجوبها بشراء الأصل، ويمكن أن يجرى فيها قول بسقوطها من أحد القولين في أن اللاحقات للعقود تقدر واقعة فيها. أما لو اشتراها أولاً قبل بدو الصلاح على القطع ثم اشترى الأصل فله إبقاؤها ولا جائحة. ابن يونس: وتحصيل المسألة أنه إن اشترى الأصل والثمرة وهي مزهية فاشتراها بعد الأصل قولان، أو غير مزهية تبعاً أو غير تبع فلا جائحة في الثمرة. وإن اشتراها بعضها بعد بعض وهي غير مزهية فكذلك لا جائحة فيها، وإن كانت مزهية فاشتراها بعد الأصل فقولان. فإن اشترى الأصل ثم الثمرة بعد صلاحها فقولان هذه عكس التي قبلها، وهي أن يشتري الأصل أولاً ثم الثمرة، فإن اشتراها قبل بدو صلاحها فاختلف في جواز شرائها على قولين، فإذا فرعنا على الجواز فلا جائحة فيها. انتهى. وعن هذه الصورة احترز المصنف بقوله: (بعد بدو صلاحها). وهذه المسألة يتصور إذا استثنى البائع الثمرة قبل زهوها. خليل: وهي تأتي على المشهور أن المستثنى مبقى، وأما على القول بأنه مشترى فلا يجوز للبائع الاستثناء. والقولان اللذان حكاهما المصنف إذا اشتراها بعد بدو صلاحها لابن القاسم، ومذهب المدونة سقوط الجائحة كما لو اشتراها مع الأصل بعد بدو الصلاح. والقول بثبوتها لابن القاسم في الأَسْدِيَّة والموَّازيَّة. ابن يونس: كأنه يقول: السقي على البائع فحق التوفية باقٍ عليه.

وإذا اختلف المتبايعان في جنس الثمن تحالفا وتفاسخا اتفاقاً يدخل تحت لفظ [494/أ] المتبايعين كل متبايعين نقداً أو نسيئة، سلماً أو غيره، والأصل فيه ما رواه مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيُّما بَيِّعين تبايعاً فالقول ما قال البائع أو يترادان)). وذكر أبو عمر أنه مشهور عند العلماء تلقوه بالقبول، وبنوا عليه كثيراً من الفروع، فقد اشتهر عندهم بالحجاز والعراق شهرة يستغنى بها عن الإسناد، كما اشتهر حديث: ((لا وصية لوارث)). وليس في الحديث ذكر التحالف، إلا أن أهل العلم تأولوه على ذلك. وحكى المصنف وغيره الاتفاق على التحالف والتفاسخ، يعني أنه ليس قول أحدهما أولى من قول الآخر، ولم يقر البائع بإخراج سلعته بما قال المشتري جملة ولا تفصيلاً. وحكى ابن حبيب وغيره عن ابن القاسم في الكراء أن القول قول الساكن إن خرج، فُيخرَّج عليه قول في البيع أن يكون القول قول المشتري إن فات المبيع. وخرج عبد الحميد قولاً بأن يكون القول للبائع مما في المدونة فيمن صبغ الثوب أسود فادعى ربه أنه عقد معه على أن يصبغه أحمر أن القول قول الصباغ مع اختلافهما في الجنس، لأن الصباغ يدعي أنه باعه سواداً، ورب الثوب يدعي أنه اشترى معصفراً. وفرق المازري بأن صاحب الثوب لما دفع ثوبه إليه فكأنه ائتمنه عليه، وبأن صاحب الثوب يدعي على الصباغ تعدياً يوجب عليه تعمير ذمته بقيمة الثوب، والأصل عدمه. وفي نوعه كذلك، وقيل: كمقدار الثمن أي: وإذا اختلفا في نوع الثمن فقال البائع: بعتك بقمح، ويقول الآخر: بشعير، فالمشهور أنهما يتحالفان ويتفاسخان. قال في الجواهر: قيل: يجري الاختلاف في قدر الثمن. وهذا هو القول الثاني في كلام المصنف.

اللخمي: وذهب ابن الماجشون إلى أنهما لا يتحالفان، قال: لأنهما اتفقا على جنس واحد، واختلفا في جودته. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد المصنف ما لو ادعى أحدهما سمراء والآخر محمولة، فقال ابن حبيب: هو كما لو ادعى أحدهما جيداً والآخر رديئاً، وكما لو اختلفا في القدر. وذهب فضل بن مسلمة أن التحالف والتفاسخ، فحمله بعضهم على أنهما عنده كالجنسين، وبعضهم على أنهما كالجنس الواحد. إلا أنه على القول بالتحالف والتفاسخ مطلقاً. ولو كان السلم والبيع بالنقد بالخيار، فقال أحدهما: إنا عقدنا على ذكران. وقال الآخر: على إناث. فرده المازري للاختلاف في الجنس لتباين الأغراض، فإن الإناث تراد للنسل. قال: بخلاف ما لو كان الاختلاف في ذكران البغال أو إناثها، فإن ذلك راجع إلى الاختلاف في الصفة، لأن إناث البغال لا تراد للنسل. وإذا اختلفا في مقدار الثمن فأربع: ابن وهب: يتحالفان ويتفاسخان ما لم يقبض المشتري السلعة فيصدق مع يمينه لليد. ابن وهب أيضاً: ما لم يبن بها للبينونة. المدونة: ما لم تفت في يد المشتري للفوات. أشهب: مطلقاً، وإن فاتت فالقيمة. واختاره المازري .... أي: فأربع روايات، ولذلك أسقط التاء. وتصور الأولى واضح، و (اليد) يريد بها الحوز. وتبع المصنف في نسبتها لمالك ابن شاس. ابن عبد السلام: وقد حكى ذلك غير واحد، وهو خلاف ما ذكره ابن أبي والباجي وسند عن ابن المواز أن مالكاً لم يختلف قوله قبل التفرق أنهما يتحالفان ويترادان. وقوله: (فيصدق مع يمينه)، قال في الموازية: إلا أن يدعي ما لا يشبه. وكذلك تصور الثانية ظاهر.

وارتفع ابن وهب إما بفعل مضمر، أي: وروى ابن وهب، أو على حذف مضاف على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الثانية رواية ابن وهب. وما في المدونة هو المشهور، وسيأتي تفسير الفوات. زاد في المدونة: إذا أتى المشتري بما يشبه من الثمن، قال: وفي تضمين الصناع منها: وثبت مالك على هذا. زاد في الواضحة: وما عملت أن أحداً اختلف قوله فيها من أصحابه المدنيين. ابن عبد السلام: الرواية الرابعة للمازري: وبها كان يفتي شيخنا، وأنا أفتي، وهو معنى قوله: (واختاره المازري) لعموم الحديث في قوله: (يتحالفان ويتفاسخان). ابن بشير: وحكى بعضهم عن كتاب ابن حبيب قولاً خامساً أن القول قول المشتري ولم يوجد فيه، وتقييده في المدونة الفوات بيد المشتري، مفهومه أنه لو فاتت في يد البائع لم يكن القول قوله. ووقع لابن القصار ما يقتضي أن القول قول المشتري ولم يوجد فيه، فإنه سوى بين فواتها بيد المشتري أو بيد البائع في أن ضمانها منه. وللقاضي إسماعيل ما يقتضي أنهما يتحالفان. المازري: وخرج الأصحاب ما إذا فاتت بيد البائع على اختلاف قول مالك في المحبوسة في الثمن، فإن قلنا ضمانها من البائع لا يكون القول قول المشتري، إذ لا غرامة عليه. وإن قلنا ضمانها من المشتري ترجح قوله كما لو كانت في يده. قال: ويعرض هنا بحث آخر، وهو أن المشتري الذي صار راهناً لا في مبلغ الدين إذا ادعى أقل من قيمة الرهن، والمرتهن لا يعمر ذمة الراهن بما لم يقر أنه رهن به، وإنما له حبس السلعة، والرهن شاهد على نفسه لا على الذمة على مشهور المذهب، فإن كان المبيع جارية وحدث بها في أيام احتباسها عور- وهو ربع قيمتها- صار هذا الربع قد فات بيد المشتري، فيصدق في [494/ب] مقدار ثمنها كما يصدق في ثمن السلعة جميعها في يده، ويتحالفان في ثلاثة أرباع الجارية التي بقيت منها، ويقع فيها التفاسخ، فيحلف المشتري لينفي عن ذمته ما يطلب البائع منه، ويحلف البائع لئلا يؤخذ

من يده الرهن بما لم يقر به مما هو مصدق في كون الرهن ليس برهن فيما هو أقل منه. وإلى تصديق المشتري في ثمن ما فات والتحالف في ما لم يفت ذهب ابن عبدوس. ويدل على اعتباره ما رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع)). ومفهومه: إن لم تكن قائمة لم يترادَّا فينبغي التحالف. ويعتبر الأشبه عند الفوات اتفاقاً، ولا يعتبر وهي قائمة وهي قائمة على المشهور. وفي الفوات بحوالة الأسواق قولان .... إذا ادعى أحدهما ما يقرب من الصدق وادعى الآخر ما لا يشبه فإن كانت السلعة فاتت فالقول قول من ادعى الأشبه اتفاقاً، لأنه أتى بشاهد العرف على بطلان دعوى صاحبه، فيحلف معه، كما لو قام له شاهد واحد، فإن كانت قائمة فهل يترجح مدعي الأشبه كالفوات؟ وهو قول مطرف وابن الماجشون، وصوبه الأشياخ أولاً لقيام السلعة، وهو المشهور، والقولان لمالك. ابن بشير: وهذا ينبغي أن يكون خلافاً في حال، فإن ادعى أحدهما الأشبه، فينبغي ألا يُختلف أن القول قول من ادعى الأشبه، وإن ادعى الآخر ما هو ممكن ويتغابن الناس بمثله، فلا يلتفت إلى الأشبه. وحيث قلنا: إن القول قول مدعي الأشبه عند الفوات فالفوات يكون بذهاب العين أو بتغيُّر الذات. وهل يكون بحوالة الأسواق وهو مذهب المدونة حتى في المكيل والموزون، أو لا وهو قول أشهب وعبد الملك؟ والأقرب مذهب المدونة، لأن سكوت البائع عن طلب الثمن وعن بيان مقداره حتى تتغير سوقها دليل على الكذب.

وفي البداية ثالثها بالقرعة، والمشهور تقدمة البائع تصور كلامه ظاهر، فوجه المشهور وهو قوله في المدونة: قوله عليه الصلاة والسلام: ((القول ما قال البائع))، لأن الأصل استصحاب ملكه، والمشتري يدعي أخراجه بغير ما رضي به. والثاني: رواه يحيي عن ابن القاسم في العتبية، ووجه مقابله أن البائع مقر بالبيع ونَقْل الملك للمشتري، ومدعٍ لزيادة والأصل عدمها. والثالث: ابن عبد السلام: للأشياخ ولبعضهم أن الحاكم مخير في تعيين المبدأ منهما. فإن قلت: فهل قوله في المدونة في تضمين الصناع إذا جهل ورثة البائع والمشتري الثمن فيبدأ بورثة المشتري مخالف للمشهور؟ فالجواب: لا، لأن الجهل عندهم يتنزل منزلة الفوات. قال في البيان: ولو اتفق المتبايعان على مقدار الثمن واختلفا في مقدار المثمون لبدِئ بالمشتري، لأنه بائع للثمن. ومثله في العتبية، وحكى عن شيوخه خلاف ذلك. وفي كونه أولى أو واجباً قولان أي: في كون تقدمة البائع على جهة الأولوية أو الوجوب قولان، والأقرب الوجوب، لأن الحاكم يحكم بتقدمة البائع ولا يحكم بالمندوبات. وهذا القولان ذكرهما ابن بشير وابن شاس ولم أقف عليهما، ولعلهما أخذا القولين من الخلاف المذكور في تناكلهما. ولو تناكلا فقال ابن القاسم: يفسخ كما إذا تحالفا. وقال ابن حبيب: بما قال البائع بناء على أن تقديمه أولى أو واجب .... أي: إذا نكل كل واحد منهما عن اليمين فقال ابن القاسم في المدونة: ينتقض البيع كما ينتقض إذا تحالفا لاستوائهما، وذكره في المدونة عن شريح قاضي علي بن أبي طال رضي الله عنهما. وقال ابن حبيب: يمضي البيع بما ادَّعاه البائع.

ابن يونس: ووجهه أن البائع أقوى، لأنه المبدأ باليمين، والأصل في كل من كان القول قوله فنكل عن اليمين أن يحلف الآخر، ويكون الأمر على ما قال، فإن نكل كان الأمر على ما قاله الأول. انتهى. وفرق بأن يمين المدعى عليه تُسقط دعوى المدعي، ونكوله عنها يوجب يمين المدعي. وإذا نكل المدعي ترجح قول المدعى عليه، ولا يحتاج إلى يمين، لأنه قد نكل عنها أولاً، بخلاف يمين البائع فإنها تُسقط دعوى المشتري، بل يبقى مطلوباً باليمن مثلما كان البائع مطلوباً، فلا يلزم من نكوله بعد نكول البائع أن تترجح دعوى البائع عليه. وذكر عبد الوهاب قولاً آخر أن القول إذا تناكلا قول المشتري بناء على أنه مقدم باليمن. وبنى المصنف تبعاً لابن بشير وابن شاس قول ابن القاسم على أن تقديم البائع أولى، وقول ابن حبيب على أنه واجب، وفيه نظر، فإن نمنع استلزم الوجوب لقبول قول البائع، ونمنع استلزام الأولوية للفسخ. وفي تحليفه على دعواه قولان هذا تفريع على قول ابن حبيب، أي: إذا قلنا: البيع يمضي بما قاله البائع. فقال أكثر الشيوخ: يقضى للبائع بغير يمين. وهو مقتضى إلحاقه بسائر الدعاوى كما تقدم. وقال الباجي: لابد من اليمين الأولى لا يستحق بها ما ادعاه، لأن للمبتاع إسقاطها بيمينه، فلما نكل عنها ثم نكل المشتري لم يكن بد من يمين آخرى. قال في البيان: وهو الصواب. وإذا حلفا افتقر على الفسخ خلافاً لسحنون [495/أ] قال في المدونة: وإذا تحالفا ولم يحكم بالفسخ فللمشتري قبولها. وقال سحنون: بل بنفس التحالف ينفسخ العقد كاللعان. وذكر بعضهم ثالثاً: وهو بقاء العقد بينهما إلا أن يفسخاه بتراضيهما

ابن عبد السلام: ولا ينبغي أن يعد ثالثاً، ولا ينبغي أن يختلف فيه، وإذا تراضيا فهو كحكم الحاكم أو أشد، وهو ظاهر من كتاب الإجارات. وقيل: إن كان تحالفهما بأمر الحاكم لم يفسخ حتى يفسخه الحاكم، وإن كان بتراضيهما وقع الفسخ بمجرد أيمانهما. وقيل بعكس هذه التفرقة. ورفع عبد الحميد الخلاف بين الأولين، فحمل الأول على أن يمينهما كانت لنفي الريبة عن أنفسهما وصدقهما في دعواهما، والثاني على أن يمينهما كانت لينفسخ البيع بينهما. وثمرته أن يرضى أحدهما بقول الآخر أي: وثمرة الخلاف. وتصوره ظاهر. وذكر الباجي ثالثاً أن للمبتاع أن يلزم البائع بما قال دون العكس، وحمل المدونة عليه لقوله فيها: إلا أن يشاء المبتاع. وينفسخ ظاهراً وباطناً على الأصح أي: إذا قلنا بالفسخ بالحكم أو بالتحالف فاختلف: هل ينفسخ العقد في الظاهر والباطن ويأثم الظالم منهما، أو في الظاهر خاصة؟ وهو في نفس الأمر منعقد على ما ادعاه المحق. وما صححه المصنف ذكر سند أنه ظاهر المذهب، ورجح الثاني بأن أصل المذهب أن حكم الحاكم لا يحل حراماً، وسيأتي بيان ذلك في الأقضية. وأجيب بأن مسألة البيع قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها رد البيع، ورد المبيع يوجب انتقاضه، وفيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها في الظاهر. فرع: إذا بنينا على أنه إنما يفسخ في الظاهر فمن حجة البائع أن يبيع السلعة، لأنه يقول: لي في ذمة المشتري دين منعني منه، وقد عثرت على سلعة له، ولا يمكن أخذها من ديني إلا بعد بيعها، فإن ساوت مثل الثمن فلا كلام، وإن ساوت أقل بقي باقي الثمن ديناً لي عليه،

وإن ساوت أكثر رد الفضلة. وبين أصحاب الشافعي اختلاف: هل يبيع ذلك لنفسه لأجل تعذر الرفع إلى الحاكم في مثل هذا أو يتولى الحاكم البيع؟ والأشبه بظاهر مذهبنا رفعه إلى الحاكم ليتولى البيع عليه، قاله المازري. ابن عبد السلام: والذي أفهم أنا من قواعد مذهبنا أنه لا يلزمه ذلك، بل له أن يتولى البيع بنفسه. وثمرته حل الوطء وغيره أي: فعلى الأصح يحل للبائع الانتفاع بالمبيع وطأً وغيره، ولا يحل ذلك على القول الآخر، لأنه على ملك المشتري، إما بما ادعاه هو أو بما ادعاه البائع، وإنما بقي له دين في ذمة المشتري. ويحلف على نفي دعوى خصمه، وقيل: مع تحقيق دعواه، فإن نكل فلابد من الثاني، ولهذا قال اللخمي: له أن يجمعهما .... مثاله: لو ادعى البائع أنه باع بعشرة وادعى المشتري أنه اشتراها بثمانية، فيحلف على نفي دعوى خصمه، فيقول البائع: والله ما بعته بثمانية. إذا المقصود نفي دعوى الخصم، وهذا القول حكاه اللخمي، واقتصر عليه صاحب البيان، وأنكره المازري، والمشهور هو القول الثاني، وهو أن كل واحد منهما يحلف في يمين واحدة على نفي دعوى خصمه وإثبات دعواه، فيحلف البائع ما بعته بثمانية ولقد بعته بعشرة. نص عليه فيها في تضمين الصناع، وعلى هذا ففي تقديم المصنف للأول نظر. وقوله: (فإن نكل الثاني) وهو المشتري على المشهور (فلا بد من الثاني) أي: أن يحلف البائع على إثبات دعواه، إذ لا يلزم من نفي البيع بثمانية أن يكون حصل بعشرة لجواز أن يكون وقع بتسعة. وكذلك إذا بنينا على تبدية المشتري، فإذا حلف المشتري ما اشتريت بعشرة، ونكل البائع أن يكون باعها بثمانية، فلا بد للمشتري بعد ذلك أن يقول:

ولقد اشتريتها بثمانية. ولما كان في كل من القولين راجحية من وجه ومرجوحية من آخر، فأما راجحية الأول فلأنه لم يلزم الحالف إلا بالقدر المضطر إليه، وأما مرجوحيته فلكونه ألزمه اليمين مرتين. وأما راجحية الثاني فلكونه ألزمه اليمين مرة واحدة، وأما مرجوحيته فلأنه ألزمه أولاً بنفي ما لم يلزمه. قال اللخمي: الخيرة في ذلك للحالف، فإن شاء قلل الأيمان على نفسه فجيمعها أولاً، وإن شاء التزم تكرار اليمين فيحلف أولاً على النفي ويؤخر يمين الإثبات حتى ينكل صاحبه. والاختلاف في الرهن والحميل كذلك أي: كالمقدار. فتجئ الأربعة الأقوال وما يتعلق بذلك من الفروع، لأن الثمن يزيد بعدمهما ويقل بوجودهما، وهذا هو الظاهر. وإن كان وقع في المذهب ما يدل على أن الرهن لا حصة له من الثمن، كما سيأتي في باب الرهن. وإذا اختلفا في تعجيله وتأجيله حكم بالعرف، فإن لم يكن فكذلك، وقيل: القول قول البائع. وقيل في البعيد والقريب كذلك .... أي: قال البائع بعته بنقد، وقال المشتري: بل بنسيئة، فالقول قول من ادعى العرف مع يمينه إن كان عرف، وإن لم يكن عرف فكذلك، أي: يتحالفان ويتفاسخان ما لم تفت، هكذا نقل ابن بشير هذا القول، وقال: إنه الأصل. وعلى هذا فكلامه يشتمل على ثلاثة أقوال. ويحتمل [495/ب] أن يريد بقوله: وإن لم يكن عرف فكذلك، أي: كالاختلاف في الثمن فتأتي الأربعة الأقوال. وعلى هذا الوجه اقتصر ابن عبد السلام، ويكون قوله: (وقيل) قولاً خامساً. ويترجح هذا بأن الغالب من كلام المصنف إذا قال كذلك أنه يريد الاختلاف في قدر الثمن، ويرجح الأول موافقة ابن بشير، وأيضاً فلأن قوله في القول الآخر، وقيل: في

البعيد والقريب كذلك، إنما يمكن فهمه على أن المراد يتحالفان ويتفاسخان، ولا يمكن أن يريد فتأتي الأربعة الأقوال، لأنه يقال: إن في قوله تفصيلاً مشتملاً على أربعة أقوال. وقوله: (وقيل: القول قول البائع). ابن عبد السلام: ظاهره سواء كانت السلعة قائمة أو فائتة، وسواء كان فيها عرف أو لم يكن، وهذا يشبه قول ابن القاسم في كتاب الرهن. انتهى. وهو منصوص لمالك في الواضحة من رواية مطرف أن البائع مصدق مع يمينه فاتت السلعة أو لم يفت. قوله: (وقيل في البعيد) أي: وقيل: إن القول قول البائع في الأجل البعيد، وأما القريب فكذلك، أي: فيتحالفان ويتفاسخان ما لم تفت كالاختلاف في قدر الثمن، هكذا نقل ابن بشير وصاحب الجواهر هذا القول. تنبيه: مقتضى كلام ابن بشير وابن شاس أن القول الثاني ليس خلافاً للأول، لأنهما لما قالا: وقيل: القول قول البائع. وهو بناء على أن العادة التعجيل. واعلم أن مسائل الأجل ثلاثة: الأولى: أن يختلفا في أصل الأجل، وهي هذه المسألة. الثانية: أن يتفقا عليه ويختلفا في انقضائه، وهي الآتية، أعني قوله: (وإذا اختلفا في انتهائه). والثالثة: أن يختلفا في مقداره، كما لو قال: بعتك إلى شهر. وقال المشتري: بل إلى شهرين. المازري: فيجري فيه الخلاف الذي في مقدار الثمن. قال: ولم يختلف المذهب في هذا، وحصل في البيان المسألة على غير هذه الطريقة، وجمع في المسائل الثلاث ثمانية أقوال:

أحدها: رواية ابن وهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن دفعها إلى المبتاع كان القول قوله سواء أقر بأجل أو لم يقر به، وهو اختيار سحنون. الثاني: يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن دفعها إلى المبتاع كان القول قول البائع إن لم يقر بأجل، والقول قول المبتاع إن أقر به. الثالث: يتحالفان ويتفاسخان، وإن قبض المبتاع السلعة ما لم تفت، فإن فاتت كان القول قول البائع إن لم يقر بأجل، وقول المبتاع إن تقاررا على الأجل أو اختلفا فيه، وهذا أحد قولي مالك وابن القاسم، وهو المشهور عنه. الرابع: يتحالفان ويتفاسخان، وإن قبض المبتاع السلعة ما لم تفت، فإن فاتت فالقول قول المشتري وإن لم يقر المبتاع بالأجل، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ. الخامس: أن القول قول المشتري إذا ادعى من الأجل ما يشبه- كانت السلعة قائمة أو فائتة- وروى هذا عن ابن القاسم. السادس: أن البائع إن لم يقر بأجل كان القول قوله ما لم يدفع السلعة، فإن دفعها كان القول قول المشتري. السابع: أن البائع إذا لم يقر بأجل فالقول قوله، وإن دفع السلعة ما كانت قائمة فإن فاتت كان القول قول المشتري، وروى أيضاً هذا القول عن ابن القاسم، وهو قول العراقيين. الثامن: أن القول قول البائع إن لم يقر بأجل كانت السلعة قائمة أو فائتة، وإن أقر بأجل كان القول قول المشتري كانت السلعة أيضاً قائمة أو فائتة فلا يتحالفان ولا يتفاسخان في شيء، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه.

وإذا اختلفا في انتهائه فقط فالقول قول منكر التقضي أي: إذا اتفقا على الأجل واختلفا هل انقضى أم لا؟ كما لو اتفقا أن البيع وقع إلى شهر واختلفا هل انقضى أم لا؟ وذلك مستلزم لاختلافهما في أوله، وكان القول قول منكر التقضي، لأن الأصل ألا معاملة بينهما إلا بعد الثبوت. وفي تضمين الصناع: وإن تصادقا على أن الأجل شهران وادعى البائع حلوله وأنكر المبتاع حلف المبتاع وصدق. زاد في الواضحة عن ابن القاسم: وكذلك إن اختلفا في مقداره. واعلم أن قول المصنف: (منكر التقضي) أعم فائدة من قول غيره "قول المبتاع"، لأن المبتاع كما ينكر التقضي كذلك أيضاً قد ينكر المسلم التقضي، فيكون القول قوله، وكذلك يتصور فيما فيه ضمان. وإذا اختلفا في قبض الثمن أو السلعة فالأصل بقاؤهما، ويحكم بالعرف في بعضها كاللحم والبقل إذا بان به، وكغيرها إذا طال الزمان طولاً يقضي العرف بخلافه، ويرجع إلى العوائد .... يعني: إذا اختلف المتبايعان في قبض الثمن بأن يقول البائع: ما قبضته، ويقول المشتري: بل أقبضتكه، أو السلعة بأن يقول المشتري: لم أقبض السلعة، ويقول البائع: أقبضتها لك- فالأصل بقاؤهما، أي: بقاء الثمن في ذمة المشتري وبقاء السلعة في يد البائع، لأن الأصل عدم خروج الثمن من ذمة المشتري إلا ببينة أو إقرار، وكذلك المثمون الأصل بقاؤه بيد البائع، ثم ذكر أن العرف أن العرف يقدم على الأصل في مثل اللحم والبقل، وشبه هذه الأشياء في المدونة بالعرف، إذ العرف في مثل هذه الأشياء إعطاء الثمن قبل التفرق. وحكى المازري الاتفاق على اعتبار العادة هنا، وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في هذه الأشياء [496/أ] بين أن تكثر أو تقل، وهو قول ابن أبي زمنين، ونقله عن ابن القاسم، وأنكر ذلك يحيي بن عمر فيما كثر، وجعله كسائر السلع القول فيه قول البائع.

وقيد المصنف كون القول قول المشتري بالبينونة كالمدونة لاتفاق المذهب على رجحان قول المشتري حينئذٍ، ومفهومه أنه لا يقيد قبلها، وفيه تفصيل إذا قال: دفعته إليه بعد قبض الرطب، فالقول قول الرطَّاب باتفاق، وإن قال: دفعته قبل قبض الرطب فثلاثة أقوال: أحدها: أن القول قول البائع، وهو ظاهر قول مالك في العتبية. والثاني: أن القول قول المبتاع، رواه ابن القاسم في الموَّازيَّة. الثالث: أن القول قول المشتري في كل ما الشأن فيه قبض ثمنه قبل قبض المثمون، وهو قول ابن القاسم في الموَّازيَّة، حكاه ابن رشد. وحكى غيره في المسألتين قولين سواء قال: دفعته قبل قبض الرطب أو بعده، أما إن لم يقبض المشتري المثمَّن وادعى أنه دفع الثمن فلا خلاف أنه لا يعتبر قوله: وقوله: (وكغيرهما) أي: وكذلك القول قول المشتري في غير البقل واللحم كالدور والعروض مما لم يجر العرف فيه بالقبض، بشرط الطول لشهادة العرف حينئذٍ، لأن البائع لا يصبر إلى مثل هذا الزمان، وهذا هو الأصل أنه يرجع إلى العرف، ووقع في الرواية التحديد بالزمان، فمن ذلك ما قاله ابن حبيب: أما الرقيق والدور والدواب والرباع وشبه ذلك مما لا يباع على الدين ولا على التقاضي، فالقول قول البائع في عدم القبض ما لم يمض لذلك السنة والسنتان، فالقول قول المبتاع ويحلف. وأما التجارات مما يباع على التقاضي والأجل فالقول قول البائع، ما لم يمض لذلك عشر سنين أو أقل من ذلك مما لا يباع ذلك إليه، فيصدق المبتاع ويحلف. وروى ذلك مطرف وقال به. وساوى ابن القاسم بين البز والربع وغيره مما عدا الحنطة والزيت، وجعل القول قول البائع في ذلك كله وإن بعد عشرين سنة حتى يجاوز الوقت الذي يجوز البيع إليه.

ابن محرز وابن يونس وغيرهما: والأصل في هذا أن يحمل على العرف في تلك السلعة ويقضي به، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (ويرجع إلى العوائد). وكذلك قال ابن بشير: إن حظ الفقيه أن يحيل على العوائد. والمثمون كذلك يحتمل أن يريد: وإن اختلفا في قبض المثمون فكذلك، أي: الأصل بقاؤه. لكنه تكرار لقوله في صدر المسألة: (أو السلعة). والظاهر أنه يريد: والاختلاف في قدر المثمون كذلك، أي: ففيه الأربعة الأقوال، وهكذا نص عليه المازري. ويؤيده أن الإشارة في كلامه بـ (ذلك) غالباً إنما هي في الخلاف. ويؤيده أيضاً قوله بعد هذا: والاختلاف في قدر المسلم فيه كالاختلاف في قدر الثمن في النقد أو قدر المبيع. فشبه بقدر المبيع، ولم يتقدم له ذكر إلا في هذا الموضوع على هذا الحمل. ولا يقال: التشبيه في كلامه لإفادة الحكم، لأنه قد يفعل ذلك لأنا نقول: التشبيه على ما تقدم هو الأغلب فهو أولى، والله أعلم. وإشهاد المشتري بالثمن مقتض لقبض المثمون عرفاً على المشهور أي: إذا أشهد المشتري على نفسه بتقرر الثمن في ذمته فذلك موجب لقبض السلعة لشهادة العرف بذلك، فإذا ادعى بعد ذلك أنه لم يقبض السلعة فالقول قول البائع على المشهور، وهل يحلف؟ قال أشهب في العتبية: يحلف إن كان بحضرة البيع والإشهاد. قال: وأما إن كف حتى حل الأجل، فقال: لم أكن قبضت السلعة، فلا قول له ولا يمين، والشاذ لابن عبد الحكم أن القول قول المبتاع في عدم القبض. فرع: يشبه هذا في ترجيح الفرق إذا أشهد البائع على نفسه بقبض الثمن. ثم قام يطلبه وقال: إنما أشهدت على نفسي ثقة مني بالمشتري. فهل يحلف المشتري له؟ فقال ابن المواز:

يحلف، وأطلق. وروى ابن حبيب عن مالك وأصحابه أنه لا يحلف. وقال ابن حبيب: إلا أن يأتي بسبب يدل على ما ادعاه أو يتهم فيحلف. والأكثرون على أن البائع إن قام على المشتري بقرب البيع حلف، وإلا فلا، إلا أن يكون بين المتبايعين قرابة أو صداقة تشبه معها دعوى البائع، فيحلف له المشتري، وإلا لم يحلف. خليل: وانظر هل يتخرج قول ابن عبد الحكم هنا، أو تتخرج الأقوال التي هنا في اليمين في المسألة السابقة أم لا؟ وإذا اختلفا في الخيار فثلاثة: البت المشهور، والخيار، وكالثمن أي: إذا ادعى أحدهما أنه وقع على البت والآخر على الخيار فثلاثة أقوال: المشهور: أن القول قول من ادعى البت، لأنه الغالب من بيوع الناس. الثاني لأشهب: أن القول قول مدعي الخيار، لأن الأصل عدم انتقال الملك. ابن بشير: وبه كان يفتي من حقق النظر من أشياخي. والثالث لبعض الشيوخ: أن ذلك كاختلاف المتبايعين في مقدار الثمن، لأن الثمن يختلف بالكثرة والقلة لاختلاف أحوال البيع من بت وخيار. وإذا اختلفا في الصحة، ففيها: القول قول مدعيها، وقيل: إن غلب الفساد فالقول قول مدعيه، وكذلك قال سحنون في المغارسة: القول قول مدعي الفساد .... إذا اختلفا في الصحة والفساد فالمشهور وهو مذهب المدونة أن القول قول مدعي الصحة مطلقاً، وقيده ابن أبي زيد وغيره بأن يكون اختلافهما في ذلك لا يؤدي إلى الاختلاف في مقدار الثمن، كقول أحدهم: البيع وقع [496/ب] يوم الجمعة، والآخر ينكره، وأما إذا أدى إلى الاختلاف فيه فيجري على حكم الاختلاف في الثمن.

وفي ابن بشير: إن لم يؤد إلى الاختلاف في مقدار الثمن فالقول قول مدعي الصحة. وإن عده بالاختلاف في مقدار الثمن فطريقان: إحداهما: أنه يعطى حكم الاختلاف في الثمن. والثانية: حكم الاختلاف في الصحة والفساد. وإذا قلنا أنه كالاختلاف في الثمن فهل يتحالفان أو يحلف أحدهما؟ قولان: ظاهر ما في الموَّازيَّة أنهما يتحالفان كالاختلاف في قدر الثمن. وقال المتأخرون: بل تقال الأيمان. وإذا قلنا بهذا فهل يبدأ بيمين مدعي الصحة رجاء أن ينكل فيفسخ البيع، أو يبدأ بيمين مدعي الفساد فإن نكل تم البيع من غير يمين؟ لهم في ذلك طريقان. وغرض الجميع تقليل الأيمان. انتهى. وكان القول لمدعي الصحة، لأنها الغالبة في التعامل بين المسلمين، أو لأن البيع الصحيح هو الحقيقة. وعلى الأول فينبغي أن يكون القول الثاني تقييداً للأول ليس بخلاف، وهو قول عبد الحميد. واحتج بقول سحنون في المغارسة: القول قول مدعي الفساد فيها، لأن الغالب فسادها في زمانه. وبقول ابن القاسم في المدونة في الزوجة إذا أرخى الستر وادعت أنه وطئها فالقول قولها، ولو كان ذلك في نهار رمضان الذي لا يحل الوطء فيه، لأن الغالب مبادرة الزوج حينئذٍ إلى الوطء. ولأن ابن القاسم وافق على مسألة المغارسة في رواية حسين وأبي زيد، ولم ينقله في الجواهر على أنه خلاف كما فعل المصنف، والله أعلم. تنبيه: اعلم أن في اختلاف المتبايعين طريقين: الأولى: للمتأخرين، وهي ما حكاه المصنف.

والثانية: لابن القصار سوى فيها بين اختلافها في مقدار الثمن والمثمون وبين الاختلاف في الأجل والرهن والكفيل والبت، وذكر في الجميع ثلاث روايات، وأسقط من الأربعة المتقدمة رواية ابن وهب الثانية اعتبار البينونة مع القبض، ورواها الطرطوشي. والاختلاف في السلم كذلك إلا أن المسلم إليه في قبض رأس المال إن كان عرضاً كالمشتري في النقد في قبض السلعة وفي فواتها .... يحتمل أن يشير بذلك إلى اختلافهما في الصحة والفساد، أو اختلافهما في مقدار الثمن، أو إلى جميع ما تقدم، وعلى هذا فيحلف إذا اختلفا في القدر ويتحالفان ويتفاسخان إذا اختلفا في الجنس، وقد صرح في المدونة بذلك، وعلى هذا فلا بد من تخصيص كلامه بما عدا الاختلاف في مقدار المسلم فيه، فإن المصنف سيذكره، وهذا هو الظاهر. ولما كان التشبيه يقتضي أن المسلم هو المشتري وأن المسلم إليه هو البائع، بين أن الأمر هنا على العكس، فبين أن المسلم إليه هنا كالمشتري والمسلم كالبائع. وإنما قلنا: إنه جعل المسلم إليه هنا كالمشتري، لأنه ذكر أنه يترجح قوله بالقبض، ثم شرط في قبض رأس المال المرجح لقول المسلم إليه أن يكون عرضاً، ثم بين ما يلحق فيه، فقال: (في قبض السلعة وفواتها). وفي اقتصاره على هذين القولين نظر، بل ينبغي أن يقول: فتأتي الأربعة الأقوال، وفيه أيضاً نظر آخر، لأن تقييده بالعرض يوهم أن العين ليس كذلك، فعلى هذا لو قبض المسلم إليه رأس المال وهو عين لاتفق على أنه لا يكون القول قوله وليس كذلك، بل القول قوله على رواية ابن وهب في الترجيح بالقبض، وتأتي بقية الأقوال وقد نص على ذلك المازري وسند، ولا خلاف بين العرض وغيره إلا فيما يقع به الفوات، ففي العرض بحوالة الأسواق فأعلى، وفي العين خلاف نبه عليه بقوله:

وإن كان عيناً ففي وقت فواته ثلاثة: طول الزمان الكثير، أو طول ما أو غيبته عليه .... الأول من الثلاثة هو المشهور، والثاني ذكره ابن رشد، والثالث للتونسي، قال: والأشبه أنه لا فرق في الدنانير والدراهم بين كثير الطول وغيره، لأن الغيبة عليها تُفِيت عينها. والاختلاف في قدر المسلم فيه كالاختلاف في قدر الثمن في النقد أو قدر المبيع .... أي: إذا اختلف المسلم والمسلم إليه في قدر المسلم فيه مع اتفاقهما في جنسه وصفته فذلك جار على الاختلاف في قدر الثمن في النقد أو قدر المبيع، فإن كان قبل قبض رأس المال تحالفا وتفاسخا، وإن كان بعد قبضه فالأربعة الأقوال، وفي المدونة: القول قول المسلم إليه عند حلول الأجل إذا ادعى ما يشبه، وإلا فللمشتري إن ادعى ما يشبه، فإن ادعيا ما لا يشبه فقال ابن القاسم في المَّوازيَّة: يحملان على الوسط من سلم الناس يوم تعاقدا. المازري: وهو المشهور. وقال في الأَسْدِيَّة مرة بهذا مرة بهذا وأخرى بأنهما يتحالفان ويتفاسخان. تنبيه: وقوله في المدونة القول قول المسلم إليه عند حلول الأجل، قال ابن المواز: وأما إن اختلفا بقرب مبايعتهما فيتحالفان ويتفاسخان. وقال ابن حبيب: إذا اختلفا قبل الأجل في كيل الطعام صدق البائع إلا أن يأتي بما لا يشبه فيصدق المبتاع وإلا حمل على الوسط. ابن يونس: ظاهر هذا خلاف قول محمد، إذ قد يكون اختلافهما بقرب مبايعتهما وقد لا يكون، وابن حبيب لم يفصل وابن أبي زيد حمله على الوفاق.

وإذا اختلفا في الموضوع صدق مدعي موضع العقد، وإلا فالبائع لأنه كالأجل، فإن تباعدا ولم يشبه واحد منها تحالفا .... [497/أ] أي: فإن اختلفا في الموضع الذي يقبض فيه السلم، فإن ادعى أحدهما موضع العقد فالقول مع يمينه مطلقاً على المشهور، وهو مذهب المدونة، وقال سحنون: القول للبائع، ولو ادعى خلافه لأنه غارم. وقال أبو الفرج: يتحالفان ويتفاسخان إذا ادعيا ما يشبه، ولو ادعى أحدهما موضع التعاقد. وهذا إنما إذا كان اختلافهما بعد فوات رأس المال، وإلا تخافا وتفاسخا، نص على ذلك المازري وغيره وقد أهمله المصنف. وما هو الفوات؟ فسره المازري بطول الزمان، فقال: فإن وقع الفوت بطول الزمان وفسره سند بالقبض، وهو ظاهر المدونة في هذه المسألة، ونصها: قلت أرأيت إن اختلف المسلم إليه ورب السلم في الموضع الذي يقبض الطعام فيه فقال المسلم إليه: إنما قبضت منك دراهمك على أن أعطيك الطعام في الفسطاط، وقال الذي له السلم: إنما دفعت إليه على أن أقبض منك في الإسكندرية، فالقول قول البائع، لأن الموضع كالآجال. وظاهره اعتبار القبض. قوله: (وإلا) أي: وإن لم يدَّع منهما واحد موضع العقد فالقول للبائع، هو المسلم إليه، لأنه غارم كما أن القول قوله إذا اختلفا في الأجل، لأن اختلاف البلدان كاختلاف الآجال خلافاً لأبي الفرج، وإنما يكون القول قول البائع إذا أشبه قوله فقط أو أشبه ما قال كل واحد منهما، وأما إن لم يشبه إلا قول المشتري وحده فيعمل على قوله، وأما إن ادعيا معاً ما لا يشبه فقد نبه عليه بقوله: (فإن تباعدا) ولم يشبه قول واحد منهما، أي: وإن تباعدا في دعواهما فإن ادعى كل واحد منهما موضعاً بعيداً تحالفاً وتفاسخا. قاله في المدونة والموَّازيَّة والواضحة، لأنه وإن كان الأصل أن يعمل على قول المسلم إليه إلا أن العرف كذبه.

تنبيه: ما ذكره من قوله: (وإلا فالبائع) لأنه كالأجل صحيح، وقد نص عليه في المدونة كما ذكرنا، لكن يبقى في كلام المصنف نظر، لأنه لم يقدم في الأجل أن القول قول البائع إلا على القول الشاذ فلا تصح الإحالة عليه. ... انتهى المجلد الخامس من كتاب التوضيح للشيخ خليل بن إسحاق الجندي ويليه المجلد السادس وأوله كتاب السلم

التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب تأليف خليل بن إسحاق الجندي المالكي (المتوفى سنة776هـ) ضبطه وصححه الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب أستاذ الحديث النبوي وعلومه في كلية الدراسات الإسلايمة بسراييفو والأكاديمية الإسلامية بزينيتسا ومدرس العلوم الشرعية في معهد قطر الديني سابقاً المجلد السادس

بسم الله الرحمن الرحيم

السلم

السَّلَمُ لَهُ شُرُوطٌ: الأَوَّلُ: تَسْلِيمُ جَمِيعِ الثَّمَنِ خَوْفَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم». واحترز بقوله: (جَمِيعِ الثَّمَنِ) مما لو نقد البعض فإنه لا يجوز، ونص على ذلك في المدونة، وبه قال محمد وغيره. ابن راشد: وهو المعروف، وذكر ابن القصار قولاً بإمضاء ما تناجزا فيه، وهو مبني على أحد القولين في الصفقة إذا جمعت حلالاً وحراماً، ولأشهب قول ثالث: يجوز أن يتأخر اليسير لا النصف؛ لأن اليسير تبع فيعطى حكم متبوعه، وأشار سند إلى تخريج قول بإجازة تأخير الثلث مما أجازه مالك في الموَّازيَّة في الكراء المضمون إذا نقد الثلثين وتأخر الثلث. وفرق غيره بأن مالكاً إنما أجاز ذلك في الكراء المضمون للضرورة؛ إذ الأكرياء يقتطعون أموال الناس، ولا ضرورة في السلم وأجرى اللخمي قولاً بالفرق بين أن يسمى لكل قفيز - مثلاً - ثمناً فيصح ما يقابل المقبوض، أولا فيبطل الجميع مما تقدم في الصرف من التفصيل لذلك، وفي تغليل المصنف بخوف الدين بالدين نظر من وجهين: أحدهما: أن الخوف إنما يستعمل في المتوقع لا في الواقع، وإن اشترط التأخير فالمحذور واقع، ولا يقال: قوله: (خَوْفَ الدَّيْنِ) تعليل لتسليم جميع الثمن؛ لأن الخوف مع التسليم منتفٍ. الثاني: أن العلة غير منعكسة؛ لأن الدين قد ينتفي، والمنع باق فيما إذا كان رأس المال سلعة معينة، وأخرت بشرط لعلة أخرى؛ لأنه بيع معين يتأخر قبضه.

وَجُوِّزَ الْيَوْمَ والْيَوْمَيْنِ بِالشَّرْطِ، وَفِيهَا: وثَلاثَةٌ، وقِيلَ: لا يَجُوزُ يجوز في (جُوِّزَ) أن يُبنى للفاعل ويكون مالك رضي الله عنه، وأن يبنى لما لم يسم فاعله، وعليه تكلم ابن عبد السلام وقال: إنما أتى به مبنياً لما يم يُسَم فاعله؛ لأنه لم يستحسن ذلك لدخوله تحت الدين بالدين. وما نسبه للمدونة من الثلاثة هو في كتاب الخيار منها، والقول بأنه لا يجوز تأخيره بشَرْطٍ يوماً ولا يومين لابن سحنون، واختاره ابن الكاتب وعبد الحق وصاحب الكافي؛ لأنه ظاهر النهي عن الكالئ بالكالئ. الباجي: وإنما يجوز التأخير إلى اليومين والثلاثة على المشهور، وأما من يجوز السلم إلى هذه المدة فلا يجوز التأخير عنده إلى هذه المدة؛ لأنه عين الكالئ بالكالئ، ويجب أن يقبض عند هذا القائل في المجلس أو بالقرب منه. فَإِنْ أَخَّرَ أَكْثَرَ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَقَوْلانِ أي: أكثر من ثلاثة أيام؛ يريد: والثمن من النقدين لما سيذكره، والقولان لمالك، وبالفساد قال ابن وهب، قيل: وهو الصواب، وهو ظاهر المدونة في السلم. الثاني: إذا ادعى أحدهما الفساد [497/ب] فقال: تأخر شهراً، وفي السلم الثالث ما ظاهره مخالفة هذا، فقال: إن تأخر رأس المال أكثر من ثلاثة أيام من غير شرط فيجوز ما لم يَحِل الأجل فلا يجوز، والجواز قول أشهب ورجع إليه ابن القاسم في الموَّازَّية، ولابن وهب قول ثالث: إن تعمد أحدهما تأخيره لم يفسد، وإلا فسد، ولابن الماجشون وابن حبيب رابع: إذا مطل المبتاع للبائع رأس المال أو بعضه حتى حل الأجل، فالبائع مخير إن شاء أخذ منه رأس المال أو أعطاه طعامه أو يعطيه حصة ما نقده خاصة، وإن كان التأخير بسبب البائع لزمه الطعام كله.

ابن عبد السلام: والأقرب الفساد؛ لأنه دين بدين، وفي معنى تأخيره تأخير النصف فأكثر، وقيل: يحلف في اليسير بناء على إعطاء اليسير حكم نفسه أو حكم الكثير، فإن حصل قبض رأس المال حساً ولم يحصى معنىً، كما لو اطلع المسلم إليه على أن بعض الدراهم ناقص أو زائف ففي مختصر ابن شعبان: أنه إذا جاء بدرهم ناقص فاعترف الآخر أنه ينتقص من السلم بقدره، ولا شك أن هذه الباب أخف من الصرف، فكل ما جاز في الصرف يجوز هنا من باب أولى. والمشهور وهو مذهب المدونة: جواز البدل وتأخيره اليومين والثلاثة. قال أشهب: إلا أن يكونا دخلاً على ذلك ليجيزا بينهما الكالئ بالكالئ، وهو تقييد بعض الموثقين، وهذا عندي لا يعرف إلا ببينة تشهد على أصل تعاقدهما في الشراء أو بإقرارهما معاً. المتيطي: وفسر سحنون ما في المدونة بأن الدراهم مكروهة أو زيوفاً، ولو كانت نحاساً أو رصاصاً ما حل أخذها، ولا التبايع بها. أبو عمران: وهو ظاهر المدونة. وقال في مختصر ابن شعبان: إذا جاء بدرهم ناقص واعترف الآخر به ينتقص من السلم بقدره، ولا شك أن هذا الباب أوسع من الصرف، قيل: ويجوز التأخير اليوم واليومين على قول ابن سحنون المتقدم أيضاً. أشهب: يجوز تأخير البدل أكثر من ثلاثة أيام بشرط أن يبقى من الأجل اليوم واليومين، فإن أخره بشرط أمد بعيد، فإن عثر على ذلك بعد يوم أو يومين أبطل تراخيهما وأمر بالتناجز والبدل، وإن لم يعثر على ذلك إلا بعد أيام كثيرة فالعقد فاسد.

أبو بكر بن عبد الرحمن: العقدة كلها فاسدة؛ خوفاً من دخولهما على ذلك ابتداءً، ولم يفسد أبو عمران إلا قدر ما تأخر ويصح ما عده، ورأى غيرهما الصحة في الجميع، لصحة العقد أولاً. ويَجُوزُ الْخِيَارُ إِلَى مَا يِجُوزُ التَّاخِيرُ إِلَيْهِ بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ نَقْدٍ، فلو نَقَدَ - ولَو تَطَوُّعَاً - فَسَدَ؛ لأَنَّهُ إِنْ تَمَّ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ .... لما بين لزوم حكم العقد في السلم ذكر حكم الخيار فيه، وذكر أنه يجوز الخيار في السلم بشرطين: أولهما: أن يكون إلى ثلاثة أيام فأقل؛ إذ هو الذي يجوز تأخير النقد إليه. الثاني: لا ينقد ولو تطوعاً، ولو نقد فسد؛ لأن المسلم إذا نقد وتم العقد كان المسلم إليه قد أعطى سلعة موصوفة إلى أجل عن ثمن تقرر في ذمته، وذلك فسخ دين في دين، وعلى هذا فيجوز التطوع بما يعرف بعينه؛ لأنه لتعيينه ليس ديناً بدين. فائدة: تشارك هذه المسألة في عدم النقد ولو تطوعاً مسائل: إذا بيعت الأمة على خيار وفيها مواضعة لهذه العلة؛ لأن الثمن دين على البائع فإذا تم البيع بانقضاء مدة الخيار صار المشتري قد اقتضى من ذلك الذي دفعه جارية فيها مواضعة، وبيع الشيء الغائب بخيار والكراء على خيار والأرض غير المأمونة قبل الري. وأَمَّا غَيْرُ النَّقْدِ فَيَجُوزُ تَاخِيرُهُ لِتَعَيُّنِهِ، وَلَيْسَ دَيْناً بِدَيْنٍ لَكِنَّهُ كُرِهَ فِيِمَا يُغَابُ عَلَيْهِ كَالطَّعَامِ والثَّوْبِ، وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يُكَلِ الطَّعَامُ ولَمْ يُحْضَرِ الثوْبُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ إِذْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَقُّ تَوفِيَةً .... هذا مستثنى من قوله: (جَمِيعِ الثَّمَنِ) أي: إنما يجب تسليم الجميع إذا كان نقداً، وأما غير النقد فيجوز تأخيره؛ لأنه لتعينه لا يكون ديناً، ثم ذكر أن مالكاً في المدونة كره

تأخير الثوب والطعام؛ يريد: إذا كان التأخير بغير شرط، وأما إن كان بشرط فإنه يفسد. نص عليه في المدونة، وحمل ابن محرز وغيره الكراهة على إطلاقها، ومنهم من قيدها بما إذا لم يكل الطعام الذي هو رأس المال ولم يحضر الثوب محل العقد، أما إذا كيل الطعام وأحضر الثوب فقد انتقل ضمانهما إلى المسلم إليه وصار كالحيوان، فلا معنى للكراهة. وإليه الإشارة بقوله: (وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يُكَلِ ... إلخ) ولم يذكر المصنف الحيوان، ولعله رآه كالعرض كما قال بعضهم، وقد ذهب فضل بن سلمة وبعض القرويين إلى أنه لا فرق بين العرض والطعام إذا أخره، ولم يذكر المعين بغير شرط حل الأجل أم لا، وأنه جائز ماض، وأنه إنما أطلق الجواز في المدونة في مسألة الحيوان؛ لأنه سئل عن أمر وقع وكرهه في الأخرى ابتداءً، كما يكرهه في الأولى، وإليه نحا أبو عمران أيضاً، وذهب ابن أبي زمنين وجماعة من الشارحين إلى أن مذهب الكتاب أن تأخير رأس مال السلم بغير شرط المدة الكثيرة على ثلاثة أقسام؛ ففي العين يفسخ، وفي العرض والطعام يكره فيهما ذلك ولا يفسخ، وفي الحيوان لا يكره ذلك فيه ولا يفسخ، لأن الحيوان مما لا يغاب عليه، وقال أبو محمد اللؤلؤي: الطعام أشد؛ إذ لا يعرف بعينه، وفرق [498/أ] بين العروض والحيوان لأنهما مما يغاب عليهما، وهذا على القول بأن مصيبة الحيوان من مشتريه، وأما على القول بأن مصيبته من البائع فلا فرق بينه وبين العرض. خليل: وينبغي أن تحمل كراهة الإمام في الطعام على التحريم؛ لأنه إذا لم يكل لم يكن بينه وبين العين فرق، وينبغي إذا أحضر الثوب أن يجوز؛ لأنه بحضوره يتعين، فلا يكون ديناً بدين، والله أعلم. ويَجُزُ بِمَنْفَعَةِ مُعَيَّنٍ اتِّفَاقاً أي: ويجوز أن يكون رأس المال منفعة معين كدار معينة ونحو ذلك.

واحترز بالمنفعة المعينة من المنافع المضمونة فلا يجوز أن تكون رأس المال؛ لأنه الكالئ بالكالئ، وحكى المصنف الاتفاق تبعاً لابن بشير، لكن ذكر المازري أن الشيخ أبو الحسن أشار إلى أن في الموَّازيَّة ما يدل على منع شراء المنافع بدين. فإن قيل: لِمْ أجازوا هنا أن يكون رأس المال منافع معين ومنع ابن القاسم أخذها عن دين؟ قيل: لأن اللازم في محل المنع فسخ دين في دين، وهو أشد من ابتداء الدين بالدين. والْمُجَازَفَةُ فِي الثَّمَنِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ جَائِزَةٌ كَالْبَيْعِ اتِّفَاقاً يجوز في الثمن؛ أي: رأس المال أن يكون جزافاً في غير المعين. ابن عبد السلام: وظاهر كلام القاضي أبي محمد منع كون رأس المال جزافاً لما يتوقع من طرو ما يبطل الثمن فيفضي إلى التنازع. ابن بشير في نوازله: والمذهب كله على خلافه. وقوله: (كَالْبَيْعِ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قصد الاستدلال على من منع في السلم أن يكون رأس المال جزافاً؛ إذ هو بيع كسائر البيوع. والثاني: أن يكون قصد الإحالة على ما تقدم من شروط الجزاف، وما فيه من الخلاف. والثَّانِي: أَلاَّ يَكُونَا طَعَامَيْنِ ولا نَقْدَيْنِ؛ لِلنَّسَاءِ والتَّفَاضُلِ، وَلا شَيْءَ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لأَنَّهُ سَلَفٌ بِزِيَادَةٍ، وَلا فِي أَقَلَّ مِنْهُ، لأَنَّهُ ضَمَانٌ بِجُعْلٍ .... الضمير في (يَكُونَا) عائد على العوضين، وتصور كلامه ظاهر، واختلف في سلم النخيل في الطعام؛ فمنعه ابن القاسم، وأجازه سحنون، وقال ابن سلمة: إن هو أزهى مُنِعَ، وإلا جاز.

قوله: (لِلنَّسَاءِ والتَّفَاضُلِ) النساء يدخل في الجنس والجنسين، والتفاضل خاص بالجنس الواحد. قوله: (وَلا شَيْءَ فِي أَكُثَرَ مِنْهُ) أي: ولو كان من غير الطعام والنقدين. ومفهوم قوله: (فِي أَكْثَرَ مِنْهُ ... وَلا فِي أَقَلََّ) جواز سلم الشيء فيما يساويه، وفيه قولان: قول بالمنع مطلقاً وهو في الموَّازيَّية، وعزي أيضاً لأبي بكر الوقار، ومذهب المدونة الجواز بقيد ألا يقصد المسلم منفعة لنفسه، ففيها: فإن ابتغيت به نفع نفسك لم يجز؛ يريد: وكذلك إذا ابتغى به نفعهما جميعاً. وكَذَلِكَ فِي أَجْوَدَ وأَرْدَأَ عَلَى الأَصَحِّ أي: وكذلك يمتنع سلم الشيء في أجود منه وأردأ على الأصح تنزيلاً للجودة منزلة الكثرة، والرداءة منزلة القلة، ورأى مقابل الأصح أن اختلاف الصفة يصير الجنس كالجنسين. إِلا أَنْ تَخْتَلِفَ مَنَافِعُهُمَا كَجَذَعٍ طَوِيلٍ أَو غَلِيظٍ فِي جَذَعٍ يُخَالِفُهُ هذا استثناء من قوله: (الأَصَحِّ) الذي يمتنع في سلم الأجود في الأردأ أو بالعكس، فقال: إلا أن تكون منفعة الأجود والأردأ مختلفة فيجوز حينئذٍ سلم أحدهما في الآخر، وما ذكره المصنف قريب مما قاله في المدونة من أن الخشب لا يسلم فيها جذع في جذعين حتى يتبين اختلافهما كجذع نخل غليظ كبير غلظه وطوله، كذلك في جذوع قصار لا تقاربه فيجوز، ومنعه ابن حبيب، وصوبه فضل؛ لأن الكبير يصنع منه صغار، فيؤدي إلى سلم الشيء فيما يخرج منه، وأجيب بأوجه: أولها: حمل ما في المدونة على أن الكبير لا يصلح أن يجعل فيما يجعل فيه الصغار أو أنه لا يخرج منه الصغار إلا بفساد لا يقصده الناس.

ثانيها: أن الكبير من نوع الصغيرز ثالثها: لعياض: المراد بالجذع الصغير المخلوق لا المنجور؛ لأن المنجور يسمى جائزة لا جذعاً. وعلى هذا فالكبير لا يخرج مه جذوع بل جوائز، فلا يلزم عليه سلم الشيء فيما يخرج منه، لكن قول المصنف: (كَجَذَعٍ طَوِيلٍ أَو غَلِيظٍ) يقتضي أنه يجوز إذا كان طويلاً فقط، وهو لا يتأتى فيه الجواب الثالث. تنبيه: الجواب الثاني: إنما يصح إذا بنينا على أن الخشب أصناف، وهو ظاهر كلام ابن أبي زمنين، فإنه قال: قوله في المدونة: "يمتنع سلم جذع في نصف جذع" لو كان الجذع من نوع واحد مثل الصنوبر، ويكون نصف الجذع من نخل أو نوع آخر غير الصنوبر لم يكن به بأس على أصل ابن القاسم. وفي الواضحة: الخشب صنف وإن اختلفت أصوله، إلا أن تختلف المنافع والمصارف مثل الألواح والجوائز وشبهها. وتردد بعضهم في كلام ابن حبيب هذا هل هو موافق لما قاله ابن أبي زمنين أو مخالف؟ لأن ظاهر كلام ابن أبي زمنين الاكتفاء في المخالفة باختلاف الجنسين، وابن حبيب لم يعتبر إلا المنافع، لكن لا يبعد أن يريد ابن أبي زمنين أن مطلق اختلاف الجنس لا بد معه من قيد اختلاف المنفعة فيتفق قولان: وَكَالحِمَارِ الْفَارِهِ فِي الأَعْرَابيِّ هذا معطوف على الجائز فهو جائز، والفراهة عبارة عن سرعة السير، وضابط هذا أن اختلاف المنفعة تصير الجنس الواحد جنسين، ولابن القاسم في الموازية قولان آخران: أحدهما: أن حُمُرَ مصر كلها صنف رفيعها ووضيعها، وإن كان بعضها أَسْيَرُ مِنْ بَعْضٍ وأحمل.

عياض: وهو مذهب المدونة، وقال، وتأول فضل على [498/ب] المدونة خلافه. خليل: والظاهر ما تأوله فضل فإن بين الحمر عندنا بمصر اختلافاً كثيراً قل أن يوجد ذلك ببلد. الثاني: أن الحُمُرَ كلها صنف، والمشهور أن البغال والحمير جنس، وهو مذهب المدونة، خلافاً لابن حبيب أنهما جنسان إلا أن يقرب ما بينهما، هكذا حكى القولين جماعة. ورأى فضل أن ذلك ليس بخلاف، وأن كل واحد تكلم على عادة بلده وأن بينهما بالأندلس اختلافاً بَيِّنَاً، وفي مصر الأمر بخلافه. وليس بظاهر؛ فإن الاختلاف فيها بمصر أظهر، وعورض مذهب المدونة هنا بمنعه في القسمة جمع البغال والحمير في قسم القرعة، ولولا أنهما عنده جنسان لأجاز الجمع بينهما وأجاب ابن يونس وغيره بأنه احتياط في البابين. ابن عبد السلام: وهو جواب ضعيف؛ لأنه جمع في القسم بين الثياب التي لا شك في أن أجناسها مختلفة وأن منافعها متباينة كثياب الحرير والقطن والصوف والكتان، فأي احتياط هنا؟! فإنه يجوز سلم الحرير في الصوف. واختلف في سرعة السير، فلم ير محمد ذلك شيئاً. وقال عبد الملك: إذا اختلفا في سيرهما كاختلاف الخيل جاز سلم أحدهما في الآخر، قال: لأن فضل السير هو الذي يراد في البغال والحمير. اللخمي: وهو أحسن؛ لإنه زيادة فضل يزاد في الثمن لأجله. وكَالْجَوَادِ فِي حَوَاشِي الْخَيْلِ الجواد هو السابق، قال في الموَّازيَّة: وليس الفرس الجميل السمين العربي صنفاً حتى حتى يكون جواداً سابقاً.

وقال ابن حبيب: ليس السمن في الخيل يوجب الاختلاف؛ لأن المبتغى منه السبق والجودة، إلا البراذين العراض التي لا جري لها ولا سبق، بل تراد لما يراد لها البغال من الحمل والسير، فلا بأس أن يسلم الواحد منها في اثنين من خلافه، وجعل اللخمي الجمال مما تختلف به الخيل بشرط أن يقابله العدد، فيجوز سلم حميل في اثنين دونه؛ لأنه بمعنى المبايعة، وأما حميل في دونه فلا، وهو الأظهر. وَكَذَلِكَ الإِبلُ أي: يسلم النجيب في غيره. ابن عبد السلام: المعتبر عندهم الحمل خاصة، وليس السبق بمعتبر. خليل: فسر التونسي النجابة بالجري فقال: النجيبة منها صنف، وهو ما بان بالجري، والجمال صنف، والدنيء صنف، وينبغي اعتبار كل من الحمل والسبق والسير، وهو الذي قاله اللخمي. والْبَقَرُ وَالْمَعَزُ قال المازري: تعتبر النجابة في ذكور البقر بالقوة على الحرث، وأما إناثها فمذهب ابن القاسم أنها كالذكور إنما تختلف بقوة العمل، وذهب ابن حبيب إلى أن الإناث إنما يعتبر فيها اللبن. عياض: وما في الأسدية يرد عليه، وهو المعروف من مذهب ابن القاسم أن الحرث يراعى فيها: تنبيه: الجواز على مذهب ابن القاسم إنما هو إذا كان في معنى المبايعة، بأن تسلم البقرة القوية في البقرتين أو أكثر، أما سلم بقرة قوية في بقرة ليست كذلك فنص بعضهم على

المنع، وهو ظاهر؛ لأنه ضمان بجعل، وعكسه سلف بزيادة، لكن نص في الموازية على خلافه، فإنه أجاز فيها سلم الفرسين السابقين في فرسين ليسا كذلك. قوله: (وَالْمَعَزُ) أي: فيعتبر فيه الاختلاف بغزارة اللبن، حكى المازري على ذلك الاتفاق. خليل: وانظر كيف اعتبروا غزارة اللبن في المعز ولم يعتبرها ابن القاسم في البقر، ولعل ذلك لأن المعز لا يمكن فيه غير ذلك. وفيه نظر. بخِلافِ الضَّانِ عَلَى الأَصَحِّ فلا يعتبر الاختلاف باللبن في الضأن على الأصح، وحكاه ابن حبيب عن مالك وأصحابه وقال به، قال: ولا يُعْرَفُ مِنْ غَزَرِ اللبنِ في الضأن ما يوجب ذلك، وغير الأصح اعتبار غزارة اللبن في الضأن كالمعز، وعزاه اللخمي لابن الماجشون. ابن يونس: وهو ظاهر المدونة، ولا سيما وقد جعل في المدونة الضأن والمعز كالجنس الواحد، قال فيها: ولا تسلم صغار الغنم في كبارها ولا معزاها في ضأنها، ولا ضأنها في معزاها؛ لأنها كلها منفعتها اللحم لا الحمولة، إلا شاة غزيرة اللبن موصوفة بالكرم، فلا بأس أن تسلم في حواشي الغنم فأطلق. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: الضأن والمعز صنفان. وكَذَلِكَ كَبِيرٌ فِي صَغِيرٍ، وصَغِيرٌ فِي كَبِيرٍ عَلَى الأَصَحِّ بِشَرْطِ أَلا تَكُونَ الْمُدَّةُ تُفْضِي إِلَى مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ فِيهِ، بِخِلافِ صَغِيرِ الآدَمِيِّ عَلَى الأَصَحِّ .... لما ذكر أن الجنس يختلف بالمنفعة شرع فيما يقع به الاختلاف من الصغير والكبير؛ أي: وكالاختلاف بالمنافع الاختلاف بالكبر والصغر.

قوله: (كَبِيرٌ فِي صَغِيرٍ) يحتمل أن يريد الجنس فيصدق على كبير في صغير وعكسه، وعلى كبيرين في صغيرين، وعلى كبير في صغيرين وعكسه، وعلى صغير في كبيرين وعكسه. ويحتمل أن يريد الواحد، ويكون التعدد مأخوذاً منه من باب الأولى؛ لأن كل من أجاز مع الواحدة أجاز مع التعدد، والأصح ظاهر المدونة؛ لأن فيها: وتسلم كبار الخيل في صغارها، وكذلك الإبل والبقر، وعليه حملها ابن لبابة وأبو محمد وغيرهما واختاره الباجي، وغير الأصح: لا يجوز سلم أحدهما في الآخر مطلقاً، سواء اتحد أو تعدد. وفهم بعضهم المدونة عليه، وهو في الموازية، ففيها: لا خير في قارح في حولين، ولا حولي في قارح، ولا صغير في كبيرين، وهذا من الزيادة في السلف. سند: فجعلهما جنساً واحداً حتى تختلف المقاصد فيكون العدد من أحد الجنسين، والكبير من الجهة الأخرى ككبير في صغير. قال جماعة: ولا خلاف في جواز هاتين الصورتين. وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر؛ [499/أ] لأنه لم يستثنهما، وهذا إنما يأتي على الاحتمال الأول، وهو إرادة الجنس، أما على إرادة الواحد فيصير مفهومه الجواز مع التعدد، وهو مذهب العتبية، فإن عياضاً وغيره نقلوا عنها منع سلم صغير في كبير، وعلله بأنه زيادة في السلف، وجواز سلم صغيرين في كبيرين وعكسه، وجعل اختلاف العدد مقصوداً، واستشكله ابن يونس فقال: جعل صغيرين في كبيرين بمعنى البيع وصغير في كبير بمعنى السلف، ووهم المازري في حمل المدونة على هذا، قال: وسبب الوهم أنه ذكر أولاً منع صغير في كبير وعكسه، ثم قال: والذي يشبه التبايع سلم كبير في صغيرين وعكسه، قال: وكذلك صغيرين في كبيرين وعكسه، وفهم عنه أن يفرق بين الواحد والاثنين، وهو السابق إلى فهم قارئه، ويمكن أن يوجد بينهما فرق، قال: وقد يحتمل ما قاله في الاثنين أنه عطف على أول كلامه بالمنع، وظاهر كلام المصنف جواز سلم صغير

الغنم في كبيرها لتعميمه، وهو مذهب ابن وهب في مختصر ما ليس في المختصر، ولذلك جاز سلم كبش في خروفين، ومذهب المدونة خلافه، ففيها: لا تسلم صغارها في كبارها. وسئل ابن القسم: لِمَ كره مالك ذلك؟ فقال: ليس بين الصغير والكبير تفاوت إلا اللحم ولا أرى ذلك شيئاً. سند: وهذا هو المعروف في المذهب فكان ينبغي للمصنف أن يذكره مع صغير الآدمي؛ لاتحاد المشهور فيهما، ولهذا قال ابن القاسم: الصغار والكبار من سائر الحيوان مختلفان إلا في جنسين خفيفين: الغنم وبني آدم. قال في الموازية: والحولي صغير، والقارح والربع كبير، وقال ابن حبيب: صغار الحمر ما لم تبلغ الحمل والركوب، وقال في الإبل: الصغار فيها التي لا حمل لها. وقال الباجي في البقر: حد الكبير في الذكور أن يبلغ حد الحرث، ومثله في الإناث على قول ابن القاسم، وعلى قول ابن حبيب أن تبلغ سن الوضع واللبن. وقوله: (بِشَرْطِ ... إلخ) إذا قلت: بجواز سلم الكبير في الصغير وعكسه فهو مشروط بأن لا يكون بينهما من المدة ما يؤدي إلى معنى المزابنة، فلا يسلم كبير في صغير إلى أجل ينتج فيه الكبير صغيراً، ولا يسلم الصغير في الكبير إلى أجل يصير فيه الصغير كبيراً، ومعنى المزابنة فيهما الخطر والقمار؛ لأنه إذا أعطاه الصغير في الكبير إلى أجل يكبر فيه فكأنه قال: اضمن لي هذا إلى أجل كذا فإن مات ففي ذمتك، وإن سلم عاد إلي وكانت منفعته لك، وإذا أعطاه الكبير في الصغير فكأنه أخذ هذا الكبير على صغير يخرج منه؛ أي: تلده الكبيرة فصار كمن أسلم شيئاً فيما يخرج منه والمزابنة في تقديم الصغير في الكبير؛ لأنه أعطاه الصغيرة في الكبيرة إلى أجل يبكر فيه الصغير. ابن بشير: لأنه كمن أخذ صغيراً مشفع ويضمنه حتى يكبر، والبغال لا تنتج فسلمت من هذا التقدير.

قوله: (بِخِلافِ صَغِيرِ الآدَمِيِّ) أي: إن صغير الآدمي صنف واحد مع كبيره؛ فلا يسلم كبير في صغير وعكسه، وسواء اتحد العدد أو اختلف، والأصح حكى المازري الاتفاق عليه، ومقابله اختيار اللخمي، قال: القياس عندي أن يكون صغير الرقيق جنساً مخالفاً لكبيره، واحتج بخلاف المنافع. ابن عبد السلام: واختياره هو الصواب عندي. وبخِلافِ طَيْرِ الأَكْلِ باتِّفَاقٍ يعني: أن طير الأكل لا يجوز سلم صغيرها في كبيرها ولا كبيرها في صغيرها باتفاق، ولكنه مقيد بالصنف الواحد. ففي الواضحة الديكة والدجاج صنف واحد صغارها وكبارها، والإوز صنف، والحمام صنف لا يفترق في ذلك ذكر ولا أنثى، ولا صغار ولا كبار، وأخرج بطير الأكل طير التعليم، فإنه يختلف بسببه، وهل يختلف بالبيض؟ قال ابن القاسم: لا، وقال أصبغ: يختلف؛ فيجوز على قوله: أن تُسْلَمَ الدجاجة البَيُوَضُ في اثنين أو أكثر غير بيوض. والذُّكُورِةُ والأُنُوثَةُ فِي الآدَمِيِّ مُلْغَاةٌ عَلَى الأَشْهَرِ كَغَيْرِهِ بِاتِّفَاقٍ يعني: أن الذكورة والأنوثة لا يختلف بها غير الآدمي من الحيوان باتفاق، وهل يختلف فيها الآدمي؟ الأشهر أنه لا يختلف كغيره، قاله مالك في المدونة والعتبية. وأكثر المتأخرين على مقابله، لاختلاف المنفعة، فإن منفعة الذكور المنفعة الظاهرة ومنفعة الأناث المنفعة الباطنة. وحكى المازري أن بعضهم خَرَّجَهُ مِنَ الاختلاف فيمن أسلم دجاجة بيوضة في ديكين. وفيه نظر؛ لأن الحيوان إنما قيل به للبيض لا للذكورة والأنوثة فقط، وأن اللخمي خرجه من الاختلاف فيمن حلف بحرية من يملك من الذكور أو الإناث هل تلزمه هذه

اليمين أم لا؟ فمن ألزمه بنى على أنها جنس فيكون كمن حلف بعتق بعض الجنس، ومن لم يلزمه بنى على أنهما جنسان، فلما حلف بعتق الذكور كان كمن لم يعم الجنس، وهذا مذهب المدونة في العتق الأول، وهو خلاف ما نص عليه في السلم أنهما جنس واحد. وفيه نظر؛ لأن غاية ما يستفاد من مسألة الحالف اختلاف الجنسية، واختلاف الجنسية أعم من اختلاف المنفعة أو اتحادها، والحاصل مما تقدم من قوله: (الْجَوَادِ) إلى هنا أن الجيد لا يسلم في الرديء لما تقدم أن الجودة والرداءة لا ينقل جنسها على الأصح عن أصله إلا إذا كان معها معاراً آخر، ولذلك يسلم البعير المعروف بالنجابة في حواشيها كالخيل والبقر القوية على الحرث والعمل في حواشيها، والشاة الغزيرة اللبن في حواشي الغنم، والصغير والكبير مختلفان في سائر الحيوان إلا الغنم وبني آدم؛ لأن المراد من الغنم الغالب في اللحم، ومن بني آدم الخدمة في الحال والمآل، وأما غيرهما فمنافعها شتى كالقوة على الحمل، والنجابة في الجري. أبو الظاهر: الحيوان ناطق، وغيره؛ فالناطق نصوص المتقدمين: لا يختلف [499/ب] بالكبر والصغر. وغير الناطق مأكول وغيره؛ وغير المأكول اختلف فيها المذهب كالخيل والبغال والحمير، وهو خلاف في شهادة. والمأكول ثلاثة: صنف فيه القوة على الحمل والعمل كالإبل والبقر فلا خلاف أن الصغير بخلاف الكبير، وصنف ليس فيه منفعة مقصودة ولا قوة على الحمل والعمل كالطير الذي للأكل لا للولادة لا خلاف في تسوية الكبير والصغير؛ لأن المقصود منهما معاً مجرد اللحم، وصنف لا قوة فيه على الحمل والعمل وفيه منفعة مقصودة وهي الذرية والنسل كالغنم ففيه قولان وهما خلاف في شهادة. والصَّنَائِعُ النَّادِرَةُ فِي الآدَمِيِّ كَالتَّجْرِ والْحِسَابِ وَشِبْهِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِاتِّفَاقٍ كلامه ظاهر التصور، ولا يريد بـ (النَّادِرَةُ) أن تكون الصنعة قليلة الوجود جداً على ما يتبادر إلى الذهن من هذا اللفظ، وإنما مراده ما يوجد في بعض الأشخاص دون بعض.

المازري: والتجارة أيضاً تتنوع، فيجوز أن يسلم تاجر البز في تاجر القطن. ولعل مراده الاختلاف بمجموع التجارة والحساب فيصح له الاتفاق، فإن اللخمي وغيره حكى قولاً بأن الحساب لا يختلف به الجنس، وهو المنقول عن ابن القاسم، فإنه نقل عنه أنه لا يرى الحساب والكتابة والقراءة توجب الاختلاف. قوله: (وَشِبْهِهِ) أي: كالخياطة والبناية، ولا يريد بـ (شِبْهِهِ) الكتابة، فإن ابن زرقون حكى فيها ثلاثة أقوال: أحدها: لمالك وابن القاسم عدم اعتبارها في الذكور والإناث. الثاني: لأصبغ وابن حبيب أنها معتبرة فيهما. الثالث: لعيسى عن ابن القاسم أنها معتبرة في الذكور دون الإناث، وكان ينبغي أن يقول: شبههما؛ لأن العطف بالواو يوجب مطلق التشريك إلا أن يريد: مجموعهما. بِخِلافِ الْغَزْلِ والطَّبْخِ إِلا مَا بَلَغَ النِّهَايَةَ لأن الغزل والطبخ أمر عام، وإذا علمته الجارية من يومها علمته إلا ما بلغ النهاية، فإن بعضهن تبيع الغزل بوزنه فضة وبعضهن يطبخ أنواعاً فائقة، ونص ابن القاسم وغيره على أن الطبخ والغزل والخبز كصنعة واحدة، فلا خير في طباخة بخبازتين. وفيه نظر. وجعل في الموَّازَّية الطبخ والخبز مما تختلف بهما الجواري، ولم يجعل الغزل وعمل الطيب ناقلاً، واستشكله التونسي في عمل الطيب ورآه ناقلاً، وتأوله على علم عمل صنعة الطيب. وفِي الْجَمَالِ الْفَائِقِ قَوْلانِ هذا الخلاف إنما هو منقول في الإماء، والقول بأنه لا ينقل لابن القاسم في الموَّازيَّة، والقول بالنقل لأصبغ.

محمد: وهو استحسان، والقول ما قال ابن القاسم وهو القياس. وقال المازري: الأصح قول أصبغ، واختاره التونسي وابن يونس وغيرهما. ابن عبد السلام: وهو الأصح؛ لأن المراد من الجميلة غير المراد من غيرها، إلا أن أصبغ تارة يطلق الكلام في الجمال، وتارة يقيده بالفائق، فإن قيد كلامه بعضه ببعض - وهو الأظهر - كان في الجمال الفائق قولان كما ذكره المصنف، وغلا ففيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين الفائق وغيره بخلاف النقد، والفائق الشاهي. وأَمَّا الْمَصْنُوعُ لا يَعُودُ، فَإِنْ قَدَّمَهُ وهَانَتِ الصَّنْعَةُ كَالْغَزْلِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الأَشْهَرِ بخِلافِ النَّقْدِ .... لما تكلم رحمه الله على ما يختلف به الجنس من المنفعة والخلقة والصنائع المتعلقة بالآدمي شرع في الصنائع المتعلقة بالجمادات، ثم إن المصنف تكلم على جميع أقسام المسألة، لأنه إما أن يسلم مصنوع في غيره أو العكس، أو مصنوع في مصنوع أو عكسه، وبدأ بالمصنوع إذا أسلمه في غير المصنوع. واحترز بـ (مَا لا يَعُودُ) مما يعود إلى أصله مع بقاء ذاته كقدور النحاس وشبهها، وسيأتي ذلك. ومثل المصنف الصنعة الهينة بالغزل. و (الأَشْهَرِ) المازري: وهو المشهور، وغير الأشهر أنها صنفان، فيجوز سلم الغزل في أصله، وأشار بعض المتأخرين إلى أنه القياس، واختاره ابن يونس، وحمل سند اتحاد الجنسين على غليظ الغزل، بخلاف رقيقه لشدة تباين الغزل الرقيق مع أصله. خليل: ويؤيده ما نص عليه في الموَّازيَّة أن الغزل الرقيق صنف، والغزل الغليط صنف.

قوله: (بخِلافِ النَّقْدِ) أي: فيجوز بيع الغزل بالكتان نقداً، لكن بشرط أن يكونا معلومين، فإن كانا جزافاً أو أحدهما لم يجز إلا أن يتبين الفضل بينهما. قاله في الموَّازيَّة، وهو مبني على أنهما جنس واحد فيؤدي إلى المزابنة. وإِنْ كَثُرَتْ كِالنَّسْجِ جَازَ هذا قسيم قوله: (وَهَانَتِ الصَّنْعَةُ). وقوله: (كِالنَّسْجِ) أي: يجوز سلم الثوب في الغزل؛ لاختلاف الأغراض وتباين المنافع، قال في المدونة: لا بأس أن يسلم ثوب كتان أو ثوب صوف في صوف. أبو محمد: إلا ثياب الخز؛ لأنها تنفيش، وهذا هو المشهور؛ لانتفاء توهم المزابنة. وفي الموَّازيَّة: لا يجوز بيع الصوف بالصوف إلا يداً بيد إلا أن يتبين الفضل بينهما. وهو يدل على أن المنسوج أصله جنس واحد، وتأوله أبو إسحاق على ما يعود صوفاً إذا نقض، واستبعده سند؛ لأن التهمة لا ينظر لصورتها، وإنما ينظر لقوتها، ويبعد في المنسوج أن يقصد إلى التعامل على نقض نسجه وغزله، قال: والمذهب الجواز مطلقاً، وذكر ابن يونس والمازري عن أشهب: أن النسج ليس بصنعة في الغزل، وأنه لا يجيز الثوب بالغزل إلى أجل ولا يداً بيد؛ للمزابنة، إلا أن يتبين الفضل بينهما، وقد جاء لمالك في النسج ما يقوي قول أشهب؛ لأنه قال فيمن اشترى غزلاً فنسجه ثم فلس المبتاع: إن النسج ليس يفوت [500/أ] به الغزل. وَإِنْ قَدَّمَ أَصْلَهُ اعتْبِرَ الأَجَلُ أي: وإن أسلم غير المصنوع فيما يصنع منه نظر إلى الأجل الذي ضربه المتبايعان، فإن أمكن أن يجعل فيه من غير المصنوع مثل ذلك المصنوع منع؛ لأنه مزابنة؛ إذ حاصله الإجارة بما يفضل مثلاً من الكتان عن الثوب، وهو مجهول، وإن لم يمكن أن يصنع جاز؛

لانتفاء المانع، وعدل المصنف عن أن يقول: وإن قدم غير المصنوع إلى قوله: (وَإِنْ قَدَّمَ أَصْلَهُ) لكونها أشمل؛ إذ هي تشمل سلم الغزل في الثوب، وفي كلامه إطلاق؛ لأن مقتضاه أن الأصل إذا قدم اعتبر فيه الأجل سواء هانت الصنعة أم لا، ولا يصح؛ لأن ما هانت الصنعة فيه يمتنع سواء قدم أصله عليه أو العكس، طال الأجل أم لا، وكأنه استغنى بما تقدم. والْمَصْنُوعَ يَعُودُ مُعْتَبَرٌ فِيهِمَا أي: إذا كانت الصنعة يمكن زوالها حتى يعود المصنوع إلى حاله قبل الصنعة كالرصاص والنحاس، فلا بد من اعتبار الأجل. وقوله: (مُعْتَبَرٌ) أي: الأجل المتقدم. وقوله: (فِيهِمَا) أي: في صورتي المصنوع في أصله، وتقديم الأصل فيه، أما اشتراط الأجل فيهما إذا قدم غير المصنوع فظاهر، وأما إذا قدم المصنوع في غير المصنوع فلا معنى لاشتراط الأجل فيه؛ إذ يبعد أن يفسد المصنوع، ويزيد عليه من عنده ثم يدفعه للمسلم، إلا أن يحمل على صورة نادرة، وهو أن يكون المصنوع قليل الثمن لقدمه أو لغيره ذلك، فإذا زالت صنعته ظهرت له صورة. وفيه بُعْدٌ. ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون حكم هذه الصورة حكم سلم غير المصنوع في غير المصنوع؛ أي: فلا يجوز في أكثر؛ لأنه سلف بزيادة ولا في أقل؛ لأنه ضمان بجعل. فَإِنْ كَانَا مَصْنُوعَيْنِ يَعُودَانِ نَظَرْتَ إِلَى الْمَنْفَعَةِ يعني: فإن كان رأس مال السلم والمسلم فيه مصنوعين من جنس واحد والصنعة مع ذلك يمكن زوالها؛ أي: يمكن إعادة المصنوع إلى أصله اعتبرت المنفعة؛ أي: فإن تقاربت منفعتهما منع سلم أحدهما في الآخر، وإن تباعدت جاز. مثاله أن يسلم

مسامير في سيف أو منارة في إبريق. وإن تقاربت جداً منع؛ لأنه مزابنة كإبريق من نحاس في مثله. انتهى. وفي المدونة: الحديد كله صنف حتى يعمل سيوفاً أو سكاكين، فيجوز سلم المرتفع منها في غير المرتفع، قال فيها: قلت: فما منع من الحديد حتى يكون سيوفاً وسكاكين ومرآة وغير ذلك، قال: إذا صنع الحديد افترق وصار أصنافاً مختلفة باختلاف المنافع، وكذلك النحاس وأصنافه كله صنف واحد حتى يعمل فيصير أصنافاً، وكذلك غير ذلك من الأشياء إذا عملت واختلفت منافعها. وتقييده بالعودة يوهم أنهما لو كانا يعودان لا ينظر إلى المنفعة، وليس كذلك بل لا فرق بين ما يعود وما لا يعود، ولهذا لم يجز سلم الرقيق من الثياب في الرقيق منها إذا اتحد الجنس بخلاف الرقيق في الغليظ؛ لتباين المنفعة. وفِي السَّيْفِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ قَوْلانِ ذكر هذه المسألة إثر التي قبلها؛ لأنها داخلة تحت: (الْمَصْنُوعَيْنِ يَعُودَانِ). ابن عبد السلام: ومذهب المدونة الجواز، ومذهب سحنون المنع. خليل: لم يجعل في المدونة مطلق الجودة والدناءة مقتضياً للجواز، بل فيها المنع إلا أن يَبْعُدَ ما بينهم في الجوهر والقطع كتباعد الرقيق والثياب؛ فيجوز أن يسلم سيف قاطع في سيفين ليس مثله. ابن يونس: ولم يجزه سحنون، والصواب الجواز؛ لتباين المنفعة. فرع: منع في المدونة سلم السيوف في حديد لا يخرج منه السيوف، وقال: لأن الحديد نوع واحد، قال: ولو أجزنا السيوف في الحديد لأجزت حديد السيوف في الحديد الذي لا يخرج منه سيوف، ولأجزت الكتان الغليظ في الكتان الرقيق.

أبو الحسن: والمسألة على أربعة أوجه: أحدها: سلم السيوف في حديد يخرج منه السيوف. والثاني: سلم السيوف في حديد لا يخرج منه السيوف. والثالث: سلم حديد لا يخرج منه السيوف في سيوف. والرابع: سلم حديد يخرج منه السيوف في سيوف. وكلها عند ابن القاسم ممنوعة. وقال سحنون: لا بأس أن يسلم الحديد الذي لا يخرج منه السيوف في سيوف. ابن عبد السلام: قال عبد الحق: وهو موافق للمدونة. فانظر ما قاله ابن يونس عن ابن القاسم، لكن قال ابن بشير: إن ما تأوله عبد الحق غير صحيح وقد نص في الكتاب على خلافه، وأجاز يحيى بن عمر والبرقي سلم السيوف في حديد لا يخرج منه السيوف، وَنَظَّر ذلك يحيى بثوب الكتان، وأنكر فضل تنظيره؛ لأن الثوب لا يعود كتاناً بخلاف السيوف، واختار اللخمي قول البرقي، قال: وليس إعادة السيوف حديداً مما يفعله العقلاء، وقوله في المدونة: ولو أجزت السيوف مع الحديد لأجزت الكتان الغليظ ... إلخ. أبو الحسن: يعني بالكتان هنا: الشعر لا الغزل. سؤال: قد تقرر في المذهب أن اختلاف المنفعة يصير الجنس الواحد جنسين وهو منخرم بما ذكرناه هنا عن المدونة. المازري: فاختلفت طريقة الأشياخ في الاعتذار؛ فرأى بعضهم أن الدنئ مِنْ هذين النوعين قد يبالغ في عمله بلطافة الصنعة حتى يصير يعمل منه ما يعمل من الآخر، ورأى بعضهم أن هذا خلاف ظاهر المدونة؛ لأنه قال: يعمل من أحدهما ما لا يعمل من الآخر، وأشار إلى أن العذر كون الاختلاف في هذه الصفات المشار إليها ربما وقع فيها الغلط

[500/ب] وبناء على الاجتهاد والحرص بحمية الأربعة لئلا يعقد السلم على نوع لا تفاوت فيه، ويقول العاقد بل فيه تفاوت. وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وتَقَارَبَتِ الْمَنْفَعَةُ كَالْبِغَالِ والْحَمِيرِ وثَوْبَيِ الْقُطْنِ والْكَتَّانِ فَقَوْلانِ .... تصوره واضح، وقد تقدمت مسألة البغال مع الحمير، ومذهب ابن القاسم في المدونة جواز سلم رفيع القطن في الكتان، والمنع لأشهب. واختلف شارحو المدونة هل يؤخذ من هذه المسألة الخلاف من هذه القاعدة أولا؟ وإنما سبب الخلاف هنا خلاف في حال. وفِي نَحْوِ جَمَلٍ فِي جَمَلَيْنِ - مِثْلِهِ -أَحَدُهُمَا مُعَجَّلٌ قَوْلانِ أي: اختلاف في جواز سلم جمل في جملين كل منهما مماثل له، وهو معنى قوله: (مِثْلِهِ). و (مِثْلِهِ) مجرور؛ صفة لجملين. و (أَحَدُهُمَا مُعَجَّلٌ) أي: والآخر مؤجل، والمشهور المنع؛ لأن المؤخر عوض عنه والمعجل زيادة، ورأي في الشاذ أن المعجل بالمعجل والمؤخر محض زيادة، والقولان لمالك. ابن عبد السلام: وأقربهما جرياً على قواعد المذهب هو المشهور؛ لأن في هذه المسألة تقدير المنع وتقدير الجواز، والأصل في مثله تغليب المنع. وقال المصنف: (فِي نَحْوِ) إشارة إلى أن هذا جار في الثياب ومثلها، وقيد الجملين بالمثلية تحرزاً من أن يكون المعجل مخالفاً لِلجَمَلِ المنفرد فيمتنع؛ لأنه تختلف الأغراض فيها حينئذ فيتعلق الغرض بهما أو بالمتعجل، فإن تعلق بالمتأجل كان سلفاً، وكان المتعجل منهما زيادة، وإن تعلق بها جميعاً كان جزءً مِنَ المنفرد متعلقاً بالمتعجل، وبقيته مع بقية المتأجل زيادة في السلف.

وأما لو كان عوض أحد الجملين دراهم أو دنانير فقال في المدونة: إن عجل الجملان جاز، تأخر النقد أم لا، وإن تأخر أحد الجملين امتنع، تعجل النقد أم لا؛ لأنه رباً. وَأَلْزَمَ أَشْهَبَ عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ دِينَاراً لِدِينَارَيْنِ كَذَلِك فَالْتَزَمَهُ وَلا يَلْزَمُهُ يحتمل أن أشهب هو المُلْزِمُ للمغيرة، وكذلك ذكره ابن بشير في كتاب الصرف، ويحتمل أن يكون أشهب مفعولاً مقدماً، والمغيرة هو الفاعل، وكذاك ذكره ابن بشير في السلم الثالث، وهو الذي ذكره المازري وغيره، وهو الصواب. ويقع في بعض النسخ تقديم المغيرة، وهو واضح في هذا المعنى، ووجه الإلزام أن الزائد إن كان المقصود به المعروف جاز فيهما، وإلا منع فيهما، ورد عبد الحق الإلزام بأن الربا في العين أضيق؛ لأن الزيادة في العروض نقداً جائزة، وإلى أجل فيه خلاف. وقد أجازه الشافعي وغيره بخلاف النقد فإنه أجمع على منع الربا فيه، إلا ما نقل عن ابن عباس بأنه أجازه فيه، ويقال: إنه رجع عنه، وإليه أشار بقوله: (وَلا يَلْزَمُهُ). واختلف الشيوخ بناءً على صحة الإلزام، هل يلزم المغيرة أن يقوله في دينارين معجلين للمعروف أم لا؟ لأن كل منها صالح للعوضية، وليس أحدهما أولى بخلاف مسألة المعجل أحدهما. ابْنُ الْقَاسِمِ: ومَنِ اسْتَصْنَعَ طَسْتاً أَوْ سَرْجاً فَسَلَمٌ، فَيُقَدَّمُ الثَّمَنُ ويُضْرَبُ الأَجَلُ، وَيَفْسُدُ بِتَعْيينِ الْمَعْمُولِ مِنْهُ وَالصَّانِعِ؛ لأَنَّهُ غَرَرٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَجُوزُ إِنْ شَرَعَ بِغَيْرِ أَجَلٍ .... لا شك في الجواز إذا لم يعين الصانع ولا المصنوع منه، وأنه سلم يجري على أحكام السلم من تقديم الثمن أو تأخيره اليومين والثلاثة، وضرب الأجل ووصف العمل. و (سَلَمٌ) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فاستصناعه سلم.

(ويَفْسُدُ ... إلخ) هو مذهب ابن القاسم في المدونة، وما علل به المصنف من الغرر هو في المدونة؛ لأنه اشترى موصوفاً معيناً يخرج من هذا المعين، فقد يخرج وقد لا يخرج، وذكر ابن المواز عن أشهب الجواز من غير أجل إذا شرع في العمل، وفي حكم الشروع عنده أن يتأخر إلى ثلاثة أيام، وكلام المصنف يقتضي أن قول أشهب خلاف للأول. وقاله غير واحد، وذهب بعضهم إلى أنهما متفقان، وأن ابن القاسم منع إذا كان خروجه يختلف، وأن أشهب أجاز إذا كان خروجه لا يختلف، والطست بفتح الطاء وكسرها. وفي المقدمات: السلم في الصناعات إلى أربعة أقسام: إما ألا يعين الصانع والمعمول منه، وإما أن يعينهما، وإما ألا يعين الصانع ويعين المعمول منه، وعكسه. فأما الأول: فهو سلم لا يجوز إلا بضرب الأجل ووصف العمل وتعجيل رأس المال. وأما الثاني: وهو أن يشترط عمله ويعين ما يعمل منه - فليس بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل أو تمكن إعادته للعمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام ونحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى ثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل. وأما الوجه الثالث: وهو ألا يشترط عمله بعينه ويعين المعمول منه، فهو أيضاً من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره. وأما الوجه الرابع: وهو أن يشترط عمله دون المعمول منه، فلا يجوز على حال؛ لأنه يجتذبه أصلان متناقضان: أحدهما النقد لكون مع يعمل منه مضموناً، وامتناعه لاشتراط عمل العامل بعينه، وبالله التوفيق.

وأَمَّا لَوِ اشْتَرَى الْمَعْمُولَ مِنْهُ واسْتَاجَرَهُ عَلَيْهِ جَازَ فارقت هذه المسألة التي قبلها بأن التي قبلها لم يدخل المبيع في ملك البائع، وهذه دخل في ملكه أولاً ثم آجره على عملها. وقوله: (جَازَ) هذا على المشهور من جواز البيع والإجارة خلافاً لسحنون في منعه البيع والإجارة إذا كان محل الإجارة في [501/أ] نفس المبيع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والجواز مقيد بما إذا كان خروجه معلوماً، وأما إن اختلف مثل أن يبيعه ثوباً على أن على البائع صبغه أو نسجه أو يبيعه خشبة على أن يعملها تابوتاً فهو ممنوع. وذكر ابن حارث في كتابه الاتفاق عليه، إلا أنهم فصلوا فيه بين ما يمكن عوده فيجوز إذا اشترط إعادته حتى يخرج على الوجه المشترط كحديد على أن يضربه سيوفاً لانتفاء الجهالة وبين ألا يمكن عوده فلا يجوز، كغزل على أن ينسجه للجهل بخروجه. وإلى هذا أشار بقوله: وفُرِّقَ بَيْنَ ثَوْبٍ وتَوْرٍ يُكَمِّلُهُمَا؛ لأَنَّ التَّوْرَ مُمْكِن الإِعَادَةِ يجوز بناء (فُرِّقَ) للمفعول وللفاعل، ويكون عائداً على مالك؛ لأنه وقع له هذا في الموَّازيَّة. ووقع في بعض النسخ (يُكَمِّلُهُمَا) وفي بعض النسخ (يَعْمَلُهُمَا) والمسألة إنما هي في الموَّازيَّة على (يُكَمِّلُهُمَا) وقال ابن عبد السلام: (ويُكَمِّلُهُمَا) أقرب إلى النصوص، قال في الموَّازيَّة والواضحة المنع من شراء ثوب نسج البائع أكثره وبقي أيسره على أن على البائع نسج باقيه". وزاد في الواضحة ألا يكون الباقي منه يسيراً جداً. ابن عبد السلام: نقلت كلام ابن حبيب هذا من حفظي ولا إشكال في صحة معناه. خليل: ولأن نسخه (يَعْمَلُهُمَا) راجعة إلى المسألة التي قبلها.

واعلم أن ما ذكره من عدم الجواز إذا لم تمكن الإعادة مقيد باليسير، وأما الكثير فلا؛ لأنه إن فسد عمل له من بقيته كاللبن غير المطبوخ، نص عليه ابن محرز، وقال: ولا بد من الشروع في العمل لئلا يكون معيناً يضمن إلى أجل، قال: وأما الممكن الإعادة كالرصاص فيجوز وإن كان يسيراً إلى أنه إن لم يأت على ما شرط أمكنه كسره وإعادته، قال: ولذلك رأوا ضمانه إن هلك من مشتريه؛ لأنه قد ملكه بالشراء، وإنما شرط على بائعه صنعة، فيه فيضمنه ضمان الصناع. وأَمَّا نَحْوُ الْقَصَّابِ والْخَبَّازِ الدَّائِمِ الْعَمَلِ فَقَدْ أُجِيزَ الشِّرَاءُ مِنْهُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى النَّقْدِ، واسْتَقْرَأَ اللَّخْمِيُّ مِنْهُ السَّلَمَ الْحَالَّ .... هذا مقابل القسم الذي قبله؛ لأن الأول الصانع فيه غير معين والمصنوع معين، وهذا الصانع معين والمصنوع غير معين، ثم هو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون الصانع دائم العمل. والثاني: ألا يكون دائمه. وذكر المصنف أنهم أجازوا الشراء من الصانع الدائم العمل كل يوم بكذا، وهذا هو المشهور، وروي عن مالك المنع. وعلى المشهور يشترط أن يكون ذلك موجوداً عنده، وأن يشرع في الأخذ ولا يشترط فيه ضرب الأجل، بل يجوز أن يكون مؤجلاً كغيره، ويجوز أن يكون حالاً، وسواء قدم النقد في ذلك أو أخره. وفي العتيبة عن مالك عن سالم بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نتبايع اللحم من الجزارين بسعر معلوم نأخذ كل يوم رطلين أو ثلاثة بشرط أن ندفع الثمن إلى العطاء. مالك: ولا أرى به بأساً إذا كان العطاء معروفاً. ابن رشد: ولاشتهارها سميت بيعة المدينة.

وقوله: (إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى النَّقْدِ) يحتمل معنيين: أحدهما - وهو الأقرب -: أنهم جعلوا المسلم فيه هنا كالحال، ولهذا أجازوا فيه تأخير رأس المال، وأبطلوا بقيته بموت المسلم إليه. ابن القاسم: ولو كان سلماً لأخذ من تركته. والثاني: أنه لما كان الغالب من الصانع الذي هذا شأنه تحصيل ما أسلم إليه، ولا يعوزه وجوده كما لا يعوز غيره، صار وجوده عنده كالنقد بالنسبة إلى جميع الناس، فكما يجوز البيع بالعين على الحلول كذلك، فلفظ النقد على الثاني مستعمل في الدنانير والدراهم، وفي الأول مستعمل في مقابلة الأجل، وروي عن مالك أنه لا يجوز تأخير رأس المال في هذه المسألة، ورآه من باب الدين بالدين، واختلف لو نقد أكثر هل للمشتري مقال في الفسخ كاستحقاق الأكثر أولا مقال له في رد القليل المقبوض كالجائحة؟ وعلى أنه لازم في المقبوض وحده فاختلف هل تقع المحاسبة فيما قبض على مقدار ما لم يقبض من غير نظر إلى الزمان، أو إنما ينظر إلى قيمة ما شرط قبضه باعتبار زمانه؟ فقد يكون الربع المقبوض أولاً مساوياً لقيمة النصف، وهو الأظهر، والله أعلم. وذكر المصنف أن اللخمي استقرأ من هذه الصور جواز السلم الحال، وقد تقدم ما يرد هذا الاستقراء؛ لأنه إنما أجيز هذا لتيسيره عليهم بخلاف غيرهم. تنبيه: وأما القسم الثاني وهو ألا يكون مستديم العمل فقال ابن بشير: قد أعطوه حكم السلم وأجازوه للضرورة، وقال: يشترط أن يكون أصل المسلم فيه يبقى إلى أجل السلم فأبعد، ويقدم رأس المال، فإن تعذر شيء من المسلم فيه تعلق بالذمة.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ لِئَلاَّ يِكُونَ بَيْعٌ مُعَيَّنٌ إِلَى أَجَلٍ وحقيقة الذمة أمر تقديري يفرضه الذهن وليس بذات ولا صفة لها، فيقدر المبيع وما في معناه كأنه في وعاء عند من هو مطلوب به، فالذمة هي الأمر التقديري الذي يجري ذلك المبيع أو عوضه مجراه، أي ولا يجوز بيع معين يتأخر قبضه؛ لأنه إن لم يكون في ملك البائع، فالغرر ظاهر، وإن كان في ملكه فبقاؤه على تلك الصفة غير معلوم؛ لأنه يلزم منه الضمان بجعل؛ لأن المسلم يزيد في الثمن ليضمنه له المسلم إليه، ولأنه إن لم ينقد الثمن اختل شرط السلم، وإن نقده كان دائراً بين الثمن إن لم يهلك والسلف إن هلك. فإن قيل: من البياعات ما يجوز بيعه على أن يقبضه المشتري بعد شهر فلم لا أجيز هنا كذلك؟ قيل: هذا إنما هو في [501/ب] البيع، وكلامنا في السلم. فإن قيل: قد أجاز ابن القاسم كراء الدابة المعينة تقبض بعد شهرين، ويلزم عليه جواز السلم في معين إلى أجل. قيل: الفرق أن الدابة المعينة ضمانها من المبتاع بالعقد أو التمكن، فإذا اشترط تأخيرها كان ضمانها من البائع، فيلزم ضمان بجعل، بخلاف منافع العين فإن ضمانها من ربها، فلم يشترط إلى ما وجب عليه. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَقْدُوراً عَلَى تَحْصِيلِهِ غَالِباً وَقْتَ حُلُولِهِ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ تَارَةً سَلَفاً وَتَارَةً ثَمَناً .... قوله: (غَالِباً) أي: فلا يعتبر عدمه نادراً؛ لأن الغالب في الشرع كالمحقق. وقوله: (وَقْتَ حُلُولِهِ) إشارة إلى أنه لا يشترط وجوده قبل ذلك، وعلى هذا فيجوز السلم فيما له إبار، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه في اشتراط وجوده من حين أسلم فيه إلى حسن وجوده؛ لاحتمال الموت والفلس، ولم يعتبر

أصحابنا ذلك؛ لأنه من الأمور النادرة، والظاهر أن العلة التي ذكرها من كون الثمن تارة يكون ثمناً وتارةً سلفاً جارية فيما يعرف بعينه وفيما لا يعرف بعينه، وإن كان ابن عبد السلام يقول: السلف لا يمكن فيما لا يعرف بعينه. ومعنى: (تَارَةً سَلَفاً) إن لم يقدر على تحصيله (وَتَارَةً ثَمَناً) إن قدر على تحصيله. فَلا يَجُوزُ فِي نَسْلِ حَيَوَانً بعَيْنِهِ أي: من أجل كون اشتراط المسلم فيه مقدوراً على تحصيله عند حلول الأجل امتنع السلم في نسل حيوان معين لفقد الشرط المذكور، وأجاز اللخمي السلم في نسل حيوان بعينه على صفة معلومة إن وجدت، بشرط أن ينقد الثمن، وبشرط قرب الوضع، قال: ويختلف إذا كان الموضع بعيداً لموضع التحجير، فيجوز على أصل ابن القاسم، ويمتنع على أصل غيره. سند: وما قاله لا يحتمله المذهب ولا غيره؛ لأن ما لا يقدر على تسليمه عند الأجل ولا تعرف له صفة يُعْرَفُ بِهَا يمتنع بيعه، سواء وصف أم لا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في الأرحام من غير تقييد، ولا يعرف فيه خلاف. وَلا حَائِطٍ بِعَيْنِهِ إِلا أَنْ يُزْهِيَ فَيَكُونُ بَيْعَاً لا سَلَماً قال في المدونة: ومحمل هذا عند مالك محمل البيع لا محمل السلم، ولم يذكر شروطه، كما ذكر ابن شاس وكما ذكر في المدونة؛ لأنه ليس من باب السلم، وعلى أن بعضها قد يؤخذ بالقوة. الأول: أن يُزْهِي ويصير بُسْرَاً؛ لأن بيعه قبل الإزهار غير جائز؛ للنهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. الثاني: أن يذكر القدر من كيل أو وزن أو عدد.

الثالث: أن يكون المشتري مما يسعه الحائط. الرابع: أن يبقى زهوه أو رطبه إلى أجل لا يثمر فيه. الخامس: أن يكون مؤجلاً. السادس: أن يذكر ما يأخذ كل يوم، وهل الأيام متوالية أو متفرقة، ولا يجوز على أن يأخذ كل يوم ما شاء، ولو شرط أخذ الجميع في يوم لجاز. السابع: أن يسلم إلى مالكه؛ لأن السلم فيه إلى غيره غرر؛ إذ قد لا يبيعه المالك. الثامن: أن يشرع في الأخذ حين الشراء أو بعد أيام يسيرة، قال في المدونة: والخمسة عشر يوماً قريب، وقيل: العشرون قريب، وقيل: لا يجوز التأخير أصلاً، وإنما جاز أن يشترط أخذه بسراً أو رطباً لا تمراً؛ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ البُسْرِ والرطب والتتمير، فيدخله الحظر بخلاف العقد على ما في الحائط جزافاً فله تركه إلى أن يتمر؛ لأن الجزاف قد تناوله العقد على ما هو عليه، وقد تسلمه المبتاع بدليل أنه إذا أراد بيعه لم يمنع ولم يبق على البائع فيه ضمان إلا ضمان الجوائح، وهو خلاف الأصل، وفي السلم لا يتناوله على ما هو عليه، وإنما يتناوله على صفة الجوائح، وهو خلاف الأصل، وفي السلم لا يتناوله على ما هو عليه، وإنما يتناوله على صفة غير موجودة فكان غرراً، وهذه التفرقة هكذا هي الصواب، وفي ابن بشير العكس، وهو خطأ على المذهب لا شك فيه، قاله ابن عبد السلام. بعض القرويين: وهذه الشروط إنما تلزم إن سموه سلماً، وأما إن سموه بيعاً فلا يلزم ويكون على الفور؛ إذ بعقد البيع يجب له قبض الجميع. فرع: فإن وقع البيع بشرط البقاء إلى التتمير نُظِرَ فإن وقع البيع عليه وهو رطب وقبضه تمراً قبل أن يطلع على فساده مضى بلا خلاف.

ابن القاسم: وكذلك يمضي إذا غفل عن الاطلاع عليه حتى يتمر، فإن وقع وهو زهو فتأول ابن شبلون وغيره أنه يفسخ مطلقاً، وإنما يفوت بما يفوت به البيع الفاسد، وعلى هذا فيكون المنع على التحريم، وقال ابن أبي زيد: يمضي إذا نزل، وعليه أول المدونة، وفسر الفوات الذي في المدونة بالقبض، ومثله في الواضحة، وفسر غيره الفوات بالعقد، ومثله في الموَّازيَّة، وعلى هذين فالمنع على الكراهة، وصوب عبد الحق وابن يونس تأويل ابن أبي زيد، وأكثر الشيوخ على تأويل المدونة على مافي الواضحة يفسخ ما لم يقبض ولو انقطعت ثمرته قبل الاستيفاء رجع بحصة ما بقي اتفاقاً، قاله ابن يونس وغيره، وهو خلاف الثمن المضمون ينطقع بعدما أخذ بعض سلمه، فهذا فيه اختلاف وسيأتي. قال عيسى بن دينار: رجوعه على حسب المكيلة، وقال القابسي وابن شبلون وَجُلُّ الأشياخ: بل على القيمة؛ لأنه دخل على أن يأخذ شيئاً فشيئاً، إلا أن يشترط عليه أن يجده في يومه أو يوم واحد فعلى المكيلة، وهو ظاهر، وإذا رجع بالحصة ففي المدونة يجوز أن يأخذ بتلك الحصة ما يشاء من السلع معجلاً، فإن تأخر لم يجز؛ أي: لأنه فسخ دين في دين. ابن أبي زمنين: وذكر بعض الرواة عن ابن القاسم أنه قال: له أن يأخذ بها من شاء من السلع معجلاً، [502/أ] إلا ما كان من صنف الثمرة التي أسلم فيها فلا يجوز أن يأخذ منه إلا مثل ما بقي من الكيل؛ لأنهما يتهمان أن يكونا عملاً على التاخير ليأخذ منه أكثر من كيله. بعض القرويين: ويجب على هذا ألا يأخذ بما بقي له من رأس ماله ذهباً عن وَرِقٍ أو بالعكس؛ لما يخشى أن يكونا عملا على صرف يتأخر. قال بعضهم: وإن ذهبت الثمرة بأمر من الله تعالى فينبغي أن يجوز ذلك كله، وقد يعترض على من قاس هذا على ما قاله ابن القاسم في الصرف المستأخر، فإن التهمة في فسخ الدين أقوى؛ لأن فيها دفع قليل في كثير بخلاف الصرف.

بِخِلافِ غَنَمٍ كَثِيرَةٍ، لا يَتَعَذَّرُ الشِّرَاءُ مِنْ نَسْلِهَا، أَو مِصْرٍ لا يَتَعَذَّرُ الشِّرَاءُ مِنْ ثَمَرَهِ .... أي: فيجوز السلم فيهما؛ أي: لأن غنما ً كثيرةً، أو مصراً من الأمصار العظام سلم في الذمة حقيقة، ولو أراد المسلم إليه أن يعطي من غير نسل تلك الأنعام أو من غير ثمرة ذلك الحائط المشترطة فأجراه بعضهم على الخلاف في شرط ما لا يفيده هل يلزم أم لا؟ ولا يَضُرُّ الانْقِطَاعُ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ أي: قبل حلوله ولا بعده كالأشياء التي لها إبار، وقد تقدم هذا. بعض القرويين: ولو مات المسلم إليه قبل الإبار فلتوقف تركته إليه، ولا يقسم ماله حتى يأخذ المسلم حقه، ولو كان عليه دين يغترق تركته تحاصوا في تركته، وضرب للمسلم بقيمة شيئه في وقته على ما يعرف في أغلب الأحوال من غلاء أو رخص، قيل: فيوقف ما صار له ثم يشتري له ما أسلم فيه، فإن نقص اتبع بالباقي ذمة الميت إن طرأ له مال وإن زاد لم يشتر له إلا قدر حقه، وترد البقية إلى من يستحق ذلك من وارث أو مديان، ولو هلك الموقوف لكان من المسلم إليه؛ لأن له نماؤه فعليه ثواؤه، ولم يجروا في هذه المسألة ما وقف للغرماء من مال المفلس؛ لأن مسألة السلم لم يحل الأجل فيها لكون الإبار لم يأت، ولو حل لجرى فيها حكم ما وقف الغرماء. فَلَو أَخَّرَهُ حَتَّى انْقَطَعَ فَالمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ والإِبْقَاءِ فلو أخر المسلم إليه المسلم فيه حتى انقطع وخرج إباره فالمشتري - وهو المسلم - مخير بين فسخ العقد ويأخذ رأس ماله، وبين إبقاء العقد إلى قابل؛ لأن الحق للمبتاع، ولم يذكر المصنف إلا هذا القول، وخرج سند الأقوال المذكورة في تأخير البعض، وكلام المصنف ظاهر في أن المسلم إليه هو المؤخر، وينبغي ألا يكون للمسلم تخيير إذا كان

التأخير من جهته؛ لأنه ظلمه بالتأخير فتخييره بعد ذلك زيادة في ذلك الظلم، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. ويشبه هذه المسألة إذا أسلم في أضحية فلم يأت بها البائع حتى فات زمن الأضحية، وإذا هرب البائع في السلم ممتنعاً من قبض رأس المال، وفيها في المذهب اضطراب. فَلَو قَبَضَ الْبَعضَ فَسِتَّةٌ؛ يَجِبُ التَّأخِيرُ إِلا أَنْ يَتَرَاضَيَا بِالْمُحَاسَبَةِ، وقَالَ أَصْبًغُ بِعَكْسِهِ، وقَالَ سُحْنُونٌ: يَجِبُ التَّاخِيرُ، وقَالَ أَشْهَبُ: تَجِبُ الْمُحَاسَبَةُ، وقِيلً: الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وقِيلً: إِنْ قَبَضَ الأَكْثَرَ جَازَ التَّاخِيرُ، وإِلا وَجَبَتِ الْمُحَاسَبَةُ أي: إذا قبض بعض المسلم فيه وتأخر بعضه لفقده وذلك في صورتين: الأولى: أن يسلم فيما له إبار ثم ينقطع، وهي التي في المدونة وغيرها. والثانةي: أن يسلم في ثمرة قرية مأمونة فتصيب ثمرتها جائحة، وهي التي ذكر اللخمي فيها الخلاف، وأما القرية غير المأمونة فحكى عياض وغيره فيها قولين: أحدهما: وجوب المحاسبة ولا يجوز البقاء لقابل. والثاني: الجواز، وصوبه ابن محرز. عياض: وأما لو أجيحت فيلزمه البقاء اتفاقاً، وأما الحائط المعين فيفسخ فيما بقي اتفاقاً، نقله اللخمي وابن يونس وغيرهما. وقوله: (فَسِتَّةٌ) أي: أقوال: الأول: أن الحكم وجوب التأخير، ومن دعا إليه منهما كان القول قوله إلا أن يتراضيا بالمحاسبة، وهو قول مالك الذي رجع إليه في المدونة، وقول ابن القاسم وسحنون، وصوبه التونسي؛ لأن السلم يتعلق بالذمة، فلا يبطل ببطلان الأجل كالدين ولا يتهمان على قصد البيع والسلف؛ لأن انقطاعه إنما هو من الله تعالى، وكذلك لو كان هو رب

أحدهما، فإن التهمة أيضاً منتفية بخلاف ما لو سكت المشتري عن طلب البائع حتى يذهب الإبار فلا يجوز تراضيهما على المحاسبة؛ لأنهما يتهمان على البيع والسلف، وهل من شرط تراضيهما بالمحاسبة ألا يكون رأس المال مقوماً؟ لم يشترط ذلك ابن القاسم واشترطه سحنون؛ ليأمنا من الخطأ في التقويم؛ لأنه إذا كان مقوماً جاز أن يكون مخالفاً بالقلة والكثرة فيكون إقالة في البعض على غير رأس المال إلا أن يكون المردود من الأثواب جزءً شائعاً فيكون المشتري شريكاً للبائع في رأس المال، وإذا تراضيا على المحاسبة فلا يجوز أن يأخذ بقية رأس ماله عوضاً ولا غيره؛ لأنه بيع الطعام قبل قبضه، قاله أبو بكر بن عبد الرحمن والتونسي، ولم يعتبروا تهمة البيع والسلف للضرر الداخل عليهما بالتأخير. القول الثاني: لأصبغ عكس الأول تجب المحاسبة إلا أن يتراضيا بالتأخير، وَضُعِّفَ؛ لأنه إذا وجبت المحاسبة فليس للمشتري على البائع سوى بقية رأس المال، فإذا اجتمعا على التأخير لزم فسخ دين في دين، وأجاب المازري بأن فسخ دين في دين هنا ليس متفقاً عليه؛ لأنه قد قيل بوجوب التأخير ابتداء. القول الثالث: [502/ب] وهو قول مالك الأول في المدونة، ونقل عن سحنون أيضاً يجب التأخير، وليس لهما أن يتراضيا بالمحاسبة، ووجه ما ذكره التونسي في توجيه الأول. القول الرابع لأشهب في الموَّازيَّة: تجب المحاسبة، ولا يجوز لهما أن يتراضيا على التأخير؛ لأن الأجل مقصود فيفسخ بفواته، ولا يجوز لهما أن يتراضيا على التأخير؛ لأنه كفسخ دين في دين، ويجوز على هذا أخذ عوض عن بقية الثمن ناجزاً كالحائط المعين. الخامس: لابن القاسم في الموَّازيَّة: الخيار للمشتري في الفسخ والإبقاء؛ لأن الحق له. السادس: أن المسلم إذا قبض أكثره جاز التأخير والمحاسبة، وإن قبض أقله وجبت المحاسبة، وعزاه ابن يونس لمالك، وابن بشير لابن القاسم.

لكن استشكل نقل المصنف له؛ لأن من نقله إنما نقله في الأقل والأكثر، وقول المصنف وألا يدخل فيه الأقل والمساوي. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً لِئَلاَّ يَكُونَ بَيعَ ما لَيْسَ عِنْدَكَ إِلَى مُدَّةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الأَسْوَاقُ عُرْفاً كَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمَاُ، وقِيلَ: إِلَى يَوْمَيْنِ، وقِيلَ: إِلَى يَوْمٍ .... الشرط الخامس أن يكون المسلم فيه إلى أجل؛ فلا يجوز الحال، خلافاً للشافعي لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قدخم المدينة فوجدهم يسلمون الثمار السنة والسنتين فقال: «من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم». وقد تجاذبه كل من المذهبين: فالأول: رأي أن الشرط مركب من الأجل والمعلومية. والثاني: رأى أن المقصود من الشرط المذكور إنما هو كونه مضبوطاً إلا أنه لا بد من أجل، وإلا لزم ذلك في الكيل والوزن ولا قائل به. وقوله: (لِئَلاَّ يَكُونَ ... إلخ) روى الترمذي وصححه أنه عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عندك، ورواه أبو داود والنسائي أيضاً. وقوله: (إِلَى مُدَّةٍ) بيان للأجل المشترط، وذلك أن أصحابنا لما اشترطوا الأجل قالوا: إن علة ذلك تحصيل مصلحتين: إحداهما: في حق البائع وهي دفع القليل ليأخذ ما هو أكثر منه. والثانية: في حق المشتري وهو الانتفاع بالثمن، وقد يحصله بذلك الثمن ثم إن مالكاً اكتفى بهذا القيد في الرواية المشهورة عنه، قال في المدونة: ولم يحد مالك في ذلك حداً، وهو عين الفقه، وذكر صاحب المعونة عنه رواية أخرى بالاكتفاء بمطلق الأجل. وروى ابن القاسم تحديد أقل هذه المدة بخمسة عشر يوماً، وجعل ذلك مظنة اختلاف الأسواق

غالباً، وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر؛ لأنه اكتفى بقول ابن القاسم عن قول مالك، وجعل الخمسة عشر يوماً مثالاً للمدة الموصوفة، وليس الأمر عند مالك على هذا، والقول بجواز السلم إلى يوم لمالك في الموَّازيَّة، وباليومين لابن عبد الحكم. أصبغ: قال: فإن وقع إلى يومين لم يفسخ؛ لأنه ليس بحرام بَيِّنٌ ولا مكروه بَيِّنٌ، واختاره ابن حبيب، وقال ابن المواز: فسخه أحب إليَّ، وهو ظاهر المدونة عند ابن رشد. ومِنْ ثَمَّ قِيلَ: يَجُوزُ السَّلَمُ الْحَالُّ أي: وَمِنْ إجازة السلم إلى اليوم واليومين خَرَّجَ بعضهم - وهو التونسي - قولاً بجواز السلم الحال؛ لأن هذه المدة لا تتغير فيها الأسواق غالباً، وقال غيره: لا يلزم من قال هذا إجازة السلم الحال؛ لأن قائله اشترط ضرب الأجل، ولعله اعتقد أن الأسواق تتغير فيه، ولا يخرج الإنسان قولاً من مسألة نص فيها على ما يناقضه، ونقل المتيطي أن أبا تمام روى عن مالك إجازة السلم الحال، فذكر الباجي عن عبد الوهاب أنه قال: "اختلف أصحابنا في تحرير المذهب، فمنهم من حكى رواية بجواز السلم الحال، ومنهم من قال: الأجل شرطٌ روايةً واحدة، وإنما اختلفت الرواية عنه في مقدار الأجل. إِلا أَنْ يُعَيِّنَ الْقَبْضَ بِبَلَدٍ أخَرَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأَجَلُ الْمَسَافَةَ ولَو يَوْماً هذا مستثنى من قوله: (أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً .... إِلَى مُدَّةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الأَسْوَاقُ) أي: إلا أن يكون المسلم اشترط قبضه ببلد آخر فلا يشترط فيها الأجل البعيد، ويكتفى بأن يكون الأجل مقدار المسافة ولو كانت يوماً، وتبع في اليوم ابن بشير. وفي السلم الثالث من المدونة: فإن أسلمت إلى رجل في طعام ببلد على أن تأخذه ببلد آخر مسافة ثلاثة أيام أجاز ذلك.

ابن المواز: أو اليومين، ومفهومهما يخالف ابن بشير والمصنف، إلا أن يكون خرج على سؤال فلا مفهوم له. وإنما أجازوا مع اختلاف البلدين وإن كان الأجل قريباً لأنه يحصل مع اختلافهما من اختلاف الأسواق ما يحصل في البلد الواحد مع الأجل البعيد، وقيد ابن أبي زمنين التأجيل بالمسافة بالخروج بالحال والسير في البر أو البحر بغير ريح، وإلا فلا بد من ضرب الأجل. اللخمي: واختلف إذا اشترط القبض ببلد ولم يذكر أجلاً ولم تكن عادة فقيل: إن ذلك جائز؛ لأن تلك المسافة بين البلدين كالأجل، فيجبر المسلم إليه على الخروج بفور العقد أو التوكيل على الوفاء، فإذا وصل أجبر على القضاء واستحق القبض حينئذ، وقيل: السلم فاسد، وهو أحسن؛ لأن السلم يتضمن موضعاً يقبض فيه ومدة يقبض إليها، فذكر الموضع لا يفهم منه الأجل، وقال غيره: ليس هذا بخلاف ولكن للمسألة صورتان: إحداهما: أن يكون السلم يحل بالوصول إلى البلد الثاني. الثانية: أن يطول زمان مقدار الحلول؛ فلا بد مع هذا من ضرب الأجل، وإذا وكل من يخرج لإقباض المبيع. ابن عبد السلام: فهل من شرط الوكالة في هذه المسألة أن يلزم الموكل ألا يعزل ذلك الوكيل حتى يقبض حق المشتري، أولا يحتاج إلى ذكر هذا الشرط؛ لأن الحكم يقتضيه بسبب حق المشتري، فلو عزله لم ينعزل كما لا ينعزل وكيل الخصومة [503/أ] إذا أشرف على ظهور الحق أو قاعده خصمه ثلاثاً؟ وقيل: في مسألة المسلم قول ثالث أن للموكيل عزل الوكيل لا مطلقاً، ولكن إلى بدل. وفيه نظر؛ إذ يتعلق حق المشتري بعين الوكيل الأول؛ لأنه أسهل قضاءً وشبه ذلك. انتهى.

وحكى الباجي عن بعض المتأخرين أن التوكيل لا يجزئ إلا أن يضمن الوكيل المسلم فيه؛ لجواز أن يعزله المسلم إليه فيبطل سفر المسلم. الباجي: ويجوز عندي إلا يكون له عزله كالوكيل على بيع الرهن، أما الدنانير والدراهم في الذمة على أن يقبض ببلد آخر فلا بد من ضرب الأجل فيها، ولا تكفي المسافة وإلا كان فاسداً. والفرق أن العين يتفق فيها الأسعار؛ فَذِكْرُ البلد لغو، ولهذا يأخذه بها حيث وجده، أما لو كانت العين معينة ببلد آخر فالمسافة كافية كالعروض، ولا بد من شرط الخلف وإن لم يشترط ففي صحة البيع قولان. وَيجُوزُ تَعْيينُ الأَجَلِ بِالْحَصَادِ والدِّرَاسِ وقُدُومِ الْحَاجِّ، والْمُعْتَبَرُ مِيقَاتُ مُعْظَمِهِ لا الْفِعْلُ، وَكَخُرُوجِ الْعَطَاءِ، والْمُعْتَبَرُ الزَّمَانُ ... أي: ويجوز أن يكون أجل السلم إلى الحصاد والدراس وقدم الحاج؛ يعني: بالشام ومصر، وكذلك سائر البيوع؛ لأنه وقت يعرف بالعادة لا يتفاوت، والمعتبر زمان معظم الحصاد والجذاذ سواء كان ذلك الطعام حصاداً أو جذاذاً أولا. وإليه أشار بقوله: (لا الْفِعْلُ) أي: لا أوله. (وِكَخُرُوجِ الْعَطَاءِ) معطوف على قوله: (بِالْحَصَادِ). والعطاء: الرواية من بيت المال، والمعتبر أيضاً زمانه لا نفسه، وإلا امتنع؛ لجواز ألا يكون العطاء في ذلك العام أو يتقدم أو يتأخر. وإِلَى ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ يُكَمَّلُ الشَّهْرُ الْمُنْكسِرُ ثَلاثِينَ أي: وإذا وقع البيع إلى ثلاثة أشهر فإن كان في أول شهر فلا إشكال أنها تكون ثلاثة بالأهلة، وإن كان في بعض شهر كمل شهر الابتداء ثلاثين من الرابع.

وقد اختلف المذهب في العدد والأيمان هل يحكم بهذا الذي ذكره المصنف أو يكمل كل شهر ثلاثين يوماً من الذي يليه؟ وإِلَى رَمَضَانَ يَحِلُّ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ أي: إذا كان أجل السلم إلى رمضان حل بأول جزء منه، فيحل باستهلاله، وفي عبارة بعضهم: يحل بأول ليلة من الشهر، وذلك أوسع من الزمان الذي يعطيه كلام المصنف. المازري: وإن قال: إلى يوم السبت حمل على طلوع فجره. وفِي رَمَضَانَ بِآخِرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ أَجَلٌ يُغْتَفَرُ مَعَهُ الشَّهْرُ، وإِلا نُقِضَ ما صَدَّرَ به المصنف من أنه إذا عقد المسلم على أنه يأخذ في رمضان أنه يحل في آخره تبع فيها ابن شاس، وهو قول ابن العطار، ولكنه كره ذلك ابتداءً وقال: فإن وقع لم يفسخ، ويؤيده ما في المدونة فيمن حلف ليقضين فلاناً حقه في شهر كذا فقضاه في آخره أنه لا يحنث، وجوابه أن الأجل في الأيمان لا تنافي التوسعة بخلاف البيوع، ألا ترى أن الحالف لو صرح فقال: "لأقضينك حقك في هذا العام في أي وقت" لكان له ذلك، وقيل: إذا مضى معظم الشهر وجب القضاء، والمنقول عن مالك في المبسوط أنه يدفع في وسط الشهر، وقاله ابن القاسم في العتبية وفضل، وقال ابن لبابة: هو أَجَلٌ مجهول حتى يسمي أي وقت في الشهر، أي: فيفسد البيع، وأنكره ابن زرب وغيره. ابن راشد: وصحح المازري الفساد لتردده بين أول الشهر ووسطه وآخره، وضعف قول ابن العطار لكراهته ابتداء؛ لأنه إن كان معلوماً فلا وجه للكراهة، وإلا فسد، ثم وجه الكراهة باختلاف العلماء. ابن راشد: وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ أَجَلاً) هو قول الباجي، وهو إن كان هذا القدر نسب إلى جملة الأجل، زاد الثمن أو نقص بأوله وآخره فإنه يفسخ، وإن كان الأجل بعيداً

بحيث تكون نسبة الشهر لا تزيد ولا تنقص لم يفسخ، واختلف إذا قال: لصدر شهر كذا؛ فقال ابن القصار: هو ثلثاه أو النصف، واحتج بما رواه ابن القاسم في القائل لغرمائه: "إن لم تقضني صدراً من حقي يوم كذا فعليَّ المشي إلى بيت الله إن لم ألزمك بحقي كله" فقال مالك: الثلثان أحب إليَّ، ولو قيل: النصف لكان قولاً، إلا أن تكون له نية فذهب مالك إلى أن الصدر أقل من ذلك، واختاره ابن سهل وَحَدَّهُ بالثلث، لما رواه ابن حبيب عن مالك وابن القاسم وغيره من أصحاب مالك في الحالف ليقضين غريمه إلى أجل سماه، فلما حل الأجل قضاه من حقه صدراً مثل الثلث فما فوق، فإنه يبرئه. ابن حبيب: ولا أعلمهم يختلفون فيه، ونص ابن نافع أيضاً على أن الصدر الثلث، وعلى أن الجل الثلثان، واختاره ابن رشد. السَّادِسُ: أَنْ يِكُونَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ بِعَادَتِهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَو عَدَدٍ أَو ذَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ قوله: (بَعَادَتِهِ) أي: فما كانت فيه العادة الكيل فلا ينتقل إلى الوزن كالحنطة، وكذلك العكس كالصوف. قال جماعة: ويجب أن يقدر في السلم بعرف بلده؛ فإن غيره مجهول فيه. قوله: (أَوْ عَدَدٍ) كالبيض. قال في المدونة: ولا بأس بالسلم في البيض عدداً. الباجي: وصغير الفاكهة يتصور فيه الكيل والوزن والعدد، ويحمل على عرف بلد السلم، وما ييبس منها ويدخل كاللوز والبندق وقلوب الصنوبر لا يسلم فيه إلا كيلاً. قال ابن حبيب: ولا يسلم فيه عدداً. الباجي: وما قاله بَيِّنٌ؛ لأن المشقة تلحق في عدده، ثم أشار إلى حمل ذلك على عرفه، أما الرمان والسفرجل والجوز فروى ابن القاسم عن مالك أنه يباع عدداً [503/ب].

ابن القاسم: وإن كان الكيل فيها مَعْرُوْفَاً فلا بأس به. وقال ابن حبيب: يسلم فيه كيلاً وعدداً لا وزناً، وقيل: أما ما عَظُمَ فالعدد فيه أظهر، ولا ينبغي أن يعد هذا خلافاً، ويحمل على أن كل واحد تكلم على ما يعرفه من العادة. وقوله: (أَوْ غَيْرِهِ) كالأحمال والحزم والجزر، وهي القبض، وذلك في البقول والقصيل والقرط والقضب، نص عليه في المدونة، قيل: وذلك أن يقاس ذلك بحبل فيقال: أسلم لك فيما يسع هذا ويجعلانه عند أمين. الباجي: ولا يجوز أن يقدر بذرع الأرض، وجوز ذلك أشهب، لا يقال: قد أجاز مالك في السلم الأول السلم في اللحم تحرياً، وليس بمقدار معلوم؛ لأنه قال: إذا كان لذلك قدر عرفوه فهو راجع إلى قدر معلوم. واختلف في صفة ضبطه؛ فقال ابن أبي زمنين: إنما يجوز فيما قل، وصفة ضبطه أن يقول: أسلفك في لحم يكون قدره عشرة أرطال مثلاً، وكذلك الخبز. وقال ابن زرب: هو أن يعرض عليك قدر ما يقول مثل هذا كل يوم، ويشهد على المثال، ولا يجوز على شيء يتحراه، وفي السلم الثاني من المدونة: ومن أسلم في ثياب موصوفة بذراع رجل بعينه إلى أجل جاز ذلك إذا أراه الذراع وليأخذا قياس الذراع عندهما كما جاز شراء ويبة وحفنة بدراهم إن أراه الحفنة؛ لأنها تختلف. واختلف في مسألة الويبة فقيل: ذلك حيث لا مكيال، كما قال في القصعة. محمد: وقيل: هو جائز كالذراع، واختلفوا إذا كثرت الويبات والحفنات، وأكثرهم على المنع، ونص عليه سحنون. أبو عمران: وظاهر المدونة رؤية ذراع الرجل المعير خلاف ما في الموَّازيَّة أن السلم جائز وإن لم يره الذراع، وفي الطرر: إن كان القاضي نصب للناس ذراعاً لم يجز اشترط ذراع رجل بعينه، كما لا يجوز ترك المكيال المعروف والعدول إلى المجهول، فإن لم يكن للناس ذراع

منصوب فلا يجوز السلم على ذراع رجل بعينه، وإنما يجوز على ذراع وسط مطلقاً، ويحملان على الوسط. فرع: واختلف في جواز السلم على مثال يريه إياه على قولين حكاهما ابن بشير، قال: ولا ينبغي أن يعد خلافاً، وإنما هو خلاف في حال إن قصد بالمثال المشابهة في كل الصفات لم يجز، وإن قصد الصفات العامة جاز. وَالْمَعْدُودُ كَالْبَيْضِ والْبَاذِنْجَانِ والرُّمَّانِ والْجَوْزِ واللَّوْزِ هو ظاهر، وقد تقدم، وشرط في المدونة أن يصفا قدر الرمانة والسفرجلة ونحوهما إن كان يحاط بمعرفته. وَلَوْ عَيَّنَ مِكْيَالاً مَجْهُولاً فَسَدَ، وإِنْ عُلِمَتْ نِسْبَتُهُ كَانَ لَغْواً تصوره واضح. وقوله: (فَسَدَ) يقتضي فسخه إن وقع، وهو المشهور، وكرهه أشهب في الطعام ابتداءً، ولا يفسخ عنده إن نزل. وخفف في المدونة في شراء العلف والتين والخبط من الأعراب في السفر بمكيال لا تعرف نسبته من المكيال الجاري بين الناس للضرورة. واختلف فيما أجازه مالك من ذلك في القصعة للأعراب وحيث يعدم الكيل، ففي كتاب محمد أن ذلك جائز في اليسير، وعن أبي عمران: أنه يجوز هنالك في الكثير إن احتيج إليه كاليسير. السَّابِعُ: مَعْرِفَةُ الأَوْصَافِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا الْقِيمَةُ اخْتِلافاً لا يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ فِي السَّلَمِ .... الشرط السابع: ذكر الأوصاف التي تختلف بها قيمة المسلم فيه اختلافاً لا يتغابن المتبايعان بمثله، وظاهره أن الصفة إذا كانت لا تختلف القيمة بسببها أنه لا يجب بيانها في

السلم. وعبارة غيره أقرب؛ لأنهم يقولون: يبين في السلم جميع الأوصاف التي تختلف الأغراض بسببها، واختلاف الأغراض لا يلزم منه اختلاف القيمة؛ لجواز أن يكون ما تعلق به الغرض صفة يسيرة عند التجار، وتخلفها صفة أخرى. وقوله: (فِي السَّلَمِ) مفهومه أن السلم يغتفر فيه من الإضراب عن بعض الأوصاف ما يغتفر مثله في بيع النقد ولا ينعكس؛ لأن السلم مستثنى من بيع الغرر، بل ربما كان التعرض للصفات الخاصة في السلم مبطلة له لقوة الغرر. قاله ابن عبد السلام. ويشترط أن تكون الصفات معلومة لغير المتعاقدين؛ لأنه متى اختصم المتعاقدان بعلمهما دل ذلك على ندورهما، والندور يقتضي عزة الوجود، وأيضاً فاختصاصها بها يؤدي إلى التنازل بينهما. وَيُرْجَعُ فِيهَا إِلى الْعَوَائِدِ، فَقَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الْبِلادِ أي: يرجع في تعيين تلك الأوصاف التي تختلف بها القيمة إلى العوائد، فرب صفة تتعين في نوع دون غيره، وفي بلد دون آخر، واستغنى المصنف بهذا الضابط عن مسائل ذكرها أهل المذهب لاندراجها فيما ذكره، وهذا الضابط ذكره المازري، قال: يحتاج في الثمن إلى ذكر النوع والجودة والرداءة. قال: وزاد بعض العلماء: البلد واللون وكبر الثمرة وصغرها، وكونه جديداً أو قديماً، ويحتاج في القمح إلى هذه الصفات أيضاً. واشترط بعض العلماء في القمح وصفاً سابعاً، وهو كون القمح ضامراً أو ممتلئاً، ورأى أن الثمن يختلف باختلافه، ورأى أن الضامر يقل ريعه، لكن الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن حمل المذهب على أنه لا يلزم اشتراط القدم والجودة في القمح، واحتج بالرواية الواقعة في السلم أنه إذا أسلم في قمح فأتاه بقمح قديم أنه يجبر على قبوله. زاد ابن يونس عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه قال: لا يختلف العتيق من الجديد عندنا بإفريقية.

ابن يونس: وهو يختلف عندنا بصقلية؛ فلا يجوز حتى يشترط قديم من جديد، وهل يجب أن يبين السمراء من المحمولة؟ إن كان بمحل ينبتان فيه، ولا غالب وجب بيانه وإلا فسد، وإن كان ما يجلبان إليه فرأى ابن حبيب أن تركه لا يفسد، ورأى الباجي أن مقتضى الروايات خلاف قوله [504/أ]. ابن بشير: ولا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً، بل إن اختلاف الثمن بهما وجب ذكره وإلا فلا، أما إن لم يكن إلا واحداً فلا يجب البيان. واختلف في مثل مصر فقيل: لا يفتقر إلى الجنس؛ لأن قمح مصر جنس واحد في الغالب، وهو المحمولة. وقال ابن عبد الحكم وغيره: لا بد أن يسمي الجنس وإلا فسخ البيع. والأول مذهب المدونة، ففيها: ويقضي بمصر بالمحمولة، وبالشام بالسمراء، قال: وإن أسلم بالحجاز حيث يجتمع المحمولة والسمراء ولم يسم جنساً فالسلم فاسد. فرع: قال ابن عبد الغفور: وإذا سمى قمحاً طيباً ولم يقل جيداً فالسلم تام، وقاله ابن حبيب. وقال ابن لبابة: لا بد أن يقول جيداً، وإلا لم يجز على مذهب المدونة، نقله ابن راشد. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ، والدُّورِ، والأَرْضِينَ لَمْ يَجُزْ بِخِلافِ غَيْرِهَا أي: فإن لم يكن ذكر تلك الأوصاف لم يجز السلم فيه، وَمَثَّلَهُ بشيئين: أولهما: تراب المعادن. قال في المدونة: لأن صفته غير معروفة. ثانيهما: الدور والأرضون. وفي التمثيل بهما نظر؛ لأنه مما يمكن صفتهما، وإنما امتنع السلم فيهما؛ لأن وصفهما بما تختلف الأغراض به يستلزم تعيينهما فيؤدي إلى السلم في

معين. وذكر المازري عن بعض الأشياخ أنه خرج قولاً بجواز السلم في العقار مما قاله أشهب أنه يسلم في البقول فدادين؛ لأنه إن لم تصرف الفدادين لم يجز السلم، وإذا وصف بمكانه صار معيناً. قال صاحب المقدمات: أربعة أشياء لا يصح السلم فيها. فذكر الإثنين اللذين ذكرهما المصنف، وألحق بتراب المعادن الجزاف فيما لا يصح بيعه جزافاً. قال: والثالث: ما يتعذر وجوده من الصفة. والرابع: ما لا يجوز بيعه بحال كتراب الصواغين وجلود الميتة. فَيَذْكُرُ فِي الْحَيَوَانِ النَّوْعَ وَاللَّوْنَ وَالذُّكُورَةَ وَالأُنُوثَةَ وَالسِّنَّ، وَيُزَادُ فِي الرَّقِيقِ الْقَدُّ، وَكَذَلِكَ الْخَيْلُ وَالإِبِلُ وشِبْهُهُمَا .... مذهبنا جواز السلم في الحيوان، ومنع جماعة من الشيوخ السلم في الآدمي، ولا سيما جواز الوطء، وعلى هذا قصر بعضهم المنع اعتقاداً منهم أن الصفات في ذلك لا تضبطه، وذكر المصنف في الحيوان خمسة أوصاف: أحدها: (النَّوْعَ) فيحتمل أن يريد به النوع حقيقة كنوع الإنسان والإبل، ويحتمل أن يريد الصنف كالرومي والتركي، فلا بد من ذكرهما. الثاني: (اللَّوْنَ) وجعله المصنف معتبراً في جميع الحيوان، وقد نص في الجواهر على اعتباره في الإبل والخيل ولم يذكره في الطير. وعلم أن ذِكْرَ الجنس يغني عن اللون في الرقيق، فجنس النوبة السواد، والروم البياض، والحبش السمرة، لكن يحتاج هذا إلى بعض عرضيات النوع كالدهمي والأحمر والبياض الشديد، وذكر سند أن اللون لا يعتبر عندنا في غير الرقيق، ولعله اعتمد على المازري، فإنه لم يذكر اللون في غيره. وليس بظاهر؛ فإن الثمن يختلف به، وقد ذكره بعضهم في الخيل وغيره من الحيوان.

ابن بشير وغيره: وحظ الفقيه المفتي في هذا أن يحيل على العارفين بالعوائد، فما حكموا أن الأثمان والأعراض تختلف به يجب ذكره. الثالث: (وَالذُّكُورَةَ وَالأُنُوثَةَ) وهما معتبران في جميع الحيوان؛ لاختلاف الثمن بهما. الرابع: (السِّنَّ) وهو أيضاً مطلوب في الجميع. الخامس: يختص بالرقيق وهو (القَدُّ). وفي بعض النسخ (القَدْرُ) والمعنى واحد، فيقال: طويل أو قصير أو متوسط. قوله: (وَكَذَلِكَ الْخَيْلُ وَالإِبِلُ) ظاهره أنه يشترط فيهما، وما أشبههما ذكر القد، وذكر سند أنه لا يشترط ذلك فيما عدا الإنسان؛ فانظر ذلك. وبقي عليه من شروط الحيوان الجودة والدناءة، وإن كانت أنثى الثيوبة والبكارة، ذكرهما المازري، على أنه قال في الثيوبة والبكارة إن كان الثمن يختلف بذلك، وقيده سند بالعليات. ولا يُشْتَرَطُ فِي اللَّحْمِ فَخِذٌ ولا جَنْبٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنَ الْبَطْنِ إِلا بِعَادَةٍ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَيَكُونُ لَحْمٌ بِلا بَطْنٍ، قِيلَ: فَمَا مِقْدَارُهُ؟ قَالَ: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) لأَنَّهَا كَانَتْ عَادَتَهُمْ .... للسلم في اللحم شروط: أولها: الجنس من إبل أو بقر أو ضأن أو معز. ثانيها: السن من صغر أو كبر. اللخمي والمازري: فيقال: ثني أو رباع أو جذع. ثالثها: السمن والهزال ويقضي في مطلقها بالعرف، قاله في الموَّازيَّة والواضحة، ويختلف فيه كما في مطلق الجودة والطعام هل يقضي فيها بالعرف الغالب أو ما يتناوله الاسم فقط.

رابعها: الراعي والمعلوف. قاله المازري. الباجي: ولم أر لأصحابنا تفريقاً بين الذكورة والأنوثة. فإن كان مؤثراً في الثمن لزم ذكره، ونحوه لعبد الوهاب وغيره، وشرط أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى. المازري: والخصي والفحل. وقال الباجي: ولم أر لأصحابنا تفريقاً فيه. سند: وعندي ذكره حسن. ابن حبيب وابن المواز: ليس عليه ذكر موضع اللحم. ابن حبيب: وإن ذكر فحسن. ابن القاسم: وإنما يشترطه أهل العراق، وهو معنى قول المصنف: (وَلا يُشْتَرَطُ فَخِذٌ وَلا جَنْبٌ). وقال عبد الوهاب: إن اختلفت الأغراض بموضعه من الشاة ذكره. قال: ولا يؤخذ من البطن إلا بعادة. وقال ابن القاسم: لا يخالفه، لأن العادة كانت جارية عندهم بأخذها. وفسر في المدونة قوله: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) بأن ذلك على قدر البطن من قدر الشاة. خليل: والعادة الآن جارية بمصر أن البطن لا يخلط مع اللحم، ولذلك وإن كان البطن لحماً وجزءاً من الشاة [504/ب] فإن المتبادر إلى الذهن من اللحم عند إطلاق اللفظ ما عد البطن، فلا يلزم المسلم أن يأخذ من البطن إلا بشرط لفظي أو عادي، والمراد بالبطن ما احتوت عليه من كرش أو مصارين وغيره.

ويَذْكُرُ فِي الثِّيَابِ النَّوْعَ، والرِّقَّةَ والْغِلَظَ، والطُّولَ، والْعَرْضَ النوع؛ أي: من قطن أو كتان والرقة وما بعده ظاهر. والغلظ والطول والعرض، زاد المازري: والصفاقة والخفة؛ والبلد؛ لاختلاف الثمن باختلاف البلد. وكأن المصنف استغنى عن ذكر هاتين الصفتين اكتفاءً بما قدمه حيث قال: معرفة الأوصاف التي تختلف بها القيمة، وليس عليه أن يذكر وزنه ولا جيداً. قاله ابن القاسم في المدونة. سند: وروي أن الجودة تدخل تحت غيرها من الأوصاف. وَلَوِ اشْتَرَطَ فِي الْجَمِيعِ الْجَوْدَةَ وَالدَّنَاءَةَ جَازَ، وحُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَسَطُ ... مراده والله أعلم بالجميع جميع أنواع المسلم فيه، ويحتمل ما تقدم له من الثياب والحيوان، وأما الطعام فقد ذكروا أنه إذا ذكر صنفه فلا بد أن يصفه بالجودة والدناءة والوسط؛ لأن الصنف الواحد يختلف بذلك. انتهى. وقد تقدم من كلام المازري أنه يشترط في الحيوان ذكر الجودة والدناءة، وأما اللحم فلم ينصوا عليها فيه. قال في المدونة: وإن لم يذكر في الطعام الجودة والدناءة فالسلم فاسد. التونسي: اجتزى في صفة الطعام أن يقول جيداً ولم يجتزِ في صفة الحيوان بفاره ولا من الثياب بجيد، والفرق بينهما أن الطعام يعرف الجيد منه فلا يختلف الجيد منه اختلافاً متبايناً؛ فيكون له وسط الجيد والفاره من الحيوان، والجيد من الثياب يختلف اختلافاً متبايناً لا متقارباً، ثم هل يكفي ذكر الجودة فيما هي فيه شرطه وهو المذهب، أو لا بد أن يقول غاية الجودة، وإلا بطل السلم، قاله ابن العطار؟ وزيفه الباجي بأن الغاية غير

محصورة، وبأنه لا يلزم ذلك في سائر الأوصاف كالطول والقصر والبياض والسواد، ثم إذا اشترطت الجودة، فقال ابن حبيب وابن المواز: يقضي بالغالب من الجيد، وإليه أشار بقوله: (حُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ) وإن لم يكن غالب فقال الباجي: يحمل على ما يقع عليه اسم الجيد. سند: ورأى غيره أن العرف يقتضي في الإطلاق الوسط من الجيد كما في النكاح على غنم موصوفة. وعلى هذا الأخير اقتصر المصنف. وَأَدَاؤُهُ بِجِنْسِهِ بَعْدَ أَجَلِهِ بِأَرْدَأَ أَو بِنَوعٍ آخَرَ يَجُوزُ، وَبِأَجْوَدَ يَجِبُ أي: أداء المسلم فيه. ومراده بهذا الفصل الكلام على حكم اقتضاء المسلم فيه جوازاً أو منعاً. ابن عبد السلام: والباء للمصاحبة في الثالث، والأول والثالث مجاز؛ لأن الشيء لا يفارق جنسه ولا نوعه، والباء الثانية حقيقة؛ لأن صفتي الجودة والدناءة يعتذران على الماهية. انتهى. وقال بعضهم: الأولى بمعنى عن، و (أَدَاؤُهُ) خبر مبتدأ على حذف مضاف؛ أي: هذا باب أدائه كسائر التراجم. وقوله: (بِجِنْسِهِ) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: إثباته بجنسه. و (بِأَرْدَأَ): بدل من جنسه. ولا يقال: فيه إبدال مشتق من جامد؛ لأنا نقول هو غير ممتنع، وإنما هو قليل، وهذا هو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر. وتكلم المصنف على الأردأ والأجود ولم يتكلم على المساوي لوضوحه. واحترز بالجنس من غيره وسيأتي، ويبعد أجله من قبله كما سيأتي. وقوله: (بِأَرْدَأَ) يريد: سواء كان من نوعه أو من نوع آخر كمحمولة عن سمراء؛ لأنه جنس اقتضاء. ونبه بقوله: (يَجُوزُ) على أنه لا يجب القبول، وكلام المصنف عام بالنسبة إلى الطعام وغيره.

ابن عبد السلام: وفي الطعام إشكال؛ لأن المخالفة في الصفة والنوع إن كان غير ما في الذمة وجب قبوله، وإن لم يكن هو الحق فلا يجوز قبوله وإن اتفقا عليه؛ لأن قبوله بيع ثان فيدخل تحت عموم النهي عن بيع الطعام قبل قبضه. لا يقال: مقتضى إطلاق المصنف جواز اقتضاء الأردأ وإن كان أقل كيلاً، وقد منعه ابن القاسم في السلم الثالث كمن أخذ خمسين محمولة من مائة سمراء إذا كانت بمعنى الصلح والتبايع، وأما إن كان على الإبراء فجائز كمن أخذ خمسين عن خمسين وبقيت له خمسون ثم أبرأه منها بعد ذلك فيجوز. لأنا نقول: إنما تكلم على الأردأ المساوي في الكيل، وقد نص سند على أنه لا يجوز أن يقتضي أدنى النوعين عن الآخر إذا خالف في القدر، وأنه لو نقص كف واحد لم يجز. فرع: منع مالك اقتضاء دقيق من قمح وبالعكس مراعاة لمن قال: إنهما جنسان، فيؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه. قوله: (وَبِأَجْوَدَ يَجِبُ) هو معطوف على قوله (بِأَرْدَأَ) ومعناه إذا قضاه جنس ما في الذمة ونوعه لكنه أجود صفة فإنه يجب قبوله؛ لأنه حصل المقصود وزيادة، وتبع في وجوب القبول ابن شاس. ابن عبد السلام: وهو قول غير واحد من المتأخرين. خليل: والمذهب خلافه؛ لأن الجودة هبة لا يجب قبولها. وفي الصرف من المدونة: ومن اقترضته دراهم خلافه؛ لأن الجودة هبة لا يجب قبولها. وفي الصرف من المدونة: ومن أقرضته دراهم يزيدية فقضاك محمدية أو قضاك دنانير عتقى عن هاشمية، أو قضاك سمراء عن محمولة أو شعير لم يجبر على أخذها، حل الأجل أو لم يحل.

ابن القاسم: وإن قبلها جاز في العين من بيع أو قرض قبل الأجل أو بعده، والمحمولة والعتق والسمراء أفضل. وقَبْلَهُ بِصِفَتِهِ يَجُوزُ أي: قضاؤه قبل الأجل من نوع ما في الذمة، وصفته جائز، وإن أبى من الأخذ لم يلزمه؛ لأن الأجل في السلم من حق كل من المتبايعين، وتحرز بصفته من الأجود منه أو الأردأ فلا يجوز؛ لأنه في أخذ الأجود: حُطَّ الضمانَ [505/أ] وَأَزِيْدُكَ، وفي الأردأ: ضَعْ وَتَعَجَّلْ. فَإِنْ زَادَهُ قَبْلَ الأَجَلِ دَرَاهِمَ عَلَى ثَوْبٍ أَعْرَضَ أَو أَطْوَلَ جَازَ إِنْ عَجَّلَهَا، وَفِيهَا: لأَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ كَغَزْلٍ يَنْسِجُهُ ثُمَّ زِدْتَهُ لِيَزِيدَ طُولاً، وقَالَ سُحْنُونٌ: دَيْنٌ بِدَيْنٍ بِخِلافِ الإِجَارَةِ؛ لأَنَّهُ مُعَيَّنٌ .... أي: وإن زاد المسلم للمسلم إليه في ثوب موصوف دراهم على أن يأخذ ثوباً أطول من ثوبه. زاد في المدونة من الصفة أو من غير الصفة جاز بشرط تعجيلها؛ أي: الدراهم لا الثوب الطويل، هذا ظاهر قوله، وهو الذي قاله ابن عبد السلام. واعترضت هذه المسألة بأن الثوب الأطول إما أن يكون معيناً أو في الذمة؛ فالمعين حاضر لا معنى لاشتراط تعجيل الدراهم؛ لأن الثوب الطويل حينئذ يكون بعضه مأخوذاً عن الثوب القصير الذي في الذمة وبعضه مبيع بالدراهم، ويصح بيع ذلك البعض بنقد وبنسيئة، وإن كان في الذمة لم يجز، وهو ظاهر ما فهمه سحنون؛ لأنه إذا اشترط تعجيل الثوب الأطول يلزم المسلم الحال، وإن لم يشترط فهو فسخ دين في دين، وقال بعض من تكلم هنا: إن ضمير (عَجَّلَهَا) عائد على الزيادة؛ أي: يجوز بشرط تعجيل الزيادة؛ لأنه إن تأخرت وكانت في صفقة فهو بيع وسلف تأخير بما عليه سلف وزيادة

بيع بالدراهم، وإن كان على غير صفقة فهو دين بدين، وأما ثمن الزيادة فيجوز تأخيرها، قال في كتاب الصرف من المدونة فيمن لك عليه لحم حيتان وأقضيته فوجدت فيه فضلاً عن وزنك فجائز شراؤك تلك الزيادة نقداً أو إلى أجل إن كان الأجل قد حل. خليل: وفي نظر، والظاهر ما قاله ابن عبد السلام، وما ذكره من مسألة الحيتان ليس فيها دليل؛ لأنه لما أتى بما عليه وفضلت فضلة واشتراها كان ذلك شراءً محضاً ليس من السلم في شيء، ثم لا يصح على هذا إلى أن يحمل قوله: (عَجَّلَهَا) أي: عند الأجل مع الأصل، وليس بظاهر؛ إذ المسألة مفروضة قبل الأجل، فإن ابن يونس وغيره إنما نقلوا قول سحنون قبل الأجل، وعلى هذا فليعتمد في كلام المصنف على فسخه قبل الأجل، وإن كان الواقع في أكثر النسخ: (بَعْدَ الأَجَلِ) وقد ذكر سند الإجماع على الجواز بعد الأجل إذا كان المزيد فيه على الصفة؛ يعني: بشرط أن يعجل الجميع. قال في المدونة: وإن أسلمت في ثوب موصوف فزدته عند الأجل دراهم على أن يعطيك ثوباً أطول منه في صفة من صنفه أو من غير صنفه جاز إذا تعجلت ذلك؛ أي: وإما إن لم يتعجل فلا يجوز؛ لأنه بيع للزيادة وسلف لتأخير الثوب الأول. ابن يونس: فإن قيل: لِمَ منع التأخير بعده لعلة البيع والسلف وأجاز ذلك قبل الأجل، ولم يعجله ثوباً مؤجلاً ودراهم نقداً بثوب مؤجل أطول منه فيكون ديناً بدين كما قال سحنون؟ قيل: الفرق أنه قبل الأجل لم يملك المسلم تعجيل الثوب حتى يعد تأخيره به سلفاً، وأما بعده فقد ملك تعجيل الثوب فيكون تأخيره به سلفاً، والزيادة بيع، فيدخله البيع والسلف. وقوله: (وَفِيهَا: لأَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ) استدل به في المدونة على الجواز في جواب السائل لما قال له: لِمَ أجزته وقد صارت صفقة فيها دراهم نقداً ودراهم إلى أجل بثوب إلى أجل؟ قال: ليس هي صفقة واحدة، ولكنها صفقتان وللتحقيق أنها صفقتان إنما يجوز ذلك

بشرط أن يبقى من الأجل مثل أجل اسلم؛ لأنها صفقة ثانية، وعلى هذا فيلزم تقديم الثمن. وقيد عبد الحق ما في المدونة فقال: يريد: أنه لو اشترط عليه في أصل العقد أنه يزيده بعد مدة كذا وكذا لم يجز، ولو قال: أسلمته إليك في كذا على أني إن زدتك في الثمن زدت في الطول لم يجز أيضاً؛ لأنها صفقة واحدة عقدت على غرر. وقوله: (كَغَزْلٍ يَنْسِجُهُ) استدلال من ابن القاسم لقول مالك في النسج، ونصه: قال لي مالك: لا بأس به في النسج إذا دفع الرجل الغزل إلى النساج على أن ينسج له ثوباً ستة في ثلاثة، فزاده درهماً وزاده غزلاً على أن يجعله سبعة في أربعة، فقال السائل: مسألتي بيع وهذه إجارة فكيف يكون مثله؟ قال: الإجارة عند مالك بيع من البيوع؛ أي: أن الإجارة والبيع كلاهما عقد معاوضة مالية، ويمتنع فيها الغرر ويقعان على مضمون ومعين، فما يمتنع في أحدهما يمتنع في الآخر. قوله: (وَقَالَ سُحْنُونٌ: دَيْنٌ فِي دَيْنٍ) أي: لأن الزيادة في طول الثوب تغيير للصفقة الأولى كالزيادة في صفاقته وخفته. قوله: (بِخِلافِ الإِجَارَةِ؛ لأَنَّهُ مُعَيَّنٌ) أي: أن سحنون فرق بين السلم والإجارة بأن في السلم نقله من مضمون إلى مضمون، وذلك فسخ دين في دين، والإجارة والمستأجر عليه معين؛ فهو في حكم البيع للمعين، ولهذا يجوز فيها تأخير العوض، ولولا أنها في حكم المعين ما جاز تأخير العوض فيها؛ لأنه يكون دين بدين. قال في النكت: وفي قول سحنون نظر؛ لأن الإجارة أيضاً في ذمته، ألا ترى أنه لو مات لم تنفسخ الإجارة، ويستأجر من ماله من يتم العمل، فصار كل منهما ديناً عليه. تنبيه: إنما وقعت المسألة في المدونة في ثوب أطول والمصنف قال: (أَطْوَلَ أَوْ أَعْرَضَ) وفيه نظر.

ومقتضى كلام اللخمي أن الأعرض يتفق فيه على المنع؛ لأنه قال: إن زاده دراهم قبل الأجل ليأخذ إذا حل الأجل أصفق أو أرق أو أعرض لم يجز، وهو فسخ دين في دين، ويجوز ذلك إذا حل الأجل إذا كان يقبض العوض الثاني قبل الافتراق، وإن زاده قبل الأجل ليأخذ أطول، وهو على الصفة في الجودة جاز ذلك عند ابن القاسم، وقال سحنون: هو فسخ دين في دين. والأول أصوب، وهو مقتضى كلام ابن يونس. وبِغَيْرِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَجَلِهِ يِجُوزُ بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَيُخْرِجُ الطَّعَامَ .... أي: وإن كان قضاء المسلم [505/ب] فيه بجنس مخالف لجنسه، وذلك بعد أن حل أجل السلم فإنه يجوز بثلاثة شروط: أحدها: (أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْلَ قَبْضِهِ) تحرز به مما إذا كان المسلم فيه طعاماً فلا يجوز أن يقتضي عنه من غير جنسه، كما لو اقتضى فولاً أو عدساً عن قمح، وأجازوا إذا أسلم في سمراء أن يأخذ عنها محمولة وبالعكس، وكذلك القمح والشعير، وكان ينبغي أن يحتاطوا بالمنع؛ لأنه قيل: إنهما جنسان كما احتاطوا بالمنع في القمح والدقيق كذلك. وَأَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضى مِمَّا يُسْلَمُ فِيهِ رَاسُ الْمَالِ فَيَخْرُجُ أَخْذُ الطَّعَامِ ورِاسُ الْمَالِ طَعَامٌ، والذَّهَبُ بِالْوَرِقِ وعَكْسُهُ، والْعُرُوضُ بِصِنْفِهَا .... هذا ثاني الشروط؛ وهو: أن يكون المقتضى؛ أي: المأخوذ عوضاً عما في الذمة مما يصح أن يسلم فيه رأس المال، وذكر أنه احترز بهذا الشرط من ثلاث مسائل، وتصورها واضح، ومنعت سداً للذريعة. ويستثنى من الأول إذا كان الطعام المأخوذ مساوياً لرأس المال فإنه يجوز ويعد إقالة، ومن الثانية ما إذا زاد أحد العوضين على الآخر زيادة كثيرة لِبُعْدِ التُّهْمَةِ حينئذ عن الصرف المستأخر، ومن الثالثة ما إذا كانت العروض المأخوذة مثل رأس المال.

وَأَنْ يِكُونَ الْمُقْتَضَى مَمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ يَداً بِيَدٍ، فَيَخْرُجُ أَخْذُ اللَّحْمِ عَنِ الْحَيَوَانِ، وعِكْسُهُ .... هذا ثالث الشروط، وتصوره واضح. وقَبْلَ أَجَلِهِ يُزَادُ: أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى مِمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلِمِ فِيهِ إِلَى أَجَلٍ فَيَخْرُجُ صِنْفُ الْمُسْلِمِ فِيهِ الأَعْلَى والأَدْنَى .... هذا قسيم قوله: (بَعْدَ أَجَلِهِ) يعني: وإن وداه بغير جنسه قبل أجله اعتبرت الشروط الثلاثة. وزيد رابع؛ وهو: أن يكون المقتضى مما يصح سلمه فيما يثبت في الذمة إلى أجل، فلا يجوز أخذ أعلى أو أدنى؛ لأنه في الأعلى يلزم حُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيْدُكَ، وفي الأدنى: ضَعْ وَتَعَجَّلْ، والظاهر أن مراده بالأعلى والأدنى في الصفة؛ لأنه غالب اصطلاح الفقهاء، ويكون سكت عن الأكثر والأقل في القدر؛ لأنه مساو له، وإن كان ابن عبد السلام قال: الأقرب أن المصنف أراد في القدر؛ لأنه مساوٍ له. وإن كان ابن عبد السلام قال: الأقرب أن المصنف أراد بالأعلى والأدنى في الصفة والمقدار. وَفِي اشْتِرَاطِ زَمَانَيْ سَلَمٍ لِتَوَسُّطِ الْمُقْتَضَى قَوْلانِ يعني: أنه اختلاف هل يضم إلى الشروط السابقة شرط آخر، وهو أن يكون قد مضى من يوم عقد السلم إلى زمان الاقتضاء أَجْلُ السلم، وأن يكون قد بقي فيما بين الاقتضاء وحلول الأجل الأول مقدار أجل السلم على قولين حكاهما ابن بشير، وذلك أنا لما اشترطنا صحة سلم رأس المال في هذا المقتضى واعتبرنا أيضاً أن يكون المقتضى مما يجوز سلمه في السلم فيه استلزم ذلك عقدتي سلم. وقيل: لا يشترط ذلك في الصورتين؛ لأن اشتراط الأجل في السلم ليس بالقوي؛ فلا يتحرز منه بخلاف ما تقدم من الشرط.

وبنى ابن بشير القولين على أن المأخوذ عما في الذمة سلف فلا يشترط الأجل أو بيع فيشترط. وذكر بعضهم أن هذا الخلاف إنما يحسن إذا كان المقتضى مخالفاً في الجنس، وأما إن كان موافقاً فلا يشترط الأجل؛ لأنه في معنى القرض، والقرض يجوز حالاً ومؤجلاً؛ نعم يشترط فيه ما يشترط في القرض، وصورة ما ذكر أن يسلم ديناراً في قنطار حناء إلى شهر فقضى له فيه غير الجنس وهو قنطار من كتان مثلاً عند تمام خمسة عشر يوماً فهو رأس المال هنا، لأنه يقتضي من ذمته. وصورته أيضاً أن يسلم ديناراً في ثوب ثم اقتضى فيه حماراً، فإن لم يكن أجل السلم بين عقد السلم والاقتضاء كان سلماً حالاً؛ لأن المعتبر أفعالهما كأنهما عقدا سلماً على الحمار المقتضى، وذكر الثوب وشبهه لغو، ووجه اشتراط مدة السلم بعد الاقتضاء أنه إن لم يكن أدى ذلك إلى السلم الحال أيضاً، ثم إن المسلم إليه ثبت في ذمته ثوب يأخذ الحمار. الزَّمَانُ: ولا يَلْزَمُ قَبُولُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَهُ بِالْكَثِيرِ، وبِالْيَوْمَيْنِ يَلْزَمُ لما فرغ من شروط السلم وآدابه شرع في زمانه ومكانه، ولما كان الأجل في السلم من حقهما لم يكن للمسلم ولا المسلم إليه التعجيل إلا برضاهما، وهذا هو القياس، لكن استحسن جماعة من المتأخرين ما رواه أشهب عن مالك أنه إذا قدم المسلم إليه باليوم أو باليومين لزم المسلم قبوله، وعلى هذا اقتصر المصنف؛ لأن التأخير إنما كان من حق المسلم لاختلاف الأسواق، واليومان لا تختلف فيهما الأسواق غالباً، ولهذا قيد بعضهم هذا بما إذا كانت قيمة السلعة الآن مساوية لقيمتها بعد يومين، وظاهر المدونة خلافه لقوله: وإن كان لك على رجل طعام فأتاك به لم تجبر على أخذه، وإن كان من قرض جبرت على أخذه. لكن ذكر ابن محرز عن الأشياخ أنهم فهموا الكتاب على ما رواه أشهب.

ابن راشد: ولو حل الأجل فكان رب السلم غائباً، ورفع المسلم إليه إلى القاضي وقال: "لا أرضى ببقائه في ذمتي واقتضه للغائب أيها القاضي" فحكى التونسي أنه يلزم القاضي أخذه وإيقافه للغائب. ومثله في المدونة في باب المفقود، وظاهر ما في العيوب خلافه. والْمَكَانُ: مَا يُشْتَرَطُ وَإِلاَّ فَمَكَانُ الْعَقْدِ تصوره واضح، وما ذكره من الصحة إذا لم يشترط المكان هو المشهور، وفي كتاب ابن حارث إذا لم يذكر موضع القضاء فسد السلم. فَلَو عَيَّنَ الْفُسْطَاطَ جَازَ، فَلَو تَشَاحَّا فَسُوقُهَا أي: إذا اشترط التسليم بالفسطاط جاز، وهو مأخوذ مما تقدم، وإنما مراده به التوصل إلى ما بعده من التشاح، فإذا تشاح في جهاته قضى بالتسليم في سوق تلك السلعة؛ لأنه أخص بقاع [506/أ] البلد، وهذا هو المشهور. وقال سحنون في الموَّازيَّة: على المسلم إليه أن يوصله إلى دار المسلم. التونسي: وهو المحكوم به اليوم؛ لأن الناس اعتادوا ذلك، هكذا أشار إليه اللخمي أن الاعتبار بالعادة. فرعان: الأول: إن لم يكن للسلعة سوق فالمشهور أنه يلزمه القبول حيثما قضاه. وقال سحنون: بدار المسلم. وقال ابن القاسم في سماع عيسى: بالموضع الذي قبض فيه رأس المال. ابن بشير: وهذا ليس بخلاف، وإنما يرجع إلى العوائد.

الثاني: إذا اختلفا في الموضع الذي شرط القبض فيه فقال ابن القاسم: القول قول من ادعى موضع العقد وإلا القول قول المسلم إليه إن أتى بما يشبه، وإلا فقول المسلم إن أتى بما يشبه، وإن تباعدا تحالفا. وقال سحنون: القول قول المسلم إن ادعى الآخر موضع العقد؛ لأنه صاحب الحق. وقال أبو الفرج: إن لم يدع واحد منهما موضع العقد تحالفا وتفاسخا؛ لتساويهما. فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ فِي غَيْرِهِ وكَانَ فِي الْحَمْلِ مُؤْنَةٌ لَمْ يَلْزَمْ، وَإِلاَّ فَقَوْلانِ يحتمل: فإن ظفر من عليه الدين بالطالب وأراد المديان التعجيل فامتنع الطالب، ويحتمل عكسه؛ فعلى الأول فقال ابن بشير وغيره: المسألة على ثلاثة أقسام: إن كان الدين عيناً وجب قبوله، قال في نوازله: إلا أن يتفق أن للطالب فائدة في التأخير كما لو حصل في الزمان خوف أو فيما بين البلدين. وإن كان الدين عروضاً لها حملٌ أو طعاماً فلا يجبر على قبوله، وإن لم يكن لها حمل كالجواهر فقولان: المشهور أنهما كالعروض، وقيل: كالعين. قال: وهما خلاف في شهادة إن كان الأمن في الطريق فكالعين وإلا فلا. قال: وهذا إذا كان من بيع. وأما القرض فيجبر على قبوله مطلقاً، وعلى الثاني فنص محمد وغيره أنه ليس للطالب جبر المطلوب مطلقاً. اللخمي: ولأشهب عند محمد ما يؤخذ منه أنه إذا كان سعر البلدين سواء، وهو في البلد الذي لقيه فيه أرخص أنه يجبر المسلم إليه على القضاء في البلد الذي لقيه فيه، وحمل ابن عبد السلام المسألة على هذا الثاني، وقد يقال: هو الأقرب إلى لفظه، ولعل الأول هو المتعين؛ لأن ذكر مؤنة الحمل إنما يناسب إرادة المطلوب بالتعجيل، ولأنه كذلك منقول.

ويفهم من قوله: (لا يلزم) أنهما لو اتفقا على ذلك جاز في العروض سواء حل الأجل ألم يحل، وأما الطعام فيجوز إن حل الأجل، بل وإن لم يحل لم يجز، قاله في الموازية والواضحة، واعترض ذلك ابن الكاتب والتونسي وابن محرز، وقالوا: لا فرق بين حلول الأجل أو عدم حلوله لأن القضاء لا يلزمه هناك فأشبه عدم الحلول؛ لأن مسافه البلدين يفتقر فيها إلى كراء الحمولة، فكأنه وجب عليه كراء الحموله فعجل له الطعام بشرط أن يسقطها فيدخله ضع وتعجل. ابن بشير: ونقل اللخمي عن الموازية المنع سواء حل ذلك الأجل ألم يحل. والذى في الموازية التفرقة بين حلول الأجل وعدمه كما تقدم. ولا يَجُوزُ أَخْذُهُ ودَفْعُ الْكِرَاءِ؛ لأَنَّهُمَا كَالأَجَلَيْنِ أى: فإن لقيه في غير المكان الذى يتعين فيه القبض فتراضيا على أخذ المسلم ودفع كراء ما بين المسافتين لم يجز، قال في المدونة: لأن البلدين بمنزلة الآجال، ثم هذا المنع عام في الطعام وغيره، لكن تزيد العلل المقتضية للفساد في الطعام؛ إذ فيه بيعه قبل قبضه، والنسيئة لأنه أخره في الطعام الذى يجب له ليستوفيه من نفسه في بلد الشرط، والتفاضل بين الطعامين، ويدخل في الطعام وغيره سلف جر منفعة إذا كان ما أخذ المسلم من الكراء من جنس رأس المال. وبيع وسلف وحط الضمان وأزيدك إذا كان في موضع الاشتراط أرخص. ومفهوم قوله هو مفهوم المدونة: أنه لو لم يأخذ كراء المسافة لجاز، ولا إشكال فيه في العروض، وأما الطعام فقد تقدم أنه قوله في الموازية والواضحة، وأن ابن الكاتب وغيره اعترضوا ذلك، وقال: ينبغي عدم جوازه.

القرض

الْقَرْضُ: يَجُوزُ قَرْضُ مَا يَثْبُتُ سَلَماً إِلا الْجَوَارِيَ، وَقُيِّدَ لِغَيْرِ مُحْرِمٍ وَالنِّسَاءِ، وَالصَّغِيرِ يَقْتَرِضُ لَهُ وَلِيُّهُ، وَالصَّغِيرَةِ الَّتِى لا تُشْتَهَى .... القرض في اللغه هو القطع، ومنه قوله: قرض الفار الثوب. وحقيقة القرض معلومة للعامة فضلا عن الفقهاء، وكذلك كونه مندوبا، وصح أنه عليه السلام اقترض. وذكر أنه يجوز قرض كل ما يصح السلم فيه كالعروض والحيوان، ويفهم أن كل ما لا يصح سلمه لا يصح قرضه؛ فلا يجوز قرض الأرضين والأشجار وتراب المعادن والجواهر النفيسة، ثم استثنى من هذا القاعدة الجوارى، فإنه يجوز السلم فيهن، ولا يجوز قرضهن؛ لأن المستقرض لما كان متمكنا من رد المثل والعين صار في معنى إعارة الفرج وهو ممنوع، وأجاز ابن عبد الحكم في الحمديسية قرضهن؛ إذ شرط عليه ألا يرد عينها وإنما مثلها، ونقل بعضهم هذا القول فقال: وقال ابن عبد الحكم: يجوز قرض الجوارى، وعليه رد المثل، ولا يرد ما استقرض. ابن عبد السلام: وهذا هو خلاف. وعلى الأول-وهو نقل الموثوق بهم-لا يبعد موافقته للمشهور، والظاهر أن الكلية التى ذكرها المصنف هنا مطردة منعكسة، فأعطى كلامه أن كل ما يصح أن يسلم فيه إلا الجوارىيصح أن يقرض، وكل ما يصح أن يقرض يصح أن يسلم فيه، غير أن هذا العكس لا يحتاج معه إلا استثناء شيء. ومن قال بعدم (506/ب) عكس هذه الكلية زعم أن جلد الميتة المدبوغ يصح قرضه، ولا يصح أن يسلم فيه غير صحيح بكل اعتبا، والله أعلم. واعترض بعضهم قول ابن عبد الحكم بأن الشرط لا ينفع؛ لأنها على مثل الدين صفة ومقدارا، ومن أتى بذلك جبر ربه على قبوله، لجواز استثناء هذه الصورة لئلا يؤدى إلى عارية الفروج.

وقوله: (وقيد) وقع في بعض النسخ بالدال فيكون تقيدا، وهو أحسن، وفي بعضها باللام فيكون خلافا لابن بشير، وأكثر الشيوخ أنه غير خلاف، وهو يشعر أن بعضهم عدةه خلافا. وقوله: (والصغير يقترض له وليه) و (الصغير) مخفوض بالعطف على المحرم؛ أى: قرضهن لهؤلاء جاز. فائدة: تقرر ما ذكرناه أن كل شىء يجوز قرضه إلا أربعة أشياء: - ما لا يمكن الوفاء بمثله كالدور والأرضين والجواهر النفيسة. - وما لا تحصره الصفة كتراب المعادن وتراب الصواغين. - والجوارى إلا على ما ذكره. - والجزاف إلا ما قل كرغيف برغيف ونحوه. فَإِنْ أَقْرَضَهَا ولَمْ يَطَا رُدَّتْ أى: فإن أقرض جارية على الوجه المنهي عنه فسخ هذا القرض وردت إلى دافعها، وليست غيبته عليها بمفتية للرد وليست كغيبتة الغاصب عند من جعل غيبتة الغاصب تفيت كالوطء؛ لأنه متعد، ولا كغيبتة من أحلت له إنما غاب عليها الوطء. وإِنْ وَطِىءَ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وقِيلَ: المِثْلُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى الْفَاسِدَ يُرَدُّ إِلَى صَحِيحِ أَصْلِهِ أَو صَحِيحِهِ .... يعنى: وإن وطىء المقترض الجارية؛ يريد: أو فاتت بما تفوت به في البيع الفاسد-هكذا هو المنصوص- وجبت القيمة على المنصوص كالبيع الفاسد إذا فات المبيع وهو

مقوم؛ بناء على أن القرض الفاسد يرد إلى أصله وهو البيع، وقيل: المثل ردا له إلى صحيحه وهو القرض. ابن يونس: وأظنه قول الأبهري، ولهذا نظائر كالمساقاة الفاسدة والقرائض ونحوهما، والصواب لو قال: إلى صحيح نفسه؛ لأن الواجب في صحيح أصله الثمن لا القيمة، وهذا الذى ذكره المصنف عام في كل قرض فاسد، سواء كان فساده من الجهتين أو من جهه المقترض بذلك. وأراد ابن محرز على أبى بكر بن عبد الرحمن فقال: كيف يلزم المقترض القيمة وهو لم يدخل عليها، وإنما دخل على المثل فقال: هذا بمثل ما قاله فيمن تزوج امرأة فأدخلوا عليه مكانها أمة لهم فقد عدها مالك كالمحللة وألزم الزوج القيمة، وإن كان لم يدخل عليها، وأشار ابن محرز إلى أن الحكم في مسألتي القرض والأمة ليس بصحيح، قال: ولا يصرف عيب المسألة وجود أخرى في مثلها بذلك العيب، والصواب عندى ألا يؤخذ المقترض إلا بما دخل عليه فيغرم المثل ثم يباع للمقترض ويعطاه إن كان مساويا للقيمة أو ناقصا عنها وليس له سواه، وإن زاد وقف الزائد رجاء أن يرجع المقرض عن دعواه في فساد القرض، فإن طال توقفه تصدق به على من هوله، وماله المازرى إلى ما اختاره ابن محرز، قال: لولا ما ينظر فيه من يتولى البيع، وعلى من تكون العهدة، وهذا يفتقر إلى نظر آخر. وشَرْطُهُ أَلا يَجُرَّ مَنْفَعَةً لِلْمُقْرِضِ أى: سواء تمحضت المنفعة للمقرض أو اشتركت فيها مع المقترض؛ أعنى: أن تكون المنفعة لهما على السواء أو منفعة المقرض أكثر، وأما إن كانت منفعة المقترض أكثر فسيتكلم عليها المصنف، ولا أعلم فيما ذكره المصنف خلافاً.

والسَّفَاتِجُ مُمْتَنِعَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ يقال: السفاتج والسفتجات على جمع السلامة، وواحدة سفتجة، والسفتجة بفتح السين المهملة وسكون الفاء وفتح التاء المثناة من فوق وبالجيم، وهى كتاب صاحب المال لوكيله في بلد آخر ليدفع إلى حامله بدل ما قبضه منه، والمشهور مذهب المدونة؛ لأن شرط القرض ألا يجر منفعة، وقد انتفع هذا بأمر غرر الطريق. وقيده عبد الوهاب واللخمي بما إذا لم يكن قطع الطريق غالبا، فإن غلب استحب؛ صيانة للأموال، واستدلا بقول مالك في الكراء المضمون بتأخر النقد فيه؛ لكون الأكرياء قد اقتطعوا أموال الناس، ويدفع ثلثي الكراء، ثم أجازه إذا قدم اليسير كالدينار ونحوه، وهذا هو الدين بالدين، وقد أجازه مالك؛ لئلا تهلك أموال الناس، والشاذ لمحمد بن عبد الحكم بالجواز، ونقل ابن الجلاب عن مالك الكراهة، قال: وأجازه غيره من أصحابنا، فإن لم تتأول الكراهة على المنع كان ثالثا، وكذلك إن لم يجعل كلام القاضي تقييدا لقول مالك كان رابعا. وفِي سَلَمِ السَّائِسِ بِالسَّالِمِ فِي زَمَنِ الْمَسْغَبَةِ، والدَّقِيقِ والْكَعْكِ لِلْحَاجِّ بِدَقِيقٍ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ قَوْلانِ، وفيها: يُسَلِّفُ ولا يَشْتَرِطُ .... السائس هو المُسوَّس، وتصور كلامه ظاهر، والمشهور المنع في المسألتين، والشاذ لسحنون، وقيد اللخمي المشهور بما إذا لم يقم دليل على إرادة نفع المستسلف فقط، وأما إن قام ذلك فيجوز، ونص ابن حبيب على عدم الجواز وإن كان النفع للمستسلف وحده، ونقل أبو محمد صالح عن أبي موسى المومناني أن قول اللخمي تفسير للمذهب، وأن قول ابن حبيب خلاف، ويدل على أن قول اللخمي (507/أ) تفسير قوله في المدونة:" ومن له إلى جانبك زرع فاستقرضته منه على أن تقتضيه من زرع لك ببلد لم يجز، وإن أقرضك فدانا من زرع تحصده وتدرسه لحاجتك وترد عليه مثل كيل ما فيه؛ فإن فعل

ذلك رفقا ونفعا لك دونه جاز إن كان ليس فيما كفيته منه كبير مؤنة في كثرة زرعه، ولو اعتزى بذلك نفع نفسه بكفايتك إياه لم يجز". وخص الحاج بالذكر لأنه يقصد إليها غالبا، وإلا فكل من كان مثله فكذلك. وهَدِيَّتُهُ لا تَجُوزُ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا قَبْلُ، أَوْ حَدَثَ مُوجِبٌ، فَإِنْ وَقَعَتْ رُدَّتْ، فَإِنْ فَاتَتْ فَكَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ .... أى: وهدية المديان لا تجوز؛ لأنها تؤول إلى السلف بزيادة. ابن بطال فب شرح البخاري: وكذلك هدية ذي الجاه، وقاله الغزالي. وألحق المتأخرون بهدية المديان هدية رب المال لعامه في الأقراض؛ لأنه يقصد بذلك أن يستديم العامل العمل فيصير سلفا جر منفعة، وأما هدية العامل لرب المال فإن لم يشغل المال منع بالاتفاق، وإن أشغله فللمتأخرين قولان؛ بناء على اعتبار الحال والمآل، واختار ابن يونس المنع مطلقا. قوله: (ما لم يكن مثلها قبل) فتجوز بمثل تلك الهدية، وأما لو زادت لم يجز. وحدوث الموجب كالمصاهرة ونحوها، وفي العتبية عن مالك في مبتاع الزيت بثمن إلى أجل ويبقى له من وزن الزيت رطلان يتركهما للبائع؟ فأجازه في اليسير وقال: لا يعجبنى في الكثير، وقال في البيان: كرهه مالك في الكثير؛ خوفا من هدية المبتاع. وقوله: (فإن وقعت ردت، فإن فاتت فكالبيع الفاسد) فيرد المثل في المثلي، والقيمة في المقوم. وفِي مُبَايَعَتِهِ بِالْمُسَامَحَةِ الْجَوَازُ والْكَرَاهَةُ يعني: أنه اختلف في مبايعة المديان لرب الدين وبمسامحة من المديان له، ومفهوم كلامه الجواز إذا لم تكن مسامحة، ومقتضى ما حكاه المازري وابن بشير وغيرهما العكس،

وهو الظاهر إن كانت مسامحة منع وفافا، وإلا فقولان، وقيد اللخميالخلاف بما قبل الأجل، وأما بعده فلم يحك إلاالكراهه وصرح المازري بعدم الجواز بعد الأجل فقال: وكذلك إن كانت المبايعة بعد حلول الدين فلا يجوز ذلك، وهو آكد في التهمة؛ لأن الدين قد وجب على من عليه قضاؤه. ويَمْلِكُ الْقَرْضَ، ولا يَلْزَمُ رَدُّهُ إِلا بَعْدَ مُدَّةِ الشَّرْطِ أَوِ الْعَادَةِ، ولَهُ رَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْعَيْنِ مِا لِمْ يَتَغَيَّرْ ..... أى: يملك المقترض الشىء المقرض، ولا يلزم رده إلا بعد المدة المشروطة بلا خلاف، وإن لم يشترطا مدة رجعا إلى التحديد بالعادة، وليس له رجوع قبلها. قال الخضراوي في وثائقه: إلا أن يعسر، وأجراه على عارية الجدار المبهمة. ويأتى على قول مطرف وابن الماجشون في الجدار أنه ليس له أن يرجع وإن احتاج، وما ذكره المصنف من الرجوع إلى العادة عند الإطلاق. ابن محرز وغيره: هو ظاهر المذهب. وحكى جماعه فبه إذا اتفقا على أن العقد وقع على الإطلاق ثم طلب رد القرض أخذه ثلاث أقوال: قال أبو عمران: ذلك جائز ويقضى بالحلول. وقال ابن أبى زيد: يقضى بالأجل. وقال ابن القاسم: لا يجوز وإن لم يتفقا على أن العقد وقع على الإطلاق؛ وقال المقلض على الحلول، وخالفه المقترض فقال الشيخان: القول قول المقترض. وقال ابن أخى هشام: القول قول المقرض. وفي المدونة القول قول المقترض. فرأى الشيخان أن الراء مكسورة، ورأى ابن أخى هشام أنها مفتوحة.

المقاصة

وقوله: (أو العين) أى: وله رد العين المقترض ما لم يتغير بنقص أو زيادة إلا أن يتراضيا؛ لأن حينئذ في النقص حسن اقتضاء، وقال في الزيادة حسن قضاء. الْمُقَاصَّةُ إِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ عَيْناً مِنْ بَيْعٍ وتَسَاوَيَا صِفَةً وحُلُولاً ومِقْدَارَاً جَازَ اتِّفَاقاً المقاصة عند الفقهاء مستثناة من بيع الدين بالدين، وقسم المصنف الدينين فجعلهما مرة من بيع ومرة من قرض ومرة من بيع وقرض، وذكر أنهما إذا كان من بيع؛ يعني: وهما من العين وتساويا صفة وحلولا ومقدارا جاز باتفاق، وسيأتى ما احترز منه بالقيود المذكورة. والجواز هنا بمعنى الإذن، وإلا فقد اختلف هل يجب أن يعمل على قول من دعامنهما إليها وهو المشهور، أو القول قول من دعا منهما إليها وهو المشهور، أو القول قول من دعا منهما إلى عدمها، رواه ابن زياد عن مالك؟ وأخذ من المدونة في الصرف والسلم الثاني والنكاح الثاني القولان. ووأشار بعض المتأخرين إلى دخول الخلاف في المقاصة هنا من الخلاف في صرف الزمة. وفيه بعد؛ لأن ذلك الخلاف إنما هو اختلاف الدينين في أمر ما، وذلك يوجب اختلاف الأغراض التي يقصد معها المبايعة، بخلاف هذه المسألة. فَإِنِ اخْتَلَفَ الْوَزْنُ امْتَنَعَ اتِّفَاقاً فإن اختلف الدينان في القيد الآخر خاصة من القيود المذكورة امتنعت المقاصة باتفاق؛ لأنها مبادلة وأحد العينين أكثر؛ فهو تفاضل، واعترض كلام المصنف بأن ابن حبيب قال: إذا كان أحد الذهبين وازنة والأخرى ناقصة لم تجز المقاصة حتى تحل الوازنة، فمقتضاه جواز المقاصة إذا حلا. وقال ابن بشير: إذا اختلفنا في المقدار والصفة فلا تجوز المقاصة إلا أن يحل الأجلان. قال: وهذا إذا كانا من بيع.

وقال ابن المواز في الإختلاف في العدد: إذا كانا من بيع وكان أولهما حلولا أكثرهما أن ذلك جائز، قال: وكذلك إذا كان أحدهما من قرض، وهو أكثر وأول حلولا. واستظهرنا عليه بالزيادة في العدد لإطلاقهم الجواز مع الحلول، (507/ ب) ولم يقيدوا باتفاق الوزن لعدم الفارق بين الزيادة في الوزن والعدد. وإِنْ لَمْ يَحِلاَّ أَو حَلَّ أَحَدُهُمَا جَازَ عَنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لأَنَّ لَهُ التَّعْجِيلَ لِتَسَاوِيهِمَا، ولا ضَمَانَ فِي الْعَيْنِ، ورَوَى أَشْهَبُ الْمَنْعَ إِذَا اخْتَلَفَ الأَجَلُ، وَوَقَفَ إِذَا اتَّفَقَ .... أى: وإن لم يحل الدينان، اتفق أجلهما أو اختلف أو حل أحدهما فقط، فمذهب ابن القاسم جواز المقاصة؛ لأن لمن عليه الدين تعجيله؛ لأنه عين، ولا ضمان فيه فيكون في حكم الحال. قوله: (لتساويهما) أى: في غير الأجل، ومع التساوي تبعد التهمة في البدل المستأخر، فكأنه قيل: ولم جاز؟ فقال لتساوي الدينين في القدر والصفة المؤجلين في حكم الحالين، فيحصل التساوي في الثلاثة، فتعود إلى ما قبلها فلا يتهمان على سلف بزيادة، ولا حط الضمان، ولا ضع وتعجل، فينتفي قصد المعاوضة، ويتضح قصد المبادرة والمتاركة. وروى أشهب عن مالك منع المقاصة إذا اختلف الأجل، والوقف إذا اتفق، فمنع مع الاختاف؛ لأن المكايسة تختلف فيه باختلاف الأجل، ووقف إذا اتفق؛ للتردد في قصد المعاوضة فيمتنع؛ لأته دين بدين، أو قصد المتاركة لتساوي الأجل فيجوز. وفي قوله: (ووقف) إيهام أن الواقف أشهب، فالأولى أن يقول: "بالوقف" ليكون معطوفا على المنع. ولابن نافع ثالث بالجواز إذا حلا أو حل أحدهما، وبالمنع إذا لم يحلا كان الأجل متفقا أو مختلفا، وحكى ابن بشير رواية أشهب ما يقرب نت العكس، وإن لم ينسبها لأشهب فقال: أجاز إذا حل الأجلان، ووقف إن لم يحلا.

ابن عبد السلام: والاقرب أنه وهم. وجعل ابن عبد السلام ما إذا تساوى أجلاهما يرجع إلى القسم الأول الذى حكى فيه المصنف الاتفاق، وجعل وقف أشهب مانعا للاتفاق لما تبين في الاجماع السكوتي سواء عددنا وقف الحيرة قولا أو لا، وإن كان الأصح ألا يعد قولا، لكن تقابل الاتفاق، والاختلاف تقابل الضدين، وعلى ما قررنا لا يأتي هذا. وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الصِّفَةُ، والنَّوْعُ وَاحِدٌ أَو مُخْتَلِفٌ، فَإِنْ حَلاَّ جَازَ عَلَى صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وإِنْ لِمْ يَحِلاَّ مُنِعَ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لأَنَّهُ صَرْفٌ أَو بَدَلٌ مُسْتَاخِرٌ، وقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانَ الأَجْوَدُ حَالاًّ أَو أَقْرَبَ حُلُولاً جَازَ ... يعني: اذا اختلف صفة العينين مع اتحادهما في النوع كمحمدية ويزيدية أو كان النوع مختلفا؛ فإن كان على أحدهما ذهب والآخر فضة فإن حل الأجلان جازت المقاصة؛ لأنها مبادلة في الوجة الأول وصرف ما في الذمة في الثاني، وعلى الشاذ أنه يمتنع صرف ما في الذمة يمتنع هنا، وقد نص ابن وهب وابن لبابة على منع المقاصة بين الذهب والفضة، واقتصر المصنف بتوجيه الصرف عن توجيه جواز البدل، لأنه في معناه. وان لم يحل الدينان إما بأن لم يحلا معا أو حل أحدهما فالمشهور المنع؛ لأنه في المختلف النوع صرف مستأخر، وفي المتفق بدل مستأخر، وهذا معنى قوله: (لأنه صرف أو بدل مستأخر) ف (أو) في قوله: (أو بدل) للتفصيل. قوله: (وقال اللخمي000إلخ) جعله اللخمي من باب المراطلة، فإن تقدم الأجود فقد أحسن إليه من وجهين بأن يأخذ اليزيدية المؤخرة فيالمحمدية المعجلة فلا يتهم، بخلاف العكس؛ لأنه كأنه يقول: ضع عني زيادة المحمدية لأعجل لك اليزيدية.

وانظر هل قول اللخمي ثالث أو هو مقابل المشهور؟ وهو الأظهر؛ لأن لنا قولا بجواز صرف ما في الذمة إن لم يحلا. وكام اللخمي ظاهر في المعنى، وينبغى أن يقيد المشهور بما إذا لم يضح بعد التهمة، وأما إذا كان أحدهما أكثر من الآخر كثرة بينة فينبغي أن يجوز لبعدهما حينئذ عن التهمة على الصرف المؤخر على ما تقدم في بياعات الآجال. والْقَرْضُ كَذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ تَقَدَّمَ أى: وإن كان الدينان مع كونهما من العين من قرض- وفي معناه أن يكون أحدهما من قرض- فكالدينين، أما إذا كانا من بيع فإن تساويا صفة وحلولا ومقدارا جاز، وإن لم يحلا وهما متساويان في الصفة والمقدار جاز عند ابن القاسم، وأما ان اختلفا في الصفة وفي المقدار فقد أشار إلى حكم ذلك بالاستثناء في قوله: (إلا أنه تجوز الزيادة على تفصيل تقدم) في قوله: (والقضاء بالأصل صفة000إلخ). فَإِنْ كَانَا طَعَامَاً مِنْ قَرْضٍ فَكَذَلِكَ أى: وإن كان الدينان طعاما من قرض فكالدينين إذا كانا عينا من قرض فيجوز في الطعامين ما يجوز في العينين، ويمتنع في الطعامين ما يمتنع في العينين، ولا فرق في الطعامين هنا بين أن يتساوى أجلاهما أم لا؛ لأن طعام القرض يجوز بيعه قبل قبضه، ولهذا قال المازري: خرج بعضهم هنا الثلاثة الأقوال المتقدمة في العينين المتساويين صفة حلولا؛ أعني: المتقدمة في قوله: (فإن لم يحلا أو حل أحدهما) لأن الذهب يجوز بيعه قبل قبضه وطعام القرض يجوز بيعه قبل قبضه. انتهى. وحكى بعضهم الثلاثة الأقوال نصا صريحا، وهذه الأقوال إنما هي إذا اتفقت الصفة والمقدار، وأما إن اختلفت الصفة كمحمولة وسمراء فلا يجوز إلا أن يحلا؛ لأنه حينئذ

بدل، وأما إن لم يحلا أو لم يحل أحدهما لم يجز، قاله في المدونة. قال: لأنه لا يجوز قضاء سمراء من بيضاء، ولا بيضاء من سمراء قبل الأجل من بيع أو قرض. قال فيها: ولابن القاسم قول آخر في أخذ السمراء عن المحمولة قبل الأجل إذا كان ذلك من قرض. سحنون: وهو أحسن. وإِنْ كَانَا مِنْ بَيْعٍ فَإِنِ اخْتَلفَا أَو رُؤُوسُ الأَمْوَالِ أَو الأَجَلُ امْتَنَعَ، فَإِنِ اتَّفَقَ الأَجَلُ مَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وأَجَازَ أَشْهَبُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ نَسِيئَةً أَو قَبْلَ قَبْضَهَ، أَو عَلَى أَنَّهُ كَالإِقَالَةِ .... أى: وإن كان الطعامان (508/أ) من بيع فإن اختلفا في الجنس والصفة والكيل والأجل امتنع التقاص. و (أو رؤوس الأموال) معطوف على الضمير في اختلف، وفيه العطف على الضمير المرفوع بالفصل، ولا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة، ومنع 0لأنه بيع الطعام قبل قبضه فتحقق القصد إلى البيع بسبب الاختلاف. وما ذكره المصنف من أنه إذا اختلف الأجل يمتنع التقاص هو جار على المشهور أن المعجل لما في الذمة يعد مسلفا. قال في الجواهر: وأما على ما قاله القاضي أبو اسحاق في اسقاط التأجيل فيجوز. فإن اتفق الأجلان بخلاف رؤوس الأموال والطعامان فقولان: أولهما لابن القاسم: المنع من المقاصة؛ لأنه طعام بطعام نسيئة، ولأنه بيع الطعام قبل قبضة. زاد المازري: ولأنه دين بدين. ثانيهما لأشهب: الجواز؛ لأنه كالإقالة، وهي جائزة. وشبة بالإقالة ولم يقل إقالة لأنهما لم يصرحا بها، وقد اتضح لك أن قوله: (بناء على أن طعام بطعام نسيئة أو قبل قبضة) تعليل لقول ابن القاسم وأن (أو) للتفضيل، وأن قوله: (كالإقاله) تعليل لقول أشهب.

وفي كلامه نظر؛ لأن الواقع فيما رأيته من النسخ: (فإن اتفق الأجل منع ابن القاسم) وليس بظاهر، وصوابه (الكل) كما ذكر ابن شاس إلا أن يقال: لعله اكتفى بالتعليل بالإقالة، فإنه يشعر بالتساوي في ذلك؛ لأنه شرط. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ وَبَيْعٍ غَيْرِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنْ حَلاَّ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَحِلاَّ أَو حَلَّ أَحَدُهُمَا مَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَجَازَ أَشْهَبُ، وَثَالِثُهَا: إِنْ حَلَّ السَّلَمُ جَازَ .... يعني: فإن كان أحد الطعامين سلما والآخر قرضا غير مختلفين في النوع والصفة والأجل فإنحلا جازت المقاصة وكان الذى له السلم اقتضى من نفسه طعام القرض الذى عليه ولا تهمة؛ لإتفاق الطعامين. قوله: (وإن لم يحلا) أى: وإن لم يحل الطعامان، والمسألة بحالها: أولم يحل أحدهما وحل الآخر فثلاثة أقوال، وتصورها من كلامه واضح. والثالث نقله المازري عن أشهب أيضا الجواز إذا حلا جميعا أوحل أحدهما، ونقل المازري عن ابن حبيب أنه أجاز المقاصة إذا اتفق الأجلان. وإن لم يحلا فرأى ابن القايم أن مع اختلاف الأجل تختلف الأغراض؛ فيصح تقديم الطعام قبل قبضة، وغلب في الثاني حكم المعروف كما لو حلا معا، وهو الذى راعى في الثالث إلا أنه أحسن؛ لإشتراطه حلول السلم وحده؛ لأن الغرض وإن لم يحل فالأجل من حق من عليه الطعام فله التعجيل فيصير الكل في معني الحال، وغلب ابن حبيب المعروف فأجاز ذلك وإن لم يحلا إذا اتفقت الآجال؛ لتفاوت الأغراض في ذلك مع تساوي الآجال. وإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ عَرْضاً فَمَا حَلَّ أَو كَانَ أَقْرَبَ حُلُولاً فَمَقْبُوضٌ عَنِ الآخَرِ، فَإِنْ أَوْقَعَ فِي:"ضَعْ وَتَعَجَّلْ، أَو حُطَّ الضَّمَانَ وَأزِيدُك" امْتَنَعَ وإِلا جَازَ .... قال المازري: إن اتفق العرضان في الجنس والصفة فالمقاصة بينهما جائزة مطلقا من غير التفات إلى تماثل الأجلين واختلافهما أو تساوي الأسباب واختلافها، وإن اختلف

جنسهما ككساء ورداء؛ فإن اتفق الأجل جازت المقاصة لأن اتفاق الأجل يرفع القصد إلى المكايسة كما رفعها تساوي العرضين في الصفات، وإن لم يتفق الأجل منعت المقاصة إلا بشرط أن يحلا معا، واختلف إذا حل أحدهما؛ ففي المدونة الجواز لانتفاء قصد المكايسة بحلول أحدهما. وفي الموازية: لا يجوز لاختلاف الآجال. ابن محرز: وهو الأصح عندي، وان اتحد جنس العرضين ولم يحلا معا- سواء اختلفت الصفة أو اتفقت- فإن اتفق الأجل جاز التقاص، وهذا القسم الآخير هو الذي تعرض المصنف لبيانه وأعطى فيه ضابطا؛ وهو: أن ما حل أو كان أقرب حلولا فهو مقبوض عما لم يحل أو عما هو أبعد حلولا، فإن أدى اقتضاءه عنه إلى:" ضع وتعجل، أو حط الضمان وأزيدك" امتنع، وإن لم يؤد إلى واحد منهما جاز، فإن كانا من بيع أو كان الحال أو الأقرب حلولا أكثر أو أجود امتنع؛ لأنه حط الضمان وأزيدك. وإن كان أدنى أو أقل امتنع؛ لأنه ضع وتعجل، وهذا إذا كان من بيع. فإن كانا من قرض والحال أو الأقرب أدنى أو أقل امتنع؛ لأنه ضع وتعجل، وإن كان أجود جاز؛ إذ لا ضمان في القرض. وإن كان أكثر عددا امتنع؛ لأنه زيادة في القرض، وهو مكروه فيالمجلس، قاله في النكت، ويدخل فيه الخلاف المتقدم فيمن رد في القرض أكثر عددا، وإن كان أحدهما من قرض والآخر من بيع فأجره على القسمين السابقين؛ أجازه من أجاز المقاصة في القرض برؤوس تلك العروض وكذلك غيره، ويسلك بعض الشيوخ طريقة أخرى فلا يجوز، وإنما قلنا أن كلام المصنف خاص بالجنس الواحد؛ لأن: " حط الضمان وأزيدك، وضع وتعجل" خاص، وظاهر كلام المصنف أنه لا يعتبر فيهما، وإن اتفق أجلاهما فذلك جائز سواء كان من بيع أو قرض أو من بيع وقرض أو كان رأس المال دنانير والآخر دراهم، وتراخى ما بين المداينين التقاص لئلا يخله صرف مستأخر.

المازري: واستدل هنا بها في السلم من المدونة فيمن أسلم دنانير في عروض، وأخذ رهنا بالسلم فضاع الرهن مما يصلح بيعه برأس المال إلى أجل. انتهى بمعناه. ولَيْسَ فِي الْقَرْضِ حُطَّ الضَّمَانَ وأَزِيدُكَ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ قَبُولُهُ بِخِلافِ السَّلَمِ، وضَعْ وَتَعَجَّلْ يُدْخِلُ الْبَابَيْنِ .... المراد بالبابين القرض والسلم، وكلامه ظاهر مما تقدم. * * *

الرهن

الرَّهْنُ: إِعْطَاءُ أَمْرٍ وَثِيقَةً بِحَقٍّ الرهن لغه (508/ب) هو: اللزوم والحبس، وكل شىء ملزوم فهو رهن، يقال: هذا رهن لك، أى محبوس دائم لك، قال تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) (المدثر: 38) أى محبوسة، والراهن دافع الرهن، والمرتهن بكسر الهاء آخذه، ويقال للرهن: مرتهن بفتح الهاء، وقد يطلق على آخذه؛ لأنه وضع عنده الرهن، وعلى الراهن؛ لأنه يسأل الرهن. الجوهري، والنووي: يقال رهنت الشىء وأرهنته. وقال عياض: لا يقال أرهنه. وجمع الرهن: رهان ورهون ورهن. الأخفش: ورهن قبيحة؛ لأنه لا يجمع فعل على فعل إلا قليلا شاذا. قال: وذكر أنهم يقولون: سقف وسقف. وقد يكون الرهن جمع الرهان؛ أى: فيكون جمع الجمع. وحده المصنف اصطلاحا بقوله: (إعطاء000إلخ). (إعطاء) أمر كالجنس. ابن عبد السلام: وأتى بلفظ (أمر) ليشمل الذوات والمنافع، فإنه يصح رهنا. قال ابن راشد: (إعطاء) مصدر، وهو يضاف للفاعل والمفعول، فإن أضفته هنا إلى الفاعل فامرؤ مهموز، والمعنى: إعطاء رجل وثيقه بحق. والأول أصح؛ لأن إضافة المصدر إلى الفاعل أكثر. ونبه بقوله: (إعطاء) على الإقباض؛ لأن الرهن لا يتم بمجرد القبض حتى يكون المالك هو الذى أقبضه إياهوأذن له في قبضه، فلو تولى المرتهن قبضه دون اقباض مالكه وإذنه لم يكن رهنا، بخلاف الهبة والصدقة؛ لأنه تعالى وصف"الرهان" بكونها "مقبوضة" ولفظ:"مقبوضة" يقتضي قابضا ومقبوضا منه؛ فلابد من المقبوض منه، وإلا

لم يصح وصفه بكونه مقبوضا، ولما لم يقل ذلك في الهبة والصدقة صح قبض الموهوب له والمتصدق والمتصدق عليه دون إقباض من الواهب أو المتصدق. انتهى. ويمكن أن يدعى أنه من إضافة المصدر إلى المفعول، ولو قرئ امرئ بالهمز، وكلام ابن عبد السلام يأتى على أنه إضافة للمفعول، ويرجع أيضا كونه مضافا للفاعل أنه لو أضافه للمفعول لقال: إعطاء شئ؛ لأن ذلك أقرب للفهم، ولأن الأمر حقيقة في القول المخصوص على المختار عند أئمة الأصول. وقوله: (وثيقة بحق) يخرج ما يعطى لا على سبيل التوثق، بل على سبيل الملك كالبيع، أو الإنتفاع كالمستأجر والعار. قيل: وهو غير مانع لدخول الحميل فيه لا سيما- على المشهور- أنه لا يطالب إلا بعد تعذر الأخذ من المضمون، ولدخول اليمين فيما إذا أحلف رب الدين على الوفاء، ولدخول وثيقة الدين، فإن ما ثبت من الدين معطى لرب الدين على وجه التوثق. وأجيب: بأن لفظة (إعطاء) تقتضى حقيقتها دفع الشئ للمرتهن، ولا يصدق ذلك على اليمين والحميل حقيقة، والوثيقة المكتوبة وإن صح دفعها لرب الدين؛ لأن قوله) وثيقة بحق) يقتضي رد ذلك الشئ إلى يد دافعه، والوثيقة المكتوبة لا يلزم ردها بعد استيفاء الحق. واعترض أيضا أن الرهن مصدر، والأغلب في استعمال الفقهاء إطلاقه على المرهون، فينبغي أن يقول عوض قوله: (إعطاء) (معطى). ومذهبنا ومذهب الجمهور صحة الرهن حضرا وسفرا خلافا لمجاهد أنه لا يصح إلا في السفر.

وَأَمْرُ الصِّيغَةِ كَالْبَيْعِ يعني: فيكفي في التوثق كل فعل أو قول دل عليه، فتكفي المعاطاة، هكذا قرر ابن راشد وابن عبد السلام هذا المحل، وهو ظاهر لفظه، والذى نسبه ابن رشد لابن القاسم أن الرهن يفتقر إلى التصريح بلفظه، خلافا لأشهب. وذكر أن اخنلافهمما قائم من مسألة النفقة على الرهن التى في المدونة؛ لأن عند ابن القاسم: المرتهن لا يكون أحق بما أنفق حتى يقول له الراهن: والرهن بما أنقترهنا. وعند أشهب يكون أحق به إذا قال: أنفق على أن نفقتك فيه. وإن لم يقل رهنا. خليل: وهذا أخذ ظاهر، غير أنه مبني على ظاهره المدونة، فإن المسألة تنقسم ثلاثة أقسام كما ذهب إليه ابن شبلون، لا على ما ذهب إليه ابن يونس وغيره أنه لا فرق بين أن يقول: أنفق والرهن بما أنفقت رهن. وبين أن يقول: أنفق على أن نفقتك في الرهن. وسيأتي. خليل: ويؤخذ مما في وكالة المدونة أن الرهن لا يفتقر إلى التصريح بلفظة الرهن؛ لقوله: وإن قال له: انقد عني واحبسه حتى أدفع لك الثمن. فهو بمنزلة الرهن، وقال بعضهم. وَشَرْطُ الْمَرْهُونِ أَنْ يُصِحَّ مِنْهُ اسْتِيفَاءٌ؛ فَلا يَجُوزُ خَمْرٌ ولا خِنْزِيرٌ مِنْ ذِمِّيٍّ وَغَيْرِهِ ابن عبد السلام: ينبغى أن تكون (من) سببية؛ كقوله تعالى: (مما خطيئتهم أغرقوا) (نوح:25) أو لابتداء الغاية، ولا يصح أن تكون للتبعيض؛ لأن رهن مثل الدين فيه اضطراب في المذهب. انتهى. وفيه نظر؛ لأنه سيأتي أنه يصح رهن ما لا يعرف بعينه إذا كان عند أمين أو مختوما عليه. واشترط في الرهن: أن يصح منه الاستيفاء؛ لأن فائدة الرهن بيعه عند الوفاء، والخمر ونحوه لا يجوز بيععه. (فلا يجوز خمر ولا خنزير) أتى بالفاء المؤذنة بالسببيه؛ أى: فبسبب اشتراطنا في الرهن ما ذكر لا يجوز لمسلم رهن خمر ولا خنزير لمسلم ولا

ذمي، ويحتمل أن يقدر كلامه: فلا يجوز للمسلم ارتهان خمر ولا خنزير من ذمي ولا غيره. وهكذا قال في المدونة: لا يجوز لمسلم أن يرتهن من ذمي خمرا ولا خنزيرا. والاحتمال الأول أظهر، لكن الكلام في المرهون. فرع مرتب: فعلى الاحتمال الأول: إذا رهن المسلم الخمر ونحوه من ذمي؛ أريقت عليه، ولم يكن عليه أن يأتي برهن آخر. وعلى الثاني: إذا ارتهن المسلم (506/أ) خمرا لذمي، فقال أشهب: إذا قبضها ثم فلس الذمي، فلا رهن للمرتهن والغرماء فيه أسوة، لأن رهنه لم يكن جائزا في الأصل. سحنون: إلا أن يتخلل فهو أحق به. قال: وإن باع المسلم سلعه من الذمي وارتهن منه خمرا؛ فلا يفسد البيع ويرد الخمر إلى الذمي، ولو أراد المسلم وقفها بيد ذمي إلى أجل دينه لما يخاف من عدم ربها لم يكن له كذلك. فرع: قال في المدونة: ومن ارتهن عصيرا فصار خمرا؛ فليرفعها إلى الإمام لتراق بأمره، وكذلك الوصي يجد خمرا في التركه خوفا من أن يتعقب بأمر. اللخمي وابن يونس وغيرهما: وإنما تراق إذا كان الراهن مسلما، وأما إذا كان ذميا فلترد إليه. اللخمي: وقوله: فليرفعها إلى السلطان. يريد: إذا كان حاكم الموضع يحكم ببقائها أو يخللها، وإلا فليس ذلك عليه. وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ كَبَيْعِهِ أى: رهن جلد الميتة يختلف فيه كما يختلف في بيعه. ومذهب المدونة: عدم جواز بيعه ورهنه. وعلى قول ابن وهب: يجوز رهنه بغد الدباغ؛ لطهارته حينئذ عنده. المازري: ويجري في رهن الكلاب وجلود السباع ما في بيعها.

وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّيْنِ مِنَ الْمِدْيَانِ وَغَيْرِهِ يجوز رهن الدين ممن عليه الدين، وهو مراده ب (المديان)، ومن غيره، وهو ظاهر. ويشترط في جواز رهنه من المديان: أن يكون أجل الدين المرهون مؤجلا بمثل أجل الدين الذى هو رهن به أو أبعد لا أقرب؛ لأن بقائه بعد محله كالسلف فصار في البيع بيعا وسلفا، إلا أن يجعل بيد أمين إلى محل أجل الدين الذى رهن به البائع. الباجي: وهذا تفسير قول مالك في العتبية وغيرها. وسيأتي كيفيي قبض الدين إذا كان على غير المدين من كلام المصنف. وَلا يُشْتَرَطُ الإِقُرَارُ هذا وقع في كثير من النسخ بقاف وراءين، وعليها تكلم ابن راشد؛ أى: لا يشترط إقرار المدين بالدين؛ لأن رهن المجهول جائز بخلاف البيع، وكأن المرتهن دخل على أنه إن أقربه وإلا استوفاه من الأصل، لم يصح ذلك في البيع لهذه الجهالة. ابن عبد السلام: والصواب ضبط اللفظ بالفاء وراء بعدها وزاي بينهما ألف؛ فتقول: الإفراز. هكذا هي في كلام ابن شاس والغزالي، الذي قصد ابن شاس نحوه، تنبيها من الجميع على مخالفة أبي حنيفة في منعه رهن المشاع. خليل: وقد يقال: بل الأولى أحسن لمساعدة ما قبلها لها، ولأن المصتف سيتكلم على المشاع. والإفراز: هو القسمة. وَيَجُوزُ رَهْنُ غَلَّةِ الدُّورِ وَالْعَبْدِ تصوره ظاهر، وجوز ذلك حوز رقبتهما، وتوضع الغلة على يد أمين أو يختم عليها إن كانت مما لا يعرف بعينه.

وَرَهْنُ الآبِقِ والْبَعِيرِ الشَّارِدِ إِنْ قُبِضَ قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبهِ أو فَلَسِهِ أى: يجوز رهن الآبق والبعير الشارد، ولم يحك المازري وغيره فى ذلك خلافا إذا لم يقارن عقد البيع، وخرج بعضهم قولا بالمنع من الجنين، ورد بأن الغرر في الجنين أقوى؛ لأنه باعتبار وجوده وعدمه، بخلاف الآبق ونحوه؛ فإنه باعتبار وصفه. المازري: وأما إن اشترط في عقد البيع؛ فقولان بالجواز وعدمه. ابن رشد: والمشهور الجواز؛ بناء على أنه لا صحه له في الثمن، أو له حصه. وظاهر المذهب: أن الرهن لا حصة له من الثمن. قال في البيان: والقولان في ذلك قائمان من المدونة. انتهى. وأما القول بأنه لا حصه له؛ فمن قوله في باب الرهن: فيمنوكل رجلا على بيع سلعه فباعها وأخذ بالثمن رهنا؛ أن الخيار للموكل في قبول الرهن، فلم يرجع له خيارا في رد البيع وامضائه. ولو كان له حصة من الثمن لكان الوكيل متعديا في بيعه بأقل من ثمن المثل. ابن عبد السلام: وأما القول بأن حصة من الثمن، فمن قوله:" وإن بعت منه سلعة بثمن إلى أجل على أن تأخذ منه رهنا ثقة من حقك فلم تجد عنده رهنا؛ فلك نقض البيع وأخذ سلعتك، أو تركه بلا رهن. وقد يقال: إنما جعل في المدونة نقض البيع لمخالفة الشرط لا لنقص الثمن، فانظره. فرع: وإذا بنينا على القول بمنع اشتراطه في عقدة البيع، فهل يفسخ العقد باشتراطه أولا؟ فيه قولان. المازري: وهما جاريان على الخلاف في الشروط الفاسدة المقارنة للبيع.

وقوله: (إِنْ قُبضَ قَبْلَ مَوْتِ صاَحِبهِ أو فَلَسِهِ) ليس بظاهر؛ لأن رهن الآبق والشارد صحيح وإن لم يقبضا قبل موت صاحبهما، وإنما القبض قبل موت صاحبهما شرط في صحة الاختصاص. وفِي رَهْنِ الْجَنِينِ قَوْلانِ المشهور أنه لا يصح، خلافا لأحمد بن ميسر فإنه أجازه قياسا على غيره من الغرر، ورد بأن الغرر في الجنين أقوى كما تقدم. اللخمي: وهذا إذا كان في أصل عقد البيع. وَرَهْنُ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاحِهَا أَوْ بَعْدَهُ معطوف على قوله: (ويجوز رهن غلة الدور) أى: ويجوز رهن الثماروالزرع، ولا خلاف في ذلك إن بدا صلاحها، ولهذا كان قوله: (أو بعده) لا يحتاج إليه، وأما قبل بدو الصلاح فالمشهور ما ذكره المصنف، وروي عن مالك عدم الجواز. وقوله: (قبله) يريد: وقد خلقت الثمرة. المازري: وأما إن لم تخلق فذلك كرهن الجنين. فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَلا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ انْتَظَرَ بُدُوَّ الصَّلاحِ أى: فإن مات راهن الثمرة التي لم يبد صلاحها ولم يكن له مال غيرها؛ انتظر بالثمرة بدو الصلاح لتباع، وإنما انتظر بها بدو الصلاح لأن بيعها قبل ذلك لا يجوز. واحترز بقوله: (ولا مال له) مما إذا كان له مال؛ فإنه يأخذ منه، لأن حق رب الدين في ذمة المديان.

فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَهُ مَالٌ لا يَفِي بِهَا؛ فَإِنَّهُ يُحَاصُّ فِي الْمَوْتِ والْفَلَسِ بِجُمْلَةِ دَيْنِهِ، فَإِذَا بَدَا صَلاحُهَا بِيعَتْ، فَإِنْ وَفَّتْ رّدَّ مَا أَخَذَهُ، وَإِلاَّ قُدِّرَ مُحَاصًّا [509/ب] لِلْغُرَمَاءِ بِمَا بَقِيَ، فَمَا زَادَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مثال المسألة: لو كان عليه ثلاثمائة دينار لثلاثة رجال لكل واحد مائة ورهن عند أحدهم تمرا أو زرعا قبل بدوالصلاح، ثم فلس الراهن أو مات ووجد للغريم مائة وخمسين دينارا؛ فإن الثلاثة يتحاصون فيها، فيكون لكل واحد خمسون نصف دينه، وإنما دخل المرتهن معهم لأن دينه متعلق بذمه الراهن، والثمرة لا يمكن بيعها؛ لآنه قد تطرأ عليها آفة الآن فتهلك، فإذا حل بيعها بيعت واختص بالمرتهن، فإن بيعت بمائة رد الخمسين التي كان أخذها أولا؛ لأنه قد تبين أنه لا يستحقها. هذا معنى قوله: (فإن وفت رد ما أخذه). وإن لم تف كما لو بيعت بخمسين اختص بها، ثم يقال له: قد تبين أنك إنما يجب لك الحصاص بخمسين؛ لا يكون لك إلا ثلاثون بثلاثة أخماسها؛ لأن لك خمسين، ولكل واحد منا مائة، فالمجموع مائتان وخمسون، والموجود مائة وخمسون، ونسبتها إلى المائة والخمسين ثلاثة أخماس، فيمسك بيده من الخمسين ثلاثين مع الخمسين ثمن الثمرة فيكون بيده ثمانون، ويرد العشرين الفاضلة فيكون لكل واحد منهما عشرة مع الخمسين الأولى، فيكون بيد كل واحد ستون. وهذا معنى قوله: (وإلا قدر محاصا للغرماء بما بقي، فما زاد رده عليهم) وهذا الذي ذكره المصنف في كيفية العمل هو قول ابن القاسم، وخالف في هذه الكيفية يحيي ابن عمر، ووافق على المعنى، فقال: بل ينظر، فإن كان بيد كل غريم نصف حقه أو ثلثه؛ فليجلس هذا مما بيده قدر نصف أو ثلث ما نقص من ثمن الزرع عن دينه؛ لأنه به كان يجب الحصاص ويرد ما بقي، فيتحاصص هو وهم بقدر ما بقى لكل واحد. فعلى قوله: يسقط من يد المرتهن خمسون ثمن الزرع، يبقى له من دينه خمسون، وقد كان أخذ كل

واحد من الغارمين اللذين لا رهن بيدهما خمسين نصف دينه؛ فيأخذ هذا من الخمسين خمسة وعشرين، فتبقى خمسة وعشرون ويتحاصان هما والمرتهن فيما بقي، وقد علمت أن الباقي للمرتهن خمسة وعشرون، ولكل واحد منهما خمسون؛ فمجموع ذلك مائة وخمسة وعشرون، ونسبة الخمسة والعشرين المردودة من يد المرتهن إليها خمس، فيأخذ كل واحد خمس دينه، فيأخذ المرتهن منها خمسة يضيفها إلى الخمسين ثمن الزرع، وإلى الخمسة والعشرين التي وجبت له بالحصاص؛ فذلك كله ثمانون، ويحصل لكل من الغريمين الباقيين عشرة مضافة إلى الخمسين الحاصلة له أولا؛ فذلك ستون. ولعل المصنف لما رأى أن هذا الخلاف لا يجري معنى تركه لذلك، ولما كان قول ابن القاسم أخصر في العمل اقتصر عليه، والله أعلم. وَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُسَاقَى والْمُشَاعِ والْمُسْتَاجَرِ لِلْمُسْتَأجِرِ وغَيْرِهِ يعني: إذا دفع رجل حائطا مساقاه لرجل، فإنه يجوز أن يرهن ذلك الحائط، وكذلك يصح رهن المشاع خلافا للحنفية، وحكاه ابن عبد السلام رواية في المذهب، وذكر المازري عن أبي الطيب عبد المنعم أنه خرج قولا كمذهب الحنفية من قول من قال من أصحابنا: إن هبة المشاع لا تصح. المازري: وهذا النقل الذى نقله والتخريج الذى خرجه لم أسمعه من أحد من أشياخي. وقوله: (والمستأجر) أى: ويصح رهن الشئ المستأجر لمن هو في إجارته وغيره، وقد اتضح لك أن (المساقى) اسم مفعول، والستأجر الأول كذلك، بخلاف المستأجر الثاني نإنه اسم فاعل. فرع مرتب: إذا صح رهن المساقي فإما أن يرهن الحائط للعامل فيه أو لا؛ فإن رهن للعامل فسيتكلم المصنف على حيازته، وإن رهن لغيره؛ ففي الموازية: يجعل المرتهن مع المساقى

رجلاً، أو يجعلانه على يد رجل يرضيان به. وقال مالك: لا يصح الرهن إذا كان المساقي أو أجير له في الحائط، وإنما يصح إذا جعلاه بيد غير من في الحائط، وبه يصح حوز المستأجر كما قاله ابن القاسم في المياطية فيمن ارتهن بعيرا وهو في الكراء: إن كان المرتهن يعرفه ويقوم به فهو حوز. ويَجُوزُ رَهْنُ الأُمِّ دُوْنَ وَلَدِهَا، وَرَهْنُ الْوَلَدِ دُوْنَ أُمِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وتَكُونُ مَعَهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ .... تصوره ظاهر. وقوله: (على المشهور) ظاهره عوده على المسألتين؛ أى: رهنها دون ولدها والعكس، وظاهره أيضا أن مقابل المشهور المنع، وعلى هذا مشاه ابن عبد السلام، ووجه المشهور: بأنه لا مانع له. ووجه الشاذ: بأن ذلك يؤدى إلى التفرقة عند الحاجة إلىبيع الرهن. وفيه نظر؛ لأنا نحكم ببيع المرهون منهما مع الآخر ويكون المرتهن أحق بالرهن فقط، ويحتمل أن يعود على الثانية وهو رهن الولد؛ لأنه في الجواهر إنما حكى الخلاف فيها، ولأني لم أقف في الأولى على القول بالمنع، وإنما حكى ابن رشد فيها الجواز والكراهة، وفي الموازية: ويجوز رهن الأم دون ولدها، وقد ذكر بعض أصحابنا أن المذهب في هذا على قولين تعلقا بما في المستخرجة عن مالك كراهة ذلك. يحيى بن عمر: فسألت ابن وهب عن ذلك، فقال: لا بأس به. وعندي أن هذا الخلاف إن ثبت فإنما يحسن إذا لم تفرق بين الولد وبين أمه تفرقة يلحقه الضرر الشديد منها، ويلحقها من تعلق نفسها به إذا حيل بينها وبينه. انتهى. وتاظاهر من جهة المعنى: أنه لا فرق بين رهن الولد دون أمه وبين العكس، وكلام المصنف مقيد بقيدين:

أولهما: أن يكونا في ملك واحد، فإن كانا في ملكين؛ فلا شك في جواز رهن كل منهما دون الآخر. ثانيهما: ألا يبلغ الولد حد التفرقة. وفي البيان: رهن العبد الصغير دون أمه على ثلاثة أوجه: إن رهنه بشرط أن يحوزه دون أمه؛ فهو رهن فاسد لا يجوز ويفسخ. وإن رهنه على أنه يحوزه مع أمه فهو رهن، (510/أ) واختلف هل يكره ذلك ابتداء وهو قول مالك، أولا يكره وهو قول ابن وهب، وهو الأظهر؛ لأنه لم يفرق بينهما في ملك ولا في حوز، وكرهه مالك لوجهين ضعيفين: أحدهما: أنه رأى المرتهن كأنه ملكه لما كان أحق به. والثاني: لما كان لا يباع مفردا صار في معنى جمع الرجلين سلعتيهما في البيع. والوجه الثالث: إن رهنه دون شرط فيجبر على أن يحوز أمه معه. وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، ويتخرج على معنى ما في المدونة من كتاب التجارة إلى أرض الحرب إذا أبى الراهن أن يحوز الأم وأبى المرتهن إلا أن يحوز رهنه؛ أن يباعا جميعا من رجل واحد، فيكون للمرتهن ما ناب الرهن من الثمن رهنا، وهذا كله إذا كان معها في البلد، وأما إن رهن الصبي ببلد وأراد أن يخرج بأمه إلى بلد آخر، فقال مالك: لا خير فيه؛ إذ لا كلام في أنه لا يجوز أن يفرق بين الوالدة وولدها في الحواز وإن جمعهما الملك. وَمَا لا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ إِنْ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ أَوْ يَكُنْ عِنْدَ أَمِينٍ امْتَنَعَ مُطْلَقاً، وقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ نَقْداً؛ لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ .... يعني: أن الرهن إن كان مما يعرف بعينه كالحيوان والثياب والكتب، قال في المدونة والحلي: جاز أن يوضع تحت يد المرتهن وغيره، وإن كان مما لا يعرف بعينه؛ فالمشهور أنه ممتنع إلا أن يطبع عليه أو يوضع تحت يد أمين.

المازري: وإنما امتنع إذل لم يطبع عليه، أولم يوضع تحت يد أمين حمايه للذريعة أن يكون الراهن والمرتهن قصدا إلى أن يقبض على جهة السلف، وسيما ذلك القبض رهنا، واشترط السلف في المداينة والمبايعة ممنوع، والتطوع بة كهبة المديان. وقوله: (مُطْلَقاً) أى: كان نقدا أو طعاما مكيلا أو موزونا. وقال أشهب: إنما يمنع في النقد. وهكذا نقل المازري، ولفظه بعد أن ذكر أنه يمتنع رهن الدنانير والدراهم: إلا أن يطبع عليها، وإن كان مما لا يعرف بعينه ليس من الأثمان التي هي الدنانير والدراهم والفلوس؛ كالمكيل والموزون، فإن في ذلك قولين، المشهور منهما إلحاق ذلك بالدنانير والدراهم. وأجاز أشهب ذلك؛ لأن الصرف في الدنانير والدراهم ممن وضع يده عليها مستخف، ويبعد استخفاف ذلك في المكيل والموزون بغير إذن مالكها، وظاهره وظاهر كلام المصنف أن أشهب يوافق على المنع في الدراهم والدنانير، والذي نقل عنه الباجي وابن يونس وابن شاس- واللفظ لهم جميعا- أنه قال: لا أحب ارتهان الدنانير والدراهم والفلوس إلا مطبوعا عليها؛ للتهمة في سلفها، فإن لم يطبع عليها لم يفسد الرهن ولا البيع، ويستقبل طبعها إن عثر على ذلك. وظاهر هذا أن الطبع عنده في النقد مستحب. وقول ابن عبد السلام: أن نقل المصنف قول أشهب قريب من نقل لفظ الباجي عنه بعيد من كلام ابن يونس ليس بظاهر؛ لأن لفظهما سواء. وَيَجُوزُ رَهْنُ الْمُدَبَّرِ، ويُسْتَوْفَى مِنْ خَرَاجِهِ أَو مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِساً المدبر لا يباع، فلذلك لا يستوفى من خدمته، فإذا مات سيده مفلسا بيع وقضى المرتهن من ثمنه. فالضميرفي: (خراجه) و (ثمنه) عائد على (المدبر). والضمير في: (موته) عائد على السيد.

وقوله: (مُفْلِساً) حال من المضاف إليه؛ لأن المضاف وهو (الموت) مصدر، وهو مسألة اختلاف في العربية. اللخمي: ورهن منافع المدبر ورقبتة مفترق؛ فإن رهن خدمته مدة معلومة يجوز بيعها ليؤاجر المرتهن تلك المدة؛ جاز في عقد البيع وبعده. وإن رهن جميع خدمته جاز بعد العقد. ويختلف إذا كان في العقد، وإن رهن رقبته على أنه مات الراهن ولا مال له بيع المدبر وكان في أصل العقد؛ جرى على الخلاف في رهن الغرر؛ لأنه لا يباع له الآن، ولا يدرى متى يموت السيد. انتهى. وهذه الصورة الثالثة هي التي ذكرها المصنف. اللخمي والمازري: وأما إن رهن رقبته ليباع له الآن فلا يجوز. واختلف هل يعود الرهن في الخدمة وتباع له وقتا بعد وقت حسبما يجوز من بيعها؛ كمن ارتهن دارا فثبت أنها محبسة على من رهنها، فقيل: لا يعود حقه إلى المنفعة، لأنه إنما رهنه الرقبة. وقيل: الرهن يتعلق بمنفعتها وكرائها، لأن المنفعة كجزء منها يجوز بيعه ورهنه، فلا يبطل هذا الجزء ببطلان ما أخذ منه. وَيَجُوزُ رَهْنُ الْمُكَاتَبِ، وِيُسْتَوْفَى مِنْ كِتَابَتِهِ أَو مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ عَجَزَ يعنى: ويجوز رهن المكاتب ويستوفي المرتهن من كتابته، فإن عجز استوفى من ثمنه، وانظر هل يجري على رهن الغرر بهذا المعنى أم لا؛ لأن بيع الكتابة جائز مع أن هذا الغرر حاصل في البيع، وكل ما جاز في البيع جاز في الرهن من غير عكس، وهذا هو الظاهر. قال أبو عمران الشوشاوي: الرهن كلها على خمسة أقسام: - ما يجوز ملكه وبيعه في الحال والمآل؛ فلا إشكال في جواز رهنه. - وما لا يجوز ملكه وبيعه؛ فلا إشكال في منع رهنه كالخمر والمسمومات. -

وما يجوز ملكه ولا يجوز بيعه كأم الولد؛ لا ترهن قولا واحدا؛ إذ فائدة الرهن بيعه عند العجز عن الوفاء. - وما يجوز ملكه ولا يجوز بيعه في الحال ويجوز في ثاني حال؛ كالمكاتب يجري على الخلاف في رهن الغرر، وهي على وجهين: إما مشترط في أصل العقد أو بعده، فإن كان بعد العقد جاز؛ لأن العقد صحيح، وأما إن كان في أصل العقد؛ إما من بيع، أو من أو من قرض. فمن قرض لا يجوز؛ لأن المعروف يقبل الغرر. ومن بيع يختلف؛ لأنه قال في الثمار والزرع قبل بدو الصلاح: يجوز، وقال في الجنين: لا يجوز. - الخامس: ما يجوز ملكه واختلف (510/ب) في بيعه؛ كجلود الميتة بعد الدباغ، وجلود السباع قبل الدباغ. وكلاب الماشية والزرع والصيد هل يجوز رهنها أم لا؟ انتهى. والله أعلم. وَيَجُوزُ رَهْنُ الْمُسْتَعَارِ لِلرَّاهِنِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُهُ بِقِيمَتِهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: بِمَا أَدَّى مِنْ ثَمَنِهِ وَيَاخُذُ الْفَضْلَ .... - يعني: ليس من شرط الرهن أن يكون مملوكا للراهن، بل يجوز له أن يرهن ما استعار، فإن أدى الراهن ما عليه من الدين رجع المستعار إلى معيرة، وإن فلس الراهن بيع الرهن وقبض المرتهن ثمنه. - واختلف بماذا يرجع المعير على المستعير، فاختصر أبو محمد المدونة على أنه يرجع بقيمته، وكذلك روى المدونة يحيى بن عمر وغيره، واختصرها البراذغي على أن المعير يرجع على المستعير بما أدى من ثمنها عنه، وكذا وقع في بعض روايات يحيى، وهذه أصوب من الأولى، وقاله أشهب؛ أى: لأنه بإعارته كمسلف ثمنه؛ لأنه لذلك أعاره كما قالوا في الضامن يتوجه عليه غرم سلعته بسبب ضمانه: أنه يرجع بثمنها لا بقيمتها؛ لأن

كفالته بهذه السلعة تستلزم تسلف الثمن إن احتيج إليه، ولسحنون ثالث؛ لأنه قال: إن شاء ضمنه بقيمته يوم رهنه؛ ففهم منه التخيير. وقول المصنف: (ويأخذ الفضل) هو من تتمة قول أشهب، وذلك أنا إذا قلنا: يرجع عليه بقيمة السلعة ويقدر أن المعير أسلف السلعة للمستعير؛ فالسلعة مبيعة على ملك المستعير، فإن بيعت بزيادة على الدين لا يختص بها المعير. وعلى قول أشهب يختص المعير بالزيادة؛ لأنه عده مسلفا لمقدار دينه من ثمن السلعة، والزيادة على ذلك لم يلتزم فيها سلفا فتبقى على ملك المعير، ولهذا قال أشهب: ولو فضلت بعد الدين فضلة بعد قضاء السلطان بالبيع والوفاء فوقفها فضاعت؛ فذلك من ربها، وليس على المستعير إلا ما قضى عنه، وكان ينبغي على قاعدة أشهب أن يضمن قيمته؛ إذ الضمان عنده ضمان أصالة، فقد تعلقت القيمة بذمة المستعير يوم قبض العارية بخلاف ما قاله هنا؛ لأنه يضمن ما أدى من الثمن. وَإِنْ هَلَكَ اتَّبَعَ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ، واتَّبَعَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُرْتَهِنَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُغَابُ عَلَيْهِ فَلا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا. يعني: إذا هلكت السلعة عند المرتهن، كما كان في كل عارية ورهن؛ فيتبع المعير المستعير بقيمتها يوم قبض العارية. ابن عبد السلام: ويتبع المستعير- وهو الراهن- المرتهن بقيمتها يوم القبض، أو يوم الهلاك، أو يوم الرهن كما سيأتي. وفي البيان عن أشهب: أن المستعير يغرم للمعير قيمته يوم طلبه بها. قال: وفيه نظر. وإذا اتبع المستعير المرتهن فإنه يقاصه، ومن فضلت له فضلة أخذها، وإن كانت السلعة مما يغاب عليه؛ فلا ضمان على واحد منهما كما في سائر العواري والرهان.

ولَو رَهَنَهُ فِي غَيْرِ مَا أَذِنَ ضَمِنَهُ، وقَالَ أَشْهَبُ: يَكُونُ رَهْناً فِيمَا أَذِنَ فِيهَ يعني: إذا أذن له أن يرهنه في شيء فرهنه في غيره. وفرضها في المدونة فيمن أَعَرْتَهُ سلعة ليرهنا في دراهم مسماة فرهنها في طعام، فقال: أراه ضامناً لمخالفته، وذلك تَعدٍّ، ونقلها أبو محمد: ومن أعرته عبداً ليرهنه في دراهم فرهنه في طعام فهو ضامن؛ لتعديه. قال، وقال أشهب: لا ضمان عليه في العبد، ويكون رهناً في عدد الدراهم التي رضي بها السيد. وجعل المصنف قول أشهب مخالفاً تبعاً لابن زيد وغيره، وجعل ابن يونس القولين متفقين، فحمل قول ابن القاسم على ما أذا أقر المستعير للمعير بذلك، وخالفهم المرتهن ولم يشأ المعير أن يحلف، فلذلك لم يقبل اتفاق المستعير والمعير على المرتهن حتى يحلف المعير على ما ادعاه. ابن يونس: وإذا حلف كان رهنه رهناً فيما أقر به في الدراهم، فإذا لم يحلف كان له تضمين المستعير بالتعدي. وحمل قول أشهب على ما إذا حلف أو أقر له المرتهن بذلك، قال: فيتفق القولان. والْغَلَّةُ لِلرَّاهِنِ أي: أن غلة الرهن للراهن؛ لأنه على ملكه. ويسلم للراهن الغلة على المشهور، وفي المبسوط لمالك: من استرهن داراً أو عبداً قبضه أو لم يقبضه؛ فإن إجارة العبد والدار تجمع لا تصل إلى الراهن ولا إلى المرتهن حتى يفتك الرهن فيكون تبعاً للرهن، فإن كان في الدار كفاف الحق؛ كانت الإجارة للراهن. قال في البيان: وهذه الرواية شاذة ولا تعرف في المذهب. ودليل الأول: ما رواه مالك مرسلاً وغيره مسنداً أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن، الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه».

وَإذَا اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً؛ جَازَ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْقَرْضِ لأَنَّهُ إِجَارَةٌ .... لما ذكر أن الغلة للراهن ذكر أنه يجوز للمرتهن أن يشترط منفعة المرهون مدة معينة بشرط أن يكون ذلك في بيع، فلو كان في قرض لم يجز. واحترز بـ (الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ) من غيرها، فيمتنع للجهالة. وقوله: (لأَنَّهُ إِجَارَةٌ) يحتمل أن يكون تعليلاً لجواز الاشتراط في البيع، أو لمنفعة في القرض. أما بيان الأول؛ فلأن استثناء المنفعة مدة معينة يرجع إلى الإجارة فصار بائعاً لسلعته بثمن سماه، وبعمل الدابة مثلاً فلذلك جاز، لأن المشهور جواز اجتماع البيع والإجارة. وأما بيان الثاني؛ فلأنه إذا كان إجارة، [511/أ] يلزم السلف بزيادة الإجارة. والأقرب إلى لفظه الأول، ولأنه كذلك في الجواهر وغيرها. وظاهر كلام المصنف: أنه لا فرق بين الحيوان وغيره، وهو اختيار ابن القاسم. وفي المدونة قال مالك - رحمه الله -: وإذا اشترط المرتهن منفعة الرهن؛ فإن كان الدين من قرض لم يجز، لأنه سلف جر منفعة، وإن كان من بيع وشرط منفعة الرهن زماناً مسمّى فلا بأس به في الدور والأرضين، وكرهه مالك في الثياب والحيوان؛ إذ لا يدري كيف ترجع إليه. وقال ابن القاسم: لا بأس به في الحيوان والثياب وغيرها؛ لأن ذلك إجارة. وعن مالك أيضاً كقول ابن القاسم، وبه قال أشهب وأصبغ. التونسي: ويأتي على قول مالك في هذه المسألة، أنه لا يجوز رهن الغرر في أصل البيع، خلاف ظاهر الروايات في المدونة وغيرها. قال في البيان: وكره مالك ذلك ولم يقل ما الحكم فيه إذا وقع، ويتخرج في ذلك أربعة أقوال:

الأول: أنه يفسد البيع والرهن فلا يكون أحق به من الغرماء. والثاني: فساد البيع وصحة الرهن فيكون رهناً بالأقل من الثمن أو القيمة. والثالث: أنه لا يفسد البيع ولا يبطل الرهن، إنما يكره ذلك ابتداءً، قال: وهو ظاهر المدونة. والرابع: أنه يصح البيع ويبطل الرهن، فلا يكون أحق به من الغرماء. القابسي: إنما يكره ذلك في الثياب؛ لأنها تضمن في الرهن ولا تضمن في الإجارة، فكره اجتماعهما للشك في الحكم إذا أتلفها، قال: وأما الحيوان فقد اختلف قول مالك في وجوب ضمانه على المرتهن. وقوله في هذه المسألة يدل على قوله: إن المرتهن ضامن للحيوان. ورده في البيان بأن هذا لا يصح؛ لأن مالكاً قد بين أنه إنما يكره ذلك؛ لأنه لا يدري كيف ترجع إليه الدابة والثوب. وانظر قوله في المدونة: كرهه مالك في الثياب هل أراد التحريم، أو الكراهة على بابها؟ والذي نقل اللخمي عنه المنع. فروع: الأول: اختلف المتأخرون إذا ضاع الرهن المشترط منفعته وهو مما يغاب عليه؛ فقيل: يضمنه لأنه رهن. وقيل: لا يضمنه كسائر المستأجرات. وقال التونسي: ينظر إلى القدر الذي يذهب منه في الإجارة، فإن كان الثوب مثلاً ينقص باستعماله المدة المشترطة الربع، فيكون ربعه غير مضمون؛ لأنه مستأجر، وثلاثة أرباعه مضمون؛ لأنه مرتهن إن لم تقم بينة. واعترضه صاحب البيان بأنه إنما ارتهن جميعه، فإما أن يحكم له بحكم الرهن أو الإجارة، ولم يرهن بعضه ويسقط بعضه حتى يسقط عليهما، قال: والصواب أنه يغلب عليه حكم الرهن.

الثاني: الكلام المتقدم إنما هو إذا اشترط المنفعة في عقد البيع، وأما إن أباح له الانتفاع بعد؛ فلا يجوز في بيع ولا قرض؛ لأنه إن كان بغير عوض هدية مديان، كذا نص ابن راشد وغيره على المنع. وإن كان بعوض جرى على الكلام في مبايعة المديان، قال اللخمي. الثالث: إذا شرط أن يأخذ الغلة من دينه؛ جاز في القرض ولا يجوز في عقد البيع، وأما بعد عقد البيع فجائز؛ إذ لا يدري أي مقدار يكثر، نص على ذلك في حريم البئر. الرابع: حيث أجزنا اشتراط المنفعة فإنما نجيزه فيما يصح كراؤه، فلا يجوز اشتراط منفعة الأشجار؛ إذ لا يجوز كراؤها لأخذ ثمارها، إلا أن تكون ثمرتها قد طابت فيجوز اشتراطها في ذلك العام فقط. الخامس: إذا رهنه وأذن له في الكراء وأن يقبضه من دينه ففرط في كراء ذلك حتى حل أجل الدين؛ فإن كان رب الرهن حاضراً وقد علم أنه لم يكرها ولم ينكر؛ فلا شيء على المرتهن، وإلا ففي تغريمه كراء المثل قولان لابن الماجشون وأصبغ. فضل: وقول ابن الماجشون بالتغريم هو أصل ابن القاسم، هكذا حكى ابن راشد. وقال الباجي: إذا ترك المرتهن كراء الدار حتى حل الأجل؛ فإن كانت من الدور التي لها قدر كدور مكة ودور مصر، أو كان العبد نبيلاً؛ ارتفع ثمنه لخراجه فلم يكره فهو ضامن لأجر مثله، وإن لم يكن كبير كراء، ومثله يكري أو لا يكري لم يضمن، قاله ابن حبيب عن ابن الماجشون. وقال أصبغ: لا يضمن في الوجهين، وكذلك الوكيل على الأكرياء يترك ذلك فلا يضمن. وَرَهْنُ فَضْلَةِ الرَّهْنِ بِرِضَا الأَوَّلِ جَائِزٌ، وحَوْزُهُ حَوْزٌ لَهُ، وقَالَ أَصْبَغُ: لا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ إِذَا عَلِمَ لِيَحْصُلَ الْحَوْزُ .... يعني: إذا رهنت رهناً في دين وكانت قيمته أكثر من الدين؛ جاز لك أن ترهن الفضلة، ثم إن رهنتها من المرتهن الأول فلا إشكال، وذلك لم يتعرض له المصنف، وإن

كان لغيره فيشترط علم الأول، وهل يشترط رضاه بذلك؟ اشترطه في المدونة. قال في البيان: وهو المشهور. ولم يشترطه أصبغ. قال: إذ لا مضرة على الأول؛ لأنه مبدَّى قبل غيره. واختار ابن حبيب الأول؛ لأنه إنما اشترط علمه ليكون حائزاً للثاني، وكيف يكون حائزاً للثاني وهو لم يرض بذلك. ولمالك في الموَّازيَّة قول ثالث: أنه لا يجوز رهن فضلة الرهن لثانٍ إذا كان الرهن بيد المرتهن الأول، إلا أن يخرج الرهن من يد الأول؛ لأنه إنما يقبضها لنفسه. وحكى في البيان رابعاً: وهو أن الفضلة تكون رهناً ولو لم يعلم الأول، وهو قول ابن القاسم في المبسوط، وقول أشهب في الواضحة. ونقل المصنف قول أصبغ فيما إذا كان الرهن بيد المرتهن الأول، وكذا نقله صاحب [511/ب] البيان، ولم ينقله اللخمي وابن يونس إلا فيما إذا كان الرهن بيد عدل، ولذلك احتاج اللخمي أن يُخَرِّجَ قولاً بعدم اشتراط رضا المرتهن الأول إذا علم وكان الرهن تحت يده؛ مما قال مالك في المخْدِم يهب صاحبه رقبته لغير المخْدَم: أنه يجوز وإن لم يرض المخْدَم ولم يعلم. تنبيه: إنما يشترط رضا الأول إذا كان الرهن على يده. قال في البيان: وأما إن كان الرهن موضوعاً على يد عدل؛ فالاعتبار في ذلك إنما هو بعلمه دون علم المرتهن. فرع: إذا كان الرهن بيد المرتهن وهو مما يغاب عليه ورهن فضلته من غيره ثم هلك الرهن؛ ففي المدونة يضمن المرتهن مبلغ دينه وهو في الباقي أمين، ويرجع المرتهن الثاني بدينه - لأنه فضلة الرهن - على يد عدل. وقال أشهب في الموَّازيَّة: ضمانه كله من الأول، قال: ولو كان بيد الثاني لم يكن عليه ضمان؛ لأنه رهن للأول، وإنما لهذا الفضلة لو كانت. اللخمي: وعلى أصل ابن القاسم يضمن الثاني الفضل.

ابن يونس: وإنما يصح ألا يضمن الأول إلا مبلغ دينه على قوله في المدونة: إذا كان أحضر الثوب وقت ارتهان الثاني فضلته أو علم بالبينة أنه قائم عنده، وإلا كان ضمان الجميع منه؛ إذ قد يكون تلف الثوب قبل ذلك، ووجب عليه ضمانه. وقاله بعض أصحابنا. فَإِنْ كَانَ بِرِضَاهُ وَسَبَقَ أَجَلُ الثَّانِي قُسِمَ إِنْ أَمْكَنَ، وإِلاَّ بِيعَ وَقُضِيَا فَرَّعَ على القول باشتراط الرضى لأنه المشهور؛ أي: فإن كان ارتهان الثاني برضا الأول وسبق أجل دين الثاني (قُسِمَ) أي: الرهن إن أمكن، وإن لم يمكن قسمه (بِيعَ) أي: الرهن (وَقُضِيَا) أي: المرتهن الأول والثاني؛ لأن الثاني إنما له الفضلة عن دين الأول، ولا إشكال إذا كان أجل الثاني مساوياً أو أبعد، ولذلك لم يتعرف المصنف له. وقوله: (بِيعَ) أي: إذا كان فيه فضل. ابن القاسم في العتبية: وإن لم تكن فيه فضلة لم تبع حتى يحل الأول. ولمالك من رواية أشهب في العتبية والموَّازيَّة فيمن رهن رهناً في دين إلى ستة أشهر ثم ابتاع سلعة من رجل آخر بثمن إلى ستة أشهر ورهنه فضلة الأول على أن الأول مبدَّى عليه فحل أجل الآخر، فقال مالك: أَعَلِمَ الآخرُ أن دين الأول إلى ستة أشهر؟ قيل: لا، قال: أرى أن يباع الرهن فيجعل للأول حقه كله قبل محله ويعطى الثاني من دينه ما فضل. ابن المواز: وقاله أشهب. وقال: هذا إذا بيع بعين أو بما يقضي بمثله وحق الأول مثله، وأما إن بيع بعرض؛ فإن كان مثل الذي عليه، أو بيع بدنانير وله عليه دراهم، أو بيع بطعام مخالف لما عليه؛ فإنه يوضع له رهن إلى حلول حقه. وقال سحنون في المجموعة: سواء علم الأول أن حق الثاني يحل قبله أو لم يعلم، فإنه إن بيع بمثل دينه فليعجل له. وقال في موضع آخر: إلا أن يكون حقه من طعام فيأبى أن يعجله فذلك له.

التونسي: وقول مالك: "أَعَلِمَ" يحتمل لو علم لم يجز البيع؛ لأنه باع من الثاني على أن يعجل للأول حقه فيصير بيعاً وسلفاً؛ لأنه لما رهنه فضلة الرهن والأول إلى ستة أشهر، لم يقدر على بيع الرهن إلا أن يتعجل دين الأول. واستشكل قول أشهب هذا إذا بيع بعين أو بما يقضي بمثله، فإن ظاهره أن الدين الأول كان من بيع ولم يكن من قرض، ألا ترى إلى قوله بعد هذا: (فَإِنْ بِيعَ بِعَرْضٍ) فهذا دليل على أن ذلك الدين مما يقضى بمثله وكان دينه من بيع، وأنه جعل له تعجيله، وهذا قول غير معروف. ثم قال: وفي بيع الرهن بالطعام والعروض اعتراض، وكيف يصح أن يباع بعروض أو طعام، ويجب أن ينقض إذا بيع بخلاف العين. فقال: فهذه مسألة جرت كلها على أمر مشكل. وِلِوْ رَهَنَهُ رَهْناً فِي قَرْضٍ جَدِيدٍ مَعَ الْقَدِيمِ فَسَدَ وَلَمْ يَكُنْ رَهْناً إِلا فِي الْجَدِيدِ مثاله: لو أسلف أولاً مائة بلا رهن ثم أسلف مائة أخرى وأعطاه بها وبالأخرى رهناً، وفي معناه أن تكون المائة الأولى من بيع. وقوله: (الْقَدِيمِ) ظاهره القرض القديم؛ فلا يصدق إلا على الصورة الأولى، ويحتمل الدين القديم فيعم. قوله: (فَسَدَ) أي: الرهن في الدين القديم، هذا ظاهر لفظه، ويحتمل فساد القرض وهو الذي يؤخذ من الجواهر، ومقتضى كلامه في الجواهر: أنه لو اطلعنا على ذلك قبل قيام الغرماء لرددنا الرهن. ولا يؤخذ ذلك من كلام المصنف. وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ رَهْناً إِلا فِي الْجَدِيدِ) هو مذهب المدونة، وحكى ابن المواز قولاً آخر: أنه يبطل نصف الرهن ويبقى نصفه رهناً بالمائة الأخرى، ووجه ابن المواز الأول: بأنه بمنزلة رهن سلعتين فاستحقت إحداهما، فإن الثانية رهن بالجميع، وكالمرأة تأخذ

رهناً بالصداق ثم تطلق قبل البناء؛ فجميعه رهن بنصفه. وظاهر كلامه: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأول رهناً أو لا، وهو مذهب المدونة. ونقل اللخمي عن مالك أنه قال: لا خير فيه. وقيد محمد ما أجازه مالك بما إذا كان فيه وفاء، وأما إذا لم يكون فيه وفاء؛ فلا يجوز. وألحق بعضهم بذلك إذا كان الأول يفسد بيعه، أو لم يكن مأموناً في عدم الجواز. اللخمي: والأول أحسن؛ لأن الطالب لا يزيد قرضاً ليزيده رهناً إلا لأمر يتخوفه. وقيد [512/أ] ابن المواز المدونة: بأن يكون الأول مؤجلاً، قال: وأما إن كان الأول حالاً؛ فذلك جائز، إلا أن يكون الأول عديماً. ابن المواز: ويجوز عندي وإن كان عديماً إذا كان الرهن له ما لم يكون عليه دين أحاط به؛ لأنه إذا كان الأول حالاًّ فالتأخير به كسلف ثانٍ، فيصير تأخيره الأول وإنشاء الثاني كسلف واحد نشأ الآن، إلا أن يكون عديماً؛ أي: لأنه حينئذ لا يتمكن رب الدين من قبض فلا يكون تأخيره حينئذٍ كابتداء سلف؛ لأن الحكم يوجب تأخيره، فإن كان الرهن له فهو كالملي، وإن كان عليه دين أحاط به؛ فإنه حينئذٍ يخشى قيام الغرماء عليه فيحاصونه، فإذا رهنه ذلك اختص هو بدينه فجعلت له المنفعة بسبب السلف. وَلا تَنْدَرِجُ الثِّمَارُ مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً إِلا بالشَّرْطِ يعني: إذا رهنه الراهن وأطلق؛ فإن ثمرته لا تدخل في الرهن، سواء كانت موجودة حين الرهن أم لا، وهذا هو المشهور، وعن مالك أنها لم تدخل، فإن اشترطت دخلت اتفاقاً إذا كان الدين من بيع، وكذلك القرض على المشهور. وروى ابن نافع: أنه لا يجوز اشتراط اندراجها فيه. واختلف المتأخرون هل تدخل الثمرة إذا تناهت ويبست قياساً على ما قاله ابن القاسم في الصوف المستجز وإليه ذهب بعض القرويين، أو لا تدخل؟ والفرق بينهما: أن

الثمرة تترك لتزداد طيباً فهي غلة لم يرهنها، والصوف لا فائدة في بقائه فكان سكوته عنه دليلاً على إدخاله في الرهن. ونص ابن القاسم على أن الثمرة لا تدخل وإن أزهت، وإن ارتهن نحلاً فالعسل للراهن مثل الثمرة. أبو محمد: يريد ولا يكون رهناً. وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ وَخَرَاجُهُ أي: فلا يدخل ماله إلا بشرط، وحكى في الاستذكار أن ذلك لا يدخل في الرهن عند الجميع. وقال في المقدمات: وروي عن مالك أن الغلة سواء كانت متولدة عنه كثمرة المخلة ولبن الغنم وصوفها، أو غير متولدة عنه ككراء الدور وخراج العبد؛ داخلة في الرهن. قال مالك في العتبية والمجموعة: ويجوز رهن ماله مفرداً، معلوماً كان أو مجهولاً؛ أي: لأن رهن الغرر جائز. قال في المدونة: ولا يكون ما وهب للعبد رهناً. أشهب في المجموعة: ولو كان ماله مشترطاً، بخلاف ما ربح في ماله المشترط؛ فإن رهن كالأصل، كما أن من أوصى بوصايا فلا تدخل فيما لم يعلم من ماله، وتدخل فيما علم به، وفي أرباح ما علم. ابن يونس: يريد ربح فيه قبل موته أو بعده. وقال بعضهم: الأشبه في المستثنى ماله أن يكون ما وهب له يدخل في الرهن كالمبيع بخيار يشترط المشتري ماله. مالك: وأرش جراح العبد للمرتهن. وَتَنْدَرِجُ الأَجِنَّةُ قال في الجلال: وكذلك فراخ النخل والشجر.

مالك في الموَّازيَّة: ولو اشترط أن الأمة رهن دون ما تلده لم يجز. ابن شعبان: ومن ارتهن عبداً فولد العبد من أمته رُهِنَ مع أبيه دون أمه، وكذلك تندرج الزيادة غير المتميزة؛ كسمن الدابة والجارية، وكبر الصغير بالإجماع، وعلى هذا فتندرج الزيادة إن لم تتميز وأشبهت الأصل كالولد، ولا تندرج إن لم تكن كذلك. وَفِي الصُّوفِ الْمُسْتَجَزِّ قَوْلانِ يعني: أن الصوف إن لم يتم يوم عقد الرهن فهو للراهن كاللبن وغيره من الغلات، وإن كان تاماً، وهو مراده بـ (الْمُسْتَجَزِّ) فقال ابن القاسم في المدونة: تدخل كالبيع. وقال أشهب: لا تدخل؛ لأن الصوف التام غلة لا يرده المشتري في الرد بالعيب. وَشَرْطُ الْمَرْهُونِ بِهِ: أَنْ يِكُونَ دَيْناً فِي الذِّمَّةِ لازِماً أَوْ صَائِراً إِلَى اللُّزُومِ ويُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ .... يعني: شرط المرهون به أن يكون مركباً من أربعة أجزاء: أولها: أن يكون ديناً، احترز به من الأمانة، فلا يجوز أن يدفع قراضاً ويأخذ به رهناً. ثانيها: أن يكون في الذمة. احترز به من المعينات أو منفعتها فإنها ليست في الذمة؛ لأن الذمة لا تقبل الأشياء المعينة. ثالثها: أن يكون لازماً أو صائراً إلى اللزوم، واحترز باللزوم من دين الكتابة، فإنه غير لازم؛ لأنه إذا عجز المكاتب يرجع رقيقاً. وقال: (أَوْ صَائِراً إِلَى اللُّزُومِ) ليدخل الجعل؛ فإنه عقد غير لازم، ولكنه يلزم بالشروع في العمل. رابعها: أن يمكن استيفاؤها من الرهن، احترز به مما يتعذر استيفاؤه من الرهن؛ لكونه لا يحل بيعه كمنافع المعينات. ابن راشد وابن عبد السلام: الظاهر أن هذا لا يحتاج إليه؛ لأنه قدم ما يغني عنه في شرط الرهن.

فَلا رَهْنَ فِي نُجُومِ الْكِتَابَةِ أدخل الفاء لكونها كالنتيجة عما قبله، وما ذكره المصنف من عدم الرهن في نجوم الكتابة نحوه في ابن شاس، وهو محمول على ما إذا أعطي أجنبي رهناً بكتابة مكاتب فإن ذلك لا يجوز، قاله في المدونة وغيرها؛ لأن دفع الأجنبي الرهن إنما يتصور إذا تحمل الأجنبي الكتابة، والحمالة بها لا تصح كما سيتبين لك إن شاء الله في محله. وإن كان المكتاب رهن رهناً في كتابته فإن ذلك جائز، نص عليه في المدونة. وَلا فِي عَيْنٍ وَلا فِي مَنَافِعِ عَيْنٍ يعني: ولا رهن في عين، وهو ظاهر في ذلك؛ لأن المقصود من الرهن التوثق ليستوفي منه ما يطلب به، ولا يمكن أن يستوفي المعين أو منفعته من الرهن أو ثمنه. وَالرَّهْنُ فِي الْعَارِيَةِ لِضَمَانِ الْقِيمَةِ لا لِلْعَيْنِ، ولِذَلِكَ فُصِلَ بَيْنَ مِا يُغَابُ عَلَيْهِ وغَيْرِهِ .... هذا جواب عن سؤال مقدر، لأنه لما قال: لا يصح في معين؛ كأن قائلاً قال: هذا لا يصح؛ لأنه يجوز لمن أعار معيناً أن يأخذ عنه رهناً، فأجاب بأن الرهن المأخوذ في العارية إنما هو لقيمته على تقدير هلاكه، ولأجل أن الرهن إنما هو للقيمة لم يصح دفع [512/ب] الرهن إلا فيما يغاب عليه؛ لأنه هو الذي يضمن في العواري، لا فيما لا يغاب عليه؛ لأنه لا تلزمه قيمته إذا تلف. وَيَجُوزُ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ أَو يَبِيعَهُ أَوْ يَعْمَلَ لَهْ، وَيَكُونُ بِقَبْضِهِ الأَوَّلِ رَهْناً يعني: ليس من شرط الرهن أن يصادف ديناً سابقاً، بل يصح قبضه مع الدين وقبله، ففي المدونة: وإذا دفعت إلى رجل رهناً بكل ما اقترض فلان جاز ذلك. قال في النكت:

ويكون رهناً بما داينه من قليل وكثير ما لم يجاوز قيمة الرهن، ولا يراعي ما يشبه، بخلاف مسألة كتاب الحمالة إذا قال: دَايِنْهُ وَأَنَا ضَامِنٌ؛ لأن الأول قد يبين بالرهن ما يقرضه. ابن عبد السلام: فأشاء إلى أن الحميل في الحمالة يلزمه كل ما وقعت به المداينة، سواء كانت تشبه أو لا. وقال غيره: إن قول غير ابن القاسم فيها مُقَيِّدٌ لقول مالك، وأنها كمسألة الرهن لا يلزم الحميل إلا ما يشبه من المداينة. وقوله: (أَوْ يَعْمَلَ لَهْ) يعني: هو أو من يكريه ليكون المال متعلقاً بالذمة، لا هو بخصوصيته؛ لِمَا تقدم أنه لا يصح الرهن في منافع معين، ويصح حمل كلامه على المعنى أيضاً، بمعنى أن المكري يأخذ الرهن بالأجرة التي دفع إلى المعير على تقدير موت الأجير ومرضه. قوله: (وَيَكُونُ بِقَبْضِهِ الأَوَّلِ رَهْناً) يعني: إذا دفع الرهن قبل الدين كان الرهن بقبضه الأول رهناً، ولا يحتاج إلى تجديد قبض بعد أخذ الدين. فرع: قال في الجواهر: ولو شرط رهناً في بيع فاسد فظن لزوم القضاء به ورهن فله الرجوع فيه، وكما لو ظن أن عليه ديناً فأداه ثم تبين أنه لا دين عليه فإنه يسترده. فَإِن شَرَطَ رَهْنَ السِّلْعَةِ فِي ثَمَنِهَا الْمُؤَجَّلِ ولَيْسَتْ بِحَيَوَانٍ وشِبْهِهِ جَازَ المازري: ان اشترط وضع المبيع على يد أجنبي غير البائع؛ جاز في المشهور عندنا. وقال ابن المواز: لا يجوز ذلك، وظاهره الكراهة. ومنعه ابن الجلاب في الحيوان خاصة ولم يقيد اشتراط ذلك بيد البائع أو بيد أمين. وإن اشترط بقاءه رهناً في يد البائع فثلاثة أقوال: منعه مالك في الموَّازيَّة مطلقاً، وأجازه ابن القصار مطلقاً، وأجازه أصبغ في العقار وما يؤمن عليه ومنعه في الحيوان.

المازري: وقيد بعض الأشياخ الخلاف بما إذا لم يشترط فيه أجل بعيد، وأما إذا اشترط فيه أجل بعيد فإنه يمتنع اتفاقاً. وبعض الأشياخ أطلق الخلاف من غير تعرض لذكر قرب أجل الرهن وبعده. انتهى. فقول المصنف: (ولَيْسَتْ بِحَيَوَانٍ) يأتي على ما في الجلاب، ولعل المصنف يريد بـ (شِبْهِهِ) الطعام؛ لأنه يسرع إليه التغير. فانظر هل توجد لفظة (وَشِبْهِهِ) في الرواية. ابن عبد السلام: وإذا لم يُمَكِّن البائعُ المشتري من قبض السلعة وَحَبَسَها في ثمنها؛ ففي انتقال ضمانها إلى المشتري ثلاثة أقوال، والمشهور أنها تضمن ضمان الرهان. وَيُخَيَّرُ الْبَائِعُ وَشِبْهُهُ فِي الْفَسْخِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يعني: من باع سلعة بثمن مؤجل على شرط أن يأخذ رهناً به، فإن كان الرهن المشترط غير معين وأبى المشتري من دفعه؛ خُيِّرَ البائع وشبهه من وارث وموهوب له في فسخ البيع وإمضائه بلا رهن، وهكذا قال ابن الجلاب مقتصراً عليه، والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد وغيرهم: أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه النقد باعتبار الدين. ابن عبد السلام: وهو المذهب، واختلف المتأخرون هل يسجن أم لا؟ والصواب أنه يسجن. اللخمي: وعلى المشهور فإن يعطى الصنف المعتاد، والعادة في الحواضر أن يرهن ما يغاب عليه من الثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالديار وشبهها، فليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان أخف عليه؛ لتصديقه في تقله؛ لأن في حفظه كلفة ومشقة، وإن أحب أن يعطي ثياباً وامتنع المرتهن لأنه مما يضمنه، أو أحب الراهن أن يعطي داراً وامتنع المرتهن وأحب ما ينفصل به ويكون تحت غلقه فالقول قول الراهن؛ لأن كل ذلك رهن. ويحمل كلام المصنف على أن المبتاع لم يجد شيئاً، وأما إن وجد فيجبر على ما جرت العادة بدفعه.

وَيَصِحُّ الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلا يَتِمُّ إِلا بِه يعني: يصح الرهن ويلزم بالقول، لكن لا يختص المرتهن به على الغرماء إلا بقبضه، وهذا معنى قوله: (وَلا يَتِمُّ إِلا بِه). ونقل المازري عن أبي حنيفة والشافعي: أنه لا يلزم إلا بالقبض، ودليلنا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1] وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم». وتنازع الجميع في فهم قوله تعالى: (فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ) [البقرة: 283] هل المراد المقبوضة بعد عقد الرهن وهو قول مالك، ويعضده أنه أثبت لها حكم الرهان قبل القبض، أو المراد أن الرهن هو المقبوض وهو قول أبي حنيفة والشافعي؟ وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُعَيَّناً هذا قسيم قوله: (وَيُخَيَّرُ الْبَائِعُ وَشِبْهُهُ فِي الْفَسْخِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ) أي: فإن كان معيناً، كما لو قال: أرهنك هذا الثوب. والأحسن بطريق المصنف تقديم هذه المسألة على قوله: (وَيَصِحُّ الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلا يَتِمُّ إِلا بِه). فَإِنْ تَرَاخَى الْقَبْضُ إِلَى الْفَلَسِ أَوِ الْمَوْتِ بَطَلَ اتِّفَاقاً، ولَوْ كَانَ مُجِداًّ عَلَى الأَشْهَرِ أي: فإن تأخر القبض، وكذا وقع القبض ملفوظاً به في بعض النسخ. قوله: (إِلَى الْفَلَسِ أَوِ الْمَوْتِ) فإن كان ذلك بتراخ من المرتهن ولو شاء أخذه قبل ذلك؛ بطل الرهن بالاتفاق. ابن عبد السلام: ولا يبعد أن يكون مجمعاً عليه وإن لم يتراخ، بل كان جادّاً في الطلب حتى فلس الراهن أو مات؛ ففي الجواهر: ظاهر الكتاب [513/أ] أنه لا يكون أحق؛ لقوله: إذا لم يقبض المرتهن حتى مات الراهن أو فلس كان أسوة الغرماء. فأطلق الجواب فيه.

وقال القاضي أبو محمد: حقه ثابت؛ لأنه لم يفرط. ابن راشد: وفي كلامه في الجواهر نظر؛ لأنه لم يتعرض لكونه مجدّاً، ويحتمل أن لو سئل عن ذلك لأجاب بالصحة. وشهر المصنف البطلان لكونه ظاهر المدونة كما قال ابن شاس، وحكى اللخمي والمازري القولين إذا كان جادّاً ولم يعينا مشهوراً. فإن قلت: ما الفرق على ما شهره المصنف هنا وبين الهبة إذا مات الواهب والموهوب له جاد في الطلب وفي تزكية الشهود؛ أن ذلك حوز عند ابن القاسم خلافاً ِلأشهب؟ قيل: لأن الرهن لما كان لم يخرج من ملك راهنه لم يكتف بالجد في الطلب، بخلاف الموهوب فإنه خرج عن ملك راهنه، والله أعلم. وَقَبْضُهُ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ لما ذكر أنه لا يتم إلا بالقبض بيَّن أن القبض هنا كما قدمه في قبض المبيع، أي: فقبض المكيل بالكيل والموزون بالوزن والمعدود بالعدد، وفي اعتبار مقدار المناولة قولان، وفي العقار التخلية وفي غيرهما العرف. ويحتمل أن يريد بقوله: (وَقَبْضُهُ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ) خصوصية المكيل والموزون والمعدود، وعلى كلا الاحتمالين ففي كلامه نظر؛ أما على الثاني فلأن كلامه حينئذ يكون تعرض لكيفية القبض في العقار والعروض ولا ينبغي إهمال ذلك، وأما على الأول فإن ظاهر كلامه مساواة القبض فيه للبيع، والذي يؤخذ من كلامهم أنه لا بد هنا من زيادة على قبض المبيع، فقد قال ابن عبد السلام: إِنَّ تخلي الراهن عن العقار لا يكون رهناً كافياً، بل لا بد مع ذلك من شيء آخر وهو غلق المرتهن على ما يكون ذلك فيه. وقال المازري: إن كان الرهن ما ينتقل كالثوب والعبد فَقَبْضُهُ بنقله من حيازة الراهن ومكانه إلى مكان المرتهن، وهذا لا يشترط في البيع. ونص اللخمي وغيره على أن قبض الرهن إذا كان

عقاراً بالتسليم والإشهاد، إلا دَارَ سكناه فيشترط فيه في الرهن خروجه وإخلاؤه من شواغله. قال: وإن لم يخله وحال المرتهن بينه وبين التصرف فيه جاز. وقال المازري: إن كان الرهن مما لا ينتقل كالدار فالقبض فيه رفع يد الراهن وتفريغ ذلك من شواغل الراهن، وإن كان مغلقاً خالياً كان مفتاح ما يعلق به بيد المرتهن، وإن كان أرضاً لا تقفل ولا شَاغِلَ فيها للراهن كفى فيها الإشهاد والذب عنها إلى المرتهن. فإن قلت: كلام المازري يدل على أنه لا بد من إزالة الشواغل. قيل: يحمل كلامه على دار سكناه ليوافق كلام اللخمي، فإن كان في كراء بغير وجيبة فحوزه أن يجمع بينه وبين المرتهن ويقبض الكراء المرتهن أو من يرضيان به. واختلف إذا كان الكراء وجيبة؛ فحوزه أن يجمع بينه به، وقد قبض كراءه أو لم يقبض، هل يصح فيه حوز أو لا، وإن كان فيه طعام مختزن فسلم مفتاحه إليه أو إلى أمين جاز. انتهى. وَقَبْضُ الدَّيْنِ بِالإِشْهَادِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْغَرِيمَيْنِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ لما قدم المصنف أنه يصح رهن الدين تكلم هنا على حوزه، ولم يتعرض المصنف للوثيقة التي فيها ذكر الحق، وكأنه إنما تكلم على ما لا بد منه، لأن الوثيقة قد لا تكون. قال في الجواهر: وأما الدين فبتسليم ذكر الحق، والإشهاد والجمع بين الغريمين إن كان على غير المرتهن، ويكفي الاقتصار على الجمع بينهما والإشهاد إن لم يكن ذكر حق، ويتقدم إليه بحضرة البينة ألا يقبضه إياه حتى يصل إلى حقه. وكذلك قال اللخمي: حيازة الدين أن يأخذ المرتهن ذكر الحق، أو يجمع بينه وبين الغريم ويتقدم إليه بحضرة البينة، ألا يقضيه أياه حتى يصل إلى حقه، فإن فعل ذلك متعدياً أغرم الدين ثانياً، لأنه أتلفه على المرتهن إلا أن يكون حقه أقل، فإن كان الغريم غائباً ولا وثيقة فالإشهاد يجزئ،

وفيه خلاف. وظاهر كلامهما: أنه لا بد من حيازة الدين في هذه الثلاثة، وقول اللخمي: وإن كان الغريم غائباً ولا وثيقة فالإشهاد يجزئ، وفيه خلاف. لعله يشير بذلك إلى ما حكاه الباجي أنه قال، قال مالك: إن كان للدين وثيقة فحيازته أن تدفع الوثيقة إليه ويكون أحق في الفلس والموت، وإن لم يكن للدين ذكر حق، فقال ابن القاسم أيضاً: لا يجوز إلا أن يجمع بينهما، وهو ظاهر قول مالك في الموَّازيَّة. انتهى. اللخمي: وليس على الراهن أن يدفع ذكر الحق للمرتهن إذا كان الدين عليه، لأنه يخشى أن يجحده فيتلف حقه، لأن قبض المرتهن للكتاب إنما هو ليقبض به، والمرتهن مستغن عن ذلك. وَقَبْضُ الْجُزْءِ الْمُشَاعِ وَالْبَاقِي لِغَيْرِ الرَّاهِنِ إِنْ كَانَ عَقَاراً جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، وَفِي إِلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ لا بِمَا فِيهِ لِلرَّاهِنِ حَقٌّ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. يعني: إذا كان للراهن جزء مشاع في شيء وباقي ذلك الشيء لغيره، فإذا قبض المرتهن ذلك الجزء وحل محل الراهن؛ فإن كان المرهون عقاراً صح الرهن وتم باتفاق، وقد تقدم أول هذا التقييد أنه قد استقرئ من كلام المصنف إذا حكى الاتفاق، فإنما يريد اتفاق أهل المذهب بخلاف الإجماع. ابن عبد السلام: حكى المصنف الاتفاق لكونه لم يطلع على الرواية التي في المذهب بمنع رهن المشاع. خليل: وقد يقال: هذا لا يرد؛ لأن كلام المصنف إنما هو في كيفية القبض، وذلك مستلزم لصحة الرهن ابتداء، فكأنه يقول: اتفق القائلون برهن المشاع على هذا، والله أعلم. وإن كان غير عقار؛ حيواناً أو عروضاً، فقال ابن القاسم في المدونة: هو كالعقار. وقال أشهب وعبد الملك: لا بد من قبض المرتهن الجميع أو جعله بيد الشريك أو بيد غيرهما، هكذا نقل اللخمي وابن يونس قول أشهب، فوجه قول ابن القاسم القياس على العقار.

المازري: ووجه قول أشهب وعبد الملك أن الحوز إنما صح في الرباع لأن نقلها لا يمكن، فصار المقدور عليه في قدرة الخلق رفع يد الراهن عن نصيبه، وكون يد المرتهن يحل محله، وأما ما ينقل ويزال؛ فإنه يمكن فيه أن ينقله عن مكان إلى [513/ب] مكان، وهكذا المعتاد فيه وفي قبضه فطلب في الحوز أعلى درجاته، وهي نقله من مكان إلى مكان ينفرد به المرتهن. اللخمي: وقول ابن القاسم أحسن. ابن عبد السلام: والظاهر أنه لا فرق بين العقار وغيره. والضميران المجروران في كلام المصنف بغير والباء عائدان على العقار وذلك واضح. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لا يِسْتَاذِنُ الشَّرِيكُ ولَهُ أَنْ يَقْسِمَ ويَبِيعَ ويُسَلِّمَ، وَعَلَى الآخَرِ: فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ فَيَتَأَخَّرُ التَّسْلِيمُ قَوْلانِ .... أي: وعلى قول المشهور، أي: قول ابن القاسم؛ كمن له نصف ثوب أو حيوان رهنه، ولا يستأذن الشريك الذي لم يرهن؛ لأن الشريط يتصرف مع المرتهن، وله -أي: للشريك الذي لم يرهن -أن يقسم الشرك إن كان مما يقبل القسمة، وله بيع ما نابه ويسلمه للشريك، ولا يمنعه رهن الشريك من ذلك، لأن الرهن لا يتعلق بحصته، وعلى قول أشهب لا يكون أحد الشريكين أن يرهن حصته إلا بإذن شريكه، لأن المرتهن على قوله يحتاج إلى حيازة الجميع، ولهذا قال في الموَّازيَّة: من كان له نصف عبد أو دابة أو ما ينقل كالثوب والسيف؛ لم يجز أن يرهن حصته إلا بإذن شريكه، وكذلك ما لا ينقسم، لأن ذلك يمنع صاحبه بيع نصيبه، فإن لم يأذن له انتقض الرهن. خليل: وينبغي أن يستأذنه أيضاً على قول ابن القاسم؛ لأن الشريك الذي لم يرهن نصيبه قد يدعو إلى بيع الجميع لأجل ما عليه في بيع نصيبه مفرداً من الجنس، فإذا دعا إلى ذلك

مُكِّنَ منه لكونه من حقه، فيؤدي إلى بيع النصيب المرتهن فينقل حكم المرتهن من الرهن إلى حكم آخر، ومن حق المرتهن أن يتوثق في الرهن حتى لا يكون لأحد فيه حق في إزالة يده عن الرهن إلا بعد قضاء الدين الذي هو رهن به، فإذا استؤذن الشريك الذي لم يرهن لم يكن له أن يدعو إلى المفاصلة وبيع الجميع حتى يحل أجل الدين ويقبض المرتهن حقه. ثم فرع المصنف على قول أشهب بقوله: (وَعَلَى الآخَرِ: فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ ... إلخ). أي: إذا أذن على قوله أشهب، وقلنا: إنه يمنع من دعوى المفاصلة، فلو أراد بيع نصيبه على أن يقبض إلى أجل الدين وهو أجل بعيد لا يجوز بيع المعينات على أن يقبض إليه على قولين المنسوب لأشهب الجواز. المازري: وهو أشهرهما. وقال ابن ميسر بالمنع قياساً على بيع الغائب، ورأى أشهب أنه لما كان للمشتري هنا الانتفاع في أكثر الأشيء وإنما منع من دعواه إلى بيع الجميع، فقد ناسب أن يقال هنا بالجواز دون المعين الذي يتأخر قبضه، فإنه إنما يدخل في قبض المشتري بعد ذلك الأجل المشترط وهو غرر؛ إذ لا يدري هل يبقى إلى ذلك الأجل أم لا، ولهذا الذي أشرنا إليه قال أشهب: ضمان هذا المبيع في هذه المسألة من المشتري دون الغائب كالمواضعة. وهكذا قال التونسي في كلامه على الموَّازيَّة. التونسي والمازري وابن زرقون: وإذا وجب الضمان على المشتري فيجب عليه أن ينقد الثمن للبائع، واعترض الباجي قول أشهب بأن ذلك يمنع صاحبه بيع نصيبه، فقال: هذا عندي لا يمنع ما ذكر؛ لأن ذلك لا يمنع من بيع نصيبه إن شاء أن يفرده بالبيع أو يدعو الراهن إلى البيع معه، فإن باعه بغير جنس الدين كان الثمن رهناً، وإن كان بجنسه قضى منه الدين إن لم يأت برهن بدلاً منه. ابن عبد السلام: وظاهر كلام أشهب أنه لا يحتاج إلى إذن الشريك في الربع، وإن كان مما تمكن قسمته. وهذا معنى كلامه، والصواب عندي ما قاله الباجي.

وَإِذَا كَانَ الْبَاقِي لِلرَّاهِنِ فَيُقْبَضُ الْجَمِيعُ. وَقِيلَ: إِلا فِي الْعَقَارِ فَكَالأَجْنَبِيِّ أي: وإن رهن نصف ثوب أو دار ونحو ذلك وكان النصف الآخر للراهن؛ لم يصح حوز ذلك إلا أن يحوز المرتهن جميع ذلك، سواء كان عقاراً أو غيره على المشهور، والقول بأنه يكفي في العقار حوز البعض في الموَّازيَّة. ابن عبد السلام: والقولان منسوبان للمدونة، وليس فيها عندي بيان لهما، والظاهر لا فرق بين العقار وغيره، والمذهب في الهبة أن الموهوب له يحل في الجزء الموهوب محل الواهب، سواء كان الباقي للواهب أو لغيره، وبذلك استدل للقول بأنه حيازة، وفرق للأول بأن الحيازة في الرهن أشد منها في الهبة؛ لما تقدمت الإشارة إليه من قوة ملك الراهن دون الواهب. ابن راشد: ألا ترى أن الهبة إذا رجعت إلى يد الواهب بعد طول المدة لم تبطل بخلاف الرهن. تنبيهان: الأول: قوله: (وَالْبَاقِي لِلرَّاهِنِ) ظاهره أن جميع الباقي للراهن، وليس ذلك بشرط في المسألة، بل وكذلك إذا كان له حصة أخرى لم يرهنها، والله أعلم. الثاني: خصص المصنف الخلاف بما إذا كان جميعه للراهن بالعقار، وهي طريق أكثر الشيوخ، ولم يحكوا في غير العقار خلافاً أنه لا بد من حوز الجميع، وحكى اللخمي الخلاف في غير العقار أيضاً. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لا يُمَكَّنُ مَنْ قَبَضَ فِي اسْتِئْجَارِ جُزْءٍ غَيْرِهِ، ويَقْسِمُ أَو يَقْبِضُهُ الْمُرْتَهِنُ .... يعني: وعلى المشهور وهو قول ابن القاسم أنه لا يشترط في غير العقار أن يحوز المرتهن الجميع، بل يكفي أن يحل محل الراهن، فلا يمكن الراهن إذا استأجر نصيب شريكه من قبض أجرة ذلك النصيب لأجل أنه تجول يده فيما اكتراه وفيما رهنه، فيبطل

حق المرتهن، فإذا استأجره صحت الإجارة وقسم بينهما أو يقبض له المرتهن، وفهم من كلامه صحة الإجارة، ونص في المدونة وغيرها على أنه لا يمنع من الإجارة ابتداء. وقال: على المشهور؛ لأنه على قول أشهب لا يتأتى هذا. تنبيهان: الأول: يفهم من كلام المصنف أنه لا يمكن في العقار من قبض في استئجار جزء غيره على قول ابن القاسم وأشهب، ولعل المصنف لما رأى أن [514/أ] نصه على غير العقار يستلزم معرفته في العقار بخلاف العكس؛ فإنه لا يفهم من ذلك إلا بتأمل اقتصر على بيان الحكم في غير العقار. الثاني: لا فرق بين قسمة الرقاب والمنافع في تصحيح الرهن، قاله اللخمي. ولَوْ كَانَ الشَّرِيكُ أَمِينَهُمَا ثُمَّ رَهَنَ حِصَّتَهُ وَجَعَلا الأَوَّلَ أَمِينَهُمَا بَطَلَ حَوْزُ الْحِصَّتَيْنِ .... يعني: إذا كانت دار أو غيرها شركة بين اثنين، فرهن أحدهما حصة من شخص وجعل الراهن والمرتهن الشريك أمينهما، ثم رهن أيضاً الأمين حصته لمرتهن الحصة الأولى وجعل الراهن الأول أمينهما؛ بطل حوز الحصتين، لأن الرهن صار بيد الراهن الأول والثاني. وما ذكره المصنف ذكر ابن المواز أنه سمعه من أصحاب مالك. محمد: ولو جعلا نصيب الثاني على يد أجنبي أو يد المرتهن بطلت حصة الثاني فقط، يريد لأنه حائز لنصيب الراهن الأول، فيبقى ذلك في يده وهو مشاع، فيبطل ما ارتهنه. التونسي والمازري وغيرهما: وهذا إنما ينبني على أحد القولين فيمن رهن نصف داره من رجل وبقي الراهن يحوز مع المرتهن؛ أن ذلك يمنع من صحة حوز الرهن، وأما على

القول بصحة هذا الحوز؛ فلا يبطل رهن الباقي، وإن كانت يد الراهن باقية على نصيب شريكه، وهو تخريج ظاهر؛ لأن قصارى أمره أن يكون بمنزلة ما لو كان الجميع له، ولا إشكال في صحة الرهن الأول، لأنه لا نظر له في شيء من الدار. وَالْحَوْزُ الْمُتَقَدِّمُ لِغَيْرِ الرَّهْنِ كَالْمُتَأَخِّرِ لا يَكُونُ حَوْزاً عَلَى الأَصَحِّ قد تقدم أنه يصح رهن المساقي والمستأجر، وتكلم المصنف هنا على حوز ذلك، والأصح لابن القاسم؛ ففي المجموعة: مذهب ابن القاسم أنه يجوز للرجل أن يرهن ما هو بيده بإجارة أو مساقاة ويكون ذلك حوزاً للمرتهن، مثل الذي يخدم العبد ثم يتصدق به على آخر بعد ذلك، فيكون حوز المخدم حوزاً للمتصدق عليه، ومقابله لمالك في الموَّازيَّة: أن من اكترى عبداً أو داراً سنة أو أخذ حائطاً مساقاة ثم ارتهن شيئاً من ذلك قبل فراغ أجله، فلا يكون حوزاً للرهن؛ لأنه محوز قبل ذلك بوجه آخر. قيل له: ما الفرق بين هذا وفضلة الرهن وقد تقدم فيه حوز الأول؟ قال: هذا محوز عن صاحبه والأول هو باسم صاحبه في المساقاة والكراء. ابن المواز: هذا محوز له والرهن محوز عنه، فهما وجهان. ابن عبد السلام: وهو فرق جلي يظهر صوابه إثر تصوره، وإن كان ابن يونس لم يرتضه. وقال: إنهما سواء. ولابن الماجشون نحو ما في الموَّازيَّة، وتصحيح المصنف موافق لاختيار ابن يونس. وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مُكَاتَبَ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهِ، بِخِلافِ عَبْدِهِ ومُسْتَوْلَدَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ يعني: ويجوز للمرتهن أن يوكل مكاتب الراهن في قبض الرهن، لأنه قد أحرز نفسه وماله، بخلاف العبد والمستولدة، فإن للسيد انتزاع مالهما، فما تحت أيديهما بمنزلة ما هو تحت يده، وكذلك له النظر التام في مال ولده الصغير، وفي معناه الكبير السفيه، ولا

خلاف في ذلك، واختلاف في الابن المالك لأمره البائن عن أبيه. فقال ابن القاسم: لا ينبغي ذلك ويفسخ. وقال سحنون: ذلك جائز. وقاله ابن الماجشون في البنت والابن، وأما وضعه بيد زوجة الراهن؛ فقال ابن القاسم في المجموعة وغيرها: لا يجوز ذلك. وقال أصبغ: إن حيز ذلك عن راهنه حتى لا يلي عليه ولا يقضي فيه جاز. وأما وضعه على يد أخ الراهن؛ فقال ابن القاسم في الموَّازيَّة والعتبية: لا ينبغي ذلك، وضعفه، وقال في المجموعة: ذلك رهن تام، وهو أصح. انتهى. عبد الملك: ولو كان ليتيم وليان فأخذ اليتيم ديناً ورهن به رهناً ووضع على يد أحدهما لم يتم بذلك الحوز؛ لأن الولاية لهما ولا يجوز الرد على نفسه. المازري: وأما حوز القيم بأمور الراهن المتصرف في ماله وشئونه؛ فقد وقع في الرواية أنه إن حاز جميع الرهن كدارٍ رهن الراهن جميعها فحازها القائم بشئون الراهن للمرتهن بإذنه؛ فذلك حوز لا يبطل الرهن، وإن كان إنما رهن الراهن نصفها وأبقى النصف الآخر على ملكه وتصرفه، فإن قبض القائم بشئون الراهن لا يصح؛ لكون الجزء الآخر الذي لم يرتهن بحوز هذا القائم بنيابة عن الراهن، وهو غير مميز من الجزء المرتهن؛ فكان يد المرتهن على جميع الرهن. انتهى. وقاله ابن الماجشون، وزاد إلا أن يكون عبداً فلا يجوز بيعه، يعني: وإن رهن الجميع؛ لأن حوز العبد حوز لسيده، كان مأذوناً له أو لا. وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَدْلٍ فَهُوِ لَهُ أي: إذا وقع الشرط على أن يكون بيد المرتهن أو عدل عمل عليه، وإلا فنص ابن القاسم في العتبية على ما ذكره المصنف: أن القول قول من دعا إلى وضعه بيد العدل، أما الراهن فلأنه قد يكره حيازة المرتهن خوف أن يدعي ضياعه، وأما المرتهن فليدفع عن

نفسه حفظه، والضمان على تقدير هلاكه إن كان مما يغاب عليه، ونص اللخمي على أنه إذا كانت العادة تسليم الرهن للمرتهن؛ أنه يقضي له بذلك كالشرط. فَإِنْ أَسْلَمَهُ دُونَ إِذْنِهِمَا ضَمِنَ أي: فإن أسلم العدل الرهن دون إذن الراهن والمرتهن ضمن، ولم يبين المصنف ما الذي يضمن، وكذلك لم يبين هل الرهن مما يغاب عليه أم لا. وفي المدونة: وإن تعدى العدل في رهن على يده فدفعه إلى الراهن أو المرتهن فضاع وهو مما يغاب عليه؛ فإن دفعه إلى الراهن ضمنه للمرتهن. ابن يونس وغيره: يريد أنه يضمن له الأقل من قيمته أو من الدين، لأنه إن كانت قيمته أقل فهو الذي أتلفه عليه، وإن كان الدين أقل لم تكن له المطالبة بغيره. قال في المدونة: وإن دفعه للمرتهن ضمنه الراهن، فإن كان الرهن كفاف [514/ب] الدين؛ سقط دين المرتهن لهلاكه بيده، وإن كان فيه فضل ضمن العدل فضله للراهن. ابن يونس: يريد ويرجع به على الراهن. اللخمي وابن عبد السلام: وهذا إذا كان بعد الأجل أو قبله ولم يعلم بذلك حتى حل الأجل، فأما إن علم بذلك قبل الأجل؛ كان للراهن أن يغرم القيمة أيهما شاء؛ لأنهما متعديان عليه، هذا في دفعه، وهذا في أخذه، وتوقف القيمة على يد عدل غير الأول خيفة أن يتعدى عليه ثانية، وللراهن أن يأتي برهن مكان الأول ويأخذ القيمة. أبو الحسن: وانظر قوله في المدونة: وهو مما يغاب عليه؛ مفهومه أن ما لا يغاب عليه ليس كذلك، وهذا إنما يضمنه بالعداء، وما يضمن بالعداء لا يفصل فيه بين ما يغاب عليه أو لا، ولعله إنما ذكر ما يغاب عليه لأجل المرتهن الذي يضمن القيمة. ولكن قوله: (مِا يُغَابُ عَلَيْهِ) إنما هو في السؤال فلا يعمل بمفهومه، ولا فرق بين ما يغاب

عليه، وما لا يغاب عليه؛ لأن العدل والمرتهن متعديان، وهو الذي يظهر من كلام اللخمي المتقدم. انتهى. ومن أحب الزيادة على هذا أو الاطلاع على مسألة محمد والكلام عليها فلينظر ابن يونس. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي عَدْلَيْنِ؛ فَقِيلَ: يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ. وقِيلَ: عَدْلُ الرَّاهِنِ يعني: فإن أحب الراهن عدلاً وأحب المرتهن غيره، فقال محمد بن عبد الحكم: ينظر الحاكم في ذلك. والقول بأن ذلك للراهن للخمي، قال: وهو أنظر لنفسه في حفظه ومن يثق به. ابن عبد السلام: ويظهر الأول فيما إذا ادعى كل واحد منهما العدالة في شخص ونازعه الآخر، ويظهر الثاني فيما إذا اتفقا على عدالته، لكن المسألة مفروضة عند الشيوخ فيما هو أعم من كل واحدة من الصورتين. قال في المدونة: وإن مات العدل وبيده رهن فليس له أن يوصي عند موته بوضعه عند غيره، والأمر في ذلك للمتراهنين. وَيُشْتَرَطُ دَوَامُ الْقَبْضِ أي: يشترط دوام القبض في الاختصاص بالرهن، والمراد بدوام القبض أن يكون الرهن بيد المرتهنين أو بيد العدل لا بيد الراهن وقت الحاجة إليه، خلافاً للحنيفة في قولهم: إن رجوعه إلى يد الراهن بالعارية أو بالإيداع لا يبطل بخلاف الإجارة. واستدل أهل المذهب بقوله تعالى: (فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ) [البقرة: 283] وقالوا: هذه الصفة مطلوبة في الرهن لقصد التوثق، والمطلوب من التوثق أن يكون الرهن محوزاً عن الراهن. فَلَوْ عَادَ اخْتِيَاراً فَلِلمُرْتَهِنِ طَلَبُهُ قَبْلَ فَوْتِهِ بِعِتْقٍ أَوْ تَحْبِيسٍ أَو قِيَامِ الْغُرِمِاءِ يعني: فلو عاد الرهن إلى الراهن اختياراً من المرتهن أو بوديعة أو إجارة؛ فللمرتهن طلب الرهن، قاله ابن القاسم وأشهب.

اللخمي: وإنما يرجع في الإجارة إذا انقضت مدتها، وإن قام قبل ذلك وقال: جهلت أن ذلك نقض لرهني وأشبه ما قال؛ حلف ورده ما لم يقم الغرماء. فإن قلت: كيف تتصور الإجارة والغلة إنما هي للراهن، وكيف يتصور أن يستأجر من نفسه؟ قيل: يحمل ذلك على ما إذا كان المرتهن اكتراه ثم أكراه للرهن. وقوله: (إِلا أَنْ يَفُوتَ بِعِتْقٍ ... إلخ) أي: له الطلب إلا في وجهين: الأول: أن يقوم الغرماء. والثاني: أن يفوت بتحبيس أو عتق. ابن القاسم وأشهب: أو بتدبيره ونحوه. وفي الفوت بالتدبير نظر، لأنه لا يمنع ابتداء الرهن فكيف يمنع استصحابه، إلا أن يكون معنى قولهما أنه لا يمكن المرتهن من بيع المدبر الآن، ولكن يرد إليه ليحوزه على نحو ما يحوز المدبر في الارتهان، فقد أشار بعضهم إلى هذا. وقال: (اخْتِيَاراً) لأنه لو عاد بغير الاختيار فله القيام مطلقاً، سواء قام الغرماء أو لم يقوموا، فوته بما ذكر أو لا. وَالْعَارِيَةُ الْمُؤَجَّلَةُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّدِّ فَلَهُ ذَلِكَ أي: إذا أعاره على الرد؛ سواء أجله بموت أم لا كذلك له الطلب، ولو قال: والعارية على الرد لأجاد، لأن قوله: (الْمُؤَجَّلَةُ) إنما يتبادر الذهن منه إلى غير المؤجلة بمدة معنية. ووقع في بعض النسخ: (وَالْعَارِيَةُ الْمُؤَجَّلَةُ أَوْ عَلَى الرَّدِّ كَذَلِكَ) وهي أحسن من الأولى لأخذ المسألة؛ لكن فيها أيضا نظر من وجه آخر، وهو أن قوله: (الْمُؤَجَّلَةُ) مستغنى عنه؛ لأن قوله: (عَلَى الرَّدِّ) يشمل الصورتين كما ذكرنا. وقوله: (كَذَلِكَ) أي: لا يبطل الرهن فله ذلك، أي: الطلب ما لم يفت أو تقم الغرماء، ولو اقتصر على قوله (كَذَلِكَ) لكفى.

وَفِي سُقُوطِ طَلَبِهِ بِالْعَارِيَةِ مُطْلَقاً قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ هذا كله مع عود الرهن بالاختيار. وحاصله: أن ابن القاسم جعل له الطلب في الإجارة والوديعة والعارية على الرد وأبطل الرهن إذا أعاره إعارة مطلقة من غير تقييد برده، وسوى أشهب بين الجميع. اللخمي وغيره: وقوله أبين. وقال: فإن كانت العارية إلى أجل ارتجعها إذا انقضى ذلك الأجل، ويختلف إذا لم يكن ضرب أجلاً؛ لأن العارية لا أمد لها، وقد قيل في هذا الأصل: إنها تبقى إلى مدة يرى أن يعير إلى مثلها. خليل: وقد قيل لا يلزم هنا التأخير إلى مدة يمكن الانتفاع بها، ويفرق بين العارية وغيرها بأن يقال: الرهن بيد الراهن يضعف حيازة المرتهن، والله أعلم. ولا فرق على القولين بين أن يكون المستعير هو الراهن أو غيره، فقد حكى المازري القولين إذا أعاره لرجل أجنبي، وذكر عن ابن حارث ثالثاً بالتفصيل إن كان الراهن هو الراغب للمرتهن في أن يمكن المستعير من الرهن فمكنه، فإن ذلك كتمكين الراهن من الرهن، وإن كان الراغب فيه هو المرتهن؛ فإن ذلك لا يبطل الحوز، قال: ويرد هذا التفصيل في الإجارة. ونسب اللخمي القول الذي نسبه المصنف لابن القاسم لمالك، وأشار إلى أنه يمكن حمله على أنه استردها قبل أن تمضي مدة تعار إلى مثلها لا على أنه سقط طلبها بالكيلة. ابن راشد: وإذا فرعنا على قول ابن القاسم [515/أ] بالبطلان، فلو رده الراهن باختياره، فهل يكون رهناً على حاله الأول أم لا؟ قولان لابن القاسم وغيره حكاهما في المتيطية وبناهما على الخلاف في افتقار الرهن إلى التصريح به أم لا.

ولَوْ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي وَطْءٍ بَطَلَ الرَّهْنُ، وكَذَلِكَ فِي إِسْكَانٍ أِو إِجَارَةٍ مقتضاه: أن مجرد الإذن كافٍ في البطلان وهو نص المدونة في حريم البئر، ففيها: لو أذن المرتهن للراهن أن يسكن أو يكري؛ فقد خرجت الدار من الرهن وإن لم يسكن ولم يكرِ. وقال أشهب: بل حتى يكريها. وظاهر كلام غير واحد أن قول أشهب خلاف، وصرح بذلك المازري. وقال ابن حارث: معنى قول ابن القاسم أن الرهن كان على يد أمين، ومعنى قول أشهب: أن الرهن كان على يد المرتهن. وهكذا نقل ابن راشد قول ابن حارث، وذكره المازري على أنه قول ثالث في المسألة، فقال: فقد رأى ابن القاسم أن مجرد الإذن كالترجيح بإسقاط حق المرتهن، وكما أن عقد الرهن يلزم بالقول فكذلك يسقط وهو الأشبه بأصل المذهب، واستصحب أشهب الحوز. تنبيه: وقع في المدونة في الرهن فيمن ارتهن رهناً فقبضه ثم أودعه للراهن أو أجاره أو أعاره إياه أو رده إليه بأي وجه كان حتى يكون الراهن هو الحائز له؛ فقد خرج من الرهن. وجعله ابن عبد السلام مخالفاً لما في كتاب حريم البئر، وكذلك قال أبو الحسن، وظاهر هذا: أن مجرد الإذن لا يبطل، وفيه نظر؛ لأنه لا منافاة بين البابين، لأنه نص في باب الرهن على وجه متفق عليه، وبين ما في حريم البئر أن الرهن يبطل بمجرد الإذن، وقد حمل ابن يونس وغيره ما في حريم البئر على أنه تقييد لما في الرهن، ولم ينقل المازري عن ابن القاسم إلا ما في حريم البئر، والله أعلم. وَلَكِنْ يَتَوَلاَّهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِهِ ضمير (يَتَوَلاَّهُ) عائد على ما فهم من إجارة وإسكان، يعني: ولكن إن أراد الجمع بين صحة الإجارة وتمام الرهن فليتول المرتهن الكراء بإذن الراهن له في ذلك. وظاهر

كلامه: أنه لو لم يأذن له لم يكن له ذلك، وهو قول ابن القاسم وأشهب، زاد أشهب: إلا إذا اشترط أن كراءه رهن مع رقبته؛ فله أن يكريه حينئذ بغير إذنه. وقال ابن عبد الحكم: للمرتهن أن يكري الرهن دون إذن الراهن. ونقل بعضهم عن ابن الماجشون: أن المرتهن إذا ترك كراء الدار ولكرائها خطب وقدر؛ أنه ضامن يوم ارتهانها، لأنه تعمد إبطالها ما لم يكن الراهن عالماً بذلك، فحينئذٍ لا يكون على المرتهن ضمان، لأن رد بينته وسكوته رضى. وحكى بعضهم عنه أنه يستحب لمرتهن الدار أن يكري الدار بؤامرة ربها إن كان حاضراً، وإن ترك ذلك جاز ومضى إذا اجتهد، ولا منافاة بينه وبين ما حكى الأول فتأمله. وَيَدُ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ الْفَلَسِ لا يَثْبُتُ بِهَا الْحَوْزُ وَإِنِ اتَّفَقَا، إِلا بِبَيِّنَةٍ بِمُعَايَنَتِهِ أَنَّهُ حَازَهُ قَبْلُ .... يعني: إذا وجد بيد من له دين على شخص سلعة للمدين بعد موته أو فلسه وادعى أنها رهن عنده؛ لم يصدق في ذلك ولو وافقه المرتهن؛ خشية أن يتقارر الإسقاط حق الغرماء. عبد الملك: وفي الموَّازيَّة والمجموعة: ولا ينفعه ذلك حتى يعلم أنه حازها قبل الموت والفلس. محمد: صوابه لا ينفعه إلا بمعاينة الحوز، وهو الذي ذكر اللخمي أنه لا بد من معاينة البينة لقبض المرتهن، وذكر ابن يونس أول كتاب الرهن قولين؛ أعني: هي يكفي معاينة الحوز أو التحويز؟ واختار الباجي الحوز. قال: ولعله قول محمد، ولكن ظاهر لفظه خلافه. وذكر ابن عبد السلام عن بعض الأندلسيين: أن الذي جرى عليه العمل عندهم أنه إذا وجد الرهن بيد المرتهن وقد حازه كان رهناً، وإن لم يحضر الحيازة. وفي المقدمات: ولو وجد الرهن بيد المرتهن فادعى أنه قبضه قبل التفليس وجحد ذلك الغرماء؛ جرى الأمر فيه على الاختلاف في الصدقة توجد بيد المتصدق عليه بعد موت المتصدق فيدعي قبضها في صحته. وفي المدونة دليل على القولين جميعاً، ولو لم يتعلق بذلك حق الغرماء لوجب

أن يصدق المرتهن. ويقبل إقراره أنه قد حاز الرهن فيكون إقراره له كشاهد على حقه إلى مبلغ قيمته. ابن عبد السلام: ولو شهد شاهدان بالحيازة وآخران بعمدهما عمل بشهادة الحيازة لزيادتها. وقول المصنف: (بِمُعَايَنَتِهِ أَنَّهُ حَازَهُ) يحتمل كلاًّ من القولين، لكن المفهوم من المعاينة أنه لا بد من الشهادة على الحوز. وَكَذَلِكَ يَدُ الأَمِينِ يعني: فلا يقبل قوله أنه حازه إلا بالبينة، وهكذا نقل الباجي عن ابن الماجشون، واقتصر عليه اللخمي ولم يعزه، وبه قال ابن عتاب، قال: شهادة الأمين في ذلك ضعيفة. وقال سحنون: تقبل شهادة العدل الموضوع على يده الرهن في الدين. وَلَوْ بَاعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ نَفَذَ وَأَتَى بِرَهْنٍ مَكَانَهُ يعني: فلو باع الراهن الرهن قبل أن يقبضه المرتهن نفذ البيع وإن كن لا يجوز له ذلك ابتداء، ولزم الراهن أن يأتي برهن آخر مكان المبيع يوضع إلى أجله. وهذه إحدى روايتي الموَّازيَّة، ونقله محمد عن ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم. والرواية الثانية: أنه لا يلزمه الإتيان برهن، ونقله أيضاً عن ابن القاسم، ونص ابن عبد السلام على أن هاتين الروايتين فيما إذا لم يفرط في الطلب، ونقل عن بعضهم أنه جعل للمرتهن نقض البيع ورد الرهن على ما وقع عليه الشرط أولاً، فإن فات بيد مشتريه كان الثمن رهناً، وظاهر المدونة كالثانية خلاف ما ذكره المصنف، ولفظها: وإن بعت من رجل سلعة على أن يرهنك عبده ميموناً ففارقته قبل قبضه؛ لم يبطل الرهن ولك أخذه منه ما لم تقم الغرماء فتكون أسوتهم، وإن باعه قبل أن يقبض منه مضى البيع، وليس لك أخذه برهن غيره؛ لأن تركك إياه حتى باعه كتسليمك إياه. فظاهر احتجاجه بقوله: "لأن

تركك إياه ... إلخ" راجع إلى سقوط طلب المرتهن لرهن آخر لا إلى نقض البيع. وتأول ابن القصار وغيره المدونة على أن المرتهن فرط في قبض الرهن وتوانى، لقوله: "لأن تركك إياه .. إلخ" ولو لم يكن من المرتهن تفريط ولا توان لكان له مقال في رد البيع، فإن [515/ب] فات بيد مشتريه كان الثمن رهناً، وكذلك تأولها الشيخ أبو محمد على أنه تراخى في القبض، فإن لم يتراخَ في القبض فبادر الراهن البيع لم يبطل الرهن ومضى البيع وكان الثمن رهناً، وعلى هذا فيتلخص أن البيع يمضي إن كان المرتهن فرط، وإن لم يفرط فقولان، ونص عبد الملك في المجموعة على إمضاء البيع وإن لم يفرط. عياض: وأشار بعض شيوخنا إلى أن هذا فيما كان من الرهن شرطاً في أصل العقد فباعه الراهن بعد التراخي، وأما ما كان بيعه مبادرة لإخراجه من الرهن فينتقض فيه البيع، فإن فات في يد مشتريه بقي الثمن رهناً، وأما ما تطوع به من الرهن بعد العقد فحكمه في بيعه قبل قبضه كحكم بيع الهبة قبل قبضها. ونقله ابن عبد السلام عن غير واحد، وقيد ابن المواز وغيره ما تقدم من إمضاء بيع الرهن ولا طلب له برهن آخر بما إذا أسلم البائع السلعة، ولو بقيت بيده لم يلزمه تسليمها فرط أو لا حتى يأتي برهن. وَبَعْدَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَهُ رَدُّهُ فإِنْ أَجَازَهُ تَعَجَّلَ حَقَّهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ إِذَا بِيعَ بِمِثْلِ الدَّيْنِ وقَدْرِهِ فَأَكْثَرَ مَضَى وتَعَجَّلَ، وإِلا فَلَهُ أَنْ يُجِيزَ أَو يَرُدَّ .... وإن باع الراهن الرهن بعد قبض المرتهن له بغير إذنه؛ فمذهب المدونة: له إجازته ورده، فإن أجاز تعجل حقه. (وَرُوِيَ ... إلخ) هو لمالك في الموَّازيَّة. وأول صاحب البيان المدونة على وجه تتفق فيه مع الموَّازيَّة، لأنه قال: معنى المدونة أن له رد البيع إذا باعه بأقل من حقه، أو كان الدين عرضاً أنه لا يلزمه قبض العرض قبل حلوله إلا أن يكون من قرض، ونحوه للخمي، ولعل المصنف لهذا لم يصرح بمخالفة الرواية الثانية للأولى، وإلا

فكان يمكنه أن يقول: فإن بيع بأقل من الدين أو بغير جنسه خير المرتهن، وإلا ففي تخييره قولان لابن القاسم ومالك ليكون أخصر. وقوله في المدونة: وإن أجاز تعجل حقه. قال فيها: شاء الراهن أو أبى، وهو مقيد بأن يحلف أنه إنما أجاز لذلك. صرح بذلك في التلقين، وقوله في الموَّازيَّة: بمثل الدين. أي: في الجنس والصفة والقدر. ابن راشد: وقوله: وإلا يدخل فيه ثلاث صور، وهي واضحة. ونص هذه الرواية عند ابن يونس: وإن باعه بعد الحوز وهو بيد المرتهن أو بيد أمين؛ فإن باعه بمثل الحق فإنه يجعل للمرتهن حقه، وإن لم يحل الأجل وينفذ البيع، ولا حاجة للمرتهن في حقه لأنه مضار إلا أن يباع بأقل من حقه فله أن يرده أو يمضيه ويتعجل الثمن ويطلبه بما بقي. ابن المواز: وكذلك إن باعه بثمن يخالف حق المرتهن فله نقض البيع. محمد: وقد كان من رواية ابن القاسم وأشهب: أنه إذا باعه بعد الحوز فلا بيع له ويرد والأولى أحب إلي وعليه أصحابه أنه ينفذ بيعه ويتعجل حقه إن بيع بمثل دينه. أشهب: وإن استهلك ثمن الرهن قبل أن يدفعه إلى المرتهن؛ فإن كان عنده وفاء وداه وتم البيع وإلا فللمرتهن رد البيع، وانظر كيف جعل قوله: (إِنْ بِيعَ بِمِثْلِ الدَّيْنِ) في الرواية، وإنما هو من قول ابن المواز، وقيد اللخمي ما ذكره في الموَّازيَّة من أن للمرتهن رد البيع إذا بيع بأقل من الدين بما إذا لم يكن ذلك الوقت وقت نفاذ بيعه. قال: وإلا فلا رد له، وإن لم يوف بالدين، لأن المنع ضرر على الراهن من غير منفعة للمرتهن. وعن أشهب: إن لم يجز المرتهن بيعه وفي ثمن الرهن وفاء وللراهن مال؛ فلا يلتفت إليه ويمضي البيع وإلا نقض، وإن أجاز بيعه بغير إذنه إلى أجله ووقف له الثمن رهناً، إلا أن يأتي الراهن برهن ثقة يشبه الذي باع. وقال سحنون: وإن لم يأت برهن يشبه الذي باع عجل له الثمن، إذ لا فائدة في إيقافه، ورواه ابن عبد الحكم عن مالك.

فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ ولَمْ يُسَلِّمْهُ، وقَالً: أَذِنْتُ لأَتَعَجَّلَ؛ حَلَفَ وَأَتَى بِرَهْنٍ مَكَانَهُ، فَإِنْ أَسْلَمَهُ بَطَلَ رَهْنُهُ .... يعني: فإن كان بيع الراهن الرهن بإذن المرتهن فإن لم يسلمه للراهن وأبقاه تحت يده، وقال: إنما أذنت له في البيع لإحياء الرهن؛ بأن يكون الثمن رهناً أو يأتي برهن ثقة لا ليأخذ الراهن الثمن؛ حلف المرتهن على ذلك وأتى الراهن برهن ثقة. قال في المدونة: يشبه الرهن الذي بيع وتكون قيمته كقيمة الرهن الأول فلك أخذ الثمن، وإلا بقي الثمن رهناً إلى الأجل ولم يعجل للمرتهن حقه، ولأشهب في المجموعة إذا باعه الراهن بإذن المرتهن فلا أرى الثمن له رهناً إلا أن يكون المرتهن اشترط ذلك، وإن اشترط عند الإذن أن يقبض حقه؛ فإن ذلك لا يصح وأراه إلى أجله، لأن اشتراط تعجيل الثمن في البيع سلف جر منفعة، وأما إن أسلم المرتهن الرهن للراهن فقد بطل الرهن، لأن دفعه الرهن للراهن دليل على إسقاط المرتهن حقه منه، وهذا مذهب المدونة. وقيل: لا يبطل، بل يحلف المرتهن ويوقف الثمن. وفي الموَّازيَّة: إذا أوصل المرتهن الرهن للراهن حتى باعه فبيعه جائز، ولا يعجل الحق كما لو باعه قبل الحوز، وإن قال المرتهن: إنما أوصلت إليك لتعجل لي حقي وأنكر الراهن، فقال أشهب: يحلف المرتهن والقول قوله، ولا يضره قيام الغرماء إن كان ذلك بقرب دفعه إليه، وإن كان ليس بقرب دفعه فقام الغرماء فهم أحق بالثمن. عياض: وقوله في المدونة: وتكون قيمته كالأول. يدل على أنه إنما يريد مثل الرهن الأول وإن كان زائداً على الدين؛ لأنه قد رضي الأخذ بذلك وعليه عقد عقده، ولهذه الزيادة فائدة، إذ قد تنخفض في الأسواق في الأجل، وقيل: معناه أن يكون الرهن حيواناً أو ما لا يغاب عليه مما لا ضمان على المرتهن فيه فيأتيه بخلافه فيلزمه.

خليل: وظاهر المدونة هو ظاهر من جهة المعنى أنه لا بد من المعنيين، لأن قوله فيها يشبه الرهن الذي بيع، أي: في كونه مما لا يغاب عليه. وقوله: وتكون قيمته كقيمته. ظاهر في اشتراط مساواة القيمة، والله أعلم. فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ [516/أ] أَوْ دَبَّرَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَو بَعْدَهُ فَكَالْبَيْعِ قَبْلَهُ، وَفِيهَا: يَتَعَجَّلُ بَعْدَهُ وَلا يَلْزَمُ قَبُولُ رَهْنٍ .... أي: فإن كان الرهن عبداً فأعتقه الراهن أو كاتبه أو دبره قبل القبض، ولا يريد أنه يجوز له ذلك ابتداء، فإن ذلك لا يجوز، نص عليه في المدونة وغيرها، وإنما مراده لو فعل. وظاهر قوله: (كَالْبَيْعِ قَبْلَهُ) أنه يمضي ما فعله ويأتي برهن ثقة، ويحتمل أن يريد بقوله: (فكالبيع) أي: في لزوم فعله وتعجيل الحق، ويكون قوله بعد هذا: (وَفِيهَا: يَتَعَجَّلُ .... إلخ). بياناً لذلك، وهذا الوجه وإن كان بعيداً من لفظه إلا أنه ينبغي أن يعتمد عليه هنا، لأن النقل لا يصحح الوجه الأول، وسيظهر لك ذلك. وقوله: (أَو بَعْدَهُ) يحتمل بعد القبض وهو ظهر لفظه، ويحتمل بعد ما فعله من عتق أو كتابة أو تدبير، وهذا الثاني أقرب لما في المدونة؛ لأنه لم يذكر فيها قبضاً، ففيها: ومن رهن عبداً ثم كاتبه أو عتقه جاز ذلك إن كان ملياً وعجل الدين. زاد في رواية ابن عتاب: أن يكون في ثمن الكتابة إذا بيعت وفاء الدين فتجوز الكتابة. ثم قال فيها: وإن دبره بقي رهناً، لأن للرجل رهن مدبره. وروى ابن وهب عن مالك: التدبير مثل العتق، ويعجل له دينه، وعلى هذا ففي نقل المصنف لمذهب المدونة نظر، لأنه ترك رواية ابن القاسم. فإن قلت: لعله اختار رواية أشهب كما اختارها سحنون وغيره، لأن ما رواه ابن القاسم فيه احتمال إبطال التدبير لإعسار السيد بالثمن عند الأجل، قيل: ولو اختارها لكان ينبغي أن ينبه على رواية ابن القاسم.

فإن قلت: فلم عجل الدين في العتق والكتابة؟ قيل: لأنهم عدوه بقوله راضياً بتعجيل الدين، لأن الرجوع في الرهن لا يجوز والرد في الرق لا يجوز، فلم يبق إلا تعجيل الدين. وقلنا: النقل لا يصحح الوجه الأول؛ لأن كلام المصنف يشتمل على ست مسائل، إذ كل من العتق والكتابة والتدبير صورتان؛ إحداهما قبل قبض المرتهن. والثانية بعده. وإذا حملنا كلامه على ظاهره يلزمه أن يكون الحكم في الستة أنه يمضي فعله ويأتي برهن ثقة. ولنذكر ما في ذلك قبل القبض وبعده، أما قبل القبض فلم يصرح أحد فيما رأيت بالإتيان برهن، بل نص أشهب على أنه لا يلزم الإتيان برهن، وظاهر المدونة: أنه يعجل الحق في الكتابة دون التدبير كما تقدم، إذ لم يفرق فيها بين قبل القبض ولا بعده، وصرح ابن القاسم بذلك في العتبية، خلافاً لرواية ابن وهب أنه يجعل فيها كما تقدم، ونقل اللخمي في العتق والكتابة والإيلاد والتدبير قبل الحوز قولين: أولهما لابن القاسم في العتبية: أن بيعه قبل الحوز أو عتقه أو وطئه أو هبته أو صدقته جائزة، ويؤخذ ما عليه من الدين ويقضي صاحبه، وإن لم يكن موسراً لم يجز شيء إلا أن يولد أو يبيع. والثاني: أن ذلك لا يعد رضى ولا يعجل الدين، قال: ويختلف على القول بأن ذلك ليس برضى في البيع، هل يعجل الثمن الذي بيع به، أو يأخذه الراهن ولا شيء للمرتهن فيه. انتهى. اللخمي: وقال أشهب في الموَّازيَّة: أما الكتابة والتدبير؛ فللمرتهن أن يقبض رهنه فيكون محوزاً وهو مكاتب أو مدبر وتكون الكتابة رهناً ولا تكون خدمة المدبر رهناً، وقد قال محمد: والكتابة مثل الخدمة. اللخمي: يريد ويأخذ السيد كلما حل نجم، فإن أدى كان حرًّا ولا شيء فيه للمرتهن، وإن عجز كان رهناً. ويصح كلام المصنف في العتق على ما تقدم عن ابن المواز؛ لأنه قال: تعدي الراهن في العتق كتعديه في البيع عند مالك قبل

القبض أو بعده، وقد تقدم أن في إحدى الروايتين أنه لا يلزمه أن يأتي برهن آخر، وأما بعد القبض فقد تقدم ما في المدونة، ولم أر من قال بالإتيان برهن آخر إلا الأبهري، فإنه قال بذلك في العتق خاصة، وهكذا قال ابن راشد، وألزمه اللخمي أن يكون في الإيلاد كذلك، وقال أشهب مثل ما قدمناه عنه، ونص قوله في ابن يونس: وقال أشهب: هما - أي الكتابة والتدبير - مثل العتق؛ إن كان ملياً أخذ منه الحق معجلاً إن كان ذلك بعد الحيازة، وإن لم يكن ملياً بقي ذلك بيد المرتهن بحاله، فإن أدى الدين نفذ ما صنع الراهن، وإن لم يؤده بطل صنعه وبيع ذلك، وإن كان في بعض ثمنه وفاء؛ بيع في العتق بقدر الدين وعتق الباقي. أشهب: وأما في الكتابة والتدبير والولادة فيباع ذلك كله ويكون قبض ثمنه لسيده، إذ لا يكون بعض أم ولد ولا بعض مكاتب ولا مدبر. ابن يونس: وقال ابن المواز: وأما في الكتابة والتدبير فيبقى رهناً بحاله؛ لأن الكتابة مما يباع وإن تم الأجل وفيها وفاء بيعت وإن كان فيها فضل لم يبع منها إلا قدر الدين، وإن لم يكن فيها وفاء إلا ببيع الرقبة بيعت الرقبة، وكذلك المدبر إذا حل الأجل بيع كله ولا يجوز بيع شيء منه على أنه مدبر على حاله لا على أن يقاويه فيه، وأما إذا أولد الراهن الأمة فيجوز بيع بعضها ويبقى باقيها بحساب أم الولد، وكذلك يباع بعض المدبر على أنه رقيق للمبتاع ويبقى باقيه مدبراً؛ لجواز تدبير أحد الشريكين نصيبه بإذن شريكه، ولا يجوز ذلك في الكتابة. وَقَالَ أَشْهَبُ: وَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَيَسْتَوْفِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وقَالَ مُحَمَّدٌ: مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ عَجَزَ .... ظاهره أن أشهب يخيره، فإن شاء تعجل حقه، وإن شاء تمسك بالمكاتب والمدبر ويستوفي من كتابته، يعني: بخلاف خدمة المدبر فإنها لا تكون رهناً كما تقدم. وحكى ابن يونس عن بعضهم أنه اتفق ابن القاسم وأشهب على أنه إذا كاتب العبد وهو موسر أنه يؤدي الدين وتتم الكتابة، وهو يناقض ما حكاه المصنف عن أشهب، لكن قد [516/ب]

تقدم عن أشهب من كلام اللخمي مثل ما حكاه المصنف، وهو قوله: وقال أشهب في الموَّازيَّة: أما الكتابة والتدبير فللمرتهن أن يقبض رهنه فيكون محوزاً وهو مكاتب ومدبر وتكون الكتابة رهناً، لكن إنما قال أشهب هذا قبل القبض، وأما بعده فقال: يعجل الحق إن كان ملياً، وهذا لا يؤخذ من كلام المصنف. اللخمي: وقال محمد: والكتابة مثل الخدمة، يريد فيأخذ السيد كلما حل نجم، فإن أدى كان حرّاً ولا شيء فيه للمرتهن، وإن عجز كان رهناً. انتهى. وهذا الذي حكاه المصنف عن محمد بقوله: وقال محمد: من ثمنه إن عجز، أي: وقال محمد يستوفي من ثمنه إن عجز ولا شيء له من نفس الكتابة. اللخمي: وعلى قول أشهب كلما حل نجم أخذه المرتهن من دينه؛ إذ لا فائدة في وقفه، فإن وفى أو عجل الكتابة كان حراً وإن كان الدين أكثر من الكتابة، وإن عجز كان رهناً في الباقي. انتهى. وقيد ابن يونس قول محمد بما إذا لم يوف ثمن الكتابة بالدين، قال عنه ابن يونس. ابن المواز: وأما في الكتابة والتدبير فيبقى رهناً بحاله؛ لأن الكتابة مما يباع، فإن تم الأجل وفيها وفاء بيعت، وإن كان فيها فضل لم يبع منها إلا بقدر الدين، وإن لم يكن فيها وفاء إلا ببيع الرقبة بيعت الرقبة. انتهى. وَإِنْ كَانَ مُعْسِراً بَقِيَ رِهْناً، ومَتَى أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ نَفَذَ أي: فإن كان الراهن معسراً. ودل كلامه هذا على أن كلامه السابق مقيد باليسير. قال في المدونة: وإن أعتق وهو عديم بقي العبد رهناً، فإن أفاد ربه قبل الأجل مالاً أخذ منه الدين ونفذ العتق. وقال بعد هذا: وإذا أعتق المديان عبده وأراد الغرماء رده رد العتق وبيع، إلا أن يقول لهم العبد: خذوا دينكم، أو يتبرع لهم بذلك أجنبي فإنه ينفذ العتق،

فالضمير في (مِنْهُ) عائد على الراهن وهو ظاهر، ولا إشكال في هذا إذا أعطى العبد ذلك على ألا يرجع به على السيد، وأما إن أداه ليرجع به عليه؛ فنقل ابن يونس عن بعضهم أنه قال: ينبغي أن يكون ذلك للعبد؛ لأن الغرماء لو شاءوا أن يصبروا بدَيْنِهم ويجيزوا عتقه كان ذلك لهم، إلا أن يقال: إن عتقه في العبد لم يكن عتقاً يتم إلا بقضاء الدين، فصار كأنه أدى الدين، وهو في ملك سيده، وفي هذا نظر؛ لأن السيد لو أعتقه وللعبد على سيده دين ولم يكن استثنى ماله لوجب أن يجوز عتقه وبقي دينه في ذمة سيده، وليس له أن يرد عتق نفسه لأجل مال على سيده؛ إذ لو رده لكان للسيد أخذ ماله ولا تكون له فائدة في ذلك، كما قال: إذا زوج أمته لعبده وقبض صداقها واستهلكه ثم أعتقها قبل البناء؛ لأنه لا خيار لها، لأن ثبوت الخيار يسقطه. انتهى باختصار. ونقل بعض من تكلم على هذا الموضع قولين؛ أحدهما: أنه لا يرجع على السيد. والثاني لابن رشد، قال: والصواب أنه يرجع؛ لأنه الراهن لما تعدى فقد رضي ببقاء الدين في ذمته. فَإِذَا تَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهِ بَعْدَ الأَجَلِ بَيعَ جَمِيعُهُ، وَمَا بَقِيَ لِلرَّاهِنِ مِلْكٌ يعني: إذا أعتق وهو معسر وبقي العبد رهناً إلى الأجل؛ فإنه يباع منه عند الأجل بقدر الدين إن وجد من يشتري ذلك وأعتق ما بقي. قال أشهب: وإن لم يجد بيع كله وقضى الدين وكان لربه ما بقي يصنع به ما يشاء، لأن الحكم لما أوجب بيع جميعه صار ثمنه كله للراهن، ولو قيل بجعله في جزء حرية ما بعد، كما قالوا فيمن أعتق تطوعاً أو أهدى أو أخذ أرشاً. قال أشهب: وإنما يباع بقدر الدين في العتق، وأما في الولادة والتدبير والكتابة؛ فيباع كله ويكون فضل ثمنه لسيده، إذ لا يكون بعض أم الولد ولا بعض مكاتب ولا بعض مدبر.

وَمُعِيرُ الرَّهْنِ إِذَا أَعْتَقَهُ كَذَلِكَ يعني: أن من أعار عبداً لمن يرهنه فرهنه المستعير ثم أعتقه المعير؛ فإن كان المعير ملياً نفذ العتق، وقيل له: عجل الدين لربه إذ أفسدت عليه رهنه. قال في المدونة: إلا أن تكون قيمة العبد أقل من الدين فلا يلزمه إلا قيمته ويرجع المعير على المستعير بما أدى بعد محل الدين لا قبله، وخالف أشهب في هذا ولم يره كمن أعتق عبده بعد أن رهنه ورآه مثل الذي أعتق عبده بعد أن جنى، فيحلف المعير ما أعتقه ليؤدي الدين ويبقى رهناً حتى يقضيه حقه من ثمنه إن بيع، أو يفدى فينفذ فيه العتق، فإن نكل غرم الأقل من قيمته أو الدين ونفذ عتق العبد، ورجح محمد الأول بأن الجناية أخرجت العبد من ملك ربه إلا أن يفديه بخلاف المعير، فإن العبد لم يخرج من ملكه، وإلى أن المعير لم يكن له أن يطالب المستعير بما أدى إلا بعد أجل الدين. أشار المصنف بقوله: وَإِذَا عَجَّلَ الْمُعِيرُ لِلْمُرْتَهِنِ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بَعْدَ الأَجَلِ لأن المستعير إنما التزم أداء الدين بعد أجل الدين بعد حلول الأجل ولم يفعل شيئاً يوجب عليه التعجيل. وَيُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ، فَإِنْ فَعَلَ فَحَمَلَتْ فَالْوَلَدُ يُنْسَبُ مُطْلَقاً، ثُمَّ إِنْ كَانَ غَصْباً فَكَالْعِتْقِ ... يعني: ويمنع الراهن من وطء الأمة المرهونة؛ لأن وطأه لها تصرف في الرهن مبطل للحيازة، فإن وطئ فحملت فالولد ينسب؛ أي: الابن له مطلقاً، أي: سواء كان غصباً أم لا، كانت تخرج أم لا. ثم إن كان غصباً فكالعتق؛ أي: فيلزمه تعجيل الدين أو قيمة الأمة إن كانت أقل إن كان ملياً، وإن كان معسراً بيعت الجارية بعد الوضع. ابن يونس: وحلول الأجل، ولا

يباع ولدها لما تقدم أنه حر ينسب. ابن عبد السلام: ولم يقولوا إذا نقص ثمنها عن الدين أن الراهن يغرم الأقل من قيمة الولد أو بقية الدين مع أن الولد الحادث بعد الرهن داخل في حكم الرهن، ولو قيل به لما بعد. وفي مسائل الأمة المستحقة والمعارة وما يلاحظه. أشهب: وإن وجد من يبتاع منها بقدر الدين؛ فعلت وأعتقت ما بقي، [517/أ] وإن لم يوجد استُؤْنِي إلى الأجل، فإن وجد أيضاً ذلك، وإلا بيعت وقضي الدين، وكان ما بقي لربها يصنع به ما شاء، وهذا مأخوذ من قول المصنف فكالعتق. فائدة: تباع أم الولد هنا، وفي خمس مسائل: الأولى: الأمة الجانية إذا وطئها السيد بعد علمه بالجناية وهو عديم، فإنها تسلم للمجني عليه. الثانية: الابن يطأ أمة من تركة أبيه وعلى الأب دين يغترق التركة والابن عديم وهو عالم بالدين حالة الوطء. الثالثة: أمة المفلس إذا وقفت للبيع ووطئها وحملت. الرابعة: أمة الشريكين يطأها أحدهما وهو معسر. الخامسة: إذا وطئ العامل أمة القراض فحملت وكان معسراً. ويمكن أن تجعل هذه المسألة فائدة من وجه آخر، بأن يقال: توجد أمة حامل بحر في ست مسائل، فإن قلت: هل يتصور عكس هذا؛ بأن يكون العبد في بطن الحرة؟ قيل: نعم، وذلك إذا وطئ العبد جارية له وحملت وأعتقها ولم يعلم السيد بعتقه لها حتى أعتقه، فإن عتق العبد أمته ماضٍ وتكون حرة والولد الذي في بطنها عبد؛ لأنه للسيد. قال في الجلاب: فلو أعتقها بعد عتقه لم تعتق حتى تضع حملها، والله أعلم.

وَإِنْ كَانَتْ مُخَلاَّةً تَذْهَبُ وتَجِيءُ؛ فَقِيلَ: يُنْتَقَضُ، وَقِيلَ: كَالْغَاصِبِ هذا قسيم قوله: (إِنْ كَانَ غَصْباً) يعني: وإن لم تكن موطوءة على وجه الغصب بل كانت مخلاة تذهب وتجيء في حوائج المرتهن فوطئها الراهن بغير إذنه؛ فالمشهور: أنه ينتقض الرهن، وجعلوا كونها مخلاة كالإذن في الوطء. وقيل: كالغصب وهو قول مالك في المدونة. فتباع دون الولد، يريد: تباع بعد الأجل والوضع، إلا أن يكون له مال، وبه قال سحنون واختاره اللخمي؛ لأن الراهن في كلا الحالتين ممنوع من الوطء. وَيُمْنَعُ الْعَبْدُ مِنْ وَطْءِ أَمَتِهِ الْمَرْهُونِ هُو مَعَهَا يعني: أن السيد إذا رهن عبداً في دين وللعبد أمة أدخلها سيد العبد في الرهن لم يكن للعبد أن يطأ أمته؛ لأن ذلك يشبه الانتزاع، لأنه عرض كل واحد من العبد والأمة للبيع وقد يباعان مجتمعين ومنفردين. وقلنا: يشبه الانتزاع؛ لأنه ليس انتزاعاً حقيقة، لأن المشهور إذا فكهما السيد من الرهن فللعبد أن يطأ بالملك السابق، ولو كان انتزاعاً حقيقة لافتقر إلى تمليك ثان، كما قاله ابن المواز، وإذا منع العبد من وطء أمته المرهون هو معها فمن باب أولى أن يمتنع إذا رهنه السيد فقط، وأما إذا رهنه فقط؛ فأجاز له في الموَّازيَّة أن يطأ أمته وأم ولده إذ لم يكن المرتهن اشترط أن يكون ما له معه رهناً، وأما إن اشترط ذلك فلا. وقال بعضهم: إذا ارتهن عبداً وشرط أن ما له معه رهن معه وللعبد جارية أن للعبد أن يطأها، بخلاف ما لو رهنه هو وجاريته. ابن يونس: وهو خلاف ما في المدونة. وقول المصنف: (الْمَرْهُونِ) يجوز أن يكون صفة للأمة، ويكون حينئذ صفة جرت على غير من هي له، ولذلك أبرز الضمير في قوله: (الْمَرْهُونِ هُو مَعَهَا) ويجوز أن يرفع صفة للعبد ولا يحتاج على هذا إلى إبراز الضمير، والله أعلم.

وَإِذَا زَنَى الْمُرْتَهِنُ بِهَا حُدَّ وَلا يَنْفَعُهُ دَعْوَى الْجَهْلِ لأن المرتهن لا ملك له فيها، والمرتهن والأجنبي فيها سواء، ولا يعذر بشبهة الارتهان. قال في المدونة: لا يلحق بالمرتهن الولد ويكون مع الأم رهناً، وعليه ما نقصها العبد، بكراً كانت أو ثيباً إذا أكرهها، وكذلك إذا طاوعته وهي بكر؛ يعني: بخلاف الثيب. وقال أشهب: لا شيء عليه في المطاوعة، وإن كانت بكراً كالحرة. وفرق لابن القاسم: بأن الوطء هنا جارٍ على ملك السيد، وصوبه ابن يونس وغيره أن عليه ما نقصها في الوطء، وإن كانت ثيباً؛ لأنه إذا كان عليه ما نقصها في الإكراه مع كونها لا تعد زانية، فالطوع الذي تعد فيه زانية أولى. واحتجوا لذلك بما في كتاب المكاتب أن على الأجنبي ما نقصها على كل حال، والمرتهن أجنبي، وقد حكى ابن رشد وغيره هذه الأقوال الثلاثة، ولا خلاف أن عليه في الإكراه ما نقصها. فرع: قال في المدونة: ولو اشترى المرتهن هذه الأمة وولدها لم يعتق عليه الولد؛ لأنه لم يثبت نسبه منه. وَإِنْ كَانَ بِإذْنِهِ لَمْ يُحَدَّ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا حَمَلَتْ أَوْ لا، دُونَ قِيمَةِ الْوَلَدِ يعني: فإذا كان وطء المرتهن للجارية بإذن الراهن لم يحد، وكان القياس أن يحد إلا أنهم راعوا خلاف عطاء بن أبي رباح، فإنه كان يجيز التحليل ابتداء. وقوله: (وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا) إنما لزمته لتتم له الشبهة، والله أعلم.

وَيَخْتَصُّ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْغُرَمَاءِ هذه هي فائدة الرهن، ولو لم يختص المرتهن بالرهن لكان وجود الرهن كعدمه، والاختصاص مقيد بما إذا لم يكن هناك أحق منه، كما إذا اكترى أرضاً ورهن زرعها ثم انهارت بئرها وأصلحها أجنبي وأحيا الزرع؛ فإنه أحق من المرتهن كما سيأتي. وَلا يَسْتَقِلُّ الْمُرْتَهِنُ بِالْبَيْعِ إِلا بِإذْنٍ بَعْدَ الأَجَلِ يعني: أن اختصاص المرتهن بالرهن لا يوجب له التصرف فيه، ولا بيعه بعد أجل الدين إلا أن يأذن له في ذلك بعد أجل الدين. ابن راشد: ولا خلاف في ذلك، وإنما لم يكن للمرتهن البيع؛ لأن الأصل ألا يباع ملك الإنسان إلا بعد سبب يوجب بيعه. وقوله: (وَلا يَسْتَقِلُّ) أي: لا ينفرد، بل يرفع إلى الحكام ليطالب الراهن أو يكلفه البيع، فإن امتنع باع عليه. واعترض قول المصنف: (إِلا بِإذْنٍ بَعْدَ الأَجَلِ) لأنه لو أذن بعد عقد الرهن وقبل الأجل جاز له بذلك البيع كبعد الأجل، قاله صاحب البيان وابن زرقون، [517/ب] ولكن نقل المتيطي عن بعض الموثقين منعه، لأنه هدية المديان. وِلا يَضُرُّ اتِّحَادُ الْقَابِضِ والْمُقْبِضِ لما ذكر أنه يجوز أن يبيعه المرتهن بالإذن بعد الأجل، ذكر هذا كالجواب عن سؤال مقدر؛ كأن قائلاً قال: كيف يصح أن يوكل مع كونه يبقى قابضاً مقبضاً؟ فأجاب بأن ذلك لا يمنع الصحة؛ لأنه قابضٌ باعتبارٍ مقبضٌ باعتبارٍ، فكان ذلك بمنزله شخصين، لأن الراهن لما وكله على البيع كان وكيلاً على قبض الثمن ثم يقبضه لنفسه، فكونه مقبضاً عن الراهن سابق على كونه قابضاً لنفسه، إلا أن قبضه للراهن حسيٌّ وقبضه لنفسه حكمي بنية خاصة.

ابن عبد السلام: وهل هذه السبقية خاصة بالزمان أو بالعلة؟ فيه نظر. وعلى الأول يجب بسقوط الثمن عن المرتهن إذا شهدت البينة بهلاكه إثر قبضه بخلاف الثاني، ولم أرها لهم. فَإِنْ أَذِنَ قَبْلَهُ فَبَاعَ رُدَّ مَا لَمْ يَفُتْ، وقِيلَ: يَمْضِي، وقِيلَ: فِي التَّافِهِ، وَقِيلَ: إِنْ عَسُرَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَاكِمِ .... قوله: (قَبْلَهُ) يريد: قبل عقد الرهن، وأما بعده وقبل الأجل فهو ماض لبعد الأجل. وحكاية المصنف الخلاف في الإمضاء يدل على منع الوكالة ابتداء. وقد اختلف في جوازها في عقد الرهن بعد الوقوع على ثلاثة أقوال: الجواز وهو قول القاضي إسماعيل، وابن القصار، وعبد الوهاب. والمنع هو قول ابن نافع، وأشهب وغيرهما. والكراهة لابن زرقون، وهو قوله في المدونة وغيرها، ولم يصرح بالكراهة في المدونة لكن فهم من إمضاء البيع بمجرد العقد، وكذلك فهم اللخمي، ورده المازري لجواز أن يكون إنما أمضاه بالعقد مراعاة لخلاف أبي حنيفة، فإنه يجيز ذلك، وقد وقع في البيوع ما يمنع ابتداء، فإذا وقع مضى. ومنشأ الخلاف: هل يقال: إن عدم بيع الرهن إنما هو من حق الراهن، فإذا أذن في البيع جاز، أو يقال: الوكالة على البيع إذا كانت للمرتهن تشتمل على معنيين متضادين؛ لأن الراهن يحرص على الاستقصاء في بيع الرهن والمطاولة في الاجتهاد فيه والنداء عليه، والمرتهن يحرص على ضد ذلك من سرعة بيعه ليأخذ حقه، فلما اشتملت على متضادين بطلت من أصلها، ومن كره توسط بين الدليلين. تفريع: لا إشكال على الجواز في إمضاء بيعه، وأما على الكراهة والتحريم؛ فقال ابن زرقون: أما ما لا بال له أو ما يخشى فساده؛ فيمضي بيعه بالاتفاق، وكذلك حكى المازري وابن

يونس الاتفاق على الإمضاء فيما لا بال له، وهو يخالف ما حكاه المصنف، لأنه عمم الخلاف؛ لأنه لما ذكر القول الثالث بالتفصيل بين التافه وغيره علم أن غيره من الأقوال مطلقاً، ولم يجعل ابن يونس الإمضاء فيما يخشى فساده متفقاً عليه، وتبع المصنف ابن شاس، فإنه حكى الأربعة الأقوال التي ذكرها المصنف، وتصورها من كلام المصنف بيِّن. وحكى جماعة فيما له بال ثلاثة أقوال: الأول: مذهب المدونة الإمضاء، وهو مذهب مالك في العتبية، وبه قال أصبغ. قال مالك في العتبية: وسواء فات أو لم يفت، لأنه بيع بإذن ربه. الثاني لمالك أيضاً في العتبية: أنه يمضي ما لم يفت، هكذا حكى ابن زرقون هذا القول، وتأوله صاحب البيان على أنه يمضي في العروض ويرد في الأصول إلا أن يفوت، واستبعد ابن زرقون هذا الفهم، قالا: والمراد بقوله: إلا أن يفوت. أي: بما يفوت به البيع الفاسد. الثالث: أنه يرد مطلقاً، وإن فات عند المشتري لزم المرتهن الأكثر من القيمة أو ما باعه به، وهو مذهب الموَّازيَّة. وحكى في البيان عن أشهب رابعاً: بالإمضاء في العروض والرد في الأصول، فات أو لم يفت. قال في البيان: وكل من قال بالإمضاء فإنما قال بذلك إذا أصاب وجه البيع، وأما إذا باع بأقل من القيمة فله أخذه من المشتري، وإن تداولته الأملاك فله أن يأخذه بأي الأثمان شاء كالشفيع. وهذا الخلاف كله مقيد بألا يفوض إليه في بيع الرهن، وأما لو فوض لمضى بيعه اتفاقاً، قاله المتيطي. وإن جعل الراهن للمرتهن بيع الرهن دون مؤامرة الحاكم، وأنه أحله في ذلك محل نفسه ومحل الوكيل المفوض، وأنه ليس له عزله؛ أن له البيع بذلك، قاله في الوثائق المجموعة بعشرة شروط: خمسة تلقى من إقرار الراهن، وهي: إقراره بالدين، وبالوكالة،

والتفويض، وأنه مصدق في الثمن، وفي الاقتضاء بغير يمين. وخمسة تثبت بالبينة: ملك الراهن، واستمرار ملكه إلى حين القبض، وحوزه من يده بالقبض، والصلاح، والسداد في الثمن. وقال ابن راشد: اختلف هي عليه إثبات ملك الراهن للرهن على قولين. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ عَسُرَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَاكِمِ) هذا لأشهب، ونصه على ما نقله جماعة، وأما ببلد لا سلطان فيه أو فيه سلطان يعسر تناوله فبيعه جائز إذا كان بيعه صحيحاً. أشهب: وإن كان الرهن مما يسرع إليه الفساد مقتاتاً أو تمراً أو قصباً باعه من غير أمر السلطان؛ لأن حسبها فساد، وجعله المصنف خلافاً، والذي يؤخذ من كلام اللخمي والمازري وغيرهما: أنه وفاق، وأنه إذا أعسر الوصول إلى الحاكم باع بحضرة العدول. ونص المازري على أن إحضار العدول من باب الأولى، ونص في البيان على أن قول أشهب تفسير، نعم نقل عن غيره أنه خلاف، وعليه يأتي كلام المصنف ونصه: وقال أشهب: إذا كان الرهن مقتاتاً أو تمراً أو قصباً يُجْنَى شيئاً بعد شيء فيخشى عليه الفساد فبيع المرتهن له جائز دون مؤامرة سلطان ولا ملأ ولا جماعة. وقوله: (عِنْدِي) مفسر، وحمله بعضهم على أنه خلاف مذهب مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة وغيرها. وَيَسْتَقِلُّ الأَمِينُ فِيهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الأَجَلِ وَبَعْدَهُ حاصل [518/أ] كلامه: أن الأمين ليس كالمرتهن، بل له أن يبيع من غير مؤامرة الحاكم قبل الأجل وبعده. وعلى هذا فالمساواة بينهما حاصلة إذا كان الإذن بعد الأجل ويختلفان إذا كان الإذن قبله، وهكذا ذكر ابن شاس والمازري، وهذا لبعد التهمة في الأمين. فإن قلت: مقتضى كلام المازري المساواة؛ لأنه بعد أن ذكر الجواز في الأمين قال والخلاف جار في الأمين كما في المرتهن، وكذلك هو ظاهر كلام اللخمي، فالجواب: أن كلاًّ منهما محمول على ما إذا وكل المرتهن أن يبيع ما تحت يد الأمين، وذلك ظاهر من كلامهما.

فرعان: الأول: إذا وكل وكيلاً على بيع الرهن، فهل يكون للراهن عزله أم لا؟ عندنا قولان، واقتصر ابن الجلاب على أنه لا يعزله إلا بإذن المرتهن. قال في البيان: وهو ظاهر المذهب. وأشار اللخمي إلى أن من يجيز الوكالة ابتداء يمنعه من العزل، وفيه نظر. ألا ترى أن القاضي إسماعيل يجيز الوكالة، وقد اختلف قوله في جواز العزل، فحكى الباجي والمتيطي وصاحب البيان عنه جواز العزل، وحكى اللخمي والمازري منعه منه، والله أعلم. الثاني: قال في المدونة: إذا أمر السلطان رجلاً ببيع الرهن ليقضي المرتهن حقه، فباعه ثم ضاع الثمن من يده؛ لم يضمنه المأمور وصدق في ضياعه، فإن اتهم حلف، وكان الثمن من الذي له الدين. قال بعض القرويين: إنما يكون ضياع الثمن من الذي له الدين على قول ابن القاسم إذا ثبت المأمور للرهن ببينة، وإن لم يثبت بيعه إلا بقوله؛ فإن الراهن لا يبرأ من الدين؛ لأن صاحب الدين لم يأتمنه على البيع، وخالفه غيره وقال: ذلك سواء، وضمان الرهن من المرتهن. ابن يونس: وهذا هو الصواب، وعليه يدل ظاهر الكتاب، ولأنه جعل السلطان أميناً لهما على بيعه فوجب سقوط ضمانه وقبول قوله، ولو ضاع الرهن قبل بيعه لكان على قول ابن القاسم من ربه، وعلى قول ابن الماجشون من الذي له الدين، وهذا كاختلافهم في مال المفلس الموقوف للغرماء. مَا لَمْ يِكُنْ فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ لم يثبت هذا في كل النسخ، وهو راجع إلى قوله: (وَيَسْتَقِلُّ الأَمِينُ) أي: ويستقل إلا أن يكون ذلك شرطاً في العقد، ومراده بذلك ما قاله صاحب الجواهر، لكن عبارته لا تفي بذلك. قال: ولو أذن الراهن للعدل وقت الرهن في البيع عند الأجل جاز، فلو قال

الراهن لمن على يده الرهن من مرتهن أو عدل: إن لم آت إلى أجل كذا فأنت مسلط على بيع الرهن؛ فلا يبيعه إلا بأمر السلطان، فإن باعه بغير أمره نفذ. انتهى. ونحوه في المدونة، ونصها: ومن ارتهن رهناً وجعلاه على يد عدل أو على يد المرتهن إلى أجل كذا واشترطا إن جاء الراهن بحقه إلى ذلك الأجل، وإلا فلمن على يده الرهن بيعه، فلا يبيعه إلا بأمر السلطان، وإن شرط ذلك فإن بيع نفذ بيعه ولم يرد، وإنما لم يجز البيع هنا للأمين إلا بإذن السلطان؛ لأنه قيد البيع بإن لم يأتِ، ومن الجائز أن يكون أتى أو حاضراً معه في البلد، فلذلك لا بد من نظر السلطان بخلاف الأولى، فإنه قد أذن فيها إذناً مطلقاً. وَإِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ بَاعَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ وإذا رفع المرتهن الأمر إلى الحاكم أمره بالوفاء، فإن لم يكن عنده شيء، قال صاحب البيان: إن ألدَّ أو غاب باع الحاكم عليه الرهن بعد أن يثبت المرتهن عنده الدين والرهن. قال في البيان: واختلف هل عليه أن يثبت ملك الراهن له على قولين يتخرجان على المذهب، وذلك عندي إذا أشبه أن يكون له، وأما إن لم يشبه كرهن الرجل حليَّاً أو ثوباً لا يشبه لباسه، وكرهن المرأة سلاحاً فلا يبيعه السلطان إلا بعد إثبات الملك، وإن لم يكن سلطان باعه بحضرة العدول ونفذ البيع. هذا في العروض، وأما العقار يبيعه بحضرة العدول بغير أمر السلطان؛ فله أن يأخذه من يد المشتري، وأن يبيع بالقيمة. انتهى. ونحوه في المتيطية، وظاهر ما تقدم من كلام اللخمي والمازري: أنه إذا لم يكن سلطان وعسر اطلاعه؛ أن يمضي البيع بحضرة العدول في العقار وغيره، وهكذا قال ابن راشد: أن اللخمي لم يفرق بين عقار وغيره. فرعان: الأول: قال ابن عبدوس: إذا أمر الإمام ببيع الرهن فاليسير يباع في مجلس وفي الكثير الأيام، وما كان أكثر منه ففي أكثر من ذلك، وأما الجارية الفارهة والدار والثوب الرفيع فيبقى ذلك حتى يشتهر، وربما نؤدي على السلعة الشهرين والثلاثة، وكل شيء بقدره.

الثاني: إذا أمر الإمام ببيع الرهن فبيع بغير العين، فقال ابن القاسم في المدونة: لا يجوز ذلك. وقال أشهب: إن باعه بمثل ما عليه وإن لم يكن فيه فضل جاز، وإن كان فيه فضل لم يجز بيع ذلك الفضل، والمشتري بالخيار فيما بقي إن شاء رد الشركة، وإن باعه بغير ما عليه لم يجز. وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِنَفَقَةِ الرَّهْنِ أَذِنَ أَوْ لَمْ يَاذَنْ تصور المسألة ظاهر، ووجهها: أنها لما كانت الغلة للراهن وجب أن تكون النفقة عليه. المازري: واختلف الأشياخ إذا كان الرهن عبداً وأبق وطلبه من عادته طلب الإباق، هل يأخذ الجعل من الراهن وهو الأصل، أو من المرتهن لأن المنفعة إنما هي عائدة عليه؟ على قولين، والأول قول سحنون. وكذلك اختلف في الجعل على البيع إذا كان الراهن غائباً؛ فروى أبو زيد وعيسى عن ابن القاسم: أنه على المرتهن لأنه طالب البيع، وقال أصبغ [518/ب] وعيسى: بل على الراهن. وخالفا ما رواه أشهب، وليس للراهن أن يمنع المرتهن أن ينفق على الرهن؛ لأنه يهلك إن كان حيواناً ويخرب إن كان رباعاً. وقوله: (أَذِنَ أَوْ لَمْ يَاذَنْ) يريد لأنه قام عنده بواجب. واعلم أن النفقة تتعلق بذمة الراهن إذا أذن باتفاق، واختلف إذا لم يأذن؛ فقال ابن القاسم: وهو كما لو أذن. وقال أشهب: إنما تتعلق بعين الرهن قياساً على من أنفق على ضالة فإن الإنفاق يكون في عينها وتباع فيه، وإن قصر ثمنها عن الإنفاق لم يتبع صاحبها بالزائد. وفرق ابن القاسم بينهما بأن الرهن لما دفعه صاحبه للمرتهن وقد علم أنه لا بد له من نفقة صار كالإذن. واختلف في قول ابن القاسم إذا كان الراهن غائباً هل يتبع بالنفقة ولو زادت على ثمن الرهن أو لا؟ لأن النظر في حق الغائب بيع الرهن، وكان الراهن إنما أذن في الإنفاق ما لم يجاوز قيمته، فللأشياخ قولان حكاهما المازري، وحكى ابن يونس

الأول عن بعض القرويين، وقال: القياس عندي ألا يتبع بالزائد؛ لأنه لم يأذن في النفقة، ومن حجته أن يقول: كان ينبغي لك أذا بلغت النفقة مقدار ثمنه أن ترفعه إلى الإمام فيبيعه ولا تخلد في ذمتي ديناً لم آذن لك فيه. وَلا يَكُونُ رَهْناً بِهِ خِلافاً لأَشْهَبَ أي: ولا يكون الرهن رهناً بالنفقة خلافاً لأشهب، وأطلق المصنف في خلاف أشهب، وهو مقيد بما إذا لم يأذن، وقاسها أشهب على الضالة، فإن الضالة رهن بما أنفقه عليها، وفرق ابن القاسم في المدونة والمجموعة بينهما: بأن الضالة لا تباع على صاحبها، ولا بد من النفقة عليها، والرهن ليست نفقته على المرتهن، ولو شاء طالبه بنفقته، وإن غاب رفع ذلك إلى الإمام. ابن يونس: بناء على هذا فإن قال له الإمام: أنفق على أن نفقتك فيه؛ كان أحق به من الغرماء حتى يستوفي نفقته ودينه. واختلف الشيوخ إذا قال له الإمام: أنفق على أن نفقتك في الرهن، ويتبين لك ذلك بذكر لفظ المدونة أولاً، ولفظها: وإذا أنفق المرتهن على الرهن بأمر ربه أو بغير أمره رجع بما أنفق على الراهن. ابن القاسم: ولا يكون ما أنفق في الرهن إذا أنفق بأمر ربه، لأن ذلك سلف إلا أن يقول له: أنفق على أن نفقتك في الرهن، فإن قال ذلك رأيتها في الرهن وله حبسه بما أنفق وبما رهنه به، إلا أن تقوم الغرماء على الراهن، ولا يكون المرتهن أحق منهم بفضلة الرهن عن دينه لأجل نفقته - أذن في ذلك أو لم يأذن - إلا أن يقول: أنفق والرهن بما أنفقت رهناً. قال ابن شبلون: الحكم على ظاهر المدونة في تقسيمه على ثلاثة أقسام. قال غيره: لا فرق بين قوله: أنفق على أن نفقتك في الرهن، وبين أن يقول: والرهن بما أنفقت رهناً، ولا يكون للمسألة عند هؤلاء إلا قسمان.

المازري: وحمل هؤلاء المدونة على أن فيها تقديماً وتأخيراً، قال: وظاهر الكتاب التفرقة كما قال ابن شبلون. وبالتسوية قال ابن يونس، ونقله عن القرويين، واحتج ابن يونس بأن المسألة وقعت في المجموعة والموَّازيَّة كذلك، ولفظها في الكتابين، قال ابن القاسم: وإذا أنفق المرتهن على الرهن بأمر ربه أو بغير أمره فهو سلف، ولا يكون في الرهن إلا أن يشترط أنه رهن بالنفقة الآن فله حبسها بما أنفق وبدينه، إلا أن يكون على الراهن دين فلا يكون أولى بما يفضل عن دينه، إلا أن يشترط أن ذلك في النفقة. ابن عبد السلام: وليس في هذا دليل عن ابن شبلون، ولا يبعد تأويله، وحمله على ما في المدونة. فَإِنْ كَانَ شَجَراً وَشِبْهَهُ فَانْهَارَتِ الْبِئْرُ وَخِيفَ التَّلَفُ فَفِي إِجْبَارِهِ قَوْلانِ أي: فإن كان الرهن شجراً وشبهه؛ أي: زرعاً فانهارت البئر وخيف على الشجر أو الزرع التلف بقلة الماء؛ ففي إجبار الراهن على إصلاح البئر وعدم إجباره قولان، والقول بالجبر هو المنصوص لابن القاسم في المختصر والموَّازيَّة إن كان له مال، وإن لم يكن له مال نظر، فإن كان بيع بعض الأصل خيراً له نظر ما يصلح به البئر، وإن تطوع المرتهن بالنفقة في إصلاحها، فإن رأى أن ذلك خير لرب الرهن، قيل للمرتَهَن: أنفق وتكون أولى بالنخل حتى تأخذ ما أنفقت، ولا ينظر إلى قيمة النفقة ولا قيمة ما وضع من حجر وغيره، ولكن يحسب له ما أنفق كالسلف، والقول بعدم الجبر تأول على المدونة؛ لأن فيها: إذا أبى الراهن من إصلاحها فأصلحها المرتهن خوف هلاك النخل والزرع؛ فلا رجوع له بما أنفق على الراهن، ولكن يكون له ذلك في الزرع وفي رقاب النخل يبدأ فيه بنفقته، فما فضل كان في دينه. فقوله: "أبى من إصلاحها" يقتضي أنه لا يجبر، وقد يقال: لا نسلم أن هذا يؤخذ منه عدم الجبر؛ لجواز أن يحمل المدونة على ما إذا تعذر الرفع إلى الإمام أو نحو ذلك، على أن

الضمان

ابن يونس جمع بين القولين فحمل الأول على أن الرهن في عقد البيع أو القرض، وما في المدونة على أنه تطوع به. ابن عبد السلام: ولم يعدوا نفقة المرتهن هنا سلفاً جر منفعة، ولعل ذلك لشدة ما يلحقه من الضرر في تركه بهلاك الرهن إذا ترك النفقة. وَإِذَا لَمْ يِجْبَرْ فَأَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ فَفِي الشَّجَرِ وَشِبْهِهِ يَبْدَأُ بِنَفَقَتِهِ وَيَتْبَعُهُ بِدَيْنِهِ أَوْ بِمَا بَقِيَ .... يعني: إذا لم يجبر الراهن على النفقة فأنفق المرتهن. ولو أسقط قوله: (فَفِي الشَّجَرِ) لكان أحسن؛ لأن ذلك مفهوم مما سبق؛ لأن قوله: (فَفِي الشَّجَرِ) يفهم أن الزرع ليس كذلك، وقد قدمنا عن المدونة التسوية بينهما [519/أ]. ومعنى ما قاله أن ما أنفقه يكون في الثمرة، فإن ساوت الثمرة النفقة أخذها المرتهن، وإن لم تساو لم يتبع الراهن بفاضل النفقة. وقوله: (وَيَتْبَعُهُ بِدَيْنِهِ أَوْ بِمَا بَقِيَ) أي: ويتبع المرتهن الراهن بدينه إن لم تساو الثمرة إلا قدر النفقة أو أقل، ويتبعه بالباقي من الدين إن زاد ثمن الثمرة على مقدار النفقة بما لم يوف الدين، أما إن زاد بمقدار الدين؛ فإنه يأخذ ذلك ولا كلام له. الضَّمَانُ إِنْ كَانَ مِمَّا لا يُغَابُ عَلَيْهَ؛ كَالْحَيَوَانِ، والْعَقَارِ؛ فَمِنَ الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُ كَدَعْوَاهُ مَوْتَ الدَّابَّةِ بِبَلَدٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحُدٌ .... هذه إحدى المسائل التي فرق أصحابنا فيها بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه، وقد تقدمت. وقوله: (كَالْحَيَوَانِ) أي: على اختلاف أنواعه، مأكولاً أو غيره، طائراً أو غيره، آدمياً أو غيره، وهذا هو المنصوص. وأخذ مما رواه أبو الفرج عن ابن القاسم فيمن ارتهن

نصف عبد وقبضه كله: أنه لا يضمن إلا نفقة ضمان ما لا يغاب عليه. اللخمي: وأرى أن يضمن كل ما يستخف ذبحه وأكله. وحكى ابن بزيزة فيه ثلاثة أقوال، ثالثها: إن كان مما يسرع إليه الأكل كالغنم ضمن، وإلا فلا. وقوله: (والْعَقَارِ) أي: الأرض وما يتصل بها من بناء وشجر. وقوله: (مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ ... إلخ). هو جارٍ مجرى الاستثناء؛ أي: لا ضمان على المرتهن فيما لا يغاب عليه، إلا أن يتبين كذبه. ثم بين ما يتبين به الكذب بقوله: (كَدَعْوَاهُ مَوْتَ الدَّابَّةِ بِبَلَدٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحُدٌ) وكذلك أيضاً إذا كان في رفقة. المازري: وإذا كان بموضع عمارة أو جماعة سئلوا ببلد فإن صدقوه تأكد عليه الظن بصدقهم عدولاً أو غيرهم، وإن كذبوه وكانوا عدولاً غلب على الظن كذبه فلم يصدق، وإن كانوا غير عدول لم ينتقل الحكم عن تصديقهم إلى تكذيبه بقوم ليسوا بعدول لتطرق التهمة إليهم بأنهم كتموا ما علموه من موت الدابة لما طلبت منهم الشهادة، ويكتفي في خبر الحضور وتصديقهم بأنهم رأوا دابة ميتة، وإن لم يعلموا أنها الدابةُ الرهنُ، هكذا وقع في المجموعة، وهذا صحيح إذا كانت هذه الشهادة على صفة يغلب على الظن أن الدابة ليست هي عين الدابة التي بيد المرتهن، أو يكون الأمر مشكلاً فيستصحب الحكم في أن ما لا يغاب عليه لا يضمن. انتهى. وما ذكره من عدم ضمانه إذا كذبه جماعة وكانوا غير عدول، نص عليه أشهب فيما إذا ادعى إباق العبد بحضرة جماعة وكذبوه. الباجي: يريد لأنه لم يثبت كذبه. وما نقله المازري عن المجموعة نحوه في الباجي، وزاد أنه يحلف أنها هي، وكلام المازري صحيح في أنه يقبل في تصديقه غير العدول. وقول ابن عبد السلام: "ظاهر كلامهم، بل هو نص أنه لا يقبل إلا العدول" ليس بظاهر.

تنبيه: ألحق اللخمي بما لا يغاب عليه ما دخل المرتهن والراهن على بقائه بموضعه؛ كالثمار في رؤوس النخل، والزرع القائم، وما في الجرين والأندر، وكالسفن على ساحل البحر وآلتها إذا دخل على بقائها بالساحل، وكالأعدل إذا خُلِّيَ في قاعة الفندق، وكالطعام والزيت المخزن في دار الراهن مطبوعاً عليه ومفتاحه بيد المرتهن، وإن كان مختزناً في دار غيره أو في بيت الفندق لم يضمنه، فإن علم أنه كان يتكرر له ويفتحه، وأشبه أن يكون أخذ ذلك في تكرره منه ضمنه، أما إن كان في حوز المرتهن لم يصدق في ضياعه. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ؛ كَالْحُلِيِّ والثِّيَابِ عِنْدَ مُرْتَهِنٍ فَكَالأَوَّلِ، وبِيَدِهِ يَضْمَنُ (فَكَالأَوَّلِ) أي: فالضمان من الراهن، وبيد المرتهن يضمن، ودليلنا على هذه التفرقة في ضمان ما يغاب عليه دون غيره: العمل الذي لا اختلاف فيه، نقله مالك في الموطأ، ولأن الرهن لم يؤخذ لمنفعة ربه فقط فيكون ضمانه من ربه كالوديعة، ولم يكن لمنفعة الآخذ فقط كالقرض فيكون من الآخذ، بل أخذ شبهاً منهما فتوسط وجعل ضمان ما لا يغاب عليه من الراهن لعدم تهمة المرتهن، وضمان ما يغاب عليه من المرتهن لتهمته على ذلك. فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ فَفِي نَفْيِ الضَّمَانِ رِوَايَتَانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ لِلتُّهْمَةِ، أَوْ لِدُخُولِهِ عَلَيْهِ .... أي: فإن أقام المرتهن البينة على هلاك ما بيده مما يغاب عليه، فروى ابن القاسم: أنه يسقط عنه الضمان، وبه قال ابن القاسم وأصبغ وعبد الملك؛ بناء على أن الضمان إنما كان للتهمة وقد زالت بقيام البينة. وروى أشهب: أنه لا يسقط عنه الضمان، وبما قال أشهب قال جماعة، لأن الضمان على هذا القول ضمان أصالة، لأن هذا القسم مقابل لما لا يغاب عليه، وحكم أحد المتقابلين ثابت بالأصالة فيكون مقابله كذلك.

وقال المصنف تبعاً لابن شاس: (لِدُخُولِهِ عَلَيْهِ) والعلة الأولى أحسن؛ لأن المرتهن هنا لا يكون عنده علم بحكم المسألة، أو يذهب فيها إلى قول ابن القاسم، فلا يقال: إنه دخل على الضمان. فروع: الأول: إذا قلنا بعدم الضمان فيما لا يغاب عليه، فهل تتوجه اليمين على المرتهن أنه لم يفرط متهماً كان أو غيره، أو لا تتوجه، أو تتوجه على المتهم دون غيره؟ ثلاثة أقوال، وروى صاحب النكت: أنها تتوجه هنا، وفي العارية، والمبيع بالخيار، والمستأجر. وإن قلنا: إن الأمر عند ابن القاسم أو تتوجه في غير هذا الموضع؛ لأن المرتهن ونحوه قبض لحق نفسه. وأجاب عما قاله المتقدمون: أنه لا يمين على عامل القراض يدعي التلف، إلا أن يكون متهماً مع أنه قبض لمنفعة نفسه بأن منفعة القراض [519/ب] ليست متيقنة؛ إذ قد لا يربح فيه. قيل: ويحلف غير المتهم: ما فرطت ولا ضيعت. ويزيد المتهم: ولقد ضاع. الثاني: إذا وجب ضمان ما يغاب عليه، فقال جماعة من متقدمي الأشياخ، وهو في العتبية، وعليه حمل بعضهم المدونة، وبه أفتى إسحاق بن إبراهيم: يحلف لقد ضاع بلا دلسة دلستها فيه، ولا يعلم له موضعاً. ووجه يمينه مع ضمانه: تهمته على الرغبة في عينه. وقال العتبي: لا يمين عليه. قال: وكيف يحلف ويضمن، ونحوه لمالك في هذا الأصل. قال العتبي: إلا أن يقول الراهن: أخبرني مخبر صدق على كذبه، وأنه رأى الرهن عنده قائماً؛ فيحلف على ذلك حينئذ. وإلى هذا ذهب ابن لبابة الأكبر، واعترضه بعضهم وقال: يمين توجب يميناً. وأجيب بأن اليمين قد توجب اليمين وذلك في كتاب الله عز وجل في اللعان. الثالث: إذا أتى بالثوب وقد احترق بعضه وادعى أنه احترق لم يصدق، غلا أن يُعْلَم سبب ذلك من احتراق منزله أو حانوته. زاد ابن المواز: ويشترط أن يعلم أن النار من غير سببه. واختلف هل قول محمد تفسير للمذهب أو خلاف.

الباجي: وإذا ثبت الاحتراق؛ فإن ثبت أن ذلك الثوب فيما احترق صدق، أتى ببعضه محروقاً أم لا، وإن لم يثبت ذلك؛ فإن أتى ببعضه محروقاً صدق أنه كان في حانوته الذي احترق، وإن لم يأت بشيء وادعى احتراق جميعه؛ فظاهر المدونة أنه غير مصدق. وقال الباجي: وعندي أنه إن كان مما جرت العادة برفعه في الحوانيت حتى يكون متعدياً بنقله عنه، كأهل الحوانيت والتجار الذين تلك عادتهم لا يكادون ينقلون شيئاً من ذلك من حوانيتهم؛ فأرى أن يصدق فيما عرف من احتراق حانوته، وبذلك أفتيت في طرطوشة عند احتراق أسواقها وكثرت الخصومات في ذلك، وظني أن بعض الطلبة أظهر لي رواية عن ابن أيمن بمثل ذلك، وذكر المازري أنه نزل عندهم سنة ثمانين وأربعمائة لما فتح الروم رومة والمهدية ونهبوا الأموال وكثرت الخصومات مع المرتهنين والصناع وفي البلد مشايخ من أهل العلم متوافرون؛ فأفتى جميعهم بتكليف المرتهن والصانع البينة أن ما عنده قد أخذه الروم وأفتيت بتصديقهم، قال: وكان القاضي يعتمد حينئذٍ فتواي فتوقفت لكثرة من خالفني حتى شهد عنده عدلان أن شيخ الجماعة السيوري أفتى بما أفتيت به، ثم قدم علينا كتاب المنتقى للباجي فذكر فيه في الاحتراق مثل ما أفتيت به، وذكر كلام الباجي المتقدم. الرابع: ولو سقط الدين إما بهبة الدين أو إعطاء الحق؛ فالضمان مستصحب إلا أن يمكن المرتهن الراهنَ من الرهن ويتركه عنده، فحينئذ هو كالوديعة. وقد بعدنا عن كلام المؤلف فلنرجع إليه. وَعَلَيْهِمَا لَوْ شَرَطَ أَلاَّ يَضْمَنَ وَلَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ انْعَكَسَ الْقَوْلانِ أي: وعلى قول ابن القاسم وأشهب لو شرط المرتهن ألا يضمن ما يغاب عليه انعكس القولان، يعني: في الصورة الظاهرة، وإلا فكل من الإمامين باق على أصله،

ومعنى العكس ثبوت الضمان عند ابن القاسم؛ لأن التهمة المقتضية للضمان حاصلة، وعند أشهب لا يضمن لأنه لم يدخل عليه. فإن قلت: ولعل المصنف وابن شاس إنما عللا قول أشهب بالدخول على الضمان لهذا الفرع؛ إذ لا يتأتى فيه ما عللوا به من الأصالة؟ قيل: وكل منهما نقض أصله، أما ابن القاسم فلأن الضمان عنده إنما هو للتهمة، فمن حق المرتهن أن يقول: لم يبطل حقي حكما شرطياً وأنت قد أسقطت حقك الذي هو الضمان. وأما أشهب فالضمان عنده ضمان أصالة، فكان ينبغي له ألا يوفي بشرطه، لأنه مبطل بحكم شرعي. وقد اختلف المذهب في البائع بثمن إلى أجل يَشترطُ في عقد البيع أنه مُصَدَّقٌ في عدمِ قبضِ الثَّمن هل يُوَفَّى له أم لا؟ أو يوفى للمتورعين عن الأيمان دون غيرهم؟ على ثلاثة أقوال، وعلى أنه يوفى له، فهل يجوز مثله في الغرر؟ قال بعضهم: لا؛ لأنه سلف جر منفعة، والصحيح الجواز؛ لأنه شرط ينشأ عن التوثق، فكان كالرهن والحميل. المازري: وقول ابن القاسم وأشهب يحسن إذا كان الرهن في عقد بيع أو سلف؛ لأن الرهن هناك يكون له حصة من الثمن في البيع وها هنا في السلف، وأما لو كان هذا الاشتراط في رهن تطوع به الراهن بعد عقد البيع أو السلف من غير شرط؛ فإنه ها هنا لا يحسن الخلاف، لأن التطوع هنا بالرهن كالهبة، فإذا أضاف إلى هذا التطوع إسقاط الضمان فهو إحسان على إحسان، فلا وجه للمنع فيه. ويؤيد هذا: أن ابن القاسم وأشهب اتفقا على أنه يوفي له بالشرط في العارية، وما ذلك إلا لأن العارية لا عوض فيها، وإنما هي هبة ومعروف. انتهى. ونحوه للخمي. فرع: وأما عكس هذا، وهو اشتراط الضمان فيما لا يغاب عليه؛ ففي المدونة والموَّازيَّة: لا يلزمه وضمانه من ربه. وقال أشهب: إن اشترط ذلك لخوف طريق ونحوه فهلكت الدابة بسبب ذلك التخوف فإنه ضامن.

اللخمي: ويجري فيها قول آخر أنه ضامن؛ لأنه الحيوان مختلف في ضمانه، فيوفي له بالشرط؛ لأن المؤمنين عند شروطهم، ومراعاة لقول أبي حنيفة: إن الضمان من المرتهن مطلقاً. وعلى المشهور: فلا كراء عليه على حكم العارية، وعن أشهب: أنه كراء فاسد وعليه أجرة المثل في ركوبه، وإن عثر عليه قبل استعمالها ردَّ، نص عليه اللخمي في العارية، وحمل ابن رشد قول أشهب على التفسير الأول. فَإنْ كَانَ الرَّهْنُ نِصْفَهُ وَقَبَضَ الْجَمِيعَ لِمْ يَضْمَنْ إِلا نِصْفَهُ، كَمُعْطِيكَ دِينَاراً لِتَسْتَوْفِيَ مِنْهُ نِصْفَهُ دَيْناً، وكَذَلِكَ لو تَرَكَ [520/أ] الْمُسْتَحِقُّ الْحِصَّةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِيَدِهِ .... فإن كان الرهن نصف ما يغاب عليه كثوب مثلاً رهن نصفه، فإنه إن ضاع لا يضمن إلا نصفه؛ لأن الرهن إنما هو النصف والنصف الآخر إنما هو فيه أمين، ونظره بمسألتين: الأولى: إذا أعطاه ديناراً ليستوفي نصفه؛ فإنه لا ضمان عليه في النصف الزائد، لأنه إنما قبضه على الأمانة، ولأنه لما قبضه صار شريكاً لمعطيه فهلاكه عليهما، قال في التهذيب: ولا يمين عليه إلا أن يتهم فيحلف. الثانية: إذا استحق شخص بعض الرهن الذي يغاب عليه ثم تركه بيد المرتهن وضع؛ فإنه لا يضمن الحصة المستحقة، لأنه تحت يده على الأمانة، لا يقال: لم لا يستصحب الضمان في الحصة المستحقة كما استصحب فيما إذا أعطى المرتهن دينه كما تقدم، لأنا نقول: المستحق لما يتقدم له على المرتهن ضمان فيستصحب. فَإِذَا فَاتَ بِجِنَايَةً فَأَخَذَ الْقِيمَةَ، فَإِنْ جَاءَ بِرَهْنٍ مَكَانَهُ أَخَذَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تَعَجَّلَهَا، وَإِلا كَانَتْ رَهْنَاً .... يعني: إن جنى أجنبي على الرهن وأفاته وأخذت قيمته، ففي المدونة ما قاله المصنف، ولفظها: إذا غرم المتعدي القيمة فأحب ما فيه إلى أن يأتي الراهن برهن ثقة مكان ذلك،

ويأخذ القيمة وإلا جعلت القيمة رهناً. ابن يونس: ويطبع عليها. وانظر قول مالك: أحب إلي: فإن ظاهره عدم الجزم بهذا الحكم، إلا أن يكون المراد أحب بما سمعت. أبو الحسن: وقوله: "برهن ثقة" معناه: تكون قيمته كهذه القيمة. وقال ابن المواز: إن كانت القيمة من جنس الدين وصفته تعجلها؛ إذ لا فائدة في وقفها ولا منفعة في ذلك للراهن، فإن لم يكن من جنسه بقيت رهناً، ومراده بجنس حقه أن يوافق في كونه دنانير أو دراهم، هكذا نص عليه محمد، ولعل المصنف سكت عنه، لأن التقويم إنما يكون بعين، والأول أظهر؛ لأن حق المرتهن في الرهن الأول قد بطل بتلفه وبقي حقه في مطلق التوثق، فإذا أتى الراهن برهن آخر لم يبق للمرتهن حجة. وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن أن يحمل قول محمد على الوفاق بأن يحمل الأول على ما إذا لم تكن القيمة من جنس الدين. وَإِذَا جَنَى الرَّهْنَ وَاعْتَرَفَ الرَّاهِنُ وَحْدَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مُعْدِماً لِمْ يُصَدَّقْ، وإِنْ كَانَ مَليَّاً فَإِنْ فَدَاهُ بَقِيَ رَهْناً وِإِلا أَسْلَمَهُ بَعْدَ الأَجَلِ وَدَفَعَ الدَّيْنَ .... يعني: فإن جنى العبد الرهن جناية على أحد أو استهلك مالاً، فإن لم تثبت الجناية ببينة ولكن اعترف الراهن بها فقط - أي: أقر بها - فإن كان معدماً لم يلتفت لقوله؛ لأنه إقرار على المرتهن، وإن كان ملياً خير الراهن بين أن يفديه أو يسلمه للجناية، فإن فداه بأن دفع أرش الجناية بقي العبد على حاله، وإن أسلمه لم يدفع للمجني عليه، ويبقى تحت يد المرتهن، لأن وثيقته متقدمة على المجني عليه، وهكذا في المدونة، وقيده ابن يونس بما إذا لم يقر أنه جنى قبل الرهن، فأما إن أقر أنه جنى قبل رهنه، فإن لم يفده ولم يرض بحمل الجناية وحلف أنه ما رضي أن يتحملها؛ فإنه يجبر على إسلامه وتعجيل الدين، كمن أعتق وأقر أنه لغيره إن كان الدين مما له تعجيله، ولو كان الدين عروضاً من بيع ولم يرض من هي له أن يتعجلها ما جاز إقراره على المرتهن، كما لو كان معسراً والدين مما له تعجيله،

ويكون المجني عليه مخيراً، فإن شاء غرمه قيمته يوم رهنه لأنه متعدٍّ عليه، وإن شاء صبر عليه حتى يحل الأجل فيباع ويتبعه بثمنه. وَإِنْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ أَو اعْتَرَافٍ وِاخْتَارَ إِسْلامَهُ؛ خُيِّرَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضاً، فَإِنْ أَسْلَمَهُ كَانَ لِذِي الْجِنَايَةِ بِمَالِهِ وَأُتْبِعَ الرَّاهِنُ .... فإن كانت الجناية تثبت ببينة، وفي معناها: أن يعترف الراهن والمرتهن بالجناية فقد يعلق به ثلاثة حقوق؛ حق للسيد، وحق للمرتهن، وحق للمجني عليه. فيخير السيد أولاً - لأنه المالك -بين أن يفديه أويسلمه، فإن فداه بقي على حاله، ولوضوح هذا تركه المصنف. وإن أسلمه خير المرتهن أيضاً لتقدم حقه على حق المجني عليه، فإن أسلمه المرتهن أخذه المجني عليه ملكاً له. قال في المدونة: ويكون ماله للمجني عليه قل أو كثر. ابن يونس: وليس للمرتهن أن يؤدي من مال العبد الجناية، ويبقى رهناً إلا أن يشاء سيده. زاد صاحب النكت: وسواء كان مال العبد مشترطاً إدخاله في الرهن أم لا؛ لأن المال إذا قبضه أهل الجناية فقد يستحق، فيتعلق على السيد غرم مثله، لأن رضاه بدفعه إليهم كدفعه ذلك من ماله، فأما إن أراد الراهن ذلك وأبى المرتهن، فإن كان لم يشترط المرتهن إدخال المال في الرهن فلا كلام له، وإن اشترط إدخاله في الرهن فإن ادعى المرتهن أن يفديه كان ذلك له، وإن أسلم العبد كان ذلك للراهن. ولما تكلم المصنف على ما إذا أسلم إلى المرتهن الرهن شرع في الكلام على ما إذا فداه، فقال: وَإِنْ فَدَاهُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي رَقَبَتِهِ لا فِي مَالِهِ، يُبَدَّى عَلَى الدَّيْنِ ولا يُبَاعُ إِلا بَعْدَ الأَجَلِ. وقَالَ سُحْنُونٌ: وَقَبْلَهُ. ورُوِيَ: أَنَّ الْفِدَاءَ فِي رَقَبَتِهِ وَمَالِهِ ... يعني: وإن فداه المرتهن، فالمشهور وهو مذهب المدونة، واختاره ابن القاسم وابن عبد الحكم: أن الفداء إنما يكون في رقبته دون ماله مبدى على الدين. وروي عن مالك،

وهو اختيار ابن المواز، وأكثر الأصحاب: أن الفداء يكون في رقبته وماله، لأنه لو أسلمه كان العبد للمجني عليه بماله، فإذا افتكَّه المرتهن انبغى أن يكون له ما كان للمجني عليه، ورأى في المشهور أن المرتهن إنما افتكَّه ليرده إلى ما كان عليه، ولولا ذلك لما كان له تطرق إلى العبد بوجه، فحينئذٍ [520/ ب] إنما يرجع العبد إلى ما كان عليه، وهو إنما كان مرهوناً دون ماله، ولهذا لو كان مال العبد مشترطاً في الرهن لم يختلف إذا افتكَّه أنه يكون الفداء في رقبته وماله. وعلى القولين؛ ففي المدونة: لا يباع إلا بعد الأجل. وقال سحنون: وقبله، أي قبل أجل الدين، وهو مبني على الرواية التي اختارها ابن المواز: أن المرتهن وجب له ما كان عليه. واستحسن اللخمي قول سحنون، قال: ولا مقال للراهن لأنه رضي بإسلامه. وعلى ما وجه به المشهور يندفع هذا، ثم فيما اختاره ابن المواز إشكال آخر، ويتبين لك ذلك بما نقله اللخمي وابن يونس وغيرهما عنه: أنه إذا أسلمه السيد خير المرتهن في ثلاثة أشياء؛ وهي: إسلامه، أو فداؤه بمقدار الجناية أو أكثر، فإن أسلمه أو فداه بمقدار الجناية فكما تقدم، وإن فداه بأكثر ولو بدرهم، فقال محمد: العبد للمرتهن. مالك: ويتبع المرتهن الراهن بدينه إلا بالدراهم، فإنه يسقط من جملة الدين. وقوله أنه يتبعه بدينه إلا بذلك الدرهم، لا يصح إلا على تقدير أن المرتهن اشتراه من الراهن بما أدى فيه، وإذا كان عنده مبيعاً فكيف يتبعه ماله، والقاعدة المأخوذة من الحديث الصحيح: أن العبد لا يتبعه ماله إلا أن يشترطه المشتري. وفيه إشكال من وجه آخر، وهو أن هذا الدرهم إذا لم يحل أجله مقدم ومقارن لعقده بيع، فينبغي أن يمنع لما في ذلك من البيع والسلف، إلا أن يقول: إن هذا لم يكن مقصوداً وإنما الأحكام جرت إليه. ولما أشرنا إليه في توجيه المشهور قال بعض الموثقين: إن نفقة هذا العبد إلى الأجل على سيده الذي كان ينفق عليه، لأنه رجع إلى ما كان عليه.

فَإِنْ حَلَّ الأَجَلُ بِيعَ بِمَالِهِ وَبُدِئَ بِالْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ زَادَ نِصْفَ الثَّمَنِ مَثَلاً؛ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَدَخَلَ مَعَهُمْ بِمَا بَقِيَ مَنْ دَيْنِهِ. قَالَ التُّونُسِيُّ: وَهَذَا هُو الْقِيَاسُ .... هذا تفريغ على الرواية التي اختارها محمد، مثال ذلك: لو بيع بمائة وكان بدون ماله يساوي خمسين؛ فماله زاد نصف الثمن. وقال: (مَثَلاً) لأنه قد يزيد الثلث ونحوه، فالمائة الحاصله منها؛ خمسون للرقبة، وخمسون للمال، وعلى هذه الرواية: أن الفداء متعلق برقبته وماله فيأخذه، فإن كان الفداء خمسين أخذها وتبقى خمسون نصفها لرقبته ونصفها لماله والرهن أولاً إنما يكون في رقبته، فيأخذ في دينه ما بقى ويأخذ الغرماء الخمسة والعشرين، فإن بقى له شيء من دينه دخل معهم وأخذ بحساب ماله، وأما على مذهب المدونة: فالفداء إنما هو متعلق برقبته، فيأخذ الخمسين التي تقابل الرقبة، ويأخذ الغرماء الخمسين الباقية، ويدخل معهم بدينه، لأنه لم يبق له رهن يختص به؛ مثاله: ما قيمته خمسون وماله خمسون، فإن فداه بأربعين فبدأ المرتهن بأخذ الأربعين ثمن الفداء ودخل مع الغرماء في الخمسين؛ فيأخذ العشرة الثانية في الخمسين في دينه وهو أربعون مثلاً، فإذا أخذ العشرة بقي له ثلاثون وتقسم الخمسون الباقية للعبد وماله فيكون خمسة وعشرين، فيأخذها المرتهن أيضاً وبقي له خمسة يدخل بها مع الغرماء فيما بقي، لأنه لم يبق له رهن يختص به وَأَمَّا لَوْ فَدَاهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لَكَانَ سَلَفَاً، فَلا يَكُونُ رَهْناً بِهِ يعني: وأما إن فدى المرتهن العبد من المجني عليه بإذن الراهن؛ فالفداء سلف في ذمة السيد وإن ذاد على قيمة العبد، ولا يباع قبل الأجل اتفاقاً. محمد: ولا يكون رهناً بالفداء، وعليه اقتصر المصنف؛ لأن الفداء لما كان سلفاً اقتضى ذلك ألا يكون العبد رهناً به لعدم اشتراطه، ولهذا قال المصنف: فلا يكون رهناً به، لأن الفاء تشعر بالسبيبة. وقال مالك وابن القاسم: بل هو رهن به. واختلف فيه قول أشهب.

اللخمي: وأرى أن يحلف ليكون رهناً به. ونقل ابن يونس عن أشهب أنه لا يكون رهناً، ثم عارض بين قوله وقول ابن القاسم في هذه المسألة بقولهما في مسألة اللؤلؤ من كتاب الوكالة: إذا أمر رجلاً أن يشتري لؤلؤاً، وقال له: أنقد عني. فإن ابن القاسم عده سلفاً، ولا يرى له إمساك اللؤلؤ بثمنه، وأشهب يرى له إمساكه رهناً، قال: فخالف كل منهما أصله. وَإِذَا قَضَى بَعْضَ الدَّيْنِ أَوْ سَقَطَ بِطَلاقٍ أَوْ إِبْرَاءٍ بَقِيَ جَمِيعُ الرَّهْنِ فِي الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الرَّهْنِ بَقِيَ الْبَاقِي فِي الْجَمِيعِ .... كما لو رهنه عشرة أرداب قمحاً مثلاً في مائة درهم ثم قضاه خمسين، فلا يأخذ الراهن شيئاً من الرهن إلا بعد وفاء جميع الحق؛ لأن الأسواق تحول على الباقي، لأن كل جزء من الرهن في مقابلة كل جزء من الدين، وكذلك لو رهنها في صداقها فطلقها قبل البناء فسقط عنه النصف أو أبرأته من النصف؛ لم يكن للزوج أن يأخذ شيئاً من الرهن، ولا فرق بين أن يكون الرهن متحداً كدار أو ثوب، أو متعدداً كثوبين أو نحو ذلك. قوله: (وَكَذَلِك لَوِ استُحِقَّ .... إلخ).تصوره ظاهر. فرع: وأما تعدد الراهن والمرتهن؛ ففي المدونة: وإذا أقرضاه جميعاً واشترطا أن يرهنهما رهناً في صداقها فطلقها قبل البناء، فلا بأس به. قيل له: وإن قضى أحدهما دينه فهل له أخذ حصته من الرهن؟ قال: قال مالك في رجلين رهنا داراً لهما في دين فقضى أحدهما حصته من الدين؛ فله أخذ حصته من الدار. واستشكل قياس قول ابن القاسم، لأنه في الثانية إذا قضى أحد الراهنين حصته، وقلنا: إن له أن يأخذ حصته من المرتهن؛ لا يقع خلل في حيازة نصيب الراهن الآخر من الراهن الذي لم يقض الحق، بخلاف الأول، أعني: إذا اتحد الراهن وتعدد المرتهن؛ فإنه إذا قبض الراهن حظ المرتهن الذي أوفاه عادت

يد الراهن مع المرتهن الذي لم يقضه، وذلك مبطل لحيازته، ولهذا الاستشكال اختصر المختصرون المسألتين على [521/أ] السؤال والجواب إشارة إلى الإشكال. ولهذا قال ابن يونس: يؤخذ من قوله: جواز حوز المرتهن نصف الدار مثلاً والباقي للراهن، وهو خلاف المعلوم من قوله. ورده عياض: بأنه لم يقل أن بقاءه بيد الراهن لا يبطل الرهن، وإنما تكلم على خروجه من الرهن ليبيعه وينتفع بثمنه. فرع مرتب: وهو أنه إذا تعدد المرتهن واتحد الراهن؛ فإذا قضى أحدهما هل يدخل الآخر عليه فيما قضاه؟ عياض: تحقيق المسألة أن الدينين إن كانا من شركة من ثمن مبيع بينهما أو من سلف واحد واشتركا فيه وهما جنس واحد، فمتى قضى أحدهما دخل عليه الآخر إذا كتباه في كتاب واحد، وكان الرهن لهما في شيء واحد، وإن لم يكتباه في كتاب واحد؛ قال في المدونة: كقمح أو دنانير مشتركة بينهما، وأما إن كتباه في كتابين فكأنهما قد رضيا بالتفاضل، وأما إن كانا نوعين أو حقين مختلفين كبيع وسلف أو دنانير وطعام؛ فلكل واحد منها أن يقضي دون صاحبه؛ كانا بكتاب واحد أو كتابين، إذ لا شركة بينهما في ذلك كما نص عليه في المدونة. فلو كانا من جنس واحد ونوع واحد من الحقوق ولا شركة في ذلك بينهما كدينارين من سلفين مختلفتين منفردين، فإن كانا في كتابين لم يدخل أحدهما على الآخر، وكذلك إن كانا في كتاب واحد، قاله أبو العباس الإبياني وغيره، وهو ظاهر قوله في الكتاب، وإنما الذي لا يكون لأحدهما الكلام فيما اقتضى صاحبه فيما كتباه في كتاب واحد من مال أصله شركة بينهما.

فَإِنْ طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ بِيْعَ مَا لا يَنْقَسِمُ بِيعَ كَغَيْرِهِ وَكَانَتْ حَصَّةُ الرَّاهِنِ رَهْنَاً، وفِي رَهْنِيَّتِهَا لا تَعْجِيلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأشْهَبَ ..... يعني: إذا استحق بعض الرهن وطلب المستحق بيع نصيبه، فإن كان مما ينقسم قسم وتركت حصة الراهن رهناً، ولوضوح هذا لم يعترض له المصنف، وإن كان مما لا ينقسم بيع جميعه كغيره من سائر المشتركات التي لا تنقسم؛ إذا طلب أحد الشريكين البيع فإنه يجبر له الآخر، ثم إن بيع بمخالف الدين في الجنس أو الصفة بقيت حصة الراهن رهناً، وإن بيعت بجنسه وصفته، فقال ابن القاسم: تبقى أيضاً رهناً. وقال أشهب: بل تعجل للمرتهن؛ إذ لا فائدة في وقفها، وقد تضيع ولا ينتفع بها الراهن ولا المرتهن. وهذا معنى قوله: (وَفِي رَهْنِيَّتِهَا لا تَعْجِيلِهَا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ). واعلم أن التعجيل على قول أشهب مقيد بما إذا لم يأت برهن آخر، هكذا صرح به أشهب في الموَّازيَّة، وظاهر كلام المصنف: أن أشهب يقول بالتعجيل إذا بيع بمثل الدين، سواء كان الدين عيناً أو عرضاً، والذي في ابن يونس عنه: أن المرتهن يأخذ مصابه الرهن من الثمن من دينه إن بيع بمثل الدين من دنانير أو دراهم. ونقل الباجي عنه أنه قال في العتبية: إذا بيع بعرض مثل حقه أو مخالفاً له وضع له رهناً، وليس له تعجيله بغير رضا المرتههن. قال الباجي: ووجه أن المماثلة لا تكاد تحصل في العروض، وقد يجد عند الأجل ما هو أقرب إلى المماثلة. ولا يقال: لعل لأشهب قولين، وقد نقل اللخمي عنه الإطلاق كالمصنف؛ لأن تقييد كلامه بعضه ببعض أولي من حمله على الخلاف. الباجي: وقال أشهب أيضا في العتبية: إن بيع شيئ من الطعام أو الإدام أو الشراب بمثل ما له صفة وجوده فاستحسن له تعجيله، وإن أبى صاحب الحق.

الباجي: وكذلك ينبغي أن يكون كل مكيل وموزون ونحوهما. وكذلك قال سحنون في المجموعة: إن بيع بمثل حقه فليعجل له. سحنون في موضع آخر: إلا أن يكون حقه طعاماً من بيع فيألى أن يتعجله فذلك له. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِيَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ يعني: إذا قال صاحب الدين: كتابك هذا عندي رهن مثلاً. وقال المالك: بل أعرته أو أودعته لك. فالقول للراهن، وهكذا في الموَّازيَّة؛ لأن رب الدين مدع لأنه أثبت للكتاب وصفاً زائداً فعليه البينة. وكذلك أيضاً إذا كان بيده عبدان فادعى أنهما رهن، فقال ربهما: إنما رهنتك أحدهما. فالقول قوله، قاله في المدونة. وقوله: (الرَّاهِنِ) يريد: على دعوة خصمه، وإلا فالفرض أن الرهن لم يثبت، وقيد اللخمي المسألة بما إذا لم تكن العادة تصدق المرتهن، وأما إن صدقته كالبياع يبيع الخبز وشبهه فيدفع إليه الخاتم ونحوه ويدعي الرهينة؛ فإن القول قوله، ولا يقبل دعوى صاحبه أنه وديعة. خليل: وهو كلام ظاهر. قال في المدونة: فلو كان نمطاً وجبة فهلك النمط، فقال المرتهن: النمطُ أو دعتنية والجبة رهن. وقال الراهن: النمطُ هو الرهن والجبة هي الوديعة. فكل واحد مدع على صاحبه، فلا يصدق الراهن في تضمين المرتهن ما هلك، ولا يصدق المرتَهِن أن الجبة رهن، ويأخذها ربها، يعني: ويحلفان. وَالرَّهْنُ كَالشَّاهِدِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ إِلَى مَبْلَغِ قِيمَتِهِ مَا لَمْ يَفُتْ فِي ضَمَانِ الرَّاهِنِ يعني: إذا اتفقا على الرهنية واختلفا في مقدار الدين، فإن الرهن يكون كالشاهد إلى مبلغ قيمته فيكون القول قول من ادعى أن الدين قدر قيمة الرهن. ابن عبد البر: واتفق على ذلك. وقال الحنفي وغيره: القول قول الراهن مطلقاً. واستدل القاضي إسماعيل

للمذهب بقوله تعالى: (ولَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ولَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ) [البقرة:283] بجعل الراهن بدلاً من الشاهد، لأن المرتهن أخذه وثيقة بحقه فكان كالشاهد يخبر عن مبلغ الدين، وما جاوز قيمته فلا وثيقة فيه، فكان القول فيه قول الراهن. وقوله: (مَا لَمْ يَفُتْ فِي ضَمَانِ الراَّهِنِ) يعني: أنه يشترط في كون الرهن شاهداً أن يكون قائماً، وفي معنى القائم بأن يهلك في ضمان المرتهن، فإن قيمته تتنزل منزلته. وأما لو هلك في ضمان الراهن فلا يكون شاهداً، والذي في ضمان الراهن ما لا يغاب عليه أو ما يثبت هلاكه ببينة [521/ب] مما يغاب عليه كما تقدم، وهكذا نص في الموَّازيَّة والعتبية على أن الرهن لا يكون شاهداً إذا كان في ضمان الراهن. خليل: وينبغي إذا شهدت البينة على صفته أن يقوم، وتكون تلك القيمة أيضاً كالشاهد، وكذلك أيضاً إذا شهدت على قيمته، وإن كان في ضمان الراهن. وإلى ذلك أشار عبد الوهاب، فإنه قال: العادة جارية أن الناس يرهنون ما يساوي قدر ديونهم أو ما يقاربها. اللخمي وغيره: فعلى قوله يكون الرهن شاهداً على الذمة، وإن هلك الرهن أو استحق. فَيَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ وَيَاخُذُهُ وَإِنْ لِمْ يَفْتَكَّهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ يعني: فيحلف المرتهن عليه وحده إن وافقت قيمة الرهن دعواه، وهذا هو المشهور. وقيل: لابد من يمين الراهن إذا طلبها المرتهن ليسقط عن نفسه كلفة بيع الرهن في الدين، ولأن المرتهن يخشى من ظهور عيب بعد بيعه. عياض: وهو الصحيح وليسقط الطلب من ذمته على القول بتعلقه بالذمة. قوله: (وَيَاخُذُهُ) أي: إذا حلف المرتهن أخذ الرهن إن لم يتفكه الراهن بما حلف عليه المرتهن، فإن نكل المرتهن حلف الراهن وغرم ما أقر به، ولا يلزم الراهن إذا حلف المرتهن أن يدفع ما حلف عليه؛ لأن الرهن إنما هو شاهد على نفسه، وهذا هو المشهور. وفي سماع

ابن القاسم عن مالك أنه شاهد على الذمة، ويجبر الراهن على دفع ما ادعاه المرتهن ما بينه وبين قيمة الرهن. ولهذا قال المصنف أولاً: والرهن كالشاهد، ولم يقل: والرهن شاهد؛ لأنه ليس بشاهد على الذمة وإنما هو شاهد على نفسه. فَإِنْ زَادَ حَلَفَ الرَّاهِنُ مَا لِمْ يَنْقُصْ عَنْهَا، فَإِنْ نَقَصَ حَلَفَا وَأَخَذَهُ إِنْ لَمْ يَفْتَكَّهُ بِقِيمَتِهِ. وقِيلَ: بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ .... مثال ذلك: إذا قال الراهن بعشرة، وقال المرتهن: بعشرين: فثلاث صور: الأولى: أن يوافق المرتهن بأن تكون قيمته عشرين. والثانية: أن يوافق الراهن بأن تكون قيمته عشرة. والثالثة: ألا يوافق واحد منهما بأن تكون قيمته خمسة عشر. فأشار إلى الأولى بقوله: فيحلف المرتهن ويأخذه إن لم يفتكه. وأشار إلى الثانية بقوله: فإن زاد. أي: المرتهن على قيمته. أي: في دعوى المرتهن بأن يساوي عشرة حلف الراهن وحده، فإن نكل حلف المرتهن وأخذ المرتهن ما ادعاه. وقوله: (ماَ لَمْ يَنْقُصْ عَنْهَا) أي: ما لم تنقص دعوى الراهن عن قيمة الرهن. قوله: (فَإِنْ نَقَصَ) أي: الراهن عن القيمة، يريد: مع كون الراهن قد زاد. (حَلَفاَ) أي: الراهن والمرتهن كل على دعواه. عياض: ولا خلاف في حلفهما في هذه الصورة. مالك في الموطأ، وابن المواز: ويبدأ المرتهن باليمين؛ لأن الرهن كشاهد له على قيمته، فإن حلف فليحلف الآخر، فإن نكل لزمخ كل ما ادعاه المرتهن، وكذلك أيضاً لو نكل المرتهن وحلف الراهن لم يلزم الراهن إلا ما حلف عليه، وإن نكلا أو حلفا فعلى الراهن قيمته إن أحب. وقيل: لا يكون له أخذه إلا بما حلف عليه المرتهن.

وإلى هذين القولين أشار بقوله: (وَأَخَذَهُ إِنْ لَمْ يَفْتَكّهُ بِقِيمَتِهِ) وقيل: بما حلف عليه. القول الأول لمالك في الموطأ، وهو قول ابن نافع وابن المواز. ثم يقال للراهن: إما أن تعطيه الذي حلف عليه وتأخذ رهنك، وإما أن تحلف على الذي قلت أنك رهنته ويبطل عنك ما زاد المرتهن على قيمة الرهن. فإن حلف بطل ذلك عنه، وإن لم يحلف لزمه غرم ما حلف عليه المرتهن. والقول الثاني لابن القاسم في العتبية. قال في الموطأ: ويحلف المرتهن على جميع ما ادعاه، وهو العشرون. وقال ابن المواز: المرتهن مخير أن يحلف على دعواه أو على قيمة الرهن. وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه: أنه لا يحلف إلا على خمسة عشر، كما لو ادعي عشرين فشهد له شاهد بخمسة عشر، فإنه يحلف على شهادة الشاهد. وفرق الباجي وغيره بين الرهن والشاهد بأن الرهن متعلق بجميع الدين، والشاهد لا تعلق له بما لم يشهد، ألا ترى أن الراهن لو أقر بالعشرين لكان الرهن رهناً بجميعها، ولو أقر بتصديق الشاهد لم يكن لشهادته تعلق بغير الخمسة عشر. واعلم أن القول بتحليفه على العشرين أخص؛ لأنه إذا نكل الراهن لا يحتاج المرتهن إلى يمين أخري، بخلاف من يقول: إنه يحلف على قيمة الرهن؛ لأنه يحتاج إذا نكل الراهن إلى يمين أخرى يثبت بها ما زاد على القيمة. تنبيه: ما تقدم من أن الضمير في قوله: (فَإِنْ زَادَ) عائد على (الْمُرْتَهِنُ) هو الظاهر، بل المتعين هنا، وهو الذي قال ابن راشد. وقال ابن عبد السلام: يعني فإن زاد الذي أقر به الراهن على قيمة الرهن؛ كما لو كانت قيمته ثمانية وأقر الراهن أن الدين عشرة، فيحلف الراهن وحده، كما يحلف لو لم يكن رهن ليرد دعوى المرتهن، وفيه نظر، فإن حمل الكلام

على هذا لا يفيد، فإنه إذا كان القول قول الراهن إذا ادعى قيمة الرهن فمن باب الأولى إذا ادعى أزيد من ذلك. ثم المسألة في كلام مالك وغيره إنما هي على الوجه الذي ذكرناه. وَفِي شَهَادَةِ مَا بِيَدِ أَمِينٍ قَوْلانِ القول بقبول شهادة ما بيد أمين لابن المواز، والآخر لأصبغ. أبو محمد: وقول ابن المواز أصوب، لأنه إنما أخذه توثقة بحقه، ولا فرق بين أن يكون تحت يد المرتهن أو يد الأمين. فَإِنْ تَلِفَ الْمَضْمُونُ واخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ؛ تَوَاصَفَاهُ ثُمَّ قُوِّمَ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ .... يعني: إذا تلف المضمون وألزم المرتهن قيمته، فإن اختلفا في قيمته؛ فإنهما يتواصفاه ثم تقوم تلك الصفة، وإن اختلفا فيها فالقول قول المرتهن مع يمينه، وهكذا في المدونة. وقيد المصنف المسألة بالمضمون؛ لأن غير المضمون لا قيمة فيه على المرتهن حتى يغرمها، وليس هو أيضاً شاهداً [522/أ] على مقدار الدين كما تقدم. وقوله: (فَإِنِ اخْتَلَفاَ) أي: في الصفة، فالقول قول المرتهن لأنه غارم، وهذا هو مذهب المدونة. ابن المواز: ويقبل قول المرتهن في الصفة، وإن كانت قيمة ذلك يسيرة إلا في قول أشهب، فإنه قال: إلا أن يتبين كذبه لقلة ما ذكره جدًّا، واختلف أيضاً لو لم يدع المرتهن هلاك الرهن، لكن أتى برهن يساوي عشر الدين مثلاً، هل يكون الدين شاهداً للراهن إذا أنكر أن يكون هذا رهنه كما كان الرهن شاهداً للدين؟ والمشهور: أن لا يكون الدين هنا شاهداً. ابن عبد السلام: والأقرب أنه لا فرق بين الصورتين.

فرع: أما إن جهل الراهن والمرتهن قيمته وصفته؛ فالرهن بما فيه، وليس لأحدهما قبل الآخر شيء، وعلى ذلك حمل أصبغ الحديث:"الرهن بما فيه" قيل: ولا خلاف عندنا في ذلك. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ يَوْمُ الْحُكْمِ إِنْ كَانَ بَاقِياً، وَيَوْمُ قَبْضِهِ إِنْ كَانَ تَالِفاً، وَعَنْهُ أَنَّ الرَّهْنَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الضَّيَاعِ، وَعَنْهُ: يَوْمَ الرَّهْنِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ تِلْكَ الْقِيمَةُ فِي مَبْلَغِ الدَّيْنِ .... حاصل ما ذكره: أنه إن كان الرهن باقياً اعتبرت قيمته يوم الحكم، وإن تلف؛ فثلاثة أقوال لابن القاسم، أعني: هل تعتبر يوم الضياع، أو يوم القبض، أو يوم الرهن؟ على أنه قد اختلف في الروايتين الأخيرتين هل هما وفاق أو خلاف؟ وقوله: (قَالَ الْبَاجِيُّ: فَيَنْبَغِي) إنما قال الباجي ذلك بلفظ يجب. قال: وعلى اعتبار قيمة الضياع يجب أن تعتبر تلك القيمة إلى مبلغ الدين، والأقرب اعتبار القيمة يوم الرهن؛ لأن الناس إنما يرهنون ما يساوي ديونهم غالباً. ابن عبد السلام: وما حكاه المصنف عن الباجي هو نص في الموطأ ومعناه في المدونة. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي مَقْبُوضٍ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: عَنْ دَيْنِ الرَّهْنِ، وقَالَ الْمُرْتَهِنُ: عَنْ غَيْرِهِ. وُزِّعَ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا عَلَى الْجِهَتَيْنِ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ نحوه في المدونه، ونظيرها إذا كان له عليه دين بحميل ودين بغيره، واختلفا في المقبوض هل عما هو بحميل أم لا؟ ابن رشد: والكلام فيهما واحد، ومذهب المدونة أنهما يتحالفان ويقسم المقبوض بينهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالقول قول الحالف، وحكى في المدونة في مسألة الحمالة عن غير ابن القاسم: أن القول قول المقبض مع يمينه، قال: لأنه مؤتمن مدعى عليه.

وإلى هذا أشار بقوله: (وَقِيلَ: القَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ) ابن رشد: وما حكاه من أن القول قول المرتهن لا يوجد على إطلاقه. وحكاه في الجواهر عن أشهب مقيداً، فقال بعد أن ذكر أنهما يتحالفان ويقسم الثمن بينهما: وقال أشهب: وهذا إذا تقاررا بالإبهام، وأما لو تداعيا البيان؛ فالقول قول المرتهن، وكلام ابن يونس قريب منه. ابن عبد السلام: وهذا القول أقرب؛ لأن الدافع يطلب إخراج الرهن بمحض دعواه فعليه البيان. وقال ابن كنانة في مسألة الحمالة: القول قول من عليه الدين. وكذلك حكى ابن رشد قولاً في مسألة الرهن أن القول قول الراهن. اللخمي: وهو القياس؛ لأنه متطوع، ولأن القول قوله فيما يقر به. وقيد اللخمي ما في المدونة بما إذا حل الدينان أو لم يحلا وكان أجلهما سواء أو متقاربان، فإن حل أحدهما؛ فالقول قول من ادعى الحال، وكذلك إذا تباين الأجلان فالقول قول من ادعى أقربهما أجلاً مع يمينه. بعض القروبين: وإنما تصح القسمة إذا كانت المائتان حالتين، وأما إن كانتا مؤجلتين؛ فالقول قول الدافع، لأنه يقول: إنما قصدت تعجيل المائة لآخذ الرهن، فيكون القول قوله. وَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ رَدَّهُ لَمْ يُقْبَلْ ظاهر. وَإِذَا اخْتَلَفَ الأَمِينُ والْمُرْتَهِنُ، فَقَالَ: بِعْتُهَا بِمِائَةٍ وَأَسْلَمْتُهَا لَكَ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ؛ غَرِمَ الأَمِينُ لَهُ مَا أَنْكَرَهُ ... قال في المدونة: وإن قال المأمور بعت الرهن بمائة وقبضتها للمرتهن، وقال المرتهن: ما أخذت منه شيئاً؛ صدق المرتهن. وكذلك يصدق المرتهن إذا قال: إنما أعطاني خمسين، وقال المأمور: بل مائة. ولأجل تصديق المرتهن قال المصنف: غرم الأمين ما أنكره، أي: ما

أنكر المرتهن، يعني: للمرتهن بعد يمينه. وهو مقيد بما إذا كان المأمور مأموراً من الراهن. ابن يونس: ولو كان المرتهن هو الذي أمر ببيعه؛ لصدق المأمور مع يمينه في دفعه إلى المرتهن، لأن الوكيل على البيع مصدق في دفع الثمن إلى الآمر. * * *

التفليس

التَّفْلِيس: وَإِذَا الْتَمَسَ الْغُرَمَاءُ أَوْ بَعْضُهُمُ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ يَنْقُصُ مَالُهُ عَنْ دَيُنِهِ الْحَالِّ حُجِرَ عَلَيْهِ ..... التفليس مصدر فلس. عياض: وأصله من الفلوس؛ أي: صار صاحب فلوس بعد أن كان ذا ذهب وفضة. وفي الجوهري: يقال: أفلس الرجل؛ أي: صار مفلساً كأنما صارت دراهمه فلوساً، كما يقال: أخبث إذا صارت أصحابه خبثاً، وأقطف إذا صارت دابته قطوفاً، ويجوز أن يراد أنه صار إلى حال ليس معه فلس، كأُقْهِرَ الرجل إذا صار إلى حال يقهر عليه. وقوله: (الْتَمَسَ ...) إلخ. يعني للقاضي الحجر على المِدْيَان بثلاثة شروط، أو شرط مركب من ثلاثة أجزاء: الأول: أن يطلب الغرماء أو واحد منهم ذلك، وهو معني قوله: (الْتَمَسَ الْغُرَماَءُ أَوْ بَعْضُهُمُ) وفهم من كلامه أن لبعض الغرماء إذا قام تفليسه وإن كره غيره، وهو صحيح. محمد: إلا أن يقدمه الغرماء في المال الموجود أو يدفعوا له دينه من أموالهم. الثاني: أن يكون مال المِدْيَان ناقصاً عن دينه الحال. الثالث: أن يكون الدين حالاً، وأما إن كان مؤجلاً فلا حجر بمؤجل، نعم يحل بالحجر كما سيأتي، والمؤجل الحال كالحال، وذكروا هنا صوراً: الأولى: أن يكون له وفاء دينه الحال والمؤجل؛ فهذا لا يفلس. الثانية: أن يكون ما بيده ناقصاً [522/ب] عن الحال؛ فلا إشكال أنه يفلس. الثالثة: أن يكون بيده مقدار الحال فقط، فللقرويين في تفليسه قولان. الرابعة: أن يكون في يده مقدار دينه الحال ويفضل عن ذلك فضله إلا أنها لا تفي بالمؤجل الذي عليه، فذكر اللخمي أن المعروف أنه يفلس. وفي الموازية: أنه لا يفلس.

قال: وليس بحسن. وقيد اللخمي ما في المدونة بأن تبقى في يده فضله يعامله الناس عليها ويتاجرة الناس بسببها، ويرجى من تنميته لها ما يقضي به الديون المؤجلة، وإن كان المعروف في هذه المسألة أن يفلس؛ إذا لم يكن بيده إلا مقدار الحال أولى، وهو خلاف مفهوم كلام المصنف؛ إذ مفهوم كلامه: أنه لو بقى بيده مقدار الحال فقط لم يفلس. اللخمي: وإذا كان ما في يده كفاف دينه وله مؤجل مثل المؤجل الذي عليه في العدد والأجل على موسر، أو كان محل دينه قبل محل الذي عليه، أو كان محل دينه أبعد أجلاً وهو أكثر عدداً- وإن بيع الآن- أو عند حلول ما عليه وفاء بالدين، لم يفلس، وكذلك إذا كان أجل دينه قبل وهو أقل ويرجى بعد قبضه وتجره به أن يوفي ما عليه. تنبيه: أخذ من قول المصنف: (الْتَمَسَ الْغُرَمَاءُ) أنه لا يكون للقاضي ذلك إلا بطلبهم، وأنه لو أراد الغريم تفليس نفسه لم يكن له ذلك، وقد اختلف الشافعية هل له ذلك أم لا؟ والصل في هذا الباب ما رواه أبو داود: أنه عليه السلام حجز على معاذ بن جبل- رضي الله عنه- وقسم ماله بين غرمائه. وفعل ذلك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- برجل كان يشتري الرواحل ويسبق الحاج. وقال:" من كان له عنده شيء فليأتنا بالغداة نقسم ماله وإياكم والدين، فإن أوله هم وآخره حرب". وَلا حَجْرَ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلَكِنْ يَحِلُّ بِالْحَجْرِ يعني: شرط الدين الذي يحجر به أن يكون حالاً، وإن كان دينه مؤجلاً كله أو حل بعضه ولكن ما بيده أكثر مما حل عليه؛ لم يحجر عليه. اللخمي: وسواء كان يوجد عنده عند حلول الأجل شيء أم لا، إلا أن تتغير حالته ويظهر منه إتلاف ويخشى ألا يوجد عند حلول الأجل شيء؛ فيحجر عليه ويحل دينه، إلا أن يضمن أو يوجد ثقة يتجر له.

قوله (وَلَكِنْ يَحِلُّ بالْحَجْرِ) يعني: إذا حجر عليه بسبب الدين الحال فإن المؤجل يحل كما يحل بالموت؛ لخراب الذمة في المسألتين. فرع: لو قال بعض الغرماء: لا أريد حلول عروضي، وقال المفلس: بل حكم الشرع بحلول ما على ولا أوخره؛ فالقول للمفلس ويجبر المستحق على أخذها، قاله في الموازية والعتبية. واعترضه اللخمي بأن الحلول إنما لِحَقِ رب السلعة، فينبغي ان يكون القول له في التأخير، وإلى حلول الدين بالموت أشار بقوله: وَالْمَوْتُ كَالْفَلَسِ وهذا هو المشهور. وذهب السيوري إلى أن المؤجل لا يحل بالموت، فأحرى على قوله الفلس، ووجه المشهور: أنه لو لم يحل بالموت لزم إما تمكين الورثة من قسمة التركة، وإما عدم تمكينهم، والأول باطل بقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:11]. والثاني كذلك؛ لما يلحق الجميع بسبب وقف التركة من غير فائدة. ولو قال الورثة: نحن نأتي بالحميل مليء ونؤديه عند الأجل ومكنونا من قسمة التركة كلها؛ لم يكن لهم ذلك، قاله ابن نافع في المبسوط. فرع: ويدخل في قوله: (ويحل بالفلس) دين الأكرية، وهو الذي أخذ من المدونة من قوله: إذا ألفلس المكتري فصاحب الدابة أولى بالمتاع من الغرماء. فإنه يقتضى تعجيل حقه، ولا يصح أن يباع للغرماء منافع دابة بالنقد يأخذونه ويبقى هو مطالباً بالكراء. ومن قوله فيها أيضاً، إذا اكترى أرضاً فزرعها ثم فلس؛ أنه يحاص الغرماء منافع دابته بالنقد بالكراء. المازري: وذكر لي بعض أشياخي أن عبد الوهاب نص عليه في شرح الرسالة، وكذلك ذكر لي عن المبسوط، ولم أقف على النقل في هذين الكتابين، ولكن عندي أن المسألة

كالمنصوص فيها على قولين؛ لأنه اختلف فيمن أكرى داره خمس سنين وقبض كراءها ومر عليه حول ففلس، هل يكري الجميع أو العام الأول فقط؟ وفي المقدمات: وإن اكترى الرجل داراً بالنقد أو كان العرف فيه النقد ففلس المكتري قبل أن يقبض الدار أو بعد أن قبض المكتري بعض السكني؛ فأوجب ابن القاسم في المدونة للمكتري المحاصة بكراء ما بقى من السكني إذا شاء أن يسلمه، وله مقل ذلك في العتبية. وعلى قياس هذا إن فلس قبل أن يقبض الدار فللمكتري أن يسلمها ويحاص بجميع كرائه، وهذا إنما يصح على قول أشهب الذي يرى قبض أوائل الكراء قبضاً لجميع الكراء. وأما ابن القاسم: فالقياس في أصله أن يحاص الغرماء بما مضى ويأخذ داره ولا يكون له أن يسلمها، ويحاص الغرماء بجميع الكراء. ولو لم يشترط في الكراء النقد ولا كان العرف فيه النقد؛ لوجب على المذهب المتقدم إذا حاص أن يوقف ما وجب له في المحاصة، فكلما سكن شيئاً أخذ بقدره من ذلك. وَالْبَعِيدُ الْغَيْبَةِ لا يُعْرَفُ تَقَدُّمُ مِلائِهِ يُفَلَّسُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: وَلَوْ كَانَ عُرِفٌ يعني: أن الغريم إذا كان بعيد الغيبة ولم يعرف له تقدم ملاء فإنه يفلس، وإن عرف له ذلك؛ فالمشهور لا يفلس خلافاً لأشهب، وقد نقل ابن يونس وغيره قول أشهب كما نقله المصنف. وقول ابن عبد السلام: إن في نقل المصنف له نقصاً؛ لأنه لا يؤخذ منه أنه يحكم بفلسه ولو عرف ملاؤه، وليس بظاهر. وقال أصبغ بالمشهور استحساناً، والقياس عنده قول أشهب. أصبغ: ويكتب بتفليسه حيث هو ليستتم عليه ذلك بالموضع الذي هو فيه. ابن يونس: وفي قول أصبغ نظر؛ لأن أشهب إنما فلسه وإن كان ملياً في غيبته؛ لإمكان [523/أ] تلف المال، فإذا وصل إليه فكيف يحل المؤجل عليه وهو مليء. انتهى. وأجيب بأن أصبغ رآه حكماً مضى فلا يرتفع.

فرع مرتب على المشهور: فإن فلس ثم قدم ملياً فلا شك في أخذ من قد حل دينه، وأما من لم يحل دينه؛ فاختلف هل يأخذ أيضاً حقه لأنه حكم مضى وهو ظاهر قول أصبغ، أو لا يأخذه إلا بعد أجله لأن الغيب قد كشف خلاف ما مضى به فصار كما لو تبين خطأه وهو اختيار بعض المحققين؟ وقال ابن عبد السلام: الأول أقرب؛ لأن الحاكم حين قضى بإفلاسه كان محوزاً لما قد ظهر الآن، وأيضاًفهو حكم واحد، وقد وقع الاتفاق على أن من قبض شيئاً من دينه المؤجل لا يرد ذلك، فكذلك ما بقى، وأما لو حضر الغريم وغاب المال فإن ذلك يوجب تفليس الغريم إذا كانت غيبة المال بعيدة. انتهى. وفهم من قول المصنف: (وَالْبَعيدُ) أنه لو كان قريبا لم يفلس بل يكشف عن حاله، وهكذا في العتبية والواضحة لابن القاسم، وحد القرب فيهما بالأيام اليسيرة. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك. قال: وخلاف ابن القاسم وأشهب إنما هو عندي فيما كان على مسيرة عشرة أيام ونحوها، وأما إن كان على مسيرة الشهر ونحوه فلا خلاف في وجوب تفليسه وإن علم ملاءه؛ أي: غناه من فقره. فرع: وهل يستأنى ببيع عروض الغائب خشية أن يكون عليه دين آخر؟ أما البعيد الغيبة: فلا خلاف في الاستيناء في حقه. وأما القريب: فلمالك في رواية ابن وهب في بعض روايات المدونة، ولا يستأنى به لأن له ذمة. وقال ابن القاسم: يستأنى به كالميت. وَلَوْ مَكَّنَهُمُ الْغَرِيمُ مِنْ مَالِهِ فَبَاعُوهُ وَاقْتَسَمُوهُ ثُمَّ تَدَايَن؛ فَلَيْسَ للأَوَّلِينَ دُخُولٌ فِيهِ، إِلا أَنْ يَكُونَ فِيْهِ فَضْلُ رِبْحٍ كَتَفْلِيسِ السُّلْطَانِ يعني: إذا اتفق الغريم وأرباب الديون على أخذ ما في يد الغريم والتحاصص فيه وفعلوا ذلك من غير رفع إلى الحاكم، ثم تداين هذا الغريم من قوم آخرين؛ فليس للأولين الدخول في دين ما أخذه من الآخرين، إلا أن يفضل عن دين الآخرين فضل.

وقوله: (كَتَفْلِيسِ السُلْطَانِ) تشبية لإفادة الحكم؛ لأنه لم يتقدم له هذا الحكم في تفليس السلطان؛ أي: وليس لهم أن يدخلوا كحكم الحاكم. وَلِلْحَجْرِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ؛ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمَوْجُودِ (أل) في (لِلْحَجْرِ) للعهد؛ أي: لحجر المفلس أربعة أحكام؛ الأول: (مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمَوْجْودِ) احترازاً مما إذا لم يوجد؛ فإنه لا يمنع كالتزامه عطية شيء إن ملكه، اللهم إلا أن يملكه ودينهم باق فلهم حينئذ المنع. ومراد المصنف بالمنع من التصرف: هو التصرف الخاص وهو التبرع؛ لقوله بعد هذا: (مُعَامَلَتِهِ) ولكن إن أراد هذا دخل عليه النكاح، فإنه ممنوع من التزويج في المال الذي فلس فيه، قاله في المدونة، قال: وله أن يتزوج فيما أفاده بعده. وظاهرها وظاهر العتبية: أن له أن يتزوج قبل التفليس. ابن رشد: هذا إذا تزوج من يشبه حاله وأصدقها مثل صداقها، ولو كان أكثر لكان غرماؤه أولي، وترجع هي عليه به، واختلف هل يُقَامُ المفلس من السوق لئلا يُغَشُ الناس بالبيع هنا؟ قال مالك في الموازية فيمن تَعَمَدَ إتلاف أموال الناس: يقام من السوق، كما قال في السفيه إذا حجر عليه. وقال مطرف وابن الماجشون في الواضحة: والمفلس لا يقام للناس. اللخمي: وهذا أحسن فيمن لم يتعمد تلف ذلك. فرعان: الأول: اختلف في الكتابة؛ فقيل من ناحية العتق فترد، وقيل: من ناحية البيع فتمضي. اللخمي: وأرى أن ينظر في قيمته مكاتباً؛ فإن كانت كقيمته رقيقاً مضت مطلقاً إلا أن يتعذر بيع المكاتب، وكذلك إن كانت قيمته مكاتباً أبخس إلا أنها تفي بالدين، وإن كانت لا تفي؛ ردت إن كانت بعد الحجر أو قبل وكان البخس لتخفيف في الكتابة؛ لما يرجى من الولاء، إلا إن كانت قبله في حسن النظر لكثرة النجوم، كمن باع سلعة بثمن إلى أجل

وكان بيع ذلك الدين لا يفي بالثمن لو بيعت على النقد فإنه لا يرد. انتهى. وهذا إنما يأتي إذا أجرينا الكتابة مجرى البيع. الثاني، قال في المدونة: ورهن من أحاط الدين بماله وبيعه وقضاؤه جائز ما لم يفلس، وقد كان مالك يقول: إذا تبين فلسه فليس له ذلك ويدخل الغرماء معه فيه، وليس بشيء، وعلى الأول جماعة الناس. وحكى في المقدمات قولاً ثالثاً بجواز قضائه لبعض غرمائه دون رهنه، أما لو قضى جميع ما بيده لأحد غرمائه، فأشار السيوري إلى أن ذلك لا يختلف في رده وأفتى بذلك، وإنما اختلف إذا قضى البعض، وقال بعض القرويين: إنه يتفق على رده إذا عجله لبعضهم قبل أجله. وَفِي مُعَامَلَتِهِ، ثَالِثُهَا: بِالنَّقْدِ لا بِالنَّسِيئَةِ، وَرَابِعُهَا: بِمَا يَبْقَى لا بِمَا يَذْهَبُ أي: وفي صحة معاملة المفلس وعدم صحتها، والذي اقتصر عليه اللخمي والمازري وابن شاس: أن بيعه وشراءه لا يمضي. وفي الجلاب: أن بيع المفلس وابتياعه جائز ما لم يحاب. ولم أقف على غير هذين القولين، على أن بعض من تكلم على الجلاب أوله بأن مراده مَنْ ظهر عليه الفلس قبل أن يحجر الحاكم عليه، قال: وأما إن حجر عليه فلا يجوز له تصرف البتة. ولا خلاف في جواز بيعه إذا لم يحجر عليه بشرط ألا يحابي، قاله في المقدمات. وقوله: (بِمَا يَبْقَى لا بِمَا يَذْهَبُ) أي: لا يسرع إليه التلف كالعقار. ابن عبد السلام: ولستُ على وثوقٍ من نسبة هذه الأقوال للمذهب، بل ورأيت من الحفاظ من ينكرها، والأول منها هو المعروف في المذهب، ولو صح بيعه وشراؤه لما كان للحجر عليه كبير فائدة، وإنما حكيت هذه الأقوال في مستغرق الذمة بالحرام والمغصوب، على القول بأن حكمه حكم من أحاط الدين بماله لا حكم المفلس وهو الأظهر، ومنهم من

رأى حكمه حكم المفلس فمنع من معاملته مطلقاً، هكذا [523/ب] حرره بعض المحررين من الشيوخ. وَيَمْضِي عِتْقُ أُمِّ وَلَدِهِ، وَرَدَّهُ الْمُغِيرَةُ أمضاه ابن القاسم في الكتاب ورده المغيرة، وقال: ليس هو كطلاقه لزوجته، بل هي كرقيقه؛ لاتفاقه بها. ومنشأ الخلاف: هل هي كالزوجة لأنه ليس له فيها إلا الاستمتاع، أو كالأمة لأن فيها شائبة الرق، ولأن أرش جنايتها للسيد؟ وفهم من قوله: (وَيَمْضِي عِتْقُ أُمِّ وَلَدِهِ) أنه لا ينبغي للمفلس أن يقدم على ذلك ابتداءً، وهذا مقيد بأم الولد التي أولدها قبل الحجر، وأما لو أولدها بعده؛ فيرد عتقها لأنها تباع إذا وضعت دون ولدها. وَفِي إِتْبَاعِهَا مَالَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ يَسِيراً قَوْلانِ إذا فرعنا على المشهور من إمضاء العتق، فإن لم يستثن السيد مالها، فقال مالك في العتبية: يتبعها لأن السيد باعتبارها غير مفلس. وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيراً، لأن الغرماء إنما لم يكن لهم ردها لأنهم لا منفعة لهم فيها بخلاف مالها. وَتَصَرُّفُهُ شَارِطاً أَنْ يَقْضِيَ مِنْ غَيْرِ مَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ صَحِيحٌ إذا اشترى شيئاً على أن يقضي ثمنه من غير ما حجر عليه فيه بل مما يطرأ جاز؛ إذ ليس فيه إتلاف على الغرماء. خليل: وانظر هذا فإن فيه البيع لأجل مجهول وقابله بما قالوه فيمن تزوجها إلى ميسرته أنه لا يجوز، وقد تقدم أن شيخنا رحمه الله أخذ من هذا أنه يجوز أن يشتري سلعة بشرط أن يدفع ثمنها إذا فتح الله عليه وانظر ذلك.

وَكَذَلِكَ طَلاقُهُ وِخُلْعُهُ وِاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وعَفْوُهُ يعني: وكذلك تصح تصرفاته غير المالية كطلاقه، فأحرى خلعه لأخذه فيه مالاً، وذلك أنفع للغرماء، وله أن يستوفي القصاص الذي وجب له؛ إما بسبب جناية عليه أو على وليه، وله أن يعفو عن الجاني، ولا إشكال في هذا على قول ابن القاسم الذي يرى أن موجب العمد قود كله، وأما على قول أشهب الذي يرى أن الواجب الخيار للولي بين القصاص والدية فقد غمزه بعضهم، والأظهر أنه لا إشكال فيه على قاعدة المذهب؛ لقولهم أنه لا يجبر على انتزاع مال أم ولده ومدبره. ووقع في بعض النسخ (وغيره) عوض قوله: (وعَفْوُهُ) فيعني به كاستلحاق النسب أو اللعان، والله أعلم. وَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْمَجْلِسِ أِوْ عَنْ قُرْبً يعني: أن إقرار الغريم إما بدين في ذمته أو بمعين، وبدأ بالدين وذكر أنه يقبل إقراره في مجلس التفليس وبالقرب منه، ولا يقبل مع البعد للتهمة، وقيد بالمجلس وقربه؛ لأن الغالب في حق من يعامل الناس أنه لا يستحضر جميع ما عليه إلا بتفكر. ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنه يقبل في المجلس وبالقرب منه، سواء كان الدين الذي فلس به ثبت ببينة أو بإقرار، وهو اختيار بعض الشيوخ. والظاهر عندي: أن الغالب عدم استحضاره لجميع الدين في وقت واحد، لكن الذي نص عليه محمد وحملوا عليه المدونة أن هذا خاص بما إذا ثبت الدين بإقراره، وإن كان ببينة فإنه لا يقبل وإن كان في المجلس. ولمالك في الموازية قول ثالث: أن من أقر له المفلس إن كان يعلم منه إليه تقاض ومداينة وخلطة؛ حلف المقر له ودخل في الحصاص مع من له بينة.

وزاد بعضهم رابعاً: أنه يقبل ما لم يحز عنه المال؛ لأنه حينئذ كالرهن للغرماء. وفهم من كلام المصنف أنه إذا أقر قبل التفليس أنه يقبل؛ لأنه قبل في مجلس التفليس فأحرى قبله. قال في المقدمات: ولا خلاف في ذلك إن كان المقر له لا يتهم عليه، وفي المتهم عليه خلاف. وكذلك حكى اللخمي وقال: عدم الجواز أحسن. ابن راشد: ونزلت عندنا بقفصة وكتب فيها قاضي الجماعة بما اختاره اللخمي من البطلان. خليل: وفي الاتفاق الذي حكاه في المقدمات نظر، فقد حكى المازري وغيره أنه وقع لابن نافع في المبسوط أنه لا يجوز أقرار من تبين فلسه وإنما لم يضرب على يديه. ابن راشد: وحد التفليس الذي يمنع قبول إقراره أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه أو يقوموا فيستتر عنهم فلا يجدوه، وذكر غيره أنه اختلاف بماذا يكون مفلساً؟ فقيل: بالمشاورة فيه. وقيل: إذا رفعوه للقاضي. وقيل: بجعله في السجن. ثُمَّ لا يُقْبَلُ إِلا بِبَيِّنَةٍ وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ أتى بـ (ثُمَّ) المقتضية للتراخي؛ يعني: فإن لم يقر في المجلس ولا بقربه بل بعد ذلك لم يقبل أقراره، إلا أن تشهد البينة لصحته، وإذا لم يقبل بقي ما أقر به في ذمته، فإذا أفاد مالاً بعد ذلك دخل فيه هذا المقر له؛ لأن التهمة إنما كانت في المال الأول. قال في المقدمات: وأما لو داين قوماً آخرين ثم فلس؛ فلا دخول للمقر له أولاً معهم، لأن حقه على قوله فيما كان أخذه الأولون، فإن فضل عن الآخرين فضلة دخل معهم الأولون. واختلف إذا كان إقراره أولاً صحيحاً ولم يرض المقر له بتفليسه ولا دخل في المحاصة؛ فقال محمد: له أن يدخل مع الآخرين. وقال مطرف في الواضحة: لا يدخل معهم.

اللخمي: وإن كان غائباً حين فلسه ثم قدم؛ كان له أن يدخل مع الأولين فيحاصصهم، ويختلف إن أحب أن يدخل مع الآخرين؛ فعلى قول محمد له ذلك. وقال ابن القاسم في كتاب السرقة: لا يدخل معهم وهو موافق لقول مطرف، وهو أحسن؛ لأن هذه الأموال للآخرين لا شركة للأولين فيها. واختلف إذا بقي أحد الأولين في يده نصيبه من المحاصة؛ فعلى قول ابن القاسم: يضرب مع الآخرين بقدر ما أبقى كمداينة حادثة [524/أ]. وفي الواضحة: يضرب بأصل دينه. فَإِنْ قَالَ قِرَاضٌ أَوْ وَدِيعَةٌ وَعَلَى أَصْلِهِ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْبَلُ. وَقَالَ أَشْهَبُ بِالتَّعْيينِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ إِذَا عَيَّنَهُ وَكَانَ لِمَنْ لا يُتَّهَمُ يعني: وإن أقر بشيء معين في يده في المجلس أو أقر به وقال: هو قراض لفلان أو وديعة، فقال ابن القاسم: يقبل ذلك منه إذا شهدت بينة على أصل القراض والوديعة. واشترط أشهب إذا شهدت على تعيين ذلك أنه له، هكذا نقل غير واحد قول أشهب. واكتفى أصبغ بتعيين المقر وإن لم تكن بينة إذا كان إقراره لمن لا يتهم عليه، وحكى في البيان فيما إذا قال: هو قراض فلان أو وديعة فلان ثلاثة أقوال: الأول لمالك في سماع عيسى: أنه جائز مع يمين المقر له. والثاني لابن القاسم في العتبية وآخر الوصايا الثاني من المدونة: أن إقراره لا يجوز. والثالث: الفرق إن كان على أصله بينة صُدِّقَ أن هذا هو ذلك المال، وإن لم تكن على أصله بينة لم يصدق، ورواه أبو زيد عن ابن القاسم، قال، وقيل: إن رواية أبي زيد مفسرة للقولين. ابن عبد السلام: وما حكاه عن كتاب الوصايا الثاني ليس نصاً في تعيين المقر به، بل ظاهره عدم التعيين، وهو نص التهذيب.

وإن أقر الولد أن أباه أوصى لرجل بثلث ماله وعلى الولد دين يستغرق مورثه وأنكر غرماؤه الوصية؛ فإن كان إقراره قبل القيام عليه بالدين جاز، ولا يجوز أقراره بعد القيام عليه، وكذلك إقراره بدين على أبيه أو وديعة عند أبيه فإقراره بعد قيام غرماء المقر عليه لا يقبل إلا ببينة، وإقراره قبل أن يقام عليه جائز، لكن في آخر كتاب القراض وكتاب الوديعة ذكر التعيين في إقرار المريض بالقراض والوديعة. أ. هـ. وحكى المازري وغيره الثلاثة الأقوال التي حكاها ابن رشد في الوديعة في الصانع أيضاً إذا عين شيئاً لأحد. وفي اللخمي: إذا ثبت البيع والإيداع، ثم قال بعد الفلس: هذا الثوب الذي اشتريت أو الوديعة التي قبضت، فقيل: لا يقبل إقراره، وقيل: يقبل، وقيل: لا يقبل في البيع ويقبل في الوديعة، والإبضاع والقراض والقبول في الجميع أحسن؛ لأن الأصل وجود هذه الأشياء عنده حتى يُعْلَمَ أنه تصرف فيها. ابن يونس: ولم يختلف في المريض يقول: هذا قراض فلان أو وديعته أنه يقبل إقراره إن كان لم يتهم عليه وإن لم تكن على أصل ذلك بينة؛ لأن الحجر على المريض أضعف من الحجر على المفلس؛ لأن المريض يشتري ما يحتاجه بخلاف المفلس. وَالْمَالُ الْمُتَجَدِّدُ يَحْتَاجُ إِلَى حَجْرٍ ثَانٍ يعني: أن ما استفاده بعد الحجر عليه أو نشأ عن معاملة قوم آخرين، فإن له التصرف فيه حتى يحجر عليه حجراً آخر. وَأُجْرَةُ الْحَمَّالِ وَالْكَيَّالِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْحَجْرِ تُقَدَّمُ نحوه في الجواهر؛ يعني: أن أجرة من يحمل سلع المفلس إلى السوق مثلاً أو أجرة من يكيل الطعام أو يزنه تقدم على الديون؛ لأنه لولا ذلك ما أمكن الغرماء الوصول إلى الأثمان.

وقوله: (الْحَمَّالِ) بالحاء المهملة، وفي بعض النسخ بالجيم، والأولى أولى، فإنها أعم. وَيَحْلِفُ الْمُفْلِسُ مَعَ شَاهِدِهِ، فَإِنْ نَكَلَ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا أي: إذا قام للمفلس شاهد واحد بدين؛ فإن حلف استحقه وقسم بين غرمائه، وإن نكل فللغرماء أن يحلوا محله في اليمين. ابن حبيب: بعد التفليس، وأما قبله فلا، وهذا يؤخذ من كلام المصنف؛ لأن التفليس حقيقة إنما يطلق بعد الحجر. وكان القياس ألا يمكنوا من التحليف؛ لأن حقه إنما ثبت في ماله إذا ثبت أنه ماله، لكنهم اتهموا الغريم أن يكون قصد بنكوله إخراج المال عن الغرماء، ولا سيما وقد اختلف إذا أخذ الحق بشاهد ويمين، هل هو منسوب إلى الشاهد فقط واليمين كالاستظهار، أو اليمين كشاهد ثان؟ ويظهر أثر الخلاف إذا رجع الشاهد، هل يغرم الحق كله، أو نصفه؟ وإذا تعارضت البينات فأقام أحدهما شاهدين والآخر شاهداً ويميناً وشاهده أعدل من الشاهدين، هل تكون شهادته مقدمة أم لا؟ مطرف وابن الماجشون: ويحلف كل واحد من الغرماء على جميع الحق المشهود به لا على نصيبه؛ لأن كلاً منهما قام مقام المفلس، فإن حلفوا جميعاً استحقوا وتحاصوا، فإن نكلوا لم يستحقوا شيئاً، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم استحق من حلف. ابن القاسم في رواية عيسى وابن الماجشون: قدر نصيبه فقط، كما لو حلف الجميع. وقال ابن عبد الحكم: جميع حقه. لكن إنما نقل عنه هذا في مسألة الوارث يقوم للميت شاهد أن عليه دين، والباب واحد. بعض القرويين: وينبغي إذا نكل بعض الغرماء ولا فضل في الدين أن يحلف الغريم ويسقط عنه حق من نكل، وليس لأصحابه أن يأخذوا ما نكل عنه وهذا كالورثة، ولو رجع بعض الغرماء بعد نكوله فأراد أن يحلف، فقال مطرف: لا يقبل كما لو نكل عن حق

نفسه، وقال ابن الماجشون: يقبل؛ لأنه قد يستريب أولاً ثم يظهر له ما يرفع الاسترابة بخلاف حق نفسه، لأنه يعلم أولاً صحته وبطلانه. وَلا يُمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، إِلا أَنْ يَحِلَّ فِي غَيْبَتِهِ فَيُوَكِّلَ مِنْ يُوَفِّيهِ الباء الداخلة على (الدَّيْنِ) للسببية. وقوله: (وَلا يُمْنَعُ) زاد في الجواهر: (ولا يطلبه بكفيل أو بإشهاد). وفي السلم [524/ب] الثالث من المدونة: ولك منع غريمك من بعيد السفر الذي يحل دينك قبل قدومه، ولا يمنع من القريب الذي يقدم فيه قبل محل أجل دينه. ابن القاسم في رواية عيسى: وعليه أن يحلف أنه لم يرد الفرار من الحق الذي عليه، وأنه ينوي الرجوع عند الأجل ليقضي ما عليه. ابن يونس: وقال بعض أصحابنا: إنما تكون اليمين على المتهم. وقوله: (فَيُوَكِّلَ مِنْ يُوَفِّيهِ) هو تقييد للمدونة في السفر البعيد، وهو ظاهر في المعنى، وإذا وكل فهل له عزل الوكيل؟ ابن عبد السلام: فيه تردد، واختار بعض المحققين أن له عزله إلى بدل لا مطلقاً، وأصل المذهب أنه إذا تعلق لأحد الغريمين حق بالوكالة أن لا يكون لمن وكله عزله. خليل: وينبغي أن يقيد هذا بما إذا كان الموضع الذي يسافر إليه مأموناً، وكذلك ينبغي إذا كان سفره سبباً لئلا يوجد له ما يوفي الدين عند الأجل، كما إذا عومل شخص لأجل صنعته ثم أراد السفر وصنعته تتعذر عليه في السفر؛ لأنا لو أجزنا له السفر والحالة هذه أدى إلى أنه عند الأجل لا يوجد عنده ما يوفي الدين، والله أعلم.

الثَّانِي: بَيْعُ مَالِهِ، فَيُبَاعُ الْحَيَوَانُ عَاجِلاً، ويُقْسَمُ ولا يُكَلَّفُ الْغُرَمَاءُ أَلا غَرِيمَ سِوَاهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفاً بِالدَّيْنِ اسْتُؤْنِيَ بِهِ فِي الْمَوْتِ. وقِيلَ: وفِي الْفَلَسِ، وقَالَ أَصْبَغُ: يُنَادَى عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فِي مَوْتِهِ وفَلَسِهِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وتُبَاعُ بِحَضْرَةِ الْمُفْلِسِ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ طَلَباً لِلزِّيَادَةِ، ويُسْتَانَى فِي بَيْعِ رَبْعِهِ الشَّهْرَ والشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ .... أي: الحكم الثاني من أحكام الحجر، واعلم أنه إذا قام الغرماء على المفلس فعلى القاضي أن يكلفهم إثبات ديونهم، ثم يعذر فيما ثبت عنده على المفلس لكل واحد من دين صاحبه، فإذا وقع التفليس أو العجز عن الدفع؛ أمر كل واحد أن يحلف أنه لم يقبض من دينه شيئاً ولا أسقطه، وأنه باق عليه إلى الآن على ما عرف في مثل هذا اليمين، وعلى القاضي أن يسمي الشهود الذين ثبت بهم حقوق الغرماء، وإن لم يسمهم نفذ الحكم إن كانوا عدولاً وإلا فلا، حكاه في الطرر، فإن كان في الغرماء محجوراً عليه فهل يحلف المحجور عليه أو وصيه، أو لا يمين على واحد منهما ويؤخر إلى رشده؟ في المذهب ثلاثة أقوال للأندلسيين، وحكاها في المتيطية في المرأة المولى عليها تقوم بصداقها، قال: والمشهور إنها هي التي تحلف. وأفتى ابن عتاب بأن يمين القضاء توقف عليها حتى تخرج عن الولاية، فإن نكلت حينئذ عنها ردت، ولو كان في عقد أحدهم أن يصدق في الاقتضاء دون يمين، فهل تسقط عنه اليمين إن كان مأموناً لأجل الشرط أو لا تسقط؛ لأن الحق للغرماء قولاً لابن العطار وابن الفخار؟ قيل: يكلفهم إثبات ملكه لما يباع. ابن عبد السلام: وإنما يتم هذا إذا قيل إن القاضي لا يمكن الغرماء من أخذ ما وجد في حانوته أو داره من العروض التي تصلح للرجال والنساء، وظاهر المذهب انه يقضي من ذلك، بل قال أهل طليطلة: إنه يهجم عليه ويؤخذ له ما يعرف أنه للرجال، وإذا استوفى الحاكم هذا باع ماله.

والترتيب في بيعه: أن يبدأ بما يخشى فساده؛ كالفواكه التي لا تبقى، ثم بالحيوان لسرعة تغيره ولأنه يحتاج إلى الإنفاق عليه فكان من حسن النظر بيعه، وليس المراد بقوله: (عَاجِلاً) أنه يباع في مجلس واحد، بل عدم الإطالة. ثم بالعروض، ثم بالعقار. وذكر في البيان خلافاً في العروض، هل يستأني بها الشهر والشهرين كالعقار، أو الأيام اليسيرة كالحيوان؟ وقوله: (ويُقْسَمُ) أي: ثمن المبيع مع ما له من ناض، وطريق القسمة أن تعلم نسبة مال المفلس إلى مجموع الدين، فمثل تلك النسبة يأخذ كل واحد منهم. قوله: (ولا يُكَلَّفُ الْغُرَمَاءُ أَلا غَرِيمَ سِوَاهُمْ) نبه بهذا على مخالفة هذا للورثة، فإنهم حكوا الاتفاق على أن الورثة يلزمون بذلك، والفرق أن عدد الورثة معلوم للجيران والأصدقاء وأهل البلد وغيرهم، بخلاف الدين فإنه يعسر الاطلاع عليه، وكثيراً ما يقصد الناس التخفي به. واحترز بقوله: (فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفاً بِالدَّيْنِ) من غير المعروف به فإنه لا يستأني، أي: ينتظر بقسم ماله في الفلس والموت بالاتفاق، وهكذا صرح به بعض من تكلم على هذا المحل، والمعروف بالدين يستأني بقسم ماله في الموت اتفاقاً؛ لاحتمال طروء غريم آخر. واختلف في الفلس؛ ففي المدونة من رواية ابن وهب: لا يستأني به، وروي غيره الاستيناء كالموت. اللخمي: وهو أحسن، والفرق للأول أن ذمة المفلس باقية، فلو طرأ غريم لتعلق حقه بذمته، بخلاف الميت لزوال ذمته، ولأن المفلس لو كان له غريم آخر لعلم به. (وقَالَ أَصْبَغُ ...) إلخ. أي: إذا فلس الغريم أو مات ينادى على باب المسجد في مجتمع الناس أن فلان بن فلان قد مات أو فلس فمن كان له عليه دين أو له عنده قراض أو وديعة أو بضاعة فليرفع ذلك إلى القاضي.

أصبغ: وكذلك فعل عمر - رضي الله عنه - في الأسيفيع. وقوله يحتمل أن يكون عاماً، سواء قلنا بالاستيناء أو لا، وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد أن هذه المناداة تقوم مقام الاستيناء. واعلم أن قصة الأسيفيع إنما كانت في الفلس، لكن يؤخذ منه الحكم في الموت بطريق الأولى، لكن لم يذكر في الأثر: (يُنَادَى عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ) وإنما فيه أن عمر رضي الله عنه قال: أما بعد؛ أيها الناس، فإن الأسيفيع أسيفيع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، إلا وإنه قد أدان معرضاً فأصبح [525/أ] قد رين به، فمن كان له عليه دين فلياتنا بالغداة نقسم ماله بينهم. وقوله: (ويُبَاعُ بِحَضْرَةِ الْمُفْلِسِ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ) هكذا رواه مطرف عن مالك، وقاله ابن القاسم وسحنون لتوقع الزيادة، وليس هو خاصاً بالفلس، بل في كل ما يبيعه الحاكم مما يوجبه حكمه؛ كبيع مال اليتيم والغائب، ولهذا جعل مدة الخيار ثلاثاً، وإلا فيجوز في العقار الشهر ونحوه، وفي الرقيق الجمعة ونحوها. ابن عبد السلام: ولعل إحضار المفلس ليس بشرط في إنفاذ البيع، وإنما هو من باب الكمال وأبلغ في قطع حجة المفلس، وإلا فالحجر عليه مانع من بيعه، ولو أراد الامتناع من البيع لم يكن له ذلك. خليل: ونص في الذخيرة على أنه مستحب، ولا يبعد أن يكون ذلك على الوجوب للعلة التي ذكرنا. وقوله: (ويُسْتَانَى فِي بَيْعِ رَبْعِهِ الشَّهْرَ والشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: وينتظر، ولم أقف على الشاذ، وتكلم المصنف على ما يباع عاجلاً وهو الحيوان، وما يطال فيه وهو الربع وترك ما بينهما، وهو إشارة إلى أنه ينبغي أن يوسط بينهما بحسب النظر، وإنما قال ما قال في الربع ونحوه؛ لأنه يتنافس في أثمانه أكثر من غيرها.

وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الدُّيُونُ قُوِّمَ مُخَالِفُ النَّقْدِ حِينَ الْفَلَسِ واشْتَرَى بِمَا صَارَ لَهُ مِنْ سِلْعَتِهِ مثاله: أن يكون للواحد عرض وللآخر طعام وللآخر نقد، فيقال: كم يساوي عرض هذا وطعام هذا؟ فإذا قيل: كل واحد منهما يساوي مائة، وكان النقد مائة؛ كان المال بينهم أثلاثاً، واشترى لصاحب العرض بما نابه من جنس عرضه، هذا معنى قوله: (بِمَا صَارَ لَهُ) من الصيرورة. وفي بعض النسخ (بما طار) من الطيران، والمعنى متقارب. والمعتبر في هذه القيمة يوم التحاصص على المشهور، وهو مراده بقوله: (حِينَ الْفَلَسِ) لكن تسامح في العبارة. وقال سحنون: يقوم المؤجل منهما يوم الفلس على أن يقبض إلى أجله، وألزم أن يقوم العين المؤجل كذلك ولا قائل به. الباجي وصاحب المقدمات: فإن تأخر الشراء حتى غلا السعر أو رخص فلا، وإنما يكون التحاسب بينه وبين الغريم. وقال المازري: لو تغير السعر حتى صار يشتري به أكثر مما كان يشتري له يوم قسم المال؛ فالزائد بين الغرماء ويدخل معهم فيه ويصير كمال طرأ للمفلس. وذهب ابن الماجشون إلى هذا الفضل الذي حدث بمقتضى اختلاف السعر، يستبد به هذا الغريم الموقوف له المال ويشتري له بما بقي له في ذمة المفلس، بناء على ما أصله أن نصيبه ما وقف من ذلك ممن له الدين. الباجي: فإذا اشترى له مما عليه من السلم اعتبر في ذلك الصفات التي وصفها، فإن وصفه بأنه جيد، فقال ابن عبد الحكم: يشتري له أدنى تلك الصفة. وقيل: أوسطها. وَلا يُدْفَعُ فِي طَعَامٍ مُسْلَمٍ فِيهِ وَلا عَرْضٍ ثَمَنٌ، إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ عَرْضاً فِي عَرْضٍ .... يعني: أن ما ذكره من الشراء بما صار له من سلعته إنما هو عند التشاح، وأما إن رضي الغرماء بأن يأخذوا ما نابهم من الثمن؛ فذلك جائز، إلا أن يمنع منه مانع، كما لو أسلم في

طعام أو عرض. مثاله: لو أسلم عشرين درهماً في إردبين قمحاً، أو في ثوبين ونابه في الحصاص عشر مثلاً؛ فلا يجوز أن يأخذها، لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفي، ويدخله أيضاً البيع والسلف إلا أن يكون رأس المال عرضاً آخر، كما لو أسلم عبداً في ثوبين فصح له قيمة الثوب وبقي ثوب؛ فيجوز له أخذ تلك القيمة، لأن حاصل أمره أنه دفع عبداً في عبد وثوب. وإلى هذا أشار بقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ عَرْضاً فِي عَرْضٍ) وكذلك يمتنع في الصورة التي ذكرها المصنف إذا كان رأس المال ذهباً وأراد أن يأخذ عنه فضة أو بالعكس؛ لأنه صرف مؤخر. وبالجملة فَأجْرِ هذا الفصل على حكم الاقتضاءات، فإن القاضي كأنه نائب عن المفلس، فلا يجوز أن يدفع للغرماء إلا ما يجوز للمفلس دفعه إليهم، ولم يجعلوا دخول القاضي رافعاً للتهمة. وقيل: إنه رافع لها؛ فتجوز كل مسألة منعت للتهمة. وإِذَا هَلَكَ نَصِيبُ الْغَائِبِ بَعْدَ عَزْلِهِ فَمِنَه يعني: إن كان بعض الغرماء غائباً فعزل القاضي له نصيبه ثم هلك؛ فمصيبته منه، لأن القاضي كوكيله، وحكى التونسي وابن يونس الاتفاق على ذلك. وقوله: (فَمِنَه) أي فمن الغائب. فَإِنْ ظَهَرَ غَرِيمٌ رَجَعَ عَلَى كُلِّ واحِدٍ بِمَا يَخُصُّهُ يعني: إذا قسم الغرماء مال المفلس أو الميت ثم ظهر غريم آخر لم يعلم به؛ فإنه يرجع على كل واحد بما ينوبه في الحصاص لو كان حاضراً، ولا يأخذ ملياً عن معدم، ولا متاع حي عن ميت. واحترز بقوله: (ظَهَرَ) مما لو كان حاضراً وسكت، فإنه لا رجوع له على من قبض من الغرماء اتفاقاً، ومثال ما ذكره المصنف مسألة المدونة: إذا كان لكل واحد من ثلاثة

رجال مائة غاب أحدهم ولم يعلم به وبيد المفلس مائة واقتسمها الحاضران، فإن القادم يتبع كل واحد بسبعة عشر إلا ثلثاً. ابن القاسم: ولو وقف نصيب غائب فضاع؛ لضمن الغائبُ للطارئ حصته، لأنه لما وقف له صار بذلك كأنه أخذه في يده فوجب أن يرجع عليه الطارئ بحصته منه. ابن يونس: وإذا غرم للطارئ حصته من الموقوف رجع بمثل ذلك في ذمة المفلس والميت؛ لأنه قد استحق ذلك مما وقف. واعترض التونسي ما قاله محمد هنا بالوارث يطرأ على الوارث، فإنه لا يضمن له ما هلك بيده إذا هلك، والمشتري يهلك ما بيده ثم يستحق؛ فإنه لا يضمن للمستحق شيئاً، ويرجع المستَحِق بثمن المستَحَق على من قبضه، أو بقيمته على من غصبه، فيلزم في الغريم الموقوف له ألا يضمن للطارئ شيئاً، وفرق [525/ب] ابن يونس بين الوارث والغريم بأن الغريم دينه من معاوضة، فما هلك بيده فهو منه، لأنه ضمن بما دفع فيه، والوارث لم يضمن في ذلك ثمناً وداه، فوجب أن يكون هلاك ما قبض إذا هلك بأمر الله من الميت. وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتُحِقَّ مَبِيعٌ يعني: وكذلك لو بيع بعض مال المفلس فخرج مستحقاً، فإن المشتري يرجع على كل واحد بما ينوبه. ونص ابن عبد السلام على أن ما استحق مما باعه المفلس قبل تفليسه كذلك. وَلَوْ كَانَ مَشْهُوراً بِالدِّيْنِ، أَوْ عَلِمَ الْوَرَثَةُ وَأَقْبَضُوا بَعْضَ الْغُرَمَاءِ؛ رَجَعَ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا هُمْ عَلَى الْغُرَمَاءِ .... يعني: أن ما قدمه من رجوع القادم على الغريم القابض إنما هو إذا لم يكن الورثة عالمين بالدَّين الباقي، أو كان غير مشهور بالدين؛ فإن القادم يرجع على الورثة، أما مع علمهم فظاهر لتعديهم، وأما مع شهرته بالدين فلاستعجالهم، فلذلك يرجع عليهم أو

على الوصي، ثم يرجع الورثة أو الوصي بذلك على الغرماء الذين اقتضوا أولاً، وهكذا في المدونة في باب المديان، وقال في باب بعد هذا: إذا قضى الورثة لمن حضر وهم يعلمون بدين القادم، فإنه إن وَجد الغرماء معدمين رجع على الورثة بما ينوبه من ذلك ثم رجع الورثة بما أدوا من ذلك على الغرماء الأولين. ومقتضى قوله: (فإن وجد الغرماء معدمين رجع على الورثة) أنه يبدأ بالغرماء بخلاف الأول، وحمل اللخمي وغيره ذلك على الخلاف. ابن عبد السلام: وهو الظاهر. اللخمي: والقول بالبداية بالغريم أحسن، إلا أن يكون تناول من الوصي أو الولي الأقرب بالأمر البين؛ لأن معه ناضاً أو كان الغرماء غير مليين أو غائبين؛ فيبدأ بالوارث أو الوصي بالاتفاق. انتهى. وقال ابن يونس: بل الثاني والأول سواء، وإنما أراد أنهم يخيرون بين أن يرجعوا على الورثة أو الوصي، وبين أن يرجعوا على الغرماء، وخرج بعضهم على رواية أشهب أن الورثة إذا عَزلوا للدين أضعافه وباعوا ليرثوا؛ أن البيع باطل ويفسخ ويكون لجميع الغرماء إذا لم يحضروا أخذ السلعة من أيدي المشترين، إلا أن يشاء المشترون أن يدفعوا قيمة ما بأيديهم أو ثمنه أو بعضه إن كان قائماً. ابن عبد السلام: وفي التخريج نظر؛ لأن مذهب أشهب في من اشتراه سلعة شراء فاسداً وقبضها ودفع ثمنها أن له أن يمسكها على سبيل الرهن حتى يأخذ الثمن الذي دفعه. انتهى. المازري: ولا يختلف أن الورثة منهيون عن البيع قبل الدين، فإن فعلوا فللغرماء فسخ ذلك إن لم يقدروا على أداء الدين إلا بالفسخ، وأما إن قضاه الورثة من أموالهم وأسقط الغرماء حقوقهم؛ فالأشهر من المذهب أن البيع لا ينفسخ، لأن النهي عن البيع لحق المخلوقين وقد سقط، ومقابل الأشهر رواه أشهب فذكر ما تقدم.

تنبيه: وقد تبين لك موافقة كلام المصنف للمدونة، وعلى هذا فقوله: (وَلَوْ كَانَ) أي: الميت؛ لأن قوله: (كَانَ مَشْهُوراً بِالدِّيْنِ) قسيم لقوله: (أَوْ عَلِمَ الْوَرَثَةُ) وعلم الورثة إنما هو مع الموت فكذلك قسيمه، ولأن قوله: (رَجَعَ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ) أي: على الوارث، والوارث إنما يكون في الموت، وليوافق مذهب المدونة، وقول ابن عبد السلام: أن المصنف هنا جمع بين الفلس والموت وهو خلاف المدونة ليس بظاهر. وإِذَا رَجَعَ عَلَى الْوَرَثَةِ فَليَاخُذُ مِنَ الْمَلِيِّ عَنِ الْمُعْدَمِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَا قَبَضَ الْوَارِثُ بِخِلافِ الْغُرَمَاءِ .... يعني: إذا توجه الغرم على الورثة؛ فإما أن يجدهم أملياء، أو عدماء، أو بعضهم أملياء، فالأملياء يرجع على كل واحد بما ينوبه، والعدماء لا رجوع له على واحد منهم، وإن وجد بعضهم معدماً؛ فإنه يأخذ من الملي الأقل من دينه أو ما قبض، لأنه إن كان دين القائم أقل وقبضه سقط ما نابه، وإن كان ما قبض أقل لم تلزمه الزيادة، لأنه لو لم يقبض شيئاً لم يلزمه غرم البتَّة. وقوله: (بِخِلافِ الْغُرَمَاءِ) أي: فإنه إنما يأخذ كل واحد بما ينوبه، والفرق تساوي الغريم الطارئ مع الغرماء بخلاف الورثة؛ إذ لا يستحق واحد منهم ميراثاً إلا بعد قضاء الدين. ابن عبد السلام: وينبغي إذا علم الغرماء بالغريم الطارئ أنه يكون كالوارث، ويأخذ الملي عن المعدم، وكذلك ينبغي في الورثة إذا علموا أن يرجع على كل بمبلغ التركة كلها إلا بما قبضه، والله أعلم. فرع: واختلف في طريان وارث على وارث وموصى له على موصى لهم، فقال ابن القاسم، ورواه عن مالك: هو كطريان غريم على غرماء، فلا يأخذ ملياً عن معدم. وقال أشهب وابن عبد الحكم: كطريان غريم على ورثة، فيقاسم الملي منهم في جميع ما صار له، كأن الميت لم يترك غيرهما، ثم يرجعان على سائر الورثة، وكذلك الموصى لهم حتى يعتدلوا.

وإِذَا تَلِفَ مَالُ الْمُفْلِسِ، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَرْضاً فَمِنْهُ، وإِنُ كَانَ عَيْنَاً فَمِنْهُمْ. ورَابِعُهَا: إِنْ كَانَ مُفْلِساً فَمِنْهُ، وإِنْ كَانَ مَيِّتاً فَمِنْهُمْ وقوله: (الْمُفْلِسِ) يريد أو الميت، ودل على حذف هذا المعطوف تفصيله في القول الرابع بين الفلس والموت، فإن تفصيله في هذا القول يدل على أن الثلاثة المتقدمة علمت، ويحتمل أن يكون أطلق المفلس على الحي والميت، وذكر المصنف أربعة أقوال: الأول: أن ضمانه من المفلس حتى يصل إلى الغرماء عيناً كان أو عرضاً، رواه أشهب عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم، واختاره اللخمي وابن عبد السلام؛ لأن ذلك المال ماله فيبقى ضمانه منه حتى يتحقق الناقل، ولا ناقل سوى ما تعلق به من حق الغرماء وتعلق حقهم بتلك العين أو العرض تعلق عام، وحق المديان متعلق بأعيانها، ومثل هذا من التعارض يوجب رجحان الإضافة للمديان، ولأن من [526/أ] حق الغرماء التوفية في الكيل والوزن، وكل ما كان قبل ذلك فهو في ضمانه حتى يوفى لهم. الثاني: أن ضمان ذلك من الغرماء من حضر أو غاب، ومن علم منهم ومن لم يعلم، كان دينه عرضاً أو غيره، ورواه ابن الماجشون عن مالك، وقال به هو وابن المواز. الثالث: إن كان مال المفلس عرضاً فضمانه منه، وإن كان عيناً فضمانه من الغرماء، قاله ابن القاسم ورواه عن مالك، وقيده بعض القرويين وصاحب المقدمات بما إذا كان العرض مخالفاً لدينهم؛ بأن تكون ديونهم عيناً أو عرضاً مخالفاً، وأما إن كانت مماثلة فمصيبتها منهم؛ لأنهم يتحاصون فيها ولا يحتاجون إلى بيعها، وأبقاه المازري وغيره على إطلاقه، ورأوا أن الديون وإن كانت عروضاً فإنما يستحق الغرماء العروض بقيمتها من العين، وعورض ابن القاسم في قوله: إن ضمان العين من الغرماء. بأن المفلس لو اشترى منها سلعة بعد الإيقاف كان كماله، ولما عورض بهذا سكت. وأجاب المازري بأنه متعد

في التصرف، ومن تعدى على دنانير أو دراهم فتجر فيها فربحها له، قال: ولعله سكت استثقالاً للمعارضة التي هي كالمناقضة. والقول الرابع من كلام المصنف لأصبغ. وزاد المازري والمتيطي خامساً: أن مصيبة الدنانير ممن له الدنانير، ومصيبة الدراهم ممن له الدراهم، وعزي للمغيرة. ابن عبد السلام: وقول ابن القاسم على نقله في المقدمات قريب منه؛ لقوله بعد ذكر قول ابن القاسم: فتحصيل مذهبه أن ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم؛ لأنه إنما يباع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء. ومنشأ الخلاف: هل الحاكم كوكيل عنه؛ لأن الأصل استصحاب ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء، ولأنه لو حصل ربح لكان له وهو وكيل عنهم والمال محاز عنه وقد منع من التصرف فيه، ولا يخفى وجه من قال بالفرق، وهذه الأقوال إذا كان الوقف على يد حاكم، ولو تولى ذك الغرماء أو الورثة لكان ذلك من المديان، والله تعالى أعلم. وُيتْرَكُ عَلَى الْمُفْلِسِ كِسْوَتُهُ الْمُعْتَادَةُ لِمِثْلِهِ، وقِيلَ: مَا يُوَارِيهِ احترز بالمعتادة من التي للزينة فإنها تباع، والشاذ لابن كنانة، وروى ابن نافع عن مالك: أنه لا يترك له شيء، وظاهره ولا ما يواريه، ولكن رده ابن رشد بقول ابن كنانة، وقول ابن كنانة هو القياس، ورأى في المشهور أن العرف جرى باستثناء الثياب المعتادة. ابن القاسم: وإن كان له ثياب فيها فضل عن لباس مثله بيعت. اللخمي: يريد ويشترى دونها، ويترك له أيضاً على المشهور - إذا اختلفت الكسوة لولده - الكسوة لولده الصغار، وشك مالك في كسوة زوجته، هكذا أضاف صاحبُ البيان وأكثرُهم الشكَّ لمالك، وأضافه اللخمي لابن القاسم؛ أي: شك هل سمعها من مالك

أم لا، لا أنه شك في الحكم؛ لأن الزوجة ألزم من الولد، فإذا ترك للولد فأحرى للزوجة. وقال سحنون: لا يترك لها كسوة. اللخمي: وعلى هذا لا يترك للولد، وهو أبين، وحسبهم ما كان عليهم، قال: ولا أرى أن يستأنف أيضاً لها كسوة. قال في البيان: واتفق على أنه لو كساها قبل التفليس كسوة لا فضل فيها عن كسوة مثلها وهو قائم الوجه؛ أنه لا ينزع منها، ويباع ثوب جمعته إن كانت له قيمة وإلا فلا، ويباع عليه ما كان للقنية والتجارة؛ داره، وخادمه، ودابته، وسرجه، وسلاحه. ابن القاسم: وخاتمه. ومنع أشهب بيع الخاتم، والأول أظهر، ويباع مصحفه، واختلف في بيع كتب الفقه عليه، والخلاف في ذلك جار على الخلاف في جواز بيعها من حيث الجملة، فكرهه مالك مرة ومنعه أخرى. قال في الموازية: لا تباع في الدين ولا تورث، ووارثه وغيره ممن هو أهل لقراءتها سواء، ووجَّهه الباجي بأن طريقه النظر وليس مقطوعاً بصحتها، والمشهور الذي عليه الجمهور: جواز البيع. ابن عبد الحكم: وقد بيعت كتب ابن وهب بثلاثمائة دينار وأصحابنا متوافرون حاضرون وغيرهم فما أنكروا ذلك، وكان أبي الوصي. المازري: وأما تكفين ولده فجار أيضاً على ما ذكرناه في ولده الحي، وأما الزوجة فكذلك أيضاً يجري الأمر في تكفينها إذا قلنا: إنه لازم للزوج على أحد القولين على ما قدمناه من الكلام في كسوتها وهي حية. واختلف العلماء هل تكفن بثوب أو ثلاثة؟ قال: ويتخرج عندي على الخلاف في ثوبي الجمعة؛ لأن التكفين في الثلاث مستحب كثوبي الجمعة، قال: وكان شيخنا يتردد في بيع آلة الصانع كمرزبة الكمَّاد ومطرقة الحداد، قال: ويؤخذ حكمه مما تقدم، فإن كان يسيراً ولا يصلح أن يقيم أوده إلا منه؛ لم يبع ويصير مثل نفقة الأيام.

ويُتْرَكُ عَيْشُهُ وعَيْشُ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ نَحْوَ الشَّهْرِ هكذا لمالك في الموازية والواضحة، ولم يقيد ذلك في الموازية، بل في الزكاة الثاني: يترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام، وحملها في البيان على العشرة ونحوها. قال: وليس بخلاف للقول الذي وقع في الشهر، وإنما هو على قدر الأحوال، وما جرى عليه العرف من التقوى في ذلك المكان، قال: والمراد بالأهل في المدونة أزواج المفلس ومن تلزمه نفقته من رقيقه وولده، وأمهات أولاده ومدبرته، وكذلك قال المازري: التحقيق أن يترك له نفقة اليومين والثلاثة خوفاً من كسله أو مرضه في غده وما بعده. وما ذكره المصنف هو المشهور، ولمالك في رواية ابن نافع لا يترك له شيء. ولا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْسِبَ أي: لقوله تعالى: (وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة: 280] ورأى اللخمي أن الصانع يجبر على التكسب؛ لأنه على ذلك عومل بخلاف التاجر، قال: وعلى التاجر تكلم مالك، قال: وكذلك يجبر على العمل إذا باع منافعه؛ مثل أن ينسج لرجل ثياباً أو يخيط ثياباً مدة معلومة، قال: ويفترق الجواب إذا كان محتاجاً إلى ما ينفق، فإن الصانع يتداين ليعمل ويقضي، فإنه يبدأ بنفقته ونفقة عياله، ثم يقضي دينه من الفاضل، وإن باع منافعه مدة معلومة بدئ بالذي استأجره وإن أدى ذلك إلى أن يتكفف؛ لأن منافعه صارت ملكاً لمن اشتراها فأشبه من باع سلعة ولم يسلمها حتى افتقر؛ فإنه [526/ب] يسلمها وإن تكفف، إلا أن يخاف عليه الموت فيخير الذي استأجره بين أن يسلفه ما يعيش به دون عياله حتى يتم عمله، أو يتركه فيعمل عند غيره بمثل ذلك؛ لأنه إن منع هلك، ولا ينتفع المستأجَر بشيء.

ولا يُؤَاجِرَ مُسْتَوْلَدَتَهُ بِخِلافِ مُدَبَّرَتِهِ، ولا يَنْتزِعَ مَالَهَمُا، ولا أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَه لِوَلَدِهِ .... يحتمل أن يقرأ: (ولا يُؤَاجِرَ) على البناء للمفعول؛ أي: لا يؤاجر القاضي أم ولده، لأنه لم يبق له فيها إلا الاستمتاع، بخلاف المدبر فإنه يؤاجره عليه لبقاء الخدمة له، ويحتمل أن يقرأ بجزم الراء على النهي عائدٌ على الحاكم أو على المفلس، ويحتمل أن يقرأ بالنصب عطفاً على (يتكسب) وهو أقرب إلى لفظه؛ ألا ترى أن قوله بعد: (ولا يَنْتزِعَ مَالَهَمُا) وما بعده لا يصح فيه إلا النصب، لكن يرد على هذا أنه لا يلزم من قوله: (أن يؤاجر أم ولده) ألا يجوز له إجارتها، بل قد يفهم منه جواز الإجارة. ألا ترى إلى قوله: (ولا يَنْتزِعَ مَالَهَمُا) فإنه أشار بذلك إلى أنه يجوز له أن ينتزع، وإنما المنع أن يجبر على الانتزاع وإجارتها لا تجوز على المذهب، وفي معنى المدبرة المعتقة إلى أجل ونحوها ممن للسيد فيها الخدمة، وقد نص ابن شاس وغيره على أن المدبرة يؤجِّرها المفلس، وبه تعلم أن ما وقع في بعض النسخ (ولا مدبرة) ليس بجيد، وما ذكره أنه لا يلزمه انتزاع مال المدبر وأم الولد هو في المدونة، ورآها من معنى التكسب، وهو غير لازم؛ ولأنهم لما يعاملوه إلا على ملكه، فليس لهم الجبر على انتزاع ملك الغير. وفي سماع ابن القاسم عن مالك من حبس حبساً وشرط إن شاء المحبس عليه أن يبيع باع؛ فلغرمائه أن يبيعوه عليه. صاحب المقدمات وابن زرقون: فيتخرج من هذا قول بلزوم الانتزاع ولزوم الاعتصار. ولا يَشْفَعَ ولا يَستَسلِفَ ولَوْ بُذِلَ لَهُ ولا يلزمه أن يشفع ولا أن يستسلف ولو بذل السلف له وكذلك لا يلزمه قبول هبة أو صدقة أو وصية، وإنما لم يلزمه أن يشفع وإن كان في الأخذ بالشفعة ربح؛ لأنه تسلف

وتجر وهو غير لازم؛ لأنه لا تلزمه عهدة بالشفعة، ولم يلزمه السلف؛ لأنه استدانة أخرى، نعم لو رضي أحد أن يسلف الطالب ما له على المطلوب ثم يرجع به على المطلوب لم يكن للمطلوب مقال؛ لأن المعروف إنما هو للطالب بالمطلوب إلا أن يفعل ذلك قصداً للضرر، واختلاف العلماء فيما لو باع المديان سلعة بخيار، ثم اشتراها كذلك، ثم حجر عليه فأراد الإمضاء في المسألتين أو الفسخ فيهما ومنعه الغرماء من ذلك، وأجرى ذلك المازري على الخلاف في الخيار هل هو منحل أو منعقد؟ وَلا يَعْفُوَ عَنْ دَمِ الدِّيَةِ يحتمل أن يكون منقطعاً عما قبله فيكون مجزوماً؛ أي: لا يلزمه أن يعفو عن دم وجبت في الدية؛ لتعلق حق الغرماء بها. ويحتمل أن يكون منصوباً بالعطف؛ أي: لا يلزمه أن يعفو عن دم وجب له ليأخذ الدية، بل له أن يقتص، وقد ذكر الفرعين صاحب الجواهر، وقد تقدم ما يغني عن الاحتمال الثاني بقوله: (وكذلك طلاقه وخلعه واستيفاء القصاص) وعلى الاحتمال الأول يكون دم الدية مضافاً ومضافاً إليه، وعلى الثاني يكون الدم منوناً والدية مجرورة بلام الجر. وقال المصنف على الاحتمال الأول: (دَمِ الدِّيَةِ) ولم يقل: (دم الخطأ) ليشمل المأمومة والجائفة عمداً ونحوهما مما لا يقاد منه، والله أعلم. وَلوْ وَرِثَ أَبَاهُ بِيعَ وعَتَقَ فَضْلُهُ، ولَوْ وُهِبَ لَهُ عَتَقَ. يعني: وإن ورث المديان من يعتق عليه أباً أو غيره، فقال ابن القاسم: يباع إن استغرقه الدين، وإن لم يستغرقه بيع منه بقدره وعتق الباقي، وهو معنى قوله: (وعَتَقَ فَضْلُهُ) فإن لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه ويتملك الفاضل، ولا يبعد استحباب التصديق به، وخالف محمد، فقال: لا يباع به. قال: وهو مثل الصبي والمولى عليه، فإنه يعتق عليهما من ورثاه؛ لأنه يجب حفظ مال المفلس على غرمائه كما يجب حفظ مال الصبي والسفيه

عليهما، ونص أشهب أيضاً على العتق في مسألة الإرث، وقد يقال: وهو جارٍ على المشهور؛ أعني: أن عتق القرابة يحصل بمجرد الملك ولا يتوقف على حكم. وأما على قول ابن القاسم فإنه يظهر إذا بنينا على أنه إنما يعتق بالحكم كما بينه بعضهم، إلا أن يقال: من شرط العتق بالقرابة ألا يوجد هناك مانع وهو هنا قائم وهو حق الغرماء. ولو وهب للمديان قريبه لعتق عليه. ابن القاسم: لأنه لم يوهب له ليأخذه غرماؤه وإنما قصد به العتق. صاحب المقدمات وغيره: وانظر هذا لو وهبه وهو لا يعلم ممن يعتق عليه، وجزم ابن يونس والمازري وغيرهما بأنه يباع في الدين؛ لأنه لم يقصد به العتق. وفِي انْفِكَاكِ الْحَجْرِ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ قَوْلانِ يعني: إذا قسم مال المفلس وحلف على أنه لم يكتم شيئاً ووافقه الغرماء على ذلك، فهل ينفك الحجر من غير احتياج إلى حكم حاكم وهو قول اللخمي. ابن عبد السلام: وهو أكثر نصوصهم. أو لا ينفك إلا بحكم حاكم، وهو قول القاضيين ابن القصار وعبد الوهاب؟ ابن راشد: والأول جارٍ على مذهب ابن القاسم في المحجور عليه لسفه أن الحجر يزول عنه برشده في نفسه من غير ترشيد حاكم؛ لأن العلة في الحجر السفه؛ وهو خوف إتلاف المال، والعلة إذا زالت زال المعلول به، وقول القاضي عبد الوهاب جارٍ على القول المعمول به أن المحجور عليه لسفه لا يخرج من الحجر إلا بترشيد الحاكم. الثَّالِثُ: حَبْسُهُ أي: الحكم الثالث من أحكام الحجر حبس الغريم عند دعواه العجز ما لم يظهر عدمه ويثبت فقره. قال في المقدمات: ولا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار وقول ابن

عبد السلام في جعل الحبس من أحكام المفلس نظر؛ لأن المفلس يجب إنظاره من غير حبس [527/أ] ليس بظاهر. ويُحْبَسُ الْمُعَانِدُ والْمَجْهُولُ الْحَالِ يحتمل أن يريد بالمعاند معلوم الملاء، ويحتمل أن يريد من هو ظاهر الملاء، وللغريم ثلاثة أحوال: مليء، ومجهول الحال، ومعدم. والمليء ينقسم إلى قسمين المشار إليهما؛ أعني: معلوم الملاء، وظاهر الملاء، ولنتكلم على كل واحد. فأما معلوم الملاء: فمثلوه بأن يأخذ أموال الناس ويقعد للتجارة ثم يدعي ذهابها، ولم يظهر ما يصدقه من احتراق منزله أو سرقة أو نحوها، فيحبس حتى يؤدي أموال الناس أو يموت في السجن. سحنون: ويضرب بالدِّرَّةِ المرة بعد المرة، ولو أدى إلى إتلاف نفسه حتى يؤدي أموال الناس. ابن رشد: وليس بخلاف. قال مالك: يضرب الإمام الخصم على اللَّدَدِ، وأيُ لدَدٍ أعظم من هذا. عياض: ولا يؤخذ منه حميل، إلا أن يلتزم الحميل دفع المال، والصواب لا يؤخر ساعة إن عرف بالناض، وإن لم يعرف به، فقالوا: يؤخر مقدار ما يبيع عروضه فيحبسه على ظاهر الروايات وعند أكثر الشيوخ. وقال غيره: لا يؤخر ويباع عليه لحينه، واختلاف هل يحلف على إخفاء الناض إذا لم يكن معروفاً به، فقال ابن دحون: يحلف، وقال أبو علي: لا يحلف. قال ابن زرب: إن كان من التجار حلف وإلا فلا، وهو على الخلاف في يمين التهمة. واختلف هل يؤخذ من هذا حميل بالمال أو يسجن حتى يبيع؟ أما إن كان صاحب العرض مُلِدَّاً وسأل التأخير إلى بيع عروضه، وسأل أن يعطى حميلاً حتى يبيعها؛ ففيه خلاف

أيضاً، ذهب كثير منهم إلى أنه يلزمه حميل بالمال في رواية أبي زيد عن ابن القاسم، ونحوه فيمن عرف له مال غائب ليس عليه حميل، إلا أن يخشى عليه أن يموت أو يغيب عنهم. ابن عتاب: وهي رواية ضعيفة، وذهب معظم الشيوخ إلى أنه يعطى حميلاً بالمال إلى أن يباع أو يسجن، ونحوه لسحنون في كتاب ابنه. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: وليس للإمام أن يبيع عليه عروضه كما يبيعها على المفلس؛ لأن المفلس قد ضرب على يديه ومنع من ماله. ابن عبد السلام: وإذا علم يساره وجهل القاضي كونه من أهل الناض كلفه إثبات البينة بذلك، فإن أثبت أُجِّلَ في بيع عروضه. قالوا: ويؤجل في بيع ربعه إن لم يكن له غيره نحو الشهرين، ويعطي حميلاً بالمال عند أكثر الشيوخ. وقال ابن مالك: بل بالوجه. وقال سحنون: لا يلزمه حميل. وأما مَنْ ظاهره الملاء ولم يعلم ملاؤه ولكن يتهم على إخفاء المال، فقال سحنون وغيره: يسجن حتى يتبين أمره. سحنون: ولا يؤخذ منه حميل، وفهموه على أنه يريد حميل الوجه، وإن طلب أخذ الحميل منه ليخرج في طلب منافعه ويرجع إلى السجن؛ فإن عجز أخذ منه. واختلف في قول ابن القاسم وسحنون، فقيل: خلاف، وقيل: وفاق. فيحمل قول سحنون على أنه ملد ظاهر الملاء، وقول ابن القاسم على غيره. وأما مجهول الحال فيحبس ليُستبرَأ أمره، قاله مالك في الموازية، وقد اختلف فيما يحمل عليه حال هذا المجهول على ثلاثة أقوال. اللخمي: وهو المعروف من المذهب أن يحمل الغريم على اليسر من غير اعتبار لحاله، ولا للسبب الموجب للدين. وقال مالك في المبسوط: إنه يحمل على العدم حتى يقوم دليل بملائه؛ أنه قال: لا يحبس إلا التاجر. وقيل: إن كان الحق عن عوض فهو على الملاء، وإن كان عن غيره كنفقة الأب والابن فهو على العدم، قاله ابن القاسم وأشهب وابن كنانة وسحنون، واختلف على هذا القول هل ذلك إذا كان العوض مما يتملك أم لا؟

فحمل ابن القاسم وأشهب ذلك محملاً واحداً. وقال ابن كنانة وسحنون: إن كان العوض مما يتملك ويتمول فهو محمول على الملاء، وإن كان مالاً يُتمول كالصداق الذي هو عوض ما لا يتمول، وكأرش الجراح فهو محمول على العدم، وسيأتي الكلام على المعدم. فَإِنْ سَأَلَ فِي الْيَوْمِ ونَحْوِهِ بِحَمِيلٍ آخَرَ أي: سأل مجهول الحال، وهو الظاهر، ويحتمل عوده عليه وعلى أحد قسمي المعاند؛ أعني: ظاهر الملاء، وفيه بُعْدٌ، لعود الضمير على بعض المعاند، إلا أن يقال: إنه لم يرد بالمعاند إلا ظاهر الملاء، لكن يبقى فيه بُعْدٌ لوجه آخر، وهو أنه قد يكون ترك النص على معلوم الملاء، ولا يصح أن يعود الضمير في سأل على معلوم الملاء؛ لأنه لا يؤخذ منه حميل كما تقدم. وفي كلام المصنف ما ينبِّئ عنه، ويتبين له ذلك بذكر حكم المجهول وظاهر الملاء. أما مجهول الحال؟ فظاهر المدونة يحبس قدر ما يتلوم من اختبار حاله، أو يأخذ عليه حميلاً. عياض: ولم يبين هل بالوجه أو بالمال؟ والصواب أن يكون بالوجه، هكذا نص عليه أبو عمران وأبو إسحاق وغيرهما من القرويين والأندلسيين، ولا يقتضي النظر غيره؛ لأن هذا لم يثبت أنه مليء ولا غَيَّبَ مالاً، ولكن يسجن استظهاراً لكشف حاله، فإذا أعطى حميلاً إلى مدة الانكشاف؛ توصل بذلك إلى الكشف كما يتوصل بالسجن، فإن ظهر وجه الشدة عليه أمكنا منه الحميل. وحكى اللخمي عن سحنون: أنه لا يقبل ممن يسجن ليثبت فقره حميل ليسعى في مصالحه خلاف لابن القاسم. قال: وقول ابن القاسم أحسن، إلا أن يكون معروفاً باللدد. قال: وإذا أخذ الحميل منه، فإن لم يحضر غرم المال؛ لأجل اليمين اللازمة له إذا أحضره، وإن أحضره عند الأجل ولم يظهر له مال حلفناه وسرحناه، فإن لم يأتِ بحميل إلا إلى دون ما ينكشف حاله فيه؛ فإنه يقبل

منه، فإذا أخر إلى الأجل الذي ضمنه إليه ولم يكشف من أمره شيء سجن، إلا أن يأتي بحميل آخر إلى انقضاء الأجل. عياض: وهذا الحميل يقضي به على صاحب الدين أن يأخذه إذا بذله الغريم، وإذا قبل منه الحميل ليثبت عدمه فغاب الغريم وأثبت الحميل عدم [527/ب] الغريم، فقال ابن رشد: يغرم الحميل لتعذر اليمين اللازمة للغريم. وقال اللخمي: لا يغرم؛ لأن اليمين بعد ثبوت الفقر أنه لم يكتم شيئاً استظهاراً، إلا أن يكون ممن يظن أنه يكتم. وأما ظاهر الملاء يقيم بينته بالفقر ولم تزكَّ بينته؛ ففي كتاب ابن سحنون: لا يؤخذ منه حميل ويسجن حتى تزكى بينته. قيل: وإنما لم يقبل منه الحميل؛ لأنه إذا ذهب لم يحلف الحميل، إذ لا بد من يمينه أنه لا يجد قضاء. ابن يونس: يحتمل إنما سجنه؛ لأن ظاهره الملاء، والبينة التي لم تزكَّ كالعدم، وهذا كمن تفلس، وقال: لا شيء لي. وأما إن سأل أن يؤخر ووعد بالقضاء؛ فليؤخر الإمام حسبما يرجى له الملاء، ولا يعجل عليه، قاله ابن الماجشون. وقال في كتاب ابن سحنون: وإن سأل أن يؤخر يوماً أو نحوه أُخِّر ويعطى حميلاً بالمال، فإن لم يجد حميلاً به سجن، وقال ابن الماجشون في سماك عليه سمك فسأل الصبر حتى يتصيد، قال: يصبر عليه، ولم يشترط الحميل، ولعله يريد أنه لا مال له ولا يجد قضاء إلا من تصيده. خليل: وفي كلام المصنف نظر؛ لأنه لم يقيد الحميل في المجهول باليوم كالمصنف، وإذا أراد ظاهر الملاء؛ فإنما نصوا على تأخيره اليوم إذا وعد بالقضاء، وكلام المصنف لا ينبني على ذلك، وذكر ابن راشد أن قضاة زمانه يؤخرون الغريم إذا وعد بالقضاء ثلاثاً. فَإِنْ شُهِدَ بِإِعْسَارِهِ حَلَفَ وأُنْظِرَ يعني: وإن قامت البينة على أن الغريم الذي عليه الدين معسر حلف على ذلك؛ لأن البينة إنما شهدت على العلم، ويمكن أن يكون له مال أخفاه، ولا خفاء أن هذا في حق

مجهول الحال والمتهم، وأما معلوم الملاء فلا تقبل منه بينة إلا بذهاب ما بيده، نص عليه اللخمي والمازري وغيرهما بأن تقول البينة: كنا نرى تصرفه في بيعه وشرائه ونزول الأسواق ونفقته على عياله ونقص ماله. اللخمي: وكذلك لا تقبل البينة ممن عليه دين منجم أدى بعضه ثم ادعى العجز إلا ببيان ذهاب ما بيده، وكذلك أيضاً الرجل يطلب برزق ولده بعد طلاق الأم فلا تسمع منه البينة إلا بذهاب ما بيده؛ لأنه بالأمس قبل الطلاق كان ينفق فهو اليوم أقدر لزوال نفقة الزوجة عنه. وقوله: (حَلَفَ) هذه من المسائل التي يحلف فيها المدعي مع بينته، وكدعوى المرأة على زوجها الغائب بالنفقة والقضاء على الغائب. وقوله ضابطه كل بينة شهدت بظاهر يستظهر بيمين الطالب على باطن الأمر، قال في المقدمات: وصفة يمينه أن يحلف أنه ليس له مال ظاهر ولا باطن، وإن وجد مالاً ليؤدِّينَّ له حقه، وهذه الصفة ذكرها في المدونة عن الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذكرها أيضاً صاحب الوثائق المجموعة والمتيطي وغيرهما، وبها أفتى ابن العطار وابن لبابة، وذكرها ابن سهل عن جماعة كثيرة، وإن ادعى عليه بعد أن حلف أنه استفاد مالاً لم يكن للغرماء تحليفه. قال في المقدمات: وهذه فائدة زيادة قوله في اليمين: وإن وجد ليؤدين. حكى ابن الهندي عن محمد بن إسحاق بن السليم قاضي قرطبة: أن عبد الملك بن أيمن كان يزيد في اليمين الواردة عن الخليفتين وأنه يعجل الأداء؛ لأنه قد يؤدي إليه بعد زمان طويل فيبر في يمينه، وفي ذلك ضرر على أصحاب الدين، ويزيد: ولئن رزقه الله مالاً وهو في سفر ليعجلن الأوبة والأداء. ابن الهندي: وهذا كله استظهار واليمين المذكورة كافية؛ لأنها على نية المحلوف له. قوله: (وأُنْظِرَ) فيه إشارة إلى الاحتجاج بقوله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة: 280] ورد على أبي حنيفة في قوله: إن صاحب الدين يلازم الغريم، ووجه الدليل أن الله تعالى أوجب إنظاره إلى اليسر.

تنبيهان: الأول: قد ذكرنا أن ابن رشد والمتيطي وغيرهما نقلوا أن المذهب موافقة الخليفتين في صفة اليمين. ابن عبد السلام: ونقل عن مالك أنه لم ير زيادة قوله: وإن وجد قضاء ليقضين. ولم أر من نقل ذلك عن مالك، فإن ثبت فيحمل على أنه قول شاذ، والله أعلم. التنبيه الثاني: قد ذكرنا أولاً أنا نذكر حكم الغريم المعدم فلنذكره هنا فنقول: إن وافقه صاحب على العدم وجب إنظاره، وإن خالفه فإما أن يدعي المطلوب أنه يعلم بعدمه أم لا؟ فإن ادعاه حلف صاحب الدين أنه لم يعرفه عديماً، فإن نكل لم يسجن؛ لأن نكول الطالب عن اليمين يقتضي أنه يعلم بعلمه. قال ابن شعبان وغيره: وبه كان يفتي ابن الفخار، فإن حلف رب الدين أو لم يدع عليه الغريم العلم حبس إلا أن يثبت عدمه، وإذا حلف المطلوب، فقال أبو عمران: يحلف على البت. وقال غيره: على العلم؛ إذ قد يكون ملك مالاً من إرث أو هبة ولم يعلم به. ابن راشد: وقول أبي عمران ظاهر المجموعة. وأشار اللخمي إلى أن من ظاهره الفقر بنزارة حاله وصناعته كالبقال والخياط ونحوهما من أهل الصنائع التي من شأن أهلها العدم يقبل قوله في العدم، ولا يحبس إلا أن تكون الدعوى في يسير عومل عليه في صنعته، ولا يصدق حتى يثبت ذلك. فروع: الأول: لو سأل الطالب أن يفتش على المديان داره. فقال ابن سهل: شاهد الفتوى والحكم بطليطلة أنه يفتش عليه مسكنه فما أُلفي من متاع الرجال بيع عليه وأنصف الطالب منه، ولا يختلف فقهاؤهم فيه، وأنكر ذلك على أكثرهم فلم يرجعوا عليه. وسألت ابن عتاب وابن مالك عن ذلك فأنكراه، وقالا: أرأيت أيضاً إن كان الذي في

بيته ودائع؟ فقلت له: ذلك محمول على أنه ملكه حتى يظهر خلافه، فقال: فيلزم الاستيناء به أهو للمطلوب أم لا. وأعلمت ابن القطان بعمل أهل طليطلة، فقال لي: ما يبعد. ابن رشد: وأراه [528/أ] حسناً فيمن ظاهره اللدد والمطل. الثاني: يجب الحبس على كل من عليه حق لا مدفع له فيه، ولم يعلم عدمه إلا من قوله، ولم يكن ظاهره العدم كما تقدم، فإن كان الحق على غيره وهو السبب فيه كالقاتل خطأً، ففي سجنه قولان لسحنون وأبي عمران، نقله ابن راشد. الثالث: إذا شهد له قوم بالعدم وآخرون بالملاء، ففي أحكام ابن زياد: بينة الملاء أعمل وإن كانوا أقل عدالة، ويحبس حتى تقوم له بينة أنه عديم قبل ذلك. قال في المقدمات: وهو جيد. وقيل: إن بينة العدم أعمل وإن كانت أقل عدالة، وقيل: يعمل على شهادة أعدلهما، فإن تساويا سقطتا وبقي مسجوناً. وقيل: يعمل على أعدلهما فإن تساويا أطلق من السجن. قال في البيان: وهذا إنما هو إذا شهدت هذه بأنه عديم في ظاهر حاله وهذه أنه مليء في ظاهر حاله ولم يبيِّنوا أن له مالاً أخفاه، وأما إن شهدت بينة الملاء على إخفاء ماله؛ لما صح أن يختلف أنها تعمل. ابن عبد السلام: وتأمل قوله أنه عديم في ظاهر حاله، فلعل معناه أنهم يعلمون أنه عديم في ظاهر الحال لا مال له ظاهراً ولا باطناً. فَإِنْ طَالَ حَبْسُ الْمَجْهُولِ أُخْرِجَ، ويَخْتَلِفُ بِقَدْرِ الدِّيْنِ يعني: إذا لم يجد من يشهد له وطال حبسه أخرج؛ لأنه يغلب على الظن فقره. قال في العتبية: وليس على القاضي أن يكلف الغريم البينة بأنه لا مال له، وإنما يسأل القاضي عنه أهل الخبرة والمعرفة، فإن لم يجد له مالاً حلفه وخلى سبيله. قال في البيان: وهذا في مجهول الحال، وأما إن حبسه للتهمة أنه أخفى مالاً؛ فلا يكتفي إلا بالبينة. (ويَخْتَلِفُ) أي:

الطول بقدر الدين، وذلك بحسب اجتهاد الإمام، وهذا هو تحقيق أهل المذهب، قاله بعض كبار الشيوخ. ابن الماجشون: ويحبس في الدريهمات اليسيرة الشهر ونحوه، وفي الوسط من ذلك الشهرين، وفي الكثير الأربعة. المازري وغيره: وكذلك يختلف الطول بحسب تجلد الأشخاص في الحبس. واحترز المصنف بالمجهول من المليء، فإنه يسجن أبداً إلا أن يعطي. ويُحْبَسُ لِوَالِدِهِ، وفِي حَبْسِ والِدِهِ لَهُ قَوْلانِ كَالْيَمِينِ لا إشكال في حبس الولد للأبوين، وأما حبسهما له؛ فمذهب المدونة: أنهما لا يحبسان له، قال فيها: وإن لم أحبس الأبوين له فلا أظلم الولد لهما، مطرف: ويأمرهما الإمام فيما ثبت عليهما أن يقضياه. والقول بأنهما يحبسان له لمحمد. ولو قال المصنف: وفي حبس والديه لكان أحسن، ولعله اعتمد على إن حرمة الأم كالأب أو آكد. وقوله: (كَالْيَمِينِ) تشبيه لإفادة الحكم، ومذهب المدونة أنهما لا يحلفان له، وإن أحلفهما فهو عقوق، ولابن الماجشون في الثمانية: أن تحليفهما مكروه وليس بعقوق فيقضى له بذلك. وفي الموازية عن ابن القاسم: أنه يقضي له بذلك إلا أنه عقوق وهو بعيد؛ لأن العقوق من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن من فعله أحد، وقيد في البيان هذا الخلاف بما عدا قلب اليمين. قال: وأما إن وجبت يمين للأب على الابن فقلبها على الأب أو تعلق بها حق الغير؛ كما لو ادعى تلف صداق ابنته، أو ادعى عليه زوجها أنه نحلها نحلة وانعقد عليها النكاح؛ فاتفق على أنه يحلف قاله ابن رشد. ابن المواز وغيره: ويحبس أيضاً إذا امتنع من الإنفاق على ولده الصغير؛ لأن ذلك ليس من قبل الصغير، وإنما القاضي هو الذي حبسه. قال في المدونة: ويحبس للولد الأجداد والأقارب.

فائدة: اختلف الطرطوشي وعياض هل للجد من البر ما للأب؟ فقال الطرطوشي لا، واحتج بهذه المسألة، قال: ولم أر نصاً في ذلك للعلماء. وقال عياض: إنه كالأب، واستدل بقولهم: إنه لا يقتص منه له، وأنه لا يغزو إلا بإذن جده. واستدلال الطرطوشي أحسن؛ لأن مقصوده أن لكل من الجد والأب حقاً في البر، إلا أن الجد أقل لهذه المسألة، ولا يحسن استدلال عياض إلا أن لو كان قصد الطرطوشي نفي بر الجد مطلقاً؛ لأن غاية هذه المسائل أن تفيد أن للجد براً في الجملة، أما كونه مساوياً للأب فلا. ويُحْبَسُ النِّسَاءُ ويُؤْتَمَنُ عَلَيْهِنَّ مَامُونَةٌ أَيِّمٌ أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ مَامُونٍ. يعني: أن النساء كالرجال في حبسهن والتضييق عليهن، وقبول الحميل منهن على ما ذكر، إلا أنهن يحبسن عند امرأة مأمونة أيماً كانت أو ذات زوج مأمون. فرع: قال في المدونة: ويحبس السيد في دين مكاتبه إن لد، قيل: يريد ويحبس المكاتب في دين سيده ولا يحبس مكاتب عجز؛ إذ ليست في ذمته. اللخمي عن سحنون: ومن سجن في دين امرأته أو غيرها فأرادت زوجته أن تدخل إليه لتبيت عنده لم تمكن من ذلك؛ لأن المراد من حبسه التضييق. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا أراد الطالب أن يفرق بين الغريم وزوجته وطلب الزوجان أن يجتمعا؛ فذلك لهما إذا كان السجن خالياً. اللخمي: وهو أحسن فيمن أشكل أمره هل هو في معنى اللدود؟ وأما من علم منه اللدد فالأول أحسن، وكذلك من ثبت فقره وعلم بأكل أموال الناس؛ فإنه يسجن ويضيق عليه أدباً له، ويمنع منه ولده ومن يعز عليه. انتهى.

وقال ابن يونس إثر قول سحنون المذكور، وقال محمد: إلا أن تشاء المرأة الدخول إليه وهي التي قد حبسته؛ لأنها لو شاءت لم تحبسه. ابن عبد السلام: قال ابن المواز: لا يمنع المحبوس في الحقوق ممن يسلم عليه أو يحدثه، وإن اشتد مرضه واحتيج إلى امرأته تباشر منه ما لا يباشره غيرها وتطلع على عورته؛ فلا بأس أن تجعل معه حيث يجوز ذلك. ابن رشد: وقول [528/ب] سحنون أظهر، ولا يفرق بين الأب والابن والإخوة في السجن. محمد بن عبد الحكم: ولا يخرج المحبوس للجمعة والعيد. اللخمي: وهذا يجري على قول بعض أهل العلم أن الجمعة فرض كفاية. المازري: وعندي أن هذا لا يتخرج؛ لأن الجمعة لها بدل وتسقط للأعذار، وقد سقطت على أحد القولين لشدة المطر، وقد أبيح الانتقال عن الماء إلى التيمم إذا غلا الماء، فكذلك لا يبعد أن يكون الخوف على تلف مال الغرماء بخروجه للجمعة عذراً في سقوط فرض الجمعة، قال: والأولى عندي ألا يمنع من ذلك إذا كان على صفة لا يلحق الغرماء ضرر. ابن يونس وغيره: ولو مرض في الحبس لم يخرج إلا أن يذهب عقله فيخرج حتى يعود إليه عقله ثم يعاد؛ لأنه إذا ذهب عقله لا فائدة في سجنه حينئذ لعدم علمه. وقال في الموازية: واستحسن إذا اشتد مرض أبويه أو ولده أو إخوته أو من يقرب إليه من قرابته وخيف عليه الموت أن يخرج بكفيل بوجهه فيسلم عليهم ثم يعود، ولا يفعل ذلك في غيرهم من القرابات. الباجي: وهو استحسان، والقياس المنع وهو الصواب عندي. ابن عبد الحكم: ولا يخرج لحجة الإسلام، ولو أحرم بحجة أو عمرة فيقام عليه بالدين حبس ويبقى على إحرامه، ولو ثبت عليه الدين يوم نزوله بمكة أو منى أو عرفة استحب أن يؤخذ منه كفيل حتى يفرغ من الحج ثم يحبس بعد النفر الأول، ولا يخرج ليغير على العدو، إلا أن يخاف عليه

الأسر أو القتل بموضعه فليخرج إلى غيره، وإن قذف أخرج لإقامة الحد، ويحبس الوصي فيما على الأيتام من دين إذا كان لهم في يده مال وكذلك الأب. الرَّابِعُ: الرُّجُوعُ إِلَى عَيْنِ الْمَالِ بِشُرُوطٍ. الرابع من أحكام الحجر على المفلس رجوع الطالب إلى عين ما خرج من يده من طعام أو حيوان أو عروض، أما في الموت فهو أسوة الغرماء، ورأى الشافعي أنه أحق فيهما، ولما في الموطأ عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أيما رجل ابتاع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجده بعينه؛ فهو أحق به، فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء». وهو وإن كان مرسلاً هنا فقد وصله أبو داود من طريق إسماعيل وحديث إسماعيل عن الشاميين صحيح، فإن عورض هذا بما رواه أبو داود أيضاً عن ابن أبي ذؤيب عن أبي المعتمر عن عمر بن الحارث قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به. أبو داود: أبو المعتمر لا نعرفه، فإن قيل: قد ذكره ابن حبان في الثقات، قيل: هو مختلف فيه، فيرجح الأول لعدم الاختلاف فيه. قوله: (عَيْنِ الْمَالِ) يشمل الدنانير والدراهم، وهو قول ابن القاسم قياساً للثمن على المثمون خلافاً لأشهب؛ لأن الأحاديث إنما فيها إذا وجد سلعته أو متاعه، والنقدان لا يطلق عليهما ذلك عرفاً، ويمكن أن يقال: بناء على أن الدنانير والدراهم هل تتعين أم لا. فرع: واختلف إذا أحاله بدين على غريم باع له سلعة ففلس المشتري المحال عليه بالثمن، هل يكون المحال أحق بالسلعة المبيعة؛ لأنه كالوكيل عن صاحبها، وهو اختيار ابن المواز أم لا، وهو قول أصبغ.

مَنْهَا: أَلا يُقَدِّمَهُ الْغُرَمَاءُ ولا يَدْفَعُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وقِيلَ: أَمَّا مَنْ أَمْوَالِهِمْ فَلا لما ذكر أن للرجوع شروطاً شرع في بيانها وذكر ثلاثة شروط: الأول: ألا يفدي الغرماء بأن يدفعوا له ثمنها من مال المفلس أو من أموالهم، فإن فعلوا ذلك فلا مقال للبائع ولا للمفلس، وهذا مذهب الموازية. ابن الماجشون: زاد في الموازية أو يضمنون الثمن وهم ثقة أو يعطونه حميلاً، والقول بأن ذلك ليس لهم من أموالهم لابن كنانة. ولأشهب ثالث: ليس لهم بالثمن حتى يزيدوا على الثمن زيادة يعطونها من دينهم وتكون السلعة لهم نماؤها وعليهم ثواؤها، ومذهب المدونة أن نماء السلعة للمفلس ومصيبتها منه. وقال ابن الماجشون: الربح والنماء له والخسارة على الغرماء. وقال ابن وهب: إن لم يرض المفلس بفدائها فنماؤها له؛ لأنها على ملكه وهلاكها منهم. وقال ابن الماجشون: لأنه تبرأ منها للبائع في دينه، وإن رضي فيكون نماؤها له ومصيبتها منه. فرع: إذا تبرع إنسان بقضاء ما على غيره أجبر الطالب على أخذه إذا كان قصد الدافع التخفيف عمن عليه الدين، ولم يقصد هبة صاحب الدين. وقال الشافعي: لا يجبر؛ لأن ذلك هبة، ولا يجبر أحد عليها، كذا اشار المازري في نقل المذهبين، فانظره. وَلَوْ قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ فَلَهُ رَدُّهَا وأَخذُهَا إلى الضَّرْبِ بِالْبَاقِي كما لو باعه داراً بألف وقبض منها خمسمائة، فإما أن يتركها أو يحاصص بالخمسمائة الباقية، وإما أن يرد الخمسمائة ويأخذ داره، فإن تعدد المبيع؛ كما لو باع عبدين بعشرين ديناراً فاقتضى من ثمنهما عشرة وباع المشتري أحدهما وبقي الآخر عنده وفلس، فأراد البائع أخذ العبد الباقي منهما، فليس له أخذه إلا أن يرد من العشرة التي اقتضاها خمسة؛

لأن العشرة الأولى كانت مقبوضة عليهما، وهذا إذا كانت قيمتها متساوية، وإلا فمن العشرة المقتضاة أولاً عليهما ورد [529/أ] حصة الباقي، وهذا هو المشهور، وتأول الباجي الموطأ عليه، وتأول أبو جعفر بن رزق الموطأ على ظاهره، وأن البائع لا يأخذ ما وجد من السلع إلا أن يرد جميع ما قبض، ونص الموطأ: وإن كان المشتري قد باع بعضه وفرقه، فصاحب المتاع أحق به من الغرماء، لا يمنعه ما فرق المبتاع منه أن يأخذ ما وجد بعينه، فإن اقتضى من ثمن المبتاع شيئاً فأحب أن يرده ويقبض ما وجد من متاعه ويكون فيما لم يجد أسوة الغرماء؛ فذلك له. ونسب الغزالي لمالك أن قبض شيء من الثمن فوت يمنع البائع من الرجوع في سلعته، وأنكره المازري، وحمله على أنه فهم ذلك من دليل الخطاب في الحديث الذي رواه مالك في موطئه حيث قال فيه: «ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً». فعزاه إليه، ونسب ابن عبد السلام مثل ما نسبه الغزالي للموطأ لأبي زيد. ولَوْ أَخَذَهَا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبَاً حَادِثاً فَلَهُ رَدُّهَا ويُحَاصُّ، أَوْ حَبْسُهَا ولا شَيْءَ لَهُ يعني: ولو أخذ البائع سلعته فاطلع فيها على عيب حادث عند المفلس، فالبائع مخير إن شاء ردها وحصص بمجموع ثمنها، وإن شاء تمسك بها. وعلم أن العيب إما أن يكون سماوياً أو بسبب المشتري أو بسبب أجنبي، فالحكم في السماوي كما ذكره المصنف على المشهور، ولمالك في مختصر ابن شعبان في الأمة تتعيب: يخير البائع إن شاء أخذها بقيمتها وإلا ردها وحاصص. المازري: قال بعض أشياخي: معنى قوله: (أخذها بقيمتها) أنه يحط من الثمن ما نقص العيب، قال: ويحتمل أن يريد أنه يأخذها بقيمتها على ما هي ويحاسب بذلك من الثمن، وخرج بعض الشيوخ قولاً بالفوات إذا اشترى عبداً فهرم عنده ثم فلس، أو صغيراً فكبر

من أحد القولين أن ذلك يمنع الرد بالعيب، وإن كان ذلك من فعل المشتري، كما لو أخلق الثوب، فلمالك في الواضحة ما ذكره المصنف. وقال ابن الماجشون: إلا أن يكون الثوب بلي بلاء فاحشاً فذلك فوت. وحمل اللخمي قوله على الخلاف. وقال اللخمي والمازري: والقياس فيما كان بسبب المشتري أن يكون كجناية أجنبي بحسب النقص، وذكر أن الحكم في جناية الأجنبي أن للبائع أخذ سلعته بمقدار ما بقي منها بعد الجناية من قيمة الذاهب بنسبة ذلك من الثمن، فإن كانت الجناية النصف؛ خير في أخذها بنصف الثمن، وإلا أخذ المشتري لها أرشاً، فإن عادت إلى هيئتها من غير نقص فكما ذكر المصنف، وأجراه اللخمي مجرى الغالب، وإلا حسب النقص. فَلَو حَاصَّ لِعَدَمِهَا ثُمَّ رُدَّتْ بِعَيْبٍ؛ فَلَهُ رَدُّ مُحَاصَّتِهِ وأَخْذُهَا، وقِيلَ: حُكْمٌ مَضَى يعني: فلو حاص الغرماء لأجل عدم سلعته؛ لأنه لم يحاصص إلا ظاناً أنه لا يجد سلعته فقرر لذلك، وهذا قول ابن القاسم في العتبية وهو المذهب، والقول الثاني ليس منصوصاً وإنما هو اختيار اللخمي، وأخذه هو والمازري من قول ابن حبيب: فيمن اشترى سلعة، ثم باعها، ثم اطلع على عيب فرجع بقيمته، ثم ردت السلعة عليه؛ أنه لا يردها على الأول، لأن رجوعه حكم وقع فلا يرد، وقد يجري على الخلاف في الرد بالعيب هل هو نقض للبيع من أصله فتنتقض المحاصة، أو ابتداء بيع فلا تنتقض. والله أعلم. ومِنْهَا: انْتِقَالُ الْمُعَوِّضِ يعني: شروط الرجوع في عين السلعة ألا يحدث ما ينقلها عن الغرض المقصود منها. أو في بعضها؛ أي: ومنها عدم انتقال المعوض.

فَلَوْ طُحِنَتِ الْحِنْطَةُ، أَوْ خُلِطَتْ بِمُسَوِّسٍ، أَوْ عُمِلُ الزُّبْدُ سَمْناً، أَوْ فُصِّلَ الثَّوْبُ، أَوْ ذُبِحَ الْكَبْشُ؛ فَاتَ .... أي: فات الرجوع، وهذه مسائل وقعت في المذهب منصوصة كما ذكرها المصنف، وحكم فيها بالفوت؛ لأن الحنطة إذا طحنت والزبد إذا عمل سمناً يزول عنهما اسم الحنطة والزبد وسميا دقيقاً وسمناً ويزول عنهما الغرض المقصود، وكذلك أيضاً يزول المعنى المقصود إذا خلط الطيب بمسوس أو ذبح الكبش وليس دبغ الجلد فوت على المشهور، خلافاً لابن وهب في أحد قوليه، وعلى هذا المعنى الذي أشرنا من اعتبار الغرض المقصود نبه الإمام فيما رواه مطرف عنه لمَّا سئل عمن اشترى ثياباً فقطعها، فقال: لا أدري، لكن إن اشترى جلوداً فقطعها نعالاً أو خفافاً فذلك فوت. فلم يقف في قطع الجلد نعالاً لما كان الغرض في الجلد خلاف الغرض في النعال، وأشكل الأمر بالنسبة إلى تفصيل الثياب. وحكى المازري عن بعض الشيوخ: أن خلط النقي بالمغلوث، والجديد بالمسوس لا يمنع البائع من الرجوع ويقومان ويكون البائع أحق بما ليس له من القيمة، وأشار المازري إلى أنه إنبنينا على أن التفليس كنقض بيع من أصله أجزنا أخذ الشاة بعد ذبحها، والقمح بعد طحنه، والزبد بعد كونه سمناً، وإن قلنا: إنه هو ابتداء بيع، منعنا ذلك كله. وأجري على هذا الأصل ما إذا باع رطباً ثم يبس، فقال مالك: لا يجوز أخذه. وقال أشهب بجوازه. وأما إذا باع عبداً فأبق عند المشتري ثم فلس، فذهب أصبغ إلى أن بائعه ليس له طلبه، وترك المحاصة بناء على أن الأخذ من المفلس كابتداء بيع، وذهب ابن القاسم وأشهب إلى جواز طلبه، واختلف إذا لم يجده؛ فقال ابن القاسم: ليس له الرجوع إلى المحاصة لأنه تركها، وقال أشهب: له الرجوع إليها. والمسوِّس بكسر الواو المشددة.

فَلَو لَمْ يَنْتَقِلْ لَكنِ انْضَمَّتْ إِلَيْهِ صَنْعَةٌ أَوْ عَيْنٌ أُخْرَى؛ كَنَسْجِ الْغَزْلِ، وبِنَاءِ الْعَرَصَةِ شِارَك بِقَدْرِ قِيمَتِهَا مِنْ قِيمَةِ [529/ب] الْبُنْيَانِ .... يعني: فإن لم ينتقل الغرض ولكن انضمت إلى المبيع صناعة أو عين أخرى، ونسج الغزل مثال لما انضمت إليه صنعة، وبناء العرصة مثلا لما انضمت إليه عين أخرى. واكتفى المصنف بكيفية المشاركة في بناء العرصة عن كيفيته في النسج. وما ذكره من كيفية المشاركة نحوه في الموطأ، فقال: إذا كانت قيمة المجموع ألفاً وخمسمائة وقيمة البنيان ألف درهم، لصاحب البقعة الثلث ولصاحب البنيان الثلثان. مالك: وكذلك الغزل. ونحوه لابن حبيب، وقاله أصحاب مالك كلهم. ابن القاسم في المدونة: ولا يقوم البناء خاصة، وإنما يقوم المجموع يوم الحكم، وعورضت هذه المسألة ممن استحق أرضه بعد أن بناها المستحق منه، فإن مالكاً نص على أن للمستحق أن يعطي قيمة البناء وتكون الأرض والبناء له. فلِمَ لا يجعل البائع هنا كذلك. وأجاب المازري بضعف أمر المشتري في الاستحقاق؛ لأنه أخطأ في اعتقاده وبنى في أرض لا يملكها في باطن الأمر، بخلاف المشتري في التفليس فإنه بنى في أرض مملوكة ظاهراً وباطناً واستشكل ابن راشد عدم الفوات في الغزل، قال: لأنه لا يسمى بعد النسج غزلاً وإنما يسمى ثوباً أو رداء، كما أن الثوب إذا فُصِّل سمي قميصاً أو سراويل. وأجاب ابن عبد السلام بأن المصنف لم يجعل المقتضي للحكم فيما تقدم هو انتقال الاسم، وإنما جعله انتقال الغرض، وقد انتقل هناك ولم ينتقل هنا. بعض الشيوخ: ويشبه أن يكون النسج فوتاً. ابن عبد السلام: ذكر ذلك بعضهم قولاً لابن القاسم، وعلى المشهور فالشركة في مسألة النسج بين البائع والمشتري بقيمة النسج وقيمة الغزل، واختلف المذهب فيمن اشترى أرضاً فبنى فيها ثم اطلع على عيب، هل يكون بناؤه فوتاً يمنع من الرد بالعيب ويوجب أخذ قيمة العيب، أو ليس بفوت؟ فأشار بعض

الشيوخ إلى ترجيح الخلاف في مسألة الفلس من مسألة العيب، وأشار غيره إلى الفرق بأن مسألة العيب وجد فيها تدليس من البائع وتفريط أوجب رجحان حق المشتري عليه، وذلك مفقود في مسألة الفلس. فَأَمَّا لَوْ خُلِطَ بِمِثْلِهِ فَلَهُ مَكِيلَتُهُ أي: في الجودة والرداءة، كما لو خلط قمحاً أو زبيباً أو عسلاً بمماثله، وشمل قوله: (خُلِطَ بِمِثْلِهِ) العين، وهو المذهب خلافاً لأشهب كما تقدم. ابن القاسم: وإن خلطه بشيء اشتراه من آخر كان أحق به ويتحاصا فيه. وياخُذُ الْوَلَدَ بِخِلافِ الثَّمَرَةِ والْغَلَّةِ يعني: وإذا أراد البائع أخذ سلعته فإنه يأخذ ولد الأمة أو غيرها من الحيوان؛ لأنه كالجزء منها، بخلاف الثمرة والغلة فليس له أخذهما لأنهما من الخراج التابع للضمان. وعطف المصنف الغلة على الثمرة من عطف العام على الخاص، ويحتمل أن يريد بالغلة ما ليس قائم العين، ومراد المصنف بالثمرة والغلة ما انفصل قبل ذلك ولم تكون الثمرة مأبورة يوم التبايع، أما إن كانت مأبورة فيستثنيه بقوله: (إلا صوفاً ...) إلخ. وأما إذا لم ينفصل؛ فالمشهور أن البائع يأخذها مع الأصول ولو يبست ما لم تجذ، بخلاف الشفعة فإنه يأخذها الشفيع ما لم تيبس؛ لأنها ما دامت معلقة بالأصول كأغصان الشجر، والشاذ وقع لابن القاسم وغيره؛ لأنه لا يأخذها إذا أبرت، واتفق في الصوف أنه يأخذه قبل الانفصال، والفرق على الشاذ بينه وبين الثمرة: أن الصوف يكون للمشتري بمجرد العقد، والثمرة المأبورة لا تكون له بمطلق العقد. وفي البيان: إن اشترى الأصول ولا تمر فيها، أو فيها تمر لم يؤبر ثم فلس فأربعة أقوال:

أحدها: أن البائع أحق بالثمرة ما لم تؤبر، وذلك يتخرج على قول أصبغ بالرد بفساد البيع؛ لأنه إذا قال فيه: إن الثمرة تبقى للبائع وإن لم تطب إذا كانت قد أبرت فأحرى أن تبقى للغرماء. والثاني: أن البائع أحق بها ما لم تطلب، وهو قول ابن القاسم في العتبية. والثالث: أنه أحق بها ما لم تيبس. والرابع: أنه أحق بها ما لم تُجَذ، وهو نص ما في المدونة. إِلا صُوفاً عَلَى ظَهْرِهَا، أَوْ لَبَناً فِي ضُرُوعِهَا، أَوْ ثَمَرَةً كَانَ اشْتَرَطَهَا الْمُبْتَاعُ مَابُورَاً لما ذكر أن البائع لا يرجع في الغلة استثنى من ذلك الثمرة المأبورة إذا اشترطها المشتري والصوف التام، وهذا هو المشهور، خلافاً لأشهب في قوله: إنه لا يرجع فيهما لأنهما من الغلات، ووجه المشهور أنه إذا كان الصوف تاماً والثمرة مأبورة يصيران مقصودين فلهما حصة من الثمن فيكون بمنزلة من باع سعتين، وعليه فلو باع المشتري الصوف وأراد البائع أن يأخذ الغنم نظر كم قدر الصوف من الرقاب لا إلى ما باعه به، ويأخذ الغنم ويحاص الغرماء بما يخص الصوف، وقاله ابن القاسم في العتبية والموازية والواضحة، وما ذكرناه من اعتبار الإبار هو المشهور. وقيل: بالإزهار. وقال يحيى: إن جذه تمراً رد مليكته وإن جذه رطباً رد قيمته وله أجر سقيه وعلاجه. قال ابن حبيب: ليس له ذلك؛ لأنه إنما أنفق على ماله وضمانه منه. وتعقب ابن يونس كلام يحيى وقال: إنما يصح بالرد بالعيب، وأما التفليس فإذا فاتت الثمرة مضت بما ينوبها من الثمن وحاصص البائع بذلك الغرماء كما نص عليه ابن القاسم في الصوف. وجعل المصنف اللبن إذا كان في الضرع كالصوف التام تبعاً لابن شاس وفيه نظر؛ لأنه نص في كتاب العيوب من المدونة على عدم [530/أ] رده في العيب، وإن كان في الضروع يوم التبايع لخفته، وهو ظاهر ما في التفليس منها؛ لأن فيها: وأما ما كان منها من

غلة أو صوف جزه، أو لبن حلبه؛ فذلك للمبتاع، وكذلك النخل يجني ثمرها فهو كالغلة، إلا أن يكون على الغنم صوف قد تم يوم الشراء، أو في النخل تمر قد أبر، واشترط ذلك التمر فليس كالغلة، فحكم أولاً بأن الصوف والغلة للمبتاع ثم لم يستثن إلا الصوف التام والثمرة المأبورة، ولا يقال: إنما نص على عدم الوجوب في الرد بالعيب لا في التفليس؛ لأنه لا فرق بين البابين، ولأن تعليله بالخفة يدخل البابين، ولخفة اللبن أجاز مالك في غير المدونة لبناً معجلاً بشاة لبون إلى أجل. عبد الحق: ولا يلزم عليه جواز جزة صوف معجلة بشاة عليها جزة صوف إلى أجل؛ لأن الصوف كسلعة فيكون كصوف بصوف إلى أجل وزيادة. وقول المصنف: (أَوْ ثَمَرَةً كَانَ اشْتَرَطَهَا) لأن المأبورة لا تدخل إلا بالشرط كما تقرر في البيوع. واحترز بالمأبورة من غيرها، فإنها لا حصة لها، وللبائع أخذها إذا كانت باقية مع أصولها، وأما إن جُذَّت أو جز الصوف، فقال المازري: المشهور أن الصوف إذا جزَّ وكان قائماً بعينه يرد مع الغنم، وأما الثمرة فلا ترد مع الأصول إذا جذَّت ولو كانت قائمة، ولكن يحاصص بما ينوبها من الثمن، قال: والفرق بينهما وأقصى ما يتصور أن الثمرة لو أخذها بعد الجذَّ لكان كمن اشترى رطباً وأخذ عنه تمراً يابساً، لا سيما إذا قلنا: إن ردها في الفلس كابتداء بيع. فَإِنْ يَبُسَت الثَّمَرَةُ فِي يَدِ الْمُشْتريِ؛ فَفِي رُجُوعِهِ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَقْضٌ أَوْ بَيْعٌ ثَانٍ .... يحتمل بأن يبيع الثمرة وحدها بعد ما أزهى وحل بيعه، فإن فلس المشتري قبل يبسه كان للبائع أخذه، وإن فلس بعد ما يبس فقولان؛ الأول في العتبية وبه أخذ أشهب: أنه

أحق به؛ لأنه مجيز سلعته. والثاني لمالك، وبه أخذ أصبغ: أنه يحاصص ولا يكون أحق بها؛ لئلا يؤدي إلى بيع الرطب بالتمر. وقوله: (بِنَاءً ...) إلخ. فإن قلنا: إنه نقض للبيع من أصله كان أحق، وإن قلنا هو ابتداء بيع لم يجز؛ لما ذكرنا من بيع الرطب بالتمر. ومشى ابن راشد وابن عبد السلام كلام المصنف على هذا الوجه، وهو الذي يؤخذ من الجواهر، ويتخرج على هذا الخلاف إذا باعه زبداً فصار سمناً، أو قمحاً فطحنه، وذكر ذلك المازري. وقد تقدم ذلك من كلام المصنف أنه يفوت بذلك. ويحتمل أن (أل) في (الثَّمَرَةُ) للعهد؛ أي: فإن يبست الثمرة التي اشترطها المبتاع مأبورة، وقد ذكر الباجي القولين، فقال: إن فلس المبتاع قبل أن تجذ فهو أحق بالأصل والثمرة ما لم تجذ قاله مالك، وقال أيضاً: ما لم تيبس. ابن القاسم: والأول هو القياس، والثاني استحسان وهو أحب إليَّ. وكذلك ذكر في البيان هذين القولين وزاد ثالثاً أنه أحق بها مطلقاً: أي: وإن وجدت قبل. ويحتمل أن تكون (أل) في (الثَّمَرَةُ) للجنس فتشمل الصورتين؛ أي: المشتراة مفردة أو مع أصولها. وفي بعض النسخ عوض (فَإِنْ يَبُسَت الثَّمَرَةُ) (فإن لم تيبس). ابن عبد السلام: وفيها قلق، إلا أن يقال: إنه أراد مسألة ما لو اشترى النخل ولا تمر فيها أو فيها تمر لم تؤبر ففلس المشتري وقد طاب الثمر، فقال ابن القاسم: هو للغرماء. وقال مالك: ذلك للبائع ما دام في رءوس النخل، لكن تنزيل هذه الصورة على كلام المصنف بعيد، ولا سيما الأصل الذي بنى عليه القولين. انتهى. ولأن مقتضاه أن الثمرة إذا يبست لا يكون أحق بها بالاتفاق، ولأن القول بأنه لا يكون أحق بها قبل اليبس لم أره.

وياخُذُ بَعْضَ الْمَبِيعِ ويُحَاصُّ بِمَا يَخُصُّ الْفَائِت مِنَ الثَّمَنِ يعني: إذا باع سلعتين أو أكثر ثم فلس المشتري بعد ذهاب بعض السلع، فإن البائع يحاص بما يخص الفائت، وله أن يرجع فيما وجد. محمد وأصبغ: إلا أن يدفع له الغرماء ثمن الباقي من السلعتين من مال المفلس أو أموالهم، واختلف هل يكون أولى بثمنها حتى يستوفي من ثمنها ما فدوها به أو يدخل معهم فيها بثمن الفائت لأنهم كأنهم أسلفوا للمفلس ثمنها سلفاً. التونسي: وهذا القول الأخير كقول ابن القاسم. ابن يونس: وهو ظاهر قول مالك. التونسي: والأول اختيار محمد، وذلك لأنهم حلوا محل أصحابهم في الاختصاص بها، فلا يكون له أن يحاصصهم إلا بما فضل عما فدوها به. وفي بقية مال المفلس، ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف بيَّن إن قلنا: إن رد السلعة في الفلس كابتداء بيع، وأما على القول بأنه نقض للبيع؛ فينبغي أن يفصل في السلعة الفائتة بين أن تكون وجه الصفقة أو لا، ويسلك في ذلك مسلك استحقاق بعض المبيع. وَرَوى ابْنُ الْقَاسِمِ: ولَوْ ولَدَتِ الأَمَةُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ بِيعَ الْوَلَدُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حِصَّةٌ. وقِيلَ: كَسِلْعَتَيْنِ، ولَوْ بِيعَتِ الأُمُّ فَكَسِلْعَتَيْنِ. قَالَ سَحْنُونٌ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا .... حاصله: إن مات الولد أو الأمة فليس للبائع إلا أخذ الباقي بجميع حقه أو تركه والمحاصة، وأما إن باع أحدهما، فإن باع الولد؛ فالمشهور: أن ذلك كموته. وإن باع الأم فكسلعتين، فله أن يأخذ الولد وحاصص بما ينوب الأم، وأنكر سحنون هذا بقوله: (مَا أَدْرِي). اللخمي: يريد أن القياس أن يكون في البيع سواء.

وقوله: (وقِيلَ: كَسِلْعَتَيْنِ) راجع إلى بيع الولد لا إلى موت أحدهما؛ إذ لا خلاف في الموت، قاله في البيان. ومعنى (كَسِلْعَتَيْنِ) أي: كبيع سلعتين، ثم وجد إحداهما فيكون له أخذ الأم والاتباع بما يخص الولد من الثمن يوم البيع، وهذا منقول عن مالك وابن القاسم. قال المازري: وهو أصل المذهب. انتهى. يريد: لأن الولد إذا لم يكن غلة يجب رد عينه، وإن كانت قائماً فيجب أن يحاسب بثمنه، ولهذا أخذ بعض محققي الأشياخ من الأول أن الولد غلة، وزاد في البيان قولاً ثالثاً: أنه لا يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من [530/ب] ثمن الولد، وليس بجار على أصل. وقوله فيها: (ولَوْ بِيعَتِ الأُمُّ فَكَسِلْعَتَيْنِ) هو المشهور، فيكون للبائع أن يأخذ الولد بما ينوبه من الثمن ويحاص بما ينوب الأم، ووقع لابن القاسم ومالك في سماع عيسى في بعض روايات العتبية: أنه يأخذ الولد ويحاص بقيمة الأم، أو يترك الولد ويحاص بجميع الثمن. قال ابن رشد: ولم يجروا في هذه المسألة على قياس. ولَوْ رُهِنَ الْعَبْدُ فَلَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ ويَاخُذَهُ، ويُحَاصَّ بِفِدَائِهِ ولا يُحَاصَّ بِفِدَاءِ الْجَانِي؛ إِذْ لَيْسَتْ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ .... يعني: لو رهن المشتري العبد ثم فلس فللبائع أن يفديه ويأخذه ويضرب بالفداء مع الغرماء، بخلاف ما لو جنى العبد ثم فلس المشتري فإن البائع أيضاً له أن يفديه، لكن لا يحاص بفدائه، والفرق بينهما ما أشار إليه المصنف أن الفداء لم يكن متعلقاً بذمة المفلس؛ لأنه كان له أن يسلم العبد في الجناية، بخلاف الدين في مسألة الرهن فإنه كان في ذمته. ابن عبد السلام: مراد المصنف بقوله: (ولا يُحَاصَّ بِفِدَاءِ الْجَانِي) أنه لا يرجع بالجناية وإن كان نفي المحاصة أخص من نفي رجوع البائع، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، لكن مراده ما ذكرناه.

ومِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بِمُعَاَوضَةٍ مَحْضَةٍ هذا هو الشرط الثالث، واحترز به مما ذكر بقوله: فَلا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ والْخُلْعِ والصُّلْحِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْعِوَضِ بِخِلافِ الإِجَارَةِ يعني: ولاشتراطنا المعاوضة المحضة لم يثبت الرجوع في النكاح وما عطف عليه. ووقع في بعض النسخ (ولا يثبت) بالواو، والأولى أحسن؛ لأن الفاء تشعر بالسببية. قوله: (فِي النِّكَاحِ) يريد: لأن النكاح لا يفسخ لتعذر استيفاء العوض؛ وهو الصداق إذا أعسر الزوج، كما لا يفسخ البيع إذا تعذر استيفاء الثمن. فإن قلت: أطلق المصنف في النكاح - وفي نظر - لأن النكاح يفسخ إذا أعسر الزوج بالصداق قبل البناء؛ قيل: هذا لا يرد، لأن المشتري هنا للبضع - وهو الزوج - لم يُقْبِضْهُ، والكلام إنما هو في الرجوع بعد قبض المشتري. قوله: (والْخُلْعِ) أي: إذا خالعته على عشرة مثلاً ثم فلست، فإنه لا رجوع له في العصمة وإنما يحاصص. خليل: الظاهر أن المقتضي لعدم الرجوع ليس هو ما ذكره المصنف من أنه ليس بمعاوضة محضة، بل لتعذر الرجوع؛ وذلك لأن العصمة في الخلع لا يمكن ردها، وكذلك البضع في النكاح، وكذلك إذا صالح عن دم العمد بشيء ثم فلس الجاني لم يمكن العود في القصاص. وعلى هذا، فلو قال: ومنها إمكان استيفاء العوض، فلا رجوع في النكاح والخلع والصلح؛ لكان أحسن. وينبغي أن يلحق الصلح على الإنكار ثم يفلس المنكر، فإن المدعي يحاصص بما صالح به ولا يرجع في الدعوى، كما قالوا: إذا صالح المنكر على عرض ثم استحق العرض؛ فإنه يرجع بقيمته. وقيل: يرجع إلى الخصومة. وأما الصلح على الإقرار كما لو صالح على دار أو عرض أقر به لغريمه ثم أفلس؛ فإن يرجع المصالح

في الدار والعرض كالبيع، والظاهر أن الصلح على الإقرار خارج من كلام المصنف؛ لأن الصلح على الإقرار معاوضة محضة، وفاعل (يَثْبُتُ) عائد على الرجوع. وفي بعض النسخ (فلا يثبت الفسخ) ومعناهما متحد. وقوله: (بِخِلافِ الإِجَارَةِ) فإنه يرجع في منفعته التي أجرها لعدم استيفاء العوض. فرع: واختلف هل تحاص الزوجة الغرماء بصداقها؟ فالمشهور أنها تحاص به في الموت والفلس. وقيل: لا تحاص فيهما. وفي الجلاب: تحاص به في الفلس دون الموت، وكذلك اختلف في نفقتها، فقال ابن القاسم في النكاح الثاني: تضرب بها مطلقاً. قال سحنون: أما إذا كان الدين مستحدثاً فتاحص، ولا تحاص إذا كان الدين قبل الإنفاق. وفي الموازية: تضرب في الفلس فقط. وقيل: لا تضرب فيهما. قال ابن القاسم: ولا يضرب بنفقة الولد أو الأبوين في فلس ولا موت. وقال أشهب: يضرب للولد مع الغرماء. وقال أصبغ في نفقة الأبوين: إلا أن تكون أخذت بحكم وتسلف وهو مليء فيضرب بها في الفلس والموت. اللخمي: ويختلف على هذا هل يحاص بالجنايات؛ ففي المدونة: يحاص بها، وعلى القول الآخر لا يحاص بها. ويَرْجِعُ الْمُكْرِي إِلَى عَيْنِ دَابَّتِهِ ودَارِهِ وأَرْضِهِ، وهُوَ أَحَقُّ بِزَرْعِهَا فِي الْمَوْتِ والْفَلَسِ - وقِيلِ: دُونَ الْمَوْتِ - مَعَ الأَجِيرِ السَّاقِي. وقِيلَ: ثُمَّ الأَجِيرُ السَّاقِي قوله: (ويَرْجِعُ الْمُكْرِي إِلَى عَيْنِ دَابَّتِهِ ودَارِهِ وأَرْضِهِ ...) إلخ. ظاهر التصور، وهو كالبيان لقوله: (بخلاف الإجارة) وهو: أي: مكري الأرض أحق بما زرع في أرضه في موت المكتري وفلسه. وقيل: إنما يكون أحق في الفلس فقط، وهذا الثاني هو مذهب المدونة، نص عليه في آخر كتاب كراء الدور. قال المازري: وهو مذهب مالك وأصحابه، فكان ينبغي للمصنف تقديمه، والأول لابن القاسم في الموازية.

أصبغ: ووجهه أن الزرع إنما نشأ عن الأرض فكانت كالحيازة له وحوزها كحوز صاحبها، فكان بمنزلة من باع سلعة وفلس مشتريها أو مات وهي في يد بائعها، ورأى في المشهور أن الزرع لما نشأ عن الأرض فغايته أن يكون كأنه باع الطعام فيكون أحق به في المفلس فقط. وقوله: (مَعَ الأَجِيرِ السَّاقِي ...) إلخ. يحتمل أن يتعلق بـ (أَحَقُّ) فيكون القولان في الأجير مفرعين على كل من القولين السابقين، ويحتمل أن يتعلق بـ (بأحق) المتقدم في كلامه ثانياً؛ أي: وقيل هو أحق في الفلس دون الموت مع الأجير الساقي، فيكون القولان مفرعين على القول الثاني. ويعضد هذا لاحتمال الثاني ما نقله ابن يونس: أن ابن القاسم وأشهب رويا أن مكري الدابة أحق من سائر الغرماء في الفلس دون الموت، ثم اختلفا في مكري الأرض والأجير؛ ففي الموازية من رواية أشهب والواضحة من رواية مطرف: أنهما يتحاصان. وروى ابن القاسم: أن صاحب الأرض مقدم على الأجير، ثم الأجير مقدم على الغرماء، ويعضد الأول قول أصبغ: اختلف أصحابنا. وأحب ما فيه إليَّ أن أجير الزرع ومكري الأرض يتحاصان، وأنهما يبدآن على الغرماء في الموت والفلس، وقاله ابن الماجشون. خليل: وهذا الاحتمال أقرب؛ لأنه تفريع على القول الذي قدمه. نعم يعترض عليه لتقديمه غير مذهب المدونة. ومنشأ الخلاف بين القولين في تقديم مكري الأرض على الأجير، [531/أ] هل الزرع متكون عن الأرض فيكون صاحبها أحق به، أو إنما نشأ عن الأرض وفعل الأجير فيكونان متساويين، والله أعلم. وزاد في البيان قولاً بأن الأجير مقدم على صاحب الأرض، وقولاً آخر بأنه لا تقدمة لصاحب الأرض ولا للأجير على الغرماء، بل هما أسوة الغرماء، وعزاه اللخمي للمخزومي.

ولو عمل في الزرع أجراء واحداً بعد واحد، فالأخير أحق من الأول. وقيل: يقدم أكثرهما عملاً. وقيل: يتحاصان. ويُقَدَّمَانِ عَلَى مُرْتَهِنِ الزَّرْعِ أي: ويقدم مكري الأرض والأجير الساقي على مرتهن الزرع ولو حازه ملك، ثم يقدم المرتهن على سائر الغرماء، وإنما قدما عليه لأن الزرع إنما يكون عن مال هذا وعمل هذا، فكان أخص في الحوز، وصاحب الحوز الأخص مقدم على صاحب الحوز الأعم، كما لو سقطت سمكة في حجر إنسان فإنه أولى بها من صاحب المركب، وعلى المشهور أنهما يكونان أحق من الغرماء في الفلس دون الموت، ويكون المرتهن أحق منهما في الموت؛ لأنهما على هذا القول كسائر الغرماء. بِخِلافِ الأَجِيرِ عَلَى رِعَايَةِ الإِبِلِ أَوْ عَلْفِهَا وشِبْهِهِ أي: فلا يكون أحق في الفلس والموت، هكذا نص عليه في المدونة وغيرها. ابن عبد السلام: ولا أعلم فيه خلافاً. قوله: (وشِبْهِهِ) أي: كالحارس وأجير يخدمك في بيتك أو يبيع لك في حانوتك، ولم يكن هؤلاء أحق؛ لأنه منافعهم ليس لها أعيان قائمة بخلاف الزرع. قال في المدونة: ولو استأجره يدرس له ببقر الأجير ففلس صاحب الأندر؛ فصاحب البقر أحق بالأندر. قال ابن المواز: لأن الأندر لا ينقلب به صاحبه ولا يحتوي عليه، بخلاف صانع استصنعته في حانوتك، فإن كان الليل انصرف، فهذا لا يكون أحق به في موت ولا فلس.

والصَّبَّاغُ والْبَنَّاءُ والنَّسَّاجُ شَرِيكٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ، فَلَوْ أَقْبَضَهُ فِيمَا زَادَ، ويُحَاصُّ بِمَا بَقِيَ، وقِيلَ: بِقِيمَتِهِ، وجَمِيعُ الصُّنَّاعِ أَحَقُّ بِمَا أُسْلِمَ إِلَيْهِمْ لِلصَّنْعَةِ .... تبع المصنف هنا ابن شاس معنىً وترتيباً، وحمل ابن عبد السلام قوله: (والصَّبَّاغُ والْبَنَّاءُ والنَّسَّاجُ) على الأجير؛ يعني: أن المستأجَر على صبغ ثوب، أو بناء بقعة، أو نسج غزل إذا فلس آجره قبل قبض الأجير الأجرة ولم يكن أسلم السلعة لربها؛ فإنه يكون مشاركاً لربه بقدر قيمة الصنعة، ثم استشكله بأن ظاهر كلامه أن الأجير لا تكون له أجرة الصنعة، ولا يحاصص بها الغرماء وهو بعيد من الأصول؛ لأن الصانع لم تخرج الصنعة من يده ولم يرضَ بفسخ الإجارة فكيف يبطل حقه فيها، وجعل ابن عبد السلام قوله: (فَلَوْ أَقْبَضَهُ) قسيماً لهذا؛ أي: وإن أسلم الصانع المصنوع إلى ربه فقولان، وتصورهما من كلام المصنف ظاهر، وقال بعض من تكلم على هذا الموضع. وقوله: (والصَّبَّاغُ ...) إلخ. محمول على ما إذا لم يسلم إليه الشيء للصنعة، كما لو اشترى ثوباً فصبغه أو نسجه، أو عرصة فبناها ثم فلس. فقال ابن القاسم في الموازية، ما ذكره المصنف: يكون شريكاً بقيمة الصنعة. وكذلك لو استحق من يده بعد وضع صنعته فيه فأخذه المستحق فإنه يدفع إليه قيمة الصنعة. قال: وإن أسلم إليه للصنعة؛ فإما أن يقبضوه لربه ثم يفلس قبل دفع الأجرة، أو يبقى بأيديهم حتى يفلس، فإن أقبضوه، فقال ابن القاسم في الموازية: يكون شريكاً في الثوب بما زاد الصبغ فيه ويحاص بما بقي. وقال في العتبية: يكون شريكاً بقيمة الصبغ، وهذه الصورة الثانية التي ذكرها بقوله: (فَلَوْ أَقْبَضَهُ فِيمَا زَادَ) أي: يكون شريكاً بما زاد ويحاص بما بقي. وقوله: (وقِيلَ: بِقِيمَتِهِ) أي شريكاً بقيمة الصبغ ونحوه، واستشكل ما في الموازية بأن شريكه الصانع لربها بما زاد والمحاصة بما بقي لا تصح على أصل المذهب؛ لأن من

اختار أخذ سلعته ناقصة لا يكون له غيرها، وأما إن لم يقبضوه لربه فهم أحق به حتى يستوفوا جميع الأجرة. خليل: المازري: في الفلس والموت. ابن رشد: واتفق على ذلك، قال هذا القائل: وهذا الذي أشار إليه بقوله: (وجَمِيعُ الصُّنَّاعِ أَحَقُّ بِمَا أُسْلِمَ إِلَيْهِمْ لِلصَّنْعَةِ) وعلى هذا فلا يكون قوله: (فَلَوْ أَقْبَضَهُ) قسيماً لقوله: (والصَّبَّاغُ والْبَنَّاءُ والنَّسَّاجُ) بل قسيماً لما بعده، ورد ابن عبد السلام هذا الوجه بأن المصنف قدمه بقوله: (فلو لم ينتقل ولكن انضمت إليه صناعة أو عين أخرى كنسج الثوب أو بناء العرصة شارك ...) إلخ. فلو حمل قوله: (الصَّبَّاغُ) على المشتري للزم التكرار، وأجاب عنه هذا القائل بأنا لم نخص قوله: (والصَّبَّاغُ) بالمشتري؛ بل على من وضع صنعته من غير أن يسلم إليه المصنوع للصنعة، وهو أعم من المشتري والمستحق من يده وغيرها. وتمشية ابن عبد السلام أقرب من جهة اللفظ؛ لأن صيغة فعال للحرفة غالباً، لكن لا تصح من جهة النقل؛ لأنه يلزم أن يكون الصانع إذا لم يسلم المصنوع إنما يكون له ما زادت الصنعة، وهو خلاف الاتفاق الذي في البيان. واعلم أن القولين في مسألة الإقباض مطلقان، سواء أضاف الصانع إلى صنعته شيئاً كالصبغ، أم لا كالخياطة، نقل ذلك اللخمي. وفي البيان: المشهور أن الصانع إذا أسلم الصنعة ولم يكن للصانع فيها غير عمل يده أنه أسوة الغرماء. وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أنه أحق بعمله، فإن شاء أخذه بأجرة وكان شريكاً للغرماء في المتاع المعمول بقيمة عمله فيه، وإن شاء ترك وكان أسوة الغرماء. وأما إن كان للصانع غير عمل يده كالصباغ يصبغ الثوب، والفراء يفري الفرو برقاع من عنده؛ فيتفق على أنه أحق بما خرج

من يده لأنه قائم بعينه، وأما عمل يده المستهلكة فلا يكون أحق به على المشهور، ونحوه للمازري، قال: وعلى المشهور إذا كانت عينة قائمة كالرقع وصقل للسيف - وهو ظاهر الروايات - أنه شريك بقيمة ماله؛ لأنه هو المبيع وكأنه سلعة أضيفت إلى سلعة على وجه يتعذر فيها الانفصال، فيكونان شريكين في ذلك، وقال ابن حبيب: بل يكون شريكاً بما زاد الصانع، وعلى أنه شريك بقيمة ماله فالمعتبر في ذلك التقويم يوم الحكم. فإن قيل: هذا يقتضي أن نسج الثوب لا يكون الصانع به شريكاً؛ لأنه لم يخرج من يده شيئاً، والمصنف قد جعل النساج كالصباغ؛ قيل: النساج وشبهه مستثنى عند ابن القاسم من مسألة الصانع الذي لم يخرج شيئاً ويلحق [531/ب] بما إذا أضاف للصنعة شيئاً، وكأنه لاحظ في النسج قوة التأثير، ولأصبغ قول رابع، إلا أنه لا يعلم صور المسألة، فقال: إن كان فيه رقاع وخياطة فتوق؛ فالأقل تابع للأكثر إذا كانت الرقاع أيسر ذلك وأكثره الخياطة فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس، وإذا كانت الرقاع أكثر ذلك، وهي من عنده كان أحق بها على ما تقدم، فإن تناصف ذلك قوم كل على حدثه، ثم يكون أسوة الغرماء في المرسوم، ويكون بما ينوب الرقاع شريكاً، وهذا كله على المشهور أن الصبغ ليس بفوت، ونقل المازري عن ابن وهب في أحد قوليه: أن الرجوع يفوت بالصبغ والدباغ. وضابطه: أن يحدث المشتري حدثاً يتميز بالنظر ولا يتميز بالفعل. تنبيه: قد تقرر على التمشية الثانية أن قوله: (وجَمِيعُ الصُّنَّاعِ أَحَقُّ) قسيم لقوله: (فَلَوْ أَقْبَضَهُ) وأما ابن عبد السلام، فقال: يعني أنهم أحق في الموت والفلس، نص على ذلك في المدونة. قال: ولا يظهر لإتيان المصنف بهذه المسألة هنا كبير فائدة فإن ما قدمه مغنٍ عنها، ولا سيما وهو لم يتمها كما في المدونة. قال ابن القاسم: من دفع إلى صانع سواراً يعمله له، ثم دفع إليه بعد ذلك سواراً آخر ليعملها، أو دفعهما معاً فعمل أحدهما ودفعه إلى ربه ولم يأخذ إجارته حتى أفلس

ربهما؛ فلا يكون الصانع أحق بالباقي عنده حتى يأخذ إجارته في الذي دفع، وهو في الذي دفع أسوة الغرماء، وهو أولى بالباقي حتى يأخذ أجرته فيه. ابن رشد: وهذا صحيح إن كان استعماله في صفقتين، وأما إن كان في صفقة؛ فمن حق الصانع أن يمسك السوار الذي بيده بجميع إجارة السوارين كالرهن، قال: وهذا مما لا إشكال فيه ولا اختلاف. قال: وقوله: (أو دفعهما معاً) غير صحيح، وقع على غير تحصيل، واحتج على ذلك بأشياء وقعت في مسألةأخرى متصلة بهذه المسألة تركنا ذكرها اختصاراً. أما إن فلس ربها قبل العمل؛ فإن الصانع يخير بين أن يعمل ويحاصص، وبين أن يفسخ الإجارة عن نفسه. ومُكْرِي الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِمَا حَمَلَتْ، وإِن لَمْ يَكُنْ مَعَهَا يعني: إذا اكترى دابة ليحمل عليها شيئاً ثم فلس المكتري، فرب الدابة أحق بما حملت دابته حتى يقبض كراءه في الموت والفلس، زاد في المدونة: وسواء أسلم دوابه إلى المكتري أو كان معها، كان رب المتاع معه أو لا، وهو كالرهن، ولأن على دوابه وصل إلى البلد. ابن يونس: كأنها قابضة للمتاع كقابض الرهن. قال في البيان: ولا خلاف أن الجمَّال أحق إذا كان المتاع في يده؛ لأنه كالرهن بيده، وإن اسلم الجمَّال إبله إلى المكتري ففلس قبل الوصول أو عنده قبل أن يحوز متاعه ويرد الإبل، فالمشهور وهو الذي في المدونة: أن الجمَّال أولى بالمتاع في الفلس والموت. ويتخرج في ذلك قولان؛ أحدهما: أنه لا يكون أحق به في الفلس والموت. والثاني: أنه أحق به في الفلس فقط. قال ابن القاسم في العتبية: والسفن كالدواب، وأخذ ذلك جماعة من تعليله في المدونة مسألة الدواب، فإن العلة فيهما واحدة. قال في المدونة:

وأرباب الدور والحوانيت أسوة الغرماء في الفلس والموت، وليسوا أحق بما فيها. فجعل الدواب بخلاف الدور؛ لأن ظهور الدواب حائزة لما عليها، ولأن في حملها من بلد إلى بلد تنمية المال بخلاف الدور، وجعل عبد الملك الدار والحانوت كالدواب فيكون ربها أحق بما فيها. تنبيه: أخذ أحمد بن خالد من قوله: (ولأن على دوابه وصل) أن المكري أحق بالمتاع وإن قبضه ربه. وقال ابن رشد: هو بعيد في المعنى، وإنما يكون أحق به إذا كان على ظهر دابته أو سفينته وهو بين في العتبية، وكذلك نقل ابن يونس عن الواضحة: أنه إنما يكون أحق ما دام المتاع بيده، فإن أسلمه لم يكن أحق به كالصانع إذا أسلم المتاع. خليل: ولعل أحمد بن خالد فهم من قوله في المدونة: (كالرهن، ولأن على دوابه وصل) على أنهما علتان على البدل، وفهم غيره أنهما علة واحدة، والله أعلم. والْمُكْتَرِي أَحَقُّ بِالدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وبِغَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ إِنْ قَبَضَهَا يعني: أن من اكترى دابة، فإن كانت معينة ثم فلس مكريه أو مات فالمكتري أحق بها، سوءا قبضها أو لا. قال في المدونة: كعبد اشتراه ولم يقبضه حتى فلس بائعه؛ فالمشتري أحق به، وإن كانت غير معينة فإن لم يقبضها المكتري فهو أسوة الغرماء في الفلس والموت، وإن قبضها فهو أحق بها؛ سواء كان المكتري يدير تحته الدواب أم لا. وهذا مذهب المدونة، ولعله هو المشهور واختيار ابن حبيب. وقال أصبغ: إنما يكون أحق بها بالقبض إذا كان لا يدير الدواب تحته، وإن كان يديرها فليس هو أحق، وقيل: إن المكتري لا يكون أحق في الكراء المضمون مطلقاً، وعارض التونسي قول مالك في هذه المسألة: (أن المكتري أحق وإن كان الجمال يدير الدواب تحته) بقوله: إن الراعي ونحوه ليس هو أحق بالغنم، ورآه اختلاف قول، وفرق ابن يونس بأن الراعي ونحوه لم يتعلق له بعين

الدواب حق، فوجب لذلك أن يكون حقه في ذمة المكتري بخلاف الدواب، فإن بقبضهم الدواب تعلق حقهم بها؛ لأن ركوبهم عليها كالمعينة، فكان كتعلق حق الصانع بعين المتاع، وإذا جعلناه أحق في الكراء المضمون، فقال ابن القاسم في المدونة: لبقية الغرماء أن يضمنوا له حملانه ويكروا له من أملياء ويأخذوا الإبل، وقال غير ابن القاسم فب بعض الروايات المدونة: لا يجوز أن يضمنوا حملانه. وفِي كَوْنِ الْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِالسِّلْعَةِ تُفْسَخُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ، ثَالِثُهَا: فِي النَّقْدِ دُونَ الدَّيْنِ .... أي: إذا اشترى سلعة شراء فاسداً وقد كان نقد ثمنها أو كان أخذها عن دين له في ذمة البائع، ثم أفلس البائع والسلعة لم تفت وهي بيد المشتري فإن البيع يفسخ، واختلف هل يكون المشتري أحق بها فيما نقد من الثمن وفيما له من الدين على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أحق بها، وهو قول سحنون. الثاني: لا يكون أحق بها، وهو قول ابن المواز. الثالث: إن كان ابتاعها بدين فهو أسوة [532] الغرماء بخلاف النقد، وهو قول ابن الماجشون. قال في المقدمات: ولا اختلاف بينهم أنه إن وجد الثمن الذي دفعه بعينه أنه أحق به في الموت والفلس جميعاً، وحكى اللخمي الاتفاق على أنه لا يكون أحق بها في الدين، وعلى هذا ففي المسألة طريقان. والرَّادُّ لِلسِّلْعَةِ بِعَيْبٍ لا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا فِي الثَّمَنِ يعني: أن من اشترى سلعة ثم اطلع فيها على عيب فأراد ردها فوجد البائع قد فلس فإن له ردها ولا يكون أحق بها، ولم يجر في هذه من الخلاف ما في التي قبلها؛ لأن المشتري هنا مختار للرد بخلاف الأول؛ لأنه مجبر عليه. قال في المقدمات: وهذا على أن الرد بالعيب نقض، وأما على أنه ابتدائ بيع فيكون أحق بها.

فرع: واختلف إذا أقرضه ثم أفلس المقترض؛ ففي المذهب طريقانك الأولى للمازري: المشهور أن المقرض لا يكون أحق؛ لأن الحديث إنما ورد في البيع، وسواء قبض السلف أو لم يقبضه، قال: وقد يسبق إلى النفس اعترض قوله: (أو لم يقبضه) لأن من في يده سلعة فهو أحق بها في الفلس والموت، وأجاب بأن القرض لما كان يتأجل بمقتضى العادة كان للمتسلف أن يطالب المسلف بالتسليم، فلا يكون له حبس ما أسلف، وإذا لم يكن له حبسه لم يكن أحق به، ولو قيل: له الرجوع في ذلك وإن لم ينتفع المستسلف، كما قيل في عارية الأرض للبناء والغرس لم يبعد. وحكى عن أبي محمد الأصيلي إلحاق القرض بالبيع. والطريقة الثانية لابن رشد: أن مذهب مالك وأصحابه التسوية بين القرض والبيع، وأن التفرقة بينهما لابن المواز خلافاً لهم. * * *

الحجر

[533/أ] الحجر: أِسْبَابُهُ: الصِّبَا، والْجُنُونُ، والتَّبْذِيرُ، والرِّقُّ، والْفَلَسُ، والْمَرَضُ، والنِّكَاحُ فِي الزَّوْجَةِ .... هذا مصدر حجر يحجر بضم الجيم وكسرها، وحقيقته لغةً: المنع، وشرعاً: منع المالك التصرف في ماله لمصلحة نفسه أو غيره، وذكر المصنف له سبعة أسباب. ومفهوم العدد يقتضي الحصر فيها، وينتقض عليه بالحجر على الراهن لحق المرتهن، وبالحجر على المرتد. وَيَنْقَطِعُ الصِّبَا بِالْبُلُوغِ والرُّشْدِ بَعْدَ الاخْتِبَارِ وينقطع حجر الصبا على حذف مضاف بمجموع البلوغ والرشد؛ لقوله تعالى: (وابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [النساء: 5]. ابن العربي: الابتلاء هو الاختبار والتحصيل لمعرفة ما غاب من علم العاقبة، والرشد لا يعرف إلا بالاختبار. ابن رشد والمازري: ويكون الاختبار بعد البلوغ على المشهور، وقال أبو جعفر الأبهري وغيره من البغداديين: يكتفى به قبله. وقوله: (بَعْدَ الاخْتِبَارِ) في محل حال، فإن جعل حالاً من البلوغ لزم أن يكون كلام المصنف موافقاً لقول أبي جعفر، وإن جعل من الرشد أو منهما احتمل المشهور والشاذ. ولا خلاف أنه لا يخرج من الحجر قبل البلوغ وإن ظهر رشده، فإذا بلغ فإما أن يكون أبوه قد حجر عليه وأشهد بذلك أم لا، فإن حجر عليه فحكمه كمن لزمته الولاية فإن لم يحجر عليه، فإما أن يعلم رشده أو سفهه، فإن علم أحدهما عمل عليه، وإن جهل فالمشهور أنه محمول على السفه، وروى زياد وابن غانم عن مالك أنه محمول على الرشد، وأخذ من قوله في نكاح المدونة: إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، لكن تأوله الشيخ أبو محمد على أن المراد بنفسه لا بماله.

وقال ابن العطار: هو على السفه إلى عام، فعلى هذا الحجر عليه ما لم يتم العام، وقال في المقدمات: وروي عن ابن العطار أيضاً أنه يجوز للرجل تسفيه ولده بعد البلوغ إلا أن يكون معروفاً بالرشد، ولم يفرق بين القرب والبعد. وحكى غيره من الموثقين أن تسفيهه جائز، وإن لم يعلم سفهه، إذا كان بحداثة بلوغه قبل انقضاء عامين. تنبيه: ما ذكره المصنف من انقطاع حجر الصبي بالبلوغ والرشد إنما هو في حق ذي الأب، وأما ذو الوصي أو مقدم القاضي فلا ينفك الحجر عنه إلا بإطلاقه من الحجر، ثم الوصي الذي من قبل الأب له الإطلاق ويصدق فيما يذكر من حاله، وإن لم يُعرف ذلك إلا من قوله، وقال ابن القاسم في العتبية: لا يجوز إطلاقه إلا أن يتبين حاله ويعرف رشده، وأما المقدم من جهة القاضي فالمشهور على ما قاله المازري وغيره أن كوصي الأب؛ لأن القاضي جبر به الخلل الكائن بترك الأب تقديم وصي لهذا الابن. وقال ابن زرب: هو كوكيل عن القاضي، فلا يكون له الإطلاق إلا بإذن من القاضي، إلا أن يكون معروفاً بالرشد، وحكى ابن رشد وغيره قولين - إذا قلنا إنه يطلقه دون إذن القاضي-:هل يشترط أن يعرف رشده أو لا [يشترط] ذلك؟ فإن قلت: لم جعلتم الوصي على المشهور أقوى من الأب وهو فرعه؟ قيل: لأن الأب لما أدخله في ولاية الوصي كان بمنزلة ما لو حجر عليه، وهو لو [حجر] عليه لم يخرجه إلا الإطلاق. ويعرف الرشد بوجهين: أحدهما: أن يتأمل أحوال يتيمه ويحصل له العلم بنجابته. الثاني: أن يدفع إليه شيئاً من ماله يجربه به في التجارة، فإن نماه وحسن القيام به سلم إليه جميع ماله وإلا استمر عليه الحجر، قاله ان العربي.

وَفِي الأُنْثَى بِأَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُلَ بِهَا عَلَى المَشْهُورِ، ثُمَّ تُبْتَلَى بَعْدَهُ سَنَةً، وَقِيلَ: كَالذَّكَرِ .... دل قوله: (وَفِي الأُنْثَى) أن الكلام المتقدم في الذكر تقديره: وينقطع في الذكر بكذا، وفي الأنثى بالرشد، وأن تتزوج ويدخل بها زوجها؛ لأن قبل ذلك محجوبة عن الناس والتصرف، ومراده بالأنثى ذات الأب. و (عَلَى المَشْهُورِ) راجع إلى دخول الزوج. (وَقِيلَ: كَالذَّكَرِ) يحتمل أن يريد به أنه ينقطع عنها بالبلوغ والرشد، وهو ظاهر كلامه وهو قول حكاه المازري واللخمي، وذكر أنه وقع لمالك في كتاب الحبس من المدونة، وقال ابن راشد: قوله: (وَقِيلَ: كَالذَّكَرِ) يريد أنها تخرج بمجرد البلوغ، وهي رواية ابن غانم وزياد عن مالك. قال في المقدمات: ومعنى هذه الرواية عندي إذا علم رشدها أو جعل حالها، وأما إن علم سفهها فهي باقية في ولايته. وقوله: (ثُمَّ تُبْتَلَى بَعْدَهُ)؛ أي بعد الدخول. (سَنَةً): وظاهره أنه لا يكفي مضي العام بعد الدخول إذا لم يكن الاختبار مستوعباً فيه، وأنه لا بد من أن يكون الاختبار في مجموع السنة، وفي هذه المسألة - أعني في الحد الذي تخرج به ذات الأب من الحجر - أقوال: أولها: ما ذكره المصنف أنها في ولاية أبيها حتى يمضي لها العام ونحوه بعد الدخول، وهو قول مطرف في الواضحة، فتكون أفعالها قبل العام مردودة ما لم يعلم رشدها، وبعده جائزة ما لم يعلم سفهها. ثانيها: أنها في ولايته حتى يمر لها عامان، وهو قول ابن نافع.

ثالثها: حتى تمضي لها سبعة أعوام، [وعزي لابن القاسم، وبه جرى العمل عند أهل قرطبة، وقال ابن أبي زمنين: الذي أدركت عليه الشيوخ أنها تخرج من الولاية بمضي ستة أعوام] إلا أن يجدد الأب عليها سفها قبل ذلك، [وهو قول رابع. خامسها]: [533/ب] وهو المشهور على ما في البيان أنها في ولايته حتى يشهد العدول على صلاح أمرها، وهي على هذه الرواية مردودة الأفعال قبل دخول زوجها وإن علم رشدها، فإذا دخل بها زوجها وعلم رشدها خرجت من ولاية أبيها، وإن كانت بقرب بنائه، قال: وهذا قول مالك في الموطأ والمدونة والواضحة، واستحب مالك في رواية مطرف أن تؤخر إلى العام من غير إيجاب، ونحوه لعياض في باب النكاح، ولكنه زاد بعد أن عين المشهور أنها لا تخرج إلا بالدخول ومعرفة صلاح حالها، فقال: ومعناه أنها لا يعرف سفهها. انتهى. وعلى هذا فلا يشترط أن تشهد العدول بصلاح الحال [بل بعدم] السفه. سادسها: أنها في ولاية أبيها ما لم تعنس أو يدخل بها زوجها أو يعرف من حالها، وسيأتي الخلاف في سن تعنيس ذات الأب إثر هذه حيث تكلم المصنف على المعنسة، وقال المازري: المشهور من المذهب أن الثيب من النسوان البالغ تحمل على الرشد. واختلفت إشارات المذهب عند بعض أشياخي في مجرد الدخول، هل يقتصر عليه؟ أو لا بد من اختبار حالها بعد الدخول؟ وروى بعض أشياخي أن البدوية لا يوسع لها بعد الدخول كما يوسع في ذلك في بنات كبار التجار. وعلى هذا فما قدمه المصنف خلاف المشهور. وقرأ بعضهم قول المصنف: (ثُمَّ تُبْتَلَى بَعْدَهُ سَنَةً) بالتاء لا بالنون ليوافق ما جرى به العمل على ما حكاه ابن أبي زمنين، وفي بعد. تنبيه: قول ابن أبي زمنين: ما لم يجدد الأب الحجر عليها، يدل على أنه له أن يجدد الحجر عليها، وإليه ذهب ابن زرب وابن العطار، وقال الأصيلي وابن القطان: ليس له

ذلك إلا بإثبات سفهها، وعلى الأول فلو أوصى عليها حينئذٍ، ثم تراخى موته حتى بلغت الحد الذي تجوز فيه أفعالها فقولان: أحدهما: أن إيصاءه عليها لازم كتجديد الحجر عليها الذي لا ينفك إلا بإثبات رشدها بالبينة العادلة. وثانيهما: أن ذلك غير لازم بخلاف تجديد السفه، وقالوا: ذلك بمنزلة الأب يولي على ابنته وهي بكر ثم يزوجها، فتقيم مع زوجها سبع سنين أو أكثر فيموت، أن الإيصاء ساقط. ابن راشد: لا أعلمهم اختلفوا في لزوم الولاية عليها إذا أوصى عليها بعد دخول زوجها، ثم مات بعد بلوغها الحد الذي هو وقت خروجها من ولايته، ولا يبعد دخول الاختلاف في ذلك بالمعنى، قال: وأما إن أوصى على ابنته وهي صغيرة أو بكر ثم مات وهي بكر قبل دخول زوجها بها قبل مضي المدة المؤقتة لخروجها من ولايته، فالولاية لها لازمة. فَأَمَّا الْمُعْنِسَةُ فَالرُّشْدُ لا غَيْرُ، وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: إِلا أَنْ تَكُونَ بِأَبٍ أَو وَصِيٍّ يعني: أن الذي تقدم إنما هو في بكر لم تعنس، وأما المعنسة فيكتفي فيها بالرشد وجعلوا [علو السن] يقوم مقام التزويج، وسواء كانت ذات أبٍ أو وصي أو مهملة. ولهذا قال: (ابْنُ القَاسِمِ ... إلخ) أي إنما يكتفى بالرشد في المهملة، وأما ذات الأب والوصي فلا، وهذا هو المعروف من قول ابن القاسم، والذي في المدونة أنه يجوز فعل المعنسة إذا أنس منها الرشد، وإن لم يجزه أبوها، وقال مالك: يجوز إن أجازه الأب. وقال في رواية عبد الرحيم: يجوز بشرط التعنيس فقط، ولهذا قال بعضهم في المدونة في هذه الصورة ثلاثة أقوال: الجواز بشرط التعنيس فقط، وهي رواية عبد الرحيم. والجواز بشرطين التعنيس وإيناس الرشد، وهو قول ابن القاسم.

والجواز بثلاثة شروط، فيزاد إلى ذلك إجازة الأب، وكلام اللخمي وابن رشد ينافيه؛ لأنهما جعلا قول مالك أن إجازة الأب في من جهل حالها، قال في المقدمات: والمشهور المعمول به أنها إذا كانت يتيمة وهي ذات وصي من قبل الأب أو مقدم من جهة القاضي أنها لا تخرج من ولايته وإن عنست وتزوجت ودخل بها زوجها وحسن حالها ما لم تطلق من الحجر، قال ابن الماجشون: حالها مع الوصي كالأب في خروجها من ولايته بالتعنيس أو النكاح مع طول المدة وتبيين الرشد. واختلف في حد التعنيس فقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون، وقيل: أربعون، وقيل: من الخمسين إلى الستين، والتعنيس مأخوذ من التكسيل والعجز؛ لأن الغصن الرطب إذا مر عليه الزمان ذهبت مائيته وانكسرت نعمته وحط لونه. فرع: لم يتعرض المصنف للمهملة إلا إذا كانت معنسة، قال في المقدمات: واختلف في اليتيمة التي لم يولَّ عليها أب ولا وصي على قولين: الأول: أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض وهو قول سحنون في العتبية، وقول غير ابن القاسم في المدونة ورواية زياد عن مالك. والثاني: أن أفعالها مردودة ما لم تعنس وهو مذهب المدونة؛ لأن فيها لا يجوز حتى تعنس وتقعد عن المحيض، أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها وتقيم معه مدة يحمل أمرها فيها على الرشد، قيل: أقصاها العام وهو قول ابن الماجشون وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه، وقيل: ثلاثة أعوام ونحوها، وقال ابن أبي زمنين: الذي أدركت عليه العمل: لا يجوز فعلها حتى تمر بها السنتان والثلاث. [وفي حد تعنيس اليتيمة خمسة أقوال: الأول: لابن نافع أقل من ثلاثين.

الثاني: لابن الماجشون ثلاثون. الثالث: لمالك في رواية مطرف وابن القاسم] في رواية أصبغ أربعون. الرابع: لابن القاسم من رواية سحنون عنه من الخمسين إلى الستين. الخامس: حتى تقعد عن المحيض، وهو قوله في المدونة. انتهى. وَبُلُوغُ الذَّكَرِ: بِالاحْتِلامِ أَو بِالإنْبَاتِ، أَو بِالسِّنِّ - وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ [534/أ] عَشْرَةَ - وَتَزِيدُ الأُنْثَى بِالْحَيْضِ وَالْحَمْلِ حاصله أن للبلوغ خمس علامات، وقد تقدم الكلام عليها في النكاح، والمشهور أن ما ذكره أن الإنبات علامة، قاله المازري وغيره، ودليله حديث بني قريظة، ولمالك في كتاب القذف أنه ليس علامة على البلوغ، ونحوه لابن القاسم في كتاب القطع. وجعل في المقدمات هذا الخلاف فيما بينه وبين الآدميين، قال: وأما فيما بينه وبين الله من وجوب الصلاة ونحوها فلا خلاف أنه ليس بعلامة. وَيُصَدَّقُ فِي الاحْتِلامِ مَا لَمْ تَقُمْ رِيبَةٌ، وَالإِنْبَاتُ مِثْلُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: يُنْظَرُ فِي الْمِرْآةِ - غَرِيبٌ .... لمَّا ذكر علامات البلوغ شرع في ذكر معرفتها قال في الجواهر: وأما السن فبالعدد، وأما الاحتلام فيصدق فيه ما لم تقم ريبة؛ إذ لا يعرف إلا من جهته، وسواء كان طالباً كما لو ادعى أنه بلغ ليأخذ سهمه في الجهاد، أو مطلوباً كما لو جنى جناية وادعيَّ عليه البلوغ ليقام عليه حدها وأنكر هو ذلك. وأما الإنبات، فقال ابن العربي: يكشف عن عورته ويستدبره الناظر فينظر في المرآة، وأنكره ابن القطان المحدث المتأخر، وقال: لا يجوز النظر إلى العورة ولا إلى صورتها، ولعل المصنف أطلق الغرابة عليه لهذا الإنكار، وإن أراد لأنه لم يقله غيره وكثيراً ما يطلق

المحدثون على الحديث الغرابة لهذا المعنى، ففيه نظر؛ لأن عبد الوهاب حكاه عن بعض شيوخه في كتاب الأحكام له أنه قال بذلك في عيب المرأة في النكاح: أنه تجلس امرأتان خلف المرأة كما ذكرنا. خليل: ولو قيل: يجس على الثوب كما قيل في العنة ما بعد. وَالرُّشْدُ: أَنْ يَكُونَ حَافِظاً لِمَالِهِ عَارِفاً بِوُجُوهِ أَخْذِهِ وَإِعْطَائِهِ، وَقِيلَ: وَجَائِزُ الشَّهَادَةِ الظاهر أن قوله: (عَارِفاً بِوُجُوهِ أَخْذِهِ وَإِعْطَائِهِ) بيان لحفظ المال. فإن قيل: لم لا تجعلوا قوله: (عَارِفاً بِوُجُوهِ أَخْذِهِ وَإِعْطَائِهِ) قيداً آخر ويكون المراد به تنمية المال؟ قيل: لأن اللخمي نقل الاتفاق على أن من لا يحسن التجر ويحسن الإمساك أنه لا يحجر عليه، لكن ذكر المازري خلافاً فيما ينفك به الحجر عن المحجور عليه ماله هل بمجرد حفظه فقط، أو بزيادة اشتراط حسن تنميته؟ ووجه الثاني بأنه إن لم يحسن ذلك كان ذلك مؤدياً إلى فناء ماله، والأول بأنه لما كان لا يلزم القابض من أب أو وصي أو مقدم أن يتجر له، وإنما يلزمه صيانته فمالكه أولى، قال: وينبغي عندي أن يلتفت إلى قلة المال وكثرته، وعلى هذا فيمكن أن يريد المصنف هذا ويكون قيداً ثانياً، ويكون مراده بيان الرشد الذي يخرج به من الحجر لا الرشد الذي لا يضرب معه الحجر، فإن ذلك متفق على أنه لا يراعى فيه القيد الثاني كما ذكره اللخمي، والمشهور أنه لا يشترط في الرشيد أن يكون جائز الشهادة إذا كان حافظاً لماله، وإن كان يشرب الخمر ونحوه وهو قول ابن القاسم وأصبغ، وقال المدنيون كابن كنانة ومطرف وابن الماجشون: يحجر على من يشرب الخمر، واختاره ابن المواز وأشار غير واحد إلى أن هذا الخلاف إنما هو فيما يخرج به السفيه من الحجر: هل بحفظ ماله وهو المشهور، أو بحفظه مع جواز الشهادة؟

ابن يونس: وأما ابتداء الحجر على السفيه فلا يبتدأ ذلك باتفاق، واعترضه ابن عبد السلام وقال: ليس متفقاً عليه، فقد حكى ابن شعبان في التحجير على الفاسق لفسقه قولين، غير أن الظواهر دالة على عدم الحجر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام والخلفاء بعده أقاموا الحدود على من وجبت عليه، ولم يحجروا عليه، وحكى اللخمي في الحجر على من يخدع في البيوع قولين: أولهما: لا يحجر عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمن كان يخدع فيها: «إذا بعت فقل لا خلابة». والثاني: لابن شعبان: يحجر عليه، ما لم يتبين رشد اليتيم بدخوله الأسواق ومخالطته لغيره في الشراء والبيع، فيعرف رشده بأن ينكر على المغبون [ويغبط] الحافظ لماله ويصوب فعله. اللخمي: واختلف هل يبتلى بشيء من ماله فيدفع إليه، وظاهر ما في المدونة في كتاب المديان المنع؛ لأنه قال: إذا فعل ذلك الولي فلحقه دين لم يلحق ذلك الدين المال الذي في يده ولا الذي في يد وصيه. وأجاز ذلك غيره، وقال: يلحق ذلك الدين في المال الذي في يده، وقاله الشيخ أبو محمد وعبد الوهاب. عياض: وعلى قوله: (إنه لا يعطى الصغير) لا يعطى البالغ السفيه أيضاً؛ لأن العلة كونه مولى عليه، هذا معنى كلامه، وفي كتاب الوصايا من المدونة مثل قول الشيخ أبي محمد؛ لقوله: (وإذا أذن للصبي أن يتجر جاز)، وعليه فالبالغ السفيه أولى، وفي المسألة ثالث بالجواز في السفيه البالغ دون الصغير، وقال أبو عمران: إنما يجوز في الصغير بشرط أن يطلع الوصي عليه من يعنيه في تصرفه وإلا فهو ضامن، ابن الهندي: وإنما يختبره إذا علم منه خيراً، قيل: الشرط أن يختبره باليسير كالخمسين ديناراً أو الستين؛ أي في حق من يليق به ذلك.

وَصِفَةُ السَّفِيهِ أِنْ يِكُونُ ذَا سَرَفٍ فِي اللَّذَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِحَيْثُ لا يَرَى الْمَالَ عِنْدَهَا شَيْئاً .... ولو قال: (والسفه السرف في اللذات ... إلخ) لكان أحسن لكونه أخصر، ولأنه مقابل للرشد، واشتراطه أن تكون اللذات محرمة، قال ابن عبد السلام وغيره: هو خلاف ظاهر المدونة، ولا يقال: قوله جارٍ على قول من يرى أن الفسق موجب للحجر؛ لأن هذا القائل يرى أن مجرد الفسق يوجب الحجر، والمصنف [534/ب] قد اشترط أن يكون ذات سرف فيها، ويكفي في السفه كونه مسرفاً في اللذات المباحة والمكروهة، وفي المدونة والجواهر: وصفة من يحجر عليه من الأحرار أن يكون يبذر ماله مسرفاً في لذاته من الشرب والفسق وغيره، فقوله: (وغيره) يبين لك ذلك، وأيضاً فإن قوله في حد الرشد: أن يكون حافظاً لماله، يدل على أن من يسرف في اللذات المباحة وغيرها سفيه؛ إذ لا واسطة بين السفه والرشد، وقال المازري: وقولنا: إن التبذير في غير الفسوق يوجب الحجر فكيف بالتبذير في الفسوق، فظاهره أن التبذير في المباحات يوجب الحجر، لكن قال بعد ذلك: وأما أنفاقه في الملاذِّ والشهوات وجمع الجماعات لأكل الكثير من الطيبات في المبيتات والمؤانسات، ففيه إشكال، وقال بعض أصحاب الشافعي: إنه يوجب الحجر، وعن ابن القصار كذلك، ولكن شرطه بشرط وهو أن يكون ما فضل عنه من ذلك لا يتصدق به ولا يطعمه [فقال: وقوله: (ولا يطعمه)] بعد ذكره الصدقة الظاهر أنه أراد إطعامه لإخوانه وهذا [قدر يسير إلا] أنه [لا] يرى ما ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي أنه يوجب الحجر وعلى هذا فيكون كلام ابن القصار يوافق ظاهر كلام المصنف، وانظر لو كان السفيه المبذر لماله في شهواته يتجر بما في يده تجارة تصير إنفاقه في شهواته من الربح ورأس المال محفوظ؛ أي المال الذي بيده، وفي الحجر على هذا إشكال.

وَتَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَى الرَّدِّ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى الأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّدَّ لِلسَّفَهِ لا لَلْحَجْرِ .... أي: المال إذا تصرف السفيه فيه، وأما مجهول الحال فأفعاله جائزة لا يرد شيء منها بالاتفاق، وحكاه في المقدمات وهذا هو السفيه المهمل، والأصح لابن القاسم على ما في اللخمي والمازري والمقدمات وغيرها، ومقابله نقله اللخمي عن ابن كنانة وابن نافع، وعزاه في المقدمات [لمالك وكبار] أصحابه، وصرح في المقدمات في موضع آخر بمشهورية هذا القول، وذكر أيضاً في البيان في باب النكاح أن ما صححه المصنف هو المشهور من قول ابن القاسم، وأن المشهور من مذهب مالك خلافه، وقد روى زياد القرطبي عن مالك أنه سأله عن سفيه عندهم يكسر قوارير البللور على ناصية فرسه ويشتري البازي والكلب بالضيعة الخطيرة، فقال: تمضي أفعاله، ثم سأله بعد زمان فقال: تمضي أفعاله، ولو كان مثل سفيهكم، وصحح المصنف الأول لما قاله المازري أنه اختيار المحققين من أشياخه؛ لأن السفه هو العلة في حجر الحاكم، ورأى مقابل الأصح أن العلة في رد أفعاله الحجر؛ لأن ثبوت السفه يحتاج إلى اجتهاد وكشف، وهو مما اختلف فيه، وقال مطرف وابن الماجشون بالتفصيل، فإن اتصل سفهه من حين بلوغه لم يجز شيء من أفعاله، وإن سفه بعد أن أنس منه الرشد فأفعاله جائزة ولازمة ما لم يكن بيعه بيع سفه وخديعة، مثل أن يبيع ما قيمته ألف دينار بمائة دينار ونحوه فلا يجوز ذلك عليه، وكذلك هبته، والثاني لأصبغ: إن لم يكن معلناً بالسفه مضت أفعاله، وإلا فلا، ومن الشيوخ من رأى أن السفه الظاهر البين يوجب رد أفعاله بخلاف السفه الخفي. فإن قلت: لم جعلت هذه الأقوال زيادة على كلام المصنف؟ وهلاَّ جعلت الجميع مقابلاً للأصح، قيل: لثلاثة أوجه:

الأول: أن المنطوق به إنما يدل على مقابلة الإجازة، وأما القولان بالتفصيل فلا [دلالة له عليهما]. الثاني: أن عادة المصنف أن يجعل مقابل الأصح والمشهور ونحوهما قولاً واحداً. الثالث: أن قوله: بإثره (وعليهما) يبين أنه لم يرد إلا قولين، والله أعلم. تنبيه: [قال في المدونة] ومن أراد أن يحجر على ولده أتى به الإمام ليحجر عليه، ويشهر ذلك في الجامع وفي الأسواق ويشهد على ذلك، فمن باعه أو ابتاع منه بعد ذلك فهو مردود وأخذ من هذا غير واحد أن مذهب المدونة موافق [لمالك] وكبار أصحابه، مخالف لابن القاسم، قال في المدونة: ولا لتولى الحجر إلى القاضي، قيل: فصاحب الشرطة؟ قال: القاضي أحب إليَّ. عياض: و (أحب) هنا على الوجوب، وقال شيوخنا: إن الحجر مما يختص به القضاة دون سائر الحكام، وذكر ابن سهل أن ثمانية أشياء لا يحكم فيها إلا القاضي: التسفيه، والترشيد، والنظر في الوصايا، والنظر في الأحباس المعقبة، والنظر في مال الأيتام، والنظر في أمر الغائب، والنظر في الأنساب، [والنظر في الولاء، زاد أبو محمد صالح]: والنظر في الحدود والقصاص، وإذا أجزنا الحجر على السفيه الكبير فمذهب ابن القاسم أن السفه الذي يمنع أن يعطى ماله إذا بلغ يوجب استئناف الحجر عليه، وإن كان كبيراً مهملاً، ومذهب أشهب أن استئناف الحجر لا يجوز إلا بثبوت سفه ظاهر بين. وَعَلَيْهِمَا الْعَكْسُ فِي تَصَرُّفِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ إِذَا رَشَدَ أي: القولين بسببهما ينعكس الحكم في المحجور عليه إذا رشد، ولم يحكم القاضي بإطلاقه، فعلى قول ابن القاسم تمضي أفعاله؛ لأن المعتبر عنده إنما هو حال التصرف لا حكم الحاكم، وعلى قول مالك لا تمضي؛ لأنه محجور عليه، ولم يفكه القاضي.

خليل: وقد يقال: وإن قلنا: إن الحجر لأجل حجر القاضي، لكن هو معلل في الأصل بالسفه ويلزم من زوال العلة زوال المعلول. فإن قلت: مقتضى كلام المصنف أن ابن القاسم يقول بالإمضاء هنا، ونقل في المقدمات أن زونان روى عن ابن القاسم أن من ثبتت عليه ولاية فلا تجوز أفعاله حتى يطلق منها، قيل: المشهور عنه خلاف هذا، فقد قال في المقدمات أيضاً قبل هذا ومتصلاً به: وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية لا يعتبر ثبوتها إذا علم الرشد ولا سقوطها إذا علم السفه. وَفَائِدَةُ الْحَجْرِ رَدُّ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، [535/أ] وَبِإتْلافِ الْمَالِ وَالتَّوْكِيلِ إِلا وَصِيَّةَ الصَّغِيرِ إِذَ لَمْ يُخَلِّمْ فِيهَا كَالسَّفِيهِ (أل) في (الْحَجْرِ) للعهد؛ أي الحجر الذي هو أقرب مذكور وهو حجر السفيه، ويحتمل الحجر في أول الكلام؛ أعني الذي عدد أسبابه وإن كان مراده هذا الثاني فهو مخصوص؛ إذ المريض لا يمنع من البيع والشراء إذا لم يحابِ أو حابى بدون الثلث، ولا يمنع من الإقرار بالدين لمن لا يتهم عليه، وكذلك الزوجة لا تمنع من التصرف في الثلث ويكون المصنف أطلق هنا لم سيأتي. فإن قلت: لا يصح أن يريد الثاني؛ لأن قوله: (كَالسَّفِيهِ) يرده؛ إذ السفيه أحد أنواعه، قيل: قوله: (كَالسَّفِيهِ) إنما هو راجع إلى الوصية فقط، وقصد المصنف بذلك بيان حكم وصية الصغير والسفيه، وهو الجواز وإلا فهو لم يقدم حكم وصية السفيه. وقوله: (كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ) قال في المدونة: وأما شراؤه ما لا بد منه مثل الدرهم يبتاع به لحماً ومثل خبز وبقل ونحوه يشتري ذلك لنفسه مما يُدفع إليه من نفقته فجائز، وأخذ منه ابن الهندي أن الوصي لا يدفع لمحجوره إلا نفقة نفسه خاصة، وقال ابن العطار: يدفع إليه نفقة نفسه ورقيقه وأمهات أولاده، وأما الزوجة فهي تقبض لنفسها، قال في البيان: وإن باع اليتيم دون إذن وصيه أو الصغير من عقاره وأصوله بوجه السداد

في نفقته التي لا بد له منها ولا شيء له غير المبيع وهو أحق ما يباع من أمواله فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن البيع يرد على كل حال، ولا يتبع بشيء من الثمن، وهو قول ابن القاسم، وهو أضعف الأقوال. الثاني: أن البيع يرد إذا رأى ذلك الوصي ولا يبطل الثمن عن اليتيم، ويؤخذ من ماله، وهو قول أصبغ. الثالث: أن البيع يمضي ولا يرد وأما إن باع بأقل من القيمة أو باع ما ليس هو الأحق بالبيع [فلا خلاف أن البيع يرد وإن لم يبطل الثمن على اليتيم] لإدخاله إياه فيما لا بد له منه، وأما ما باع اليتيم من ماله وأنفقه في شهواته التي يستغني عنها فلا خلاف أنه يرد ولا يتبع بشيء من الثمن كان المبيع يسيراً أو كثيراً، أصلاً أو عرضاً، وهو محمول فيما باعه وقبض ثمنه على أنه أنفقه فيما لا بد له منه حتى يثبت أنه أنفقه فيما له عنه بد، وفي المقدمات: وأما بيعه وشراؤه ونكاحه وشبهه مما يخرج عن عوض ولا يقصد به قصد المعروف، فإنهه موقوف على نظر وليه، فله أن يجيز أو يرد بحسب النظر وإن لم يكن له ولي قدم القاضي له من ينظر في ماله، فإن لم يفعل حتى ملك أمره، فهو مخير في رد ذلك وإجازته، فإن رد بيعه وابتياعه وكان قد أتلف الثمن الذي باع به أو السلعة التي ابتاعها لم يتبع في ماله بشيء. واختلف إذا كانت أمة فأولدها فقيل: كذلك فلا ترد، وقيل: ليس بفوت كالعتق، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء، واختلف إذا كان أنفق الثمن فيما لا بد له منه هل يتبع ماله بذلك أم لا؟ على قولين، وإن كان الذي اشترى المشتري منه أمة فأولدها أو عتقها، أو غنماً فتناسلت، أو بقعة فبناها، أو شيئاً له غلة فاغتله، فالحكم في ذلك كمن اشترى من مالك فيما يرى فاستحق من يده بعد أن أحدث فيه ما ذكر، هذا إن لم يعلم أنه مولى عليه،

وأما إن علم أنه مولى عليه متعدِّ في البيع بغير إذن وليه لسفه يقصده فحكمه كالغاصب، واختلف فيما فوت السفيه من ماله بهبة ونحوها، فلم يعلم به حتى مات هل ترد بعد الموت أو لا؟ على قولين. انتهى. وقول المصنف: (وَالإِقْرَارِ)؛ أي بالمال. ابن كنانة إلا أن يقر به في مرضه فيكون في ثلث ماله، واستحسن ذلك أصبغ ما لم يكثر، وإن حمله الثلث. وقوله: (وَالتَّوْكِيلِ)؛ أي على الحقوق المالية، وهو ظاهر. وَلا حَجْرَ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ فِي الطَّلاقِ، وَاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَنَفْيِهِ، وَعِتْقِ أُمِّ وَلَدِهِ، وَالإِقْرَارُ بِمُوجِبِ الْعُقُوبَاتِ بِخِلافِ الْمَجْنُونِ .... هذا هو الذي احترز عنه بالتصرفات المالية، واحترز بالعاقل من المجنون، وبالبالغ من الصبي، فلا تمضي تصرفاتهما مطلقاً. ونبه بقوله: (فِي الطَّلاقِ) على خلاف ابن أبي ليلى، في قوله: أنه لا يلزمه؛ لأنه قد يحتاج إلى امرأة أخرى فيؤدي ذلك إلى هلاك ماله، وخرجه بعضهم على قول المغيرة أنه لا يمضي عتق أم ولده، ورده المازري بأن أم الولد يترقب فيها المال بالجناية عليها، وكذلك يلزمه عندنا الطلاق والظهار واستلحاق النسب ونفيه؛ أي باللعان في الزوجة أو بدعواه في الأمة. فإن قلت: في الاستلحاق إثبات وارث ففيه إتلاف مال. قيل: وإن سلم فلا يضر؛ لأنه بعد موته فكان كوصية. وقوله: (وَعِتْقِ أُمِّ وَلَدِهِ) خالف في ذلك المغيرة وابن نافع، وهل يتبعها مالها؟ ثلاثة أقوال حكاها في المقدمات: روى أشهب عن مالك: أنه يتبعها، وروى يحيى عن ابن القاسم: أنه لا يتبعها. والثالث: إن كان مالها يسيراً أتبعها، وإلا فلا. قال: وأراه قول

أصبغ: وقوله: (وَالإِقْرَارُ بِمُوجِبِ الْعُقُوبَاتِ) كالزنى والسرقة، وهو ظاهر. قال في المقدمات: ويلزم السفيه البالغ جميع حقوق الله تعالى التي أوجبها على عباده في بدنه وماله، فيلزمه في بدنه ما وجب من حد أو قصاص ويلزمه في ماله ما أفسد أو كسر ما لم يؤتمن عليه باتفاق، وما اؤتمن عليه ففيه اختلاف ولا تلحقه يمين فيما ادعى عليه في ماله، وأما إن ادعى عليه [535/ب] فيما يجوز إقراره فيه فتلحقه اليمين فيه. انتهى. وهل يجوز عفوه عما دون النفس من قصاص وجب له أو حد قذف وإليه ذهب ابن القاسم أم لا؟ وإليه ذهب مطرف وابن الماجشون، ولا خلاف أنه لا يصح عفوه عن جراح الخطأ لأنها مال، فإن أدى جرح الخطأ إلى إتلاف نفسه وعفا عن ذلك عند موته، كان ذلك في ثلثه كالوصايا، وإن وجب له قصاص في نفس كما لو قُتل أبوه أو ابنه عمداً صح عفوه على مذهب ابن القاسم الذي يرى أن الواجب في العمد قود كله. ابن عبد السلام: وفيه نظر على مذهب مطرف وابن الماجشون المتقدم، وتردد المازري على مذهب أشهب الذي يرى أن الولي بالخيار بين القتل وأخذ المال، وأجراه على أن من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ: أَبُوهُ ثُمَّ الوَصِيُّ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْحَاكِمُ وَلا وِلايَةَ لِجَدِّ وِلا غَيْرِهِ (ثُمَّ وَصِيُّهُ)؛ أي وإن بعد، والسفيه مشارك للصبي في هذا، فلو قال: (وولي الصبي والسفيه أبوه) كان أولى. وقوله: (أَبُوهُ) يريد إذا كان الأب رشيداً وإذا كان سفيهاً فهل ينظر وليه على بنيه؟ ابن عتاب وابن القطان: جرى العمل أنه لا ينظر على بنيه إلا بتقديم مستأنف. ابن سهل: ودليل الروايات أنه ينظر إليهم. قوله: (وَلا وِلايَةَ لِجَدِّ وِلا غَيْرِهِ)؛ أي من أخ أو عم.

وَلا يُبَاعُ عَقَارُهُ إِلا لِحَاجَةِ الإِنْفَاقِ أَو لِغِبْطَةٍ أَو لِسُقُوطِهِ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَيَسْتَبْدِلُ بِثَمَنِهِ أَصْلَحَ .... ما ذكره من جواز البيع لحاجة الإنفاق عليه ظاهر؛ لأنه إنما حفظ ماله من أجله النفقة عليه أو لغبطة؛ أي لزيادة في ثمنها، فقد أجاز في المدونة والعتبية بيع دار اليتيم إذا بذل فيها أضعاف ثمنها لسحنون، وذلك إذا كان المالك مثل عمر بن عبد العزيز؛ يعني في طيب مكسبه. أبو عمران: وإن علم الوصي بخبث مكسبه ضمن، وإن لم يعلم كان له أن يلزمه مالاً حلالاً أو تباع الدار فيه، واشترط الغرناطي في وثائقه في الزيادة التي يباع عقار اليتيم لها أن تزيد على الثلث. وقوله: (أَو لِسُقُوطِهِ) هو كقوله في الجواهر: أو لخشية سقوطه إن لم ينفق عليه من المال ما يكون معه بيعه وابتياع غيره بثمنه أفضل. ابن عبد السلام: فـ (ما) من قوله: (ما يكون البيع) موصلة منصوبة انتصاب المفعول به، والعامل فيها (يُنْفِقْ) من قوله: (إِنْ لَمْ يُنْفِقْ)؛ أي خشية سقوطه ما لم ينفق عليه نفقة كثيرة، فيكون البيع بسببها أولى، فبيعها حينئذٍ سائغ، ويستبدل بثمنها ما هو أصلح للمحجور، وقال ابن راشد: في كلامه أضمار تقديره: أو لسقوطه إن لم ينفق عليه سقوطاً يكون البيع عنده أولى، فأقام (ما) مقام المصدر المحذوف، ويحتمل أن تكون بمعنى المصدر، والمعنى سقوط ما يكون البيع عنده أولى، وكلام ابن عبد السلام أحسن، وزاد الموثقون وجوهاً أخر يباع عقار اليتيم لها. الأول: ألا يعود عليه شيء منه فيبيعه ليعوض عنه ما يعود منه. الثاني: أن يبيعه ليعوض ما هو أجود منه. الثالث: لضرر الشركة، فيبيعه ليعوضه داراً كاملة.

الرابع: إذا أراد شريك البيع، وهو لا ينقسم ولا مال له يشتري به حصة شريكه. الخامس: أن تكون الدار واهية يخشى عليها الخراب، وليس له مال يصلح منه. السادس: أن يكون بين أهل الذمة. السابع: أن يكون ملكاً موظفاً فيستبدل حراً. الثامن: أن يكون بين جيران سوء، فيبيعها ليأخذ أجود، قاله ابن المواز، حكاه في الطراز. التاسع: أن يتقي عليها من السلطان وغيره، ذكره صاحب الطراز. العاشر: إذا خشي انتقال العمارة من موضعه، قاله في الجواهر وأورد ابن عبد السلام: أن ظاهر قوله: (لا يُبَاعُ عَقَارُهُ) أن ذلك في حق الأب بالنسبة إلى ولده الصغير والوصي، وظاهر المذهب أن الأب يبيع مال ولده الصغير والسفيه الذي في حجره، الربع وغيره؛ لأحد هذه الوجوه أو غيرها. وفعله في ربع ولده كغيره من السلع محمول على الصلاح، وإنما يحتاج إلى أحد هذه الوجوه الوصي وحده، وكذلك قال ابن راشد: إن المتولي للبيع على المحجور من أب أو وصي أو كافل أو حاكم؛ فالأب له أن يبيع لولده ويشتري، وفعله محمول على السداد حتى يثبت خلافه، [ولا يشترط في بيعه ما يذكر بعدُ في الوصي لمزيد شفقته، إلا أن يشتري لولده من نفسه فيحمل على غير النظر حتى يثبت خلاله]، ولو باع من نفسه ولم يذكر أنه باع لولده فالبيع ماضٍ ولا اعتراض فيه للابن إذا رشد، قاله ابن القاسم في الواضحة، والثمانية. فإن باع لمنفعة نفسه فسخ عند أصبغ بعد أن كان يمضيه ثم رجع إلى مذهب ابن القاسم وغيره: أنه إذا تحقق أنه باع لمنفعة نفسه فسخ. حكاه عن أصبغ ابن حبيب. وأما الوصي فهو أخفض رتبة من الأب؛ لأن الأب يبيع من غير ذكر سبب، بخلاف الوصي، فإنه لا يبيع إلا بعد ذكر سببه، ولا يجوز له أن يهب مال محجوره للثواب

بخلاف الأب، وفعل الوصي محمول على السداد حتى يثبت خلافه، قاله جماعة من الأندلسيين وغيرهم، وقال أبو عمران وغيره من القرويين: فعله في الرباع محمول على عدم النظر حتى يثبت خلافه، قال: وهو معنى ما في الموازية، قال: وإنما فرقنا بينه وبين الأب؛ لأنه في الكتاب كلما سئل عن الأب أطلق القول بجواز بيعه، إلا أن يكون على غير وجه النظر، وإذا سئل عن الوصي قال: لا يجوز بيعه إلا أن يكون نظراً، وحيث قلنا بجواز بيعه أو منعه فذلك ما لم يبين السبب الذي لأجله بيع، فإن بينه فلا يختلف في جواز بيعه ويضمن العقد معرفة الشهود لذلك، وإذا اقتصر على ذلك ولم يضمنه فقد لا يختلف في الجواز أيضاً وهو ظاهر [536/أ] ما حكاه ابن القاسم الموثق، ونص كلامه: ومن تمام العقد أن يُضَمَّنَ معرفة الشهود السداد في البيع وأنه أولى ما بيع عليه إن كان له سواه، وإن سقط هذا من العقد كان فعل الوصي محمولاً على السداد حتى يثبت خلافه، هذا هو المشهور، وقيل: لا يجوز بيع الوصي حتى يبين الوجه الذي لأجله وجب البيع. فقوله: (حتى يبين الوجه) يقتضي أنه إذا بينه لا يختلف في جواز بيعه، وظاهره أنه يكتفي فيه بذكره من غير احتياج إلى إثباته، وقد نص في الطرر على أن بيعه جائز، وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله وعلى ما قاله أبو عمران: لا يتم البيع حتى يشهد الشهود بمعرفة السداد، وأن الوصي باع لغبطة أو لحاجة فيتم له الشراء، [ويؤيده ما حكاه ابن زياد في أحكامه أنه إذا أقيم فيما باعه الوصي فعلى المشتري أن يثبت أنه اشترى شراء صحيحاً، وأن الوصي باع لغبطة أو لحاجة ويتم له الشراء]، وفي الطراز قال ابن المواز: إذا باع الوصي عقار اليتيم مضى فعله وجاز، ما لم يكن فيه غبن في الثمن مما لا يتغابن الناس فيه، وإن لم يكن شيء من الوجوه المذكورة، فإذا باع نفذ بيعه، وهو قول الشيوخ قديماً وبه العمل، وقال ابن عبد الغفور: هذا خلاف ما تدل عليه أقاويلهم، ثم عدَّد الأسباب التي يبيع الوصي العقار لها، ثم قال: ولو أوصى رجل لابنته وأوصى أن يبيع عليها مالها وأصولها جاز ذلك وإن لم تكن حاجة، إذا كان ذلك نظراً كالنكاح.

وأما الكافل ففي بيعه عن مكفوله أربعة أقوال: أحدها: المنع مطلقاً، قاله مالك في كتاب القسم من المدونة في مسألة من كفل ابناً صغيراً أو ابن أخ، قال: لا يجوز بيعه عليه ولا قسمه له. ثانيها: الجواز مطلقاً، قال ابن الماجشون في الواضحة: أجاز مالك وغيره من العلماء نظر العم وغيره [كالأم] والأخ وابنه الرشيد لليتيم دون تقديم السلطان أو إيصاء من الأب، وأجازوا له ما يجوز للوصي إذا أحسن النظر ولم يتهم، ويؤيده أن مالكاً أجاز لملتقط الطفل أن يحوز له ما وهب له دون أن يجعل السلطان له ذلك، وأجاز في النكاح إنكاحه لمكفولته وقال: من أنظر لها منه؟! أبو كبر بن عبد الرحمن وغيره: وإذا جاز إنكاحه فبيعه أولى. وثالثها: الجواز في بلد لا سلطان فيه، والمنع في بلد في السلطان، قاله ابن الهندي. رابعها: الجواز في اليسير: قاله في العتبية: وبه قال أصبغ، وبه جرى العمل، واختلف في حد اليسير، فقال ابن زرب: ثلاثون ديناراً ونحوها، وقال ابن العطار: عشرون ديناراً ونحوها، وقال ابن الهندي: عشرة ونحوها، وإذا أقيم على المبتاع فيما باعه الكافل فعليه أن يثبت حضانة البائع وحاجة المبيع عليه والسداد في الثمن، وأنه أنفق الثمن عليه وأدخله في مصالحه، وأنه ليس له مال غيره، وأنه أولى ما بيع عليه من عقاره، وأنه يضمن ذلك عقد البيع آخراً، ولو رفع ذلك الكافل إلى القاضي لم يأمره بالبيع حتى يثبت عنده يُتْم المبيع عليه وملكه لما يباع عليه وحاجته للبيع والسداد في الثمن والاشتراك إذا كان المبيع مشتركاً. ولما رأى الفقهاء أن اليتيم ربما ضاع قبل إثبات ذلك عند القاضي أجازوا للكفيل البيع دون مطالعته حسب ما قدمناه وإلى هذا المعنى أشار ابن العطار، وأما القاضي فله أن بيبع على اليتيم إذا ثبت عنده يتمه [وإهماله] وملكه لما باع عليه، وأنه لا شيء عنده يباع

غير ذلك، وأنه أولى ما يبيع عليه، وحازه الشهود على من شهد عنده بالملكية وقبول من يقدمه للبيع لما كفله من ذلك، وتسويق المُقَدم للبيع وأنه لم يُلْف على ما أعطى زائداً والسداد في الثمن، واختلف هل عليه أن يصرح باسم الشهود الذين ثبت بهم عنده ما أوجب البيع أم لا على قولين. انتهى كلام ابن راشد. وَلِلْوَلِيِّ النَّظَرُ فِي قِصَاصِ الصَّغِيرِ أَوِ الدِّيَةِ وِلا يَعْفُو لولي الصغير أباً أو غيره أن ينظر في القصاص الذي وجب للصبي، إما بجناية عليه أو على وليه في القصاص أو أخذ الدية، فإن كان غنياً ولا حاجة له بالمال فالقصاص أولى، وإلا فالعكس. قال في المدونة: وليس للأب أن يعفو إلا أن يعوضه من ماله. (وِلا يَعْفُو) أي في العمد والخطأ. وَلا يُعْتِقُ وِلا يُطَلِّقُ إِلا بِعِوَضٍ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ يعني: وليس لولي الصغير أباً أو غيره أن يطلق عليه إلا بعوض، ولا أن يعتق عبداً من عبيده، ويرد العتق إلا أن يكون الأب موسراً فيجوز ذلك على الأب، ويضمن قيمته في ماله، قاله مالك في كتاب الشفعة. وَللأبِ ذَلِكَ فِي الأُنْثَى الْمُجْبَرَةِ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِنَّ، وَفِي الْبَالِغِ السَّفِيهِ: قَوْلانِ .... أي: للأب أن يخالع عن الأنثى المجبرة. (وَفِي غَيْرِهَا ... إلخ) تقدم ذلك في الخلع، وعين هنالك في السفيه: المشهور أنه لا يخالع عليه.

وَيَعْفُو عَنْ شُفْعَةٍ لِمَصْلَحَةٍ فَتَسْقُطُ أي: لأن الأخذ بالشفعة شراء، وقد يكون لمصلحة وقد لا يكون، فإذا رأى الإسقاط ملصحة لا يكون للصبي أن يأخذ بالشفعة إذا رشد، وإن كان الأخذ هو المصلحة وترك ذلك كان له الأخذ إذا رشد، وستأتي هذه المسألة في الشفعة. وَلِسَّيِّدَ الْحَجْرُ عَلَى رَقِيقِهِ مُضَيِّعاً أَوْ حَافِظاً لما انقضى كلامه على الأسباب الثلاثة؛ يعني الصبا والجنون والتبذير شرع في الرابع، وذكر أن للسيد أن يحجر على رقيقه، وإن كان العبد حافظاً؛ لأن له حقاً في ماله انتزاعاً. (وحافظاً ومضيعاً) منتصبان على الحال من رقيقه؛ لأن الرقيق على ما ذكره الجوهري للواحد والجمع، فلذلك جاء حاله مفرداً. وَحُكْمُ مَنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي التِّجَارَةِ حُكْمُ الْوَكِيلِ الْمُفَوَّضِ لَهُ فِيهَا أحال حكم العبد المأذون له في التجارة على حكم الوكيل المفوض، اعتماداً على ما سيأتي، [536/ب]- وقد يشبه المصنف في كتابه بما سيأتي وقد تقدم تنبيهنا على ذلك -[أو لقيد] الحكم في الجميع. واعلم أنه إن أذن له في التجارة من غير تقييد كان كالمفوض فيها بلا إشكال، وإن خصه بنوع فالمشهور وهو مذهب المدونة أنه كذلك، وبه قال أصبغ، وقال سحنون: ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة به، قال في المقدمات: وكذلك يلزم من قوله: (إذا حجر عليه في التجارة) في نوع من الأنواع، وعلى المشهور فقيد ذلك بعض الصقليين بأن لا يشهر ذلك ويعلنه، وأما إن أشهره فلا يلزمه. ابن رشد: وهو صحيح في المعنى قائم من المدونة والعتبية. وعارض اللخمي مذهب ابن القاسم بما قاله ابن القاسم في المقارض يدفع له المال على أن يتجر في صنف: أنه إن تجر في

غيره كان متعديا؛ وعلى هذا فيحمل قول المصنف: (أذن في التجارة) على أن المراد جنسها، وسواء أذن له إذناً مطلقاً أو مقيداً ليوافق المشهور. قال في المدونة: وإن أقعده ذا صنعة مثل قصارة ونحوها فلا يكون ذلك إذناً في التجارة ولا في المداينة، وكذلك إن قال لعبده: أدِّ لي الغلة، فليس بمأذون في التجارة. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ أَوْ يُؤَخِّرَ أِوْ يَعْمَلَ طَعَاماً إِلا اسْتِئْلافاً لِلتِّجَارَةِ أي: ليس للمأذون أن يضع من الدين أو يؤخره أو يعمل طعاماً يدعو الناس إليه ولو كان عقيقة لولده، قاله في المدونة: والاستثناء عائد على الجمل المتقدمة، صرح بذلك في المدونة، وذهب سحنون إلى أنه لا يجوز التأخير بالثمن؛ لأنه إن لم يكن لمنفعة فواضح، وإلا فهو سلف جر نفعاً، وأجيب باختيار ابن القاسم الثاني ولا يلزم عليه المنع؛ لأنها منفعة غير محققة، وأيضاً فإنه منقوض بالحر، فإنه يجوز له التأخير بالأثمان طلباً لمحمدة الثناء، وقيد اللخمي جواز التأخير بما إذا لم يبعد الأجل، والوضيعة بما إذا لم تكثر، قال في المدونة: ولا يجوز للعبد أن يعير من ماله جارية مأذوناً كان أو غير مأذون، وكذلك العطية. ابن المواز: وقال غيره لا بأس أن يعير دابته إلى المكان القريب ويعطي السائل الكسرة والقبضة. وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُ، وَالْهِبَةِ، وَنَحْوِهِمَا، وَيَقْبَلُهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ أي: فللمأذون أن يتصرف فيما أوصى له به أو وهب له ونحوهما: كالصدقة، وله أن يقبل ذلك بغير إذن سيده، وأقيم من المدونة أنه ليس للسيد أن يمنعه من قبول الهبة؛ لأن فيها: وما وهب للمأذون وقد اغترقه دين فغرماؤه أحق به من سيده ولا يكون لغرمائه من عمل يده شيء، ولا من خراجه، وإنما يكون ذلك في مال وهب للعبد أو تصدق به عليه أو أوصى له به، فقبله العبد.

عياض: وهذا ظاهر في أن السيد لا يمنعه من قبوله، وظاهره أن الغرماء لا يجبرونه على قبوله، أبو محمد صالح: وظاهره سواء وهب لأجل الدين أم لا. خليل: ولو قيل: إن لسيد أن يمنعه من قبول الهبة ونحوها كان حسناً للمنة التي تحصل على [السيد]. تنبيه: واختلف الشيخان في قوله: (وإنما يكون ذلك في مال وهب للعبد)، فقال ابن القابسي: هذا بشرط أن يوهب له لأجل وفاء الدين، وأما إن لم يوهب له لذلك فهو كالخراج يكون السيد أحق به، وقال أبو محمد: الغرماء أحق سواء وهب له بشرط الوفاء أم لا. وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمَاذُونِ التشبيه راجع للقبول فقط؛ لأن التصرف إنما يكون للمأذون إلا أن يكون الواهب أو الوصي شرط في هبته أو وصيته ألا حجر عليه فيها، فينبغي أن يمضي ذلك على شرطه كما قال بعضهم في السفيه والصغير. قاله ابن عبد السلام. وَفِي إَمْضَاءِ أَخْذِ الْمَاذُونِ الْقِرَاضَ وَإِعْطَائِهِ: قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ لا يدل قوله: (وَفِي إَمْضَاءِ) على الجواز ابتداء، وفي المدونة في باب القراض: وللمأذون دفع القراض وأخذه. ووافق سحنون أشهب على أنه ليس له ذلك، وسبب القولين: هل ذلك من باب التجارة فيجوز للإذن فيها أو الإجارة فيمتنع؟ وإنما يظهر التعليل في التجارة في أخذه، وأما في إعطائه فعلل اللخمي منع أشهب بأنه إيداع للمال ولم يؤذن فيه، والمساقاة كالقراض، قيل: وإن أخذ المأذون له القراض فربح فيه فما أخذ من الربح فهو مثل خراجه لا يقضى منه دينه ولا يتبعه إن عتق؛ لأنه إنما باع منافع نفسه بذلك فأشبه أن لو استعمل نفسه في الإجارة.

وَيَتَعَلَّقُ دِينَهُ بِمَا فِي يَدِهِ ثُمَّ بِذِمَّتِهِ إِذَا عُتِقَ لا بِرَقَبَتِهِ وَلا بِسَيِّدِهِ يعني: ويتعلق الدين الواجب على المأذون بسبب التجارة أو ما في معناه من وديعة استهلكها بالمال الذي في يده، فإن فضل شيء تعلق بذمته إذا عتق، وإتيان المصنف بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي يدل على أنه لا يتعلق بذمته قبل العتق، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كما قال المصنف أنه لا يتعلق بذمته قبل العتق لما كان للغرماء أخذ الهبة بشرط أن يوهب له لأجل وفاء الدين، وقلما يوجد ذلك، فلا يتأتى الطلب إلا بعد العتق وفيه تسليم إمكانه، وإن قل لهو وارد عليه، وأيضاً فإن الأخذ هو القليل، وأما الدين فهو متعلق بالذمة، والله أعلم. وقوله: (لا بِرَقَبَتِهِ) تنبيهاً منه على مذهب أبي حنيفة أنه يتعلق برقبته، وحكي عن سحنون. وَتُبَاعُ أُمُّ وَلَدِهِ واعلم أن أم ولد المأذون ليس فيها طرف حرية، وإلا لكانت أرفع حالاً من سيدها؛ إذ ليس فيه هو طرف من حرية فلذلك بيعت في الدين وجاز بيعها في غيره، بشرط أن يأذن سيده. أبو محمد وغيره: والعلة في أنه لا يبيع المأذون له أم ولده إلا بإذن سيده؛ لأنها قد تكون حاملاً وحملها للسيد، ويكون قد باع عبداً للسيد بغير أمره، وعلل ذلك بعضهم بأن العبد إذا عتق تكون له أم ولد بالولد الذي ولدته في حال رق سيدها على قول؛ فلذلك [537/أ] لم يبعها بذلك إلا بإذن سيده وهذا مبنى على مراعاة الخلاف، وهذا لو كان كما ذكرنا لما جاز له البيع ولو أذن له سيده، وأورد على الأول أنه يلزم منه عدم جواز بيع المأذون الأمة الموطوءة، وإن لم تحمل لاحتمال أن تكون حاملاً، وأجيب بأن أم الولد قد صارت خزانة للمأذون بإيلادها المتقدم بخلاف إذا لم تلد. فرع: وإذا قام الغرماء على المأذون وأمته ظاهرة الحمل فقال اللخمي: يؤخر بيعها حتى تضع ويكون ولدها للسيد، وتباع بولده، ويقوم كل واحد بانفراده قبل البيع ليعلم

كل واحد منهما ما يبيع به ملكه، وإن لم تكون ظاهرة الحمل وبيعت في الدين ثم ظهر حمل، فهل للسيد فسخ البيع لحقه في الولد أم لا؟ قولان، وأما إن باعها بغير إذن سيده ولم يظهر حمل لا ينتقض البيع، ولم يذكروا في ذلك خلافاً، وأما إن باع المأذون من أقاربه من يعتق على الحر فباعه بغير إذن سيده، فاختلف الشيوخ في نقض ذلك البيع، فقال بعض من سلم أن بيع أم الولد لا ينقض: إنه ينقض هذا البيع، وقال غيره: لا ينقض. دُونَ وَلَدِهِ إِلا أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أي: دون ولده، فإنه لا يباع في دينه؛ لأنه مال للسيد إلا أن يشتريه وعليه دين، فإنه يباع حينئذٍ للغرماء؛ لأنه أتلف أموالهم. وَهُوَ فِي قِيَامِ الْغُرَمَاءِ وَالْحَجْرِ كَالْحُرِّ، وَقِيلَ: يَحْجُرُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: مَا لَمْ يَطُلْ تَجْرُهُ .... يعني: والمأذون في قيام غرمائه وحجرهم عليه كالحر فلا يكون ذلك للسيد، وإنما يكون لحاكم، ولهذا قابله بقوله: (وَقِيلَ: يَحْجُرُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ). ومقتضى كلام المصنف أن الأول هو المشهور لتصديره به وعطفه عليه بـ (قِيلَ)، وهو قول ابن القاسم، فقد نقل عنه ابن حارث أنه لو أراد السيد الحجر عليه لا يجوز له ذلك إلا بإذن السلطان، وفي المدونة لا ينبغي لسيد المأذون أن يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه السلطان للناس ويؤمر به فيطاف به حتى يعلم ذلك منه، ثم قال: وليس للغرماء أن يحجروا عليه إلا عند السلطان، وإنما لهم أن يقوموا عليه فيفلسوه وهو كالحر في هذا، فانظر قوله: (ينبغي) هل معناه الوجوب، بدليل آخر كلامه وما نقله ابن حارث، وعلى هذا حمل المدونة من تكلم على هذا الموضع من كلام المصنف أو هو على بابه، وإليه ذهب أبو الحسن؟

وقوله: (وَقِيلَ: يَحْجُرُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ) هذا القول نقله ابن شاس، وظاهر كلامه أن قول اللخمي ثالث، وإنما ذكره على أنه المذهب. ابن عبد السلام: ولا ينبغي أن يعدل عنه. وَأَمَّا الانْتِزَاعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غُرَمَاءُ فَكَغَيْرِهِ أي: كغير المأذون في الانتزاع إلا أن يتعلق حق الغرماء بما في يد العبد فلا يكون للسيد حينئذٍ الانتزاع. وَإِذَا كَانَ تَجْرُهُ لِلسَّيِّدِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ لِمْ يَجُزْ لِسَيِّدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ تَجْرٍ فِي خَمْرٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ كَانَ لِنَفْسِهِ فَفِي جَوَازِ تَمْكِينِهِ: قَوْلانِ لأنه إذا تجر لسيده فهو كوكيل له فلذلك لا يجوز لسيده أن يمكنه من شراء خمر ونحوه، وأم إن تجر لنفسه وعامل أهل الذمة فقولان أجراهما اللخمي، على أنهم: هل هم مخاطبون بفروع الشريعة فلا يمكَّن، أم ليسوا بمخاطبين فيمكَّن؟ وقد يجريان على أن من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ اللخمي: وكان لابن عمر رضي الله عنهما عبد نصراني يبيع الخمر فمات فورثه. فرع: وأما العبد غير المأذون فروى أشهب عن مالك لا يُشترى من العبد الذي لم يؤذن له في البيع والشراء، وإن قل مثل الخف وشبهه، ولا يقبل قوله أنَّ أهله أذنوا له حتى يسألهم. خليل: ولعل هذا لأن العبيد لا يبيعون ولا يشترون في عادتهم، وأما عندنا فالعبد يبيع ويشتري، لا سيما الشيء القليل، فينبغي أن يقبل قوله كما قبلوه في الهدية والاستئذان إذا قال: سيدي أهدي لك لهذا، أو أذن لك في الدخول، قال القرافي في قواعده: ويجوز تقليد الصبي والأنثى والكافر الواحد في الهدية والاستئذان، وهو مستثنى من الشهادة؛ لما يحتف به من القرائن والضرورة.

وَيُحجَرُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ فِيمَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ مِنْ أَكْلِهِ وَكِسْوَتِهِ وَتَدَاوِيهِ .... لما في الصحيحين أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض وقال: إنه لا يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا». فقلت: بالشطر، فقال: «لا»، ثم قال: «الثلث والثلث كثير»، والمخوف الذي يخاف على صاحبه الموت، واحترز به مما دونه، فلا حجر على صاحبه، وسيأتي، وقيد الحجر بما زاد على حاجته، وأما حاجته فلا يحجر عليه فيها. و (مِن) في قوله: (مِنْ أَكْلِهِ) لبيان الجنس، وحاصله أنه لا حجر عليه فيما يأكله ويتداوى به ويكتسي به، وإنما يحجر عليه فيما زاد على الثلث بالنسبة إلى العطايا، فإن فعل فقال المصنف: وَيُوقَفُ كُلُّ تَبَرُّعٍ فَإِنْ مَاتَ فَفِي الثُّلُثِ وَإِلا فَكَإِنْشَاءِ الصِّحَّةِ (كُلُّ تَبَرُّعٍ)؛ أي عتقاً كان أو غيره، وظاهره كان له مال مأمون أم لا. وهو قول مالك الأول، والذي رجع إليه في المأمون أنه ينفذ ما بتل من عتق أو غيره في المرض، قال في كتاب العتق: وليس المال المأمون عند مالك إلا في الدور والأرضين والنخل والعقار، فإن مات؛ أي بعد إيقافه، فتبرعه خارج من الثلث كالوصايا. (وَإِلا)؛ أي وإن لم يمت. (فَكَإِنْشَاءِ الصِّحَّةِ) فيكون ذلك بمنزلة ما لو أنشأ ذلك التبرع في الصحة فيلزمه ذلك. وفي بعض النسخ: (وإلا استأنينا الصحة)، وهو ظاهر. وَلا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَةِ، [537/ب] وَالْمُحَابَاةُ فِيهَا مِنَ الثُّلُثِ أطلق المعاوضة ليتناول البيع والشراء، والإجارة والقراض والمساقاة.

ابن عبد السلام: لكن يدخل تحته النكاح والخلع؛ لأنهما من عقود المعاوضة، وليس للمريض فعلهما، فلو قيدها، فقال: (في المعاوضة المالية) لكان أحسن. خليل: ولعله اعتمد على ما قدمه في النكاح والطلاق. (وَالْمُحَابَاةُ فِيهَا مِنَ الثُّلُثِ) مثاله: لو باع سلعة بعشرين وهي تساوي أربعين، فإنه يجعل العشرين المتروكة في الثلث، وظاهر قوله: (والمحاباة في الثلث) أن ما عدا المحاباة يمضي، ولو كان مما تطلب فيه المناجزة كالصرف وهو مذهب أصبغ خلافاً لسحنون والهاء في قوله: (فِيهَا) للمعاوضات. وَالْمَخُوفُ مَا يَحْكُمُ الطِّبَّ بِأنَّ الْهِلاكَ بِهِ كَثِيرٌ مراده بالكثير أن يكون الموت من هذه الأشياء شهيراً لا يتعجب من حصول الموت معه، لا أنه يكون الغالب من حال ذلك المرض الموت منه، كما هو ظاهر كلام المازري، وهو الذي يدل عليه كلامهم في الفالج ونحوه، والمراد بالطب أهله. كَالْحُمَّى الْحَادَّةِ وَالسُّلِّ وَالْقُولَنْجِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَالإِسْهَالِ بِالدَّمِ وَالْحَامِلِ تَبْلُغُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .... هذه أمثلة للمرض المخوف. (والْحُمَّى الْحَادَّةِ)؛ أي الشديدة التي يكثر معها شرب الماء، (السُّلِّ) بكسر السين: سعال يابس، (وَالْقُولَنْجِ): انقلاب المعدة حتى يتغوط من فيه. وذات الجنب هي قرحة تصيب الإنسان داخل جنبه، واختلف: هل يحجر بمجرد دخول الحامل الشهر السادس أو حتى تكمله، ورأى المازري أنه لا يحكم لها في الستة ولا بعدها بحكم المريض؟ قال: وحكى بعضهم الإجماع على أنها في حالة الطلق كالمريض، فإن صح الإجماع، وإلا فمقتضى النظر أن لا يحكم لها بذلك؛ لأنه لو كان الموت عن هذا المرض غالباً ألا تلد المرأة إلا مرة واحدة، والمعلوم خلافه، وهذا أيضاً يدل على أنه

اعتبر في المخوف كون الموت عنده أكثر، ابن القاسم: ويعلم بلوغها الستة بقولها، ولا يسأل عن ذلك النساء. وَالْمَحْبُوسِ لِلْقَتْلِ أَوْ قَطْعِ يِدٍ أَوْ رِجْلٍ إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ أي: لقتل وجب عليه ببينة عادلة أو اعتراف، وأما إذا ادعى عليه القتل فحبس ليستبرئ أمره فلا، وحكى ابن عبد البر الإجماع على أن من قدم للقتل في قصاص أو رجم كالمريض. وقوله: (أَوْ قَطْعِ يِدٍ أَوْ رِجْلٍ) ظاهره أنه معطوف على ما تقدم، فيكون محبوساً لقطع يد أو رجل، وإنما ذكر في المدونة إذا قُرِّب لقطع يد أو رجل، ولا يلزم مما ذكره في المدونة ما ذكره المصنف؛ لأن الخوف فيمن قرب أكثر. واعترضت هذه المسألة بأنه لو خيف عليه الموت بالقطع لم يقم عليه الحد، وأجاب بعضهم بأنه لم يقصد الكلام عليه، وإنما أجاب عن الفصل الذي سئل عنه، ولو سئل: هل يقام الحد على من هذا حاله؟ لقال: لا، وقيل: لعله مفروض فيمن كان من الحكام يرى قتله حينئذٍ صواباً ويجهل ذلك، وأجاب القابسي بأن الخوف طرأ بعد إقامة الحد، وهو إحالة للمسألة لوجهين: أحدهما: أنه قال في السؤال: قرب لضرب الحد. والثاني: قياس ابن القاسم لها على حاضر الزحف الصحيح، ولو كان كما قال لكان مريضاً لا يختلف في فعله، وأجاب ابن أبي زيد بأن الخوف إنما حدث منه أو أدركه من الجزع ما يدرك حاضر الزحف، فحكم له بحكمه، وهذا أشبه وأولى، ولو كان القطع لحرابة لم ينبغِ أن يلتفت إلى الخوف عليه وأقيم الحد عليه على كل حال، وإن أدى حده للقتل.

وَحَاضِرِ الزَّحْفِ هكذا قال الباجي أنه لا يحكم له بحكم المريض إلا إذا كان في صف المقاتلين وجملتهم، وأما إذا كان في النظَّارة أو متوجهاً للقتال قبل وصول الصف فلا، ولم أرَ في صف الرد نصاً، وأرى ألا يثبت له هذا الحكم إلا بالكون في صف المقاتلة. بِخِلافِ الْمُلَجَّجِ فِي الْبَحْرِ وَالنِّيلِ وَقْتَ الْهَوْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ القولان لمالك في المدونة، ففيها وراكب البحر والنيل حين الخوف والهول، قال مالك، أفعاله من رأس ماله، وروى عنه أنها من الثلث، ونص المسألة عند ابن يونس: فمن طلق زوجته وهو في سفينة أو في لجج البحر أو النيل أو الفرات أو بالدجلة أو بطائح البصرة، قال: قال مالك: إذا أصاب أهل البحر النوء والريح الشديد، فخافوا الغرق فأعتق أحدهم عبداً في تلك الحال فهو من رأس المال، ولا يشبه هذا الخوف، وقد روي عن مالك أن أمر راكب البحر في الثلث. ابن المواز: والطلاق على نحوه هذا من الاختلاف، وقد علمت أن المراد بقول المصنف: (وَقْتَ الْهَوْلِ) وقت حصوله لا وقت زمانه. وذكر في البيان في راكب البحر في الوصايا ثلاثة أقوال: الأول: إجازة أفعاله على كل حال، قال: وهي رواية ابن القاسم عنه في المدونة. والثاني: أن فعله لا يجوز على كل حال وهو ظاهر ما حكاه سحنون عن مالك في المدونة. الثالث: الفرق بين حال الهول فيه وحال غير الهول، وهو دليل قول غير ابن القاسم في العتبية قال: وهو أشهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن راكب البحر حال الهول أخوف على نفسه من المريض.

ابن عبد السلام: واختلف فيمن جمحت به دابته، فظاهر قول مالك وأشهب وابن وهب أن حكمه كالمريض، وقال ابن القاسم: حكمه كالصحيح. بِخِلافِ الْجَرَبِ، وَالضِّرْسِ، وَحُمَّى يَوْمٍ وَحُمَّى الرُّبُعِ وَالرَّمّدِ، وَالْبَرَصِ، وَالْجُذَامِ، وَالْفَالِجِ .... لأن الغالب على أصحاب هذه الأمراض السلامة، والموت منها نادر، وينبغي أن يرجع في هذا إلى ما يقوله ثقات الأطباء، فربما أزمنت حمى الربع وخيف منها الموت [538/أ]، ولهذا قال في المدونة: وأما المفلوج وصاحب حمى الربع والأجذم والأبرص وذو القروح والجراح، فما أقعده وأضناه وبلغ فيه حد الخوف عليه فحكمه حكم المريض، وما لم يبلغ فيه ذلك فحكمه حكم الصحيح، وكأن المصنف إنما تكلم على هذه الأمراض بمجردها، من غير أن تُقعد وتُضني، والله أعلم. وَيَحْجُرُ الزَّوْجُ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهَا بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِمُعَاوضَةٍ هذا هو السبب السابع وخالفنا فيه أبو حنيفة والشافعي، ودليلنا ما رواه أبو داود والنسائي عن دواد بن أبي هند وحبيب المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها». وفي النسائي أيضاً عن حبيب المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام خطيباً فقال في خطبته: «لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها» قال يحيى القطان: إذا روي عن عمرو بن شعيب فهو ثقة، وداود وحبيب ثقتان خرَّج لهما الأئمة، ولأن للزوج حقاً في التجمل بمالها، ولذلك تزوجها، فلو كان لها أن تتصرف فيه وتهب بغير إذنه لأضر ذلك به.

وقوله: (فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ)؛ يعني: وأما الثلث فما دونه فلا حجر عليها في ذلك، إما لأنها لما كانت محجوراً عليها لغيرها كانت كالمريض، فيكون من باب تخصيص الخبر بالقياس، وإما لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم عيد وأتى النساء فقال: «تصدقن» فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطهن وخواتمهن. فيجمع بين الحديثين بجواز اليسير دون الكثير، والثلث هو اليسير المأذون فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير» لاسيما وقد روى ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجوز لامرأة أن تعطي من مالها شيئاً له بال بغير إذن زوجها"، وشمل الزوج العبد، وهو ظاهر المذهب، ورواه أشهب وابن نافع عن مالك، وقال ابن وهب في العتبية: العبد بخلاف الحر لزوجته الحرة أن تتصدق بجميع مالها. أصبغ: وليس بشيء وله من الحق ما للحر. محمد: ولولي السفيه أن يحجر على زوجته، ومفوم كلام المصنف أنه لا يمنعها من الثلث فأقل، ولو قصدت به الضرر، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في الواضحة، وقال مطرف وابن الماجشون وأشهب عن مالك: إذا تصدقت بالثلث فأقل على وجه الضرر بالزوج فله رده. واختاره ابن حبيب، وقيل: إن ضرت بالثلث رد لا بأقل. قوله: (أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ) يدخل فيه التدبير، وهو قول ابن الماجشون، ولمالك في رواية ابن القاسم ومطرف أنه يمضي وإن زاد على الثلث، واختلف أيضاً إذا أعتقت ثلث عبد لا تملك غيره، فقال ابن القاسم وابن أبي حازم: ذلك ماضٍ، وقال ابن الماجشون: هو مردود. واحترز (بِمَا لَيْسَ بِمُعَاوضَةٍ) من البيع والشراء ونحوهما فلا حجر عليها في ذلك، واختلف: هل لها أن تقرض كالبيع - وهو قول ابن دحون؛ لأنها تقتضيه - أم لا كهبتها، وهو قول ابن الشقاق؟ ومنع في المدونة كفالتها؛ أي في أكثر من الثلث، واحتج به من منع قرضها، وفرق بأن في القرض هي الطالبة وفي الحمالة هي المطلوبة.

وَهُوَ جَائِزٌ حَتَّى يَرُدَّهُ الزَّوْجُ، وَقِيلَ: مَرْدُودٌ إِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِذْنُهُ ضمير (هو) عائد على (ما) في قوله: (فِيمَا زَادَ) والقول الأول هو قول ابن القاسم رواه عن مالك، وقاسه على عتق المديان وبه قال أصبغ، قال في المقدمات: وهو المعلوم من قول مالك وأصحابه. والقول الثاني لمطرف وابن الماجشون وفرق بينها وبين المديان بأن الغرماء لا يصح لهم رد إلا بثبوت الدين واغتراق الذمة بالبينة، وهذا زوج لا يكلف البينة. ومن ثمرة هذا الخلاف ما قاله ابن رشد لو اختلف الزوجان فيما أعطته: هل هو الثلث أو أزيد؟ فمن جعل عطيتها على الرد قال: القول للزوج ومن جعل عطيتها على الإجازة قال: القول للمرأة. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى تَأيَّمَتْ مَضَى اتِّفَاقاً يعني: فإن لم يعلم الزوج بعطيتها أكثر من الثلث حتى تأيمت الزوجة بطلاق الزوج أو بموته مضى ما أعطته، ولم يكن للزوج ولا لورثته مقال باتفاق، أما على القول بأن فعلها على الجواز حتى يرد فظاهر، وأما على الآخر فلأن الزوجية معتبرة شرطاً في الرد وقد فقدت، ورد ابن يونس قول مطرف وابن الماجشون إن فعلها على الرد بالاتفاق في هذه المسألة، قال: لأنه إذا كان على قولهما على الرد فينبغي إذا تأيمت أن يكون لها الرجوع فيه؛ لأنه لم يزل مردوداً. ابن عبد السلام: وظاهر كلام ابن حبيب وجود الخلاف في موت الزوج هل لورثته مقال؟ والخلاف موجود فيما إذا رد الزوج فعلها ولم يخرج من يدها حتى تأيمت. وَحَتَّى مَاتَتْ: فقَوْلانِ أي: وإن لم يعلم الزوج بعطيتها حتى ماتت، فقال ابن القاسم: ذلك ماضٍ كتأيُّمها، وقال ابن حبيب: إذا لم يعلم الزوج بما فعلت من عتق وعطية حتى ماتت هي: أو لم يعلم

السيد بفعل العبد حتى مات، فذلك مردود لأن لهما الميراث، ولعل القولين مبنيان على أن فعلها هل هو على الإجازة أو على الرد؟ وَإِذَا تَبَرَّعَتْ بِمَا زَادَ فَلَهُ أَنْ يُجِيزَ الْجَمِيعَ أَوْ يَرُدَّهُ، وَقِيلَ: أَوْ يَرُدَّ مَا زَادَ خَاصَّةً كَالْمَرِيضِ، سِوَى الْعِتْقِ لأَنَّهُ لا يَتَبَعَّضُ .... (بما زاد) ظاهره قلَّت الزيادة أو كثرت، وهو قول ابن نافع وقال ابن القاسم في المدونة: إذا زاد كالدينار ونحوه نفذ الجميع. قوله: (أَوْ يَرُدَّهُ)؛ أي الجميع، وهذا قول ابن القاسم في المدونة والقول بأنه لا يرد إذا زادت إلا ما زاد على الثلث هو للمغيرة، وشبه ذلك بالوصايا وبقوله [538/ب] قال ابن الماجشون وزاد فقال: وأما العبد فيعتق جميعه أو يرده؛ لئلا يعتق المالك للجميع بعض عبده بلا استتمام، ونقله ابن يونس عن مالك وابن القاسم وابن أبي حازم ومطرف وابن دينار والمغيرة وغيرهم. وهذا هو قصد المصنف بقوله: (سِوَى الْعِتْقِ)؛ لأنه لا يتبعض. ابن راشد: وقال ابن القاسم: يعتق ثلثه فقط، وإن كره الزوج، ورواه عن مالك، وعلى هذا فقوله: (سِوَى الْعِتْقِ) ليس متفقاً عليه. وقول المصنف في القول الثاني: (وَقِيلَ: أَوْ يَرُدَّ) صوابه إسقاط (أَوْ). فإن قلت: فما الفرق على المشهور هنا في أن للزوج رد الجميع وبين المريض والموصي، فإنه لا يرد لهما إلا ما زاد على الثلث، قيل: لأن الأصل إبطال الجميع في الثلاث مسائل؛ لكونه وقع على وجه الممنوع، وأبطلناه في حق الزوجة؛ لأنها يمكنها استدراك غرضها بإنشاء الثلث ثانياً بخلاف المريض والموصي، فإنا لو أبطلنا الجميع لم يمكن استدراك الغرض بموت المعطي، والله أعلم.

وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ التَّبَرُّعِ بِالثُّلُثِ التَّبَرُّعُ بِبَقِيَّتِهِ إِلا فِي مَالٍ آخَرَ ظاهره سواء كان بين التبرعين زمان قريب أو بعيد، وهو قول عبد الوهاب. اللخمي: وهو أحسن. ابن راشد: وهو أصح. ووجهه المازري ها هنا بأنها لو أجيز لها بعد إخراج الثلث من هذا المال بعينه للزم أن تفنيه في كرَّات وهو خلاف المقصود، لكن فإن المعروف من المذهب أنه لا يمنعها مطلقاً، فقد قال ابن المواز: إذا تصدقت بثلث مالها ثم بثلث ما بقي، وبَعُدَ ما بين العطيتين تمضي الصدقتان، وحدَّه ابن سهل بالسنة فما فوقها، وفصل أصبغ فقال: إذا أعتقت رأساً ثم رأساً والزوج غائب ثم قدم، فإن كان بين ذلك ستة أشهر فكل واحد عتق مؤتنف ينظر فيه: هل يحمله الثلث أم لا؟ وإن كان بين ذلك اليوم واليومان فإن حمل جميعهم الثلث وإلا رد جميعهم، كعتقها لهم في كلمة وإن كان بين ذلك مثل الشهر والشهرين مضى الأول إن حمله الثلث ورد ما بعده، وإن حمله الثلث؛ لأن مخرجه للضرورة، ورده ابن يونس وغيره بأنه إذا كان مجموعهما الثلث فينبغي أن يجوز، كما لو كان بكلمة واحدة إلا أن يعلم أنها قصدت الضرر فيدخله الخلاف المتقدم. ابن عبد السلام: الأقرب ما قاله المؤلف، لكن طرده يقتضي أنها لو تصدقت بسدس مالها أو بربعه، ثم أرادت بعد ذلك بزمان طويل أن تتصدق لم يكن لها إلا تمام الثلث إن لم يتزايد مالها. * * *

الصلح

الصُّلْحُ: مُعَاوَضَةٌ - كَالْبَيْعِ -، وَإِبْرَاءٌ، وَإِسْقَاطٌ النووي: الصلح والإصلاح والمصالحة والاصطلاح: قطع المنازعة، وهو مأخوذ من صلح الشيء بفتح اللام أو ضمها إذا كمل، وهو خلاف الفساد، يقال: صالحته مصالحة وصِلاحاً بكسر الصاد، ذكره الجوهري وغيره، والصلح يذكر ويؤنث، وقد يقال: اصطلحا واصَّالحا وتصالحا، وروى الترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً». وقوله: (مُعَاوَضَةٌ ... إلى آخره) الظاهر أنه قصد بالإبراء والإسقاط شيئاً واحداً؛ لأنه كذلك في الجواهر والتلقين، ولأن المصنف إنما تعرض للكلام على الإبراء، فلو كان الإسقاط مبايناً له لتعرض له، ويحتمل أن يكون قسمه إلى ثلاثة أقسام، وهو الأليق باختصار المصنف، وإنه لا يذكر لفظة زائدة، وإلى هذا ذهب ابن عبد السلام وقال: المعاوضة أخذ ما يخالف الشيء المدعى فيه إما في الجنس أو الصفة، والإبراء إسقاط بعض ما في الذمة إذا كان المدعى فيه غير معين، والإسقاط وضع بعض المدعى فيه المعين، كدار أخذ بعضها، وقيل: استعمل الإسقاط للعيب والإبراء لترك البعض، وقال ابن راشد: والإبراء أعم من الإسقاط لوجوده مع عدم ثبوت الحق في الإبراء من التهم ومع ثبوته في الإبراء في الديون الثابتة، وأما الإسقاط فلا يكون إلا في الحقوق الثابتة. واعترضه ابن عبد السلام بأن المصنف لم يتعرض للإبراء من التهم فلا يحسن أن يقال: إن المصنف أراده وإن كان صحيحاً من جهة اللغة.

فَالصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ كَبَيْعِ الدَّيْنِ، وَعَنِ الْبَعْضِ إِبْرَاءٌ عَنِ الْبَعْضِ، وَالْوَضِيعَةُ لازِمَةٌ أي: إذا ادعى عليه ديناً فأقر به فصالحه عنه، فإن صالحه عن جميعه بعرض يأخذه منه فذلك كبيعه منهن فيشترط في الصلح ما يشترط في بيعه، وإن صالحه عنه بترك بعضه فهو إبراء عن البعض وما وضع عنه فهو لازم له؛ لأنها هبة مقبوضة، ويشترط فيها قبول الموهوب في حياة الواهب، وهي يكفي في ذلك قبول الموهوب له بعد موت الواهب؟ فيه قولان. وَيُقَدَّرُ الدَّيْنُ وَالْمَقْبُوضُ كَالْعِوَضَيْنِ أي: ويقدر الدين المدعى فيه والمقبوض عنه كالعوضين في البيع؛ أي كما لو باع الدين بعوض فما يجوز في البيع يجوز في الصلح، وما يمتنع يمتنع. فَيُعْتَبَرُ: ضَعْ وَتَعَجَّلْ، وَحُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيدُكَ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ عطف بالفاء لأنه كالنتيجة عما قبله، و (ضَعْ وَتَعَجَّلْ) يكون في العين وغيرها، كما لو ادعى عليه بعشرة دراهم أو عشرة أثواب إلى شهر فأقر بذلك ثم صالحه على ثمانية نقداً. (وَحُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيدُكَ) إنما يكون في غير العين، كما لو ادعى عليه بعشرة أثواب إلى شهر فصالحه على اثني عشر نقداً، وإن صالحه عنها بدنانير أو دراهم مؤجلة لم يجز؛ لأنه فسخ دين في دين، وهذا معنى قوله: (وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ)، وكذلك يعتبر الصرف المؤخر كما لو صالحه عن [539/أ] دنانير مؤجلة بدراهم أو بالعكس، وكذلك يعتبر بيع الطعام قبل قبضه، فلا يجوز لمن ادعى بطعام من بيع أن يصالح عنه بغيره، وكذلك يشترط معرفة ما يصالح عنه، فإن كان مجهولاً لم يجز، ولذلك اشترط في المدونة في صلح الولد للزوجة على إرثها معرفتها بجميع التركة وحضور أصنافها وحضور من عليه العرض وإقراره وإلا لم يجز، وكأن المصنف نبه بالموانع الثلاثة على ما عداها.

وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِيَامِ بِالْعَيْبِ، فَابْنُ الْقَاسِمِ يَرَى أَنَّهُ مُبَايَعَةٌ بَعْدَ فَسْخِ الأُولَى فَيُعْتَبَرُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَفَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، وَأَشْهَبُ يَرَى الْبَيْعَ الأَوَّلَ بَاقِياً، وَهَذَا عِوَضٌ عَنِ الإِسْقَاطِ فَيُعْتَبَرُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَفَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ .... يعني: أن من اشترى سلعة ثم اطلع على عيب بها فقام به فأقر به البائع، أو قامت به بينة واصطلحا على شيء يدفعه له ويترك القيام بالعيب، فرأى ابن القاسم أن العقدة الأولى قد انحلت، وهذه إنشاء مبايعة أخرى، ورأى أشهب أن العقدة الأولى باقية، وما وقع به الصلح عوض عن القيام بالعيب. ومنشأ الخلاف: من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ وأحسن من هذا أن يقال كما قال المازري وابن شاس وغيرهما: إن من خُيِّر بين شيئين هل يعد مالكاً لما يختاره قبل اختياره أم لا؟ فإن المتمسك بهذا المغيب ملك أن يتمسك أو يرد، فهل يقدر أنه مالك للرد قبل اختياره فيكون الصلح عما ملك، أو لا يكون مالكاً إلا لما اختاره وهو التمسك؟ واختار جماعة قول أشهب؛ لأن القيام بالعيب لا يلزم فيه حل البيع. اللخمي: وهو أقيس إذا قام بالعيب ولم يقل رددت، فإن قال: رددت، فالجواب على قول ابن القاسم، وقد نقل القصار عن مالك أن قول المشتري: رددت، فسخ للبيع وإن لم يحكم بذلك. ويظهر ما بناه المصنف على كل قول بالتمثيل. فَمَنِ اشْتَرَى عَبْداً بِمِائَةٍ نَقْداً وَنَقَدَهَا فَصَالَحَ عَنْ عَيْبٍ بِمُعَجَّلٍ مِنْ ذَلِكَ النَّقْدِ أَوْ مِنَ الْعُرُوضِ جَازَ عِنْدَهُمَا .... قوله: (عَبْداً) مثال وتبع في فرض المسألة المدونة، وقيدها في المدونة بما إذا كان العبد باقياً، وذكر للمسألة شرطين: أن يكون الشراء بالنقد، وأن يكون قد نقد الثمن، فإذا

صالحه بنقد أو عرض جاز عند ابن القاسم وأشهب، والجواز على قول أشهب واضح، وكذلك على قول ابن القاسم؛ لأنه لما انتقض البيع الأول وجب للمشتري عند البائع مائة، أخذ عوضاً عن تسعين منها عبداً واسترد عشرة، ولهذا كان من شرط الجواز أن تكون العشرة من سكة المائة. وهو معنى قوله: (مِنْ ذَلِكَ النَّقْدِ) أما إذا كانت من سكة أخرى فيمتنع؛ لأنه بيع ذهب وعبد بذهب. فَلَوْ صَالَحَ بِعَشَرَةٍ إِلَى شِهْرٍ مَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ لأَنَّهُ بَيْعٌ وَسَلَفٌ؛ لأَنَّهُ اشْتَرَى حِينَئِذٍ الْعَبْدَ بِتِسْعِينَ وَأَخَّرَ الْعَشَرَةَ، وَجَوَّزَ أَشْهَبُ؛ لأَنَّهَا عَنِ الْعَيْبِ .... منع ابن القاسم؛ لأنه لما انحلت العقدة الأولى وجب للمشتري في ذمة البائع مائة حالَّة اشترى بتسعين منها عبداً وأخره بعشرة، وذلك سلف فصار العقد مشتملاً على البيع والسلف، وجوز أشهب؛ لأن العقدة الأولى عنده منعقدة فصارت العشرة المؤخرة مأخوذة لأجل العيب، وليس فيها سلف. فَلَوْ صَالَحَ قَبْلَ نَقْدِهَا عَلَى تِسْعِينَ وَيُؤَخِّرُ الْعَشَرَةَ إِلَى أَجَلٍ، انْعَكَسَ الْقَوْلانِ؛ لأَنَّهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ: تَاجِيلٌ لِبَيْعٍ مُسْتَانَفٍ، وَهُوَ جِائِزٌ، وَعِنْدَ أَشْهَبَ: أَخَّرَهُ بِالْعَشَرَةِ لِيَسْقُطَ الْعَيْبُ، فَهُوَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً أي: لو كانت المسألة بحالها: اشترى عبداً بمائة نقداً، لكن لم ينقد المشتري المائة حتى اطلع على العيب فصالحه البائع على أن يأخذ منه الآن تسعين ويؤخره بالعشرة الأولى إلى شهر مثلاً انعكس القولان؛ أي في الصورة لأن ابن القاسم منع في الأولى وأجاز أشهب وهنا بالعكس، وإلا فكل باقٍ على أصله، وإنما أجازه ابن القاسم؛ لأنه لما انحلت العقدة الأولى لم يبق للبائع في ذمة المشتري شيء ثم باعه العبد بيعاً ثانياً بمائة منها تسعون معجلة

ومنها عشرة مؤجلة، ولا مانع في ذلك، ومنع أشهب؛ لأن العقدة الأولى منعقدة فللبائع في ذمة المشتري مائة معجلة أخره منها بعشرة، وذلك سلف ليسقط عنه القيام بالعيب فيكون سلفاً جر منفعة، وهذا القدر كافٍ في تصوير كلام المصنف، وإلا فالمسألة يتصور فيها ست وثلاثون صورة، وبيان ذلك أنه إما أن يشتريه بدنانير أو بدراهم وينقدها، أو بدراهم ولا ينقدها أو بنقد مؤخر، وكل من هذه الثلاثة يتصور فيها اثنتا عشرة صورة، فيقال: إذا اشتراه بنقد ونقده فإما أن يصالح بدراهم أو بذهب أو بعرض فهذه ثلاثة، ثم كل منها ينقسم إلى قسمين: معجل ومؤجل، فهذه ستة، ثم للعبد حالتان: تارة يكون قائماً وتارة يكون فائتاً، وكذلك الكلام فيما إذا اشتراه بدراهم ولم ينقد، أو بدراهم مؤجلة. ولعل المصنف استغنى عن ذكر هذه الأقسام، ورأى أن من فهم ما ذكره يمكنه فهم ما تركه، ولنترك نحن أيضاً الكلام عليها تبعاً له؛ لأن القصد الأهم حل كلامه. وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى ذَهَبٍ بِوَرِقٍ، وبَالْعَكْسِ إِذَا كَانَا حَالَّيْنِ وَعُجِّلَ هذه المسألة راجعة [539/ب] إلى صرف ما في الذمة، ومعنى كلامه أن من ادعى على رجل ذهباً فأقر به فإنه يجوز له أن يصالح عنه بورق معجَّل وبالعكس، ولا شك في اشتراط تعجيل العوض، وأما حلول ما في الذمة فهو جارٍ على المشهور من أن المعجَّل لما في الذمة يعد مسلَفا، وأما على الشاذ أن الذمة تبرأ فيجوز وإن كان مؤجلاً، وعلى قول أشهب بمنع صرف مافي الذمة تمتنع المصالحة هنا. وَالصُّلْحُ عَلَى الإَنْكَارِ وَعَلَى الافْتِدَاءِ مِنَ الْيَمِينِ: جَائِزٌ حُكْمُهُ، وَلا يَحِلُّ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا .... صورة الصلح على الإنكار أن يدعي عليه داراً أو عبداً أو غيرهما فينكره، ثم يصالحه على شيء، وصورة الافتداء من اليمين أن تتوجه اليمين على المدعى عليه فيفتدي منها

بمال، ثم ذكر المصنف أن الصلح على الأمرين جائز حكمه؛ أي جائز في ظاهر الحكم، ولا يحل للظالم فيما بينه وبين الله تعالى أن يأخذ ما لا يحل له، والمذهب جواز الصلح على الإنكار وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لعموم الحديث المتقدم خلافاً للشافعي وابن الجهم من أصحابنا. فقول المصنف: (جَائِزٌ) خبر عن قوله: (وَالصُّلْحُ)، وهو واضح. ابن هشام: وإن علم المدعى عليه ببراءته وطلبت منه اليمين فليحلف، لا يصالح على شيء من ماله وإن صالح أثم من أربعة أوجه: لأنه أذل نفسه، وقال عليه الصلاة والسلام: «أذل الله من أذل نفسه». الثاني: أنه أطعمه ما لا يحل له. الثالث: أنه أضاع ماله، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك. الرابع: جرأه على غيره كما جرأه على نفسه. ومراد المصنف أن الصلح على الإنكار جائز من حيث الجملة وإلا فلجوازه شروط، وقد أهملها المصنف، فشروطه عند مالك ثلاثة؛ وهي: أن يجوز على دعوى المدعي، وعلى إنكار المنكر، وعلى ظاهر الحكم، وابن القاسم يشترط الأولين فقط، وأصبغ يشترط شرطاً واحداً؛ وهو ألا تتفق دعواهما على فساد؛ فلو ادعي على رجل دراهم وطعام من بيع واعترف البائع بالطعام وأنكره الدراهم فصالحه على طعام مؤجل أكثر من طعامه، أو اعترف له بالدراهم فصالحه على دنانير مؤجلة أو دراهم أكثر من دراهمه، فحكى ابن رشد الاتفاق على فاسده وفسخه لما في ذلك من السلف بزيادة، والصرف المؤخر، وإن ادعى عليه غيره عشرة دنانير فأنكره، فأراد أن يصالحه عنها بدراهم إلى أجل فهذا ممتنع على دعوى المدعي؛ إذ لا يحل له أن يأخذ في دنانير دراهم إلى أجل، وجائز على دعوى المدعى عليه؛ إذ إنما صالح عن يمين وجبت عليه فيمتنع ذلك عند مالك وابن القاسم؛ لأن من شرطه عندهما أن يجوز على دعواهما معاً، وهذا لا يجوز على دعوى المدعي.

وأجازه أصبغ؛ إذ لم تتفق دعواهما على فساد، وكذلك لو ادعى عليه عشرة أرادب من قرض فقال المدعى عليه: بل لك عندي خمسة من سلم، فأراد أن يصالحه على دراهم ونحوها معجلة، فهو جائز على دعوى المدعي؛ لأن طعام القرض يجوز بيعه قبل قبضه، ولا يجوز على دعوى المدعى عليه؛ لأن طعام السلم لا يجوز بيعه قبل قبضه، فهذا أيضاً يجيزه أصبغ، ويمنعه مالك وابن القاسم، ولو ادعى عليه مائة درهم وأنكره فصالحه على خمسين إلى أجل، أو على تأخير جميعها فهذا جائز على دعوى كل منهما؛ لأن المدعي يقول: حططت وأخرت فأنا محسن، والمدعى عليه يقول: افتديت من يمين وجبت عليَّ، وظاهر الحكم أن فيه سلفاً جر منفعة فالسلف هو التأخير والمنفعة هي سقوط اليمين المنقلبة على المدعي بتقدير نكول المدعى عليه أو حلفه فيسقط جميع المال، فهذا ممنوع عند مالك لاشتراطه الجواز في ظاهر الحكم، وأجازه ابن القاسم؛ لأنه لم يعتبر هذا الشرط، ولا إشكال في جوازه على قول أصبغ. ابن محرز: وإن وقع الصلح على السكوت من غير إقرار ولا إنكار فإنه يعتبر فيه حكم المعاوضة في الإقرار، ويعتبر فيه على مذهب مالك الوجوه الثلاثة التي بيناها في الإنكار. اللخمي: واختلف في الصلح الحرام والمكروه إذا نزل، فقال مطرف في كتاب ابن حبيب: إذا كان الصلح حراماً صراحاً فسخ أبداً، فيرد إن كان قائماً والقيمة إن كان فائتاً، وإن كان من الأشياء المكروهة مضى، وقال ابن الماجشون: إن كان حراماً فسخ أبداً، وإن كان مكروهاً فسخ بحدثان وقوعه فإن طال أمره مضى، وقال أصبغ: يجوز حرامه ومكروهه وإن كان بحدثان وقوعه. خليل: لعل المراد بالحرام الحرام المتفق على تحريمه وبالمكروه المختلف فيه.

فَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ نَقْضُهُ لأَنَّهُ مَغْلُوبٌ؟ يعني: لو ادعى عليه بمال فأنكره فصالحه على بعضه أو خلاف، ثم ثبت الحق بعد الصلح فإما أن يثبت بإقرار أو ببينة، وبدأ المصنف بالأول وذكر أن للمدعي نقض الصلح؛ لأنه كان كالمجبور عليه، ودل قوله: (فَلَهُ نَقْضُهُ) على أن له إمضاءه، ونص سحنون على ذلك. فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ لّمْ يَعْلَمْ بِهَا، فَفِيهَا: لَهُ نَقْضُهُ، وَقِيلَ: لا لعله نسب المسألة للمدونة ليبين أن المشهور أن له النقض، ووجهه أنه مغلوب كالأول، والقول بأنه ليس له النقض رواه مطرف عن مالك، والفرق بين هذه وبين التي قبلها على هذا أن المدعي عليه في الأول مقر على نفسه بالظلم، وهذا مقيم على الإنكار، وأيضاً فإن المدعي في الثانية مفرط لعدم تثبته. فَإِنْ كَانَ عَالِماً بِهَا وَصَرَّحَ بِإِسْقَاطِهَا لَمْ يَقُمْ بِهَا أي: وصرح حين المصالحة بأن لا يقوم بها، لم يقم به لإسقاطه حقه، وهكذا في المدونة، وقيدها المازري بأن تكون حاضرة حين الصلح ويكون قادراً على القيام بها. فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ، فَقَوْلانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْمُسْتَحْلِفِ مَعَ عِلْمِهِ بِبَيِّنَةٍ أي: فإن لم يصرح المدعي العالم بالبينة ففي ذلك قولان مخرجان على القولين فيمن استحلف خصمه وهو عالم بالبينة، ومذهب المدونة في المسألة عدم القبول، [540/أ] أما الأولى فقال مالك فيمن ادعى قبل رجل مالاً فأنكره فصالحه على شيء أخذه ثم وجد بينة أو أقر المطلوب: فإن كان الطالب عالماً بالبينة فلا قيام له، وإن كانت له بينة غائبة فخاف موته أو إعدام الغريم إلى قدومهم فلا حجة له بذلك، ولو شاء تربص، وذكر ابن يونس فيها قولين: فقال: وإذا صالح وهو عالم بالبينة قيل: ليس له القيام بها، وقيل: ذلك له.

وأما المسألة الثانية ففيها وإن استحلفه بعد علمه بالبينة تاركاً لها وهي حاضرة أو غائبة فلا حق له. عياض: والأكثر أن معنى تاركاً؛ أي: تاركاً للقيام بها مع علمه، وقال آخرون: مصرحاً بترك القيام، ونقل ابن يونس عن ابن نافع أنه روى عن مالك أنه إذا حلفه وبينته حاضرة وهو عالم بها فله القيام بها بعد ذلك، وقاله أشهب في غير كتاب، وذكر المازري أن بعض المتأخرين خرج الخلاف في الصلح على الخلاف في مسألة الاستحلاف كما أشار إليه المصنف. خليل: وقد ذكرنا القولين منصوصين فلا حاجة إلى التخريج. وَلَوْ كَانَتْ غَائِبَةً وَشَرَطَ الْقِيَامَ بِهَا فَلَهُ ذَلِكَ وفي بعض النسخ عوض (غَائِبَةً) (بعيدة)، وكذلك هو في المازري، وهو الأظهر؛ لأن القريبة في حكم الحاضرة؛ يعني إذا صالح لتعذر بينته وشرط القيام بها، وحكى المصنف الاتفاق تبعاً للمازري، وكذلك قال ابن يونس. وقال ابن يونس: لا ينبغي أن يختلف فيه. فإن قيل: يعارض هذا القول ما وقع لابن القاسم فيمن أخر من له دين عليه بشرط أنه متى ادعى القضاء لم يستحلفه، واصطلح على ذلك أن هذا الصلح لا يلزم، ومتى ادعى المديان القضاء كان له استحلاف الطالب، وقيل: لا؛ فالفرق أن اشتراط إسقاط اليمين خلاف ما يوجبه الشرع فلم يوفِ له بشرطه، وذكروا في المذهب أن الخصمين لو اصطلحا على إسقاط البينة أو على أن المدعي عليه إن نكل عن اليمين غرم الحق من غير أن يرد اليمين على المدعي أن ذلك ماضٍ، فعارض المازري بين هذا وبين ما قبله؛ لأن كون النكول يوجب الغرامة من غير رد اليمين على المدعي خلاف الشرع. وأجاب ابن عبد السلام بأن إسقاط اليمين يئول إلى سلف جر منفعة، فلا يلزم بل ولا يجوز ابتداء،

وأما الصلح على إسقاط البينة فهو على إسقاط حق آدمي بعد وجوبه، وأيضاً فإسقاط البينة بعد علمه بها وبما شهدت به دليل على خلل عقد التسليم بها في شهادتها، وأما الصلح على أن المدعى عليه يغرم بالنكول من غير رد يمين فهو موافق لمقتضى الشرع على أنه رأي الحنفية وغيرهم، فلا يبعد إمضاؤه كغيره من مسائل الخلاف إذا وقع، واختلف المذهب إذا شرط من باع بثمن مؤجل أنه مصدق في عدم قبض الثمن ما لم تقم للمشتري بينة، هي يوفى بالشرط أم لا، أو يوفى للأفاضل فقط؟ على ثلاثة أقوال، المازري: وهذا إنما يحسن النظر فيه إذا وقع الصلح على معاوضة، وأما إن لم تكن معاوضة والتزم المدعى عليه ألا يرد اليمين وأسقط حقه في ردها فإن هذا لا يختلف في جوازه؛ لأنه إسقاط حق على غير عوض. وَإِنْ أَشْهَدَ سِرّاً - فَقَوْلانِ هذان القولان ذكرهما ابن يونس وغيره، ومذهب سحنون القبول، وقد قال في المقر سراً: يقول: أخرني سنة وأنا أقر لك؛ ففعل فصالحه على ذلك، ثم أقام بينة أنه إن كان أشهد سراً: أني إنما أؤخره لأنه جحدني، ولا أجد بينة، وإن وجدتها قمت بها فذلك له إن أشهد بذلك قبل الصلح، وههنا ثماني مسائل: أربع متفق عليها وأربع مختلف فيه، فأما المتفق عليها: فالأولى: إن كان له بينة غائبة وأشهد وأعلن. والثانية: إذا صالح على الإنكار ثم أقر. والثالثة: إذا صالح على الإنكار، وذكر ضياع صكه؛ أي وثيقته ثم وجده بعد الصلح؛ فهذه الثلاثة اتفق فيها على القبول.

والرابعة: إذا ضاع صكه فقال له الغريم: حقك حق فَاتِ بالصك فامحه وخذ حقك، وقال: قد ضاع وأنا أصالحك. فيفعل ثم يجد ذكر الحق، فلا رجوع له باتفاق. ابن يونس: والفرق بين هذه والتي قبلها أن غريمه في هذه معترف، وإنما طلبه بإحضار صكه ليمحو ما فيه، فقد رضي هذا بإسقاطه واستعجال حقه، والأول منكر للحق، وقد أشهد أنه إنما صالحه لضياع حقه فهو كشاهده أنه إنما يصالح لغيبة بينته. وأما الأربع المختلف فهي: إذا كانت بينته غائبة وأشهد سراً كما ذكرنا، الثانية إذا صالح ولم يعلم ببينة ثم علم، والمشهور القبول كما تقدم، والثالثة: إذا صالح وهو عالم ببينته، وتقدم أن المشهور فيها عدم القبول، والرابعة: من يقر في السر ويجحد في العلانية فصالحه غريمه على أن يؤخره سنة، ولو شهد الطالب أنه إنما يؤخره لغيبة بينته، فإذا قدمت قام بها، فقيل: إن ذلك له إذا علم أنه كان يطلبه وهو يجحده، وقيل: ليس له ذلك. خليل: وأفتى بعض أشياخ شيخي بأن ذلك له للضرورة، وهو قول سحنون، والآخر لمطرف، وهذه المسألة تسمى إيداع الشهادة، والله أعلم. * * *

الحوالة

الحوالة: نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ تَبْرَأ بِهَا الأُولَى عياض وغيره: مأخوذة من التحول من شيء إلى شيء لأن الطالب تحول من طلبه لغريمه إلى غريم غريمه، وهي محمولة على الندب عند أكثر شيوخنا، وحملها بعضهم على الإباحة لما أشبهت بيع الدين بالدين، وعند أكثر مشايخنا مستثناة من الدين بالدين وبيع العين بالعين من غير يد بيد، كما خصت الشركة والتولية والإقالة من بيع الطعام قبل قبضه، وكما خصت العارية من بيع الطعام بالطعام نسيئة ومتفاضلاً، [540/ب] لما كان سبيل هذه التخصيصات المعروف، وذهب الباجي إلى أنها ليست حكمها حكم البيع، ولا هي من هذا الباب، بل هي عنده من باب النقد، وذهب أهل الظاهر إلى وجوب القبول في الحوالة، لما رواه مالك وغيره «مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع». وأجيب بعد التسليم أن الأمر حقيقة في الوجوب لا الندب بأن هنا دليلاً يمنع من الوجوب؛ لأن صاحب الدين إنما عامل صاحب هذه الذمة: «والمؤمنون عند شروطهم» ولأن الحوالة مترددة بين البيع وفعل المعروف، وكلاهما غير واجب، ولأنه لو وجب لكان لكل من أحلت عليه أن يحيلك إلى ما لا نهاية له، أويحيلك على مليء ظالم، والأول مؤد للضرر، والثاني مؤد إلى إبطال الحق. وأجيب عن هذا الوجه بأن المحال يلزمه قبول الحوالة، ما لم يكثر ذلك فتخرج صورة الضرر بالدلائل الدالة على نفي الضرر، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع». عياض: الصواب فيه تسكين التاء، وبعض المحدثين والرواة يشددها، يقال: تبعت فلاناً فأنا أتبعه، ساكن التاء، ولا يقال: اتبعه بفتح التاء وتشديدها إلا من المشي خلفه.

فرع: وإذا مطل الغني ردت شهادته عند أصبغ، وسحنون؛ لأنه ظالم لا عند محمد ابن عبد الحكم. خليل: والظاهر أن من علم من صاحب الدين الاستحياء من المطالبة أن ذلك كالمطل، والله أعلم. وقول المصنف: (نَقْلُ الدَّيْنِ) كقوله في التلقين: تحويل الحق عن ذمة إلى ذمة تبرأ بها الأولى؛ لأن رسم القاضي أحسن، لأنه أبقى لفظ التحويل، وإذا أمكن في الحد إبقاء الألفاظ في معناها اللغوي كان أحسن؛ لأن الخروج عن مقتضى اللغة خلاف الأصل لأن قول القاضي: (الحق) أحسن أيضاً من قوله: (الدَّيْنِ)، لأن المتبادر من الدين ما قابل المنافع بخلاف لفظ الحق، فإنه يشمل المنافع وغيرها. واعترضه ابن راشد بأن النقل حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني، والدين لم ينتقل، وإنما يأخذ مثله من ذمة أخرى. وقول المصنف: (نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ) فيه حذف مضاف؛ أي من ذمة إلى ذمة. وقوله: (تَبْرَأُ بِهَا الأُولَى) هو على جهة البيان، قاله ابن راشد. واعترض ابن عبد السلام قوله: (تَبْرَأُ بِهَا الأُولَى) لأن البراءة إنما هي مرتبة على الحوالة، لأنك تقول: برأت ذمة فلان من دينه لأنه أحالني على فلان، فلا يصلح أن يدخل ذلك في الحد لأن العلة غير المعلول. خليل: ولعله احترز به من الحمالة، فإن فيها شغل ذمة أخرى بالحق ولا تبرأ به الأولى، قيل: وقوله: (نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ) أعم من أن يكون في الثانية دين أم لا، وإذا لم يكن في الذمة دين فإما أن تكون حوالة أم لا، فإن لم تكن فالتعريف غير مانع لصدقة عليه، وإن كانت حوالة بطل قوله في شروطها: (ومنها أن يكون على المحال عليه دين).

وَلَهُ شُرُوطٌ - مِنْهَا: رِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ دُونَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أي: لنقل الدين. وفي بعض النسخ (ولها) فيعود على الحوالة، وحاصل ما ذكره المصنف أربعة شروط: الأول: رضا المحيل والمحال ولا خلاف في اشتراط رضا المحيل؛ لأن الحق متعلق بذمته، فلا يجبر على أن يعطيه من ذمة أخرى، وأما رضا المحال فهو مبني على مذهب الجمهور في عدم وجوب قبول الحوالة، وأما على مذهب أهل الظاهر فلا؛ لوجوب ذلك عليه، وأما رضا المحال عليه فلا يشترط على المشهور، وحكى ابن شعبان قولاً باشتراط رضاه والأول أظهر للاتفاق أن لصاحب الحق أن يوكل من شاء على قبض دينه، وليس لمن عليه الدين كلام، وعلى المشهور فيشترط في ذلك السلامة من العداوة، قاله مالك. المازري: وإنما يعترض الإشكال لو استدان رجل من آخر ديناً ثم حدث بينهما عداوة بعد الاستدانة، هل يمنع من له الدين من اقتضاء دينه لئلا يبالغ في اقتضاء دينه ويؤذي عدوه، فيؤمر بأن يوكل غيره أو لا يمنع؛ لأنها ضرورة سبقت وقد وقعت المعاملة على أن صاحب الحق يقتضي دينه؟ تردد فيها ابن القصار، وإشارته تقتضي الميل إلى أنه لا يمكن من الاقتضاء بنفسه، وعلى المشهور فهل يشترط حضور المحال عليه وأقراره كما في بيع الدين، وهو قول ابن القاسم أو لا وهو قول ابن الماجشون؟ وللموثقين من الأندلسيين أيضاً القولان، وفي المتيطية عن مالك إجازة الحوالة مع الجهل بذمة المحال عليه، ولعل الخلاف منه على الخلاف الذي بين الشيوخ: هل الحوالة مستثناة من بيع الدين بالدين فيسلك بها مسلك البيوع أو هي أصل بنفسها؟

وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِلْمُحِيلِ لأن حقيقة الحوالة تقتضي أن تكون على دين، لأنها نقل دين من ذمة إلى ذمة. الباجي: فإن لم يكن على المحال عليه دين فهي حمالة عند جميع أصحابنا، كانت بلفظ الحمالة أو الحوالة، إلا ما قاله ابن الماجشون أنها إذا كانت بلفظ الحوالة تكون حوالة، الباجي: ويلزمه على قوله أن يعتبر رضا المحال عليه. ويقع في بعض النسخ التنبيه على هذا القول بزيادة (على المشهور) بعد الكلام المتقدم. فَلَوْ أَحَالَهُ عَلَى مَنْ لا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ فَعدِمَ رَجَعَ إِلا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ وَيَشْتَرِطَ الْبَرَاءَةَ فَلا رُجُوعَ لَهُ .... هذا تفريع على المشهور، فلو أحاله على غير أصل دين رجع المحال على المحيل إلا أن يعلم المحال أن المحيل لا شيء له على المحال عليه، واشترط المحيل على المحال البراءة، وهكذا قال ابن القاسم في المدونة، وحصل ابن زرقون فيها خمسة أقوال: الأول؛ لابن القاسم، لا رجوع له على المحيل. الثاني: رواية ابن وهب في المدونة لا رجوع له إلا في الموت [541/أ] والفلس. الثالث: رواية مطرف بالخيار، وهو مثل رواية عيسى عن ابن القاسم. الرابعك قول أشهب وابن الماجشون: الشرط باطل وهي حمالة لا يطالبه إلا في غيبة المحيل أو عدمه حتى يسمى الحوالة. والخامس: لمالك وابن القاسم أن الشرط لا ينفعه إلا في ذي سلطان أو سيئ القضاء، هذا إذا اشترط البراءة. وإن لم يشترطها ولكنه شرط أن يتبع أيهما شاء فثلاثة أقوال: الأول: لابن القاسم له شرطه. الثاني: أنه أيضاً لا ينتفع المشترط إلا لمعنى، مثل أن يكون الغريم ذا سلطان أو سيئ القضاء.

الثالث: لمالك من رواية أشهب، وبه قال أشهب وابن الماجشون: الشرط باطل وهي حمالة لا يطالب إلا في غيبة الغريم أو عدمه. تنبيهات: الأول: قول ابن زرقون الثاني: رواية ابن وهب في المدونة؛ يدل على أنه حمل رواية ابن وهب على الخلاف، وأن مذهب ابن القاسم عدم الرجوع مطلقاً ولو فلس أو مات، وهو تأويل سحنون وابن رشد وتأوله أبو محمد على الوفاق، وحمل قول ابن القاسم: لا رجوع له على المحيل على ما إذا لم يمت المحال عليه أو فلس وجمع بينهما أيضاً أبو عمران، قال: لأن في جواب ابن القاسم اشتراط البراءة، وليس ذلك في رواية ابن وهب، قال: فابن القاسم يوافق رواية ابن وهب، وابن وهب يوافق قول ابن القاسم. الثاني: قال التونسي وابن يونس وغيرهما: وقع في المدونة لفظان في الحوالة على أصل دين، فمرة جعل ذلك حمالة يبدأ بالذي عليه الدين فإن لم يوجد عنده شيء رجع على الذي تحول عليه، ومرة يبدأ بالمحال عليه فإن فلس رجع على المحيل. الثالث: ابن عبد السلام: وقع في بعض النسخ بإثر قول المصنف: (فَلا رُجُوعَ) ما نصه على القولين وليست بصحيحة لوجهين: أما أولاً: فلأنه لم يقع في المسألة خلاف، وأما ثانياً: فلأن هذه النسخة تشعر بأن المسألة متفق عليها، وفيها خمسة أقوال كما تقدم. خليل: وقد يقال: لا نسلم قوله على القولين يشعر باتفاق. وقد ذكرنا أنه وقع في بعض النسخ زيادة (على المشهور) فتصح هذه النسخة عليها.

وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالاًّ، وَلا يُشْتَرَطُ حُلُولُ مَا على الْمُحَالِ عَلَيْهِ هذا هو الشرط الثالث: أن يكون الدين أي المحال به حالاً، واستقرأه غير واحد من قوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم»؛ فإن المطل لا يكون إلا بالحال، والحوالة رخصة فيقتصر بها على موردها، ولا يشترط حلول ما على المحال عليه، لأنه إذا احتال على من لم يحل كان ذلك زيادة في المعروف. إِلا أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ اشْتَرَطَهُ فِي نُجُومِ الْكِتَابَةِ ظاهر كلامه أن الاستثناء عائد على الجملة الأخيرة، وهي قوله: (وَلا يُشْتَرَطُ حُلُولُ مَا على الْمُحَالِ عَلَيْهِ). ابن عبد السلام: ويحتمل أن يعود عليها وعلى التي قبلها، ويكون الضمير في (اشْتَرَطَهُ) عائد على مطلق الدين الذي هو قدر مشترك بين الدين المحال به والمحال عليه، ويعضد هذا أنه في الجواهر ذكر الخلاف فيهما، ونصه: وتجوز الحوالة على نجوم الكتابة إن كانت الكتابة حالة، ولم يشترط غير ابن القاسم حلولها وكذلك الحوالة بالنجوم، واشترط ابن القاسم حلولها أيضاً، ولم يشترطه غيره انتهى. ولكن اعترض ما حكاه ابن شاس والمصنف في الكتابة المحال عليها، وأما الكتابة المحال بها فاشترط ابن القاسم في المدونة حلولها، قال: وإلا فهي فسخ دين في دين، وقاص ذلك ابن القاسم على ما سمعه من مالك من منع بيع كتابة المكاتب لأجنبي بما لا يجوز قاله في المدونة، وقال غيره: يجوز ويعتق مكانه، لأن ما على المكاتب ليس ديناً ثابتاً، وهو كمن قال لعبده: إن جئتني بمائة دينار فأنت حر، ثم قال: إن جئتني بألف درهم فأنت حر واشترط ابن القاسم الحلول لما تقدم أن من شرط الد=ين المحال به الحلول، ورأي الغير أن ذلك ليس ديناً ثابتاً كالديون، وإلى ذلك أشار الغير بالتشبيه بقوله: وهو كمن قال لعبده ... إلخ، وعارض الأشياخ تشبيه ابن القاسم هذه المسألة بما حكاه عن

مالك من منع الأجنبي أن يشتري كتابه مكاتب بما لا يجوز، فإن الحوالة أمر بين السيد وبين مكاتبه أسقط عنه الكتابة، واعتاض ماله في ذمة الأجنبي، فلم تقع بين السيد وبين الأجنبي مبايعة، وأما بيع الكتابة من أجنبي فهي مبايعة بينه وبين الأجنبي لا بينه وبين مكاتبه، وهذا مفترق، ولهذا اختار سحنون وابن يونس وغيرهما قول الغير هنا، وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أنه يختلف ابن القاسم وغيره إذا سكتا عن شرط تعجيل العتق وعن بقائه مكاتباً، فقال ابن القاسم: يفسخ ما لم يفت بالأداء، وعند غيره يحكم بتعجيل العتق، وأما لو أحال بشرط تعجيل العتق فلا يختلفان في الجواز ولا في عدمه بشرط عدمه. وأما كتابة المحال عليها فلا يشترط ابن القاسم ولا غيره فيها الحلول ولا يعرف فيها من قال به، ونصها في المدونة. ابن القاسم: وإن أحالك مكاتب بالكتابة على مكاتب له وله عليه مقدار ما على الأعلى فلا يجوز لك إلا أن تبتل أنت عتق الأعلى فيجوز. ابن يونس: يريد وإن لم تحل كتابة الأعلى فيجوز بشرط تعجيل العتق، كما لا تجوز الحمالة بالكتابة إلا على شرط تعجيل العتق، قال في المدونة: ثم إن عجز الأسفل كان ذلك رقاً، ولا ترجع على المكاتب الأعلى بشيء، لأن الحوالة كالبيع، وقد تمت حرمته، هذا كله بشرط أن يكون المحال السيد لا الأجنبي. التونسي: والمكاتب جائز له أن يحيل لسيده بما حل من كتابته [541/ب] على ما لم يحل، وإن كان المحال أجبنياً لم يجز. قال: وهي لو حلت لم تجز للأجنبي، لأن الحوالة إنما أجيزت في الأجنبي إذا أحيل على مثل الدين، وههنا قد يعجز المكاتب المحال عليه، فتصير الحوالة قد وقعت على جنس غير الدين، كما لو كان على رجل دين لأجنبي فأراد أن يحيله بذلك على مكاتبه ما جاز ذلك، لأنه قد يعجز فتصير الحوالة قد خالفت ما رخص فيه منها، وهو أن يكون المحال عليه من جنس المحال به.

فإن قيل: فأنتم تجيزون بيع الكتابة مع إمكان أن يشتري كتابته تارة ورقبته أخرى، قيل: أصل الحوالة رخصة، لأنها مستثناة من بيع الدين بالدين، فلا يتعدى بها ما خفف منها انتهى. والاعتراض على ابن شاس أقوى منه على المصنف، لأن ابن شاس صرح بالخلاف فيها. فإن قلت: لا يلزم من عدم الاطلاع على الخلاف ألا يكون، قيل: قال ابن عبد السلام: إنما أنكرنا على المصنف وابن شاس ذكر الخلاف بعد طول البحث عنه في مظانه ولم نجده مع الاستعانة في ذلك بمن يظن حفظه، فإن قلت: لم لا تجعل الاستثناء في قوله: (إِلا أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ اشْتَرَطَهُ فِي نُجُومِ الْكِتَابَةِ) راجعاً إلى الجملة الأولى ليوافق المنقول، ولا يكون حينئذ على كلام المصنف اعتراض. قيل: لم يقل أحد بعوده إلى الجملة الأولى فقط، وإنما اختلاف هل يعود للأخيرة فقط، أو للجميع؟ نعم، قد يعود إلى الأولى بقرينة، ولا قرينة. تنبيه: عارض الأشياخ اشتراطه في المسألة الثانية في الجواز أن يعجل عتق الأعلى وقالوا: لا معنى لهذا الشرط، ورأوا أن لفظ الحوالة كاف في ذلك، لأنها تستلزم براءة ذمة المحيل بنفس عقد الحوالة. المازري: وعندي أن هذا الشرط ليس ملغى، والقدر فيه عندي أن السيد إذا أحيل على كتابة مكاتب لمكاتبه فإنه لم يتعجل قبض الكتابة، فيكون ذلك كما لو قبض من مكاتبه جميع الكتابة، فيكون حراً بقبض جميعها، وهذه هنا لم يقبض، فيمكن أن يكون القصد بها أن يوقف العتق حتى يعلم ما يحصل للسيد الأعلى أو يقصدان بذلك أن يتمادى السيد الأعلى على نجوم كتابة الأسفل، وإن عجز قام له المكاتب الأعلى ببقية الكتابة التي كانت له عليه ولو قصد ذلك لكان ذلك ممنوعاً في أحد القولين، لأن المعاوضة التي لا تجوز بين الأجنبيين يسامح بها بين المكاتب وسيده إذا اشترطا تعجيل العتق، لكون السادات يندبون إلى عتق عبيدهم، ولهم أن يعتقوا بغير

عوض، وندبوا أيضاً إلى أن يضعوا شيئاً من آخر الكتابة استعجالاً للعتق، وإن فعلوا ذلك من غير اشتراط العتق أجروا مجرى الأجانب في التعاوض، هذا أحد القولين: وقيل بالجواز وإن لم يشترط تعجيل العتق التفاتاً إلى أن ما يأخذه السيد وما سلمه كأنه في حكم ملكه. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَجَانِسْينِ، وَلا يِفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا لَوْ أُعْطِيَهُ فَيَجُوزُ بِالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى .... هذا هو الشرط الرابع: (مُتَجَانِسْينِ) كذهب وذهب وفضة بفضة، فلا تجوز الإحالة بذهب على فضة ولا بالعكس. (وَلا يِفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا لَوْ أُعْطِيَهُ) فيكونان متماثلين في القدر والصفة، هذا ظاهر كلامه، لكن قوله بإثره: (فَيَجُوزُ بِالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى) يدل على أنه إنما أراد السلامة من السلف بزيادة، وقد صرح بالجواز فيما إذا تحول من الأعلى عن الأدنى، ولا شك أن إعطاءه الأدنى عن الأعلى مفتقر إلى الرضا، وتقدير كلامه: فيجوز أن يحتال بالأعلى عن الأدنى، كما لو كان له فضة محمدية، فأحيل على يزيدية. وفي بعض النسخ (على) موضع (عن)، وقد وقع ذلك في كلام العرب، ولا يصح أن تكون (عن) باقية على معناها؛ لأنه يكون المعنى حينئذٍ: فيجوز أخذ الأعلى عن الأدنى، وذلك لا يجوز، صرح بذلك غير واحد، ومقتضى كلامه: إذا أعطى من له أدنى على أنه يجبر على قبوله، وهو مثل ماله في السلم، وقد نبهنا هناك على أن ظاهر المذهب خلافه، وما ذكره المصنف من جواز التحول بالأعلى عن الأدنى موافق للّخمي والمازري وابن شاس، ووجهه أنه أقوى في المعروف، فكان جوازه أجدر، كما لو احتال بدين حالٍّ على من لم يحل، وفي المقدمات والتنبيهات: اشتراط أن يكون الدين الذي تحول به مثل الذي تحول عليه في القدر والصفة لا أقل ولا أكثر، ولا أدنى، ولا أفضل؛ لأنه إذا كان

أقل أو أكثر أو مخالفاً في الجنس والصفة لم تكن حوالة وكان بيعاً على وجه المكايسة، وحيث حكم بالمنع في هذا الفصل فإنما ذلك إذا لم يقع التقابض في الحال، وأما لو قبضه لجاز، ففي المدونة: إذا اختلفا في الصنف أو في الجودة والنصف واحد، وهما طعام أو عين أو عرض من بيع أو قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض فلا تصح الحوالة وإن حلاَّ. محمد: إلا أن يقبضه قبل أن يفترقا فيجوز إلا في الطعام من بيع فلا يصح أن يقبضه إلا صاحبه، قال: وكذلك إن كان أحدهما ذهباً والآخر ورقاً فلا يحيله به، وإن حلاَّ، إلا أن يقبضه مكانه قبل افتراق الثلاث وقبل طول المجلس، وهذا مما يؤيد ما قاله ابن رشد والقاضي. وقوله: (لا يِفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا) يحتمل أن يبني للفاعل، وضمير الفاعل فيه عائد على المحيل، وضمير المفعول في (أُعْطِيَهُ) عائد على ما في ذمة المحال عليه؛ أي لا يتوقف على رضا المحيل لو أعطي ما في ذمة المحال عليه؛ أي لا يتوقف على رضا المحيل لو أعطى ما في ذمة المحال عليه، ولا يجوز أن يعود على [542/أ] المحال؛ لأنه يلزم منه أن المحال إذا أعطيه الأعلى جاز، وليس كذلك، ويحتمل أن يكون مبنياً للمفعول، ويكون مفعوله عائداً على ما فهم من الكلام وهو الدين، وضمير (أُعْطِيَهُ) عائد على الدين المحال به؛ أي لا يفتقر إلى الرضا في أخذ الدين المحال به لو أعطيه من له دين. تنبيه: زاد صاحب المقدمات وصاحب التنبيهات شرطاً آخر، وهو ألا يكون الدينان طعاماً من سلم، سواء حلا أو لم يحلا؛ لئلا يدخلا بيع طعام قبل قبضه، وسواء كان الطعامان متفقين أم لا، استوت رءوس الأموال أم لا. وأجاز أشهب إذا اتفقت رءوس الأموال واتفق الطعامان تشبيهاً بالتولية، فإن كان الطعامان من قرض جاز، وإن كان أحدهما من بيع والآخر من قرض جازت الحوالة عند ابن القاسم بشرط حلول الطعامين معاً، وحكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه إلا ابن القاسم جواز الحوالة بشرط حلول المحال به خاصة.

فَلَوْ أُفْلِسَ أَوْ جُحِدَ فَعَلَى الْمُحَالِ إِلا أَنْ يِكُونَ الْمُحِيلُ عَالِماً بِالإفْلاسِ دُونَهُ يعني: فلو أفلس المحال عليه أو جحد الحق بعد تمام الحوالة فالمصيبة على المحال، ولا رجوع له على المحيل لحصول البراءة، إلا أن يكون المحيل عالماً بإفلاس المحال عليه دونه؛ أي دون المحال، فللمحال حينئذٍ الرجوع على المحيل؛ لأنه غرَّه. وقوله: (يعلم دونه) هو ظاهر إذا كان المحال عليه ظاهر الملاء، وأما لو شكل المحال في ملائه، وكان المحيل عالماً بالإفلاس. المازري: الأظهر عندي أن يكون له الرجوع كالأول، ومسألة الفلس صحيحة في المدونة وغيرها، وقيدها المغيرة فقال: إلا أن يشترط المحال الرجوع على المحيل إذا فلس المحال عليه، فيمكن من شرطه، وأما مسألة الجحود فتبع المصنف فيها ابن شاس، وذكر المازري أنه لا يعلم لمالك فيها نصاً، لكنه أشار في تعليل المذهب إلى مثل ما قاله المصنف؛ لأنه قال: وما يشير إليه من أن الحوالة كالقبض يصحح أن الجحود لا يوجب الرجوع على المحيل، وكذلك قال بعض أشياخه: إن الجحود لا يوجب الرجوع على المحيل؛ لأن المحال فرط إذ لم يشهد وعلى هذا عوَّل ابن شاس والمصنف، والله أعلم. وتردد التونسي في هذه المسألة، واختار عدم الرجوع إذا كانت الحوالة على حاضر مقر بالدين، والرجوع إذا كان غائباً، فقال: انظر لو أحاله ثم أنكر المحال عليه أن يكون عليه دين هل يكون ذلك عيباً في الحوالة لقول المحال: لو علمت أنه ليس عليه بينة ما قبلت الحوالة. أو يقال: أنت مفرط حين أحالك عليه، وهو حاضر مقر ولم تشهد عليه، وهذا هو الأظهر، ولكن لو لم يحضر فقبل الحوالة، فلما حضر أنكر لا ينبغي أن يكون للمحال في ذلك حجة.

المازري: وعندي أن النظر يقتضي فيما قاله تفصيلاً، فإن كان الغالب في الديون الإشهاد عليها وترك ذلك نادر، وقال المحال حين جحود المحال عليه: إنما لم أشهد ليقيني بأن المحيل قد كان أشهد عليه على ما تقتضيه العادة، فلما كتمني أنه لم يشهد عليه صار ذلك كالتغرير منه فوجب لي الرجوع عليه، كما لو علم بفقر المحال عليه فكتمه، وأما إطلاقه القول بأن الحوالة إذا كانت على غائب أن يرجع فصحيح، بشرط أن يكون المحال لم يصدق المحيل في كونه يستحق ديناً على الغائب، وأما لو صدقه في ذلك وقبل الحوالة وهو يعلم ألا بينة على الغائب، فهذا مما ينظر فيه. وقد اختلف المذهب الاختلاف المشهور في رجل أتى لمن عنده وديعة لإنسان فقال: أرسلني من أودعكها لإقباضها، فصدقه فيما ذكر ودفعها له، ثم قدم صاحب الوديعة وأنكر الإرسال، وحكم على دافعها بغرامتها؛ هل له أن يستردها ممن قبضها ويكون إنما صدقه بشرط أن يأتي صاحب الوديعة ويصدقه فيسترد منه ما أعطاه، أو يكون تصديقه له يمنع من الرجوع على الرسول لاعتقاده أن صاحب الوديعة ظلمه في طلبه بالغرامة وقد أخذها منه؟ وهذا يلاحظ ما نحن فيه من اعتبار كون المحال إنما صدق المحيل بشرط أن يأتي الغائب فيقر بالدين أو صدقه على الإطلاق، واعتقد أنه لم يكذب. انتهى. ويقع في بعض النسخ عوض (جحد) (حجر) من الحجر، لكن الظاهر هي النسخة الأولى؛ لأنه يستغني عن الحجر بالفلس، ونقل المازري وغير واحد أنه لا يلزم المحال عند ذلك الكشف عن ذمة المحال عليه هل هو غني أو فقير، بخلاف شراء الدين فإنه لا يجوز إلا بعد أن يكون من عليه الدين حاضراً مقراً يعرف غناه من عدمه، وفرق المازري بينهما بأن الدين المشترى يختلف مقدار عوضه باختلاف حال المديان من فقير أو غني، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولاً فإذا لم يعلم حال المديان صار مشترياً بالمجهول، والحوالة ليست ببيع على أحد الطريقين عندنا؛ بل طريقها المعروف.

وعورض ما ذكره المصنف وهو المذهب من أن علم المحيل بإفلاس المحال عليه يوجب للمحال الرجوع إلى ذمة المحيل إن كان غره بما في كتاب المساقاة من المدونة: أن من باع بثمن إلى أجل والمشتري مفلس ولم يعلم البائع بذلك فقد لزمه البيع ولا مقال له. وفرق التونسي والمازري بينهما بأن البياعات تتكرر كثيراً لشدة الحاجة إليها وعدم الغنى عنها، فصار الكشف عن ذمة المشتري مما يشق، فلو لم يجز البيع للبائع إلا بعد الكشف عن ذمة المشتري والبحث عنها لتوقف أكثر البياعات بخلاف الحوالة فإنها لا تتكرر، فلا يعسر الكشف عن ذمة المحال عليه، وزاد المازري فرقاً آخر وهو أن البائع يدفع للمشتري سلعة تقارب الثمن الذي يحل في ذمته فاستغنى بذلك عن الكشف بخلاف الحوالة. ابن عبد السلام: وأشبه [542/ب] ما قيل في الفرق أن الحوالة بيع ذمة بذمة، وفلس الذمة عيب فيها فيوجب أن يثبت الخيار للمحال بسبب ظهوره على ذلك العيب، والعوض في مسألة المدونة المذكورة إنما هو الدين لا الذمة، قال: وهو ضعيف من وجهين: أحدهما: لا معنى لكونه الذمة هي العوض في الحوالة إلا أن الدين تعلق بها، وهذا مثله في مسألة المدونة قطعاً. الثاني: سلمنا أن فلس الذمة عيب في الحوالة، لكن العيوب لا يشترط في القيام بها علم البائع وتدليسه؛ بل لمن اطلع على العيب القيام به، سواء علم به البائع أم لا. وهكذا اعترض غير واحد هذه المسألة بأن فلس المحال عليه حين الحوالة إما أن يكون عيباً أم لا؛ فالأول: أن يكون للمحال الرجوع على المحيل سواء علم المحيل بفلس المحال عليه أم لا كغيره من العيوب، والثاني: لا يكون له الرجوع مطلقاً. وأجيب بأنه عيب مع علم المحيل لغرره، وأجاب عبد الحق بأن البيع مبني على المكايسة، فغلظ على البائع فيه، والحوالة طريقها المعروف فسهل على المحيل إلا أن يغر. وأجاب الباجي بأن العيب في السلعة عيب في نفس العوض، وفلس المحال عليه عيب في محل العوض لا في نفسه، وبأن الحوالة بمنزلة بيع البراءة فلا يرجع إلا بما علمه البائع،

وبأن الذمم مما يخفى ظاهرها فصارت كالمبيع الذي لا يعلم باطنه فلا يرد إلا أن يعلم أن البائع دلس بعيب. فرع: فإن جهل أمر المحيل هل علم بفلس المحال عليه أم لا؟ فقال مالك: ينظر في ذلك، فإن كان يتهم أحلف. الباجي: أي يكون ممن يظن به أنه يرضى بمثل هذا حلف. فَلَوْ أَحَالَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ ثُمَّ رَدَّ بِعَيْبٍ أَوِ اسْتُحِقَّ انْفَسَخَتِ الْحَوَالَةُ عِنْدَ أَشْهَبَ، وَاخْتَارَهُ الأَئِمَّةُ، وَمَضَتْ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَالْمَعْرُوفِ أَوْ كَالْبَيْعِ .... يعني: فلو باع رجل سلعة من رجل، ثم أحال البائع على ثمنها من له عنده دين، ثم استحق المبيع من يد المشتري أو رد بعيب، فلأشهب في الموازية تنفسخ الحوالة، واختاره محمد وأكثر المتأخرين. محمد: وبه قال أصحاب مالك كلهم، وهذا معنى قوله: (وَاخْتَارَهُ الأَئِمَّةُ). وقاسه محمد على ما اتفق عليه أصحاب مالك من أن المفلس إذا بيع متاعه في دين وجب عليه، وأخذ ذلك غرماؤه ثم استحق المبيع فإن المشتري يرجع الثمن على من قبضه، ورده المازري بأن الغرماء لهم الدين كأنهم باعوا بأنفسهم، فعليهم أن يردوا الثمن إذا استحق المشتري منه، ومسألة الحوالة وقعت فيها يد ثالثة؛ وهي يد المحال، فصار ذلك كفوت الثمن، وقال ابن القاسم: وهو المنقول عن مالك: تمضي الحوالة. قوله: (وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي) هو من تمام قول ابن القاسم: إذا قلنا بإمضاء الحوالة فإن المشتري يدفع الثمن للمحال، ثم يرجع به على البائع بناء على أن الحوالة هل هي كالبيع، أو إنما طريقها الإرفاق والمعروف؟ وقول أشهب مبني على أن الحوالة كالمعروف والصدقة فينتقض بانتقاض ما بنيت عليه، كما إذا تصدق البائع بثمن سلعة أو وهبة، ثم استحقت السلعة فإن الهبة والصدقة تبطل إذا لم يقبضها على قول أشهب والمعروف من

قول ابن القاسم، وسيأتي آخر المسألة ما في ذلك، وقول ابن القاسم مبني على أن الحوالة كالبيع؛ أي كبيع وقع بعد بيع، فيكون بمنزلة من باع عبداً بمائة دينار ثم اشترى بالمائة من المشتري ثوباً ثم استحق، فإن البيع في الثوب لا يبطل ببطلان ما يبنى عليه، وهو بيع العبد. المازري: وأشار بعض الأشياخ إلى أن الخلاف مبني في مسألة الحوالة على أنه هل تقدر الحوالة كالفوت لما وقعت فيه فيكون الأمر كما قال بن القاسم، أو ليس كالفوت فيكون الأمر كما قال أشهب؟ واعلم أن قول أشهب مبني على أن رد السلعة بعيب نقض للبيع من أصله، وعلى قوله إن لم يكن دفع الثمن للمحال فلا يلزمه، وإن كان قد دفعه إليه استرجعه، فإن فات عنده على مذهبه مضى له، ورجع المشتري بالثمن على البائع. قال في البيان: وقيل لا يلزمه أن يدفعه إليه فإن دفعه إيه لم يكن له أن يأخذه منه ورجع على البائع، وقيل: لا يلزمه أن يدفعه إليه، وكان له أن يرجع به عليه وإن فات من يده، وإن شاء رجع على البائع؛ لأن الغيب قد كشف أنه أحاله بما لم يملك، قال: وأما على القول بأنه ابتداء بيع فيلزمه أن يدفع إلى المحال الثمن قولاً واحداً. واعلم أن الخلاف الذي ذكره المصنف مقيد بما إذا كان البائع قد باع ما ظن أنه يملكه، وأما لو باع ما ظن أنه لا يملكه مثل أن يبيع سلعة لرجل ثم باعها من ثانٍ وأحال على الثاني بدين، فلا يختلف أن الحوالة، ويرجع المحال على غريمه، ووقع في المذهب مسألة اضطرب النقل فيها أشار بعضهم إلى إجراء ما فيها من الخلاف في مسألة الحوالة، قالوا: إن أصبغ وأبا زيد رويا عن ابن القاسم في العتبية فيمن باع عبداً بمائة، ثم تصدق بها على رجل وأحاله بها وأشهد له بذلك ثم استحق العبد أو رد بعيب: أنه إن كان المتصدق عليه قبض الثمن وفات عنده لم يرجع عليه بشيء، وإن لم يفت بيد المعطي أخذها منه المشتري، ولا شيء للمعطي.

ابن زرقون: كذا نقله صاحب النوادر وهو هم، والذي في سماع أصبغ وأبي زيد في العتبية أنها تفوت بمجرد القبض فإذا قبضها الموهوب له لم يتبع بها إلا الواهب، بمنزله ما لو قبضها الواهب ثم تصدق بها، وقال ابن القاسم في الموازية مثل ما حكاه أبو محمد عن العتبية، وروى عيسى عن ابن القاسم في المدونة أن نفس الهبة فوت، ويلزم المبتاع أن يدفعه إلى المتصدق عليه والموهوب إذا كان قد جمع بينهما فأقر له، ويرجع بالثمن على الواهب وهو قول بعض الرواة [543/أ] في المدونة في النكاح الثاني في المرأة تهب صداقها لرجل، ثم تطلق قبل الدخول: أنه يلزمه أن يدفع جميعه إلى الموهوب له ويرجع بنصفه على المرأة، قال: ويأتي على ما حكاه محمد عن ابن القاسم في المرأة تأخذ صداقها فتتصدق به وتطلق قبل الدخول أنه يرجع عليها بنصف الصداق، وترجع هي به على المتصدق عليه؛ لأنها تصدقت عليه بما لا يصح لها ملكه ألا يفوت ذلك في مسألة الحوالة بحال، وإن قبضه الموهوب له واستهلكه لأنه وهب ما لم يملك، قال: ويجري فيها قول خامس أنه إن كان البائع الواهب عديماً كان للمشتري أن يمسك الثمن إن كان لم يدفعه، وإن كان مليئاً لزمه أن يدفعه إلى الموهوب له ويتبع به الواهب، وهو قول ابن القاسم في المدونة في مسألة هبة الصداق المذكورة، وهذا إنما هو إذا بنينا مسألة الحوالة على المعروف لا على البيع فاعلمه. وَإِذَا جَرَى لَفْظُ الْحَوَالَةِ وَتَنَازَعَا فَقَالَ الْمُحِيلُ: وَكَالَةٌ أَوْ سَلَفٌ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الأَصَحِّ .... يعني: إذا صدر لفظ الحوالة بين رجلين، فقال له مثلاً: أحلتك على فلان، فقبضه المحال، فقال المحيل: إنما أردت بذلك التوكيل أو التسلف، وقال المحال: بل قبضته من دين لي عليك، فالأصح أنه لا يقبل قول المحيل تغليباً للفظ الحوالة، وقيل: القول قوله؛ لأنه لا تدرى إرادة نفسه ولا يعلم ذلك إلا من قوله، وأراد بالأصح قول ابن الماجشون في المبسوط في مسألة الوكالة، قال فيمن تحول بدين له على رجل، فقال المحيل: ادفعه لي

لأني إنما وكلتك في قبضه وتسليمه إليَّ، وقال المحال: بل كنت استحققه عليك ديناً قبل الحوالة، فإن كان القابض ممن يشبه أن يكون له قبل المحيل سبب حلف وسقط عنه قول المحيل، وإن لم يشبه فإنما هو وكيل، ويحلف ما أدخله إلا وكيلاً. اللخمي: وأرى أنه حوالة حتى يقوم دليل على الوكالة؛ مثل أن يكون هذا ممن يتصرف لصاحب الدين أو تكون عادته التوكيل على التقاضي، وهذا ممن يتوكل في مثل هذا المال، وغير الأصح هو قول ابن القاسم في العتبية في السلف، قال في من أحال رجلاً بدين له على رجل: فقال المحيل: إنما أحلتك على دين لي ليكون ذلك سلفاً عندك، وقال القابض: أخذته عن دين كان لي عليك وإحالتي إقرار منك بحقي، أن القول قول المحيل وهو سلف. اللخمي: بعد قول ابن الماجشون وابن القاسم والمسألتان سواء. وعلى هذا فإن في كل واحدة قول، وخرج فيها قول آخر من الأخرى، وعلى هذا اعتمد المصنف، لكن قدح المازري فيما أخذه من قول ابن القاسم، قال: لأن قول المحيل إنما قبضته ليكون سلفاً لي عليك، يشبه الحوالة على الدين؛ لأنه لما التزم له أن يسلف مائة صار ذلك كدين له عليك لمن سألك في التسلف، فصارت الحوالة ههنا بدين على دين باتفاقهما جميعاً، وإنما تنتقل المسألة إلى أصل آخر وهو أن من قال: قبضت من زيد مائة كانت لي عليه ديناً، وقال زيد: إنما دفعتها إليك لتكون لي سلفاً، فإن في المسألة قولين: قيل: يصدق القابض؛ لأنه ما أقر بعمارة ذمته ولا أقر إلا بقبض شرط فيه أنه يستحقه، فلا يؤخذ بأكثر مما أقر به، والقول الآخر أن القول قول الدافع في أنه إنما دفع ذلك سلفاً؛ لأن القابض لو أتاه قبل أن يقبض منه شيئاً فقال: لي عليك دين، فأنكر المدعى عليه، فإن الإجماع على أن القول قول المدعى عليه، فكذلك يجب أن يكون القول قوله في صفة ما دفع وأنه دفعه سلفاً لا قضاء، ثم قال: وإذا تقرر هذا فإذا قضى القاضي، بأن القول قول

المحال في أنه قبض ما استحق فلا تفريق، وإن حكم بأن القول قول المحيل فهل للمحال أن يرجع على المحيل؟ اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إذا رفع أمره إلى القاضي لم يحكم له على المحيل بشيء؛ لأنه قد اعترف المحيل ببراءة ذمته بالحوالة، فليس له أن يطالب ذمته بدين وهو معترف ببراءتها منه، ولا يصح أن يحكم له القاضي بما يعرف أن الحكم به باطل، ومنهم من ذهب إلى أنه يحكم له القاضي؛ لأن الذي حكم به القاضي من تصديق المحيل في أنه وكل وكالة على القبض لا يقتضي سقوط دعوى المحال، قال: وهذا القول إنما يتصور عندي لو كان المحيل معترفاً بدين المحال، ولكن المنازعة إنما وقعت في المقبوض. خليل: وانظر على هذا لو ادعى رب الدين على المديان أنه أحاله، وأنكره المديان فتوجهت اليمين عليه وحلف هو: هل يجوز له إذا أنكر المحال عليه الحق أن يطالب المديان؛ لأن مقتضى دعواه أنه لم يبق له قبله شيء، وإنما المحال عليه هو الذي ظلمه، أو يقال: من حُجة صاحب الدين أن يقول للمديان: أنت لما أنكرت الحوالة فأنت معترف ببقاء حقي في ذمتك، ونظير هذه المسألة لو ادعى الزوج الدخول وأنكرت ثم طلقها، فهل لها أن تطلبه بجميع الصداق لاعترافه، أو ليس لها؛ لاعترافها أنها لا تستحق إلا النصف؟ في ذلك خلاف. وقوله: (جَرَى لَفْظُ الْحَوَالَةِ) يقتضي أن الحوالة تفتقر إلى اللفظ، وهو صحيح، ففي العتبية عن ابن القاسم في المطلوب يذهب بالطالب إلى غريم له فيأمره بالأخذ منه ويأمره الآخر بالدفع، فيتقاضاه فيعطيه بعض الحق أو لا يعطيه شيئاً؛ لأن للطالب أن يرجع على الأول؛ لأنه يقول: ليس هذا حوالة بالحق، وإنما أردت أن أكفيك التقاضي، وإنما وجه التحول أن يقول: أحيلك بحقك على هذا وأبرأ إليك، وكذلك أيضاً لو قال: خذ من هذا حقك وأنا بريء من دينك. وما أشبه ذلك، قاله في البيان. قال بعض الشيوخ: وكذلك لو قال: اتبع فلاناً بحقك على الحوالة [543/ب] فاختلف قول مالك

إذا قال: اتبع فلاناً، ولعله رأى في القول بأن ذلك حوالة أن قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» يدل على ذلك، وهذا معنى ما ذكره في البيان. فرع: إذا مات المحال عليه، فقال المحال: أحلتني على غير أصل دين فأرجع عليك، وقال المحيل: بل على دين فالقول قول المحيل. * * *

الضمان

الضَّمَانُ: شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ هذا التعريف لصاحب التلقين، وتصوره ظاهر، وأورد عليه أنه غير جامع لخروج ضمان الوجه وضمان الطلب، وأجيب بأن ضمان الوجه تشغل فيه ذمة أخرى على المشهور، وأما عل الشاذ فهو كضمان الطلب، وإطلاق الضمان عليهما بالمجاز، والعلاقة المشابهة. فإن قيل: لا نسلم أنَّ إطلاق الضمان عليهما بالمجاز بل بالحقيقة، قيل: فيلزم حينئذٍ الاشتراك؛ لأن الضمان حقيقة في ضمان المال، ودعوى المجاز خير من دعوى الاشتراك ولو سلم فتكونان حقيقتين مختلفتين، والحقيقتان لا يجمعان في حد واحد، ولما كان غير ضمان المال هو المقصود من هذه الباب حده المصنف. وأورد أيضاً على جمعه أن الضمان كما يكون شغلاً للذمة، فقد يكون شغلاً للذمتين فأكثر، وأجيب بأن المراد بـ (ذِمَّةٍ أُخْرَى) الجنس. وأورد أيضاً على منعه أن من باع رجلاً بدين ثم باع آخر بدين يصدق عليه الحد وليس بضمان، وأجيب بأن الظاهر أن (أل) في (الْحَقِّ) للعهد، والمعهود الحق الذي في الذمة الأولى. وأورد عليه أيضاً أن لفظ (الْحَقِّ) شامل للحق البدني والمالي، وأجيب بأن الحقوق البدنية خارجة بقول: (شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى) لأن الذمم لا تشغل بالحقوق البدنية. وأورد على منعه أنه لو اشترى سلعة وأشرك غيره فيها لشغل ذمة أخرى، وكذلك لو ولاه، وأجيب بأن الشاغل هنا مختلف، فإن البائع شغل ذمة المشتري والمشتري شغل ذمة المولي والمشرك، ورد بأن ليس في التعريف ذكر اتحاد الشاغل حتى يخرجهما. وأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ وفي بعض النسخ (خمسة).

ابن عبد السلام: إن عددت الصِّيغة، وإلا فهي أربعة، والأقرب أن الصيغة دليل على الماهية التي الأركان أجزاؤها، والدليل غير المدلول. انتهى. وفي الجواهر أركانها خمسة، وذلك يرجح أن المصنف قصد أن الصيغة ركن؛ لأن الغالب أنه يتبعه، ورجح ذلك أيضاً القياس على البيع ونحوه. الْمَضْمُونُ عَنْهُ لا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ إذ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ أي الركن الأول (الْمَضْمُونُ عَنْهُ) وهو الذي عليه الدَّين، والفقهاء يخصصونه باسم الغريم - لا يشترط رضاه، بل يجوز لغيره أن يضمن عنه الدين بغير رضاه. واستدل المصنف على ذلك بقوله: (إذ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ) يعني وإذا جاز أن يؤدَّى عنه فالتزامه في الذمة أولى، ولإقرار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمان من ضمن الميت على ما رواه البخاري وغيره، والرضا منه متعذر، وفيه بحث. أَمَّا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مُضَارّاً لِعَدَاوَةٍ وشِبْهِهَا فَلا يُمَكَّنُ مِنْهُ أتى بأما المقتضية للتفصيل؛ يعني أما ما تقدم من جواز الأداء من غير الرضا إنما هو مع عدم العداوة، وأما لو قصد بذلك ضرر المديان لعداوة بينهما لم يكن من طلبه ورد قضاؤه. وَفُهِمَ من قَوْلِهِ: (فَلا يُمَكَّنُ) أنه يمكن في الوجه الأول من المطالبة، ويحتمل قول المصنف (فَلا يُمَكَّنُ مِنْهُ) أنه لا يمكَّن العدو من دفع الدين ابتداء، والأول أولى؛ لأن عدم التمكين من المطالبة مستلزم للمنع ابتداءً بخلاف العكس. قال في المدونة: ومن أدَّى عن رجل ديناً بغير أمره أو دفع عنه مهر زوجته جاز ذلك إن فعله رفقاً بالمطلوب، وأما إن أراد الضرر بطلبه وإعناته وأراد سجنه لعدمه لعداوة بينه وبينه منع من ذلك، وكذلك إن اشتريت ديناً عليه تعنيتاً لم يجز البيع ورد إن علم بهذا،

وظاهرها عند ابن يونس وغيره أن قصْدَ المشتري وحده الإضرار كافٍ في فسخ المعاوضة، وكذلك قال بعض المتأخرين، وقيل: لا بد أن يكون البائع عالماً بقصد المشتري الضرر، وإلا لم يفسخ، ويباع الدين على المشتري فيرتفع الضرر. ابن يونس: وهو أظهر. اللخمي: ويرد القضاء إذا صدر من عدو إلا أن يعنت الطالب بالمال فيقيم القاضي وكيلاً ليقبض ذلك من الغريم. وقوله: (وشِبْهِهَا) أي شبه العداوة كمن عادته الضرر بالناس والتسلط عليهم. وَلَوْ تَنَازَعَا فِي أَنَّهُ دَفَعَهُ مَحْتَسِبَاً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ إِلا بِقَرِينَةٍ يعني: إذا ادعى رجل على آخر ديناً ثم قام الدافع يطلب المال وقال المدفوع عنه: إنما دفعت عني على وجه المعروف احتساباً، فالقول قول الدافع؛ لأن الأصل عدم خروج ملكه إلا على الوجه الذي قصده، إلا أن تقوم قرينة تدل على كذب الدافع، كما إذا دفع عن الميت المفلس ثم ظهر له مال لم يعلم به فطلب الرجوع. ابن عبد السلام: إلا أن تقوم قرينة، فينبغي أن يحلف الدافع حينئذٍ ويأخذ ما دفع. وَلا يَجُوزُ ضَمَانٌ بِجُعْلٍ أي: لا يجوز للضامن أن يأخذ جعلاً، سواء كان من رب الدين أو المديان أو غيرهما. المازري: وللمنع علتان أولاهما: أن ذلك من بياعات الغرر؛ لأن من اشترى سلعة وقال لرجل: تحمل عني بثمنها وهو مائة على أن أعطيك عشرة دنانير، أو باع سلعة وقال الآخر: تحمل عني الدرك في ثمنها إن وقع الاستحقاق وأنا أعطيك عشرة لم يدر الحميل هل يفلس من تحمل عنه، أو يغيب فيخسر مائة دينار، ولم يأخذ إلا عشرة أو يسلم من الغرامة فيغرم العشرة؟

ثانيهما: أنه دائر بين أمرين ممنوعين؛ لأنه إن أدى الغريم كان له الجعل باطلاً، وإن أدى الحميل ورجع به على المضمون صار كأنه سلف ما أدَّى وربح ذلك الجعل، فكان سلفاً بزيادة ملك ويرد الجعل. ابن القاسم في الموازية والواضحة: وإن علم بذلك الطالب سقطت الحمالة، وإلا ردَّ الجعل والحمالة تامة، وقاله مطرف وابن الماجشون وابن وهب وأصبغ. وهذا [544/أ] إذا كان الفساد في الحمالة، أما إن كان الفساد في المتحمل به فكما لو أعطاه ديناراً في دينارين إلى شهر وتحمل له رجل بالدنانير فثلاثة أقوال: الأول: لابن القاسم في المدونة والعتبية، ورواه عن مالك وهو قول ابن عبد الحكم أن الحمالة ساقطة، ومثله في الموازية؛ لأن فيها: وكل حمالة وقعت على حرام بين المتبايعين في أول أمرهما أو بعد فهي ساقطة، ولا يلزم الحميل بها شيء علم المتبايعان أن ذلك حرام أو جهلاه، علم الحامل بذلك أو جهله. محمد: وسواء كان الفساد من عقد البيع أو سببه، وهو قول أشهب أن الحمالة بالحرام أو بالأمر الفاسد باطلة ووجه هذا القول أن الذي تحمل به هذا الحميل وهو الثمن لما سقط عن المتحمل عنه لفساد البيع سقط عن الحميل. القول الثاني: أن الحمالة لازمة على كل حال، علم الحميل بفساد البيع أو لا، وهو قول ابن القاسم في العتبية، وقول غيره في المدونة وقول سحنون في نوازله، ووجهه أن الكفيل هو الذي أدخل المتحمل له في دفع ماله للثقة به، فعليه الأقل من قيمة السلعة أو الثمن الذي تحمل به. الثالث: التفصيل بين علم الحميل بالفساد فعليه أو لا فلا شيء عليه، وهو لابن القاسم في العتبية، قال في الذي يعطي ديناراً في دينارين ويتحمل له رجل بالدينارين: إن

كان علم علتهما فعليه الدينار الذي أعطاه، وإن لم يعلم فلا شيء عليه؛ لأنه يقول: لو علمت لم أتحمل ولم أدخل في الحرام، وهذا الخلاف إنما هو إذا كانت الحمالة في أصل البيع الفاسد، وأما إن كانت بعد عقده فهي ساقطة بالاتفاق. تنبيه: لا خلاف في ما ذكره المصنف من منع الضمان بالجعل إذا كان الجعل للحميل، قاله اللخمي. واخْتُلف إذا كان رب الدَّيْن أعطى المديان شيئاً على إعطائه حميلاً، فأجازه مالك وابن القاسم وأشهب وغيرهما، وعن أشهب في العتبية لا يصح، وعنه أيضاً أنه كرهه. اللخمي وغيره: والجواز أبين، وهذا إن حل الدين. اللخمي: ولو قال الحميل: أنا أتحمل لك على أن تعطي لفلان - لغير الغريم - ديناراً، لم يجز. وقال أشهب في الموازية في من له على رجل عشرة دنانير إلى أجل فقال له قبل الأجل: هل لك أن أحط عنك دينارين وتعطيني بالثمانية رهناً أو حميلاً -: لا بأس به. وقال ابن القاسم: لا يجوز. اللخمي: وإنما منعه ابن القاسم؛ لأن الطالب إنما أخذ الحميل الآن خوفاً أن يعسر الغريم عند الأجل فيصبر إلى أن يوسر فإذا أعطاه حميلاً إلى أجل كأن قد تعجل دينه قبل الوقت الذي يصير إليه إذا لم يعطه حميلاً، فيصير بمنزلة من وضع بعض دينه لتعجيله قبل الأجل. وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَضْمَنَ أَحَدُهُمَا لِيَضْمَنَهُ الآخَرُ. أي: ولأجل امتناع الضمان بجعل امتنع ضمان شخص ليضمنه الآخر؛ لأن كل واحد ضمن صاحبه بجعل، وهو ضمان صاحبه له.

أَمَّا لَوِ اشْتَرَيَا سِلْعَةً بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ جَازَ لِلْعَمَلِ يعني: أن ما قدمه من منع ضمان أحدهما ليضمنه الآخر محمول على ما إذا لم يشتريا سلعة بينهما على التسوية، فإن هذه الصورة جائزة، وإن كان يدخلها الضمان بجعل، لكن جوزت لعمل الماضين. ومفهوم قوله: (اشْتَرَيَا) أنه لو باع رجلان سلعة على أن كل واحد منهما حميل بالآخر لم يجز، وهو قول ابن لبابة، لكن قال ابن رشد: الصحيح خلافه، فقد أجاز في السلم الثاني من المدونة أن يسلم إلى رجلين على أن كل واحد منهما حميل بالآخر، ومنع في البيوع الفاسدة أن يبيع الرجلان سلعتيهما من رجل على أن كل واحد منهما حميل بالآخر وجعلها بعضهم اختلاف قول. ابن رشد: والصواب خلافه، والفرق بينهما أن مسألة البيوع الفاسدة لم تكن كل سلعة شركة بين المتبايعين، ولذلك منع لأنه قد تستحق سلعة أحدهما ولا تستحق سلعة الآخر. والفرق على قول ابن لبابة بين البيع والشراء أن المشتريين لو دفع البائع السلعة إلى أحدهما فيما عليه وعلى صاحبه جاز، ولون دفع المشتري إلى أحد المتبايعين اللذين كل واحد منهما حميل بصاحبه جميع الثمن، لم يجز. ومفهوم قوله أنهما لو اقترضا على أن يكون كل واحد منهما ضامناً للآخر لم يجز، وهو قول ابن الفخَّار، وأجاز ذلك ابن أبي زمنين وابن العطار. ابن عبد السلام: وهو الأصح عندي. وقوله: (سِلْعَةً) أي فأكثر، نص عليه ابن يونس في السلم الثاني. وقوله: (عَلَى السَّوَاءِ) احترازاً مما لو كان لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان، وتحمل كل واحد منهما بما على الآخر أيضاً مما اشتريا، فإنه يمتنع إلا أن يتحمل صاحب الثلث بمثل ما تحمل به الآخر فإنه جائز، نص عليه عبد الحق.

وهذا يرد على المصنف؛ لأن مفهوم كلامه المنع في هذه الصورة، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: (عَلَى السَّوَاءِ) راجع على الحمالة. ويجُوزُ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ لأنه معروف منه، ولا خلاف فيه عندنا. الْمَضْمُونُ لَهُ هذا هو الركن الثاني والمضمون له هو رب الدَّيْن. وفي بعض النسخ: (المضمون) فيعود على الدَّيْن، وكل منهما لا تشترط معرفته كما نبه عليه المصنف بقوله. ولا تُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ فَلَوْ تَحَمَّلَ دَيْنَ الميِّتِ وطَرَأَ غَرِيمٌ لَزِمَهُ وهو ظاهر التصور. الضَّامِنُ: شَرْطُهُ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ ضَمَانُ الزَّوْجَةِ فِي الثُّلُثِ هذا هو الركن الثالث، واشترط فيه أن يكون أهلاً للتبرع؛ لأن الضمان قد يلزم منه تسليف الغريم ما في ذمته، والسلف عقد معروف. خليل: على أنَّ الضمان عند أهل المذهب يكفي في الالتزام ممن حصلت له أهلية، ولا يشترطون فيه الحيازة من جانب آخر كما تشترط في غيره من أبواب المعروف، وهكذا [544/ب] في المدونة. ابن يونس: لأنها هبة للذي له الدَّيْن، فلم يفتقر إلى القبض كحميل الصداق عن الزوج للزوْجة لا يبطل بموت الحميل، وحكى المازري في ذلك قولين في المذهب: أحدهما: أن عدم الحوز فيها كعدم الحوز في الهبة.

والثاني: أنه يخالفها لحق المتحمل له، وخرج بأهلية التبرع الصبي وفاقد العقل والعبد والمريض فيما زاد على الثلث، ومذهب المدونة جواز كفالته بالثلث، وقال محمد: حمالة المريض جائزة ما لم يدخل على أهل دينه نقص بها ولا يكون المتحمل عنه مليئاً، فإن كان مليئاً جازت بكل حال، وقال عبد الملك: إن كان الغريم مليئاً لزمته الكفالة بالثلث، وإن كان عديماً بطلت ولم تكن في الثلث؛ إذ لم يرد بها الوصية، وكذلك المرأة ذات الزوج فيما زاد على ثلثها إلا أن يجيزه الزوج، وأما في الثلث فيصح أنها أهل للتبرع فيه. وإلى هذا أشار بقوله: (فَيَصِحُّ ضَمَانُ الزَّوْجَةِ فِي الثُّلُثِ)، يريد وما زاد عليه يسيراً كالدينار ولا خلاف في منعها فيما زاد على الثلث إذا كان الغريم معسراً، وأما إذا كان موسراً فقال اللخمي: منعه ابن القاسم، وأجازه ابن الماجشون، وهو أشبه؛ لأن الغالب السلامة، ونبه المصنف على ذات الزوج؛ لأنه قد يتوهم الجواز فيها مطلقاً لكونها لا تؤدي شيئاً في الحال. تنبيه: لا إشكال في أن منع الزوجة من الحمالة فيما زاد على ثلثها إنما هو لحق الزوج، فلذلك إذا ضمنته هو جاز وإن استغرق مالها، فإن ادعت أنه أكرهها على أن تحملت له أو عنه لم يقبل منها إلا ببينة عند ابن القاسم، ووافقه أشهب في الحوالة لها به، وألحق بالبينة إذا كان المتحمل له عالماً بأن زوجها أكرهها، قال: فإن أنكر المتحمل له العلم فعليه اليمين إن ظن به ذلك كالجار القريب والنسب، وقال فيما إذا ادعت أنه أكرهها على أن تحملت له: إن عرف بالإساءة لها وقهرها فالقول قولها، ورأى أن هذه قرينة حال تشهد بصدقها. محمد بن عبد الحكم: وإن تكفلت ذات زوج برجل آخر على ألا مال عليها فلزوجها رد ذلك؛ لأنه يقول: تحبس وأُمنع منها، وتخرج للخصومة وليس ذلك عليَّ.

وَإِذَا رَدَّ السَّيِّدُ ضَمَانَ الْعَبْدِ أَوِ الْمُدَبَّرِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يُتْبَعْ بِهِ إِذَا عَتقَ دلَّ كلامه على أنهم ليس لهم أن يضمنوا ابتداء من غير إذن السيد لحقه، ودل أيضاً على أن ضمانهم موقوف، وأن للسيد إجازته ورده. وقوله: (رَدَّ) محمول على مجرد عدم الإجارة، وأما لو أسقط ذلك عنهم لما لزمهم شيء بعد كسائر عطاياهم، نص عليه في المدونة، ومذهبها جواز ضمان المكاتب بإذن السيد، وقال غيره فيها: لا يجوز، والمشهور: ليس له أن يضمن بغير إذنه خلافاً لابن الماجشون. وليس للسيد أن يجبر عبده على الضمان على المشهور، وجعل في المدونة في باب الكفالة رد السيد رد إبطال، وفي الاعتكاف ما يدل على أنه رد إيقاف؛ لأنه فيه إن نذر عبدٌ عكوفاً فمنعه سيده لزمه ذلك إن عتق، وكذلك المشي والصدقة إذا نذر ذلك فلسيده منعه، فإن عتق يوماً لزمه ما نذر من مشي أو صدقة إن بقي ماله ذلك بيده، فرأى بعض الأندلسيين أنه اختلاف قول، وقال بعض القرويين: معنى قوله: (إن بقي ماله ذلك بيده) أي المال الذي نذر فيه لا الشيء المتصدق به بعينه، وقال ما في الاعتكاف منع ولم يرد، والذي في النذور رد، ولا خلاف أن رد الغرماء رد إيقاف ولا يستلزم الإذن في التجارة الإذن في الحمالة على مذهب المدونة خلافاً لابن الماجشون، وعلل القاضي إسماعيل قوله بأن في تحمله استئلافاً لمن يعامله ويتحمل عنه. وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ، وَفِيهَا: لا يُطَالِبُ الكَفِيلَ والأَصْلُ حَاضِرٌ مَلِيءٌ لَكِنْ إِذَا غَابَ أَوْ فلِسَ، ورَآهُ كَالرَّهْنِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِلْطَاطاً .... الجوهري: يقال لطَّ الرجل إذا اشتد في الأمر والخصومة، وقال قبله: لطَّطَه؛ أي حجره، وهذان القولان لمالك في المدونة وغيرها كان أولاً يقول: له أن يأخذ من شاء منهما، ثم رجع إلى أنه لا يطالب الضامن والأصل حاضر مليء، وبه أخذ ابن القاسم. ابن رشد: وهي الرواية المشهورة.

ولعل المصنف نسبها للمدونة دون غيرها ليبين أنها المشهورة. وقوله: (لَكِنْ إِذَا غَابَ أَوْ فلِسَ) راجع إلى قوله: (حَاضِرٌ مَلِيءٌ) الأول للأول والثاني للثاني، وألحق في المدونة بالمفلس المديان إذا خشي رب الدين إذا قام عليه المحاصة. وقوله: (ورَآهُ كَالرَّهْنِ) توجيه للمرجوع إليه، وهو لصاحب النكت؛ أي أن الحميل لما كان يدخل للتوثقة شابه الرهن، فكما أنه لا سبيل للرهن إلا عند عدم المطلوب، فكذلك لا سبيل إلى الكفيل إلا عند عدم المطلوب. والضمير في (رَآهُ) عائد على مالكه، والهاء عائدة على الحميل. قال جماعة: ومنشأ الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: «الزعيم غارم» هل يقتضي العموم لأنه لم يفصل، أو هو مجمل؟ وفي قوله: «غارم» إشارة إلى أنه إنما يغرم ما قد صار في حيز التلف، بأن يكون الغريم فقيراً أو ممتنعاً. وفي قول المصنف: (لَكِنْ إِذَا غَابَ) إطلاق يقيد بما إذا لم يكن للغائب مال حاضر، ففي المدونة: وأما إن كان للغائب مالٌ حاضر يُعْدى فيه فلا يتبع الكفيل، قال غيره: إلا أن يكون في تثبيت ذلك، وفي النظر فيه بعد فيؤخذ من الحميل. ابن رشد في الأسئلة: وهو تفسير لا خلاف، كذا حمله من أدركنا من الشيوخ، وبه جرى العمل. وقوله: (مِلْطَاطاً) وقد تقدم قول الجوهري: ألطَّ [545/أ] الرجل إذا انتشب في الأمر والخصومة، وقال قبل ذلك: لططت حقه إذا جحدته، والأول أقرب إلى مراد المصنف. ابن راشد: وهذا لا ينبغي عدَّه خلافاً، بل هو جارٍ على المشهور، وكذلك ذكره غيره قال: وإذا فرعَّنا على الرواية المشهورة: وطلب الغريم فوجده عديماً أو غائباً موسراً أو فقيراً أو حاضراً مدياناً فخاف الطالب إن قام عليه الحصاص أو يكون حاضراً مُلِدَّاً فله طلب الحميل.

فروع مرتبة على المشهور: أولها: لو قام الطالب على الحميل فقال الحميل: الغريم مليء، وقال الطالب: بل هو عديم، ففي المقدمات: اختلف هل القول للطالب ويغرم الحميل إلا أن يقيم الحميل بينة بملاء الغريم وهو قول سحنون في نوازله، أو القول للحميل إلا أن يقيم الطالب بينة بعدم الغريم، وهو ظاهر ما في سماع سحنون في كتاب النكاح أن الغريم محمول على اليسر، وذكر ابن زرقون القولين عن ابن القاسم، والأظهر هو الثاني. الثاني: لو اشترط الطالب أن يبدأ بأيهما أحب فاختلف قول مالك وابن القاسم هل يوفى بالشرط أم لا؟ ففي المقدمات والبيان: المشهور عن ابن القاسم في المدونة وغيرها أن الشرط عامل، وبعدمه أخذ أشهب وابن كنانة وابن الماجشون. الثالث: لو اشترط البداية بالحميل. المازري: فإن كان في ذلك الشرط منفعة لمشترطه لكونه أملأ أو أسمح قضاء أو أيسر وجب الوفاء بشرطه، وإن لم تظهر المنفعة جرى على الخلاف في الوفاء بما لا يفيد، وفيه قولان. وعمم صاحب البيان الخلاف سواء ظهر للشرط فائدة أو لا، إلا أنه زاد ثالثاً بإعمال الشرط في المسيء المطالبة وفي ذي سلطان، نسبه لابن القاسم، ورابعها: بإعمال الشرط مطلقاً، إن كان في أصل البيع وإن كان بعد البيع نفعه في سيء القضاء وفي ذي السلطان، قال: وهو أيضاً لابن القاسم. الرابع: لو شرط الحميل ألا يرجع عليه إلا بعد تعذر الوفاء من الغريم لم يختلف في إعمال الشرط، وألحق المازري بذلك إذا كانت العادة عدم مطالبة الضامن إلا بعد تعذر الوفاء من الغريم.

وَمَهْمَا أَبْرَأَ الأَصْلَ بَرِئَ الْفَرْعُ بِخِلافِ الْعَكْسِ أي: ومهما أبرأ الطالب (الأَصْلَ) أي الغريم (بَرِئَ) أي الضامن؛ لأن طلب الحميل فرع بثبوت الدين عن الغريم، فإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع، وهكذا قال الباجي وابن شاس وغيرهما، فإن قيل: هو خلاف ما وقع لمالك في الموازية والعتبية؛ لأن في الموازية من رواية أشهب في من باع سلعة وأخذ حميلاً وكتب عليهما أيهما شاء أخذه بحقه، فمات الغريم فبيعت جميع تركته فاستوفى ثلثي حقه، ثم سأله الورثة أن يحلل الميت مما بقي ففعل، فقال الحميل: لا شيء لك عليَّ لأنك حللت الغريم، قال مالك: يحلف ما وضع إلا للميت وهو على حقه، وفي العتبية في من له حقان حق بالحمالة وحق بغيرها، وكتب في الحمالة أيهما شاء أخذه بحقه، ثم مات الغريم واستوفى الطالب ثلثي حقه، وسأله الورثة أن يحلله ففعل ثم طلب الحميل، فقال الحميل: ليس لك قِبَلي شيء، فقال مالك: أرى أن يكون الذي أوصل إليه من مال الميت بين المستحقين بالحصص، ويحلف بالله ما وضعت إلا للميت، ثم تكون على الحميل حصته من ذلك الدين. قيل: قد أنكر جماعة من الشيوخ هاتين المسألتين، أما الأولى فقال ابن المواز: فيها شيء، وقال في موضع آخر: فيه نظر، وكذلك أيضاً استشكلها ابن يونس وقال: إنما يتوجه الغرم على الحميل إذا كان الحق ثابتاً على الغريم فإذا سقط عنه أو بعضه سقط عن الحَمِيلِ، كما لو أدَّى الغريم الحق أو بعضه. ابن راشد: وما قاله ابن يونس هو الصواب، وكذلك استشكل في البيان مسألة العتبية نحو ما ذكر ابن يونس، قال: ورأيت لابن دَحُّون في هذه المسألة أنه قال: إنما لزمه اليمين من أجل الدين الذي كان له بغير حمالة فيحلف أنه ما حلله إلا من دينه الذي كان له بغير حمالة، ولو كان الدين كله بحمالة لم يكن له تبع على الحميل، قال: وهو تأويل تصح به المسألة، فينبغي أن تحمل عليه، وإن كان بعيداً عن لفظها.

ابن عبد السلام: ومسألة الموازية لا تقبل هذا التأويل. وأجاب المازري عن الإشكال الوارد عن المسألتين بأن الناس يعتقدون أن من له الدين يطالب من هو عليه في الآخرة، قال: ويؤيد اعتقادهم هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» فأشار إلى أحكام الآخرة، وإن مات وعليه دين كان الأمر فيه هكذا، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى يقضى عنه دينه، كما ورد في الحديث. وإذا تقرر هذا وأمكن أن يريد رب الدين - لما سئل أن يحلل الميت المديان - بتحليله ألا يطالبه في الآخرة، وإسقاط إثم المطل عنه إن كان مطله، فهذا مما يختلص بالغريم دون الحميل فيحلف من له الدين أنه لم يرد إلا إتباعه في الآخرة ويبقى الحميل مطلوباً بما تحمل به، ولا يسقط عنه بالشك ما كان عليه باليقين، فلما رأى المصنف وابن شاس ما في هاتين الروايتين من الإشكال تبعاً في ذلك ما ذكره الباجي وغيره من الشيوخ، على أنه يمكن الجمع بينهما بأن يحمل ما ذكره الباجي وابن شاس والمصنف على الغريم الحي، وما في الروايتين على الغريم الميت، ولا يبقى في المسألة خلاف، وهو الذي يؤخذ من تعليل المازري. ويحتمل أن يحمل ما ذكره الباجي على ما إذا لم يشترط رب الدين أن يأخذ أيهما شاء، بخلاف مسألة العتبية والموازية، فإنه نص فيهما على الاشتراط، وهذا هو الذي يؤخذ من كلام الباجي؛ لأنه قال: إذا وهب الطالب حقه للغريم برئ الحميل ولو وهب الحق للحميل لم يبرأ الغريم، وعليه أن يؤدي للمتحمل له ثم قال: فرع: ومن أخذ حميلاً بثمن سلعة على أن يأخذ أيهما شاء بحقه، فمات الغريم فحلله الطالب، وذكر الروايتين. [545/ب] قوله: (بِخِلافِ الْعَكْسِ) أي فلا يلزم من براءة الحميل براءة الأصل، وهكذا في المدونة.

فرع: فإن غاب الغريم وغرم الحميل، ثم قدم الغريم فأثبت أنه كان دفع، ففي الموازية: ينظر فإذا دفع الحميل الحق قبل الغريم وبعد الأجل فيه الرجوع على الغريم؛ لأن دفعه كان بحق، ويرجع الغريم بما دفع على صاحب الحق، وإن كان الغريم قد دفع قبل الحميل فلا تباعة للحميل عليه، ويرجع الحميل على صاحب الحق بما دفعه إليه، وإن جهل أمرهما لم يتبع الحميل إلا من دفع إليه إلا أن تكون له بينة أنه الدافع أولاً، أو بقضاء من سلطان بعد أن يحلف الغريم أنه الدافع قبل، فإن نكل حلف الحميل فأغرم الغريم، فإن نكلا جميعاً لم يكن على الغريم شيء. وَلا يُطَالِبُ الضَّامِنُ بِمُؤَجَّلٍ بَعْدَ مَوْتِ الْمَضْمُونِ إِلا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ يعني: إذا مات المضمون قبل حلول أجل الدين، فلا يطالب الضامن بالديْن إلا بعد الأجَلِ. وهذا معنى قوله: (بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ) لأنَّه لا يلزم من حلول الدَّيْن على الغريم حلوله على الحميل لبقاء الذمة، وحكى ابن رشد الاتفاق عليه. وفي بعض النسخ (ولو مات الأصل تعجله من ماله)، فإن لم يترك وفاء لم يطلب الكفيل بمؤجل بعد موت المطلوب إلا بعد استحقاقه، وهي ظاهرة. ابن القاسم في المدونة: وإن مات الغريم مليئاً والطالب وارثه برئ الحميل؛ لأنه إن غرم للطالب شيئاً رجع عليه بمثله في تركه الميت، والتركة في يده فصار كمقاصة، فإن مات الغريم معدماً ضمن الكفيل.

ولِلْمَضْمُونِ لَهُ طَلَبُ تَرِكَةِ الضَّامِنِ ويَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمَضْمُونِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، وقِيلَ: يُؤقَفُ إِلَى الأَجَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَصْلُ مَلِيئاً أَخَذَهُ الْغَرِيمُ، قَالَ يَحْيَى: هَذِهِ رِوَايَةُ سُوءٍ .... لم تكلم على موت المضمون قبل الأجل تكلم على موت الضامن قبله؛ يعني: وإن مات الضامن قبل الأجل فلِلْمَضْمُونِ لَهُ - أي رب الدَّيْنِ - تعجيل الحقِّ من ورثة الضامن. قال في المدونة: ولو كان الغريم حاضراً مليئاً وله أن يحاصص غرماءَهُ ويرجع إذا أخذ ربُّ الدَّيْن الحق من تركة الضامن ورثة الضامن - على المضمون أي الغريم بعد استحقاقه الدين. وقوله: (وقِيلَ) هذا القول رواه ابن وهب وقاله عبد الملك، وإنما قال يحيى: هذه رواية سوء لأنه حجر المال من غير فائدة حصلت لورثة الحميل ولا لربِّ الدين، وقد يهلك فلا يحسن أن يجعل ضمانه من واحد منهما. خليل: ويظهر أن الوارث لو رضي بإيقافه، وقال: إن تلف كان ضمانه مني لأخاصم عند الأجل أن يكون القول قوله، وإليه أشار ابن راشد وجعل عبد الوهاب رواية ابن القاسم مبنية أن للطالب أن يطالب أيهما شاء، ورواية ابن وهب على أن لا يطالب الضامن إلا في غيبة الغريم أو عدمه، وأنكر ذلك ابن يونس وغيره، ورأى أن الخلاف هنا مبني على الرواية بعدم مطالبة الضامن إلا من بعد تعذر الأصل؛ لأن ابن القاسم ممن قال: لا يطالب الضامن إلا في غيبة الغريم أو عدمه، فكيف يفرع على غيره، وهذا هو الأقرب، وحكى اللخمي والمازري عن ابن نافع قولاً ثالثً بالفرق، فإن كانت تركة الحميل مأمونة واسعة لم يؤخذ الدين منها معجلاً ولا موقوفاً وإلا وقف الدين لتخليصه عند الطَّلب. تنبيه: هذا حكم ضامن المال؛ لأن كلام المصنف إنما هو فيه، وأما ضامن الوجه فسيأتي.

وَلِلضَّامِنِ الْمُطَالَبَةُ بِتَخْلِيصِهِ عِنْدَ الطَّلَبِ قال في الجواهر: إن للكفيل إجبار الأصل على تخليصه إذا طولب وليس له ذلك قبل أن يطالب، وعلى هذا فيكون معنى قول المصنف: (عِنْدَ الطَّلَبِ) أي طلب الكفيل، وهذا إنما يأتي على قول مالك المرجوع عنه، وقال ابن عبد السلام: يعني أن ربَّ الدين إذا توجَّه له الطلب فسكت عنه أو نص على تأخيره فللحميل ألا يرضى بذلك التأخير، ويقول لرب الدين: إما أن تطالب حقك وإلا أسقط عني الحمالة، وهذا مقيد بما إذا كان الغريم موسراً، وأما المعسر فلا كلام له. وحمل كلام المصنف على هذا أحسن؛ لأنه المتبادر إلى الفهم. فرع: فإن أخر رب الدين الغريم بعد الأجل ففي البيان: تحصيل المسألة أن المطلوب إذا أخره الطالب فلا يخلو إما أن يكون مليئاً أو معدماً، فإن كان معدماً فلا كلام للحميل باتفاق، وإن كان مليئاً فلا يخلو من ثلاثة أوجه: الأول: أن يعلم فينكر، والثاني: أن يعلم فيسكت، والثالث: أن يعلم حتى يحل الأجل الذي أنظره إليه، فالأول لا يلزمه تأخير الطلب، ويقال له: إما أن تسقط الكفالة وإلا فاحلف أنك ما أخرته إلا على أن يبقى الكفيل على كفالته، فإن حلف لم يلزمه التأخير، والكفالة ثابتة على كل حال، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة، وإن كان سكت فيها عن اليمين، وقال غيره في المدونة: الكفالة ساقطة على كل حال، وقيل: إنها لازمة بكل حال. خليل: انظر هذا فإن الظاهر أنه كالقول الأول، وأما إن علم بذلك فسكت حتى حل الأجل فالكفالة لازمة قاله في المدونة، ويدخله الخلاف المعلوم في السكوت، هل هو كالإقرار أم لا؟ وأما إن لم يعلم بذلك حتى حل الأجل فيحلف صاحب الحق ما أخره

ليبرأ الحميل من حمالته وتلزمه الحمالة، فإن نكل عن اليمين سقطت الحمالة، وهذا كله في التأخير الكثير، وأما اليسير فلا حجة للكفيل فيه. انتهى. قال في المدونة: وإذا أخر الطالب الحميل بعد محل الحق فذلك تأخير للغريم، إلا أن يحلف ما كان ذلك تأخيراً للغريم، فيكون له طلبه؛ لأنه لو وضع الحمالة كان له طلب الغريم إن قال: وضعت الحمالة دون الحق، وإن نكل لزمه تأخيره. تنبيه: وقع في بعض النسخ بإثر هذه المسألة ما نصه: ولا يلزم تسليم المال للحميل ليؤديه؛ إذ لو هلك لكان من الأصل. ونحوه في الجواهر والمدونة في السلم الثاني، إلا أن في قول المصنف: (إذ لو هلك لكان من الأصل) إطلاقاً يبينه [546/أ] ما في المدونة، وإذا دفع الغريم الحق إلى الكفيل فضاع فإن كان على الاقتصاء ضمنه الكفيل قامت بهلاكه بينة أم لا، عيناً كان أو عرضاً أو حيواناً؛ لأنه متعدِّ، وإن كانت على الرسالة لم يضمنه، وهو من الغريم حتى يصل إلى الطالب. ويحتمل أن يريد المصنف بقوله: (لكانَ من الأصل) أن لصاحب الدين أن يطلبه من الغريم، ويرجع به الغريم على الكفيل إن أخذه على الاقتضاء. وَيَرْجِعُ إِذَا أَدَّى بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَضْمُونِ لَهُ، ولا يُفِيدُ إِقْرَارُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أي: ويرجع الضامن إذا أدَّى عن الغريمِ بشَرْطِ أن تشهد بينة بمعاينة الدفع للطالب، أو يقر الطالب بالقبض، وهو مراده بقوله: (بِإِقْرَارِ الْمَضْمُونِ لَهُ) وهو الطالب؛ لأنَّ الحقَّ سقط بهذين الوجهين، وأما إقرار المضمون عنه أنه دفع للطالب فذكر المصنف أنه لا يقبل؛ لأن الحق لا يسقط عن الغريم ومن حجته أن يقول للضامن: أنت فرطت بتركك الإشهاد، ولا أعلم في ذلك خلافاً إذا أدَّى الضامن للمضمون له بغير حضرة الغريم، وأما بحضرته فلابن القاسم في سماع عيسى أنه لا يرجع لتقصيره في ترك الإشهاد، وله في سماع أبي زيد أنه يرجع؛ لأن التقصير كان من الغريم؛ لأن الحميل أدَّاها عنه بحضرته.

ابن رشد: والأول أظهر؛ لأنَّ المال للضامن فهو أحق بالإشهاد على دفعه. فرع: ويردع بمثل ما أدى إذا كان مثلياً، واختلف إذا تكفل بعرض وأداه فالمشهور وهو قول ابن القاسم وأشهب: يرجع بمثله لأنه سلف؛ وفي سماع أبي زيد أن المطلوب مخير إن شاء دفع مثله، وإن شاء دفع قيمته. وفي الواضحة أنه لا يغرم إلا مثله، قال في البيان: ولا خلاف أنه اشترى العرض أنه يرجع بمثله الذي اشتراه به ما لم يحابِ فلا يرجع بالزيادة. وَإِذَا صَالَحَ الضَّامِنُ رَجَعَ بِالأَقَلِّ مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ لما ذكر حكم الضامن إذا أدى مثل الدين وأنه يرجع به ذكر إذا أدى غيره. وقوله: (صَالَحَ) يريد بمقوم، بدليل قوله: (رَجَعَ بِالأَقَلِّ مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ). ويُفْهم من كلامه جواز المصالحة ابتداءً، وفي ذلك ثلاثة اقوال: الجواز مطلقاً؛ لأنه مكارمة، ولأنه دخل على أن الغريم بالخيَارِ إنْ شاء دفع ما عليه، وإن شاء دفع قيمة ما أعطى أو مثله إن كان مثلياً. والمنع مطلقاً؛ لأنه أخرج من يده شيئاً لا يدري أيأخذ قيمته أو ذلك الدين، فهو بيع بثمن مجهول. والتفرقة فإن صالح عنه بمثلي امتنع، وبمقوم جاز، واختلف قوله في المدونة: (إذا صالح بمثلي مخالف لجنس الدين) فمنعه في السلم الثاني، وأجازه في الكفالة. ابن عبد السلام: وهو أقرب؛ لأن الباب معروف، وحكى ابن رشد رابعاً بالجواز فيما تجوز فيه النسيئة في المبايعة، والمنع فيما لا تجوز فيه، كأن يؤدي دنانير عدة عن دراهم أو تمراً عن قمح. الباجي: وإلى منع المصالحة بالدنانير عن الدراهم وبالعكس رجع ابن القاسم وأشهب وأصحابهما.

محمد: لأنه يدخله الصرف بخيار، قال: وعلى القول بمنع المصالحة يرجع على الطالب بما دفع إليه، وعلى الجواز فقيل: يرجع الكفيل على المطلوب المتحمل عنه بما تحمل عنه به، وقيل: يخير المتحمل عنه، فإن شاء أغرمه ما غرم عنه، وإن شاء غرم الذي كان عليه والقولان قائمان من المدونة. فإن قيل: فما وجه القول بالفرق بين المقوم والمثلي؟ قيل: لأن المقوم لما كان يرجع فيه إلى القيمة، وهي من جنس الدين، والحميل يعرف قيمة سلعته فقد دخل على القيمة إن كانت أقل من الدين، وإن كانت أكثر فقد دخلا على أخذ الدين وهبة الزيادة، بخلاف المثلي؛ لأنه من غير جنس الدين فلا يعرف فيه الأقل والأكثر؛ لأن الأقل والأكثر لا بد أن يشتركا في الجنس والصفة، فكانت الجهالة في المثلي أقوى، قال جماعة: ولا خلاف في الجواز إذا دفع من الصنف الذي على المديان، ولكن أدنى منه أو أجود؛ إذ لا يشك أحد أن الدافع لا يختار إلا الأخف. وعورضت بقوله في المدونة فيمن أمر رجلاً يشتري له سلعة بالعين ولم يدفع إليه شيئاً، فاشتراها بغير العين: أن الآخر مخير في ترك ما اشتراه، ولا إشكال أن يدفع للمأمور ما ودى عنه، وكان ينبغي إن رضي بالشراء أن يدفع له الأقل مما أمر به أو قيمة ما اشترى به بجامع أن كل واحد من الوكيل والكفيل فعل غير ما أمر به لقصد المعروف، وتردد بعضهم في صحة هذه المعارضة، وفي الفرق بأن المأمور مأذون له في السف؛ لأن الفرض أن الآمر لم يعطه شيئاً، فإذا أمضى الآمر فعله فإنما أمضاه على الوجه الذي فعله وهو السلف، وأما الكفيل فلم يؤذن له في شيء بوجه، وإنما قصد هو من جهة نفسه التطوع، فلا يكون على الغريم إلا الأقل. واعلم أن الضامن يتنزل منزلة الغريم؛ فما جاز للغريم أن يدفعه عوضاً عما عليه جاز للضامن، وما ليس فليس، فلو ضمنه في عروض عليه من سلم لم يجز له أن يصالح عنها

قبل الأجل بأدنى صفة أو قدراً؛ لئلا يدخله: (ضع وتعجل)، ولا بأكثر؛ لئلا يدخله: (حط الضمان عني وأزيدك)، وأجازوا أن يصالح بعد الأجل بدنانير طيبة عن دنانير أدنى منها؛ لأنه يعلم أن الغريم لا يعطي إلا الدنية، وكذلك العكس؛ لأنه يعلم أن الغريم لا يدفع إلى الذي عليه. المازري: لكن لم يطرد هذا في المدونة في الطعام من السلم، فإنه منع الكفيل أن يصالح من له الدين إذا حل الأجل بطعام أجود مما تحمل به أو طعام أدنى منه، وإن فعل ذلك قضى عن الغريم لا ليشتريه لنفسه. وعلل ذلك بأنه بيع الطعام قبل قبضه لأجل ما يكون لمن عليه الدين من الخيار في أن يدفع مثل ما دفعه الكفيل أو الدين الذي عليه، والمسألة تحتمل من التفريع أكثر من هذا، لكن تركنا ذلك لمحاذاة كلام المصنف. وَضَابِطُ [546/ب] تَرَاجُعِ الْحُمَلاءِ أَنَّ مَنْ غَرِمَ أَخَذَ مَنْ يَلْقَاهُ بِمَا أَدَّا عَنْهُ مِنْ حَصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ ثُمَّ بِنِصْفِ مَا أَدَّاهُ عَنْ غَيْرِهِ بِسَبَبِ الْحَمَالَةِ لأَنَّهُ شَرِيكُ، وَيَتَرَاجَعُونَ .... لما كان الحميل قد يتحد وقد يتعدد وكان الحكم في الواحد يؤخذ بما تقدم، أخذ في بيان المتعدد وذكر له ضابطاً مثاله: لو اشترى ثلاثة سلعة بثلاثمائة، وتحمل كل منهم بصاحبه فإذا لقي البائع أحدهم أخذ منه الجميع مائة بطريق الأصالة، وبمائتين عن صاحبيه بطريق الحمالة، ثم إن لقي هذا الدافع أحدهما أخذ منه مائة؛ لأنه أداها عنه وخمسين نصف الثلث الباقي من الحق؛ لأنه كان أداها عن الغريم الثالث، وهما معاً حميلان فيتساويان فيها، فمن لقيه منهما أخذ منه الخمسين لأنه شريكه؛ أي من الحمالة.

وَيظْهَرُ بِمَسْأَلَةِ الْمُدَوَّنَةِ إِذَا اشْتَرَى سِتَّةُ نَفَرٍ سِلْعَةً بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْحَمَالَةِ فَلَقِيَ الْبَائِعُ أَحَدَهُمْ فَأَخَذَ مِنْهُ الْجَمِيعَ فَإِن لَقِيَ الْغَارِمُ أَحَدَهُمْ أَخَذَهُ بِمِائَةٍ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ وبِمِائَتَيْنِ نِصْفِ مِا بَقِيَ مِنَ الْحَمَالَةِ فَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمَا ثَالِثاً أَخَذَهُ بِخَمْسِينِ وبِخَمْسَةٍ وسَبْعِينَ فَإِنْ لَقِيَ الثَّالِثُ رَابِعاً أَخَذَهُ بِخَمْسَةٍ وعِشْرِينَ وخَمْسَةٍ وعِشْرِينَ ثُمَّ إنْ لَقِي الرَّابِعُ الخَامِسَ، أَخَذَهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَسِتَّةٍ ورُبُعٍ إِلَى أَنْ يَلْقَى الْخَامِسُ السَّادِسَ فَيَاخُذَ مِنْهُ سِتَّةً ورُبُعاً لأَنَّهُ أَدَّاهَا عَنْهُ وحْدَهُ .... (بِالْحَمَالَةِ) أي على أن بعضهم حميل عن بعض بجميع المال، فإذا لقي الطالب أحدهم أخذه بستمائة عليه منها مائة، والخمسمائة الباقية بطريق الحمالة، فإذا لقي الغريم أحد الخمسة لم يكن له طلب بالمائة التي دفعها عن نفسه، وهكذا كل من دفع عن نفسه شيئاً لا رجوع له به، تبقى له خمسمائة، منها مائة على هذا الثاني، فيأخذها منه تبقى أربعمائة، فيقول له: ادفع لي نصفها مائتين لأنك شريكي في الحمالة، فإذا لقي أحد هذين ثالثاً أخذه بخمسين وخمسة وسبعين؛ لأنه دفع ثلاثمائة مائة عن نفسه لا رجوع له بها، ومائتين عن هذا الثالث، وعن الثلاثة الباقين ينوبه منها خمسون فإذا قبضها منه قال: بقيت لي مائة وخمسون عن الثلاثة الباقين وأنت شريكي فيها، فإن لقي الذي دفع خمسين وخمسة وسبعين رابعاً فالخمسون لا رجوع له بها لأنها عنه، وقد أدى عن الرابع وعن صاحبه خمسة وسبعين منابه منها خمسة وعشرون، فإذا قبضها قال: بقي لي خمسون أنت شريكي فيها. وقوله: (بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَسِتَّةٍ ورُبُعٍ)؛ أي فإن لقي هذا الرابع الذي دفع خمسة وعشرين وخمسة وعشرين خامساً، فالخمسة والعشرون التي دفعها عن نفسه لا رجوع له بها، وقد دفع عن الخامس وعن صاحبه خمسة وعشرين تنوبه منها اثنا عشر ونصف، فإذا قبضها قال: بقيت لي اثنا عشر ونصف وأنت شريكي فيها، فإن لقي الخامس السادس

الذي دفع اثنا عشر ونصفاً عن نفسه وستة وربعاً بالحمالة سادساً لم يأخذ الخامس من السادس إلا ستة وربعاً؛ لأنها هي التي أداها عنه وحده. تنبيهات: الأول: ما ذكرناه من صورة العمل هو الذي حسب الفقهاء كلهم المسألة عليه، وذهب أبو القاسم الطبري الفارض إلى أن العمل على هذا غلط في الحساب، وأن صورة التراجع مثلاً من الثاني على الثالث يجب أن يكون على غير هذا العمل، بل إذا التقى الثالث مع أحد الأولين يطلبه بالاعتدال معه في الغرم عن الثالث، فيقول: كنا اجتمعنا باجتماع بعضنا ببعض، ولو اجتمعنا لكان المال علينا أثلاثاً مائتان على كل واحد، فعلي مائتان غرمتها أنت وصاحبك عني فخذ واحدة أنت، فهي التي تقع لك وادفع إلى صاحبك المائة التي دفعها عني إذا لقيته فيستوفي في كل واحد مائتين كما لو اجتمعنا في دفعة، وهكذا إذا لقي الثالث الرابع وهكذا بقيتها. التنبيه الثاني: قول المصنف: (فلو لقي ... أحدهم فأخذ منه) هل له أن يأخذ الجميع من أحدهم، وإن كانوا حاضرين أو يشترط تعذر الوفاء من بقيتهم؟ فيه تفصيل: إن قال لهم صاحب الدين: أيكم شئت أخذته بحقي فله أخذ أحدهم بالجميع، كان الباقي حضوراً أملياء أم لا، وإن لم يقل: أيكم شئت أخذته بحقي لم يكن له أن يأخذ بعضهم ببعض إلا في العدم؛ لأن الحميل لا يؤخذ بالحق في ملاء الغريم وحضوره على الرواية المشهورة. ابن يونس: وليس للغريم فيها إذا اشترط أنه يأخذ بحقه من شاء منهم أن يرجع على كل واحد من أصحابه إلا بما عليه من أصل الدين؛ لأنه لم يؤدِّ مع هذا الشرط بالحمالة، بل صارَ كل واحد غريماً لصاحِب الدين، وسواء كانت حمالة بعضهم عن بعض وهم شركاء في سلعة أو حمالة عن غيره.

التنبيه الثالث: اعلم أن هذه المسألة على وجهين: أحدهما: أن يكون الحملاء غرماء بأن يشتروا سلعة وهي التي ذكرها المصنف، والثاني: أن يكونوا حملاء ليسوا بغرماء؛ أي يتحملوا بدين هو على غيرهم، ولم يتعرض المصنف لهذا الوجه. ولا خلاف في مسألة المشترين أن من دفع يطالب صاحبه الذي يلقاه بما يقع عليه من المال، ولا يأخذ منه المائة التي تلزمه في خاصَّته، ويقتسمان ما بقي، وأما إن كان الحقُّ على غيرهم فاختلف إذا أخذ الحق من بعضهم ثم لقي الآخر هي يقاسمه بالسواء في الغرم، وإليه ذهب ابن لبابة والتونسي وغيرهما. قالوا: لأنهم سواء في الحمالة وليس يخص أحدهم ما لا يخص غيره، أو إنما يقاسمه بعد إسقاط ما يخصه كالأول، وإليه ذهب كثير من الأندلسيين، ونحوه في المدونة وفي سماع أبي زيد في المستخرجة؟ وجعلوا ما ينوب كل واحد من [547/أ] المال وهي مائة بالحمالة كما لو كان عليه دين، ونص المسألة على الوجه الثاني من المدونة. مالك: وإذا تكفل ثلاثة رجال بمال على رجل حمالة مبهمة فأعدم الغريم، لم يكن للطالب على من لقي من الحملاء إلى ثلاث الحق، إلا أن يشترط في أصل الكفالة أن بعضهم حميل عن بعض، فحينئذٍ إن غاب أحدهم أو عدم أخذ من وجد منهم مليئاً بجميع الحق، وإن لقيهم أملياء لم يأخذ من كل واحد إلا ثلث الحق؛ إذ لا يتبع الكفيل في حضور الغريم وملائه. ولو شرط: أيكم شئت أخذته بحقي، ولم يقل: بعضكم كفيل ببعض، فليأخذ أحدهم بجميع الحق وإن كانوا حضوراً أملياء، ولا رجوع للغارم على أصحابه؛ إذ لم يؤدِّ بالحمالة عنهم، ولكن عن الغريم، ولو قال: بعضكم كفيل ببعض وقال مع ذلك: أيكم شئت أخذته بحقي، أو لم يقل، فإنه إن أخذ من أحدهم في هذا جميع المال رجع الغارم على أصحابه إذا لقيهم بالثلثين، وإن لقي أحدهم رجع عليه بالنصف. وذكر ابن حبيب عن

جميع أصحاب مالك مثل ما في المدونة؛ أعني أنه لا رجوع للغريم على أصحابه فيما إذا قال: أيكم شيئت أخذته بحقي. اللخمي: وقال محمد: له أن يرجع على أصحابه إذا كانوا أربعة على كل واحد بربع الحق، والقول الأول أبين ومجمل قوله: أنه إنما يأخذ من شاء منهم على الغريم حتى يتبين أنه إنما يأخذه بذلك عن أصحابه. ابن حبيب: وقال ابن الماجشون في من باع شيئاً من رجلين وشرط أن يأخذ أيهما شاء بجميع الثمن، أو تحمل له رجلان بدين وشرط عليهما ذلك، فشرطه باطل، وليس له اتباع أحدهما بأكثر من نصيبه إلا في عدم صاحبه أو غيبته كالحمالة المبهمة، وقاله ابن كنانة وأشهب، وقول ابن القاسم بلزوم الشرط أظهر؛ لأن الناس عند شروطهم، وقد اختلف قول مالك في الحميل المبهم فكيف بالشرط؟ وقاله أصبغ وابن حبيب. فرع: ويتنزل منزلة حمالة بعضهم عن بعض ما رواه ابن وهب عن مالك في المدونة: إذا كتب الرجل حقه على رجلين وشرط أن حيَّكما عن ميتكما ومليئكما عن معدمكما، فكذلك حمالة أحدهما عن الآخر. التنبيه الرابع: المازري: أفردت جماعة من الأشياخ لمسألة الستة حملاء تأليفاً، ولم يذكر المصنف إلا ابتداء العمل؛ فرأينا أن نكمله حتى يؤدي كل واحد مائة، فإني رأيت نفوس الطلبة عند إلقائها تطلب تمام عملها، وربما صعب ذلك عليهم وهأنا أذكره على ما قاله المازري، فأقول: إذا غرم الأول ستمائة، ثم لقي أحدهم فأخذ منه ثلاثمائة كما تقدم، ثم إن لقي الأول ثانياً قال له: غرمت ثلاثمائة عن نفسي مائة أصالة ومائتين بالحمالة عن أربعة أنت أحدهم،

يلزمك في خاصتك خمسون ويبقى مائة وخمسون، وعليك نصف ما بقي، وهو خمسة وسبعون، فجميع ما يأخذ منه مائة وخمسة عشرون، فصار جميع ما أخذ من صاحبه مائة وخمسة وعشرين، ويبقى مما أدى بالحمالة خمسة وسبعون، ثم إن لقي ثالثاً قال له: أديت بالحمالة خمسة وسبعين عن ثلاثة أنت أحدهم فادفع إليَّ ثلثها خمسة وعشرين ونصف ما بقي مما أديت بالحمالة، فإنك به معي حميل، فجميع ما يأخذه منه خمسون وتبقى له خمسة وعشرون، ثم إذا لقي رابعاً قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وعشرون هي عليك وعلى صاحبك السادس فأعطني نصفها اثني عشر ونصفاً ونصف ما بقي، وذلك ستة وربع، فجميع ما يأخذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع، وبقي له مما غرم ستة وربع، ثم إذا لقي السادس أخذها منه، فهذا كمال عمل الأول، ثم تعود إلى الذي يليه وهو الثاني الذي لقيه أولاً وغرم ثلاثمائة، فإذا لقي الذي يليه وهو الثالث الذي كان غرم للأول أيضاً مائة وخمسة وعشرين، فيقول له: أنا [547/ب] قد أديت بالحمالة من هذه الثلاثمائة التي غرمت مائتين عن أربعة نصيبك منها خمسون، فيأخذها منه فتبقى مائة وخمسون أنت معي بها حميل، فيقول هذا الثالث: قد أديت أنا أيضاً بالحمالة للأول خمسة وسبعين سأؤتيك في مثلها، وتبقى لك خمسة وسبعون فخذ نصفها سبعة وثلاثون ونصف، فجميع ما يأخذ منه سبعة وثمانون ونصف، فجميع ما أدى هذا الثالث للأول والثاني مائتان واثنا عشر ونصف، وبقي للثاني مائة واثنا عشر ونصف مما أدى بالحمالة؛ لأنه أدى ثلاثمائة منها عن نفسه ومائتان بالحمالة، رجع إليه مما أدى بالحمالة سبعة وثمانون ونصف المائتين، فالباقي له مما أدى بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف، ثم إذا لقي الرابع الذي كان غرم للأول خمسين، قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف على ثلاثة أنت أحدهم يلزمك ثلثها في خاصتك، وهي سبعة وثلاثون ونصف فيأخذها منه، ويقول لهك بقيت لي خمسة وسبعون أنت معي بها حميل، فأعطني نصفها، فيقول له هذا

الرابع: قد وديت أنا بالحمالة للأول خمسة وعشرين، سأؤتيك في مثلها وبقيت لك خمسون فخذ نصفها، فجميع ما أخذ منه اثنان وستون ونصف، فجميع ما أدى الرابع للأول والثاني مائة واثنا عشر ونصف، فيبقى للثاني مما أدى بالحمالة خمسون، ثم إن لقي الخامس قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة أيها الخامس عنك وعن السادس خمسون عليك نصفها خمسة وعشرون فيأخذها منه ويقول له: بقيت لي عليك خمسة وعشرون بالحمالة أنت معي بها حميل، فيقول الخامس: قد أديت أنا أيضاً ستة وربعاً سأؤتيك في مثلها، وبقيت لك ثمانية عشر وثلاثة أرباع عليَّ نصفها، وذلك تسعة وثلاثة أثمان، فجميع ما أدى له الخامس أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان، وجملة ما أدى هذا الخامس للأول ثمانية عشر وثلاثة أرباع، وللثاني أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان، فجميع ذلك ثلاثة وخمسون وثمن، وبقي هذا الثاني يطلب خمسة عشر وخمسة أثمان، فإذا لقي السادس أخذها منه، ثم إن الثالث الذي غرم للأول والثاني مائتين واثني عشر ونصفاً إذا لقي الرابع قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف على ثلاثة أنت أحدهم فأعطني ثلثها، وهو سبعة وثلاثون ونصف فيأخذها منه ويقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وسبعون أنت معي بها حميل، فيقول له هذا الرابع: قد أديت أنا أيضاً بالحمالة للأول خمسة وعشرين وللثاني خمسة وعشرين وذلك خمسون سأؤتيك في مثلها، وبقيت لك خمسة وعشرين فخذ نصفها اثني عشر ونصفاً، فيصير جميع ما أخذ منه خمسين، وجميع ما أدى هذا الرابع للأول والثاني والثالث مائة واثنان وستون ونصف، ثم إن لقي الخامس قال له: بقيت لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف عنك وعن السادس عليك منها نصفها أحد وثلاثون وربع، فيأخذها منه، ثم يقول له: بقي لي أحد وثلاثون وربع أنت معي بها حميل، فيقول له هذا الخامس: قد أديت أنا أيضاً بالحمالة للأول ستة وربعاً، وللثاني تسعة وربعاً وثمناً ولذلك خمسة عشر ونصف وثمن سأؤتيك في مثلها، وبقيت لك خمسة عشر ونصف

وثمن أيضاً على نصفها سبعة وثلاثة أرباع ونصف وثمن فيدفعها إليه فيصير جميع ما أخذ منه تسعة وثلاثين ونصف ثمن تبقى سبعة وخمسون وثمن فخذ نصفها ستة وعشرين ونصفاً ونصف ثمن، ويصير جميع ما أدى هذا الخامس للأول والثاني والثالث اثنين وتسعين وثمني نصف ثمن، ثم إن الثالث لقي السادس فيقول له: بقي مما أديت عنك بالحمالة ثلاثة وعشرون وربع وثمن نصف ثمن، فيأخذها منه، فيذهب هذا الثالث وقد غرم مائة، ثم إن الرابع الذي غرم للأول والثاني والثالث مائتين واثنين وستين ونصفاً لقي الخامس فيقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف عنك وعن السادس، عليك منها نصف أحد وثلاثون وربع فيأخذها منه ثم يقول له: بقيت لي أحد وثلاثون وربع وأنت معي بها حميل، فيقول له هذا الخامس: قد وديت أنا أيضاً بالحمالة للأول والثاني والثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن سأؤتيك فيها وبقيت ستة وسبعة أثمان ونصف ثمن عليَّ نصفها ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن، فيأخذها منه ويصير جميع ما يأخذ الرابع من الخامس خمسة وثلاثين وثمناً وربع ثمن، وجميع ما ودى الخامس للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرون وربع وثلاثة أرباع ثمن، وبقي الرابع يطلب سبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن، ثم إنه لقي السادس فيأخذها منه فيذهب وقد أخذ مائة، ثم الخامس لقي السادس وقد كان أدى للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن عليه منها مائة بقي يطلب سبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن، فيأخذها من السادس فيذهب وقد غرم مائة، فيذهب السادس وقد غرم مائة؛ للأول ستة وربعاً، وللثاني خمسة عشر وخمسة أثمان، وللثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن، وللرابع سبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن وللخامس مثلها جميع ذلك مائة، والله أعلم.

الْمَضْمُونُ شَرْطُهُ أَنْ يُمْكِنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الضَّامِنِ أَوْ مَا يَتَضَمَّنُهُ كَضَمَانِ الْوَجْهِ الرُّكن الرَّابع (الْمَضْمُونُ) أي الحق الذي يضمن (شَرْطُهُ أَنْ يُمْكِنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الضَّامِنِ) ليتحرز من الجراح والقتل والحقوق البدنية، فإنها لا يمكن استيفاؤها من الضامن، ومن ضمان المعينات كما سيأتي. وقوله: (أَوْ مَا يَتَضَمَّنُهُ) يحتمل أن تكون (مَا) موصولة أو نكرة موصوفة، فالذي يتضمن الاستيفاء ضمان الوجه لاستلزامه المال، فإن قلت: بقي عليه ضمان الطلب فإنه يصح ولا يمكن استيفاؤه، قيل: لا نسلم أنه لا يمكن استيفاؤه؛ لأن الحق هنا هو الطلب، وهو يمكن استيفاؤه من الضامن، ووقع لأصبغ في الواضحة في الفاسق المتعسف على الناس بالقتل وأخذ المال فيؤخذ فيعطي الحملاء بما عليه من القتل وأخذ مال أنهم يؤخذون بما يؤخذ به إلا أنهم لا يقتلون. فضل بن سلمة: انظر هل أراد أنهم يؤخذون بالمال خاصة أو به وبالدية في القتل. عياض: وهو على هذا التأويل موافق لعثمان البتي في قوله: يلزم الحميل في القتل والجراح إذا لم يأت به دية القتل وأرش الجراح، وفي مفيد الحكام: لأصبغ: لا بأس بالضمان في الجراح التي تئول إلى المال. المازري: ولو كانت الحدود التي هي حق الله تعالى إنما تثبت بالإقرار لكان التكفل بالطلب للمقر جائزاً على القول عندنا أن للمقر الرجوع عن إقراره وإن لم يظهر له عذر على القول بأن هروبه كالرجوع عن الإقرار. واختلفت الروايات في حديث الغامدية هل كفل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقرت بالزنى وهي حامل حتى تضع أم لا؟ ابن عبد السلام: وقوله: (إن هروب الجاني دليل على رجوعه عن إقراره) ليس بالبين؛ لاحتمال أن يكون هروبه من ألم الحد مع تماديه على صحة الإقرار.

فَلا يَصِحُّ ضَمَانُ مَبِيعٍ مُعَيَّيٍ مُطْلَقَاً بِإِحْضَارِ مِثْلِهِ إِنْ هَلَكَ أتى بالفاء؛ لأنه مسبب عما قبله. وقوله: (مُطْلَقَاً) أي سواء كان مقوماً [548/أ] أو مثلياً وهو مقيد بغير النقدين، فيصح ضمانهما ولو عينت على مذهب المدونة؛ لأنه إنما تجوز المعاوضة عليها عنده على شرط الخلف اللهم إلا بالنسبة إلى الصَّرف فهما كالعروض. وقوله: (إِنْ هَلَكَ) أي قبل أن يقبضه المشتري، وفي معنى الهلاك الاستحقاق. ولو اشترى سلعةً من رجل على أنها إن استحقت فعلى البائع خلاصها، وضمن البائع في ذلك غيره، ففي المدونة قال ابن القاسم: إن استحقت انفسخ البيع ولا تلزم الحمالة وقال غيره: تلزمه وهو أدخل المشتري في غرم ماله، فعليه الأقل من قيمة السلعة يوم تستحق، والثمن الذي أدى إلا أن يكون الغريم مليئاً حاضراً فيبرأ، وروي هذا أيضاً عن ابن القاسم ودخل تحت قوله: (معيناً) خدمة معين، فقال ابن القاسم في من استأجرته شهراً: لم يجز أن تأخذ منه حميلاً. وأنْ يكُونَ دَيْنَاً مُسْتَقِرّاً أَوْ آيِلاً إِلَيْهِ يعني: معلوماً أو مجهولاً (وأنْ يكُونَ) معطوف على قوله: (أَنْ يُمْكِنَ اسْتِيفَاؤُهُ) أي وشرطه أن يكون ديناً مستقراً أو آيلاً إلى الدين المستقر، ولا أعلم في هذه الشروط في المذهب خلافاً إلا ما سيأتي في الكتاب. فَيَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ، وَقبلَ وُجُوبِهِ هذا كالنتيجة عما قبله ولهذا عطفه بالفاء، ولا فرق في المجهول بين أن يكون حاصلاً أو سيحصل، ويصح ضمان المجهول لأن غاية ذلك أن يكون كهبته، وهي جائزة عندنا.

قال في المدونة: ومن قال لرجل: ما كان لك قبل فلان الذي تخاصم فأنا به حميل؛ فاستحق قبله مالاً، كان هذا الكفيل ضامناً، ولا إشكال إن ثبت الدين ببينة وإن أقر له بعد الضمان، فقولان، واستقرأهما عياض وغيره من المدونة. ابن المواز: وأما ما أقر به قبل الحمالة فيلزمه غرمه، وقيد ابن يونس القول بأنه لا يلزمه بالإقرار بما إذا كان الغريم معسراً، وأما الموسر فلا تهمة فيه؛ لأنه إن بدأ الكفيل بالغرم على أحد قولي مالك رجع الكفيل على الغريم. ومما يدخل تحت كلام المصنف قوله في المدونة: ومن قال لرجل بايع فلاناً أو داينه فما بايعته به من شيء أو داينته فأنا ضامن له، لزمه ذلك إذا ثبت مبلغه. قال غيره: وإنما يلزمه من ذلك ما يشبه أن يداين به المحمول عنه. ابن يونس وصاحب البيان: وهو تفسير. المازري: وهو الأظهر. ابن عبد السلام: وللشيوخ كلام في قول الغير: هل هو تقييد أو خلاف قال في المدونة: ولو لم يداينه حتى أتاه الحميل فقال: لا تفعل فقد بد لي في الحمالة، فذلك له بخلاف قوله: احلف وأنا ضامن، ثم رجع قبل اليمين لا ينفعه رجوعه؛ لأنه حق، وأجاب ابن يونس: لأن من حجة المدعي أن يقول: أنا ادعيت أن لي عليك كذا، وقد أحل هذا نفسه محل المدعى عليه، فكما لو قال المدعى عليه: احلف لي وأنا أغرم، لا يكون له رجوع، فكذلك هذا، والذي قال: عامله وأنا ضامن، كقول المعامل نفسه: عاملني وأنا أعطيك حميلاً، فكما لهذا أن يرجع فلهذا أن يرجع. وذكر المازري عن بعض أشياخه أنه إنما يرجع إذا أطلق، وأما إن قيد فقال: عامله بمائة دينار فلا رجوع له، وأنكر غيره هذه التفرقة، ورأى أنه له الرجوع مطلقاً قبل المعاملة. قال: وبعض أشياخي يجري هذا على الخلاف في الهبة هل تلزم بالقول أم لا؟ انتهى.

وقد يخرج في مسألة الضمان خلاف من الخلاف في لزوم العدة، وقد حكى في البيان في كتاب العارية أربعة أقوال: أحدها: أنها تلزم ويقضى بها، وإن لم تكن على سبب، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قضى بها. والثاني: يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل في السبب، ولا يقضى بها إن لم تكن على سبب، وهو قول أصبغ في كتاب العدة، وقول مالك في كتاب العارية من العتبية. الثالث: لا يقضي بها وإن كانت على سبب حتى يدخل في ذلك السبب، وهو قول سحنون في كتاب العدة من العتبية. الرابع: أنها لا تلزم وإن كانت على سبب دخل فيه، وهو الذي يأتي على ما رواه أشهب وابن نافع عن مالك في الموازية والعتبية، وإن مات وعليه دين لا يدرى كم هو، فتحمَّل بعض ورثته بجميعه نقداً أو إلى أجل على أن يخلَّى بينه وبين ماله، فإن كان على أنه إن فضل شيء فبينه وبين بقية الورثة جاز؛ لأن ذلك معروف وطلب خير للميت ولورثته، وإن كان الفضل له والنقص عليه لم يجز؛ لأنه غرر إلا أن يكون الوارث واحداً. ولو طرأ غريم لم يعلم به فعلى الآخر الغرم، ولا يلزمه قوله: لم أعلم به وإنما تحمَّلت بما علمت. ابن دحون: وإنما جازت للمسامحة وأصلها المنع لما فيها من الجهالة. مالك: وإن مات وعليه ثلاثة آلاف ولم يترك إلا ألفاً وله ولد واحد لا يرثه غيره، فسأل غرماء أبيه أن يدعوا الألف بيده وينظروه سنتين ويضمن لهم بقية دينهم، فرضوا بذلك جاز. ابن القاسم: وبلغني عن ابن هرمز مثله.

وَلا يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَلا بِالْجُعْلِ قَبْلَ الْعَمَلِ لأن هذا ليس بدين لازم، ولهذا لو عطفه بالفاء لكان أولى؛ لأن المكاتب لو عجز عنه رجع رقيقاً والحميل يحل محل المتحمل عنه، فإذا كان الدين ليس ثابتاً على الأصل فأحرى فرعه، وهو الحميل، وهذا هو المعروف، وقال محمد بن عبد الحكم: لا بأس بالحمالة بالكتابة كما لو تحمل رجل عن عبد غير مأذون له بالتجارة بمال أو عن رجل في ولاية بشيء اشتراه أحدهما أن ذلك يلزمه. وإن ذهب ماله باطلاً فهو الذي رضي بهذا. ابن يونس: [548/ب] ولا أعلم أن لي في هذا القول رواية، وذكر المازري أن بعض الأشياخ خرَّج قولاً بجواز الحمالة بالكتابة من قول أشهب في من قال لرجل: كاتب عبدك وعلي مائة دينار؛ لأن الحمالة بالكتابة عند هذا المخرج إنما منعت؛ لأن المقصود من الحميل حصول العتق للمكاتب، فإذا عجز لم يحصل العتق ووجب بطلان الحمالة. وهذا المعنى حاصل في مسألة أشهب، فإذا لم يكن معتبراً عنده فيها وجب ألا يعتبر في الكتابة، وردَّهُ المازري بأن من كاتب عبده على أن أعطاه حميلاً بالكتابة فقد أعطاه حميلاً بدين قد لا يثبت، فلم يصح ذلك، وفي مسألة أشهب إنما دفع إليه مالاً على أن يستأنف الكتابة فيرفع حقه في بيع العبد وانتزاع ماله والحجر عليه، فصار هذا كالمعاوضة، قال: وهذا مما ينظر فيه لإشكاله. فرع: والمنع إنما هو مع عدم اشتراط تعجيل العتق، وأما لو تحمل رجل بالكتابة على شرط التعجيل فهو جائز، ويكون للحميل الرجوع على المكاتب، قاله في المدونة. قوله: (وَلا بِالْجُعْلِ قَبْلَ الْعَمَلِ) قرره ابن راشد وابن عبد السلام على أنها منعت قبل وجازت بعد الشروع، وفيه نظر من وجهين:

أما أولاً: فإنه وإن لم يكن ديناً لازماً في الحال، ولكن يستلزم فيدخل تحت قول المصنف: (أَوْ آيِلاً إِلَيْهِ). وأما ثانياً: فلآن الذي نقله المازري صحة الضمان بالجعل، ولفظه: ومنها - أي من الحقوق المالية - ما ليس بعقد لازم كالجعالة على مذهب من يرى أن الجعل لا يلزم بالعقد كقوله: إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرة دنانير، فهذا تصح الحمالة به أيضاً قبل المجيء بالآبق، فإن جاء به لزم الحميل ما تحمل به، وإن لم يأتِ به سقطت الحمالة. وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ مُنْكَراً ضمان الوجه عبارة عن الإتيان بالغريم الذي عليه الدين وقت الحاجة، ولم يختلف في صحة ذلك عندنا. وقوله: (وَإِنْ كَانَ مُنْكَراً). ابن عبد السلام: ليس هذا موضعاً للمبالغة كما فعل المصنف؛ لأن المنكر يحتاج إلى إقامة البينة عليه فلا بد من حضوره في موضع القاضي لتوقع البينة الشهادة على عينه، وأما المقر فلا يحتاج إلى ضمان الوجه في حقه في أكثر المسائل، وإنما يحتاج في الغالب إلى ضمان المال، ولهذا ذهب بعض الشافعية إلى صحة ضمان الوجه في حق المنكر دون المقر، فلو قال: (ولو كان مقراً) لكان أولى. وَيَلْزَمُهُ إِحْضَارُهُ هذا لا خلاف فيه؛ أي يلزم حميل الوجه إحضار المتحمل عنه وهو الذي ضمن. وَيَبْرَأُ بِتَسْلِيمِهِ فِي مَكَانِ اشْتِرَاطِهِ أَوْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُ أَوْ سَجْنٍ لا يلزم إحضاره عند الحاكم، إلا أن يشترط ذلك، حكاه صاحب الكافي.

وقوله: (فِي مَكَانِ اشْتِرَاطِهِ) هذا إذا كان مكان الاشتراط باقياً على حاله تجري فيه الأحكام، وأما إن خرب فصار لا تجري فيه الأحكام، فهل يبرأ بإحضار الغريم فيه أم لا؟ قولان ذكرهما محمد بن عبد الحكم وكذلك، ذكر القولين إذا أحضره بغير بلد الاشتراط بحيث تأخذه فيه الأحكام، حكاهما ابن عبد الحكم. المازري: وهذا عندي يلاحظ مسألة الشرط الذي لا يفيد، وقد يكون هذا الشرط مفيداً كما إذا كان البلد المشترط إحضاره فيه هو موضع سكنى البينة، أو كان الحق غير عين وللطالب غرض في أخذه بمحل الاشتراط. قال في المدونة: وإن دفعه إليه بمكان فيه حاكم فيبرأ، وإن دفعه إليه في بلد لا سلطان فيه أو حال فتنة أو مفازة أو بمكان يقدر الغريم على الامتناع فيه، لا يبرأ الحميل حتى يدفعه إليه بموضع يصل إليه أو به سلطان. وقوله: (أَوْ بِبَرَاءَتِهِ) أي ببراءة رب الدين للحميل من الحمالة. (أَوْ سَجْنٍ) هو كقوله في المدونة: وإذا حضر المحمول عنه بعينه فدفعه الحميل إلى الطالب وهو في السجن بريء؛ لأن الطالب قادر على أخذه من السجن ويحبس له في دينه بعد تمام ما سجن فيه، اللخمي والمازري: وسواء سجن بحق أو باطل لإمكان أن يحاكمه عند القاضي الذي حبسه، فإن منع هذا الطالب منه ومن الوصول إليه، فيجري ذلك مجرى موته؛ وموته يسقط الكفالة. فروع: الأول: ما ذكره المصنف من البراءة بالتسليم إنما هو إذا لم تكن الكفالة مؤجلة، أو كانت مؤجلة وحل الأجل لا إن لم يحل ككون من له الدين لم يستحق الطلب، فلا يفيده إحضاره للغريم وهو لا يستحق طلبه، قاله المازري وغيره. الثاني: إذا أسلمه الغريم وهو عديم، وهو مذهب المدونة أنه يبرأ، وهو الذي يؤخذ من قوله: (وَيَبْرَأُ بِتَسْلِيمِهِ فِي مَكَانِ اشْتِرَاطِهِ) إذا لم يشترط الملاء، وروى ابن الجهم عن مالك أنه لا يبرأ، وقال به ابن اللباد.

الثالث: مذهب المدونة وهو المشهور أن الغريم لو سلم نفسه للطالب وأشهد أنه دفع نفسه إليه وقال له: أسقط الكفالة عن من تكفل بوجهي أن الكفالة لا تسقط. قال في المدونة: ولو كان في موضع تنفذ فيه الأحكام إلا أن يسلمه الحميل بنفسه أو وكيله. ابن المواز: أو يقول الحميل للغريم اذهب فسلم نفسك، ولا يكون الغريم كوكيل له، وقال ابن عبد الحكم: يبرأ الكفيل بتسليم الغريم نفسه. المازري: واختاره بعض أشياخي، وكذلك أيضاً على المشهور لا تسقط الحمالة إذا أسلمه له أجنبي، بل لا بد أن يسلمه هو أو وكيله. الرابع: لو شرط الحميل بالوجه أنك إن لقيت غريمك سقطت الكفالة عني، اعتبر هذا الشرط إن لقيه بمكان تناله في الأحكام لا إن لم تنله، قاله في العتبية. وَإِلا غَرِمَ بَعْدَ أَجَلٍ خفِيفٍ، وقِيلَ: بِغَيْرِ أَجَلٍ، وقِيلَ: لا يَغْرَمُ يعني: [549/أ] وإن لم تحصل براءة الحميل بأحد الوجوه المذكورة غرم على المشهور، وعليه فالشهور أنه يتلوم له، وهو معنى قوله: (بَعْدَ أَجَلٍ خفِيفٍ) وهو مذهب المدونة والعتبية والموازية. وقال ابن وهب: لا يتلوم له، وقيل: لا يغرم، وهو مقابل لما أصله في صدر المسألة من الغرامة. وهذا القول لابن عبد الحكم، ووجهه أنه إنما التزم إحضار الغريم وذلك لا يدل على التزام المال على المشهور من إثبات التلوُّم. ففي المدونة: وإن كان الغريم حاضراً أو غائباً قريب الغيبة مثل اليوم وشبهه تلوم السلطان للحميل، فإن أتى به بعد التلوم فلا شيء عليه وإلا غرم، وإن بعدت غيبة المكفول غرم مكانه، فحد الغيبة القريبة اليوم وشبهه.

المازري: وقيل: هي يومان وقيل: ثلاثة، واختار بعض الأشياخ اليوم؛ لأنه مقدار ما يتلوم في الحضور، وهل ذلك ثلاثة أيام لكون الحميل يسافر ليأتي بالمكفول مسافة يوم، ويتأخر يوماً في طلبه، ويأتي به في اليوم الثالث؟ وإذا قيل: يومان، اقتضى ذلك خمسة أيام، يومان في السفر ومثلهما في القدوم ويوم الإقامة في طلبه، والقول بالثلاثة أبعد؛ لأن ذلك يقتضي عندي سبعة أيام، والأصح عندي في هذا مراعاة الضرر فينفي عن الطالب ضرر التأخير الذي يضر به، وينفي عن الحميل ضرر الاستعجال الذي يضر به. فرع: وهل يتلوم لضامن المال إذا غاب الأصل أو أعدم؟ قولان لابن القاسم. فَلَوْ حُكِمَ بِالْغُرْمِ فَفِي سُقُوطِهِ بِإِحْضَارِهِ قَوْلانِ يعني: إذا حمل القاضي على حميل الوجه بالغرم لعدم الغريم، ثم أحضره فهل يسقط عنه الغرم بإحضاره؛ لأنه إنما غرم لغيبته وقد وجدوا الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وهو قول سحنون، أو يقال هو حكم مضى وهو مذهب المدونة والمشهور؟ وعلى قول سحنون إذا دفع الضامن المال قبل الإحضار مضى، وذكر عياض أنه المشهور، وقول سحنون على خلاف هذا الوجه؛ لأنه قال بعد ذلك ما في المدونة: إن كان قد حكم على الحميل بالغرم مضى الحكم، واختلف الشيوخ في المراد بالحكم هل هو شهادة الحاكم على الحميل بالغرم، وهو قول عبد الملك، وقال بعضهم: بل القضاء عليه بالمال ودفعه لربه، وأما إن لم يغرم فيسقط إذا أتى بالغريم، ومثله في سماع عيسى، ونحوه عن سحنون. انتهى بمعناه. ونقل اللخمي وابن يونس القولين، كما نقلهما المصنف، وإذا فرعنا على المشهور أنه لا يسقط الغرم عن الضامن بحضور الغريم، فقال ابن يونس وغيره: يبقى للطالب التخيير إن شاء اتبع الغريم أو الحميل.

فرع: لو غاب الغريم فأراد كفيل الوجه أن يثبت فقره ليسقط، فإنه لو حضر وهو فقير لم يلزم الحميل غرم، فقال اللخمي: له ذلك ولا غرم عليه إذا ثبت ذلك؛ لأن يمين الغرم على العدم استظهار. وقال المازري: يجري فيها قولان؛ لأن الفقر إذا ثبت بالبينة لم يحلف الغريم على ذلك؛ أي: فهل يحلف الغريم لتعذر هذه اليمين، أو لا لأنها استظهار؟ هذا معنى كلامه. فرع: وأما لو أغرم الحميل ثم أتت بينة أن الغريم مات في غيبته قبل القضاء لرجع الحميل على رب الدين بما أدى إليه، قاله في المدونة، وغيرها. فَلَوْ مَاتَ الْمَضْمُونُ لَمْ يَلْزَمِ الضَّامِنَ شَيْءٌ، وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِذَا مَاتَ بَعْدَ الأَجَلِ لَزِمَ وإَنْ كُنْتُ قُلْتُ غَيْرَ هَذَا فَاطْرَحُوهُ .... أي: فلو مات الغريم وهو مراده بالمضمون ولم يكن حكم على حميل الوجه بالضمان لم يلزم الضمان شيء، وهو مذهب المدونة، وعلله فيها بأن النفس المضمونة قد ذهبت. محمد: وهذا هو المعروف من قول مالك، وعليه جماعة من أصحابه، وعن ابن القاسم أيضاً في الموازية ما ذكره المصنف من القول الثاني، ونصه عند ابن يونس: ابن القاسم: وإن مات في غيبته وهي قريبة أو بعيدة لزم الغرم الحميل، إلا أن تكون الحمالة مؤجلة ويكون موت الغريم قبل الأجل بأيام كثيرة لو كلف الحميل المجيء به لخرج فيها ورجع قبل محل الأجل، فحينئذٍ تسقط عنه الحمالة ولا تلزمه. ابن القاسم: وإن كنت قلت لكم في هذه المسألة غير هذا فاطرحوه وخذوا هذا. فظاهر، وصرح بذلك ابن القاسم في هذا القول في العتبية أنه لو مات بالبلد لم يلزم الكفيل شيء ولو مات بغيره لفصل كما ذكرنا، وإنما لزم الكفيل الغرم في هذا القول؛ لأن تفريطه في

الغريم حتى خرج عن البلد كعجزه عن إحضاره وهو حي؛ لأنه لو منعه من الخروج لحل الأجل عليه وهو بالبلد فيتمكن رب الدين من طلبه. وعلى هذا فقول المصنف: (وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِذَا مَاتَ بَعْدَ الأَجَلِ) يريد: وبغير البلد، وقول ابن القاسم في هذه الرواية: (ويكون موت الغريم قبل الأجل بأيام كثيرة) مفهومه لو كان بأيام قليلة لكان الضمان أيضاً عليه وهو كذلك، ولكن اختلف في حد ذلك، فقال ابن القاسم في الموازية: إن بقي من أجل الدين ما لا يتحمل أن يذهب الكفيل فيأتي به لزمت الكفيل الغرامة، وقال ابن القاسم أيضاً في الواضحة: إن بقي من الأجل ما لو أقيل الغريم فيه لوصل عند الأجل فلا شيء على الحميل، وحمله على الوفاء على أن يأتي بنفسه من غير رسول، قاله اللخمي والمازري وغيرهما. فرع: لو مات حميل الوجه فالمشهور أن الكفالة لا تسقط وكأنه التزم ديناً في ذمته خلافاً لعبد الملك، وكأنه على قوله إنما التزم ما يتعلق بعينه. المازري: وعلى المشهور فإن كان الدين حالاًّ طُلِبت الورثة بإحضار الغريم، وإلا أخذ الحق من التركة، وإن كان ذلك مؤجلاً فإن الورثة أيضاً يطالبون بإحضار الغريم، فإن أحضروه سقطت الكفالة. محمد: وتسقط إذا أحضره أحد الورثة وإن كان الدين مؤجلاً. ابن عبد السلام: هكذا حكى المازري [549/ب] عن محمد، والذي رأيته في الموازية بعد أن حكى قول عبد الملك. محمد: يقال لورثته: جيئوا بالذي عليه الدين، وإلا ضمنتم. التونسي: لم يذكر متى يجيئون به ولعله أراد عند حلول الأجل. انتهى. وقل اللخمي عن محمد مثل ما نقله المازري بناء على نقله.

وعارض الأشياخ المتأخرون هذا بأن إحضار الغريم قبل الأجل لا يفيد الطالب؛ إذ لا يقدر على طلبه حينئذٍ قال: ولعل محمداً رأى هذه الحوالة تحل بموت الحميل كما تحل بموت الغريم، وما ذلك إلا لما يلحق ورثته من الضرر في قسمة التركة، وقد يتعلق بها حق الطالب لإمكان أن يحل الأجل ويغيب الغريم. فَلَوْ قَالَ: أَنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ وِشِبْهَهُ طَلَبهُ بِسَفَرِ مِثْلِهِ هذا هو حميل الطلب، وقوله (بِطَلَبِهِ وِشِبْهَهُ) يحتمل أن يريد بالشبه نحو هذه الصيغة، كما لو قال: علي أن أطلبه، وقال ابن عبد السلام: تقع حمالة الطلب على وجهين: الأول: أن يبتدئ الحمالة على ضمان الوجه، ويشترط الضامن إن لم يجده فلا شيء عليه من المال. والثاني: أن يبتدئ الحمالة على ضمان الطلب، ولما أراد المصنف الجمع بينهما قال: (فَلَوْ قَالَ: أَنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ وِشِبْهَهُ). ابن المواز: ويلحق بقوله: (أضمن وجهه وأنا بريء من المال في عدم إغرامه المال) ما لو قال: (لا أضمن إلا وجهه)؛ أي لأنه استثنى وجهه بعد أن عمم نفي الضمان لكل شيء، واستشكل صاحب المقدمات والبيان قول محمد هذا، وقال: لا فرق بين قوله: (أضمن وجهه) وبين (لا أضمن إلا وجهه)، قال: وإنما يصح ما قاله محمد إذا كان لكلامه بساط يدل على إرادة الطلب فقط، كما لو قيل له: تحمل لنا بوجه فلان فإن جئت به فأنت بريء من المال، فيقول: لا أضمن إلا وجهه. عياض: وتصح حمالة الطلب في كل شيء حتى في القصاص.

وقوله: (طَلَبهُ بِسَفَرِ مِثْلِهِ) الضمير في (مِثْلِهِ) عائد على الحميل، وكذلك قال في الجواهر، وقال اللخمي: إن لم يعلم موضعه وحيث توجه كان عليه أن يطلبه في البلد، وفيما قرب. واختلف إذا عرف موضعه، فقال أصبغ: يطلبه على مسيرة اليوم واليومين، وحيث لا مضرة فيه. وقال ابن الماجشون: يخرج لطلبه قرب أو بعد، ما لم يتفاحش، فأما ما يكون من أسفار الناس فليخرج، أو يرسل أو يؤدي عنه. ابن حبيب: والشهر ونحوه من أسفار الناس، وقال ابن القاسم في العتبية: يعتبر في هذا ما يقوى الكفيل عليه فيكلفه وما لا يقوى عليه فلا يكلفه، وقد حكى المازري هذه الثلاثة الأقوال وحكاها أيضاً صاحب البيان. قال بعد هذا: وحكى فضل عن ابن عبد الحكم أن السلطان يتلوم له فإن جاء به وإلا حبسه حتى يأتي. والظاهر أن المصنف أراد بقوله: (سَفَرِ مِثْلِهِ) قول ابن الماجشون، فإن قلت: بل أراد قول ابن القاسم، قيل: لفظة: (يقوى) تعطي من الوسع ما يعطي (سَفَرِ مِثْلِهِ). فإن قلت: لعل المصنف أراد إذا لم يعلم موضعه قيل: هناك لم يشترط سفر المثل، وإنما قالوا يطلبه في البلد وما قرب منه. فرع: ولا يلزم حميل الطلب غرم، وإن لم يأت بالغريم إلا أن يمكنه بعد الأجل إحضاره، ففرط حتى هرب أو أنذره حتى هرب، قاله غير ابن القاسم في المدونة. أبو الحسن: وهو تتميم وتفسير، وهكذا قال في العتبية؛ لأن فيها: وإن أثبت الطالب أنه خرج وأقام بقريته ولم يتمادى عاقبه السلطان بالحبس بقدر ما يرى، أو يأمره بإحضار صاحبه إن قدر عليه، وأما أن يضَّمنه المال فلا، إلا أن يلقاه فيتركه فيضمن إن أثبت ذلك عليه، وكذلك إن كان غيبه في بيته ولم يظهره، ولهذا قال ابن الهندي: عليه أن يحلف ما قصر في طلبه ولا دلس فيه ولا يعلم له مستقر.

أبو محمد صالح: وهذا على القول بلحوق أيمان التهم، وظاهر ما لابن القاسم في العتبية تصديقه من غير يمين؛ لأن فيها: إذا خرج لطلبه ثم قدم وقال: لم أجده، وقال الطالب: من يعلم أنك بلغت الموضع، القول قول المحيل إن مضت مدة يبلغ فيها ويرجع. اللخمي: وهو مثل قوله في المدونة في الأجير على تبليغ الكتاب يدعي أنه أوصله وخالفه غيره في الأجير، فيلزم على قوله أن يكلف الحميل إثبات وصوله ورده. المازري: هذا التخريج بأن الأجير يطلب إثبات دين في ذمته، والدين لا يثبت في الذمة إلا ببينة، وأما الحميل فإنه إنما يبرئ نفسه من الطلب. وَلَوْ شَرَطَ الأَجَلَ فِي الْحَال والْغَرِيمُ مُعْسِرٌ يُوسِرُ في مِثْلِهِ مَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وأَجَازَهُ أَشْهَبُ .... يعني: لو شرط الضامن التأجيل بالدين الحالِّ على الغريم والغريم حينئذٍ معسر يوسر قبل تمام الأجل، فهل يمنع لأن الزمان المتأخر عن يساره يعد صاحب الحق فيه مسلفاً - لأنه أخر ما عجل فيمتنع لأنه مسلف وقد انتفع بالحميل الذي أخذه من غريمه وهو قول ابن القاسم، وهذا على أن اليسار المترقب كالمحقق - أو يجوز؟ لأن الأصل استصحاب عسره، ويسره قد لا يكون، فلم يؤخره وكان المعسر تبرع بالضمان، وهو قول أشهب؟ أما إن لم يوسر إلا عند الأجل أو بعده فيجوز باتفاق، وهذا مفهوم من كلام المصنف. وقوله: (في مِثْلِهِ) لفظة (مثل) زائدة؛ لأن المراد في الأجل قبل فراغه، ومعنى قولنا: (يُوسِرُ) قبله؛ أي الغالب عليه أن يوسر قبله كبعض أصحاب الغلات. وفهم من قوله: (والْغَرِيمُ مُعْسِرٌ) أنه لو كان موسراً لجاز، وكذلك نص اللخمي عليه.

فَلَوْ كَانَ مُوسِراً بِالْبَعْضِ جَازَ ضَمَانُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْجَمِيعِ كما لو كان عليه مائتان وبيده مائة جاز أن يؤخر ما هو به موسر لضامن ولا مانع، وكذلك المعسر به لأنه تبرع لضامن، ولوضمنهما منع لأنه سلف جر منفعة؛ إذ تأخيره بالمائة الموسر بها سلف، وانتفع بالضمان في المائة التي هو معسر بها، وقاله اللخمي وصاحب البيان. وَلَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّلَ حالا جَازَ هكذا في المدونة: وجعل الرهن كذلك، قال: لأنه [550/أ] زيادة توثق، وأطلق كلام المصنف، وقيده ابن يونس لما إذا كان الحق مما له تعجليه، وأما إن كان عرضاً أو حيواناً من بيع فلا يجوز؛ لأنه (حط الضمان وأزيدك). ابن عبد السلام: وليس هو ببين؛ لأن رب الدين ما أخذ زيادة في نفس الحق ولا منفعة ينتفع بها، وإنما قصد التوثق، وذلك يدل على أنه لا غرض له في التأخير ولا غرض للآخر في بقاء الدين في ذمته، وتظهر فائدته مع التأخير لا مع التعجيل. انتهى. وقال اللخمي: إن أعطاه حميلاً ليتعجله قبل الأجل فإن كان الدين عيناً أو عرضاً من قرض جاز، وإن كان من بيع وكان قَصَد الغريم بتعجيله منفعة الطالب جاز، وإن أراد إسقاط الضمان عن نفسه لم يجز. وَلَوْ عَلَّقَ الضَّمَانَ بِعَدَمِ وفَاء الأَصْلِ تَلَوَّمَ الْحَاكِمُ وأَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَلِيئاً حَاضِراً .... أي: (لَوْ عَلَّقَ الضَّمَانَ بِعَدَمِ وفَاء الأَصْلِ) فقال: (أنا ضامن لك بما على فلان إن لم يوفِّك حقَّك) فإن الضمان صحيح على الوجه الذي شرط، ويتلوم له القاضي بقدر ما يرى، ثم يلزمه المال، إلا أن يكون الغريم حاضراً مليئاً، فإن القاضي يجبره على الدفع للطالب.

وَصِيغَتُهُ: تَحَمَّلْتُ، وتَكَلَّلْتُ، وضَمِنْتُ، وأَنَا زَعِيمٌ، وعِنْدِي، وشِبْهُ ذَلِكَ قوله: (وشِبْهُ ذَلِكَ)؛ أي قبيل، وأدين، وصبير، وعزيز، وينبغي أن يعتمد هنا على الألفاظ التي يستعملها العرف في الضمان لا على غيرها. فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْوَجْهَ - فَقَوْلانِ قال في المدونة: من قال: أنا حميل، أو زعيم، أو ضامن، أو قبيل، أو هو لك عندي، أو علي، أو إلي، أو قِبلي، فذلك كله حمالة لازمة إن أراد الوجه لزمه، وإن أراد المال لزمه، قالوا: ويصدق، وإن لم يدعِّ أنه أراد شيئاً فاختلف الشيوخ: هل يحمل على المال أو على الوجه؟ واختار ابن يونس وصاحب المقدمات أنه بالمال واستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الزعيم غارم»، ولأنه المتبادر من لفظة الحمالة. المازري: واختار بعض الشيوخ أنه بالوجه لكونه أقل الأمرين، والأصل براءة الذمة، ورد الاستدلال بالحديث بأنه إنما قصد بالحديث بيان حكم وجوب المطالبة للكفيل بما ضمنه، ولم يقصد به بيان حكم إطلاق هذه اللفظة. قال: ولأن الغرامة إنما تكون في الأموال لا في الأبدان؛ إذ البدن لا يصح أن يغرم، فكأنه يقول: الزعيم غارم لما ضمن، والضامن الذي يتصور فيه الغرامة إنما يكون في المال. فرع: وأما إن حقَّقَ كل واحد منهما ما وقعت به الحمالة، فقال الحميل: إنما تحملت بالوجه، وقال الطالب: بل بالمال، فالقول قول الحميل؛ لأن الأصل براءة الذمة. * * *

الشركة

الشِّرْكَةُ: إِذْنٌ في التَّصَرُّفِ لَهُمَا مَعَ أَنْفُسِهِما هي بكسرِ الشين وسكونِ الراءِ، والإجماعُ على جوازِها مِنْ حيثُ الجملةِ، ورَسَمها المصنفُ بقوله: (إِذْنٌ في التَّصَرُّفِ) أي: أُذِنَ لصاحبهِ أن يتصرَّفَ مع نفسِه، فقولُه: (إِذْنٌ في التَّصَرُّفِ لَهُمَا) كالجِنْسِ. (مَعَ أَنْفُسِهِما) فَصْلٌ أَخْرَجَ به الوِكالَةَ، قال في المقدمات، وهي مِن العُقُودِ الجائِزَةِ، لكلٍّ منهما أن ينفصلَ متى شاءَ إلا الشركةَ في الزَّرْعِ، ففي لزومِها خلافٌ؛ لتَرَدُّدِها بين الإجارَةِ والشركةِ، وسيأتي ذلك، ونحوهُ للَّخْمِيِّ، وخَرَّجَ قولاً - بلزومِها لأَوَّلِ نَضَّةٍ - من الشاذ في كراء المشاهرة أنه يلزم شهراً. قال: وأما إن أخرجا مالاً لأن يشتريا به شيئاً معيناً - فإنه يلزم إن لم يمكن كل واحد بانفراد شراؤه، أو أمكنه، ولكن اشتراؤهما أرخص، وإلا فقولان، وهما على الخلاف في شرط ما لا يفيد. وفي معين الحكام، الشركة تنعقد بالقول على المشهور من قول مالك وأصحابه، وكذلك قال ابن يونس: إنها تلزم بالعقد كالبيع، لا رجوع لأحدهما فيها كالبيع، بخلاف الجعل والقراض. ولعياض وابن عبد السلام نحوه. ابن عبد السلام: الظاهر أنه لا مخالفة بينهم، ومراد ابن يونس وغيره أنها تلزم بالعقد باعتبار الضمان؛ أي: إذا هلك شيء بعد العقد يكون ضمانه منها، خلافاً لمن يقول: إنها لا تنعقد إلا بالخلط. فإن قلت: يلزم من هذا مخالفة المدونة؛ لقوله: وإن بقيت كل صرة بيد صاحبها حتى ابتاع بها أمة على الشركة، فالأمة بينهما، والصرة من ربها. وقال غيره، لا تنعقد بينهما شركة حتى يخلطا. قيل: قد قيد اللخمي ذلك بما إذا كان في الصرة حق توفية وزن أو انتقاد، قال: وأما إن وزنت وانتقدت وبقيت عند صاحبها على وجه الشركة فضاعت - لكانت

مصيبتها منهما؛ لأن الخلط عنده ليس بشرط في الصحة. هذا نصه، وهو يدل لما قلناه، وأيضاً فلجعله الأمة بينهما، فاعلمه. الْعَاقِدانِ كَالْوَكِيلِ والْمُوَكِّلِ هذا شروع منه في بيان أركانها، يعني أن من جاز له أن يتصرف لنفسه - جاز له أن يوكل ويشارك؛ فلا يشارك العبد إلا أن يكون مأذوناً له، وكذلك غيره من المحجور عليهم، وشبهه المصنف بالوكيل والموكل؛ لأنه قد يشبه بما سيأتي، ويقرب من هذا هنا أن تأتي الوكالة أثر الشركة، واعلم أن كل واحد وكيل عن صاحبه، موكل له، وعلى هذا فيكون المصنف شبه كلا منهما بمجموع الوكيل والموكل. فإن قيل: فقد قالوا: إن الذمي لا يوكل على المسلم فهل يتأتى هنا؟ قيل: لا يبعد؛ وقد قال ابن حبيب: لا ينبغي للحافظ لدينه أن يشارك إلا أهل الدين والأمانة، والتوقي للخيانة والربا والتخليط في التجارة، ولا يشارك يهودياً ولا نصرانياً ولا مسلماً فاجراً إلا أن يكون هو الذي يتولى البيع والشراء، وإنما للآخر البطش والعمل. الصِّيغَةُ ما يِدُلُّ لَفْظاً أَوْ عُرْفاً ابن عبد السلام: يعني أن الشركة لا تختص بلفظ معين، بل كل ما يدل عليها لغة أو عرفاً، أو ما يقوم مقام ذلك من الأفعال. وفي كلامه مسامحة؛ لأنه قابل اللفظ بالعرف، فإن أراد باللفظ ما هو أعم من اللغة والعرف، فكيف يجعل العرف قسيماً له، وإن كان مراده باللفظ ما أفاد في اللغة، وبالعرف ما أفاد من الألفاظ العرفية - فقريب، إلا [550/ب] أنه يخرج عنه الفعل، وإن أراد بالعرف ما أفاد عرفاً أعم من أن يكون لفظاً أو غيره - ففيه من الإشكال أنه يكون قد فسر الصيغة بما هو أعم منها. ومثال الفعل الدال كما لو خلطا ماليهما وباعا.

مَحَلُّهَا: الْمَالُ والْعَمَلُ، فَفِي الْمَالِ: بَيْعٌ مِنْ غَيْرِ مُنَاجَزَةٍ لِبَقَاءِ الْيَدِ كلامه ظاهر التصور؛ وذلك لأنه إذا أخرج أحدهما مائة دينار، والأخر مثلها - فكأن كل واحد منهما باع نصف ما أخرجه بنصف ما أخرجه الآخر، لكنهما لم يتناجزا لبقاء يد كل واحد منهما. وقلنا: (من غير مناجزة) لأن ذلك لو كان مناجزة لاكتفى به في الصرف، ولهذا - الذي أشار إليه المصنف - كان الأصل منعها في المال الذي ذكرنا لولا الإجمال الذي نبه عليه المصنف بقوله: والإِجْمَاعُ عَلَى إِجَازَتِهَا بِالدَّنَانِيرِ والدَّرَاهِمِ مِنْ كِلا الْجَانِبَيْنِ (كِلا الْجَانِبَيْنِ) أي: أن يخرج كل واحد منهما ذهباً، أو كل واحد ورقاً. واحترز به مما لو أخرج أحدهما ذهباً والآخر ورقاً؛ لأنه ممنوع كما سيأتي، وعلى كلام المصنف يكون الإجماع على غير قياس، وأشار ابن عبد السلام إلى أن بقاء اليد لا يمنع من التناجز لاختلاف وجوه الضمان في ذلك بالجزء المبيع، ألا ترى أنه كام مضموناً قبل الشركة من البائع، وضمانه بعدها منهما، فيكون الإجماع منعقداً على مقتضى القياس، وإنما لم يكتف بهذا القدر في الصرف احتياطاً. خليل: وفيه نظر؛ لأن بيع العين بالعين مصارفة بلا إشكال، والإجماع هنا جار على غير قياس. وقد صرح صاحب المقدمات وغيره بأن هذا الإجماع ليس بجار على قياس. فَقَاسَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَلَيْهِ الطَّعَامَ الْمُتَّفِقَ فِي نَوْعِهِ وصِفَتِهِ، ومَنَعَهُ مَالِكٌ، فَقِيلَ: لأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ .... يعني: أن ابن القاسم قاس الطعامين المتفقين في الصفة على الدنانير والدراهم، والجامع حصول المناجزة حكماً لا حساً، فكما اغتفر هذا في الدنانير والدراهم - فكذلك يغتفر في الطعامين، ومنع ذلك مالك، ولأصحابه في الفرق أوجه:

أولها: ذكره عبد الحق عن شيوخه: أن في الطعامين يدخله بيع الطعام قبل قبضه؛ لأن كل واحد منهما باع نصف طعامه بنصف طعام صاحبه، ولم يحصل قبض لبقاء يد كل واحد منهما على ما باع، فإذا باع يكون كل واحد منهما بائعاً للطعام قبل استيفائه، وهذا هو الذي ذكره المصنف. ثانيها: ما أشار إليه ابن المواز أن ذلك لما يدخله من خلط الطعام الجيد بالدنيء. ثالثها: لأنه إجماع خرج من غير قياس كما تقدم، وما كان كذلك لا يصح القياس عليه على الصحيح. رابعها لإسماعيل القاضي: أن الشركة في الطعام مشروطة بالمساواة في القدر والصفة، وذلك متعذر عادة، قال: ولا ينقض هذا بجواز بيع الطعام بعضه ببعض؛ لأن المطلوب في البيع حصول المساواة في القدر فقط، ورده ابن يونس بأنه تفريع على خلاف أصل مالك وابن القاسم، وذلك لأن طرده يقتضي جواز الشركة بالطعامين المخلتفي النوع إذا حصلت المساواة في القيمة. ابن عبد السلام: قد يقال إذا كان التساوي في القيمة مع اتحاد النوع متعذراً عادة - فأحرى أن يكون متعذراً مع اختلافه. وذكر بعضهم خامساً: أن الطعام مما تختلف فيه الأغراض، ولعله راجع إلى قول إسماعيل. وسادسها: أن علل الطعام كثيرة بخلاف الدنانير والدراهم، ولعله يرجع إلى ما ذكره عبد الحق. خليل: وقد يقال: في قول إسماعيل القاضي نظر؛ لأنه لولا حصول المساواة لم يكن من ذوات الأمثال، وكذلك أيضاً فيما ذكره عبد الحق نظر؛ لأنه أجاز في المدونة الشركة بالطعام والنقد، ولو كان كما ذكر من العلة لمنع ذلك.

واحترز المصنف بقوله: (وصفته) مما لو اختلفت الصفة كسمراء ومحمولة، فإنه ممتنع عند ابن القاسم أيضاً، قال في المدونة: وسواء اتفقت القيمة أم لا، وحكى عبد الحق عن بعض القرويين أنه يجوز - على مذهب ابن القاسم - الشركة بالطعام المختلف اختلافاً يسيرا؛ كما يجوز في اليزيدية والمحمدية. قال في المقدمات: وهو محتمل. وظاهر قول ابن القاسم في المدونة أنه لا يجيز التفاضل في الطعامين المتفقين في الصفة؛ لأنه قال في غير موضع: إن ذلك لا يجوز حتى يتفقا في الكيل والجودة. وأطلق. قال: وهذا أظهر مما حكاه عبد الحق. وتُمْنَعُ فِي الدَّنَانِيرِمَعَ الدَّرَاهِمِ والطَّعَامَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا يعني: فإن أخرج هذا ذهباً والآخر دراهم - امتنع، وعلل ذلك في المدونة بأنه صرف وشركة، والصرف لا يجوز مع الشركة، وإذا لم يجز البيع مع الشركة فالصرف أولى، وأجاز ذلك أشهب وسحنون، وقالا: إنما يمنع الصرف والشركة إذا كان الصرف خارجاً عن الشركة، وأما الداخل فيها فيجوز، ورواه ابن القاسم عن مالك في الموازية. ابن المواز: وهو غلط، وما علمت من أجازه؛ لأنه صرف لا يبين به صاحبه لبقاء يد كل واحد منهما، وروى ابن وهب عن مالك الكراهة، وبذلك أخذ محمد، وقيد اللخمي ما في الموازية بما إذا تناجزا في الحضرة. فرع: ولو أخرج هذا ذهباً وورقاً والآخر مثله ذهباً وورقاً، فإنه يجوز. ابن عبد السلام: لا أعلم فيه خلافاً، ولهذا رجح جماعة قول سحنون؛ لأن التعليل الذي ذكره في المدونة في الدراهم مع الدنانير جار في هذه، وهي جائزة، قال في المدونة مفرعاً على المشهور في الشركة في الدنانير والدراهم: فإن عملا فلكل واحد رأس ماله، ويقتسمان الربح: لكل عشرة دنانير دينار، ولكل عشرة دراهم درهم، وكذلك الوضيعة،

قال: وإن عرف كل واحد السلعة التي اشتريت بماله فإن السلعة تباع، ويقسم الثمن كله. كما ذكرنا، وقال غيره: لكل واحد السلعة التي اشتريت بماله إن عرفت، ولا شركة له في سلعة الآخر. وأما الشركة بالطعامين المختلفين فالمشهور - وهو مذهب المدونة - المنع، ففيها: وإن أخرج أحدهما محمولة والآخر سمراء، أو أخرج هذا [551/أ] قمحاً والآخر شعيراً، وقيمة ذلك متفقة أو مختلفة، وباع هذا نصف طعامه بنصف الآخر - لم يجز على حال كيفما شرط، كما لا أجيز الشركة بدنانير ودراهم متفقة قيمتهما، والقول بالجواز لسحنون بشرط أن تتفق القيمة. اللخمي: يريد: والكيل. وقول المصنف: (فِيهِمَا) أي: في صورتي الدنانير والدراهم والطعامين المختلفين، وقد بينا ذلك، وفي المقدمات والبيان عن مالك قول بالجواز في مسألة الطعامين المختلفين كقول سحنون. وتَجُوزُ بِالْعَرْضَيْنِ مُطْلَقاً، ورَاسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مَا قُوِّمَ بِهِ عَرْضُهُ تجوز الشركة بالعرضين مطلقاً، أي: سواء كانا من جنس أو من جنسين، قال في المدونة: ولا بأس أن يشتركا بعرضين متفقين أو مختلفين، أو طعام وعرض على قيمة ما أخرج كل واحد. وروي عن مالك في الموازية أنه قال في الشركة بالعرضين المختلفين: ما هو من عمل الناس، وأرجو ألا يكون فيه بأس. وينبغي حمل هذا على الوفاق؛ لقوله: أرجو ألا يكون بذلك بأس. وإن كان ابن رشد حمله على الخلاف. وقوله: (ورَاسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مَا قُوِّمَ بِهِ عَرْضُهُ)؛ أي إلى يوم الإحضار.

فَلَوْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً فَرَاسُ مَالِهِ مَا بِيعَ بِهِ عَرْضُهُ لا قِيمَتُهُ يَوْمَ أَحْضَرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: فلو وقعت الشركة بالعرضين فاسدة - كما لو وقعت على تفاضل الربح أو العمل - فاختلف فيما يكون رأس مال كل واحد منهما، فالمشهور أنه ما بيع به عرضه؛ لأن العرض في الشركة الفاسدة لم يزل على ملك ربه وفي ضمانه إلى يوم البيع، وهذا كما قلنا في البيع الفاسد أنه ينتقل إلى ملك المشتري بالفوات، فيضمن قيمته يوم القبض، والشاذ الذي حكاه المصنف باعتبار القيمة يوم الإحضار. ابن راشد وابن عبد السلام: ليس بمنصوص وإنما خرجه التونسي على قول من يرى أن التمكين في البيع الفاسد يوجب الضمان، على أنه لم يجزم هذا القروي به، بل جعله مما يمكن أن يقال، والأقرب أنه لا يتخرج؛ لأن التمكين في البيع الفاسد تمكين تام؛ إذ لا شركة لأحد معه فيه، بخلافه هنا، فلا يلزم من انتقال الضمان بالتمكين التام انتقاله بالتمكين غير التام. وأشار التونسي أيضاً إلى تخريجه ما إذا أخرج أحدهما ذهباً والآخر ورقاً، فإن المشهور - وهو مذهب ابن القاسم - فسادها، مع أنه قال: إذا اشترى كل سلعة وعرفت يقتسمان الربح على حسب رأس مالهما. خليل: وقد يخرج على أن المستثنى من أصل إذا فسد، هل يلحق بصحيح أصله أو بصحيح نفسه؟ وذلك أن الشركة مستثناة من البيع؛ إذ جوز فيها من بيع النقد بالنقد والطعام بمثله ما لم يجوز في البيع، فإذا فسد فهل ترد إلى صحيح أصلها - وهو البيع - فيجيء منه المشهور، أو إلى صحيح نفسها - وهو الشركة - فتكون القيمة يوم الإحضار كما قلنا؟ عبد الحق وابن يونس: فإن لم يعرفا ما بيعت به سلعة كل منهما فلكل واحد منهما قيمة عرضه يوم البيع؛ لأن سلعة كل واحد منهما كانت من ضمانه إلى أن بيعت، فالبيع أفاتها، كما قال في الطعامين إذا خلطا: إن رأس مال كل واحد منهما ما بيعت به سلعته.

تنبيه: قوله: (فَلَوْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً ... إلخ) يقتضي أن القيمة في الشركة الصحيحة يوم الإحضار كما قلنا، وكذلك هو في المدونة. فَلَوْ خَلَطَا الطَّعَامَيْنِ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْخَلْطِ مُتَّفِقَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْمُسَاوِي، ورُويَ: يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي .... يعني: لو خلطا الطعامين في الشركة الفاسدة، أما على قول مالك فلأن الشركة في الطعامين لا تقع إلا فاسدة، وأما على قول ابن القاسم فكما لو وقعت على تفاضل الربح والعمل، أو في نوعين مختلفين كقمح وشعير، فالمشهور أنه تعتبر قيمة كل طعام منهما يوم الخلط، ولهذا التقدير الذي ذكرناه أفرد المصنف الضمير في (قِيمَتُهُ). وقوله: (ورُويَ: يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) هو لمالك في الموازية، وفهم اللخمي هذه الرواية على أن كل واحد يضمن لصاحبه مثل نصف طعامه، وإنما اقتسما على المساواة لأنهما على ذلك دخلا، وهو حسن، وأبقاها التونسي على ظاهرها؛ أي: من غير غرم، وقال في توجيهها: لأن كل واحد لم يكن متعدياً في خلطه، ودخل على أنه لا فضل له على صاحبه، ثم استشكل ذلك فقال: وقد تكون قيمة الشعير مفرداً عشرة، وقيمة القمح مفرداً عشرين، فإذا اختلطا صارت قيمة الشعير خمسة عشر، فكيف يصح أن يقتسماه نصفين؟ وإنما زادت قيمة الشعير بالقمح؛ فيجب أن يكون الزائد لرب القمح. وتَصِحُّ بِالْعَرْضِ مِنْ جَانِبٍ والنَّقْدِ مِنْ جِانِبٍ عَلَى الْمَشْهُورِ المشهور مذهب المدونة، ولم أقف على الشاذ، ولعله منع لاجتماع البيع والشركة، وإنما أجاز في المشهور هنا، ومنع في التأخير الدنانير والدراهم؛ لأنه ليس في العين والعرض إلا مانع واحد، وهو البيع والشركة، وهو مغتفر في أصل الشركة بخلاف الدراهم مع الدنانير، فإن في ذلك علتين: البيع والشركة والصرف من غير مناجزة، والله أعلم.

ويُشْتَرَطُ فِي الذَّهَبَيْنِ اتِّفَاقُ صَرْفِهِمَا لا غَيْرُ يعني: ولا ينظر إلى اختلاف الشكل، قال في المدونة: وإن أخرج أحدهما دنانير هاشمية، والآخر مثل وزنها دمشقية، أو أخرج هذا دراهم يزيدية، والآخر مثل وزنها محمدية - وصرفها مختلف - لم يجز إلا في اختلاف يسير لا بال له. اللخمي: والقياس أن لا يجوز؛ لأن الترك لموضع الشركة، كما قالوا في الإقالة والشركة في الطعام أنها جائزة على وجه المعروف، ولو قال: لا أقيلك إلا أن تقيلني ولا أشاركك إلا أن تشاركني. لم يجز؛ لأنهما أخرجا ذلك عن وجه المعروف، إلا أن يكونا عقدا الشركة على سكة واحدة ثم جاء أحدهما بأفضل. محمد: وإن أخرج هذا عشرة دنانير قائمة، والآخر عشرة تنقص حبتين، واشتركا على ترك الفضل - لم يجز. اللخمي: يريد لأن الترك للشركة. وإن أخرج أحدهما مائة مسكوكة والآخر مائة تبراً، وتساوى الذهبان - نظرت إلى فضل السكة، فإن كان كثيراً لم تجز الشركة، وإن كان يسيراً جازت إذا ألغيا ذلك الفضل على قول ابن القاسم. تنبيه: وتقدم أن عبد الحق قاس التفاوت [551/ب] اليسير في النقدين على الطعامين، وأن ابن رشد أبى ذلك، وهو مما يدل على أن الطعام يمتنع فيه ما لا يمتنع في النقدين، والله أعلم. فِي جَوَازِ غَيْبَةِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ: قَوْلانِ الجواز لمالك وابن القاسم في المدونة، والمنع لسحنون.

ابن عبد السلام: وكأنه الأقرب؛ لأن الشركة تستدعي صحة التصرف في المالين لكل من الشريكين، وذلك منتف مع غيبة أحد المالين. وقال اللخمي: والمشهور أحسن. وقيد المشهور بقيدين: أحدهما: ألا يتجرا إلا بعد قبض المال الغائب. ثانيهما: ألا تكون الغيبة بعيدة جداً. فرع: وعلى المشهور ففي المدونة: إن أخرج أحدهما ألفاً، والآخر ألفاً منها خمسمائة غائبة، ثم خرج ربها ليأتي بها وخرج بجميع المال الحاضر معه فلم يجدها، واشترى بجميع ما معه تجارة - فإن له ثلث الفضل. ابن القاسم: ولا يرجع بأجر فضل العمل كشريكين طاع أحدهما بالعمل، وقال سحنون: له أجر عمله فيما زاد. وقال محمد: إن خدعه فله ربح ماله، وإن لم يخدعه فله النصف، ولا أجر له. ابن يونس: وإنما يصح قول ابن المواز إذا اشترى بالمال الحاضر قبل علمه بضياع المال الغائب؛ لأنه اشترى على أن ذلك بينهما نصفين، وأما لو اشترى بعد علمه بضياع المال الغائب، وإن كان لم يغر، فكيف يجب أن تكون الشركة بينهما، والشركة لم تقع بعد؟ ألا ترى أن ضمان الدنانير الغائبة - ما لم تقبض - من ربها، وأنه لو اشترى بها شيئاً لكان ضمانها من بائعها فكيف في الشركة؟ وقاله التونسي، قال: وظاهر الرواية أنه اشترى بعد علمه بذهاب المال، وللخمي زيادة في هذه المسألة. ولا بُدَّ مِنْ خَلْطِ الْمَالَيْنِ تَحْتَ أَيْدِيهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ يَشْتَرِيَانِ بِهِمَا إن وقع الاختلاط بحيث لا يتميز أحد المالين من الآخر - فاتفق على أن الضمان منهما، وإن تميز ذلك ففي المدونة: وإن صر هذا ذهبه في صرة، والآخر في أخرى على

حدة، وجعلا الصرتين في يد أحدهما أو في تابوته أو في خرجه فضاعت واحدة، فالذاهبة بينهما، وإن بقيت صرة كل منهما على يده - فضياعها منه حتى يخلطا أو يجعلا الصرتين عند أحدهما، وكذلك إن كانا مختلفي السكة إلا أن الصرف واحد، ولو تفاضل الصرف - فسدت الشركة، وكانت الذاهبة من ربها، وإن بقيت صرة كل بيد ربها حتى ابتاع أحدهما بها أمة على الشركة، وتلفت الصرة الأخرى والمالان متفقان - فالأمة بينهما، والصرة من ربها. وقال غيره: لا تنعقد بينهما شركة حتى يخلطا. أي: الخلط الحسي بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، وهو قول سحنون. المتيطي: ولم يختلف ابن القاسم وغيره أن الضائعة من ربها. وقوله في المدونة: والأمة بينهما. ابن يونس: يريد بعد أن يدفع لشريكه نصف ثمنها. وبما في المدونة يعلم أن الصواب هنا (وَيَشْتَرِيَانِ) بالواو، لا ما في بعض النسخ (أَوْ يَشْتَرِيَانِ) بـ (أو)، لأن ذلك يقتضي أنهما لو اشتركا وبقيت صرة كل واحد بيده وذهبا ليشتريا - أن تصح شركتهما، وقد نص في المدونة على خلافه، لكن قال اللخمي: يحمل قوله في الضائعة قبل الشراء وقبل الجمع: إن مصيبتها من صاحبها دون شريكه. على أنه بقي فيها وجه من التوفية وزناً أو انتقاداً. ولو وزن كل واحد وقلبت ثم خليت عند صاحبها على وجه الشركة فضاعت لكانت مصيبتها منهما كالجارية؛ لأن الخلط عنده ليس بشرط في الصحة، ولو كان ذلك لكانت مصيبة الجارية - التي اشتريت بمال أحدهما قبل الجمع - من صاحبه دون شريكه؛ يعني فإن لم يحمل على ما ذكر، وإلا تعارض مع قوله: إن مصيبة الجارية منهما.

فَإِنْ شَرَطَا نَفْيَ الاسْتِبْدَادِ لَزِمَ وتُسَمَّى: شَرِكَةَ الْعِنَانِ الشركة ثلاثة أضرب: شركة أموال وشركة أبدان وشركة وجوه، وسيأتي الكلام على الأخيرين، وشركة الأموال تنقسم ثلاثة أقسام: الأولى: شركة مضاربة: وهي القراض، مأخوذة من الضرب في الأرض. والثانية: شركة مفاوضة: وهي أن يجوز فعل كل واحد على صاحبه ويشتركان في جميع ما يستفيدان، واتفق على جوازها، ولا يفسدها عندنا وجود المال لأحدهما على حدة خلافاً لأبي حنيفة، وسميت مفاوضة لتفويض كل واحد منهما لمال لصاحبه، وقيل: لاستوائهما في الربح والضمان، من قولهم: تفاوض الرجلان في الحديث. إذا شرعا فيه، وقيل: المفاوضة المشاورة. كأنهما تشاورا في جميع أمورهما. الثالثة: شركة العنان: وفسرها المصنف وابن شاس بأن يشترط كل منهما نفي الاستبداد؛ أي لا يفعل أحدهما شيئاً حتى يشاركه الآخر، وفسرها صاحب المقدمات وعياض بأنه الاشتراك في شيء خاص، وحكى الاتفاق على جوازها، ونحوه لابن عبد الحكم، وقيل: هي الشركة في كل شيء من الأشياء بعينه. وعلى أنها الشركة في شيء بعينه - قيل: المعنى في نوع خاص، كنوه البز، أو فرد خاص كثوب، وحكى ابن عبد السلام في ذلك قولين، فيتحصل في تفسيرها أربعة أقوال. ويقال: (عنان) بالكسر، وهو الأكثر لمن جعلها مشتقة من عنان الدابة، و (عنان) بالفتح لمن جعلها من عن يعن إذا عرض، أو من عنان السحاب لظهوره، ثم أشار إلى شركة المفاوضة بقوله:

وإِنْ أَطْلَقَا التَّصَرُّفَ فِي الْغَيْبَةِ والْحُضُورِ فِي الْبَيْعِ والشِّرَاءِ وغَيْرِهِ مِمَّا يَعُودُ عَلَى التِّجَارَةِ لَزِمَ .... هو ظاهر التصور، قال في المدونة: والمفاوضة على وجهين: إما في جميع الأشياء، وإما في نوع واحد من المتاجر- كشراء الرقيق -يتفاوضان فيه. فَلَوْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى نَسِيئَةً مَضَى يعني: لو باع أحد المتفاوضين أو اشترى بالنسيئة - مضى فعله ولزم ذلك شريكه. ولما كان قوله: (مَضَى) لا يؤخذ منه الحكم ابتداء - صرح بجواز ذلك بقوله: (وله ذلك ما لم يحجر) أي: عليه شريكه، بأن يقول: لا تبع بالنسيئة. وما ذكره في البيع هو في المدونة والمشهور، وفي الموازية: لا يجوز لأحدهما البيع بالدين إلا بإذن صاحبه، رواه أصبغ عن ابن القاسم، وأما [552/أ] ما ذكره في الشراء فنحوه في الجواهر، وفي كلامهما نظر؛ لأنه خلاف المنصوص في المذهب، ففي المدونة: أكره أن يخرجا مالاً على أن يتجرا فيه وبالدين مفاوضة، فإن فعلا فما اشترى به كل واحد منهما فبينهما، وإن جاوز رأس ماليهما، والشراء بالدين راجع إلى شركة الذمم. أصبغ: وإذا وقعت بالذمم فما اشترياه بينهما على ما عقدا، وتفسخ الشركة من الآن. أبو الحسن: والفسخ دليل على أن المراد بالكراهة المنع. بعض القرويين: والأشبه - على قول ابن القاسم - أن يكون لكل واحد منهما ما اشترى، وهكذا ذكر فضل أن سحنوناً طرح قول ابن القاسم، وقال: بل لكل واحد ما اشترى. ووجه قول ابن القاسم أن المشتري بينهما - ما قاله حمديس أن ابن القاسم حمل ذلك على الوكالة، وأين هذا كله من كلام ابن شاس والمصنف، نعم أجاز اللخمي الشراء على أن ينقد اليومين والثلاثة، قال: وهو مما لا بد للناس منه. قال: ولا يشتري بثمن مؤجل،

فإن فعل بغير إذن شريكه فالشريك بالخيار بين القبول والرد، فيكون الثمن على المشتري خاصة، وإن كان بإذن في سلعة معينة جاز ذلك، وإن لم يعين لم يجز ذلك ابتداء، فإن فعل فما اشتراه مشترك بينهما على المستحسن من القولين في شركة الذمم، وعلى هذا فيحمل كلام المصنف على الشيء المعين لا غيره، وإلا تناقض كلامه، فإنه في غير المعين شركة الذمم، وسيذكر المصنف أنها ممنوعة. وتَبَرُّعُهُ لا يَلْزَمُ مَا لَمْ يَكُنِ اسْتِئْلافاً لِلتِّجَارَةِ لأن التبرع خلاف ما عقدا عليه الشركة، فلذلك لا يلزم إلا ما دلت عليه أو عاد بنفع. قال في المدونة: وإن أخر أحدهما غريماً بدين أو وضع له منه - نظراً، أو استئلافاً للتجارة ليشتري منه في المستقبل - جاز ذلك. وكذلك الوكيل على البيع إذا كان مفوضاً إليه، وقيل: لا يجوز التأخير إرادة الاستئلاف؛ لأنه من السلف بزيادة. اللخمي: والأول أحسن. وفي المدونة: ليس لأحد المتفاوضين أن يعير من مال الشركة إلا أن يوسع له في ذلك شريكه، أو يكون شيئاً خفيفاً كعارية غلام ليسقي دابة ونحوه، وأرجو ألا يكون به بأس. والعارية من المعروف الذي لا يجوز لأحدهما أن يفعله إلا لإرادة الاستئلاف، ومما يجوز له - مما دلت عليه العادة لخفته - إعارة الماعون، وإعطاؤه الكسرة ونحوها. ويُطَالَبُ كُلُّ واحِدٍ بِتَوَابِعِ مُعَامَلَةِ الآخَرِ كما لو استحقت السلعة من يد المشتري. ويَرُدُّ بِعَيْبٍ وغَيْرِهِ قوله: (ويَرُدُّ) أي: ويرد أحد الشريكين المشترى بعيب اطلع عليه، سواء اشتراه هو أو شريكه، أما ما اشتراه هو فواضح، وأما ما اشتراه شريكه فلأنه وكيل عنه.

وقوله: (وغَيْرِهِ) أي: من استحقاق جزء السلعة، والرد بسبب فساد البيع، وإمضاء بيع الخيار أو رده. ويُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ عَلَى العُهْدَةِ مِنْ شَرِيكِهِ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْغَيْبَةِ انْتُظِرَ .... قوله: (ويُرَدُّ عَلَيْهِ) يعني: أن من اشترى سلعة من أحد المتفاوضين ثم اطلع على عيب وأراد ردها، فإن كان البائع حاضراً فكلامه معه؛ لأن البائع أقعد بحال المبيع، وإن كان غائباً قريب الغيبة - قال في المدونة: كاليوم ونحوه - انتظر، وترك المصنف التصريح بالكلام على الحاضر؛ لأن ذلك يؤخذ مما ذكره؛ لأنه إذا انتظر قريب الغريبة ليقع الكلام معه - فالحاضر أولى. وإن كان بعيد الغيبة، قيل: كالعشرة أيام. رد على شريكه الحاضر إذا أقام المشتري بينة أنه اشتراه على بيع الإسلام وعهدته، وله أخذ الثمن إن قالت البينة: إنه نقد الثمن، وإنه كذا. قيل: ويحتاج إذا أراد أخذ الثمن إلى إثبات أمور: بينة الشراء، ونقد الثمن، وأنه كذا، وإثبات العيب، وأنه غاب غيبة بعيدة أو بحيث لا يعلم أمد التبايع لاحتمال أن يكون قديماً والعيب حادث وبالعكس. ويحلف على ثلاثة أمور: أنه اشترى شراء صحيحاً على عهدة الإسلام، وأنه ما تبرأ إليه منه، ولا أعلمه به، وأنه لما اطلع عليه لم يرض بعد علمه. قال في المدونة: وإذا أقام المبتاع بينة أنه ابتاع على عهدة الإسلام - نظر في العيب، فإن كان قديماً لا يحدث مثله رد العبد على الشريك الآخر، وإن كان يحدث مثله - فعلى المبتاع البينة أن العيب كان عند البائع، وإلا حلف الشريك بالله ما يعلم أن هذا العيب كان عنده.

ابن يونس: يريد كان ظاهراً أو خفياً؛ لأن غيره تولى البيع كالوارث، ولو حضر البائع - حلف على البت في الظاهر، وعلى العلم في الخفي على قول ابن القاسم. قال في المدونة: وإن نكل الشريك الذي لم يبع - حلف المبتاع على البت أنه ما حدث عنده، ثم يرده عليه. وفي الموازية: أن المبتاع إنما يحلف كما كان يحلف بائعه: في الظاهر على البت، وفي الخفي على العلم. اللخمي: وإن لم تقم البينة للمشتري أنه ابتاع على عهدة الإسلام - يعني في العيب القديم - وكانت العادة البيع على البراءة - لم يعد بهذا العيب، وإن اختلفت العادة - حلف أنه اشترى على العهدة، ورده إن كان العيب مشكوكاً في قدمه وكان اشتراء البائع لذلك العبد وبيعه في غيبة الحاضر الآن، أو في حضوره وباعه في الحضرة قبل علم الآخر - لم يكن على الحاضر يمين، وإن كان اشتراه بحضرته وغاب عليه إذا كان هذا هو المتولي للشراء - أحلف على ذلك العيب، فإن حلف ثم قدم الغائب حلف أيضاً، فإن نكل حلف المشتري ورد جميعه؛ لأنه لو كان حاضراً لحلفهما جميعاً، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر - حلف ورد جميعه؛ لأنه لو أقر أحدهما وأنكر الآخر - رد جميعه [552/ب] بإقرار المقر منهما، وإن نكل الحاضر حلف المشتري، ثم لا يكون للغائب في ذلك مقال إلا أن يثبت أنه كان بين ذلك للمشتري، فإن نكل المشتري عن اليمين - سقط مقاله في الرد الآن وبعد أن يقدم الغائب؛ لأنه لو كان حاضراً ونكلا عن اليمين ثم نكل المشتري بعد نكولهما - لم يكن له شيء. انتهى. ابن يونس: ولو جاء الغائب فأقر أنه كان عالماً لانبغى أن يرده، ويلزم ذلك الشريك الحالف، ولو أنكر الغائب لحلف. فإن نكل فهل يرد عليه جميعها أو نصفها ليمين شريكه؟

ابن يونس: والذي ظهر لي أن يرد عليه جميعها؛ لأن نكوله كإقراره لأنه المعامل له، ولا يضره يمين الشريك الحاضر؛ لأنه إنما حلف على أنه لم يعلم أن به عيباً، وهو لم يعامله. التونسي: انظر لو نكل الشريك الحاضر ولا علم عنده من العيب فحلف المبتاع وردها، ثم قدم البائع فقال: أنا أحلف وأنقض الرد على شريكي. فيشبه أن يكون ذلك له؛ لأن صاحبه إنما توقف عن اليمين إذ لا حقيقة عنده، وقد يكون له ذلك في نصفه، وأما نصف الناكل فقد نكل عن اليمين فيه، فهل يمضي الرد فيه؛ لأن من وكل على بيع عبد فاليمين في العيب إذا وجد على الموكل في الذمة، لا على الوكيل، ونصفه الذي يخص صاحبه إنما باعه بالوكالة، وقد نكل عن اليمين، فانظر هذا. فَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الافْتِرَاقِ بِذَلِكَ لَزِمَ الْمُقِرَّ حِصَّتُهُ هذا قول ابن القاسم. ابن يونس: ومراده إذا لم يحلف المشهود له، قال: وقال سحنون: يلزمهما ما أقر به أحدهما في أموالهما. وظاهره أنه خلاف سحنون ولو مع الطول. وفي اللخمي: إن أقر بعد طول الافتراق لم يقبل. ويختلف إذا أقر بقرب ذلك وادعى أنه نسي، فقد اختلف في العامل في القراض يدعي بعد المقاسمة أنه أنفق من القراض، ونسي المحاسبة بها، فقال في المدونة: لا يقبل قوله. وقال في الموازية: يحلف ويكون ذل له، والشريك مثله. وفهم من قوله: (بَعْدَ الافْتِرَاقِ) أنه لو أقر قبله قبل، وكذلك نص عليه في المدونة بشرط أن يقر لأجنبي لا يتهم عليه، وأما المتهم عليه فلا، قال في المدونة: وإن أقر بدين من شركتهما لأبويه أو ولده أو جده أو جدته أو زوجته أو صديقه أو من يتهم عليه - لم يجز ذلك على شريكه، وخرج اللخمي قولاً بصحة الإقرار لمن يتهم عليه من أحد القولين في إقرار من تبين فلسه لمن يتهم عليه. قال: والمفلس أبين في التهمة؛ لأنه ينزع ماله ويبقى

مفلساً لا شيء له، فيعطي ماله لمثل هؤلاء ليعيده إليه فيعيش به، وليس للتفرقة بأن هذا يبقى في ذمته ديناً وجه. فرع: واختلف إذا أقر أحدهما بعد موت الآخر، فجعله ابن القاسم في المدونة شاهداً، ولم يقبل قوله، وقال: إذا قال الحي: رهنا متاع الشركة عند فلان، وقال الورثة: بل أودعتها أنت إياه بعد موت ولينا. فهو شاهد، وللمرتهن أن يحلف معه ويستحق. وقال سحنون: القول قول الشريك، ويلزم الورثة ما أقر به. اللخمي: وهو أصوب، وليس الموت كالافتراق: لأن الافتراق يكون عن محاسبة ومفاصلة وقطع الدعاوى، والموت أمر طرأ قبل ذلك. وَلَوْ أَقَامَ الْحَيُّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّ مِائَةً مِنَ الْمَالِ كَانَتْ بِيَدِ الْمَيِّتِ فَلَمْ تُوجَدْ ولا عُلِمَ مُسْقِطُهَا، فَإِنْ قَرُبَ مَوْتُهُ مِنْ قَبْضِهَا بِحَيْثُ لا يُظَنُّ بِهِ إِشْغَالُهَا فِي الْمَالِ فَهِيَ فِي حِصَّتِهِ، وإِلا فَلا .... أي: الميت. وقوله: (وإِلا فَلا) أي: فلا يلزمه شيء؛ لأن الغالب أنه أدخله في مال التجارة، وهذه المسألة تدل على أن الغالب مقدم على الأصل، وهي كالتي بعدها، أي قوله: ولَوْ أَقَرَّ الشَّرِيكُ أَنَّ بِيَدِهِ مِائَةً مِنَ الْمَالَ فَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْنَ طُولِ الْمُدَّةِ وقِصَرِهَا، وأَمَّا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَخَذَهَا لَمْ يَبْرَا إِلا بِالإِشْهَادِ أَنَّهُ رَدَّهَا .... قوله: (أَقَرَّ) ظاهره والآخر حي، والذي في المدونة: وإن مات أحد الشركاء فأقام صاحبه بينة أن مائة دينار من الشركة كانت عند الميت فلم توجد ولا علم مسقطها، فإن كان موته قريباً من أخذها فيما يظن أنه لم يشغلها في تجارة - فهي في حصته، وما تطاول وقته لم يلزمه، أرأيت لو قالت البينة: قبضها منذ سنة. وهما يتجران أيلزمه أو لا شيء عليه؟ انتهى.

وقوله: (أَمَّا ... إلخ) هذا ذكره ابن المواز مقيداً للمدونة، وحاصله أن كلامه في المدونة مقيد بما إذا لم يشهدوا، وأما إذا أشهد على نفسه بأخذ المائة فلا يبرأ إلا بالإشهاد أنه ردها، طال ذلك أو قصر، والظاهر أن مراد محمد بقوله: (أشهد) أن تكون البينة قصد بها التوثق كما قالوا في البينة التي لا يقبل دعوى المودع الرد معها، وهو أن يأتي بشهود يشهدهم على دفع الوديعة للمودع، وأما لو دفع بحضرة قوم ولم يقصد التوثق بشهادتهم - فلا، ولأنه الذي يفهم من قول محمد، وأما إن كان إقراره من غير قصد إشهاد - فكما ذكر ابن القاسم. فرع: كتب شجرة إلى سحنون فيمن دفع عن أخيه - وهما مشتركان مفاوضة - صداق امرأته، ولم يذكر من ماله ولا من مال أخيه، فمات الدافع، فقام ورثته، فكتب إليه: إن دفع وهما متفاوضان، ثم أقام سنين كثيرة ولا يطلب أخاه، فهذا ضعيف، وإن كان بحضرة ذلك - فذلك بينهما شطران، ويحاسب به. والرِّبْحُ عَلَى الْمَالِ، والْعَمَلُ عَلَى نِسْبَتِهِ يعني: يشترط أن يكون الربح والعمل على نسبة المال، فإذا كان لأحدهما الثلث - كان له من الربح الثلث، ولا يجوز أن يزاد أو ينقص، وكذلك العمل. وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى تَفَاضُلِ الرِّبْحِ أَوِ الْعَمَلِ فَسَدَتْ ولَزِمَ التَّرَادُّ فِي الرِّبْحِ، وفِي [553/أ] الْعَمَلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي نِصْفِ الزِّيَادَةِ .... قوله: (فَسَدَتْ) أي: الشركة. (ولَزِمَ التَّرَادُّ) أي: التراجع، فإذا دفع هذا ألفاً وهذا ألفين، ودخلا على أن الربح والعمل متساويان، فإن اطلع على ذلك قبل العمل فسخ، وإلا رجع صاحب الألفين بفاضل الربح فيأخذ ثلثي الربح، ويرجع صاحب الألف على صاحب الألفين بفاضل

عمله، فيأخذ سدس أجرة المجموع، وهذا معنى قوله: (نِصْفِ الزِّيَادَةِ)؛ لأن الذي يزيد به صاحب الثلثين الثلث. ابن عبد السلام: وقيل: لا أجر لصاحب الثلث في الزيادة، واختار اللخمي التفصيل: إن خسر فلا شيء له، وإن ربح فله الأقل من أجرة المثل وما ينوب ذلك من الربح. وأَمَّا لَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَجَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ يعني: أن زيادة أحدهما على الآخر في الربح أو العمل إنما تفسد إذا وقع اشتراط ذلك في عقدة الشركة، وأما لو تبرع أحدهما للآخر بعده فلا محذور؛ لأنه محض هبة لا ترد لأج الشركة. خليل: وانظر هذا مع قولهم: إنه إذا باع بمال ثم قال له: أخذت ذلك مني رخيصاً. فزاده - أن الزيادة تلحق بالثمن، أي: فيلزمه ردها إذا رد عليه المبيع بعيب، ولأن لنا مسائل يعد فيها اللاحق للعقد كأنه واقع فيه. وكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَفَهُ أَوْ وَهَبَهُ أي: في منع ذلك إن وقع في العقد وجوازه إن وقع بعده، وانظر كيف عدى المصنف (وَهَبَ) بنفسه، والمستعمل في كلام العرب إنما هو تعديته باللام؛ كقوله تعالى: (لِأَهَبَ لَكِ) [مريم: 19]، وقوله: (هَبْ لِي) [آل عمران: 38] إلى غير ذلك. والْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي التَّلَفَ والْخُسْرَانَ ومَا يَشْتَرِيهَ لِنَفْسِهِ لأن يد كل واحد منهما يد أمانة، فلذلك كان القول قوله في التلف والخسران، قال في الجواهر: ما لم يظهر كذبه. وإن اتهم استحلف، وإن قال: ابتعت منه سلعة وهلكت. صدق، وينبغي أن يقيد قوله بعدم المعارض.

وقد نقل الباجي عن بعض أصحابنا في العامل في القراض يدعي الخسارة ولم يبين وجهه - أنه يضمن. وقوله: (ومَا يَشْتَرِيهَ لِنَفْسِهِ) مأكولاً وملبوساً إذا كان يشبه ذلك حاله فيما يأكله ويكتسيه، وهذا إنما هو في الأكل والكسوة. ابن القاسم: وذلك بخلاف شرائه لنفسه شيئاً من العروض والرقيق، هذا له أن يدخل معه فيه، قال في الجواهر: وإن قال: هذا المال من مال الشركة، وخلص لي بالقسمة. فالقول قول شريكه؛ لأن الأصل عدم القسمة. وَنَفَقَتُهُمَا وكِسْوَتُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ مُلْغَاةٌ فِي بَلَدٍ كَانَا أَوْ فِي بَلَدَيْنِ، والسِّعْرُ واحِدٌ أَوْ مُخْتَلِفٌ، وقِيلَ: إِنَّمَا تُلْغَى فِي غَيْرِ أَوْطَانِهِمَا، كَانَا بِعِيَالٍ أَوْ بِغَيْرِ عِيَالٍ أي: نفقة الشريكين المتفاوضين، والأول هو مذهب المدونة. و (المعروف) ما لا سرف فيها. وقوله: (كَانَا بِعِيَالٍ أَوْ بِغَيْرِ عِيَالٍ) من تمامه لإتمام القول الثاني، ومعناه أن النفقة إنما تلغى إذا كانا معاً بعيال أو كانا معاً بغير عيال، وهذا إنما هو في شركة المفاوضة، وبقي عليه شرطان: الأول: أن تكون الشركة بينهما على النصف، وإن كان لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث - لم ينفق صاحب الثلث من المال إلا بقدر جزئه، ولم يجز أن ينفق بقدر عياله فيحاسب بذلك في المستقبل؛ لأنه يأخذ من المال أكثر مما يأخذه صاحبه. الثاني: أن تكون العيال متساوية أو متقاربة، قاله ابن القاسم في رواية سليمان، واكتفى المصنف عن هذا الشرط اعتماداً على ما يقوله بعد. فإن كان لأحدهما عيال دون الآخر حسب كل واحد نفقته، فإنه لا فرق بينهما.

وقوله: (وكِسْوَتُهُمَا) لأنها تبع للنفقة، ولهذا وقع في وصايا ابن شعبان فيمن أوصى لرجل بنفقته - أن له الكسوة. وقوله: (والسِّعْرُ واحِدٌ أَوْ مُخْتَلِفٌ) نحوه في المدونة، ولعل الموجب لذلك العادة وصعوبة ضبط مقدار النفقة كل يوم. وقوله: (وقِيلَ) نحوه في الجواهر. ابن عبد السلام: ولا أذكر قائله في المذهب، ووجهه إن ثبت القياس على نفقة العامل في القراض، ويلزم على هذا ألا تجب لهم الكسوة إلا في المال الكثير كالقراض. ابن يونس: وينبغي إذا كان لكل واحد عيال واختلفت أسعار البلدين اختلافاً بيناً أن يحسب النفقة؛ إذ نفقة العيال ليست من التجارة، وقال اللخمي: ظاهر المذهب أنه لا التفات إلى اختلاف السعرين، والقياس - إذا كان البلدان قراراً لهما -: أن يحاسب من كان في البلد الغالي بما بين السعرين، فإن لم يكن واحد منهما في قراره لم يحاسب بما بين السعرين، وإن كان أحدهما ببلده - وهو أغلى - حوسب، وإن كان الذي بغير لديه أغلى لم يحاسب. وينبغي أن يقيد هذا بما إذا كان الشريكان متقاربين في النفقة والكسوة، وأما إن كان أحدهما يقنع بالحرش من الطعام والغليظ من الثياب فيحسب كل واحد نفقته، قاله ابن عبد السلام. فَإِنْ كَانَ لأَحَدِهِمَا عِيَالٌ دُونَ الآخَرِ حَسَبَ كُلُّ واحِدٍ نَفَقَتَهُ تصوره ظاهر. ويَنْقَطِعُ التَّصَرُّفُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا لأن المال بعد الموت للورثة، وهذا ظاهر إن علم الحي بموت شريكه، وأما إن لم يعلم فينبغي أن يجرى ذلك على الخلاف إذا مات الموكل، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وإِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الْمَالَيْنِ حُمِلَ عَلَى النِّصْفِ ابن عبد السلام: هذا قول أشهب في الموازية بشرط أن يحلف؛ لأنه الغالب ولأنهما تساويا في الحيازة واليمين. وقال بن القاسم في الموازية أيضاً: إذا قال أحدهما: لك الثلث ولي الثلثان. وقال الآخر: المال بيننا نصفين. وليس المال بيد أحدهما - فلمدعي الثلثين النصف، ولمدعي النصف الثلث، ويقسم السدس بينهما نصفين، وفي قول أشهب نظر؛ لأن حلف مدعي [553/ب] الثلثين وأخذه النصف لا تحتمله الأصول. وفِي شَيْءٍ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ يعني: إذا تنازعا في شيء بيد أحدهما، هل هو من مال الشركة أم لا؟ فهو للشركة، وهذه مسألة المدونة لكنها مفروضة فيها في قيام البينة بالمفاوضة لا في الإقرار، لكن الظاهر أنه لا فرق بين البينة والإقرار، ونص فيها على أن القول لمدعي الدخول إلى أن تقوم البينة للآخر. بعض القرويين: وكذلك يجب إذا أقام أحدهما البينة أن الآخر شريكه في جميع ما بأيديهما إلا ما قامت البينة أن ذلك لأحدهما كالمفاوضة، ولا فرق بين اسم الشركة والمفاوضة، إلا أن المفاوضة فيها إجازة بيع كل واحد منهما على صاحبه، ونحوه لسحنون، وظاهره أن الشهادة بمطلق الشركة مقتضية لذلك. اللخمي: إن أقام رجل البينة على رجل أنه شريكه - لم يقض بالشركة في جميع أملاكهما؛ لأن ذلك يقع على بعض المال وعلى جميعه. وفي كتاب ابن سحنون: من أقر أنه شريك فلان في القليل والكثير - كانا كالمتفاوضين في كل ما بأيديهما من التجارة، ولا يدخل في ذلك مسكن ولا خادم ولا طعام، فإن قال أحدهما: هذا المال الذي بيدي ليس من الشركة، وإنما أصبته من ميراث أو جائزة أو بضاعة لرجل أو وديعة - صدق مع يمينه،

إلا أن يقيم الآخر البينة أنه من الشركة، وأنه كان في يديه يوم أقر بالشركة - كان بينهما؛ لأن العين من التجارة، ولو كان بيده متاع من متاع التجارة وقال: ليس هو منها ولم يزل في يدي قبل الشركة. كان بينهما ولم يصدق. وقال: وإن قال: فلان شريكي. ولم يزد، ثم قال: إنما عنيت في هذه الدار أو الخادم. صدق مع يمينه. وإن قال في حانوت في يده: فلان شريكي فيما فيه. ثم أدخل فيه عدلين وقال: ليس هما من الشركة. وقال الآخر: قد كانا في الحانوت يوم إقراره. كان القول قوله، أنهما كانا فيه، إلا أن يقيم الآخر بينة، وقال سحنون أيضاً وأشهب: لا يكون بينهما، ويصدق من قال أنه أدخله بعد الإقرار؛ لأن ما في الحانوت غير معلوم. انتهى. واختلف إذا شهد الشهود بالمفاوضة: هل يكتفي بذلك - وإليه ذهب ابن سهل - أو لا بد أن يقول الشهود: أقر عندنا بالمفاوضة، أو أشهد بها. وإليه ذهب ابن العطار وابن دحون وابن الشقاق؟ والأول أظهر إذا كان الشهود عالمين بما يشهدون به. فرع: وإن قالت البينة: نعلم أنه ورثه ولا نعلم هل قبل المفاوضة أو بعدها. فذلك له، ولا يدخل في المفاوضة؛ لأن الأصل عدم خروج الأملاك عن يد أربابها، فلا ينتقل إلا بيقين. ولَوِ اشْتَرَى مِنَ الْمَالِ جَارِيَةً لِنَفْسِهِ خُيِّرَ الأخَرُ فِي رَدِّهَا شَرِكَةً كَالْمُقَارِضِ لا كَالْمُودِعِ .... أي: ولو اشترى أحد الشريكين من المال جارية لنفسه للوطء أو للخدمة، قال في المدونة: وأشهد على ذلك. ابن يونس: يريد: ولم يطأها. خير شريكه بين أن يجيز له ذلك أو يردها في الشركة. قال في المدونة: وليس من فعل ذلك من المتفاوضين كغاصب الثمن أو متعد في وديعة اشترى بها سلعة، أو مقارض أو وكيل تعدى، فرب المال مخير فيما

اشترى: إن شاء أخذه أو تركه؛ لأن هؤلاء أذن لهم في تحريك المال، ولكن متعد سنة يحمل عليها. ولَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ الشَّرِكَةِ فَلِلآخَرَ تَقْوِيمُهَا أَوْ إِبْقَاؤُهَا، وقِيلَ: تَتَعَيَّنُ مُقَاوَمَتُهُمَا لَهَا، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَتَعَيَّنُ إِنْ كَانَ فِي شَرِكَةِ مُفَاوَضَةٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ .... لشراء الجارية ثلاثة أوجه: الأول: أن يشتريه لنفسه، وهو الوجه المتقدم. الثاني: أن يشتريها للوطء بإذن شريكه، فلا شكل أن شريكه أسلفه نصف ثمنها، وأن ربحه له وعليه نقصها. الثالث: أن يشتريها للتجارة ثم يطأها، فإن وطئها بإذن شريكه فكالأمة المحللة وإليه أشار بقوله آخراً: (أَمَّا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ) وإن لم يأذن ولم تحمل، فذكر المصنف ثلاثة أقوال، وتصورها من كلامه ظاهر: الأول: أن الشريك بالخيار إن شاء قومها وإن شاء أبقاها على الشركة، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، لكن في نقله نظر؛ لأن مقتضى المدونة إنما هو التخيير في إبقائها على الشركة أو إمضائها بالثمن لا بالقيمة. والقول الثاني: أنهما يتقاويانها خاصة؛ أي: يتزايدان فيها إلى أن تقف على أحدهما، وهو ظاهر قول مالك في المدونة. ابن القاسم متمماً له: وإن شاء الشريك نقدها لشريكه الذي وطئها بالثمن الذي اشتراها به، فإن لم ينقدها بالثمن الذي اشتراها به وقال: لا أقاويها، ولك أردها في الشركة، لم يكن له ذلك، وعلى هذا يقيد كلام المصنف بما إذا لم يرد الشريك إمضاءها بالثمن، ويحتمل أن يريد بالقول الثاني ما نقله ابن يونس وغيره عن ابن المواز أن المقاواة إنما تكون

بين الشريكين في هذه الأمة إذا أراد المقاواة قبل الوطء، فأما إذا وطئ أحدهما فقد لزمته القيمة إن شاء شريكه، وأما إن حملت فلا بد من القيمة في يسر، شاء شريكه أو أبى. ولم أقف على القول الثالث. واختار اللحمي التفرقة بين أن يكون الشريك فعل ذلك جهلاً معتقداً للجواز - فيجوز بقاؤها على الشركة وتحت أيديهما، وبين أن يكون وطؤه لها وهو عالم بتحريم فعله - فلا يجوز إبقاؤها على الشركة إلا أن تكون بيد الشريك الآخر، بشرط أن يكون مأموناً، واحتج بما قاله ابن القاسم في كتاب المدنيين فيمن وطئ أخته من الرضاع بملك اليمين: أنها تباع عليه إن كان عالماً، وإن ظن جواز ذلك ولم يتهم على العودة لم تبع، وتعقب التونسي قول ابن المواز المتقدم: (إنما تكون المقاواة في هذه الأمة ... إلخ) فقال: وقوله: (إنما تكون المقاواة قبل الوطء) صواب. وقوله: (إذا وطئ فقد لزمته القيمة [554/أ] إن شاء شريكه) إن كان مراده أن الشريك قد أذن له في الوطء - فتجب القيمة من غير توقف على مشيئة الشريك الآخر، كالأمة المحللة، وإن كان بغير إذنه فهو متعد إنشاء صاحبه أمضاها وإن شاء قاواه فيها. واعلم أن الأمة المشتراة للتجارة ثم يطؤها على ضربين: أحدهما: أن يشتريها للتجارة من غير قصد وطء، ثم يطؤها. والثاني: أن يشتريها ليطأها على أن الخسارة والربح فيها على المال، وهذه الثانية هي التي ذكر فيها في المدونة الخلاف، وأما الأولى فيخير شريكه بين مطالبته بالقيمة أو تركها بينهما إن لم تحمل، هكذا قاله جماعة من علمائنا رضي الله عنهم. وفي قوله: (أَمَّا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ) الإتيان بجواب أما من غير فاء، وهو لا يكون إلا نادراً: كقوله صلى الله عليه وسلم: «أما بعد: ما بال رجال» وقد كثر هذا في كلام المصنف فتتبعه.

فَلَوْ حَمَلَتْ قُوِّمَتْ يعني: أن ما تقدم إنما هو إذا وطئت ولم تحمل، وأما إن حملت فإنها تقوم، وهذا صحيح إن كان الشراء للوطء بإذن الشريك، أو اشتريت للتجارة خاصة ووطئها أحدهما بإذن الآخر، وأما إن وطئها بغير إذن فيفصل فيها - على ما علم من المشهور - بين أن يكون الواطئ مليئاً أو معدما. ولَوِ اشْتَرَى مِنَ الْمَالِ مُؤنَةً أَوْ كِسْوَةً مُعْتَادَةً لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ إِذْ عَلَى ذَلِكَ دَخَلا بِخِلافِ نَفِيسِهِمَا .... يعني: لو اشترى أحد المتفاوضين من المال مؤنة أو كسوة له أو لعياله مما يليق به، وهو مراده بقوله: (مُعْتَادَةً) فذلك له، ولا كلام لشريكه فيه؛ لأن كلاً منهما دخل على ذلك، قال في المدونة بعد أن ذكر كسوة العيال: تلغى إلا كسوة لا يبتذلها العيال كوشي ونحوه، فهذا لا يلغى. ابن المواز: ولا يلزم ذلك إلا من اشتراه. وقال سحنون: تكون الثياب بينهما. ابن يونس: يريد إن شاء ذلك شريكه لرجاء فضل الثياب أو غير ذلك. قوله: (نَفِيسِهِمَا) أي: أجودهما. وشَرْطُ شَرِكَةِ الْعَمَلِ الاتِّحَادُ فِيهِ وفِي الْمَكَانِ لما انقضى كلامه على شركة الأموال أتبعه بشركة الأبدان، ولا خلاف عندنا في جوازها. ولجوازها شروط: أولها: أن يتحد العمل، فلا يجوز أن يشترك مختلفا الصنعة كصباغ ونجار؛ لما في ذلك من الغرر؛ إذ قد تنفق صنعة أحدهما دون الآخر، فيأخذ من لم تنفق صنعته من غير عمل. أبو عبد الله الذكي: ولو كان المعلمان أحدهما قارئ والآخر حاسب واشتركا على أن

يقتسما على قدر عمليهما فيجري ذلك مجرى جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وعلى هذا تجوز الشركة بين مختلفي الصنعة إذا كانت الصنعتان متلازمتين، ونص اللخمي على الجواز فيما إذا تشاركا وأحدهما يحيك والآخر يخدم ويتولى ما سوى النسج إذا تقاربت قيمة ذلك، قال: وليس ذلك كالصنعتين المختلفتين؛ لأنهما هنا إما أن يعملا جميعاً أو يعطلا جميعاً، ولم يكن هذا غرراً. وعلى مثل هذا أجيزت الشركة في طلب اللؤلؤ، أحدهما يطلب الغوص والآخر يقذف أو يمسك عليه إذا كانت الأجرة سواء. ثانيها: أن يتحد المكان، والعلة فيه كالأولى؛ لأنه يحتمل أن ينفق أحد المكانين دون الآخر، وأجاز في العتبية كونهما في مكانين إذا اتحدت الصنعة. عياض: وتأوله شيوخنا على أنهما يتعاونان في الموضعين، وأن نفاق صنعتهما في الموضعين سواء، وعلى هذا فيكون الخلاف وفاقاً للمدونة؛ إذ ليس المقصود الجلوس في موضع إلا لتقارب استوائهما. وحمل اللخمي العتبية على الخلاف، وهذان الشرطان هما اللذان ذكرهما المصنف. والثالث: أن يتساويا في الصنعة أو يتقاربا، وإلا فلا تجوز الشركة إلا على قدر التقارب، كما لو كان أحدهما يعمل قدر الآخر مرتين، ويكون بينهما على الثلثين والثلث. اللخمي: ولو تباينا في الجودة والرداءة وكان أكثر ما يصنعانه الأدنى - جازت شركتهما؛ لأن صاحب الأعلى يعمل الأدنى، ولا حكم للقليل، وإن كان الأكثر هو الأعلى أو كان كل واحد كثيراً - لم يجز؛ لأنه غرر وتفاضل. الشرط الرابع: أن يكون في اشتراكهما تعاون؛ ففي العتبية سئل عن صيادين معهم شباك، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نشترك فما أصبنا فهنو بيننا. فضرب أحدهم شبكة فأخرج صيداً وأبى أن يعطي الآخرين، فقال: ذلك له، وليس لهما فيما أصاب شيء؛ لأنها

شركة لا تحل. قال في البيان: لأن شركة الأبدان لا تجوز إلا فيما يحتاج الاشتراك فيه إلى التعاون؛ لأنهم متى اشتركوا على أن يعمل كل واحد منهم على حدة - من الغرر البين. الخامس: أن تكون قسمتهما على قدر عملهما. فَإِنْ كَانَتِ الأَدَاةُ لأَحَدِهِمَا فَلَهُ الأُجْرَةُ، ويَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالتَّافِهِ مِنْهَا يعني: أن ما قدمه إنما هو في الصنعة التي لا آله لها، أو لها آلة ولكن لا قدر لها كالخياطة، وأما إن كانت تحتاج إلى آلة كالصباغة والنجارة والصيد بالجوارح، فيزاد اشتراط أن يشتركا في الآلة بالملك أو الإجارة من غيرهما، وهل يجوز أن يؤاجر أحدهما نصف الآلة من صاحبه؟ عياض وغيره: وهو ظاهر الكتاب. ابن عبد السلام: وهو المشهور، وعليه اقتصر المصنف، وهو معنى قوله: (فَإِنْ كَانَتِ الأَدَاةُ لأَحَدِهِمَا فَلَهُ الأُجْرَةُ) ولابن القاسم وغيره المنع إلا بالتساوي في الملك والكراء من غيرهما. واختلف إذا أخرج كل واحد منهما آلة مساوية لآلة الآخر، هي يكتفى بذلك وهو قول سحنون، أو لا بد أن يشتركا في الآلة ليضمناها، لكن إن وقع مضى، وهو ظاهر المدونة؟ واختلف في تأوليها على ذلك. وقوله: (ويَجُوزُ [554/ب] التَّطَوُّعُ بِالتَّافِهِ مِنْهَا)، قال في المدونة: كقصرية ومدقة يتطوع بها أحد القصارين على الآخر، والأداة هي الآلة، وهي الواسطة بين الفاعل والمنفعل. ولا تَصِحُّ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وفُسِّرَتْ بِأَنْ يَبِيْعَ الْوَجِيهُ مَالَ الْخَامِلِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ، وقِيلَ: هِيَ شَرِكَةُ الذِّمَمِ - يِشْتَرِيَانِ ويَبِيعَانِ والرِّبْحُ بِيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ مَالٍ، وكِلْتَاهُمَا فَاسِدَةٌ، وتُفْسَخُ .... يعني: أن شركة الوجوه اتفق على منعها، واختلف في تفسيرها، والتفسير الأول نسبه في الجواهر لبعض العلماء، والثاني لعبد الوهاب، وفسدت في التفسير الأول لما في ذلك

من الإجارة المجهولة والتدليس على الغير؛ وذلك لأن كثيراً من الناس يرغب في الشراء من أملياء السوق لاعتقادهم أن الأملياء إنما يتجرون في جيد السلع، وأن فقراءهم على العكس، فإذا دفع الفقير سلعته للوجيه بجزء من الربح - كان إجارة بشيء مجهول، وأما التدليس فهو إيهام المشتري. ابن عبد السلام: وقد كره جماعة من أهل المذهب خلط البلدي من السلع بالمجلوب، وإن كانت صفتهما واحدة، وكذلك منع أهل المذهب أيضاً خلط سلعة من غير التركة بها، ومنعوا أن يخرج التاجر من أهل السوق سلعة من حانوته فيبيعها على أنها ليست من سلع تجار السوق. وفسدت في التفسير الثاني؛ لأن ذلك من باب: تحمل عني وأتحمل عنك. وأسلفني وأسلفك. فيكون من باب الضمان بجعل، والسلف بزيادة. وقوله: (يِشْتَرِيَانِ ويَبِيعَانِ) يشترط ألا يكون ذلك في معين، وأما الاشتراك في سلعة معينة فهو جائز كما تقدم. وقوله: (وكِلْتَاهُمَا فَاسِدَةٌ، وتُفْسَخُ) ظاهر، وهو كالتأكيد لقوله: (ولا تَصِحُّ). ومَا اشْتَرَيَاهُ فَبَيْنَهُمَا عَلَى الأَشْهَرِ يعني: وما اشترياه أو أحدهما في شركة الذمم -فهو بينهما على الأشهر، يريد: قبل أن يعثر على ذلك، وقيل: بل من اشترى شيئاً فهو له. والأشهر لابن القاسم في المدونة، وبه قال أصبغ وغيره، ومقابله لسحنون، والأشهر أظهر؛ لأن كلا منهما وكيل عن صاحبه، لكن بعوض فاسد، وفساد العوض في الوكالة لا يوجب للوكيل ملك ما اشتراه باتفاق، وقاله اللخمي.

وأَمَّا اشْتَرِ هَذِهِ السِّلْعَةَ لِي ولَكَ فَوَكَالَةٌ مَقْصُورِةٌ وإِنْ حَصَلَتْ الشَرِكَةُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ جُزْءَهَا أَوْ وَرِثَاهَا .... قوله: (فَوَكَالَةٌ مَقْصُورِةٌ) أي: فلا يكون له البيع إلا بإذنه، كما لو اشترى منه جزء سلعة أو ورثها عن أب أو غيره، وهو ظاهر. وانظر كيف أولى المصنف (أَمَّا) فعلاً، وإنما يليها اسم أو حرف، ولعله على إضمار اسم، تقديره: (وأما قوله: اشتر). فرع: فلو قال: اشتر لي ولك بشرط أن تنقد عني، لكانت شركة مستلزمة للسلف، لكن لمالك في الموطأ - في الرجل يقول لآخر: اشتر هذه السلعة بين وبينك، وانقد عني وأنا أبيعها لك -: إن ذلك لا يصح حين قال: انقد عني وأنا أبيعها لك. وإنما ذلك سلف يسلفه إياه على أن يبيعها له. وظاهره أنه لولا قوله: أبيعها لك. لجازت المسألة؛ لأنه معروف صنعه أحدهما مع صاحبه من غير عوض، وهو سلفه له الثمن مع تولي الشراء عنه، وإنما دخل الفساد لمقابلة البيع بالسلف. وإذا وقعت مسألة مثل هذه فقال الباجي: تكون السلعة بينهما، وليس له بيع حظ المسلف من السلعة إلا أن يستأجره بعد ذلك استئجاراً صحيحاً وعليه ما أسلف نقداً، وإن كان قد باع فله جعل مثله في نصيب المسلف، ولو ظهر عليه قبل النقد لأمسك المسلف ولم ينقد، وهما في السلعة شريكان يبيع كل واحد منهما نصيبه إن شاء أو يستأجر عليه إن كان السلف من جانب متولي الشراء، وأما إذا كان السلف من جانب من لم يتوله، فقال ابن عبد الحكم: اختلف قول مالك في الذي يسلف رجلاً سلفاً ليشاركه وذلك منه على وجه الرفق والمعروف، قال ابن القاسم: فأجازه مالك مرة وكرهه مرة، واختار ابن القاسم جوازه.

وإن كان سلفه لبصيرته في التجارة وتشاركا على ذلك - لم يجز؛ لأنه سلف جر نفعاً. قال في البيان: ولا خلاف في الجواز إذا صحت النية في ذلك، ولا في عدمه إذا قصد منفعة نفسه، وإنما الخلاف إذا لم يقصد. وكَمَا لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً فِي سُوقِهَا لِلْبَيْعِ لا لِلْقِنْيَةِ ولا لِسَفَرٍ، وغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا حَاضِرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ لَهُ إِنْ شَاءَ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا لَهُ خَاصَّةً .... هذه المسألة تلقب بشركة الجبر، واتفق مالك وأصحابه على القول بها، وقضى بها عمر رضي الله عنه. وقوله: (سِلْعَةً) ظاهره سواء كانت طعاماً أو غيره، وهو قول ابن القاسم وغيره، ورأى أشهب أن ذلك في الطعام فقط. وظاهر قوله: (فِي سُوقِهَا) أنه لو اشتراها في الأزقة لا يكون الحكم كذلك، وهو قول أصبغ وغيره، وقال ابن حبيب: لا فرق بين السوق والزقاق. وقال في البيان: وأما لو ابتاعه الرجل في داره أو حانوته فلا شركة لأحد معه فيه ممن حضر الشراء باتفاق. وقوله: (لِلْبَيْعِ) أي: ليبيعها أو ليتجر فيها في البلد نفسه، وأما لو اشتراها للقنية أو ليسافر بها إلى غير البلد - فلا شركة لغيره معه فيها، وإذا زعم أنه لم يشتر للتجارة صدق مع يمينه، إلا أن يتبين كذبه لكثرة ما اشتراه أو غير ذلك. وقوله: (وغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا) هي جملة في موضع الحال، وظاهر كلامه إنما يكون ذلك لتجار تلك السلعة، وهو قول أصبغ وابن حبيب، وقال ابن الماجشون: ذلك لجميع التجار. وقوله: (فَإِنَّهُ يُجْبَرُ)؛ أي فإن المشتري يجبر لغيره على الشركة إن شاء الغير ذلك، إلا أن يبين الآخذ أنه إنما أخذها له فقط. فلو قال التجار لمتولي الشراء: أشركنا في هذا.

فقال: نعم. أو سكت - فيقضى لهم عليه إن طلبوا بعد ذلك الدخول [555/أ] عليه وامتنع، ويقضى له هو عليهم إن طلب منهم الدخول معه لظهور الخسارة، وإن قالوا له - وهو يسوم -: أشركنا واشتر علينا. فسكت وذهبوا، فاشترى بعد ذهابهم ثم سألوه - لم يلزمه ويحلف: ما اشترى عليهم. فلو طلبهم هو لزمهم بسؤالهم، وإن زعم فيما اشتراه أنه لم يشتره للتجارة فهو مصدق في ذلك مع يمينه، إلا أن يتبين كذبه لكثرة ما اشتراه أو غير ذلك. والْمُشْتَرَكُ مِمَّا لا يِنْقَسِمُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَمِّرَ أَوْ يَبِيعَ وإِلا بَاعَ الْحَاكِمُ بِقَدْرِ مَا يُعَمِّرُ يعني: إن كان بين شريكين من الربع ما لاحكم بقسمته، واحتاج ذلك الربع إلى إصلاح وشبهه، فيلزم من أبى العمارة أن يعمر أو يبيع لمن يعمر، فإن فعل وإلا باع الحاكم عليه بقدر ما يعمر. ابن عبد السلام: وظاهر إطلاقاتهم أن للقاضي بيع جميع نصيب الآبي مع شريكه، ويترجح هذا بأن فيه تقليل الشركاء؛ إذ يلزم مما قاله المصنف كثرة الضرر لكثرة الشركاء؛ لأنه إذا بيع بعض نصيب الآبي من ثالث صاروا ثلاثة شركاء بعد أن كانوا اثنين إلا أن يقال: فإنه إنما أبيح البيع للضرر الحاصل، وذلك يرتفع بقدر الحاجة. قوله: (والمنقسم) هو قسيم قوله: (مِمَّا لا يِنْقَسِمُ) أي: وإن كان مما يقبل القسمة قسم، وهو ظاهر. ويُجْبَرُ الْعُلْوُ السُّفْلَ عَلَى الْبِنَاءِ أَوِ الْبَيْعِ يعني: ويجبر صاحب العلو صاحب السفل أن يبني سفله أو يبيعه لمن يبنيه إذا خاف صاحب العلو على علوه السقوط. ابن عبد السلام: وقوله: (أَوِ الْبَيْعِ) يحتمل أن تكون (ال) للتعريف؛ أي: لتعريف الحقيقة، ويكون المعنى كما ذكرنا أنه ظاهر إطلاقاتهم في المسألة السابقة، وكذلك ظاهر إطلاقاتهم هنا.

ويحتمل أن تكون للعهد؛ أعني البيع السابق في كلامه. ابن القاسم: ويخير صاحب السفل بين أن يبني أو يبيعه ممن يبني. وقال سحنون: إنما يجوز البيع على هذا للضرورة إذا كان البائع لا مال له، ولو كان له مال لم يجز البيع بشرط البناء. يريد ويجبر على أن يبني. ابن العطار: يجبر صاحب السفل على البناء إلا أن يختار صاحب العلو أن يبنيه من ماله، ويمنع صاحب السفل من الانتفاع به حتى يعطيه ما أنفق. ويُعِلَّقُ السُّفْلُ الْعُلْوَ يعني: إذا وهى الأسفل واحتاج العلو إلى تعليق فهو على صاحب السفل؛ لأن التعليق كالبناء، وبناء الأسفل على صاحبه، فكذلك ما يتنزل منزلته؛ لكونه قد وجب عليه حمله، وهذا هو المعروف، وهو مذهب الرسالة. وحكى اللخمي قولاً أنه على صاحب العلو، واستحسنه. والسَّقْفُ عَلَيْهِ ويُحْكَمُ لَهُ بِهِ لَوْ تَنَازَعَاهُ يعني: والسقف على صاحب السفل، ولذلك لو تنازعاه حكم له به، وحكى الإجماع عليه، واستأنس لذلك بقوله تعالى: (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا) [الزخرف: 33]، فأضاف السقف إلى البيت، والبيت لصاحب السفل، فالسقف له. أشهب: وكذلك الباب على صاحب السفل. فرع: وأما إن كان سبب الانهدام وهاء العلو فإن كان صاحب السفل حاضراً عالماً ولم يتكلم على ذلك - لم يضمن، واختلف إذا كان صاحب السفل غائباً، وكان وهاء العلو مما يخشى سقوطه، فهل يضمن، أو لا يضمن لأنه لم يتقدم إليه؟

اللخمي: والأول أحسن، وإن تقدم إليه ولم يفعل - ضمن بالاتفاق، وكذلك إذا كان سبب الانهدام وهاء السفل، وصاحب العلو حاضر، ولم يتقدم إليه، أو كان غائباً. وتَعْلِيقُ الأَعْلَى عَلَى الأَوْسَطِ لأن الأعلى مع الأوسط كالعلو مع السفل. والسُّلَّمِ عَلَى الأَعْلَى مِنَ الأَوْسَطِ، ويُخَرَّجُ عَلَيْهِ عَلَى الأَوْسَطِ، مِنَ السُّفْلِ، وقِيلَ: كَالسَّقْفِ .... السلم الأدراج التي يصعد بها صاحب العلو إلى علوه، وكان على الأعلى من الأوسط؛ لأن السلم إنما ينتفع به صاحب الأعلى، وهذا القول لابن القاسم في مختصر ابن عبد الحكم، وخرج عليه على الأوسط من السفل، وهو تخريج صحيح. وقوله: (وقِيلَ: كَالسَّقْفِ)؛ أي فيكون السلم للأوسط على صاحب السفل، وللأعلى على صاحب الأوسط بمنزلة السقف، وهذا القول حكاه ابن أبي زيد عن بعض القرويين. ولَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَزِيدَ أشهب: إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر، وكذلك أيضاً إذا انكسرت خشبة من العلو، فليس له أن يعمل خشبة أثقل من الأولى ثقلاً يضر بالجدار. وكَنْسُ مِرْحَاضِ السُّفْلِ قِيلَ: عَلَى السُّفْلِ، وقِيلَ: عَلَى الجَمِيعِ عَلَى عَدَدِ الجَمَاجِمِ .... والأول لابن القاسم وأشهب، ووجهه أنها لصاحب السفل، وإنما لصاحب العلو الاتفاق بها كالسقف.

والقول الثاني لابن وهب وأصبغ، وهو أظهر. ابن أبي زيد: وأخذ بعض من ولي الحكم من متأخري أصحابنا بقول ابن وهب إذا كانت البئر محفورة في الفناء، وبالأول إذا كانت البئر محفورة في رقبة الدار. قال: ويجري القول في المرحاض بين الدارين على القول في العلو والسفل فيمن له رقبة البئر أو ليست له على الاختلاف في ذلك. وإِذَا انْهَدَمَتِ الرَّحَى الْمُشْتَرَكَةُ فَأَقَامَهَا أَحَدُهُمْ إِذَا أَبَى الْبَاقُونَ فَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْغَلَّةُ كُلُّهَا لِمُقِيمِهَا وعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَصِيبِهِمْ خَرَاباً، وعَنْهُ أَيْضاً: يَكُونُ شَرِيكاً في الْغَلَّةِ بِمَا زَادَ بِعِمَارَتِهِ، فَإذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا عَشَرَةً وبَعْدَ الْعِمَارَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ بِعِمَارَتِهِ، والْبَاقِي بَيْنَهُمْ ثُمَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ دَفَعَ مَا يَنُوبُهُ مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ يَوْمَ دَفَعَهُ، وقِيلَ: الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ ويَسْتَوفِي مِنْهَا مَا أَنْفَقَ .... الباء في قوله: (بِعِمَارَتِهِ) للسببية، والقول الثالث يروى عن ابن القاسم أيضاً، وهو قول ابن الماجشون، وبالقول الثاني قال ابن دينار. ابن عبد السلام: والثالث أقوى الأقوال عندي. والثاني ضعيف للشراء بغير اختيارهم، أو ينفرد بأكثر الغلة عنهم، وهو أقوى من الأول الذي حجر عنهم ملكهم، ولم يجعل لهم فيه إلا أجرة الخراب. فإن قيل: والثالث أيضاً ضعيف؛ لأن متولي النفقة [555/ب] أخرج من يده ما أنفق دفعة واحدة ويأخذه مقطعاً من الغلة. قيل: هو الذي أدخل نفسه في ذلك اختياراً، ولو شاء لرفعهم إلى القاضي فحكم عليهم بما قاله عيسى بن دينار عن مالك: إما أن يبيعوا، أو يصلحوا، أو يبيعوا ممن يصلح.

ولِكُلٍّ الْمَنْعُ فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ يعني: لكل واحد من الشريكين منع شريكه من التصرف في الجدار المشترك حتى يأذن له شريكه كسائر الشركات. وفي جَبْرِ مَنْ أَبَى القِسْمَةَ قولان الجبر لابن القاسم في المدونة بشرط عدم الضرر في ذلك، قيل له: فإن كان لكل واحد جذوع، قال: إذا كان جذوع هذا من هنا، وهذا من هنا لم يستطع قسمته، ولكن يتقاوياه، بمنزلة ما لا ينقسم من العروض والحيوان. والقول بعدم الجبر نسبه اللخمي لأشهب، قال ابن القاسم: لأن قسمته ضرر على من أبى، وليس منه شيء إلا وله فيه مرفق يضع فيه خشبه، ويضرب فيه وتده، ويربط فيه دابته. انتهى. ونسبه غيره لمطرف وابن الماجشون قالا: لا يقسم إلا عن تراض، مجرداً كان أو حاملاً. واستشكل اللخمي قول ابن القاسم إذا كان لكل منهما عليه جذوع لا تمكن قسمته. قال: لأن الحمل عليه لا يمنع القسم كما لا يمنع قسمة العلو والسفل، وحمل العلو على السفل، ورأى أن يقسم طائفتين على أن من صارت إليه طائفة كانت له، وللآخر عليه الحمل، وقد أجاز ابن القاسم المقاواة، وإنما تصح المقاواة على أن من صار إليه الحائط كان ملكه له وللآخر عليه الحمل، وإذا جازت المقاواة على هذه الصورة والصفة - كانت القسمة أولى. ابن العطار: اختلف في صفة قسمته، فعند ابن القاسم: يمد الحبل بينهما فيه طولاً لا ارتفاعاً من أوله إلى آخره، ويرسم موقف نصف الحبل، ويقرع بينهما، ويكون لكل منهما الجانب الذي تقع عليه قرعته. وقال عيسى بن دينار: يقسم بينهما عرضاً فيأخذ كل منهما نصفه مما يليه.

وإِذَا انْهَدَمَ فَفِي جَبْرِ مَنْ أَبَى عِمَارَتَهُ: قَوْلانِ حكى ابن الجلاب القولين روايتين. فقال: وإذا انهدم الحائط المشترك، وكان شركة بين اثنين، فأراد أحدهما بناءه وأبى الآخر، ففيها روايتان: إحدهما: أنه يجبر الذي أبى على بنائه مع شريكه. والأخرى: أنه لا يجبر عليه، ولكن يقتسمان عرصة الحائط ونقضه، ثم يبني من شاء منهما لنفسه. فَلَوْ هَدَمَهُ أَحَدُهُمَا ضَرَرَاً رَدَّهُ كَمَا كَانَ، ولإِصْلاحٍ قَوْلانِ حاصله أنه إن هدمه أحدهما ضرراً لزمته إعادته كما كان اتفاقاً، واختلف إذا كان على غير وجه الضرر، وهو معنى قوله: (ولإِصْلاحٍ قَوْلانِ) ومقتضى كلامه أنه في الجدار المشترك، وهو ظاهر كلامه في الجواهر، ولم ينقل ابن يونس هذا إلا فيما إذا كان الحائط لأحدهما، فإنه قال في العتبية: وإن كان لأحدهما فهدمه ربه أو انهدم من غير فعله - وهو قادر على رده - فتركه ضرراً، أجبر على رده، وإن كان ضعف عن إعادته عذر، وقيل للآخر: استر على نفسك إن شئت. ابن القاسم: وإن انهدم بأمر الله تعالى لم يجبر على إعادته، وكذلك لو هدمه هو لوجه منفعة ثم عجز عن ذلك أو استغنى عنه، فإنه لا يجبر على رده، ولو هدمه لضرر جبر على رده. وقال ابن سحنون عن أبيه: لا يجبر ربه على بنائه إذا انهدم في قول ابن القاسم. ابن يونس: وإذا كان لأحدهما فطلب هدمه لم يكن له ذلك إلا أن يعلم أنه لم يرد به الضرر. فإن خيف سقوطه فهدمه - لم يجبر على دره، فإن انهدم بغير فعله لم يجبر على بنائه. ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: وليس لربه هدمه، وإن فعل لزمه إعادته؛ لأنه مضر. ولو قال: أنا محتاج إلى هدمه. نظر في ذلك، فإن تبين صدقه ترك ليصلح على نفسه

وأمر بإعادته للسترة التي قد لزمته. وقال أصبغ: له أن يهدمه لمنفعة أو لغير منفعة، ويفعل ما أحب. ولا أقول به. وعَلَى الْجَارِ أَنْ يَاذَنَ فِي الدُّخُولِ لإِصْلاحِ حَائِطٍ وشِبْهِهِ إنما كان ذلك عليه ارتكاباً لأخف الضررين. بعض أصحابنا: وليس لصاحب هذا الجدار أن يطينه من دار جاره؛ لأن ذلك يزيد في غلظ الجدار، وعد بعض العلماء من غير أهل المذهب هذا من باب الورع. سحنون: وإن وقع ثوب لك في دار جارك فعله أن يأذن لك في الدخول لتأخذه أو يخرج لك به. ويُنْدَبُ إِلَى إِعَارَةِ الْجِدَارِ لما في الصحيحين والموطأ: «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره» قال: ثم يقول أبو هريرة: (ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم). بالتاء، والنون، روايتان، وكذلك روي: خشبة بالإفراد، وخشبه بالجمع. والمشهور ما ذكره المصنف أن ذلك مندوب، ولا يقضى عليه إن امتنع. وقال ابن كنانة: هو واجب، ويقضى عليه إن امتنع لظاهر الحديث. قال في الاستذكار: وإنما حمل على الندب لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلى برضى نفسه»، وهل لجار المسجد أن يغرز خشبة في جدار المسجد؟ للشيوخ فيه قولان. فَإِنْ أَعَارَ لَمْ يَرْجِعْ مُطْلَقاً، وقِيلَ: إِلا أَنْ يَعْرِضَ مُحْوِجٌ غَيْرُ الضَّرَرِ قوله: (مُطْلَقاً)؛ أي طال الزمن أو قصر، عاش أو مات، باع أو ورث، احتاج إلى جداره أو لا، وهو قول مطرف وابن الماجشون - وروياه عن مالك - قالا: إلا أن ينهدم الجدار ثم يعيده صاحبه، فليس للمعار له أن يعديه إلا بعارية مبتدأة.

وقوله: (وقِيلَ) هو لابن القاسم ومالك: إذا أذن له فليس له أن يرجع إلا لحاجة تنزل به، له - بها - عذر، ولم يرد الضرر لما ماج بينه وبينه، فليس له ذلك، وقال أصبغ: إذا مضى من [556/أ] الزمن ما يعار مثله إلى مثل ذلك الزمان - فله منعه. وحصل ابن زرقون في هذه المسألة ومسألة عارية العرصة للبناء والغرس ستة أقوال: هذه الثلاثة، والرابع نسبه للمدونة: له أن يرجع وإن لم يحتج. من قوله في عارية العرصة: ويدفع له ما أنفق أو قيمته قائماً أو منقوضاً على الاختلاف فيه. والخامس لأشهب وابن نافع: الفرق بين ما تكلف فيه نفقة - فلا يرجع، وبين ما لا يتكلف فيه نفقة - فيرجع. والسادس لسحنون: الفرق بين غرز الخشبة في الجدار - فلا يرجع، وبين الإذن في العرصة - فيرجع. سحنون: لأن من أهل العلم من يرى القضاء بغرز الخشبة وإن لم يأذن صاحب الجدار، فكيف إذا أذن؟ الباجي: وهل يلزم ذلك بمجرد الإذن أم لا؟ الظاهر من قول مطرف وابن الماجشون أنه إن أذن فلا رجوع له. ابن عبد السلام: وهذا معنى ما حكاه المؤلف، وهو الذي نقله غير واحد. ومِثْلُهُ فَتْحُ بِابٍ أَوْ إِرْفَاقٌ بِمَاءٍ هذا معطوف على الجدار؛ أي يندب إلى إعارة الجدار، ويندب إلى مثل فتح باب أو إرفاق بماء، وهو ظاهر. وفي بعض النسخ: (مثل) بإسقاط حرف العطف، فيكون شبه لإفادة الحكم، والأول أحسن.

وإِذَا تَنَازَعَا جِدَارَاً - فَصَاحِبُ الْيَدِ: صَاحِبُ الْوَجْهِ والْقُمُطِ والطَّاقَاتِ والْجُذُوعِ يعني: إن ادعى كل من الجارين الجدار - فصاحب اليد منهما من كان إليه وجه الجدار والطاقات؛ أي غير النافذة، ومعاقد القمط، أي الخشب التي بين البنيان، أو كان له عليه جذوع دون صاحبه، فإن لم يكن لأحدهما شيء من ذلك أو كان لهما جميعاً - فهو لهما؛ لأنه بأيديهما، وكذلك راكب الدابة مع المتعلق بلجامها، الراكب أولى، وهذا إنما هو مع عدم البينة، وأما مع قيامها فيجب الاعتماد عليها لا على هذه الوجوه. ابن القاسم: وإن كان عقد الجدار إليهما فهو بينهما؛ أي بعد أيمانهما، وكذلك إن كان منقطعاً عنهما، أو كانت لكل منهما كوى، وإن كان لأحدهما عشر خشاب وللآخر سبع - فهو على حاله، وليس لأحدهما أن يزيد. سحنون: وإن كان لأحدهما خشبة وللآخر عشر - فهو بينهما نصفين، وقال غيره: هو لصاحب العشرة إلا موضع الواحدة. وقالوا: إن كان لأحدهما خمس، وللآخر أربع - فهو بينهما نصفين. أشهب: وإن كان عقده لأحدهما - وللآخر عليه جذوع - قضي به لذي العقد، ولصاحب الجذوع بموضعها. سحنون: ولو كان عقده لأحدهما من ثلاثة مواضع، ومن ناحية الآخر من موضع - قسم بينهم على عدد العقود. قال صاحب المعين: وإن كان لأحدهما عليه ربط فهو له، ولا يلتفت مع ذلك إلى وجه الحائط ولا لخشب الآخر. وتَجْلِسُ الْبَاعَةُ فِي الأَفْنِيَةِ لِلْبَيْعِ الْخَفِيفِ، وقَضَى بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لأَرْبَابِ الدُّورِ، يُرِيدُ بِالانْتِفَاعِ إِلا أَنْ تُحَازَ .... أصبغ: إنما يباح الانتفاع بالأفنية ما لم يضيقوا الطريق، أو تمنع المارة أو يضر بالمسلمين.

والضمير في (بها) عائد على الأفنية، وفسر ابن حبيب ما روي عن عمر رضي الله عنه بنحو ما ذكره المصنف، وقاله من أبضى من أهل العلم، ويبين لك ما أشار إليه المصنف - من حمل كلام عمر على الأمر الخفيف - ما روي أيضاً عن عمر أنه مر بكير حداد في السوق فأمر بهدمه، وقال يضيقون على الناس. فدل على أنه إنما أباح الانتفاع اليسير. فَلَوْ حَازَ هُدِمَ مَا يَضُرُّ، وفِيمَا لا يَضُرُّ: قَوْلانِ لا خلاف في هدم ما يضر بالناس، والمشهور هدم ما لا يضر أيضاً. ابن راشد: وقال أصبغ: لا يهدم، ولكن يكون جرحة في حقه إن كان اقتطاعه ذلك بمعرفة. وفي المجموعة: قال ربيعة: من بنى مسجداً في طائفة من داره فلا يزيد فيه من الطريق. وقال مالك: إن كان لا يضر بالناس فلا بأس. انظر إن كان هو على المشهور أو الشاذ. والرَّوْشَنُ وشِبْهُهُ، والسَّابَاطُ لِمَنْ لَهُ الْجَانِبَانِ جَائِزٌ بِغَيْرِ إِذْنٍ الروشن هو الجناح يخرجه الرجل على حائطه، والساباط أن يكون له حائطان مكتنفان بالطريق فيمد خشباً عليهما لينتفع بذلك. ابن شعبان: يشترط في عدم منعه أن يرفع ذلك عن رءوس الركبان رفعاً بيناً. فروع: الأول: قال في المدونة: ومن رفع بنياناً رفعاً بيناً فجاوز به بنيان جاره ليشرف عليه لم يمنع من رفع بنيانه، ومنع من الضرر، ومن رفع بنياناً فسد على جاره كواه وأظلم عليه أبواب غرفه وكواها، ومنعه الشمس أن تقع في حجرته لم يمنع. ابن كنانة: إلا أن يرفع البنيان ليضر بالجار دون منفعة له فيمنع. وروى ابن دينار عن ابن نافع أنه يمنع من ضرر منع الريح والضوء والشمس.

الثاني: اختلف في الأندر إذا أراد من له دار ملاصقة له أن يبني فيها ما يمنع الأندر من الريح أو نحوه، فقال ابن القاسم وابن نافع: يمنع. ابن نافع: وإن احتاج إلى البنيان. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يمنع. الثالث: اختلف فيمن اتخذ كوى وأبواباً يشرف منها على دار جاره، فقال مالك وابن القاسم: يمنع. ورواه ابن وهب وزاد: ولا يكلف أن يعلي بنيانه حتى لا يراه. وفي المبسوط عن ابن مسلمة: لا يمنع. ورواه ابن المعذل عن ابن الماجشون. قال: ويقال له: استر على نفسك إن شئت. والأول هو المعروف، ولهذا قال فيمن بنى مسجداً وجعل له سطحاً يطلع منها على دار رجل: يجبر بانيه على أن يستر على سطح المسجد، ويمنع الناس من الصلاة فيه حتى يتم الستر. واختلف فيمن بنى غرفة وفتح فيها أبواباً أو كوى يطلع منها على قاعة غيره - وأراد صاحب القاعة منعه، وقال: هذا يضر بي إذا بنيت قاعتي داراً - على ثلاثة أقوال: قال مطرف: يمنعه قبل بناء القاعة أو بعده. وقال ابن الماجشون: [556/ب] لا يمنع مطلقاً. وقال ابن القاسم: يمنعه بعد أن يبني القاعة، ولا يمنعه قبله. الرابع: من فتح باباً على دار غيره فلما قام عليه أراد أن يسده من خلفه، فقال سحنون: ليس له ذلك، وليسد الباب مخافة أن يشهد قوم أنهم يعرفون هذا الباب منذ سنين كثيرة. وقال ابن الماجشون: ما يلزمه سده، وله أن يجعل أمامه ما يستره. الخامس: من باع داراً وقد أحدث جاره بها مطلعاً أو مجرى ماء أو غير ذلك من الضرر، فقال مطرف وابن الماجشون: إن كان البائع لم يقم في ذلك حتى باعها فلا قيام للمشتري، ولو كان قد قام يخاصم فلم يتم له الحكم حتى باع - فللمشتري أن يقوم ويحل محله. وفي أحكام ابن بطال: معناه أن الحكم قضي به وأعذر، وتعين التسجيل والإشهاد، ولو بقي شيء من المدافع والحجج - لم يجز؛ لأنه بيع ما فيه الخصومة، وهو أصل مختلف فيه.

السادس: قال مطرف: وإن كان لرجل شجر إلى جنب جدار آخر فيضر به، فإن كانت أقدم من الجدار - وكانت على حال ما هي عليه اليوم من انبساطها - لم تقطع، وإن حدثت لها أغصان بعد أن بني الجدار وأضر ذلك بالجدار - فليقطع منها ما أضر بالجدار مما حدث، وقال ابن الماجشون: يترك ما حدث وانتشر من الأغصان، وإن أضر ذلك بالجدار؛ لأنه قد علم أن هذا شأن الشجر، فقد حاز الثاني من حريمها قبل بناء الجدار، وقال أصبغ بقول مطرف وابن حبيب وعيسى بن دينار. صاحب البيان: وهو أظهر. ابن يونس: وقالوا أجمعون: إن كانت الشجرة محدثة بعد الجدار فإنه يقطع منها ما آذى الجدار من قليل وكثير. انتهى. ولا يقطع منها شيء إن ادعى الجار أنه يتطرق عليه منها، ولا حجة له أيضاً فيمن يطلع ليجنيها، وإن كان إذا طلع أشرف على دار جاره. مطرف وابن الماجشون وغيرهما: وليؤذن جاره. وأما لو رفعت الصومعة حتى صارت تكشف على من حولها ففي سماع أشهب: لم أر أن يمنعوا من رفعها. ابن رشد: ولا يدخل في طاعة بمعصية. السابع: سأل حبيب سحنوناً عن خربة لرجل فيها زبل لا يدرى من يلقيه فيها، فقام جار الخربة على ربها؛ لأن ذلك يضر به، وقال صاحبها: ليس ذلك من جنايتي وأنا لا أسكن ذلك، وثبت أن ذلك يضر بحائط جاره، وقال: أرى على صاحب الخربة نزع الزبل الذي أضر بجاره. سحنون في موضع آخر من كتاب ابنه في الزبل يجتمع في خربة لقوم أو في فناء يضر بالناس: أن على جيران الموضع كنسه. يريد الأقرب فالأقرب على الاجتهاد.

أبو محمد: لأن الغالب أنهم يلقونه فيها. قال يحيى بن عمر في تراب لقوم في موضع فنقله السيل من موضعه إلى زقاق لقوم فسد عليهم مخرج بابهم، قال: يقال لصاحب التراب: خذ ترابك. وإن أبى قيل للذين سد عليهم: اطرحوه إن شئتم. ولا يجبر صاحب التراب على نقله إن أبى. والطَّرِيقُ الْمُنْسَدَّةُ الأَسْفَلِ كَالْمِلْكِ لأًصْحَابِ دُورِهَا فَبِالإِذْنِ يعني: أن ما قدمه في مسألة الروشن والساباط إنما هو في السكة النافذة، وأما غير النافذة، وهو مراده بقوله: (الْمُنْسَدَّةُ الأَسْفَلِ) فلا يجوز لأحد سكانها أن يحدث فيها روشناً أو غيره إلا بإذن الجميع. ابن عبد السلام: وقال: كالملك لأرباب دورها، ولم يقل: ملكاً، إشارة إلى أنها ليست مملوكة لهم ملكاً تاماً؛ إذ لو كانت مملوحة لهم ملكاً تاماً لكان لهم أن يحجروه على الناس بغلق، وظاهر كلام بعضهم أنه ليس لهم ذلك، وبه حكم بعض قضاة بلدنا وهد على من فعله. فرع: هل يحدث باباً في السكة إن كانت غير نافذة أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أن ذلك لا يجوز إلا بإذن جميع أهل الزقاق، وإليه ذهب ابن زرب قياساً على مسألة المدونة في الدارين تكون إحداهما في جوف الأخرى، وبه جرى العمل بقرطبة. الثاني: أن له ذلك فيما لم يقابل باب جاره، ولا قطع عنه مرتفقاً، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقول ابن وهب في العتبية. الثالث: أن له تحويل بابه على هذه الصفة إذا سد الباب الأول، وليس له أن يفتح باباً لم يكن قبل بحال، وهو دليل قول أشهب في العتبية. ابن رشد: ويتحصل في فتح الرجل باباً أو حانوتاً في مقابلة جاره في السكة النافذة ثلاثة أقوال:

الأول: له ذلك جملة، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقاله أشهب في العتبية. والثاني: ليس له ذلك جملة إلا أن ينكب، وهو قول سحنون. والثالث: له ذلك إذا كانت السكة واسعة، وهو قول ابن وهب في العتبية، والسكة الواسعة سبعة أذرع فأكثر؛ لما في المجموعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اختلف الناس في طرقهم فحدها سبعة أذرع». * * *

الوكالة

الوَكَالَةُ نِيَابَةٌ فِيمَا لا تَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ شَرْعاً الوكالة لغة: الحفظ، وفيه: (وكَفَى بِاللَّهِ وكِيلاً) [النساء: 81] أو الكفالة والضمان، قال تعالى: (أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وكِيلاً) [الإسراء: 2]. قيل: حافظاً. وقيل: كفيلاً، قاله عياض. الجوهري: والاسم الوكالة. ورسمها المصنف اصطلاحاً: بأنها نيابة فيما لا تتعين فيه المباشرة. ويكون قريباً من قول صاحب التلقين: كل عقد جازت فيه النيابة جازت فيه الوكالة. وأجمعت الأمة على جواز الوكالة من حيث الجملة. فَتَجُوزُ فِي الْوَكَالَة، وَالْكَفَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْجَعَالَةِ، وِالنِّكَاحِ، وَالطَّلاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ .... عطف بالفاء لترتبه على ما قبله؛ إذ لا تتعين المباشرة في جميع الأشياء، يوكل من يوكل أن يعمل، وأن يوكل من يأخذ له كفيلاً، وأن يوكل من يحيل غريمه على مديانه. والجعالة: أن يوكل من يجاعل على عبده الابن جعلاً، وهو ظاهر. وَفِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ، وَفِي الْحَجِّ خِلافٌ تَقَدَّمَ أي: في الحج، ولا خلاف ما ذكره في العبادات المالية. وَلا تَجُوزُ فِي مِثْلِ يَمِينٍ وَظِهَارٍ لم تجز في اليمين لأنها لا تقبل النيابة؛ لأن اليمين من الأعمال البدنية ودخل في [557/أ] اليمين الإيلاء واللعان، وكذلك لا تجوز في الوضوء والصلاة. وإلى أن الأيمان من الأعمال البدنية أشار بقوله: (مِثْلِ يَمِينٍ).

وقوله: (وَظِهَارٍ) لأن الظهار يمين ولأنه منكر من القول وزور، فلا تجوز الوكالة فيه كسائر المعاصي وما لا يجوز للآمر فعله. وكذلك نص عليه المازري في التعليقة وصاحب الجواهر، وكذلك قرره ابن راشد وابن عبد السلام. والأقرب عندي أن الظهار كالطلاق؛ لأنه إذا قال الوكيل لزوجة موكله: أنت عليه كظهر أمه، فهو كقوله لامرأة موكله: أنت طالق. وَيَجُوزُ فِي الإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ وتجوز الوكالة بالإقرار عنه، أو على أنه يناكر عليه بما ادعى خصمه واليمين على الموكل بلا خلاف، ولا خلاف أنه لا يكون للوكيل الإقرار إلا بما قيده موكله عنه، وأما إن أطلق له الوكالة؛ فالمعروف من المذهب أن الوكالة على الخصام لا تستلزم الوكالة على الإقرار إذا لم يجعله إليه ولو أقر لم يلزمه. وروي عن مالك لزوم ما أقر به، وعلى الأول، فقال ابن العطار وجماعة من الأندلسيين وغيرهم: إن من حق الخصم ألا يخاصم الوكيل حتى يجعل له الإقرار. قال في البيان: ونزلت عندنا وقضى فيها بأنه لا يلزمه ما أقر به الوكيل. قال في الكافي: وبه جرى العمل عندنا. وزعم ابن خويز منداد أن تحصيل المذهب أنه لا يلزمه إقراره. قال في الكافي: وهذا في غير المفوض. قال: واتفق العلماء فيمن قال ما أقر به على فلان فهو لازم لي أنه لا يلزمه. واختلف أصحاب الشافعي إذا قال الموكل لوكيله: أقر عني لفلان بألف، هل يكون ذلك إقراراً لفلان بالألف؟ واختار المازري أنه أقرار، واستشهد بما لأصبغ في العتبية فيمن وكله رجل على خصام رجل في شيء أن إقرار الوكيل لا يلزم الموكل. قال: ولو شهد أنه جعله في الإقرار عنه كنفسه؛ فإن إقرار الوكيل يلزمه. ابن عبد السلام: وليس فيه كبير شاهد.

ابن راشد: قال فقهاء طليطلة: من وكل رجلاً على طلب حقوقه والمخاصمة عنه والإقرار والإنكار فأقر الوكيل أن موكله وهب داره لزيد، أو قال: لفلان على موكلي مائة دينار أن ذلك لازم لموكله. وأنكر ذلك ابن عتاب وغيره، وقالا: إنما يلزمه فيما كان من معنى المخاصمة التي وكله عليها أبو الأصبغ. وهذا هو الصحيح عندي وهو في شفعة المدونة. قال ابن القاسم: من وكل رجلاً على قبض شفعته فأقر أن موكله سلمها فهو شاهد يحلف المشتري معه وتبطل الشفعة إلا أن يكون الشفيع المشهود عليه غائباً فيتهم موكله على الانتفاع بالمال وله بال فلا تبطل. وَالْمُعْتَبَرُ الصِّيغَةُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا المعتبر في صحة الوكالة مثل: وكلتك، وأنت وكيلي، أو ما يقوم مقامها من قول أو فعل؛ كقوله: تصرف في هذا، وكإشارة الأخرس ونحوه. فَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ فَقَوْلانِ؛ تَخْرِيجاً عَلَى قَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ: اخْتَارِي لما ذكر الصيغة أشار إلى أنه لا بد من القبول، ثم إن وقع على الفور فلا خلاف في الصحة، وإن تراخى بزمان طويل، فقال المازري: يتخرج عندي على الروايتين في قول الرجل لامرأته: اختاري، أو أمرك بيدك، فقامت من المجلس ولم تختر. قال: والتحقيق في هذا يرجع إلى اعتبار المقصود والعوائد، هل المراد الجواب بداراً فإن تأخر سقط حكم الخطاب، أو المراد استدعاء الجواب معجلاً أو مؤجلاً؟ ابن عبد السلام: وقد يفرق بين الوكالة والتخيير بأن الوكالة التي ليست بعوض غير لازمة من جانب الموكل؛ لأن الموكل إن رأى مصلحة أبقاه وإلا عزله، وأما الزوج فعليه ضرر في إبقاء الخيار لكونه لازماً له؛ فلذلك يقيد خيارها بالقرب، وسقط بطول المجلس على أحد القولين.

خليل: وهذا الفرق إنما يتم في الوكالة التي ليست بعوض، وأما التي بعوض للزومها، وعلى هذا فلعل المارزي لما رأى أن الغالب في الوكالة أن تكون بعوض لم يلتفت إلى الفرق المذكور، والله أعلم. الْمُوَكَّلُ فِيهِ شَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُوماً بِالنَّصِّ أَوِ الْقَرِينَةِ أَوِ الْعَادَةِ لما كان للوكالة حالتان، تفويض وخصوص، وكان الوكيل المخصوص إذا تصرف في غير ما أذن له فيه يكون متعدياً لزم من أجل ذلك أن يبين الشيء الموكل فيه بالنص عليه أو بقرينة تدل على أنه أراد شيئاً بعينه أو بعادة، كما إذا وكله على زواج امرأة، فإن العادة أنه إنما وكله على زواج من هي من نسائه. فَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ لَمْ يُفِدْ حَتَّى يُقَيَّدَ بِالتَّفْوِيضِ أَوْ بِأَمْرٍ عطفه بالفاء لترتبه على ما قبله، أي: ولاشتراطنا أن يكون الموكل معلوماً، لو قال الموكل: وكلتك، لم يفد لعدم حصول الشرط. فإن قيل: لم أبطلتم الوكالة المطلقة وصححتم الوصية المطلقة وجعلتم الوصي يتصرف في كل شيء؟ قيل: يتيم، لما كان محتاجاً أن يتصرف له في كل شيء ولو يوص عليه والده غير من أطلق الوصية له كان ذلك قرينة في تفويض الأمر للموصى، بخلاف الموكل فإنه قادر على التصرف فيما جعل للوكيل ولا بد له من أمر يستبد به في العادة احتاج إلى تقييد الوكالة بالتفويض أو بأمر مخصوص. فَلَوْ قَالَ: بِمَا لِي مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مَضَى فِي جَمِيعِ الأَشْيِاءِ إِذَا كَانَ نَظَراً، إِلا أَنْ يَقُولَ: نَظَراً أو غَيْرَ نَظَرٍ .... لما ذكر أن الوكالة لا تفيد حتى يقيد بالتفويض، أو بأمر مخصوص على أن الوكالة قسمان أخذ يتكلم على كل منهما وبدأ بالتفويض.

وقوله: (فِي جَمِيعِ الأَشْيِاءِ) نحوه لابن رشد، وصاحب الجواهر بشرط أن يكون نظراً؛ لأنه معزول عن غيره بالعادة، إلا أن يصرح له بذلك فيقول: نظراً أو غير نظر. خليل: وفي نظر؛ إذ لا يأذن الشرع في السفه [557/ب]، وينبغي أن يضمن الوكيل؛ إذ لا يحل لهما، والله أعلم. ابن راشد: وذكر غير المصنف، وابن شاس، وابن رشد أنه يستثنى من ذلك بيع دار السكنى، وبيع العبد، وزواج البكر، وطرق الزوجة؛ إذ العرف قاض بألا تتزوج تحت عموم التفويض، وإنما يفعله الوكيل إذا وقع النص عليه. ابن عبد السلام: وقد جرى العمل عندنا في هذه الجهات في كل شيء مع وجود القيد الذي ذكره المصنف أنه يتصرف في كل شيء إلا في بيع دار سكنى الموكل وطلاق زوجته. قال في المقدمات: وإن سمى بيعاً، أو اشتراء، أو خصاماً، أو شيئاً من الأشياء؛ فلا يكون وكيلاً إلا فيما سمى، وإن قال في آخر الكلام: وكالة مفوضة أو لم يقله فذلك سواء؛ لأنه يرجع إلى ما سمى خاصة، وهذا مرادهم في أن الوكالة إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت. ابن عبد السلام: قال بعض أشياخي: ولا يدخل في ذلك خلاف الأصوليين في العموم إذا جرى على سبب، هل يقتصر على ذلك السبب، أو يعم؟ وفي ذلك نظر. فَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا تَقَيَّدَ بِهِ هذا هو النوع الثاني من نوعي الوكالة وهو ظاهر. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الإِبْرَاءِ جَازَ مَعَ جَهْلِ الثَّلاثَةِ بِمَبْلَغِ الدَّيْنِ قوله: (فِي الإِبْرَاءِ) أي: من الدين. و (الثَّلاثَةِ) الوكيل، والموكل، ومن عليه الدين. و (أل) في الثلاثة للعهد، أما الوكيل والموكل فلتقدم ذكرهما، وأما الغريم فلوكالة الإبراء مما عليه بالالتزام، وإنما جاز ذلك؛ لأن ذلك هبة مجهول، وهي جائزة عندنا.

وَمُخَصَّصَاتُ الْمُوَكِّلِ مُتَعَيِّنَاتٌ كَالْمُشْتَرِي، وَالزَّمَانِ، وَالسُّوقِ يعني: أنه يتعين على الوكيل ألا يتصرف إلا كما أذن له الموكل؛ لأنه إنما يتصرف له. قوله: (كالمشتري) يصح بكسر الراء ويكون المعنى: بعها من فلان، وهو الذي في الجواهر ومشاه عليه ابن راشد وابن عبد السلام، ويصح بفتح الراء؛ أي: لا تشتري إلا سلعة فلان. (وَالسُّوقِ) أي: لا تبع إلا في السوق الفلاني. (وَالزَّمَانِ) أي: لا تبع إلا في الشهر الفلاني. فَإِنْ خَالَفَ؛ فَالْخِيَارُ لِلْمُوَكِّلِ إِلا أَنْ يَكُونَ رِبَوِيّاً بِرِبَوِيٍّ، فَفِي إِمْضَائِهِ بِرِضَاهُ قَوْلانِ .... أي: فإن خالف الوكيل ما قيده له الموكل فللموكل الخيار في الإمضاء والرد، فإن أمضى وقد كان باع له سلعة أخذ الثمن، وإن فسخ وكانت السلعة قائمة أخذها، وهل له أن يطالبه بما سمى من الثمن؟ قولان. فإن كانت فائتة طالبه بالقيمة إن لم يسم ثمناً، فإن سمى، فهل له أن يطالبه بما سمى أو بالقيمة؟ قولان مبنيان على الخلاف فيمن أتلف سلعة وقفت على ثمن. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ رِبَوِيّاً بِرِبَوِيٍّ) كما لو قال: بعها بقمح فباعها بفول، أو بدراهم فباعها بذهب، فهل له الإمضاء كغيره أو لا بد من الفسخ لأن المبيعات الربوية لا يدخلها خيار، والقولان متأولان على المدونة. ولا شك أنهم هنا لم يدخلوا ابتداء على الخيار، ولكن آل الحكم إلى ثبوت الخيار للموكل، فهل يكون الخيار الحكمي كالشرطي أم لا؟ والمشهور من المذهب أنه لا ينافي فعله الإمضاء. فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ أَوْ نَقَصَ فِي الشِّرَاءِ فَلا كَلامَ كما إذا قال: بعها بعشرة فباعها باثني عشر. أو قال: اشتر بعشرة فاشتراها بثمانية، فلا كلام للموكل. وإن كان ذلك مخالفة من الوكيل؛ لأن الموكل يرغب في هذا المعنى، ومن

هذا ما في المدونة: وإن أمرته يسلم لك في طعام ففعل فأخذ رهناً أو كفيلاً بغير أمرك جاز؛ لأنه زيادة توثق. اللخمي: إلا أن ينقص في الثمن لأجل الرهن أو الحميل فيكون حينئذ للموكل الخيار. خليل: وينبغي أن يلاحظ هنا ما تقدم، هل للرهن حصة من الثمن، أم لا؟ وَيُغْتَفَرُ الْيَسِيرُ فِي الْعَكْسِ المراد بالعكس: أن ينقص في البيع ويزيد في الشراء؛ يعني: فإن نقص في البيع اليسير، أو زاد في الشراء اليسير اغتفر، هذا ظاهر كلامه؛ أعني: عموم هذا الحكم في البيع والشراء، والذي في تهذيب الطالب، واللخمي، وابن يونس، والمتيطي، والجواهر، وابن رشد وغيرهم أن اليسير إنما يغتفر في الشراء لا في البيع؛ لأن الشأن في البيع طلب الزيادة، وفي الشراء استخفاف الزيادة اليسيرة عند حصول غرضه في تلك السلعة. لكن غمز ذلك ابن يونس ولم ينص في المدونة على اعتبار اليسير إلا في الشراء، وحد فيها اليسير بمثل الدينار والثلاثة في المائة، وكالدينار والدينارين في الأربعين، نعم يأتي كلام المصنف على ما ذكر أبو الحسن في أن الظاهر إذا باع السلعة بأقل مما سمى له بيسير أنه يجوز ذلك كما في الشراء. ونقله التلمساني عن بعض الأشياخ. وقال المازري: وأشار بعض المتأخرين إلى أنه لا فرق بين البيع والشراء في أن الوكيل على البيع ينبغي أن يسامح له في أن يبيع بنقص يسير عما حد له. قال: والتحقيق يقتضي أنه لا يغتفر له في البيع والشراء ولا يكون له إلا ما حد له، وهو مذهب الشافعية. قال ابن محرز، وقال بعض المذاكرين: إنما له أن يزيد اليسير إذا كانت السلعة التي أمر بشرائها غير معينة، وأماالمعينة فلا يزيد فيها شيئاً وهو لا معنى له. والصواب: ألا فرق بين المعينة وغيرها ولا بين البيع والشراء؛ أي: في اغتفار الزيادة اليسيرة، وحيث ألزمنا الوكيل ما

خالف فيه الموكل فضمان المشتري من الموكل، قاله في المدونة، وهل يصدق الوكيل في دفعه الزيادة اليسيرة؟ تردد في التونسي، وخرجه اللخمي على الخلاف فيمن أخرج من ذمته إلى أمانته، وذكر في تهذيب الطالب عن ابن القاسم في رواية عيسى أنه قال: يقبل قول الوكيل أنه زاد لأنه مؤتمن ويحلف، وإن لم يذكر الزيادة حتى طال الزمان لم يقبل قوله بعد ذلك، إلا أن يشتغل عن ذكر ذلك بمثل ما يشتغل [558/أ] به الرجل في حوائجه، أو يكون في سفر فيقدم فيقبل قوله، وإذا أقام معه زماناً طويلاً يلقاه ولا يذكر ذلك فلا يقبل قوله. فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُتِمُّ فِي الْكَثِيرِ، فَفِي إَمْضَائِهِ قَوْلانِ فالإمضاء لحصول غرض الأمر وعدمه؛ لأن الوكيل متعد في البيع فيجب الرد لحصول المنة، ونظيرتها إذا وكلته أن يزوجه بألف فزوجه بألفين، فقال الوكيل: أنا أغرم الزائد. وَلَوْ قَالَ: بِعْ بِنَسِيئَةٍ بِكَذَا فَبَاعَ نَقْداً بِهِ، وَعَكْسُهُ فِي الشِّرَاءِ فَقَوْلانِ. وحَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهَا ابْنَ اللَّبَّادِ بِأَنَّ الْمُبْتَاعَ لَوْ عَجَّلَ الثَّمَنَ لِلْوَكِيلِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ .... إذا قال: ادفع بمائة نسيئة إلى أجل فباع بها نقداً، وعكسه في الشراء أن يقول: اشتر بمائة نقداً فيشترى بها مؤجلة، فقال ابن أبي زيد: ذلك لازم في الوجهين. قال: وخالفني فيها أبو بكر بن اللباد واحتججت عليه بأن المبتاع لو عجل الثمن المؤجل لزمه قبوله بغير مرجحة الوكيل إذا أمره بالبيع بمائة مؤجلة أن يقول: أنا لو بعت بمائة مؤجلة ثم دفعها لك المشتري لزمك قبولها، وكذلك يقال في الشراء: إن لم ترد بقاء الدين في ذمتك. وعلى هذا البحث فيقيد بما إذا باعها بالعين؛ لأنه هو الذي يجب قبوله، وقاله التونسي. ورأى بعض من يقول كقول ابن أبي زيد أن الطعام كالدنانير وكالدراهم وفيه نظر، ولابن اللباد أن

يقول من حجة الموكل أن يقول في مسألة البيع: إنما قلت لك بمائة مؤجلة لأني كنت أظن أن المائة ثمنها إلى أجل، فإذا ساوت مائة حالة فثمنها في التأجيل أكثر. ويقول في مسألة الشراء: إنما قلت لك اشترها بمائة معجلة ظاناً أنها تساوي أكثر من ذلك في التأجيل، فإذا باعها بمائة مؤجلة فهي تساوي أقل من مائة معجلة، وفيه نظر؛ لأنه لو عجل له ما قال لم يكن له مقال. قال في المدونة: وإن أمرته ببيعها إلى أجل فباعها نقداً فعليه الأكثر مما باعها به والقيمة لما تعدى. ابن القاسم: وسواء نسيت له ثمناً أم لا، فظاهر هذا الكلام مع ابن اللباد، وتأول ذلك بعضهم على الموكل إنما حد للوكيل أقل الثمن بحيث إنه إنما يبيعها بهذا العدد إذا لم يجد أكثر منه، ولما باعها بذلك العدد نقداً دل على أنه لم يبالغ في طلب الأثمان؛ لأن من اشترى بثمن نقداً، فالغالب أن يشتري ما كثر إلى أجل، ومهما بعد الأجل زاد الثمن، وقال بعضهم: لعل المسألة مفروضة في التوكيل على بيع السلعة بقيد العين. وقوله: (وحَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهَا ابْنَ اللَّبَّادِ) يحتمل أنه حاجه، ويحتمل أنه غلبه في الحجة وهو الأقرب. تنبيه: ما ذكره المصنف عن ابن اللباد هو كذلك في الجواهر، فقوله فيما حكى عنه: وخالفني في ذلك أبو بكر بن اللباد، والذي في ابن عبد السلام: ابن التبان. وفيه نظر؛ لأن ابن التبان إنما كنيته أبو محمد على ما ذكره صاحب المدارك، وابن اللباد هو أبو بكر، والله أعلم. وَاشْتَرِ بِعَيْنِهَا فَاشْتَرَى بِالذِّمَّةِ وَنَقَدَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ يَصِحُّ يعني: إذا أعطاه مائة درهم أو مائة دينار وقال له: اشتر بعينها، فاشترى بمائة في الذمة ونقد ما دفعه الآمر، أو قال له: اشتر بمائة في الذمة، فاشترى بعينها؛ صح الشراء، ولا مقال للموكل في الوجهين؛ لأن ذلك كله سواء. وأعاد المصنف الضمير في نقدها وبعينها في غير الدراهم والدنانير كما ذكرنا اعتماداً على السياق.

خليل: وينبغي أن يخرج على القول بالوفاء بشرط ما لا يفيد أن يكون للموكل الخيار، وأما إن ظهر لاشتراط الموكل فائدة؛ فإنه يعمل على قوله: (ولا إشكال) وقد نص المازري عليه. وَفِي: بِعْ بِالدَّنَانِيرِ، فَبَاعَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا فِي الغَرَضِ سَوَاءٌ أَوْ لا .... تصوره واضح، واستقرأ بعضهم القول بأنه لا مقال للموكل من المدونة، وهو اختيار اللخمي، قال: إلا أن يعلم أن ذلك لغرض الموكل. وَاشْتَرِ شَاةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ. ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ قَادِراً عَلَى الإِفْرَادِ لَمْ يَلْزَمْ قال في الجواهر: ولو سلم له ديناراً ليشتري به شاة فاشترى به شاتين وباع إحداهما بدينار ورد الدينار والشاة؛ صح عقد الشراء والبيع ولزما لإجارة المالك، وقد فعل ذلك عروة البارقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له. وشراء الشاة الأخرى ودفع أحدهما يخرج على إجازة المالك تصرف الغير في ملكه إذ رضي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضاه، ولو أمر له أن يشتري جارية على صفة بثمن معين فاشترى جاريتين على الصفة المعينة بالثمن المحدود في الواحدة، فإن اشتراهما واحدة بعد أخرى، فقال أصبغ: يلزمان الموكل ولم يقيد جوابه، وقال ابن المواز: إن كان قادراً على الإفراد لم يلزم الآمر العقد، وإن كان غير قادر لزمه. وقال غيره: يثبت الخيار للموكل. ثم اختلف القائلون بذلك في محله، فقال ابن القاسم: محله الثانية فقط فيتخير في قبولها أو ردها. وقال ابن الماجشون: يتخير في قبولها أو ردها. انتهى. وفهم منه أن القول الثالث لابن القاسم وابن الماجشون. ابن عبد السلام: حكي في الجواهر عن محمد التفرقة، والذي في النوادر عن الموازية ظاهر فيها وليس بصريح.

خليل: وحكى اللخمي عن مالك التفرقة، وقال: إنه لا يختلف المذهب في اللزوم إذا لم يمكن الإفراد، وهو ظاهر، وعلى هذا فيتحصل في المسألة طريقان، وما حكى ابن شاس عن ابن الماجشون كذلك حكاه عنه في المبسوط، وحكى ابن حبيب عنه إذا أمره بشراء جارية بعينها، أو موصوفة بثمن فاشتراها به ومتاعاً معاً في صفقة؛ فالآمر مخير بين [558/ب] أن يرد الجميع ويأخذ الجارية بحصتها من الثمن، قال: وإن تملك الجميع قبل علمه؛ فمصيبة الجارية وحدها منه بحصتها من الثمن. وجه قول أصبغ أن الوكيل لم يزد لموكله إلا خيراً؛ إذ لو اشترى له جارية لزمه، ونظر في القول بعدم اللزوم للمخالفة، والتفرقة ظاهرة. وَبِعْ إِلَى أَجَلٍ يُقَيِّدُهُ الْعُرْفُ يعني: إذا قال له بع هذه السلعة إلى أجل؛ فإنه وإن كان مطلقاً يصلح لجميع الآجال لكن يقيد بالعرف، فإن باعها إلى أجل جرت العادة به المبيع لمثله مضى وإلا فلا. ابن عبد السلام: وهذا صحيح، فإن المعتبر من الكلام إنما هو عرف التخاطب لا مقتضى اللغة، إلا إذا كان الآمر والمأمور عربيين، والله أعلم. وَاشْتَرِ لِي عَبْداً فَاشْتَرَى مَا لا يَلِيقُ بِهِ، فَفِي خِيَارِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ يعني: فإن وكله على شراء عبد وأطلق، فإن اشترى ما يليق به لزمه، فإن اشترى ما لا يليق بمثله، فقال ابن القاسم في المدونة: الموكل بالخيار. وقال أشهب: لا خيار له. والجاري على المسألة السابقة قول ابن القاسم، ولعل الخلاف مبني على الخلاف بين أهل الأصول، هل يجوز تخصيص العام وتقييد المطلق بالعرف، أم لا؟ فمن أجاز ذلك جعل للموكل الخيار، ومن لا فلا. وقيد بعض القرويين قول ابن القاسم بما إذا لم يسم الثمن، وأما إن سماه فاشترى به فلا يبالي بما اشترى له كان مما يشبه أم لا؛ لأنه قد أجاز له قدر ذلك. وقال غيره: ينبغي ألا يلزمه إلا إذا اشترى له ما يشبه وإن سمى الثمن.

وَكَذَلِكَ الْمُخَصَّصُ بِالْعُرْفِ يعني: أن العرف كما قيد المطلق على ما قدمه في قوله: (وبع إلى أجل) يقيده العرف، فكذلك يخصص العام، كما لو قال له: اشتر لي ثوباً من أي الأثواب شئت. فإنه يتقيد بما لا يليق بالآمر، وهذا مثل ما في المدونة: إذا استعار دابة يركبها حيث شاء وهو بالفسطاط فركبها إلى الشام أو إفريقية، فإن كان العرف عاريته إلى مثل ذلك فلا شيء عليه وإلا ضمن. قال: والذي يسرح دابته لرجل يركبها في حاجة ويقول له اركبها حيث شئت يعلم الناس أنه لم يسرجها له إلى الشام. وِلا يَبِيعُ بِعَرَضٍ ولا نَسِيئَةٍ ولا بِتَغَابُنٍ فَاحِشٍ إِلا بِإذْنٍ لما ذكر أن العرف يقيد في جانب الشراء أشار إلى أنه يقيد أيضاً في البيع، فإذا قال له: بع هذه السلعة. فمحملح على البيع بالنقد المعتاد بثمن المثل إلا بإذن. واشتمل كلام المصنف على ثلاث مسائل فلنتكلم على كل بانفرادها: الأولى: لا يبيع بعرض، بل ولا بغير نقد البلد، فإن فعل كان متعدياً. ففي السلم الثاني من المدونة: ويضمن حين باع بغير عين إلا أن يجيز الآمر فعله ويأخذ ما باع به. زاد في الوكالة، وقال غيره: إن باعها بعرض ولم يفت فليس له تضمينه، وخير الآمر في إجازة البيع وأخذ ما بيعت به، أو نقضه وأخذ سلعته، وإن فاتت خير فيما بيعت به من عرض، أو تضمين الوكيل قيمتها ويسلم ذلك العرض للوكيل. عياض: وهو وفاق. وفي الموازية: إن فاتت بتغير البدن أو لسوق فكما ذكرنا، وإن لم تفت بأحدهما فيخير الآمر في إجازة البيع أو تباع السلعة المأخوذة، فإن كان فيها زيادة أخذها، وإن نقصت عن القيمة ضمن الوكيل تمامها.

التونسي: ومع عدم الفوات لا يكون بيع العرض في الأصوب من القولين وقيمتها كعينها؛ فإما يأخذها، أو العرض. واستشكل ما في الموازية من تضمين المأمور مع قيام السلعة، وينبغي ألا يكون له الخيار إلا في إجازة ما فعله الوكيل أو رده، وأما أن تباع به سلعته فلا، وحمل ابن يونس ما في الموازية على أن المشتري نازع في كون هذه السلعة المبيعة للموكل ولم يعلم أنها للآمر إلا بقول المأمور، فلذلك لم يكن سبيل إلى نقص صفقة، وضمن المأمور لإقراره بالتعدي، وأما لو علم بالبينة أنها للآمر؛ لم يكن له سبيل إلى تضمين المأمور، وليس له إلا أن يرد أو يجيز، وعلى هذا فيتفق ما في الموازية وفي كتاب الوكالات فاعلمه. وأما إن اشترى لموكله بغير العين فذلك لا يلزمه، وللموكل أن يجيز فعله ويدفع إليه ما وداه من الثمن، هكذا قاله في المدونة، وظاهرها أن المقوم في ذلك كالمثلي. فرع: قال في المدونة: وإن اشترى لك أو باع بفلوس فهي كالعرض، إلا أن تكون سلعة خفيفة الثمن فإنها تباع بالفلوس وما أشبه ذلك، فالفلوس فيها بمنزلة العين، وأما المسألة الثانية وهي البيع بالدين فلا تجوز، فإن فعل؛ فإما أن يكون سمى له ثمناً، أم لا. فإن لم يسم له ثمناً، ففي الموازية يجوز للآمر أن يرضى بالثمن المؤجل إن كانت سلعته قائمة؛ لأنه لما كان قادراً على الرد صار ذلك كإنشاء عقدة، وإن فاتت فليس له الرضى بالمؤجل؛ لأن الغالب أن القيمة التي وجبت له أقل من الثمن المؤجل، فلو أجزنا له ذلك لزم منه بيع القيمة بأكثر منها إلى أجل، وهو عين الربا. ولهذا قال ابن القاسم في العتبية: لو كان الثمن المؤجل مثل قيمتها الآن أو أقل لجاز الرضى به للآمر؛ لأنه رضى منه بالتعدي إن فسخ، مثل ما وجب له في مثله أو أقل. قال في العتبية: وإن باعها بأكثر من القيمة ورضي المتعدي أن يعجل له القيمة ويقبض ذلك لنفسه عند الأجل ويدفع ما زاد على القيمة إلى الآمر على ذلك ولم يكن من بيع الدين، وأما إن سمى له الثمن فباع بأكثر منه إلى أجل، كما لو [559/أ] أمر له بعشرة نقداً فباع بخمسة عشر مؤجلة، فاختلف هل يعد

الوكيل بتعديه ملتزماً لما أمره به الموكل ونقل عن ابن القاسم، أم لا وهو المشهور. اللخمي: وهو أحسن. فإن كانت السلعة قائمة فعلى الأول لا يلزم الوكيل غير العشرة، وعلى الثاني يخير الموكل في إجازته ورده، قاله المازري وغيره، فإن فاتت السلعة، فهل له مطالبة الوكيل بالتسمية إن سمى له ثمناً، أو قيمة السلعة إن لم يسم، أم له أن يجيز تعديه ويرضى بالثمن. المشهور من المذهب: منعه منهما. أما الأول: فلإمكان أن يكون قد رضي بما فعله الوكيل، فيكون قد وجب له خمسة عشر فتعجل منها عشرة فيدخله ضع وتعجل، وظاهر ما في الواضحة تمكينه من ذلك. وأما الثاني: فلاحتمال أن يكون عزم على مطالبة الوكيل بحكم التعدي، فيكون قد وجب له عليه عشرة وانتقل منه إلى أكثر منه إلى أجل، وظاهر ما في الواضحة أيضاً أن له ذلك. ولهذا كان المشهور: لا بد من يبع الدين؛ لأنه ليس للموكل وجه يأخذ به عوض سلعته سوى ثمن الدين، فإن بيع بمثل التسمية أو القيمة فلا كلام، وإن بيع بأزيد أخذ الموكل الجميع؛ إذ لا ربح للمتعدي، وإن بيع بأقل غرم للموكل تمام التسمية أو القيمة، ويؤخر بيع الدين حتى يحل الأجل فيأخذ ما دفعت للموكل وأعطيه ما زاد، فإن كانت الخمسة عشر لو بيعت الآن بيعت بعشرة جاز ذلك؛ لأن الذي يصح للآمر لو بيعت الخمسة عشر بعشرة نقداً عشرة، فإذا دفعها المأمور إليه وزاد خمسة مؤجلة فقد أحسن ولا يقع له في ذلك، وإن ساوت لو بيعت أكثر من عشرة كاثني عشر مثلاً لم يجز؛ لأنه فسخ الدينارين في الخمسة التي بقيت. وحكى بعضهم في هذه الصورة قولاً بالجواز، فإن ساوت أقل من عشرة جاز عند ابن القاسم خلافاً لأشهب. واختلف الشيوخ هل المختار قول ابن القاسم، أم قول أشهب؟ فاختار التونسي قول أشهب؛ لأنه يلزم هنا السلف بزيادة، لأن المأمور يغرم تمام العشرة، وكأنه قال: لا تبعها لتغرمني فأسلفه عشرة ليأخذ من الدين. واختار اللخمي

قول ابن القاسم وانفصل عما تقدم بما حاصله: أن الدين إنما يباح إذا كان للموكل بيعه فائدة، وإلا فلا فائدة للموكل في بيعه فلا يباع إلا بتراضيهما؛ لكونه متردداً بينهما؛ إن التفت إلى حكم التعدي كان البيع للوكيل، وإن التفت إلى حكم إجازة تعديه كان للموكل، وهذا يمنع من بيعه عنده إلا بتراضيهما، وإذا كان كذلك فلا يتحقق فيه السلف. تنبيه: قال ابن يونس، كما راعوا في مسألة التسمية أن تكون قيمة الخمسة عشر أقل من العشرة المسماة أو أكثر، فقياسه أن يعتبر أيضاً مع ما وقع البيع به إذا لم يكن سمى بما يكون أكثر السلعة أو أقل، بخلاف ما تقدم عن العتبية أنه إذا باعها بأكثر من القيمة ورضي المتعدي أن يعجل القيمة ويقتضي ذلك عند الأجل ويدفع ما زاد أنه جائز. قال: والمسألتان يدخلهما القولان سمى أو لم يسم، فاعرفه. وأما المسألة الثالثة، ففي المدونة: إن باع الوكيل أو ابتاع ما لا يشبه من الثمن أو بما لا يتغابن الناس بمثله لم يلزمك؛ كبيعه الأمة ذات الثمن الكثير بخمسة دنانير ونحوها، ويرد ذلك كله ما لم يفت فيلزم الوكيل القيمة، وإن باع بما يشبه جاز بيعه، وإن أمره بشراء سلعة بعينها فابتاعها بألف درهم وهي من ثمانمائة لم يلزمك إلا أن تشاء، وهي لازمة له، وإن كانت شيئاً يتغابن بمثله لم يلزمه. وَلا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ وَلا وَلَدِهِ ولا يَتِيمِهِ، ولا يَشْتَرِي. وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ، ويَتَوَلَّى حِينَئِذٍ طَرَفَي الْعَقْدِ كَالْوَكِيلِ مِنْ كِلا الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ والنِّكَاحِ .... المشهور من المذهب والمعروف: أن الوكيل على بيع سلعة لا يكون له بيعها من نفسه، فإن فعل فالموكل بالخيار في الرد والإمضاء، ولو أعتق هذا الوكيل العبد الموكل هو على بيعه، نص عليه غير ابن القاسم في القراض. وقال عبد الوهاب: إن باعه من نفسه من غير محاباة جاز؛ بناء على أن المخاطب هل يدخل تحت الخطاب أم لا؟ والظاهر وإن

قلنا: إنه يدخل فلا يمضي للتهمة ولا يقال تبين انتفاؤها بالبيع بالقيمة فأكثر؛ لأنا نقول يحتمل أنه إنما اشتراها بذلك لما رأى أن من الناس من يرغب في شرائها بأكثر، وعلى المذهب فإن فاتت السلعة فعليه الأكثر من الثمن والقيمة. محمد: وهو بتغير الذات أو تغير السوق. وذكر يحيى بن عمر قولاً آخر بأن تغيير السوق لا يفيتها، وذكر ابن حبيب أن الوكيل على بيع سلعة فاشتراها ثم باعها بربح أن الربح للموكل، وكذلك الوصي إذا اشترى من مال الأيتام لنفسه وباعه بربح فإن الربح لهم، فرأى أن ذلك البيع الذي باعه من نفسه كأنه لم يكن لكونه معزولاً. قوله: (وَلا وَلَدِهِ) أي: الصغير. في السلم الثاني من المدونة: ومن وكل رجلاً يسلم له في طعام فأسلمه إلى نفسه، أو ابنه الصغير، أو لشريك له مفاوض، أو شركة عنان، أو زوجته، أو مكاتبه، أو مدبره، أو أم ولده، أو عبده المأذون له في التجارة، أو عبد لولده الصغار، أو عبد أحد ممن ذكرنا، أو ذمي؛ فذلك كله جائز إن صح بغير محاباة، ما خلا نفسه وشريكه المفاوض، أو من يلي عليه من ولد، أو يتيم، أو سفه وشبهه. اللخمي: وإن أسلمه إلى ولده الكبير جاز. وقيد سحنون المفاوض بما إذا أسلم إليه في المال الذي فاوضه فيه، وأما غيره فيجوز، وجائز أن يسلم [559/ب] إلى ابنه الصغير ويتيمه. وقال: لأن العهدة في أموالهم. وإلى هذا القول وقول القاضي أشار بقوله: (وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ). وما ذكر في المدونة في المدبر وأم الولد فهموه في المأذون لهما في التجارة. ابن عبد السلام: وفي فهمهم ذلك منها نظر. وقال يحيى بن عمر: لا يجوز أن يسلم لعبده المأذون. قوله: (ويَتَوَلَّى حِينَئِذٍ) تفريع على الشاذ. وقوله: (كَالْوَكِيلِ مِنْ كِلا الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ) وذلك يتصور بأن يكون وكيلاً من شخصين، أو ناظراً على يتيمين ونحو ذلك، وكلاهما ظاهر.

وَلَوِ اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ عَالِماً ولَمْ يُعَيِّنْهُ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَعْتِقْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وفِي عِتْقِهِ عَلَى الْوَكِيلِ قَوْلانِ .... (عَلَيْهِ) أي: على الموكل. و (عَالِماً) حال من الضمير في (اشْتَرَى) أي: الوكيل من يعتق على الموكل حالة كون الوكيل عالماً بذلك لم يعتق على الموكل، وأما إن لم يعلم؛ ففي المدونة وغيرها: أنه يعتق على الموكل. وخرج غير واحد خلافاً في عدم لزوم البيع إذا لم يكن الوكيل عالماً، ومنهم من استقرأه من كتاب الرهن من المدونة. ابن عبد السلام: وفيه نظر. واستشكل ما ذكر من التفرقة؛ لأن عقد الوكالة أن تضمن قرابة الموكل صح مع علم الوكيل، وعتقوا على الأمر، وإن لم يتضمنهم لم يصح البيع مع عدم العلم ولم يلزم العتق. وأجيب بأنه تضمنهم بدليل أنهم يعتقدون مع علم الوكيل كونه قصد اضطراره فلم يمكن من ذلك. فقوله: ولم يعينه الموكل، بل قال: اشتر لي، فاشترى الوكيل أبا الموكل مثلاً؛ فالوكيل متعدِّ، لأن الموكل أخرج هذا بالعرف؛ إذ المقصود من العبد في العادة الاستخدام ولا يحصل هنا، ولهذا المعنى أتى المصنف بهذه المسألة هنا، فلذلك لم يعتق على الموكل لأنه لم يدخل في ملكه، ولزم الوكيل الشراء. قال علماؤنا: إلا أن يبين أنه يشتريها لفلان، فإن بين فلم يجز الآمر نقض البيع، وإذا لم يجز الموكل الشراء، فاختلف هل يعتق عليه لأنه كالملتزم لعتقه وهو قول البرقي وابن العطار، أو لا لأنه لا قرابة بينه وبين الوكيل وهو قول ابن عمر؟ قال: وقاله أبو عبد الله بن معاوية، وهو قول مالك في رواية ابن أبي أويس. واختلف الشيوخ في أي المذهبين هو الجاري على قول ابن القاسم في المقارض يشتري من يعتق على رب المال، هل يقال: هو كالمقارض لأنه إنما قال ابن القاسم بالعتق على المقارض؛ لأنه عنده كالملتزم لعتقه على رب المال وإليه ذهب ابن يونس، أم لا لأن المقارض له شركة وهو قول جماعة من القرويين. قال بعض الشيوخ، المراد بالجهل: هو ألا يعلم أنه أبوه جملة، وأما لو علم به

وجهل الحكم فيه هو كما لو علم لا فرق بينهما، أما إن ادعى الموكل على الوكيل العلم؛ فالقول قول الوكيل، لأنه ادعى عليه عمارة ذمته، فيحلف الوكيل ويلزم الموكل الشراء والعتق، فإن نكل حلف الموكل وأغرمه الثمن وعتق على المأمور اتفاقاً لإقراره بحرية هذا العبد على الموكل بسبب أنه اشتراه له غير عالم. اللخمي: وإن قال الوكيل: كنت أمرتني بشراء هذا العبد. وقال الآمر: بل بعبد آخر. وقال: أمرتني بتمر. وقال: لا بل بقمح. فقد اختلف في ذلك هل يكون القول قول الآمر، أو المأمور، والمشترى حق باتفاق. وَعَلَى عِتْقِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرَاً بِيعَ أَوْ بَعْضُهُ وعَتَقَ مَا فَضَلَ، والْوَلاءُ لِلْمُوَكِّلِ يعني: وعلى القول بأنه يعتق على المأمور، فإنما ذلك إذا كان موسراً، وإن كان معسراً بالكلية بيع جميعه، وإن كان معسراً ببعضه عتق ما فضل. وهذا فسره البرقي، والولاء للموكل لأنه عبده كأنه أعتقه. الْعَاقِدَانِ ومَنْ جَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ، جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ ويُوَكَّلَ إِلا لِمَانِعٍ العاقدان: هو الوكيل والموكل، وفي كلامه حذف في موضعين؛ في صلة المبتدأ إن عددت (من) موصولة، أو في غيرها إن عددتها شرطية. والمحذوف الثاني في الخبر، أو فعل الجزاء. التقدير: من جاز له أن يتصرف لنفسه في شيء جاز له أن يوكل أو يتوكل فيه إلا لمانع. وعلى هذا فيجوز للمحجور عليها أن توكل في ملازم عصمتها. وقوله: (إِلا لِمَانِعٍ) أي: من الموانع المتقدمة في الحجر، وذلك لأن التوكل والتوكيل راجعان إلى الإجارة أو العارية. فإن قيل: يرد عليه ما في المدونة: من وكل عبداً مأذوناً له في التجارة أو غير مأذون يسلم له في طعام ففعل؛ فذلك جائز، لأنه لا يتصرف لنفسه. فالجواب: أن ذلك محمول على المأذون له بالاتفاق.

وَفِيهَا: لا يُوَكَّلُ الذِّمِّيُّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ يُبْضِعُ مَعَهُ. وَكَرِهَهُ ولَوْ كَانَ عَبْدَاً .... لما قال: إلا لمانع. وكانت الموانع المتقدمة في باب الحجر معلومة أخذ يشير إلى زيادة على ذلك، والمانع هنا اختلاف الدين. وما نسبه للمدونة تبع فيه ابن شاس، قال، وقال المازري: وما ذاك إلا أنه قد يغلظ على المسلمين. ابن عبد السلام: وليس فيما بين أيدينا من المختصرات هذا اللفظ على المدونة، تبع فيه ابن شاس في كراهته توكيل الذمي على المسلم، وإنما فيها أن يكون للمسلم على تقاضي ديونه بعضهم على نحو ما ذكره المصنف. انتهى. وقوله: (وَكَرِهَهُ) المراد بالكراهة التحريم. ولفظ المدونة في السلم الثاني: ولا يجوز أن توكل ذمياً أن يسلم لك في طعام، ولا أن يشتري لك ولا يبيع، ولا تستأجره أن يتقاضى لك، ولا تبضع معه، وكذلك عبده النصراني. خليل: ومعنى المدونة كما نقله المصنف. والمصنف لم يلتزم نقل لفظ المدونة فاعلمه. فائدة: قال في البيان في باب الرضاع: إجارة المسلم نفسه من اليهودي والنصراني على أربعة أقسام؛ جائزة، ومكروهة، ومحظورة، وحرام. فالجائزة: أن يعمل له عملاً في بيت نفسه، أو في حانوته؛ كالصانع يعمل للناس فلا بأس له، كما [560/أ] يفعل للناس من غير أن يستبد بعمله. والمكروه: أن يستبد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده، مثل: أن يكون مقارضاً أو مساقياً. والمحظور: أن يؤاجر نفسه في عمل يكون فيه تحت يده؛ كأجير الخدمة في بيته وما أشبه ذلك، فهذا يفسخ إن عثر عليها، وإن فاتت مضت وللأجير الأجرة.

والحرام: أن يؤاجر منه نفسه بما لا يحل من عمل الخمر، أو رعي الخنازير؛ فهذا يفسخ إن عثر عليها قبل العمل، فإن فات العمل تصدق بالأجرة على المساكين. انتهى. ولعله عبر بالمحظور في الثالث وفي الرابع بالحرام لتغاير الأحكام، وإلا فالحرام والمحظور مترادفان، وقيل في الوجه الأول بالكراهة وهو الذي اختاره فضل. وَلا يُوَكِّلُ عَدُوٌّ عَلَى عَدُوِّهِ لأنه يجيز بذلك السبيل إلى نصرته. وَيَمْلِكُ الْوَكِيلُ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ وَقَبْضَهُ، وَقَبْضَ الْمَبِيعِ، وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ يعني: أن التوكيل على البيع يستلزم أن يكون للوكيل المطالبة وقبض الثمن، ولذلك لو سلم إليه المبيع ولم يقبض ضمنه. وهذا مقيد بما إذا لم تكن العادة الترك، فقد نص أبو عمران على أنه لو كانت العادة في الرباع أن وكيل البيع لا يقبض، فإن المشتري لا يبرأ بالدفع إليه. وقوله: (وَقَبْضَ الْمَبِيعِ) أي: والتوكيل أيضاً على الشراء يستلزم قبض ما اشتراه ويستلزم الرد بالعيب، ولهذا قال ابن الهندي: كل من نص له في الوكالة على شيء فلا يتعداه إلا هنا، أما لو وكله على البيع وصرح بأنه لا يقبض الثمن مثلاً فلا يكون له القبض. وقوله: (وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ) يريد: ولم يعلم الوكيل بالعيب قبل شرائه ودخل على ذلك لقوله: فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ كَانَ لَهُ وَلا رَدَّ إِلا فِي الْيَسِيرِ، وشِرَاؤُهُ نَظَرٌ يعني: وأما لو علم الوكيل بالعيب قبل الشراء فالمشتري له ولا رد للوكيل إلا بشرطين أو شرط مركب من جزأين؛ أن يكون العيب يسيراً، وأن يكون شراؤه نظراً

للآمر؛ أي: مصلحة له. قال في المدونة: وإن اشترى الوكيل معيباً وكان عيباً خفيفاً يغتفر مثله، وكان شراؤه فرصة؛ لزم الموكل، وإن كان عيباً مفسداً لم يلزمه إلا أن يشاء، وهي لازمة للمأمور إلا أن يشاء، يبين لك أن م راد المصنف بقوله: (كَانَ لَهُ) إن شاء. فَلَوْ عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ فَلا رَدَّ لِلْوَكِيلِ. وقَالَ أَشْهَبُ: لَهُ ذَلِكَ يعني: أن ما قدمه من أن للوكيل الرد بالعيب إنما هو إذا لم يكن المأمور عين المشتري، وأما إن قال له: اشتر لي عبد فلان، فلا رد للوكيل؛ لاحتمال أن يكون الآمر قد علم بعيبه، أو يغتفر عند اطلاعه لغرضه فيه. وقال أشهب: له الرد كالأول. هذا ظاهر كلامه وفيه نظر؛ لأنه عكس المنقول. ابن عبد السلام: وذلك أنه اتفق على أنه لا رد للوكيل إن كانت السلعة معينة، واختلف إذا لم تكن معينة، فقال ابن القاسم في المدونة: له أن يرد؛ لأنه ضامن لمخالفة الصفة. وقال أشهب: ليس له أن يرد، فإن رد؛ فللموكل ألا يجيز الرد ويضمنه قيمتها إن فاتت. أبو عمران: وإذا كان يلزمه الضمان بإمساكه السلعة على قول ابن القاسم ويرد طالباً على قول أشهب بالحيلة في التخلص منه أن يرفع للحاكم فيحكم له بأحد المذهبين فيسقط عنه الضمان. وقيد اللخمي قول ابن القاسم بما إذا كان العيب ظاهراً، فقال ابن القاسم: للوكيل أن يرد لأنه ضامن إذا اشترى معيباً، ثم قال: وقول ابن القاسم بيِّنٌ إن كان العيب ظاهراً لأنه فرط. اللخمي: وإن كان مما يخفى فلا شيء عليه، وإذا لم يكن عليه ضمان لم يكن له أن يرد. تنبيه: ما ذكره إنما هو في الوكيل المخصوص، وأما المفوض فيجوز أن يرد ولو عين الآمر له المشتري، وكذلك له أن يقبل ونحو ذلك من غير محاباة، نص عليه في المدونة.

وَيُطَالَبُ بالثَّمَنِ والْمَثْمُونِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَرَاءَةِ يعني: ويطالب الوكيل بثمن ما اشترى وبما باع، ولا ينجيه من هذه المطالبة على البائع في الأولى، أو على المشتري في الثانية أنه وكيل، ولا التصريح بالوكالة حتى يصرح أنه لا شيء عليه من دفع الثمن ولا من دفع المبيع، وإنما يدفع ذلك الموكل؛ لأن الأصل أن قابض العوض يلزمه دفع عوضه، فقابض المبيع يلزمه دفع الثمن، وقابض الثمن يلزمه دفع المبيع، وقد ذكر في المدونة في كتبا العيوب والمواز مثل ما ذكره المصنف سواء وهو أصل المذهب، لكن في السلم الثاني لمالك إن وكل رجلاً أن يأخذ له سلماً من آخر فإنه يلزمه. قال: فإن شرط عليه المبتاع أنه إن لم يرض الرجل فالسلم عليك جاز، وكذلك إن ابتعت لرجل سلعة بأمره من رجل يعرفه البائع على أن الرجل إن أقر له بالثمن وإلا فهو عليك نقداً أو إلى أجل؛ فلا بأس به، وظاهره أن المطالبة بالعوض في المسألتين إنما هي للموكل لا الوكيل إلا بشرط. وقد يقال: هاتان المسألتان راجعتان إلى اشتراط تقديم الموكل، والله أعلم. وقال أشهب، وسحنون في مسألة السلم: إنها لا تجوز، ولقولهما وجه، وتركنا ما يتعلق بمسألة السلم لأنها دخيلة في هذا الباب. فرع: قال في الموازية: إن قال فلان بعثني إليك لتبيعه فهو كالشرط، ولا يبتع إلا فلاناً وإن أنكر فلان غرم الرسول رأس المال. أشهب: وإن قال بعثني إليك لأشتري منك أو لتبيعني؛ فالثمن على الرسول ولو أقر بذلك الرسول فلا يبرأ وهو عليهما. فرع: ولو أسلم رجل في شيء وقال له: هو لفلان. فأتى فلان في غيبة المسلم فطلبه، فهل يجبر على الدفع وهو قول بعض القرويين، أو لا لأنه يقول: إن دفعت لك قد يأتي المسلم وينكر فأغرم ثانية وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن سحنون.

وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْوَكَالَةِ أَوْ يَعْلَمْ وعهدة العيب والاستحقاق على الوكيل، إلا أن يصرح بأنه وكيل أو يعلم المشتري [560/ب] بذلك، فحينئذ يطلب الموكل وهو إذاً مقيد بما إذا رد السلعة عليه ويكون الثمن على الموكل وإن لم يعلمه بأنه لفلان حلف الوكيل، وإلا ردت السلعة إليه. وفي الموازية: لا يمين على الوكيل - أي: المفوض - وأما المخصوص فعليه اليمين ويبتع كما يبتع البائع إذا تولى المبايعة، وجعل الأمر في العهدة أخف من المطالبة بالثمن؛ لأن التصريح بالوكالة والعلم بها لا يكون مقتضياً لعدم المطالبة بالثمن؛ لأن المطالبة بالثمن أو المثمون لا بد منها، والأصل عدم الاستحقاق والعيب. ولأصبغ أن العهدة كالثمن؛ لأنه قال في خامس الثمانية: ما كان من رد بعيب فذلك على المتولي البيع، إلا أن يشترط عند البيع اشتراطاً بيناً أنه لا عهدة عليه ولا تباعة ولكن على ربها؛ فحينئذ لا يكون عليه من تباعة ذلك شيء. وقد تبين لك أن قوله: (فَيُطَالِبُهُ) مرفوع على قوله: (مَا لَمْ يُصَرِّحْ) أي: إذا صرح أو علم طولب حينئذٍ، وقد ذكرنا هذه المسألة في البيوع. وَلَوْ تَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ رَجَعَ عَلَى مُوَكِّلِهِ يعني: ولو تلف الثمن في يد الوكيل قبل أن يصل إلى يد البائع فإن الوكيل يرجع على موكله بالثمن ولو تلف مراراً، وهذا مقيد بما إذا لم يكن الموكل دفع الثمن أولاً، وأما إن دفع قبل الشراء فضاع؛ فإنه لا يلزم الآمر غرم الثمن ثانياً إن أبى، هكذا ذكر في المدونة الحكم في المسألتين وفرق بينهما بأنه في الثانية مال بعينه وقد ذهب، بخلاف الأولى فإنه إنما اشترى على ذمتك حتى يصل إلى ربه. ابن المواز: وعليه الخلف، ولو تلفت السلعة التي اشتراها فلبعض المدنيين: لا يلزم الموكل غرم الثمن في الوجه الأول فأحرى الثاني، ذكره في المدونة في باب القراض.

وللمغيرة: يلزمه غرم الثمن في الثاني فأحرى الأول. ابن يونس: وأبينها التفصيل. قال غيره: وهذا الخلاف إنما هو عند الإطلاق، وأما لو قال: اشتر على الذمة أو هذه على التعيين لنفع الشرط اتفاقاً، ويحتمل أن يريد المصنف أن الوكيل على البيع إذا باع وقبض الثمن ثم تلف منه من غير تعد ثم اطلع المشتري على عيب في المبيع أو استحق منه فإنه يرجع بما وجب له على الموكل، ويكون فاعل (رَجَعَ) ضميراً عائداً على المشتري المفهوم من السياق، أو يقرأ (رَجَعَ) مبنياً للمفعول وفي هذا بعد؛ لأنه يستغني عنه بما تقدم، وعلى هذا فالأول أظهر؛ لكنه قد أخل بأحد وجهي المسألة كما تبين لك. ابن عبد السلام: والأقرب منهما مذهب المغيرة؛ لأن الثمن في ذمة الموكل أمينه، وإنما قلنا أنه في ذمة الموكل لأن الدراهم والدنانير إذا لم تتعين في حق المتبايعين على المعروف فأحرى ألا تتعين في حق الوكيل. وقال أبو الحسن، انظر قوله: لأن هذا مال بعينه فقد ذهب. فإنه يناقض مذهبه في غير موضع؛ في أن من باع سلعة بثمن أو استحق الثمن وكان عيناً أن البيع لا ينقض ويغرم الثمن، إلا أن يقال: ليست العلة مجرد التعيين بل العلة مركبة من وصفين؛ التعيين، وعدم المباشرة للمعاملة. وَلَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ ولَمْ يَشْهَدْ فَجَحَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ ضَمِنَ يعني: ولو أسلم الوكيل على البيع المبيع ولم يشهد على القبض فجحد المشتري الثمن؛ يريد: وأصل البيع، وإلا فلو أقر بالبيع وقبض السلعة وادعى دفع الثمن لكان مدعياً يلزمه الغريم إذا حلف الوكيل، ولو أخر المصنف لفظ (الثَّمَنَ) عن (ضَمِنَ) لكان حسناً، وكان يأتي على مذهب ابن شبلون في المدونة؛ لأن فيها: ولو وكله على بيع سلعة فباعها ولم يشهد على المشتري فهو ضامن؛ لأنه أتلف الثمن إذا لم يشهد. قال: وقد قال مالك فيمن أبضع معه بضاعة ليوصلها لرجل، فذكر أنه وصلها وأنكر المبعوث إليه أن

تكون قد وصلت إليه أن الوكيل ضامن إذا لم يشهد، فأبقاها ابن شبلون على ظاهرها أنه يضمن الثمن، وهو اختيار عبد الحق وابن يونس وغيرهما، ولأن في الموازية ما يدل عليه. قال ابن أبي زيد: يضمن قيمة السلعة. وقال بعض الأصحاب: يضمن الأقل من قيمة السلعة والثمن. وذهب ابن الماجشون إلى عدم الضمان في مسألة البضاعة التي استشهد لها في المدونة. وأشار اللخمي إلى تخريجه في مسألة المصنف من ضمان الوكيل لعدم الإشهاد؛ إنما هو إذا كانت العادة الإشهاد، وأما إذا كانت العادة تركه في بعض المبيعات ليسارتها، قال الشيخ أبو محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن: لا ضمان عليه. وهو اختيار اللخمي. وقال ابن التبان، والإبياني: عليه الضمان، والأول أظهر. وَلَوْ أَقْبَضَ الدَّيْنَ فَكَذَكِكَ، وقِيلَ: إِلا أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ التَّرْكَ أي: لو أقبض الوكيل الدين الذي على موكله لصاحبه فكذلك يضمن إذا جحد صاحب الدين القبض لتفريطه. وقوله: (وقِيلَ ... إلخ). ابن عبد السلام: وهو قول ثالث ذكره غير واحد، وأشار بعضهم إلى أنه لا يختلف في سقوط الضمان إن كانت العادة ترك الإشهاد، وإنما يختلف إذا كانت العادة بالأمرين معاً الإشهاد وعدمه، أو لم تكن عادة بالمجلة حيث لم تضبط العادة بشيء. ابن عبد السلام: وقيل في الوكيل على مطالبة غريمه يدفع بغير بينة أنه غير ضامن. وعد هذا بعضهم تقييداً للمشهور، ولعل هذا إن صح يكون حيث جرت العادة بترك الإشهاد. انتهى. فرعان؛ أولهما: استثنى من الضمان ما إذا كان الدفع بحضرة رب المال، ففي قراض المدونة: وإن كان وكل على شراء سلعة معينة أو غير معينة فدفع الثمن وجحده البائع هو ضامن ولرب المالين تغريمه، وإن علم بقبض البائع الثمن بإقراره عنده ثم جحده، أو

بغير ذلك ويطيب له ما يقضي له به ذلك إلا أن يرجع الوكيل الثمن بحضرة رب المال فلا يضمن. انتهى. ثانيهما: إذا شرط المأمور أنه لا يشهد [561/أ] عند دفع البضاعة ثم جحد القابض؛ جاز الشرط ونفع المأمور وحلف إذا كان غير أمين. مطرف: ولو شرط المأمور ألا يمين عليه فشرطه باطل للتهمة. وَلَوْ قَالَ: قَبَضْتُ الثَّمَنَ وتَلِفَ بَرِئَ ولَمْ يَبْرَأ الْغَرِيمُ إِلا بِبَيِّنَةٍ إِلا فِي الْوَكِيلِ الْمُفَوَّضِ .... أي: لو قال الوكيل: قبضت ثمن ما بعته وتلف برئ؛ لأنه أمين، لكن لا يبرأ المشتري إلا ببينة تشهد بمعاينة الدفع، إلا في الوكيل المفوض فإن المبتاع يبرأ بإقراره، وفي معناه الوصي. مطرف: وإذا ودى الغريم الثمن فله أن يرجع على الوكيل لأنه فرط في دفعه حتى ضاع. وقال ابن الماجشون: لا يرجع بشيء حتى يعلم من الوكيل تفريط، وهو اختيار ابن حبيب. وعن ابن القاسم في المأمور يدفع ثوباً إلى صباغ، فقال: دفعته إليه وأنكر الصباغ؛ فإن لم يقم الرسول بينة ضمن، ولو قال الصباغ: قبضته وضاع مني وهو عديم ولا بينة بالدفع إليه؛ فالصباغ ضامن ويبرأ المأمور. وَلَوْ أنْكرَ الْوَكِيلُ قَبْضَ الثَّمَنِ فَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ، فَقَالَ: تَلِفَ أَوْ رَدَتْتُهُ لَمْ يُسْمَعْ ولا بَيِّنَتُهُ لأَنَّهُ كَذَّبَهَا .... تصوره ظاهر. وقيل في هذا الأصل: أن البينة تقبل، ونظريتها ما أشار إليه بقوله: وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وهو ظاهر. وكذلك لو أنكر المودع الوديعة فقامت عليه البينة، فقال: رددتها وأقام البينة على الرد أو التلف. وكذلك أيضاً الزوج يملك زوجته فتطلق نفسها ثلاثاً فينكر

التمليك فتقول بذلك البينة، فيقول: إنما قصدت واحدة، وكذلك إذا طولب بثمن سلعة اشتراها وأنكر الشراء فأقام المدعي البينة عليه وعلى قبض السلعة وأقام المدعى عليه بينته فدفع ثمنها، وكذلك إذا ادعت عليه زوجته أنه قذفها فأنكر فأثبتت أنه قذفها فأراد أن يلاعن، فقال ابن القاسم: له ذلك. وقال غيره: ليس له ذلك ويجلد. وَقَيِّمُ الْيَتِيمِ لا يُصَدَّقُ فِي الدَّفْعِ لأنه لو كان مصدقاً لم يحتج إلى إشهاد لكن يحتاج إليه لقوله تعالى: (فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) [النساء: 6]. وجعل أهل المذهب هذه الآية أصلاً في كل من ادعى الدفع إلى غير اليد الذي ائتمنته أنه لا يصدق إلا ببينة، وعلى قول ابن الماجشون أنه بعث بضاعة مع رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها، وإن أنكر القابض كانت ديناً أو صلة يتخرج منه قبول دعوى الوصي الرد على الأيتام. ونقل بعضهم قول ابن الماجشون صريحاً في الأيتام وجعل منشأ الخلاف قوله تعالى: (فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) هل ذلك لئلا تغرموا ولا تحلفوا. وعلى المشهور من الغرم مع عدم الإشهاد فإنما ذلك إذا أقام اليتيم عليه بالقرب. مالك في الموازية: وإن طال الزمان فيما بين رشدهم وقيامهم، مثل ثلاثين أو عشرين سنة لا يسألونه عن شيء؛ فإنما عليه اليمين لقد دفع إليهم أموالهم، ونحوه في العتبية. وقال ابن زرب: إذا قاموا بعد العشر أو الثماني لم يكن له قبله إلا اليمين. وَالْمُصَدَّقُ فِي الرَّدِّ لَيْسَ لَهُ التَّاخِيرُ لِعُذْرِ الإِشْهَادِ أي: والذي يصدق في دعوى الرد من وكيل أو مودع ليس له أن يؤخر الدفع ويعتذر بالإشهاد؛ إذ لا فائدة له لأنه مصدق في دعواه الرد من غير إشهاد. وذكر المصنف المسألة

في صورة القاعدة الكلية، وإن كان إنما تكلم فيؤخذ منه الحكم في الوديعة، وما ذكره من تصديق الوكيل في دعواه الرد هو مذهب المدونة. وحكى ابن رشد في ذلك أربعة أقوال؛ الأول: هنا أنه يصدق مع يمينه، وهو قول مالك في العتبية ومذهب المدونة في آخر الوكالات. والثاني: إن كان بقرب ذلك بالأيام اليسيرة فالقول قول الموكل أنه ما قبض منه شيئاً وعلى الوكيل إقامة البينة، وإن تباعد الأمر كالشهر ونحوه فالقول قول الوكيل مع يمينه، وإن طال الأمر جداً لم يكن على الوكيل يمين، رواه مطرف عن مالك. والثالث لابن الماجشون، وابن عبد الحكم: إن كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه، وإن طال الأمر جداً صدق الوكيل بلا يمين. والرابع: التفرقة لأصبغ بين الوكيل على الشيء بعينه فيصدق إلا أن يقيم البينة وإن طال الأمر، وبين الوكيل المفوض إليه فيصدق في القرب مع يمينه؛ ففي البعد بغير اليمين، ابن الماجشون: ولو مات وكيل المرأة - زوجاً أو غيره - بحدثان القبض كان ذلك في مال الوكيل - زوجاً أو غيره - إذا عرف القبض وجهل الدفع، فإن كان مؤتمناً بغير حدثان ذلك، وما يكون في مثله الدفع فلا شيء في أموالهما، وإن لم يقر بالدفع، قال في البيان: ولا خلاف عندي في هذا الوجه. انتهى. ولو قيل إن للوكيل والمودع تأخير الدفع حتى يشهد لكان حسناً؛ لأنهما يقولان: إذا لم يشهدا توجه عليهما اليمين فكان لنا التأخير لتسقط عنا اليمين، لا سيما الوكيل لهذا الخلاف الذي فيه، وقاله بعضهم. وَالْوَكِيلُ فِي التَّعْيِينِ لا يُوَكَّلُ إِلا فِيمَا لا يَلِيقُ بِهِ أَوْ لا يَسْتَقِلُّ لِكَثْرَتِهَا احترز بالتعيين من المفوض فإن له أن يوكل على المعروف، وحكى في البيان قولاً بأنه لا يوكل، قال: والأظهر أن له ذلك؛ لأن الموكل أحله محل نفسه فكان كالوصي، ولم يكن

للوكيل توكيل غيره؛ لأن الموكل لم يرض إلا بأمانته، ولأنه تصرف في الوكالة على خلاف ما أذن له. واستثنى المصنف موضعين؛ الأول: أن يكون الوكيل لا يليق به تولي الموكل فيه؛ كمن وكل رجلاً شريفاً معروفاً بالجلالة على بيع ثوب أو دابة، لأن الوكيل لما كان لا يتصرف في هذا لنفسه كان ذلك قرينة في إجازة توكيله غيره، فكان ذلك كالتصريح بإجازة التوكيل. والموضع الثاني: أن يوكله على أمور كثيرة لا يمكن الوكيل أن يستقل بها؛ لأنه بالعادة قد أذن له في التوكيل، إلا أن الوكيل في الموضع الثاني يسوغ له أن يستعين بوكيل آخر ولا يجعل جميع ما إليه للوكيل، بخلاف الأول فإنه يوكل على جميع ما جعل له، ولا شك في الأول إذا علم الموكل بحال الوكيل، وأما إن لم يعلم؛ فقطع بعضهم بأنه لا التفات لعلمه. قال التونسي: وانظر إن لم يعلم بذلك رد المال، فإن [561/ب] كان الوكيل مشهوراً فإنه لا يلي مثل ذلك فالأشبه ألا يضمن، وإن لم يكن مشهوراً بذلك فرضاه بالوكالة يدل على أنه هو المتولي حتى يعلم رب المال أنه لا يتولى. وفي المقدمات: ليس له أن يوكل على ما وكل عليه غيره، ولا أن يوصي إلى أحد بذلك، إلا أن يجعل ذلك إليه الموصى، فإن فعل فتلف المال ضمن على مذهب ابن القاسم، وإن علم أنه لا يلي مثل ذلك لنفسه إذا لم يعلم بذلك الموكل الأول، وهذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم، وفي ذلك نظر. وقال أشهب: إذا كان مثله في الكفالة فلا ضمان عليه. انتهى. فرع: فإن وكل حيث لم يكن له ذلك؛ فالمعروف من المذهب أنه متعد. قال في المدونة: ومن وكل رجلاً ليسلم له في طعام فوكل الموكل غيره لم يجز. ولأصبغ وغيره: إذا فعل وكيله مثل ما فعل الوكيل الأعلى في النظر والصحة لزم، وإن كان على خلاف ذلك

لم يلزمه ولم يجز الرضى به. واختلف في قوله في الكتاب: لم يجز. فحمله بعضهم على أن للآمر فسخه وإجازته. وحمله ابن يونس على أن المعنى لم يجز رضى الآمر بما يعمل وكيل وكيله؛ إذ بتعديه صار الثمن عليه ديناً للآمر فلا يفسخه في سلم الوكيل الثاني، إلا أن يكون قد حل قبضه فيجوز لسلامته من الدين. وروى ابن القاسم عن مالك في الواضحة: أن للموكل الخيار كالتأويل الأول. ابن حبيب: وأنكر ذلك أصبغ ومن لقيت من أصحاب مالك. وَلا يُوَكِّلُ إِلا أَمِيناً وحيث قلنا أن للوكيل التوكيل فلا يوكل إلا أميناً؛ لأن العادة إنما تدل على ذلك. وَلا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِمَوْتِ الأَوَّلِ لأنه صار كالوكيل عن الأصل، فإنا لا نجيز له الوكالة إلا إذا أمكن له في ذلك؛ إما بإذن صريح، أو بحسب العادة، وعلى هذا التقدير، فقال المازري: الأظهر أن الوكيل الثاني لا ينعزل بموت الوكيل الأول، بخلاف انعزال الأول بموت موكله. وَيَنْعَزِلانِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ. وقِيلَ: لا يَنْعَزِلُ الْمُفَوَّضُ إِلا بِعَزْلِ الْوَرَثَةِ أي: ينعزل الوكيل الأعلى والأسفل بموت الموكل على المشهور؛ لأنهما إنما كانا يتصرفان له وقد انتقل المال بعد الموت للوارث، وسواء كان كل واحد منهما مفوضاً إليه أم لا، والقول بأنه لا ينعزل المفوض إلا بعزل الورثة لمطرف وابن الماجشون. وجهه القياس على القاضي والأمير، فإنهما لا ينعزلان بموت الخليفة، والفرق للأول أن الوكيل إنما قدم لمصلحة الموكل، وقد حكى ابن الماجشون إجماع العلماء على مثل المشهور، ووقع لأصبغ أن الوكالة تنفسخ بموت الموكل، وإن كان رب المال هو البائع فلا يجوز له أن

يتقاضى الثمن إلا بتوكيل الورثة، بخلاف إذا كان الوكيل هو المتولي فهو على ولايته. ومراد المصنف بقوله: (يَنْعَزِلانِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ) إذا علما، ويدل على ذلك قوله: وَفِي انْعِزَالِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ فِي الْمَوْتِ، وَفِي الْغَيْبَةِ قَوْلانِ لأن حكايته الخلاف هنا فيما إذا لم يبلغه الخبر يدل على أن الأول محمول على العلم. ومذهب المدونة: أنه لا ينعزل قبل علمه في الموت، ففيها: إن اشترى بعد موت الآمر ولم يعلم بموته؛ فذلك لازم للورثة، ويؤخذ الثمن من التركة إن لم يكن الوكيل قبضه، وكذلك ما باع. وعلى حمل المدونة على هذا من الفرق بين العلم وعدمه عامة الشيوخ. والقول بأنه ينعزل بمجرد الموت لابن القاسم وأصبغ، وروي أيضاً عن مالك، وزعم اللخمي أنه ظاهر المذهب، وتأول ما في المدونة على أن البائع والمشتري غابا، ولو كانا حاضرين وبيَّنَ لهما الرجل أنه وكيل؛ كان للورثة رد ذلك. وأما العزل وإليه أشار المصنف بقوله: (وَفِي الْغَيْبَةِ) فتأول أبو عمران أن المذهب في العزل كالموت يصح تصرفه قبل العلم، وهو قول ابن القاسم وأشهب، ورأى أن ما في المدونة في آخر كتاب الشركة: أن الوكيل له كان مفوضاً إليه إذا خلعه غرماؤه، فذلك أنه لا يبرأ غريم بما دفع إليه كان من ثمن أم لا خلافاً لهذا. وكذلك اعترض سحنون مسألة الشركة، وتأول بعضهم أنه لا فرق بين العزل والموت، وإلى التسوية ذهب التونسي وابن محرز وتأولوا مسألة الشركة أن العزل كان مشهوراً فلم يصدقه على أنه لم يعلم، وعلى هذا فيتحصل في مسألة الموت والعزل قبل العلم ثلاثة اقوال؛ ثالثها: يمضي تصرفه الموت دون العزل. ولعله في هذا القول الثالث لاحظ قول مطرف أن الوكيل لا ينعزل في الموت، وإلا ففي الفرق بينهما من حيث المعنى عسر، وذكر في المقدمات عن بعضهم أنه يقول: لا فرق بين المسألتين، ويجعل في كل منهما ثلاثة أقوال؛ أنه لا يبرأ من دفع إلى

الوكيل فيهما. وإن لم يعلم الدافع بذلك؛ علم الوكيل أو لم يعلم أنه يبرأ فيهما إذا دفع ولم يعلم بموت موكله أو عزله، ولا فرق بين أن يعلم الوكيل ذلك أم لا. والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم هو والوكيل، ولا يبرأ إن علم الدافع بالموت والعزل، ويتحصل في المسألة خمسة أقوال. والمصنف لم يتعرض لشيء من ذلك، فلذلك تركناها نحن أيضاً، والخلاف مبني في هذه المسألة على الخلاف في الفسخ من حين الوصول أو البلوغ، واختار جماعة القول بأنه لا ينعزل فيهما استصحاباً للحال، وإلا أدى إلى الشك في إنكاحه ومعاملته، وقياساً على أهل قباء، وأجيب عن القياس بأن المكلف إذا أمر بالتوجه إلى بيت المقدس حرم الإحرام لغيره وهو مضطر إلى الفعل فعذر، بخلاف تصرف الوكيل فإنه من المباحات، والله اعلم. قال بعض الشافعية: وتنفسخ الوكالة بطروء الجنون على الوكيل والموكل؛ لأن الوكالة من [562/أ] العقود الجائزة فوجب أن تنفسخ بالجنون لطروئه على عقد غير لازم. المازري: وفيه تفصيل عندي، فإن طرأ على الوكيل ثم عاد عليه عقله ثم أراد إبقاء على التصرف فإنه يمكن من ذلك إذا كان الموكل حاضراً أو لم يعزله، وإن كان غائباً ولم يعلم بجنونه فإن ذلك لا يمنعه من التصرف؛ لأن الموكل أذن له في التصرف مع جواز القواطع، وإن كان طروء الجنون على الموكل؛ فالأظهر أنه يمكن من التصرف كوديعة أودعها، لكن لو طال زمان جنونه طولاً يفتقر معه إلى نظر السلطان في ماله، فإنه مما ينظر فيه. وذكر خلافاً بين الحنفية في ردة الوكيل هل توجب عزله؟ قال: والأظهر عندي أنه لا ينعزل بذلك؛ إذ الحجر عليه إنما يكون لحق المسلمين في المال، إلا أن يعلم بمقتضى العادة أن الموكل لا يرضى بتصرفه في ماله إذا ارتد فيكون ذلك مما يوجب منعه من التصرف.

وَمَهْمَا شَرَعَ فِي الْخُصُومَةِ فَلا يَنْعَزِلُ ولَوْ بِحُضُورِهِمَا لما ذكر العزل وأفهم كلامه أن للموكل العزل بشرط ألا يتعلق بالوكالة حق الغير، وظاهره أن مجرد الشروع مجب لعدم العزل، وقاله اللخمي وابن شاس، وزاد: إلا أن يخاف من غريمه استطالة بسبب ذلك. وفي المقدمات: ليس له أن يعزله إذا قاعد خصمه المرتين والثلاث إلا من عذر. هذا هو المشهور في المذهب، ووقع لأصبغ في الواضحة ما يدل على أن له أن يعزله ما لم يشرف على تمام الخصام، وفي المحل الذي لا يكون للموكل عزله عن الخصام لا يكون له هو أن ينحل عن الوكالة إذا قبل الوكالة. انتهى. وإن أراد السفر بعد الثلاث مجالس حلف ما قصد السفر ليوكل، فإن نكل لم يكن له أن يوكل، نعم له بأن يعزله، وإن كانت وكالته بأجرة، أو قاعد الخسم ثلاث مرات إذا تبين منه تفريط، أو يقوم عليه دليل تهمة بينه وبين من وكل عليه. فرع: واختلف إذا وكله على بيع سلعة أو شرائها أو سمى له شخصاً معيناً، هل له أن يعزله كما لو أطلق، أو لا؟ على قولين. المازري - وعدها الأشياخ من مشكلات المسائل - قال: والأصح عندي في ذلك إن عين المشتري وسمى له الثمن وقال: شاورني، فهذا موضع الإشكال والاضطراب، هل له غرض في عين المشتري، أم لا؟ واختلف إذا وكله أن يملك زوجته أمرها، هل للموكل أن يعزله؟ فرأى اللخمي وعبد الحميد أنه ليس له ذلك، قالوا: بخلاف أن يوكله على أن يطلق زوجته فإن فيه قولين. ورأى غيرهم أنه يختلف في عزله كالطلاق. واستشكل المازري الطريقة الأولى بأنه لا منفعة للوكيل في هذه الوكالة، فكان الأولى أن يكون له عزله، إلا أن يقال: لما جعل له تمليك زوجته صار كالملتزم لذلك التزاماً لا يصح له الرجوع.

وَلا يَعْزِلُ نَفْسَهُ عَلَى الأَصَحِّ هو عائد على وكيل الخصام، وسيأتي الكلام على غيره من الوكلاء؛ يعني: إذا امتنع الموكل من عزل وكيل الخصام فكذلك وكيل الخصام لا يعزل نفسه على الأصح، وظاهره بمجرد الشروع، وكلام صاحب المقدمات المتقدم يدل على أنه إنما يمتنع عزله إذا قاعد الخصم ثلاث مرات، ومقابل الأصح من كلام المصنف يحتمل أن يريد به المشهور، ويحتمل أن يريد به قول أصبغ. وَلأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ الاسْتِبْدَادُ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ خِلافَهُ وهذا بخلاف الوصيين، فإنه لا يكون لأحدهما الاستبداد؛ أي: الاستقلال إلا بإذن، والفرق أن الموصي يتعذر منه النظر في الرد، بخلاف الموكل إن ظهر منه على أمر عزله، ونص صاحب الجواهر على ما ذكره المصنف، وقرره ابن عبد السلام وغيره، وفي المدونة في باب التخيير: وإن ملك أمر امرأته رجلين لم يجز طلاق أحدهما دون الآخر كالوكيلين. وهذا أيضاً مقتضى ما في النوادر؛ ففيها، قال يحيى عن ابن القاسم: إذا وكل رجلين على تقاضي دين فمات أحدهما، فليس للحي تقاضٍ إلا بإذن القاضي، وأحب إلي أن يوكل القاضي رجلاً يرضاه يقبض معه إن وجد من بلد المستخلف إن خاف القاضي أن يتلف ماله ورأى للتوكيل وجهاً، وإن كان مكان المستخلف قريباً وديونه مأمونة أمر الحي من الوكيلين أن يتوثق من الغرماء حتى يأمن من الدين التلف، ثم يستأني به حتى يحوله الآمر وكالة. انتهى. وفي المدونة في باب العتق قريب مما ذكرناه عنها في باب التخيير، وأنه إذا قال لرجلين: اعتقا عبدي، لا يكون لأحدهما العتق. ونص اللخمي لما تكلم عليها: أنه لو وكل رجلين يبيعان له سلعة فباع أحدهما أن البيع لا يلزمه. وإن هذا من كلام المصنف وابن شاس فاعلمه.

وَالْوَكَالَةُ بِأُجْرَةٍ لازِمَةٌ كَالإجَارَةِ، ويَجِبُ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ بِجَعْلِ ثَالِثُهَا: تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وبِغَيْرِهِمَا جَائِزَةٌ، وقِيلَ: تَلْزَمُ الْوَكِيلَ كَالْهِبَةِ .... لما ذكر أن وكيل الخصام ليس له عزل نفسه شرع في غيره، وذكر أنها إذا كانت بعوض على وجه الإجارة كانت لازمة لكل واحد منهما بالعقد كسائر الإجارات، ويجب العلم بالعمل؛ لأن الجهالة بالإجارة لا تجوز. وإن كان على وجه الجعالة فثلاثة أقوال، وفهمهما من كلامه ظاهر، وهي مبنية على الخلاف في لزوم الجعل وإن كانت بغير عوض، وأما الموكل فلا تلزمه بلا إشكال، وأما الوكيل فذكر أنها جائزة فليس له فسخها، وهو قول مالك وإليه ذهب ابن القصار وغيره من البغداديين. وقيل: يلزمه ذلك لأنه كواهب منفعة، والهبة لازمة بالقول على المعروف. وظاهر كلام المصنف: أن هذا القول منصوص، وهي طريقة اللخمي، وتعلق بما لمالك في المبسوط فيمن أبضع مع رجل بضاعة يشتري له بها سلعة بعينها فذهب الوكيل فاشترى بها، ثم قال له بعد شرائها: إني لنفسي اشتريتها؛ أنه يقبل قوله ويحلف إن اتهم. وفي ثمانية أبي زيد لابن الماجشون [562/ب] أنها للآمر، إلا أن يكون أشهد حين الشراء أنه اشتراها له. وقال أصبغ: هي للموكل وإن أشهد. ورأى عبد الحق أن الخلاف إنما هو مخرج على الجعالة وعلى الخلاف في الهبة. ابن عبد السلام: وهي طريقة غير واحد في نق المذهب. وابن رشد يرى أنه لا خلاف أن للوكيل أن ينحل عن الوكالة متى شاء إلا في وكالة الخصام. تنبيه: وفهم من كلامه جواز الوكالة في الجعالة على معنى: إن فعلت فلك وإلا فلا، وهو أحد القولين في المدونة وغيرها.

وَإِذَا تَنَازَعَا فِي الإِذْنِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوِكِّلِ إِلا إِذَا فَاتَ الْمَبِيعُ الْمُخْتَلَفِ فِي ثَمَنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَبِعْ بِمَا يُسْتَنْكَرُ إذا تنازع الوكيل والموكل؛ بأن يقول الوكيل: وكلتني على بيع السلعة، ويقول ربها: لم أوكلك. فلا شك أن الوكيل مدع. وقوله: (أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ) مثل أن يقول: أمرتني ببيعها، ويقول الآخر: بل برهنها. ويشمل قوله: (أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ) الاختلاف في قدر الثمن، وفي جنسه، وفي صفته، وفي حلوله وتأجيله، وحكم بأن القول قول الموكل في هذه المسائل؛ لأنه مدعى عليه عمارة ذمته ما لم يبع بما يستنكر فيكون القول أيضاً للآمر. وهذا الفصل متسع في كلام الأشياخ، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وتركنا ذلك خوف الإطالة، ويشكل كلام المصنف بمسألة المدونة إذا دفع إليه دراهم فاشترى بها تمراً، وقال: بذلك أمرتني. وقلت أنت: ما أمرتك إلا بحنطة. قال فيها: فالمأمور مصدق مع يمينه. ابن القاسم: لأن الثمن مستهلك كفوات السلعة. نعم قال أصبغ: القول قول الآمر. ولعل المصنف إنما تكلم على غير هذه الصورة وترك هذه لاشتراطها مع الصورة التي ذكر أن القول فيها قول المأمور، وهي ما إذا اختلفا في قدر ثمن المبيع إذا فات. * * *

الإقرار

الإقرار: وَالصَّبِيُّ، والْمَجْنُونُ، والْمُبَذِّرُ، والْمُفْلِسُ، والْعَبْدُ، قَدْ تَقَدَّمَ الإقرار: إخبار المرء عن أمر اختص به في نفسه، وهو مصدر أقر يقر إقراراً؛ أي: اعترف بالحق، وهو راجع إلى شهادته على نفسه. وله أربعة أركان: المقر، والمقر له، والمقر به، والصيغة. وبدأ المصنف بالكلام على المقر، وذكر أن إقرار الصبي وما عطف عليه تقدم في باب الحجر. والْمَرِيضُ لا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ مِنْ وَارِثٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ مَخْصُوصَيْنِ يعني: والمريض لا يقبل إقراره لمن يتهم هو على جذب النفع إليه؛ من وارث أو أجنبي مخصوصين بالاتهام عليهما، لا كل قريب وأجنبي، وبين ذلك بقوله: فَالْوَارِثُ كَالْبِنْتِ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ وشِبْهِهِ، وبِالْعَكْسِ يُقْبَلُ لما ذكر أنه إنما يمنع من الأقرار لوارث مخصوص وأجنبي مخصوص أخذ يبين ذلك المخصوص؛ أي: فلا يقبل إقراره لبنته إذا كان له ابن عم يرثه معها؛ لأن النفوس مجبولة على رجحان البنت، وبالعكس يقبل؛ أي: أقر لابن عمه فيقبل لعدم التهمة. والأَجْنَبِيُّ صَدِيقٌ مُلاطِفٌ، والْمَرِيضُ يُورَثُ كَلالَةً، وقِيلَ: يُقْبَلُ فِي الثُّلُثِ الواو في قوله: (والْمَرِيضُ) للحال. والكلالة: الفريضة التي لا ولد فيها ولا والد، ولعل المصنف أراد هنا غير هذا؛ أعني: ما لا ولد فيها لما في وصايا المدونة، وإن أقر لصديق ملاطف؛ جاز إن ورثه ولد، أو ولد ولد، فإن ورثه أبوان أو زوجة وعصبة ونحوه لم يجز، فأبطل إقراره مع أن في الورثة أبوين، وهذا هو المشهور، والقول بأنه يقبل في الثلث ويبطل ما زاد عليه رواية. وعن ابن عبد الحكم: أن إقراره للصديق الملاطف

لازم وإن كان يورث كلالة. أبو محمد: وهو خلاف قول مالك. وقال أحمد بن عيسى: أما الرجل الصالح الذي يعرف بالدين والصدق ولا يجهل ما في ذلك من الإثم؛ فإقراره لصديقه الملاطف جائز. وألحق في البيان بالصديق الملاطف القريب غير الوارث، فقال: إقرار الزوجة على أربعة أوجه؛ إما أن يقول لوارث، وإما للقريب غير وارث، أو صديق ملاطف، وإما لأجنبي، وإما لمن لا يعرف من هو من هذه الثلاث، فالأول: إذا كان المقر له في القرب بمنزلة من لم يقر له أو أقر، فلا خلاف أنه لا يجوز. ابن المواز: إذا لم يكن لذلك وجه يدل على صدقه وإن لم يكن قاطعاً، إلا أن يكون المقر له عاقاً والذي لم يقر له باراً له، ففي جوازه قولان، وإن كان المقر له أبعد، فلا خلاف أن إقراره جائز. واختلف إذا كان بعض من لم يقر له أقرب من المقر له وبعضهم بمنزلته، أو كان بعضهم أقرب وبعضهم أبعد منهم على قولين؛ فقيل: إنه يجوز. وقيل: لا يجوز. وأما إن أقر لقريب غير وارث أو صديق ملاطف؛ فالمشهور: أن إقراره جائز إن ورث بولد لا كلالة، وقيل بجوازه مطلقاً وهما قائمان من المدونة. وقيل: إن ورث بولد جاز من رأس المال، وإن ورث بكلالة فمن الثلث. وأما الأجنبي فلا خلاف أن إقراره جائز، فإن طلب ولم يوجد تصدق به عنه كاللقطة، وأما إن أقر لمن لا يعرف؛ فإن كان يورث بولد جاز من رأس المال إن أوصى أن يصدق به عنه أو يوقف لهم، واختلف إن كان كلالة، فقيل: إن أوصى أن يوقف حتى يأتي طالبه جاز من رأس المال، وإن أوصى أن يتصدق عنه لم يجز لا من الثلث ولا من رأس المال. وقيل: أنه من الثلث وهو قائم من كتابة المدونة. وقيل: إن كان يسيراً فمن رأس المال، وإن كان كثيراً لم يجز مطلقاً. قال: وفي إقرار الزوج لزوجته بدين في المريض تفصيل.

وحاصله: أنه لا يخلو من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يعلم منه ميل إليها. والثاني: أن يعلم منه البغض لها. والثالث: أن يجعل ذلك. فإن علم الميل لم يجز إقراره إلا أن يجيزه الورثة، وإن علم منه البغض لها فإقراره لها جائز على الورثة، فإن جهل فوجهان؛ إن وكل كلالة [563/أ] فلا يجوز إقراره لها، وإن ورث بولد فالولد لا يخلو أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً، صغاراً أو كباراً، واحداً أو عدداً منها أو من غيرها. فإن كان الولد أنثى يرثنه مع العصبة، سواء كن واحدة أو عدداً، صغاراً أو كباراً من غيرها أو كباراً منها. فيتخرج ذلك عندي على قولين؛ أحدهما: أن إقراره لها جائز. والثاني: لا يجوز من اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك بنتاً وعصبة، فإن كن صغاراً منها لم يجز إقراره لها اتفاقاً، وأما إن كان الولد ذكوراً وكان واحداً؛ فإقراره لها جائز، فإن كان الولد عدداً فإقراره جائز، إلا أن يكون بعضهم صغيراً منها وبعضهم كبيراً منها أو من غيرها فلا يجوز إقراره لها، وإن كان الولد الكبير في الموضع الذي يرفع التهمة عن الأب في إقراره لزوجته عاقاً؛ لم ترتفع عنه التهمة وبطل على ما في سماع أصبغ من العتبية وإحدى الروايتين في المدونة، وإن كان بعضهم عاقاً وبعضهم باراً به خرج ذلك على ما ذكرته من الاختلاف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، وكذلك الحكم سواء في إقرار الزوجة لزوجها، ولا فرق أيضاً بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين، أو بأنه قبض ما له عليه من دين. الْمُقَرُّ لَهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَبْدَاً أَوْ حَمْلاً أي: يشترط فيه أن يكون أهلاً للاستحقاق، فلو قال: لهذا الحجر أو الفرس عليَّ ألف؛ بطل. وصح الإقرار للعبد أو الحمل؛ لأنهما أهلان لذلك.

وَلَوْ قَالَ: لِحَمْلِ فُلانَةٍ عَلَيَّ أَلْفٌ لَزِمَهُ؛ أَطْلَقَ أَوْ قَيَّدَ إِنْ وضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَقَلَّ مِنَ الإِقْرَارِ .... يعني بـ (أَطْلَقَ) أن يقول: لحمل فلانة عليَّ ألف، وبالتقييد أن يقول من هبة أو صدقة، ولا إشكال إن قيد ذلك بوجه يصح للجنين كما ذكرنا، وأما إن قال: أقرضنيها، فقال سحنون: يلزمه أيضاً ويعد ذلك منه ندماً. وقال ابن عبد الحكم: إذا قال من كراء هذا الجنان والفدان، وخرج عدم اللزوم إذا أطلق ما في الموازية في القائل لك: عليَّ مائة أو على فلان؛ فلا يلزمه لعدم تحقق عمارة الذمة. محمد: إلا أن يقول: عليَّ أو على ابن شهر؛ فتلزمه لكون ابن شهر لا يصح أن يملك ولا أن يكتسب. فإذا رأى محمد أن التردد بين الرجلين يبطل الإقرار، وأن التردد بينه وبين صبي بخلاف ذلك، وأنه كالقائل: لفلان على العبد درهم، أو عند هذا الحجر؛ دل على أن محمداً يبطل الإقرار لابن شهر، وإذا بطل لابن شهر فالحمل أولى، وفي هذا التخريج نظر؛ لأن محمداً إنما صحح هذا الإقرار في قوله: لك عليَّ أو على ابن شهر، لأنه إقرار على ابن شهر، وابن شهر يبعد في العادة أن يكون عليه ألف، بخلاف الإقرار فإنه يصح أن يملك ولا يمكن أن يخالف فيه. وخرج بعضهم أيضاً البطلان في التقييد بما لا يصح أن يصدر من الحمل من أحد القولين، فيمن علق طلاق امرأته على مشيئة الحجر؛ إذ لا يلزمه، ولا يعد ذلك ندماً؛ لأن الحجر لا يقبل المشيئة أصلاً بخلاف الطفل. وقوله: (إِنْ وضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ) هو شرط في لزوم الإقرار للحمل؛ لأنه حينئذٍ تبين أنه كان موجوداً، ولهذا قال:

وَإِنْ وضَعَتْهُ لأَكْثَرَ وهِيَ تُوطَأُ لَمْ يَلْزَمْهُ، وإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْطُوءَةٍ لَزِمَ لأَرْبَعِ سِنِينَ ولو قال: فإن وضعته لستة، لكان أحسن؛ لأن حكمها حكم الأكثر في اللعان وغيره، فإنما لم يلزمه إذا كانت موطوءة؛ لاحتمال أن تكون إنما حملت بعد الإقرار، وأما إن لم تكن موطوءة، فإنه يلزم لأربع سنين، هكذ في كتاب ابن سحنون، ولعل المصنف اقتصر على الأربع لكونها المنصوصة، وإلا فالجاري على المشهور كما قدمه خمس، ولو قال: لدون أقصى أمد الحمل لأجاد لشموله، وفهم من كلامه أنها لو وضعته لأكثر من مدة الحمل أنه لا يكون للمولود شيء، ولا شك في ذلك. ولَوْ وضَعَتْ تَوْأَمَيْنِ فَلَهُمَا، أَوْ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا تصوره واضح ولم يكن للميت شيء؛ لأنه لا يصح تملكه، وهذا إذا وضعته ميتاً، وأما إن وضعته حياً ثم مات فلورثته، وقوله: (فَلَهُمَا) أي: على التسوية، ولا إشكال في هذا إن وضعته ذكرين أو أنثيين، وأما إن وضعته ذكراً وأنثى، فإن أقر بوجه لا يقتضي تفضيل الذكر على الأنثى فكذلك، وأما لو قال: لحمل فلانة عندي ألف من دين أبيه؛ فالمال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، قاله ابن سحنون وقاله ابن عبد الحكم، إذا قال: هذه الدار لحمل فلانة ملكاً عن أخ شقيق، وإن كانت المرأة زوجته فلها الثمن من ذلك، وإن قال: عن أخ لأم فهو بينهما نصفان، والثالث يقسم المال على ثلاثة فيأخذ كل واحد منهما جزءاً من الجزء الثالث؛ يدعي الذكر كله وتدعي الأنثى نصفه، فقد سلمت نصفه للذكر يأخذه ويبقى نصفه ويقسم بينهما لتداعيهما فيه، فيكون للذكر سبعة من اثني عشر وللأنثى خمسة، قال: وبالأول أقول، قال: وإن قال هو ميراث لهما عن بعض قرابتهما؛ كان بينهما نصفين إن مات المقر، ويصح عندنا الإقرار للمجنون كالحمل بل هو أولى.

ولو أَكْذَبَ الْمُقَرُّ لَهُ لَبَطَلَ، ولا رُجُوعَ لَهُ إِلا بِإِقْرَارٍ ثَانٍ يعني: أن من شرط إعمال الإقرار أن يصدقه المقر له؛ إذ لا يدخل ملك المقر في ملك أحد جبراً ما عدا الميراث، ونظيرتها المسألة التي قدمها المصنف في باب النكاح. قال، لو قال: تزوجتك فأنكرت، ثم قالت: نعم فأنكر؛ فليس بإقرار، لأن من شرط صحة الإقرار أن يتفق المقر والمقر له في تصديق كل واحد منهما صاحبه في وقت واحد. الْمُقَرُّ بِهِ يَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ كما لو قال: عندي شيء، فيقبل تفسيره كما سيأتي. ومَنْ أَقَرَّ أَوْ شَهِدَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، فَثَالِثُهَا: إِنْ رُدَّتْ شَهَادَتَهُ بِجُرْحَةٍ لَمْ يُعْتَقْ. اعلم أنه يشترط في إعمال الإقرار أن يكون المقَرُّ به في يد المقر، ولذلك لو أقر بعبد في يد زيد أنه لعمرو لم يقبل إقراره على من هو في [563/ب] يده، وعطف المصنف الشهادة على الإقرار؛ لأن الشهادة إنما تكون عند الحاكم. وقوله: (ثُمَّ اشْتَرَاهُ) لا يريد خصوصية الشراء، بل وكذلك لو ملكه بأي وجه كان؛ كهبة، أو صدقة، أو إرث، وحكى ثلاثة أقوال، القول الثالث لا يتأتي في مسألة الإقرار، والقول بعتقه عليه في القضاء والفتيا هو المشهور؛ لأنه معترف بكلامه أنه لا يقبل الملك، والقول بعدم عتقه لأشهب وعبد الملك؛ لأن إقراره على ملك غيره باطل. أشهب: بشرط أن يحلف، وأما إن نكل فإنه يعتق عليه. ابن عبد السلام: وعلى هذا فيشترط ألا يتمادى على قوله الأول، وأما إن تمادى عليه فيعتق. الثالث للمغيرة خاص بمسألة الشهادة: إن ردت شهادة الشاهد بجرحة لم يعتق عليه، وإن ردت لغير ذلك؛ لأنه انفرد بما شهد عتق عليه، لأن الشهادة كلما ردت بجرحة

بطلت فلم يؤثر في العتق، يريد: بشرط ألا يتمادى على إقراره. وحكى ابن عبد السلام في باب الأقضية قوله: بأنه لا يعتق ولو تمادى على إقراره. فرعان؛ أولهما لابن القاسم في العتبية: فيمن أخبر عن رجل أن أعتق عبده، فإن أخبر أنه علم ذلك منه وسمعه أعتقه، ليس بخبر غيره رأيت أن يعتق عليه، قال في البيان: وهو تفسير المدونة. الثاني: إذا فرعنا على المشهور فولاؤه عند ابن القاسم للذي أخبر عنه أنه أعتقه، وقال أشهب المغيرة: للذي عتق عليه. الصِّيغَةُ: لَكَ عَلَيَّ، أَوْ عِنْدِي، أَوْ أَخَذْتُ مِنْكَ هذا ظاهر، واعلم أن الإمام قل أن يوجد له نص في مسائل الإقرار، فلذلك تجد أكثر مسائله مشكلة كما سيظهر لك. وَمِثْلُهُ: وهَبْتَهُ لِي، أَوْ بِعْتَهُ مِنِّي يعني: أن الألفاظ الأولى تجري مجرى الصريح، وهذه تدل على ثبوت الحق لزوماً، فقوله: (وَمِثْلُهُ) في ثبوت الحق. (وهَبْتَهُ لِي) لأنه أقر له بالملك وادعى عليه، نعم يحلف للمقر له أنه لم يبع بالاتفاق، وفي توجيه اليمين عليه أنه لم يبع قولان. ولَوْ قَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَقَالَ: سَاهِلْنِي فِيهَا وشِبْهِهِ فَإِقْرَارٌ هكذا قال ابن عبد الحكم، وكذلك عنده إذا قال: انتزعتها مني، ولو قال: والله لأقضينكما اليوم، أو قال: لا أعطيكما، وقال: لا إنها لك. وقال: لا تأخذ اليوم مني فإقرار. وحَتَّى يَاتِيَ وَكِيلِي وشِبْهُهُ، قَوْلانِ. اللزوم لابن سحنون، ومقابله لابن عبد الحكم.

ابن سحنون: ولو قال حتى يدخل علي من فائدة أو ربح، أو حتى يقدم مالي أو غلامي، أو حتى يأتي وكيلي، أو يقضي غريمي؛ فهو إقرار. وقال ابن عبد الحكم: اتزن أو اجلس، فانتقد أو زن لنفسك، أو حتى يأتي وكيلي يزن لك؛ فليس بإقرار، حلف كما قال: حتى يأتي وكيلي أو غلامي الذي فكها منك؛ فهو إقرار منه أو الوكيل أو الغلام قبضها وليس بإقرار منه أنها عليه، وقد يقول: حتى يأتي وكيلي أو غلامي فاسأله، ومنشأ الخلاف هل ذلك وعد بالقضاء أو كالاستهزاء. ابن عبد السلام: والأظهر من جهة اللغة قول ابن عبد الحكم، ومن جهة العرف قول سحنون. ولَوْ قَالَ: مِنْ أَيِّ ضَرْبٍ تَاخُذُهَا، مَا أَبْعَدَكَ مِنْهَا وشِبْهَهُ؛ لِمْ يَلْزَمْهُ لأن كلامه ظاهر في الاستهزاء. ابن عبد السلام: وكذلك إذا أجاب بقوله: ما أبعدك منها وحده. ولَوْ قَالَ: ألَيْسَ لِي عِنْدَكَ أَلْفٌ، فَقَالَ: بَلَى أَوْ نَعَمْ لَزِمَهُ فإن كلامه في (بَلَى) ظاهر؛ لأنها توجب النفي. وأما (نَعَمْ) فإنما ألزم بها قضاء على عرف الناس، وإما على مقتضى اللغة على المذهب الصحيح؛ لأنها تقرن ما قبلها من النفي أو غيره، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172] لو قالوا: نعم لكفروا؛ أي: لأنهم قالوا لست بربنا، وينبغي إذا صدر نعم من عارف باللغة ألا يلزمه شيء، ولبعض النحويين أن (نَعَمْ) كـ (بَلَى)، قال في كتاب ابن سحنون، ومن قال لرجل: أليس قد أقرضتني أمس ألف درهم، فقال الطالب: بلى أو نعم، فجحد المقر بالمال يلزمه، ولو قال: أما أقرضتني، أو قال: ألم تقرضني، فهو سواء يلزمه إذا ادعى الطالب المال، وهذا نحو ما ذكره المصنف، لكن قاله ابن عبد الحكم: يحلف المقر ولا يلزمه شيء، وإنما سأله لاستفهام ما عنده من العلم، فليس قوله: أليس بإقرار، وكذلك قوله: ألم تقرضني كذا؟

خليل: وهذا موافق لقول أكثر النحويين، فإن ابن عبد الحكم ساوى بين الجواب ببلى ونعم، وحمل الكلام على الاستفهام كما ذكر لا على أنه أقر، حتى ينظر في جواب المقر هل وافق على ذلك الإقرار، أم لا. ابن عبد الحكم، وابن المواز: وأما إن قال: لا أوفيك العشرة الدراهم التي لك عليَّ، فقال: لا؛ فهو إقرار ويغرم العشرة. قال: وإنما استفهم ذلك الإقرار في القضاء. الْمُجْمَلَةُ: لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ فيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ وإِنْ قَلَّ لأن شيئاً أنكر النكرات فيصح أن يفسر بكل شيء، وإن خالفه المقر له حلف على رد دعواه. وفي كتاب ابن سحنون: فيمن أقر أنه غصب فلاناً شيئاً ولم يبينه، ثم قال: هو كذا، وقال الطالب: هو كذا ولم يقل شيئاً؛ القول قول الغاصب فيما ذكر مع يمينه، وإن ادعى الطالب غيره؛ فإن نكل الغاصب فالقول قول الطالب مع يمينه، فإن أبى المقر أن يسمي شيئاً جبر أن يسمى ما أقر به، وإلا سجن حتى يذكر شيئاً وإن طال قوله، وقيل: هكذا وقع في بعض النسخ وهو صحيح؛ لأن هذا منسوب لابن الماجشون، وفي بعضها، وقالوا: ولعل ذلك من المصنف إشارة إلى تخريج الخلاف في كل من المسألتين، والفرق بينهما؛ أن عرف الناس في قولهم: له عندي مائة وشيء أنها مائة كاملة، بخلاف ما إذا أقر بشيء مفرداً. ابن شاس - بعد أن ذكر كلاماً عن ابن الماجشون -: ولو قال: مائة وشيء؛ اقتصر على المائة، لأن الشيء الزائد لا يمكن رده إلى [564/أ] تقدير، كرد الشيء المستثنى فيبطل؛ إذ هو شيء لا مخرج له. ابن راشد: وحكى غيره عن ابن الماجشون أنه قال: إذا أقر في مرضه بعشرة دنانير وشيء ثم مات ولم يُسأّلْ؛ أن الشيء يسقط لأنه مجهول ويلزم ما سمى، وكذلك لو شهدت بينة

بذلك على رجل ولم يعرف كم الشيء؛ فيسقط الشيء وثبت العدد. فقوله: ثم مات ولم يُسأَل. يقتضي أنه لو عاش سئل، ومقتضى ما حكاه ابن شاس أنه لا يُسْأَل. انتهى. ولَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوِ الأَرْضِ أَوِ الْحَائِطِ حَقٌّ وفَسَّرَهُ بِجِذْعٍ أَوْ بَابٍ مُرَكَّبٍ، فَثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مِنْ وفِي .... القولان الأولان لسحنون، فإنه يقول أولاً يقبل ذلك منه، ثم رجع إلى أنه لا يقبل، والثالث لابن عبد الحكم: إن قال: (مِنْ) لم يقبل منه ما ذكر، ورأى أن (مِنْ) للتبعيض، ورأى كونها لابتداء الغاية أو غير ذلك بعيد، أو إن قال: (فِي) قبل منه ذلك؛ لأنها تقتضي الظرفية، فظاهره أن الحق في الدار لا من الدار، وظاهر ما في النوادر أن الخلاف إنما هو في (فِي) وأم (مَنْ) فلا يقبل منه إلا أن يقر بشيء من رقبة الدار، وقاله ابن رشد، وأما إن لم يقيد بالدار بل قال: لك عليَّ حق، فهو مثل قوله: لك عليَّ شيء، فلو فسره بأن قال: أردت حق الإسلام؛ ففي كتاب ابن سحنون: لا يصدق. ولا بد أن يقر بشيء له ويحلف على نفي دعوى الطالب إن ادعى أكثر منه، قال: وكان سحنون ينظر فيه على نحو ما ينزل مما يتكلمان فيه، وإن كانا تنازعا في ذلك المال أخذناه بذلك، وإن تنازعا فيما يجب لبعض على بعض من حق وحرمة لم يؤخذ هذا المال. ولَهُ عَلَىَّ مَالٌ. قِيلَ: نِصَابٌ. وقِيلَ: رُبُعُ دِينَارٍ، أو ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ، وَقُبِلَ تَفْسِيرُهُ الأول هو المشهور في المذهب وهو منسوب لابن وهب، وقوله: (نِصَابٌ) أي: عشرين ديناراً من الذهب ومائتا درهم من الورق، ومثله لابن المواز فيمن أوصى أن لفلان عنده مالاً. والقول الثاني لابن القصار، وذكر أنه لا نص لمالك في ذلك، وأن ذلك هو الذي يوجبه النظر عنده على مذهب مالك. والقول الثالث في كتاب ابن سحنون وهو اختيار الأبهري.

ومَالٌ عَظِيمٌ كَذَلِكَ. وقِيلَ: مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ. وقِيلَ: قَدْرُ الدِّيَةِ قال الأبهري، إذا قال له: علي مال عظيم أو نفيس؛ فهو مثل قوله: عليَّ مال، فيقبل تفسيره. وقال غيره: يلزمه ثلاثة دراهم أو ربع دينار. وقال ابن القصار: الذي يقوى في نفسي أنه يلزمه مائتا درهم إن كان من أهل الورق، وقاله سحنون وغيره، وهذا معنى قوله: (ومَالٌ عَظِيمٌ كَذَلِكَ). وقوله: (وقِيلَ: مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ. وقِيلَ: قَدْرُ الدِّيَةِ) أي: هذان القولان زائدان على الثلاثة المتقدمة في المسألة السابقة، وفي عد المصنف لهما قولين نظرٌ؛ لأن ابن شاس وغيره ذكروا أن عبد الوهاب رأى أنهما وجهان تحتملهما المسألة فقط، على أن هذا كله استحسان. ولَهُ كَذَا مِثْلُ شَيْءٍ أي: فيقبل تفسيره، وقد تقدم أن (شيئاً) أنكر النكرات عند النحويين فيكون أنكر من كذا. ابن عبد السلام: وهو ظاهر كلام الفقهاء فـ (شيء) يقبل التفسير بأجزاء المتملكات، وكذا لا يفسر بالأجزاء وإنما يفسر بالواحد الكامل. فَأمَا كَذَا دِرْهَماً فَعِشْرُونَ لأنه إنما يميز بالواحد المنصوب من العشرين إلى التسعين، فأثبت المحقق وألغى المشكوك؛ لأن الأصل براءة الذمة، لكن يحلف عليه إن ادعى المقر له أكثر. وكَذَا كَذَا دِرْهَماً أَحَدَ عَشَرَ لأنه كناية عن المركب، وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر.

وكَذَا وكَذَا أَحَدٌ وعِشْرُونَ لأن المعطوف في العدد غير المركب من أحد وعشرين إلى تسع وتسعين، وعلى هذا لو قال: كذا درهم؛ للزمه مائة، لأنها أول عده يضاف إلى المركب، ولو قال: كذا درهم لزمته ثلاثة، وما ذكره المصنف هو قول ابن عبد الحكم، وهو جار على مقتضى اللغة، وينبغي هنا أن يرجع إلى العرف ولهذا قال: وقَالَ سُحْنُونٌ: مَا أَعْرِفُ هَذَا، ويُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ، ولَهُ خِمْسُونَ ونَيِّفٌ فَقِيلَ فَتَفْسِيرُهُ. وقِيلَ: ثَلاثَةٌ، وقِيلَ: ثُلُثُ الأَوَّلِ .... تفسيره: يقبل تبيينه ولو بجز من واحد، وهو قول ابن شعبان، والقولان الآخران حكاهما في النوادر ولم يعزهما. ابن عبد السلام: إن أقربهما إلى اللغة الثاني. الجوهري: النيف الزيادة يخفف ويشدد وأصله من النواف، يقال: عشرة ونيف، ومائة ونيف، وكلما زاد على العقد فهو نيف حتى يبلغ العقد الثاني، قال: وهذا يدل على فساد القول الثالث؛ لأن ثلث الخمسين يزيد على الستين. ابن عبد السلام: وقد يقال هذا إنما يرجع إلى الأول؛ لأنه إنما قال: النيف لمطلق الزيادة لا يقيد كونها ثلاثة، وينبغي أن يعول على العرف إن كان وإلا فعلى اللغة. وفِي أَلْفٍ ودِرْهَمٍ وشِبْهِهِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مِثْلَ أَلْفٍ وَوَصِيفٍ قَبْلَ تَفْسِيرِهِ، وإِلا فَمَعْطُوفُهَا .... يعني: اختلف إذا ذكر عدداً مبهماً ثم عطف عليه عدداً مفسراً، هل يكون المعطوف مفسراً للمعطوف عليه أولاً فيقبل تفسيره في المعطوف عليه، أو يفرق؟ فإن كان المعطوف جرت العادة بالتعامل به كالدرهم والفلس والبيضة والجوزة؛ كان مفسراً للمعطوف

عليه أولاً كوصيف وكتاب، فيقبل تفسيره مطلقاً لابن القصار، ولا أعلم صاحب مقابله، وفي إشكال في مثل ألف ووصيف، والثالث في كتاب ابن سحنون. وَالْوَصِيَّةُ بَجُلِّ الْمائِةِ وقُرْبِهَا ونَحْوِهَا. قِيلَ: الثُّلُثَانِ فَمَا فَوْقَهُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وقِيلَ: الثُّلُثَانِ. وقِيلَ: خَمْسُونَ. الأول نقل سحنون أن عليه أكثر الأصحاب. قال، وقال بعضهم: يلزمه ثلثا المائة، وقال آخرون: يلزمه النصف وشيء، وذلك أحد وخمسون وفيه بعد؛ إذ لا يستعمل في العرف جل المائة وقربها ونحوها في أحد وخمسين. وقَالُوا فِي مِائَةٍ إِلا قَلِيلاً، وإِلا شَيْئاً كَذَلِكَ أي: قال القائلون [564/ب] الثلاثة في المسألة السابقة هنا كذلك، وكذلك النقل، ويحتمل عدها على أهل المذهب، وهذه المسألة نص عليها سحنون في الوصية وجعلها مع الأولى مسألة واحدة، فإن قيل: فلم قال المصنف قالوا ومن عادته ألا يفعل ذلك إلا للإشكال؟ قيل: لأنه رآها بخلاف ما بعدها، وهو قوله: وَقَالُوا: لَوْ أَقَرَّ بِمائِةٍ إِلا شَيْئاً لَزِمَهُ أَحَدٌ وتِسْعُونَ، وفِي عَشَرَةِ آلافٍ إِلا شَيْئاً تِسْعَةُ آلاف ومِائَةٌ .... ولعله أشار إلى تخريج الأقوال السابقة، وتخريج هذا القول في المسألة السابقة، ويحتمل أن يكون أشار إلى ضعف ما أشار إليه ابن شاس وغيره؛ لأنهم أتوا بالمسألتين السابقتين في باب الإقرار، فيفهم من ذلك أنهم رأوا أن باب الإقرار مساو لباب الوصية، وإلا لما أتوا بالمسألتين في باب الإقرار. أشار المصنف إلى ضعف هذا وأنه لا ينبغي أن يخرج من أحدهما في الأخرى؛ لأنهم قضوا في الوصية بمائة إلا شيئاً على حكم آخر، وفي هذا بعد، وفي قوله: (وَقَالُوا: لَوْ أَقَرَّ ... إلخ) نظر؛ لأن كلامه يقتضي أن أهل المذهب كلهم أو أكثرهم قالوا هذا، إنما هو لابن الماجشون.

ابن عبد السلام: ولا نعلمه لغيره، وهو مبني على مذهبه أنه لا يجوز استثناء الصحيح من العدد، وإنما يجوز استثناء الكسر، فلا تجوز عنده: له عليَّ عشرة إلا درهم. وإنما يجوز إلا نصف درهم وشبهه، ولا يجوز مائة إلا عشرة؛ لأن العشرة آحاد المائة، فلذلك لزمه أحد وتسعون اكتفاء بمطلق القلة عن عشرة، وكذلك لا يجوز عنده عشرة آلاف إلا ألف؛ لأن نسبة الألف إلى العشرة كنسبة العشرة إلى المائة، ولذلك لزمه تسعة آلاف ومائة. ودِرْهَمٍ عَلَى التعَامَلِ بِهِ عُرْفاً ولَوْ مَغْشُوشَةً، وإِلا فَزِنَةُ سَبْعَةِ أَعْشَارِ دِينَارٍ مِنَ الْفِضَّةِ وإن لم يكن عرفٌ فيحمل على الدرهم الشرعي، وهو معنى قوله: (فَزِنَةُ سَبْعَةِ أَعْشَارِ دِينَارٍ) أي: على ما تقدم في باب الزكاة، وينبغي إن كان في البلد دراهم مختلفة الوزن والجودة أن يحمل كلام المقر على أقلها وزناً وصفةً، فإن خالفه المقر له حلف كما تقدم، وينبغي أن يقيد ما ذكره من إلزامه الدرهم الشرعي إذا لم يكن عرف بما إذا كان تكلم بمتعدد فالدرهم الشرعي. فَلَوْ فَسَّرَ مُتَّصِلاً قُبِلَ أي: إذا قال متصلاً ناقصاً أو مغشوشاً قبل ذلك منه، ولا يقبل إذا كان غير متصل، وهكذا قال ابن المواز، وهو صحيح إن فسرها بما يقبله الكلام على بعد، وأما إن قال: ردهم رصاص وشبهه لم يقبل، وصرح في الجواهر بأنه لا يقبل تفسيره في الفلوس؛ أي: سواء كان متصلاً أم لا. ابن عبد السلام: ولعل مراد المؤلف أن المقر لم يبين الوجه الذي تعلقت به الدراهم في الذمة، وأما لو أقر بأنها تقررت من بيع وخالف في ذلك المقر له؛ لرجع الحكم فيها إلى ما تقدم من اختلاف المتبايعين، ولو قال: من فرض. فإن أقر بما يقرضه الناس غالباً قبل منه، وإن أقر بما لا يقرضه الناس غالباً، فقال سحنون: اختلف أصحابنا فيمن أقر بفلوس،

وقيدها بأنها الفلوس الكاسدة وأنها من قرض. قال بعضهم: يقبل. وقال بعضهم: لا يقبل. ولو وصل إقراره بقوله أنها وديعة، ثم ذكر بعد ذلك أنها زيوف أو بهارج لقبل ذلك منه، بخلاف أن لو كان ذلك من غصب أو قرض، وذكر ابن عبد الحكم فيمن أقر بدراهم وديعة ثم قال: هي مغشوشة. فإنه اختلف قول ابن القاسم هل يقبل ذلك منه، أم لا. ودَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ. قِيلَ: أَرْبَعَةٌ. وَقِيلَ: تِسْعَةٌ. وقِيلَ: مِائَتَانِ الأول لابن عبد الحكم، ووجهه: أنه قال دراهم، فلزمه ثلاثة حملاً على أقل الجمع؛ لأن الأصل براءة الذمة مما زاد فزيد لأجل الكثرة درهم؛ لأن ما زاد على ذلك مشكوك فيه، ويفهم من هذا أن ابن عبد الحكم يوافق مالكاً في لزوم ثلاثة في قوله: عندي دراهم. ومخالف لابن الماجشون في قوله أنه لا يلزمه إلا درهمان، بناءً على أن أقل الجمع اثنان. قوله: (وَقِيلَ: تِسْعَةٌ) لأن ذلك تضعيف لأقل الجمع ثلاث مرات. وقيل: مائتان؛ لأنهما نصاب الزكاة، وفي هذين ضعف. ابن راشد: وقيل: يلزمه خمسة؛ لأن الأعداد منها قليل وكثير، ولا قليل ولا كثير، والقليل ثلاثة، ولا قليلاً ولا كثيراً أربعة. وقال عبد الوهاب في المعونة: تلزمه ثلاثة لأنه أقل الجمع، وهي كثيرة بالنسبة إلى الإثنين. ولا قَلِيلَةٌ ولا كَثِيرَةٌ أَرْبَعَةٌ هكذا نص عليه ابن عبد الحكم، ولعله كالمخالف لقوله في التي قبلها، وهذا كله استحسان.

وَمِنْ واحِدٍ إِلَى عَشْرَةٍ. قِيْلَ: تِسْعَةٌ. وَقِيْلَ: عَشْرَةٌ لا شك في دخول الدرهم الأول، فالقولان في الدرهم العاشر مبنيان على أن ما بعد (إِلَى) هل يدخل أم لا؟ وقد اختلف أهل اللغة في ذلك، ولذلك اختلف الفقهاء في المرفقين وغيرهما. ومَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ. قَالَ سُحْنُونٌ: عَشَرَةٌ مَرَّةً، وتِسْعَةٌ مَرَّةً، وثَمَانِيَةٌ مَرَّةً حقيقة الكلام تمنع الدرهم الأول من الدخول، وقولان في الدرهم العاشر كالقولين في الفرع السابق، ويرى من ألزمه الدرهم الأول أن العرف يقتضي ذلك. وعَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ. قِيلَ: عِشْرُونَ، وقِيلَ: مِائَةٌ الأول أقرب إلى عرف العامة، والثاني لسحنون وهو الجاري على اصطلاح الحساب، ولو فرق بين أهل الحساب وغيرهم لكان حسناً. بِخِلافِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وبِخِلافِ عَشَرَةٍ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهَا عَشَرَةٌ فِيهِمَا لأن ضرب الحساب هنا لا يتأتى؛ لاختلاف الجنس، فيكون المعنى: له عندي عشرة دراهم ووعاؤها عشرة دنانير. ابن عبد السلام: وهذا هو الذي يعطيه كلام المؤلف لتعقبه بالكلام على الوعاء. وثوبٍ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ فِي مِنْدِيلٍ، فِي لُزُومِ ظَرْفِهِ قَوْلانِ يعني: إذا قال له عندي ثوب في صندوق أو في منديل ونحو ذلك، فلا خلاف في لزوم الثوب، واختلف في الظرف، فقال سحنون عن [565/أ] أبيه فيمن قال: غصبت فلاناً ثوباً في منديل، يأخذه بثوب ومنديل ويكون مصدقاً في صفتهما، وكذلك عشرة أثواب في عيبة. وقال ابن عبد الحكم: لا يلزمه المنديل ولا العيبة.

قال في النوادر، ولو قال: غصبتك ثوباً في ثوب لزمه ثوبان، وكذلك عشرة في ثوب لزمه أحد عشر، بخلاف ثوب في عشرة، فإن العرف أن الثوب يكون وعاء لمثله ويكون وعاء العشرة، ولا يكون الثوب في عشرة أثواب. قال: وفي المسألة قولان - أي: في ثوب في عشرة أثواب - أحدهما: لا يلزمه إلا ثوب. والثاني: يلزمه أحد عشر. انتهى بمعناه. بِخِلافِ زَيْتٍ فِي جَرَّةٍ ظاهره أنه يتفق هنا على لزوم الجرة، والفرق بينه وبين الأول؛ أن الزيت يفتقر إلى الجرة، بخلاف ما تقدم وليس كذلك، فإنه حكى في النوادر الاختلاف هنا عمن حكى عنه الخلاف في المسألة السابقة. وجُبَّةٍ بِطَانَتُهَا لِي، وخَاتَمِ فَضَّةٍ لِي نَسَقاً يُقْبَلُ هذا إذا كان إقراره مجرداً عن الغصب، وأما إن قال: غصبته هذا الخاتم وفصه لي. فقال أشهب، وابن سحنون: هذا مثل الإقرار المجرد. وقال ابن عبد الحكم: الفص للمقر له، ولو قال: لا أعلم، لحلف ما علم ذلك وكان له الفص. واحترز بقوله: (نَسَقاً) مما إن ذكر ذلك بعد مهلة فإنه لم يسمع منه، وحكى ابن المواز عن ابن عبد الحكم ووافقه في القائل في باب: هذه خشب، هذا الباب لفلان ومساميره لي، أو خشبه لي ومساميره لفلان، فهو كما قال ويكونان شريكين بمقدار المسامير من الخشب. ابن المواز: وإن قال: هذا الباب لفلان ومساميره لي. فقال أشهب: هو كما قال، وكأنه عندنا ليس باستثناء من ابن عبد الحكم، وأنا أرى أن الباب كله للمقر له وليس باستثناء.

وَلَوْ أَشْهَدَ فِي ذِكْرٍ بِمِائَةٍ، وفِي آخَرَ بِمِائَةٍ فَآخِرُ قَوْلَيْهِ مِائَةٌ يعني: إذا أقر على نفسه في وثيقة، وهي معنى قوله (فِي ذِكْرٍ) أن لفلان عليَّ مائة ولم يذكر سببها، ثم أشهد في وثيقة أخرى بمائة، فآخر قولي مالك: إنما تلزمه مائة؛ لاحتمال أن تكون المائة الأولى من الثانية، ويحلف المقر على ذلك. ورأى في القول الآخر أن الغالب أنه إنما اشهد في الذكر الآخر بحق آخر. سحنون: واتفق الأصحاب جميعاً أنه إذا أقر له بمائة بعد المائة فلا يلزمه إلا بمائة؛ أي: بخلاف الإشهاد أما لو ذكر السبب وكان السببان مختلفين؛ لزمه مائتان بلا إشكال. ابن عبد السلام: وكذلك عندي إذا كان الإقرار مجرداً، غير أن إحدى المائتين حالة والأخرى مؤجلة وتاريخها بعد تاريخ الأولى. وبِمِائَةٍ وبِمِائَتَيْنِ فِي مَوْطِنَيْنِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الأَكْثَرُ أَوَّلاً لَزِمَتْ ثَلاثُمِائَةٍ يعني: إذا أقر بمائة في موطن ثم أقر بمائتين أو تقدم الإقرار بالمائتين، فقال محمد: يلزمه ثلاثمائة نظراً إلى اختلاف المالين. وقال ابن سحنون: اضطراب قول مالك في هذا، وآخر قوليه أن يحلف المقر ما ذاك إلا مال واحد، ثم لا يلزمه إلا مائتان، وبه أخذ ابن عبد الحكم وابن سحنون، ونقل ابن حبيب عن أصبغ التفرقة، فإن أقر بالأقل أولاً صدق المقر؛ لأن الأقل دخل في الأكثر، وإن أقر بالأكثر فهما مالان؛ عادة الناس إذا تقدم الأقل ثم زادوا عليه أن يجمعوه مع الأقل، بخلاف ما إذا تقدم الأكثر، ولهذه المسألة والتي قبلها شبه بتكرر الوصية. تَعَقَّبَهُ بِالرَّافِعِ أي: تعقب الإقرار بما يتوهم أنه رافع.

فقَالَ: أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وشِبْهِهِ فَأَنْكَرَ لَزِمَهُ، بِخِلافِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ خَمْراً بِأَلْفٍ لأن قوله: عليَّ ألف، إقرار منه بألف. وقوله بعد ذلك: إنها من ثمن خمر أو ميتة أو شيء لا يصلح بيعه يعد ندماً، ولذلك إذا أنكر لزمه الألف. ابن عبد السلام: وهذا صحيح على قول من يبعض كلام المقر من أصحابنا، وأما من لا يبعضه فالأقرب أنه لا يلزمه شيء؛ لأن أول الكلام مرتبط بآخره. وقوله: (بِخِلافِ ... إلخ) أي: فلا يلزمه شيء؛ لأنه هنا لم يقر بشيء في ذمته. وكَذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ولَمْ أَقْبِضْهُ أي: وكذلك تلزمه الألف؛ لأن قوله: (ولَمْ أَقْبِضْهُ) يعد ندماً كالأول، وهذا قول ابن القاسم وسحنون وغيرهما. ابن شاس: وقيل: القول قوله وعلى البائع البينة أنه سلم العبد إليه. بَخِلافِ اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ ولَمْ أَقْبِضْهُ أي: فلا يلزمه شيء؛ لأن قوله: (اشْتَرَيْتُهُ) لا يوجب عمارة الذمة، إلا بشرط القبض في البيع فهو لم يقر به، وفيه بحث لا يخفى عليه. وعَلَىَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ حَرِيرٍ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ رِباً؛ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الأَصَحِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْفٌ قَضَيْتُهُ .... هكذا وقع في بعض النسخ حرير، وكذلك وقع في نسخة ابن راشد وابن شاس وهو الصواب، وما وقع في بعض النسخ خنزير فليس بصحيح؛ لقوله: (ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ رِباً؛ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الأَصَحِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْفٌ) إذ هو حرام من أصله، ومعنى كلامه: إذا أقر لفلان أن له عليه ألف درهم. قال في الجواهر: ثم أقام بينة أنه ربا. وقال سحنون: تقبل منه البينة أن ذلك ربا ويرد ذلك أصل رأس ماله وبالأول قال سحنون.

خليل: وعلى هذا فالمسألة على ثلاثة أوجه؛ إن لم يكن إلا دعواه أنه ربا؛ لم تقبل اتفاقاً. وإن أقام بينة على إقرار الطالب أن التبايع لم يقع بينهما إلا على الربا الذي ادعاه المقر؛ قبل باتفاق. وإن قالت: البينة نشهد أن له عليه ألفاً من ربا، وفي معناها أن تشهد على أن الطالب أقر أن عنده ألفاً من ربا، فالأصح عدم القبول خلافاً لابن سحنون. وصحح المصنف الأول؛ لأنه لا منافاة بين هذه الشهادة وبين ما ذكر المقر؛ لإمكان وقوع يتعين منهما اشترى منه حريراً بألف في زمان واشترى منه بعد ذلك أو قبله من الأشرية الربوية بألف. وقوله: (كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْفٌ قَضَيْتُهُ) أي: لا تقبل بينته أنه ربا، كما لا يقبل منه دعوى القضاء في قوله: عليَّ ألف لفلان [565/ب] قضيته. بِخِلافِ إِقْرَارِ الْمُقَرِّ لَهُ أي: بأنه ربا، ولا إشكال في هذا. وأَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللهُ يَلْزَمُهُ هكذا نقل ابن سحنون عن جميع أصحابنا، ووجهه أنه لما لفظ بإقرار فقد علمنا أن الله شاء بحكمه، والقاعدة أن الاستثناء بالمشيئة لا يفيد في غير اليمين بالله تعالى. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه شيء، وكأنه أدخل ما يوجب الشك، واختلف أيضاً في القائل: لك عليَّ ألف إن قضى الله تعالى ذلك، وإذا أراد الله، أو إن رضي الله، أو إن أحب الله ذلك، أو يسر الله ذلك، فألزمه سحنون ولم يلزمه ابن المواز. وأَلْفٌ فِي عِلْمِي، أَوْ ظَنِّي وشِبْهِهِ قَوْلانِ (وشِبْهِهِ) أي: فيما أظن، أو أعلم، أو أرى، أو في اعتقادي، أو فيما يحضرني، أو فيما أحسب، واللزوم لسحنون، وعدمه لابن عبد الحكم وابن المواز، وقاسا ذلك على الشهادة، فإن هذه الألفاظ تبطلها، بخلاف الإقرار.

وأَلْفٌ مُؤَجَّلٌ يُقْبَلُ قَولُهُ فِي تَاجِيلِ مِثْلِهَا عَلَى الأَصَحِّ بِخِلافِ مُؤَجَّلَةٍ فِي الْقَرْضِ يعني: أن من أقر بمال مؤجل، فإن كان من قرض لم يصدق وحلف المقر له إن أنكر الأجل؛ لأن الأصل فيه الحلول. وإن كان من بيع، فإن ادعى أجلاً مستنكراً لم يصدق وحلف المقر له، وإن ادعى أجلاً لا يستنكر، فقولان؛ أحدهما وهو الذي قدمه ابن شاس وصححه المصنف: أنه لا يلزمه ما أقر به من التأجيل. والثاني حكاه ابن شعبان: أن المقر له يحلف وتكون الألف حالة؛ لأنه أقر بالألف وادعى التأجيل، ولعل منشأ الخلافِ الخلافَ في تبعيض الجمل. وأَلْفٌ إِنْ حَلَفَ فَحَلَفَ، أَوْ شَهِدَ بِهَا فُلانٌ فَشَهِدَ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ لأن من حجته أن يقول: ظننت أنه لا يحلف إلا على الحق، ويقول: ظننت أنه لا يشهد إلا بالحق، وقد تبين لي خلاف ذلك، ويحلف المقر بعد ذلك لرد هذه الدعوى. ونقل ابن سحنون الاتفاق على ذلك، فقال: إن قال: لفلان عليَّ مائة دينار إن حلف، أو إذا حلف، أو حين يحلف، أو مع يمينه، أو في يمينه، أو بعد يمينه، فحلف فلان على ذلك ونلك المقر، وقال: ما ظننت أنه يحلف؛ فلا يؤخذ بذلك المقر في إجماعنا، ولذلك قال محمد بن عبد الحكم: إذا قال لفلان عليَّ مائة إن حلف فيها، أو ادعاها، أو مهما حلف بالعتق أو الطلاق أو الصدقة، أو قال: إن حلف مطلقاً فلا شيء على المقر بهذا وإن حلف الطالب، وكذلك قال اشهد ذلك أو كان يعلم أنها له، أو قال: إن أعارني دابته فأعاره، أو قال: إن شهد بها فلان فشهد بها على المقر؛ فلا شيء على المقر في ذلك كله، وأما إن قال: إن حكم بها فلان لرجل سماه، فتحاكما إليه فحكم بها عليه يلزمه ذلك، ونص مالك في مسألة إن شهد فشهد أنه لا يلزمه، وقيده ابن القاسم بما إذا لم يكن عدلاً، وأما العدل فيقبل عليه، ونحوه في المجموعة، ولا بد من تقييد مسألة قوله: إن حلف بما إذا لم يكن

ذلك على طريق الدعوى، فإن قال ابتداء: له عليَّ كذا إن حلف، وأما إن ادعى عليه بألف مثلاً، فقال: احلف وخذها، فهذا يلزمه ولا رجوع له، نص عليه ابن يونس، وفي البيان: إن نازعه في شيء، فقال: إن شهد لك فلان. تحصيل المسألة: أنه إذا قال له ذلك على وجه التبكيت لصاحبه ولإبراء الشاهد عن الكذب، فلا اختلاف أنه لا يلزمه ما شهد به عليه، وإن لم يقله على وجه ثلاثة أقوال: أولها: لا يلزمه ما شهد به عليه، كان تحقق علم ما نازعه فيه خصمه أم لا، فلا يحكم به عليه مع شاهد آخر ومع يمين المدعي عليه، وهو قول ابن القاسم وابن سحنون وعيسى وأصبغ. ثانيها: أنه لا يلزمه ما شهد به عليه، كان تحقق ما نازعه فيه خصمه أم لا، ويؤخذ دون يمين المدعي، وهو قول مطرف. ثالثها: أنه لا يلزمه إن كان لا يتحقق معرفة ما نازعه فيه خصمه ولا يلزمه إن كان تحقق ذلك، وهو قول ابن دينار وابن كنانة، واختار سحنون: سواء كان الشاهد في هذا عدلاً أو مسخوطاً أو نصرانياً، وقد قيل لا يلزم؛ لأن محمل كلامه على التبكيت حتى يتبين منه الرضى بقوله، والتزام الحكم به على نفسه على كل حال في نازعه فيه من حد أو أرض أو ما أشبه ذلك محمول على التبكيت حتى يتبين غير التبكيت، ولا خلاف أن له الرجوع بقوله قبل أن يشهد. انتهى. ابن عبد السلام: وتأمل ما حكاه سحنون وابن عبد الحكم في تعليل الإقرار على يمين المدعي مع قوله في المدونة عن مالك فيمن قال: احلف، حلف أن الحق الذي تدعيه حق وأنا ضامن ورجع، أنه لا ينفعه رجوعه، ويلزمه ذلك إن حلف الطالب، وإن مات كان ذلك في ماله ولم يجعله هبة غير مقبوضة؛ لأجل أنه أدخله في عهدة اليمين.

خليل: وقد يقال مسألة المدونة خارجة عن هذا وهي من باب الإلزام المرتب على شرط. المتيطي: ومن وجب عليه اليمين، فردها على من وجبت له، أو رضي أن يحلف صاحبه فلما جاء مقطع الحقوق رجع عن الرضى، فقد لزمه الرضى كان عند السلطان أو غيره. أبو عمران: وهذا متفق عليه، بخلاف المدعى عليه يلتزم اليمين ثم يريد الرجوع عنها فذلك له؛ لأن إلزامه لا يكون أشد من إلزام الله تعالى. قال: وقد خالفني في ذلك ابن الكاتب ورأى أن ذلك يلزمه وليس له رد اليمين، والصواب ما قدمناه. وهَذِهِ الشَّاةُ أَوْ هَذِهِ النَّاقَةُ؛ لَزِمَتْهُ الشَّاةُ وحَلَفَ عَلَى النَّاقَةِ يعني: إذا حقق المقر وشك وحلف في المقر به، كما لو قال: هذه الشاة لفلان، أو هذه الناقة. فذكر سحنون أو ما قبل حرف الشك وهو الأول لازم ويحلف على ما بعده، وكذلك لو قال: علي مائة أو دينار، أو له عليَّ مائة أو كذا حنطة، وفيما قاله في هذه المسألة نظر لا يخفى عليك. وغَصَبْتُ عَبْداً مِنْ فُلانٍ لا بَلْ مِنْ فُلانٍ؛ فَهُوَ لِلأَوَّلِ ويُقْضَى لِلآخَرِ بِقِيمَتِهِ يعني: فإن وقع الإقرار لشخص ثم [566/أ] أضرب عن ذلك الشخص وأثبته لشخص أخر؛ فإنه يقضى به للأول لإقراره به وهو متهم على إخراجه عن المقر له أولا؛ فلذلك كان للأول، ومن حجة الثاني أيضاً أن يقول: أنت قد اعترفت بأنه لي بإضرابك عن الأول وقد ضيعته بإقرارك به للأول أولاً، فلذلك ألزم المقر قيمة المقر به للثاني إن كان مقوماً، أو مثله إن كان مثلياً، هكذا قال سحنون وغيره. ابن عبد السلام: وهو المعروف. ابن القاسم في العتبية: ولا يمين عليه. عيسى: إلا أن يدعيه الثاني، فإن ادعاه فله اليمين على الأول، فإن حلف فكما ذكرنا، وإن نكل المقر له أولاً حلف المقر له ثانياً وكان العبد له ولم يكن على المقر شيء. قال في البيان:

وقول عيسى تفسير لقول ابن القاسم ويأتي على ما لسحنون في نوازله من كتاب الاستلحاق أنه لا شيء للمقر الثاني؛ لأنه إذا أقر له إنما أقر له بما قد استحقه الآخر لإقراره له به أولاً، وانظر هل يتخرج أيضاً فيها قول بأنه لا يكون للثاني إلا نصف القيمة من المسألة الآتية في كلام المصنف في الاستلحاق إذا قال الولد: هذا أخي لا بل هذا، فللأول النصف وللثاني نصف ما بقي، وقيل: جميعه. وأشار ابن سحنون إلى مخالفة أشهب أيضاً في مسألة الغصب التي حكاها المصنف. قال: وقال أشهب قولاً أباه سحنون في القائل: غصبت هذا العبد من زيد من عمرو؛ أن العبد لزيد ويقضى لعمرو بقيمته، وقد اتفق سحنون وأشهب على أن من قال: غصبت هذا العبد من زيد من عمْر، أو عمر بل من خالد؛ أن العبد لزيد ويحلف إن شك فيه، ولم يعجب هذا سحنوناً؛ للإجماع فيمن قال: غصبت هذا العبد من زيد وعمر بل من زيد؛ أنه يقضي بالعبد لزيد وعمر نصفين بينهما ويغرم لزيد نصف قيمة العبد إن أراد ذلك، يريد وإن أراد أن يغرم له قيمة العبد كله فذلك من حقه؛ لكونه لما قال: بل من زيد أضاف غصب الجميع إلى ملك زيد، فليس له أن يغصبه عبداً كاملاً ويرد نصف عبد. قال: وهذا يدل على قول سحنون. ابن سحنون، وقرأت على سحنون قول أصبغ: لو قال مائة دينار عندي لزيد من دين أو تعدٍ أو وديعة بل هي لعمر، ولكل واحد منهما مائة، ولو كان ذلك في سعة، فقال: هذا العبد غصبته من زيد بل من عمر، فإن قال ذلك قبل أن يقبض زيد؛ كان العبد بين زيد وعمر، ولو قال: غصبت من زيد، ثم قال: بل من عمر وقد قبض زيد العبد، فإن العبد يكون لزيد ويغرم لعمر قيمته، فقال سحنون: أصاب إلا في العبد، فإن الحكم أن يكون العبد لزيد ويقضى لعمر بقيمته، سواء قال: بل هو لعمر بعد أن قبضه أو قبل أن يقبضه.

ولَكَ أَحَدُهُمَا لِثَوْبَيْنِ، لَهُ تَعْيينُهُ، فَإِنْ قَالَ: لا أَدْرِي، فَإِنْ عَيَّنَ الْمُقَرُّ لَهُ أَدْنَاهُمَا أَخَذَهُ وأَجْوَدَهُمَا بِيَمِينٍ، فَإِنْ قَالَ: لا أَدْري حَلَفَ الْمُقِرُّ، ثُمَّ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ وكَانَا شَرِيكَيْنِ .... يعني: وإن قال رجل لآخر: لك أحد هذين الثوبين أو العبدين فله؛ أي: فللمقر تعيينه، فإن عين الأعلى فلا كلام، وإن عين الأدنى ووافقه المقَرُّ له فكذلك، وإن خالفه حلف المقَرُّ له وأخذ الأعلى، ويبقى له الأدنى بتسليم المقَرُّ له. ابن عبد السلام: وانظر هل ينتفع به انتفاعاً عوضاً عن قيمة الأعلى، فإن غفل عن ذلك حتى بيع الأدنى بأكثر من قيمة الأعلى يوم حلف المقر له وأخذه؛ فيكون الزائد من الثمن على القيمة موقوفاً أويتصدق به، انظر في ذلك كله، ولابن عبد الحكم ما يشبهه. انتهى. وقوله: (فَإِنْ قَالَ: لا أَدْرِي) فإن عين المقر له أدناهما؛ أخذه بغير يمين لعدم التهمة، وإن عين أجودهما حلف. قال في البيان في باب الدعوى والصلح: وتحليفه مثل ما في المدونة في مسألة ضمان الصناع، بخلاف ما ذهب إليه ابن المواز، فإن قال المقر له أيضاً: لا أدري، حلف المقر على نفي المعرفة، وحلف أيضاً المقر له كذلك، وما ذكره من حلفهما ويكونان شريكين نص عليه ابن القاسم في العتبية، وكذلك يكونا شريكين إذا حلف المقر له ولم يحلف المقر. قال في البيان: وهو يأتي على القول بلحوق يمين التهمة، وعلى أنها ترجع؛ لأن كل واحد منهما يتهم صاحبه، فيقول المقر له: تعلم أن أدناهما لك ويقول المقر بالعكس، فأوجب اليمين لكل واحد منهما على صاحبه، فإن حلفا جميعاً أو نكلا جميعاً كانا شريكين كما قال؛ لاستوائهما في الحلف والنكول، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كانا أيضاً شريكين؛ لأن الناكل منهما لما نكل وجب أن يرجع اليمين على صاحبه فيحلف لقد يعلم أن أحدهما له وهو لم يحلف، إلا أنه لا يعلم أن أحدهما هو ثوبه، ويمين التهمة إنما ترجع على البت.

مالك: وهو رجل سوء حلف على ما لا علم له به ويأتي على القول بأن يمين التهمة لا تلحق أن يكونا شريكين في الثوبين، ولا يكون لأحدهما على صاحبه يمين، ويأتي على القول بأن يمين التهمة تلحق وأنها لا ترجع. إن نكل المقر عن اليمين وحلف المقر له؛ كان له أجود الثوبين، لأنه قد وجب له بنكول المقر. انتهى. وقال أشهب: إذا نكلا جميعاً قضى للمقر به بأدناهما. المازري: والأصل الذي يكون عليه أكثر فروع شك المقر فيما أقر به؛ هو أن ما تيقنه المقر فإنه لا محيص له عنه وما شك فيه وأيقن المقر له أخذه على اختلاف في أخذه له، هل يأخذه بيمين أو بغير يمين؟ وما شك فيه جميعاً المقر والمقر له، ففي هذا قولان؛ أحدهما: أن الذي شك فيه يسقط غرامته ولا تجب مطالبة المقر من أجله استصحاباً ببراءة الذمة. والقول الثاني: [566/ب] أنه يقسم بينا المقر والمقر له لتساويهما في إمكان كون الكل مشكوكاً فيه، هل لهذا أو هذا، فيقسم بينهما نصفين. والاسْتِثْنَاءُ بِمَا لا يَسْتَغْرِقُ؛ كَعَشَرَةٍ إِلا تِسْعَةً يَصِحُّ، خِلافاً لِعَبْدِ الْمَلِكِ ذكر الاستثناء هنا لأنه من التعقب بالرافع، وحاصله أنه يصح استثناء الأكثر خلافاً لعبد الملك، والأول هو الصحيح لقوله تعالى: (إنَّ عِبَادِي) إلى قوله: (مِنَ الغَاوِينَ) [الحجر: 42] والغاوون أكثر الناس، لقوله: (ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103] ولقوله عليه السلام حكاية عن ربه: «كلكم جائع إلا من أطعمته» والمطعم أكثر. فإن قيل: من الأخذ من الآية نظر؛ لأن الغاوين لم يدخلوا في العباد العافين إلى الله تعالى؛ لأن الآية في المؤمنين المخلصين، قيل: لا نسلم أن الغاوين ليسوا من العباد؛ لأن العباد مخلصون وغير مخلصين بدليل اتصاف العباد بالمخلصين، ولأنه يلزم حينئذ أن

يكون الاستثناء منقطعاً وهي خلاف الأصل، فإن قيل: اتصاف العباد بالمخلصين للمدح لا للتخليص؛ فالجواب: أن الأصل في الوصف التخصيص، وحمله على المدح على خلاف الأصل. وعن ابن الماجشون: لا يصح استثناء الواحد الكامل، وإنما يصح استثناء الأجزاء كما تقدمت الإشارة إليه ويُرَدُ قوله؛ لاتفاق فقهاء الأمصار أنه لو قال: عندي عشرة إلا تسعة، أنه لا يلزمه إلا واحد، ويمكن أن يجاب له بأنه إنما ألزموه بالواحد نظراً إلى العرف لا إلى اللغة، ويرد عليه بأن الأصل ألا يخالف العرف اللغة. والله أعلم. وعَلَى الْمَشْهُورِ: عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً إِلا ثَمَانِيَةً: تَلْزَمُ تِسْعَةٌ لا على قول عبد الملك، وإنما لزمه تسعة؛ لأن القاعدة: أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات، فقوله: (عَشَرَةٌ) إثبات أخرج منه تسعة فيبقى واحد، ثم أدخل ثمانية أخرى فكان المقر به تسعة. وإِلَى وَاحِدٍ تَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ يعني: أن من استثنى من العشرة إلى الواحد فيلزمه خمسة؛ أي: إذا قال عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدا، وتقريره بما تقدم: أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات، ولك أيضاً في معرفة هذا وجهان: الأول: أن تجمع الأشفاع والأوتار ثم تسقط الأوتار من الأشفاع، فمهما بقي شيء كان هو الباقي، فتجمع العشرة والثمانية والستة والأربعة والاثنين فيكون المجموع ثلاثين، وتجمع التسعة والسبعة والخمسة والثلاثة والواحد فيكون المجموع خمسة وعشرين تسقطها من الثلاثين تبقى خمسة وهي المقر بها.

والوجه الثاني: أن تحط الأخير فما يليه كذلك حتى الأول، فما حصل فهو الباقي فتحط الواحد من الاثنين يبقى واحد تحطه من ثلاثة، يبقى اثنان تحطهما من أربعة، يبقى اثنان تحطهما من خمسة، تبقى ثلاثة تحطها من ستة، تبقى ثلاثة تحطها من سبعة، تبقى أربعة تحطها من ثمانية، تبقى أربعة تحطها من تسعة، تبقى خمسة تحطها من عشرة، تبقى خمسة وهو المقر به. ولا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَهُ الدَّارُ إِلا الْبَيْتَ، وقَوْلِهِ: والْبَيْتُ لِي يعني: لا فرق في الاستثناء بأدواته وبين ما يؤدي إليه وهو ظاهر. ابن عبد الحكم: ولو قال غصبته جميع هذه الدار وبيتها لي؛ فهذا لا يقبل منه، وقد أقر بغصب جميعها؛ لأنه قال: غصبتك بيتاً هو لي، وأما إن قال: هذه الدار وبيت فيها لي؛ قبل قوله مع يمينه. واسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، مِثْلُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلا عَبْداً، يَصِحُّ عَلَى الأَصَحِّ وتَسْقُطُ قِيمَةُ الْعَبْدِ .... هذا مفرع على الأصح، وعلى الأصح فيقال للمقر: صف العبد المستثنى وتقوم صفته وتسقط من الألف ويلزمه ما بقي، فإن ذكر أن القيمة تستغرق المقر به؛ بطل استثناؤه ولزم ما أقر به، قاله في الجواهر، ومقابل الأشهر حكاه ابن سحنون أنه لا يصح، ويلزمه ما أقر به قبل الاستثناء واختاره بعضهم؛ لأنه يلزم أن يكون أمرها مجهولاً بالألف واللام.

الاستلحاق

الاستلحاق: لما فرغ من الإقرار بالمال شرع في الإقرار بالنسب، والمشهور أنه لا يستلحق الورثة إذا اجتمعوا، قاله بعض الشيوخ، ووقع في كلام ابن القصار ما ظاهره ثبوت النسب كمذهب الشافعي في ذلك. وَإِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْهُولَ النَّسَبِ لَحِقَ بِهِ مِا لِمْ يُكَذِّبْهُ الْعَقْلُ لِصِغَرِهِ، أَوِ الْعَادةُ بِبَلَدِهِ، أَوِ الشَّرْعُ لِشُهْرَةِ نَسَبِهِ .... يعني: إذا استلحق شخص مجهول النسب لحق به؛ لأن الناس مصدقون على أنسابهم والشرع متشوف إلى لحوق النسب، إلا أن يكذبه العقل ... إلخ. فالعقل: كما إذا استلحق من هو أكبر منه؛ إذ العقل مانع أن يكون الولد أكبر من أبيه. والعادة: كما إذا استلحق من ببلد يعلم أن المستلحق لم يدخلها. والشرع: كما لو استلحق من هو مشهور النسب، فإن شهرة نسبه تمنع أن يلحق بالغير، وإذا كانت الشهرة تمنع فأحرى إذا ثبت نسبه. وفي المدونة لابن القاسم: في الذي يتبين به كذبه أن يكون له أب معروف، أو هو من المحمولين من بلد لا يعلم أنه دخلها كالزنج والصقالبة، أو تقوم البينة أن الأم لم تزل زوجة لغيره حتى ماتت، قيل له: فإن قالوا لم تزل ملكاً لغيره حتى ماتت، قال: لا أدري ما هذا ولعله تزوجها، ويناقش المصنف بأن قوله أولاً (مَجْهُولَ النَّسَبِ) يغني عن قوله: (لِشُهْرَةِ نَسَبِهِ) لأن الجهل بنسبه مع شهرة نسبه متضادان، ولمالك في المدونة: من باع صبياً ولد عنده ثم أقر بعد ذلك أنه ابنه؛ لحق به ورد الثمن، إلا أن يتبين كذبه، وقد نزلت بالمدينة وقضى بها بعد خمس عشرة سنة. وَلا كَلامَ لَهُ ولَوْ كَانَ كَبِيراً يعني: ولا كلام للمقر به؛ لأنه لا يقابل دعوى المقر إلا بعدم العلم لا بالتحقيق، وإذا لم [567/أ] يكن للكبير كلام فأحرى الصغير، ونص في النوادر على أنه لا يلتفت

لتصديق الولد ولا تكذيبه وأنه لا يقبل، سواء كان الأب صحيحاً أو مريضاً، أحاط الدين بماله أم لا. وفي الكافي في آخر الفرائض شرط ذلك تصديق الولد إذا كان الولد كبيراً، ونص على أنه لو استلحق ولداً كبيراً بعد موته أنه لا يلحق إلا ببينة، وعلل ذلك بأن استلحاقه يفتقر إلى تصديقه والتصديق قد علم بموته، بخلاف الصغير فإذا استلحقه بعد موته يلحق به ويرثه، ويؤيد في المدونة في باب الشهادة: ومن ادعى على رجل أنه ولده أو والده فأنكر؛ فلا يمين له عليه. قال ابن يونس: معناه أن الولد كبير، ولو كان صغيراً لجاز استلحاقه إذا لم يعرف كذبه. فرع: وهل من شرط استلحاق الولد ألا يكون للمستلحق وارث معروف كغير الولد وهو أقرب، نقله سحنون عن أصحابنا، أو إنما يشترط ذلك في غير الولد وهو الذي في العتبية. قال في الجواهر: ولو استلحق ولداً ثم أنكره ثم مات الولد عن مال فلا يأخذه المستلحق. ابن القاسم: ويوقف ذلك المال، فإن مات هذا المستلحق صار المال لورثته وقضى به دينه، فإن قام غرماؤه عليه وهو حي أخذوا ذلك المال في ديونهم. وقَالَ سُحْنُونٌ: لا يُقْبَلُ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ نكَاحٌ أَوْ مِلْكُ يَمِينٍ يعني: أن أهل المذهب لا يشترطون في الاستلحاق تقدم النكاح أو ملك يمين، وقال سحنون: يشترط فيه أن يعلم أحدهما، ونحوه لابن القاسم، لكن المشهور عنه الأول. وَلَوِ اسْتَلْحَقَ ذَا مَالٍ وَلَهُ وَارِثٌ لَمْ يَرِثْهُ هذا خاص بغير الولد؛ لأنه قدم الكلام في الولد، وأنه يقبل استلحاقه ما لم يكذبه العقل ... إلخ. وقد تقدم في اللعان ما إذا استلحقه بعد نفيه وموته، وأن مذهب المدونة: يرثه بشرط أن يترك الولد ولداً، وأن ابن العطار وغيره قالا بنفي الإرث وإن فضلا، قيد

في المدونة إن لم يكن للميت ولد بما إذا كان المال كثيراً، ونص في الجواهر ونحوه لصاحب الذخيرة أن هذا الفرع خاص بغير الولد. وقوله: (وَارِثٌ) أي: عاصب معروف بنسب أو ولاء يدل عليه ما بعده، ومثال المسألة، ما إذا قال: هذا أخي أو عمي أو ابن أخي ونحو ذلك، فإن كان للمستلحق عاصب يرثه لم يرثه هذا المقر به؛ لأن ذلك الوارث يستحق ذا المال وهو يتهم في إخراجه، ولفظ ذا مفعول. وقوله: (وَلَهُ وَارِثٌ) جملة حالية من الضمير في (اسْتَلْحَقَ) فإن قلت: هل يصح أن يكون أيضاً (ذَا) حالاً من فاعل استلحق؛ أي: استلحق حال كونه ذا مال، قيل: فيه بعد، والله أعلم. وكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ عَلَى الأَصَحِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْوَارِثِ أَوْ لا يعني: وكذلك لو استلحق غير الولد وله مال ولم يكن له وارث معروف بالنسب، فإن الأصح أنه لا يرثه، ومنشأ الخلاف ما ذكره، هل بيت المال وارث أم لا، وإنما هو حائز للأموال الضائعة، واضطرب الشيوخ في تعيين المشهور؛ فالباجي يقول: والذي عليه جمهور أصحابنا قبول إقراره ويرثه المقر له ولا يثبت نسبه بذلك، وقاله أصبغ وسحنون، ثم قال سحنون: لا يرثه؛ لأن المسلمين يرثونه، وقاله أشهب. ابن يونس: نسبة الأول إلى المذهب منكر إلا على قول شاذ لابن القاسم. ابن عبد السلام: ولكن هذا إذا كان المقر ذا مال، ومسألة المؤلف في العكس أن يكون المقر له ذا مال، فتأمل ذلك.

ولَوْ قَالَ لأَوْلادِ أَمَتِهِ: أَحَدُهُمْ وَلَدِي وَمَاتَ ولَمْ تُعْرَفْ عَيْنُهُ؛ فَالصَّغِيرُ وَحْدَهُ حُرٌّ. وقِيلَ: وثُلُثَا الأَوْسَطِ وثُلُثُ الأَكْبَرِ، وقِيلَ: الْجَمِيعُ .... أي: ومات ولم تعرف عين الولد، وذكر المصنف وابن شاس ثلاثة أقوال، وقد ذكرها صاحب النوادر، وعزا الأول في كلام المصنف لسحنون والثاني للمغيرة والثالث لابن عبد الحكم؛ فرأى في الأول والأوسط عدم العتق، لاحتمال أن يكون الميت لم يرد واحداً منهما وإنما أراد الأصغر، فلا يعتق واحدٌ إلا بيقين على القول بأن الشك لا يؤثر في العتق، ورأى المغيرة أن الصغير هو على كل تقدير؛ لأنه إذا كان الأكبر هو الولد فهو حر، وكذلك الأوسط والأصغر، وإن كان الأوسط هو الولد فهو حر مع الأصغر والأكبر رقيق، وإن كان الأصغر هو الولد فهو حر دونهما، ولما كان الأوسط حراً على تقديرين ورقيق على تقدير عتق ثلثاه، ولما كان الأكبر حرًّا على تقدير ورقيقاً على تقديرين عتق ثلثه، ورأى ابن عبد الحكم عتق جميعهم بالشك كما وجب اجتناب الشاتين إحداهما ذكية والأخرى ميتة، وكاجتناب المرأتين إذا كانت أحداهما محرمة؛ لأنه لما اختلط من يجوز ملكه بمن لا يجوز ملكه وتعذر التعيين في إعتاق من لا يجوز ملكه وجب إعتاق الجميع؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب. تنبيه: هذا الكلام المتقدم إنما هو إذا كان الإخوة من أُمٍّ واحدةٍ وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف؛ لقوله: (لأَوْلادِ أَمَتِهِ). قال في العتبية: وإن كانوا مفترقين فإن القول ببلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الرواة، أن يحمل هذا عندهم محمل من قال: أحد عبيدي حر. وقال المخزومي: يعتق من كل واحد ثلثه ويرق ثلثاه. وقال آخرون: يعتق واحد من الثلاثة بالقرعة؛ لأنه لما كان مجهولاً عتق بحكم الوصية فقط، وقد قيل أنه يقرع بينهم، وإن كانوا لأم فيقرع بين الأكبر والأوسط، وأما الأصغر فهو حر على كل حال؛ لأنه لا يصح أن يختلف فيه، وإن كان ظاهر الرواية [567/ب] خلاف ذلك

فتأول على هذا وهو تأويل سائغ؛ لأن الاثنين جماعة فيحمل قوله بينهم على الأكبر والأوسط، قال: ولا خلاف أنه لا إرث لأحدهم منه. وَإِذَا وَلَدَتْ زَوْجَتُهُ وَغَيْرُهَا وَلَدَيْنِ ومَاتَتَا واخْتَلَطَا؛ عَيَّنَتْهُ الْقَافَّةُ يحتمل أن يرد بغير زوجته ما هو أعم من أمته والأجنبية، ويحتمل أن يريد أمته فقط، وهذا الثاني أشبه بأصل المذهب في أن القافة إنما تكون في الآباء. وفي الجواهر: ولو نزل ضيف على رجل وله أم ولد حامل فولدت هي وولدت أم ولد الضيف في ليلة بنتين فلم تعرف واحدة منهما بنتها وتداعتا أحدهما ونفى الآخر؛ فإن القافة تدعى لهما. وقال سحنون فيمن ولدت امرأته وجاريته فأشكل عليهم ولد الحرة من ولد الأمة ومات الرجل ولم يدع عصبة تستدل بها القافة على ولد الميت؛ ليس في مثل هذا قافة، ولا يكون الميراث بالشك. وفي كتاب ابن عيسى: في امرأة طرحت ابنتها ثم عادت لأخذها فوجدتها وأخرى معها ولم تعرف بنتها منهما، فقال ابن القاسم: لا يلحق بزوجها واحدة منهما، وبه قال ابن المواز، وقال سحنون: تدعى لهما القافة، وإلى هذا الفرع الأخير أشار المصنف بقوله: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي امْرَأَةٍ وَجَدَتْ مَعَ بِنْتِهَا أُخْرَى: أَلاَّ تُلْحِقَ بِزَوْجِهَا وَاحِدَةً مِنْهُمَا، وقَالَ سُحْنُونٌ: الْقَافَّةُ ... وكأن المصنف أتى بهذا الفرع إثر الأول، إشارة إلى التعارض بينهما؛ لأنهم قالوا في الأول بحكم القافة ولم يذكروا خلافه، ومذهب ابن القاسم في الثاني عدم إعمال القافة، فكأنه أشار إلى التخريج وهو تخريج ظاهر، والظاهر: أنه لا فرق بينهما، وقول المصنف في الفرع السابق (وَمَاتَتَا) الظاهر أنه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه لا مفهوم له، ولا فرق بين مماتهما وبين حياتهما، فإن قيل: فلم حكموا في الأول في القافة وهي لا تكون في الحرائر على المشهور، وقيل: الفرق بين هذه المسائل المذكورة هنا وغيرها من وجهين:

أولهما: أن النسب هنا ثابت وإنما القافة لتبينه. وثانيهما: إنما لم تعتبر في الحرائر القافة حيث يمكن دفع الولد باللعان وهاهنا تعذر فاستوى الأحرار وغيرهم في ذلك. ولا تَعْتَمِدُ الْقَافَّةُ إِلا عَلَى أَبٍ حَيٍّ، وقِيلَ: وعَلَى الْعَصَبَةِ يعني: أن القافة إنما تعتمد على الأب الحي على ظاهر المذهب قصراً لذلك على قصة زيد وأسامة. وقال سحنون: يعتمد على شبه العصبة؛ يعني: في موت الأب. قوله: (حَيٍّ) هو كذلك في الرواية، ظاهره أنه لا يعتبر الأب إذا مات، ولكن فسر سحنون الحياة بوجوده لينظر شبهه؛ سواء كان حياً أو ميتاً، والفرق والأقرب أن يعتمد على ما تقوله أنها تعرف بذلك النسب، فإن قالت: لا تعرف ذلك إلى بالأب؛ اعتبر الأب فقط، وإن قالت: لا نعرف ذلك بالعصبة رجع إليهم في ذلك، ولا وجه لنقل الخلاف في هذه المسألة، والله أعلم. والمشهور: أنه يكتفى بالقائف الواحد. وقيل: لا بد من اثنين. وَإِذَا أَقَرَّ وَلَدَانِ عَدْلانِ بِثَالِثٍ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَعَدْلٌ يَحْلِفُ ويُشَارِكُهُمَا ولا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَغَيْرُ عَدْلٍ يُؤْخَذُ لَهُ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى تَقْدِيرِ دُخُولِهِ مَعَهُمْ .... أما إذا أقر عدلان فواضح، ولا خصوصية للولدين، بل وكذلك العمان والأخوان، وأما العدل فيحلف معه ويشاركهما؛ لأنه إنما شهد له على مال، وهكذا في الجواهر والذخيرة، ونقل عن الباجي نحوه، والمذهب خلافه على ما نقله العلماء قديماً وحديثاً، وقد صرح بعضهم بأن ما نقله ابن الحاجب وهْمٌ. والمذهب: ان العدل كغيره وليس للمقر له الأخذ إلا من المقر، فإن قلت: لم لا يقيد كلامه بما إذا لم يكن للميت وارث معروف؟ فقد نقل صاحب النوادر وغيره: أنه إذا لم يكن للميت ولد معروف فادعى أنه ولد للميت أو زوجة فأقام على ذلك شاهداً؛ أن ابن القاسم قال: يقضى له بالشاهد واليمين بالميراث دون النسب. وقال أشهب: لا يقضى له به؛ لأن المال فرع بثبوت

النسب، واتفقا على عدم أخذ المال إذا كان للميت وارث معروف، قيل: لما فرض المصنف المسألة في ولدين لزم قطعاً حصول الوارث المعروف، وهي يُتفق فيها على عدم الإرث، فإن قلت: فكلامه هنا موافق لما ذكره في النكاح إذا أقامت المرأة شاهداً على النكاح بعد الموت، فقال ابن القاسم: تحلف معه وترث. وقال أشهب: لا ترث. وتوقف أصبغ. قيل: هذه المسألة أيضاً مقيدة عند ابن القاسم بما إذا لم يكن للميت وارث معروف، كما صرح به صاحب النوادر وغيره، ومذهبنا: عدم ثبوت النسب بالعدل الواحد ولو لم يرث غيره. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: إذا لم يرث غيره يثبت النسب، ومثله عن ابن القصار. وقوله: (وَغَيْرُ عَدْلٍ يُؤْخَذُ لَهُ ... إلخ) هو المشهور، وسيأتي بيان العمل في ذلك في باب الفرائض إن شاء الله. وقال ابن كنانة: إن المقر يشاركهم، وهذا إذا كانت التركة عيناً، وأما إن كانت عروضاً كما لو ترك الميت عبداً أو أمة، فأخذ المقر عبداً والمنكر الأمة، ثم أقر أحدهما بأخ، فقال ابن عيسى: هو مقر بثلث العبد وثلث الأمة وكان له في الإنكار؛ يعني: للمقر نصف كل واحد، فأقر في كل نصف وجب له بثلث ذلك النصف وهو سدس العبد، فلما باع نصفه في الأمة بنصف أخيه في العبد؛ ضمن لأخيه سدس قيمة الأمة، وأما ثلث العبد فواجب له؛ لن سدسه كان بيده، وسدس آخر عاوض فيه أخاه فابتاع [568/أ] ما لا يحل؛ كمن اشتراه شيئاً ثم أقر أنه لآخر فليسلمه إليه، فقد وجب له ثلث العبد بكل حال، ويخير في سدس الأمة بين أن يأخذ منه قيمته أو يأخذ منه سدس العبد الذي باعه فيصير له نصف العبد. وقال أيوب المصري: قول أهل المدينة أن يعطيه ثلث العبد ويضمن له قيمة سدس الأمة؛ لأنه باع ذلك بالسدس من العبد وهو مقر أنه لأخيه. أبو محمد: وهذا هو الصواب وليس فيه تخيير؛ لأن الذي أقر له به من العبد اشترى نصفه بسدس الأمة الذي كان بيد أخيه من العبد الذي كان بيده.

ولَوْ قَالَ الْوَلَدُ: هَذَا أَخِي، لا بِلْ هَذَا؛ فَلِلأَوَّلِ النِّصْفُ ولِلثَّانِي نِصْفُ مَا بَقِيَ بِيَدِهِ. وقِيلَ: جَمِيعُهُ .... أي: فللثاني نصف ما بقي بيده نظراً إلى عذره بالخطأ، وقيل: جميعه بناء على عدم عذره بالخطأ؛ إذ الخطأ والعمد في أموال الناس سواء، ومن حجة الثاني أن يقول: أنت معترف باستحقاق نصف المال وأنت قد ضيعت حقك بإقرارك للأول، وكذلك إذا أقر بوارث ثم بوارث لم يدخل الثاني مع الأول إلا أن يكون الإقرار بهما نسقاً، فإن أقر بالثاني بعد أن دفع للأول؛ فليس عليه للثاني إلا الفضل الذي بيده على نصيبه، مثاله: توفي رجل وتلاك ابناً فله المال كله، فأقر بابن آخر فيه نصف المال بلا خلاف، فإن أقر بثالث، فقال سحنون: حكمه حكم ابنين ثابتي النسب أقر أحدهما بثالث فيدفع له ثلث ما بيده، وكذلك لو أقر برابع وخامس. سحنون: وهو معنى قول ابن القاسم وغيره. وقال أشهب: لا ينظر في هذا إلى ما يجب للمقر وإنما ينظر إلى ما يجب للمقر به من جميع المال، كان بيد المقر وكان قادراً على الإقرار بهما جميعاً، وسواء كان عالماً بالثاني أولم يعلم؛ لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء، وعلى الأول لا يحتاج إلى قضاء قاض، وقال أحمد بن نصر الداودي: إنه إن دفع بقضاء لم يضمن. وَلَوْ تَرَكَ أُمَّاً وأَخَاً فَأَقَرَّ بِآخر، فَفِي الْمُوَطَّإِ: يِاخُذُ مِنْهَا النِّصْفَ وهُوَ السُّدُسُ لِنَفْسِهِ وعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَرُوِيَ: يَقْتَسِمُهُ مَعَ أَخِيهِ. إنما كان للمقر له السدس؛ لأنها أقرت بأخوين يحجبانها إلى السدس، ولا شيء للمنكر؛ لأن بيده الثلثين وهو معترف أنه لا يستحق غيرهما.

وقوله: (وَرُوِيَ: يَقْتَسِمُهُ مَعَ أَخِيهِ) أي: لأنها إنما أقرت بالسدس لهما، وقيل: يوقف نصيب المنكر من السدس، فإن صدق الإم أخذه ودفع لأخيه نصف الثلثين. وقيل: يوقف الأخ على إقرارها، فإن صدقها أخذت السدس وكان الباقي بينهما، كان السدس للمقر به، وإن قال: لا أدري، كان السدس بينهما. * * *

الوديعة

الْوَدِيعَةُ: اسْتِنَابَةٌ فِي حِفْظِ الْمَالِ أي: الوديعة في عرف الفقهاء المبوب لها عندهم ما ذكر، وإلا فهي أعم، كإيداع الأب ولده لمن يحفظه، والأمة المتواضعة، غير أن عبد السلام تردد في الأمة المتواضعة لاحتمال أن يقال إنها استنابة على حفظ المال، فينطبق عليها الرسم، أو يقال ليس المقصود مجرد حفظها وإنما المقصود الرجوع إلى أخبار الأمين عن خروجها من القرء، فلا ينطبق الرسم عليها ولا يكون جامعاً. خليل: وعلى ما قررنا به كلام المصنف يدفع هذا؛ لأن الأمة المتواضعة ليست من المبوب لها في عرف الفقهاء، فإن قيل: رسم المصنف غير مانع لدخول بعض أنواع الإجارة فيه؛ أعني: الإجارة على حراسة المال، فالجواب ما قاله ابن عبد السلام أن هذا النوع من الإجارة مراد الدخول في هذا الرسم، ولا ينكر في الفقه وغيره من العلوم أن تكون المسألة مشتملة على وجوه، لكل واحد منها تعلق بباب، فيحتاج لذلك إلى ذكرها في أبواب متعددة. فصل: وهي مأخوذة من الوَدَعِ وهو الترك، أو من الدَّعَة وهي السكون؛ لأنها ساكنة عند المودع. وَهِيَ أَمَانَةٌ أي: فلا تضمن إلا بتعدٍّ. وَهِيَ جَائِزَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ الجواز هنا مقابل اللزوم؛ لأن لكل واحد من المُودَع والمُودِع أن يبطل الوديعة، فلربها أن يستردها، ولأخذها أن يردها لربها.

ابن عبد السلام: ولا يشترط اجتماعهما في الرضا بذلك ما لم يعرض عارض ينقل هذا الحكم إلى اللزوم، كما في الجارية المتواضعة، أو يكون الحفظ بأجرة كما أشرنا إليه أنها تعود إجارة وهي لازمة، وربما يعرض لها اللزوم من وجه آخر؛ كما إذا كان ربها عاجزاً عن حفظها فيتعين عليه الإيداع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. فإن لم يجد من يحفظها له إلا واحداً تعين عليه قبولها وحفظها لوجوب إغاثة الملهوف، فيكون اللزوم على هذا المعنى بمعنى الفرض ومخالف للذي قبله. وفي دخول هذا تحت كلام المصنف نظر؛ لأن الفرائض لا يلزم الاعتناء باستيفائها. انتهى. وفي المقدمات: لا يَلزَمُ من استُودِعَ قبض الوديعة، وجد المودع من يدعه أم لا، قال ذلك ابن شعبان. فأما إن وجد فواضح، وأما إن لم يوجد غيره فينبغي أن يلزمه القبول قياساً على من دعي إلى أن يشهد - إنه يلزمه ذلك إن لم يكن في البلد من يشهد غيره، ومن أهل العلم من يرى ذلك لازماً له وجد في البلد من يشهد له أم لا؛ لقوله تعالى: (ولا يَابَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا) [البقرة: 282]، ولا يسمى الرجل شاهداً حتى يكون عالماً بالشهادة، فيجب عليه أداؤها. انتهى. فكلام ابن عبد السلام يأتي على قياس ابن رشد لا على ما قاله ابن شعبان. وَشَرْطُهُمَا كَالْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ والضمير في: (شَرْطُهُمَا) عائد على المودِع والمودَع؛ لأن المودِع كالموكِل والمودَع كالوكيل، ومعنى كالوكيل والموكل أن من جاز أن يتصرف لنفسه ولغيره فله أن يودِع ويودَع، ويشكل بالعبد المأذون له في التجارة؛ فإن يجوز أن يُودِع كما سيأتي، ولا يجوز أن يتوكل إلا بإذن سيده كما قدمناه.

وَمَنْ أَوْدَعَ صَبِيَّاً أَوْ سَفِيْهاً أَوْ أَقْرَضَهُ أَوْ بَاعَهُ فَأَتْلَفَهَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَهْلُهُ هكذا وقع في بعض النسخ (أَوْ سَفِيْهاً) وهي أولى، وفي بعضها (صَبِيَّاً سَفِيْهاً) بإسقاط (أَوْ) لأنه يبقى قوله: (سَفِيْهاً) لا حاجة له؛ إذ لا يكون الصبي إلا سفيهاً، والضمير في: (أَتْلَفَهَا) عائد على السلعة المبيعة، ويعلم من ذلك حكم الوديعة والمقرض [568/ب]، قاله ابن عبد السلام. خليل: ويحتمل أن يعود على الوديعة، ويعلم من ذلك حكم المبيع والمقرض، ويرجحه أن الباب معقود للوديعة فكان النص على حكمها أولى. وقوله: (لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَهْلُهُ) فاعل (يَضْمَنْ) عائد على أحدهما لا بعينه - أعني: الصغير والسفيه - وإنما لم يضمنا؛ لأن صاحب السلعة قد سلط عليها من هو محجور عليه، ولو ضمن المحجور عليه لبطلت فائدة الحجر. اللخمي وغيره: إلا ان يصرفا ذلك فيما لا بد لهما منه، فليرجع عليهما بالأقل مما أتلفا أو صونا به مالهما. اللخمي: فإن ذهب ذلك المال ثم أفاد لم يتبعهما فيه. واعلم أن المصنف إنما تكلم على حكم إيداعهما بعد الوقوع لا على ذلك ابتداءً، نعم قد يؤخذ ذلك مما قدمه، فإن قوله: (كَالْوَكِيلِ والْمُوَكِّلِ) يقتضي أنهما لا يودعان. وفي المدونة أن الصبي إذا قبض الوديعة بإذن أبيه وأتلفها: إنه لا يلزمه شيء ولا ينبغي ذلك لأبيه. أبو الحسن: ولا ينبغي هنا على بابه؛ لأنه لا يتحقق أنه يضيعها أو يتلفها، ولا يتحقق أنه يحفظها؛ فلذلك كره لأبيه أن يأذن له وكذلك الوديعة. وقال اللخمي: لا ينبغي أن يودع صبي ولا سفيه؛ لأن ذلك تعريض لإضاعة المال.

وَتَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمَأذُونِ لَهُ عَاجِلاً يعني: أن العبد الذي أذن له في التجارة إذا تعدى في الوديعة بأحد وجوه التعدي فإنها تتعلق بذمته، ولا يكون للسيد إسقاطها كسائر الديون. وأما إن لم يتعد فهي على الأمانة. ونص المصنف على حكمها؛ لأنه قد يتوهم أنها تخالف الديون؛ لأن الديون باشرها إذن السيد في التجارة، بخلاف الوديعة فإن السيد لم يأذن، ووجه إلحاقها بالديون أنها من عوارض التجارة التي لا بد منهاعادة فإنَّ إذنَ السيد وإن لم يدل عليها مطابقة فقد دل عليها التزاماً. أما قوله: (عَاجِلاً) أي: كالحر. وحكى أشهب أنها تتعلق بذمته إلا أنها لا تؤخذ الآن. وَبِذِمَّةِ غَيْرِهِ إِذَا عَتَقَ دُونَ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يُسْقِطْهَا السَّيِّدُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُسْتَوْدَعُ فَكَالْماذُونِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنِ اسْتَهْلَكَهَا فَجِنَايَةٌ فِي رَقَبَتِهِ .... الأول مذهب المدونة، ووجهه أن السيد يقول: هو عبدي ولم آذن له في التجارة، فلي أن أسقطها عن ذمته. وليس بجناية حتى تتعلق برقبته؛ لأن ربها سلطه عليها. قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ ... إلخ) ظاهره أن كلام أشهب خاص بغير المأذون، وأن أشهب يوافق على الحكم الذي قدمه في المأذون، ألا ترى إلى التشبيه الذي ذكره في قول أشهب بقوله: (فَكَالْماذُونِ) والذي نقله صاحب النوادر واللخمي وابن يونس أن أشهب قال في كتابه في العبد المحجور عليه يتلف وديعة أُودِعَها: إن كان مثله يستودع فهي في ذمته رق أو عتق، وإن كان وغداً لا يستودع مثله فلا شيء عليه في رقه - رد ذلك عليه سيده أو لم يرده - حتى يلي نفسه بالعتق. ابن يونس: فيتبع.

وإذا استأجر عبده الوغد فلسيده أن يبطل عنه ما أتلف من أمانته؛ لأن مثله لا يودع، فيؤخذ من هذا أن موجب تعلق الوديعة بذمة العبد هو كونه غير وغد؛ أي: يودع مثله، والإذن عنده وصف طردي. وأنكر سحنون قول أشهب هذا، وإنكاره صحيح؛ لأن كون العبد ممن يستودع مثله لا يوجب على السيد ما لم يلتزمه بأخذ مال عبده في الحال، ولأن عليه ضرراً في إبقاء الدين في ذمة عبده. ولهذا قال أبو عمران: إن باعه السيد قبل أن يعلم بذلك واطلع عليه المشتري - فليس به إبطال ما في ذمته، لكن له رده، ثم لسيده الإبطال كما في النكاح. قوله: (وَقِيلَ: إِنِ اسْتَهْلَكَهَا فَجِنَايَةٌ فِي رَقَبَتِهِ) ابن عبد السلام: هذا القول حكاه يحيى بن عمر، وظاهره يقتضي أن العبد إذا باشرها بالإتلاف - سواء كان عن انتفاع كما لو أنفقها، أو لا كما لو رمى بها في البحر - فإنها تكون جناية في رقبته، كما لو لم يأذن له السيد، وإنها إن تلفت عنده بتضييع فإنها لا تكون جناية، ثم يحتمل بعد ذلك أن تتعلق بذمته، وهو الأقرب أو لا تتعلق بذمته. انتهى. وكلام المصنف يدل على أن هذا القول خاص بغير المأذون. وفي اللخمي قال يحيى ابن عمر هي جناية في رقبته إذا كان مأذوناً له. فرع: وإذا أتى المحجور عليه إلى رجل فقال له: سيدي أمرني أن أستعير منك كذا فصدقه ودفع إليه ما ذكر وأنكر السيد - فقيل: للسيد طرح ذلك عن ذمة العبد بعد يمينه أنه ما بعثه، وقيل: ليس له ذلك. ابن يونس: والأول أشبه. أشهب: وإن أراد أن يودع رجلاً فقال له: ادفعها إلى عبدي ففعل فاستهلكها العبد - فهي في ذمته ولا شيء على السيد وإن غره من العبد.

ابن عبد الحكم: ولا تكون في ذمة العبد بإقراره أنه استهلكها حتى يقوم بينة باستهلاكه إياها. وَيَضْمَنُ بِالإيدَاعِ والنَّقْلِ وَالْخَلْطِ وَالانْتِفَاعِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالتَّضْييعِ وَالْجُحُودِ لمَّا ذكر أن الوديعة أمانة أخذ يذكر الأسباب التي يكون المودع بها متعدياً، وهي سبعة كما ذكر، ثم أخذ يتكلم على الأول فقال: فَإِنْ أَوْدَعَ لِعُذْرٍ كَعَوْرَةِ مَنْزِلِهِ أَوْ لِسَفَرِهِ عِنْدَ عَجْزِ الرَّدِّ - لَمْ يَضْمَنْ نحوه في المدونة. وقيد أشهب عدم الضمان لعورة المنزل بما إذا حدث ذلك أو زاد على ما علمه رب الوديعة، قال: وإن استودع وديعة وهو في خراب يخاف عليها فأودعها لغيره في أعمر منه؛ فإن كان ربها قد علم بخراب مكانه وخوفه، ولم يزد خرابه إلى ما هو أخوف فالمودع ضامن. وإن زاد خراب موضعه وخوفه على ما كان فلا شيء عليه في إيداعه لغيره، وهو تقييد لقول ابن القاسم. وقد ذكر صاحب النكت واللخمي معنى قول أشهب تقييد المدونة ولم ينسباه لأشهب. اللخمي: وإن كان صاحبها غير عالم ضمنها وسواء ضاعت عنده أو عند غيره، إلا أن يكون ضياعها [569/أ] عنده لم يكن من السبب الذي يخاف منه. وقوله: (عِنْدَ عَجْزِ الرَّدِّ) يعني: وأما إن كان صاحبها حاضراً فليردها إليهن وإن لم يفعل ضمن، وظاهره كظاهر المدونة أنه لا فرق في الوديعة بين أن تكون عيناً أو عرضاً. وقال اللخمي: قد يُحمَل قولُ ابن القاسم: أنه يودعها إذا خاف عورة منزله. على أن الوديعة كانت ثياباً أو عرضاً، ولو كانت دنانير أو ما اشبه ذلك مما يكتم في الأرض ولا يخاف ممن يضطره إلى إخراجها - لم يكن له أن يودعها.

أبو الحسن: وهذا لا يسلم؛ لأن صاحبها لو أراد دفنها لدفنها. وقال ابن عبد السلام: قد يقال: إن الدفن غير سائغ، وذلك إذا لم يخبر أحداً بها؛ لأنه عرضها للتلف، وإن أخبر فذلك في معنى إيداع الغير. ودل كلام المصنف بالمفهوم على أنه لو أودع لغير عذر أنه يضمن - وهو صحيح - ولو أودع من هو أقوى أمانة منه؛ لأن من حجة صاحبها أن يقول لم أرض إلا بأمانتك، ولهذا قال في النكت: الفرق بين الوديعة - في أنه لا يودعها لغيره - وبين اللُّقَطَة - يدفعها لغيره ممن هو في مثل حاله - أن الوديعة إنما رضي صاحبها أمانته بخلاف اللُّقَطَة. اللخمي: وإذا أودعها لعذر السفر ثم عاد من سفره؛ فإن سافر ليعود كان عليه أن يأخذها ويحفظها؛ لأنه التزم حفظها حتى يأتي صاحبها فلا يسقط عنه العذر الذي سافر فيه، وإن كان سفره على وجه الانتقال ثم عاد، كان له أن يأخذها، وليس ذلك بواجب عليه. وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ يعني: إذا تبين الوجه الذي لأجله أودع؛ من عورة منزل أو سفر - فلا ضمان عليه وإن لم يشهد على الإيداع، وهكذا في المدونة، وزاد فيها أنه لا يُصَدَّقُ في أنه خاف عورة موضعه أو أراد سفراً فأودعها لذلك. وخرج اللخمي في هذا الوجه خلافاً لما وقع لابن القاسم فيمن اكترى دابة فلما قدم قال: أودعتها؛ لأنها وقفت علي في الطريق - أنه يصدق، فعلى هذا يصدق في الوديعة أنه أودعها؛ لخوف موضعه أو لأنه سافر وخفي أمره، ولم يعلم هل سافر أم لا؟ وهو في الوديعة أبين؛ لأنه لا يتوهم أحد أن يخرج الوديعة من يده لغير عذر. قال: ومحمَلُ قول ابن القاسم: أنه يصدق إذا ثبت الخوف أو السفر في الإيداع. على أن المودع صدقه في قبضها ويقول: إنها ضاعت، فأما إن كذبه وقال: لم يدفع إلي شيئاً لم يصدق على أصله في كل من أمر أن يدفع إلى غير التي ائتمنته - إلا ببينة.

وقال عبد الملك: يصدق، وبه أرى أن يُقضَى اليوم؛ لأن الشأن دفع الودائع بغير بينة. انتهى. أبو محمد: وإذا علم سفره أو عورة منزله، وأودع الوديعة بغير بينة وأنكرها المودع لا ضمان عليه. ابن يونس: ينبغي على أصولهم الضمان؛ لأنه دفع إلى غير من ائتمنه، ولكن لا يضمنونه للعذر. وَلَوْ سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيدَاعِ أَمِينٍ ضَمِنَ تصوره ظاهر. وَضَمِنَ لأنه عرضها للضياع، وظاهر كلامه سواء سافر على وجه الانتقال بأهله وولده أم لا، وقد نص في الكافي على الضمان ولو كان وجه الانتقال بالأهل والمال. ومفهوم قوله: (مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيدَاعِ أَمِينٍ) أنه لم يجد من يودعها عنده؛ لكونه بقرية وخشي عليها إن تركها أنه لا يضمن إذا خرج بها، وهكذا نص عليه اللخمي، وهو ظاهر، وما ذكره من الضمان نحوه في المدونة، ففيها: وإن سافر فحمل الوديعة معه ضمن. وقال فيها: عن مالك في امرأة ماتت بالإسكندرية فكتب وصيها لورثتها وهم بالمدينة فلم يأت منهم خبر، فخرج بتركتها إليهم فهلكت في الطريق فهو ضامن حين خرج بها بغير أمر أربابها. فقوله: حين خرج بها بغير أم أربابها. هو علة الضمان عنده، وبه يتم لابن القاسم الاستشهاد على قوله: "وإن سافر فحمل الوديعة معه ضمن" وغلا فكان لقائل أن يفرق بأن مسألة مالك خرج فيها المودع من بلده لا لموجب بل لسبب الوديعة وذلك ليس عذراً صحيحاً في سقوط الضمان، ومسألة ابن القاسم في المسافر لحاجة نفسه واستتبع الوديعة معه ولم يخرج بسبب الوديعة، فلم يتعد فيها فلا يضمن. لكن لما كانت علة الضمان عند

مالك إنما هي خروجه بالوديعة بغير أمر أربابها وهذا المعنى حاصل في مسألة ابن القاسم صح اشتراكهما في الحكم، وهذا هو المشهور. وقال أصبغ: للقاضي أن يبعث المال إلى ورثة المُودِع من بلد إلى بلد، هكذا قال ابن عبد السلام، قال: وهو خلاف لقول ابن القاسم. زاد اللخمي وابن راشد في قول أصبغ: بخلاف الوصي يبعث بها فتضيع، فإنه يضمن. فرع: قال في المدونة: وإذا أودعت مسافراً مالاً في سفره فأودعه فضاع ضمن. اللخمي: قال ابن القاسم وأشهب: إلا أن يضطره لصوص فيسلمها لمن ينجو بها، ومحمل ذلك أن الذي يسلمها إليه لا يخشى جنايته فيها، ولو طرحها عندما غشيته لصوص ثم لم يجدها لم يضمن. فَلَوْ رَجَعَتْ سَالِمَةً لِمْ يَضْمَنْ الأقرب: فلو رجعت بعد أن سافر بها سالمة. ويحتمل: فلو رجعت بعد أن أودعها لغيره من غير عذر. ويحتمل: أن يريدهما. وجوز ابن عبد السلام الاحتمالات الثلاث، والأظهر الأول؛ لأنه تفريع على ما دل عليه كلامه بالمطابقة، وهو قوله: (سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ) والثاني تفريع على ما دل عليه كلامه بالالتزام؛ لأن مفهوم قوله: (فَإِنْ أَوْدَعَ لِعُذْرٍ) أنه لو أودع لغير عذر أنه يضمن ولأنه أقرب، واقتصر ابن راشد على الاحتمال الثاني، والحكم في الجميع سواء وهو عدم الضمان؛ لأن الموجب للضمان قد زال، ثم أخذ يتكلم على السبب الثاني وهو النقل.

فَلَوِ اسْتُوْدِعَ جِرَاراً وَشِبْهَهَا فَنَقَلَهَا نَقْلَ مِثْلِهَا فَتَكَسَّرَتْ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ شَيْءٌ فَكَسَرَهَا ضَمِنَ؛ لأَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ .... احترز بنقل مثلها مما لو نقلها غير نقل مثلها؛ فإنه يضمنها. ولو سقط من يده عليها شيء ضمن؛ لأنها جناية خطأ، والخطأ والعمد في أموال الناس سواء، وهذا كما قالوا فيمن أتى إلى فخار فقال له: قلب شيئاً هل يعجبك؟ فوقع ما في يده على شيء تحته إنه لا ضمان عليه فيما في يده للإذن له في ذلك، وضمن ما تكسر أسفل؛ لأنه جناية خطأ [569/ب]. وَلَوْ رَفَعَهَا عِنْدَ زَوْجَتِهِ أَوْ خَادِمِهِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَهُ لِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، خِلافاً لأَشْهَبَ الأحسن في التصنيف ذكر هذا الفرع قبل النقل كما في الجواهر؛ لأنه من فروع السبب الأول، وظاهر كلامه أن أشهب مخالف في الزوجة والأمة، وهو تأويل صاحب البيان وغيره، وإن كان أشهب لم ينص على حكم الزوجة بالتعيين. وقوله: (أَوْ خَادِمِهِ) قال في المدونة: وكذلك إن دفعه إلى عبده أو أجيره الذي في عياله، ويصدق أنه دفعه إلى أهله وإن لم تقم بينة، وضمنه فضلٌ في الأجير والعبد دون المرأة والخادم. عياض: وهو ضعيف ولا فرق بين المرأة والخادم والأجير. وقوله: (الْمُعْتَادَةِ عِنْدَهُ) احترز به مما لو لم تكن عادته ذلك فإنه يضمن. عبد الحق وغيره: كما لو كان بفور ما تزوج الحرة واشترى الأمة؛ لأنه لا يثق بهما، وعلى هذا فلو قال المصنف: (المعتادين) لكان أحسن. وأعلم أن مالكاً أطلق نفي الضمان وقيده ابن القاسم بأن تكون العادة إيداعها، وحمل بعضهم ذلك على الخلاف، وأكثرهم حمل قوله على التفسير لقول مالك، وهو ظاهر

الكتاب. وكذلك اختلف في قول أشهب هل هو خلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك أم لا؟ قال في البيان: وقيل: إِنَّ قول أشهب ليس بخلاف، وأن المعنى في ذلك أن يضمن إذا عرف الناس أنهم لا يدفعون أموالهم إلى أهاليهم. فكل منهم تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه صاحبه؛ لأن قولهما مختلف. فعلى هذا لا يختلف إذا علم عرف الناس في البلد، وإنما يختلف إذا جهل العرف؛ فأشهب يُضَمِّنُه حتى يقيم البينة أن العرف في البلد أن الناس يأتمنون أهلهم على أموالهم ويدفعونها لهم، وابن القاسم لا يُضَمِّنُه حتى يقيم صاحب الوديعة البينة أن العرف والعادة في البلد أن الناس لا يرفعون أموالهم عند أهلهم ولا يأتمنونهم عليها، والأظهر أنه اختلاف من القول، فيتحصل على هذا في المسألة ثلاثة أقوال، يفرق في الثلث بين أن تكون العادة الدفع فلا يضمن أو عدم الدفع فيضمن. انتهى بمعناه. قال في النكت: ويحلف أنه دفع إلى زوجته إذا أنكرت إن كان متهماً، وإلا فلا يمين عليه، وإن وجبت يمينه لكونه متهماً فنكل غرم، وله أن يحلف زوجته. وإن نكل وهو معسر كان لرب الوديعة يمينها، كانت متهمة أم لا؛ لأنها تقوم مقام الزوج في مطالبتها باليمين، كما يتبع الإنسان غريم غريمه، وقاله بعض شيوخنا من بلدنا، وقال ابن يونس: الذي يظهر لي توجه اليمين إذا أنكرت الزوجة كان متهماً أم لا؛ لأنه هنا من يدعي تكذيبه فكان كمدعي رد الوديعة. ابن عبد السلام: إن أراد ابن يونس أن التهمة مع تكذيب الزوجة أقوى مما إذا لم يكن هناك من يكذبه فقريب، وإن أراد أنها محققة كمدعي الرد فقد يقال: إن المكذب للمودع في مسألة دعواه على الزوجة هو غير رب الوديعة، وربها لا يحقق عليه الدعوى فلم تخرج عن أن تكون يمين تهمة، بخلاف مدعي رد الوديعة؛ فإن صاحبها يدعي تكذيبه بدعوى محققة، والله أعلم.

ومَتَى مَاتَ ولَمْ يُوصِ بِهَا ولَمْ تُوْجَدْ ضَمِنَ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: مَا لَمْ تَتَقَادَمْ كَعَشْرِ سِنِينَ .... يعني: إذا مات مَنْ عنده الوديعة ولم يوص بها ولا وجدت في تركته، فحمله مالك على تسلفها، فأوجب أخذها من تركته إلا أن يتقادم الأمر، كعشر سنين، فيحمل الأمر على أنه ردها. مالك في العتبية: والسنة يسير، قال في البيان: قيل: وهو خلاف لما في كتاب الشركة من المدونة في الشريكين يموت أحدهما فيقيم شريكه البينة أنه كانت عنده مائة من الشركة، فلم توجد ولا أعلم لها مسقطاً، أنها تكون في ماله إلا أن تطول المدة، أرأيت لو كان ذلك قبل السنة لكان يؤخذ من ماله. وقيل: ليست بخلاف لها، وهو الصحيح، والفرق بينهما أن للشريك التصرف في المال، وليس للذي يودع أن يتصرف فيما أودع. وفي اللخمي: ومن كانت عنده وديعة فذكر عند موته أنها في موضع كذا فلم توجد فمصيبتها من صاحبها؛ إذ يقول الميت: لم أتسلفها. واختلف إذا لم يذكر شيئاً حتى مات هل تكون في ذمته؟ واختار هذا التفرقة، فإن كانت عيناً فَحَمُلها بعد موت المودع على السلف، وفي العرض على السلف، وفي المكيل والموزون في الحاضرة على التلف، وفي البادية على السلف. ولابن القاسم في العتبية: إذا ترك ودائع ولم يوص فتوجد صرر مكتوب عليها لفلان وفيها كذا، ولا بينة على إيداعه فلا شيء له إلا ببينة أو بإقرار الميت، ولعله مانع أهل الميت. وقال عنه عيسى فيمين بيده ودائع وهو يعلم أنه ينفق منها، فيوصي بودائع، فيوجد في تابوته كيس فيه دنانير مكتوب أنها لفلان وعددها كذا، فيوجد أقل: فإن ثبت خطه ببينة كان ما نقص في ماله، وإلا حلف الورثة أنهم لا يعلمون من ذلك شيئاً.

أصبغ: وكذلك لو وجد خط يد صاحب المال على الكيس مع وجوده في حوز المستَودَع حيث أمن - فإن يقضى له به. أصبغ: وهذا على قول من يقول يقضى له بالخط. وبن دحون أنه لا يقضى له بها؛ لاحتمال أن يكون بعض الورثة أخرجها له، ويكتب عليها اسم المذكور ويَأخُذ على ذلك جعلاً. ولا خلاف أنه لا يقضى له بها إذا وجد عليها اسمه ولا يدري من كتبه. وَفِيهَا: وَإِنْ بَعَثَتَ بِضَاعَةً إِلَى رَجُلٍ بِبَلَدٍ فَمَاتَ الرَّسُولُ بَعْدَ وُصُولِهِ، وقَالَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ: لَمْ يُوصِلْهَا فَلا شَيْءَ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلُ فَفِي تَرِكَتِهِ، وَقَالَ سُحْنُونٌ: رِوَايَةُ سُوءٍ، وَعَكَسَ مُحَمَّدٌ فِيهِمَا، وَقَالَ أَشْهَبُ: فِي تَرِكَتِهِ فِيهِمَا .... لفظ التهذيب: وإن بعثت بمال إلى رجل. وهو أحسن من كلام المصنف؛ لشمول المال البضاعة وغيرها، لكن في اختصار ابن يونس: بمال بضاعة. وحاصل مذهب المدونة [570/أ] التفرقة، فإن مات الرسول بعد وصوله وزعم المرسل إليه أنه مات قبل وصوله بذلك - فذلك في تركته. اللخمي وابن يونس: ووجهه أنه مات في الطريق ولم توجد فَحُمِلَ على أنه تعدى عليها، وإن مات بعد وصوله حمل على أنه دفعها، ولو كان خفا لأخبر بمن يشهد له. (وَعَكَسَ مُحَمَّدٌ فِيهِمَا) أي: في الصورتين بعد الوصول وقبله. اللخمي وابن يونس: ووجهه أنه محمول قبل الوصول على الضياع لا على التعدي؛ لأن الأصل في الوديعة الأمانة، وأما بعده؛ فلأن عليه الإشهاد، ولا يخفى ذلك على ورثته إذا بحثوا عنه. (وَقَالَ أَشْهَبُ: فِي تَرِكَتِهِ فِيهِمَا) أي: في الصورتين. ولا يخفى عليك إنكار سحنون، ولكن لا يؤخذ منه أنه اختار قول أشهب كما نقله غيره.

ابن يونس: وأخذ محمد بقول أشهب، وعلى هذا ففي قوله: (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) نظر؛ لأنه يوهم أنه اختاره، وليس كذلك، بل اختار قول أشهب، وإنما ذلك في كتاب عياض بعد ذكر مذهب الكتاب، وخالف أشهب في هذا وقال: هو ضامن. وحمله أكثرهم على الخلاف. وتأول حمديس قوله في الكتاب: فيما تطاول. وأن الذي يجيء على أصله في العرف أنه يضمن. ابن عبد السلام: وقد يخرج في هذه المسألة من التي قبلها قول بنفي الضمان مطلقاً. أَمَّا لَوْ لَمْ يَمُتْ وأَكْذَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ إِلا بِبَيِّنَةٍ، ولَوْ صَدَّقَهُ الْمُرْسَلُ لأنه لما دفع إلى غير اليد التي ائتمنته كان عليه الإشهاد، فلما تركه صار مفرطاً، فلذلك ضمن ولو صدقه المرسل إليه. وعلى قول ابن الماجشون في هذا الأصل لا يضمن إلا أن يقول اقض عني فلاناً، هكذا نقل ابن راشد، وهذا كله إنما هو في الوكيل المخصوص، وأما المفوض فلا. قال في المدونة: وإن بعت من رجل عبداً أو بعثت معه عبدك أو أجيرك ليقبض الثمن فقال قبضته وضاع مني، فإن لم يقم المشتري بينة بالدفع إلى رسولك ضمن، بخلاف من دفعت إليه مالاً ليدفعه إلى رجل، فقال: دفعته إليه بغير بينة، وصدقه الرجل، هذا لا يضمن. ثم تكلم على الخلط فقال: وَلَوْ خَلَطَ قَمْحاً بِقَمْحٍ أَوْ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَضْمَنْ فهم من كلامه أنه يَضمَن في غير هاتين الصورتين، وهذا المفهوم يقرب من الصريح؛ لأنه لما ذكر أولاً أن الخلط من أسباب التعدي صار الضمان بالخلط هو الأصل. ثم أخرج هاتين الصورتين:

الأولى: أن يخلط مثلياً بمثله جنساً وصفة ويتعذر التمييز، وهذا هو المشهورز وضمنه عبد الملك في ثمانية أبي زيد، وهو ظاهر؛ لأن القمح ونحوه يراد بعينه، بدليل انتقاص البيع باستحقاقه. خليل: وينبغي أن يقيد المشهور بما إذا استوت مكاسبها أو تقاربت، أما إذا اختلفت صفة القمح فإنه يضمن اتفاقاً. ثم المشهور مقيد في المدونة بما إذا كان الخلط على وجه الأحراز. عياض: وإنما لا يضمن إذا كان هذا وشبهه من النظر، كما إذا كان الخلط أرفق وأحرز ونحو ذلك. انتهى. الصورة الثانية: أن يخلط جنساً بغير جنسه ويمكن التمييز بلا كفة، كدنانير مع دراهم، أو قطن مع كتان، أو دراهم مع دراهم مختلفتين، فقال ابن الماجشون: في المبسوط إن كانت الأولى كثيرة فخلطها بدراهم قليلة لم يضمن، وإن خلطها بمال عظيم حتى أشهرها ضمن. اللخمي: وهذا يحسن إذا كانت في موضع لا يضمن ذلك منه، وأما إن كانت في تابوت أو صندوق فلا ضمان؛ لأن السارق يقصد التماس الدنانير والدراهم من مثل ذلك. وما قاله اللخمي يؤخذ من قول عبد الملك حتى أشهرها بذلك. ثم تكلم على الانتفاع فقال: ولَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ فَهَلَكَتْ فِي ذَلِكَ ضَمِنَ، فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى حَالِهَا فَهَلَكَتْ بَرِئَ، وثَلِثُهَا: إِنْ كَانَ بِإِشْهَادٍ .... (فَهَلَكَتْ فِي ذَلِكَ ضَمِنَ) أي: في خلال الانتفاع (ضَمِنَ) أي: لتعديه. وقوله: (فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى حَالِهَا ... إلخ) أي: قول بأنه لا يضمن بدعواه أنه ردها ولو لم يشهد. وعلله ابن رشد بأنه إنما يعلم من قبله.

وقول بأنه لا يبرأ إلا أن يردها إلى صاحبها سواء ادعى أنه ردها سالمة بعد انتفاعه أو قامت له بذلك البينة. وهذا القول حكاه ابن سحنون عن بعض الأصحاب. والقول الثالث: إن ردها بعد الانتفاع بإشهاد برئ، وإن لم يكن إلا دعواه لم يبرأ. وهو قول سحنون؛ لأنه قال: إن أقر أنه لبس ثوباً وديعة، أو ركب دابة وقال: هلكت بعد ما نزلت عنها - فهو ضامن؛ قال: لأنه لما ركبها ضمنها بالتعدي. ولو أقام البينة أنه نزل عنها سالمة ثم تلفت برئ من ضمانها. وأجرى ابن يونس هذا الخلاف على الخلاف في رده لما تسلف من الوديعة ولمحمد قول رابع: إن أقر المودع بالانتفاع ولم يعلم ذلك إلا من قوله وادعى أنها إنما هلكت بعد أن ردها سالمة - فالقول قوله مع يمينه، وإن قامت بذلك بينة فلا يصدق أنه ردها إلى موضعها إلا ببينة. قال: وهو قول أصحابنا. ابن يونس: وهذه الأقوال هنا جارية على اختلاف قول مالك في رده لما تسلف من الوديعة. ولو قال: ركبتها بإذن ربها وأنكر ربها - فالقول قوله مع يمينه. قاله سحنون. ومُسْتَلِفُ الْوَدِيعَةِ إِنْ كَانَ مُعْدَمَاً لَمْ يِجُزِ اتِّفَاقاً، وإِنْ كَانَ لَهُ وَفَاءٌ وَهِيَ نَقْدٌ فَجَائِزٌ إِنْ أَشْهَدَ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ. فَإِنْ كَانَتْ عَرْضاً لَمْ يَجُزِ اتِّفَاقَاً، وَإِنْ كَانَت مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَقِيلَ: كَالنَّقْدِ، وقِيلَ: كَالْعَرْضِ أي: لم يجز السلف للمعدم بها؛ لضرره بها بعدم الوفاء. ابن عبد السلام: وفي معناه من كانت الوديعة قدر جملة ماله أو تزيد بيسير؛ لأن استخلاص الوديعة من هذا بعد إنفاقها عسيرن وإن كان ملياً؛ فإما أن تكون الوديعة عيناً أو عرضاً، مقوماً أو مثلياً، فذكر في النقد قولين.

وحكى اللخمي أربعة [570/ب] أقوال، منع ذلك في كتاب اللقطة، وكرهه في العتبية، ثم أجازه إذا أشهد على تسلفها، وقال عبد الملك: إن كانت مربوطة أو مختومة لم يجز، وإن كانت بغير رباط ولا ختم جاز. والكراهة نص عليها في المدونة في كتاب الوديعة. والأصل المنع؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وهو غير جائز إلا بعد العلم بطيب نفس مالكه. وهو غير محقق. وإن كان الشيء المودع عرضاً لم يجز تسلفه اتفاقاً؛ إذ لو جاز ذلك لكان مشترياً له بغير إذن مالكه. قوله: (وَإِنْ كَانَت مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ... إلخ) يحتمل أن يريد بقوله: (كَالنَّقْدِ) أي: فيأتي القولان بالجواز والكراهة، وبقوله: (كَالْعَرْضِ) أي: فلا يجوز. وعلى هذا يكون اختلاف طريقة، ولكن هذا يعز وجوده وإنما يريد (كَالنَّقْدِ) فيجوز، و (كَالْعَرْضِ) فلا يجوز. على أن الجواز ليس بمنصوص، وإنما خرجه اللخمي، ويتبين ذلك من كلامه، قال: وأما القمح والشعير والزيت وشبهه قول ابن القاسم في المدونة أنه إن تسلفها مضت على وجه السلف؛ لأنه أجاز إذا تسلفها أن يخرج المثل من ذمته كالدرهم، فلو كانت مما تختلف فيه الأغراض كالعروض - لم يصح إخراج المثل ولم يجز السلف، وعلى قول ابن عبد الحكم: إنه يضمن بالخلط بالمثل لا يجوز تسلفها. وقال محمد: فيمن استودع حنطة فباعها لنفسه كان لصاحبها أن يأخذ الثمن إن شاء فلم يجز السلف. وهو أحسن. انتهى. وقد يقال أنه لا يؤخذ من المدونة الجواز ولا الكراهة؛ لأنه إنما قال: إذا تسلفها ثم ردها عادت إلى حكم الوديعة. ولا يلزم من عودها إلى حكم الوديعة جواز الإقدام على تسلفها ولا الكراهة؛ لاحتمال أن يقال هو ممنوع ابتداء؛ لأنه تصرف في ملك الغير، والغالب كراهته لذلك، وإنما رجعت بالرد إلى الوديعة؛ لأن ربها إنما يكره التصرف ابتداءً لا الرد، هكذا أشار ابن عبد السلام.

وَإِذَا تَسَلَّفَ مَا لا يَحْرُمُ تَسَلُّفُهُ ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهًا مَكَانَهَا فَتَلِفَ الْمِثْلُ بَرِئَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ بِإِشْهَادٍ، ورِابِعُهَا: إِنْ كَانَتْ مَنْشُورَةً بَرِئَ .... وفي بعض النسخ: (إِنْ كَانَتْ مَنْثُورَةً) بالثاء قبل الواو. وهذا الرابع لابن الماجشون، والثلاثة لمالك. والمشهور مذهب مالك وابن القاسم في المدونة وبه قال أشهب وأصبغ وابن عبد الحكم. وبمقابله قال المدنيون، وفي الموازية: إنه يشترط ردها بالبينة إذا تسلفها وإلا فلا يحتاج في ردها إليها، وهو قول خامس. ويدخل في قوله: (مَا لا يَحْرُمُ تَسَلُّفُهُ) النقد والمثلي على القولين. وعبر اللخمي عن هذه المسألة بما إذا أخرج الدراهم والدنانير من ذمته إلى أمانته. وعلى المشهور فلا يُصَدَّقُ إلا بيمين، قال أشهب: وكذلك في الموازية. وخرج من قوله: (مَا لا يَحْرُمُ تَسَلُّفُهُ) المعدم للنقد، وفيه نظر؛ لاحتمال أن يقال بالضمان لتعديه أولاً وبعدمه؛ لأنا إنما منعناه لأجل عدم إمكان الرد، فإذا رد فقد أُمِنَتِ العلة. ابن شعبان: وإذا قال صاحبها للمودع: تسلف منها إن شئت، فتسلف منها، وقال: رددتها فهذا لا يبرئه رده إياها إلا إلى ربها. اللخمي وصاحب البيان: وهذا لا يختلف فيه؛ لأن السلف من المالك فصارت كسائر الديون. ثم تكلم على المخالفة فقال: وَإِنْ قَالَ: لا تُقْفِلِ الصُّنْدُوقَ فَأَقْفَلَهُ ضَمِنَ هذا الفرع لابن عبد الحكم ووجهه أن السارق يطمع في المقفول أكثر من غيره. ومال اللخمي إلى عدم الضمان؛ لأن السارق يطمع في الصندوق كان عليه قفل أم لا، فلم يكن لزيادة الطمع وجه، كما إذا قال له اقفل بقفل فأقفل باثنين.

ابن عبد الحكم: وإن قال: أجعلها في التابوت ولم يزد لم يضمن بالقفل؛ لأن القفل في التابوت مأذون فيه بالعادة حتى يصرح بالنهي عنه. وكذلك قال ابن عبد الحكم إذا قال: اجعلها في قدر فخار فجعلها في سطل نحاس؛ لأن السارق عينه للنحاس أكثر، ولهذا صرح بنفي الضمان في العكس. وأَقْفِلْ واحِداً فَأَقْفَلَ اثْنَيْنِ فَقَوْلانِ القول بنفي الضمان لابن عبد الحكم، وهو الذي اقتصر عليه في الجواهر، وزاد: إلا أن يكون في حالة إغراء اللص فيضمن، والقول بالضمان مَالَ إليه ابن يونس. ولا أعلمه منصوصاً. ثم أخذ يتكلم على التضييع فقال: وَفِي كُمِّكَ فَتَرَكَهَا فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ لأن اليد أحفظ. اللخمي: وكذلك لو تركها في وسطه. قال في الجواهر: إلا أن يكون أراد بجعلها في الكم إخفاءها عن غاصب فيضمن من يجعلها في يده. وفِي جَيْبِهِ قَوْلانِ هما خلاف في شهادة هل هذا أحفظ أو هذا؟ والأقرب نفي الضمان؛ لأن الجيب أحفظ لا سيما جيب أهل المغرب. وهو اختيار اللخمي. وأما الجيب الذي يقال له عندنا (المكتوم) فالكم أحفظ منه.

وَلَوْ سَعَى بِهَا إِلَى مُصَادِرٍ ضَمِنَهَا يعني: لو مشى بها إلى ظالم فإنه ضامن، فـ (مُصَادِرٍ) على هذا اسم فاعل. و (ضَمِنَ) لتضييعها. ويصح أن تفتح الدال من (مُصَادِرٍ) ويكون اسم مفعول. والمعنى راجع إلى الأول؛ لأنه إنما يأخذها الظالم كإمام جائر. وَلَوْ نَسِيَهَا فِي مَوْضِعِ إِيدَاعِهَا ضَمِنَ، بِخِلافِ إِذَا نَسِيَهَا فِي كُمِّهِ فَتَقَعُ، وقِيلَ: سَوَاءٌ .... إذا نسيها في موضع إيداعها فقال مطرف وابن الماجشون وابن حبيب: عليه الضمان، بخلاف إذا نسيها في كمه فلا ضمان. وقوله: (وقِيلَ: سَوَاءٌ) يحتمل في نفي الضمان. ولم أر ذلك في الأولى منصوصاً، نعم خرجه جماعة من الثانية، وخرجه اللخمي وابن رشد من المودع مائة دينار فيدعيها رجلان ونسي أيهما أودعه، وممن اشترى ثوبين بالخيار من رجلين فختلطا ولم يدر لمن الجيد منهما - فقد اختلف هل يضمن لهما أو لا يكون عليه [571/أ] ضمان شيء؟ اللخمي: والعذر بالنسيان أبين؛ لأنه لا يعد بالنسيان مفرطاً ويحتمل أن يريد بقوله: (سواء) أي: في الضمان لكن لم أر من قال في الثانية بالضمان. والله أعلم. أما إن أراد أن يأخذ ماله فأخطأ فأخذ الوديعة فسقطت منه فهو ضامن وليس كنسيانها في كمه؛ لأن هذا جناية بفعل غايته أنه خطأ. والخطأ والعمد في أموال الناس سواء. ابن وهب: وإن دفعت غليه في المسجد فجعلها في نعله فذهبت لم يضمن. اللخمي: يريد: إذا جعلها هناك بحضرته أو بعد أن غاب وكانت الوديعة ثياباً أو دراهم كثيرة أو كان الشأن ألا يجعل في كمه غلا عند القيام. وإن كانت صرة دنانير ضمن؛ لأنه فرط.

سحنون: ويضمن من أودع وديعة فصرها في كمه مع نفقته ثم دخل الحمام فضاعت ثيابه بما فيها. ابن يونس: قال بعض الفقهاء لعله إنما ضَمَّنَهُ لدخوله بها الحمام. وَمَنْ أَنْزَا عَلَى بَقَرٍ وشِبْهِهَا فَعَطِبَتْ بِهِ أَوْ مُتْنَ بِالْوِلادَةِ ضَمِنَهَا هذه المسألة لا تناسب ما نحن فيه وكان الأولى لو قال عوض الانتفاع التعدي وأدرج هذا الفرع فيه. وشبه البقر كسائر الدواب والحيوان. (فَعَطِبَتْ بِهِ) أي: بالإنزاء. (أَوْ مُتْنَ بِالْوِلادَةِ ضَمِنَهَا) أي: سواء مُتْنَ بالولادة أو بالإنزاء. وهذا مذهب ابن القاسم في المدونة. ونقل اللخمي عن مالك نفي الضمان إن متن بالولادة، وظاهره أن مالكاً صرح بذلك. قال: وقول ابن القاسم أصوب. وكقول مالك هنا في نفي الضمان قوله: لا ضمان على المرتهن إذا زوج أمة الرهن وماتت من الولادة. وصوب بعضهم قول مالك، وهو المعروف من قوله: كما لو غصب حرة فزنى بها وهو غير محصن فحملت فماتت -إنه لا يقتل بها؛ لأنها ماتت بسببٍ آخر لا بنفس العداء، أو كمن غر بأمة فتزوجها على أنها حرة فماتت لم يضمن قيمة ولدها للأب إذا غرم الأب قيمته. وأسقط أشهب الضمان إذا ماتت بالإنزاء، بل رأى أنه له ذلك ابتداءً، فإنه قال: لا شيء عليه في الإنزاء إن نقص ذلك الولادة؛ لأن الولادة في الجواري ليست من فعله، إنما زَوَجَهُنَّ وكان الحمل من غيره.

ولو سألني في البهائم هل ينزي عليها قبل أن ينزيها؟ لرأيت ألا يدعها من الإنزاء؛ لأن ذلك مصلحة، ولم أضمنه في الجواري ما نقصهن النكاح؛ لأن ذلك النكاح لا يثبت وإن رضي به سادتهن. ولو كان ذكوراً لم يضمن شيئاً؛ لأن للسيد أن يجيزه فلا يضمنه، وقد أجاز فعله، وإن فسخه رجع العبد إلى حاله من غير نقص. فرع: ابن يونس: واختلف في إنزاء الراعي؛ فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه؛ لأنه كالمأذون له، وضمنه غيره، وعكس ابن عبد السلام نسبة القولين في هذا الفرع. والله أعلم. ثم تكلم على الجحد فقال: وإِذَا جَحَدَ أَصْلَهَا فَأُقِيمَتِ الْبَيِّنَةُ لِمْ يُقْبَلِ الرَّدُّ وَلَوْ بِبَيِّنِةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لأنَّهُ كَذَّبَهَا يعني: إذا طلب منه الوديعة فأنكر أن يكون قد أودعه شيئاً، وهذا معنى قوله: (إِذَا جَحَدَ أَصْلَهَا) فأقام المودع البينة على الإيداع فأدعى بعد ذلك أنه ردها لم يقبل قوله أنه ردها، واختلف إذا أقام بينة على الرد، المشهور عدم قبولها؛ لأن قوله الأول مكذب لها، إذ قوله: لم يودعني شيئاً متضمن لعدم الرد، فإنَّ الرد فَرْعُ الإيداع. اللخمي: وقيل: تقبل بينته. وهو أحسن؛ لأن من حجته أن يقول: إنما أنكرت لغيبة بينتي أو للاحتياج إلى تزكيتها ونحو ذلك. ابن عبد السلام: وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى الصورة الثانية لعدم وجود الخلاف في الأولى، على أنه لا يبعد وجود الخلاف منصوصاً عليه في الأولى، فأصول المذهب تدل عليه. خليل: وقد حكى صاحب البيان في باب الصلح وابن زرقون في باب القراض فيمن أنكر أمانة وادعى ضياعها أو ردها لما قامت عليه البينة - ثلاثة أقوال: الأول لمالك من سماع ابن القاسم: يقبل قوله فيهما.

الثاني لمالك أيضاً: لا يقبل فيهما قوله. الثالث لابن القاسم: يقبل قوله في الضياع. وعلى هذا فالخلاف منصوص فيهما، ويمكن إعادة قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) على المسألتين. ابن زرقون: وأما إن أقام بينة على ضياع القراض أو رده فالمشهور أنه تنفعه البينة بعد إنكاره. وحكى اللخمي عن محمد أنه لا ينتفع بها. خليل: فانظر ما شهره المصنف مع ما شهره ابن رزقون فإن ذلك متعارض. ابن زرقون: وأما إن أنكر شيئاً في الذمة أو أنكر الدعوى في الربع أو فيما يفضي إلى الحدود ثم رجع عن إنكاره لأمر ادعاه وأقام عليه بينة ففيها أربعة أقوال: الأول لابن نافع: يقبل منه في جميع الأشياء. الثاني لغير ابن القاسم في كتاب اللعان من المدونة: لا يقبل ما أتى به في جميع الأشياء. الثالث لابن المواز: يقبل في الحدود دون غيرها. الرابع: يقبل منه في الحدود والأصول، ولا يقبل منه ذلك في الحقوق من الديون وشبهها من المنقولات. وهو قول ابن القاسم في المدونة. وَإِنْ طَلَبَهَا فَاعْتَذَرَ فَتَشَاحَّا فَحَلَفَ لا يُعْطِيهَا اللَّيْلَةَ ثُمَّ قَالَ فِي الغَدِ: تَلِفَتْ قَبْلَ أَنْ يَلْقَانِي أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ، إِلا أَنْ يَكُونَ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ قوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ) راجع إلى قوله: (تَلِفَتْ بَعْدَهُ) وأما قبله فيضمن؛ لأن قوله: لا أعطيها الليلة إقرار منه ببقائها. قال في البيان: ولا خلاف في هذا، وأصل هذه المسألة لابن القاسم في العتبية فإنه قال: إذا أتى رب الوديعة للمُودَعِ فقال: إني مشغول أو راكب إلى موضع كذا؛ فأنظرني إلى غد فأبي، فتصايحا حتى حلف ألا يعطيه الليلة، فلما أتاه من الغد قال: إنما تلفت قبل أن تلقاني - ضَمِنَ؛ لأنه قد أقر بها. وإن قال: لا أدري متى ذهبت، وإنما عهدي بها منذ كذا أو كذا حلف وكان القول قوله.

أصبغ: يحلف ما علم بذهابها حين منعه ولقد كان علمه أنها ثَمَّ. ابن القاسم: وإن قال: تلفت من بعد ما فارقتك ضمن؛ لتعديه بالتأخير، إلا أن يكون على أمر لا يستطيع الرجوع فيه أو يكون في رجوعه عليه ضرر فلا يكون عليه حينئذ الضمان. أصبغ: ليس هذا تعدياً، وليس عليه ضمان - كان عليه شغل أو لم يكن - إلا أن يكون في يده أو يكون عند بابه وليس فيه فتح ولا غلق، ولا أمر يتم إلا برجوعه ونظره، فإن جاء مثل هذا ضمن وإلا لم يضمن. قال في البيان: وظاهر قول ابن القاسم أنه محمول على التعدي حتى يثبت [571/ب] العذر، وظاهر قول أصبغ أنه محمول على العذر حتى يثبت التعدي، ولا خلاف في هذه المسألة إلا في هذا الوجه. وق وقع في النوادر لمحمد بن عبد الحكم أنه لا ضمان عليه تلفت قبل أو بعد. وليس ذلك خلافاً لما تقدم؛ لأن معنى "قبل": إذا لم يعلم بذلك إلا بعد، ومعنى قوله: (أَوْ بَعْدَهُ) إذا كان له في منعه عذر. فَإِنْ قَالَ: لا أَدْرِي مَتَى تَلِفَتْ لِمْ يَضْمَنْ قد تقدم هذا من كلام ابن القاسم في المسألة السابقة، ووجهه الحمل على أنها تلفت قبله ولم يعلم بذلك؛ إذ الأصل في الوديعة عدم ضمانها. وَلَوْ طَلَبَهَا فَأَبَى حَتَّى يَاتِيَ الْحَاكِمَ فَهَلَكَتْ فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ بِيِّنَةٍ ضَمِنَ، وَقِيلَ: لا ضَمَانَ .... يصح في (الْحَاكِمَ) فتح الميم على المفعولية وهو الأصل، ويصح ضمها على الفاعلية، وهذا كما كان في بعض القرى أن الحاكم يأتي إليها. وقوله: (كَانَ) أي: الإيداع. وذكر في البيان في هذه ثلاثة أقوال:

الأول: لا ضمان عليه وإن قبضها بغير بينة؛ لأن له في ذلك عذراً يقبل؛ لأنه يقول خفت شغبه وأذاه. وهو لابن عبد الحكم. الثاني: أنه ضامن وإن قبضها ببينة؛ لأنه متعد في منع أدائه إلا بالسلطان، وكان يقدر أن يشهد عليه بالرد كما أشهد عليه هو بالقبض. وإلى هذا ذهب ابن دحون. فالرهن والوديعة على مذهبه سواء. والثالث لابن القاسم في العتبية: إن دفع الرهن والوديعة بغير بينة فهو ضامن، وإن كان ببينة فلا ضمان. وهذا القول هو الذي قدمه المصنف، والقول الثاني في كلامه هو لابن عبد الحكم، وأظهرها قول ابن دحون؛ لأن الشغب يدفع بالبينة. وَلَوْ طَلَبَهَا فَقَالَ: ضَاعَتْ مُنْذُ سِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ هَذَا وَصَاحِبُهَا حَاضِرٌ - فَلا ضَمَانَ، وَقَالَ أَصْبَغُ: إِذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ طَلَبٌ ضَمِنَهَا، وكَذَلِكَ الْقِرَاضُ تصور المسألة ظاهر، قال في البيان: وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الأصل براءة الذمة فلا تعمر إلا بيقين. وهو قول ابن عبد الحكم، فإن قال: يحلف ولا شيء عليه، ونقل ابن عبد الحكم قول أصبغ عن الأصحاب. وقوله: (وكَذَلِكَ الْقِرَاضُ) هو تشبيه في قول ابن القاسم، وكذلك في العتبية ويأتي فيه قول أصبغ. وَإِذَا ادَّعَى الرَّدَّ قُبِلَ مُطْلَقاً، وَقِيلَ: مَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ مَقْصُودَةُ التَّوَثُّقِ فَتَلْزَمُهُ، بِخِلافِ التَّلَفِ .... (مُطْلَقاً) أي: سواء كانت بينة مقصودة التوثق أم لا. وهذا القول ليس بمنصوص بل إنما نص عليه ابن القاسم في الشيء المستأجر أنه يصدق في دفعه وإن قبضه ببينة. وخرجه في المقدمات في الوديعة، قال: يتحصل في المسألة أربعة أقوال:

أحدها وهو المشهور: أنه لا يصدق في دعوى الرد إذا دفع إليه ببينة، لا في الوديعة ولا في القراض ولا في الشيء المستأجر. والثاني: أنه يصدق في جميع ذلك وإن دفع ببينة، وهو الذي يأتي على ما رواه أصبغ عن ابن القاسم من تصديقه في رد المستأجر؛ لأنه إذا صدقه على الرد مع قيام البينة في المستأجر الذي قبضه لمنفعتهما جميعاً فأحرى أن يصدق في الوديعة التي قبضها لمنفعة صاحبها خاصة. والثالث تفرقة أصبغ: يصدق في المستأجر لا في الوديعة والقراض على ما تأول على ابن القاسم. والرابع: الفرق، فلا يصدق في الوديعة إذا دفع إليه ببينة، ويصدق في المستأجر والقراض إن دفع إليه ببينة. وعلى هذا ففي تقديم المصنف للقول الأول نظر؛ لأنه على تقدير صحته خلاف المشهور. وقوله: (مَقْصُودَةُ التَّوَثُّقِ) أي: يقصد دفع الوديعة بحضرتهم، وأما إن كان حضورهم اتفاقيَّاً ولو لم يكونوا لدفع الوديعة إليه فهو بمنزلة عدم البينة. اللخمي: وكما لو كان الإشهاد خوف الموت ليأخذها من تركته أو قال المودع: أخاف أن يقول: هي سلف فاشهد لي أنها وديعة وما أشبه ذلك - مما يعلم أنه لم يقصد التوثق من القابض - فيكون القول قوله في ردها بغير بينة. وقوله: (بِخِلافِ التَّلَفِ) أي: فيقبل قوله وإن قبض ببينة.

وَفِي يَمِينِهِ ثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: يَحْلِفُ فِي الرَّدِّ هذا الكلام معترض ولعله لا يوجد لغيره، والذي حكاه صاحب البيان أنه يحلف في دعوى الرد اتفاقاً، واختلف في التلف على ثلاثة أقوال: قيل تتوجه، وقيل لا، وقيل تتوجه على المتهم دون غيره. قال في البيان: وهو المشهور، قال: وأما إن حقق عليه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين عليه في ردها. وبهذا تعلم أن قول المصنف فيما يأتي: (أَمَّا الْمُتَّهَمُ فَيَحْلِفُ بِاتِّفَاقٍ) ليس بصحيح. والله أعلم. فَإِنْ نَكَلَ فَثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: يَحْلِفُ الْمُودِعُ أي: فإن نكل المُودَع - بفتح الدال - عن اليمين المتوجهة عليه للتهمة فثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يحلف رب الوديعة ولا غرم عليه، بناءً أن يمين التهمة لا ترد. وقيل: يغرم المودع بغير يمين. والمشهور أنه يغرم بعد حلف رب الوديعة، وقد ذكر في البيان هذين القولين الأخيرين. أَمَّا الْمُتَّهَمُ فَيَحْلِفُ بِاتِّفَاقٍ وقد تقدم أن فيه الخلاف. وَلَوْ قَالَ: لا أَدْرِي أَضَاعَتْ أَمْ رَدَدْتُهَا فَمِثْلُ رَدَدْتُهَا أصل هذا الفرع لأصبغ في العتبية. أصبغ: وإنما لم يضمن لأنه إن دفعها فقد برئ، وإن ضاعت فهو مؤتمن. قال: إلا أن يكون المستودع استودعها ببينة فلا يبرأ، وهذا يؤخذ من تشبيه المصنف بقوله: (فَمِثْلُ رَدَدْتُهَا) لأنه قدم أنه يفرق في دعوى الرد بين أن يكون قبضها ببينة أم لا.

قال في البيان: وهذا كما قال أنه لا ضمان عليه إذا قبضها بلا بينة؛ يريد: بعد أن يحلف ما هي عنده ولقد دفعها إليه أو تلفت. وأما إن دفعها إليه ببينة فبَيِّنٌ أنه لا يبرأ منها بقوله: لا أدري؛ لأنه لو ادعى دفعها إليه لم يصدق، فكيف إذا قال: لا أدري. ولو قال المودَع لربها: إن كنت دفعت إلي شيئاً فقد ضاع، فقال عبد الله بن عبد الحكم: إنه يبرأ بيمينه ولو قبضها ببينة. وَلَوِ [572/أ] ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَارِثِ لَمْ يُقْبَلْ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى وَارِثِ الْمُودِعِ لأَنَّهُمَا لَمْ يَاتَمِنَاهُ كَالْيَتِيمِ .... يعني: إذا مات رب الوديعة فادعى المودع أنه ردها لوارثه، أو مات المودع فادعى وارثه أنه ردها لربها، لم يقبل دعوى الرد فيهما. (لأَنَّهُمَا) أي: وارث رب الوديعة في الفرع الأول ورب الوديعة في الثاني - لم يأتمنا الدافع، بل كل منهما دفع إلى غير الذي ائتمنه، كاليتيم إذا ادعى عليه الوصي الرد. وَإِذَا قَالَ: هِيَ لأَحَدِكُمَا وَنَسِيَتُ عَيْنَهُ تَحَالَفَا وَقُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ .... ظاهر كلامه أن الوديعة لم تزل بيد المودع لم يدفعها إلى أحدهما؛ لقوله: إنهما يتحالفان ويقتسمانها، وأن ابن المواز قال: عليه ضمان مائة أخرى، وكذلك نقل ابن يونس القولين، ونقل غيره أيضاً القولين فيما إذا دفع إلى أحدهما، ففي الموازية: ومن استودع مائة فأتى رجلان يدعيانها فقال: "رددتها إلى أحدكم" فإن لم يثبت أيهما هو فهو ضامن لكل واحد منهما مائة؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه أودعه فلم يقطع بتكذيبه، وقوله: للمودِع لا أدري هل أودعتني؟! هو كالنكول؛ فيحلف المدعي ويضمنه، وكذلك لو كانوا عشرة. وقال ابن عبد الحكم: أما في الدين فيضمن لكل واحد منهما مائة، وأما في الوديعة فلم أره مثل الدين.

محمد: هما عندي سواء. زاد محمد في كتاب الإقرار: ويحلف كل واحد منهما ويحكم له بمائة. ومن نكل لم يكن له شيء، وكانت لمن حلف. فإن نكلا جميعاً لم يكن على المقر إلا مائة يقتسمانها بينهما بلا يمين عليه؛ لأنه هو الذي أبى اليمين وردها بعد أن ردت عليه. محمد: فإن رجع المودع فقال: أنا أحلف أنها ليست لواحد منهما فلا بد مِنْ غُرْمِ المائة يقتسمانها بعد أيمانهما؛ لأنه قد اقر أن عليه مائة ثانية ولا حدجة له في إسقاطها، ولا حجة لأحدهما في طلب تمام المائة لنفسه؛ لأن المودع لو قال له: "راجعت معرفتي أنه لا شيء لك" لم يلزمه غير اليمين، واليمين التي حلفهتا له تجري عمن طلب منه تمام المائة لنفسه، وكذلك لو كانت المائة التي عليه دين فيما ذكر سحنون. وإن استودع وديعة ثم ماتت فادعاها رجلان كل واحد لنفسه، فقال ابن الميت: لا أدري إلا أن أبي كان يذكر أنها وديعة فتلوقف أبداً حتى يستحفظها أحدهما بالبينة، وقال فيمن أودعه رجل مائة وآخر خمسين فنسي من صاحب المائة منهما، وادعى كل واحد منهما المائة - إنهما يتحالفان على المائة ثم يقتسمانها والخمسين الباقية؛ إذ ليس لها مدع، قال: وقال بعض أصحابنا: يغرم لكل واحد منهما بعد أيمانهما. وَلَهُ أُجْرَةُ مَوْضِعِهَا دُونِ حِفْظِهَا يعني: إذا كانت الوديعة مما يشغل منزلاً فطلب أجرة الموضع التي كانت فيه فذلك له. وهكذا في المقدمات. ابن عبد السلام: وأطلق المصنف وغيره في هذا، وعندي يتقيد هذا بمن يقتضي حاله طلب الأجرة، كما هو المذهب في رب الدابة يأذن لرجل، ويقول راكبها: إنما ركبتها عارية، ويقول ربها: إنما كان الإذن بالأجرة - فالقول قول ربها إذا كان مثله يكري الدواب، وإنما

سقطت أجرة الحفظ لأنه قد اطردت العادة بأن المودع لا يطلب على ذلك أجرة؛ لأن الحفظ لا تجوز عليه الأجرة لجواز الإجارة على الحراسة. صاحب المقدمات وغيره: وإن احتاجت إلى غلق أو قفل فذلك على ربها. وَإِذَا اسْتَوْدَعَهُ مَنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِهَا فَثَالِهُهَا: الْكَرَاهَةُ، وَرَابِعُهَا: الاسْتِحْبَابُ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَالأَظْهَرُ الإِبَاحَةُ لِحَدِيثِ هِنْدٍ .... هكذا وقع في أكثر النسخ، وزاد ابن راشد في نسخته بعد كلام الباجي: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلا يَاخُذُ إِلا مَا يَسْتَحِقُّهُ) وقد حكى في المقدمات الخمسة. والمنع هو مذهب مالك في المدونة، قيل لابن القاسم: قال ذلك مالك؟ قال: أظنه للحديث الذي جاء: «أدِّ الأمانةَ لمن ائتمنك ولا تخن من خانك». والجواز لابن عبد الحكم، قال: يأخذها وإن كان عليه دين. وهو مبني على أحد القولين في إجازة رهن المديان وقضائه بعض غرمائه. والكراهة مأخوذة من قول أشهب: لا آمره إلا بطاعة الله تعالى، وإن أردت فعله فأنت أعلم. والاستحباب مأخوذ من قول ابن الماجشون: أرى له أن يستعمل الحيلة بكل ما يقدر حتى يأخذ حقه، فإن فيه إبراء ذمة المسلم. والقول الخامس رواه ابن وهب عن مالك، وروى ابن نافع مثله، وزاد مع ذلك: إذا أمن أن يحلف كاذباً فيأخذ قدر حقه. وقال ابن المواز: لا بأس أن يأخذ وإن كان عليه دين ما لم يفلس. ابن المواز عن مالك: وإن أوصى لصغير بدنانير ولم يشهد بذلك إلا الوصي، فإن خفي دَفَعَ ذلك؛ بحيث لا يتبع به، وكذلك لو دفع فلم يقبل السلطان شهادته فله الدفع إذا خفي ذلك.

الباجي وصاحب المقدمات: وأظهر الأقاويل الإباحة؛ لحديث هند: «إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي عيالي» فقال عليه الصلاة والسلام: «خذي من مالِهِ ما يكفيك ويكفي بنيكِ بالمعروفِ». وقد يقال في الأخذ منه نظر؛ لأن هنداً وولدها تجب لهما النفقة في مال أبي سفيان، فكان ما تأخذه عو عين حقها، وكلامنا إنما هو فيمن قدر على مثل حقه لا على نفسه. قال في المقدمات: وكان شيخنا ابن زرقون يحدثنا أن قوله عليه الصلاة والسلام: «ولا تخن من خانك» خرج على سؤال؛ لأنه سئل عن وطء امرأة من ائتمنه عليها، وقد كان السائل ائتمن الرجل على امرأته فخانه فيها ووطئها، وكان يضعف الاحتجاج بهذا الحديث لهذا المعنى، لكن اختلف قول مالك وغيره من العلماء في العام الوارد على سبب خاص، والصحيح عند أهل الأصول وهو اختيار القاضي إسماعيل والقاضي أبي بكر وغيرهما من العراقيين الحمل على عمومه، وبه يصح الاستدلال بالحديث. واحتج أيضاً ابن عبد الحكم [572/ب] بقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ....) [البقرة: 194] الآية. واحترز المصنف بقوله: (مَنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِهَا) مما لو ظلمه بغيرها فإنه لا يجوز له الأخذ. ابن شعبان: ومن أصحابنا من يقول إن المستودع إذا جحد ما كان بيده وهو من غير الذهب، فوجد له المجحود ما بقي من الدراهم أو العروض لم يكن له أخذه ولا بيعه؛ لأنه يوكل في ذلك، وبه أقول. * * *

العارية

الْعَارِيَّةُ: تَمْلِيكُ مَنَافِعِ الْعَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ هي مشددة الياء، الجوهري: وكأنها منسوبة إلى العار؛ لأنَّ طلبَها عارٌ وعَيْب، وأنكر على الجوهري كونها منسوبة إلى العار، لأنه لو كان كذلك، لقالوا: يتعيرون؛ لأن العار عينه ياء، والعارية عند غيره مأخوذة من المعاورة: وهي الأخذُ والإِعْطَاء، يقال: هُم يتعاورون من جيرانهم، أي يأخذون ويعطون ورسمها المنصف بقوله: (تَمْلِيكُ ... إلى آخره)، فقوله: (تَمْلِيكُ مَنَافِعِ الْعَيْنِ) كالحبس، و (بِغَيْرِ عِوَضٍ) أخرج الإجارة وهو غير مانع لدخول العُمْرَى والحبس فيه، فإن قيل: يمكن أن يجاب عنه بوجهين: أولهما: منعُ كون العُمْرَى والحبس ليسا بعارية. ثانيهما: أن العُمْرَى والحبس ليس فيهما تمليك منفعة العين، وإنما هو فيهما إباحة الانتفاع، قيل: كلاهما مردود، أما الأول: فلأنه خلاف الاصطلاح، وأما الثاني: فلأن المعمر أو المحبس عليه يملكان المنفعة بدليل أنهما يؤجران لغيرهما، والله أعلم. وَهِيَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا لأنها من المعروف والبر، فتدخل في قوله تعالى: (وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى) [المائدة: 2]، وقد اختلف في قوله تعالى: (ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ) [الماعون: 7]؛ فقيل عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: إنه عاريَّة متاع البيت؛ كالقدر والفأس، وذهب مالك والجمهور إلى أن الماعون الذي توعد الله على منعه هو الزكاة المفروضة. فرع: قال في المقدمات: وأجرة حمل العارية على المستعير، واختلف في أجرة ردها، فقيل: على المستعير، وهو الأظهر، وقيل: على المعير؛ لأن العارية معروف فلا يكلف أجرة بعد معروف صنعه.

أبو الحسن: واختلف في علف الدابة المعارة، فقيل: على المعير، وقيل: على المستعير. الْمُعِيرُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ؛ فَتَصِحُّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ والْمُسْتَاجِرِ يعني: أن أركانها أربعة: المعير والمستعير والمستعار وما به الاستعارة. وتكلم المصنف على الأول منها فالأول، وشرط في المعير شرطين: أن يكون مالكاً للمنفعة، وأن يكون غير محجور عليه، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنها تبرع، وصحت من المستعير والمستأجر؛ لأنهما مالكان للمنفعة، ونبه بالمستعير على أن الصحيح عند الشافعية: أنه لا يعير، ومنشأ الخلاف: هي المستعير مالك للمنفعة كالمستأجر أو لا؟ وإنما ملك الانتفاع، ويتخرج عندنا الخلاف في جواز إعارة الثوب المستعار من الخلاف في إجارته لمن استأجره، وكذلك فيمن اكترى دابة ليركبها فإن قول مالك اختلف في كراهة كرائها من غيره، وكذلك اختلف هنا، ففي الجلاب: ومن استعار شيئاً إلى مدة فلا بأس أن يكريه من مثله، وفي المدونة: لا بأس أيضاً أن يعيرَه من مثله. وفي كتاب ابن شعبان: من استعار دابة ليركبها، فلا يُركبها غيره، وظاهره بعارية أو كراء. وعلم أن تمليك الانتفاع كسُكنَى المدارسِ والجلوس في المساجد والأسواق، له أن ينتفع بنفسه فقط، ولا يعاوض عنه، وتمليك المنفعة كالإجارة، والعارية عندنا له الانتفاع والإيجار كالملك بالنكاح من ملك الانتفاع، ويستثنى من هذا جواز إنزال الضيف لأهل المدارس والرباط المدة اليسيرة للعادة، ولا يجوز استيطانه ببيت المدرسة دائماً ولا إيجاره، ولا خزن القمح فيه، وكذلك ماء الصهاريج بها، لا يجوز بيعه ولا هبته ولا الانتفاع به فيما لم تجر العادة كالصبغ الكثير، ويستثنى الشيء اليسير من ذلك، وكذلك طعام الضيف لا يجوز له بيعه ولا إطعامه، وله إطعام الهر للعادة، وكذلك البسط في الأوقاف لا يتغطى بها، والزيت للاستصباح لا يباع؛ لأن التمليك فيها مقصور على جهة العادة بشهادة العوائد، ذكر ذلك القرافي في قواعده.

الْمُسْتَعِيرُ: أَهْلٌ لِلتَّبَرُّعِ عَلَيْهِ، فَلا يُعَارُ ذِمِّيٌّ مُسْلِماً يعني: أنه يشترط في المستعير أن يكون أهلاً لأن يتبرع عليه بالمستعار، فلخصوصيته بذلك لا يعار ذمي مسلماً لما في ذلك من إذلال الكافر المسلم، وهو ممنوع، وكذلك المصحف له، وكذلك لا يعار السلاح لمن يقاتل به فيما لا يحل، ولا الأواني لمن يستعملها فيما لا يحل كالخمر، ولا الدابة لمن يركبها لإذاية مسلم ونحو ذلك. الْمُسْتَعَارُ مَنْفَعَةٌ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، فَالأَطْعِمَةُ والنُّقُودُ قَرْضٌ يعني: أن المستعار المنفعة لا الذات. وقوله: (مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ) أي على ملك ربها، وإن استلزم الانتفاع ذهاب العين كما في الأطعمة والنقود، لم يبق ذلك عارية بل هو قرض، وأشار اللخمي إلى أنه تصح إعارة الدراهم والدنانير لمن لا يتلف أعيانها كالصيرفي يجعلها ظاهرة عنده ليراها الناس فيرغبون في الصرف منه، وكذلك الرجل عليه دين يقل ما بيده فيستعيرها لذلك. خليل: وينبغي أن يمنع هذا لوجهين: أولهما القياس على إجارتها، فقد قال المصنف: (ولا تصح إجارة الدنانير والدراهم، وقيل: إن لازمها ربها صح)، والثاني أن في ذلك إيهاماً للناس وتغريراً لهم، والله اعلم. وَأَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً فَلا تُسْتَعَارُ الْجَارِيَةُ لِلاسْتِمْتَاعِ وهو معطوفٌ على (بَقَاءِ الْعَيْنِ) أي المستعار منفعةٌ بشرط بقَاء الْعينِ، (وَأَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً) ولا يريد كونها مباحة في جنسها؛ فإن ذلك شرط في صحة ملك المعير لها، وإنما يريد كون تلك المنفعة مباحة للمستعير، فلذلك لا تستعار الجارية للاستمتاع، ودخل في ذلك الوطء ومقدماته، لما في ذلك من عاريَّة الفروج؛ [573/أ] ولأنه لا يستباح ذلك إلا في ملك أو نكاح، وخالف عطاء بن أبي رباح في هذا وأجازه، وقد بالغ أهل مذهبنا في هذا حتى منعوا قرض الجواري المؤدي إلى عارية الفروج.

ويُكْرَهُ أَنْ يستخدمها لِغَيْرِ الْمحْرَم والنِّسَاءِ والصبيان عبر بالكراهة تبعاً لابن شاس، وقد نص اللخمي في باب الإجارة: أن إجارة المرأة للرجل الغريب غير جائزة، كان مأموناً أم لا لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يخلو رجل بامرأة ليس بينه وبينها محرم». وأن كان له أهل وهو مأمون جاز، وإن كان غير مأمون لم يجز إلا أن تكون متجالة لا إرب للرجل فيها، أو يكون هو شيخ فان، وعلى هذا فمراده بالكراهة هنا التحريم. ونص اللخمي في باب العارية: على أنه تصح هبة خدمة الجارية للأجنبي إذا كان مأموناً وله أهل، فإن كان غير مأمون أو كان مأموناً ولا أهل له لم يجز للحديث المتقدم، واستثنى المحرم والنساء والصبيان؛ لأن الاستمتاع مأمون في حقهن. اللخمي: وتجوز هبة منافعها لمن لا يحل له إصابتها من أقاربها إذا كان الواهب قد أصابها مثل: ولده وولد ولده وأبيه وجده؛ لأنها صارت من ذوات محارمه، وهذا داخل تحت قوله: (مَحْرَم). ولا يجُوزُ اسْتِخْدَامُ أَحَدِ الأَبَوَيْنِ بِالْعَارِيَةِ، وَتَكُونُ الْمَنَافِعُ لَهُمَا يلحق بالأبوين كل من يعتق عليه؛ لأن الاستخدام من توابع الملك، فمن لا يجوز له التمليك، لا يجوز له الاستخدام، وتكون المنفعة للعبد والأمة دون من وهبت له، واستدل اللخمي على ذلك بقول مالك في من عجل عتق عبده على أن يخدمه شهراً، أن الخدمة ساقطة، قال: لأنها بقية رق، بخلاف أن يجعل عليه دراهم. ابن عبد السلام: فإن قلت هذ تلحق الإجارة بالعارية في هذا؟ قيل: هو محتمل، وقد قال في المدونة: ولا بأس أن يؤاجر الرجل أمه وأخته أو ذات محرم على رضاع ولده.

الضمان

وَتَحْصُلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا زاد في الجواهر من قول أو فعل، وهذا هو الركن الرابع. وقوله: على معناها: أي على تمليك المنفعة بغير عوض. وَلَوْ قَالَ: أَعِنِّي بِغُلامِكَ أَوْ ثَوْرِكَ يَوْماً وأَعُينُكَ بِغُلامِي أَوْ ثُوْري يَوْماً فَإِجَارَةٌ، وأَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَآهُ مِنَ الرِّفْقِ .... (فَإِجَارَةٌ) يعني ليس بعارية، وهكذا صرح به ابن شاس؛ لأنه إنما ينظر إلى المعنى ولا ينظر إلى اللفظ، فإن قوله: (أَعِنِّي) قريب من العارية، وإذا كان إجارة فيشترط أن يكون ما يقع التعاون فيه معلوماً سواء كان من نوع واحد كالحصاد أو نوعين كالدراس والبناء، وأن يكون زمان العمل قريبً من عقد هذه الإجارة، فلو قال: أعنِّي بعبدك غداً على أن أعينك بعبدي بعد شهر لم يجز؛ لأنه نقد في منافع معين يتأخر قبضها؛ فإن قيل: إذا كان إجارة واشترط انتفاع الغرر في العمل في زمانه فأين الرفق؟ قيل: لعله في المتقدم من الغلامين، وأن هذا العقد جائز، وإن لم يتفاهما، أي الغلامين يكون عمله أولاً، هكذا قال ابن عبد السلام، وانظر لم نسب الجواز لابن القاسم فقط؟ الضَّمَانُ: إِنْ كَانَ مِمَّا لا يُغَابُ عَلَيْهِ لِمْ يَضْمَنْ إِلا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ، وإِنْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ ضَمِنَ إِلا بِبَيِّنَةٍ عَلَى تَلَفِهِ. وقَالَ أَشْهَبُ: ولَوْ قَامَتْ ... تقدمت نظائر هذه المسألة والكلام عليها في الرهن وغيره، وحكى ابن شعبان عن مالك قولاً أنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط، حكاه في المقدمات وظاهره كان مما لا يغاب عليه أو لا. وذكر اللخمي أن ابن شعبان حكى عن مالك أنه لا يصدق في ذهاب الحيوان والعبيد والدواب.

اللخمي: وقيل لا يصدق فيما صغر خاصة؛ لأنه يخفى إذا غيب عليه، وقد يرجع هذا القول فيما يراد منه الأكل دون غيره. ابن المواز: وإذا قلنا: لا يضمن الدابة فيضمن سرجها ولجامها. اللخمي: ولا يضمن العبد ولا ما عليه من الكسوة؛ لن العبد حائز لما عليه. ومَا عُلِمَ أَنَّهُ بِغَيْرِسَبَبِهِ - كَالسُّوسِ فِي الثوب - يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ فَسَاداً فيَبْرَأُ هكذا في الموازية، ولا يكفي في اليمين: ما أراد فساداً، بل يزيد فيها: ولا ضَيَّع. وألحق التونسي الفأر بالسوس في هذا، وساوى اللخمي بين الفأر والسوس والحرق بالنار في الضمان، قال: لأن الغالب أن الناَّر لا تحدث إلا من فعله إلا أن يثبت أنه من غير فعله، وكذلك السُّوس إنما يحدث من الغفلة عن اللباس والمعير يقول: لو لبسته لم يتسوس، وقرض الفأر لا يحدث إلا لأمر كان من اللباس من رائحة طعام ونحوه، قال: وحيث ضمَّناه القيمة فهل يوم العارية أو يوم التلف؟ قولان مخرجان من القولين في الرهن، وما لا ينقص بالاستعمال يغرم جميعه، وكذلك ما ينقص إذا كانت مدة العارية قريبة لا ينقص في مثلها، وإن كانت بعيدة ينقص في مثلها ضمن قيمة ما يبقى بعد انقضاء مدة العارية. وإِذَا اشْتَرَطَ إِسْقَاطَ الضَّمَانِ فِي مَا يَضْمَنُ، أَوْ إِثْبَاتَهُ فِي مَا لا يَضْمَنُ - فَفِي إِفَادَتِهِ قَوْلانِ .... نحوه في الجواهر ما إذا اشترط إسقاط الضمان في ما يضمن؛ كالثياب ونحوها، فقال المازري في كلامه المنسوب إليه على المدونة: في المسألة قولان، وقال في شرح التلقين: واللخمي وغيرهما: اتفق ابن القاسم وأشهب عنا على إعمال الشرط، وإن كانا قد اختلفا في الرهن؛ لأن العارية معروف ثان لا مانع منه بخلاف الرهن.

اللخمي: وقال سحنون: في من أعطى لرجل مالاً يكونُ له ربحهُ ولا ضَمَانَ عليه، أنه ضامن، فعلى هذا يسقط شرطه في الثياب. والذي في المقدمات الضمان لابن القاسم، وأنه قال في بعض روايات المدونة وهو [573/ب] أيضاً في العتبية لابن القاسم وأشهب في بعض روايات من كتاب العارية، قال: وعلى ما حكاه ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصانع يشترط الضمان عليه، أن شرطه جائز ينفعه الشرط في العارية، قال: لأنه إذا لزمه في الصانع فأحرى في المستعير؛ لأن المعير إذا أعاره على ألا ضمان فقد فعل المعروف معه من وجهين: إلا أن يكون ذلك من باب إسقاط حق قبل وجوبه، فلا يلزمه على أحد القولين، وأما إذا اشترط إثبات الضمان فيما لا يضمن من حيوان ونحوه، فقال مالك رحمه الله تعالى وجميع اصحابه: الشرط باطل مطلقاً إلا مطرفاً فإن قال: إن شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة أو نهر أو لصوص أو ما أشبه ذلك فالشرط لازم إن عطبت في الأمر الذي خافه، واشترطه الضمان من أجلِهِ، وإن هلكت بغير ذلك لم يضمن. والظاهر أن المصنف لم يرد قول مطرف؛ لأن كلامه لا يبنى على التفصيل، وظاهر كلامه أنه يضمن على أحد القولين؛ وهذا ليس بمنصوص بل خرجه اللخمي، قال: ويجري فيها قول بالضمان كما شرط؛ لأنه الواجب في أحد قولي مالك من غير شرط، فقد دخلا على التزام أحد القولين. وَإِذَا ادَّعَى كَسْرَ السَّيْفِ أَوِ الْفَاسِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَأَحْضَرَهُ لَمْ يُقْبَلْ إِلا بِبَيِّنَةٍ، وقِيلَ: يُقْبَلُ .... يحتمل أن يريد بالقول الأول مذهب المدونة ونصها: وإن استعار سيفاً ليقاتل به فانكسر لم يضمن؛ لأنه فعل به ما أذن له فيه، وهذا إذا كانت بينة أو عرف أنه كان معه في اللقاء وإلا ضمن، وفي البيان في هذه المسألة أربعة أقوال:

الأول لابن القاسم في العتبية وابن وهب أنه لا يصدق إلا ببينة. الثاني أنه يصدق إذا ائتمن ذلك بما يشبه وهو قول عيسى بن دينار ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وأصبغ واختاره؛ لأنه من محاسن الأخلاق أن يصلحه. الثالث: قوله في المدونة في السيف أنه لا يصدق إلا أن تكون له بينة أنه كان معه في اللقاء. الرابع: قول سحنون: يضمن إلا أن تكون له بينة أنه ضرب به في اللقاء ضرباً يجوز له قال: وهو أبعد الأقاويل، وأولاها بالصواب قول عيسى، والظاهر من قول المصنف أنه أراد بالقول الأول قول ابن القاسم في المدونة، وعلى هذا ففي تقديمه نظر. اللخمي: وأما الرحا تستعار ليطحن عليها فيأتي بها وقد حفيت فلا شيء عليه بالاتفاق. ولا يَتَعَدَّى الْمَاذُونَ فِيهِ؛ فَلا يَزْرَعُ مَا ضَرَرُهُ أَكْثَرُ إذا أعاره أرضاً مثلاً ليزرع فيها شيئاً، فليس للمستعير أن يزرع ما هو أضر منه، ومفهومه أنَّ له أن يزرع ما هو مساوٍ في الضرر للأول، وهو صحيح صرح بذلك صاحب الجواهر وغير واحد في المدونة. وإن استعار دابةً ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حجارة فكل ما حمل مما هو أضر مما استعاره له، فعطبت به فهو ضامن، وإن كانت مثله في الضرر لم يضمن؛ كحمله عدساً في مكان حنطة أو كتاناً أو قطناً في مكان بز، فظاهرها أنه إذا حمل عليها ما هو أضر فعطبت فهو ضامن، سواء زاد ما تعطب بمثله أم لا، لكن الشيوخ فصلوا ذلك؛ فقالوا: إن كانت تلك الزيادة لا تعطب بمثلها فعطبت فليس لربِّ الدابة إلا كراء الزيادة فقط، وإن كان ذلك الزائد مما تعطب بمثله خير ربها في أن يضمنه قيمة الدابة يوم تعديه ولا شيء له غير ذلك أو يأخذ كراء الفضل فقط.

ابن يونس: ومعرفة ذلك أن يقال: كم يساوي كراؤها فيما استعارها له؟ فإن قيل: عشرة، قيل: وكم يساوي كراؤها في ما حمل عليها؟ فإن قيل: خمسة عشر؛ خير رب الدابة بين أن يُضمنَه قيمة الدابة أو يأخذ الخمسة الزائدة فقط، وأما إن كانت تلك الزيادة لا تعطب بمثلها فليس عليه إلا الخمسة، وكذلك إن لم تعطب فليس له إلا كراء الزيادة. فَلَو أَطْلَقَ فَاسْتِعْمَالُ مِثْلِهَا يعني: فإن استعار شيئاً ولم يبين الوجه الذي استعاره من أجله، فإنه يتعين ذلك بمقتضى العادة، بل نص في المدونة على أنه يترك ظاهر اللفظ للعادة، ففيها: وإن استعار دابة ليركبها حيث شاء وهو بالفسطاط فركبها إلى الشام أو إلى إفريقية، فإن كان وجه عاريته إلى ذلك فلا شيء عليه وإلا ضمن. والذي يسأل رجلاً أن يسرج له دابة ليركبها في حاجة فيقول له: اركبها إلى حيث أحببت، فهذا يعلم الناس أنه لم يسرجها له إلى الشام، ولمراعاة العادة يحمل أيضاً عليها عند الاختلاف، ففي المدونة: ولو استعار مُهراً فحَملَ عليه بزاً لم يصدق أنه استعاره لذلك، وإن كان بعيراً صُدِّق. وَهِيَ لازِمَةٌ فَإِنْ أَجَّلَهَا بِمُدَّةٍ أَوْ عَمَلٍ لَزِمَتْ إِلَى انْقِضَائِهِ وَإِلا فَالْمُعْتَادُ فِي مِثْلِهَا، وفِي اللُّزُومِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَوْلانِ .... أي: لازمة بالقول؛ لأنها نوع من أنواع الهبة فتلزم كبقية الأنواع، والظاهر أن المراد بقوله: لازمة إذا حصل الإيجاب والقبول، لقوله بعد ذلك: وفي اللزوم قبل القبض قولان، واللزوم هو أصل المذهب كالهبة، وهو قول ابن القصار، ولعل القول الأخر مبني على الشاذ في الهبة أنها تلزم بالقول، وحكاه في الجواهر عن أشهب وزاد عنه أن له الرد بعد القبض بالقرب، وقال القاضي أبو الفرج: ما روي من وجوب العارية بالقول دون

الإقباض إنما هو في الأرضين، ويريد أبو الفرج قوله في المدونة في الأرض يعيرها للبناء أو للغرس أنه ليس له إخراجه بقرب الغرس أو البناء. وقوله: فإن أجلها بمدة: أي كشهر [574/أ] أو عمل؛ كزرع بطن لزمت إلى انقضائها (وَإِلا فَالْمُعْتَادُ فِي مِثْلِهَا) أي وإن لم يضرب أجلاً، وهكذا روى الدمياطي عن ابن القاسم أنه قال: وإن لم يضرب له أجلاً، فليس له إخراجه حتى يبلغ ما يعار إلى مثله من الأمد. ابن يونس: وهو صواب؛ لأن العرف كالشَّرط، وذكر أشهب في كتابه أنَّ للمعير إذا فرغ المستعير من بنائه وغرسه أن يخرجه فيما قرب أو بعد؛ لأنه إعارة إلى غير أجل، وقد فرض إذا لم يضرب أجلاً ويعطيه رب الأرض قيمته مقلوعاً ويأخذه أو يأمره بقلعه، وروى عنه الدمياطي أنه له إخراجه متى شاء إن كانت له حاجة إلى عرصته أو إلى بيعها سواء تقدم بينهما شرط أم لا، وإن كان لغير حاجة ولكن لشيء وقع بينهما، فليس له ذلك، وقال أصبغ: إذا لم يسكن فليس له إخراجه أيضاً. وإن أعطاه قيمته قائماً إلا برضاه وبه أخذ يحيى بن عمر. وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرسِ فَلَهُ دَفْعُ قِيمَتِهِ مَقْلُوعاً بَعْدَ مُحاَسَبَتِهِ بِأُجْرَةِ الْقَلْعِ وإِخْلاءِ الأَرْضِ، أَوْ يَامُرُهُ بِقَلْعِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ بَعْدَ نَقْضِهِ أَخَذَهُ مَجَّاناً .... يعني (إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرسِ) أي المدة المشترطة بالشرط أو بالعادة فللمعير دفع قيمة البناء والغرس مقلوعاً. وقوله: (بَعْدَ مُحاَسَبَتِهِ) هكذا نص عليه محمد وابن شعبان وغيرهما، ومعناه أن يسقط من النقض قيمة قلع البناء وتنظيف الأرض لتعود كما كانت وكذلك الشجر؛ مثاله: أن يقال: كم تساوي قيمة النقض الذي في هذا أو الشجر بعد قلعه؟ فيقال: مائة،

فيقال: وبكم يقلع هذا؟ فيقال: بعشرة، ويقال: وكم تساوي الأرض لتعود كما كانت فيقال: عشرة، فيعطيه ثمانين. قال غير واحد: إلا أن يكون المستعير ممن يتولى القلع وتنظيف الأرض بنفسه أو بعبده فلا يسقط لذلك شيء، وقيل: إن ما نص عليه محمد من إسقاط أجرة القلع خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة، فإن مذهبه فيها لا يحط ذلك، وإلى هذا ذهب ابن دحون، واعتل في ذلك بأن الغاصب لو هدمه لم يكن للمغصوب منه أن يأخذه بالقيمة بعد هدمه، وكذلك أنكر ابن سهل كلام ابن المواز، واعتقد أن قيمة البناء مقلوعاً تستلزم طرح أجرة القلع، فلا ينبغي أن تسقط مرة أخرى، وليس بالبين، فإن تقويم البناء مقلوعاً أعم من كل واحد من وجهي طرح أجرة القلع وعدم طرحه، والأعم لا يستلزم الأخص. وروى مطرف وابن الماجشون أن كل من بنى في أرض قوم أو غرس بإذنهم وأعلمهم فلم يمنعوه ولا أنكروا عليه فله قيمته قائماً؛ كالباني بشبهة، وكذلك من تكارى أرضاً أو بنى في أرض زوجته. ابن حبيب: وهو قول ابن كنانة وجميع المدنيين، وقاله ابن القاسم، وعلى هذا فالغاصب متفق عليه أنه يأخذ قيمة البناء مقلوعاً، والمستحق من يده متفق عليه أنه يأخذ قيمة البناء قائماً، ويختلف في المستعير والمكتري. قوله: (أَوْ يَامُرُهُ بِقَلْعِهِ) يعني أن رب الأرض يخير في أمرين: إما أن يعطيه القيمة كما تقدم، وإما أن يأمره بقلع بنائه؛ هذا بشرط أن يكون للبناء والغرس قيمة بعد القلع، وأما إن لم تكن له قيمة بعد القلع فلا يكون للباني فيه شيء. وَقِيلَ لِلْمُعِيرِ الإِخْرَاجُ فِي الْمُدَّةِ الْمُعْتَادَةِ إَذَا أَعْطَى مَا أنْفَقَ، وَقِيلَ: قِيمَةَ مَا أنْفَقَ يعني: أن المدة المشترطة ليس للمعير الإخراج قبل انقضائها، وأما المعتادة ففيها قولان:

الأول: وهو الذي قدمه المصنف، أنها كالمشترطة وهو قوله: (وإلا فالمعتاد في مثلها). والثاني: أن للمعير الإخراج فيها، فقوله: (وَقِيلَ: لِلْمُعِيرِ) مقابل لقوله. (وإلا فالمعتاد في مثلها). والأول لمطرف وابن الماجشون، والثاني: مذهب المدونة ففيها: ومن أذنت له أن يبني في أرضك أو يغرس، فلما فعل أردت أخراجه إلا أن تعطيه ما أنفق، فإما بقرب ذلك مما لا يشبه أن يعيره إلى مثل تلك المدة القريبة، فليس لك إخراجه، وقال في باب بعد هذا: قيمة ما أنفق وإلا تركته إلى مثل ما يرى الناس أنك أعرته إلى مثله من الأمد، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (إَذَا أَعْطَى مَا أنْفَقَ، وَقِيلَ: قِيمَةَ مَا أنْفَقَ)، وهذا الكلام من المصنف يدل على أنه حمل ما في المدونة على الخلاف، وهو تأويل غير واحد، وجمع بعضهم بينها فقال: يعطيه ما أنفق إذا اشترى المستعير ذلك للعمارة، وقيمة ما أنفق إذا كان ما أنفقه في ملكه ولم يشتر، وقيل: ما أنفق إذا كان بالقرب جداً؛ كاليوم واليومين، وقيمة ما أنفق إذا طال الأمد؛ لأنه تغير بانتفاعه، وقيل: ما أنفق إذا لم يكن فيه تغابن أو كان فيه تغابن يسير، ومرة رأى القيمة أعدل؛ إذ قد يسامح مرة فيما يشتريه ومرة يغبن فيه، قال في النكت: فهو على هذا الذي وصفنا لا يكون اختلاف قول. ابن يونس: والثالث والأول محتملان، وأما الثاني فخطأ؛ لأنه إنما يعطيه قيمة ما أنفق يوم البناء، فلا يراعي تغييراً ولم يتغير، ولو عكس هذا لكان أولى؛ لن ما تقدم وتغير القيمة فيه يوم البناء متعذرة لتغيره، ولا يقال: كيف كان حاله يوم البناء فيجب أن يعطيه ما أنفق لهذا، وما كان بالقرب ولم يتغير فالقيمة فيه مخلصة، فإذا أعطاها لم يظلم؛ لأنها متوسطة. وفي مختصر حمديس: إذا أعطاه ما أنفق، يطعيه أجرة مثله في كفايته، ليس على قيامه فقط؛ لأن رب الأرض قد يجد ما ينفق ويعجز عن القيام، ولو نشأ ذلك من عجز عن القيام أن يعير أرضاً، فإذا استوى البناء، والغرس أخرجه وقال: هذه نفقتك.

أبو الحسن: قالوا: وإذا أعطاه قيمته قائماً، فمعناه على التأبيد بخلاف أول مسألة كتاب الاستحقاق، فإن إذا أعطاه قيمته قائماً فإنه إلى تمام المدة، قالوا: والفرق بينهما أن ما في الاستحقاق أن المستحق لم [574/ب] يأذن له وإنما أذن له غيره، وهنا الإذن من رب الأرض. تنبيهان: الأول: قد تقدم في آخر الشركة أن ابن زرقون حصل في هذه المسألة ومسألة عارية الجدار لغرز الجذع ستة أقوال، فانظرها. الثاني: استقرأ ابن الهنيد من المسألة هذه من قوله: (ليس لك إخراجه في المدة القريبة) أنّ من أسلف رجلاً سلفاً ثم أراد تعجيل أخذه بالقرب فإنه ينظر إلى قدر ما ينتفع به في مثله، فإن كان قدر ما ينتفع به من المد فإنه يقضي عليه وإلا فلا، وهو منصوص أيضاً في العتبية. وإِذا تَنَازَعَا فِي الْعَارِيَةِ وَالإِجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ إِلا أَنْ يُكَذِّبَهُ الْعُرْفُ يعني: إذا ركب دابَّة رجل إلى بلد وادَّعى أنه أعارَه إيَّاها، وقال ربُّها: بل اكتريتُها منِّي، فالقولُ قولُ ربِّها. ابن راشد: مع يمينه. ابن يونس: لأنه ادعى عليه معروفاً. وقوله: (إِلا أَنْ يُكَذِّبَهُ الْعُرْفُ) قال في المدونة: بأن يكون ربها لا يكري الدواب لشرفه وقدره، وهذا هو المراد بقوله: (إِلا أَنْ يُكَذِّبَهُ الْعُرْفُ) وليس المراد مجرد قوله: ولا يكري عادة، فإن هذا مقبول القول، ذكر هذا في النوادر عن أشهب فقال: وقال أشهب: القول قول المالك وإن كان ممن لا يكري دابته ويحلف لقد أكراها ويحلف الآخر ما أكراها ويغرم قيمة الكراء؛ وهذا ما لم يكن أكثر مما ادعاه صاحبها، إلا أن يكون رجلاً شريفاً عظيم القدر يأنف مثله من كراء دوابه، فيكون القول قول المستعير مع يمينه. ابن عبد السلام: وهو معنى ما في المدونة وفي اللخمي.

وقال ابن كنانة: إن كان صاحب الدابة ممن يعرف بكراء الدواب ولذلك حبسها وهي بضاعته حلف وأخذ الكراء إذا ادعى ما يشبه أن يستأجر به، وإن كان ممن لا يعرف بكراء الدواب ولا ذلك عمله، حلف الآخر أنها عارية ولا شيء عليه، وحيث قلنا القول قول المالك في أنه لم يأذن إلا بعوض، فهل يقبل قوله في مقداره؟ قال في الجعل والإجارة، وإن ادعى رب المتاع أن الصانع عمله بإطلاق وقال الصانع: بل بأجر، صدق الصانع فيما يشبه الأجر وإلا رد إلى أجر مثله، وفي أكرية الدور: ومن أسكنته دارك ثم سألته الكراء. فادعى أنك أسكنته بغير كراء، فالقول قولك فيما يشبه من الكراء مع يمينك، وقال غيره: على الساكن الأقل من دعواك أو من كراء المثل بعد أيمانهما. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي النِّهَايَةِ؛ فَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَى الأَبْعَدِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمالكِ يعني: إذا اتفقا على العارِّة واختلفا في النهاية، فقال المعير مثلاً: أعرتكها من مصر إلى غزة، وقال المستعير: بل إلى دمشق، فإن لم يركبها المستعير إلى الأبعد أي إلى دمشق في المثال المفروض، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأن المستعير مدعى عليه الزيادة. ابن عبد السلام: وجهوا عليه اليمين في هذه المسألة والتي قبلها مع أنهما من دعوى المعروف، وفي توجيهها في هذا الأصل خلاف، ونحو هذا المثال ما إذا تنازعا في طريقين إحداهما سهلة والأخرى وعرة، وقال: أعرتني هذا الثوب شهراً، وقال: بل يوماً، وإذا حلف المعير يكون المستعير بالخيار بين أن يركبها إلى ذلك الموضع الذي حلف عليه أو يترك، إلا أن يخشى منه أن يتعدى ويمضي بها حيث شاء فلا يسلم إليه إلا أن يتوثق فيه ألا يتعدى. فإن رَكِبَ إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ، وقَالَ أَشْهَبُ فِي طَرْحِ الضَّمَانِ إِلا فِي الْكِرَاءِ، وَيَاخُذُ مَا بَيْنَهُمَا بِيَمِينِهِ ... أي: وإن ركب إلى دمشق في المثال المفروض، فقال ابن القاسم في المدونة: القول قول المستعير إن ادَّعى ما يشبه مع يمينه، واعلم أنه في المدونة لم يذكر أن ابن القاسم قال هذا،

بل قال: وجدت في مسائل عبد الرحيم عن مالك ذلك، نعم ظاهر الحال أنه قائل بذلك، وحكى في البيان عن ابن القاسم في الدمياطية أن القول قول المعير إذا اختلفا بعد الرجوع، بخلاف إذا كان معه في سفر فاختلفا في الرجوع. وخرجه اللخمي في أحد القولين في من دفع دنانير ليشتري بها طعاماً، فاشترى له بها ثمراً، وقال الآخر: قمحاً، أن القول قول الآخر ويغرمه الدنانير، بل هو هنا أولى؛ لأن المستعير قابض لحق نفسه. اللخمي: ووجهه أن المعير واهب فلا يؤخذ بغير ما أقرَّ به، وقال أشهب وسحنون وابن حبيب: القول قول المستعير في طرح الضمان، فإن هلكت فيما بين المسافتين لا يكون عليه شيء؛ لأنَّه مدَّعى عليه تعمير ذمته لا في الكراء فإن القول قول المعير في الزائد. سحنون: ويحلف المستعير ليسقط عنه الضمان، ويأخذ الكراء. وعلى القول الثاني: فإذا حلف المعير نظر، فإن كان اختلافهما في زيادة المسافة أخذ كراء تلك الزيادة، وإن كان في صعوبة أخذ كراء جميع تلك الطريق، ويكون للمستعير أن يذهب بها إلى الطريق التي أقرَّ بها، قاله اللخمي. ونوقش المصنف بأن قوله: فإن يركب إلى الأبعد يقتضي أنه لو وجده بين المسافتين أن يكون القول قول المعير، وليس كذلك فإن المذهب لا يصدق إلا فيما زاد على المسافة التي وصل المستعير إليها إلا فيما زاد على ما ادعاه المعير، وقد يقال هنا: يؤخذ حكمه مما إذا ركبها إلى الأبعد، فلذلك لم ينبه المصنف عليه، وعورض قول ابن القاسم واشهب هنا بما في الجعل، قال مالك: ومن استأجر فسطاطاً أو بساطاً أو غرائر أو آنية إلى مكة ذاهباً وراجعاً فادعى ضياع هذه الأشياء في البداية صدق في الضياع ولزمه الكراء. ابن القاسم: ويلزمه الكراء كله إلا أن يأتيَ ببيِّنة على وقت الضياع، قال: وإن كان معه قوم في سفره فشهدوا أنَّهُ أعْلَمَهُم بضياع ذلك، وطلبه بمحضرهم حَلَف وسقط عنه من

يومئذ حصة باقي [575/أ] المدة، وقال غيره: القول قوله في رفع الضّمان والكراء، والمراد بالغير سحنون وعلى هذا كل من ابن القاسم وسحنون خالف اصله وفرق لابن القاسم بأن مسَّألة الجعل ذمته عمرت بعقد الكراء وهو مدع إسقاطه، وهنا لم تعمر ذمته بشيء، ورأى سحنون هنا أن المستعير مدع لمعروف زائد على ما أقرَّ بِه الواهب ولا يلزمه من المعروف إلا ما أقرَّ به. وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا - بِرَسُولٍ مُوَافِقٍ لِلْمُسْتَعِيرِ أَوْ مُخَالِفٍ - كَذَلِكَ يعني: وهذه المسألة بعينها إذا أرسل المستعير رسولاً فأعاره إلى مسافة ثم اختلف المعير والمستعير فالحكم للأول سواء صدق الرسول المستعير أو كذبه أو كذبهما معاً؛ لأنه إنما شهد على فعل نفسه، واعلم أن ما ذكر من تساوي الحكم فهو بالنسبة إلى أشهب صحيح، وأما عند ابن القاسم ففي المدونة: من بعث رسولاً إلى رجل ليعيره دابة إلى برقة، وقال الرسول: إلى فلسطين، فعطبت عند المستعير، واعترف الرسول بالكذب ضمنها، وإن قال: بذلك أمرني، وأكذبه المستعيرن فلا يكون الرسول شاهداً؛ لأنه خصم، وتمت المسألة هنا في أكثر الروايات، وعليها اقتصر البرادعي، وزاد ابن أبي زيد في مختصره: والمستعير ضامن إلا أن تكون له بينة على ما زعم. وصحت هذه الزيادة في رواية يحيى بن عمر وعلى هذه الزيادة فليس الحكم مستوياً، ورأى بعضهم أنه يتخرج من هذه الضمان في مسألة عبد الرحيم، وقال جماعة: بل المسألتان مفترقتان، وإنما ضمن المستعير في هذه؛ إذ لا يقطع بكذب المعير إذ لا حقيقة عنده مما قاله الرسول، وفي مسألة عبد الرحيم: هو مكذِّبٌ للمُعِيرِ ذَكَرهُ عياض. وَإِذَا تَنَازَعَا فِي رَدِّهَا فَالقَوْلُ قَوْلُ الْمُعِيرِ فِي مَا لا يُصَدَّقُ الْمُسْتَعِيرُ فِي تَلَفِهِ أي: فيما يغاب عليه؛ لأن المستعير مقر بالأخذ مدع للدفع، قال في الموازية: وسواء قبضها ببينة أو بغير بينة، لا يقبل قوله في ذلك، وفهم من كلامه أن المستعير يصدق فيما لا

يغاب عليه، وكذلك قال محمد: كل من يقبل قوله في التلف، يقبل قوله في الرد، يعني لو كان كاذباً في الرد لأمكنه أن يفيء إلى دعوى الضياع، وقد علمت أن هذه القرينة ضعيفة في الوديعة، ألا ترى أنه لا يقبل قول المودَع في الرد مع أنه يقبل في الضياع. * * *

الغصب

الْغَصْبُ أَخْذُ الْمَالِ عُدْوَاناً مِنْ غَيْرِ حِرَابَةٍ الغصب لغة: أخذ كل متملك ظلماً من غير رضا صاحبه، فيتناول: السرقة، والاختلاس، والخيانة، والحرابة، والتعدي، ورسمه المصنف اصطلاحاً بقوله: (أَخْذُ الْمَالِ ... إلى آخره): فأخذ المال جنس، وأخرج بالقهر ما أخذ من ربه اختياراً واستسراراً، كالسرقة والخيانة والاختلاس؛ لأن القهر يستدعي أن يؤخذ ذلك بعلم صاحبه، لا يقال: المختلس منه يعلم بأخذ المال، فيدخل في كلام المصنف، ويصير الحد غير مانع؛ لأنا نقول: المختلس منه إنما يعلم بأخذ المال بعد الأخذ فلا ينطبق عليه القهر، فإن القهر يستدعي علم المأخوذ منه بما قهر، وأخرج بالعدوان ما أخذ قهراً لا عدواناً، كأخذ الإمام الزكاة من الممتنع، وكأخذ المغصوب منه المال من الغاصب، ولما كانت هذه القيود تتناول الحرابة قال المصنف: من غير حرابة ليخرجها، ولا خرف في تحريم الغصب والإجماع عليه. وَيُؤْخَذُ بِحَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ ويُؤَدَّبُ، وكَذَلِكَ ثَمَنُ مَا أَفْسَدَهُ أَوْ كَسَرَهُ بِخِلافِ ثَمَنِ مَا يَبِيعُهُ .... يعني أن الغصب يتصور من غير البالغ كالبالغ، ويؤخذ بحق المغصوب منه من ماله ولا خلاف في ذلك؛ لأن إتلاف المال من باب خطاب الوضع لا يشترط فيه التكليف. وقوله: (ويُؤَدَّبُ) فهم منه أن البالغ يؤدب من باب أولى، ولا خلاف في تأديب البالغ. قال في المقدمات: ولا يُسقط ذلك عفوُ المغصوب منه وأما غير البالغ فقال ابن عبد السلام: ما ذكره المصنف هو ظاهر المذهب والمنصوص للمتقدمين. وفي المقدمات: لا يؤدب من لم يبلغ الحلم لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، وقيل يؤدب كما في المكاتب.

وقوله: (وكَذَلِكَ ثَمَنُ مَا أَفْسَدَهُ) ابن عبد السلام: هذه المسألة عند أهل المذهب من باب التعدي لا من باب الغصب، فإن المذهب التفريق بين حكمهما في الجملة وإن استويا في هذا الموضع، ومراد المصنف بثمن ما أفسده المميز أو كسره هو مطلق العوض من مثل أو قيمة، وذكر لفظ (ثَمَن) لتتم له المخالفة في ثمن ما يبيعه لفظاً كما ثبتت له معنى، وذلك أنه إذا باع الصبي شيئاً من ماله وقبض ثمنه وأتلف ذلك الثمن فلا يلزمه بيع، ويقضى على المشتري برد المبيع ولا يلزم الصبي شيء من الثمن؛ لأنه خرج من يد ربه طوعاً بخلاف ما أفسد الصبي أو كسره، فإن ذلك من غير تسليط من ربه، نعم إن صُونَ بذلك شيئاً من ماله لزمه الأقل مما صونه أو الثمن والمقابلة التي ذكرها المؤلف بين ما أفسده أو كسره ليست بحقيقة؛ لأن الإفساد أعم من التكسير. وَفِيهَا: فِي مَنْ بَعَثَ يَتِيماً لآبِقٍ فَأَخَذَهُ فَبَاعَهُ وأَتْلَفَ الثَّمَنَ يُرَدُّ الْعَبْدُ ولا عُهْدَةَ عَلَى الْيَتِيمِ وَلا ثَمَنَ .... ابن راشد: ذكر هذا استشهاداً لما ذكره، ويحتمل أن يكون هذا استشكالاً لعدم إمضاء البيع، وهو إنما وضع يده عليه بإذن ربه. وجعل ابن عبد السلام هذا أقرب من الأول، وفيه نظر، بل الأول أولى؛ لأن هذا سؤال ضعيف، فإن غايته أن يكون وكيلاً على حفظه ولا يلزم بيع الموكل على الحفظ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَقِيلَ: الْمَالُ فِي مَالِهِ، والدَّمُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وقِيلَ: الْمَالُ هَدَرٌ كَالْمَجْنُونِ، وقِيلَ: كِلاهُمَا .... هذا مقابل قوله: المميز، والأقوال الثلاثة حكاها في الجواهر كالمصنف. وقوله: (والدَّمُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) أي إذا كانت الدية الثلث فصاعداً، (وقِيلَ: الْمَالُ هَدَرٌ كَالْمَجْنُونِ) أي والدم على العاقلة كما تقدم، ويؤخذ من هذا أن ما أتلف المجنون هدر.

(وقِيلَ: كِلاهُمَا) أي هدر كالبهيمة والقول الأول أظهر؛ لأن الضمان من باب الوضع الذي لا يشترط فيه التكليف. محمد: وإن كان صغيراً يحبو فلا شيء عليه من عقل، وهو كالبهيمة، وقال ابن القاسم: إن أفسد شيئاً فإن كان ابن ستة أشهر ونحوها لا ينزجر فلا شيء عليه، وإن كان مثل ابن سنة فصاعداً فذلك عليه. قال في العتبية: ما أصاب [575/ب] المجنون الذي لا يعقل والصبي الصغير ابن سنة ونصف ونحو ذلك من فساد أموال الناس فهو هدر. ابن عبد السلام: وجعل المصنف مورد الخلاف في هذه المسألة عدم التمييز، وهو حسن في الفقه غير أن الروايات لا تساعده وإنما تعرَّضُوا للتحديد في هذه المسألة بالسِّن فقيل: ابن سنتين، وقيل: ابن سنة ونصف، وقيل: غير ذلك. وَيَكُونُ التَّفْوِيتُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ أي: ويكون الضمان ودل عليه السياق. (بِالْمُبَاشَرَةِ) الباء للسببية (أَوْ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ) يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله: (التَّفْوِيتُ) ويكون للضمان سببان ويحتمل أن يكون معطوفاً على المباشرة، أي يكون الضمان بسبب التفويت، وسبب التفويت إما المباشرة وهو سبب محسوس، وإما إثبات اليد العادية فعلى هذا يكون الضمان بسبب واحد. فَالْمُبِاشِرَةُ كَالأَكَلِ، والْقَتْلِ، وَالإِحْرَاقِ ابن راشد: وهو مجمع عليه أي بقتل الحيوان أو أكل الشيء المغصوب أو إتلافه بإحراق أو بغيره.

وَإِثْبَاتِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ فِي الْمَنْقُولِ بِالنَّقْلِ، وفِي الْعَقَارِ بِالاسْتيِلاءِ وإِنْ لَمْ يَسْكُنْ (فِي الْمَنْقُولِ) أي في الحيوان والعروض (بِالنَّقْلِ)، يعني فلو هلك بعد ذلك بسماوي ضمنه. (وفِي الْعَقَارِ بِالاسْتيِلاءِ وإِنْ لَمْ يَسْكُنْ) ظاهر والاتفاق عليه، ونبه على خلاف أبي حنيفة رحمه الله ورضي عنه فإنه يرى أنَّ مجرد وضع اليد ليس موجباً للتضمين بل حتى ينضم إليه النقل. فَلَوْ غَصَبَ السُّكْنَى فَانْهَدَمَتِ الدَّارُ لَمْ يَضْمَنْ إِلا قِيمَةَ السُّكْنَى هذا يخصه أصحابنا بالتعدي، فإن الغصب عندهم: هو غصب الذوات، والتعدي: هو غصب المنفعة أو إتلاف بعض السلعة، ولا فرق في التعدي بين أن يتقدم له إذن كالمستعير والمقارض والمستأجر أو لا يتقدم، وسيأتي حكم التعدي إن شاء الله تعالى. و (لَمْ يَضْمَنْ إِلا قِيمَةَ السُّكْنَى) لأنها هي التي تعدى عليها، وهذا أحسن لو طردوه، ولكنهم قالوا في التعدي بالدابة المكان المشترط من مستعير ومستأجر: إنه يضمن الرقبة إن هلكت وكل منهما لم يقصد ملك الرقبة، فإن قيل: المتعدي على الدابة ناقل لها بخلاف المتعدي على الدار فجوابه أنهم لم يعتبروا النقل في باب الغصب فينبغي في التعدي مثله. وَيَكْفِي الرُّكُوبُ فِي الدَّابَّةِ والْجَحْدُ فِي الْوَدِيعَةِ أي: يكفي في وجوب الضمان في التعدي ركوب الدابة، وقد تقدم أن مجرد وضع اليد موجب للضمان فكيف بالركوب، وقد تقدم الكلام على جحد الوديعة في محلها.

وَالتَّسَبُّبُ بِالْفِعْلِ الْمُهَيِّئِ لِسَبَبٍ آخَرَ مِثْلهُمَا أي: مثل المباشرة وإثبات اليد العادية، وحاصله أن سبب السبب كالسبب، ولذلك قال: فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى إِتْلافِ الْمَالِ، وعَلَى مَنْ حَفَرَ بِئْراً عُدْوَاناً فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ .... ابن راشد: سحنون في عامل أكره رجلاً على أن يدخل بيت رجل ليخرج منه متاعاً ليدفعه إليه، فأخرج له ما أمر به ودفعه إليه ثم عزل العامل، وقام رب المتاع، فله إن يأخذ بذلك من شاء منهما، فإن أخذه من المأمور رجع به المأمور على العامل، قال: وإن عزل الأمير وغاب رب المتاع، فقام المأمور وقال: أنا آخذ بالمتاع، فأغرمه لي أيها الأمير، فإنه تعدى عليه. ابن رشد: وفي قوله (تعدى عليه) نظر، والذي يوجبه النظر أن يقضي له بتغريمه، ولا يمكن منه ويوقف لصاحبه. وفي المبسوط عن عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ أنه لا شيء على المأمور المكره على ذلك، ونحوه لابن سحنون قال: وإن أكره بقتل أو قطع فهو في سعة أن يأخذ ويضمن الأمير دون المأمور، وإن أبى أن يأخذ حتى قتله فهو في سعة. وقال سحنون: إذا أكره رجل آخرَ على أن يأخذ مالاً لرجل آخر، فيرمي به في مهلكة بوعيد بقتل أو سجن أو قيد، وأذن له في ذلك ربُّه من غير إكراه فلا شيء عليه، ولا على الذي أكرهه، وإن كان ربُّه مكرهاً على الإذن في ذلك فالمكْرَه الفاعل ضامنٌ وإن كان عديماً فالضمان على الذي أكرهه ثم لا رجوع له على الفاعل إذا أيسر. ابن عبد السلام: وظاهره أن المغصوب منه يطلب المكره أولاً، فإذا غرم لم يرجع به على المكره المباشر.

وقوله: (وعَلَى مَنْ حَفَرَ بِئْراً عُدْوَاناً) تقدم، والعدوان أن يحفر في ملك غيره أو في ملكه قصداً للإهلاك، واحترز به مما لو حفرها في ملكه لمصلحة. فَإِنْ رَدَّاهُ غَيْرُهُ فَعَلَى الْمُرْدِي تَقْدِيماً لِلْمُبَاشَرَةِ أي: فإن (رَدَّاهُ) غير الحافر (فَعَلَى الْمُرْدِي) لأنه المباشر فكان أقوى من التسبب، وليس سبباً قوياً كالإكراه حتى يضمنا معاً كما تقدم، ولهذا لو قوي السبب كانا متعادلين؛ كما لو حفرها لإهلاك شخص بعينه، ورداه غيره، فإن كان إنساناً وجب القصاص عليهما وإن كان غيره ضمناه معاً قاله ابن رشد وابن عبد السلام. وَلَوْ فَتَحَ قَفَصَ طَائِرٍ فَطَارَ أَوْ حَبْلَ دَابَّةٍ فَهَرَبَتْ، أَوْ قَيْدَ عَبْدٍ فَأَبِقَ ضَمِنَ زاد في الجواهر: وسواء كان الطيران والهروب عقيب الفتح أو الحلِّ أو بعد مهلة، وكذلك السارق يترك الباب مفتوحاً وما في الدار من أحد، فيذهب منها شيء وشرط في المدونة في مسألة العبد أن يكون قيد خوف إباقه، وهو شرط ظاهر، ولو قيد لقصْدِ النَّكال بالعبد لم يجب على حلِّه منه ضمان وإنما ضمن في هذه المسائل؛ لأن فعله سبب للإتلاف. وَمَنْ فَتَحَ بَاباً عَلَى دَوَابَّ فَذَهَبَتْ ضَمِنَ، وقِيلَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَهْلُهَا الأول: مذهب أشهب، وشرط أن تكون الدواب مسرحة غير مربوطة واختاره جماعة. والثاني: لابن القاسم في المدونة وشبهها بمسألة السارق يدع الباب مفتوحاً وأهل الدار فيها نيام أو غير نيام، فيذهب من الدار بعد ذلك شيء، أنه لا ضمان على السارق، وأما إن لم يكونوا فيها فإنه يضمن. خليل: ويفرق لأشهب بأنا لو لم نضمنه في [576/أ] مسألة الدواب لزم ذهاب الدواب بغير غرم لأحد، بخلاف مسألة السارق فإنا إذا لم نغرم السارق الأول غرمنا السارق الثاني، وتغريمه أولى لمباشرته، والله أعلم.

وَمَنْ أَتْلَفَ مَغْصُوباً ضَمِنَ وإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، ولَوْ قَدَّمَهُ الْغَاصِبُ لِضَيْفٍ فَأَكَلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ ضَمِنَ ولِصَاحِبِهِ بَرِئَ، ولو أَكرَهَ صَاحِبَه فأكَلَهُ بَرِئَ تقدم أن الضمان من باب الوضع، فلذلك يضمن من أتلف المغصوب، وإن لم يعلم، ولو كان مغروراً كما لو قدم الغاصب الطعام فأكله ظناً منه أنه ملك المقدم، ولا يريد المصنف أنه لا يضمنه إلا الضيف، بل هي مسألة هبة الغاصب يهب الشيء المغصوب وسيأتي قوله: (ولِصَاحِبِهِ بَرِئَ) أي وإن قدمه لصاحبه برئ، وكذلك (ولو أَكرَهَ صَاحِبَه) على أكله؛ لأن ربه هو المباشر لإتلاقه، وينبغي أن يقيد هذا لما إذا كان المغصوب منه قد هيأ الطعام للأكل، وأما إن هيأه للبيع فينبغي أن يضمنه الغاصب؛ إذ هو غير معذور، فإن انتفع بذلك سقط عنه مقدار أكله؛ كما لو كان الطعام يساوي عشرة دراهم، ومن عادته أن يكتفي بنصف درهم فيغرمه تسعة ونصفاً. ابن عبد السلام: وقد قدمنا عن سحنون ما ظاهره في مسألة الإكراه أن المغصوب منه يطلب المكرَه أولاً، فإذا غرم لم يرجع على المكرِه المباشر، وعلى هذا التقدير لا يبعد أن يقوم رب الطعام على الغاصب الذي أكرهه على الأكل؛ لأن المتسبب في مسألة الإكراه مقدم في الضمان على المباشر. فقوله: (مَغْصُوباً) من الغصب - كما ذكرنا - لا كما قاله ابن راشد (معصوماً) من العصمة فإن هذا لا إشكال فيه ولا يساعده السياق. ابن راشد - بناءً على نسخته -: واحترز بالمعصوم من الخمر للمسلم، ويضمنها للذميِّ خلافاً لابن الماجشون، ولا يضمن ما نقص من آلة اللهو بكسرها، ويضمن جلد الميتة بعد الدباع، واختُلِفَ في ضمانه قبله، فقال ابن القاسم وأشهب: يضمن، وروى أبو الفرج: لا يضمن، وقال أبو إسحاق: لا يضمن إلا أن يكون لمجوسي قاله ابن القاسم.

فروع: الأول قاله مالك في الواضحة من غصب حراً فباعه فإنه يكلّف طلبه، فإن يئس منه؛ قال: أدى ديته إلى أهله. قال في البيان: ونزلت في طليطلة فكتب القاضي بها إلى محمد بن بشير قاضي قرطبة، فجمع ابن بشير أهل العلم فأفتوا بذلك، فكتب أن يغرمه ديته. الثاني: إذا جلس رجل على ثوب آخر في الصلاة، فقام صاحب الثوب، فانقطع الثوب، فقال مطرف وابن الماجشون: لا ضمان على الجالس، وهذا مما لا بدّ للناس منه في صلاتهم ومجالسهم، وقاله أصبغ قال: لأن الجالس لم يحصل منه غير السبب، والقطع إنما حصل بمباشرة صاحب الثوب. الثالث: قال الشيخ أبو محمد: وإن أخبر لصوصاً بمطمر أو أخبر به غاصباً ولولا دلالته ما عرف، ضمنه بعض متأخري أصحابنا ولم يضمنه بعضهم، وكذلك يضمن إذا أقر بالرق لغيره، وباعه وهو ساكت؛ لأنه أتلف الثمن على المشتري بسكوته، إلا أن يكون صغيراً أو نحوه، ويتخرج منه قول آخر بعدم الضمان مما إذا اعتدى على رجل وقدمه للسلطان، والمتعدي يعلم أنه إذا قدمه إليه تجاوز في ظلمه وأغرمه ما لا يجب عليه. ابن يونس: وقد اختلف في تضمينه فقال كثير عليه الأدب وقد أثم ولا غرم عليه، وكان بعض شيوخنا يفتي إذا كان الشاكي ظالماً في شكواه غرم، وإن كان مظلوماً ولم يقدر أن ينتصف منه إلا بالسلطان فشكاه فأغرمه وتعدى عليه، لم يغرم؛ لأن الناس إنما يلجأون في المظلمة إلى السلطان، وعلى السلطان متى قدر عليه رد ما أخذ ظلماً من المشكو، وكذلك ما أغرمه الرسول هو مثل ما أغرمه السلطان، يفرق فيه بين ظلم الشاكي وغيره، وكان بعض أصحابنا يفتي بأنه ينظر للقدر الذي فيه يستأجر به الشاكي في إحضار المشكو،

فيكون عليه على كل حال، وما زاد على ذلك مما أغرمه الرسول فيفرق فيه بين الظالم والمظلوم حسبما تقدم. وَيَكُونُ لِعَيْنٍ ومَنْفَعَةٍ، فَالْعَيْنُ مِثْلِيٌّ ومُقَوَّمٌ - فَذَوَاتُ الأَمْثَالِ مِنَ الْمَكِيلِ والْمَوْزُونِ والْمَعْدُودِ، وجَمِيعُ الأَطْعِمَةِ تُضْمَنُ إِذَا تَلِفَتْ بِمِثْلِهَا أي: ويكون الغصب، وتصور كلامه ظاهر. وقوله: (وجَمِيعُ الأَطْعِمَةِ) من عطف الخاص على العام، وهو إذا لم يكن مكيلاً ولا موزونا ولا معدوداً فهو جزاف داخل في المقوَّمَات. وقوله: (إِذَا تَلِفَتْ) ليس التلف شرطاً في الضمان ويكفي فيه بعض أنواع التغيير كما سيأتي. فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْلُ صَبَرَ حَتَّى يُوجَدَ؛ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، ولَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ الآنَ؛ عِنْدَ أَشْهَبَ يعني: فإن كان المغصوب من ذوات الأمثال وتعذر الآن المثل كالأشياء التي لها إبان، أو غصب منه عسلاً ببلد ليس فيه عسل، فلا شك أن له الصبر إلى وجود المثل، وهل له الآن طلب القيمة؟ قال ابن القاسم في المدونة: ليس له ذلك، وقال أشهب: له ذلك، والخلاف هنا كالخلاف في السَّلْمِ في الفاكهة بعد خروج إبانها؛ فإن ابن القاسم أيضاً قال: يصبر إلى إبانه، وقال أشهب: يؤخذ بالقيمة وليس له التأخير ويأخذه بالمثل؛ لأن ذلك فسخ دين في دين، وأشار ابن عبدوس إلى تناقض قول أشهب لكونه أجاز له في الغصب التأخير، قال: وإنما ينظر فإن كان الموضع يوجد في مثل الطعام على يوم أو يومين أو ثلاثة، والأمر القريب فليس له إلا مثل الطعام حتى يأتيه به، وإن كان بعيداً مما على الطالب في تأخيره

ضرر أو كان استهلك في لجج البحر وفي فياف بعيدة من العمران، فهذا يغرم قيمته حيث استهلكه ويأخذه به حيث لقيه، وقد يجاب لأشهب بأن التهمة على فسخ الدين في الدين تقوى في البيع؛ لأنه [576/ب] واقع اختياراً بخلاف الغصب، فلذلك ضعفت فيه التهمة. فَإِنْ وَجَدَهُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وهُوَ مَعَهُ بِعَيْنِهِ؛ فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: لَمْ يَلْزَمْهُ إِلا مِثْلُهُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، وقَالَ أَشْهَبُ: لَهُ أَخْذُهُ أَوْ أَخْذُ مِثْلِهِ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، قَالَ سَحْنُونٌ: مَا أَعْرِفُ هَذَا، وقَالَ أَصْبَغُ: فِي الْبَعِيدِ كَابْنِ الْقَاسِمِ، وفِي الْقَرِيبِ كَأَشْهَبَ. وَلا خِلافَ أَنَّ الْغَاصِبَ يُمْنَعُ مِنْهُ حَتَّى يُوثَقَ مِنْهُ .... تصور المسألة والأقوال من كلامه ظاهر، فرأى ابن القاسم في المدونة أن النقل فوت لأن الغاصب غرم على حمله مالاً، وقاعدة أشهب في هذا الباب أن يحمل على الغاصب لظلمه، وتفرقة أصبغ استحسان. وعلى قول ابن القاسم: إنه ليس عليه إلا مثله لمكان الغاصب، فلو اتفق على أن يأخذه بعينه أو مثله بموضع نقله فيه أو يأخذ فيه ثمناً جاز بمنزلة القرض قبل قبضه وقال أصبغ: قيل: ويسقط التعجيل لئلا يدخله فسخ الدين في الدين، وحكى عن مالك منع أخذ الطعام مخالفاً للطعام المنقول، وكذلك قال العراقيون: إن حكم طعام الاستهلاك حكم طعام البيع. وقوله: (وهُوَ مَعَهُ بِعَيْنِهِ) احترز لو لم يكن معه فإنه ليس له إلا مثله ببلد الغصب عند ابن القاسم، وقال أشهب: له أن يغرمه مثله بالبلد الذي لقيه فيه إن كان سعر البلدين سواء أو كان سعر البلد الذي لقيه فيه أرخص، وخرج اللخمي على قوله فيما إذا عدم الإبان فيما له إبان أن يكون له هنا أخذ القيمة إذا بعد ما بين البلدين. وقوله: (وَلا خِلافَ أَنَّ الْغَاصِبَ يُمْنَعُ مِنْهُ) أي من الطعام وشبهه من المثليات حتى يتوثق منه، أي برهن ثقة أو بضمان.

فرع: ولو أراد المغصوب منه تكليف الغاصب برد شيئه إلى مكان الغصب فليس له ذلك على المشهور خلافاً للمغيرة، فإنه قال: إذا غصب خشبة من عدن وأوصلها إلى جدة بمائة دينار أن لربها أن يكلفه ردها إلى مكان الغصب، وله أن يأخذها بعينها، قال: وإن نقلها بوجه شبهة، وقيمتُها حيث وصلتْ أكثر من قيمتها في المكان الذي منه نُقلت فأراد ربها أخذها، كلف أن يدفع لحاملها الأقل من كرائها أو ما زاد في قيمتها. وذكر ابن حبيب في من استؤجر على حمل ينقله إلى بلد فنقل غيره خطأً أنَّ لصاحبه تضمين الناقل أو أخذ ما نقله بعد أن يؤدي الكراء عند ابن القاسم، ولا يلزمه عند أشهب ولا يلزم الحمَّال إعادته إلى موضعه، وليس للحمال قول إن قال: أنا أرده إلى مكانه وعلى الحمال أن يرجع فيحمل ما استؤجر عليه. اللخمي: قال أصبغ في الواضحة في هذا: إن صاحب الأحمال مخير بين أن يلزمه ردها أو يأخذها ولا كراء له، إلا أن يعلم أن صاحبها كان راغباً في وصولها فيكون عليه كراء المثل. فَإِنْ أَتْلَفَ حُلِيّاً فَقِيمَتُهُ، وقِيلَ: مِثْلُهُ يعني: أن في المثلي إذا دخلته صنعة فذهب ابن القاسم أنه يصير من المقومات، ورأى غيره وهو في المدونة أيضاً أنه لا يتغير، ونحو هذه المسألة الغزل إذا استهلك وسأتي. وَلَوْ كَسَرَهُ أَخَذَهُ وقِيمَةَ الصِّيَاغَةَ أي: لو كسر الحلي أخذه وقيمة الصياغة؛ لأنها كسلعة مضافة إلى عين الذهب أو الفضة، هذا مذهب ابن القاسم في باب الغصب وفي الرَّهن، وكان ابن القاسم يقول: إذا كسر الخلخالين فإنما عليه ما نقصت الصياغة ثم رجع إلى أنه يغرم قيمتها ويكونان له.

أبو عمران: وقوله: (ما نقصت الصياغة) (وقِيمَةَ الصِّيَاغَةَ) سواء، إنما يعني بذلك ما بين قيمتهما صحيحين ومكسورين. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد بقوله: ما نقصه فساد الصياغة من قيمة الجميع مصوغاً، وهو ظاهر كلامه، فيكون في المسألة ثلاثة اقوال، ولأشهب في الموازية: عليه أن يصوغَها له وهو أحب إلي من قيمتها أو مما تنقص وقد قال مالك فيها: وفي الجدار يهدمه: فإن لم يقدر أن يصوغها فعليه ما نقصها، وانظر هل يأتي القول الذي في الرهن بغرم ما نقص في الغصب أو لا؟ وقد قال أبو الحسن لما تكلم على مسألة الرهن: أنزله فيما نقص منزلة المكتري أو المودع إذا تعدى؛ لأنه مأذون لهما في الحوز فلا يغرم إلا ما أتلف، وأنزله في القول الآخر منزلة الغاصب؛ لأنه ضامن لهما لو هلكا. لَوْ أَعَادَهُ عَلَى حَالِهِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ غُرْمٍ، وقِيلَ: فَثَمَنُهُ وعَلَى غَيْرِهَا فَقِيمَتُهُ يعني: فإن أعاد المصوغ بعد كسره مصوغا فإما على حالته الأولى أوغيرها، فإن كان على حالته الأولى فذكر ابن راشد قولين: والأول: لابن القاسم وأشهب، والثاني لمحمد، واختار اللخميُّ ألا شيء عليه، والثاني هو الجاري على مذهب من يرى أنه يلزمه في الصياغة قيمتها، وإن أعاده على غير هيئته فعليه القيمة على قول أشهب أنه تلزمه إعادة المصوغ كما كان يلزمه ذلك هنا، والله أعلم. فَلَوِ اشْتَرَاهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِغَصْبِهِ فَكَسَرَهُ، ورَدَّهُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَاخُذْهُ إِلا بِقِيمَةِ صِيَاغَتِهِ لأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ .... يعني: أن المشتري من الغاصب إن كان عالماً بالغصب فهو كالْغَاصب، وإن لم يعلم فحكمه كالاستحقاق، ولا يأخذه ربه إلا بقيمة صياغته؛ لأنه لم يتعد في الكسر هكذا قال اللخمي وغيره.

ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف في هذا الفرع هو منصوص عليه في الفرع بعينه وفي الدار يهدمها المشتري بخلاف الشاة يذبحها والثوب يقطعه والعصا يكسرها وشبه ذلك وهو مشكل وأصل المذهب أن كل ما أتلفه المشتري متعمداً فإنه يضمنه سواء انتفع أو لم ينتفع، وما أتلف بأمر من الله فلا شيء عليه فيه، وما أتلفه خطأ فقولان: أشهرهما أنه يضمن، فقول: [577/أ] المصنف في توجيهه هذا الفرع: لأنه لم يتعد لا يكفي، والله أعلم. وَلَوْ طَحَنَ الْقَمْحَ فَمِثْلَهُ، وقَالَ أَشْهَبُ: ولَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ غُرْمٍ الأول: مذهب ابن القاسم في المدونة وغيره، ورأى غيره أن الطحن فوت كالنقل، وخيره أشهب بين المثل وأخذه محطوناً مجاناً، حملاً على الغاصب على قاعدته، هكذا حكى ابن يونس وغيره قول أشهب. وفهم التخيير من كلام المصنف من قوله: (ولَهُ أَخْذُهُ) فإنه في تقدير فله المثل وله أخذه بغير عوض والقولان لمالك، واختار جماعة قول أشهب؛ لأن الظالم أحقُّ أن يحمل عليه ولهذا لم يجزه ابن القاسم بوجوب المثل بل قال في باب الغصب: ومن غصَبَ حِنْطَةً وطحنها دقيقاً فأحب ما فيه إلي أن يضمن مثل الحنطة. وَلَو اسْتَهْلَكَ غَزْلاً فَقِيمَتُهُ، وقِيلَ: مِثْلُهُ هو ظاهر وهو مبني على ما تقدم. فرع: ولو استهلك طعاماً ما في زمن الغلاء ثم حكم عليه في الرخاء، فالمشهور أنه إنما يقضي بالمثل وقيل: بقيمته يوم الغلاء. وأشار اللخمي إلى أن القول بتغريمه القيمة مخرج على القول بأن الغاصب يغرم أغلى القيم.

وَالْمُقَوَّمُ كَالْحَيَوَانِ والرَّقِيقِ والْعُرُوضِ تَتْلَفُ بِآفَةٍ سَمَاويَّةٍ تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ الْغَصْبِ، وقَالَ أَشْهَبُ: بِالأَكْثَرِ مِنَ الْغَصْبِ إِلى يَوْمِ التَّلَفِ ... لما ذكر أن المغصوب مثلي ومقوم، وتكلم على المغصوب المثلي، تكلم هنا على المقوم وذكر أنه يضمن بقيمته وهو المذهب، ونقل الباجي أنه روي عن مالك أنه يضمن بالمثلي، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. المازري: وهكذا وجد في نسخ من المنتقى، وهو وهم منه ومن الرواة الذين ذكروا ذلك عنه. وقوله: (تَتْلَفُ بِآفَةٍ سَمَاويَّةٍ) احتُرز به من التلف بجناية الغاصب أو غيره وسيأتي. والمشهور كما قدمه أن القيمة تعتبر يوم الغصب، وقال أشهب وابن وهب وعبد الملك: يضمن بالأكثر من يوم الغصب إلى يوم التلف؛ لأنه في كل زمان غاصب، ويدخل في المقوَّم المثلي الجزاف. واختلف إذا طلب المغصوب منه في الجزاف أن يقضي له بمكيلة أو وزن يتحقق أن الجزاف المستهلك لا يقصر عنها - على قولين: أحدهما تمكينه من ذلك؛ لأن الأصل القضاء فيه بالمثل، وإنما عدل عن ذلك للقيمة لامتناع الاطلاع على حقيقة المماثلة في المكيل والموزون، فإذا طلب ما هو أقل من حقه لم يمنع من ذلك. والقول الثاني أنه لا يمكن من ذلك؛ لأن نفس الاستهلاك أوجب القيمة، فليس للمغصوب منه تغيير هذا الحكم. فَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ خُيِّرَ بَيْنَ الْقِيمَةِ مِنَ الْجَانِي يَومَ الْجِنَايَةِ وَبَيْنَ مَا عَلَى الْغَاصِبِ يعني: وإن أتلف أجنبي المغصوب - يريد غير الغاصب - يوم الجناية، فربه مخير إن شاء أخذ القيمة من الجاني يوم الجناية، وإن شاء أخذ ما على الغاصب، وأبهم المصنف في قوله: (وَبَيْنَ مَا عَلَى الْغَاصِبِ) قدر الإدخال على المشهور ومقابله: وإنما خير؛ لأن كل واحد منهما حصل منه سبب الضمان هذا بالغصب وهذا بالتلف.

بِخِلافِ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: بخلاف ما إذا كان القتل من الغاصب، فإن المشهور أنه لا تخيير لربه، وإنما يأخذه بالقيمة يوم الغصب وهو قول ابن القاسم وأشهب، وقال سحنون وابن القاسم في أحد القولين: وله أخذه بالقيمة يوم القتل كالأجنبي؛ لأن القتل فعل ثان ومن حجة ربه أن يقول: لا أؤاخذه بوضع اليد وإنما أؤاخذه بالقتل. ابن راشد: وهو أقيس. ابن عبد السلام: وهو ظاهر إلا أن ابن القاسم لم يعتبر تعدد الأسباب في الضمان إذا كانت من فاعل واحد بل اقتصر على الأول منهما، وحكى ابن يونس أن سحنون رجع إلى قول ابن القاسم. تنبيه: ما ذكر المصنف من مخالفة إتلاف الغاصب لإتلاف الأجنبي على المشهور هو الصواب، وقد ذكر في المدونة وغيرها، وظاهر كلامه في الجواهر أنه لا فرق على المشهور بين جناية الغاصب وغيره. ثُمَّ يَتْبَعُ الْغَاصِبُ الْجَانِيَ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ يعني: إذا اختار المغصوب منه اتباع الغاصب، وترك طلب الجاني فللغاصب إذا أخذت القيمة منه اتباع الجاني بجميع قيمة السلعة يوم الجناية؛ لأن أخذ ربها قيمتها من الغاصب تمليك للغاصب لها. وقوله: (بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ) أي إذا كانت مساوية لما أخذ منه أو كانت أقل مما أخذ منه، أما إن كانت القيمة يوم الجناية أكثر فقد نبه عليه بقوله: فَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ رَبُّهُ أَقَلَّ مِمَّا يَجِبُ لَهُ عَلَى الآخَرِ فَثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: ياخُذُ الزَّائِدَ مِنَ الْغَاصِبِ لا مِنَ الْجَانِي .... يعني: فإن أخذ رب المغصوب أقل القيمتين إما من الغاصب أو من الجاني فهل له أن يرجع على الآخر الذي لم يأخذ منه القيمة بتمام أكثر القيمتين؟ في ذلك ثلاثة أقوال:

الأول: إنه يرجع، وهو ظاهر قول أشهب، والثاني: إنه لا يرجع، وهو الذي يأتي على قول سحنون، والثالث: الفرق، وهو قول ابن المواز: ونص عليه في المدونة في أحد شقي المسألة، أعني أنه يرجع على الغاصب بالقيمة. ونقل ابن يونس أنه اتفق على ذلك ابن القاسم وأشهب. ابن المواز: لأنه يقول: إنما أخذت من القاتل ما يجب عليه للغاصب ولي على الغاصب أكثر منه، فصار كغريم غريمي، وألزم على هذا بعض القرويين أنه لو كان للغاصِب غُرماء لم يكن هذا أحق لما أخذ من الغرماء؛ لأنه إنما يأخذ ذلك على الغاصب من غريمه إلا أن يريد رفع الضمان عن الغاصب فلا يتبعه بقيمة ويكون أولى بما أخذ من الجاني من غرماء الغاصب. وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ [577/ب] فِي مَنْ سَاقَ سِلْعَةً فَأَعْطَاهُ غَيْرَ واحِدٍ فيهَا ثَمَناً فَأُتْلِفَتْ ضَمِنَ مَا أَعْطَى فِيهَا، وقَالَ سَحْنُونٌ: قِيمَتَهَا .... ما حكاه عن ابن القاسم هي رواية عن مالك في العتبية، وزاد: إذا كان عطاء قد تواطأ الناس عليه، ولو شاء أن يبيع به لباع، وقال سحنون: لا يضمن إلا القيمة؛ إذ هي من المقومات، وقال عيسى: يضمن الأكثر من الثمن أو القيمة، وجعله في البيان تفسيراً لقول مالك. قال: كذا هو منصوص لمالك، فليس في المسألة إلا قولين وجعلها غيره ثلاثة على ظاهرها. فَإِنْ وَجَدَهُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ؛ فَثَالِثُهَا لابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ حَيَوَاناً فَلَيْسَ لَهُ إِلا أَخْذُهُ، وَفِي غَيْرِهِ: يُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ تقدم كلامه في نقل المثلي، وتكلم هنا على نقل المقوَّم، وقد تقدم أن القول الثالث دليل على الأولين، فيكون الأول ليس لربِّه إلا أخذه وهو قول سحنون.

والثاني: يخيَّر ربُّه في أخذه أو أخذ قيمته في موضع غصبه، قال في المقدمات: وهو قول أصبغ وظاهر روايته عن أشهب، وذكره ابن يونس والباجي تصريحاً، واختاره ابن المواز وقيده بالبلد البعيد عن محل الغصب. والثالث: الفرق بين الحيوان والعروض فليس له أخذ الحيوان، ويخير في العروض، ونسبه المصنف لابن القاسم تبعاً لابن شاس، وقال ابن عبد السلام: إنما هو رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك في المجموعة وفيه نظر لما ذكر عن ابن يونس، نعم ذكر الباجي أن ابن القاسم رواه عن مالك في المجموعة ولا يلزم من ذلك أن يكون ابن القاسم لم يقل به. قال في المقدمات بعد ذكر الثالث: وهذا في الحيوان الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم؛ كالدَّوَابِّ والوَخْش من الرقيق، وأما الرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم من بلدٍ فحكمهم كالعروض، وحكى ابن زرقون وغيره عن ابن القاسم في الموازية قولاً آخر أن نقل الحيوان والعروض فوت يوجب له قيمة الحيوان والعروض يأخذ بها حيث لقيه. فَلَوْ وَجَدَ الْغَاصِبَ خَاصَّةً فَلَهُ تَضْمِينُهُ يعني: (فَلَوْ وَجَدَ) المغصوب منه (الْغَاصِبَ) بغير بلد الغصب، وليس معه الشيء المغصوب. ابن راشد: فلا يختلف أن له تضمينه القيمة لما عليه من الصبر في الضرر، وله الصبر إلى البلد، لكن يكلف الغاصب الخروج مع المغصوب منه أو مع وكيله ليقبض منه المغضوب. وَلَوْ رَجَعَ بِالدَّابَّةِ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ بِحَالِهَا لَمْ يَلْزَمْه سِوَاهَا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ بِخِلافِ تَعَدِّي الْمُكْتَرِي والْمُسْتَعِيرِ، وفِي الْجَمِيعِ قَوْلانِ أي: (لَوْ رَجَعَ) الغاصب (بِالدَّابَّةِ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ) وأحرى القريب (بِحَالِهَا) ولم تتغير، لم يلزم الغاصب (سِوَاهَا) فلا تلزمه قيمة الدابة ولا كراء تلك المسافة (بِخِلافِ

تَعَدِّي الْمُكْتَرِي والْمُسْتَعِيرِ) إذا زاد في المسافة زيادة بعيدة فإن ربها بالخيار، فإن أحب أخذها وأخذ كرائها من موضع التعدي إلى غايته، وإن أحب أخذ قيمة دابته من المكان الذي تعدى منه وله الكراء الأول في الكراء، وهكذا قال مالك في المدونة وفي الموطأ. قوله: (وفِي الْجَمِيعِ قَوْلانِ) يحتمل أن يريد في كل مسألة قولان: أحدهما قول ابن القاسم ويكون نبه بهذا على أن في كل مسألة قولين، والمشهور متعاكس، ويحتمل أن يريد: في كل مسألة قولان غير قول ابن القاسم، ويكون في مجموع المسألة ثلاثة أقوال، وإلى هذا ذهب ابن عبد السلام، وأحد القولين: ليس لربِّها إلا الدَّابة في الغصب والتعدي معاً، وليس له تضمين القيمة. والقول الثاني: إنه مُخيَّر في الجميع بين أخذ الدابة وأخذ قيمتها. وفهم من قوله: (مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ) أنه لو تعدى بها المستعير أو المكتري موضعاً قريباً أو زمناً قريباً، أنه لا يكون له تضمين الدابة. وفي الباجي: إذا أمسكها أياماً يسيرة زائدة على أيام الكراء فلا ضمان عليه، وإنما له الكراء في أيام التعدي مع الكراء الأول، قاله مالك وأصحابه. فإن قلت: فما الفرق على قول ابن القاسم؟ قيل: قال في النكت: لأن المستعير والمكتري إنما تعديا على المنافع لا على الرقاب، فغرما كراء تلك المنافع، والغاصب إنما غصب الأعيان فلم تكن عليه قيمة المنافع، ولو أنه قصد إلى غصب المنافع خاصة، لكان عليه كراؤها مثل أن يريد دابة يكريها إلى موضع، فيأخذها غصباً مما يعلم أنه لم يقصد غصب الرقبة، قال في النكت: وينبغي في المكتري والمستعير إذا تعديا بالدابة المسافة وأصابها في ذلك عيب يسير فوجب لربها ما نقص العيب - أن يُسْقِطَ من كراء الزيادة على المسافة مقدار ذلك الجزء الذي نقص من قيمة الدابة مثل أن يكون نقصها العيب

الخمس، فيسقط من كراء الدابة الخمس أو الربع، فيسقط من كراء الدابة ربعه وأبى هذا بعض شيوخنا من أهل بلدنا، وهو صواب عندي فتأمله. وَفِيهَا: لَوْ نَقَلَ الْجَارِيَةَ إِلَى بَلَدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْ رَبِّهَا فِي بَلَدٍ آخَرَ جَازَ، وَقَالَ أَشْهَبُ: بِشَرْطِ أَنْ تُعْرَفَ الْقِيمَةُ، ويُبْدِلُ مَا يَجُوزُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلَين: السَّلامَةِ ووُجُوبِ الْقِيمَةِ .... أي: لو (لَوْ نَقَلَ) الغاصب (الْجَارِيَةَ)، وتصور المسألة ظاهر من كلامه، وهذه المسألة نص عليها في المدونة في الصرف. وقوله: (جَازَ) أي الشراء بناء على أن الأصل سلامتها في موضعها، ورأى أشهب أن قيمتها قد وجبت على الغاصب بوضع يده عليها، فلا بد أن تعرف قيمتها ويشتريها بما يجوز له أن يشتري به تلك القيمة، وبه قال سحنون ومال إليه ابن المواز؛ لأن رفع العدوان كان من حق ربِّ الجارية، فليس من حقه عقد المعاوضة فيها على الضرر، ودلت هذه المسألة على أنه ليس من شرط بيع المغصوب من الغاصب أن يخرج من يد الغاصب ويقيم بيد ربه مدة كما اشترطه بعضهم. وَإِذَا حُكِمَ بِالْقِيمَةِ مَلَكَهُ الْغَاصِبُ فِلا رُجُوعَ لَهُ فِي مِثْلِ الآبِقِ [578/أ] عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَوَّهَ فَلَهُ الرُّجُوعُ .... يعني: إذا زعم الغاصب أن العبد أبق أو ضلت الدابة وشبه ذلك، فقضى عليه بالقيمة ثم وجد الآبق ونحوه، فإن كان قد تبين كذبه وهو معنى قوله: (قَدْ مَوَّهَ) أي أظهر خلاف ما كان فله الرجوع فيه أي وله أن يبقى على أخذ القيمة، وإن لم يتبين كذبه وتبين صدقه، فالمشهور أنه لا رجوع لربه فيه، وتمضي المعاوضة، وقيل: له الرجوع كما لو موَّه بناءً على أن المعاوضة وقعت على غير المغصوب أو عن الحيلولة بينه وبين ربِّه، فإذا وجدت زالت الحيلولة.

أشهب: ويحلف أنه لم يخفها عن ربها، ولقد كانت فاتت من يده، وتبقى له إذا كانت على الصفة التي حلف عليها. أبو الحسن: وقوله تفسير، قال في المدونة: إلا أن يظهر أفضل من الصفة بأمر بين، فلربها الرجوع بتمام القيمة، وكأن الغاصب لزمته القيمة فجحد بعضها، وقاله أشهب، ومن قال: له أخذها؛ فقد أخطأ كما لو نكل الغاصب عن اليمين في صفتها وحلفت على صفتك ثم ظهرت على خلاف ذلك، كنت قد ظلمته في القيمة فيرجع عليك بما تزيد عليه، لا يكون له رد الجارية، وحكى اللخمي عن ابن القاسم في المبسوط أن للمغصوب منه رد القيمة وأخذ الجارية، أعني إذا ظهر أن صفتها على خلاف ما حلَفَ عليه. ابن يونس: قال بعض الفقهاء: وينبغي أن لو أقرَّ الغاصب بخلاف ما غصب مثل أن يقول: غصبت جارية ويقول المغصوب منه: غصبت عبداً فكان القول قول الغاصب ثم ظهر أنه عبد، أنَّ له الرجوع فيه كالذي أخفى ذلك؛ لأنه لم يغرم من قيمة الصفة شيئاً، بخلاف العبد، ويختلفان في الصفة. وانظر: لو غصب جارية سوداء للخدمة قيمتها عشرون، وقلت أنت: جارية بيضاء قيمتها مائة مما يصلح للوطء فالأظهر أن ذلك كجحد الصفة. انتهى باختصار. وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ فِي تَلَفِهِ وصِفَتِهِ ومَبْلَغِهِ يعني: إذا اختلاف الغاصب والمغصوب منه، هل تلف الشيء المغصوب أم لا؟ واختلفا في صفته أو مبلغه، فالقول قول الغاصب؛ لأنه غارم. وفي المدونة: وإن غصب جارية وادَّعى هلاكها واختلفا في صفتها صُدِّق الغاصب في الصفة مع يمينه إذا أتى بما يشبه، فإن جاء بما لا يشبه صُدِّقَ المغْصُوب منه مع يمينه، وكذلك نص مالك في المدونة وفي العتبية على وجوب اليمين على الغاصب إذا اختلفا في

العدد، ولم أرَ في الأمهات وجوبَ اليمين على الغاصب إذا ادَّعى التلف، لكن نص فيها في الشيء المستحق أنه إذا كان مما يغاب عليه أنه يحلٍف إذا ادَّعى المشتري تلفه، وكذا في رهن ما يغاب عليه ولا يمكن ان يكون الغاصب أحسن حالاً منهما، وقد نص ابن عبد السلام على وجوب اليمين هنا في التلف، وقال أشهب: يصدق الغاصب مع يمينه، وإن ادعى ما لا يشبه كما لو قال: هي بكماء صماء. وفي العتبية عن مالك في من غصَبَ صرَّةً من رجلٍ والنَّاس ينظرون إليه وطرحها في متلف فادعى ربها عدداً وكذبه الآخر ولم يفتحها ولا يدري المنتهب كم فيها؛ أو لم يطرحها ثم يختلفان؛ أنَّ القول قول المنتهب مع يمينه. وقال مطرف وابن كنانة وأشهب: القول في هذا وشبهه قول المنتهب منه، وإن ادَّعى ما يشبه أن مثله يملكه. ابن يونس: يريد ويحلف، وقد اختلف في يمينه كالذي يدعي على رجل مائة فيقول المطلوب: لا أدري ألك علي شيء أم لا؟ فقيل: يأخذ المدعي ما قاله بغير يمين؛ لأنه لا حقيقة عنده ولأن الشاكَّ لو حَلَفَ لم يمكنه أن يحلف، فيقضي أنْ لا فائدة في يمين المدعي للتحقيق، وأما إذا ادعى طرحها، ولم يفتحها فالقول قول المنتهب منه مع يمينه؛ لأنه يدعي حقيقته وأما إن غاب عليها وقال: الذي كان فيها كذا؛ فالقول قول المنتهب مع يمينه. انتهى. وَلَوْ وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَفِي الضَّمَانِ فِيهِ: قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ، ولَوْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ .... يعني: إذا (وَلَدَتْ) الأمة المغصوبة، فإن قتل الغاصب الولد ضمنه اتفاقاً، وإن مات بسماوي فقال ابن القاسم في المدونة: لا ضمان عليه فيه، وقال في كتاب ابن شعبان:

يضمنه؛ وهو قول أشهب وابن وهب وعبد الملك، وهم على تغليب شبه الوديعة في الولد أو الغاصب؛ لأن الذي باشره الغصب إنما هو الأم وحدها، وكذلك اختلف أيضاً إذا ماتا معاً هل يضمن إلا الأم أو يضمنهما؟ ورجح قول ابن القاسم هنا بأن الغاصب إذا ضمن قيمة الولد فإنما يضمنها يوم الغصب، فيقدر كأنه ملكها من يومئذ، فيكون ولدها نشأ عن ملكه، فإن ماتت الأم وحدها فأشهب يقول: يأخذ ربها قيمتها مع عين الولد، وابن القاسم يقول: ليس له إلا أخذ القيمة دون الولد أو أخذ الولد دون القيمة وإن وجدا معاً، فاتفق ابن القاسم وأشهب على وجوب ردهما معاً وهذا هو المعروف، بل حكى صاحب المقدمات اتفاق المذهب عليه، ونقل غيره عن السيوري أنه قال: الولد غلة لا يلزم رده، وحيث ألزمنا الغاصب قيمة الولد فالمعتبر في ذلك يوم الولادة، ونص عليه أشهب في الموازية، وخرج اللخمي على القول بأن الغاصب يغرم أعلى القيم أي يغرم قيمة الولد [578/ب] يوم الموت، ورد بأن الولد قد قيل: إنه غلة لا يلزم رده لو كان موجوداً، فلا يمنع أن يراعى فيه هذا الخلاف. وَإِذَا تَعَيَّبَ بِسَمَاوِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ إِلا القِيمَةُ أَوْ أَخْذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ يعني: إذا تعيب الشيء المغصوب (بِسَمَاوِيٍّ) أي بأمر من الله لا بجناية الغاصب أو أجنبي، فربُّه مخير في أمرين لا ثالث لهما: إمَّا أن يأخذ المغصوب منه (القِيمَةُ) يوم الغصب أو يأخذه بعينه (بِغَيْرِ شَيْءٍ) أي بغير أرْشِ العيب؛ لأن المغصوب منه كان قادراً على تضمين الغاصب جميع القيمة فتركها. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق في العيب بين أن يكون يسيراً أو كثيراً وهو المشهور. وحكي ابن الجلاب قولاً آخر أنه: لا يضمن المغصوب بحدوث عيب يسير.

عياض: ورجحه بعض المتأخرين من شيوخنا، انتهى. وفي الموازية: إذا غصب داراً فانهدم بعضها في يده، أنه لا يضمن إلا قيمة ما انهدم أو يأخذه على ما هو عليه، فإن انهدم جلها ضمن الغاصب قيمتها، فقال اللخمي: هو مثل ما في الجلاب، وزاد عليه المازري بأنه يحتمل أن يرى في هذا القول ثبوت الدار كسلع متعددة فلا يضمن جملتها بهلاك بعضها، ورد بأنه لو راعى ابن المواز هذا لما فرق بين انهدام جل الدار وبين ما هو دون ذلك. وحكى المازري قولاً ثانياً عندنا: إن للمغصوب منه في العيب الكثير أن يأخذ السلعة وقيمة ما نقصها. وَبِجِنايَةِ أَجْنَبِيٍّ - لَهُ أَخْذُهُ وإتْبَاعُ الأَجْنَبِيِّ أَوْ أَخْذُ قِيمَتِهِ مِنَ الْغَاصِبِ يَوْمَ الْغَصْبِ ثُمَّ يَتْبَعُ الْغَاصِبُ الْجَانِيَ .... يعني: وإن تعيب المغصوب (ِجِنايَةِ أَجْنَبِيٍّ) غير الغاصب، فربه بالخيار في وجهين: إما أخذ عين شيئه ويتبع الجاني بقيمةِ الجنَايَةِ وإمَّا أخذ قيمته كاملة من الغاصِب يوم الغصب ثم يتبع ربَّ السلعة وليس لربِّ السّلعة أن يُضمِّن الغاصب قيمة الجناية، قاله في المدونَّة. وقِيلَ: إذا كانت قيمتها يوم الغصب عشرين ونقصها القطع النصف فأخذها ربها وما نقصها وذلك عشرة - نظراً إلى قيمتها يوم جناية الأجنبي عليها - فإن كانت مائة وقيمتها مقطوعة خمسون أخذ ربها من الجاني خمسين فأعطى منها للغاصب عشرة وأخذ البقية. ابن يونس: وهذا على مذهب أشهب أن الغاصب لا يربح. ابن عبد السلام: ولا شك في مخالفة هذا القول للمدونة؛ لأنه مكن ربها من أخذ السلعة على ما نقصها.

وَانْكِسَارُ الثَّدْيَيْنِ عَيْبٌ يعني: إذا غصب أَمَةً قائمةَ الثَّديين فانكسرا فإن ذلك عيب يوجب لربها الخيار كما تقدم بين أن يأخذها ناقصة أو يضمن الغاصب قيمتها، وهكذا نص عليه أشهب، واستغنى المصنف بهذا الفرع عما في المدونة: إذا غصب شابة فهرمت عنده لاستلزام ما ذكره لذلك، واستشكل بعضهم قول أشهب في انكسار الثديين من حيث إنه لم يجعل ما حدث من كبر ذاتها جابراً لعيب انكسار الثديين. أَمَّا لَوْ نَقَصَ سُوقُهَا مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْ سِوَاهَا عَلَى الْمَسْهُورِ كَمَا لَوْ زَادَ .... يعني: أنه اختلاف إذا نقص سوق السلعة، فالمشهور أنه لا خيارَ لربِّها وليس له سواها على المشهور، والشاذَّ يرى أن نقص السوق كنقص الذات؛ فيكون لربها الخيار وهو مروي عن مالك، وحجة ابن يونس وغيره بأن نقص السوق - لا سيما في المثال الذي فرضه المصنف - لا يقضي على العيب اليسير أيضاً بأنه الجاري على المشهور في المتعدي على الدابة المكتراة يريد بها على مسافة الكراء ثم يردها على حالها أن لربها تضمينه قيمتها؛ لأنه حبسها على أسواقها وقد تقدم ذلك. وقوله: (كَمَا لَوْ زَادَ) استشهاد للمشهور أي كما لا يعتبر زيادة السوق فكذلك لا يعتبر نقصه، وليس المراد التشبيه لإفادة الخلاف، فإن الخلاف ليس بموجود في الزيادة، وهكذا أشار إليه ابن عبد السلام. وَفِي كَوْنِ جِنَايَةِ الْغَاصِبِ كَالأَجْنَبِيِّ - قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ يعني: واختلف إذا جنى الغاصب على الشيء المغصوب جناية دون التلف هل ذلك كجناية الأجنبي؟ فيتخير بين أن يأخذه بالغصب ويأخذه بقيمتها يوم الغصب أو يأخذه

بالتعدي فيأخذ سلعته وأرش الجناية، وإليه ذهب ابن القاسم واختاره مطرف وابن الماجشون وابن كنانة، وقال أشهب: ليس لربه إلا أخذه على حاله بغير أخذ أرْش الجناية أو أخذ قيمته يوم الغصب، وهو اختيار محمد وإليه ذهب سحنون؛ لأنه قال: يأتي قول ابن القاسم هذا خلاف ما قاله ابن القاسم في القتل، وإلى هذه المعارضة أشار المصنف بقوله: وَاسْتُشْكِلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الْقَتْلِ وذلك لأن ابن القاسم لم يلزم الغاصب إذا قتل المغصوب إلا القيمة يوم الغصب ولم يجعل قتله كقتل الأجنبي، وفرَّق ابن القاسم بأن القتل إتلاف لجميع الذات، وذلك موجب للتضمين فيضمن قيمة المغصوب يوم قطع يده عليه، وأما قطع اليد وشبهه فإن عين المغصوب باقية وإذا بقيت عينه فقد يكون لربه غرض في عين شيئه، وحكى الدمياطي عن ابن القاسم التخيير في قتل الغاصب، وإليه ذهب سحنون في المجموعة ثم رجع عنه، وألزم ابن يونس سحنون على قوله: إن لرب العبد أن يطالب الغاصب بما نقصه القطع أن يقول بذلك لعله إذا كان القطع بأمر من الله لا سبب للغاصب فيه. وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ قِصَاصاً ضَمِنَ أي: ولو قتل المغصوب بغير سبب الغاصب ضمنه بوضع اليد عليه، ولو كان العبد هو الذي جنى [579/أ] قُتِلَ قِصَاصاً. ولَوْ تَعَلَّقَ أَرْشٌ بِرَقَبَتِهِ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَعَيْبِ سِلْعَةٍ فَإِنْ أَخَذَ الْقِيمَةَ فَلِلْغَاصِبِ إِسْلامُهُ أَوْ فِدَاؤُهُ، وإِنْ أَخَذَهُ سَيِّدُهُ فَكَذَلِكَ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُسَلِّمُهُ السَّيِّدُ أَوْ يَفْدِيهِ أَوَّلاً ثُمَّ يَرْجِعُ بِالأقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ جِنَايَتِهِ .... يعني: فإن جنى العبد المغصوب جناية وتعلَّق أرْشُها برقبته، فذلك عيب حدث فيخير ربه بين تضمين الغاصب قيمته أو أخذه بعينه؛ فإن اختار تضمينه صار الغاصب كالمالك، فيخير في إسلامه في الجناية أو فدائه بأرش الجناية، وإن اختار ربُّ العبد أخذه

فكذلك، أي فيخير في إسلامه أو فدائه، ولا شيء لسيد العبد على الغاصب غير هذا، وقال أشهب: يخير سيد العبد كما قال ابن القاسم في إسلامه أو فدائه، وأي الوجهين اختاره كان له بعد ذلك الرجوع على الغاصب بالأقل من قيمة العبد أو أرش جنايته؛ لأنه إذا كان الأرش أقل من القيمة فهو القدر الذي أدخله الغاصب فيه، وإن كانت قيمة العبد أقل فلا يلزم الجاني إلا ذلك وهذا القول أيضاً لابن القاسم في العتبية، قال في البيان: ولا فرق في ذلك بين العمد والخطأ إذا كان العمد لا قصاص فيه بأن يكون على حر أو على عبد وفي الجراح المتَالِفِ كالمأمومة وَالْجَائِفَةِ، وكذلك إن كانت جنايته على عبد وفيها القصاص، ولم يرد سيد العبد المجني عليه أن يقتص، وأما إن اقتص سيد العبد المجني عليه من العبد المغصوب فيما دون النفس، فليس لسيِّد المغصوب إلا أن يأخذ عبدَّهُ كما هو أو يضمن الغاصب قيمته يوم الغصب، انتهى. وقال بعض الشيوخ: يحتمل قول أشهب على أن الجناية التي جناها العبد كانت خطأ، فإذا خلص منها بغرامة أرْشها لم يبق بعد ذلك عيب، قال: وأما إن كانت عَمداً فهو عيب لازم للعبد ولا يتصور هذا التوجيه فيه. وَإِنْ صَارَ الْعَصِيرُ خَمْراً فَمِثْلُهُ أي: إذا غصب عصيراً فصار عند الغاصب خمراً، فعليه مثل العصير؛ لأن صفته انتقلت إلى ما لا يحلُّ مثله. قوله: (فَمِثْلُهُ) أي إن علم كيله وإلا فقيمته. وخَلاًّ خُيِّرَ فِيهِمَا أي: وإن صارَ العصيرُ خلا (خُيِّرَ) في أخذ المثل أو أخذه بعينه؛ لأنه إنما انتقلت صفته خاصة، وقد يقال على مذهب من يعتبر في فوات المغصوب انتقال الاسم: إنه لا يكون عصيراً، وقاله ابن عبد السلام.

وَإِنْ صَارَ الْخَمْرُ خَلاً تَعَيَّنَ إنما يتعين في حق المسلم. أبو محمد: لأنها قد حلت وليس للغاصب فيها صفة يحتاج بها. بعض الشيوخ: وهو إنما يتمشى على قول من يجيز لصاحبها تخليلها، وأما من يمنع ذلك فيلزمه أن يقول ببقائها ملكاً للغاصب؛ لأنها كانت غير مملوكة للغاصب، ولا لغيره حين كانت خمراً، فإذا تخللت كانت كمن وضع يده على طائر لا ملك لأحد عليه. إِلا أَنْ يَكُونَ لِذِمِّيِّ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قِيمَتِهِ خِمْراً عَلَى الأَشْهَرِ (الأَشْهَرِ) مذهب أشهب، وهو الجاري على قول ابن القاسم: إن من غصب خمراً لذمي عليه القيمة، ومقابله لعبد الملك يتعين الخل كالمسلم، وهو جار على قوله أنه لا قيمة على المسلم إذا غصب خمراً من ذمي. اللخمي: واختلف بعد القول أن عليه القيمة في من يقومها، فقال ابن القاسم: يقومها من يعرف القيمة من المسلمين، وقال أيضأً: يقومها أهل دينه، وبالأول أخذ سحنون، وقيل: إن الخلاف مبني على خطابهم، فعلى الخطاب لا يضمن المسلم الخمر لهم، وعلى عدمه يضمن؛ والأظهر أن المسلم يضمن لهم ذلك، وإن قلنا: هم مخاطبون لأنهم أقروا على تمليكها. وَإِذَا زَرَعَ الْبَذْرَ وأَفْرَخَ الْبَيْضَ فَالْمِثْلُ، وقَالَ سَحْنُونٌ: الْفِرَاخُ لِلْمَالِكِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الحضْنِ .... حاصله أنه اتفق على أن عليه المثل في زرع البذر، واختلف في البيض، والقول الأول لأشهب في المجموعة وقاسه على البذر، وليس بواجب عله الضمان. ابن عبد السلام: وهو أظهر القولين عندي لا سيما والمحكي عن سحنون أن الغاصب إذا عالجَ المغصوب حتى تغير اسمه عنده، كان للغاصب لا لربه، وقال ابن راشد: وقول

سحنون أقيس؛ لأن الفراخ إنما خرجت من بيضة والزرع غير البذر؛ لأنه يتغذى بماء الغاصب وأجزاء الأرض. وَعَنْ أَشْهَبَ في مَن غَصَبَ دَجَاجَةً فَبَاضَتْ وحَضَنَتْ بَيْضَهَا: فَلِلْمَالِكِ كَالوِلادَة، فَإِنْ حَضَنَتْ غَيْرَ بَيْضِهَا أَوْ بَاضَتْ وحَضَنَهُ غَيْرُهَا فَالدَّجَاجَةُ ومِثْلُ الْبَيْضِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وعَلَيْهِ أُجْرَةُ حَضْنِهَا هكذا نقل ابن يونس ونصه: قال أشهب في المجموعة والموازية: ولو غصب دجاجة فباضت بيضاً وحضنت بيضها، فما خرج من الفراخ فلربها أخذها معها، وإن حضن تحتها بيضاً له من غيرها فالفراخ للغاصب والدجاجة لربها، وله فيها حضنت كراء مثلها. ابن المواز: مع ما نقصها، إلا أن يكون نقصاناً بيناً فيكون له قيمتها يوم غصبها، ولا يكون له من بيضها ولا من فراخها شيء. ولهذا قال ابن عبد السلام: ما نسبه المؤلف إلى محمد أنه أوجب لربها أجر الحضن حكاه ابن يونس عن أشهب متصلاً بالكلام الأول، وإنما الذي زاده ابن المواز أن لربها ما نقصها، انتهى. خليل: والظاهر من الكلام أن محمداً وافق على الأجرة، واستشكل قول محمد أن له أجر الحضن مع ما نقصها؛ فإن غرامة [579/ب] ما نقص من الدجاجة يمنع من أن تكون له أجرة الحضن. قال في الموازية: وإن غصب حمامة فزوجها حماماً له فباضت وأفرخت فالحمام والفراخ للمستحق، ولا شيء للغاصب فيما أعانها ذكره من حضانة، وللمستحق الحمامة فيما حضنت من بيض غيرها قيمة حضانتها، أما ما حضنته غيرها من بيضها فقال محمد: إن له مثل بيض حمامته إلا أن يكون عليه في أخذ البيض ضرر في تكلفة حمام يحضنهم، فله

أن يغرم الغاصب قيمة ذلك البيض. وقال سحنون: الفراخ أيضاً لصاحب البيض وللغاصب أجرة الحضانة. اللخمي: فوجه الأول أنه غصب ماله مثل فكان القضاء فيه بمثله، ووجه الآخر أن حكم البيض حكم الجنين، ولابن القاسم في سماع سحنون في الرجل يأتي بحمامة أنثى والآخر بحمام ذكر على أن يكون الفراخ بينهما: أن الفراخ بينهما، وفي الرجل يقول للرجل: احضن هذا البيض تحت دجاجتك فما كان من فراخ فهو بيننا؛ أن الفراخ يكون لصاحب الدجاجة ولصاحب البيض بيض مثله. وَإِذا صَبَغَ الثَّوْبَ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ الْقِيمَةِ والثَّوْبِ ويَدْفَعُ قِيمَةَ الصَّبْغِ، وقَالَ أَشْهِبُ: ولا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الصَّبْغِ، أَمَّا لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَلا شِيْءَ عَلَيْهِ ولا لَهُ إِنْ أَخَذَهُ .... يعني: وإذا صبغ الغاصب الثوب فزادت قيمته أو لم تزد ولم تنقص فمذهب المدونة؛ أنه يخير المالك بين أخذ قيمة الثوب يوم الغصب أو أخذ الثوب بعد أن يدفع قيمة الصبغ، وقال أشهب يخير بين أن يأخذ قيمة الثوب أو يأخذ الثوب بلا غرم، وفهم كون أشهب يوافق على التخيير من إثبات الواو في قول المصنف: (ولا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الصَّبْغِ) فإن ذلك يستدعي تقديم معطوف عليه وهو ما قدمه. ولعبد الملك في الواضحة مثل قول أشهب وله في المبسوط: التفرقة بأن صبغه شيئاً يسيراً فكذلك، وإن كان كثيراً فلا يأخذه حتى يدفع قيمة الصنعة أو يضمن الغاصب ما غصب أو يكونان شريكين، وأثبت ابن الماجشون في هذا القول الشركة، واختلف عليه هل بقيمة الصنعة أو بما زادت؟ ونص ابن القاسم على نفي الشركة هنا وبذلك على ما قيدنا به كلام المصنف من أن الثوب زادت قيمته ولم تنقص.

قوله في قسيم المسألة: (أَمَّا لَوْ نَقَصَتْ .. إلى آخره): وهو ظاهر؛ لأن ذلك عيب فكان كسائر العيوب. وَإِذَا ضَرَبَ الطِّينَ لَبِناً ضَمِنَ مِثْلَهُ لأنه انتقل الصنعة، وإما يضمن المثل إن علم قدره وإلا فقيمته، ويأتي على قول عبد الملك الآتي أن له أن يأخذ المطلوب بغير غرم. وَإِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وقَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا لِمْ يَشْوِهَا فَلِرَبِّهَا أَخْذُهَا مَعَ أَرْشِهَا تصور كلامه ظاهر. ابن عبد السلام: وظاهره أنه ليس لربها في القول الأول إلا قيمتها، وبعد ذبحها فاتت مطلقاً، وهو ظاهر ما حكاه غيره، وقال بعضهم عن ابن القاسم: إن ربها مخير بين أخذ قيمتها أو أخذها بعينها على ما هي عليه من غير زيادة، وقول محمد هذا، وهو محمد بن مسلمة بعيد عن أصل المذهب، يريد: وكذلك الطبخ. وَلَوْ غَصَبَ نُقْرَةً فَصَاغَهَا ضَمِنَ مِثْلَهَا، وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَهُ أَنْ يَاخُذَ الْمَصْبُوغَ والْمَصوغ والْمَصْنُوعَ مَجَّاناً إِذْ لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ أي: المصبوغ في مسألة الثوب، والمصوغ في النقرة، والمصنوع في الطين، ومعنى (مَجَّاناً) باطلاً بغير شيء، وهو ظاهر التصور. وَإِنْ غَصَبَ سَاجَةً أَوْ سَارِيَةً فَلَهُ أَخْذُهَا ولَوْ بِالْهَدْمِ الساجة: الخشبة، والسارية: العمود، وما ذكره نحوه في المدونة، وهو المشهور. وقوله: (فَلَهُ أَخْذُهَا) يعني: وله أخذ القيمة. ابن القاسم في الموازية: وله أخذها وإن بنى عليها القصور.

ابن يونس: وقيل: ليس لربها أخذها إذا كان في ذلك خراب بنيان الغاصب؛ لأن ما يدخل على الغاصب في خراب بنيانه أعظم مما يدخل عليه فيها إذا عملها تابوتاً، وإذا لم يكن له أخذها في ذلك فأحرى في هدم بنيان الغاصب. وحكى ابن حارث هذا القول عن أشهب، وزاد ابن القاسم وأشهب اتفاقاً على أن البناء المعتمد على الحجر المغصوب يقلع، وإنما اختلفا فيما انتشر عنه وخرج عن اعتماده، فقال ابن القاسم قولاً مجملاً أنه يهدم، وقال أشهب: إذا كان لا سبيل إلى انتزاع الحجر المغصوب إلا بهدم جميع البناء فإنه تجب القيمة لصاحب الحجر. وأنكر المازري هذا التفصيل وقال: لم ينقله غيره، وإنما المشهور في سائر الدواوين ذكر الخلاف في هدم بناء الغاصب قولاً مطلقاً فيما اعتمد على الحجر المغصوب أو لم يعتمد، ولا يدرى أين وقف ابن الحارث على هذا التفصيل. ابن القصار: وإذا رضي الغاصب بهدم بنائه لم تلزمه غرامة القيمة، وإن رضي به المغصوب منه، وما اللخمي وعبد الحميد إلى منع الغاصب من الهدم إذا رضب رب الخشبة بأخذ قيمتها، مالك في الحاوي: وأما من ابتاع خشبة فبنى عليها ثم استحقت فليس لربها قلعها؛ إذ ليس الباني بغاصب. وَإِذَا بَنَى الْغَاصِبُ خُيِّرَ الْمَالِكُ فِي أَخْذِهِ ودفْعِ قِيمَتِهِ مَنْقُوضاً بَعْدَ إِسْقَاطِ كُلْفَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَلاهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بعَبْدِهِ .... سكت عما إذا انتضت لدلالة الكلام المتقدم عليه وَإِذَا خَصَى الْعَبْدَ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئاً ويُعَاقبُ وفي معنى زيادته عدم زيادته ونقصانه نص عليه ابن شاس، وفي العتبية: من عدا على غلام فخصاه فزاد ثمنه، يقوم على قدر ما نقص منه الخصاء، قال في البيان في باب الرد

بالعيب: يريد إن لم يرد ربه تضمينه واختار حبسه، ومعنى قوله: (قدر ما نقص) عند من لا رغبة له في الخصيان، وقال سحنون: [580/أ] معناه أن ينظر إلى دني يُنقصه الخصاء فما نقص كان على الجاني ذلك في المجني عليه، وقد تأول بعضهم ما في الجراحات من سماع ابن القاسم أن ينظر ما تقع الزيادة فيجعل نقصاناً، فيكون عليه غرمه، وذلك بعيد لا وجه له في النظر، والذي يوجبه النظر أن يكون عليه في الذكر أو الأنثيين قيمة، وفيهما قيمته مرتين كالحر في الدية قياساً على قول مالك في المأمومة والجائفة والمنقلة والموضحة أنه يكون عليه من قيمته بحساب الجزء من ديته، وابن عبدوس يرى أنه إذا زاد الخصاء لا غرم عليه ولا يصح ذلك على المذهب، وإنما يأتي على قول من يقول: لا شيء عليه في المأمومة وشبهها مما لا نقصان فيه بعد البرء، وقول ابن عبدوس هو الذي اقتصر عليه المصنف تبعاً لابن شاس، ولا إشكال في عقوبته. وَلَوْ هَزِلَتِ الْجَارِيَةُ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ نَسِيَ الْعَبْدُ الصَّنْعَةَ ثُمَّ تَذَكَّرَها حَصلَ الجبْرُ هو ظاهر. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَإِنْ فاتتْ كَالدَّارِ يقلعهَا، والأَرْضِ يُبَوِّرُهَا، والدَّابَّةِ يُعَنِّدُهَا، والْعَبْدِ لا يَسْتَخْدِمُهُ - فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَضْمَنُ، وقَالَ غَيْرُهُ: يَضْمَنُهُ وصُوِّبَ .... لما ذكر أولاً أن الغصب يكون لعين ومنفعة، وتكلم على العين تكلم هنا على المنفعة، يعني وأما المنافع فإن فاتت ولم ينتفع بها الغاصب كالأمثلة التي ذكرها المصنف، فقال ابن القاسم: لا يضمن، وهو المشهور. أبو محمد: لأنه كمن منعه من وطء أمته أو منع حرةً أو أمةً من التزويج، وقال غيره: لأنه لم يغصب المنفعة ولم ينقلها لا يضمنها كما إذا سجن صاحبها، وذهب مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب إلى الضمان؛ لن أذهب مالاً عن مالكه، فوجب أن

يضمن قياساً على غصب العبد، أما أنه مال فلأنه يجوز أخذ المال عنه ولو لم يكن لما جاز ذلك، ومن هذا الخلاف فيمن غصب دنانير هل يضمن ما كان ربها ربح فيها؟ وقد حكى اللخمي في من غصب دراهم أو دنانير هي يضمن ما يربح أو ما كان ربح فيها صاحبها؟ ثلاثة أقوال: فقيل: لا شيء للمغصوب منه إلا رأس ماله، استنفقها الغاصب أو اتَّجر بها فربح، وهو قول مالك وابن القاسم. وقيل: إن اتَّجر بها وهو موسر كان الربح له، وإن كان معسراً كان الربح لصاحبها، وهو قول ابن مسلمة وابن حبيب في الولي يتجر في مال يتيمه لنفسه فجعلا له الربح إن كان موسراً أو لليتيم إن كان معسراً. والقول الثالث أن للمغصوب منه قدر ما كان ربح فيها لو كانت في يده، ذكرها ابن سحنون فيمن شهد بدرين حال أن صاحبه أخر الغريم سنة ثم رجع عن الشهادة بعد محل الإجل والدين عيناً أو مما يكال أو يوزن. وحكى صاحب المقدمات الاتفاق على أن ربح الدراهم والدنانير للغاصب، والخلاف الذي ذكره المصنف إنما هو مبني على المشهور أن الغاصب يرد الغلة، وأم على الشاذ أنه لا يردها فلا إشكال أنه لا شيء عليه هنا، ومعنى (يُبَوِّرُهَا) يمنعها من الحرث وعقل الدابة أي من غير عمل. قوله: (وصُوِّبَ) أي: صوبه ابن يونس. فَإِنِ اسْتَغَلَّ أَوِ اسْتَعْمَلَ ضَمِنَ عَلَى الْمَشْهُورِ، ورُوِيَ: إِلا فِي الْعَبدِ والدَّوَابِّ، ورُوِيَ: لا يَضْمَنُ مُطْلَقاً .... يعني: فإن استغل الغاصب أو استعمل ضمن الغلة على المشهور إذ لا حق للغاصب، وروي: لا ضمان عليه مطلقاً في الحيوان وغيره استغل أو استعمل لقوله عليه الصلاة والسلام: «الخراج بالضمان».

فإن قيل: هو خراج على سبب، قيل: المختار والاعتماد على عموم اللفظ دون خصوص السبب، وروي أنه يغرم غلة الرباع والغنم والإبل والبقر دون العبيد والدواب. ابن عبد السلام: وهو مذهب المدونة. ولعل هذا القول الثاني في كلام المصنف، ويحتمل أن يريد بالدواب مطلق الحيوان وهو قول ابن المعذل، وهو مذهب المدونة في باب الاستحقاق؛ لأنه نص فيها في الباب المذكور على أن الغاصب لا يرد غلة الدواب والعبيد، خلاف ما نص عليه في باب الغصب على ما نقله ابن عبد السلام. والصحيح عند ابن العربي وغيره من المتأخرين ما شهره المصنف من وجوب الغلة مطلقاً، وقد صرح المازري وصاحب المعين وغيرهما بشهرة ما شهره المصنف. قال في المقدمات: وقد اختلف في غلة المغصوب هل حكمها كالمغصوب أم لا؟ فمن قال بالأول وهو أشهب يقول: تلزمه قيمة الغلة يوم قبضها أو أكثر ما انتهت إليه وإن تلفت بأمر من الله تعالى. وأما القائلون بالثاني فاختلفوا في الغلة بعد اتفاقهم على أنها إن تلفت ببينة أنه لا ضمان على الغاصب فيها وأنه إن ادَّعى تلفَها لم يصدق وإن كان مما لا يغاب عليه، وتحصيل اختلافهم أن الغلة ثلاثة أقسام: أولها متولد عنه على هيئته وهو الولد فيردها اتفاقاً. والثاني: متولد عنه على غير هيئته وهي تمر النخل ولبن الماشية ففي وجوب رده قولان. والثالث: أن تكون غير متولدة عنه، وهي الأكرية والخراجات ففيه خمسة أقوال فذكر الثلاثة التي ذكرها المصنف، والرابع: يلزمه رد الغلة إن اكترى ولا يلزمه إن انتفع أو عطل، والخامس: يلزمه إن اكترى أو انتفع ولا يلزمه إن عطل.

وفي إطلاقه على الولد غلة تسامح، وهذا القول الأخير يستغنى عنه بما قدمه المصنف في الفرع المتقدم. وَأَمَّا الْبُضْعُ فَلا يَضْمَنُ إِلا بِاسْتِيفَائِهِ لا بِفَوَاتِهِ، فَفِي الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وفِي الأَمَةِ مَا نَقَصَهَا، وكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الْحُرِّ .... لما ذكر أولاً الخلاف فيما إذا عطل المنافع أخرج هذا من ذلك، ولذلك أتى بأمَّا المشعرة بالتفصيل، ومعنى كلامه أنه إذا منع الحرة أو الأمة من التزويج فلا ضمان عليه، وإنما يضمن بالإفاتة بوطئها لا بحبسها [580/ب] من غير وطء، ومقتضى كلامه أنه إذا غاب على الأمة ولم يطأها لا ضمان عليه. قال في البيان: وهو مذهب ابن القاسم ولم يفرق بين الرائعة وغيرها، وقيل في الجارية أنه يضمن قيمتها بالغيبة عليها حكاه في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون ومالك وأصحابه ولم يفرق أيضاً في ذلك بين الرائعة وغيرها وقال أصبغ: يضمن إن كانت رائعة؛ وقوله: بالتفرقة جيد. وقوله: (وكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الْحُرِّ) أي: لا يضمن إلا بالاستيفاء لا بالفوات. وَلَوْ غَصَبَ مَا صَادَ بِهِ وفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لِلْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ عَبْدَاً فَالصَّيْدُ لِمَالِكِهِ اتِّفَاقَاً، وإِنْ كَانَ كَالسَّيْفِ والشَّبَكَةِ والْحَبْلِ فَلِلْغَاصِبِ اتِّفاقاً، وعَلَيْهِ أُجْرَةُ مَثْلِهِ، والْفَرَسُ كَالسَّيْفِ، وإِنْ كَانَ جَارِحَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ بِهِمَا .... تقدم الكلام على ذلك في باب الصيد، والمسألة الثانية لا تناسب هذا الفصل. قوله: (لِمَالِكِهِ) أي لمالك العبد يريد على قول أن الغاصب يرد الغلة.

قوله: (وعَلَيْهِ) أي وعلى الغاصب (والْفَرَسُ كَالسَّيْفِ) أي فالصيد للغاصب وعليه أجرة مثله، وإن كان ما صاد به كلباً أو بازاً فعلى قولين بناء على التشبيه بهما، أي بالعبد والسيف، فمن شبهه بالعبد فالصيد لمالكه، ومن شبهه بالسيف والشبكة فالصيد للغاصب وعليه أجرة مثله. وَإِذَا غَصَبَ دَاراً خَرَاباً أَوْ مَرْكِباً خراباً فَأَصْلَحَهُ فَاغتلَّ، فَقَالَ أَشْهَبُ: مَا زَادَ فَلِلْغَاصِبِ؛ كسَاحَةٍ يعْمُرُها، وقال محمد: الجميعُ لِلمَالِكِ وافق أشهب أصبغ. اللخمي: وهو أبين فيقوم الأصل قبل إصلاحه فينظر ما كان يؤاجر به من يصلحه فيغرمه وما زاد على ذلك فللغاصب. اللخمي: ولا أعلمهم اختلفوا في من غصب أرضاً فبناها ثم سكن واستغل أنه لا يغرم سوى غلة انتفاعه، ورأى محمد أن جميع الغلة للمغصوب منه، وله أخذ الدار مصلحة ولا شيء عليه إلا قيمة ما لو نزعه لكانت له قيمة، ورأى أن المالك يستحق البناء بقيمته منقوضاً، فيكون مالكه فتكون غلته له، وكذلك ما أخرجه في إصلاح المركب من قلفطته وزفته فربه أخذ ذلك وجميع الغلة. محمد: إلا مثل الصواري والأرجل والحبال وما أخذ له ثمن إذا أخذ فللغاصب أخذه إن كان بموضع لا غناء له عنه؛ إذ لا يجد صاريا ولا أرجلا ولا حبلا إلا هذه، أو لا يجد ذلك بموضع ينال حمله غليه إلا بالمشقة والمؤنة العظيمة، وهو مما لا بد منه مما يجري به المركب حتى يرده إلى موضعه، فربه مخير بين أن يعطيه قيمة ذلك بموضعه كيف كان أو يسلم ذلك إليه، وعلى هذا ففي قول المصنف (الجميعُ لِلمَالِكِ) إطلاق، وإنما مراد محمد ما ليس له عين قائمة مستقلة.

ابن عبد السلام: وقول محمد أظهر، وقال ابن راشد: والأول أقيس، ويعكس على قول محمد ما حكاه اللخمي في من غصب أرضاً فبناها. وَحَيْثُ أُلْزِمَ الْغَاصِبُ الْغَلَّةَ فَمَا أَنْفَقَ عَلَى الْعَبْدِ والدَّابَّةِ وسَقْيِ الأَرْضِ وعِلاجِهَا ونَحْوِهِ يُقَاصُّ بِهِ، فَإِنْ زَادَ لَمْ يَرْجِعْ .... هذا مذهب ابن القاسم في المدونة وحاصله أنه يرجع بالأقل مما أنفق أو الغلة، وقاله ابن القاسم في الموازية ثم رجع في الموازية وقال: لا شيء للغاصب واختاره ابن المواز، والأول أظهر؛ لأن الغاصب وإن ظلم فلا يظلم، ولأن الغلة إنما نشأت عن عمله، فلهذا لو قيل: إنما يرجع فيما زاد عمله في الغلة لكان وجهاً حسناً، وهذا في كل ما ليس للمغصوب منه بد كطعام العبد وكسوته، وعلف الدابة، وأما الرعي وسقي الأرض فإن كان يستأجر له أو كان في يده فكذلك، وإن كان يتولاه بنفسه أو بعبده فلا شيء عليه، وقاله أصبغ في سقي الشجر وحرث الأرض. اللخمي: وأرى أن يكون على الغاصب الأقل من ثلاثة: إجارة المثل فيما يتولاه الغاصب، أو ما آجر به عبيده أو دوابه، أو تسليم الغلة التي اغتلها الغاصب. فَلَوْ بِيعَ الْمَغْصُوبُ أَوْ وُرِثَ؛ فَإِنْ عَلِمَ المشتري فَكَالْغَاصِبِ يعني: فلو باع الغاصب المغصوب، أو مات الغاصب فورثه ورثته، (فَإِنْ عَلِمَ المشتري) بذلك والوارث، وفي بعض النسخ: (علم) فقط، فيكون الفاعل أحدهما لا على التعيين (فَكَالْغَاصِبِ) أي في لزوم رد الغلات؛ لأنه لما علم بالغصب وجب عليه الرد ولا عذر له، بل قال أبو عمران: وإنما يشترط علم المشتري وأما الوارث فإنما ينظر إلى معرفة الناس في ذلك.

وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ - فِي السَّمَاويِّ ولا فِي الْغَلَّةِ سَكَنَ أَوْ زَرَعَ أَوْ أَكْرَى - ولا عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ حِينَ بَاعَ عَلَى الْمَشْهُورِ .... وإن لم يعلم أحدهما، أي المشتري والوارث فلا شيء عليه مما هلك أو نقص مما لا صنع لأحد فيه، وهو مراده بالسماوي، قال في البيان: باتفاق. قوله: (ولا فِي الْغَلَّةِ) ظاهره أن الغلات تكون للمشتري وللوارث إذا لم يعلما، وهو صحيح في المشتري، وأما وارث الغاصب فلا غلة له باتفاق سواء انتفع بنفسه أو أكرى لغيره، فإن قيل: حكمهم للمشتري بالغلة دليل على أن الضمان منه، وقولهم: لا ضمان عليه في السماوي يدل على أن الضمان ليس منه فما وجه الجميع؟ قيل: إنما نفينا سبباً خاصاً من أسباب الضمان لا مطلق الضمان. قوله: (ولا عَلَى الْغَاصِبِ ... إلى آخره) أي لا رجوع للمغصوب منه على الغاصب بالغلة من حين باع على المشهور، وهما مبنيان على القولين فيما عطله الغاصب بالغلة من حين باع على المشهور. وفِي الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ الْوَاهِبِ قَوْلانِ أي: في الرجوع عليه بالغلة التي استغلها الموهوب له. ابن عبد السلام: وهما كالقولين السابقين، وهكذا نسب اللخمي لابن القاسم أنه لا رجوع على الغاصب في الهبة والتعطيل. خليل: وفي نظر؛ لأن في التهذيب: [581/أ] ومن وهب لرجل طعاماً أو إداماً فأكله أو ثياباً فلبسها حتى أبلاها ثم استحق ذلك فيرجع بذلك على الواهب إن كان مليئاً وإن كان عديماً أو لم يقدر عليه رجع بذلك على الموهوب له ثم لا يرجع الموهوب له على

الواهب بشيء، وكذلك أو أعاره الغاصب هذه الثياب فلبسها لباساً ينقصها، فعلى ما ذكرنا ثم لا يرجع المستعير بما غرم من نقص الثياب على المعير. انتهى. عياض: وقوله: (ومن وهب) معناه عندهم أن الواهب غاصب، وقد صرح بذلك ابن يونس واللخمي في نقلهما فقالا: ومن غصب لرجل طعاماً ... إلى آخره؛ ولهذا قال ابن راشد: الصواب الرجوع؛ لأنه هو الذي أتلفها على ربها ونفي الرجوع مبني على أن الوهوب له هو المباشر، ولما لم يغرم لعذره بالشبهة لم يغرم للغاصب من باب أولى. وَعَلَى الرُّجُوعِ إِن أعدِمَ، فَفِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ قَوْلانِ يعني: وإذا فرعنا (وَعَلَى الرُّجُوعِ) بالغلة على الغاصب الواهب فلو أعسر الغاصب فقال ابن القاسم في المدونة: يرجع المالك على الموهوب كما يرجع على الوارث الغاصب بجامع أن لاك منهما أخذ بغير عوض، وقال أشهب في الموازية: الموهوب له إذا لم يعلم بالغصب كالمشتري لا يرجع عليه بالغلة. تنبيه: ووقع في بعض النسخ عوض (أعدِمَ) (أغرم) بالغين المعجمة والراء المهملة والمعنى: إذا رجع على الغاصب بغلة الشيء المغصوب فهل يرجع الغاصب بذلك على الموهوب له؛ لأنه تبين أنه وهب شيئاً لا يملك أو لا يرجع؛ لأنه سلطه على ذلك؟ قولان، وهذا الثاني هو الذي يأتي على قول ابن القاسم في المدونة والأول يأتي على غيره فيها، وسيأتيان عند قول المصنف: (والمشهور أنه بيد الغاصب). وَلَوْ أَكَلُوهُ أَوْ لَبِسُوهُ فَأَبْلَوْهُ فَلِلْمَالِكِ تَغْرِيمُهُمْ قِيمَتَهُ أَوْ مِثْلَهُ يَوْمَ لَبِسُوهُ، أَوْ تَغْرِيمُ الْغَاصِبِ، أو إمْضَاءِ بيْعِ الغَاصِبِ. الضمير في (أَكَلُوهُ) وما بعده عائد على من حصل له المغصوب من جهة الغاصب وهو وارثه وموهوبه والمشتري منه ونحو ذلك، وإن أكل هؤلاء الطعام أو لبسوا الثوب

حتى أبلوه، فالمالك مخير في أمرين: إما أن يغرمهم قيمة المقوم، ومثل المثلي يوم وضع اليد؛ لأنهم لا علم لهم بالغصب، وإليه أشار بقوله: (يَوْمَ لَبِسُوهُ) وإما أن يغرم الغاصب القيمة أو المثل يوم الغصب، وله وجه ثالث في البيع وهو إمضاء بيع الغاصب؛ لأنه بيع فضولي، وظاهر قوله: (فَلِلْمَالِكِ تَغْرِيمُهُمْ ... أَوْ تَغْرِيمُ الْغَاصِبِ) أن المغصوب منه بالخيار، وليس هو المشهور، والمشهور أنه يبدأ بالغاصب كما سيأتي، ولعل المصنف إنما أراد تعلق الغرامة بهم من حيث الجملة ولكن أطلق لما سيذكره. واستشكل ابن يونس كون المشتري يضمن القيمة يوم اللبس فقال: وقيل: إن المشتري يضمن القيمة إذا لبسه فأبلاه يوم اللبس، وهذا في نظر؛ لأنه غير متعد وهو إذا لبسه يوماً أو أياماً ولم ينقصه ذلك لم يكن عليه شيء، وإنما يضمن قيمته بالاستهلاك، قال: والجواب أنه لمّا كان هلاكه بالانتفاع لم يفرق في ذلك بينه وبين المتعدي الغاصب ألا ترى أن ابن القاسم شبه ذلك بغلته، فلذلك كان عليه قيمته يوم لبسه، وكما لو كان ذلك عنده رهناً أو وديعة. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ، فَإِنْ اخْتَارَ تغْرِيمَهُ فَكَانَ أَقَلّ مِنَ الثَّمَنِ فَفِي تَعْيين مُسْتَحَقِّهِ مِن المشْتَرِي أوْ رَبِّهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَب .... وكذلك أيضاً يكون المغصوب منه بالخيار إذا قتل المشتري العبد المغصوب فإن أخذ ربه القيمة منه يوم الجناية وكانت اقل من الثمن فاتفق ابن القاسم وأشهب أن الغاصب لا يستحق زيادة الثمن، واختلفا في من يستحق تلك الزيادة هل المشتري أو المالك؛ فقال ابن القاسم: يستحقها المشتري؛ لأن البيع قد انفسخ بغرم المشتري قيمة ما اشتراه، وقال أشهب بل يرجع المالك بتلك الزيادة على الغاصب ويرجع المشتري بمقدار ما أدَّى. ونقَل ابنُ يونس عن أشهب مثل ما حكى المصنف عنه ونصه: وقيل عن أشهب: إذا باعها الغاصب - أي الأمة بمائة وقتلها المبتاع وقيمتها خمسون فأغرمه المستحق فيمتها خمسين، فليرجع المبتاع على الغاصب بما غرم للمستحق في ذلك وهو خمسون ويرجع

المستحق أيضاً على الغاصب بالخمسين بقية الثمن الذي أخذها فيها، قال: ولو كانت قيمتها يوم الغصب مائة وعشرين، فباعها الغاصب بمائة فقتلها المبتاع وقيمتها حينئذ خمسون فأخذ المستحق قيمتها من المشتري على قول أشهب بما غرم وذلك خمسون، ويرجع عليه المستحق بتمام القيمة يوم الغصب وذلك سبعون. خليل: وجعل ابن عبد السلام ما نقله ابن يونس عن أشهب مخالفاً لما حكاه الصنف عنه، وسبب ذلك أنه أسقط ما حكاه ابن يونس بعد قول أشهب فيرجع المبتاع على الغاصب بما غرم للمستحق وفي ذلك خمسين. قوله: (ويرجع المستحق على الغاصب بالخمسين بقية الثمن الذي أخذه فيها) ورأيت في نسخة مثل ما حكاه، لكن وجدت في نسخ مثل ما حكيته وبه يتفق نقله مع نقل المصنف ثم يلزم على ما حكاه ابن عبد السلام أن يكون في كلام ابن يونس إشكال وتناقض، أما الإشكال؛ فلأن قول أشهب على ما نقله أن الخمسين الباقية تكون للغاصب مشكل؛ لأن الغاصب لا يربح وأما التناقض؛ فلأن ما حكاه ثانياً عن أشهب يناقضه، والله أعلم. وَفِي كَوْنِ الْخَطَأِ مِنْهُ كَالسَّمَاوِيِّ أَوْ كَالْعَمْدِ قَوْلانِ تقدم أن المشتري لا يضمن بالسماوي اتفاقاً، وأشار المصنف في المسألة السابقة إلى أنه يضْمَنُ بالعمد ولا خلاف فيه، واخْتُلف في جنايته خطأ، فقال ابن القاسم في العتبية هو كالسماوي، وقال أشهب في المجموعة: يضمن به كالعمد؛ وهو أقيس لأن العمد والخطأ [581/ب] في أموال الناس سواء. واختلف في المدونة على أي القولين تحمل، فجعل في البيان ما في العتبية مفسراً له وحمل ما فيها من الضمان إذا قطع المشتري يدها على الخطأ، وقال أبو الحسن: ظاهرها أنه

لا فرق بين أن تكون الجناية عمداً أو خطأ، وقال ابن عبد السلام أنه ربما تأول على المدونة أنه عدم الفرق. وَلا يُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي فِي تَلَفِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ ويحلِفُ ثُمَّ يَغْرَمُهُ إِنْ شَاءَ هكذا في العتبية؛ لأن فيها: ولو ادعى المبتاع أنها هلكت صدق، وفيما لا يغاب عليه من رقيق وحيوان، ولا يصدق فيما يغاب عليه ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد هلكت ويغرم قيمته إلا أن يأتي ببينة على هلاكه من غير شبهة، وكذا يفهم من المدونة، قيل: وإذا صدِّق في ما لا يغاب عليه فإنما ذلك إذا لم يظهر كذبه كالرهن والعواري، وقال أصبغ: يصدق في الضياع فيما يغاب عليه مع يمينه، وإنما حلَّفناه فيما يغاب عليه على الأول مع إنا نضمنه له مخافة أن يكون قد غيبها. ابن عبد السلام: وإذا بنينا على المشهور وضمانه فخرج بعضهم قولاً بعدم اليمين، وإذا صدقنا المشتري في الهلاك، فلا يرجع بالثمن على البائع منه؛ لأن الضياع هنا كالهلاك، وفاعل (ويحلِفُ) عائد على المشتري وكذلك يغرمه، وفاعل (شاء) عائد على المستحق. فرع ومتى يضمن ما يغاب عليه؟ نقل ابن يونس عن غيره أن الأشبه إذا رئي الثوب عنده بعد شهر من يوم اشتراه وادَّعى ضياعه لما استحق، إنه إنما يضمن قيمته يوم رئي بخلاف الصانع والمرتهن يدعي ضياعه بعد أن رئي عنده بعد شهر، فإنه يضمن القيمة يوم القبض والفرق أنهما قبضاه على الضمان، فلما غيباه اتهما على أنهما إنما قبضاه ليستهلكاه فأشبها المتعدي، بخلاف المشتري فإنه إنما قبضه على أنه هلكه فلم يتهم.

وَالْمَشْهُورُ أنه يُبّدَّى الْغَاصِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ إَذَا أَكَلَهُ أَوْ أَبْلاهُ لا شك أن علم الموهوب له بالغصب أنه كالغاصب يتبع صاحبه أيهما شاء، وإن لم يعلم فالمشهور وهو مذهب ابن القاسم في المدونة أنه يبدأ بالغاصب؛ لأنه كالمسلط للموهوب له، فيرجع عليه بقيمة الموهوب وغلته على القول بالرجوع بها أولاً، فإن كان عديما رجع على الموهوب له. قال في البيان: وإذا رجع بها أولاً على الغاصب، فلا رجوع له على الموهوب له، وإن رجع أولاً على الموهوب له رجع على الغاصب إذا يسر، وقال غير ابن القاسم في كتاب الاستحقاق من المدونة: يرجع أولاً على الموهوب له؛ لأنه المباشر. ابن رشد: فإن لم يكن له مال رجع على الغاصب، فإن رجع على هذا القول على الغاصب رجع الغاصب على الموهوب له، وإن رجع على الموهوب له لم يرجع على الغاصب بشيء عكس الأول، ولأشهب قول ثالث أن المالك بالخيار في اتباع أيهما شاء، واختاره ابن المواز وسحنون. اللخمي: ولا خلاف أن له تغريم الغاصب؛ لأن هبته لا تسقط المطالبة عنه عند علم الغصب، وإن أحب أن يبتدئ بالموهوب فالأقوال الثلاثة، وإن كان الغاصب معسراً فله أخذ المستهلك اتفاقاً، انتهى. أشهب: بناء على قوله: (ويطلب الغاصب بالقيمة يوم الغصب) أو يطلب الموهوب له بالقيمة يوم إتلافه ما أتلف، فإن كانت قيمته يوم الغصب عشرين، وقيمته يوم الإتلاف ثلاثين، فاختار اتباع الغاصب فأخذ منه عشرين ثم يرجع على الموهوب له بالعشرة الباقية، واحتاج أشهب على قول ابن القاسم بموافقته إياه، على أن المشتري من الغاصب إذا لم يعلم بالغصب، فهو كغريم ثان يتبع المالك إن شاء الغاصب، وإن شاء المشتري إذا

أتلف، والفرق لابن القاسم إذا ابتدأ تضمين المشتري كان للمشتري الرجوع على البائع، وهو الغاصب أولاً، كذلك الموهوب له فإنه إذا غرم قيمة المغصوب لم يكن له رجوع البتة على أحد، ومقابل المشهور في كلام المصنف يحتمل أن يريد به الثاني. ابن عبد السلام: وهو الأقرب لعدم إشعار كلام المؤلف بالتخيير، ويحتمل أن يريد به قول أشهب.

الاستحقاق

الاسْتِحْقَاقُ: فَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الأَرْضُ مَزْرُوعَةً بَعْدَ إِبَّانِ الزِّرَاعَةِ فِلا شَيْءَ لِلْمَالِكِ فيه زَرعهَا أَوْ أَكْرَاهَا .... يريد: إذا كان الزارع زرع بوجه شبهة؛ كالمشتري أو المكتري إذا لم يعلما، وسواء تولى زراعتها بنفسه، أو أكراها، وإنما لم يكن للمالك شيء؛ لأن الخراج بالضمان، ولهذا قال ابن القاسم: في من كان في يدِه أرض بميراث فأكراها ثم أتى رجل فأثبت أنه أخوه، إن له أن يرجع عليه بحصته من الكراء، وإن لم يعلم؛ لأنه لم يكن ضامناً. تنبيه: لم يتعرض المصنف لما إذا كان الزارع لها غاصباً، ولنذكره باختصار، فنقول: إن قام رب الأرض بعد الحرث وقبل الزراعة، ففي اللخمي وغيره أنه يأخذه بغير شيء، وقال ابن عبد السلام: يأخذه بغير شيء على أظهر القولين في تزويق الجدار وشبهه، وإن كان قيامه بعد الزراعة وقبل ظهور الزرع، أو بعد ظهوره، وقبل أن ينتفع به فله أن يأمره بقلعه أو يأخذه. ابن القاسم وأشهب: بغير ثمن ولا زريعة ولو اتفقا على إبقائه في الأرض بكراء، فمنع منه ابن المواز؛ لأنه يؤدي إلى بيع الزرع قبل بدو صلاحه، ورأى أن المالك لما كان قادراً على أخذه مجاناً وأبقاه لزراعه بكراء، كان ذلك الكراء عوضاً عنه في المعنى؛ فهو بيع له على التبقية، وخرج على قول من يرى أن من ملك أن يملك لا يعد مالكاً قول بالجواز، وإن كان قيامه بعد أن بلغ الزرع مبلغاً ينتفع به، ولم يخرج إبان الحراثة، فله أن يأمره بقلعه، وهل له أن يعطي الغاصب قيمته مقلوعاً ويبقيه لنفسه قولان. اللخمي: والقول بأن له ذلك أصوب؛ لأن نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح على البقاء إنما هو لأنه يزيد للبقاء ثمناً، ولا يدري هل يسلم أم لا، وهذا

يدفع قيمته مطروحاً، وإن كان قيامه بعد خروج الإبان فقال مالك: الزرع للغاصب وعليه [582/أ] كراء الأرض، وليس لربِّ الأرض قلْعه. اللخمي: وهو المعروف من قوله، وذكر رواية أخرى أن للمستحق أن يقلعه ويأخذ أرضه لقوله عليه السلام: «ليس لعرق ظالم حق». وروي أيضاً عن مالك: الزرع للمغصوب منه الأرض وعليه نفقته وإن طاب وحصد. واختار هذه الرواية الثالثة غير واحد لما في الترمذي: «من زرع أرضاً لقوم بغير إذنهم فالزرع لرب الأرض وعليه نفقته». عبد الحق: واعلم أن ما جرى من قوله: يكلف الغاصب القلع إذا كان في إبان الزرع، إنما يعني أن إبان الشيء المزروع فيها لا غيره، فإذا فات إبان ما يزرع فيها فليس لرب الأرض تكليف الغاصب القلع وإن كان يمكنه أن يعمل فيها مقتاتاً أو شيئاً غير الذي زرع فيها، وهذا لأصبغ مبين في المستخرجة، وهو معنى ما في المدونة، وكذلك حفظت عن بعض شيوخنا القرويين. فَإِنْ كَانَ فِي إِبَّانِهَا أَوْ كَانَتْ تُزْرَعُ بُطُوناً فَلِلْمَالِكِ الْخِيَارُ فِي أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ حِينِ وُجُوبِهِ أَوْ نِسْبَةِ مَا بَقِيَ .... فإن كان قيام المستحق على الزارع بوجه شبهة في إبان الزراعة أي في وقت الزراعة أو كانت الأرض ترزع بطوناً في العام الواحد، ولم يستوف تلك البطون، فالمالك مخير في وجهين: إما أخذ كراء المثل من وقت وجبت له الأرض وقضي له بها، وإما أن يكون له نسبة ما بقي من مدة الكراء من حساب الكراء الذي أكراها به المستحق من يده، وحاصله أن للمستحق الأكثر، وما ذكره المصنف خلاف ما في المدونة؛ ففيها: قال ابن القاسم: وإن كانت أرضاً تزرع في السنة مرة فاستحقها، وهي مزروعة قبل فوات إبان الزرع، فكراء

تلك السنة للمستحق وليس له قلع الزرع؛ لأن المكتري زرع بوجه شبهة، وقال عبد الملك: إن قدر ما مضى للمشتري؛ لأن بقاء الزرع ذلك الأمد قبل مجيء هذا له قدر بما ذكره المصنف، قول عبد الملك: ووجه ما في المدونة أن ربها كان قادراً على زرعها لولا زرع هذا. فرعان: الأول: ما ذكره المصنف ظاهره إذا كان المكتري قد زرع، وأما إن لم يزرع، فإما أن يستحقها قبل الحرث أو بعده، فإن لم يحرث. اللخمي: فهو كالسكني له أن يمضيه بالمسمى أو يخرجه، وإن حرث أقره بالمسمى أو أخرجه، واختلف في حكم الحرث فقيل: لا شيء للمستحق، وقال ابن القاسم في المستخرجة: المستحق بالخيار بين أن يعطيه قيمة حرثه، فإن أبى أعطاه الآخر قيمة كرائه، فإن أبى أسلمها ولا شيء له. الثاني: اللخمي: واختلف إذا قام المستحق في الإبان فحكم له بعد ذهابه، هل يكون الكراء للأول أو للمستحق؟ وذكر ابن رشد في الذي يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان مستحقه وتكون الغلة له، ويجب التوقيف فيه، ثلاثة أقوال: الأول: إنه لا يدخل في ضمانه، ولا تجب له الغلة حتى يقضى له بها، وهو الذي يأتي على قول مالك في المدونة: إن الغلة في يديه حتى يقضى بها للطالب، وعلى هذا لا يجب توقيف الأصل المستحق توقيفاً يحال بينه وبينه، وهو قول ابن القاسم في الرباع التي لا تحول ولا تزول ولا توقف، مثل ما يحول ويزول، وإنما يوقف وقفاً يمنع من الإحداث فيها. الثاني: إنه يدخل في ضمانه وتكون الغلة له، ويجب توقيفه وقفاً يحال بينه وبينه إذا ثبت بشهادة شاهدين عدلين أو شاهد وامرأتين، وهو ظاهر قول مالك في الموطأ؛ إذ قال

فيه: إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة؛ إذ قال: إن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه وكلف المدعى عليه الدفع. والثالث: إنه يدخل في ضمانه، ويجب له الغلة والتوقيف بشهادة شاهد واحد؛ وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح: إنه يحلف مع شاهده وتكون مصيبته منه وروايته عنه في الكتاب المذكور في مسألة الزيتون إذا ادعاها وأقام شاهدا واحداً أن الثمرة له إذا توالت على معنى المسألة أنه استحق الأصل دون الثمرة، وأما على تأويل من تأول أنه ادعى الأصل والثمرة وشهد له بهما جميعاً الشاهد الذي أقامه فتخرج الرواية عن هذا الباب إلى وجه متفق عليه، وما وقع في كتاب أحد بن زياد: التوقيف يجب في الدار بالقفل، وتوقيف الغلة بشهادة الشاهد الواحد يأتي على هذا القول، وكذلك أيضاً النفقة تجري على هذا الاختلاف، وفرق في رواية عيسى عن ابن القاسم وهو ظاهر المدونة، وساوى عيسى بينهما من رواية وهو القياس، والصواب أن ما في المدونة اختلاف من القول. فَإِنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى قيلَ لِلْمَالِكِ: ادْفَعْ قِيمَتَهُ قَائِماً، فَإنْ أَبَى قِيلَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْمُكْتَرِي: أَعْطِهِ قِيمَةَ أرْضِهِ بَرَاحاً، فَإِن كَانَا شَريكَيْنِ بِقِيمَةِ أَرْضِهِ وقَدْرِ مَا يُبْنَى بِهِ مِثْلُهُ عَلَى الأَشْهَرِ لا بِمَا زَادَ أي: فإن غرس الأرض المستحقة من يده كان مشترياً أو مكترياً فإن يقال لرب الأرض: ادفع قيمة البناء أو الغرس قائماً فإن أبى قيل: للمشتري أو المكتري: أعطه قيمة أرضه، فإن أبى كانا شريكين، وروى مطرف أن عمر رضي الله عنه قضى بهذا. وإذا بَنَيْنَا على الشركة فقال ابن يونس وغيره: إنَّ ظَاهِرَ الْكتاب أن صاحب البناء يكون شريكاً بقيمة البناء، وقال مطرِّف: بما زاد البناء في قيمة الأرض، وفهم بعضهم المدونة عليه.

ابن يونس: والأول هو الصواب؛ لأنه قد لا تزيد العمارة في مثل هذه الأرض شيئاً بل قد يكون ثمنها براحا أكثر لأعمال القبول ونحوها، فإذا قومت على ما قاله ابن الماجشون ذهب عمل العامل باطلاً، [582/ب] وهو غير متعد، ولعل المصنف لهذا شهره. ابن الجهم: وإذا دفع ربُّ الأرض قيمة العمارة وأخذ أَرْضَهُ، كان له كراء ما مضى من السنين، ولمالك في العتبية قول ثالث أنه يكون شريكاً بما أنفق؛ لأنه قال فيمن اشترى داراً وعمرها ثم استحقت للباني عليه ما عمل من عمل الناس وأما بنيان الأمراء فلا أدري ما هو؟ قيل: فتكون للباني قيمة البنيان أو نفقته، قال في البيان: ضعف أن يكون له الرجوع فيما بنى من بنيان الأمراء، بقوله: لا أدري ما هو؟ وقوله صحيح؛ لأنه أتلف ماله لما أنفق فيما لا يسوغ له من السرف المنهي عنه، وأشار بعضهم إلى أن ما ذكره في بنيان الأمراء متفق عليه، وفي كلام المصنف إشكال، لأنه حكم أولاً أن صاحب الأرض يدفع إليه قيمة البناء قائماً وهذا يعني أنه لا يجب للباني إلا ذلك، وقال: إذا أبيا يكونان شريكين، ويكون الباني شريكاً بقدر ما يبني به مثل الأرض، فكيف يكون شريكاً بما ليس له، واستشكل أيضاً الأشياخ مذهب المدونة: فإن مالكاً أوجب له قيمة البناء قائماً وإذا قوم قائماً فقد أعطى جزءا من الأرض، وإن قومه منفكا عن الأرض صار منقوضاً، وأجاب اللخمي عنه بأنه إنما يقال: بكم يباع هذا البناء أو الغرس على أن يقلع بعد انقضاء المدة؟ ولا يقوم عليه على أنه قائم للأبد؛ لأن الباني أو الغارس لا يستحق بقاؤه إلا إلى بقيتها، قال: وإذا قوم على هذه الصفة سقط الاعتراض بأن الباني أخذ جزءاً من الأرض؛ لأنه لم يقوم على أن للباني حقاً في تلك الأرض، وإنما يقوم على أن مشتريه يضعه هناك ولا يقوم على أن مشتريه يضعه حيث أحب؛ لأنه إن كان الآن في طرف، كانت قيمته أبخس فلا يصلح أن يقوم في غير ذلك مما هو ضرر؛ لأن فيه ضرراً على المستحق، انتهى، وفيه نظر؛ إذ لا يتصور أن يكون البنيان قائماً حيث أحب.

وأجاب المازري: بأن مستحق الأرض لما كان قادراً على أن يلزم الباني أو الغارس قيمة الأرض براحاً، فعدل عن ذلك كان رضاً منه بل يعطي الباني والغارس قيمته عليها قائماً؛ لأن فعلها وقع بوجه شبهة فلا سبيل إلى إعطائها قيمة ذلك مقلوعاً، وهو حسن، ولو كان رب الأرض مخيراً في أن يلزم الباني قيمة الأرض براحاً وليس كذلك، واختلف متى تراعى القيمة؟ فمذهب الكتاب يوم الحكم، وقيل: يوم البناء، وفي كتاب العارية: وقيل: للباني ما أنفق، وفي باب آخر: قيمة ما أنفق، واختلف هل هو اختلاف قول أو لا؟ وعلى الثاني وقد اختلف في كيفية الجمع، وقد ذكرناه ثم، وهذا كله ما لم تستحق الأرض بحبس، أما إن استحقت بحبس فليس للباني ألا حمل أنقاضه؛ إذ ليس ثم من يعطيه قيمة البناء قائماً، وليس له أن يعطي قيمة البقعة؛ لأن بيع الحبس، وهذه المسألة ألقاها أبو محمد صالح على أبي الفضل. وَفِي الزَّرْعِ سِنِينَ يُفْسَخُ أَوْ يَمْضِي، فإِنْ أَمْضَاهُ فَلَهُ نِسْبَةُ مَا يَنُوبُهُ كَجَمْعِ سِلْعَتَيْنِ لِرَجُلَيْنِ .... يعني: إذا أكرى الأرض المستحقة من يده للحرث سنين، وقد زرعت للحرث سنة أو أكثر، وانقضى إبان الزراعة، فكراء ما زرع للمستحق من يده، وما بقي فالمستحق بالخيار في فسخ العقد فيه وفي إمضائه، فلا يكون له الكراء على عدد السنين بل على حسب ما يراه أهل المعرفة، وذلك مجهول، واستشكل ذلك جماعة وكذلك قال ابن يونس وعياض واللخمي وغيرهم: إنه تجوز الإجارة بشرط أن يعلم ما يخصه وإلا أدى إلى البيع أو الكراء بثمن مجهول. ولعل قول المصنف: (كَجَمْعِ سِلْعَتَيْنِ) إشارة إلى ذلك؛ لأن مذهب ابن القاسم المنع إلا أن يقوماً ويدْخلا على ذلك، وقد يقال: فيما أجراه الشيوخ هنا نظر، والفرق بينهما أن الْغَرَر في جمع الرجلين سلعتيهما في البَيْع واقع في أصل العقد بخلاف هذه فإنه طارئ

بعد صحتها، وهذا وإن كان ظاهراً إلا أنه قد يقال: إنه لا يسلم أن الضرر الطارئ مغتفر عند ابن القاسم، فقد منع من التمسك بباقي الصفقة إذا استحق جلها للجهالة، ويحتمل أن يكون قول المصنف: (كَجَمْعٍ) ليس إشارة إلى ما ذكرناه بل إلى بيان كيفية التراجع، والله اعلم. وَيُحَدُّ الْوَاطِئُ الْعَالِمُ والْوَلَدُ رَقِيقٌ ولا ينسَبُ لَهُ يعني: وإذا وطئ الأمة المغصوبة عالماً بغصبها غاصبا كان أو غيره فهو زان، فلذلك كان ولده رقيقاً للمغصوب منه ولا ينسب له، وهذا بشرط أن تقوم البينة قبل الوطء على أن الواطئ أقرَّ بعلمه أن الأمة مغصوبة، أو تشهد الآن بينة أنه أقر عندهم قبل الوطء بعلمه، وأما إن لم يكن إلا مجرد إقراره الآن بأنه وطئ عالماً، فقال أهل المذهب: يُحدُّ لأجلِ إقرارهِ على نفسه بالزِّنا، ويلحق به الولد لحق الله تعالى وحق الولد في ثبوت النسب، وهي إحدى المسائل التي يجتمع فيها الحد وثبوت النسب. ثانيها: أن يشتري أخته أو من يعتق عليه ويولدها ثم يقر أنه وطئها عالماً بذلك. ثالثها: أن يتزوج امرأة ويولدها ثم يقر أنه كان طلقها ثلاثاً، وأنه تزوجها قبل زوج عالماً بالتحريم. رابعها: إن يتزوجها ويولدها وهي ذات محرم منه إما من نسب أو صهر أو رضاع ثم يقر على نفسه أن يتزوجها عالماً بتحريمها. خامسها: أن يتزوجها ويولدها ثم يقر أن له أربع نسوة غيرها وأنه تزوجها عالماً بتحريمها، وليس ذلك هذا على طريق الحصر، بل الضابط في هذا أن كل حد يثبت بالإقرار ويسقط بالرجوع عنه فالنسب ثابت معه، وكل حد لازم لا يسقط بالرجوع فالنسب معه غير ثابت.

وَيَضْمَنُ غَيْرُ الْعَالِمِ [583/أ] قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْحُكْمِ إِنْ كَانَ بَاقِياً إلا أَنْ يَاخُذَ فِيهِ دِيَةً فَيَكُونَ عَلَيْهِ الأَقَلَّ مِنْهَا أَوْ قِيمَةَ الْوَلَدِ حَيَّاً .... لا خِلاَفَ أنَّ الولَدَ هنا حرٌّ ثابتُ النسب ولكن يضمن الأب قيمتَه على المشهور، وعن مالك أنه يضمنه كما سيقوله المصنف، وقد تقدَّم جُلَّ هذه المسألة في النِّكَاحِ في الأمة الغارّة فراجعه. فَإِنْ أَخَذَهَا عَنْ عُضْوٍ غَرِمَ قِيمَتَهُ نَاقِصاً مَعَ الأَقَلِّ مِنَ النَّقْصِ والدِّيَةِ، وقَالَ الْمُغِيرَةُ: الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوَضْعِ .... أي: وإن أَخَذَ الدِّيَة عن عضو واحد غرم الأب قيمته يوم الحكم. قوله: (وقَالَ الْمُغِيرَةُ) راجع إلى قوله: (يَوْمَ الْحُكْمِ). وَكَانَ مَالِك يقولُ: لمستحقها أَخْذُها إنْ شَاءَ مَعَ قِيمَةِ ولَدِهَا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قِيمَتُهَا يَوْمَ اسْتَحَقَّهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قِيمَتُهَا وَحْدَهَا يَوْمَ وَطِئَهَا، قَالَ أَشْهَبُ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ .... تصور الأقوال ظاهر، وبالثالث أفتى مالك لما استحقت أم ولده إبراهيم، وتابعه عليه جماعة من أكابر أصحابه: كابن كنانة وابن دينار ثم رجع إلى الأول ابن كنانة وعليه مات، هكذا قال اللخمي والمازري: أم ولده إبراهيم؛ وقال ابن رشد: أم ولده محمد، قيل: وهو الصواب. ومنشأ الخلاف تقابل الضررين ولا يخفى عليك ذلك وأخذ ابن القاسم بالقول الأول أن له أخذها إن شاء وأخذ قيمة الولد، قال في المدونة: وعليه جماعة من الناس. وأخذ جماعة كثيرة بالقول: إنه ليس لسيدها إلا قيمتها وقيمة ولدها يوم الحكم به وهو الذي صدر به صاحب الرسالة، وأما الغارّة فالمشهور المعروف أنه له أخذها وأخذ قيمة

الولد، وحكى ابن الجلاب رواية أخرى أنه يأخذ قيمة الأم ولا شيء في الولد، وذكر المصنف أن القيمة في القول الثاني يوم الاستحقاق أي يوم الحكم، وفي الثالث: يوم الوطء. قال: في المدونة في القسم بعد ذكر القولين الأولين: ولو رضي المستحق بأخذ قيمتها وقيمة ولدها لم يكن للذي أولدها أن يأبى ذلك، ويجبر حينئذ في قولي مالك جميعاً على غرم قيمتها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق، وقال أشهب في الموازية: هذا خطأ وإنما كنت أقوله - لو قلت بهذا - عليه قيمتها يوم أحْبلها ثم لا قيمة له في ولدها؛ لأن في ملكه ولد، وقال المازري: أشار أشهب إلى بقاء قولي مالك مع رضا المستحق بأخذ القيمة، وسئل سحنون في العتبية عن رجل اشترى جارية فأولدها ثم استحقها رجل فدفعها إليه الذي أولدها ثم اشتراها منه بعد ذلك، هل تكون الجارية أم ولد أم لا؟ أو حتى يولدها بعد الاستبراء، فقال: إن كان دفعها إليه بقضاء قاض ثم اشتراها، فإنها تكون أم ولد بملكه الأول حين أولدها. فَإِنْ وَطِئَ بِالْمِلْكِ فَاسْتُحِقَّتْ بِحُرِّيَّةٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: لا صَدَاقَ لَهَا، وَاسْتُشْكِلَ وخُولِفَ، والْغَلَّةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَيْهِ .... الأمة إذا استحقت بعد الوطء فلا يخلوا إما أن تستحق بملك أو بحرية، فإن استحقت بملك فإن كانت ثيباً فلا شيء عليه، وإن كانت بكراً فقال مالك وابن القاسم: لا صداق لها، وهو المشهور المعروف، وقال المغيرة: لها الصداق. واختاره جماعة؛ لأن الوطء انتفاع بغير مملوكة ولا ضمان فيها، بخلاف المستحقة بملك فإن الوطء يجري مجرى غلات المضمون، وهذا وجه الإشكال الذي أشار إليه المصنف، فإن قيل: فهلا استغنى المصنف بقوله: (خُولِفَ) عن قوله: (اسْتُشْكِلَ) لأن من خالف قولاً، فقد استشكله، فجوابه يحتمل أن يكون المستشكل غير المخالف فإن

الإشكال إنما يكون غالباً عن عرض القول على أصول ذلك القائل والمخالف قد يخالف في الأصول ويوافق عليها أو يخالف في الإجراء عليها. قوله: (والْغَلَّةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَيْهِ) أي غلة هذه الأمة المستحقة، وكذلك العبد إذا استحق على هذا الخلاف، فعند مالك وابن القاسم: العبد إذا استحق بحرية منزلة على هذا الخلاف، فعند مالك وابن القاسم: لا يغرم الغلة، وعند المغيرة: يغرمها، ويحتمل أن يكون الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على الصداق، واستصوب اللخمي قول المغيرة؛ لأن الخراج إنما يكون بالضمان والحر لا يضمن، وإذا رجع بالغلة رجع المشتري عليه بالنفقة، بخلاف الأمة فإن الصداق إنما يستحق بأول الملاقاة، وكهذه المسألة أعني إذا استحقت بحرية، أما إذا استحق الأصل بحبس، فإنه لا ضمان فيه كالحرة، فقيل: غلته للمستحق منه ولأنه ضامن الثمن الذي دفع عند عدم البيع، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في العتبية، وقيل: إنه يرد الغلة؛ لأن ما اشتراه لو تلف رجع بالثمن، وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه علق الغلة بالضمان. ابن رشد: وبالأول جرى العمل عندنا. تنبيه: الغلة للمشتري في خمسة مواضع: إذا وجد البيع فاسداً فرده، أو وجد عيباً فرده، أو رد بفلس، أو أخذ بالشفعة، أو استحق، وكذلك من صار ذلك إليه من قبل المشتري ولا غلة لوارث إن طرأ عليه وارث مثله في المنزلة وأقرب منه، وإن لم يعلم؛ لأنه لم يكن ضامنا ويأخذ القادم الكل إن لم يحاب المستحق منه وإن حابَى فهو واهِب للمحاباةِ، فإن كان الواهب معسراً فاتفق على أن يرجع على المكتري، وإن كان موسرا فالمشهور أنه يرجع على المكتري إلا أن يكون له مال فعلى المكري، وقيل: إنما يرجع بذلك على المكتري إلا أن يعلم الآخر أن معه وارثاً، فيرجع عليه أخوه في عدم المكتري، وهذا على أن قول الغير

خلاف وإليه ذهب جماعة، وقال الشيخ أبو محمد: إنه وفاق وإن جواب ابن [583/ب] القاسم أن أخاه علم كما قال غيره. ابن القاسم: وأما إن سكن هذا الوارث أو زرع لنفسه ثم طرأ له أخ لم يعلم به، فالاستحسان أن لا رجوع لأخيه عليه بشيء بخلاف الكراء إلا أن يكون به عالماً فيغرم له نصف الكراء، وروي عن مالك أن عليه نصف كراء ما سكن، قالوا: وعلى قول ابن القاسم: لا رجوع عليه بثلاثة شروط: أن يسكن بنفسه، وأن لا يكون في نصيبه ما يكفيه، وأن لا يعلم، زاد ابن عبدوس: وأن يقدم الأخ بعد إبان الزراعة، ولهذا أفتى اللخمي في امرأة دَعَتْ زَوْجها للدخول فأنكر النكاح، فأثبتته عليه لما سئل هل لها عليه نفقة في أيام الخصام؟ بأنه لا نفقة عليه فيها إن كان ذلك من الزوج بتأويل وشبهه، وأما إن كان دافعها بباطل واضح؛ فإنه كالغاصب فلها النفقة فيها. وَفِيهَا: والْمُتَعَدِّي يُفَارِقُ الْغَاصِبَ؛ لأَنَّ الْمُتَعدِيَ جَنَاه عَلَى بَعْضِ السِّلْعَةِ والْغَاصِبُ أَخَذَهَا - كَكَسْرِ الصَّحْفَةِ وتَخْرِيقِ الثَّوْبِ .... لما كان المتعدي مفارقاً عند الأصحاب للغاصب، أراد المصنف أن يبين ذلك ونسب المسألة إلى المدونة لإفادة الحكم، أو لإشكاله فإنهم فرقوا في الحكم، والمعنى متفق، أو لأن ما ذكره في المدونة من الفرق لا يعم صور التعدي، فإن المكتري والمستعير إذا تعديا المسافة المدخول عليها متعديان وهل تعديا على مجموع السلعة لا بعضها؟ واعلم أنَّ أصحابنا فرقوا بين الغصب والتعدي بوجوه منها: أن التعدي جناية على بعض السلعة، والغصب جناية على جميعها. ومنها: أن المتعدي ضامن للسلعة من يوم التعدي؛ لأن يده كانت عليها بإذن ربها، أعني في المستأجر والمستعير، والغاصب ضامن من يوم الغصب.

ومنها: أن الغاصب يضمن السلعة في الفساد اليسير، والمتعدي لا يضمنها إلا في الكثير. ومنها: أن المتعدي يلزمه كراء ما تعدى عليه على المشهور كما تقدم. وقوله: (كَكَسْرِ الصَّحْفَةِ) مثال للتعدي. فَان كَانَ فَسَاداً كَثِيراً خُيِّرَ رَبُّه في أَخْذِهِ وَمَا نَقَصَهُ وبَيْنَ قِيمَتِهِ، قَالُوا: بَعْدَ رَفْوِ الثَّوْبِ، وشعبِ الْقَصْعَةِ - وَضُعِّفَ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُخَيَّرُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، ورَجَعَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيراً فَلَيْسَ لَهُ إِلا مَا نَقَصَهُ بَعْدَ رَفْوِ الثوب بِاتِّفَاقٍ، وقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مَا نَقَصَهُ، ولا يُفرقُ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وسَوَاءٌ الْحَيَوَانُ وغيْرُهُ .... حاصلُه أنَّ في التَّعَدِّي ثلاثَة أقوال: الأول لمالك: ليس عليه في التعدِّي إلا أرْش النقص، كان النقص يسيراً أو كثيراً، وإليه أشار بقوله: (وقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مَا نَقَصَهُ، ولا يُفرقُ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ) ثم رَجَعَ إلى الفرقِ بين اليسيرِ والكثير، ففي اليسير: لا يكون عليه إلا ما نقص، وفي الكثير: يخير بين أخذه بغير شيء أو يضمنه جميع قيمته، وقاله ابن القاسم أولاً، ثم رجع عنه إلى ما في المدونة، وأنَّ لهُ أخذُ النَّقص إنْ اختَارَ أخذه، وعلى هذا فاتفق في اليسير أنه ليس لربه إلا أخذ ما نقص بعد رفو الثوب وشعب القصعة، والرفو: خيطها. وقوله: (قَالُوا) يوهم تواطؤ أهل المذهب أو أكثرهم، وأن ما نقله ابن يونس عن بعض الأصحاب قال هذا القائل، وذلك بخلاف الجناية على الدَّابّة، فإنه ليس عليه ما تداوى به الدابة، والفرق بينهما أن ما ينفق في الثوب على المداواة غير معلوم، ولا يعلم هل ترجع كما كانت أم لا؟

والرفو: الخياطة معلوم ما ينفق عليهما ويرجعان كما كانا. ابن يونس: وهذا الذي ذكره في الفساد الكثير في الثوب أنه يأخذه وما نقصه بعد الرفو خلاف ظاهر قولهم، ووجه فساده أنه قد يغرم من رفوِ الثُّوْب أكثر من قيمته صحيحاً وذلك لا يلزمه، ألا ترى أن أشهب وغيره يقول: ليس له أن يغرمه ما نقصه بعد الرفو، وقد يبلغ ذلك ضعف قيمته؟ وما حكاه من عدم لزوم أجر الطبيب. ابن عبد السلام: وهو ظاهر المذهب، وحكى اللخمي في غرم الجارح أجر الطبيب قولين، قال: والأحسن أنه على الجارح كالرفوِ. وقوله: (فَإِنْ كَانَ يَسِيراً فَلَيْسَ لَهُ إِلا مَا نَقَصَهُ) قد تقدم أن هذا متفق عليه. وقوله: (بَعْدَ رَفْوِ الثوب بِاتِّفَاقٍ) يحتمل أن يعود على قوله: (فَلَيْسَ لَهُ إِلا مَا نَقَصَهُ)، ويحتمل أن يعود عليهما، ابن يونس: ولو قال قائل في اليسير: إنما عليه ما نقصه فقط لم أعبه؛ لأنه إذا أعطاه ما نقصه دخل الرفو في قيمة هذا النقص كما قالوا في من وجد أيضاً، وذلك شأنه أن له جعل مثله ولا نفقة له؛ لأن النفقة داخلة في الجعل. وقوله: (وسَوَاءٌ الْحَيَوَانُ وغيْرُهُ) أي في التعدي عليه، ثم أشار المصنف إلى حد اليسير من الكثير بقوله: وَالْكَثِيرُ: مَا أَفَاتَ الْمَقْصُودَ فَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ يَسِيراً كَقَطْعِ ذَنَبِ الْبَغْلَةِ وأُذُنِهَا، وقَطْعِ طَيْلَسَانِ ذِي الْهَيْئَةِ وجُبَّتِهِ وعِمَامَتِهِ وشِبْهِ ذَكِكَ بين المصنف الكثير؛ لأن اليسير يعلم منه؛ لأنه إذا كان الكثير ما أفات المقصود، فاليسير ما لم يفته، هكذا قال ابن القصار، ومعناه ما أفات الغرض المقصود؛ فإن كثير وإن كان في الصورة يسيراً؛ كما مثل به من قطع ذنب البغلة ونحوها من مركوب، مما يعلم أنه لا يركب مثل ذلك، ولا فرق بين المركوب والملبوس؛ كقلنسوة القاضي وطيلسانه

وعمامته، وهذه الرواية المشهورة عن مالك وفي الواضحة: لا يضمن إذا أفسد الأذن بخلاف الذنب. اللخمي: والأول أصوب؛ وشين ذهاب الأذن كثير [584/أ] لا يركبها أحد من القاضي والكاتب والشاهد، وعلى هذا فاتفق على الذنب واختلف في الأذن، والواو في قوله: وأذنها بمعنى أو؛ لأن المراد أن قطع الأذن ونحوه مفيتا، وكذلك الذنب على الرواية المشهورة. وقوله: (كَقَطْعِ ذَنَبِ الْبَغْلَةِ .. إلى آخره): يريد إذا كانت البغلة تراد للحمل كان صاحبها القاضي ونحوه أم لا، فقد قال مطرف وابن الماجشون: إذا قطع ذنب بغل أو حمار أو فرس فأراه ضمن جميعه؛ لأنه أبطل الغرض المقصود من مثله؛ وهو ركوب ذوي الهيئات، قالا: بخلاف العين والأذن - يرد العين الواحدة - فقد نصَّ ابن الماجشون في الثمانية في الفرس أنه إن فقأ عينه عليه ما نقصه وإن فقأ عينيه ضمنه. فروع: الأول: اختلف فيمن استحق شيئاً من الرباع والأصول هل عليه يمين أم لا؟ فالذي ذهب إليه مالك وجرى عليه العمل أنه لا يمين عليه، وقال ابن وهب وابن القاسم في العتبية: يحلف أنه ما باع ولا وهب؛ كالحيوان والعروض، واتفقوا على اليمين في غير الأصول. الثاني: إذا تعدى على عبد الغير تعديا فاحشاً وحكمنا بتضمينه القيمة ففي المدونة: يعتق عليه، ورواه ابن كنانة عن مالك، وقال مطرف وابن الماجشون: لا يعتق عليه؛ لأنه إنما مثل بعبد غيره، قالا: وليس للسِّيد أن يختار إمساكه ويأخذ ما نقصه، وقيد بعض القرويين الأول بأن يطلب ذلك سيد العبد وأما إن أبى فله أخذ العبد وما نقصه. ابن يونس: والصواب أن العبد يعتق أحب السيد أم لا؛ لأنه بالجناية عليه لا ينتفع به، فترك السيد قيمته إنما هو من باب الضرر وإخدام العبد المعتق، وقيمته تقوم مقامه.

الثالث: قال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: ولو تعدى على شاة بأمر قل لبنها، فإن معظم ما تراد له اللبن، ضَمِنَ قيمتها إن شَاءَ ربُّها وإنْ لم تَكن غزيرَةَ اللبن فإنما يضمن ما نقصها، وأما الناقة والبقرة فإنما فيهما نا نقصهما وإن كانتا غزيرتي اللبن؛ لأن فيهما منافع غير ذلك باقية. * * *

الشفعة

الشُّفْعَةُ: أَخْذُ الشَّرِيكِ حِصَّةً جِبْراً بِشِرَاءٍ عياض وغيره: وهي بتسكين الفاء، قيل: أصل ذلك من الشفع وهو ضد الوتر؛ لأن الشفيع يضم الحصة التي أخذها إلى حصته فتصير حصته حصتين، وقيل: من الزيادة؛ لأنه يزيد مال شريكه إلى ماله، ومنه قوله تعالى: (مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً) [النساء: 85]، قيل: يزيد عملاً صالحاً إلى عمله، وهو قريب من الأول، وقيل: من الشفاعة؛ لأنه يشفع بنصيبه إلى نصيب صاحبه. وقيل: كانوا في الجاهلية إذا باع الرجل حصته أتى المجاور شافعا إلى المشتري ليوليه مشتراه. وحدُّه اصطلاحاً ما ذكر فـ (أَخْذُ) جنس، وأخرج بإضافته إلى (الشَّرِيكِ) الجار فإنه لا شفعة له عندنا وبحصة ما يأخذ منه كاملاً مما لا شركة بينه وبينه فيه، وبالجبر ما يأخذه بالشراء الاختياري، وبالشراء ما يأخذه بالاستحقاق. واعترُض عليه بأن هذا الحد غير مانع لدخول ما يأخذه الشريك من شريكه من الحصص جبراً شراء في العروض وغيرها إذا كانت لا تنقسم ودعا أحدهما صاحبه إلى البيه، فإنه يعرض المشترك بينهما للبيع، فإذا وقف على ثمن فمن شاء منهما أخذه بذلك، وأجيب: بأنا لا نسلم أنه أخذ الآن حصة شريكه خاصة، وإنما أخذ المبيع كله بثمنه غير أنه أسقط عنه حصته. خليل: وأحسن من هذا أن يقال: لا نسلم أنه يأخذه هنا جبراً بل باختيار صاحبه؛ إذ له أن يزيد فوق ما أعْطَى شريكه، بخلاف الشفيع فإنه يأخذ الحصة بثمن المثل من غير زيادة ولا خيرة له بوجه. ولما كانت حقيقة الشفعة ما ذكر استلزم ذلك: مأخوذاً وآخذاً ومأخوذاً منه ومأخوذاً به، فكانت هذه الأربعة هي أركان هذا الباب، وتكلم المصنف عليها أولاً فأولاً:

الْمَاخُوذُ إِنْ كَانَ عَقَاراً مُنْقَسِماً غَيْرَ مُنَاقَلٍ بِهِ وَلا تَابِعٍ أُخِذَ اتِّفَاقاً يعني: إن كانت في المبيع المشترك هذه الشروط أخذ بالاتفاق. والعقار: الأرض، وقد يطلق عليها وعلى ما يتصل بها من بناء وشجر، واحترز به من الحيوان والعروض، فلا شفعة في ذلك عندنا، وحكى الإسفرايني من الشافعية عن مالك الشفعة في ذلك. عبد الوهاب وغيره: وهذا لا يعرفه أصحاب مالك. عبد الحميد وابن زرقون: ولعله رأى أقوال مالك في الحائط يباع شقص منه وفيه الحيوان والرقيق، أن فيه الشفعة في جميع ذلك فظن أن الشفعة عند مالك في كل شيء، ورأى قوله في الثوب المشترك أو غيره من العروض إذا أراد أحدهما البيع، أن شريكه أحق به بما وقف عليه من الثمن، فظن أن ذلك شفعة. المازري: ورأيت في مختصر ما ليس في المختصر ما يستقرأ منه أقوى مما قاله عبد الحميد؛ وذلك أنه إذا كان حائط بين الشريكين باع أحدهما نصيبه، وفي الحائط رقيق ودواب ليسوا لعمل الحائط، أن الشفعة في جميع ذلك، فأوجب الشفعة في الحيوان وإن لم يحتج إليه الحائط. قوله: (مُنْقَسِماً) أي: قابلاً للقسمة، واستعمل المصنف كما ترى المنقسم في القابل وإن فعل إنما يستعمل في ما حصل لا في القابل، واحترز بذلك مما لا يقبل القسمة إلا بضرر كالحمام ونحوه؛ فإن في ذلك خلافاً كما سيأتي. قوله: (وَلا تَابِعٍ): لا يريد إذا اشترى شقصاً مع سلع فإن هذه الصورة متفق على وجوب الشفعة فيها، وإنما احترز بذلك من الأنقاض في الأرض المحبَّسة أو المعارة كما سيأتي، ولا خلاف بين الأمة في وجوب الشفعة من حيث الجملة، وفي الموطأ مرسلاً:

«قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم ينقسم بين الشركاء فإذا وقعت الحدود فلا شفعة [584/ب] فيه». مالك: وعلى ذلك السنة التي لااختلاف فيها عندنا، وسئل ابن المسيب عن الشفعة هل فيها من سنة؟ فقال: نعم الشفعة في الدور والأرضين، ولا تكون الشفعة إلا بين الشركاء، وقال سليمان بن يسار مثل ذلك، وهذا دليل على أنه لا شفعة في غير العقار؛ لأن ضرب الحدود إنما يكون فيها، وقول ابن المسيب يبين هذا وفيه دليل على أنه لا شفعة لجار؛ لأن الحدود إذا ضربت يبقى جاراً، وقد نص في الحديث على نفي الشفعة في ذلك، قال في الاستذكار: قال جابر رضي الله عنه: «إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم ينقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة». أحمد بن حنبل رضي الله عنه: وهذا أصح حديث روي فيه، وقال ابن مَعِين: مرْسل مالكٍ أحبُّ إليَّ. وَالشَّجَرُ وَالْبِنَاءُ وَالْبِئرُ وَفَحْلُ النَّخْلِ تَبَعٌ لَهُ أي: (تَبَعٌ) للعقار؛ يعني أن هذه الأشياء وإن لم تكن من جنس الأرض، ولكنها لشدة اتصالها بها كالجزء منها، وأما (الْبِئرُ وَفَحْلُ النَّخْلِ) فلا يحتاج لهما هنا؛ لأن البئر جزء من الأرض، وفحل النخل من الشجر وإنما يختصان بحكم آخر وهو إذا قسمت وبقي الماء ثم يبيع فلا شفعة فيه، وفي العتبية: فيه الشفعة، واختلف هل هو اختلاف قول؟ وإليه ذهب الباجي، أو وفاق؟ وإليه ذهب سحنون وابن لبابة، ثم قال سحنون: معنى المدونة أنها بئر واحدة، ومعنى العتبية أنها آبار كثيرة. وقال ابن لبابة: معنى المدونة أنها بئر لا فناء لها، ومعنى العتبية أنها بئر لها فناء وأرض مشتركة يكون فيها القِلْد.

وعلى الخلاف فرأى الباجي أن الخلاف مبني على الخلاف في الشفعة في ما لا ينقسم، قال في البيان والمقدمات: وكان من أدركنا من الشيوخ يحملون ذلك على الخلاف، ويرون الاختلاف في ذلك جار على اختلاف قول مالك فيما هو متعلق بالأرض ومتصل بها كالنقص والنخل، وهذا بين، والله أعلم. وَفِي تَبَعِيَّةِ حَجَرِ الرَّحَاءِ: قَوْلانِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَحَجَرٍ مُلْقًى، وَقَالَ أَشْهَبُ: لَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: لا شُفْعَةَ فِيهِ .... أي: (وَفِي تَبَعِيَّةِ حَجَرِ الرَّحَاءِ) للأرض، والقولان لمالك، ورواية ابن القاسم عنه في المدونة وهي التي قال بها ابن القاسم، وبقول أشهب قال عبد الملك وابن وهب وابن سحنون. (وَقَالَ أَشْهَبُ: لَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: لا شُفْعَةَ فِيهِ) وهي عندنا في البنيان أثبت من الأبواب التي إذا شاء قلعها بغير هدم والشفعة تكون في حَديدِ الحائط ورقِيقِهِ، فكيف لا تكون في الرحى، قال في الموازية: وإن باع أحدهما مصابته فلشريكه الشفعة، وإن شاء فسخ بيعه إلا أن يدعوه البائع إلى المقاسمة فلا يفسخ حتى يقاسمه، فإن صار موضع الرحى للبائع جاز بيعه، وإن صار لشريكه انتقض بيعه أما لو نصبوا الرحى في غير أرضهم فلا شفعة فيها اتفاقاً. ابن راشد: وكذلك لا خلاف في الرحى إذا لم تكن مبنية أنه لا شفعة فيها، وعلى ما في المدونة ففيها: إذا بيعت معها الأرض أو البناء الذي نصبت فيه ففيها الشفعة دون الرحى بحصة ذلك، وسواء في ذلك رحى الماء والدواب، وأشار الباجي إلى أن الآلة كالرحى على القولين، واختلف الشيوخ في كلامه في المدونة فحمله التونسي وغيره: أنه لا شفعة في العليا والسفلى.

عياض: وهو ظاهر كلامه، وهو تأويل أكثر الشيوخ، ويحتج لهذا الفهم بتشبيهها بالحجر الملقى، ورأى ابن وهب ذلك صريحاً. وقال بعض القرويين: إنما نفى في المدونة الشفعة في العليا وأما السفلى ففيها الشفعة وهي من البناء كقدور الحمام. ابن رشد في أكرية الدور: وهي تفرقة لا معنى لها؛ إذ لا ينتفع بأحد الحجرين دون الآخر. عياض: وأما الدار إذا بيعت وفيها مطاحن فاتفقوا أنها إن كانت غير مبنية أنها للبائع، وإن كانت مبنية فالسفلى للمشتري، واختلف في العليا، وهذا يرد من جعلها كحجر ملقى، قال بعض الشيوخ: والخلاف مبني على الخلاف في الشفعة في ما لا ينقسم إلا بفساده كالحمام والأندر، وقد اختلف قول ابن القاسم في المدونة في هذا، وعلى هذا يختلف فيها وإن بيعت بأرضِها ومناصبها لأنها لا تنقسم كما روي عنه في العتبية في مناصب الرّحى، وهذا خلاف المدونة فإنه نص فيها على وجوب الشفعة في بيتها وأرضها، وكذلك قالوا: إنه يختلف في ما إذا بيع حجرها وهو مبني. وقال صاحب المقدمات: إنما الخلاف إذا بيعت الرّحى مع غيرها وأمَّا إذا بِيعَت منفردة عن الأرض فلا شفعة فيها باتفاق، وخرج اللخمي وغيره على القول بنفي الشفعة في الرّحى قولاً بنفي الشفعة في رقيق الحائط ونحوه. وَالثَّمَرُ تَبَعٌ لِلشَّجَرِ مَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِخِلافِ الزَّرْعِ يعني: أن من اشترى نخلاً ثم قام الشفيع فإنه يأخذ النخل بثمرها وتكون الثمرة تابعة، ولم يفرق المصنف بين أن تكون الثمرة فيها حالة الشراء أو حدثت عنده، وفرض ابن عبد السلام المسألة على ما إذا لم تكن فيها في وقت الشراء ثمرة وليس بظاهر فإن هذه المسألة إما أن لا يكون فيها ثمرة أو ثمرة مأبورة أو مزهية، فإن لم تكن فيها ثمرة وقام الشفيع قبل الإبان فللشفيع الثمرة مع الأصل.

الباجي: باتِّفاق، وإن قام بعد الإبان فله أخذ الثمرة مع الأصل عند ابن القاسم، وقال أشهب: إن اشتراها مأبورة أو غير مأبورة ثم أبَّرها المبتاع فإنما يأخذ الشفيع الأصل فقط؛ لأن [585/أ] الثمرة تبع ومأبورة الثمرة للبائع، وأما إن كانت الثمرة يوم الشراء مأبورة أو مزهية فمذهب ابن القاسم أن فيها الشفعة ما لم تيبس أو تجذ، قيل: وليس في الأمهات ما لم تيبس، وقال فيها: فيما إذا بيعت الثمرة مفردة أن فيها الشفعة ما لم تيبس، وتأول بعضهم أن مذهبه فيها الفرق بين أن تباع مع الأصل ففيها الشفعة ما لم تجذ، وبين أن تباع مفردة ففيها الشفعة ما لم تيبس، والفرق قوة الشفعة في الأول؛ لأنها ثابتة بالإجماع، وقال مرة: هو اختلاف من قوله في الوجهين، وتأولها بعضهم على أن فيها ثلاثة أقوال: مالم تجذ، وما لم تيبس، والفرق، والذي تأوله عبد الحق وغيره أن مذهب المدونة ما لم تيبس مطلقاً، وعن مالك يأخذها الشفيع إذا كانت غير مأبورة يوم الشراء، وإن جذت أو يبست، وقال أشهب: إذا كانت مزهية فللشفيع أخذ الأصول دون الثمرة وهو مبني على أن الثمرة لا شفعة فيها. الباجي: واختلف المذهب في ما إذا بيعت مزهية هل تفوت الثمرة أم لا؟ وترد المكيلة أو الثمرة أو القيمة على قولين وعلى الفوات، فقال مالك مرة: تفوت بالجذاذ أو اليبس، وقال مرة: لا تفوت إلا بأن تجذ ولا يعرف كيها أو تجذ قبل طيبها، وإذا فات فالمشهور أنه يحط عن الشفيع، واتفق أنه لا يوضع لها شيء إذا لم تؤبر حصة الثمرة المزهية والمأبورة، وقال ابن الماجشون: لا يحط عنه من الثمرة شيء، وفي نظر. قوله: (بِخِلافِ الزَّرْعِ) أي: فلا يكون تبعاً للأرض، وهذا هو المشهور أنه لا شفعة فيه سواء بيع منفرداً أو مع الأصل. فرع: قال الباجي: وإن اشترى أرضاً مزروعة بزرعها وجاء الشفيع قبل ان ينبت أخذها بزرعها، فإن نبت أخذ الأرض دون الزرع، فإن أخذ الشفيع الأرض بزرعها؛ لأنه لم

ينبت فليأخذها بالثمن وبقيمة الزرع على الرجاء والخوف. وقال في الموازية: ولو قال قائل: يأخذها بالثمن وبما أنفق لم أُعبه، وهو أقيس واستحسن الأول، وقال محمد: يأخذها بالثمن وبقيمة ما أنفق من البذر والعلاج، وقال ابن القاسم: يأخذ الأرض والزرع بالثمن والنفقة، كمن اشترى نخلاً لم يؤبَّر فأخذه الشفيع بعد الإبار، وأما من اشترى أرضاً فزرعها فجاء الشفيع قبل أن ينبت الزرع فعلى مذهب ابن القاسم لا شفعةَ في الزَّرع جملة وعلى مذهب أشهب الشفعة في الأرض والزرع. ويحتمل قول ابن القاسم وجهين: أحدهما أنه يأخذ بالشفعة في الأرض، وإن لم ينبت الزرع على قول من أجرى الشفعة مجرى الاستحقاق. والثاني: ليس له أن يأخذ الأرض بالشفعة حتى ينبت على قول من أجراها مجرى البيع فإذا جاء الشفيع وقد نبت الزرع فلا شفعة في الزرع عند ابن القاسم، وقال في الموازية: له الشفعة إذا قام والزرع أخضر في الأرض والزرع جميعاً بل ليس له إلا ذلك، وقال أيضاً في موضع آخر له: الشفعة في الأرض دون الزرع وأنكر سحنون قول أشهب في الزرع وقال بقول ابن القاسم. وفي المقدمات: إذا طرأ الشفيع على الرجل في أرضه المبذورة قبل أن يطلع البذر مثل أن تكون الأرض بين الشريكين يبيع أحدهما نصيبه منها فيريد الشريك الأخذ بالشفعة وهي مبذورة قبل طلوع البذر فثلاثة أحوال: إمَّا أن يكون البذر للمشتري أو للبائع أو لأجنبي كمكتري الأرض ونحوه، فإن كان المشتري هو الباذر فيأخذها الشفيع، ويبقى البذر للمشتري على مذهب من يحمل الشفعة محمل البيع؛ إذ لا يصح للرجل أن يبيع أرضه وهي مبذورة، ويستثني بذره، وقيل: إنه يأخذه مع الأرض بقيمة البذر والعمل، وقيل: بقيمته على الرجاء والخوف بمنزلة العلاج في الثمرة وإن كان الباذر هو البائع

فيأخذها الشفيع مبذورة بجميع الثمن على القول الذي يرى في الزرع الشفعة، وعلى القول بنفي الشفعة فيه يأخذها بما ينوبها من الثمن بجميع الثمن على القول أن الشفعة كالاستحقاق، وعلى أنها كالبيع: فلا يأخذها حتى يبدو الزرع، وإن كان الباذر غيرهما فيأخذ الأرض بالشفعة دون البذر بجميع الثمن من غير إشكال، قال: وكذلك إن طرأ على الأرض والبذر قد نبت لا يخلو من الثلاثة الأحوال غير أن الوجهين يتسوي الحكم فيهما، وهو أن يكون البذر للمبتاع أو للأجنبي فيأخذ فيها الشفيع الأرض دون الزرع بما ينوبها من الثمن على القول الذي لا يبرأ الشفعة في الزرع، قال: وأما إن طرأ الشفيع بعد أن يبس الزرع فلا شفعة فيه ويأخذ الأرض بجميع الثمن، انتهى. ونص في البيان على أن المشهور من المذهب أن الشفعة تجري مجرى البيع لا الاستحقاق. وَفِي قِيمَةِ سَقْيِهَا وَإِصْلاحِهَا قَوْلانِ مذهب المدونة أنه يرجع بقيمة ما سقى وعالج. ابن المواز: ولو زاد على قيمة الثمرة، وقال أشهب: يأخذ الثمرة بقيمتها على الرجاء والخوف، ولو قال قائل: له قيمة ما أنفق لم أر به بأساً. قال عبد الملك وسحنون: ليس على الشفيع إلا الثمن؛ لن المنفق أنفق على مال نفسه فلا يرجع إلا بما له عين قائمة. وَفِي الثِّمَارِ، وَالْكِتَابَةِ، وَإِجَارَةِ الأَرْضِ لِلزَّرْعِ قَوْلانِ يعني: اختلف في قبوت الشفعة إذا بيعت الثمار مفردة، والقول بالشفعة لمالك وابن القاسم وأشهب ومعظم الأصحاب. مالك: وهو شيء استحسنته ولا أعلم أحداً قال به قبلي. [585/ب]

أشهب: لأنها تنقسم بالحدود كالأرض، والقول بنفي الشفعة فيها لابن الماجشون قال: لا شفعة ولو بيعت مع أصولها، ولأشهب قول ثالث: إن بيعت مع الأصول ففيها الشفعة لا إن بيعت مفردة، واختلف إذا بيعت مفردة فلمالك في المجموعة أن الشفعة فيها مالم تزايد الأصل، ولابن القاسم في المدونة: ما لم تيبس، كما تقدم قول ابن القاسم في العتبية: والمقاثي كالثمار، وكذلك الباذنجان والقطن والقرع، ولا شفعة في البقول. الباجي: يريد أن كلَّ ما له أصل تجنى ثمرته مع بقائه ففيه الشفعة. قال في البيان: ويتخرج في البقول الشفعة من القول بوجوبها في الثمرة ما لم تجذ. فائدة: لم يقل مالك بالاستحسان إلا في أربع مسائل: الأولى: هذه، والثانية: وجوب الشفعة من الأنقاض في الأرض المحبسة ونحوها. الثالثة: القصاص بالشاهد واليمين الرابعة: في كل أنملة من الإبهام خمس من الإبل. وقوله: (وَالْكِتَابَةِ) ليست هذه المسألة من معنى الشفعة؛ إذ ليس المراد أن أحد الشريكين يدخل على الأجر، وإنما المراد أن السيد إذا باع كتابته هل يكون المكاتب أحق بذلك أم لا. ابن راشد: والكتابة من ناحية الدَّين، والدين إذا بيع اختلف هل يكون من عليه هو أحق به أم لا؟ وظاهر المدونة أنه لا يكون أحق به، وعن مالك أراه حسناً، وما أرى أن يقضى به، وقال أشهب: يقضى به. أشهب: وكذلك الكتابة، وقيِّد في سماع أشهب كون المكاتب أحق بكتابته بما إذا بيعت كلها؛ لأنه يعتق، قال: فأما ما لا يعتق به فلا يكون أحق به؛ لأنه لا يرجع إلى حرية، وليس هذا

حقيقة الشفعة، ومن هذا المعنى ما في الموازية والعتبية في من له امرأة ثلثها حر وباقيها رق، وولادها منه كذلك، فأراد المولى بيعها فطلب الزوج أخذها، فذلك له؛ لأنَّ فيه منفعة الابن فليُباعا عليه، وذكر ابن حبيب عن مالك في أمة تحت حر له منها أولاد وفي حامل فبيعت مع أولادها، أنَّ الزوج أحقُّ بهم إن شاء ذلك ما بلغوا وقاله أصبغ، ومثل هذا في العتبية. ابن راشد: ولو لم يكن له منها ولد لكان المشتري أولى، والحامل مثل ذات الولد، وروى عبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قضى بالشفعة في الدين: وهو الرجل يكون له الدين على الرجل فيبيعه فيكون صاحب الدين أحق به»، زاد في طريق آخر: «وإذا أدى مثل الذي أدى صاحبه». قوله: (وَإِجَارَةِ الأَرْضِ لِلزَّرْعِ) لا يريد خصوصية هذه المسألة بل كل كراء والقولان لمالك، ومذهب ابن القاسم في المدونة سقوطها، وهو قول عبد الملك والمغيرة، وبوجوبها قال مطرف وأشهب وأصبغ. واختف أيضاً في المساقاة كالكراء والأقرب سقوطها في هذا الفرع؛ لأن الضرر فيها لا يساوي الضرر في العقار الذي وجبت الشفعة فيه. وَفِي الْبِنَاءِ الْقَائِمِ فِي أَرْضِ الْحَبْسِ وَالْعَارِيَةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ - قَوْلانِ، ويُقَدَّمُ الْمُعِيرُ بِالأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ النَّقْضِ أَوِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَبَى فَلِلشَّرِيكِ بِالثَّمَنِ يعني: أن البناء إذا كان بين شريكين مشاعاً ولا ملك لهما في العرصة كما كانت محبسة أو معارة فباع أحدهما، فهل للآخر الشفعة أم لا؟ قولان: المشهور وجوب الشفعة؛ وهي إحدى مسائل الاستحسان كما تقدم، وقال ابن المواز: لا شفعة في ذلك. واعلم أنه اختلف أولاً، هل يجوز هذا البيع وهو المشهور أو لا؟ وهو الذي رواه أشهب، وقاله سحنون؛ لأن المعير يقدم عليه، وله أن يبقيه ويعطي قيمة نقضه، أو يأمر

بقلع بنائه، فلم يدر المبتاع ما اشترى نقضا أو ذهبا أو ورقا، وإلى هذا الخلاف أشار بقوله له: على جواز بيعه. وعلى الجواز فقال المصنف: يقدم المعير إلى آخره، وهو كقوله في المدونة: وإذا بنى رجلان في عرصة رجل بإذنه ثم باع أحدهما نصيبه من النقض فلربِّ الأرض أخذ ذلك النقض بالأقل من قيمة النقض أو الثمن الذي باعه به، فإن أبى فلشريكه الشفعة بالضرر، والضرر أصل الشفعة، وقد علمت أن قول المصنف بالأقل من قيمة النقض أو الثمن، وهو مذهب المدونة، وزاد عياض وغيره قولين: أحدهما أنه يأخذه بقيمته مقلوعاً فقط. والثاني أنه يأخذه بالثمن فقط؛ ثم اختلف فقيل: يأخذه من المبتاع، وقيل من البائع بالأقل من قيمته أو الثمن، ويفسخ البيع بينه وبين المبتاع، فيرجع على البائع بما دفع له. عياض: وجميع هذه الأقوال متألوة للشيوخ على المدونة. أبو الحسن: وظاهر المدونة أنَّه لا يكون على المعير إلا قيمة النقض سواء مضى زمان تعار تلك الأرض في مثله أم لا، لكن قيدها أبو عمران بما إذا مضى زمان تعار فيه، وإلا فله قيمة بنائه قائماً. أبو عمران: وهكذا وقع لسحنون. أبو الحسن: وهو مشكل؛ لأنه وإن لم يمض أمد ما يُعار إلى مثله، فقد سقط حقه في بقية المدة إذا أراد الخروج فكان مثل ما إذا مضى أمد ما يعار إلى مثله، وهذا كله في العاريِّة المطلقة، وأما المقيدة بزمان ولم ينقض، فقال ابن رشد: إن باع قبل انقضاء أمد العارية على البقاء، فللشريك الشفعة، ولا مقال لرب الأرض ولو باعه على النقض قُدِّم رب الأرض كما تقدم.

خليل: وينبغي أن يتفق في الأحكام التي عندنا بمصر أن تجب الشفعة في البناء القائم فيه؛ لأن العادة عندنا أن [586/أ] رب الأرض لا يخرج صاحب البناء أصلاً، فكان ذلك بمنزلة مالك الأرض، وقاله شيخنا رحمه الله تعالى. وَفِي غَيْرِ الْمُنْقَسِمِ كَالْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لِضَرَرِ الشَّركَةِ أَوْ لِضَرَرِ الْقِسْمَةِ .... يعني: وفي الشفعة فيما لا يقبل القسمة إلا بضرر (قَوْلانِ) وهما لمالك. ابن عبد السلام: وفي المدونة ما يدل على كل واحد منهما، انتهى. وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرّف وابن الماجشون واصبغ. صاحب الوجيز: وعدم الشفعة هو المشهور. صاحب المعين: وبه القضاء وأفتى فقهاء قرطبة به لما جمعهم القاضي منذر بن سعيد؛ إذ كان به القضاء عندهم، فرفع الشفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد وقال: حكم علي بغير قول مالك، فوقع بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك، ويقضي له به، فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء، وشاورهم فقالوا: مالك يرى في الحمَّام الشفعة، فقضى منذر بذلك وحكم له بها، وقال ابن حارث: وأخبرني من أثق به أنه جرى العمل عند الشيوخ بقرطبة بإيجاب الشفعة. وقوله: (كَالْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ): أي من الأبرجة والآبار والعيون والشجرة الواحدة وشبه ذلك ومنشأهما ما أشار إليه المصنف وهو أن الشفعة إنما شرعت لدفع الضرر، وهل ذلك لدفع ضرر الشركة؟ فتجب الشفعة في ذلك حتى لا يضر بالشريك الداخل، أو إنما ذلك لدفع ضرر القسمة؛ لأن أخذ الشركاء له به طلب الباقين بالقسمة، فإذا اشترى أجنبي من أحدهم خشي الباقون أن يدعوهم المشتري إلى القسمة، وقد يكون

ذلك مضرّاً بهم؛ لأن كل واحد يحتاج إلى استحداث مرافق في نصيبه غالباً فشرعت الشفعة لرفع هذا الضرر، وعلى هذا فلا شفعة فيما لا ينقسم، لعدم حصول هذا الضرر فيه، والأول أظهر للاتفاق على وجوب الشفعة في ما ينقسم من حيث الجملة إلا أنه لا يمكن فيه القسم لكثرة الشركاء، وتنازعا في قوله عليه السلام: «الشفعة فيما لا ينقسم» هل المعنى عام فيما يقبل القسمة وما لم يقبلها؟ أو هو مقصور على ما يقبلها؛ لأن نفي الصفة عن الذات يستدعي قبولها، ولهذا لا يقال: الأعمى لا يبصر، ومن منع ذلك استدل بقوله تعالى (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ) [البقرة: 255]. وفِي الْمُنَاقَل بِهِ - وَهو أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ بِحِصَّةٍ أَوْ دَارٍ وزِيَادَةٍ - ثَالِثُهَا: إِنْ عُلِمَ الْقَصْدُ للسُّكنَى فَلا شُفْعَةَ، ورَابِعُهَا: إِنْ نَاقَلَ بِحِصَّتِهِ حِصَّةً لِبَعْضِ شُرَكَائِهِ فَلا شُفْعَةَ .... لم يختلف في وجوب الشفعة إذا بيع الشِّقص بعين أو عرَض، واختلف إذا بيع بحصة أخرى أو دارٍ كاملة لأجنبي أو بعض شركائه، فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وجوب الشفعة في ذلك. ابن القاسم في العتبية: وهو الشأن قال في البيان: وهو الصحيح؛ لأنه بيع فكان كغيره، والقول بعدم الشفعة مطلقاً لم أره، ولعلَّ صاحبه رأى أن المناقلة من باب المعروف. والقول الثالث: هو الذي كان مالك يقول: إنه إن أراد بالمناقلة السُّكنى ولم يرد البيع لا شفعة في ذلك وقاله ربيعة. والقول الرابع عده المصنف خلافاً، وهو أمر يحتمل؛ لأن الذي نقله العتبي وتبعه اللخمي وابن رشد وغيرهما أن مطرف وابن الماجشون قالا: إن المناقلة التي قال مالك:

لا شفعة فيها إنما هي إذا باع الرجل شقصه من شريكه بشقص له فيه شرك فيكون كل واحد إنما أراد التوسع في حصته بما صار إليه، فأنت ترى أنهما إنما ذكرا ذلك على وجه التقييد لكن يحتمل ألا يكون مالك قصد ذلك فيكون خلافاً، ولعل ما نقلاه من قول مالك بنفي الشفعة هو القول الثاني من كلام المصنف. المتيطي: وبرواية مطرف القضاء، وكان ابن القاسم يقول: إنَّ مالكاً رجع عنه وهذا يدل على أن رواية مطرف خلاف في الوجهين، وفي المناقلة الشفعة سواء كانت بين الشركاء أو الأجانب، وقيل: ثابتة بين الأجانب ساقطة بين الشركاء، وهو المشهور، والله أعلم. وَلا شُفْعَةَ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ حَيَوَانٍ وعَرُوضٍ، وَمَمَرٍّ، وَمَسِيلِ مَاءٍ تصوره ظاهر، وحكى بعض الحنفية عن مالك وجوب الشفعة في السفن؛ لأنها تبشه الربع. ابن عبد السلام: وهو لا يصح، نعم تجب الشفعة عند أهل المذهب في رقيق الحائط ودوابِّه على أن بعض الشيوخ خرَّج في ذلك خلافاً من الخلاف في حجر الرحى. ابن عبد السلام: ولا يبعد أن يخرج في الممر والمسيل الخلاف في النخلة الواحدة وشبهها. فرعان: الأول: لا شفعة لذي علو على سفل ولا بالعكس. الثاني: اختلف في الجدار المشترك بين الدارين، ففي المدونة: فيه الشفعة. ابن شبلون: معناه إذا بيع مع شيء من الدار لا أن يبيع وحده. اللخمي: وعلى أصل أشهب لا شفعة؛ لأنه منع أن يقسم وإن حمل القسم، وقال: يبقى مرتفقا لهما يحمل كل واحد منهما خشبة عليه.

المتيطي: وإذا قلنا بالشفعة فيه فإن الشفعة تكون فيه بحصته من الثمن بعد التقويم، قاله غير واحد من الموثقين، قال: إنْ كان الحائط لبائع الدارِ والجار حمل خشبة عليه فالشفعة له بذلك، وحمل غير ابن شبلون المدونة على ظاهرها من وجوب الشفعة في الجدار وإن بيع مفرداً وهو الظاهر، وقال ابن نافع: لا شفعة في الجدار. وتَسْقُطُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُقَاسَمَةِ وَالسُّكُوتِ وَهُوَ يَبْنِي وَيَهْدِمُ وَيَغْرِسُ .... (صَرِيحِ اللَّفْظِ) كما لو قال: أسقطت شفعتي أو: لا آخذ بها ونحو ذلك، قال في البيان: وإن سلم الشفيع بعد البيع فلا مقال له علم الثمن [586/ب] أو جهله. ابن يونس: إلا أن يأتي من ذلك ما لا يكون ثمناً لقلته فلا يلزمه تسليمه. قوله: (وَمَا فِي مَعْنَاهُ) ظاهر التصور، وصرح بعض الشيوخ بنفي الخلاف من المقاسمة، أعني مقاسمة الشفيع للمشتري وأما مقاسمة الشفيع لغيره ففي المدونة عن مالك: من اشترى شقصا من دار وله شفيع غائب فقاسم الشريك ثم جاء الشفيع فله نقض القسم وأخذه؛ إذ لو باعه المشتري كان للشريك رد بيعه، وقاله ابن القاسم وأشهب، وفي الموازية مثل ذلك وإن كانت المقاسمة من السلطان. أشهب: وإنه ليأخذ بالغالب أن ليس له رد القسم؛ لأنهم قاسموا من يجوز قسمه، وقال سحنون: يمضي القسم وللشفيع أخذ ما وقع للمبتاع في القسمة بالشفعة، ومنع بعض الشيوخ من مقاسمة المشتري إذا كان الشريك غائباً؛ لدخول المشتري على أن للغائب حقا في الشفعة فكيف يقاسم؟ وأشار بعض الشيوخ إلى أن المذهب اختلف في دلالة الهدم والبناء والغرس على إسقاط الشفعة.

فرع: وإن سلم على صفة ثم تبين خلافها فله الأخذ، ففي المدونة: وإذا أخبر الشفيع بالثمن فسلم ثم ظهر أن الثمن أقل فله الأخذ ويحلف لاحتمال أنه سلم كراهية في الأخذ، وقال أشهب: لا يمين عليه لظهور سبب تسليمها، وفيها: إذا قال له: وقد ابتاع فلان نصف نصيب شريكك ثم قال له: قد ابتاع الجميع فله الأخذ، ابن يونس: لأنه يقول: لم يكن لي غرض في أخذ النصف لبقاء الشركة، فلما علمت أنه أخذ الكل، أخذت لارتفاع الشركة، وقال أشهب وابن المواز: يلزم إسلام جميع النصف، وإنّما له أن يأخذ النصف الآخر، وفي المدونة: إن قيل له: قد اشترى فلان فسلم ثم ظهر أنه قد ابتاعه مع آخر فله القيام وأخذ حصتهما؛ لأنه يقول: إنما رضيت بشركة هذا، وقال أشهب: يلزمه التسليم للذي أسلم له، ويأخذ حصة الآخر إن شاء ثم تكون الحصة التي أسلمها أولا بين المشترين؛ لأنهما اشتركا في اشترائهما دفعة واحدة وإن رضيا بالتمسك بما سلم وإن شاء ألزماه أخذ ما سلم أو يسلم لهما جميعاً الشراء. وَكَذَلِكَ شِرَاؤُهَا، ومُسَاوَمَتُهَا، ومُسَاقَاتُهَا، واسْتِئْجَارُهَا خِلافاً لأَشْهِبِ لما ذكر ما يدل على إسقاط الشفعة باتفاق، أتبعه بما هو مختلف فيه، وكلامه يدل على أن أشهب يخالف في الجميع، وكذلك قال ابن شاس، وقال ابن عبد السلام: لا يتصور الخلاف في الشراء؛ لأنه إذا اشترى منه فإن شفع بالصفقة الأولى، فذلك يستلزم فسخ الثانية مع إبطال الصفقة الأولى، ودليل الرضا بها موجود، وإن شفع بالصفقة الثانية فقد أبطلها، ولا فائدة في الانتقال من الشراء الثاني إلى الشفعة بثمنه. خليل: وانظر لو اشترى الشفيع الحصَّة جاهلاً بحكم الشفعة هل يعذر بذلك أم لا؟ ومذهب المدونة أن شفعته تسقط بالكراء والمساقاة والمساومة؛ لأنه ملك أخذه بغير كراء ولا مُساومة ولا مساقاة، وحكى ابن المواز عن أشهب ما حكاه المصنف عنه وهو ظاهر

في المساومة؛ لأن من حجة الشفيع أن يقول: إنما ساومته رجاء أن يبيعني بأقل وإلا فلي أن أرجع إلى الشفعة وإلى هذا أشار اللخمي، قال: ويحلف ثم يأخذ بالشفعة. وقيد اللخمي هذا الخلاف بما إذا كان الكراء والمساقاة ينقضي أمدهما قبل السنة من يوم العقد، وأما إن كان لا ينقضي إلا بعدهما فلا شفعة بالاتفاق وهذا إذا انعقد الكراء مع الشفيع، فإن انعقد بين المشتري وغير الشفيع، فاختلف الأندلسيون هل للشفيع أن ينقض العقد أو لا؟ وهو الذي تدل عليه المدونة عندهم، أو يفرق بين الأجل القريب والبعيد، وعلى تقدير ألا ينقضي فالكراء للمشتري، ويؤخذ من إسقاطه في المدونة الشفعة بالكراء أن الشفيع إذا قاسم المبتاع الأرض للحرث أنه تسقط الشفعة؛ لأن كل واحد أكرى نصيبه من صاحبه، وقاله ابن عبد الغفور ولو قاسمه الغلة، فقال ابن القاسم: لا تسقط وقال أشهب: تسقط كما لو قاسمه بالخرص فيما يخرص للحاجة وأما إن جذت الثمرة فاقتسماها بالكيل فلا يقطع ذلك شفعته. وفِي بَيْعِ الْحِصَّةِ الْمُسْتَشْفَعِ بِهَا قَوْلانِ يعني: إذا وجبت الشفعة للشفيع فهل من شرط ذلك بقاء حصته بيده حين الأخذ وهو مراده بقوله: (الْمُسْتَشْفَعِ بِهَا) أو لا وله الأخذ وإن باع حصته (قَوْلانِ) وهما لمالك، واختار أشهب وغير واحد القول بسقوط الشفعة؛ لأنها إنما وجبت للضرر. ابن عبد السلام: وظاهر قول ابن القاسم التفرقة بين أن يبيعه غير عالم فالشفعة له وبين أن يبيعه عالما فلا شفعة له، وفي البيان: ظاهر ما في المدونة أنه لا شفعة له إذا باع نصيبه، وإن باع غير عالم؛ لأنه قال في من باع شقصاً بخيَار ثم باع صاحبه بتلا أنَّ الشفعة لمشتري الخيار على مشتري البتل، ونسب التفرقة بين أن يعلم أو لا لابن القاسم في سماع عيسى، قال: وعلى الإسقاط فإن باع حين حطه فله الشفعة بقدر ما بقي من حظه، ووقع اختلاف

قول مالك في هذا في كتاب ابن عبدوس، وقال أشهب: أحب إلى ألا شفعة له بعد بيع نصيبه أو بعضه؛ لأنه إنما باع راغباً في البيع، وإنما الشفعة للضرر، فلم يكن له شفعة فهو قول رابع، ونص ابن ميسر على أنه إذا باع لا شفعة له إلا أن تبقى له بقية أخرى، قال في البيان: وقوله: إلا أن تبقى له بقية [587/أ] أخرى. يحتمل: فله الشفعة بقدرها ما بقي كأحد قولي مالك وظاهر ما في المدونة، ويحتمل أنيريد: إلا أن تبقى له بقية أخرى فله أخذ الجميع، فيكون قولاً خامساً. قال: وأظهر هذه الأقوال كلها الفرق بين أن يبيع عالماً ببيع شريكه حظه أو غير عالم، وقال اللخمي: اختلف بعد القول: إن الشفعة تسقط إذا باع بعض نصيبه هل تسقط من الشفعة بقدر ما بع؟ والذي رأى أن يشتفع بالجميع؛ لأن الشفعة تجب بالجزء اليسير في الكثير المبيع. وَفِي تَرْكِ الْقِيَامِ مَعَ عِلْمِهِ حَاضِراً ثَالِثُهَا: تَسْقُطُ بَعْدَ مُضِّي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، قِيلَ: سَنَةٌ، وقِيلَ: فَوْقَهَا، وقِيلَ: فَوْقَ ثَلاثٍ، وقِيلَ: فَوْقَ خَمْسٍ أي: إذا ترك القيام مع علمه ولم يأخذ بالشفعة فهل يكون ذلك إسقاط الشفعة أم لا؟ والقول بالسقوط لابن وهب، ورأى أن الأخذ بالشفعة على الفور كالردِّ بالعيب، والقول بأنه لا يسقط حقه مطلقاً لمالك. الأبهري: وهو القياس؛ لأنه حق ثبت له. فلا يسقطه سكوته، والثالث هو المشهور تسقط بعد مضي مدة طويلة، واختلف في حدِّها، فروى أشهب: السنة ولا شفعة بعدها، وهو مذهب الرسالة. المتيطي: وعليه العمل، وبالغ أشهب في هذا القول: فقال: إذا غربت الشمس من آخر أيام السنة فلا شفعة، ومذهب المدونة أن ما قارب السنة له حكمها.

قال في الوثائق: الشهر والشهران، وبه قال بن الهندي، وحكى العبدري ثلاثة أشهر، وقال ابن سهل: أربعة أشهر، وقال أصبغ في الواضحة: هو على الشفعة ثلاث سنين ونحوها. وقال مطرف وابن الماجشون في شفيع حاضر قام بشفعته بعد خمس سنين، وربما قيل له أكثر من ذلك، فقال: لا أرى هذا طولاً ما لم يحدث المشتري بناء. ونحوه لعبد الملك في المبسوط أن العشر سنين لا تقطع الشفعة وإنما يقطعها ما زاد على ذلك كالحيازة، وروي عن أبي عمران ثلاثون سنة. وقال بعضهم: خمس عشرة سنة؛ قال في المقدمات: وكان ابن الماجشون يقول بإيجاب الشفعة للحاضر إلى أربعين سنة ثم رجع إلى العشرة. ابن عبد السلام: وهل يحلف ما كان وقوفه تركاً للشفعة في السنة؟ نقل الكافي عن مالك أنه إن قام عند رأس السنة فلا يحلف، وروي عنه أنه يحلف ولو قام بعد جمعة. وفي المدونة: ولم ير مالك التسعة أشهر، وفي رواية لا السبعة أشهر كثير ولا السنة كثير، أي قاطعاً لحقِّه في الشفعة؛ لأنه إن تباعد هكذا يحلف ما كان وقوفه تركاً للشفعة، وفي الموازية عن مالك: يحلف في سبعة أشهر أو خمسة لا شهرين. ابن العطار وابن الهندي وغيرهما من الموثقين: وظاهر المدونة أنه لا يحلف في السبعة أشهر، وحمل ابن رشد المدونة على أنه يحلف في السبعة. تنبيه: ما ذكرناه أن للشفيع القيام بالشفعة بعد سنة أو أكثر على الخلاف إنما هو إذا لم يحضر البيع، وأما إن حضر وكتب شهادته ثم قام بعد عشرة أيام، فروي عن مالك أنه يحلف ما كان ذلك منه تركا للشفعة ويأخذها.

المتيطي: قال غير واحد من الموثقين: ولم يصحب هذه الرواية عمل. قال في البيان: وتحصيلها إن لم يكتب شهادته به، فإن أقام في القرب كالشهر والشهرين فله الشفعة بلا يمين، وإن لم يَقُمْ إلا بعد السبعة أو التسعة أو السنة فله الشفعة بيمين على ما في المدونة؛ وإن طال الأمدُ أكثر من السنة فليس له الشفعة، وإن كتب شهادته وقام بالقرب كلاعشرة أيام ونحوها فله الشفعة بيمين وإن لم يقم إلا بعد شهرين فلا شفعة. خليل: وانظر هذا مع قوله في المدونة: وإذا علم بالاشتراء فلم يطلب شفعته سنة فلا يقطع ذلك شفعته، وإن كان قد كتب شهادته في الاشتراء، فلم يطلب شفعته سنة فلا يقطع ذلك شفعته، وإن كان قد كتب شهادته في الاشتراء، فإن ظاهره أنه لا فرق في ذلك بين أن يكتب شهادته أم لا، خلاف ما حصله ابن رشد. فرعان: أولهما: لو اختلف المبتاع والشفيع في مرور السنة، فالشفيع مصدق مع يمينه إذا لم تقم بينة. الثاني: لو أنكر الشفيع العلم وهو حاضر فقال أبو الحسن عن ابن القاسم وأشهب: إنه يصدق وإن طال؛ لأن الأصل عدم العلم، المتيطي: وهو ظاهر المذهب وقاله غير واحد من الموثقين، ويحلف على ذلك. محمد بن عبد الحكم وابن المواز: يصدق ولو بعد أربعة أعوام. ابن المواز: فإن الأربعة كثير ولا يصدق في أكثر منها. فائدة: في المذهب مسائل حُدَّ فيها بالسنة: هذه، واللُّقَطَة، والمعترض لتمضي عليه الأزمنة، وكذلك المجنون، والأجذم، والأبرص، والمستحاضة عدتها سنة، وكذلك المرتابة، والمريضة،

والجُرح لا يحكم فيه إلا بعد السنة لتمضي عليه الفصول الأربعة، والبنت تقيم عند زوجها سنة ولم يصبها ثم تطلق فإنها لا تجبر بعد ذلك، واليتيمة تمكث في بيتها سنة فإنها تحمل على الرشد على قول، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: لا يجوز فعلها أبدا إلا بالبينة على الرشد والذي يوصي بشراء عبد ليعتق وأبى ربه البيع، فإنه يستأني سنة، وإذا قام شاهد بالطلاق فأبى أن يحبس سنة ثم يخلى مع امرأته وقيل: تطلق بالنُّكول والحيَازة إذا حاز الموهوب الهبة سنة صح الحوز فيها، وإن رجعت إلى الواهب على المشهور والزكاة والصوم لا يجبان إلى بعد السنة، والعمرة لا يباح فعلها على المشهور في السنة إلا مرة، وعهدة السنة والشاهد إذا تاب من فسقه قيل: لا بد من مضي ستة أشهر، وقيل: لا حدَّ لذلك إلا بحسب ما يعلم عنده. [587/ب] والْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ، فَإِذَا قَدِمَ فَكَالْحَاضِرِ مِنْ حِينِ قُدُومِهِ يعني: أن الغائب على شفعته علم أو لم يعلم إلا أن يصرح بإسقاطها أو ما في معنى ذلك كما لو أمر بالمقاسمة معه ونحو ذلك، وقيد أشهب هذا إذا لم يكن موضعه قريباً، قال: وأما إن كان قريباً لا مؤنَة عليه بالنهوض، فطال زمانه بعد علمه بوجوب الشفعة، فهو كالحاضر. وقال غيره في المجموعة: وليس المرأة الضعيفة ومن لا يستطيع النهوض في ذلك مثل غيرهم، وإنما فيه اجتهاد السلطان. مطرف وابن الماجشون: والمريض والحاضر والصغيرة والبكر كالغائب، ولهم بعد زوال ذلك العذر ما للحاضر سواء كان المريض أو الغائب عالما بشفعته أو جاهلاً. وقال أصبغ: المريض كالصحيح إلا أن يشهد في مرضه قبل مضي وقت الشفعة أنه على شفعته وأنه ترك التوكيل عجزاً عنه وإلا فلا شيء عليه بعد ذلك.

واختار ابن حبيب قول مطرف وابن الماجشون، وأخذ الباجي من قول أصبغ في المريض، أن الشفعة إنما تكون للغائب إذا لم يعلم وأما إن علم فلا يكون ذلك إلا بالإشهاد كالمريض، وحكى في الاستذكار عن جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم أنه ليس على الغائب إشهاد ولا يمين. وقوله: (فَإِذَا قَدِمَ فَكَالْحَاضِرِ مِنْ حِينِ قُدُومِهِ) تصوره ظاهر، ولو قيد هذا بما إذا لم يتقدم له علم في غيبته، وأما إن علم فلا يوسع له في الأجل كالحاضر لما بعد. وإِنْ عَلِمَ فَغَابَ فَكَالْحَاضِرِ هذا فيه إطلاق يقيد بما في المدونة ففيها: إن سافر الشفيع بحدثان الشراء فأقام سنين كثيرة ثم قدم فطلب الشفعة، فإن كان سفره يعلم أنه لا يؤوب منه إلا بعد أجل تنقطع فيه الشفعة للحاضر بجوازه فلا شفعة له، وإن كان سفراً يؤوب منه قبل ذلك، فعاقه أمر يعذر به فهو على شفعته، ويحلف بالله ما كان تاركا لشفعته أشهد عند خروجه أنه على شفعته أم لا. وقوله: بجوازه: كذا وقع في التهذيب، ونقله عبد الحق وغيره، ولا يسقط قبل المجاوزة لاحتمال أن يكون من يأخذ له ولو في طريقه. وقال اللخمي: متى سافر السفر المذكور سقطت شفعته ولو عاد بالقرب. وَوَلِيُّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ كَالشَّفِيعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَالغِائِبِ. يعني وحكم ولي المحجور عليهم من أب أو وصي كالشفيع في الأخذ والإسقاط والسكوت. المتيطي: ويلزمهما اليمين إذا قاما بعد شهرين من البيع كالأخذ لنفسه.

ابن عبد السلام: وهذا كالمتفق عليه في المذهب، إلا أن بعض الشيوخ حكى خلافاً في سقوط شفعة الموصى بسكوت الوصي عنها، فإن لم يكن له اب ولا وصي، نظر القاضي أو مقدمه فإن كان بموضع لا سلطان فيه، أو لم يرفع الأمر إلى السلطان فهو كالغائب، فيكون على شفعته إذا رشد ويمضي لذلك عام ونحوه على ما تقدم. قال في المدونة: ولو سلم من ذكرنا من أب أو وصي أو سلطان شفعة الصغير لزمه ذلك ولا قيام له إن كبر. أبو الحسن: وظاهرها كان الأخذ نظراً أو لا، وبه قال أبو عمران، وقال غير واحد من الموثقين: إن ثبت أن إسقاط الشفعة سوء نظر من الأب أو الوصي، وأن الأخذ بها كان نظراً فهو على شفعته، وفي الموازية: إذا علم من الوصي أنه ضيع من الأخذ بالشفعة وأن ذلك كان على غير حسن نظر، ومضى للبيع خمس سنين فلا شفعة للصغير إذا رشد. أبو عمران: وإن سلم القاضي شفعة الصغير، وليس ذلك بنظر، فإن ذلك لا يقطع شفعته؛ لأنه إنما يصير كأنه رفع إليه فلم يحكم وليس هو كالأب والوصي يسلمان الشفعة، فإن شفعته تسقط. المتيطي وابن راشد: وهو خلاف ما قاله مالك في الأب والوصي. وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالأخْذِ أَوْ الإِسْقَاطِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لا قَبْلَهُ يعني: وللمشتري مطالبة الشفيع بأحد أمرين: إما أن يأخذ بالشفعة، وإما أن يسقط لما يلحقه من الضرر بترك التصرف فيما اشتراه، ولهذا لا تكون له المطالبة إلا بعد الشراء وأما قبله فلا لعدم الضرر حينئذ. وَفِي إِمْهَالِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامِ قَوْلانِ أي: إذا طلب الشفيع الإمهال لينظر ويستشير لما وقفه المشتري فهل يمهل؟

قال في الموازية: ولا يمهل ولو ساعة واحدة. وقال أشهب في المجموعة والمتيطي وابن راشد: وهو المشهور المعمول به قالا تبعا لصاحب البيان. وظاهر المدونة أنه يؤخذ في النقد لا في الارتياء والقول بأنه يؤخر ثلاثة أيام لمالك في المختصر. اللخمي: وهو أحسن إذا كان إيقافه فور الشراء، قال في البيان: وقاسه ابن عبد الحكم على استتابة المرتد، والأول كقول مالك في الولي أنه لا يؤخر لينظر، وفي الزوجين الجوسيين يسلم الزوج، فإن يعرض الإسلام عليها ولا تؤخر، وكذلك المملكة يوقفها فإنها لا تؤخر، إما أن تقضي أو ترد. ولا يؤخذ المشهور من كلام المصنف، لأن قوله: (وَفِي إِمْهَالِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامِ) لا يؤخذ منه أن القول الآخر لا يمهل البتة لاحتمال أن يمهل يوما أو يومين، ابن المواز: وهذا كله إذا أوقفه الحاكم وأما إذا أوقفه غير السلطان فهو على شفعته حتى يوقفه السلطان أو يترك، وإن أخذ الشفعة وسأل التأخير في دفع الثمن، فإن يؤجل ثلاثة ايام قاله في المدونة وبه العمل والقضاء، وقال عبد الملك في الثمانية: يؤخر عشرة أيام ونحوها مما يقرب ولا يكون على المشتري فيه ضرر، وقال أصبغ: يؤجل على قدر المال في القلة والكثرة، وحاله في اليسر والعسر فيؤجل خمسة عشر يوماً، وأقصى ذلك الشهر [588/أ] إذا رآه الحاكم، ولا أدري ما وراء ذلك. فرع: وإذا كان المشتري غائباً وطلب الشفيع التأخير حتى ينظر، فقال مالك: ليس ذلك له وإن كانت الغيبة قريبة كالساعة أخر.

وَلَوْ أُسْقِطَ بِعِوَضٍ جَازَ أي: إذا وجبت الشفعة للشفيع فله أن يأخذ على ذلك العوض وهو ظاهر. وَلَوْ أَسْقَطَ قَبْلَهُ لَمْ يَلْزَمْ وَلَوْ بِعِوَضٍ أي: (لَوْ أَسْقَطَ) الشفيع الشفعة قبل شراء المشتري، فإن قال له: اشتر ولا شفعة لي عليك، لم يلزمه ذلك الإسقاط وكان له الأخذ بالشفعة بعد الشراء. ابن يونس: لأن من وهب ما لا يملك لم تصح هبته. أشهب وعبد الملك: كمن أذن له ورثته أن يوصي بأكثر من الثلث في صحته، فإن ذلك لا يلزمهم. اللخمي: ويجري فيها قول بلزوم ما التزم ممن قال: إن اشتريت عبد فلان فهو حر، وإن تزوجت فلانة فهي طالق، وقد قالوا في من قاله لزوجته: إن تزوجت عليك فأمر التي أتزوجها بديك، فأسقطت ذلك الخيار قبل أن يتزوج، أن ذلك لازم لها وهي في الشفعة مثله؛ لأنه أدخل المشتري في الشراء لمكان الترك ولولا الترك لم يشتر. قوله: (وَلَوْ بِعِوَضٍ) هو للمبالغة؛ لأنه إذا كان بعوض كان أقوى، وقد يقال: إذا كان بغير عوض يكون أقوى؛ لأن المعاوضة على ذلك قبل الشراء لا تجوز وما كان كذلك ففسخ بخلافه إذا كان بغير عوض، فإنه هبة وهي جائزة بالمجهول، وعلى هذا فلا يحسن قول المصنف: (وَلَوْ بِعِوَضٍ) نعم يحسن عكسه، وهو أن يقول: ولو كان بغير عوض، ونقل ابن بزيزة في اللزوم قبله قولين على لزوم الوفاء بالعهد. خليل: وقد يقال: هما على الخلاف فيما جرى سببه دون شرطه؛ لأن الشركة سبب والبيع شرط، والله أعلم.

الآخِذُ: الشَّرِيكُ وَالْمُحبِّسُ إِنْ كَانَتْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ وَإِلا فَلا، إِلا أَنْ يُرِيدَ الْمُحَبِّسُ أَوِ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ إِلْحَاقَهَا بِالْحَبْسِ فَقَوْلانِ .... هذا شروع منه في الكلام على الركن الثاني، واحترز بالشريك من الجار فلا شفعة له عندنا، والمحبس إنما ترجع إليه الحصة المحبسة إذا حبسها بمعنى العمرى كما إذا قال: أعمرتك داري فإنها ترجع بعد موت المُعمِر، وأما لو حبس فلان وعقبه، أنها لا ترجع على المحبس على المشهور بل ترجع حبساً على أقرب الناس بالمحبس يوم المرجع، وقيل: ترجع ملاكاً له. فعلى هذا القول الشاذ: للمحبس الشفعة، وعلى كل تقدير فكلامه ليس بظاهر؛ لأنه إن أراد المعمِّر فإطلاق المحبِّس مجازاً لا قرينة تدل على إرادته إلا أن يقول: القرينة ما ذكره في كتاب الحبس. وإن أراد المحبس في الصورة المذكورة فيكون كلامه على خلاف المشهور. (وَإِلا فَلا) أي: وإن لم يكن المحبس يرجع إليه فلا شفعة له باتفاق. قوله: (إلا أن يريد المحبس أو المحبس عليه) إلحاق الحصة المبيعة بالحبس (فَقَوْلانِ) ومذهب المدونة أن الشفعة للمحبس دون المحبس عليهم. اللخمي: لأنهم لا أصل لهم بخلاف المحبس. وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: للمحبس عليهم الأخذ بالشفعة إذا أرادوا إلحاق الحصة بالحبس، قال بعضهم: فعلى هذا لو أراد أجنبي أن يأخذ بالشفعة للمحبس كان له ذلك، وحكى اللخمي ثالثا أنه لا شفعة للمحبس وإن أراد الإلحاق واستحسنه؛ لأن المحبس أزال الملك، فكان كالأجنبي، وعلى هذا فلا شفعة للمحبس عليهم من باب أولى، واختلف في صاحب المواريث هل يأخذ الشفعة لبيت المال؟

فقال بعضهم: له الأخذ، ومنع ذلك ابن زرب، ورأى الأول خطأ، ورجح بمنعه في المدونة أنْ يكون للمحبس عليهم الشفعة، وليس لناظر وقف المسجد أنْ يأذنَ بالشُّفعة، واعترض كلام المصنف ابن زرب بما نص عليه سحنون في المرتد. وقد وجبت له شفعة إذ للسلطان أن يأخذها لبيت المال أو يترك، وأجاب ابن رشد في أجوبته بأنه إما كان ذلك للسلطان لعموم نظره بخلاف صاحب المواريث إلا أن يجعل ذلك بيده فيكون كالسلطان. فرع: وهل يجوز لأحد الشريكين أن يحبس حصته بغير رضا شريكه؟ اللخمي: إن كانت تحمل القسمة جاز؛ لأنه لا ضرر على الشريك في ذلك فإن كره البقاء على الشركة قَاسَم، وإن كانت لا تنقسم كان له رد الحبس للضرر الذي يدخل عليه؛ لأنه لا يقدر على بيع جميعها، وإذا فسد منها شيء لم يجد من يُصلح معه، وحكى ابن سهل في تحبيس أحدهما نصيبه لا ينقسم قولين. ولِلنَّاظِرِ أَخْذُ شِقْصٍ بَاعَهُ لِطِفْلٍ آخَرَ أَوْ لِنَفْسِهِ عياض وغيره: الشِّقص بكسر الشين المعجمة: النصيب، يعني للموصي على يتيمين إذا باع نصيب أحدهما أن يأخذ بالشفعة ليتيمه الأخر (لِنَفْسِهِ) إن كان شريكاً لكن يدخل معه نظر القاضي إذا أخذه لنفسه؛ إذ يتهم أن يبيع منفرداً كما لو بيع نصيب يتيمه بثمن بخس ليأخذه بالشفعة، وكذلك إذا باع نصيب نفسه وأراد أخذه ليتيمه فلا بد من نظر القاضي، وقد تقدم في غير موضع بيع عقار اليتيم فلا بد من مراعاة ذلك هنا ولا بد أيضا أن يكون الشقص المبتاع لليتيم لا يقل ثمنه إذا بيع منفردا ما لو بيع الجميع، وأما لو كان - وهو الغالب - إذا بيع جميع ذلك أوجر لنصيب اليتيم فيباع الجميع.

ويَمْلِكُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ بِالإِشْهَادِ أَوْ بِالْقَضَاءِ أي: (ويَمْلِكُ) الشفيع بأحد ثلاثة أوجه: إما بتسليم الثمن للمشتري وإن كان لم يرضَ أو بمجرد إشهاد بالأخذ أو بالحكم له بذلك، وهكذا في الجواهر، قال في البيان: وإذا وقف الشفيع فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أولها: أن يقول: أخذت، ويقول المشتري، سلمت ويؤجله الأيام في دفع الثمن، فإن لم يأت فليس لأحدهما الرجوع، وباع للمشتري من مال الشفيع حتى يفي. ثانيها: أن يقول: أخذت، وسكت المشتري، ويؤجله في الثمن، فلا يأتي به، فهذا إن طلب المشتري أن يباع له في الثمن فله ذلك، وإن أحب أخذ شقصه فله ذلك ولا خيار للشفيع على المشتري، وهذا الوجه في المدونة. وثالثها: أن يقول: إنا أخذنا أخذا، ولا يقول: أنا أخذت، [588/ب] ويؤجله المشتري الأيام في الثمن، فاختلف فيه إذا لم يأت بالثمن، فقيل: يرجع الشقص إلى المشتري إلا أن يتفقا على إمضاءه للشفيع، وقيل: إن أراد المشتري أن يلزم للشفيع الأخذ كان ذلك له وإن أراد الشفيع أن يرد الشقص لم يكن له ذلك، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى، وقول أشهب، والأول أبين. وَتُلْزِمُ إِنْ عُلِمَ الثَّمَنُ وَإِلا فَلا (وَتُلْزِمُ) الشفعة الأخذ إن علم الثمن، وهذا كقوله في المدونة: فإن قال الشفيع بعد الشراء: اشهدوا أني أخذت بشفعتي ثم رجع، فإن علم بالثمن قبل الأخذ لزمه، وإن لم يعلم به فله أن يرجع، وقال أشهب: إن لم يعلم إلا بعد أخذه، ورضي لم يجز وفسخ ثم تكون له الشفعة بعد الفسخ.

وقال المازري: إن أخذ قبل علمه بالثمن ثم علم فقال: ظننت أقل، فإن كان أراد أن يرد فله ذلك اتفاقاً وإن أراد أن يتمسك به فالمشهور أن له ذلك، وقال ابن المواز: ليس له ذلك، وأخذ اللخمي مما في المدونة: أنه يجوز الأخذ بالشفعة قبل معرفة الثمن، خلاف ما قاله صاحب النكت: إذا ابتاع شقصاً وعرضاً في صفقة واحدة لا يجوز أن يأخذ الشِّقص بالحصة إلا بعد المعرفة بما يخصه من الثمن لئلا يكون ابتداءَ شراءٍ بثمن مجهول وأخذ اللخمي ظاهر. وَهِيَ عَلَى أَنْصِبَائِهِمْ - وَخُرِّجَ: عَلَى عَدَدِهِمْ مِنَ الْمُعْتَقِينَ وحَصَصُهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ كما لو كانت دار بين ثلاثة: لأحدهم: نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر: سدسها، وباع صاحب النصف، وقام الشريكان بالشفعة فإنه يكون لصاحب الثلث: الثلث ولصاحب السدس: السدس وهذا هو المشهور، وحكى ابن الجهم عن بعض الأصحاب أنها على الرؤوس، وخرجه اللخمي من القول الشاذِّ من مسألة العتق، وخرَّجه غيره على أحد القولين في أجرة القاسم، وقد تقدمت نظائر هذه المسألة في النفقات، قيل: وهذا هو الظاهر؛ لأن الشفعة معللة بأصل الملك، إذ لو انفرد أقلهم نصيباً لكانَ له أخذ الجميع، ولهذا قال اللخمي: لو كانت الشفعة في ما لا ينقسم على القول بذلك لكانت على الرؤوس؛ لأنها هنا إنما تلحق من مضرة دعوى المشتري إلى البيع وذلك مما يستوي فيه قليل النصيب وكثيره. خليل: وقد يقال: في التخريج نظر؛ إذ لا شك أن العلة في الشفعة الضرر ومتى كثر النصيب كثر الضرر، ومتى قل قلَّ بخلاف العتق فإن من قال بالتقويم فيه على الرؤوس يعلل بأنه حق الباري تعالى ولا تفاوت فيه، والله اعلم.

وإِذَا اتَّحَدَتِ الصَّفْقَةُ وَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ أَوْ غَابَ فَلَيْسَ لَهُ إِلا أَخْذُ الْجَمِيعِ يعني: إذا انعقد البيع على صفقة واحدة في حصة واحدة من دار أو دور، وللحصة شفعاء، وأسقط أحدهم حقه من الشفعة أو غاب، فليس للباقي إلا أن يأخذ الجميع أو يدع لما يدخل على المشتري بالتشقيص. وفي المدونة: إذا كان للشقص شفع وغابوا إلا واحداً حاضراً فأراد أخذ الجميع ومنعه المشتري أخذ نصيب الغياب. أو قال له المبتاع: خذ الجميع، وقال الشفيع: لا آخذ إلا حقي، فإنما للشفيع أن يأخذ الجميع أو يترك، وكذلك إذا قال: أنا آخذ حصتي، فإذا قدم أصحابي، فإن أّخذوا وإلا أَخذتُ الباقي، لم يكن له ذلك إلا أن يأخذ الجميع أو يدع، فإن سلم له فلا آخذ له مع أصحابه إن قدموا ولهم أن يأخذوا الجميع أو يدعوا فإن سلموا إلا واحدا قيل له: خذ الجميع وإلا دع. ولو أخذ الحاضر الجميع وقدموا؛ فلهم أن يأخذوا حصصهم منه، وإن أخذ بعضهم وابى البعض لم يكن لأحد أن يأخذ بقدر حصته فقط فيساوي الأخذ قبله فيما أخذ أو يدع، وحاصله أن القول قول من ادعى إلى عدم التشقيص من المشتري أو الشفيع إلا أن يصطلحا على أمرٍ فيجوز. وقوله في المدونة: فإذا سلم فلا أخذ له مع أصحابه إن قدموا ولهم أن يأخذوا الجميع وهو المشهور، وقال أصبغ وابن حبيب: إذا كان تسليم أحد الشفعاء للمشتري على وجه الهبة أو الصدقة عليه فليس لمن أراد الأخذ إلا بقدر سهمه وللمبتاع سهم من سلم، وإن كان على ترك الشفعة وكراهة الأخذ فللمتمسك أخذ جميعها، وفي مختصر الوقار: ليسَ له إن لم يجز إلا مصابته خاصة.

اللخمي: وهو أقيس الأقوال؛ لأن الفاضل عن حصته لم يكن له وإنما كان لغيره، وجعل في البيان هذا الخلاف في ما إذا قال الشفيعُ التارك للمشتري: فقد أسلمت شفعتي لك، وأما لو أسلم أحد الشفعاء الشفعة بعد وجوبها ولم يقل لك فلا خلاف أنَّ لمن بقي من الشفعاء أن يأخذ الجميع، وقوله في المدونة: إذا أخذ الحاضر الجميع ثم قدموا فلهم إن بلغوا معه أن يدخلوا، قال صاحب النكت: يجب على أصل ابن القاسم أن تكون عهدتهم على المبتاع أو المأخوذ منه بالشفعة لا على صاحبهم ولو كان كذلك لكان يؤخذ من يديه الجميع وهم إنما يأخذون حصتهم، وتبقى له حصته، وليس كما قال أشهب: إنهم يجعلون عهدتهم إن شاءوا على صاحبهم الذي أخذ الجميع لغيبتهم، وإن شاءوا جعلوها على المبتاع، وقال صاحب المقدمات: قول أشهب تفسير لقول ابن القاسم قبل. وقيل: إن قول أشهب خلاف لمذهب ابن القاسم، وأنه لا يكتب عهدته على مذهب ابن القاسم إلا على المشتري، وليس ذلك بصحيح، والصواب أن قول أشهب مفسر لقول ابن القاسم. وَلَوْ تَعَدَّدَ الْبَائِعُ وَتَعَدَّدَتِ الْحِصَصُ فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَالشَّفِيعُ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ .... يريد: والمشتري واحد كأن يكون لثلاثة شرك مع رابع هذا يشاركه في دار وهذا في بستان فباع الثلاثة أنصباءهم صفقة واحدة من رجل [589/أ] فقام الشريك، وأراد أن يشفع في الدار بمفردها فليس له ذلك إذا امتنع المشتري وليس له إلا أخذ الجميع أو تركه؛ لأنه تبعض على المشتري صفقته. وإلى هذا أشار بقوله: (فَكَذَلِكَ) وهذا مذهب ابن القاسم المعروف، وفي الاستذكار عن أشهب: له أن يأخذ ممن شاء.

وَإِنْ تَعَدَّدَتْ هِيَ وَالْمُشْتَرُونَ فَلَهُ الشُفْعَةُ مِنْ أَحَدِهِمْ؛ ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ ولو (تَعَدَّدَتْ) الحصص (وَالْمُشْتَرُونَ) واتحدت الصفقة ولم يفارق هذا الفرع الذي قبله إلا بتعدد المشتري هنا كما لو باع الثلاثة أنصباءهم من رجلين فللشفيع الأخذ بالشفعة من أحدهما، قاله ابن القاسم (ثُمَّ رَجَعَ) عنه نظراً إلى اتّحاد الصفقة، وبالأول قال أشهب وسحنون، وهو اختيار التونسي واللخمي. ابن راشد: وهو الأصح: لأن المأخوذ من يده لم تتبعض عليه صفقته. وَالشَّرِيكُ الأَخَصُّ أَوْلَى عَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ أَسْقَطَ فَالأَعَمُّ كَالْجِدَّتَيْنِ والأُخْتَيْنِ والزَّوْجَتَيْنِ، ثُمَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ثُمَّ الأَجَانِبِ ... مثاله: إذا كانت دار بين اثنين ثم مات أحدهما وترك جدتين وأختين وزوجتين ثم باعت إحدى الجدتين، فإن الجدة الأخرى أولى؛ لأنها شركة أخص لاشتراكها معها وسهمهما واحد، هذا هو المشهور، وروي أن الجميع سواء. ابن القصار: وهو القياس. ابن عبد السلام: وهو ظاهر ما في الموازية وظاهر قول ابن دينار والنفس أميل إليه؛ لأن الموجب للشفعة هو الشركة لا شركة مقيدة. قوله: (فَإِنْ أَسْقَطَ) هو تفريع على المشهور، أي فيكون لبقية ذوي السهام. (ثُمَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ) أي: العصبة إذا كان في الفريضة عصبة، فإن أسقط العصبة فالشفعة للشركاء الأجانب، وكذلك أيضاً لو حصلت شركة بوراثة عن وراثة لكان أهل الوراثة السفلى أولى، نص عليه في المدونة في ما إذا ورث ثلاثة بنين داراً ثم مات أحدهم وترك أولاداً فإن إذا باع أحد الأولاد، كانت إخوته أولى ثم الأعمام ثم الشركاء الأجانب، قال في المدونة: ولو باع الأعمام فالشفعة لأخيه ويدخل بنو الأخ لدخولهم مدخل أبيهم، فنص على أن الأخص يدخل على الأعم وإلى هذا أشار بقوله:

وَيَدْخُلُ الأَخَصُّ عَلَى الأَعَمِّ تصوره ظاهر مما ذكرنا، ونقل ابن العطار عن أصبغ أنه قال: إن باع أحد أو هذا الولد فالشفعة لإخوته وأعمامه؛ لأنهم ليسوا أهل سهم وإنما هم عصبة، ولا يكون أهل سهم إلا أهل الفرائض، قال في المدونة: إذا ترك أختا شقيقة وأختين لأب فأخذت الشقيقة النصف والاثنان السدس تكملة الثلثين فباعت إحدى الأختين للأب، فالشفعة للشقيقة والتي للأب؛ إذ هما أهل سهم وعن أشهب أن الأخت للأب أولى. اللخمي: وهو أحسن؛ قال فيها: وإن ترك ثلاث بنين: ابنان شقيقان وآخر لأب، وترك داراً فباع أحد الشقيقين، فالشفعة بين الشقيق والأخ للأب، إذ بالبنوة ورثوا. وَفِي دُخُولِ ذَوِي السِّهَامِ عَلَى الْعَصَبَةِ قَوْلانِ هكذا وقع في بعض النسخ وعليها تكلم ابن عبد السلام فقال: يعني اختلاف على قولين: هل ذوي السهام فيما بينهم وبين العصبة كالأخص مع الأعم فيدخل ذوي السهام على العصبة، ولا يدخل العصبة على ذوي السهام وهو مذهب المدونة واختاره ابن عبد الحكم وأصبغ وقال أشهب: إن بقية العصبة أحق كأهل السهام. ابن عبد السلام: وهو الأقرب عندي، ولا يختلف أن العصبة لا يدخلوا على ذوي السهام؛ لأنه إذا لم يدخل ذو سهم على ذي سهم آخر فأحرى العصبة، ووقع في بعض النسخ: وفي دخلو ذوي السهام على العصبة أو العكس، ثالثها: يدخل ذوو السهام، وعليها تكلم ابن راشد فقال: الثالث هو المشهور، والقول بدخول بعضهم على بعض مبني على أن نسبتهم إلى الموروث نسبة واحدة، والقول بدخول بعضهم على بعض لأشهب وهو أقيس، انتهى. وعلى هذا فقول ابن عبد السلام: ولا يختلف إلى آخره ليس بظاهر، وقد تقدم لنا قول بدخول الأعم على الأخص.

ابن المواز عن أشهب: ولو اشترى ثلاثة داراً أو ورثوها فباع أحدهم ما بقي وسلم الشريكان ثم باع أحد النفر المشتركين مصابته، فبقية النفر أشفع من شريكي البائع، ولو باع أحد شريكي البائع لدخل في الشفعة شريكه الذي لم يبع، وسائر النَّفر الذين اشتروا الثلث الأول فيصير لهم النصف ولشريكهم الذي لم يبع النصف، قال: وخالفهم ابن القاسم في هذا وقال: لا يكون الذين اشتروا الثلث الأول أشفع فما باع بعضهم من شركاء بايعهم بل هم كبائعهم يقومون مقامه إذا باع أحدهم فالشفعة لمن بقي منهم وسائر شركاء البائع منهم على الحصص بخلاف ورثة الوارث أو ورثة المشترين. أصبغ: وهذا من الحق إن شاء الله، وهو الصواب. والْمُوصَى لِهُمْ مَعَ الْوَرَثَةِ كَالعَصَبَة مَعَ ذَوِي السِّهَامِ أي: فلا يدخل الموصى لهم على الورثة، واختلف هل يدخل الورثة معهم، فروى أشهب فيمن أوصى بثلث حائط أو سهم فباع أحدهما حصته أن شركاءه أحق بالشفعة فيما باع من الورثة. محمد: وقاله أشهب وابن عبد الحكم، وقال ابن القاسم: للورثة الدخول معهم كأهل السهام مع العصبة، وسلم ابن المواز دخول ذوي السهام على العصبة ومنع دخولهم على الموصى لهم ورأى أن الجزء الذي اوصى به الميت كالجزء الذي يجب لذوي السهام بالميراث. فرعان: الأول: إذا أوصى الميت أن يباع نصيب من داره لرجل بعينه والثلث يحمله لم يكن للورثة عليه [589/ب] شفعة لئلا يبطل ما قصده الميت من تمليك الموصى له بذلك الجزء ولو كان شريك الميت أجنبياً لوجبت له قيمة الشفعة.

الثاني: لو أوصى بثلثه للمساكين فباع الوصي ثلث الوصية، فقال سحنون: لا شفعة فيه؛ لأن بيع الوصي كبيع الميت، وقال غيره: الشفعة في ذلك للورثة. اللخمي: وهو القياس. الباجي: وهو الأظهر، وقد بلغني ذلك عن ابن المواز. ابن الهندي: وهو الأصح لدخول الضرر على الورثة. الْمَاخُوذُ مِنْهُ: مَن تجَدَّدَ مِلْكُهُ اللازِمُ اخْتِيَاراً، وَقِيلَ: بِمُعَاوضَةٍ، فَفِي الصَّدَقَةِ وِالْهِبَةِ لِغَيْرِ ثَوَابٍ قَوْلانِ .... احترز بقوله: (مَن تجَدَّدَ مِلْكُهُ) مما إذا اشترى اثنان داراً دفعةً واحدة فلا شفعة لأحدهما على صاحبه؛ لأن أحدهما لم يسبق ملكه ملك الآخر ولأنها لو وجبت لأحدهما لوجبت للآخر، ولو وجبت لهما لزم ألا تجب لهما وكل ما أدى ثبوته إلى نفيه فهو منتف، وباللازم من بيع الخيار فإنه لا شفعة فيه قبل لزومه كما سيأتي، وبالاختيار من الميراث فإنه وإن تجدد ملك الوارث للحصة لكن لا بطريق الاختيار بل بطريق اللزوم فلا شفعة عليه، هذا هو المشهور، وروي عن مالك أنه يشفع على الوارث لتجدد ملكه وهذه الصورة صادقة على الصدقة والهبة لغير ثواب. (وَقِيلَ: بِمُعَاوضَةٍ) ليخرجها، وهذا هو مذهب المدونة والمشهور. ابن يونس وغيره: وهو الأصح، والأول أيضاً لمالك، وتقديم المصنف للأول ليس كما ينبغي. وقول المصنف: (بِمُعَاوضَةٍ) أحسن من الشراء؛ لأنه يدخل فيها هبة الثواب والكراء. وقوله: (فَفِي الصَّدَقَةِ وِالْهِبَةِ لِغَيْرِ ثَوَابٍ قَوْلانِ) هو مأخوذ مما قدَّمه وإنما ذكرهُ زيادة في الإيضاح، وعلى مذهب المدونة: إن أثاب الموهوب له عن هبة لغير ثواب شيئاً فلا شفعة فيها كما إذا رأى أن الهبة لصلة الرحم أو صدقة قاله في المدونة؛ لأن هذا ليس

بعوض حقيقة إلا أن يقوم دليل على أنهما عملا عليه. فلو أراد الشريك أن يحلف الموهوب له أنهما لم يسيرا بيعا لم يحلف إلا أن يكون ممن يتهم بذلك مثل أن يكون محتاجاً وهب لغني فيحلف الموهوب له، وإن كانت على صغير حلف أبوه، وقال عبد الملك ومطرف: يحلف مجملا. المتيطي: والقضاء بالأول. وَلا شُفْعَةَ فِي مِيراثٍ وَلا فِي خِيَارٍ إِلا بَعْدَ إِمْضَائِهِ هذا هو الذي احترز عنه بالقيود أولاً، ولو عطف بالفاء ليكون كالنتيجة عما قبله لكان أحسن. وَلَوْ بَاعَ نِصْفَيْنِ لاثْنَيْنِ خِيَاراً وبَتْلاً ثُمَّ أَمْضَى - فَفِي تَعْيِينِ الشُّفْعَةِ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ مِنَ الْعَقْدِ أو الإِمْضَاءِ .... أشار بقوله: (مِنَ الْعَقْدِ أو الإِمْضَاءِ) إلى الخلاف المشهور هل بيع الخيار منحل أو منبرم؟ فعلى انعقاده الشفعة لمشتري الخيار؛ لأن مشتري البتل متجدد عليه إذ الفرض أنه باع لمشتري الخيار أولاً، ولهذا لو قال المصنف: خيارً ثم بتلا كما قال غيره لكان أحسن. وعلى أنه منحل فالشفعة لمشتري البتل، والمعروف من المذهب أن بيع الخيار منحل لكن المنقول هنا عن ابن القاسم أن الشفعة لمشتري الخيار. وعَلَيْهِ وَعَلَى الْخِلافِ فِي بَيْعِ حِصَّةِ الْمُسْتَشْفَعِ بِهَا إِذَا بَاعَ حِصَّتَهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ بَاعَ شَرِيكُهُ الآخَرُ بَتْلاً، ثُمَّ أَمْضَى جَاءَتْ أَرْبَعَةٌ: مَاضٍ أَوَّلاً وَيَشْفَعُ - فَالشُّفْعَةُ لِبَائِعِ الْبَتْلِ .... يعني: ويتنزل على هذا الخلاف في بيع الخيار هل هو منحل أو منبرم إذا ضممنا إليه الخلاف المتقدم في بيع الحصة المستشفع فها، هل تسقط الشفعة أم لا؟ إذا باع شريكان

حصتهما لرجلين باع أحدهما حصته خياراً ثم باع الآخر حصته بتلاً ثم أمضى الخيار أربعة أقوال، فعلى أنَّ بيع الخيار منعفد من يوم العقد وأن من باع الشقص لا تسقط شفعته فالشفعة لبائع البتل على مشتري الخيار؛ لأن بائع البتل يقول: بائع الخيار باع قبلي فقد وجبت الشفعة لي قبل بيعي حصتي وبيعي لحصتي ليس يُسقط لي حقي في الشفعة. ومُقَابِلُهُ لِمُشْتَرِي الْبَتْلِ أي: وإن قلنا: إنَّ بيع الخيار منحل وإن من باع حصته تسقط شفعته، فالشفعة لمشتري البتل؛ لأن مشتري الخيار إنما انبرمَ شراؤه بعد مشتري البتل، فكان مشتري الخيار متجدداً على مشتري البتل فكانت له الشفعة عليه، وعزا ابن يونس هذا القول لأشهب. ابن عبد السلام: وكلام المصنف صحيح إلا أنَّه زاد في الأصل الذي بنى عليه هذا القول زيادة مستغنى عنها وهي أنه فرض أن بيع الحصة المستشفع بها لا يضر في طلب الشفعة، وهذا لا يحتاج إليه في هذا القول الثاني وإنما يحتاج إلى كون الخيار منحلاً، ولعله إنما ذكر بيع الحصة المستشفع بها يسقط لإسقاط حق بائع البتل. الثَّالِثُ لِمُشْتَرِي الْخِيَارِ أي: أنَّ القول الثالث مبني على الاحتمال الثالث، وقد قدَّمْنَا أنَّ المصنِّف إذا ذكر قسمة رباعية أن يبدأ بإثباتين ثم بنفيين ثم بإثبات الأول ونفي الثاني ثم بالعكس فيكون الثالث أن بيع الخيار منعقد، وأن من باع الحصة المستشفع بها تسقط شفعته، فالشفعة لمشتري الخيار؛ لأنه حصل له الملك يوم الشراء، فمشتري البتل متجدد عليه ولا شفعة لبائع البتل لحصته وهذا القول مذهب المدونة؛ لأن فيها: ومن باع شِقْصاً بالخيار وله شفيع فباع الشفيع شقصه قبل تمام الخيار بيع بتل فإن لم يبع بالخيار فالشفعة لمبتاعه. خليل: وأجرى ابن القاسم على خلاف قاعدته؛ لأنَّ المشهور في غير مسألة أن بيع الخيار منحلّ.

[590/أ] الرَّابِعُ لِبَائِعِ الْخِيَارِ أي: والقول الرابع مبني على الاحتمال الرابع: وهو أن يفرض أن بيع الخيار منحل، وأن بائع الحصة المستشفع بها يشفع فالشفعة لبائع الخيار؛ لأن مشتري البتل متجدد عليه ذلك الملك مستصحب حتى يمضي البيع فكان له الشفعة على مشتري البتل وليس بيعه شقصه مسقطاً لحقه في الشفعة، وهذا قول ابن المواز وأصبغ. وتَثْبُتُ فِي الْمَهْرِ والْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وجَمِيعِ الْمُعَاوَضَاتِ يعني: أن الشفعة تثبت في كل معاوضة سواء كانت المعاوضة بمال أو غيره: كالمهر والخلع والمصالح على خراج العمد والخطأ، قال في المدونة: والشفعة في هذا بقيمة الشقص. ابن يونس: يريد ولا يجوز الاستشفاع إلا بعد المعرفة بالقيمة. خليل: وهذا بخلاف ما أخذه اللخمي أنه يجوز الأخذ قبل معرفة الثمن وقد تقدم ذلك. وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي يعني: وعهدة الشفيع على المشتري وهي ضمان درك الثمن في العيب والاستحقاق وكانت عليه؛ لأنه الذي أخذ منه الثمن وأخذ الشفيع الشقص منه، وعن سحنون أن للشَّفِيع أن يكتب عهدته على من شاء من بائع أو مبتاع. وَفِي عُهْدَةِ شُفْعَةِ الإقَالَةِ قَوْلانِ: يُخَيَّرُ، وعَلَى الْمُشْتَرِي يعني: إذا تقايل المشتري والبائع فإن ذلك لا يسقط الشفعة، واختلف قول مالك في العهدة، فمذهب المدونة أنه لا خيار للشفيع وإنما عهدته على المشتري، وبه أخذ محمد وابن حبيب، وقال مرة: يخير فإن شاء جعله على المشتري أو البائع.

أشهب: وسواء كان المستقيل هو المشتري أو البائع، وقال مطرف وابن الماجشون: إن رأي أن التقايل بينهما كان لقطع الشفعة، فالإقالة باطلة وللشفيع الشفعة بعهدة الشراء، وأن رأى على وجه الصحة والإقالة فهو بيع حادث، وللشفيع الشفعة بأي البيعتين شاء واستشكل مذهب المدونة؛ لأن الإقالة إما حل بيع فيلزم منه بطلان الشفعة، وإما ابتداء بيع فيخير كما لو تعدد البيع من غير البائع، فلا وجه للحصر في المشتري وأجيب باختيار الأول، وإنما تثبت الشفعة وكانت العهدة على المشتري؛ لأنهما متهمان في قطع شفعة الشفيع واستحسن أشهب ما في المدونة والقياس عنده قول مالك الآخر وهذا إذا كانت الإقالة بمثل الثمن لا زيادة ولا نقصان، قال: ولو تقايلا بزيادة أو نقصان فله الشفعة على أيهما شاء اتفاقا، قاله عياض. الباجي: الشركة والتولية كالإقالة. وأَمَّا لَوْ سَلَّمَ قَبْلَهَا فَعَلَى الْبَائِعِ يعني: أمَّا لو سلم الشفيع الشفعة وترك أخذها قبل الإقالة ثم تقايلا فإن للشفيع أن يأخذ بعهدة الإقالة من البائع. ابن المواز: ويصير بيعاً حادثاً. عياض: ولا خلاف فيه، وأما لو سلم بعدها فلا شفعة له أصلا. وَلا يَضْمَنُ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ، وَلَهُ غَلَّتُهُ وَثَمَرَةٌ وَقَدِ اسْتَغْنَتْ قَبْلَهَا يعني: لا يضمن المشتري ما نقص عنده سواء تغير بنقص في ذاته أو صفاته أو سوقه أو بفعل المشتري، نص عليه مالك في المدونة، ولو هدم المبتاع الدار ليبنيها أو ليوسعها ونحو ذلك، قال فيها: ويخير الشفيع فإما أخذ بجميع الثمن أو ترك، فإن قلت: لم لا يضمن المشتري إذا هدم؟ قيل: لأنه تصرف في ملكه، وقيد بعض الشيوخ ما ذكره في

المدونة في الهدم، فقال: إنما يصح إذا لم يعلم المشتري أن معه شفيعاً، وأما إن علم ثم هدم فحكمه حكم المتعدي والغاصب، وقد قال ابن زرب: في من بنى في حصة لها شفيع فقام بشفعته يأخذ قيمة بنائه منقوضاً؛ لأنه بنى في غير ماله، قال غيره: فهو كالمتعدي. قوله: (وَلَهُ ... إلى آخره) أي وللمشتري غلة المبيع؛ لأن الضمان منه، وله الثمرة التي قد استغنت قبل الشفعة، وقد تقدم الكلام في الثمرة تباع مع النخل، وعطف المصنف الثمرة على الغلة وإن كانت من الغلة ليرتب عليه قوله: (وَقَدِ اسْتَغْنَتْ). فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَةُ مَا بَنَى يَوْمَ الْقِيَامِ، وَلِلشَّفِيعِ قِيمَةُ النَّقْضِ، وَتَصَوُّرُهَا فِي شَفِيعٍ غَائِبٍ قَاسَمَ الْقَاضِيَ أَوِ الْوَكِيلَ عَنْهُ، أَوْ تَارِكٍ لأَمْرٍ ثُمَّ ظَهَرَ فِيهِ كَذِبٌ كَالثَّمَنِ، أو دَعْوَى صَدَقَةٍ وَشِبْهِهَا .... يعني: إذا هدم المشتري المبيع وبنى ثم قام الشفيع فله الأخذ بالشفعة ويغرم الشفيع للمشتري قيمة بنائه قائما يوم قيام الشفيع بالشفعة مع الثمن الأول. فإن قلت: كيف يعطي جميع الثمن مع أن قيمة النقض جزء من المبيع؟ قيل: لا يريدون بالثمن جميع الثمن كما سألنا عنه، وإنما يريدون بالثمن ما ينوب العرصة منه بلا بناء، فما نابها منه، فهو المعبر عنه بالثمن، وفسر أشهب ذلك، فقال: يحسب كم قيمة العرصة بلا بناء وكم قيمة النقص مهدوما ثم يقسم الثمن على ذلك، فإن وقع منه النقص نصفه أو ثلثه، فهو الذي يحسب للشفيع ويحط عنه من الثمن، ويغرم ما بقي مع قيمة البناء قائما. ابن المواز: وإنما يغرم الشفيع قيمة العمارة يوم القيام؛ لأن المبتاع هو الذي أحدث البناء، وهو غير متعد به، والأخذ بالشفعة كالاشتراء فعلى الشفيع قيمته يوم أخذ بشفعته، وإنما

حسب للشفيع على المبتاع قيمة النقص مهدوما يوم الشراء؛ لأنه لم يتعد في هدمه فكأنه اشتراه مع العرصة مهدوما ثم بنى به، وهو في ملكه وضمانه فوجب أن يأخذ العرصة بقيمتها من قيمة النقض من الثمن يوم الشراء؛ كما لو اشتراها مع عرض، مالك وإن لم يفعل فلا شفعة له. قوله: (وَتَصَوُّرُهَا) هو جواب عن سؤال مورود هنا، وذلك لأنه قيل لابن المواز: كيف [590/ب] يمكن إحداث بناء في مشاع؟ أي لأنه إن كان بحضرة الشفيع فهو مسقط للشفعة، وإن كان في غيبته فالباني متعد، فلا تكون له قيمة البناء قائما، إلا بعد القسمة وبعد هذا لا تجب الشفعة وبالجملة فالحكم بوجوب الشفعة ينافي أخذ قيمة البناء قائماً، وأجيب بأوجه: أولها: أن الشفيع غائب وكانت الدار للشركاء وسلم الحاضرون وطلبوا القسمة، فقاسم القاضي عن الغائب ثم هدم المشتري في غيبة الشفيع فالباني غير متعد والشفيع باق على شفعته وليس للقاضي أو الوكيل إسقاط شفعته؛ لأنه لم يوكل على ذلك. ثالثها: أن يكون البائع والمبتاع أظهرا الصدقة أو الهبة بناءً على إحدىة الروايتين بمنع الشفعة في ذلك ثم انكشف أنه بيع بعد المقاسمة والبناء لأجل هذا الخلاف أخره المصنف عما قبله. ورابعها: أن يشتري داراً فيهدم ويبني ثم يظهر مستحق لنصفها ويريد أن يأخذ بالشفعة وهذا الجواب لمحمد. ابن عبد السلام: وعليه يعتمد أكثر الشيوخ لما يبنون عليه من كثرة الفوائد بسبب تركيب المسألة من الشفعة والاستحقاق، والمتكفل بذلك المدونة وشروحاتها.

خليل: وانظر لِمَ لمْ يجعل المشتري - إذا كذب في الثمن أو دعوى صدقة ونحوها ثم تبين خلافها - كالمتعدي؛ ولعله الأظهر، فلا يكون له إلا قيمة النقض ولعل كلامهم محمول على ما إذا كان إظهار أكثر من الثمن من غير المشتري، والله أعلم. وَيَتْرُكُ لِلْمُشْتَرِي الشَّرِيكِ مَا يَخُصُّهُ كما لو كانوا ثلاثة مشتركين في دار لكل واحد منهم الثلث فباع أحدهم نصيبه للآخر فلا يأخذ الباقي من يد المشتري جميع الثلث كالأجنبي بل نصف الثلث، ويترك له نصفه وهو الذي ينوبه؛ لأنه يقول: لو كان المشتري أجنبياً لم يكن لك إلا نصف الثلث، ولي النصف فأسوا أحوالي أن أكون كالأجنبي. وَإِن تَنَازَعَا فِي سَبْقِ الْمِلْكِ تَحَالَفَا وَتَسَاقَطَا وَمَنْ نَكَلَ فَعَلَيْهِ الشُّفْعَةُ أي: وإذا تنازعا الشريكان في قدر الملك، فقال كل منهم: ملكي سابق وأنت مجدد عليَّ وطلب الشفعة؛ فلكل تحليف صاحبه، فإن حلفا يريد أو نكلا سقطت دعواهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالشفعة للحالف، أما إن أقاما بينتين فإن يقضي بأقدمهما تاريخاً. وَيَشْفَعُ مِنَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدَاً بَعْدَ الْفَوْتِ لا قَبْلَهُ بِالْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ، فَإِنْ فَاتَ بِبَيْعٍ صَحِيحٍ فَبِالثَّمَنِ فِيهِ .... البيع الفاسد يفسخ فإذا فات ملك المشتري بالقيمة فلذها إذا اشترى شِقْصاً شراءً فاسداً فإن اطَّلع على ذلك قبل الفوات فلا شفعة ويفسخ البيع، وإن اطَّلع على ذلك بعد أن فات الشقص عند المشتري بما يفوت البيع الفاسد فللشفيع أخذه بالقيمة الواجبة على المشتري؛ لأن الشقص قد انتقل إلى ملك المشتري، ويأتي على قول سحنون الذي يرى أنَّ البيع الفاسد لا ينقل الملك أصلاً، وإنما يلزم على قوله مع الفوات؛ لأنه كالاستهلاك تعدم الشفعة فيه.

فرع: قال في المدونة: ولو علم به أي بالفساد بعد أخذ الشفيع فسخ بيع الشفعة والبيع الأول؛ لأنَّ الشفيع دخل مدخل المشتري. ابن المواز: وإذا أجزنا له الأخذ بالشفعة بعد الفوت، فلا بد من معرفة الشفيع بيع الشفعة، والبيع الأول بالقيمة التي لزمت المشتري، فإن أوجبها على نفسه قبل معرفته فذلك باطل، وجعل ابن يونس قوله تفسيراً للمدونة. قوله: (فَإِنْ فَاتَ بِبَيْعٍ صَحِيحٍ فَبِالثَّمَنِ فِيهِ) يعني: أن ما ذكرناه من أنَّ الشَّفِيع يأخذ مع الفوات بالقيمة، إنما هو فيما إذا فات بغير بيع صحيح، وأما إن فات به فللشفيع الأخذ بذلك الثمن لا بالقيمة إلا أن يكون المتبايعان ترداها قبل أخذ الشفيع فيصير كثمن سابق على الثمن في البيع الصحيح فيأخذ الشفيع بأيهما شاء كبيعتين صحيحتين، قال في المدونة: وسواء ترداها بقيمة أو بغيرها وقد صح البيع بينهما بأخذ القيمة. وقوله: (بِالبَيْعِ الصَّحِيحِ) احترز به من البيع الفاسد، قال في المدونة، وإذا باعها المشتري شراءً فاسداً ثم باع بيعاً فاسداً رد الأول والآخر جميعاً إلا أن يفوت، وتجب القيمة في ذلك فلا يرد. وَيُنْقَضُ بِالشُّفْعَةِ وَقْفُهُ وَغَيْرُهُ يعني: أنه لا يبطل حق الشفيع إذا وقف المشتري الشقص أو وَهَبهُ أو تصدق به، ولو نقض ذلك ولو هدم المشتري الشقص وبناه مسجداً فللشفيع هدمه، وفي المدونة: من اشترى شقصا له شفيع غائب فقاسم الشريك ثم قدم الغائب فله نقض القسم وأخذه، واستدل على ذلك بأن الشُّفعة قُصاراها أن تكون كالبيع فكما له الأخذ بالبيع الأول وإبطال ما بعده من

البياعات فكذلك له الأخذ بالبيع الأول وإبطال القسمة التي هي أضعف من البيع، وقاله ابن القاسم وأشهب في الموازية إلا أن أشهب أشار إلى تردد في المجموعة. فقال: إنه ليأخذ بالقلب أن ليس له رد القسم؛ لأنهم قاسموا من تجوز قسمته، يعني من بقية الشركاء ووكيل الغائب، ولهذا قال سحنون: يمضي القسم وللشفيع أخذ ما وقع للمبتاع بالقسم بالشفعة، وظاهره وظاهر المدونة سواء كان القسم بحكم أو بغيره، لكن تأوله صاحب [591/أ] النكت على ما إذا لم يكن بحكم، قال فلذلك قال: إن له نقض القسم، قال: وأمَّا إذا رَفَعَ إلى الحاكم فالقسم ماض ويأخذ الشفيع ما يقع به القسم، وهذه التفرقة هكذا في مذهب أشهب، ويمكن أن يجمع بين قوله في المدونة وقول سحنون بهذا ولا يبقى في المسألة خلاف فيحمل قوله في المدونة على ما إذا لم يحكم وقول سحنون على ما إذا كان بحكم. وَيَاخُذُ بِأَيِّ الْبُيُوعِ شَاءَ فَيُنْقَضُ مَا بَعْدَهُ قال في الجلاب: وإذا بيع السهم الذي فيه الشفعة مراراً قبل أخذ الشفيع فله أن يأخذ بأي الصفقات شاء، فإن أخذ بالصفقة الأخيرة، صحت الصفقة التي قبلها، وإن أخذ بالصفقة الأولى بطلت الصفقة التي بعدها، اتفقت الأثمان أو اختلفت، والاختيار إليه في العهدة والثمن. وإن أخذ بالصفقة الوسطى صح ما قبلها وبطل ما بعدها، وقيد اللخمي هذا إنما إذا لم يكن حاضراً، وأما الحاضر العالم فإنه تسقط شفعته في البيع الأول وتثبت في البيع الثاني، وكذلك إن كثرت البياعات إنما يكون له الأخذ بالأخير. الْمَاخُوذُ بِهِ مِثْلُ الثَّمَنِ أَوْ قِيِمَتِهِ فِي الْمُقَوَّمِ هذا هو الركن الرابع؛ يعني أن الشفيع يأخذ الشِّقص بمثل ما دفع فيه المشتري إن كان مثلياً أو بقيمته إن كان مقوماً وهو ظاهر، فإن لم يجد مثل المثلي غرم قيمته، قاله مالك في المجموعة فيمن اشترى بثمن فلم يجده الشفيع.

فرع: وعلى الشَّفيع أجرةُ الدَّلاَّل وإن كانت من عقْدِ الشراء وثمن ما كتب فيه؛ لأنَّ بذلك وصل المبتاع إلى المبيع، وإن كان المبتاع دفع أكثر من المعتاد، لم يكن على الشفيع إلا دفع المعتاد، بذلك أفتى ابن عتاب وابن مالك وابن القطَّان. المتيطي: ولا أعلم لهم مخالفاً. ابن يونس: قال بعض الفقهاء: وانظر لو غرم على الشِّقص غرماً هل يأخذه الشفيع بالثمن أو بما غرم عليه؛ وقد اختلف في من اشترى من أيدي اللصوص هل يأخذه ربه بغرم أو بغيره. فَإِنْ لَمْ يَتَقَوَّمْ كَالْمَهْرِ وَالْخُلْعِ، وَصُلْحِ الْعَمْدِ، وَدَرَاهِمَ جُزَافَاً فَقِيمَةُ الشِّقْصِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَقِيلَ: فِي الْمَهْرِ صَدَاقُ الْمِثْلِ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ فِي الدَّرَاهِمِ .... أي: فإن لم يتقوم عوض الشقص غالباً كالمهر والخلع وصلح العمد، فإنه يرجع إلى قيمة الشقص، وقلنا: غالباً؛ لأنَّ المهر يتقوم بمهرِ المِثْلِ، وكَذلك الخلع، واحترز بصلح العمد من الصلح من الخطأ ففيه الشفعة بالدِّيَة، فإن كانت العاقلة أهل إبل، أخذه بقيمة الإبل وإن كانت ذهب أو ورق أخذه بذهب أو ورق يُنَجِّم ذلك على الشفيع كالتنجيم على العاقلة، قاله في المدونة، وقال سحنون في المصالِح عن جميع الدية على شِقص إن كان إعطاء ذلك والعاقلة أهل ذهب أو ورق فالصلح جائز ويرجعه ابن القاسم بالأقل من القيمة أو الدية، أو كان صلحه عليهم وإن كانوا أهل إبل، فإن كان القاتل يعطي الشقص ولا يرجع بذلك على العاقلة فهو جائز، وإن كان إنما صلح عنهم ليرجع عليهم لم يجز الصلح؛ لأنهم مخيرون. ابن عبدوس: وكان سحنون يقول في هذا الأمر بقول عبد الملك أن الدين له حكم العروض، فإذا اشترى الشِّقص بالدية وهي دنيئة فإن كانت دنَانِير ودراهم قومت

بالعرض على أن تؤخذ في ثلاث سنين ثم يقوَّم العرض، وقال عبد الملك: يؤخذ ذلك بالعرض الذي قوِّم به الدَّيْن. سحنون: وإن كانت الدية قومت بالنقد على أن تؤخذ في ثلاث سنين ثم يأخذ الشفيع بذلك أو يدع. قوله: (أَوْ دَرَاهِمَ جُزَافَاً) نحوه في الجواهر، وقال ابن عبد السلام: في صحة فرضها نظر في المذهب؛ لأن الدنانير والدراهم لا يجوز بيعها جزافاً، فإن قيل: يحمل كلامه على ما إذا كان التعامل بالوزن، فإنه يجوز حينئذ التعامل بها جزافاً، قيل: لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لكان الحكم إذن هو قيمة الجزاف كما لو وقع بصبرة طعام. خليل: ويمكن أن يقال: لا يلزم ما ذكره؛ لأنَّ الطعام إذا قُوِّم بالعين يقوَّم بما هو الأصل في التَّقوِيم بخلاف الدراهم؛ لأنك إما أن تقومها بعرض أو بعين موافق أو مخالف، ففي العرض يلزم منه البدل والصرف المستأخر، ولهذا قيل في العين: إن الشفعة تبطل، وهذا وإن كان ممكناً من جهة القيمة، إلا أن اللخمي نقل خلافه فقال: وإن كان ذهباً قوِّم بالفضة، أو فضة قوِّم بالذهب، يريد والقيمة في ذلك يوم الشراء لا يوم الأخذ بالشفعة، وكذلك كل ما اشترى به جزافاً فالقيمةُ يوم الشِّرَاء. قوله (وَقِيلَ: فِي الْمَهْرِ صَدَاقُ الْمِثْلِ) أي: يشفع بصداق المثل، وهذا القول نقله اللخمي. ابن عبد السلام: وهو الأقرب. ابن راشد: ولم أر القول بالبطلان في الدراهم. فَإِنِ اشْتُرِيَ مَعَ غَيْرِهِ فِيمَا يَخُصُّهُ، ويَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ بَاقِي الصفْقَةِ يعني: (فَإِنِ اشْتُرِيَ) الشقص الذي فيه الشفعة (مَعَ) ما لا شفعة فيه فللشَّفيع أَخْذُ الشِّقص بما يخصه من الثمن، ويلزم المشتري باقي الصفقة فهكذا في المدونة وإنما لم يكن

للمشتري مقال بسبب تبعيض صفقة؛ لأنه دخل على ذلك وأشار ابن يونس إلى أن هذا جار على القول بأن الشفعة ابتداء بيع، وأما على القول بأنها كالاستحقاق، فإن ينظر فإن كانت قيمته الشقص النصف فأقل فكذلك، وإن كان جل الصفقة فيكون له رد الباقي. خليل: إنما ينبغي أن يقال: على هذا يلزمه رد الباقي كما تقرَّر في عِلْمه. وَإِلَى الأجَلِ إِنْ كَانَ مَلِيئاً أَوْ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ، وَإِلا عَجَّلَهُ هكذا في المدونة وزاد فيها كون الضامن ثقة، ومعناه إنه إذا اشترى شِقْصاً إلى أجل أخذه الشفيع إلى مثل الأجل بمثل الثمن [591/ب] بشرط أن يكون الشفيع مليئاً أو يأتي بضمان ثقة، فإن أراد الشفيع تعجيل الثمن للمبتاع فذلك له، وليس له تعجليه للبائع، وإن رَضِيَ المبتاعُ، قال المتيطي: وإم لم يوجد أحدهما فلا يأخذ الشفيع الشفعة حتى يعجل الثمن، وظاهر المدونة وهو ظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ملاء الشفيع كالمشتري أو أقل، وهو قول محمد وابن الماجشون، والمتيطي، وهو المشهور، وقال أشهب: إن لم يكن الشفيع كالمشتري في الملاء أتى بحميل مثل ثقة المشتري وملائه وإلا فلا. وظاهر قوله أيضاً هو ظاهر المدونة. (وَإِلا عَجَّلَهُ) أي إذا لم يجد أحدهما يلزمه التعجيل، وإن كان عدم الشفيع مساويا لعدم المشتري وهو قول محمد، وفي اللخمي: إن استوى الشفيع والمشتري في الثقة والملاء لم يلزم الشفيع إعطاء حميل، وإن استويا في العدم فقولان بناء على مراعاة التساوي أو أن البائع قد يثق بالمبتاع، والمبتاع قد لا يثق بالشفيع، وصوب اللخمي الأول؛ لأن الشفيع موسر بالحصة، وكذلك حكى صاحب البيان قولين إذا استويا في العدمن قال: وإن استويا في الملاء لم يلزم حميل باتفاق، وإن كان الشفيع أقل ملاءً لزمه جميل باختلاف، وإن كان أشد عدماً لزمه باتفاق.

فروع: الأول: قال أشهب: إذا اشتراه بحميل أو رهن فليس للشفيع، وإن كان أملأ منه أخذُه بحميل أو رهن ومثله، وقال أشهب أيضاً: إذا كان أملأ من الحميل ومن المشتري أخذه بلا رهن وبلا حميل، واختار محمد الأول. الثاني: إذا تراخى قيام الشفيع حتى حلَّ الأجل ففي تأخير الشفيع إلى مثل ذلك الأجل ثولان: قال مالك ومطرف وابن الماشجون وابن حبيب: يؤخر، وقال أصبغ: لا يؤخر؛ لأن الأجل الأول مضروب لهما معاً. ابن يونس وصاحب البيان وغيرهما: والأول أصوب؛ لأن الشفيع يجب أن ينتفع بتأخير الثمن كما انتفع به المشتري. الثالث: إن أخذه عن دين في الذمة ففي المذهب ثلاثة أقوال: الأول: وهو مذهب المدونة أنه يأخذه بمثل الدين. الثاني: يأخذه بقيمته، قاله ابن الماجشون وسحنون، ورأيا أن ما في المدونة من الدراهم كالعروض. الثالث: الفرق فإن كان كالصداق إن كان عينا أخذه بمثله، وإن كان عرضا أخذه بقيمته، قاله أشهب ومحمد، وهو غلط وعلى مذهب المدونة فقال مالك في الواضحة: إن كان الدَّين يوم قيام الشفيع حالّاً أخذ به حالاً، وإن بقي من الأجل شيء قال: مثل ما بقي هكذا نقل الباجي. ابن زرقون: وهو غلط وإنما ينظر إلى ذلك يوم الشراء وكذلك هو في الموازية لا يوم قيام الشفيع. ابن عبد السلام: وانظر لو كان الدين عرضاً وأراد الشفيع تعجيله للمشتري، وأبى المشتري وطلب التأخير إلى الأجل وأخذ الحميل ولم يجد الشفيع حميلاً كيف الحكم؟

فَلَوْ أَحَالَ الْبَائِعُ بِهِ لَمْ يَجُزْ أي (فَلَوْ أَحَالَ) المشتري (الْبَائِعُ بِهِ) أي: بالثمن من المؤجل على الشفيع (لَمْ يَجُزْ) لأن الإحالة إنما تكون بما حل ولأن البائع قد ترتب له في ذمة المشتري دَيْن فباعه بدينٍ لهُ على الشَّفيع فيلزمه منه بيع الدَّيْنِ بالدَّيْنِ. وَثَوابُ الْهِبَةِ كَالثَّمَنِ فَلا يَاخُذُ إِلا بَعْدَهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ فاَتَ قَبْلَهُ أَخَذَهُ بِالأَقَلِّ هبة الثواب بيع فلذلك يأخذ الشفيع الموهوب بما وقع به الثواب من مثلي أو مقوَّم وهذا معنى قوله: (كَالثَّمَنِ) لكنه لا يأخذه حتى يدفع الثواب؛ لأن الموهوب له مخير في الرد وفي الثواب هذا هو المشهور، وهو مذهب المدونة، وقال أشهب: كذلك إن أتى به قبل فوات الموهوب، وإن أتى به بعده فللشفيع أن يأخذه بالأقل من الثواب والقيمة؛ لأن الثواب إن كان أقل فهو الذي دفع وإن كانت القيمة أقل فهو متبرع بالزائد عليها؛ لأنه لم يكن يلزمه غيرها وفيه نظر؛ لأن أشهب وافق على أنه لو أتى به أكثر من القيمة قبل الفوات فإنه لا يأخذه إلا بذلك، فكذلك إذا عوضه بعده؛ لأن للموهوب تعويض القيمة فيها، وقال اللخمي: القياس أن لا يستشفع إلا بأكثر من الثمن والقيمة سواء فات الموهوب أو لا؛ لأن قيمة الشقص إن كانت أكثر من الثواب فللموهوب أن يقول: إنما قبل مني هذا للصداقة بيني وبينه ونحو ذلك، وإن كان الثواب أكثر فإن ذلك العوض غالباً في هذا النوع. تنبيه: ما ذكرناه أنه لا شفعة إلا بعد دفع الثواب وهو نصُّ المدونة في باب الهِبات: فقال: إن وهب لرجل شِقْصاً من دارٍ على عوص سميَّاه أو لم يسمِّياه، أَنَّ لا يأخذه بالشفعة حتى يثاب، وفي كتاب الشفعة: إن سمَّيَا العوض ففيه الشفعة بقيمة العوض، فحمله سحنون

على الخلاف، فمرة جعل ذلك كالبيعِ يلزمه بالتسمية ومرة نفى ذلك، وقيل: ليس بخلاف واستظهر، ويتأول قوله في الشفعة سماه على معنى عينه، وفي الهبة على أنه شرط الثواب لا غير، وإليه ذهب أبو عمران وغيره. وَمَا حُطَّ مِنَ الثَّمَنِ بِعَيْبٍ فَيُحَطُّ اتِّفَاقاً، وَلإِبْرَاءٍ قَالَ أَشْهَبُ: يُحَطُّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ مِثْلَهُ يُحَطُّ عَادَةً .... يعني: أن ما حط من الثَّمَنِ بعد تقريره على المشتري لعيب فيحطّ اتفاقاً عن الشفيع، وإن حط لا لموجب بل لإرادة إصلاح البيع أو التبرع على المشتري، (فَقَالَ أَشْهَبُ: يُحَطُّ) وقال ابن القاسم: إنما يحط إذا كان مثله يحطُّ عادة، وهكذا في المدونة ففيها: ومن اشترى شِقْصاً بألفٍ ثم وضع عنه البائع تسعمائة درهم بعد أخذ الشفيع أو قبله نظر، فإن أشبه أن يكون ثمن الشِّقْص عند النَّاس مائة درهم إذا تَبَايعوا بينهم واشتروا بغير تغابن وضع ذلك عن الشفيع؛ لأن ما أظهر له من الثمنِ الأول إنما كانَ سبباً لقطع الشُّفْعَةِ وإنْ لم يشبه ثمنه أن يكون مائة لم يحط عن الشفيع، [592/أ] وإن كان لا يحط مثله عن الشَّفِيع شيئاً وكانت الوضيعة هبة للمبتاع، وقال في موضع آخر منها: إن يحط عن المبتاع ما يشبه أن يحط في البيوع، وضع ذلك عن الشفيع، وإنما لا يحط مثله، فهي هبة ولا يحط عن الشفيع شيئاً، وهذا الأخير هو الذي نقله المصنف على أنّ صاحبَ النُّكت وابن يونس قالا إن القولين ليسا بخلاف، وإنما هما راجعان إلى شيء واحد؛ لأن معنى قوله: وإن حط ما لا يحط في البيوع لا يوضع عنه شيء، يريد: وثمن الشقص أكثر من الباقي بعد الحطيطة، وأما إن كان ثمن الشقص مثل الباقي بعد الحطيطة فأقل فالأمر ما ذكر أولا. عبد الحق: والحطيطة ثلاثة أقسام: منها ما يكون هبة للمبتاع لا يحط الشفيع، ومنها ما يشبه حطيطة البيع فيحط للشفيع، ومنها ما يظهراه لقطع الشفعة ثم يسقطاه ويكون الباقي مثل قيمة الشقص فهذا يحط للشفيع.

ولا تُنْقَضُ الشُّفْعَةُ بِرَدِّ الثَمَنِ الْمُقَوَّمِ بِعَيْبٍ أَوْ باسْتِحقَاقِهِ، وعَلَى الشَّفِيعِ قِيمَتُهُ عِندَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقيمَةُ الشِّقْصِ عِنْدَ سُحْنُونٍ، فَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الشِّقْصِ وَلَوْ وَقَعَ قَبْلَهَا امْتَنَعَتْ .... يعني: إذا وقع البيع يقوَّم كعبد أو دار ثم استحق أورد بعيب، فإن كان ذلك قبل أخذ الشفيع بطلت الشفعة لانتقاض البيع قبلها إلا أن البائع يسترد البيع. ابن عبد السلام: ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإلى هذا أشار بقوله أخرى: ولو وقع قبلها امتنعت: أي وقع بأحدهما إما باستحقاق أو بالرد بالعيب، وإن كان بعد الأخذ بالشفعة انتقض ما بين البائع والمشتري ورجع البائع على المشتري بقيمة الشقص. ابن القاسم: ولا ينتقض ما بين الشفيع والمشتري فلا يكون للشفيع على المشتري إلا قيمة المقوَّم المستحق أو المردود بعَيْب، وبه قال أشهب وأصبغ. محمد: وهو أحبُّ إليَّ، وهذا معنى قوله: (وعَلَى الشَّفِيعِ قِيمَتُهُ عِندَ ابْنِ الْقَاسِمِ) أي قيمة المقوم، وقال عبد الملك وسحنون: ينتقض ما بين الشفيع والمشتري أيضاً ويكون على الشفيع قيمة الشِّقْص كما كانت على المشتري، وهو معنى قوله: (وَقيمَةُ الشِّقْصِ عِنْدَ سُحْنُونٍ، فَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ)، فإن شاء أخذ قيمة الشقص، وإن شاء ترك، فإن كانت قيمة الشقص أكثر أخذها إن شاء، وإن كانت أقل رجع على المشتري بما بقي عنده، والأول أصح؛ لأن الشفعة بيعُ حادث فلا يلزم من انتقاضه بين البائع والمشتري انتقاضه بين الشفيع والمشتري، فلو كانت قيمة العبد خمسين وقيمة الشَّقص خمسين فلا إشكال، وإن كانت قيمة العبد خمسين وقيمة الشِّقص ستين فلا يجوع للمشتري على الشفيع بالعشرة الزائدة عند ابن القاسم ويرجع بها عند سحنون وعبد الملك إن اختار الأخذ بالشفعة، وإن كانت قيمة الشِّقص أربعين فلا رجوع للشفيع عند ابن القاسم ويرجع عند سحنون وعبد الملك ويأخذ العشرة الزائدة.

وَأَمَّا النُّقُودُ فَبَدَلُهَا يعني: ولو كان ثمن الشقص نقداً دراهم أو دنانير فاستُحِق أو اطُّلع على عيب بذلك الثمن، فلا أثر لذلك في إسقاط الشفعة سواء كان ذلك قبل الأخذ بالشفعة أو بعدها لوجوب القضاء بمثل ذلك العيب فإنها لا تتعين. وَفِي غَيْرِهَا قَوْلانِ: بَدَلْهَا وَقِيمَةُ الشِّقْصِ، فَيَجِيءُ فِي الشَّفِيعِ الْقَوْلانِ أي: في غير الثمن المقوم والنقود، وهو العَرَض المثلي، يعني وإن كان الثمن عرضاً مثلياً فاستحق أو رد بعيب فاختلف هل يرجع إلى بدل تلك العروض المثلية كالنقد أوإلى قيمة الشقص كما لو كان العرض مقوماً على قولين: والأول: في الموازية، والثاني: لسحنون ومحمد وغيرهما، وهو الصواب عند جماعة من الشيوخ؛ لأن القاعدة أن من باع عرضاً بعرض ثم استحق ما بيده يرجع بقيمة ما خرج من يده أولاً، لا بما استحق منها إلا في بعض مسائل شذت في المذهب، وإن رويت على القولين فقط غلط سحنون وغيره في روايتها على معنى الأول، وهذا الخلاف إنما هو إذا كان الاطلاع على العيب بعد أخذ الشفيع وأما إن كان قبله فيبطل البيع بالاتفاق، فتبطل الشفعة وعلى القول بأن على المشتري قيمة الشِّقْص، يختلف هل ينتقض ما بين الشفيع والمشتري أو لا على القولين السابقين، اي قول ابن القاسم وسحنون ولا روايتهما، قال المصنف: (الْقَوْلانِ) فأتى بأل الدالة على العهد. وَلَوْ تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يُشْبِهُ بِيَمِينٍ، وَإِلا فَقَوْلُ الشَّفِيعِ، وقَالَ أَشْهَبُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يُشْبِهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَفِي غَيْرِهِ بِيَمِينٍ .... أي: إذا تنازع الشفيع والمشتري في قدر الثمن (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يُشْبِهُ بِيَمِينٍ) إن ادعى عليه الشفيع المعرفة.

صاحب البيان: ولا خلاف في هذا، واختلف إذا لم يدّع الشفيع المعرفة واتهم المشتري أن يكون اشتراه بأقل هل له تحليف المشتري أم لا على الخلاف في توجيه يمين التهمة؟ وظاهر المدونة في توجه هذه المسألة سقطوها، ونص المتيطي على أن الأشهر في المذهب سقوط اليمين، قال: وهو دليل المدونة، وقال أصبغ: يحلف المبتاع فيما لا يشبه ويصدق فيما يشبه، واختار اللخمي توجيهها قال: لأنه قد كثرت الحيل من الناس على إسقاط الشفعة إلا أن يكون المشتري من أهل الدين والأمانة، وظاهر قول المصنف أن القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه سواء أتى الشفيع بما يشبه أم لا. قوله: (وَإِلا) أي: وإن لم يأتِ المشتري بما يشبه فقول الشفيع، يريد إذا أتى بما يشبه أما إن أتى بما لا يشبه، فقال اللخمي وصاحب البيان: حلفا جميعاً ورد إلى الوسط بما يشبه فيأخذه به أو يدع، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالشفعة بما حلف عليه الحالف منهما، وحكى في البيان قولا آخر أن القول قول المشتري مع يمينه، وهذا هو قول أشهب الذي حكاه المنصف بقوله: (وقَالَ أَشْهَبُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي) أي: مطلقاً أتى بما يشبه أم لا، غير أنه إن أتى بما لا يشبه حلف على ذلك، وإن أتى بما يشبه لم يكن عليه يمين. تنبيه: ومن دعوى المشتري ألا شبه أن يكون هذا المشتري من الملوك وشبههم الذين يرغبون في الدار الملاصقة لهم، ويزيدون في ثمنها، فكيف بما لهم فيه شركة، قاله مالك في المدونة والعتبية وغيرهما، قال في العتبية: وإذا كان من هؤلاء الملوك، فلا يمين عليه إلا أن يأتي بما لا يشبه. قال في البيان: والشيوخ يحملون ما في المدونة على الخلاف للمدونة؛ لأنه قال في المدونة: القول قول المشتري، فقال الشيوخ: يعني مع يمينه، قال: وليس ذلك عندي

صحيح؛ لأن رواية أشهب [592/ب] محمولة على ما إذا لم يتحقق الدعوى على المشتري وإنما اتهمه فلم يوجبها عليه إلا في الموضع الذي تظهر تهمته وهو إذا أتى بما لا يشبه، ومعنى المدونة محمول على ما إذا تحقق كل واحد منهما الدعوى على صاحبه، قال في المدونة: أقاما بينة وتكافأت في العدالة؛ كمن لا بينة له ويصدق المبتاع؛ لأن الدار في يده، قال سحنون: لا بطلان في التكافي والبينة بينة المبتاع ومثله لأشهب. ابن يونس: وهذا إذا كانت الشهادتان بمجلس واحد، وفي الموازية: إن كانت الشهادتان عن مجلسين فالقول للشفيع وإن كانوا عدولاً وإن كانت ببينة الآخرون أعدل؛ لأنه إن كانت بينة الشفيع قبل فقد زاده في الثمن، وإن كانت بعد فقد أسقط عنه من الثمن واختلف عند عدم البينة هل تقبل شهادة البائع، فقال ابن المواز: لا يقبل قوله وإن كان عدلا، ويقرب منه في كتاب ابن مزين، وقال صاحب البيان: لا يمتنع عندي أن يكون شاهدا يحلف معه إذا كان لا يتهم في شهادته، وأما إن طال الزمان حتى نسي الثمن، وقال المشتري: لا أعلمه من طول الزمان في غيبة السفر؛ سقطت الشفعة. وفي الموازية والمجموعة: إذا أتى المشتري بما لا يشبه وجهل الثمن أخذه الشفيع بقيمته يوم البيع؛ ونحوه لأصبغ. فلو أنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ - وَالْبَائِعُ مُقِرٌّ - حَلَفَ وَسَقَطَتِ الْعُهْدِةُ، وِقِيلَ: يَاخُذُهُ لأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ أَنَّ الشفيع أَحَقُّ، وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ .... تجوَّز في إطلاق لفظتي البائع والمشتري مع أن البيع لم يثبت وهو نظير قوله تعالى: (ذُقْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ) [الدخان: 49]، فإذا أنكر المشتري شراء الشقص الذي فيه الشفعة وادعاه البائع، ففي المدونة: يتحالفان ويتفاسخان، وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة بإقرار البائع؛ لأن عهدته على المشتري.

أبو محمد: قوله: تحالفا إنما يعني أن المبتاع وحده يحلف فإذا حلف برئ وعلى هذا فصواب قوله: (تحالفا) أن يقول: حلف المشتري، وقال عياض: يصح في هذا اللفظ التحالف، وعلى كل واحد منهما يمين في خاصته في وجه ما، ولكل واحد منهما تحليف صاحبه، أما المشتري فلجحده، وأما البائع فإذا نكل المشتري. وقوله: (وِقِيلَ: يَاخُذُهُ لأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ أَنَّهُ أَحَقُّ) أي أن الشفيع أحق بالشِّقص منه، وكلامه يوهم أن القول الثاني عام في الحاضر والغائب، وإنما في الموازية في من قال أنَّه باع من فلان وفلان منكر أو غائب أنه لا شفعة له إن أنكر، وإن كان غائبا؛ فإن كان بعيد الغيبة فالشفعة للشفيع؛ لأن البائع مقر أنه أولى منه، فإن قدم الغائب فأقر كانت العهدة عليه، وإن أنكر رجع الشقص إلى البائع. محمد: وأحبُّ إليَّ أنه لا يرجع الشقص إلى البائع، وإن أنكر الغائب؛ لأن البائع مقرٌّ أنَّ الشفيع أحقُّ به بذلك الثمن، وتكتب عهدة الثمن على البائع. اللخمي: وقول محمد صواب؛ فإن الحاضر مثله. فانظر كيف فصل في هذا القول بين الغائب والحاضر، وإنما سوَّى بينهما اللخمي. * * * انتهى المجلد السادس من كتاب التوضيح للشيخ خليل بن إسحاق الجندي ويليه المجلد السابع وأوله كتاب القسمة

القسمة

الْقِسْمَةُ: الْقِسْمَةُ ثَلاثَةُ: قِسْمَةُ مُهَايَأَةٍ، وقِسْمَةُ بَيْعٍ، وقِسْمَةُ قِيمَةٍ، فَالأُولَى، إِجَارَةُ لازِمَةُ، كَدَارٍ أَوْ دَارَيْنِ يَاخُذُهَا كُلُّ وَاحِدٍ أَوْ إِحْدَاهُمَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَغَيْرُ لازِمَةٍ كَدَارَيْنِ يَاخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ سُكْنَى دَارٍ .. لا شك في مشروعيتها لقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى} [النساء: 8] الآية. هي ثلاثة أقسام: الأولى قسمة مهايأة. عياض: وهي قسمة المنافع بالمراضاة لا بإجبار، ويقال: مهانأة بالنون؛ لأن كل واحد هنأ صاحبه ما أراد، ومهايأة بالياء باثنين تحتها؛ لأن كل واحد هيأ للآخر ما طلب منه، وهذا القسم على قسمين: مقاسمة زمان ومقاسمة أعيان، أشار المصنف إليهما بقوله: (فَالأُولَى، إِجَارَةُ لازِمَةُ) يأخذها كل واحد أو إحداهما أو هما معاً مدة معينة. فقوله: (أَوْ إِحْدَاهُمَا) راجع إلى الدارين. وقوله: (مُدَّةً مُعَيَّنَةً) يعم الصورتين ويحتمل عوده إلى الثانية ويضم بعد الأولى مثله، والدار الواحدة إنما يتصور فيها مقاسمة زمان بخلاف الدارين فإنهما مقاسمة أعيان. وقوله: (وَغَيْرُ لازِمَةٍ كَدَارَيْنِ يَاخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ سُكْنَى دَارٍ) من غير تعيين مدة، وفي المقدمات: التهايؤ يكون بالأزمان ويكون بالأعيان، والتهايؤ بالأزمان يفترق الحال فيه بين الاستغلال والاستخدام في العبد والركوب في الدابة، والازدراع في الأرض والسكنى في الدار، وأما التهايؤ في الاستغلال فلا يجوز في المدة الكثيرة بالاتفاق، واختلف في اليسيرة كاليوم ونحوه، ففي الموازية: لا يجوز ذلك في الدابة والعبد ولو في اليوم. محمد: ولو سهل ذلك في اليوم، وأما التهايؤ في الاستخدام فاتفقوا على عدم جوازه في المدة الكثيرة واتفقوا على جوازه في الأيام اليسيرة، واختلفوا في حدها، فأجازه ابن المواز في خمسة أيام فأقل لا أكثر، وأجازه مالك في المجموعة من رواية ابن القاسم في الشهر.

ابن القاسم: وأكثر من الشهر قليلاً، وأما التهايؤ في الدور والأرضين فيجوز فيها السنين المعلومة والأجل البعيد ككرائها، كقول ابن القاسم في المجموعة: ووجه ذلك أنها مأمونة، وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستخدم هذا عبداً وهذا عبداً، أو يسكن هذا داراً وهذا داراً أو يزرع هذا أرضاً وهذا أرضاً، ففي المجموعة جوازه في سكنى الدار وزراعة الأرض، ولا يحوز في الغلة والكراء، وذلك على قياس التهايؤ في الأزمان، فيسهل في اليوم الواحد على أحد [593/ أ] قولي مالك فيه، ولا يجوز في أكثر من ذلك باتفاق؛ لأنه غرر وتفاضل، وكذلك استخدام العبد والدواب ليجري على الخلاف المتقدم في التهايؤ في الأزمان. الثَّانِيَةُ: بَيْعُ كَدَارَيْنِ أَوْ حِصَّتَيْنِ، أَوْ عُلْوٍ وسُفْلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَاخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى مِلْكاً .. أي: قسمة المراضاة، وكانت بيعاً؛ لأن كل واحد باع نصيبه في هذا بنصيب صاحبه في الآخر. ابن عبد السلام: وهي بيع لا شك فيها إن كانت بغير تعديل ولا تقويم واختلف فيها إن كانت بتعديل وتقويم هل حكمها حكم البيع أم لا؟ وإن كان بعضهم أطلق الخلاف فيها لما قلنا: إنها بيع، ولذلك لا يحكم بها عند التنازع، واخلتف في جوازها بالقرعة، والمشهور أنها لا تجوز، انتهى. وليس من شرط هذه والتي قبلها اتفاق الجنس بخلاف الثالثة، وذكر عياض أنه يشترط في الثالثة أيضاً ألا تكون في المكيل والموزون، وقال اللخمي وابن رشد: لا خلاف أن قسمة المراضاة بيع، واختلف في القرعة فقيل: تمييز حق، وقيل: بيع. اللخمي: وهو أصوب؛ لأنه لا يختلف أن كل نخلة مثلاً قبل القسمة شركة، وإن كان كذلك كانت القسمة بيعاً، وفي المقدمات نص مالك في المدونة على أنها بيع وذهب سحنون إلى أنها تمييز حق، واضطرب قول ابن القاسم في ذلك على ما يؤخذ من المدونة وغيرها.

عياض: والصحيح من مذهبنا وقول أئمتنا: إنها تمييز حق، وإن كان قد أطلق عليها أنها بيع واضطرب قول ابن القاسم وسحنون. واعلم أنهم أجازوا في قسمة المراضاة التفاضل مثل أن يكون بينهما قفين قمح، فيأخذ أحدهما ثلثه، والآخر ثلثين على سبيل التراضي. ابن راشد: وهذا ينافي كونها بيعاً محضاً. الثالثة: وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ: كَدَارٍ أَوْ بُسْتَانٍ فَتُصَحَّحُ السِّهَامُ، ثُمَّ تُعَدَّلُ الْمَوَاضِعُ عَلَيْهَا بِالْقِيمَةِ لا بِالْمِسَاحَةِ، ثُمَّ يُقْرَعُ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ فِي طَرَفٍ وبَقِيَتْ لَهُ سِهَامُ أَخَذَهَا مِمَّا يَلِيهِ .. إنما كانت هذه هي المقصودة، لأن الأولى راجعة إلى الكراء والثانية إلى البيع. وقوله: (فَتُصَحَّحُ السِّهَامُ) يعني- سواء كانت بين ورثة أو أجانب مثاله: ثلاثة لأحدهم السدس، وللآخر النصف، فتعدل السهام على أقل جزء، وهو السدس، فتعملها ستة أقسام بالقيمة لا بالمساحة أي لا بالمقدار فربما كان ذراع من هذه الناحية يساوي ذراعين أو أكثر من الناحية الأخرى، أما إن تساوت فيها الأرض، فإنها تقسم بالمساحة. ابن عبدوس: ويقوم القاسم النخل نخلة نخلة، ثم يضرب بالقرعة فإن خرجت لصاحب القليل أخذه، وإن خرجت لصاحب الكثير وهو النصف، ضم إليه سهمان آخران مما يليه، وإن خرجت لصاحب الثلث ضم إليه آخر، وهذا هو المعروف، وقيل: إن صاحب السدس لا يكون إلا في أحد الطرفين.

وَصِفَتُهَا: أَنْ يُكْتَبَ الشُّرَكَاءُ فِي رِقَاعٍ وتُجْعَلَ فِي طِين أَوْ شَمْعٍ وَتُرْمَى كُلُّ بُنْدُقَةٍ فِي جَهَةٍ، فَإِنْ تَشَاحُّوا فِي بَدَايَةِ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ أَقْرِعَ عَلَيْهَا أَوَّلاً .. تصوره ظاهر، ثم يخرج كل واحد، أي من رقاع الجهات ومن رقاع الأسامي. وقوله: (فَإِنْ تَشَاحُّوا فِي بَدَايَةِ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ) نحوه في المدونة وزاد فيها: إلا ألا يبقى إلا اثنان، فإن يضرب ولم يلتفت إلى أحدهما، لأن الضرب لأحدهما ضرب للآخر. عياض: واختلف في معنى التشاحح المذكور، فظاهر كلامهم وقول ابن القاسم وغيره ما تقدم من الضرب على أي الجهتين يبدأ، وخالف ابن لبابة ذلك وفسر التشاحح بأن يقول بعضهم: يقسم من قبلة إلى جنوب، ويقول الآخرون: بل من شرق إلى غرب لأغراض لهم في ذلك. ابن لبابة: ولا وجه للتشاحح إلا على هذا، وأما على ما قاله ابن القاسم فلا؛ لأن السهم لا يدرى لمن يخرج فكان حكم الجميع فيه سواء، واختلف إذا خرج سهم واحد هل يقرع ثانياً لجهة الإقراع مطلقاً إلا ألا يبقى إلا اثنان فلا يحتاج حينئذ إلى الإقراع ولا يحتاج إلى الإقراع إلا عند التشاحح على القولين. وَأَصْحَابُ الْفَرِيضَةِ الْوَاحِدَةِ يُجْعَلُونَ أَوَّلاً كَوَاحِدٍ ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ ثَانِيةً مثاله: شريكان مات أحدهما عن ورثة فيقسم نصفين: نصف للشريك، ونصف للورثة ثم يقسم ثانياً، وكذلك أيضاً إذا كان في الفريضة سهام، وفي سهم جماعة مشتركون يقسم أولاً على السهام ثم اقتسم أهله كزوجات لهن الثمن أولاً ثم إن شاءوا اقتسموا ثانياً، وحكى اللخمي الاتفاق على ذلك، وهو يلاحظ ما تقدم في الشفعة أن الشريك الأخص أولى بالشفعة من الشريك الأعم.

وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي الْقَسْمِ بِالْقُرْعَةِ هكذا قال مالك، وحمله ابن القاسم على أنه لا يجوز الجمع سواء اتفق سهم الاثنين أو اختلف، رضيا أم لا، وفي الجلاب: ولا يجمع القاسم بين اثنين في القسم إلا أن يتراضى الشركاء كلهم بذلك. ابن عبد السلام: وقال أصحاب مالك: وإنما يكون ما حمله ابن القاسم: إذا استوت الأنصباء، ولو اختلفت الأنصباء كأن يقول: لبعضهم الثلث ولبعضهم النصف، فإن أصحاب كل جزء من هذه الأجزاء يجتمعون في سهم وإن كرهوا ثم يقتسمون إن شاءوا، وهكذا فسره مالك في العتبية في سماع أشهب وابن نافع، وكذلك فسره مالك ومطرف وأصبغ في الواضحة. وفي اللخمي: اختلف إذا كان الولد عدداً، فقال مالك مرة: هم كأهل سهم واحد فيقسم لهم قسماً واحداً ثم يقتسمونه ثانياً إن انقسم وإلا باعوه، وقال أيضاً: كل واحد صاحب سهم، ورأى ابن القاسم أنهم ليسوا بأهل سهم، وأجاز أن يتراضوا على أن يجمعوا أو يضرب لهم بسهم واحد للاختلاف في ذلك ثم قال: والصواب في الولد والإخوة والأعمام أنهم كأهل سهم. وفي البيان: وأما أهل [593/ ب] السهم الواحد كالزوجات والبنات والأخوات والجدات والموصى لهم بالثلث فلا خلاف أنه يجمع حظهم في القسمة شاءوا أو أبوا؛ لأنهم كالشيء الواحد. وفي العصبة ثلاثة أقوال: أحدها: كأنهم أهل سهم واحد يجمع لهم حظهم ثم يقتسمون إن شاءوا وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنهم لا يجوز جمعهم وإن رضوا، وأراه قول المغيرة.

والثالث: أنه لا يجمع حظهم إلا أن يرضوا، وهو قول ابن القاسم في المدونة؛ لأنه فسر قول مالك فيها في من ترك زوجته وعصبته وترك امرأة يضرب لها بحقها مع العصبة في أحد الطرفين، فقيل: إنه يضرب لها في أحد الطرفين، فقال: معناه عندي إذا كان العصبة واحداً أو عدداً لا يريدون القسمة، وقد اختلف في تأويل قول مالك أن الزوجة يضرب لها بحقها مع العصبة في كلام أحد الطرفين كان الورثة من كانوا ثم يقتسمون بعد أن أحبوا، وهو ظاهر قول مالك في المدونة ورواية ابن الماجشون، وقيل: ذلك مع العصبة خاصة إذا لم يروا أن يقتسموا، انتهى بمعناه. واستثنى ابن القاسم مسألة الزوجة من عموم المسألة. بِخِلافِ مَا لَوْ قَاسَمَ شَرِيكَانِ ثَالِثاً؛ هَذَا بَيْعُ يعني إذا قاسم الشريكان ثالثاً فإن هذا بيع لا قسمة قرعة، وفي كلامه إشارة إلى أن قسمة القرعة تمييز حق لا بيع. الْقَاسِمُ: الاثْنَانِ أَوْلَى مِنَ الْوَاحِدِ، وَلا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا بَعْدَ الْعَزْلِ فهم من قوله: (أَوْلَى) أن الواحد يجزئ؛ لأنه كالحاكم، ولهذا (وَلا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا) بعد عزل القاضي الذي بعثهما، فقال ابن شعبان: لابد من اثنين، وغلب على ذلك الشهادة، وبالأول قال ابن حبيب، فإنه قال: يقبل القاضي شهادة القاسم إن كان الحاكم هو الذ ي أمره بذلك، وذكر ذلك الحاكم، وقاله ابن الماجشون، وكذلك كل ما لا يباشره القاضي من الفعل أو القسم والاختلاف والكتاب والنظر إلى العيب وشبهه؛ لأن فعلته كانوا مرتزقين أولا، وفهم من قوله: (بَعْدَ الْعَزْلِ) قبول قولهما قبله، وهو قول مالك في العتبية، وهو الذي في الوثائق المجموعة، قيل: وهو الصواب، وقال سحنون: إذا شهد قاسمان على ما قسماه بأمر قاض أو بغير أمره أن كل واحد ممن قسما بينهم قد استوى نصيبه، فلا تجوز شهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعل أنفسهما.

وَلَهُ الأُجْرَةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الْمَقْسُومِ لهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَقَالَ أَشْهَبْ: عَلَى حِصَصِهِمْ .. يعني: أن القاسم إن كانت له أجرة من بيت المال لم يجز أن يأخذ أجرة من الناس، وظاهره إباحة أخذها إذا لم تكن له أجرة من بيت المال، ومذهب المدونة والعتبية وغيرهما: الكراهة، ففي باب القسم من المدونة: وأكره لقاسم القاضي والمغنم أن يأخذ على القسم أجراً؛ لأنهم إنما يفرض لهم في أموال اليتامى وسائر الناس كما أكره ارتزاق صاحب السوق من أموال الناس. وفي باب الآذان: وكره مالك إجارة قسام القاضي، وكان ربيعة وخارجة رضي الله عنهما، يقسمان ولا يأخذان جعلاً. وقوله: (عَلَى عَدَدِهِمْ) هو مذهب المدونة، قال فيها: وسواء في ذلك من طلب القسمة أو أباها، وبقول أشهب قال ابن الماجشون وأصبغ. الباجي في وثائقه: وبه جرى العمل. المتيطي: وقال غير واحد من الموثقين: الأول أظهر وبه القضاء؛ لأن تعبه في تمييز النصيب اليسير كتعبه في تمييز النصيب الكثير، وكذلك اختلف في أجرة كاتب الوثيقة على مذهبين: ففي القسم من المدونة في قوم أرادوا أخذ مال لهم عند رجل ويستأجرون من يكتب كتاباً لهم: فله أجرة عليهم وعليه، وقال أشهب نحوه في الجلاب، وفي سماع ابن القاسم: لا يكون على الذي بيده المال شيء، وقال سحنون: ذلك كله على الذي بيده المال، قال بعض الموثقين: لأنه رأى أن المنفعة له وحده، وفي الجلاب: إذا كان لجماعة حق على رجل فكتبوا عليه كتاباً واحداً وسهامهم مختلفة فيه، فأجرة الكاتب بينهم بالسواء، وقد تقدمت نظائر هذه المسألة.

الْمَقْسُومُ: هُوَ الْمُشْتَرَكُ عَقَاراً أَوْ غَيْرَهُ هو ظاهر التصور. وَيُقْسَمُ كُلُّ صِنْفٍ، مُفْرَداً يعني: أنه لا يجوز في قسم القرعة الجمع بين جنسين أو نوعين متباعدين؛ لأن ذلك غرر، وحكى ابن عبدوس عن أشهب جوازه برضاهم، وهو الذي حكى غيره عنه أنه يوافق على هذا الأصل غير أنه يخالف في مسائل خلافاً في حال كمسالة المدونة فإنه أجاز فيها إذا كانت نخلة وزيتونة بين رجلين أن يقتسماها بالقرعة إذا اعتدلنا في القسم وتراضيا بذلك، قال فيها: وإن كرها لم يجبرا وإن لم يعتدلا في القسمة. واختلف في مسألة المدونة هذه، فقال سحنون: ترك ابن القاسم قوله: لا يجمع بين صنفين مختلفين. وقال بعضهم: هي قسمة مراضاة، ورد بأن اشتراطه الاعتدال في قسم القرعة. وقال اللخمي: إنما أجاز ذلك فيما قل. ابن راشد: ويحترز في القسم من ثلاثة: الجهالة، والربا، وإتلاف المال. أما الجهالة: إلا أن توصف لهما؛ ومنعه سحنون ولو وصفت. وأما الربا: فكاقتسامها ثمراً أو زرعا قبل بدو صلاحه على شرط التبقية. وأما إتلاف المال: فكقسمة النخلة الواحدة خشباً أو كقسمة اللؤلؤة، وحكى عياض فيما ينتقص من ثمنه كثيراً، كالياقوتة الكبيرة والجمل النجيب يقسم لحماً- خلافاً: هل جوز قسمته بالتراضي أم لا؟

وَتُجْمَعُ الدُّورُ الْمُتَقَارِبَةُ الْمَكَانِ الْمُسْتَوِيَةُ نِفَاقاً وَرَغْبَةً مَهْمَا دَعَا إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا فِي جِتَهَيْنِ مِنَ الْبَلَدِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ .. هكذا في المدونة، ووجه ظاهر؛ لأنه إذا اجتمع ذلك لو ناب كل واحد منهما دار كاملة أو جزء كبير يحصل به الانتفاع التام بخلاف ما إذا قسمت كل دار مفردة، ولا يجوز [594/ أ] الجمع عند ابن القاسم إلا بشرطين: التساوي في النفاق، والتقارب. قال في المدونة: كالميل ونحوه، قال فيها: وإن تباعد ما بين كل قريتين أو حائط أو قريح كاليوم ونحوه لم يجمع في القسم وإن اتفق في الكرم والنفاق، واشترط أشهب شرطاً واحداً وهو التقارب، وقال سحنون: يقول ابن القاسم في الدور ويقول أشهب في الأرضين، هكذا ذكر اللخمي وأبو الحسن هذه الأقوال، وما نسباه للمدونة هو الذي يؤخذ منها، ورأى صاحب البيان أن مذهب المدونة، جواز قسمتها إذا اتفقت في القرب وإن اختلفت في النفاق، قال: ويقوم من المدونة قول آخر، وأشار إلى ما ذكرناه، واعلم أن الشيوخ قد اختلفوا في النقل عن أشهب، ورأيت اختصار ذلك؛ لأن المصنف لم يتعرض لذلك. فرعان: أولهما: اختلف في قسمة العلو والسفل بالقرعة. الثاني: يجوز في القرعة أن يكون بينهما الشيء اليسير، كما لو كانت قيمة أحدهما مائة والآخر تسعين، وتقارعا على أن من صارت إليه المائة يعطي صاحبه خمسة؛ لأن هذا مما لابد منه ولا يتفق غالباً تساوي القيمة، قاله اللخمي، قال: وتجمع الحوانيت بعضها إلى بعض إذا كانت في سوق واحد أو سوقين بشرط تقارب الأغراض ولا تجمع الديار إلى الحوانيت ولا إلى الفنادق ولا إلى الحمامات، وأما جمع الفندق إلى الحمام، فيسأل عنه أهل المعرفة، فإن رأوا اتفاقهما لم تجمع وإلا جمعت وتجمع الحوانيت بعضها إلى بعض إذا كانت

في سوق واحد أو سوقين بشرط تقارب الأغراض، ولا تجمع الديار إلى الحوانيت ولا إلى الفنادق، وقد يستحق جمع الحوانيت كدور الغلة، انتهى بمعناه. إِلا أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةُ مَعْرُوفَةً بِسُكْنَاهُمْ فَتُفْرَدُ إِنْ تَشَاحُّوا فِيهَا هذا استثناء من قوله: (وَتُجْمَعُ الدُّورُ) أي: تجمع إلا أن يهلك الرجل الشريف وله ولد ويترك دار سكناه وغيرها فتشاح الورثة في تلك الدار، فإنها تقسم بينهم إن حملت القسم ثم يقسم غيرها على ما تقدم. وهكذا قال ابن حبيب في واضحته ونحوه في المدونة، لكن حمل ابن أبي زمنين المدونة على ما إذا لم يكن للميت غير دار سكناه، قال: ولو كان معها غيرها لجمعت للقسم. ولا كلام للمنازع خلاف ما قاله ابن حبيب، وإلى هذا التفسير ذهب أبو عمران. ابن عبد السلام: والأكثر ممن لقيناه على ما في الواضحة وهذه المسألة وقع اضطراب في لفظها في المدونة. وَكَذَلِكَ الْقُرَى والْحَوَائِطُ والأَقْرِحَةُ يُجْمَعُ مَا تَقَارَبَ مَكَانُهُ- كَالْمِيلِ وَنَحْوِهِ- وَتَسَاوَى فِي كَرْمِهِ وعُيُونِهِ، بِخِلافِ الْيَوْمِ .. أي: وكذلك تجمع القرى والحوائط، وما ذكره في حد القرب والبعد ونحوه في المدونة وقد تقدم. ابن رشد: قيل: القرب الميلان ونحوهما، وقال أبو عمر الإشبيلي وابن عتاب: العشرون ميلاً قريب. ولابن حبيب في الواضحة: الثلاثون ميلاً قريب. عياض: والأقرحة: الفدادين واحدها بالفتح مثل زمان وأزمنة، وفي المدونة: واحدها قريح، ولا يبعد صوابه إن سمع كقفيز وأقفزة، وبعير وأبعرة، وقال الخليل: القراح من

الأرض كل قطعة على حيالها من منابت الشجر ونحو ذلك، وقال ابن دريد: القراح من الأرض ما خلص طينه، وقال الجوهري: هي المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر. ابن عبد السلام: وهو الأقرب لاستعمال الفقهاء. قال ابن الأنباري عن أبي حاتم في لحن العامة: فدان بالتخفيف، والجمع أفدنة، ولا يقال: بالتثقيل، وحكاه غيره مشدداً. وقوله: (فِي كَرْمِهِ وعُيُونِهِ) يحتمل عيوبه بالباء من العيب، ويكون مقابلاً للكرم، ويحتمل بالنون، وهو الذي يؤخذ من المدونة؛ لأن فيها: وإن ورث قوم أراضي وعيوناً كثيرة فأراد بعضهم قسم كل عين وأرض، وأراد غيره اجتماع حصته من ذلك فإن استوت الأراضي في الكرم- أي: في الجودة- وتقاربت أماكنها واستوت العيون في سقيها جمعت، وإن اختلفت الأرض في الكرم والعيون في الضرر قسمت كل أرض وعينها على حدة. والواو في قوله: "والعيون" بمعنى أو، وقاله أبو الحسن، اللخمي: وعلى هذا لا يجمع البعل مع ذات العين ولا ذات البئر، ولا ذات عين مع ذات بئر، قال: ولا تخلو الأوطان من ستة أوجه، إما أن تكونا بعلاً لا سقي لهما، أو سقيهما معاً بالعيون، أو سقيهما بالقرب، أو أحدهما بالبعل، والأخرى بالعين أو بالبئر وبالقرب، فعلى قول ابن القاسم: لا يجمعان إلا أن يتساويا، وقال أشهب: لا يجمع البعل مع العيون، ولا يقسم البعل مع النضح إلا برضا أهله، ولا وجه لهذا البعل والنضح أقرب من البعل مع العين، انتهى. وقال الباجي: جوز في الموطأ أن يقسم البعل مع ما يسقى من العيون سيحاً من غير نضح، وهو مشهور المذهب، ووجهه أنهما يزكيان بالعشر بخلاف النضح الذي يزكي بنصف العشر، وروى نحوه ابن وهب عن مالك في المجموعة، وفي الواضحة: لا يجمع

البعل مع السقي ومثله في سماع أشهب، ابن زرقون: ولا خلاف أنه لا يجمع النضح مع البعل ولا مع السيل إلا على رواية النخلة والزيتونة. وَلَوْ كَانَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ رُمَّانٍ وتُفَّاحٍ وغَيْرِهِ عَلَى حِدَةٍ قُسِمَ إِنِ انْقَسَمَ، بِخِلافِ حَائِطٍ فِيهِ أَشْجَارُ مُخْتَلِفَةُ أَوْ نَخْلُ مُخْتَلِفَةُ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ مُجْتَمِعاً وَكَذَلِكَ أَرْضُ فِيهَا شَجَرُ مُتَفَرِّقَةُ .. (عَلَى حِدَةٍ) أي في حائط واحد لقوله: (بِخِلافِ حَائِطٍ ... إلى آخره) وحاصله أن الحائط [594/ ب] الواحد يقسم بالقيمة ولا يفرق سواء كانت فيه أشجار أم لا، قال في المدونة: كالتفاح والرمان والأترنج وغيره أو أنواع من الجنس الواحد، وإليه أشار بقوله: (أَوْ نَخْلُ مُخْتَلِفَةُ) قال في المدونة: كالبرني والصيحاني والجعرور وأصناف التمر. قال سحنون: وما في المدونة من جمع الحائط المختلفة في القسم استحسان للرفق لاجتماع السهم، وإذا كرهه هكذا حكى الباجي عنه، وحكى ابن يونس عنه فقال: لا يقسم الجنان المختلفة الثمار إلا بالتراضي، وظاهر المدونة أنه يقسم الرديء مع الجيد، ألا ترى أنه قال: يجمع الصيحاني والبرني مع الجعرور، وظاهر ما في المجموعة أنه يقسم كل نوع على حدة، كذلك ظاهر ما حكاه ابن يونس عن سحنون من أنه لا يجوز إلا بالتراضي. قوله: (وَكَذَلِكَ أَرْضُ فِيهَا شَجَرُ مُتَفَرِّقَةُ) نحوه في المدونة في القوم الذين ورثوا أرضاً بها أشجار، هنا شجرة وهنا شجرة، وأرادوا قسمتها، قال فيها: فليقتسموا الأرض والشجر جميعاً؛ إذ لو قسموا الأرض على حدة لصار لكل واحد شجر في ارض صاحبه. وَلا يُقْسَمُ مَجْرَى الْمَاءِ جَبْراً هكذا في المدونة في القوم الذين ورثوا قرية ولها عين، إنهم يقتسمون القرية ولا يقتسمون مجرى الماء، ويكون لهم في الماء على قدر مواريثهم بالقلد، وقال: جبراً؛ لأنهم إن تراضوا جاز قسمه.

وَالْبَزُّ كُلُّهُ صِنْفُ، وَتُضَمُّ إِلَيْهِ ثِيَابُ الصُّوفِ وَالأَفْرِيَةِ إِذَا لَمْ تَحْمِلِ الْقِسْمَةَ، وَقِيلَ: أَصْنَافُ، فَالْقُطْنُ وَالْكَتَّانُ صِنْفُ، وَالحَرِيرُ والْخَزُّ صِنْفُ، والصُّوفُ والْمِرْعِزَّي صِنْفُ، وَيُقْسَمُ الْمَخِيطُ مَعَ غَيْرِهِ .. (الْبَزُّ) بفتح الباء، وأطلقه في الكتاب على ما يلبس سواء كان صوفاً أو خزاً وكتاناً أو قطناً أو حريراً، مخيطاً أو غير مخيط. خليل: وعلى هذا أجرى المصنف، ألا ترى إلى التفصيل في القول الثاني. الجوهري: والبز من الثياب متاع البزاز. عياض: وقال صاحب العين: البز ضرب من الثياب، وقال ابن دريد: البز متاع البيت خاصة، والقول الأول من كلام المصنف مذهب المدونة، لكنه أطلق في موضع جمع هذه الأشياء، وقال في موضع آخر: هذا ما لم يحمل كل صنف منها القسمة، وجعل ذلك اللخمي وغيره على الخلاف، والقول بأنه أصناف لابن حبيب ومطرف وابن الماجشون. ابن حبيب: والديباج صنف لا يضم مع الحرير، قال: وثياب القطن والكتان صنف يقسم بالسهم إذا اعتدلت بالقيمة، وإن كان بعضها قميصاً وبعضها أردية، وبعضها عمائم، وبعضها جباباً، ولأشهب في المجموعة كلما جاز أن يسلم واحد في اثنين إلى أجل فلا يجمع في القسم، وما لا يجوز فيه فهو صنف يجمع في القسم. سحنون: وهو الصحيح. (وَيُقْسَمُ الْمَخِيطُ مَعَ غَيْرِهِ) ابن عبد السلام: هو ظاهر الروايات ونص في بعضها. وقال ابنحبيب: لا يضم فراء معلومة إلى فراء غير معلومة، وقيل: لا يجوز جمع الثياب ولا غيرها من العروض والعبيد في القسمة بالقرعة إلا الدور والأرضين.

وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ أَصْنَافُ فلا تجمع في القسم، وقد تقدم في السلم أن البغال والحمير صنف لا يسلم أحدهما في الآخر، وقد تقدم الجواب عن المعارضة بأنه احتياط في الوجهين، وجعل في المقدمات في قسمة البغال والحمير ثلاثة أقوال: الأول: أنهم لا يجمعان في القسمة أصلاً، والثاني: مقابله، والثالث: يجمعان إن لم يحتمل كل صنف القسمة على حدة. وَلا يُقْسَمُ التَّمْرُ مَعَ أُصُولِهِ، وَلَوْ كَانَ بَلَحاً أَوْ طَلْعاً وَيُتْرَكُ حَتَّى يَحِلَّ بَيْعُهُ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ مَعَ الأَرْضِ؛ لأَنَّهُ طَعَامُ وَأَرْضُ بِطَعَامٍ وَأَرْضٍ ... تصور المسألة وتعليلها ظاهر من كلامه، وكلامه في المدونة قريب من كلام المصنف؛ لأنه قال: وإذا ورث قوم شجراً أو نخلاً وفيها ثمر، فلا يقسموا الثمار مع الأصل، وإن كانت الثمار بلحاً أو طلعاً، ولا يقسم الزرع مع الأرض، ولكن تقسم الأرض والأصول وتترك الثمرة والزرع حتى يحل بيعهما فيقسمون ذلك حينئذ كيلاً أو يبعونه ويقتسمون ثمنه. ابن يونس: وأسقط سحنون الطلع، وقال: إذا كان فيها طلع لم يجز قسمتها بحال؛ لأنهما وإن لم يستثنيا شيئاً فهو طعام مؤخر. اللخمي: وإن كان في النخل تمر لم يؤبر لم يجز القسم بحال؛ لأن المقاسمة تقتضي دخول الطعام في القسم، وذلك آيل إلى طعام بطعام، كما قال مالك في من باع حائطاً وفيه ثمر لم يؤبر بقمح نقداً أو إلى أجل: لا خير فيه؛ فراعى ما يؤول إليه. اللخمي: وإن كانت الثمرة مأبورة أو بلحاً صغيراً أو كبيراً أو زهواً كانت المقاسمة جائزة إذا لم تدخل الثمار في القسم، وإن دخلت في المقاسمة لم يجز. وقيل يجوز إدخالها في المقاسمة بشرط أن لا يبلغ إلى حد يحرم فيه التفاضل.

وَلا يُقْسَمُ شَيْءُ مِمَّا فِي أُصُولِ الشَّجَرِ بِالْخَرْصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَكَذَلِكَ الْبَقْلُ الْقَائِمُ إِلاَّ التَّمْرَ وَالْعِنَبَ إِذَا حَلَّ بَيْعُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ حَاجَةُ أَهْلِهِمَا، فَإِنَّ أَمْرَ النَّاسِ مَضَى عَلَى الْخَرْصِ فِيهَا خَاصَّةً .. المنصوص مذهب المدونة: لا يخرص إلا التمر والعنب، إذا اختلفت حاجة أهلهما بأن طلب أحدهم البيع والآخر الأكل ونحو ذلك، وقد تقدم في الزكاة سبب اختصاص الخرص بهما، وأشار بمقابل المنصوص إلى ما رواه أشهب عن مالك في العتبية والمجموعة أنه قال: لا بأس بقسم جميع الثمار إذا اختلفت حاجة أهلها، ونقل ابن حبيب عن مالك- وغيره من الأصحاب إلا ابن القاسم- أنه يقسم مدخر الثمار كلها، والمشهور قصره على التمر والزبيب، وأشهب عداه لكل ما له أصل، وابن حبيب: كل مدخر، وقد قدمنا غير مرة أن المصنف لم يطرد له في مقابل المنصوص قاعدة. وقوله: (وَكَذَلِكَ) أي: لا يقسم على المشهور. وقال أشهب: يقسم إذا بدا صلاحه وجاز بيعه. قال: وليس هذا مثل الزرع؛ لأن الزرع يدخله التفاضل ولا يحاج به كما يحاط بالثمار بخلاف البقل. وأبقى سحنون المشهور على إطلاقه في منع القسم، وأنكر ذلك ابن عبدوس وتأوله على ما إذا كانت القسمة على التأخير، وأما على الجذاذ فيجوز. وقوله: (إِذَا حَلَّ بَيْعُهُمَا ... إلى آخره) يعني أنه إنما يجوز الخرص فيما يخرص بشرطين: أولهما: أن يحل بيعه، وكذلك ذكر هذا الشرط في [595/ أ] المدونة وغيرها. وانظره مع إجازته فيها قسم البلح. ولهذا قال بعضهم: إنه تناقض. قيل: ولعلهم إنما اشترطوا الطيب هنا؛ لأنه يجوز تأخيره بعد القسم إلى أن يصير تمراً ولا يبطل القسم بخلاف البلح.

وثانيهما: أن تختلف حاجة أهله كما لو أراد أحدهما البيع والآخر اليبس؛ إذ لو اتفقت الأغراض لما كان القسم في رؤوس الشجر. فائدة: فضل وأبو عمران وابن يونس واللخمي وغيرهم: ويجوز أيضاً القسم إذا قصد كل الجذاذ، ولكن كان عيال أحدهما أكثر، ويتنزل ذلك منزلة اختلاف الأغراض المتباينة. وزاد الباجي شرطاً ثالثاً: أن يكون المقسوم يسيراً؛ لأن مالكاً كرهه في الكثير جداً، ورأى أنه لا تختلف الحاجة إليه إلا في اليسير، فعلى هذا يرجع هنا الشرط إلى الثاني. ورابعاً: إن تساى طيبه بأن يكون المقسوم كله بسراً أو رطباً، فلو كان منه بسر ومنه رطب قسم كل نوع على حدة، ونص أشهب عليه. وخامساً: أن تكون المقاسمة بالتحري في الكيل. وسادساً: أن يقسم بالقرعة. وزاد غيره: وأن تكون في الرطب أو البسر لا التمر يقتسمانه كيلاً. ولا يضر اختلاف النوع، فيجوز قسمه وفيه العجوة والصيحاني وغير ذلك. كذلك أنواع الزبيب إلا أن يأبى أحدهم فيقسم كل واحد مفرداً. وَيَسْقِي صَاحِبُ الأَصْلِ وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لِغَيْرِهِ كَبَائِعِ الثَّمَرَةِ يعني: إذا اقتسما الثمرة للحاجة ثم اقتسما الأصول فوق نصيب هذا من الثمرة في أصل هذا، فإن صاحب الأصل يسقي أصله وإن كانت الثمرة لغيره وهذا مذهب المدونة؛ لأن القسمة كالبيع، ومن باع تمراً فسقيها على صاحب النخل. وقال سحنون: السقي هنا على صاحب الثمرة؛ لأن القسمة تمييز حق ولو كان كالبيع لما كان عليه أن يسقي من الثمرة إلا نصف ما في نخله ونصف ما في نخل صاحبه

على صاحبه أن يسقي النصف من النصفين جميعاً، ويبين لك الفرق أن البيع فيه الجائحة، ولا جائحة في القسمة. فرع: إذا باع أصل حائطه دون الثمرة فالسقي على البائع؛ لأن المبتاع لا تسلم إليه حتى يجذ البائع ثمره، قاله مالك وسحنون. وقال المغيرة: السقي على المشتري؛ لأنه يسقي نخله فتشرب ثمرة هذا. وَيُقْسَمُ أَيْضاً الْبَلَحُ الْكَبِيرُ وَإِنْ كَانَ رِبَوِيّاً عِنْدَ اخْتِلافِ حَاجَتِهِمْ فِي أَكْلِهِ بَلَحاً أَوْ بَيْعِهِ بَلَحاً، فَإِنْ تُرِكَ شَيْءُ مِنْهُ حَتَّى يُزْهِيَ بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ بِخِلافِ الرُّطَبِ يُتْرَكُ حَتَّى يُثْمِرَ .. ذكر هذا لأنه كالاستثناء من قوله: (إِذَا حَلَّ بَيْعُهُمَا) وما ذكره المصنف وهو كقوله في المدونة: والبلح الكبير إذا اختلفت حاجتهم فيه؛ كأن يأكل هذا بلحاً ويبيع الأرض بلحاً جازت قسمته بالخرص، وهذا كالبسر في تحريم التفاضل فيه، ومن عرف ما صار له منه فهو قبض وإن لم يجذه، وإن جذه بعد يومين أو ثلاثة أو أكثر جاز ما لم يتركه حتى يزهي، فإن ترك أحدهما حصته أو تركاه جميعاً حتى أزهى بطل القسم؛ إذ لا يجوز بيع ذلك حتى يزهي، ولم ير سحنون هذا اختلاف حاجة إذا كان أمرهم يرجع إلى الجذ؛ لأن الذي يأكل يجذ والذي يبيع على الجذ يتركه لأن تركه يبطل القسمة. اللخمي: والأول أصوب؛ لأن المشتري يجذ نصيبه مرة أو مرتين ليدرك بها الأسواق، والآخر يجذر شيئاً فشيئاً. ويجوز أيضاً قسمته وإن لم يبع واحد منهما إذا اختلفت حاجتهما لفضل عيال أحدهما على الآخر، نص عليه غير واحد كما تقدم.

وقوله في المدونة: فإن ترك شيئاً منه حتى أزهى قاس ذلك على البيع. عياض: وما ذكره من جواز ترك الرطب حتى يثمر موافق لما في التجارة من كتاب البيوع الفاسدة، خلافاً لما في كتاب الجائحة أي في مسألة القول الأخص، قال بعض القرويين: ولو أكل أحدهما نصيبه من هذا البلح وترك الآخر نصيبه حتى صار بلحاً كبيراً لم ينتقض القسم؛ لأن بيع صغير بكبيرة متفاضلاً جائز سواء كان اقتسامهما على التفاضل أم لا؟. ابن يونس: ونقل أبو محمد مسألة: "إذا أكل أحدهما جميع حظه وبقي الآخر حتى صار بلحاً كبيراً من المجموعة عن ابن القاسم، وقال فيها: إذا كانا اقتسماه على غير تفاضل أو كان إذا كبر لا يتفاضل فجائز. ابن يونس: وهذا النقل فيه نظر فانظر الأصل. ابن عبد السلام: الذي عندنا في نسخة من النوادر على ظاهرها ما يدل على أنها قرئت على الشيخ أبي محمد؛ إذ العطف بالواو لا بـ (أو) في قوله: "على غير تفاضل" أو كان، وهو معنى ما في المدونة فتأمله. فرع: قال في المدونة: ولا بأس بقسم البلح الصغير بالتحري على أن يجذاه إذا اجتهدا حتى يخرجا من وجه الخطأ، وإن لم تختلف حاجتهم إليه، وإن اقتسماه وفضل أحدهما صاحبه بأمر يعرف فضله جاز ذلك كما يجوز في البلح الصغير، وتركنا ما يتعلق بهذه المسألة وغيرها لعدم تعرض المصنف لذلك. الْمَقْسُومُ لَهُمْ: الشُّرَكَاءُ، وَيُجْبَرُ مَنْ أَبَى الْقِسْمَةَ أما أن المقسوم لهم الشركاء فمعلوم بالضرورة، ويجبر على القسمة من أباها من الشركاء إذا لم يكن في القسم ضرر، فإن كان فيه ضرر، فقد بين ذلك بقوله:

وَفِي الْجَبْرِ فِي مَا فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرُ كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى رِوَايَتَانِ يعني: كالبئر والمسرح والجدار، واحتج مالك للقسم بعموم قوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7] وبالرواية الأخرى قال ابن القاسم وجمهور الأصحاب المدنيين والمصريين. اللخمي: ولو قيل: يمنع قسم الحمام، ولو رضيا كما يمنع قسم اللؤلؤة والياقوتة لكان وجهاً. وَفِي الْحِصَّةِ الْيَسِيرَةِ [595/ ب] لا تَصْلُحُ للسُّكْنَى ثَالِثُهَا: يُجْبَرُ لِصَاحِبهَا خَاصَّةً يعني: إذا كان المشترك من دار ونحوها يقبل القسمة إلا أن لبعض الشركا حصة يسيرة لا ينتفع بها بعد القسم فثلاثة أقوال: الأول: لمالك وابن كنانة أنه يقسم. الثاني: لمالك واختار ابن القاسم أنه لا يقسم، قال في الجواهر: والأول أشهر عن مالك. الثالث: لعيسى بن دينار ومطرف، فإن طلب ذلك صاحب الحصة اليسيرة قضى له وإلا فلا. وفي المقدمات رابع بعكس هذا، قال صاحبها: والذي جرى به العمل عندنا أن الدار لا تقسم حتى يصير لكل واحد من المساحة والبيوت مما ينتفع به ويشتري به عن صاحبه، وقيد الخلاف بوجهين: أولهما: أن تكون الدار للقنية أو من ميراث، وإن كانت للتجارة لم تقسم بالاتفاق؛ لأن فيها نقصاً للثمن، وهو خلاف ما دخلا عليه. ثانيهما: إنما هو في قسمة القرعة، وأما قسمة المراضاة والمهايأة فلا يجبر عليها من أباها؛ لأنهما راجعان إلى البيع والإجارة والإنسان لا يجبر عليهما.

فرع: وإذا اقتسم الشريكان الدار ولم يشترطا أن يقيما بينهما حاجزاً فلا يحكم بذلك عليهما، ويقال لمن دعا إلى ذلك: استر على نفسك إن شئت. وإن اشترط ذلك أخذ من نصيب كل واحد نصف بناء الجدار، وإن كان أحدهما أقل نصيباً من الآخر، قاله في المقدمات. وَيُجْبَرُ مَنْ أَبَى الْبَيْعَ فَي مَا لا يَنْقَسِمُ لِمَنْ طَلَبَهُ إِذَا كَانَتْ حِصَّتُهُ تَنْقُصُ مُفْرَدَةً لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالشُّفْعَةِ. يعني: أن كل ما لا يحكم فيه بالقسمة من ربع أو حيوان أو عرض إذا طلب أحدهم البيع وأبى غيره أجبر الآبي على البيع إذا كانت حصة من طلب البيع تنقص بالبيع وإنما جبر لدفع الضرر. وقوله: (كَالشُّفْعَةِ) أي كما أوجبنا الشفعة لدفع الضرر، فكذلك أوجبنا على الآبي البيع إذاً لدفع الضرر، وهكذا قال ابن شاس ونحوه لابن رشد؛ لأنه قال: إذا كان الربع للغلة لم يجبر من أبى البيع عليه؛ لأن رباع الغلة لا ينتقص ثمن بعضها إذا بيع مفرداً عن بيعه مع الجملة، ثم ربها زادت رغبته في شراء البعض على الكل بخلاف دور السكنى. وقوله: "بخلاف دور السكنى" هو كقول المصنف، وما ذكره في دور الغلة يؤخذ من كلام المصنف؛ لأنها لا تنقص، وأشار عياض إلى أن هذا إنما هو فيما اشتري جملة أو ورث أو للقنية، وأما المشترى للتجارة فكما قال اللخمي: إنه لا يجبر في ذلك على القسمة ولا على البيع؛ لأنه اشترى مشاعاً، فكذلك يبيع، والأكثر على ما قال المصنف من مراعاة نقص الثمن. وذهب ابن لبابة وابن عتاب إلى أن المعتبر إنما هو قصد الاستبداد وغيره من المقاصد دون بعض الثمن.

والمذهب في هذا البيع إذا وقت على ثمن بعد أن نودي على جميعه أنه لمن أراد من الشريكين أخذه بذلك الثمن سواء كان الطالب للبيع أو لا، وبه القضاء. وقال أحمد بن نصر الداودي: ليس التمسك إلا لغير طالب البيع، وحيث حكمنا لمريد البيع بالتمكين منه فهل تخلى الدار والحانوت وغيرهما لذلك أو يكتفي بإلزام الساكن أنه لا يمنع من أراد التقليد من الدخول؟ قولان. ابن عبد السلام: وأخبرني بعض قضاة بلدنا أنه لا يحكم بالإخلاء في الحوانيت وشبهها ويحكم في الدور ونحوها. فَلَوْ ظَهَرَ عَيْبُ فِي وَجْهِ نَصِيبِهِ وَلَمْ يَفُتِ الْبَاقِي فَلَهُ رَدُّ الْجَمِيعِ، فَإِنْ فَاتَ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ رَدَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ وبَقِيَ الْمَعِيبُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ فَاتَ مَا بِيَدِهِ رَدَّ عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَكَانَ السَّالِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْمَعِيبِ مِمَّا فِي يَدِهِ ثَمَناً، وبَقِيَ الْمَعِيبُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ سُبُعُ مَا بِيَدِهِ أَخَذَ قِيمَةَ نِصْفِ سُبُعِ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ الطوارئ على القسمة خمسة: العيب، والاستحقاق، والدين، وظهور وارث، وظهور موصى له، وتكلم عليها أولاً فأولاً، ووجه النصيب أكثره عند ابن القاسم، والنصف عنده كالقليل، وقال أشهب: كالكثير. وقوله: (وَلَمْ يَفُتِ الْبَاقِي فَلَهُ رَدُّ الْجَمِيعِ) أي من المعيب وغيره، وتنقض القسمة، ويحتمل أن يريد بالباقي جميع نصيبه ونصيب شريكه، ويكون راجعاً إلى جميع المقسوم، ويدل عليه قوله: (فَإِنْ فَاتَ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ ... إلى آخره) ومعناه أنه إذا فات مابيد صاحبه رد من لم يظهر في نصيبه عيب قيةم نصيبه السالم وبقي المعيب بينهما، وكذلك إن فات النصيبان معاً فيرجع على من أخذ السالم بنصف ما زادته قيمة السالم على قيمة المعيب.

وقوله: (يَوْمَ قَبْضِهِ) نحوه في المدونة، وهو ظاهر إن كان القبض يوم القسمة، وإلا فقد يقال: البيع هنا صحيح فتلزم القسمة، وقد يقال: لما انتقضت القسمة انتقض البيع، وهذا ظاهر الرواية، إلا أنه لا يكون الضمان إلا يوم القبض. وذكر المصنف من المفوتات البيع والهدم والبناء وأنه يرد نصف القيمة ونحوه في المدونة، وأمر بطرح البيع قال: وقد قال قبل هذا: إذا أصاب عيباً وفات ما أخذ صاحبه ببيع أنهم لا يردون الثمن، وكذلك نقل عنه هنا، وهل يحصل الفوت بحوالة الأسواق؟ وهو مذهب ابن حبيب؛ لكنه استثنى الدور والأرضين. الشيخ أبو محمد: وفوت المعيب بحوالة الأسواق ليس بقول مالك. وقوله: (فَإِنْ فَاتَ مَا بِيَدِهِ) أي: ما بيد صاحب المعيب رد على صاحبه وهو الذي بيده السالم نصف قيمته أي المعيب، وكان السالم بينهما. وقوله: (فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ) هذا قسيم قوله في صدر المسألة (فَلَوْ ظَهَرَ عَيْبُ فِي وَجْهِ نَصِيبِهِ) ودخل في قوله: (فِي غَيْرِ وَجْهِهِ) الأقل والنصف على قول ابن القاسم، يعني: وإن لم يكن المعيب ظهر في الجل فإنه يرد المعيب. قال في المدونة: ولم يرجع في ما بيد شريكه وإن لم يفت إذ لم ينتقض القسم، ولكن ينظر فإن كان المعيب قدر سبع ما بيده رجع على صاحبه [596/ أ] بقيمة نصف سبع ما أخذ، وهذا هو الذي قصده المصنف. وقوله: (رَجَعَ بِنِصْفِ الْمَعِيبِ) فيه حذف مضافين؛ أي: بمثل نصف قيمة المعيب من الصحيح، وهذا هو المشهور. وقال أشهب في مسألة الأقل: يرجع صاحب العيب شريكاً مع الأخذ السالم بالقدر الذي وجب له الرجوع به، وقال محمد: إذا استحق ما بيده شيء انتقض القسم ولم يفرق بين قليل وكثير.

ابن عبد السلام: وقول محمد: وإن كان موضعه ما يأتي لكن له تعلق بهذا الموضع وفي هذا الفصل ذكره اللخمي. وَإِنْ اسْتُحِقَّ بَعْضُ مُعَيَّنٍ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَالْعَيْبِ، وقَالَ مَالِكُ: إِلا أَنْ يَكُونَ كَثِيراً ولَمْ يَفُتِ الْبَاقِي فَلَهُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكاً لِصَاحِبِهِ، بِقَدْرِ نِصْفِ ذَلِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ .. هذا هو الطارئ الثاني، واحترز بالمعين من الشائع، فإنه لا كلام لأحدهما على الآخر لتساويهما. (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَالْعَيْبِ) أي: فإن استحق وجه نصيبه انتقض القسم، وإذا لم ينتقض رجع على شريكه بنصف قيمة ما استحق من يده كما تقدم، وقال مالك كقول ابن القاسم: إلا أن يكون المستحق كثيراً ولم يفت الباقي فلا ينتقض القسم جبراً، ولكن يكون الخيار في ذلك للمستحق من يده في تمسكه بما بقي بيده ويرجع بمثل نصف المعيب من السالم كاليسير. وقال محمد: إذا استحق مما في يد أحدهما شيء انتقض القسم ولم يفرق بين قليل ولا غيره، وظاهر ما حكاه اللخمي عن أشهب أنه لا ينتقض القسم باستحقاق معين قليلاً كان أو كثيراً، وبذلك صرح غيره عن أشهب، فيتحصل في المسألة أربعة أقوال. وقد نسب فضل لابن القاسم مثل قول أشهب، هذا لأنه اختلف قول ابن القاسم في المدونة، فقال مرة: إن كان المستحق كثيراً انتقضت القسمة كلها. وقال مرة: يرجع بنصف قيمته ذلك فيشاركه به صاحبه. قال أيضاً: واختلف قوله في اليسير، فقال مرة وهو الأكثر من قوله له: إنه يرجع بقيمة ما يقابله من الذي في يد صاحبه. وقال مرة: يرجع بقدره شريكاً. وقال غيره: والمشهور من قول ابن القاسم أن المستحق إذا كان كثيراً انتقضت القسمة، وإن كان يسيراً رجع بقيمته.

واعلم أنه وقع في المدونة في مسائل العيب والاستحقاق ألفاظ مشكلة وأجوبة مختلفة اضطربت لذلك آراء الشيوخ في فهمها، والذي حققه بعضهم أن المعلوم من مذهب ابن القاسم أن الثلث كثير يرد به في القيم، وأن القسمة تشاركه في عدم الرد باليسير؛ كالربع فما دونه، وأن المستحق إن كان النصف والثلث فيكون بحصة ذلك شريكاً فيما بيد صاحبه ولا ينتقض القسم، وإن كان فوق النصف انتقض القسم. ابن يونس: وهذا التحصيل حسن، ليس في الباب ما يخالفه إلا في مسألة الدار يأخذ أحدهما ربعها والآخر ثلاثة أرباعها، فيستحق نصف نصيب أحدهما. قال: يرجع بربع قيمة ذلك مما بيد صاحبه، ولو قال: ربع ما بيد صاحبه لاستوت المسائل وحسن التأويل، ولم يكن في الكتاب تناقض، وقد رويت هذه المسألة على الوجه الذي تستوي به هذه المسائل. وَلَوْ طرأ دَيْنُ وامْتَنَعُوا أَوْ أَحَدُهُمْ مِنْ وَفَائِهِ فُسِخَتْ هذا هو الطارئ الثالث و (فُسِخَتْ) القسمة إذا امتنعوا من الوفاء؛ لأن الدين مقدم على الميراث، وإذا رضوا بالوفاء لم يفسخ؛ لأن صاحب الدين إنما له الحق في دينه لا في فسخ القسمة، وهذا متفق عليه إن جهلت الورثة الدين. واختلف إن علموا، فلمالك في الموازية: القسمة منتقضة سواء رضوا بقضاء الدين أم لا، واحتج بقوله سبحانه وتعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11] ورأى أن القسمة تعلق بها حق الله تعالى، وقيل: القسمة جائزة إن رضي الجميع بقضاء الدين، وإن اختلفوا فأراد بعضهم نقضها وأبى ذلك بعضهم نقضت وهو ظاهر المذهب، وقد يفهم كلام المصنف على ما في الموازية لقوله: طرأ فإن مفهومه الفسخ إذا علموا. وَمَا تَلِفَ بِسَمَاوِيَّ فَهَدَرُ أي: وما تلف بيد الورثة بسماوي فلا شيء عليهم؛ لأن غاية صاحب الدين أن يكون كالمستحق ولا شيء على المستحق منه فيما تلف بسماوي.

ويَمْضِي بَيْعُهُمْ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ، ويُوَفَّى دَيْنُهُ مِمَّا وَجَدَ وَيَتَرَاجَعُونَ يعني: ولا مقام لرب الدين في نقض البيع. فإن قيل: هلا جعلتم له نقض البيع كالاستحقاق؟ قيل: ليس هو مستحق حقيقة؛ لأن المستحق يتعلق حقه بعين الشيء المستحق، وحق الغريم إنما يتعلق بالتركة من حيث هي ألا ترى أنه لو تطوع أحد بالدين لما كان لصاحبه مقال. وقوله: (بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ) ابن راشد: لأن المحاباة هبة، واختلف هل يلزمهم وفاء الدين إذا أحدثوا هبة أو صدقة أو عتقاً؛ فقال ابن القاسم: يضمنون الدين بالبيع والهبة والعتق ولا يرجعون على الموهوب له بشيء، وقال أشهب وسحنون: لا يضمنون ويرجع صاحب الدين على الموهوب له بشيء. قال في المقدمات: وفي المدونة ما يدل على القولين ولا خلاف أن الورثة يضمنون ما أكلوه واستهلكوه عمداً ويلزمهم أن يؤدوا ذلك، واختلف في استهلاكهم خطأ. قوله: (ويُوَفَّى دَيْنُهُ) أي: إذا قلنا: هلك بإمضاء البيع فباع أحدهم فإن الغريم يأخذ جميع حصته من الموجود ثم يتراجعون فيرجع من أدى على من لم يؤد. فرع: فإن ادعى أحد الورثة تلف ما أخذه من العين والطعام والإدام ولم يقم بينة لم يصدق، واختلف إذا قامت لهم بينة على الضياع، فقال ابن القاسم: لا شيء عليهم، وقال أشهب: يضمنون، وهو أصهل في العواري، وحكى في البيان قولاً ثالثاً ببراءته في العين دون الطعام والإدام، وقال: ولا خلاف في العروض التي يغاب عليها أنه ضامن إلا أن تقوم البينة على تلفها، ولا في الحيوان الذي لا يغاب عليه أن يصدق في تلفه.

وَقَالَ سُحْنُونُ: لا يُفْسَخُ، ويُبَاعُ مِمَا بَقِيَ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ [596/ ب] عِوَضِهِ بِنِسْبَةِ مَا يَنُوبُهُ إِلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْبَيْعِ لِلدَّيْن، أَوْ يَفْدِيهِ بما يَنُوبُهُ، وَمَنْ تَعَذَّرَ أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ إِلَى مُنْتَهَى مَا بِيَدِهِ ويَتَرَاجَعُونَ ... هذا القول راجع إلى قوله أولاً: (فُسِخَتْ) يعني: وخالف سحنون في فسخ القسمة ورأى أن رب الدين لا قول له في نقض القسمة، وإنما حقه في أخذ دينه. سحنون: ويكون على جميع الورثة لا على قدر مواريثهم فيضربهم؛ إذ قد يكون أحدهم غبن في القسم أو تغير سوق ما بيده فيؤدي أكثر مما ينوبه، ولكن يقوم ما بيد كل واحد يوم البيع ويقسم عليه الدين، فما وقع على كل واحد بيع مما بيده بقدره ولكل واحد أن يفك ما يباع بأداء ما ينوبه. وإذا كان في البيع من نصيب كل واحد ضرر على طالب الدين لطوله أو كان بيع ما بأيديهم أحط ثمناً فليبع ما هو أنجز له مما بيد أحدهم ثم يتراجعون بما كان ينوبهم من الدين يوم قضاه. وقول المصنف: (أَوْ مِنْ عِوَضِهِ) يعني: لو باع أحد الورثة ما نابه بشقص في دار أو غيره، فإنه يباع من ذلك العوض. وقوله: (بِنِسْبَةِ): متعلق، فيباع. وقوله: ومن تعذر إلى آخره: هو كقول سحنون، وإذا كان في البيع من نصيب كل واحد ضرر لكن في كلام المصنف مناقشة؛ لأن كلام سحنون يدل على أن له أن ينتقل بمجرد الضرر، وكلام المصنف يدل على أنه إنما ينتقل عند التعذر، وقول المصنف إلى منتهى ما بيده، أي فلو زاد الدين على ما في يده لم يرجع عليه بالزائد. خليل: وينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يكن الورثة عالمين بالدين، وأما إن علموا فينبغي أن يرجع عليهم بالأقل من مجموع التركة أو الدين، ووافق أشهب سحنون في عدم نقض

القسمة إلا أنه خالفه في كيفية قضاء الدين على ما في أيديهم، ورأى أ، هـ يقضي على النسبة التي اقتسموا عليها، زادت أو نقصت، فإن كان الدين نصف التركة رجع على كل واحد بنصف ما بيده. سحنون: إنما راعى في قوله المتقدم القيمة، ألا ترى إلى قوله: إذ قد يكون أحدهم غبن في القسم إلى آخره، وهكذا حكى ابن رشد وعياض وغيرهما قول سحنون وأشهب، وحكى عنهما اللخمي مثل ما حكيناه عن أشهب، وصرح في البيان أن لأشهب قولين، وحصل في البيان خمسة أقوال: الأول: القسمة تنتقض لحق الله تعالى، وإن لم يشأ الورثة نقضها. الثاني: أن القسمة ترد إلا أن يتفق جميعهم على إمضائها، وهو المشهور من قول ابن القاسم المنصوص له في المدونة. الثالث: أن القسمة تنتقض أيضاً، ويكون ما هلك أو نقص ونما بينهم إلا أن يخرج أحد الورثة من ماله ما ينوبه من الدين. قال: وهو قول ابن حبيب، ومثال ذلك إن هلك المتوفى وله أربعة بنين، وله ثمان بقرات قيمة كل بقرة عشرة مثاقيل فيقتسمونها، فأخذ كل واحد بقرتين فتموت بيد واحد بقرة ثم يطرأ غريم بعشرة مثاقيل، فإن الواجب على قوله أن تنقض القسمة، ويخرج الدين من السبع بقرات الباقية ثم يقتسم الستة الباقية على الأربعة بالسوية، ولمن شاء منهم أن يخرج من ماله ما ينوبه من الدين وذلك ديناران ونصف ويجعل ما ينوبه من البقرة التي ماتت وذلك ديناران ونصف أيضاً. والقول الرابع والخامس: هما قولا سحنون وأشهب. وقال اللخمي: اختلف إذا كان الدين يفترق وبعض الحاضر والقسم بالقرعة، أي وقد هلك ما أخذه بسماوي. فقيل: لا يرجع من استحق ذلك من يده ولا يرجع عليه.

وقيل: يرجع عليه ولا يرجع. وقيل: يرجع ولا يرجع عليه. وبنى الأول على أن القسمة تمييز حق. قال: وهو الأقيس. والثالث على أنها بيع. وَلَوْ طَرَأَ وَارِثُ- وَالْمَقْسُومُ كَدَارٍ- فَلَهُ الْفَسْخُ، وإِنْ كَانَ الْمَقْسُومُ عَيْناً رَجَعَ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَعْسَرَ فَعَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: مَنْ أَعْسَرَ فَعَلَى الْجَمِيعِ (فَلَهُ الْفَسْخُ) أي: وله أن يكون شريكاً مع كل واحد بما ينوبه وكان له الفسخ؛ لأن الطارئ كغيره، فلو لم يكن له الفسخ لزم أن تتميز حقوقهم قبله، وذلك باطل، وإن كان المقسوم عيناً رجع كل على واحد بما يخصه، فإن أعسر بعضهم فلا يؤخذ الملي عنه إذا لم يعلم الملي. قاله ابن القاسم، ورأى أن القسمة صحيحة؛ لأنهم لم يتعدوا فلا يرجع على الملي إلا بما كان يرجع عليه به لو كانوا كلهم أملياء، وقاله أصبغ. وقال أشهب وابن عبد الحكم: إن الطارئ يقاسم من وجد من الورثة ملياً ما صار عليه حتى كأنه لم يترك الميت غيرهما، ثم يتبعان بقية الورثة، فمن أيسر دخلوا معه وساووه، هكذا حتى يعتدلوا. وهذا هو مراد المصنف بقوله عن أشهب: (ومَنْ أَعْسَرَ فَعَلَى الْجَمِيعِ). ابن المواز: وإن ترك على هذا ابناً وامرأة، فأخذت المرأة الثمن والابن ما بقي، ثم طرأت زوجة أخرى، فوجدت صاحبتها عديمة، والابن ملياً فلترجع على الابن بثلث خمس ما صار إليه، وهو جزء من خمسة عشر ما في يده؛ لأنه له أربعة عشر من ستة عشر، ولكل واحدة من الزوجين قسم يرجعان على الزوجة بنصف ما أخذت، وكل ما وجد عنها من ذلك، اقتسماه على خمسة عشر حتى يستوفياه. لَوْ ظَهَرَ مُوصًى لَهُ فَإِنْ كَانَ بِنَصِيبٍ فَكَالْوَارِثِ وبِدَنَانِيرَ وشِبْهِهَا فَكَالدَّيْنِ مُطْلَقاً أي: كانت بنصيب أو عيناً، تصور ظاهر، والأول هو المشهور. والثاني في الموازوية وهو قول ابن حبيب.

القراض

الْقِرَاضُ إِجَارَةُ على التَّجْرِ فِي الْمَالِ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ. لا خلاف بين المسلمين في جوازه، وهو مستثنى من الإجارة المجهولة ومن سلف جر منفعة، وله اسمان: القراض، والمضاربة. وكان جماعة أهل الحجاز يسمونه قراضاً، وأهل العراق يسمونه مضاربة، ولا يقولون القراض ألبتة. وحده المصنف بقوله: إجارة على التجر، فالإجارة جنس، فأخرج بالتجر الإجارة على غيره. وقوله: (بِجُزْءٍ) أي: مشاع، فلا يجوز أن يقول: لك من الربح درهم أو نحوه كما سيأتي: وأورد على حده أنه غير مانع وغير جامع، أما عدم منعه، فلأن القراض لا ينعقد [597/ أ] بلفظه الإجارة، فلو قال: آجرتك على التجر في هذا المال بجزء من ربحه صدق الحد عليه وليس بقراض. وأيضاً فلو آجره على التجر إلى أجل أو قارضه بعروض لم يكن قراضاً صحيحاً. وأما عدم جمعه؛ فلأنه يجوز القراض كما سيقول المصنف على أن يكون الربح كله لغيرهما أو لأحدهما، وهو غير داخل في تعريفه. وأجيب عن عدم منعه بأن حقيقة القراض ما ذكره، وكونه لا ينعقد بلفظ الإجارة شرطاً في الصيغة، وكذلك كونه لا يكون إلى أجل شرطاً في العمل، وكذلك لا يكون بعرض شرطاً في المال، والشرط لا يتوقف تصور الماهية عليه؛ لأنه خارج عنها وعن عدم جمعه، لأن الصورة المعترض بها إنما هي من باب التبرعات ويطلق عليها القراض مجازاً، ثم شرع المصنف في أركانه فقال: الْمَالُ شَرْطُهُ نَقْدُ مُعَيَّنُ مَعْلُومُ مُسْلَّمُ اشترط في المال أربعة شروط، وانظر هل أراد بالنقد الدنانير والدراهم أو مطلق العين؛ وهو الأقرب. وفي الجواهر: احترزنا بالنقد عن العرض وعن النقرة التي ليست مضروبة على أحد الروايتين. ثم أخذ يتكلم على هذه الشروط فقال:

فَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَسْكُوكٍ يُتَعَامَلُ بِهِ جَازَ لا يشترط التعامل بذلك في سائر البلاد، بل في بلد المقارضة، قاله عياض. وقوله: جاز: اللخمي وصاحب البيان باتفاق، واستدل مالك لذلك في الموازية بأن الناس قد عملوا بالقراض قبل ضرب الدنانير والدراهم. واحترز بقوله: (يُتَعَامَلُ بِهِ) مما لو لم يتعام به، وسيأتي قول اللخمي وغيره، وتجوز المقارضة بالحلي في الأرض التي يتعاملون به فيها؛ كأرض المصامدة بالمغرب. وَيجُوزُ بِالْمَغْشُوشِ عَلَى الأَصَحِّ مقابل الأصح لعبد الوهاب، واستثنى الباجي المسكوك منها في بلد يتعاملون بها؛ لأنها صارت هناك أصول الأثمان وقيم المتلفات، قال: وقد اتفق الأصحاب على تعلق الزكاة بها، وذلك دليل على أنها كالعين لا كالعرض. وهذا هو الذي صححه المصنف. وَفِي التِّبْرِ والنِّقَارِ رِوَايَتَانِ وَرَجَعَ عَنْهُ وقد تقدم أن غير المسكوك إذا كان يتعامل به تجوز المقارضة عليه، فإن هذا الخلاف إنما هو إذا كان لا يتعامل به. والروايتان بالجواز والمنع. (وَرَجَعَ) مالك عن الجواز إلى المنع، وحكى ابن الجلاب في الحلي روايتان، قال في البيان: والمعروف المنع. وخصص اللخمي لما إذا كان يتعذر الإتيان بمثل الحلي المقارض به، وإن كان يتعذر ذلك فهو مكروه. وفي المدونة: قال بعض أصحابنا: إن مالكاً سهل في القراض بنقار الذهب والفضة، فسألت مالكاً عن ذلك، فقال: لا يجوز.

وفي الرسالة: وقد أرخص فيه بنقار الذهب والفضة، وأخذ بالرجوع عنه. وزاد اللخمي وغيره ثالثاً بالكراهة، على أني لم أقف على القول بالمنع إلا في النقار، لكن الظاهر لا فرق بينه وبين التبر. فرع: فإن وقع على المشهور ففي الموازية عن ابن القاسم يمضي بالعمل، وقال أصبغ: لا ينفسخ عمل به أم لا لقوة الاختلاف فيه. ابن حبيب: وإذا عمل بالنقار رد مثلها عند المفاصلة، إن عرف وزنها وإن لم يعرف فرأس مال ما باعها به، وما خرج في الصرف عرفاً وزنها أو لم يعرفا، وإن وزنا وشرط ضربها أو صرفها ففعل، فللعامل أجرته في الصرف والضرب إن كان لذلك مؤنة، ثم هو فيها حصل على قراض مثله. بعض القرويين: فالقرق بين اشتراط دافعها ضربها أو بيعها وبين عمله أن مآل أمرهما إلى ذلك إلا أن يريد أن من اشتراط بيعها إنما رأى أن القراض إنما يكون بعد نضوض المال، ومن دفعها ولم يشترط ذلك جعلها قراضاً يوم دفعت، ومثلها لا يتغير ولا يختلف لسواقها ولا يفسد القراض. وَفِي الْفُلُوسِ قَوْلانِ المنع لابن القاسم والجواز لأشهب. موسى القطان: وسألني ابن سحنون عن القراض بالفلوس فذكرت له قول ابن القاسم وأشهب، فقال لي: بقي عليك. فقلت: ما هو؟ فأبى أن يخبرني، فوجدتها بعد ذلك لبعض أصحابنا إن كانت الفلوس قليلة جاز بها القراض، وإن كانت كثيرة لم يجز؛ لأن قليلها كالعين، وكثيرها كالعروض. وحكي اللخمي رابعاً بالكراهة.

المازري: ولم يقع في المدونة لفظ الكراهة، ولكن إن وقع ونزل مضى، فإن كان اللخمي أخذ القول بالكراهة من هذا فهو أخذ صحيح. الباجي: وإذا قلنا بالمنع فوق؛ فقال محمد: القراض بالنقار أخف، والفلوس كالعروض، وهذا يقتضي الفساد، ويكون له في بيع الفلوس أجرة المثل، وفيما نض من ثمنها قراض المثل. وقال أصبغ: وهي كالنقار، وقال ابن حبيب: هي مثله، وترد فلوساً. زاد غيره في قول ابن حبيب: إلا أن يشترط عليه أن يصرفها ثم يعمل بثمنها، فيكون الحكم كما فهمه الباجي من قول محمد. فَلَوْ عَمِلَ بِالْعُرُوضِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي بَيْعِهِ وَقِرَاضِ مِثْلِهِ لا إشكال في منع المقارضة بالعروض، وفرع على المنع، وإن لم يتقدم ذلك بالتصريح؛ لأنه قدم ما يدل عليه، وهو اشتراط النقد. ولا خلاف عندنا، وهو مذهب الجمهور في منع القراض بالعرض سواء كان مقوماً أو مثلياً؛ لأن القراض رخصة انعقد الإجماع على جوازه بالدنانير والدراهم فيبقى ما عداه على أصل المنع، وأيضاً فإن قارضه بالعرض على أن يبيعه ويكون رأس المال ثمنه فقد زاد رب المال عليه منفعة وهي بيعة العرض وإن قارضه به على أن رأس المال ذلك العرض ويرده عند المفاصلة فهو غرر لاحتمال أن يغلو العرض عند المفاصلة [597/ ب] غلاء يستغرق الربح فيؤدي إلى بطلان عمله، أو يرخص فيأخذ العامل بعض رأس المال، وكذلك إن قارضه على أن رأس المال قيمته الآن أو عند المفاصلة. وقيد اللخمي المنع بما إذا كان في بيع العرض كلفة، وكذلك أجرة لها خطب، قال: وإن كانت الأجرة لا خطب لها أو يعلم أنه كان يتكلف ذلك له ولو لم يعطه إياه قراضاً أو يقول له: كحلف من يبيع ويأتيك بالثمن فيكون قراضاً جاز.

المازري: وذكروا أنهم وجدوا وثيقة بخط الشيخ أبي محمد بن أبي زيد أنه إذا دفع لرجل عرضاً وقال له: بعه ولك دينار، فإذا قبضت ثمنه فاجعله قراضاً. وما في هذه الوثيقة من التخيل على جواز القراض بالعرض على الوجه الذي ذكر، وتأول بعضهم عليه أن يكون بنى على أحد القولين في اجتماع جعل وإجارة الإجارة في البيع والجعل في القراض، وفيه نظر؛ لأن الجعل لا يجوز في الكثير بل في القليل فيلزه أن يقيد في الوثيقة هذا الوجه لو قصد بالقليل، ولو كان قصده أيضاً الإجارة لضرب لها أجلاً. المازري: ولو دفع رجل عدد كتان أو رزمة متاع، وقال: خذ هذا العرض وامض به إلى البلد الفلاني فادفعه إلى فلان يبعه ويقبض ثمنه لنفسه، فإذا قبض ثمنه فخذه منه واعمل به قراضاً بيني وبينك؛ فإن ذلك جائز بلا خلاف ولا يدخله القراض بالعروض؛ لأن المدفوع إليه العروض لا يتولى البيع بنفسه، فقوله: (فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي بَيْعِهِ وَقِرَاضِ مِثْلِهِ) هو مذهب المدونة. ابن المواز: ولا فرق في ذلك بين أن يقول: خذ هذه العروض قراضاً أو بعضها واعمل بثمنها قراضاً، ولا شك أن هذه الصورة من القراض الفاسد وسيأتي الخلاف في ذلك. وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ عَلَى دَيْنٍ وَقَارَضَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ عَلَى صَرْفِهِ أي: ومثل العرض في عدم الجواز ابتداء وأنه إن وقع كان له أجر المثل ثم قراض المثل ما إذا وكله باقتضاء دين وقارضه به، وقيده اللخمي بما إذا كان على غائب يحتاج إلى المضي إليه أو على حاضر معسر، وإذا كان على حاضر موسر فليس إلا اجتماع العامل به فيقبضه فهذا جائز؛ إذ لا فرق حينئذ بين قبضه منه أو من ربه وكذلك لو وكله على صرفه، فله أجر الصرف ثم قراض المثل وهكذا في المدونة، وقيد ذلك فضل بما إذا كان الصرف في البلد له بال؛ وأجاز ذلك أشهب.

اللخمي: يريد إذا كانت أجرة البيع لا خطب لها، وإن كان لها قدر لم يجز إلا أن يكون المقارض لا يتولى بيعها وإنما يجلس عند من يتولى له ذلك فيجوز. وكذلك نقل فضل عن مالك من رواية أشهب أنه يرد إلى قراض مثله ويعطي أجرة صرفه إلا أن يكون لا بال للصرف فيمضي، أما إن أعطاه الذهب ليصرفه ورأس المال الدنانير، وإنما اشترط عليه الصرف؛ لأن ذلك من جنس النظر، فإن ذلك جائز وإن كان على رأس المال هو الدراهم فمنعه ابن القاسم وأجازه أشهب، وتأوله اللخمي على أن أجرة البيع لها الشيء اليسير، قال: وإغن كان له قدر لم يجز إلا أن يكون المقارض لا يتولى بيعها، وإنما يجلس عند من يتولى بيعها فيجوز. وَلا يَجُوزُ بِدَيْنٍ وَلَوْ أَحْضَرَهُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ ويَسْتَمِرُّ دَيْناً خِلافاً لأَشْهَبَ لما فرغ مما يتعلق بالقيد الأول شرع فيما يتعلق بالقيد الثاني، وهو قوله معين؛ لأن الدين ليس بمعين فلا يجوز لرب الدين أن يقول للمديان منه: اعمل بالدين الذي في ذمتك قراضاً. مالك في المدونة: ولو أحضره إلا أن يقبضه منه ويعيده عليه. ابن القاسم: مخافة أن يكون أخره بذلك ليزيد فيه. اللخمي: لأنهما قد يظهران ويظنان أن يأتيه بربح من ذمته فيكون فسخ دين في دين. اللخمي والمارزي: ويتنزل منزلة القبض إحضاره مع الإشهاد. واختلف إذا عمل العامل قبل أن يشهد على براءة ذمته فأتى بربح أو كان فيه خسارة ففي الموازية: الربح للعامل والخسارة عليه. وقال أشهب: الربح بينهما. هكمذا نقل اللخمي والتونسي عن أشهب، ثم اختلفا في التأويل عليه، قال اللخمي: على قوله تكون الخسارة من صاحب المال. وقال التونسي: لا يصدق على قوله إن ادعى الخسران؛ لأن ذمته لا تبرأ إلا ببينة.

ولعل هذين التأويلين مبنيان على الخلاف فيمن أخرج من ذمته إلى أمانته. وحكي ابن يونس وابن رشد وغيرهما عن أشهب أنه قال: هو مكروه نعم؛ فإن نزل مضى. وهو ظاهر ما نقله المصنف عنه؛ لأن قوله: (ويَسْتَمِرُّ دَيْناً) خلافاً لأشهب يقتضي أنه عنده لا يستمر ديناً بل يبقى قراضاً، وحكى ابن عبد البر عن أشهب أن ما اشترى وباع فلرب المال وللعامل أجرة مثلهن وحكى ابن حارث عن ابن عبد الحكم أن الربح بينهما والخسارة على رب المال على أصل القراض، وهذا مثل قول أشهب بالكراهة. وقال القاضي عبد الوهاب في الغاصب يرد المال فيقول ربه: لا أقبضه ولكن اعمل به قراضاً، إنه جائز. الباجي: ويحتمل ألا يكون هذا خلافاً لقول ابن القاسم ويفرق بينهما؛ لأن الغاصب أحضر المال متبرعاً بالدين ولعله اتفق معه على إحضاره ليرده أيضاً قراضاً، ولو جاء متبرعاً لكان مثل الغاصب. ابن زرقون: والأقرب أن قوله خلافاً لقول ابن القاسم. قوله: (مَا لَمْ يَقْبِضْهُ) يقتضي أن مجرد القبض يصح القراض حينئذ، وكذلك مقتضى المدونة. أبو الحسن: جعل التهمة هنا تزول بالقبض وإن أعاده إليه بالقرب أو نص في الصرف على أن من قضى لرجل ديناً له، فإنه لا يعيده سلماً [598/ أ] في طعام بقرب ذلك، ونص فيه أيضاً على أن من أسلم إلى رجل دراهم ثم قضاه ديناً له عليه بحدثان ذلك، إن ذلك لا يجوز، وفي السلم الأول مثل ما ذكر في القراض؛ لأنه قال فيمن له على رجل دين، فقال: أسلمه في طعام لم يجز حتى يقبضه منه ثم يرده. والفرق بين القراض والسلم وبين مسألتي الصرف أنه في مسألتي الصرف دفعه من ذمة إلى ذمة، وفي القراض والسلم دفعه من ذمة إلى أمانة. انتهى.

ولما ذكر في البيان هذه المسألة وأن التهمة ترتفع بمجرد القبض قال: ويتخرج فيها قول آخر: إنه لا يعيده إليه في المجلس ولا فيما قرب منه كاليوم واليومين والثلاثة كما قال في مسألة الصرف. وَلا فِي الرَّهْنِ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ أَمِينٍ لأن الرهن إذا كان بيده هو كالدين أو كالوديعة، وإن كان بيد أمين فكأنه اشترط عليه زيادة التقاضي. قال في الموازية: ولا يجوز أن يقارض له الأمين؛ لأنه وديعة عنده ولا خفاء أن قوله ولا في الرهن بيده أو بيد أمين مقيد بما إذا لم يقبضه صاحبه، وحذف المصنف ذلك دلالة لما قبله وقد صرح صاحب النوادر بهذا التقييد. وَلا بِالْوَدِيعَةِ، وقِيلَ: يَمْضِي بِالْوَدِيعَةِ في الوديعة أقوال: الأول: مذهب المدونة أن الوديعة كالدين، فلا يجوز القراض بها إلا بإحضارها وقبضها. ابن القاسم: لأني أخاف أن يكون أنفقها فصارت عليه ديناً. الثاني: أنه يكره ابتداء فإن وقع مضى وإن لم يحضره والربح بينهما ويصدق في التلف، وهو لمالك في العتبية، وهذا القول هو القول الثاني. والثالث: لابن القاسم في الموازية: إن أحضرها جاز. وفرق ابن حبيب فكره ذلك من غير الثقة لا الثقة. وَلا يَجُوزُ بِمَجْهُولِ الْوَزْنِ هذا راجع إلى القيد الثالث، وهو قوله: (مَعْلُومُ) ولا خفاء في عدم الجواز بالمجهول، كدفعه صرة دراهم مجهولة الوزن؛ لأن الجهل برأس المال يؤدي إلى الجهل بالربح.

وَلا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ يَدَهُ أَوْ مُرَاجَعَتَهُ أَوْ أَمِيناً عَلَيْهِ هذا راجع إلى القيد الرابع: وهو قوله: (مُسَلَّمُ) أي: لا يجوز لرب المال أن يشترط على العامل أن يراجعه أو يجعل عليه أميناً؛ لأن في ذلك عدم الائتمان ومخالفة للسنة في القراض، والتحجير عليه في التجارة، والضمير في يده عائد على رب المال فيوافق ما بعده، والعلة في ذلك كما في اشتراط مراجعته أو اشتراطه أميناً عليه، فإن قيل: هل يمكن إعادة الضمير على العامل؟ قيل: فيه بعد؛ لأن المصنف سيتكلم على اشتراط عمل العامل. قال في المدونة: وإن عمل رب المال من غير شرط كرهته إلا في العمل السير. وقال في الموطأ: لا بأس أن يعين كل واحد من المتقارضين صاحبه على وجه المعروف إذا صح ذلك بينهما. وَفِي اشْتِرَاطِ غُلامِهِ مَعَهُ بِنَصِيبٍ قَوْلانِ أي: القول بالجواز لمالك في الموطأ وابن القاسم وابن وهب وغيرهم، وهو المعروف من المذهب، والمنع لمالك في الموازية قديماً. وللجواز شرطان: الأول: أن يكون الربح للعبد لا للسيد. الثاني: ألا يقصد السيد بذلك أن يكون العبد عيناً له على العامل وليعلمه. الْعَمَلُ تِجَارَةُ غَيْرُ مُضَيَّقَةٍ بِالتَّعْيِينِ أَوْ بِالتَّاقِيتِ. هذا هو الركن الثاني، وشرط فيه شرطين. الأول: أن يكون تجارة، وهي طلب الربح بالبيع والشراء احترازاً من أن يعطيه ما لا يصنع فيه صنعة، فإن ذلك خارج عن سنة القراض كما سيقول المصنف.

والشرط الثاني: أن تكون التجارة غير مضيقة بالتعيين أو بالتأقيت احترازاً من أن يأمره بشراء سلع يقل وجودها أو من بلد خاص ونحوه، ومما لو وقت عليه التجر للغرر حينئذ وخروجه عن سنة القراض. فَلا يَجُوزُ عَلَى أَنْ يَخِيطَ أَوْ يَخْرِزَ أَوْ يُشَارِكَ أَوْ يَخْلِطَ أَوْ يُبَضِّعَ أَوْ يَزْرَعَ أَوْ لا يَشْتَرِيَ حَتَّى يَبْلُغَ بَلَدَ كَذَا، وقَالَ: يَقُودُهُ كَمَا يُقَادُ الْبَعِيرُ .. عطفه بالفاء ليرتبه على ما قبله، أي فبسبب اشتراطنا في العمل أن يكون تجراً لا يجوز على نحو أن يخبط أو نحو ذلك، كما إذا قيل: أنت تعرف الخياطة أو الخرز، ولا مال لك، فخذ هذا المال واشتر به ثياباً أو جلوداً والربح بيننا، وعلة منع ذلك واضحة، وهي أن رب المال ازداد عمل العامل، ولكن ذلك خارج عن سنة القراض ومؤدٍ إلى الإجارة المجهولة. فرع: فإن وقع ففي المدونة: يكون أجيراً والربح لرب المال والوضيعة عليه. وفي الموازية: هما على قراضهما. وقاله ابن وهب وضعف؛ لأن فيه إجارة صنعة بجزء من الربح وهو مجهول، وقال أشهب: له أجر مثله فيما عمل، وفيما سوى ذلك قراض مثله. وقال ابن نافع: فيما سوى عمل يده الأقل من المسمى أو قراض المثل كان متمماً لما في المدونة، ويكون أحق بما عمل من الغرماء حتى يأخذ إجارته، يريد إجارته فيما عمل لا في القراض، قاله الشيخ أبو محمد. قوله: (أَوْ يُشَارِكَ أَوْ يَخْلِطَ أَوْ يُبَضِّعَ أَوْ يَزْرَعَ) هذه الأمثلة الأربعة بيان لما احترز عنه بقوله: (غَيْرُ مُضَيَّقَةٍ) أي لا يجوز أن يشترط رب المال على العامل أن يشارك غيره ولا أن يخلطه العامل بمال من عنده.

وهذا هو المشهور في الموازية، لا بأس به في الخلط. وقال أصبغ: لا يعجبني هذا إلا أن يقل مال العامل؛ كالخمسة دنانير أو العشرة مما لا يعني به كثرة البيع، فإن نزل أمضيته على قراضهما، وعلى المنع إذا فات، فله أجر مثله؛ لأنها زيادة صحبت المال، وقيل قراض مثله؛ لأن الزيادة لم تخرج عن المال. قوله: (أَوْ يُبَضِّعَ) أي لا ويجوز أن يشترط رب المال على العامل أن يبضع أي أن يرسل مالاً مع غيره للتجارة؛ لأن رب المال ينتفع بوجاهة العامل الدينية أو الدنيوية. وفي المدونة: ولا يبضع [598/ ب] العامل من بضاعة، فإن فعل ضمن، ولو أذن له رب المال في ذلك جاز ما لم يأخذه على ذلك. قوله: (أَوْ يَزْرَعَ) هكذا منع اشتراط الزرع في المدونة، وهذا لأن رب المال ازداد عليه عمل العامل في الزرع، ولا يصنع شيئاً بيده فينبغي أن يجوز إلا أن يكون العامل ممن له وجاهة أو يكون الزرع مما يقل في تلك الناحية، وقد حكى ابن شعبان في اشتراط الزراعة قولين بالجواز والكراهة. وقوله: (أَوْ لا يَشْتَرِيَ حَتَّى يَبْلُغَ بَلَدَ كَذَا) هذا بيان ما احترز عنه من التأقيت، وهذا مذهب المدونة، وفي العتبية: لا بأس به. وقوله: وقال ... إلى آخره: فاعل قال عائد على مالك، وهو التعليل للمسألة الأخيرة كذا هو في المدونة. وَلا بَعْدَ الشِّرَاءِ لأَنَّهُ كَقَرْضٍ بِجُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ، ولَهُ رِبْحُهُ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ وهو معطوف على أن يخيط، وهذه مسألة المدونة، ففيها: ولو ابتاع سلعة ثم سأل رجلاً أن يدفع إليه مالاً ينقده فيها، ويكون قراضاً بينهما، فلا خير فيه، فإن ترك لزمه رد المال لربه، وما كان فيه من ربح أو وضيعة فله وعليه، وهذا معنى قول المصنف: (ولَهُ

رِبْحُهُ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ) أي: للعامل، وعلل ذلك في المدونة بما علل به المصنف فقال: وهو كمن أسلفه رجل ثمن سلعة على أن له نصف ربحها، وقال فيها أيضاً فيمن ابتاع سلعة فعجز عن بعض ثمنها، فأتى إلى رجل فأخذ منه قراضاً وهو يريد أن يدفعه في بقية ثمنها: لا أحب ذلك وأخاف أن يكون قد استغلها. قال في الموازية: وإن لم يكن لغلاء أجزته وأكره العمل به ابتداء. وقاله أصبغ ومحمد فيما إذا لم يخبر رب المال بما اشترى، وعارض سحنون بين مسألتي المدونة، وأجاب أبو محمد بأن المسالة التي ذكرها المصنف قد سمى أنه ابتاع سلعة فكأنه دخل على السلف، والتي عجز عن بعض ثمنها لم يذكر له ذلك، فلم يدخل على السلف. فرع: ولو أخذ المال قبل الشراء جاز إذا لم يسم السلعة ولا البائع، قاله ابن المواز. قال غيره: ويجوز لو قال له: قد وجدت سلعة رخيصة فادفع لي مالاً قراضاً لأشتريها به، وقد فعله عثمان رضي الله عنه. ابن حبيب: يكره أن يؤخذ المال قراضاً على أن يشتري من رفقة نزلت معهم ومعها تجارة، فإذا وقع مضى على شرط الربح. ولا بِتَعْيِينِ صِنْفٍ يَقِلُّ وُجُودُهُ أَوْ شَخْصٍ لِلْمُعَامَلَةِ أَوْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ هذا أيضاً معطوف على (أَنْ يَخِيطَ) ولو ذكر المصنف هذا قبل قوله: (وَلا بَعْدَ الشِّرَاءِ) لكان أحسن في التصنيف؛ لأن الذي ذكره هنا إنما يرجع إلى التعيين والتأقيت. وَعَلَيْهِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ مِنْ نَشْرٍ وَطَيِّ وَنَقْلٍ خَفِيفٍ، وَلَوِ اسْتَاجَرَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ

أي: على العامل من العمل ما جرت العادة به أن التاجر يتولاه ولا يستأجر عليه، (وإن اسْتَاجَرَ عَلَيْهِ) أي: على ما جرت العادة بتوليته، (فَعَلَيْهِ) أي: في ذمته لا في نصيبه من الربح. الرِّبْحُ: شَرْطُهُ: عِلْمُ الْجُزْئِيَّةِ فَلا يَصِحُّ: ولَكَ دِرْهَمُ هو ظاهر، واختلف إذا وقع ذلك، ففي الموازية عن مالك وأصحابه: إن ترك ذلك مشترطه بعد العمل صح، وتماديا عليه وأنكره يحيى. وَلَوِ اشْتَرَطَ الرِّبْحَ كُلَّهُ لأَحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا جَازَ ابن عبد السلام: تصوره ظاهر، وإنما يكثر فعلهما من أهل الخير. خليل: ولا أعلم في اشتراط الربح كله لأحدهما خلافاً في المذهب، على أن الباجي قال: هو مشهور المذهب، وحيث شرط الربح للعامل، فإن قال: اعمل فيه ولك ربحه وضمانه من العامل؛ لأنه كالسلف. اللخمي: إلا أن يقول: ولا ضمان عليك. وإن قال: اعمل به قراضاً، فالمشهور أن ضمانه من رب المال خلافاً لسحنون، ورأى في المشهور أن لفظ القراض يغني عن اشتراط سقوط الضمان. اللخمي: وهو أصوب، وإن اشترط الربح لغيرهما فلا ضمان على العامل. ابن عبد السلام: وهل يلزمهم الوفاء بذلك إن كان المشترط له معيناً، فأصل المذهب أنه يلزم الوفاء به، ويقضي به على الملتزم إن امتنع، وإن كان غير معين كالمساكين، فالمشهور أنه لا يقضي به إن امتنع، وعلى ما في الموازية ينبغي أن يقضى به. خليل: والمشهور مذهب المدونة؛ لأن فيها إذا اشترط المتقارضان عند معاملتهما ثلث الربح للمساكين جاز ذلك، ولا أحب لهما الرجوع فيه، ولا يقضى بذلك عليهما.

وَإِنْ تَرَاضَيَا بَعْدَ الْعَمَلِ عَلَى أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ أي: إذا تعاقدا على جزء ثم بعد العمل تراضيا على جزء أقل من الأول أو أكثر جاز مطلقاً؛ لأن ذلك هبة من أحدهما للآخر، وهكذا مذهب المدونة، وقال ابن حبيب: لا يجوز ذلك إن كان المال عيناً وفيه ربح ووضيعة وكان في سلع وما نقص مساوياً، وأما لو كان قبل العمل فاتفق على الجواز، فقول المصنف بعد العمل تنبيه منه بالأخف على الأشد؛ لأنه إنما نص على موضع الإشكال، وأما قبله فلا إشكال فيه لعدم لزومه بالعقد، وقول ابن القاسم أبين؛ لأن المال إن كان عيناً فكأنهما الآن ابتديا بالعقد، لأن القراض لا يلزم بالعقد، وإن كان في سلع فهي هبة من أحدهما للآخر، ووجه قول ابن حبيب أنه إن كان المال عيناً وفيه ربح أو خسارة فقد ملكا قسمته، فكأن أحدهما زاده للآخر لبقاء الأمر، وكذلك إن كان في سلع؛ إذ قد يدعو أحدهما إلى بيعها فكأنه زاده لتماديه في القراض، وإذا فرعنا على الجواز فإن كانت الزيادة للعامل، فالعامل أحق بها [599/ أ] في الموت والفلس لقبضه لها، وإن كانت لرب المال فقيل: يبطل لعدم الحوز. وخرج اللخمي قولاً بالصحة على القول أن الهبات إذا لم تكن تهمة لا تبطل؛ لأن التراخي إنما كان لعدم إتيان وقت المفاصلة. قال صاحب المعين: ومال المتأخرون والموثقون إلى النفوذ، وقال بعض من مال إلى مذهب ابن حبيب: إن هبة رب المال للعامل وبالعكس لا يتجوز، وقد أجاز محمد ترك العامل النفقة بعد شغل المال ولم يجز ذلك له قبل شغله؛ لأنه يصير حينئذ كأنه قارضه على شرط إسقاط النفقة من أجل أن عقد القراض منحل قبل شغل المال. وَلَوْ شَرَطَ الْعَامِلُ عَمَلَ غُلامِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ دَابَّتِهِ فِي الْمَالِ خَاصَّةً جَازَ. هكذا قال مالك، ووجهه أن المنفعة لهما، وحكى ابن المواز أن قول مالك اختلف في اشترط العامل عون غلام رب المال واختار ابن المواز الجواز.

وذكر ابن زرقون أنه يجوز إذا كان المال كثيراً كما قالوا في المساقاة: يجوز اشتراط عون الغلام في الحائط الكبير دون الصغير، ويشترط على الجواز ألا يقصد بالغلام أن يكون عيناً له أي لرب المال كما تقدم، والجواز في الدابة أظهر؛ لأنه لا يخشى منها أن تكون عيناً. والرِّبْحُ شِرْكُ وَلا عَادَةَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قِرَاضُ الْمِثْلِ، وقِيلَ: النِّصْفُ (والرِّبْحُ شِرْكُ) جملة حالية عاملها محذوف، وتقديره: وإذا قال: اعمل في حال كون الربح شركاً. (وَلا عَادَةَ) حال أخرى. (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) في المدونة: قراض المثل إن عمل، هكذا في المدونة، لا كما يعطيه ظاهر كلام المصنف، من وجوب قراض المثل قبل العمل؛ لأنه قبله يفسخ، وقد نقل اللخمي عن ابن القاسم فيما إذا قال: الربح شرك أن القراض فاسد، وقال غير ابن القاسم في المدونة: هو صحيح وله النصف؛ وهو لابن الماجشون. اللخمي: والأول أحسن؛ لأن الشرك ينطبق على أن له النصف أو أقل أو أكثر، فيكون مجهولاً. ورأى غيره الشرك يقتضي التساوي؛ ولأنه الغالب من قراض الناس، ووقع في بعض النسخ والربح مشترك، وليست بظاهرة؛ لأن لفظة مشترك تفيد التساوي عرفاً، فليس فيه خلاف، هكذا أشار إليه أبو الحسن وابن عبد السلام وغيرهما. وقوله: (وَلا عَادَةَ) يريد: وأما لو كانت عادة من نصف أو ثلث العمل عليهما، وهكذا قال ابن شاس. وَلَوْ دَفَعَ مَالَيْنِ مَعاً أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ قَبْلَ شُغْلِ الأَوَّلِ بِجُزْأَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنِ شَرَطَ الْخَلْطَ جَازَ وَإلاَّ فَلا؛ وقيل: وإِلا فلا فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ .. يعني: (لَوْ دَفَعَ) رب المال للعامل (مَالَيْنِ) إما دفعة أو دفعتين لكن أعطاه الثاني قبل شغل الأول في سلع، (فَإِنِ شَرَطَ) خلطهما جاز كان بجز متفق أو بجزأين؛ لأن ذلك آيل إلى الجزء المعلوم، كما لو دفع مائة على الثلث ومائة على النصف بشرط الخلط.

ابن يونس: وحساب ذلك أن ينتظر أقل عدد له نصف وثلث وذلك ستة، وقد علمت أن للعامل من ربح أحد المالين نصف ومن الآخر ثلث، فخذ له نصف الستة وثلثها وذلك خمسة، ولرب المال نصف ربح المائة الواحدة وثلث ربح الأخرى، فخذ له نصف الستة وثلثها وذلك سبعة، واجمع ذلك من الخمسة التي صحت للعامل، فتكون القسمة بينهما من اثني عشر، قال: وقد غلط في حسابها ابن مزين وجعلهما يقتسمان الربح على سبعة أجزاء. قوله: (وَإلاَّ فَلا). أي: وإن لم يكن بشرط الخلط فلا يجوز أي سواء كان بجزء واحد أو بجزأين مختلفين، ويجوز في المتفقين وهذا قول محمد. ابن يونس وغيره: وهو ظاهر المدونة؛ لأنه لا يتهم أن يعمل في أحدهما دون الآخر لاستواء نصيبه فيهما. ونسب اللخمي وابن شاس القول الذي قدمه المصنف لابن حبيب، وعلى هذا فتقديم المصنف له ليس بظاهر. وَلَوْ شَغَلَ الأَوَّلَ فَإِنْ شَرَطَ الْخَلْطَ امْتَنَعَ، وَإِلَّا جَازَ، وَرُوِيَ: لا يُعْجِبُنِي فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ. يعني: وإن دفع إليه المال الثاني بعد شغل الأول، فإن شرط خلطه بالأول امتنع سواء كان بجزء واحد أو بجزأين مختلفين، وعلله في المدونة بأنه قد يخسر الثاني فيلزمه أنيجبره بما ربح في الأول. قال: ولو كانت قيمة سلع الأول كرأس المال؛ لأن الأسواق قد تحول. وكأنه رأى أن ذلك آيل إلى اشتراط رب المال الزيادة على العامل. قوله: (وَإِلَّا جَازَ) أي وإن لم يشترط جاز، وظاهره سواء اشترط عدم الخلط أو سكتا لعدم جبر أحد المالكين بالآخر. وقوله: (وَرُوِيَ) أي: عن مالك (لا يُعْجِبُنِي فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ) لأن الاختلافيوجب التهمة بخلاف ما إذا تساوى الجزءان، وهذه رواية أشهب في الموازية.

وَلَوْ نَضَّ الأَوَّلُ بِرِبْحٍ أَوْ خَسَارَةِ- لا مُسَاوِياً - لَمْ يَجُزْ أَخْذُ قِرَاضٍ آخَرَ مُطْلَقاً عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وقِيلَ: يَجُوزُ مَعَ الرِّبْحِ ومُوَافَقَةِ الْجُزْءِ وعَدَمِ الْخَلْطِ، ويَجُوزُ فِي الْمُسَاوِي بِجُزْءٍ الأَوَّلِ .. أي: (وَلَوْ نَضَّ) المال (الأَوَّلُ) وأراد أن يعطيه قراضاً آخر فله حالتان: الأولى: أن ينض غير مساو، إما بربح أو خسارة. والثانية: أن ينض مساوياً فلا يجوز في المال الأول أخذ قراض آخر مطلقاً عند ابن القاسم في المدونة، ونعني بالإطلاق سواء كان على شرط الخلط أم لا بجزأ موافق أو مخالف؛ لأنه إن كان بربح فقد ملك العامل الرد، فيرغبه في الثاني على البقاء، فهو انتفاع منه، وأخرى إن نض ينقص؛ لأنه يرجو جبره بالثاني. وقال غير ابن القاسم في المدونة ما ذكره المصنف بقوله: (وقِيلَ ...) وحاصله أن هذا القائل يرى الجواز بثلاثة شروط: وجود الربح، [599/ ب] وموافقة الجزء، وعدم الخلط، ولم ير هذا القائل أنه يحصل لرب المال والحالة هذه منفعة؛ لأنه لما اشترط عدم الخلط صح للعامل أن ير المال الأول إلى ربه متى شاء ويأخذ ربحه، واختار اللخمي هذا القول. قوله: ويجوز في المساوي: هذه هي الحالة الثالثة. وقوله: (بِجُزْءٍ الأَوَّلِ) نحوه في المدونة ففيها: وإن اتجر في الأول وباع فنض بيده ثم أخذ الثاني فإن كان باع رأس المال سواء جاز أخذه للثاني على مثل جزء الأول لا أقل ولا أكثر. واختلف في معناه، فقال ابن يونس: يريد إذا كان على شرط عدم الخلط وأما على الخلط فيجوز بجزء موافق أو مخالف. وكذلك قال ابن المواز، وقال الشيخ أبو محمد: معناه على الخلط، ولو كان على ألا يخلط لا يجوز، وإن اتفقت الأجزاء وكذلك روى أبو زيد.

وكأن المصنف اعتمد على ما قدمه فيما إذا دفع مالين قبل شغل الأول؛ إذ لا فرق في المعنى بين عدم شغل الأول أو نضوضه بعد شغله. تنبيه: هذه المسألة وهي قوله: (ويَجُوزُ فِي الْمُسَاوِي بِجُزْءٍ الأَوَّلِ) وقعت في نسختي وغيرها، ووقعت في نسخة ابن راشد وابن عبد السلام بعد قوله (وَلَوْ شَرَطَ زَكَاةَ الرِّبْحِ .. إلى آخره) واعترض ابن عبد السلام عليها، وقال: حق هذه أن تكون بإثر الأولى، والله أعلم. وَلَوْ شَرَطَ زَكَاةَ الرِّبْحِ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ لأَنَّه رَجَعَ إِلَى جُزْءِ مَعْلُومٍ، وَقَدْ تُعُقِّبَ إِطْلاقُهُ، وقُيِّدَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نِسْبَتَهُ، وإِنْ لَمْ تَجِبْ .. فاعل (شَرَطَ) يعود إلى العامل وعلى رب المال، وفاعل (جَازَ) عائد على الشرط المفهوم من السياق، والتقدير: ولو شرط أحدهما على الآخر زكاة الربح جاز الاشتراط، وإذا جاز الاشتراط جاز العمل به؛ لأن ذلك يرجع إلى جز معلوم، وهذا قول ابن القاسم في المدونة، وروايته عن مالك في الأسدية: لا يجوز اشتراط الزكاة على أحدهما. وفي المسألة قول ثالث: جواز اشتراطهما على العامل دون العكس، قاله مالك في المساقاة. ابن رشد وابن زرقون: والباب واحد. وإلى ذلك أشار الباجي أيضاً، والرابع عكس الثالث، وخرجه ابن رشد وغيره. وقوله: (وَقَدْ تُعُقِّبَ ... إلى آخره) أي: تعقب إطلاقه في المدونة الجواز؛ لأنه مؤد إلى القراض بجزء مجهول؛ لأنه إن وجبت الزكاة يكون كمن اشترط عليه أربعة أعشار وثلاثة أرباع عشر، وإن لم تجب يكون له خمسة أعشار، ولأنه لا يدري هل ينض قبل

الحول فلا تجب الزكاة أو بعده فتجب؟ وأجيب بأنه يرجع إلى جزء معلوم؛ لأن المراد أن لمشترط الزكاة ربع عشر الربح ثم يقتسمان ما بقي كما لو اشترط أحدهما ثلث الربح مثلاً لأجنبي وأبى من أخذه فإنه لمشترطه منهما، وعلى هذا، فقوله: (تَجِبْ) من الوجوب، وفي بعض النسخ من الحسبان ومعناه: وإن لم تجب الزكاة من الفقراء بتقدير النصاب أو عدم الحول. خليل: وهذا الجواب ضعيف؛ لأن غايته أنهم نفوا الجهالة من جانب المشترط عليه ولم ينفوها عن المشترط؛ لأن المشترط يبقى مرة يأخذ النصف فقط، ومرة يأخذه وقدر الزكاة، فانظره. وأجاب صاحب المقدمات بجواب آخر وهو: حمل المال على الغالب من المال لا يقبض قبل الحول، وأنه إن كان أقل من النصاب فهما يرجوان بلوغه النصاب. ابن عبد السلام: وهذا الجواب مع ضعفه خير من الأول لما يلزم على الأول من النزاع حين المفاصلة في قسمة الربح إذا أسقط الزكاة عن الربح. وقد ذكر بعضهم أن الخلاف الذي في المساقاة يجري هنا، هل يكون ربع العشر لرب المال وحده؟ أو له وللعامل سواء بينهما؟ أو يتحاصان فيه بحساب ما لهما من الربح كله على تسعة وثلاثين جزءاً: لرب المال عشرون، وللعامل تسعة عشر؟ واحترز المصنف بقوله: (زَكَاةَ الرِّبْحِ) من زكاة المال كله؛ فإنه لا يجوز اشتراط زكاته كله على العامل. صاحب البيان وغيره: باتفاق؛ لأن ذلك زيادة ازدادها رب المال على العامل. وَيُجْبَرُ الْخُسْرَانُ- وَلَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ قَبْلَ الْعَمَلِ- بِالرِّبْحِ، مَا لَمْ يَتَفَاصَلا وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيُقْبَضُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ أَعْلَمَهُ بِنَقْصِ الْمَالِ واقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَقَالَ: اعْمَلْ بِمَا بَقِيَ- كَانَ مُؤْتَنَفاً .. يعني: إذا تجر فخسر ثم ربح فإن الخسران يجبر بالربح، وإنما يقتسمان ما زاد على أصل المال؛ لأن هذه سنة القراض ولا خلاف في ذلك.

قال في المدونة: وإذا ضاع بعض المال بيد العامل قبل العمل أو بعده أو خسره أو أخذه اللصوص ظلماً لم يضمنه العامل، إلا أنه إن عمل ببقية المال جبر بما ربح فيه أصل المال الأول، وما بقي بعد رأس المال يكون بينهما على ما شرط. ولو كان العامل قال لرب المال: لا أعمل حتى تجعل ما بقي رأس المال. ففعل وأسقط الخسارة فهو أبدأ على القراض الأول، وإن حاسبه وأحضره العامل، قال رب المال: اعمل حتى تجعل ما بقي من رأس المال ما لم يقبضه منه. فإن قلت: فتخصيص المصنف بقبول العمل مشعر بأن الربح لا يجبر ما تلف بعد العمل، فهو خلاف ما نص عليه في المدونة. قيل: لا نسلم ذلك بل يفهم من كلامه والجبر بعد العمل من باب الأحرى؛ لأنه إذا جبر ما تلف قبل العمل مع أن المال حينئذ كوديعة لعدم لزوم عقد القراض، فلأن يجبر من بعد العمل من باب أولى. وقوله: (بِالرِّبْحِ) متعلق بـ (يُجْبَرُ) وجعل المصنف غاية هذا الجبر المفاصلة. واختلف بماذا تكون المفاصلة؟ فرأي ابن القاسم كما حكيناه عنه لابد في ذلك من القبض. اللخمي: زاد أصبغ على باب الصحة والبراءة، وحكى ابن حبيب [600/ أ] عن مالك وربيعة والليث ومطرف وابن الماجشون عمن لقيه من أصحاب مالك أنه إذا أخبره بما نقص من رأس المال، وقال له: اعمل بما بقي وأسقط عنك ما ذهب إنه قراض مؤتنف. المازري: وهذا الذي نقله ابن حبيب عن هؤلاء الفقهاء رأيت ابن المواز نقل عنهم خلافه في الموازية، وما حكاه ابن حبيب هو القول الثاني في كلام المصنف، واختاره غير واحد وهو الأقرب؛ لأن الأصل إعمال الشروط عملاً بقوله عليه السلام: "المؤمنون عند شروطهم ما لم يعارض ذلك نص.

وقوله: (وَيُقْبَضُ): جملة تجري مجرى التفسير لقوله: (يَتَفَاصَلا)، وليست تفسيرية حقيقة؛ لأن جملة التفسير لا تعطف. فرع: قال في المدونة: وليس ما استهلك العامل منه مثل ما ذهب، لأن ما استهلكه قد ضمنه، هذا نص التهذيب، زاد في الأمهات: وما بقي في يد العامل فهو الذي على القراض، وإن تلف نصف المال فالنص الثاني هو رأس المال. أَمَّا لَوِ اشْتَرَى بِجَمِيعِهِ فَتَلِفَ قَبْلَ إِقْبَاضِهِ فَأَخْفَرَهُ لَمْ يُجْبَرِ التَّالِفُ أما للتفصيل: أي ما ذكرناه من جبر الخسران بالربح إنما هو إذا بقي بعض المال أما لو تلف جميعه، وقد كان اشترى به سلعة ولم يدفعه فيها فأخلف ربه فلا يجبر المال الثاني التالف؛ لأن الأول قد انقطعت المعاملة بينهما فيه، والثاني كابتداء قراض. وقوله: فأخلفه: يفهم منه أنه موكول إلى اختياره، وقد صرح بذلك في قوله: فإِنْ لَمْ يُخْلِفْ فَالسِّلْعَةُ لِلْعَامِلِ، وقِيلَ: يُخْلِفُهُ جَبْراً الأول مذهب ابن القاسم في المدونة، وإنما كانت السلعة للعامل؛ لأن أدنى حال العامل أن يكون كالوكيل، والوكيل تلزمه السلعة في مثل هذا، والقول بإجباره على الخلاف للمغيرة، ورأى أن الدراهم والدنانير لا تتعين، وانظر هل رأس المال عنده المال الثاني أو هو الأول؟ ولَوِ اشْتَرَى بِمِائَتَيْنِ وَالْمَالُ مِائَةُ فَشَرِيكُ بِالنِّصْفِ فَإِنْ كَانَتْ المِائَةُ نَسِيئَةً قُوِّمَتْ وَكَانَ لَهُ نِسْبَةُ قِيمَتِهَا. تصور المسألة ظاهر، ولا خيار لرب المال إن اشترى العامل النصف الآخر لنفسه، وإن اشتراه أيضاً للقراض فرب المال مخير بين أن يدفع إليه مائة وتكون السلعة كلها

للقراض أو لا يدفع ويكون العامل شريكاً وإن كانت المائة نسيئة، وفي معنى النسيئة أن تكون على التقاضي. (قُوِّمَتْ) أي بعرض: ثم العرض بنقد، قاله ابن المواز. وكان شريكاً بنسبة قيمتها، وهو مذهب المدونة الذي أصلح سحنون المدونة عليه، وقاله أشهب وابن القاسم. وقال ابن القاسم: وروي أيضاً عن مالك أن يكون شريكاً بما زادته قيمة السلعة على مائة القراض، وهو الذي كانت المدونة عليه، وهي رواية القابسي عن الدباغ والإبياني، والأول هو اختيار ابن المواز وصاحب البيان وغيرهما. الْعَاقِدَانِ كَالْوَكِيلِ والْمُوَكِّلِ هذا هو الركن الرابع، وكأن المصنف راعى الترتيب الوجودي، فقدم الكلام على المال ثم على العمل ثم على الربح؛ لأنه بعده، فإن قلت: لو راعى هذا لقدم الكلام على المتعاقدين. قيل: لعله إنما قدم الثلاثة لأجل إنهاء القيود المصرح بها في التعريف، والكلام على ما يتعلق بالتعريف مقدم، وكانا كالوكيل والموكل؛ لأن العامل لما كان مأذوناً له في العمل كان كالوكيل، ولما كان لرب المال إذن كان كالموكل، ويؤخذ منه أنه لا يقارض الذميكما لا يوكل. وإِذَا تَعَدَّدَ الْعَامِلُ فَالرِّبْحُ بِقَدْرِ عَمَلِهِمْ كَالشُّرَكَاءِ أي: فلا يجوز أن يتساويا في العمل ويتفاضلا في الربح كشركاء الأبدان، قال فيا لبيان: ويجوز ذلك على ما يدل عليه مذهب سحنون لاعتراضه على ابن القاسم بقوله: وليس يجوز لصاحب المال أن يدفع المال على النصف وأقل منه وأكثر. وصوبه ابن رشد وغيره؛ لأنه إذا أعطى أحدهما على النصف والآخر على الثلث فكأن رب المال وهب لأحدهما

السدس، وعلى مذهب ابن القاسم إذا فات، فقال محمد وابن حبيب: يقسم الربح على ما سموا، ويرجع صاحب القليل على صاحب الكثير بفضل عمله على العامل. وقال أحمد بن خالد: بل على رب المال. وقال جماعة: بل يرد إلى حكم القراض الفاسد. ثم اختلف هؤلاء فقال التونسي: يكونان أجيرين. وقال: أفضل لهما قراض مثلهما. ابن عبد السلام: قول التونسي أظهر عندي وأجرى على قواعد المذهب؛ لأن القراض فاسد، فإذا وقع عليه التفريع وأنه ممنوع ابتداء. ويدل كلام المصنف على الجواز إذا وقع الربح على قدر العمل، وفهم صاحب البيان المدونة على ذلك، قال: لتعليله فيها؛ لأنهم كالشركاء، وكرهه في الموازية وإن كان الربح على قدر الأجزاء؛ أي لأن أحدهما قد يكون أبصر من الآخر بالتجارة. وَلِلْعَامِلِ نَفَقَتُهُ فِي السَّفَرِ وفِي إِقَامَتِهِ بِغَيْرِ وَطَنِهِ لِلْمَالِ فِي الْمَالِ بِالْمَعْرُوفِ نقل عبد الوهاب الإجماع على وجوب النفقة للعامل إلى زمان الشافعي، فقال في أحد قوليه: لا نفقة له. واحترز (بِغَيْرِ وَطَنِهِ) مما لو قام بوطنه، فإنه لا نفقة له، وهكذا في المدونة وغيرها، وظاهر كلام مالك الإطلاق. وقال اللخمي: محمل قوله أن ذلك العمل لم يقطعه عن الوجوه التي كانت تقوم منها نفقته، وأما إن كانت تشغله فله النفقة كالمسافر. وعلى هذا التقييد حكى ابن القاسم المسألة مختصراً، عليه الليث في المدونة: ولا نفقة للحاضر إلا أن يشغله البيع فيتعدى بالأفلاس. ابن المواز: وأبى ذلك مالك، وقال: من اشتغل في الحضر بتجارة القراض فلا يأكل منه. وقول الليث: بالأفلاس هو جمع قلة وهو للثلاثة إلى العشرة.

وقوله: (فِي الْمَالِ) أي: لا في ذمة رب المال، ولهذا لو أنفق العامل في سفره من مال نفسه ثم هلك مال [600/ب] القراض لم يلزم رب المال بشيء، وكذلك إذا زاد ما أنفقه على مجموع المال لم يرجع بالزائد، وهكذا في المدونة. قوله: (بِالْمَعْرُوفِ) أي: من غير سرف من طعامه وشرابه وركوبه ومسكنه. أشهب عن مالك: وحجامته وحمامه. قال: وليس له دواء. فرعان: الأول: قال في المدونة: ولو أخذ المال ببلد له أهل بها فلا نفقة له في ذهابه ولا في رجوعه؛ لأنه ذهب بها إلى أهله، ورجع بها إلى أهله. وقال أشهب: بل له النفقة في الذهاب والرجوع دون الإقامة. الثاني: قال في المدونة: وإذا تزوج بغير بلد إقامته فمن يومئذ تسقط نفقته. محمد: يريد: ودخل. اللخمي: وإن كان تزويجه لأجل قيامه للعمل بالقراض ولولا ذلك لم يقم ولا تزوج لم تسقط نفقته. وتُوَزَّعُ عَلَى مَا بِيَدِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ بَعْدَ أَنِ اكْتَرَى وتَزَوَّدَ يعني: لو كان بيده مالان وزعنفقته عليهما سواء كان المال الآخر للعامل أو لرجل آخر. قال في المدونة: والتوزيع على قدر المالين بالحصص، وخرج اللخمي فيها قولاً بأنهما على السواء من أحد القولين في نفقة الآباء على الأولاد وأحدهم أكثر يساراً، وفيه نظر؛ لأن موجب النفقة هنا المال، فينبغي أن تراعى كثرته وقلته بخلاف الأولاد فإن الموجب الأبوة، وهي لا تختلف.

وظاهر كلام المصنف وكلام المتقدمين أنه لا فرق بين أن يكون كل واحد من المالين كثيراً يحتمل النفقة لو انفرد أو يكون المجموع كثيراً أو يكون أحدهما كثيراً والآخر قليلاً، واختار اللخمي في المالين اللذين يقصر كل واحد منهما بانفراده على الإنفاق السقوط؛ عن صاحب القليل إذا كان أحدهما كثيراً. ابن عبد السلام: والذي قاله ظاهر بشرط أن لا يكون من شأن العامل أخذ القراض من الناس. وقوله: (وَلَوْ أَخَذَهُ بَعْدَ أَنِ اكْتَرَى) يعني: لا فرق في التقديم بين أخذ المالين دفعة أو متعاقبين، ولو أخذ الثاني بعد أن اكترى للسفر وتزود له، وخرج اللخمي في هذه الصورة قولاً بسقوط النفقة عن المال الثاني من أحد القولين في من خرج لحاجة ثم أخذ قراضاً، أنه لا نفقة في مال القراض. وَلَوْ خَرَجَ فِي حَاجَةٍ لَهُ وَزَّعَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا هذا هو ظاهر المدونة، وفي الموازية السقوط، وزعم اللخمي أنه المعروف. وعلى مذهب المدونة، ففي العتبية وغيرها: ينظر قدر نفقته في طريقه، فإن كانت مائة والقراض سبع مائة فعلى المال بسبعة أثمان النفقة. وفي هذا التوزيع نظر لا يخفى عليك. أما الخارج لأهله فنص المدونة وغيرها على أنه لا نفقة له، ولعل اللخمي يرى أن هذه المسألة هي أصل المذهب، وأن مسألة الخروج للحاجة مخالفة لأصل المذهب، لكن قال صاحب النكت وغيره: إنما فرق مالك في المدونة بين المتوجه إلى أهله والماضي لحاجته؛ لأن الماضي إلى أهله لابد من المشي إليهم، والحاجة قد يكفاها وقد يبدو له عنها. تنبيه: يستثنى من الخارج لحاجة الخارج لحج أو لغزو. وفي المدونة: لا نفقة لهما. قيل لمالك: إن عندنا تجاراً يأخذون المال قراضاً فيشترون به متاعاً يشهدون به المواسم،

ولولا ذلك ما خرجوا، هل لهم في المال نفقة؟ قال: لا نفقة لحاج ولا غاز في مال القراض في ذهاب ولا رجوع. الباجي: وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه، لأن ما لله تعالى لا يشرك معه غيره. أصبغ: ولا نفقة له في إقامته في الحج إلا أن يقيم بعد انقضاء الحج للمال خاصة، فمن يومئذ تكون له النفقة. ولم ير اللخمي لهذا أثر، بل عارض الحج بمسألة الحاجة. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: والإِخْدَامُ إِنْ كَانَ أَهْلاً أي: إن كان مثله لا يخدم نفسه، وأسقط المصنف ما اشترطه في المدونة في هذا، وهو أن يكون كثيراً. ابن عبد السلام: وإنما أسقطه لاشتراطه كثرة المال في النفقة، والخدمة أخص من النفقة، وكل ما هو شرط في الأعم هو شرط في الأخص. هذا معنى كلامه. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِذَا أَشْبَهَ أي: قول العامل في مقدار النفقة (إِذَا أَشْبَهَ) ذلك نفقة مثله، قاله في المدونة، وزاد فيها: وإذا قال: أنفقت مائة درهم لا رجوع بها صدق وربح أو خسر. قال في العتبية: وإذا ادعى بعد المفاصلة أنه نسي طلب النفقة قبل قوله ويحلف. وقال في المدونة: ولو ادعى ذلك بعد المقاسة لم يصدق. أبو الحسن: معناه إذا وقع كما قال في الحمال يدفع للحمولة. ثم ذكر ما في العتبية، وقال ابن عبد السلام بعد كلامه في المدونة: وقبل مالك قوله في ذلك، ذكره ابن المواز وظاهره أنه حمل المدونة على إطلاقها.

وَلَهُ الْكِسْوَةُ فِي بَعِيدِهِ إِنْ كَانَ الْمَالُ لَهُ بَالُ- قَالَ مُحَمَّدُ: نَحْوُ خَمْسِينَ دِينَاراً- لا فِي قَرِيبِهِ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِلا أَنْ يَطُولَ .. لأنه في القريب لا يحتاج إلى الكسوة بخلاف البعيد، وبخلاف ما لو أقام في القريب زماناً طويلاً، قاله ابن القاسم في المدونة، وهو الذي نقله المصنف عنه. وعطفه قول ابن القاسم على كلامه السابق يدل على أن النفقة تسقط في السفر القريب على القول الأول مطلقاً، وهو صحيح، قاله مالك في الواضحة. وجعل ابن القاسم الشهرين والثلاثة طولاً، ووقع لابن القاسم أيضاً أن ما بين مصر ودمياط قريب، والمذهب وجوب جميع الكسوة. وقال عبد الوهاب: لا يجب من الكسوة إلا التيلولا الخروج لم يحتج إليها. ورده الباجي بالنفقة، فإنها تجب للعامل جميعها في السفر لا في القدر الذي زاد على الحاضر. خليل: وفيه نظر، فإن القاضي نص في تلقينه على أنه ليس للعامل من النفقة في السفر إلا ما زاد على الحضر، وهو [601/ أ] اختيار التونسي وعبد الحميد. أما إن رجع العامل من السفر وعليه كسوة، فأراد رب المال أخذها، فقال في الموازية: إن كانت الكسوة بليت فليس له أخذها. محمد: وكذلك الغرارة والإداوة. المازري: وهو يشبه ما في المدونة إذا فرض القاضي كسوة الزوجة ثم طلقها الزوج وأراد أخذها، فقال: إن كانت الكسوة بليت لم يأخذها، وإن بقيت جديدة أخذها. ووجوب الكسوة مقيد بما إذا كان المال كثيراً، ولعل المصنف اكتفى عن ذلك بقوله: وَأَمَّا الْمَالُ الْقَلِيلُ فَلا نَفَقَةَ فِيهِ وَلا كِسْوَةَ يعني: أن ما ذكرناه من وجوب النفقة والكسوة فذلك مشروط بأن يكون المال كثيراً، أما القليل فلا نفقة فيه ولا كسوة، وهكذا قال مالك وغيره.

ابن المواز: وليس في كثرة المال حد غير أن الأربعين والخمسين عندي كثير، وفي الموازية أيضاً نفي التحديد، ولمالك عند ابن شعبان: لا ينفق إذا كان يسيراً كسبعين ديناراً. وفي اللخمي: إذا سافر بالمال فهو في النفقة على ثلاثة أوجه: إن كان المال كثيراً فله النفقة والكسوة، وإن كان متوسطاً يجحف به اجتماع النفقة والكسوة ولا يضر به انفراد النفقة فهي له دون الكسوة، وإن كان قليلاً لم يكن له شيء وإن كان السفر قريباً فله النفقة فقط، وإن كان قليلاً لم تكن له نفقة. وعلى هذا فينبغي أن يحمل قوله: أما القليل فلا نفقة فيه ولا كسوة على القليل جداً، وأما المتوسط ففيه. وفي السفر القريب النفقة، وهكذا نص عليه ابن القاسم في العتبية، قال في الموازية: وإذا بعث معه بضاعة يشتري له بها سلعة ينفق منها قبل أن يشتري؟ قال: نعم، وكذلك لو بعث معه سلعة ليبيعها له، فلينفق منها إذا باع إن كان ذلك على وجه المعروف. ابن يونس: وقد جرى العرف بالنفقة والكسوة في القراض وظاهر أمرهم في البضاعة إن كان الخروج لها ومن أجلها فيجب أن يكون له أجرة ونفقته، وإن كان إنما خرج للتجارة لنفسه وبعثت معه بضاعة أو مالاً لشراء سلعة فالعرف عندنا: لا شيء فيه فيجب أن يحمل عليه. انتهى. واللخمي قريب من هذا فإنه قال بعد كلامه في الموازية: العادة اليوم أنه لا ينفق ولا يكتسي من البضاعة، وأنه فيها على أحد أمرين: إما أن يعمل فيها على وجه المكارمة فلا نفقة له، أو على وجه الإجارة فلا يكون له غيرها. وقيد الشيخ أبو محمد ما في الموازية من وجوب الإجارة على البضاعة الكثيرة بما إذا كان العامل مثله يؤاجر نفسه وإلا فلا. ولما فرغ من أركان القراض الصحيح وأحكامه شرع في الفاسد فقال:

وَإِذَا فَاتَ الْقِرَاضُ الْفَاسِدُ فَثَلاثُ رِوَايَاتٍ: قِرَاضُ الْمِثْلِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ (فَاتَ) أي: بالعمل، قاله صاحب المقدمات وغيره؛ أي: ففيه (ثَلاثُ رِوَايَاتٍ) بحذف الخبر. وقوله: (قِرَاضُ الْمِثْلِ) هو تفسير للرواية الأولى، وهي رواية اشهب، وبها أخذ هو وابن الماجشون. وقوله: (وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ) تفسير للثانية، ومنشأ الخلاف فيها ما فسد من العقود المستثناة هل ترد إلى صحيحها فيجب قراض المثل أو صحيح أصلها؟ فتجب أجرة المثل؛ لأن القراض مستثنى من الإجارة المجهولة. ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا فَسَدَ لِزِيَادَةِ أَحَدِهِمَا أَوْ لِشَرْطِ رَبِّ الْمَالِ مَا يُحْوِجُ إِلَى نَظَرِهِ فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ ومَا عَدَاهُ- كَضَمَانِ الْمَالِ، أَوْ تَاجِيلِهِ- فَقِرَاضُ الْمِثْلِ. وَرُوِيَ فِي الْفَاسِدِ بِالْضَّمَانِ: لَهُ الأَقَلُّ مِنْ قِرَاضِ الْمِثْلِ أو الْمُسَمَّى .. يحتمل أن يكون قول ابن القاسم هو الرواية الثالثة؛ لأنها أيضاً رواية حكاها ابن حبيب، ويكون قوله بعد ذلك: (وَرُوِيَ) رواية رابعة ذكرها المصنف زيادة، ويحتمل أن يكون قول ابن القاسم معترضاً، ويكون قوله: (وَرُوِيَ) هي الرواية الثالثة، ويؤيد هذا أن المصنف لم يذكر قول ابن القاسم رواية واختار ابن عبد السلام هذا. خليل: فقد يقال: بل الوجه الأول أولى لوجهين: أما أولاً: فلأن القول بالتفضيل هو الرواية الثالثة في الجواهر، ويغلب على الظن أن المصنف يتبعه. وأما ثانياً: فلأن الرواية الرابعة خاصة بمسألة واحدة، نعم خرجها صاحب المقدمات في سائر صور القراض الفاسد.

ويزيد قولاً خامساً لابن نافع من كتاب ابن مزين: إن اشترط الزيادة إن أسقطها صح القراض، وإن أبى أبطلناها، ورد إلى أجرة مثله في المالوربحه ووضيعته لربه. وسادسها بإمضاء القراض على ما اتفقا فيه من وجه صحيح وإسقاط الشرط الفاسد، ووقع مثله لابن نافع في القراض إلى أجل. وسابعها: خرجه عبد الوهاب على ما ذهب إليه ابن المواز أنه يرد إلى قراض مثله إلا أن يكون أكثر من الجزء المسمى إن كان رب المال هو مشترط الشرط، وإن كان العامل هو مشترط الشرط فإنما يكون له الأقل من قراض المثل أو الأجرة أو من الجزء المشترط من الربح. وما حكاه ابن زرقون فقال: وحكى أبو عمران أن أشهب وابن الماجشون قالا: لا يرد إلى أجرة مثله في المسائل كلها إلا في مسألة واحدة: إذا اشترط أن لا نفقة للعامل. والمشهور هو قول ابن القاسم. تنبيهان: الأول: لم يحك ابن شاس القول الثالث كما حكاه المصنف، بل قال: وروي أن منه ما يرد إلى قراض المثل، ومنه ما يرد إلى أجرة المثل. حكاه ابن حبيب عنه، وقال به ابن القاسم وابن عبد الحكم وابن نافع ومطرف وأصبغ، ثم اختلف في تفصيل ذلك وتعيينه على طرق: الطريقة الأولى: ما قاله ابن القاسم: وهو أن كل ما اشترط فيه رب المال على العامل أمراً فصره به على نظره أو شرط فيه زيادة خالصة لنفسه، أو شرطها للعامل كذلك فهو مردود إلى أجرة المثل وما سوى ذلك؛ كأخذه على الضمان أو إلى أجل وشبه ذلك، فهو مردود إلى قراض المثل. [601/ ب]. والطريقة الثانية: ما حكاه محمد بن حارث أن كل قراض فاسد في أصله لزيادة لا تحل أو لتخطير لا ينبغي، فحكم العامل فيه أجبر، وما سوى ذلك فمردود إلى قراض المثل حاشا مسألتين: إحداهما: إذا اشترط الضمان على العامل والأخرى: إذا اشترط على

العامل أن يمسك المال مدة معينة فقط؛ كسنة أو غيرها، فإنه يرد في هاتين المسألتين إلى قراض المثل. الطريقة الثالثة: ما ذكره عبد الحق، قال: الأصل في ذلك أن كل زيادة ومنفعة شرطها أحد المتقارضين في المال داخلة فيه ليست خارجة عنه ولا خالصة لمشترطها، فهو يرد إلى أجرة مثله، وكل زيادة أو منفعة اشترطها أحدهما لنفسه وخارجة من المال خالصة لمشترطها، فهو يرد إلى أجر مثله، وكل خطر وغرر تعاملا به خرجا من بينة القراض الجائز، فهو رد إلى أجر مثله. التنبيه الثاني: ضبط عياض الصور التي فيها قراض المثل على مذهب المدونة وعدها تسعاً وما سواها ففيه أجرة المثل، والتسعة: القراض بعرض، والقراض إلى أجل، والقراض على الضمان، والقراض بجزء مبهم، والقراض بدين يقبضه المقارض من أجنبي، والقراض على شرط في المال، والقراض على أنه لا يشتري إلا سلعة كذا مما لا يكثر وجوده فاشترى غير ما أمر به، والقراض على أنه لا يشتري إلا بدين فاشترى بنقد، والقراض على عبد فلان ثم يبيعه ويتجر في ثمنه. وقال: ومما جعل فيه قراض في الكتاب مسألة عاشرة ليست من القراض الفاسد، وهي إذا اختلفا وأتيا بما لا يشبه وحلفا، وقد نظم بعضهم هذه الأبيات فقال: لكل قراض فاسد أجر مثله ... سوى تسعة قد فصلت ببيان قراض بعرض أو بدين أو مبهم ... وبالشرط والتأجيل أو بضمان ولا يشتري إلا بدين فيشتري بنقد ... وأن يبتاع عبد فلان ويتجر في أثمانه بعد بيعه ... فهذه إذا عدت تمام ثمان وأن يشتري ما لا يقل وجوده ... وإن اشترى سواه اسمع بحسن بيان كذا ذكر القاضي عياض وأنه ... خبير بما يروي فصيح لسان

وزاد ابن راشد حادية عشر، وهي أن يعطيه دنانير يصرفها ثم يتجر بثمنها. ابن راشد: وقد نظمت فيها هذه الأبيات: وأجرة المثل في القراض تعينت ... سوى تسعة قد خالف الشرع حكمها قراض بعرض واشتراط ضمان ... وتحديد وقت والتباس يضمها وأن يشتري غير المعين للشراء ... وأن يشتري بالدين فاختل رسمها وأن يشتري عبداً لزيد يبيعه ... وأن يتجر فيه باجتهاد يلمها وأن يقبض الدين الذي عند غيره ... وأن يشترط بلفظ يعمها وما قد قضاه الحكم من بعد التحالف ... مع التجر في صرف لعين فضمها وَقِرَاضُ الْمِثْلِ فِي الرِّبْحِ، وأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ. ابْنُ حَبِيبٍ: كِلاهُمَا فِي الرِّبْحِ، وقِيلَ: كِلاهُمَا فِي الذِّمَّةِ، فَيُقَدَّرُ تَقْوِيمُ جُزْءِ الرِّبْحِ لَوْ صَحَّ الْعَقْدُ لما ذكر أنه يجب على قول قراض المثل وأجرة المثل وعلى إخراجه المثل، ويفصل على آخر جناح إلى بيان الفرق بين قراض المثل وأجرة المثل، فذكر أن قراض المثل يتعلق بالربح إن كان في المال ربح، وإن لم يكن فيه ربح فلا شيء له فيه، وأجرة المثل ثابتة في ذمة رب المال، كان في المال ربح أو لم يكن، قال في الجواهر: وهكذا قال بعض أصحابنا إلا ابن حبيب، قال: له أجرة مثله من الربح أيضاً؛ لأن العامل إنما دخل على أنه إنما يأخذ من الربح. والقول بأنهما في الذمة نقله عبدا لوهاب عن بعض الأصحاب، فقال: ومن أصحابنا من يجعل قراض المثل مع الربح وعدمه، ويفرق بينهما بأن يجعل حظ العامل بقدر ما يساوي عمله مما رضيه عوضاً لو صح العقد، فيكون له بقية ذلك. خليل: وفي عدة قولان نظر؛ لأنه إنما نقله عبد الوهاب عن ابن القصار، إنما نقله على طريق الاحتمال. ونص ما في المقدمات: وقد حكى عبد الوهاب في شرح الرسالة عن القاضي

أبي الحسن أنه قال: يحتمل عندي على قول مالك أن يكون له ما يساوي قراض مثله، وإن كان في المال وضيعة. عبد الوهاب: والفرق على هذا بين قراض المثل وأجرة المثل أن أجرة المثل متعلقة بالإطلاق، وقراض المثل متعلق بالشرط، فيقال في الإجارة: لو استأجر رب المال من عمل له هذا العمل كم تكون أجرته فيكون للعامل ذلك؟ ويقال: في قراض المثل إن كان العامل قد رضي بجزء كذا على هذا الشرط الفاسد فينبغي أن يكون له فما قيل من شيء فهو قراض المثل. فقراض المثل على تأويل القاضي أبي الحسن راجع إلى أجرة المثل، وإنما يختلف في صفة التقويم. ابن رشد: وهو بعيد جداً، وحاصله أن في الإجارة يقدر عوض العمل مجرداً عن الشروط وفي القراض يقدر مضافاً إلى تلك الشروط، ويتبع هذا بالضرورة كثرة العمل وقلته. ابن عبد السلام: ويفرق أيضاً بين قراض المثل وبين أجرة المثل، أنا حيث حكمنا بقراض المثل يلزم تمادي العامل على عمله، كما في المساقاة الفاسدة، وحيث حكمنا بأجرة المثل ينفسخ العمل متى عثر عليه ويكون للعامل أجرة ما عمل، ولا يمكن من التمادي، وهذا الفرق أيضاً ليس متفقاً عليه ولكنه هو المشهور، وكذلك أيضاً فرقوا من وجه آخر في المشهور، فجعلوا أن العامل أحق من الغرماء إذا وجب له قراض المثل، واختلفوا هل يكون كذلك في أجرة المثل؟ فقال بعض القرويين: ليس هو أحق على ظاهر المدونة والموازية. وإليه نحا عبد الوهاب، وقال بعضهم: هو أحق إذا كان المال في يديه حتى يستوفي أجرة مثله؛ لأنه نماء المال بأجرة فاسدة، فأشبه ما لو استأجره على خياطة ثوب إجارة فاسدة.

ولَهُ خَلْطُهُ بِمَا بِيَدِهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أي: وللعامل خلط القراض. (وَلِغَيْرِهِ) لأن كثرة المال تحصل الربح الكثير، وإن افتقر إلى نفقة أو كسوة [602/ أ] كان منضوضاً على جميع ما بيده، وفي ذلك رفق بصاحب المال، قال في المدونة: ولا يضمن العامل إذا خلطها بغير شرط، ومن شرط الخلط أن يكون في العين أو في العرض المثلي وأما إن كان من المقومات فلا؛ لأن القيم تختلف، نص على ذلك اللخمي في البضائع والباب واحد. ابن عبد السلام: وليس له الخلط إلا لمصلحة؛ لأن مالكاً قال في المدونة: إذا خاف العامل إن قدم ماله على مال القراض أو آخره وقع الرخص في ماله، فالصواب أن يخلطهما، ويكون ما اشترى بهما من السلع على القراض وعلى ما يبتدئ فيها. قال: ولو أخذ من رجل قراضاً، فله أن يأخذ من آخر إن لم يكن الأول كثيراً لا يشغله الثاني عنه، وقد تقدم حكم القراض على شرط الخلط. بِخِلافِ الشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ نَسِيئَةً- فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أي: فإنه لا يجوز للعامل أن يشارك غيره، يريد: ولو كان عاملاً آخر لرب القراض، وقاس ذلك في المدونة على منع المودع أن يودع الوديعة عند من لربها عنده وديعة، ولا أن يبيع نسيئة إلا أن يأذن له رب المال، والفرق بين الخلط والشركة أن المال في الخلط لم يخرج عن يد من أمنه رب المال بخلاف الشركة، وإذا ظهر لك ذلك في الشركة فهو في البيع نسيئة أظهر؛ لأنه في الشركة لم يخرج جميع المال عن يده بخلاف هنا. قوله: (وَالْبَيْعِ) مجرور بالعطف على الشركة. وقوله: (فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ): أي في مسألتي الشركة والبيع نسيئة، ضمن ووقع في المدونة قول بجواز إعطائه السلم، واستغربه أبو عمران وغيره.

قوله: (وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا) لأنه يتهم أن يكون قصد الاستبداد بالربح فعوقب بنقيض القصد، وإلا لو قلنا: إن الربح للعامل بتعديه لكان ذلك حاملاً له على التعدي ليستقل بالربح، ولهذا قلنا: إن كل من أخذ المال للتنمية فتعدى فيه كالوكيل والمبضع معه فالغرم عليه والربح لربه وأما المقارض فالر بح لهما على شرطهما، وقد صرح المصنف رحمه الله باطراد هذا بقوله: وَكَذَلِكَ كُلُّ تَعَدِّ فِيهِ وكل من أخذ مالاً على الأمانة وتعدى فيه فالربح له فقط كالمودع. ابن عبد السلام: وذهب بعضهم إلى أن العامل يجب له الربح كله في مسائل الضمان بسبب المخالفة لأنها توجب انتقال مال القراض إلى ذمته، وذلك موجب لكونه مالكاً للربح. تنبيه: ذكر ابن يونس عن بعض القرويين أنه إذا باع سلع القراض المأذون في شرائها بثمن إلى أجل، أنه قال: يباع الدين على مذهب ابن القاسم، ويضمن ما خسر. وفي الموازية: إذا أسلم في طعام؛ أنه يغرم رأس المال، ويستأنى بالطعام حتى يقبض، فإن كان يه ربح اقتسماه، وإن أسلم في غير طعام لم يجز أيضاً، وبيعت السلعة بعد أن يقبض بنقد، وإن كان فيها فضل فهو بينهما، وإن كان فيها نقصان غرمه العامل. أَمَّا لَوْ نَهَاهُ عَنِ الْعَمَلِ قَبْلَ الْعَمَلِ فَاشْتَرَى فَكَالْوَدِيعَةِ لَهُ رِبْحُهَا وعَلَيْهِ غُرْمُهَا بِخِلافِ مَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ سِلْعَةٍ فَاشْتَرَاهَا .. أتى بـ (أَمَّا) المقتضية للتفصيل، يعني أن ما قدمه من الربح بينهما في كل تعد إنما هو إذا لم ينهه قبل العمل عن العمل، وأما لو نهاه عن العمل قبل العمل فإن المال يبقى تحت يده حينئذ كالمودع؛ لأنه ليس للعامل أن يعمل به؛ لأن عقد القراض منحل، فلذلك

يستغل العامل في هذه الصورة: بالربح، هكذا قال في المدونة هكذا قال في المدونة والموازية والواضحة، وقيد ذلك ابن حبيب، فقال: ما لم يقر أنه اشترى السلعة للقراض فالربح على القراض وهو ضامن؛ أي: لأن العامل التزم لرب المال نصيبه من الربح فيلزمه الوفاء به. ابن عبد السلام: وفي ذلك نظر لاحتمال أن يقال: إنما التزم العامل ذلك إلا على شرط عدم الضمان، والله أعلم. قوله: (بِخِلافِ مَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ سِلْعَةٍ فَاشْتَرَاهَا) أي: فلا يستبد بالربح؛ لأنه مأذون له في حركة المال فلم يكن له أن يستقل بربحه. وَلَهُ السَّفَرُ عَلَى الأَصَحِّ مَا لَمْ يَحْجُرْ الأصح مذهب المدونة وهو المشهور، ووجهه أن عقد القراض يقتضي الإطلاق، والأصل عدم التقييد، ومقابله لابن حبيب قال: لا يخرج من بلد رب المال إلا بإ2نه. وقال سحنون: ليس له أن يسافر بالمال اليسير سفراً بعيداً إلا بإذن ربه. واعتبر اللخمي هنا قرائن الأحوال إن كان شأن العامل السفر فله السفر، وإن لم يكن ذلك من شأنه فليس له ذلك. فإن قلت: لم جاز له السفر في الإطلاق ولم يجز له في الإطلاق البيع بالدين، والسفر والدين مقصودان للتنمية؟ قيل: لأنه في السفر يخرج معه فلم يتهم في التغرير بالمال. وقوله: (مَا لَمْ يَحْجُرْ) هو قيد في الأصح وهو ظاهر المذهب، ولمالك في الموازية: لا يصلح أن يشترط عليه ألا يسافر به والحجر على الأول مقيد بأن لا يكون استغل المال. ابن عبد السلام: في سلع تصلح للسفر، قاله مالك في المدونة. انتهى. والذي في المدونة: يعني وإن لم يشترط ذلك، فليس له أن ينهاه عن السفر إذا استغل المال.

ابن القاسم: ولو هلك رب المال بعد أن تجهز به فليس لورثته منعه وهم في ذلك كوكيلهم. وفي الموازية: إذا قام غرماء رب المال بعد أن تجهز بالمال، وأمكن بيع السلع، بيعت وأخذ ذلك الغرماء، وكذلك إن كان ذلك عيناً فلهم أخذه، وأما غرماء العامل فلا شيء لهم إلا بعد وصول المال إلى ربه. بعض القرويين: والأشبه أيضاً ألا يكون لغرماء رب المال ذلك، كما لم يكن له هو أن يأخذ المال في غير البلد، وكذلك لو لم يشتر بالمال شيئاً بعد [602/ب] خروجه، فلا يكون له ولا لغرمائه أخذ شيء من المال منه. انتهى. وكذلك قال ابن عبد السلام: الذي قال في الموازية في غرماء العامل واضح، وما قاله في غرماء رب المال مشكل، وظاهره خلاف للمدونة فتأمله. فرع: قال في المدونة: ويجوز لرب المال أن يشترط على العامل أن لا ينزل بطن واد، ولا يمشي بليل، ولا يبتاع سلع كذا، ولا يحمله في بحر، فإن فعل شيئاً من ذلك ضمن. وقاله الفقهاء السبعة. وَلَهُ أَنْ يُزَارِعَ وَيُسَاقِيَ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ ظُلْمٍ فَيَضْمَنُ يعني: وللعامل أن يدفع الزرع من مال القراض ليزرع ويساقي؛ لأن ذلك من أنواع التنمية، فيكون له كغيره من وجوه التنمية، وجعل له في المدونة أن يشتري الأرض ويكريها. وفي العتبية لابن القاسم في من أخذ قراضاً فاشترى به داراً فأكراها، فنما المال أو نقص: أراه متعدياً ضامناً.

بعض القرويين: انظر الفرق بين هذا وبين أن يشتري بذراً ويزرع، وهل ذلك اختلاف قول؟ وكيف إن اشترى حيواناً طلباً لنسله أو باع للكراء؟ وهل يقال: إن هذا لا يقصده الناس في الغالب؛ لأنهم يقصدون التجر؟ قوله: (مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ ظُلْمٍ) هذا إنما صرح به في المدونة في المزراعة، لكن لا فرق بينهما وبين المساقاة، فظاهر كلام المصنف أنه بمجرد كون الموضع موضع ظلم يضمن، وفي المدونة: إن خاطر به في موضع ظلم أو غرر يرى أنه خطر فهو ضامن. فزاد: المخاطرة، وقد يكون الموضع موضع ظلم، ولا يعد الزارع مخاطراً لوجاهته أو نحو ذلك. وإذا ضمناه بالتعدي لمخاطرته في موضع الظلم، فلا فرق بين أن تكون الخسارة من سبب الزرع أو من سبب الظلم، قاله اللخمي؛ لأنه متعد في أصل فعله. وَلا يَشْتَرِي بِنَسِيئَةٍ وَلَوْ أَذِنَ له أي: (وَلا يَشْتَرِي) العامل (بِنَسِيئَةٍ وَلَوْ أَذِنَ له) رب المال في ذلك. وجعلوا اشتراءه بالنسيئة مخالفاً لبيعه بها؛ لأن البيع بهما يجوز إذا أذن له رب المال في ذلك، والشراء بها لا يجوز ولو أذن؛ لأن بيعه بالدين إنما يلزم منه تعريض المال للتلف، وهو من حق رب المال فقط، فلذلك كان له بخلاف الشراء، فإنه إذا اشترى بالدين فضمانه من العامل والربح له. قال ابن المواز وغيره: ولا ربح لرب المال؛ لنهي النبي عليه السلام عن ربح ما لم يضمن. وَيَبِيعُ بِالْعَرْضِ أي: أن ذلك من التجر المأذون له فيه؛ فإن قيل: العامل في هذا يشبه المفروض وقولهم أنه لا يبيع بالدين يقتضي أنه يلحق بالوكيل المخصوص.

قيل: المختار أنه كالوكيل المخصوص وعليه تدل مسائلهم إلا أنه وسع له في النظر فلذلك جاز له أن يبيع بالعرض. وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ أَبَى الْمَالِكُ يعني: إن اشترى العامل سلعة من المال ثم اطلع على عيب فله أن يرده بسبب العيب، وإن لم يرض المالك لتعلق حق العامل بالزيادة، وهذا مقيد بقيدين: أحدهما- وهو غير خاص بهذه المسألة- أن يكون ذلك على وجه النظر من العامل، وإن حابى فهو متعد، يريد فيجوز ذلك مما يحمله نصيب العامل، قاله في المدونة، وكذلك قال: إذا باع العامل سلعة قطعت عليه بعيب فحط من الثمن أكثر من قيمة العيب أو أقل أو اشترى سلعة من ولده أو ولد ولده فما كان من هذا نظراً من غير محاباة جاز. ثانيهما: أن يشتري هذا المعيب ببعض مال القراض، ويدل على هذا القيد قبوله. فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ جُمْلَةَ الْمَالِ فَلِلْمَالِكِ قَبُولُهُ لأن من حجة رب المال أن يقول: أنت لو رددته لنض المال، وكان لي أخذه. وهكذا قال في المدونة، وقيده أبو عمران بما إذا لم يكن ثمن هذا المعيب إذا أعاد إلى يده، ولا يمكن لرب المال أن يقول: أنت لو رددت لكان لي أخذ الثمن. وَلا يَشْتَرِي مِنْ رَبِّ الْمَالِ أي: لا يشتري العامل من رب المال سلعاً، وهذا مقيد بأن يشتري منه سلعاً للقراض، وأما إن اشترى لنفسه فجائز، نص عليه في العتبية، وظاهر كلامه المنع من ذلك، وظاهر المدونة وهو نص الموازية: الكراهة، ففي المدونة: لا يعجبني لأني أخاف إن صح هذا من هذين ألا يصح من غيرهما.

ولمالك في الموازية والأسدية: الجواز إذا صح الأمر بينهما. قال صاحب البيان: والخلاف في هذا عندي إنما يرجع إلى التصديق في وقوع الأمر بينهما على الصحة فلم يصدقهما في المدونة، وصدقهما في الموازية. قال: وهذا عندي إنما هو إذا وقع الشراء من رب المال قبل أن يعمل فيه العامل، وأما إن وقع الشراء منه بما نض بيد العامل من سلع القراض فيصدقان اتفاقاً. واختار اللخمي الجواز في شراء اليسير دون الكثير، وجعله في البيان ثالثاً. واختلف قول مالك في صرف العامل من رب المال، كاشترائه منه وهل الكراهة خشية المحاباة لرب المال فيؤثر ذلك نقصاً في المال يحتاج العالم إلى جبره بالربح، ولأن ذلك ذريعة إلى المقارضة بالسلع؛ لأن رأس المال راجع إلى يده ولم يدفع إلا سلعاً تعليلان للأصحاب، ويرد الثاني لمساواة ملك الصرف للشراء. فرع: وأما عكس ما ذكره المصنف، وهو اشتراء رب المال من العامل ففي الموطأ: لا بأس به إذا كان صحيحاً على غير شرط. وأشار بقوله: "صحيحاً" إلى دفع قصد التوصل إلى أخذ شيء من الربح قبل المفاصلة وسواء كان شراؤه بنقد أو إلى أجل، قاله ابن القاسم. فإن اشترى سلعته ليأخذها من القراض فقال ابن القاسم: لا يخر فيه، فإن اشترى العامل بعض القراض، فإن كان مع استدامة القراض جاز نقداً، ولا [603/ أ] يجوز إلى أجل. وأجازه الليث ويحيى بن سعيد إلى أجل أيضاً، وإن كان عند التفاضل جاز بالنقد، وأما بالتأخير فثلاثة أقوال: منعه مالك. قال ابن حبيب: وأجازه أصحاب مالك حاشا ما قاله ابن القاسم. والثالث: الفرق بين أن يكون بمثل رأس المال فأقل، فيجوز أو بأكثر من رأس المال فلا يجوز، قاله عيسى عن ابن القاسم. والظاهر ما حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم: الكراهة فيكون رابعاً.

وَلا بِأَكْثَرَ مِنْ رَاسِ الْمَالِ أي: ولا يشتري بأكثر من المال، ولو كان من عند غير رب المال؛ لأنه يضمن ما زاد في ذمته ويكون في القراض، قال في المدونة: ولا خير فيه، أما لو اشترى الزائد لنفسه، فإنه يكون شريكاً كما تقدم. وَلَوِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ عَالِمُ فَإِنْ كَانَ مُوسِراً عَتَقَ وَغَرِمَ ثَمَنَهُ لِضَمَانِهِ بِالتَّعَدِّي وَوَلاؤُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وإِنْ كَانَ مُعْسِراً بِيعَ بِقَدْرِ رَاسِ الْمَالِ وحِصَّةِ الرِّبْحِ وَعَتَقَ الْبَاقِي .. يعني: لو اشترى العامل بمال القراض من يعتق على رب المال، فإما أن يكون عالماً أو غير عالم، وسيأتي الكلام على غير العالم. والمراد بالعالم: بأنه قريب لرب المال. ابن عبد السلام: وهذا هو المشروط في هذا الفصل، لا علمه بأن الحكم الشرعي إعتاقه، فإن العلم بالحكم والجهل لا أثر له عندهم هنا، وللعالم حالتان: عسر ويسر، فإن كان موسراً عتق العبد وغرم العامل ثمنه وحصة ربحه، أي الربح الحاصل قبل الشراء كما لو كان رأس المال مائة وتجر فيه حتى صار مائتين، ثم اشترى بهما العبد، فإن العامل إنما يغرم رأس المال وحصة رب المال من الربح، وذلك مائة وخمسون فقط، ولا يغرم الربح الحاصل في نفس العبد، قاله ابن رشد وغيره. وقوله: (لِضَمَانِهِ بِالتَّعَدِّي) علة لغرمه الثمن. (وَوَلاؤُهُ لِرَبِّ الْمَالِ) لأن العامل كأنه التزم عتقه، وإنما غرم العامل بالتعدي، وإن كان معسراً. فقال المصنف تبعاً للمدونة: بيع منه بقدر رأس المال وحصة الربح، وعتق الباقي، أي الربح الكائن قبل شرائه؛ لأن الربح فيه إذ لا يمكن رب المال ربح في من يعتق عليه بخلاف ما إذا اشترى العامل من يعتق عليه وهو عالم، فإن لم يوجد من يشتري إلا

جميع العبد فإن جميعه يباع وكذلك لو لم يوجد من يشتري برأس وحظ ربه من الربح لا أكثر من حظه في العبد، فإنه يباع على نحو ما وجد لوجوب تقدم حق رب المال في ذلك العبد، وحصل في المقدمات في هذه المسألة ستة أقوال: الأول: ما ذكره المصنف، وهو المشهور. الثاني: أنهم يعتقون على رب المال، وهذا القول يأتي على ما في كتاب الرهون في بعض الروايات. الثالث: أن البيع لا يجوز على ما في العتق الثاني في الأب يشتري من يعتق على ابنه الصغير. الرابع: أنه لا يعتق على كل واحد منهما، وهو قول ابن القاسم في أصل سماعه. الخامس: أنه يضمن الثمن ويكون العبد له، وهو قول مالك في رواية ابن أبي أويس. السادس: أن رب المال بالخيار، إن أحب أن يأخذه ويعتقه عليه ويكون للعامل فضله إن كان فيه فضل، وإن أحب أن يضمن العامل بتعديه كان ذلك له، وعن أشهب إن كان في العبد ربح أعتق منه قدر ذلك وبيع الباقي. اللخمي: وهو أحسن ولا يعتق عليه؛ لأنه وكيل لغيره ويعتق الفاضل، لأن العامل مقر أنه لم يشترط لنفسه فيعتق ذلك القدر من باب لا ضرر ولا ضرار، ونقل ابن يونس عن ابن القاسم قولاً آخر: إن العامل إذا كان معسراً وهو عالم يعتق عليه ويتبع بالثمن. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ عَتَقَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلِلْعَامِلِ عَلَيْهِ حِصَّةُ رِبْحِهِ هذا مذهب المدونة، نظراً لدخوله في ملك رب المال، ولم يكن على العامل شيء لعذره بعدم علمه، قال في المقدمات: ولابن القاسم قول ثان في أصل سماعه: إنهم لا يعتقون على واحد منهما، وعلى المشهور فإن كان رب المال معسراً، فقال بعض الشيوخ:

حكمه حكم العبد بين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه وهو معسر، فيبقى حظ العامل هنا في العبد ملكاً له أما إن ادعى رب المال أن العامل عمد لشرائه بمعرفة وأنكر العامل، فالقول قول العامل. وَلَوِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَالِمُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ فَضْلُ وَهُوَ عَالِمُ مُوسِرُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ ثَمَنِهِ، وإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ فَبِقِيمَتَهِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: بِقِيمَتِهِ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِراً بِيعَ بِمَا وَجَبَ لَهُ، وعَتَقَ الْبَاقِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَضْلُ لَمْ يَعْتِقْ شَيْءُ، وَقِيلَ: يَعْتِقُ فِي الْيَسَارِ .. أي: ولو اشترى من يعتق عليه؛ كما لو اشترى العامل ولده، فإما أن يكون عالماً أو لا ثم كل من الصورتين إما أن يكون العامل موسراً أم لا، صارت أربعة، ثم إما أن يكون في العبد فضل أم لا، صارت ثمانية، وقد تكلم عليها صاحب المقدمات، والغرض الآن حل كلام المصنف، فذكر أن العامل يعتق العبد عليه إن كان في المال فضل؛ لأنه حينئذ تتحقق له فيه الشركة فيعتق عليه ما ملكه منه ويكمل عليه. وقول المصنف ثانياً: (وَهُوَ عَالِمُ) تكرار؛ إذ المسألة مفروضة مع العلم، (عَتَقَ عَلَيْهِ) أي: على العامل بالأكثر فتعلق بعتق، ويحتمل بمحذوف أي وأخذه رب المال بالأكثر؛ لأنه إن كان الثمن أكثر، فقد أتلفه على رب المال لغرضه في قريبه، وإن كانت القيمة أكثر فلأنه مال أخذه لينميه لصاحبه فليس له أن يختص بربحه وحيث ما ذكرت هنا القيمة فإنما يعتبر يوم الحكم. وقوله: (وإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ) أي: العامل؛ يريد: وفيه ربح عتق عليه أيضاً، كالعالم ولا يفترق الحكم هنا بالعلم، وإنما يفترق فيما على العامل، فهنا عليه الأكثر تقدم، وهنا إنما عليه القيمة، وظاهر كلام المصنف أنه يغرم جميع القيمة، وليس كذلك، بل يعتق على

العامل نصيبه من الفضل [603/ ب] وعليه لربه ما ينوبه من قيمته من رأس المال وربحه كحكم العبد بين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه منه وهو موسر، وقال المغيرة: بقيمته، أي ما ينوبه من قيمته يوم الحكم فيهما، أي في صورتي العلم وعدمه. وقوله: (فَإِنْ كَانَ مُعْسِراً) أي: العامل بيع من العبد بما وجب له أي لرب المال وسواء كان العامل عالماً أو غير عالم نص على ذلك في المدونة وغيرها. وقوله: (بِمَا وَجَبَ لَهُ) قاله صاحب المقدمات وغيره، ما يريد يوم الحكم، مثال ذلك أن يشتريه بمائتين ورأس المال من ذلك مائة، وقيمته يوم الحكم مائة وخمسون، فإنما يباع له بمائة وخمسة وعشرين، ويعتق الباقي ويتبعه في ذمته بخمسة وعشرين. وقوله: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَضْلُ لَمْ يَعْتِقْ شَيْءُ) هذا قسيم قوله أولاً: (إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ فَضْلُ لَمْ يَعْتِقْ شَيْءُ) لأنه لا يملك شيئاً. ابن راشد: ولا خلاف في ذلك إذا كان العامل معسراً أو إن كان موسراً. فقال المغيرة: ما قدمه المصنف لا يعتق عليه منه شيء، وهو قياس قول غير ابن القاسم في الذي يشتري بمال القراض عبداً فيعتقه ولا فضل في ثمنه لأنه لا يعتق، ولا فرق بين أن يشتري بمال القراض من يعتق عليه وهو عالم أو يشتري به عبداً فيعتقه، والمشهور هو القول الثاني: أنه يعتق عليه، وإن كان قد علم وهو مليء عتقوا عليه. زاد ابن يونس: كان فيه فضل أم لا. وكذلك ذكر في المقدمات: أن الحكم عتقه عليه في اليسار، ويؤدي لرب المال الأكثر من قيمته يوم الحكم أو من الثمن الذي اشتراه به. وَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ الْقِرَاضِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوَطْءِ إِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِراً بِيعَتْ وَأُتْبِعَ بِالْبَاقِي. فإن اشترى العامل بمال القراض جارية للقراض، وهو معنى قوله: (أَمَةَ الْقِرَاضِ) وفي بعض النسخ: (جَارِيَةً مِنْ الْقِرَاضِ) فإن كان موسراً خير رب المال فإن شاء ألزمه

قيمتها يوم الوطء، وإن شاء أبقاها على القراض، وإن كان معسراً فكذلك؛ إلا أنه رضي بإلزامه قيمتها إذا بيعت عليه الجارية في تلك القيمة، فإن لم يوف ثمنها بالقيمة اتبعه بما بقي من قيمتها، قاله مالك في الموازية: وعنه أيضاً فيها أنه إن كان عديماً، بقيت بحالها ولا تباع، هكذا حكى جماعة. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف ما ذكر من تخيير رب المال بين إبقائها وأخذ قيمتها. وقال بعضهم: يخير في أخذ القيمة أو الثمن الذي اشترى به، وإلزام العامل الثمن من هنا يفيد؛ لأن الفداء لم يكن عليه إذا أسلم له رب المال أنه اشتراها للقراض أو قامت على ذلك بينة، وظاهر كلام هذا القائل أنه لا يكون لربها ردها في القراض، وهو بعيد أيضاً بعد تسليم أن فرض المسألة على الوجه الذي ذكرنا. انتهى. وهذا إنما هو إذا لم تحمل، فإن حملت فقد نبه عليه المصنف بقوله: فَإِنْ أَحْبَلَهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوَطْءِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْحَمْلِ، وَقِيلَ: الأَكْثَرُ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: وَمِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِراً فَلَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِلا فَمِنَ الْمَالِ إِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلُ لِذَلِكَ كُلَّهِ، وَإِلا بِيعَتْ كُلُّهَا وَأُتْبِعَ بِمَا بَقِيَ، وَفِي إِتْبَاعِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ قَوْلانِ .. (أَحْبَلَهَا) أي وهو موسر لمقابلة ذلك بالمعسر، (فَهِيَ) له (أُمُّ وَلَدٍ) لأنه وطء بشبهة. (وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوَطْءِ) هو لمالك في الموازية من رواية ابن القاسم. والقول الثاني والثالث لم أرهما منصوصين، والرابع لابن المواز، ومعناه أن على العامل الأكثر من ثلاثة أشياء وهي: قيمتها يوم الوطء أو يوم الحمل أو الثمن، ولابن حبيب قول آخر عليه الأكثر من ثمنها أو من قيمتها يوم الوطء.

قوله: (وَإِنْ كَانَ مُعْسِراً) أي: أحبلها وهو معسر. (فَلَهُ ذَلِكَ) أي: قيمتها يوم الوطء أو يوم الحمل أو الأكثر على الخلاف المتقدم. (وَإِلا) أي: وإن لم يرد رب المال اتباعه بذلك ولا كان في المال فضل بها بيعت كلها، فإن كان ثمنها مثل ما لزمه فلا كم، وإن كان أقل اتبع بالباقي، وظاهر كلام المصنف أنها تباع أيضاً كلها، وإن كان ثمنها أكثر، وليس كذلك، بل في الجواهر: وهو المنقول عن سحنون وغيره هنا: إنما يباع منها بقدر رأس المال وحصة ربه من الربح، ويبقى الباقي بحساب أم ولده. وهكذا نقل ابن يونس وغيره عن سحنون، وحكى صاحب الاستذكار عنه أنه قال: أرى أن تباع عليه إلا أن يكون فيها فضل فيباع منها بالقيمة، ويكون الباقي بحساب أم ولده. ابن عبد السلام: والنقل الأول أصح، وما ذكره المصنف من بيعها هو المشهور، وروي عن مالك في الموازية أنه يتبع بالثمن ديناً في ذمته ولا تباع. سحنون: وليس بمعتدل، وروى أبو زيد أنه لا يقبل قوله في عدمه أنه ابتاعها للقراض، ويتهم على بيع أم ولده إلا أن يقيم شاهدين بذلك. وقوله: (وَفِي إِتْبَاعِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ قَوْلانِ) الضمير في (إِتْبَاعِهِ) يحتمل أن يعود على رب المال من إضافة المصدر إلى الفاعل، أو إلى العامل من إضافة المصدر إلى المفعول، والضمير في (نَصِيبِهِ) عائد على رب المال، يعني: وفي اتباع رب المال للعامل بنصيبه من الولد إذا كان العامل معسراً (قولان) والقول بالاتباع لعيسى. الباجي: وهو أصل ابن القاسم. ومقابله لابن حبيب. الباجي: وهو جار على اختيار أشهب في من ضمنه قيمة أمة بالوطء من شريك أو مقارض أنه لا شيء عليه من قيمة ولدها.

فَإِنْ أَحْبَلَ مَنِ اشْتَرَاهَا لِلْوَطْءِ لا لِلْقِرَاضِ وَهُوَ مُعْسِرُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُتْبَعُ بِالثَّمَنِ، وَعَنْهُ: بِالأَكْثَرِ وَقِيلَ: بِالْقِيمَةِ، وَقَالَ ماَلِكُ: تُبَاعُ كَأَمَةِ الْقِرَاضِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ لَمْ تُبَعْ وِفَاقاً .. قوله: (مَنِ اشْتَرَاهَا لِلْوَطْءِ) هو قسيم قوله: (كَأَمَةِ الْقِرَاضِ). واحترز بقوله: (معسراً) مما لو كان موسراً فإن له حكماً آخر، وحكمه أن ابن القاسم قال مرة: يؤخذ منه الثمن ومرة: تؤخذ منه القيمة، فيجبر بذلك القراض [604/ أ] وإن كان معسراً وهو الذي ذكره المصنف. وقال ابن القاسم في العتبية: يتبع بالثمن. (وَعَنْهُ: بِالأَكْثَرِ) أي من الثمن أو القيمة، وهذا تأوله صاحب المقدمات عليه وليس منصوصاً عنه كما سيأتي. وقوله: (بِالْقِيمَةِ) هو لمالك. وقال مالك: تباع كأمة القراض. قال في المقدمات: هكذا حصل بعض أهل النظر هذه المسألة، والذي أراه أن الاختلاف في بيعها وهو عديم إنما هو إذا اشتراها ووطئ ولم يعلم هل اشترى للقراض أو لنفسه بما استلفه من القراض، ولذلك قال: إنما تباع إذا لم يكن له مال، وحمله ابن القاسم على أنه إنما اشتراها لنفسه بمال استلفه من القراض ولم يصدقه أنه اشتراها للقراض على ما في سماع أبي زيد، ولذلك قال: إنها لا تباع. إلا أنه قال في سماعه وفي تفسير ابن مزين: يتبع بقيمتها. ومعناه عندي: إن كانت القيمة أكثر من الثمن فأراد أنه يتبع بالأكثر من القيمة أو الثمن، وأما إن علم أنه اشتراها للقراض ببنية تقوم على ذلك فتباع فيما لزمه من قيمتها اتفاقاً، وكذلك إن علم أنه اشتراها لنفسه من القراض فلا تباع، ويتبع بالثمن الذي اشتراها به في ذمته اتفاقاً. انتهى.

وقوله: (قَالَ الْبَاجِيُّ) ليس بجيد، وإنما هو ابن رشد، وقد ذكرنا سبب وهمه في الطلاق فانظره. وتقدم في الرهن المواضع التي تباع فيها أم الولد، والله أعلم. وَإِنْ أَعْتَقَ وَهُوَ مَلِيءُ مَضَى وَغَرِمَ ثَمَنَهُ وَحِصَّةَ رِبْحِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِراً بِيعَ بِقَدْرِهِ وَعَتَقَ الْبَاقِي .. تصوره ظاهر. وفي المقدمات: إذا أعتق عبداً من عبيد القراض، فإن كان موسراً واشتراه للعتق عتق عليه وغرم لرب المال رأس ماله وربحه إن كان فيه ربح، وإن اشتراه للقراض وأعتقه عتق عليه وغرم لرب المال قيمته يوم العتق إلا قدر حصته منه إن كان فيه فضل. وعلى قول غير ابن القاسم في المدونة وهو مذهب المغيرة إن كان فيه فضل عتق عليه نصيبه وقوم عليه نصيب صاحب المال، وإن لم يكن فيه فضل لم يعتق منه شيء وهذا إن كان اشتراه بجميع مال القراض، وأما إن كان اشتراه ببعضه فعند ابن القاسم أنه يعتق عليه ويجبر القراض من ماله بقيمته يوم العتق إن كان اشتراه للقراض أو بالثمن الذي اشتراه به إن كان اشتراه للعتق خلافاً للمغيرة ولغير ابن القاسم المتقدم، وإن كان معسراً فلا يعتق منه شيء إلا أن يكون فيه فضل فيباع منه لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويعتق على العامل ما بقي منه، وعلى هذا فيحمل كلام المصنف على ما إ ذا اشتراه للعتق لا أنه إذا اشتراه للقراض يغرم القيمة، أما أن أعتق رب المال عبداً من عبيد القراض جاز وضمن للعامل ربحه إن كان فيه ربح. زاد أبو زيد: وإن كان عديماً اتبع بذلك. يحيى: ولا يعجبني ذلك، يعني بل يباع منه بقدر ربح العامل ويعتق ما بقي. ابن القاسم في العتبية والموازية: إذا كاتب العامل عبداً من عبيد القراض، فيؤدي لرب المال رده حتى يعتق بإذنه، وما قبض منه كالغلة، فلو أدى عنه أجنبي صح. قال ابن ميسر: فينفذ عتقه إن لم تكن فيه محاباة.

ابن القاسم: وإن أجاز رب المال عتق الماكتب فلا شيء للعامل من ولائه إلا أن يكون فيه فضل، فيكون له قدر حصته منه, والله أعلم. وَلَوْ قَارَضَ مُتَعَدِّياً فَلا شَيْءَ لَهُ وَلِلثَّانِي مَا شَرَطَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ جُزْئِهِ غَرِمَهُ، وفِي تَعْيينِ مُتَّبِعِهِ مِنَ الْمُقَارِضِ الثَّانِي أَوْ رَبِّ الْمَالِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ .. أي: (وَلَوْ قَارَضَ) العامل عاملاً آخر (مُتَعَدِّياً) أي: بغير إذن رب المال؛ فلا شيء عليه؛ أي: للعامل الأول؛ لأن القراض كالجعل لا يصح إلا بالعمل، ثم لمقارضته ثلاثة أحوال: وذلك لأنها إما بمثل الجزء الذي هو أخذه عليه، وإما بأقل، وإما بأكثر ولا إشكال في المساوي. ولذلك سكت المصنف عنه، وإن كان أقل؛ كما لو أخذه على النصف ودفعه على الثلث، فذكر المصنف أنه لا شيء له ويكون الثلثان لرب المال. وكذلك نص عليه اللخمي وابن رشد وغيرهما. ابن عبد السلام: ولا يبعد أن يختلف فيه ويكون له الزائد لضمانه وإن كان أكثر، كما لو أخذه على النصف ودفعه بالثلثين غرمه، أي الزائد على جزئه، وهو السدس في المثال المفروض، واخلتف بعد غرم هذا المسدس في من يتبعه به، فقال مالك وابن القاسم: يتبعه العامل الثاني ويكون رب المال أحق بجميع نصف الربح الموجود؛ لأن المال له ولم يدخل إلا على ذلك. وقال أشهب: بل العالم الثاني أحق بما دخل عليه وهو ثلثا الربح ويتبع رب المال العامل الأول بالسدس. ومنشأ الخلاف أن الربح مضاف إلى المال وإلى عمل العامل فأيهما يغلب فالمشهور غلب المال. وأشهب غلب العامل؛ فإن قلت: لم جعلتم العامل في القراض لا يقارض وجعلتم ذلك للعامل في المساقاة؟ قيل: لأن العامل في القراض مبني على الأمانة، وقد لا يرضى رب المال بالثاني بخلاف المساقاة فإنها عمل فيما لا يغاب عليه.

وَكَذَلِكَ لَوْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُتَقَدِّماً أَوْ كَانَ بَعْدُ الإشارة بذلك عائدة إلى غرم العامل وتعيين متبعه. وقوله: (خُسْرَاناً مُتَقَدِّماً) أي على العامل وإطلاق الخسران على ما تلف قبل العمل مجاز. وقوله: (أَوْ كَانَ بَعْدُ) هو مضموم؛ لأنه ظرف قطع عن الإضافة، تقديره: أو كان الخسران بعد العمل، وفي بعض النسخ: عوض (بَعْدُ) (بتَعَدِّ) من التعدي. والمعنيان صحيحان، وقد ذكر في المدونة خلافاً لأشهب فيها، ولنذكر كلامه في المدونة ليتبين لك ذلك، ويظهر لك مثال المسألة، [604/ ب] فقال فيها: وكان رأس المال ثمانين فخسر الأول أربعين ثم دفع الأربعين للثاني على النصف فصارت مائة، ولم يكن الثاني علم بذلك فرب المال أحق بأخذ الثمانين: رأس ماله ونصف ما بقي- وهو عشرة- ويأخذ الثاني عشرة ويرجع على الأول بعشرين ديناراً وهي تمام نصف ربحه على الأربعين. قال أشهب: لا يحسب رب المال على الثاني إلا أربعين رأس المال فيأخذها ثم يأخذ نصف الربح وهو ثلاثون، فإن كان الأول أتلف الأربعين الأولى تعدياً، رجع عليه رب المال بتمام مائة وعشرين إلى ما أخذه، وإن هلكت بأمر من الله تعالى رجع عليه بتمام تسعين، وذلك عشرون ديناراً، عشرة بقية رأس ماله، وعشرة حصته من الربح. وَلَوْ جَنَى الْعَامِلُ أَوْ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْمَالِ جِنَايَةً أَوْ أَخَذَ شَيْئاً كَانَ عَلَيْهِمَا كَأَجْنَبِيِّ وَالْبَاقِي عَلَى الْقِرَاضِ حَتَّى يَتَفَاصَلا .. يعني: (وَلَوْ جَنَى الْعَامِلُ أَوْ رَبُّ الْمَالِ) أي: أتلف أحدهما شيئاً من مال القراض أو عابه. وقوله: (جِنَايَةً) زيادة إيضاح، ولو أسقطها لصح الكلام.

وقوله: (كَأَجْنَبِيِّ) أي: كجناية أجنبي يتبعان به في ذمتهما كما يتبع الأجنبي. وقوله: (وَالْبَاقِي عَلَى الْقِرَاضِ) يريد أن الباقي يكون رأس المال فقط؛ لأنه إن كان التلف من رب المال فكأنه رضي بأن الباقي هو رأس المال، وإن كان من غيره فتلك جناية. قال في المدونة: وليس ما استهلكه العامل من المال مثل ما ذهب أو خسر؛ لأن ما استهلكه قد ضمنه، ولا حصة لذلك من الربح، وإن تسلف العامل نصف المال وأكله، فالنصف الباقي رأس المال، وربحه على ما شرطا، وعلى العامل غرم النصف فقط، ولا ربح لذلك النصف. وكهذه المسألة ما في المدونة أيضاً إذا كان القراض بمائة، فاشترى به عبداً يساوي مائتين، فجنى عليه رب المال جناية نقصه مائة وخمسين، ثم باعه العامل بخمسين فعمل فيها العامل فربح مالاً، لم يكن لرب المال قبض رأس ماله وربحه حتى يحاسبه ويفاصله ويحسبه عليه، فإذا لم يفعل فذلك دين على رب المال مضافاً إلى هذا المال. فرع: واختلف إذا عرض هنا فليس العامل فقال بعض القرويين: إذا فلس وقد كان أخذ مائة فأكل منها خمسين قبل أن يتجر ثم تجر في الخمسين الباقية فصارت مائة، يجب على مذهب ابن القاسم أن يكون أحق بالمائة من الغرماء وتبقى عنده خمسون يحاصص فيها الغرماء؛ لأن الربح أولى أن يجبر به رأس المال من أن يكون للعامل كما لو ضاع من المال خمسون فاتجر في الخمسين الباقية فصارت مائة، أن رب المال أولى بها، ألا ترى أن ابن القاسم قال في الذي دفع إليه ثمانين فضاع منها أربعون فدفعها إلى غيره، فتجر فيها فصارت مائة، أن رب المال يأخذ الثمانين ويكون أولى بها من العامل الثاني ثم يأخذ نصف الربح عشرة والعالم الثاين هنا آكد من الغرماء؛ لأنه هو تمم المائة فلم يجعلها أحق بجزئه من الربح لما كان رب المال جبر ما كان في ماله من الخسارة.

وقال غيره: بل يأخذ من المائة التي بيده خمسين رأس المال وخمسة وعشرين حصته من الربح ويحاصص في الخمسة والعشرين بقية الربح بالخمسين التي عليه، وذلك بخلاف ضياع الخمسين؛ لأن رب المال لا رجوع له على الذي ضاعت له الخمسون وله على الذي أكلها الرجوع بها فافترقا، وكذلك العامل في الأربعين له الرجوع على العامل الأول، فلذلك كان رب المال أولى بجبر رأس ماله منه. ابن يونس: والأول أصوب، ومنشأ الخلاف ما تقدمت الإشارة إليه من إضافة الربح للمال أو للعمل وإليهما يغلب. وَلِكُلِّ مِنْهُمَا فَسْخُهُ قَبْلَ الْعَمَلِ يعني: أن عقد القراض منحل، (وَلِكُلِّ) من العامل ورب المال (فَسْخُهُ) أي: رده والرجوع عنه، وإذا كان العقد غير لازم فلا يطلق عليه الفسخ إلا بطريق المجاز والعلاقة هي مشابهة هذا للعقد اللازم، وهذا هو المعروف. وحكى المازري في التعليقة قولين: أحدهما: أنه لازم بالعقد لهما. والثاني: أنه لازم لرب المال فقط. فإن قلت: ما الفرق بينه على المعروف وبين المساقاة، فإنكم جعلتموها لازمة بالعقد؟ قيل: لأن القراض لما لم يكن مؤقتاً شابه الجعل، والمساقاة لما كانت مؤقتة شابهت الإجارة؛ ولأن القراض شبيه بإجارة كل شهر أو كل سنة، والمساقاة لما كانت مؤقتة كانت كالإجارة المؤقتة لشدة الحاجة في المساقاة. ويَلْزَمُ بَعْدَهُ حَتَّى يَنِضَّ وَبَعْدَ الظَّعْنِ أي: ويلزم عقد القراض كلا منهما بعد العمل (حَتَّى يَنِضَّ) أي: يرجع المال عيناً، وكذلك بعد الظعن في السفر وإن لم يشرع في العمل.

وقوله: (حَتَّى يَنِضَّ) أي: جميع المال، ولو نض بعضه لم يكن له أن يفاصله. ومِثْلُ الزَّادِ وَالسُّفْرَةِ لا يُمْنَعُ أي: إذا اشترى العامل زاداً أو سفرة لا يمنع ذلك من الانحلال لرب المال وللعامل، والذي في الموازية: أن ذلك لرب المال فقط، ولا يصح القياس؛ لأنا لو جعلنا للعامل الانحلال لضر ذلك برب المال بسبب ما صرف من ماله في السفرة والزاد، اللهم إلا أن يحسب العامل ذلك على نفسه ويرد الثمن الذي اشترى ذلك به، لكن كلام المصنف لا يؤخذ منه هذا، والله أعلم. وَإِذَا اسْتَنَضَّ بَعْدَ الْعَمَلِ نَظَرَ الْحَاكِمُ فَأَخَّرَهُ إِنْ كَانَ نَظَراً وَإِلا فَلا. فاعل (اسْتَنَضَّ) عائد على رب المال، أي وإذا طلب رب المال نضوض ماله بعد اشتراء العامل بالمال سلعاً، فإن وافقه العامل فلا كلام، وإن خالفه وطلب التأخير نظر الحاكم فأخره إن كان نظراً، أي يرتجى له سوقاً ونفاقاً، وإن لم يكن نظراً فليأمره بالبيع. وَلَوْ مَاتَ [605/ أ] الْعَامِلُ فَلِلْوَرَثَةِ الإِتْمَامُ بِخِلافِ الْمُسْتَاجَرِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنُوا أَتَوْا بِأَمِينٍ وَإِلا سَلَّمُوا وَلا رِبْحَ لَهُمْ، وَوَلِيُّ الْوَارِثِ كَذَلِكَ. يعني: وللورثة الإتمام بشرطين: الأول أن يكونوا أمناء أو يأتوا بأمين، وإليه أشار بقوله: (فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنُوا أَتَوْا بِأَمِينٍ) والثاني: أن يقروا على العمل ويأتوا بمن هو كذلك. قال في النوادر: وقال أحمد: ويكون بصيراً بالبيع والشراء. انتهى. يريد: في حذف الميت وينبغي أن يكون وفاقاً بخلاف المستأجر المعين فإنه إذا استأجر شخصاً معيناً ثم مات فإن الإجارة تنفسخ، فإن قيل: الفرق بينهما غير واضح بدليل منعهم العالم أن يعطي المال لغيره. قيل: لأنه لما كان القراض كالجعل لا يستحق العامل

فيه شيئاً إلا بالإتمام ارتكب فيه أخف الضررين، وهو تمكينهم من العمل بخلاف الأجير فإنه إذا مات بعد الشروع في العمل يجب للورثة بحساب ذلك من الأجرة. قوله: (وَإِلا سَلَّمُوا وَلا رِبْحَ لَهُمْ) أي: فإن لم يكونوا أمناء ولا أتوا بأمين سلموا المال ولا ربح لهم. وهذا هو المنصوص في المدونة وغيرها؛ كما في الجعل إذا عجز فيه المجعول له، وقيل: يجب إذا أتم رب المال بقية العمل وانتفعبعمله أن يكون لورثة العامل بقدر ذلك كما قالوا في الجعل لمن يحفر البئر فيما لا يملك إذا ذهب الحافر بعدما حفر نصفها، ثم أتى رب البئر بحافر آخر فحفر بقيتها، يقال: ما يجب للثاني يوم حفرها على جملتها؟ فإن قالوا: عشرة، فإن كان الأول حفر نصفها كان له خمسة. قال في المستخرجة: وسواء كان جعل الأول فيها خمسة أو عشرة أو عنشرين فإنما له قدر ما انتفع به رب البئر فيما حط عنه من أجرة الثاني. ابن يونس: وفيه بعد، إذا كانت أجرة الأول خمسة، وأجرة الثاني عشرين يأخذ الأول عشرة أكثر من أجره أولاً في جميعها. ولو قيل: إنما يكون له حصة حفر فيها من جعله الأول لكان صواباً، والله أعلم، وكذلك في موت العامل. وقوله: (وَوَلِيُّ الْوَارِثِ كَذَلِكَ) أي: ولي الوارث المولى عليه كالوارث غير المولى عليه ينظر الولي لمحجوره في المصلحة في ترك تمام العمل أو يستأجر له من يتمه. وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ- وَهُوَ عَيْنُ- فَالأَوْلَى أَنْ لا يُحَرِّكَهُ، فَإِنْ حَرَّكَهُ فَعَلَى قِرَاضِهِ احترز بالعين مما لو شغله فإنه يتمادى في العمل، وقيد ابن يونس المسألة بما إذا كان الموت والعامل ببلد رب المال، وأما إن كان بغيره أو ظعن منه فله العمل كما لو شغله.

وقوله: (فَالأَوْلَى) نحوه في الجواهر، وإنما في المدونة فلا يعمل بصيغة النهي، وظاهره المنع، وعلى ذلك حملها اللخمي وغيره. فإن فعل بعد علمه ضمن تجر لنفسه أو للقراض، والربح له إن تجر لنفسه وإلا فلهم، ويختلف إذا تجر بعد الموت وقبل العلم فخسر هل يضمن لخطئه على مال الوارث أو لا؟ لأن له شبهة، وقال ابن القاسم في المدونة: إذا اشترى بعد الموت وقبل العلم فهو على القراض، يريد في الربح والخسران إلا أن يعلم من العامل قلة الأمانة فلا يصدق فيهما. انتهى باختصار. وعن ابن يونس: لمالك ما عزاه اللخمي لابن القاسم؛ لأنه إن لم يعلم بموته حتى ابتاع سلعاً يمضي ذلك على القراض، فإن قيل: فهل يمكن حمل كلام المصنف على ما إذا لم يعلم العامل بموت رب المال؟ قيل: قوله: الأولى ينافي ذلك إلا مع العلم. وَمَنْ هَلَكَ وَقِبَلُهُ قِرَاضُ أَوْ وَدِيعَةُ- وَلَمْ تُوجَدْ - فَفِي مَالِهِ، وَيُحَاصُّ غُرَمَاؤُهُ، وَتَتَعَيَّنُ بِوَصِيَّتِهِ، وتُقَدَّمُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ .. (وَقِبَلُهُ) أي عنده، والضمير في قوله: (لَمْ تُوجَدْ) عائد على الوديعة. ومتى كان العطف أو جاز عود الضمير على الثاني، هكذا وعلى الأول كقوله تعالى: (تجارة ولهواً انفضوا إليها) وعليهما كقوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) [النساء: 135]. (فَفِي مَالِهِ، وَيُحَاصُّ) بذلك (غُرَمَاؤُهُ) قالوا: لأنه يحتمل أن يكون أنفقها، ويحتمل أن يضيعها بتفريط أو بغيره، وفي الأولين يضمن، فلما كان وجه الضمان أكثر ألزمه، وقد قدم المصنف هذه المسألة في الوديعة وقيدها هناك بما لم يتقادم كعشر سنين.

ابن عبد السلام: وقد اختلف المذهب في عمارة ذمة المودع بذلك، ويتخرج مثله في القراض، بل عدم الضمان أولى عند بعض الشيوخ؛ لأنه مأذون له في التصرف فيحمل الخسارة، والذي يقوله هنا وهو الذي يميل إليه غير واحد من الشيوخ: إنما لا ينبغي أن تعمر ذمة العامل ولا المودع بالشك إلا أن تقوم قرائن على ضد ذلك فيعمل عليها، انتهى بمعناه. قوله: (وَتَتَعَيَّنُ) يعني أن الحكم المتقدم إنما هو إذا لم يتعين ذلك، وأما إن أقر بقراض بعينه أو وديعة بعينها في مرضه فمن أقر له أحق بما عين من جميع الغرماء، كانت ديونهم ببينة أو بإقرار في الصحة أو في المرض، وهكذا في الجواهر. وقال ابن حبيب: هذا في الموت، وأما في الفلس فإن عينها فصاحبها أولى بها، وإن لم يعينها فلا يحاصص ربها بذلك الغرماء كما لا يصدق رب الدين، وكذلك فسره أصبغ وفيها اختلاف وهذا أحسن، وكذلك في العتبية والموازية. وَالْعَامِلُ أَمِينُ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ضَيَاعِهِ وخَسَارَتِهِ، وَاسْتِحْلافُهُ عَلَى الْخِلافِ فِي أَيْمَانِ التُّهَمِ .. هذا شروع منه في التنازع، وقدم كون العامل أميناً لانبناء ما بعده عليه. والإجماع على أمانته، نقله ابن راشد وغيره، وقد تقدم أنه إذا اشترط عليه الضمان فسد القراض. قوله: (فِي ضَيَاعِهِ) أي: بسرقته ونحوه، والضياع بفتح الضاد قاله الجوهري. وقوله: (وخَسَارَتِهِ) قيده اللخمي بأن يأتي بما يشبه، ويعرف ذلك بسؤال التجار في بلد السلع هل يخسر مثل هذا المال في هذه المدة كما ذكر؟ وقوله: (وَاسْتِحْلافُهُ) مبتدأ خبره (عَلَى الْخِلافِ) تقديره جاز على الخلاف [605/ ب] (فِي أَيْمَانِ التُّهَمِ) وهو ثلاثة أقوال: ثالثهما: يحلف المتهم دون غيره، وفهم من كلامه أنه لو لم يتهم، بل حق الدعوى عليه أنه يحلف باتفاق، وكذلك قال غيره.

وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّهِ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ مُطْلَقاً حاصله أنه اتفق أن القول قوله في الرد إذا قبضه بغير بينة واختلف إذا قبضه بها على قولين: المشهور منهما أنه لا يقبل. قوله: (وَقِيلَ: يُقْبَلُ) ابن شاس: والمشهور مذهب المدونة. وظاهر كلامهما أن الشاذ منصوص، وإنما خرجه اللخمي على ما في المدونة في من اكترى ما لا يغاب عليه ثم ادعى رده، أن القول قوله، أخذه ببينة أو بغيرها، ومما في المدونة: إذا قال العامل: رددت إليك رأس المال والذي بيدي ربح، وقال رب الملا: لم تدفع لي شيئاً، صدق رب المال، ورأى اللخمي أن هذه المسألة تعارض التي فوقها، قال: ولا فرق بين أن يقول: رددت رأس المال أو جميعه أو نصيبك من الربح. وقال القابسي: معنى ما في المدونة أنه قال: ما في يدي هو الربح بيني وبينك؛ لأنه أقر أن حق رب المال قائم بيده بعد، وأما لو قال: رددت إليك المال وحصتك من الربح وما في يدي هو حصتي من الربح لكان القول قول العامل إذا قبضه بغير بينة، ولا أثر لهذه التفرقة عند اللخمي. وأما إن أنكر العالم القراض فأقام ربه عليه بينة، فقال: رددته أو ضاع. قبل مالك قوله مرة فيهما، وقال مرة: لا يقبل فيهما قوله. وقبل ابن القاسم قوله في الضياع فقط، فإن أقام بينة على ضياعه أورده بعد إنكاره، فالمشهور أنه لا تنفعة البينة خلافاً لمحمد. هذا حكم ما إذا أنكر ما لا يتعلق بالذمة من قراض أو وديعة، وأما إن أنكر ما يتعلق بها وشبه ذلك من بيع أو ما يفضي إلى حد، ثم رجع إلى إنكاره لأمر ادعاه أو أقام عليه بينة فاختلف فيه على أربعة أقوال:

الأول: قال ابن نافع: تنفعه في كل شيء. والثاني: مقابلة قاله غير ابن القاسم في الحدود التي تدرأ بالشبهات فأحرى غيرها. الثالث: لابن كنانة: لا ينتفع بذلك إلا في الربح والحدود. الرابع: لابن المواز: لا ينتفع بذلك إلا في الحدود. وَيَحْلِفُ اتِّفَاقاً أي: إذا قلنا: إن القول للعامل في الرد فيحلف بالاتفاق ولا يجري فيه الخلاف المتقدم؛ لأن رب المال هنا حقق عليه الدعوى، ولهذا انتقلت هذه اليمين على رب المال إن نكل عنها العامل بخلاف الضياع؛ لأنه اتهمه فقط. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي جُزْءِ الرِّبْحِ إِنْ أَتَى بِمَا يُشْبِهُ وَالْمَالُ بِيَدِهِ، أَوْ وَدِيعَةُ وَلَوْ عِنْدَ رَبِّهِ لا إشكال أنهما إن اختلفا في قدر جزء الربح قبل الشغل أن العامل مخير بين أن يعمل بما قاله رب المال أو يرد لانحلال عقد القراض قبل العمل، وأما إن اختلفا بعده فهو ما ذكره المصنف، ومعناه أن القول قول العامل في جزء الربح إذا ادعى ما يشبه مع يمينه، فإن نكل فالقول لرب المال مع يمينه، فإن نكل فالعمل على الأشبه. الباجي: وسواء ادعى رب المال ما يشبه أو لا، أما إن ادعى رب المال ما يشبه فقط فالقول قوله مع يمينه كالأول، وإن ادعيا معاً مالاً يشبه تحالفاً ولزم قراض المثل إن حلفا أو نكلا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فالقول قول الحالف. وقوله: (وَالْمَالُ بِيَدِهِ) جملة حالية، وحاصله أن القول قول العامل بشرط أن يدعي الأشبه وأن يكون المال بيده أو بيد نائبه؛ كما لو ادعاه ولا يضر في ذلك أن يودعه عند ربه، وإليه أشار بقوله: (وَلَوْ عِنْدَ رَبِّهِ)، و (لَوْ) هنا بمعنى (إن).

أما لو سلم لربه به ليأخذ منه رأس ماله وحصته من الربح فالقول قول رب المال لخروج المال عن حيازة العامل، واعلم لو بقي جميع الربح بيد العامل ودفع رأس المال لربه لكان القول أيضاً قوله، نص عليه في البيان، وهو خلاف مفهوم كلام المصنف. وَلَوْ قَالَ الْعَامِلُ: قِرَاضُ، وقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بِضَاعَةُ بِأَجْرٍ، أَوْ بِالْعَكْسِ- فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ .. وهكذا وقع في بعض النسخ، وهي الصحيحة إن شاء الله تعالى، ومعنى هذا إذا اختلفا في الوجه الذي قبض المال عليه، فقال العامل: قبضته على القراض بالنصف مثلاً، وقال ربه: بل أبضعته معك بأجرة؛ فالقول قول العامل مع يمينه ويأخذ النصف إذا كان مما يشبه القراض عليه، فإن نكل حلف الآخر ودفع الأجرة. وإنما كان القول قول العامل؛ لأن الاختلاف هنا راجع إلى الاختلاف في جزء الربح، وهذا مقيد بما إذا كانت الأجرة أقل من نصف الربح، وأما إن كانت مثله أو أكثر فلا يمين، وقد اتفقا في المعنى كما ذكرنا، ولا يضر اختلافهما في اللفظ، واستغنى المصنف عن هذا القيد لوضوحه؛ ولأنه راجع في المعنى كما ذكرنا إلى الاختلاف في الجزء فاستغنى بما قدمه فيه. واحترز بقوله: (بِأَجْرٍ) مما لو ادعى رب المال البضاعة بغير أجر، ففي المدنة: القول قول صاحب المال، ففيها: وإن قال العامل: قراض، وقال ربه: بل أبضعته لتعمل به؛ فالقول قول رب المال مع يمينه، وعليه للعامل أجرة مثله. سحنون: إلا أن يكون ما ادعى العامل من الربح أقل من أجر مثله فليأخذ الأقل، وإن نكل رب المال صدق العامل مع يمينه إذا كان يستعمل مثله في القراض. انتهى.

وحمل بعضهم المدونة على أن مراد رب المال بقوله: بضاعة؛ أي بغير أجر. وفي هذه إشكال؛ لأنه إن كان القول قول العامل مع دعوى رب المال البضاعة بجبر فلان يكون القول قول العامل مع دعوى رب المال البضاعة بغير أجر أولى، وهكذا قال بعض القرويين: إن القول قول العامل هنا، ولهذا قال ابن رشد: معنى مسألة المدونة أن يحلف العامل؛ لأن وجه ما فيها أن كل واحد منهما يدعي على صاحبه، رب المال يدعي على العامل أنه عمل له باطلاً، والعامل يدعي أنه عمل [606/ أ] له بنصف الربح، فإن حلفا أو نكلا كان له أجر مثله إلا أن يكون ذلك أكثر من نصف الربح، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، وحمل اللخمي المدونة على ظاهرها أن القول قول العامل؛ وقيد ما في المدونة بما إذا كان مثل المبضع معه لا يستعمل نفسه في القراض، وكان مثل تلك البضاعة لا تدفع قراضاً ليسارتها، ثم حكى عن محمد أنه خالف المدونة، وقال: إنهما يحلفان جميعاً، ويعطي العامل أجرة مثله. وقوله: (أَوْ بِالْعَكْسِ) أي: إن ادعى العامل بضاعة بأجر، وادعى ربه قراضاً على أجر، فالقول أيضاً قول العامل مع يمينه، نقله اللخمي، قال: لأن العامل يقول: عملته على الإجارة في الذمة، والآخر على الجعالة، وهما مما يدل على سقوطه أو في المسألة. وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: وَدِيعَةُ؛ ضَمِنَهُ الْعَامِلُ بَعْدَ الْعَمَلِ لا قَبْلَهُ يعني: فإن قال رب المال: وديعة عندك، وقال العامل: بل هو قراض، وحذف المصنف قول العامل لدلالة الكلام عليه، فإن هلك قبل العمل فلا ضمان لاتفاقهما أنه كان أمانة؛ لأن القراض والوديعة يشتركان في ذلك، وإن هلك بعده فالقول قول دافعه؛ لأن قابضه مدعى عليه أنه أذن له في تحريكه والأصل عدم ذلك. ابن عبد السلام: ولا يبعد أن يخرج خلافاً في ذلك، فقد اختلف إذا كان المال غائباً وتنازعا على هذا الوجه، فقال ابن القاسم ورواه عن مالك: القول للدافع.

وقال أشهب ورواه عن ابن عبد الحكم عن ربيعة ومالك: القول قول المدفوع إليه المال؛ إذ لا يؤخذ أحد بغير ما أقر به. وأشار بعضهم إلى وجود نص خلاف في ضمانه إذا عدم قبل التحريك، وهو بعيد. فرع: وما ذكره المصنف ظاهر إذا لم يشغل المال. ابن القاسم: وإن كان المال في سلعة فبيعت السلعة بفضل، فقيل للعامل: اتق الله إن كنت علمت أنه قراض، فادفع إليه ربحه، ولا أحكم بذلك، ولو دفع ذلك لم يقض على رب المال بأخذه، وإن كان في السلعة نقصان، يقال لرب المال: اتق الله ولا تضمنه إن علمت أنه قراض، فإن أبى فالحق حقه، وإن رجع العامل إلى قول رب المال بعد البيع لم يقبل منه أنه لا يرد أي لأنه يريد نقص البيع. فَإِنْ قَالَ الْعَامِلُ: قِرَاضُ أَوْ وَدِيعَةُ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: قَرْضُ- فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ خِلافاً لأَشْهَبَ .. تظهر فائدة هذا الخلاف إن ادعى العامل ضياع المال كله أو بعضه، فالمشهور وهو قول ابن القاسم وروايته أن القول قول رب المال مع يمينه، أي سواء أتلف قبل العمل أو بعده؛ لأن العامل مقر بوضع يده الذي هو سبب الضمان مدع لدفع ذلك السبب، ورأى أشهب أن وضع اليد تارة يكون مع الضمان وتارة يكون مع عدمه فهو أعم من الضمان، فلا يستلزمه ولا يؤخذ المقر بأكثر مما أقر به، وظاهر كلامه أن أشهب خالف سواء تلف قبل التحريك أو بعده والذي ذكره جماعة أن أشهب إنما خالف قبل التحريك ووافق إذا ضاع بعده؛ لأن القابض يدعي في مال حركه أنه لا ضمان عليه. ومقتضى ما حكاه صاحب المقدمات أن أشهب خالف مطلقاً، وذكر في المسألة ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، فإن كان قبل العمل فلا ضمان، وإن كان بعده فالضمان.

وَلَوْ قَالَ: بَلْ غَصَبْتَهُ لَمْ يُصَدَّقْ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يُشْبِهَ أي: لو قال العام قراض، وقال رب المال: بل غصبته مني (لَمْ يُصَدَّقْ) أي: رب المال؛ لأن الأصل عدم الغصب، فكان القول قول منكره وسواء كان يشبه أم لا، ولأن الغصب يستلزم زيادة على الغرامة، وهي: الأدب والجرحة، بل يعاقب مدعي ذلك إذا كان المدعي عليه من أهل الخير والصلاح. وقوله: (وَقِيلَ: إِلا أَنْ يُشْبِهَ) ابن عبد السلام: وهو بعيد. انتهى. وذكره ابن يونس عن بعضهم لكنه لم يذكر على أنه خلاف، بل بعد قوله في المدونة: وإن قال رب المال: غصبته مني أو سرقته مني فهو مدع، قال بعض الفقهاء: إنما هو إذا ادعى ذلك على امرئ لا يليق به، ولو عكس لكان من دعوى رب المال ما يشبه. وإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَكَالْبَيْعِ فيكون القول قول مدعي الصحة، قال في الجواهر: ويجري فيها بأن القول قول مدعي الفساد إن غلب.

المساقاة

الْمُسَاقَاةُ عياض: هي مشتقة من سقي الثمرة؛ إذ هو معظم عملها، وهي إجارة على عمل في حائط وشبهه بجزء من غلته، والمزارعة قريب منها، ولعل المصنف ترك رسمها؛ لأنه يؤخذ من رسم القراض، وهي جائزة عندنا وعند الجمهور خلافاً للحنفية، ودليلنا ما في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهي رخصة مستثناة من المخابرة، وهي كراء الأرض بما يخرج منها، ومن بيع الثمرة والإجارة فيها قبل طيبها وقبل وجوبها، ومن الإجارة بالمجهول، ولصحتها وجوازها وجوه: الأول: أن يكون في الأصول من النخل والأشجار مما له ثمر، أو ما في معناه من ذوات الأزهار والأوراق المنتفع بها؛ كالورد والياسمين احترازاً من الزرع والمقاثي فإن فيها خلافاً سيأتي. والثاني: أن يكون قبل طيبها وقبل جواز بيعها؛ لأنها إذا جاز بيعها لا ضرورة حينئذ إلى المساقاة. الثالث: أن تكون المدة معلوم ما لم تطل جداً. الرابع: أن يكون بجزء مشاع مقدر. الخامس: أن يكون العمل كله على العامل. السادس: ألا يشترط على العامل أشياء خارجة عن الثمار أو متعلقة بالثمرة ولكن يبقى بعد الثمرة مما له قدر. السابع: ألا يشترط أحدهما من الثمرة [606/ ب] ولا من غيرها شيئاً خالصاً له. الثامن: أن تكون بلفظ المساقاة عند ابن القاسم، ولا تنعقد بـ (عاملتك) ونحو ذلك خلافاً لسحنون وابن المواز، ذكر هذه الثمانية عياض.

وزاد غيره تاسعاً: وهو أن يكون الشجر مما لا يخلف احترازاً من القصب والموز فإنه لا تجوز مساقاته. الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ: النَّخْلُ، وَالأَشْجَارُ، وَالزَّرْعُ، وَالْمَقَاثِي الظَّاهِرَةُ فِي الأَرْضِ أي: المعقود عليه من حيث الجملة وإلا فسيقول: إن من شرط الزرع والمقاثي أن يعجز عنها أربابها. وعطف الأشجار على النخل من باب عطف العام على الخاص، ولعله أفرد النخل لكونه محل النص، ويندرج في الأشجار الورد والياسمين والقطن، وقد نص على هذه الثلاثة في المدونة، وظاهرها جواز مساقاتها وإن لم يعجز عنها أربابها، وعلى هذا الظاهر تأوله أبو عمران وابن القطان. عياض: وهو ظاهر قول اللخمي. واحتج هؤلاء بقوله في المدونة، ولا بأس بمساقاة الورد والياسمين والقطن، وأطلق وعطف على قوله في المدونة تجوز المساقاة في كل ذي أصل من الشجر، وهو قول محمد ابن المواز في الورد والياسمين، وتأول بعضهم المدونة على أنه لا فرق بين القطن والزرع والمقاثي، وأشار ابن يونس إلى أن الخلاف هنا راجع إلى خلاف في حال؛ لأنه لما نقل عن ابن الماجشون جواز مساقاة هذه الثلاثة وإن لم يعجز عنها ربها، قال: يريد لأن القطن عندهم شجر يجنى سنين فهو كالأصول الثابتة، وأما بلدنا فلا تجوز مساقاته إلا أن يعجز عنه أربابه كالزرع؛ لأن أصله غير ثابت. وفي المقدمات: لا ينبغي أن يختلف في جواز مساقاة الورد والياسمين على مذهب مالك؛ لأن لها أصولاً تجنى، ولو قال قائل في المقاثي والقطن بالجواز وإن لم يعجز عنها أربابها دون الزرع، فلا يجوز على مذهب مالك إلا بالعجز لما بعده إلا أنه لم يقله.

خليل: وقول من حمل المدونة على الجواز مطلقاً أظهر؛ لأن فيها بعد هذه الثلاثة: وأما المقاثي والبصل وقصب السكر فكالزرع يساقي إن عجز عنه ربه، فتفرقته بين هذه وبين تلك، تدل على أن حكمها مختلف، والله أعلم. وقوله: (الظَّاهِرَةُ) صفة للمقاثي على معنى الشرط، ولو قال: الظاهرين ليعود على (الزَّرْعُ) أيضاً لكان أولى؛ لأنه كما يشترط الظهور في المقاثي كذلك يشترط في الزرع، وقد يقال: (الظَّاهِرَةُ) صفة للمقاثي والزرع باعتبار المذكورات أو يقال: حذف وصف الزرع لدلالة وصف المقاثي عليه، وفيهما تعسف. وأجاب ابن عبد السلام بأن مراده تمييز ما تجوز فيه المساقاة لا تمييز شخصه، فكأنه يقول: ما شأنه الظهور كالمقاثي تجوز مساقاته بخلاف ما شأنه أن لا يظهر كاللفت والجزر على مذهب المدونة فيما يخرج منه، ونص عليه محمد، ورد بأن ما شأنه أن يظهر أعم من أن يظهر أم لا، فلا يفيد أن الظهور شرط في المقاثي، وكلام المؤلف يقتضي أن الظهور شرط في المقاثي. وقوله: (فِي الأَرْضِ) مستغنى عنه، وقد يتلفظ له بأنه قيد بقوله: (في الأرض) ليتناول أصولها؛ لأنها التي في الأرض حقيقة، إذ لا يشترط ظهور القثاء المأكول بل ظهور ذلك يمنع من المساقاة. وَهِيَ لازِمَةُ مُؤَقَّتَةُ وتُسْتَحَقُّ الثِّمَارُ فِيهَا بِالظُّهُورِ اتَّفَاقاً بِخِلافِ الْقِرَاضِ يعني: (لازِمَةُ) بالعقد وهذا مذهب المدونة، وقد تقدم في القراض الفرق بينها وبينه. ابن رشد: وقيل: إنها لا تنعقد ولا تلزم إلا بالعمل، وقيل: إنها تنعقد وتلزم بالشروع في العمل كل واحد. قوله: (مُؤَقَّتَةُ) أي: محدودة بالجذاذ لا بالأهلة، كما سيأتي، ولهذا يكون من شرط صحتها التأجيل، إلا أن بعض الشيوخ حكى فيها قولاً آخر: إنها إذا وقعت مطلقة حملت

على سنة واحدة، ولا تكون فاسدة تستحق الثمار فيها بظهور الثمرة فيها اتفاقاً، كما قال المصنف فالاتفاق عائد على المسألة الأخيرة. خليل: ولا يعود على الجميع لوجود الخلاف في الأولى، واختلف في القراض، فالمشهور أن العامل لا يملك الربح بمجرد ظهوره، والفرق بينها وبين القراض أن الربح تجبر به الخسارة في القراض، ولو ملكه لما جبرت الخسارة به، وقيل: يملكه في القراض ملكاً غير مستقر لكون الخسران يجبر به، فإذا وقعت القسمة استقر ملكه عليه. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لا يُخْلَفُ، فَلا يَجُوزُ فِي الْمَوْزِ وَالْقَصَبِ وَالْبَقْلِ أي: وشرط المعقود عليه ولم يجز مساقاة ما لا يخلف لبعد شبهه عن محل النص وهو النخل، ولأن بعض هذا النوع إذا استقي بدا صلاحه فيعود هذا الشرط إلى الذي بعده، فقال في المدونة: ولا تجوز مساقاة القصب؛ لأنه يساقى بعد جواوز بيعه، وكذلك القرط والبقل والموز، وإن عجز عن ذلك ربه، لأن ذلك كله بطن بعد بطن، وجزة بعد جزة. وقوله في المدونة: لأنه يساقى بعد جواز بيعه، يعني: لأنه إنما يساقى بعد استقلاله، وهو بعد استقلاله يجوز بيعه. ونقل ابن القاسم في مجالس أبي زيد إجازة مساقاة ما يخلف، وليس بشيء، وعلى المشهور هو مقيد بما إذا كان مقصوداً، إلا أن سحنون أجاز في العتبية مساقاة الحائط وفيه شيء من الموز: الثلث فأقل. قال في البيان: وهو تفسير لمذهب مالك. سحنون: وإذا كان يسيراً فيكون بينهما ولا يجوز أن يشترطه أحدهما، أما مساقاة البقول فما كان منها ظاهراً؛ كالقصب والكزبرة والكرنب فلا تجوز مساقاته عند مالك وابن القاسم، وقال عبد الرحمن بن دينار: يجوز ذلك إذا نبت وعجز ربه عن عمله قبل أن يحل بيعه، وأما الأصول المغيبة في الأرض كالجزر واللفت والبصل، ففي الموازية منع مساقاتها، وفيها أيضاً عن ابن القاسم الجواز إذا ظهرت من الأرض، وعجز عنها ربها، وكذلك

أجاز في المدونة المساقاة على البصل وقصب السكر إذا عجز عنه ربه، ونقل عن ابن القاسم منع مساقاة القصب وإن عجز عنه ربه. ابن المواز: بناء على الأول، ولا يجوز أن يشترط خلفه القصب في المساقاة، كما لا تجوز مساقاته إذا لم يظهر من الأرض، وجوز ابن نافع مساقاة [607/ أ] الأصول المغيبة والمقاثي وإن لم يعجز عنها ربها. ابن يونس: واختلف في الريحان، فقيل: تجوز مساقاته، وقيل: لا، فوجه المنع؛ لأنه كالبقل يجز ويخلف، ووجه الجواز أنه إذا جزه لم ينتفع به، واحتاج إلى السقي، فيجوز أن تساقى منه الجزة الأولى دون الخلفة، وقيل: القياس أن تجوز المساقاة عليه وعلى خلفته أما إن كانت النخلة تطعم في السنة مرتين فلا بأس بمساقاتها. وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ فَإِنْ حَلَّ فَإِجَارَةُ هذا معطوف على قوله: (أَنْ يَكُونَ مِمَّا لا يُخْلَفُ) وكذلك قوله بعد ذلك: (وَأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالْمَقَاثِي ..) والظاهر أن كلامه مشتمل على ثلاثة شروط في قوله (أَنْ يَكُونَ مِمَّا لا يُخْلَفُ) قائماً مقام شروط؛ لأنه اسم جنس مضاف، فيفيد العموم، ويحتمل أن يريد بقوله: (وَشَرْطُهُ) شرطاً واحداً، ويكون قوله: (وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ) و (وَأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالْمَقَاثِي) أجزاء الشرط، وقولنا الأول هو الظاهر؛ لأنه في الجواهر. كذلك قوله: (فَإِنْ حَلَّ فَإِجَارَةُ) مرفوع على خبر ابتداء مضمر أي فهو إجارة، قال في الجواهر: إذا حل بيع الثمار وغيرها والمقاثي لم تجز المساقاة عليها وإن عجز عنها ربها، قال سحنون: تجوز مساقاة ما جاز بيعه وهي إجارة بنصفه. ابن عبد السلام: وكأن المصنف حمل كلام سحنون على الموافقة لابن القاسم في المعنى، وأن هذه الصورة إذا وقعت مضت على مذهبهما معاً بإجارة.

خليل: وفيه نظر؛ لأن هذا الحمل على خلاف ما فهمه أهل المذهب من حمل مذهبه على المخالفة، وذلك أن الباجي وابن رشد وغيرهما نصوا على أن مالكاً منع ذلك، وقال: يفسخ العقد ولا يكون إجارة فاسدة، وأن سحنون أجازها كما قاله مالك وابن القاسم، وفي المقدمات عن ابن القاسم مثل قول مالك، وعلى هذا فقول المصنف إجارة ليس كما ينبغي؛ إذ لم يبين هل هي إجارة فاسدة كما قاله مالك وابن القاسم أو إجارة صحيحة كما قاله سحنون؛ نعم ظاهره موافقة سحنون؛ لأنه إنما يحمل في الإطلاق على الصحيح، وعلى هذا فيكون المصنف لم يذكر المشهور. فإن قيل: لم لا يقرأ قوله: (فَإِجَارَةُ) بالنصب على المصدر الموضوع موضع فعل الأمر أي فليؤاجره إجارة؟ قيل: فيه بعد؛ لأنه حينئذ يكون صريحاً في مخالفة المشهور وموافقة قول سحنون، ولأنه حينئذ لا يكون في كلامه ذكر حكمها إذا وقعت بلفظ المساقاة وهو المقصود، فإن قيل: فما وجه قول مالك؟ قيل: علله الباجي بأن المساقاة تتضمن أن على العامل النفقة على رقيق الحائط، وجميع المؤن وإن لم يكن ذلك معلوماً، ولا يجوز ذلك في الإجارة، وعلله صاحب البيان وابن مرزوق بأن الثمرة إذا أجيحت في المساقاة لم يكن له قيام في الجائحة، وخير بين أن يتمادى أو يترك، وفي الإجارة له القيام بالجائحة، والله أعلم، وعلله بعضهم بأن العالم في المساقاة لا يستحق شيئاً إلا بظهور الثمرة، والأجير قد يستحق الأجرة بمجرد العقد وقد يستحقها بمقدار العمل، فاشتمل العقد على متناف، وأخذ صاحب المقدمات وعياض من هذه المسألة أن الإجارة لا تنعقد بلفظ المساقاة. ابن عبد السلام: وفيه نظر؛ لجواز أن يكون منع المساقاة في هذه المسالة لتنافي الأحكام، وأجاز في الموازية أن يدفع إليه نخلاً مساقاة بتمر من نخل آخر قد أزهى، ولم يلتفت إلى لفظ المساقاة.

وَلِذَلِكَ لَوْ جَمَعَهُ مَعَ سَنَةٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ ولا أجد أن ما حل بيعه مع سنة أخرى؛ لأن الصفقة حينئذ جمعت حلالاً وحراماً، وهذه الصورة لا تجوز على قول سحنون، لاشتمال هذا العقد على المساقاة والإجارة، وإنما يجيزه سحنون إذا انفرد، قاله الباجي. وَيُغْتَفَرُ طِيبُ نَوْعٍ يَسِيرٍ مِنْهُ هذا الفرع ذكره في الموازية، أي إذا كان في الحائط أنواع من الثمر، فطاب منه نوع يسير، أنه تجوز مساقاته، وإن كان كثيراً فلا تجوز المساقاة فيه ولا في غيره، هكذا نقل الباجي عن الموازية، وحكى عنها اللخمي المنع، ولعل معناه أن يكون كل واحد من النوعين ما طاب وما لم يطب كثيراً، أما لو كان الحائط كله نوعاً واحداً وطاب بعضه، فإنه لا تجوز المساقاة فيه؛ لأن بطيب البعض يجوز البيع، قاله ابن يونس وغيره، وهو يؤخذ من كلام المصنف، لأن قوله: (نَوْعٍ) يخرج هذه الصورة، واعلم أنه إنما يشترط في الثمرة ألا تبلغ إلى حد يجوز بيعها في الحائط الذي يعمل فيه، وأما لو ساقى حائطاً لم تطب ثمرته بنصف أخرى مثلاًن فقال مالك: إذا كان بعد أن طابت ثمرة الحائط الذي يعطي منه فلا بأس إذا كان السقي معروفاً وهو بمنزلة الأجرة. اللخمي: وإذا طاب بعض الحائط ولم يكن باكوراً لم تجز مساقاته على قوله في المدونة: يجوز بيعه حينئذ، وإن كان الذي طاب باكورا وكانت المساقاة على أن يسقي جميع الحائط، ويأخذ الجزء مما طاب خاصة جاز ذلك، وتكون أجرة بمنزلة من أعطى حائطين قد طابا أحدهما على أن يأخذ الجزء مما طاب، وإن كانت المساقاة على أن يسقي ما لم يطب ومنه يأخذ جزأه أو مما طاب ولم يطب لم يجز، وإن كانت المساقاة على أن يسقي ما طاب وحده ومنه يأخذ جزأه قولاً واحداً.

خليل: انظر هنا فإنه يقتضي جواز المساقاة على ما حل بيعه، ولعله يذهب إلى حمل قول سحنون على الموافقة، والله أعلم. اللخمي: وإنما لم يجز أن يسقي الحائط على أن يأخذ الجزء من الثمر ما طاب وما لم يطب؛ لأنها صفقة جمعت مساقاة وبيعاً، وهو أيضاً جعل وبيع، ويدخله مساقاة ما لم يطب بجزء من غيره؛ لأن خدمة ما طاب أقل وخدمة ما لم يطب أكثر، وكل هذا إذا كان كل واحد منهما [607/ ب] كثيراً؛ لأنه مقصود في نفسه، قال غير واحد: ومحمل قول مالك في جواز مساقاة ما قد طاب إذا لم يكن في الحائط رقيق ولا دواب أو كانوا فيه وشرط إطعامهم على رب الحائط، وأما لو اشترط إطعامهم على العامل لم يجز؛ لأنه طعام بطعام غير يد بيد؛ أي: لأنه يأخذ في نصيبه طعاماً، وقد كان أخرج للرقيق والدواب طعاماً، وهذا الشرط أيضاً يأتي على قول سحنون الذي يجيز المساقاة فيما حل بيعه، وقاله ابن عبد السلام. وَأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالْمَقَاثِي مِمَّا عَجَزَ عَنْهُ رَبُّهُ عَلَى الأَشْهَرِ الأشهر مذهب المدونة، ومقابله لابن نافع بإجازة المساقاة على ذلك وإن لم يعجز عنه ربه. اللخمي: ولم يفرق في ذلك بين أن يبرأ أو لا، وزاد اللخمي في الزرع قولين آخرين: أحدهما: الكراهة، ونسبه للموازية، والثاني: لابن عبدوس قال: القياس عندي ألا تجوز مساقاة الزرع أي: لأن المساقاة إنما وردت في الزرع؛ إذ كان زرع خيبر تبعاً لثمارها، والتبع لا حكم له فوجب أن يقتصر بالرخصة على ما ورد، ووجه قول مالك أن العلة في جواز المساقاة الضرورة، ومع العجز تتحقق الضرورة. الباجي: ومعنى العجز عن الزرع: أن يعجز عن عمله الذي يتم به أو ينمو أو يبقى وإن كان له ماء فقد يكون عاجزاً.

تنبيه: لمساقاة الزرع ونحوه شروط: أولها: ما ذكره المصنف. الثاني: أن تكون فيه مؤنة، ولو تركت لمات. الثالث: أن يستقل من الأرض ويبرز. الرابع: أن لا يبدو صلاحه. فرع: قال مالك في المدونة وغيره: وتجوز المساقاة على شجر البعل، وكذلك ما كان يشرب بالسيح؛ لأنه قد يعجز عن الدواب والأجراء، قيل لمالك: فزرع البعل كزرع إفريقية ومصر وهو لا يسقى، قال: إن احتاج من المؤنة ما يحتاج إليه شجر البعل ويخاف هلاكه إن ترك، جازت مساقاته، وإن كانت لا مؤنة فيه إلا حفظه وحصاده ودرسه لم يجز وتصير إجارة فاسدة وليس زرع البعل كشجره، وإنما تجوز مساقاة زرعه على الضرورة والخوف، وقد يقال: الأظهر هو المشهور؛ لأن الأشهر يؤدي إلى زيادة الفرع على الأصل. وَلا يُسَاقَى الْبَيَاضُ إِلا تَبَعاً ثُلُثاً فَمَا دُونَهُ بِقِيمَةِ الْجَمِيعِ البياض عبارة عن الأرض الخالية من الشجر؛ أي: لا يجوز إدخال البياض في المساقاة إلا بشرط أن يكون تبعاً للشجر، وسواء كان بين أضعاف السواد أو مفرداً عن الشجر، قاله ابن المواز. وقوله: (ثُلُثاً) بدل أو عطف بيان من (تَبَعاً) وذكر المصنف التبعية لينبه على علة الجواز. مالك: وكان بياض خيبر يسيراً بين أضعاف السواد. مالك: وبذلك قضى أهل العلم. وقوله: (بِقِيمَةِ الْجَمِيعِ) بيان لنسبة الثلث يعني أن التبعية منسوبة إلى جميع الثمرة، كما لو كان كراء الأرض على انفرادها خمسة دنانير، وكانت الثمرة المعتاد منها بعد إسقاط

ما أنفق عليها تساوي عشرة، هكذا نص عليه في المدونة، وقال ابن عبدوس: إنما يراعى أن يكون البياض تبعاً للثمرة كلها إذا كان بينهما، فأما إذا ألغي فإنما يراعى فيه أن يكون تبعاً لحصة العامل فقط. اللخمي: وما ذكره ابن القاسم من الإسقاط غلط؛ لأن السقي والعلاج ثمن للثمرة فكيف يصح أن يحط ثمن أحدهما من الآخر، وإنما باع العامل منافعه من عمل وسقي بالجزء الذي يأخذه بعد الطيب، وإنما يطيب ذلك الجزء على رب الحائط، ولهذا وجبت الزكاة فيه إن كان مجموع غلة الحائط خمسة أوسق، وإن كان العامل عبداً أو نصرانياً. فَإِنْ سَكَتَا فَقَالَ مَالِكُ: يُلْغَى لِلْعَامِلِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: إِنْ كَانَ ثُلُثَ نَصِيبِهِ فَمَا دُونَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لِرَبِّهِ .. تبع في نسبة هذا القول لمحمد صاحب النكت، ونسبه ابن أبي زيد والباجي واللخمي وابن يونس إلى ابن عبدوس، ونسبه ابن شاس إليهما، واعلم أن البياض إن كان أكثر من الثلث لم يجز أن يدخلاه في المساقاة، ولا يلغى للعامل بل يبقى لربه، وإن كان يسيراً فأربعة أوجه: إما أن يسكتا عنه، وإما أن يدخلاه، وإما أن يشترطه ربه، وإما أن يشترطه العامل، تكلم المصنف على الوجه الأول بقوله: (فَإِنْ سَكَتَا) والرواية الأولى لمالك في الموازية وبها قال محمد، ولم يحقق محمد نسبتها لمالك، واحتج لها محمد بأن ذلك هو السنة منه صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وَرُوِيَ أَنَّهُ لِرَبِّهِ) هو في كتاب ابن سحنون، قال: وإن زرعه العامل بغير إذن رب الحائط فعليه كراء المثل. وهو أحسن؛ لأن مفهوم المساقاة أن يسقى ما يحتاج إلى السقي، وهو النخل والبياض خارج عن هذا، وهو الذي في الجلاب. ابن عبد السلام: لعل محمد لا يريد بقوله: وتلك السنة أن الحكم عند الإطلاق إلغاؤه للعامل بالسنة، ولعله يريد أن الواقع في قصة خيبر إلغاء البياض لليهود، وهو أحسن ما

يحمل عليه، ومع ذلك فلا يصح لما في الصحيح أنه عليه السلام: عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر. فَإِنْ أَدْخَلاهُ فِي الْمُسَاقَاةِ فَبِجُزْئِهَا، وَبَذْرُهُ عَلَى الْعَامِلِ وَإِلا فَسَدَ هذا هو الوجه الثاني أعني إذا اشترط إدخاله، فإن قلت: هو تكرار مع قوله في صدر المسألة (وَلا يُسَاقَى الْبَيَاضُ ... إلى آخره) قيل: كلامه أولاً إنما هو إعطاء قاعدة، ثم تكلم على وجه المسألة، والله عز وجل أعلم. وقوله: (فَبِجُزْئِهَا) أي فيجوز على مثل جزء المساقاة، فحذف العامل والمضاف والباء بمعنى على كقوله تعالى: (مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ) [آل عمران: 75]، أي: على قنطار. وقوله: (وَبَذْرُهُ) أي: البياض، وفي بعض النسخ: (بَذْرُهَا)، ويعود على الأرض الخالية المفهومة من السياق. وقوله: (وَإِلا) أي: وإن لم يكن بجزئها بل بجزء مخالف أو كان بجزئها لكن والبذر ليس من عند العامل فسد [608/ أ] العقد، وهو أولى من تخصيص ابن عبد السلام. وقوله: (وَإِلا فَسَدَ) يعني: أنه يشترط في جميع مسائل هذا الفصل أن يكون بذر البياض على العامل؛ لأنه لم يرو أنه عليه الصلاة والسلام دفع لأهل خيبر شيئاً. وخالف أصبغ في اشتراط مساواة جزء البياض للحائط ونص ما نقله الباجي: ولو كان البياض تبعاً فاشترط العامل ثلاثة أرباعه، فقد أبى ذلك ابن القاسم وكرهه أصبغ ثم أجازه. فوجه الأول أنه لما اشترط البعض، كان ذلك زيادة في المساقاة، ولم يكن إلغاء؛ لأن الإلغاء إنما يكون في جميعه، ووجه الثاني: أنه اشترط أرضاً هي تبع؛ كما لو اشترط جميعها.

وَلَوِ اشْتَرَطَ رَبُّهُ أَنْ يَعْمَلَهُ لِنَفْسِهِ فَفِي الْمُوْطَأِ: لا يَصْلُحُ؛ لِنَيْلِهِ سَقْيَ الْعَامِلِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ .. هذا هو الوجه الثالث: وقوله: (لِنَيْلِهِ سَقْيَ الْعَامِلِ) أي: لأن سقي العامل ينال البياض، وذلك زيادة اشترطها رب المال على العامل. ابن عبد السلام: وروي في القول الثاني: إن العامل لا يتكلف لذلك زيادة في العمل؛ لأنه إنما سقى شجرة، وإنما ينتفع به البياض بعد ذلك كالذي ينتفع به الجار ونحوه. ابن راشد: ولم أر أن هذا القول معزو. ابن حبيب: ويجوز لربه الاشتراط إذا كان العامل لا يسقيه، كما إذا كان يعالج وهذا ينبغي أن يكون تقييداً لما في الموطأ. تنبيه: سكت المصنف على الوجه الرابع، وهو أن يشترطه العامل ولا خلاف في جوزاه، والمشهور جواز إلغائه للعامل إذا كان ثلثاً لجميع الثمرة. وقال ابن عبدوس: لا يجوز إلا أن يكون تبعاً لنصيب العامل، ونص مالك في المدونة وغيرها على أن إلغاءه هو المطلوب هنا، ولفظه في المدونة: مالك: وأحب إلينا أن يلغى البياض، فيكون للعامل وهو أصله. صاحب النكت: فإن اعترض معترض، وقال: أليس قد ساقى عليه الصلاة والسلام أهل خيبر على شطر ما يخرج من حب أو تمر. فلم يستحق مالك إلغاء البياض، ولم يستحب ما في الحديث من كونه بينهما، فالجواب أنه جاء في حديث آخر: أنه إنما ساقاهم على النخل خاصة، وترك لهم بياض النخل، فاستحب مالك هذا إذ في كون ذلك بينهما كراء الأرض بما يخرج منها.

وَبَيَاضُ الزَّرْعِ كَبَيَاضِ النَّخْلِ يعني: إذا ساقى على زرع بشروطه وفيه بياض، فهو كما إذا ساقاه على نخل فيه بياض، فتجري الوجوه المتقدمة. والشَّجَرُ التَّبَعُ فِي الزَّرْعِ يَلْزَمُ دُخُولُهُ أي: إذا ساقى على زرع وفيه شجر تبع للزرع لزم دخول الشجر في المساقاة، قال في المدونة: ولا يجوز أن يلغي للعامل كالبياض، ولا أن يكون لرب الأرض بل بينهما، وروى ابن وهب عن مالك جواز إلغاء ذلك للعامل كمكتري الدار والأرض فيها نخل تبع يشترطان ثمرتها، ولا يجوز أن يكون بينهما. ابن المواز: ولم أعرف أحداً استحسن ما رواه ابن وهب ولا قال به. والمعروف ما قاله ابن القاسم، قال: وإنما لم يجز هنا الإلغاء؛ لأن السنة إنما وردت بإلغاء البياضن وأما بإلغاء الشجر فلمالك في الموازية: ويجوز أن يساقي الحائط وفيه من الموز ما هو تبع قدر الثلث فأقل، ولا يكون لأحدهما ويكون بينهما على سقي واحد مثل الزرع الذي مع النخل. ابن رشد: وعلى هذا يجوز إذا كان الموز يسيراً أن يشترطه كل واحد منهما على صاحبه. تنبيه: لما تكلم في المدونة على مسألة الشجر التبع للزرع، قال: وفيه شجر متفرقة، والظاهر أنه غير شرط، وأنه لا فرق بين الشجر المتفرقة وغيرها. وَالزَّرْعُ وَالشَّجَرُ تَبَعاً أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ يَجُوزُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ أي: إذا كان في الأرض زرع وشجر سواء كان أحدهما تبعاً للآخر أو غير تبع يجوز أن يساقي الجميع بجزء متحد كثلث أو ربع، إلا أن الشجر إذا كان تبعاً اشترط في الزرع أن يعجز عنه ربه، وإن كان الزرع تبعاً للشجر لم يشترط فيه ذلك، قاله ابن المواز.

ابن عبد السلام: وقد تقدم قول المصنف أن الشجر إذا كان تبعاً للزرع يلزم دخوله في المساقاة، ولا يصح أن يلغي للعامل ولا لرب المال، فأحرى إذا كان غير تبع، فعلى هذا يكون مراد المصنف بيان شيء ىخر غير الذي قدمه، لئلا يلزم التكرار مع ملاصقة بعضه لبعض، وذلك الشيء هو الذي صرح به في قوله: (يَجُوزُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ) فيكون مراده بيان شرط الجواز لا بيان أصل الجواز. (وَالزَّرْعُ) مبتدأ (وَالشَّجَرُ) مبتدأ ثان خبره (يَجُوزُ) والجملة خبر الأول، و (تَبَعاً أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ) حال. الْمَاخُوذُ شَرْطُهُ الْجُزْئِيَّةُ كَرِبْحِ الْقِرَاضِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِي نِسْبَتِهَا فيه حذف مضاف، أي علم الجزئية، ولو أبقيت كلام المصنف على ظاهره لزم ألا تجوز مساقاة الحائط على جميع ثمره، وهي جائزة، ويدل أيضاً على حذف المضاف قوله: (كالْقِرَاضِ) فإنه صرح بالمضاف في القراض. وقوله (غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِي نِسْبَتِهَا) أي: لا يجوز أن يدفع إليه نصف الحائط بالنصف ونصفه بالثلث، ولا نوعاً منه بالنصف، ونوعاً آخر بالربع، ولا سنة بكذا وسنة بكذا. وَيَجُوزُ فِي حَوَائِطَ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مُتَّفِقَةٍ فِي صَفْقَةٍ بِشَرْطِ جُزْءٍ وَاحِدٍ أي: وتجوز مساقاة حوائط مختلفة في النوع أو في الصفقة أو مختلفة فيهما. (فِي صَفْقَةٍ) أي: في عقد واحد بشرط جزء واحد، أما إن كانت بجزأين فلا يجوز، وعلله في المدونة بأنه قد كان في خيبر الجيد والرديء حين ساقاها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنع في سماع عيسى مساقاة حائطين مساقاة واحدة إلا أن يشترط أن يكونا متساويين.

ابن رشد: ولم يختلف أنه لا تجوز مساقاة الحائطين على جزأين سواء كانا متفقين أو مختلفين، واختار اللخمي جواز الاختلاف في الجزء على حسب اختلاف المؤنة بينهما، قال: وليس في الحديث ما يمنع ذلك. أَمَّا فِي صَفَقَاتٍ فَلا شَرْطَ أي: يشترط اتحاد الجزئية. وَاشْتِرَاطُ جُزْءٍ الزَّكَاةِ جَائِزُ كَالْقِرَاضِ تقدم في ذلك أربعة أقوال. فرع: ولو اشترط الزكاة على العامل ونقص الحائط نصاباً [608/ ب] فقال: يقتسمان الثمر نصفين. وقال سحنون: يقتسمانه أعشاراً لصاحب الحائط ستة، وقيل: يقتسمانها من عشرين لربه منها أحد عشر، وقال ابن عبدوس: يقتسمانها أتساعاً لرب الحائط خمسة، ولهذا الاضطراب يكون القول بعدم جواز اشتراط الزكاة هو الظاهر، وإن كان خلاف المشهور، ولهاذ قال صاحب البيان وابن زرقون: لعله تكلم في المشهور على ما إذا كان الحائط كثيراً أو تكلم في الشاذ، وهو قوله في الأسدية على ما إذا كان الحائط يسيراً لا يؤمن أن يقل عن النصاب فلا يكون خلافاً، وإن سكت عن الزكاة ففي المدونة الشأن أن يخرجا الزكاة ثم يقتسمان ما بقي. الْعَمَلُ لا يُشْتَرَطُ تَفْصِيلُهُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ نحوه في الجواهر، وكلاهما محمول على ما إذا استقر فيه عرف غير مختلف ألا ترى إلى قولهما: (وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ).

الباجي: في ما كان له عرف قام مقام الوصف، وما لم يكن له عرف فلابد من وصفه من الجذاذ والسقي والحرث وسيأتي العمل. وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَا تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الثَّمَرَةُ مِنَ السَّقْيِ وَالإِبَارِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالْجَدَادِ وَإِقَامَةِ الأَدَوَاتِ مِنَ الدِّلاءِ والْمَسَاحِي والأُجَرَاءِ والْغِلْمَانِ والدَّوَابِّ ونَفَقَتِهِمْ. اختلف في الإبار والتلقيح، فجعلهما مالك مرة على صاحب الحائط، وفي المدونة وغيرها هو على العامل، وحمل ذلك بعضهم على الخلاف، وجمع بعضهم بينهما، فقال: معنى قوله: "على صاحب الحائط" أي: الشيء الذي يلقح به، ومعنى قوله: "على العامل" أي: عمل ذلك وتعليق ما يحتاج إلى تعليقه، وكذلك على العامل الحصاد والجداد وتيبيس الثمرة. ابن القاسم: والدراس؛ لأنهم لا يستطيعون قسمه إلا بعد درسه، وعلى العامل إقامة الأدوات كالدلاء- جمع دلو- والمساحي والأجراء- جمع أجير-، وكلامه ظاهر التصور. واختلف في عصر الزيتون. فقال ابن القاسم: ذلك على ما شرط منها، هكذا حكي الباجي عن المدونة، والذي في المختصرات عندنا: إن شرط قسمته حباً جاز، وإن شرط عصره على العامل جاز ليسارته. ابن عبد السلام: وليس عصره عندنا باليسير، وكذلك الحصاد في غالب الأمر ولقط الزيتون وجذاذه. وقال ابن المواز: إن لم يكن فيه شرط فعصره بينهما، وقال سحنون عن ابن القاسم: على العامل عصره إذا كان ذلك غالب عمل أهل البلد، وإن شرط على العامل إن لم يكن ثم عرف جاز، وإن شرط على رب الحائط عصر حصة العامل لم يجز.

سحنون: منتهى عمله جناه، وقال في كتاب محمد: إن لم يشترط على أحد فهو بينهما. وقال ابن حبيب: العصر على العامل وإن شرط على صاحب الحائط وكان له قدر لم يجز ورد العامل إلى إجارة مثله. قال في المدونة: وإن شرط العامل على رب النخل صرام النخل لم ينبغ ذلك. فرع: فإن قصر العامل على بعض ما شرط عليه ففي العتبية عن سحنون في من شرط عليه حرث الأرض ثلاث حرثات، فحرث حرثين ينظر جميع حمل الحائط، والمشترط عليه من سقي وحرث وقطع، فإن كان ما ترك الثلث حط من نصيبه ثلثه أو الربع حط الربع، أما لو كان ما ترك من العمل وجد له بدل سماوي مثل أن يسقي الزرع بعض السقي فيتسغني عن المطر، ففي الموازية والعتبية: لا يحاسبه رب الحائط، بذلك قال في البيان، ولا خلاف في ذلك، قال: بخلاف الإجارة بالدنانير والدراهم على أن يسقي له حائطه زمان السقي، وهو زمان معلوم عند أهل المعرفة فيسقي المطر الحائط، فيجب أن يحط من إجارته قدر ما أقام المطر من الحائط ويسقط عنه في السقي. وَمَا كَانَ فِيهِ يَوْمَ السَّقْيِ؛ فَيَجِبُ لِلْعَامِلِ الاسْتِعَانَةُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ ولا تجوز المساقاة على إخراجه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يخرج شيئاً مما في الحوائط. اللخمي: قال ابن نافع ويحيى في كتاب ابن مزين: إذا كان في الحائط رقيق لا يدخلون إلا بشرط، وكذلك أيضاً لا يجوز على المشهور اشتراط العامل ما لم يكن في الحائط، وقال ابن نافع: لا بأس أن يشترط من الرقيق ما ليس فيه.

وَالأُجْرَةُ عَلَى رَبِّهِ بِخِلافِ نَفَقَتِهِمْ وكِسْوَتِهِمْ. لما ذكر أنه يجب للعامل الاستعانة بما في الحائط من أجراء وغيرهم، بين أن الأجرة على ربه، وهكذا في الواضحة، وقيده اللخمي بما إذا كانت الأجرة وجيبة فتكون على رب الحائط إلى المدة التي واجبهم عليها، فإن فضل من مدة المساقاة عن مدة الوجيبة شيء فعلى العامل، وإن كانت مدة الكراء غير وجيبة؛ لأنه قال بعد أن قرر أن الأجرة على ربه: وهكذا إذا كان الأجير مستأجراً لجميع العمل، وإن كان مستأجراً لبعضه فلم أر في ذلك نصاً، وعندي أن عليه أن يقبض من يتم العمل؛ لأنه لو مات للزمه ذلك، فكذلك إذا انقضت مدة أجرته. قوله: (بِخِلافِ نَفَقَتِهِمْ وكِسْوَتِهِمْ) أي: فإنها على العامل، وفي مختصر ما ليس في المختصر: هي على رب الحائط فقدم في الأول الخبر؛ لأنه عليه السلام لم يتكلف شيئاً من ذلك، وقدم في الثاني القياس؛ لأنهم رقيق رب الحائط ودوابه. ابن القاسم: وإن جهل العامل فلم يستثن ما في الحائط من رقيق ودواب وقال ربه: إنما ساقيتك بغيرهم، إنهما يتحالفان ويتفاسخان. الشيخ أبو محمد: انظر هذا وهو لا يجوز إخراجهم عنده فصار مدعيا لما لا يجوز. الباجي: ومعناه على أصل ابن القاسم أن يجهل العامل، فلم يقرر على صاحب الحائط أنهم في الحائط يوم المساقاة ولا يشهد عليهم بذلك، ويعتقد أنهم في الحائط وأنهم له بمجرد العقد، ثم اختلفا، فقال صاحب الحائط: لم يكونوا في الحائط يوم العقد، وقال العامل: بل كانوا فيه، قال: وقد ذكر ابن مزين رواية عيسى هذه وزاد فيها: إلا أن يستثني رب الحائط الرقيق، فتلزم المساقاة إلى أجلها، وهذا يدل على صحتها على حسب ما قلناه، وأما لو قال رب [609/ أ] الحائط: إنهم كانوا في الحائط يوم العقد، وشرط إخراجهم، وأنكر ذلك على

العامل، وقال: شرطت إبقاءهم وأنكر الشرط، فالقول قوله؛ لأنه يدعي الصحة، ولو قال رب الحائط: لم أشترط شيئاً لكني اعتقدت إخراجهم لم ينظر إلى ذلك وكانوا للعامل. وَلِلْعَامِلِ خَلَفُ مَنْ مَاتَ أَوْ مَرِضَ، وَلَوْ شَرَطَ أُجْرَتَهُمْ أَوْ خَلَفَهُمْ عَلَى الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ ... يعني: وكذلك لو غاب أو أبق، وهذا معنى ما في المدونة والموطأ، ووجهه الباجي بأن العقد كان على عمل في ذمة صاحب الحائط ولكنه تعين بالتسليم واليد كالذي يكري راحلته مضمونة ثم يسلم إحدى رواحله إلى الراكب، فإنه ليس له أن يبدلها، ولم يكن ذلك بمنزلة العبد المستأجر بعينه؛ لأنه لم يكن في الذمة. وقوله: (وَلَوْ شَرَطَ أُجْرَتَهُمْ أَوْ خَلَفَهُمْ عَلَى الْعَامِلِ لَمْ يَجُز) لأنه شرط مخالف لسنة المساقاة. وَمَا رَثَّ مِمَّا كَانَ فِيهِ فَفِي تَعْيينِ مُخْلِفِهِ قَوْلانِ يعني: أنه إذا بنينا على ما تقدم أنه يجب للعامل الاستعانة بما فيه من دلاء أو حبال ونحو ذلك، فلو (رَثَّ) ذلك- أي: بلي- فاختلف في (تَعْيينِ مُخْلِفِهِ) هل هو رب الحائط أو العامل؟ والقولان للقرويين. الباجي: وكونه على العامل أظهر؛ لأنه إنما دخل على أن ينتفع بها حتى تهلك أعيانها وأمد امتهانها معلوم بخلاف العبد والدابة. فَإِنْ سُرِقَ فَعَلَى رَبِّهِ إِخْلافُهُ، فَإِذَا مَضَى قَدْرُ الانْتِفَاعِ بِالْمَسْرُوقِ جَاءَ الْقَوْلانِ أي: (فَإِنْ سُرِقَ فَعَلَى رَبِّهِ إِخْلافُهُ) اتفاقاً، فإذا أخلفه ربه وانتفع به العامل قدر ما ينتهي المسروق إليه ثم يختلف حينئذ، فمن قال: الخلف إذا بلي في الفرع السابق على ربه، قال: يستمر العامل على الاستعمال، ومن قال: الخلف على العامل أخذ رب الحائط ذلك،

وهذا معنى قوله: (فَإِذَا مَضَى قَدْرُ الانْتِفَاعِ بِالْمَسْرُوقِ جَاءَ الْقَوْلانِ) في تعيين مخلفه، وإنما يأتي هذا إذا أخلفه جديداً. ابن عبد السلام: وذلك عندي لا يلزم، وإنما يلزم أن يخلفه بما هو مثل المسروق. وَلا يَجُوزُ شَرْطُ مَا يَبْقَى بَعْدَ انْقِضَائِهَا كَحَفْرِ بِئْرٍ وَإِنْشَاءِ غَرْسٍ وَاغْتُفِرَ اشْتِرَاطُ إِصْلاحِ الْجُدُرِ وَكَنْسِ الْعَيْنِ وَرَمِّ الْحَوْضِ .. الأعمال ثلاثة: الأول: ما هو في نفس الشجر لأجل الثمرة فهذا جائز اشتراطه على العامل بل هو عليه؛ وإن لم يشترط إذ ذاك عوض عن الثمرة التي يأخذها. الثاني: ما ليس فيها ويبقى عند انقضاء المساقاة؛ كحفر بئر وإنشاء غرس، فلا يجوز اشتراطه على العامل؛ لأن ذلك زيادة، وإذا امتنع هذا فلأن يمتنع اشراطه عمل شيء خارج عن الحائط؛ كبناء بيت ونحو ذلك أولى. قال في الموازية: ولا يشترط على العامل، غرس نخل يأتي بها من عنده، فإن كانت من عند رب الحائط في أصل شيء يسير لا تعظم فيه المؤنة فجائز، ولا يجوز في كثير. الثالث: ليس هو عملاً في نفس الشجر ولا خارجاً عنه، ولا يبقى بعد مدة المساقاة نحو إصلاح الجدار وكنس العين ورم الحوض، قال في الرسالة: من سد الحظيرة وهي: العيدان التي في أعلى الحائط مرتبطة ليمنع من التسور عليه، ورم الضفيرة وهي: موضع يجمع فيه الماء كالصهريج، وكذلك أيضاً رم العين، أي تنقيتها، وسرو الشرب، والسرو: الكنس، والشرب جمع شربة وهي: حياض يستنقع فيها الماء حول الشجر، ورم القف وهو: الحوض الذي يفرغ فيه الدلو فيجري فيه إلى الضفيرة، ويقال له: السلوقية، وإصلاح الغرب وهو: الدلو الكبير، الذي يرفع به الماء، قال في العتبية: رم القف وإصلاح كسر

الزرنوق قيمته الدريهمات والدنانير على رب الحائط إن لم يشترطه، وروي عن أشهب أنه لا يشترط على العامل إصلاح كسر الزرنوق. وَلا يَجُوزُ مُشَارَكَةُ رَبِّهِ وَلا اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ أي: لا يجوز لرب الحائط أن يدفع إلى العامل الحائط على أن يكون شريكاً معه بالنصف أو بغيره من الأجزاء، قال في العتبية: وإنما المساقاة أن تسلم الحائط للداخل، وكذلك لا يجوز اشتراط عمل يده؛ لأن في ذلك تحجيراً، وأجاز سحنون أن يشترط عمل ربه معه إذا كان الحائط كبيراً يجوز فيه اشتراط الغلام والدابة. قال في المدونة: ولا ينبغي للعامل أن يشترط إلا ما قل مثل غلام أو دابة، ولا يجوز ذلك في حائط صغير، ورب الحائط تكفيه دابة واحدة، فيصير كأنه اشترط جميع العمل على ربه، فإن قلت: فما الفرق؟ قيل: فرق بينهما صاحب النكت بأنه ليست يد المالك كيد الغلام؛ لأن يد المالك إذا بقيت معه فكأنه لم يسلمه إليه ولا رضي بأمانته، والله أعلم. فرع: وإذا اشترط العامل دابة أو غلاماً، فقال مالك في العتبية وسحنون: إن ذلك لا يجوز إلا بشرط الخلف إن هلكا، وقيل: يجوز ذلك وإن لم يشترط الخلف فالحكم يوجبه، قال في البيان: وهو ظاهر ما في الواضحة وما في المدونة محتمل للوجهين، قال: والذي أقول به: إنه تفسير لجميع الروايات، إنه إن عين الغلام والدابة بإشارة إليهما أو تسميته فلا تجوز المساقاة على ذلك إلا بشرط الخلف، وإن لم يعين فالحكم يوجب الخلف وإن لم يشترط. وَيُشْتَرَطُ تَاقِيتُهَا، وَأَقَلُّهُ إِلَى الْجَدَادِ، فَإِنْ أَطْلَقَ حَمَلَ عَلَيْهِ. تصوره ظاهر، قال مالك في المدونة: والشأن في المساقاة إلى الجداد، لا تجوز شهر ولا سنة محدودة، وهي إلى الجداد إذا لم تؤجل.

ابن القاسم: وإن كانت تطعم في العام مرتين فهي إلى الجداد الأول حتى يشترط الثاني. وَتَجُوزُ إِلَى سِنِينَ وَالأَخِيرَةُ بِالْجَدَادِ مَا لَمْ تَكْثُرْ جِدَّاً، قِيلَ: عَشَرَةُ، قَالَ: لا أَدْرِي تَحْدِيدَ عَشَرَةٍ وَلا ثَلاثِينَ وَلا خَمْسِينَ .. هكذا في المدونة، [609/ ب] وهو يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لم يثبت عنده في ذلك شيء من السنة، والثاني: أنه رأى أن ذلك يختلف باختلاف الحوائط؛ إذ الجديد ليس كالقديم، فلو حدد لفهم الاقتصار على ذلك الحد. صاحب المعين: والصواب في المساقاة أن تؤرخ بالشهور العجمية التي فيها الجذاذ، فإن أرخت بالعربية، فإن انقضت قبل الجذاذ تمادى العامل إليه، إلا أنه يستحب أن تكون المساقاة من سنة إلى أربع، فإن طالت السنون جداً فسخت. انتهى. ولما نقل أبو الحسن يؤرخ هنا بالعجمي، قال هو: وهذا في السنين الكثيرة؛ لأن السنين بالعربي تنتقل. قوله: (وَالأَخِيرَةُ بِالْجَدَادِ) قال في البيان: ولا خلاف في ذلك، وسواء تقدم الجذاذ أو تأخر عنها، قال مالك في الموازية: وإن ساقى حائطاً في صفر سنة إحدى وسبعين ومائة إلى صفر سنة ثلاثة وسبعين، فإن وفى الأجل قبل طيب الثمرة وقبل جذاذها لم يستكمل من يده استكمل المساقاة فيه حتى يتم جذاذه. اللخمي: ويحتمل قوله على أن الجذاذ قريب من انقضاء ذلك الأمد، وأنهما يريان أن الثمرة تطيب في تلك المدة فيكونان قد قصدا إلى طيبها، ولو كان الطيب يتأخر عن تلك المدة فالشيء البين لم يصح ذلك؛ لأنه استعمله على بيع منافعه في تلك المدة ليأخذ ثمرة عامين. ابن عبد السلام: إنما يتم هذا التقييد إذا لم يكن للعامل شيء في الثمرة الثالثة، وأما إن كان له منها نصيبه على نسبة ما تقدم وهو ظاهر الروايات فلا فساد فيها، والله أعلم.

وظاهر قوله: (الْجَدَادِ) جداد جميع الثمرة، وعليه جميع العمل ولو بقي عشرون نخلة. قال في الموازية: وكذلك العوائم وهي: المؤخرة الطيب، وقال مطرف وابن الماجشون: إن كانت العوائم قليلة جداً فعلى رب الحائط سقي جميع حائطه، عوائمه وما جذ منه، ويوفى العامل حقه من ثمن العوائم، وإن كانت العوائم أكثر، فعلى العامل سقي الحائط كله مثل ماإذا جد بعضه وبقي بعضه، وإن كان متناصفاً أو متشابهاً فعلى العامل أن يسقي العوائم وحدها وعلى رب الحائط سقي باقيه. مالك في رواية ابن وهب: وإن كان في الحائط أصول مختلفة من نخل وكرم ورمان فعليه أن يسقيه كله حتى يفرغ منه. وقال ابن الماجشون: الحكم فيه كما تقدم في العوائم، وقاله أصبغ. وقال مطرف: كلما قطعت منها ثمرة فقد انقضى سقيها قلت أو كثرت، واختاره ابن حبيب. وَلِلْعَامِلِ أَنْ يُسَاقِيَ أَمِيناً غَيْرَهُ هكذا في المدونة، لكن ظاهرها أنه لابد أن يكون في مثل أمانة الأول؛ لقوله: إذا كان في مثل أمانته، وعلى هذا الظاهر فهمها ابن عبد السلام: لكن صرح اللخمي بالجواز، وإن لم يكن في مثل الأمانة، زاد في المدونة: وإن ساقى غير أمين ضمن، وذكر صاحب البيان في باب المساقاة خلافاً هل يلزم أن يكون مثله في الأمانة أم لا؟ لكنه قال: قد ذكرته في باب الشفعة في رسم "إن أمكنتني" ولم يذكره في هذا الرسم نصاً، نعم ذكر ما يمكن أن يخرج منه الخلاف، وهو أن المشتري إذا أخذ الشقص إلى أجل، هل للشفيع أن يأخذ بالشفعة إلى ذلك الأجل وإن كان أقل ملاء من المشتري؟ أو ليس له أن يأخذ إلا أن يكون مليئاً كالأول، والله أعلم. وقد صرح في موضع آخر من كتاب المساقاة أنه إنما قصد التخريج. قال في البيان: وظاهر قول مالك: له أن يساقي أميناً؛ أن المساقي الثاني محمول على غير الأمانة حتى

يثبت أنه أمين؛ بخلاف ورثته إذا مات فهم محمولون على الأمانة حتى يثبت أنهم غير أمناء، بخلاف القراض فإنهم محمولون على أنهم غير أمناء حتى يثبت أنهم أمناء، هذا ظاهر ما في المدونة في القراض والمساقاة، والفرق بينهما أن مال القراض يغاب عليه بخلاف الحائط في المساقاة. خليل: وهذا هو الفرق بين المساقاة في إجازة مساقاة العامل غيره، وعدم جواز مقارضة العامل غيره كما قدمته. قال في المدونة: ولا تنتقض المساقاة بموت أحدهما فإن مات العامل، قيل لورثته اعملوا فإن أبوا لزم ذلك في ماله. فرع: قال في المدونة: قال ابن مسلمة: المساقاة بالذهب والورق كبيع ما لم يبد صلاحه، فلا يجوز أن يربح في المساقاة إلا ثمراً، مثل أن يأخذ على النصف، ويعطي على الثلثين فيربح السدس، أو يربح عليه. قال بعضهم: وقوله: إن المساقاة بالذهب كبيع الثمرة كلام مشكل. عياض: ومعناه عندي أنها إذا وقعت بالذهب والورق، فكأن العامل باع نصيبه من الثمر قبل أن يظهر ويحل بيعه. وقوله: "ألا ترى .. إلى آخره" هو خلاف مذهب مالك، ومالك لا يجيز هذا، قال بعض شيوخنا: لأنه إن كان زاده السدس من الحائط، فقد باع ذلك على ربه بغير إذنه، وباع ما لم يبعه منه، ولو شرط ذلك في ذمته كان بيع الثمرة على جزأين: جزء في الحائط، وجزء في ذمة العامل وذلك فاسد. وقال غيره: معنى ما وقع من إجازة ذلك أن المساقي الثاني لم يعلم أن الأول أخذه على النصف، ولو علم بذلك لم يجز للعلة المذكورة، وكان للعامل أجر مثله. انتهى.

ابن يونس: ولمالك في الموازية: إذا أخذه على النصف ودفعه على الثلثين إلى غيره وربه عالم بذلك، فربه أولى بنصف الثمرة ويرجع الثاني على الأول بما بقي، وكذلك في العتبية عن مالك: ولا بأس أن يدفعه مساقاة لرب الحائط بأقل [610/ أ] مما اخذه إذا لم تطب الثمرة ولا يجوز بمكيلة مسماة ولا بثمر نخلة معروفة، ولا بشيء غير الثمرة، ولا بأكثر مما أخذ منه ويصير العامل يحتاج إلى أن يزيد من ثمر حائط آخر. ابن يونس: وأجاز دفعه إلى غير رب الحائط بأكثر مما أخذه، فإذا أجاز ذلك مع غير ربه، وهو إنما يدفع أكثر مما بقي من غير الثمرة التي في الحائط، فكذلك يجوز مع ربه لا فرق بينهما، إما أن يجوز فيهما أو يمنع فيهما وهذا أبين، ويحتمل أن يفرق بينهما بأن رب الحائط عالم أنه يعطيه الزيادة من حائط آخر؛ لأنه عالم بمساقاته، والأجنبي غير عالم، فلو علم لم يجز فيها. انتهى. وقال ابن رشد: لما ذكر مسألة الموازية وقال فيها: إن ربه عالم. هذا عندي على القول بأن السكوت ليس كالإذن وهو أحد قولي ابن القاسم، وأما على القول بأنه كالإذن، فيجب أن يكون أحق بثلثي الثمرة، ويرجع رب الحائط على العامل الأول، قال: بمثل سدس الثمرة، وإن كان الأول أحق بمثل نصف الثمرة فهو مثل ما في المدونة، قال: وهذا كلام خرج على غير تحصيل؛ لأن الواجب أن يرجع عليه بقدر ما لصاحب الحائط من حظه من الثمرة في قيمة عمله، ويلزم على هذا إذا علم العامل الثاني أن الأول على النصف أن تكون المساقاة فاسدة؛ لأنه دخل على أن تكون نصف الثمرة وقيمة ربع عمله، وذلك مما لا يحل وقد رأيته لبعض أهل النظر. فَإِنْ عَجَزَ وَلَمْ يَجِدْ أَسْلَمَهُ وَلا شَيْءَ لَهُ أي: فإن عجز العامل عن العمل ولم يجد أميناً يساقيه عليه أسلم الحائط لربه ولا شيء له ولا عليه، وهكذا قال في المدونة.

ابن عبد السلام: وظاهر المدونة وغيرها أن ذلك للعامل، وإن لم يرض رب الحائط، وأخذ منه أن المساقاة لا تلزم بالعقد وقد تقدم، ولأنهم قضوا لرب الحائط إذا غارت عين السقي، إن كان قبل العمل فلا شيء على رب الحائط، وإن كان بعده لزمه أن ينفق بقدر ما يقع من الثمرة، وإن لم يكن عنده شيء فللعامل أن ينفق مثله، ويكون نصيبه من الثمر رهناً بيده. خليل: وظاهر المدونة أن ذلك للعامل وإن لم يرض رب الحائط أي لقوله فيها: وإذا عجز العامل عن السقي قيل له: ساق إن شئت أميناً، فإن لم تجد أسلم الحائط إلى ربه ثم لا شيء له ولا عليه؛ لأنه لو ساقاه إياه جاز كجواز الأجنبي، وظاهر قوله: "أسلم الحائط إلى ربه" ما ذكر، لكن تأول المدونة أبو الحسن وغيره بأن معناه إذا تراضيا على ذلك، ويدل عليه تعليله بقوله: لأنه لو ساقاه. والمساقاة لا تلزم إلا برضاهما. خليل: وهذا التأويل متعين، فقد قال قبل ذلك في المدونة: وإن عجز العامل وقد حل بيع الثمرة لم يجز أن يساقي غيره، وليستأجر من يعمل معه، فإن كان فيه فضل فله، وإن نقص كان ذلك في ذمته إلا أن يرضى رب الحائط أخذه ويعفيه من العمل، فذلك له، وقد نص اللخمي وابن يونس على خلاف ما قاله. ابن عبد السلام: أيضاً لأنهما قالا: لو قال رب الحائط إنما أستأجر من يعمل تمام العمل وأبيع له ما طاب من الثمرة وأستوفي ما أديت فإن فضل فله، وإن نقص أتبعته أن ذلك له. ابن يونس: لقول ابن القاسم في المتزارعين يعجز أحدهما بعد العمل وقبل طيب الزرع، قال أيضاً: يقال لصاحبه: اعمل فإذا طاب الزرع بع وتستوفي حقك، فما فضل فله، وما عجز أتبعته به؛ لأن العمل كان لازماً له وكذلك هذا.

وفي اللخمي: قال ابن القاسم في المساقي يعجز بعد صلاح الثمرة بأنه يباع نصيبه ويستأجر عليه منه، فإن كان فضل كان له، وإن كان نقصان اتبع به. وقال سحنون: إذا عجز رد إلى ربه بمنزلة ما إذا عجز هو قبل صلاحه، قال: والمساقاة أولها لازم كالإجارة وآخرها إذا عجز كالجعل يسلم لربه ولا شيء له، والقول الأول أبين، وقد خالف هذا الجعل بأنه عقد لازم لا خيار فيه. انتهى. وظاهر قوله: (لا شَيْءَ لَهُ) ولو انتفع رب الحائط بما عمل العامل فيه وهو ظاهر المدونة أيضاً. وقال اللخمي: له فيه قيمة ما انتفع به من العمل الأول قياساً على قولهم في الجعل على حفر البئر، ثم يترك ذلك اختياراً، وأتم صاحب البئر حفرها، وقد قدمنا نحو هذا من كلام ابن يونس في القراض. وَلَهُمَا أَنْ يَتَقَايَلا قال في المدونة: وإن تقايلا على شيء يأخذه أحدهما فليس هذا بيع ثمر لم يبد صلاحه؛ إذ للعامل أن يساقي غيره فرب الحائط كأجنبي إذا تاركه. ابن عبد السلام: وظاهر كلامهم أن الإقالة تجوز في جميع أحوال الثمرة قبل الزهو وبعده، وتقدم أن المشهور منع مساقاة ما حل بيعه. ابن المواز: وإن تقايلا على شيء غير الثمرة أو من الثمرة بمكيلة مسماة أو ثمر نخلة معروفة أو على أكثر مما أخذ، حيث يصير العامل يزيده من ثمر حائط آخر لم يجز، وأما إن كان على جزء مسمى ولم تطب الثمرة، فإن كان قبل العمل، فقال في البيان: لا خلاف في جوازه على مذهب مالك الذي يرى المساقاة من العقود اللازمة، وعلى مذهب من يرى أنها من العقود الجائزة؛ لأن الجزء الذي يعطيه للعامل على هذا القول هبة من الهبات، وأما بعد العمل فأجازه ابن القاسم في رسم الأقضية والأحباس من سماع أصبغ، وقال أصبغ: لا

يجوز، وعلله باتهام رب الحائط على استئجار العامل تلك الأشهر بسدس ثمر الحائط، فصارت المساقاة دلسة بينهما، وصار من بيع الثمار قبيل بدو صلاحها. وقال ابن حبيب: إن تتاركا بجعل دفعه العامل إلى رب الحائط؛ يعني: من [610/ ب] غير الثمرة، فعثر عليه قبل الجذاذ، رد الجعل ورجع العامل إلى مساقاته، وغرم لرب الحائط أجر ما عمل بعد رده عليه، وكذلك إن كثر عليه بعد الجذاذ فللعامل نصف الثمرة، ويؤدي قيمة ما عمل بعد رده ويأخذ ما كان أراده. وعلى هذا فالمصنف أطلق في محل التقييد؛ إذ لم يفرق بين أن يكون قبل العمل أو بعده ولا شيء أو بغير شيء. وَلا يَنْفَسِخُ بِفَلَسِ رَبِّهِ ويُبَاعُ مُسَاقًي، وَقِيلَ: لا يُبَاعُ حَتَّى تَنْقَضِي أَوْ يَتْرُكَهَا يعني: سواء فلس ربه قبل أن يعمل العامل أو بعده، هكذا صرح في المدونة. وقوله: (وَلا يَنْفَسِخُ بِفَلَسِ رَبِّهِ) يعني: إذا تقدم عقد المساقاة على الفلس، فأما إن تأخر فللغرماء فسخها وتباع، أي: إذا قلنا: إن المساقاة لا تنفسخ. فقال ابن القاسم في المدونة: للغرماء أن يبيعوا الحائط على أنه مساقي منه كما هو، فقيل له: لم أجزته؟ قال: هذا وجه الشأن فيه، وليس هذا عندي باستثناء ثمره، وقال غيره: لا يجوز بيع الحائط حينئذ، ويوقف الشقص إلى أن تنقضي المساقاة أو يرضى العامل فيتركه، فيحل بيعه، وطرحه سحنون: وقال: بيعه جائز للضرورة، وقال في كتاب ابنه: إنما يجوز بيعه إذا كانت المساقاة سنة واحدة لجواز بيع الربع والحوائط على أن تنقضي بعد سنة، وإن كانت المساقاة إلى سنين لم يجز. ابن يونس: وهذا خلاف قوله الأول وهو أصح، وقد تقدم أن ابن المواز قال: إنما يجوز بيعه إذا أبرت؛ لأنه قال: إن أبرت فطابت فذلك جائز علم المبتاع أو لم يعلم، وإن لم تؤبر لم يجز البيع علم المشتري بالسقي أو لم يعلم شيئاً أو أبى إذ لا يجوز للبائع حينئذ استثناء شيء من

الثمرة إذا لم تؤبر، وقال في المشتري يخرج العامل بشيء يعطيه من غير الثمرة فلا يجوز، وأما بجزء منها أو بغير شيء فجائز. الرَّابِعُ الصِّيغَةُ مِثْلُ: سَاقَيْتُكَ وَعَامَلْتُكَ عَلَى كَذَا، فَيَقُولُ: قَبِلْتُ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلٍ أَو فِعْلٍ هكذا قال ابن شاس، والواو في قوله: (وَمَا فِي مَعْنَاهَا) بمعنى (أو). وقوله: (وَمَا فِي مَعْنَاهَا) عائد على (قَبِلْتُ) ولا يعود على (الصِّيغَةُ) لأن قوله: (مِنْ قَوْلٍ أَو فِعْلٍ) لا يصح أن يكون تفسيراً للصيغة إلا بتجوز، وقد تقدم أن المساقاة لا تنعقد عند ابن القاسم إلا بلفظ ساقيتك، وحكى صاحب المقدمات وغيره أن المساقاة تنعقد عند سحنون بـ (آجرتك) فـ (عَامَلْتُكَ) مثلها، ولم أر من صرح بأن سحنون يرى الانعقاد بالفعل، والله أعلم. ولِلْفَاسِدَةِ ثَلاثَةُ أَحْوَالٍ: قَبْلَ الْعَمَلِ فَتَنْفَسِخُ لما ذكر أركان الصحيحة وشروطها، علم أن الفاسدة ما اختل منها ركن أو شرط ولا خلاف فيما ذكره. الثَّانِيَةُ: بَعْدَ الْفَرَاغِ فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَمُسَاقَاةُ الْمِثْلِ مُطْلَقاً، وَمُسَاقَاةُ الْمِثْلِ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْمُسَاقِي، أَوْ أَقَلَّ إِنْ كَانَ لِلْمُسَاقَي، والرَّابِعُ: قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ خَرَجَا عَنْ مَعْنَاهَا كَاشْتِرَاطِ زِيَادَةٍ مِنْ عَيْنٍ أَوْ عَرْضٍ فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا كَمُسَاقَاتِهِ مَعَ ثَمَرٍ أَطْعَمَ، أَوِ اشْترَاطِ عَمَلِ رَبِّهِ مَعَهُ، أَوْ مُسَاقَاةِ مَعَ بَيْعٍ فِي صَفْقَةٍ، أَوْ سَنَةَ كَذَا، فَمُسَاقَاةُ الْمِثْلِ .. (بَعْدَ الْفَرَاغِ) أي: من العمل، (فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ): أي القول بأجرة المثل قال في البيان والمقدمات: يأتي على قول عبد العزيز ابن أبي سلمة في القراض أنه يرد فيه إلى أجرة المثل،

ومساقاة المثل هو القول الثاني، قال في المقدمات: وعليه يأتي قول أصبغ في العتبية في الذي يساقي الرجل في الحائط على ألا يحمل أحدهما نصيب صاحبه من الثمرة إلى منزله وهو بعيد، وهما مبنيان على أن المستثنى من أصل هل يرد إذا فسد إلى صحيح أصله أو صحيح نفسه؟ قوله: (ومُسَاقَاةُ الْمِثْلِ ... إلى آخره) هذا هو القول الثالث، وذكره في المقدمات، وهو أن الفاسد يرد إلى مساقاة مثله. (مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْمُسَاقِي) بكسر القاف وهو رب الحائط؛ لأن العامل قد رضي أن يأخذ الجزء مع زيادة شرط عليه فأولى أن يأخذ مع عدم الشرط، ويرد إلى مساقاة المثل ما لم يكن أقل من الجزء الذي دخلا عليه إن كان الشرط للعامل وهو المساقي بفتح القاف، وحاصله إن كان رب الحائط هو المشترط للزيادة فللعامل أقل الأمرين من مساقاة المثل أو الجزء الذي دخل عليه، وإن كان المشترط هو العامل فله أكثرهما، وتصور القول الرابع بين، وذكر فيه أربعة أمثلة يرد فيها إلى مساقاة المثل، والمثالان الأولان في المدونة والأخيران في العتبية. قال في المقدمات: ويتخرج على المثال الرابع ما إذا ساقاه حائطاً بكراء وآبقى صاحب المقدمات قول ابن القاسم على إطلاقه من التفرقة المذكورة، قال: ويأتي على مسائل كثيرة مسطرة لابن حبيب وغيره، قال: وكان ينبغي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن ما يرد فيه إلى مساقاة المثل على مذهب ابن القاسم هذه الأربعة فقط وما عداها فأجرة المثل، فعلى تأويلهم عن ابن القاسم. ابن راشد: وحفظت عن الشيخ القرافي صورة خامسة يرد فيها إلى مساقاة المثل، وهي: إذا ادعى كل منهما ما لا يشبه وتحالفا، وقد نظمت فيها هذه الأبيات: وأجرة مثل في المساقاة عينت ... سوى خمسة قد خالف الشرع حكمها مساقاة إبان بدو صلاحها ... وجزأين في عامين شرط يعمها

وإن شرط الثاني على عامل له ... مساعدة والبيع فافهمها كلها وما قد مضاه الحكم بعد تحالف ... فدونك أبياتا حساناً فلمها ولما ذكر عياض صورتي المدونة وصورتي العتبية، قال في سماع عيسى مسألة خامسة وهي مساقاة حائط على أن يكفيه مؤنة آخر، قال: وكذلك يلزم في مساقاة [611/ أ] حائطين على اختلاف الأجزاء، وكذلك إذا اشترط العامل دابة أو غلاماً ليس في الحائط، وهو صغير تكفيه الدابة، ولذلك إن اشترط عليه أن يحمله إلى منزله في كل هذا يرد إلى مساقاة المثل الأربعة التي ذكرها عياض والصورة التي ذكرها القرافي، والله أعلم. الثالثة: في أثناء العمل، فتفسخ المساقاة إن كان الواجب أجرة المثل كما في الإجارة الفاسدة؛ لأنه يكون له بحساب ما عمل، وإن حكمنا بمساقاة المثل فالضرورة داعية إلى إتمام العمل؛ لأن التقدير إنما يدفع للعامل من الثمر، ولأنا لو فسخناها لزم أن لا يكون للعامل شيء لما تقدم أنها كالجعل لا شيء للعاملإلا بتمام العمل، وعلى هذا القول فلابد أن يكون شرع في العمل بما له بال، أشار إليه عياض. ابن عبد السلام: وقد ظهر أن أجرة المثل متعلقة بالذمة، ومساقاة المثل متعلقة بالحائط، وقد تقدم في القراض خلاف في هذا. وَحُكْمُهَا بَعْدَ سَنَةٍ مِنَ سِنِينَ كَحُكْمِهَا فِي أَثْنَاءِ سَنَةٍ أي: فتفسخ إن كان الواجب أجرة المثل، وتمضي إن كان الواجب مساقاة المثل.

المزارعة

الْمُزَارَعَةُ: الْمَشْهُورُ جَوَازُهَا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي الدَّوَابِّ وَالآلَةِ دائرة بين الشركة والإجارة فلهذا وقع الاختلاف في لزومها بالعقد فقيل: تلزم به تغليباً للإجارة، وهو قول سحنون، وقيل: لا تلزم تغليباً للشركة ولكل واحد منهما أن ينفصل عن صاحبه ما لم يبذر. ابن رشد: وهو معنى قول ابن القاسم في المدونة ونص رواية أصبغ عنه في العتبية، وقيل: لا تلزم إلا بالشروع في العمل، وهو قول ابن كنانة في المبسوط، وبه جرت الفتوى عندنا بقرطبة، وهو على قياس رواية ابن زياد عن مالك أن الجاعل يلزمه الجعل بشروع المجعول له في العمل. وقوله: (الْمَشْهُورُ جَوَازُهَا) هو مذهب المدونة، والشاذ رواية ابن غانم، لا تجوز حتى يشتركا في كل نوع، والذي في النسخ (وَإِنْ) بإثبات الواو، والصواب إسقاطها؛ لأن إثباتها يوجب أن يكون الخلاف مع التساوي في جميع الأشياء وليس كذلك، وقد صرح عياض بنفي الخلاف فيها، وأجاب بعض من تكلم على هذا الموضوع بأن قوله: (وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِكَا) حال معطوفة على حال مقدرة؛ أي: المشهور جوازها في حال الاشتراك، وفي حال عدم الاشتراك، والخلاف راجع إلى الحال المعطوفة لا المعطوف عليها. خليل: وفيه تعسف. وَشَرْطُهَا: السَّلامَةُ مِنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِمَا يُمْنَعُ كِرَاؤُهَا بِهِ، فَمَتَى كَانَ جُزْءُ مِنَ الْبَذْرِ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءِ مِنَ الأَرْضِ فَسَدَ .. أي: شرط جوازها (السَّلامَةُ مِنْ كِرَاءِ الأَرْضِ) لما يمنع من كرائها به؛ لأنه عليه السلام نهى عن ذلك، وهذا هو المشهور وعلى قول الداودي، ويحيى بن يحيى الأصيلي: يجوز كراء الأرض بما يخرج منها، وتجوز المزارعة وإن كان جزء من البذر في مقابلة جزء من الأرض، وقال: السلامة من كراء الأرض بما يمنع كراؤها به وعدل عما يقوله أهل

المذهب: أن يسلم من كراء الأرض بما يخرج منها لقصور عبارتهم، فإن كلامه يشمل ما يخرج منها وما لا يخرج من الطعام كالسمن والعسل وغيرهما، وروي عنه أن ما لا يخرج منها لا مدخل له في المزارعة، فلذلك اكتفوا بعبارتهم. قوله: (فَمَتَى كَانَ) كالنتيجة عما قبله، ومثاله ما في الواضحة وكتاب ابن سحنون: إذا أخرج أحدهما الأرض وثلث البذر، والآخر العمل وثلثي الزريعة؛ لأن زيادة الزريعة كراء الأرض، أو أخرج أحدهما ثلثي الأرض وثلث البذر، والآخر ثلث الأرض وثلثي البذر والعمل، والزرع بينهما نصفين لم يجز. سحنون: لأنه أكرى سدس أرضه بسدس بذر صاحبه، والبذر بالذال المعجمة نص عليه الجوهري وغيره. وَفِي أَرْضٍ لا خَطْبَ لَهَا قَوْلانِ لا يريد أنهما تساويا فيما عدا الأرض، والأرض من عند أحدهما، فإن هذه ستأتي، بل مراده إذا أخرج أحدهما البذر والآخر العمل والأرض، فإن كانت الأرض لها خطب؛ أي: قدر لم يجز، وإن كانت ليس لها خطب فحكى المصنف وغيره قولين، وتقدير كلمه: وفي جواز إلغاء الأرض مقابلة لبذر، فحذف مضافين وصفة. والجواز لسحنون، وهو مبني على جواز التطوع بالتافه في العقد. والثاني لابن عبدوس، ورأى أنه يدخله كراء الأرض بما يخرج منها. ابن يونس: وهو الصواب. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يُقَابِلُهَا مُعَادِلاً لِكِرَائِهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَقِيلَ: إِلا فِيمَا لا خَطْبَ لَهُ .. تقدم أن شرط المزارعة السلامة من مقابلة الأرض ببذر فبالضرورة أن ما يقابلها من عمل أو بقر، فذكر أن من شرط ما يقابلها من عمل وبقر أن يكون معادلاً، أي مساوياً

لكرائها على المنصوص؛ كما لو أن كراء الأرض ألف دينار والعمل يساوي خمس مائة والبقر كذلك، والمنصوص قول مالك وأصحابه. سحنون: وهو صواب؛ لأن سنة الشركة التساوي، فإذا خرجت عن ذلك خرجت عن حد ما أرخص فيه منها وصارت إجارة فاسدة. وقوله: (وَقِيلَ) هو مقابل المنصوص، وهو قول ابن حبيب، وقد تقدم غير مرة أن المصنف تارة يقابل المنصوص بمنصوص مثله، وتارة يقابله بمخرج. قال في المقدمات: ومن غلب الإجارة ألزمها في العقد وأجاز التفاضل بينهما ولم يراع التكافؤ. ابن حبيب: إلا أن يتفاحش مثل أن يكون قيمة ما أخرجه أحدهما أكثر من قيمة ما أخرجه صاحبه بالأمر البين الذي لا يتغابن بمثله في البيوع، وقال سحنون: ذلك جائز وإن تفاحش وتباين التفاضل. فَلَوْ كَانَتِ الأَرْضُ مِنْهُمَا وَالْبَذْرُ مِنْهُمَا وَتَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ، أَوِ الْبَذْرُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَمُقَابِلُهُ [611/ ب] عَمَلُ يُسَاوِيهِ- جَازَ خِلافاً لابْنِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: يُغْتَفَرُ الْيَسِيرُ فِيهِمَا، وَقِيلَ: وَالْكَثِيرُ فِي الثَّانِيَةِ .. أما الصورة الأولى: فقال عياض وغيره: لا خلاف فيها؛ لأنهما تساويا في الأرض والبذر والعمل. قوله: (وَتَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ) يريد: فيما به العمل وهو البقر، وعلى هذا فخلاف ابن دينار عائد على الثانية فقط لعدم الخلاف في الأولى، ولأنه لو أراد الخلاف فيهما لقال: على الأغلب من عادته خلافاً لابن دينار فيهما. الصورة الثانية: أن يخرج أحدهما البذر ويقابله الآخر بعمل يساويه وتكون الأرض بينهما وجاز لسلامتها من كراء الأرض بما يخرج منها، وقول ابن دينار نقله سحنون، قال:

وجعله مثل ذهب وعرض بذهب وعرض، يعني أن أحدهما أخرج بعض الأرض والطعام في مقابلة بعض الأرض. سحنون: وهذا جائز بخلاف المراطلة، على أن المصنف لو استغنى بماقدمه من قوله: (الْمَشْهُورُ جَوَازُهَا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِكَا) لكان أحسن، ولا يقال: مأخذ الرواية الشاذة غير مأخذ ابن دينار؛ لأن الرواية الشاذة مأخذها إنما هو؛ لأن حقيقة الشركة إنما تكون إذا اشتركا في الجميع ومأخذ ابن دينار في المنع في هذه المسألة إنما هو لفظ، فلعل المصنف ذكر لاختلاف المأخذين؛ لأنا نقول: المصنف لم يذكر مأخذ القولين، والله أعلم. تنبيه: ذكر اللخمي وابن يونس وغيرهما أن سحنون نقل خلاف ابن دينار في الصورة الثانية، وقال ابن راشد: لم ينقل ابن يونس خلاف ابن دينار في الصورة الثانية، وإنما نقله في صورة أخرى، وهي إذا كان البذر من عند أحدهما والأرض من عند الآخر، وفيه نظر؛ لأن هذه الصورة ممنوعة على المذهب بلا إشكال، ولعل سبب ذلك أن النسخة التي نظرها من ابن يونس سقيمة. قوله: (وَقِيلَ: يُغْتَفَرُ الْيَسِيرُ فِيهِمَا) أي: في الصورتين، وذلك أنه لما قال في الأولى: (وَتَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ) وقال في الثانية: (وَمُقَابِلُهُ عَمَلُ يُسَاوِيهِ) وأشعر ذلك اشتراط التساوي وأنه لا يغتفر فيهما تفاوت يسير ولا كثير، وذكر قولين آخرين: أحدهما: إنه يغتفر التفاوت اليسير في الصورتين، وهو قول ابن حبيب، والثاني: أنه يغتفر اليسير في الأولى والكثير في الثانية، ووجهه أن الأولى دخلا فيها على حقيقة الشركة دون مبايعة لاشتراكهما في جميع الأشياء وذلك موجب لطلب الاعتدال بينهما فلا يغتفر إلا اليسير الذي تدعو الضرورة إليه، وأما الثانية: فقصد فيها المبالغة وهي لا يشترط فيها التساوي، بل هي مظنة المغابنة وهذا القول لسحنون، ولا يقال: هذا التوجيه يقتضي المنع من

الأصل لمنع اجتماع الشركة مع البيع؛ لأنا نقول: إنما يمنع البيع مع الشركة إذا كان البيع خارجاً عن الشركة. والله أعلم. وَأَمَّا لَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَجَائِزُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلا عَادَةٍ كَالشَّرِكَةِ أي: ما منعناه من التفاضل إنما هو قبل العقد، وأما لو تبرع أحدهما بعده أو سلفه فذلك جائز من غير وأي ولا عادة، والوأي: الوعد، وهو أحسن من كلام المصنف؛ لأنه إذا امتنع في الوعد فأولى في الشرط ولا ينعكس. وقوله: (بَعْدَ الْعَقْدِ) نحوه لسحنون أي ولا يشترط العمل، وعلله الشيخ أبو محمد بكون الشركة لازمة بالتعاقد، وعلى القول بنفي اللزوم قبل العمل فهو وإن وقع بعد العقد وقبل العمل بمنزلة الواقع قبله، وقد حكى أبو الحسن في جواز فضل أحدهما على الآخر بما له بال بعد العقد قولين، قال: وهما مبنيان على أن الشركة تلزم بعد العقد أم لا، وقد تقدم أن صاحب المقدمات قال: الذي جرت به الفتوى أن المزارعة إنما تلزم بالعمل، وعلى هذا فيكون كلام المصنف جارياً على هذا القول. وقول المصنف (كَالشَّرِكَةِ) أشار به إلى ما قدمه وهو قوله: فإن وقعت على تفاضل الربح أو العمل فسدت، ولزم التراد في الربح وفي العمل أجرة المثل في نصف الزيادة، وأما لو تبرع أحدهما بعد العقد من غير شرط فجائز، ونقل ابن يونس عن ابن حبيب قولاً آخر، قال: إن عقدا على ألا يعتدلا ولا يتكافيا جاز ما فضل به أحدهما الآخر طوعاً قل أو كثر إذا اعتدلا في الزريعة ثم تفاضلا في غيرها وسلما من أن يكون للأرض كراء من الزريعة.

وَلَوْ كَانَتِ الأَرْضُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَأَلْغَاهَا وَتَسَاوَيَا فِيمَا عَدَاهَا لَمْ يَجُزْ إِلا فِيمَا لا خَطْبَ لَهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ .. هذه مسألة المدونة في رجلين اشتركا في الزرع فأخرج أحدهما أرضاً لها قدر في الكراء فيلغيها لصاحبها ويعتدلان فيما عدا ذلك من العمل والبذر فلا يجوز إلا أن يخرج صاحبه نصف كراء الأرض ويتساويا في العمل والبذر أو تكون الأرض لا خطب لها في الكراء، كأرض المغرب وشبهها، فيجوز أن يلغي كراؤها لصاحبه، ويتساويا فيما عدا ذلك، وقال سحنون في كتاب ابنه: لا يعجبني أن تلغى الأرض من المتزارعين وإن لم يكن لها كراء ولولا أن مالكاً قاله لكان غيره أحب إلي منه، ولما كان قول سحنون ليس صريحاً في المخالفة، وهو محتمل لما أشار المصنف إليه بقوله: على المنصوص. تنبيه: لعل المصنف خص الأرض تبعاً للمدونة وإلا فينبغي أن يكون التطوع بالتافه مطلقاً لذلك، وعليه تدل الرسالة؛ لأن فيها: ولو اكتريا الأرض والبذر من عند واحد وعلى الآخر العمل جاز إذا تقاربت قيمة ذلك. فَلَوْ كَانَتِ الأَرْضُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعَ جَمِيع الْبَذْرِ، أَوْ بَعْضِ الْبَذْرِ وَالْعَمَلُ عَلَى الآخَرِ؛ فَإِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ نِسْبَةُ بَذْرِهِ أَوْ أَكْثَرُ جَازَ، وإِلا فَلا .. ذكر مسألتين: الأولى أن يكون من أحدهما الأرض كلها أو جميع البذر وعلى الآخر [612/ أ] العمل- يريد والبقر والآلة، وأطلق العمل عليه وعلى البقر والآلة لأنهما سببان له- جاز وهو قول سحنون؛ ففي اللخمي: واختلف إذا كان البذر من عند صاحب الأرض واةلعمل والبقر من عند الآخر، فأجازه سحنون ومنعه محمد وابن حبيب.

وقول ابن عبد السلام: إن هذه الصورة هي مسألة الخماس ببلاد المغرب ليس بظاهر؛ لأن في مسالة الخماس البقر والآلة من عند رب الأرض، وإنما للعامل جزء معلوم يساوي قيمة عمله، ويتبين لك ذلك بالوقوف على ما في أجوبة ابن رشد، ونص السؤال: يتفضل الفقيه الأجل قاضي الجماعة أبو الوليد ابن رشد- وفقه الله تعالى ورضي عنه- بالجواب في رجلين اشتركا في الزرع على أن جعل أحدهما: الأرض والبذر والبقر، والثاني: العمل، ويكون الربع للعالم، والثلاثة الأرباع لصاحب الأرض، هل يجوز ذلك أم لا؟ وأجابه بأن قال: تصفحت سؤالك، فأما مسألة الاشتراك في الزرع على الوجه الذي ذكرت فلا يخلو الأمر فيها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعقداها بلفظ الشركة. والثاني: أن يعقداها بلفظ الإجارة. والثالث: أن لا يسميا في عقدها شركة ولا إجارة، وإنما قال: أدفع إليك أرضي وبذري وبقري وتتولى أنت العمل، ويكون لك ربع الزرع أو خمسه أو جزء من أجزائه يسميانه، فحمله ابن القاسم على الإجارة ولم يجزه وإليه ذهب ابن حبيب، وحمله سحنون على الشركة فأجازه، هذا تحصيل القول عندي في هذه المسألة، وكان من أدركنا من الشيوخ لا يحصلونها هذا التحصيل، ويذهبون إلى أنها مسألة اختلاف جملة من غير تفصيل، وليس ذلك عندي بصحيح. انتهى. وحاصله: إن عقداها بلفظ الشركة جاز بلا إشكال، وبلفظ الإجارة امتنع بلا خلاف؛ لأنها إجارة بجزء مجهول، وقد نص أبو الحسن على أن هذه هي مسألة الخماس لا ما قاله ابن عبد السلام، ولا يقال: لعل ابن عبد السلام أراد هذه؛ لأنا نقول: قد نص على أنه أراد مسألة اللخمي.

وقوله: (أَوْ بَعْضِ الْبَذْرِ وَالْعَمَلُ عَلَى الآخَرِ) هذه هي مسألة الثانية؛ أي: لو كانت الأرض من عند أحدهما مع بعض البذر وعلى الآخر العمل مع البذر، كان للعامل نسبة بذره؛ أي: قدر ما أخرجه العامل من البذر كما لو أخرج كل واحد نص البذر والزرع بينهما نصفان. قوله: (أَوْ أَكْثَرُ) كما إذا أخرج العامل ثلث البذر وأخذ النصف؛ لأنه يكون ثلث العمل مقابلاً لثلث رب الأرض، ويبقى الثلث الآخر الذي أخرجه رب الأرض مقابلاً لعمل العامل فلا منع، وهذا معنى قوله: (جَازَ) يريد بشرط التكافؤ كما تقدم. قوله: (وإِلا فَلا) أي: وإن لم يكن للعامل نسبة بذره ولا أكثر بل أقل امتنع كما لو أخرج العامل ثلثي البذر وأخرج رب الأرض ثلث البذر والزرع بينهما نصفان؛ لأن الثلث الزائد من العامل يصير في مقابلة الأرض جزء من البذر وهكذا قال ابن حبيب. وَالْعَمَلُ الْمُشْتَرَطُ هُوَ الْحَرْثُ لا الْحَصَادُ وَالدِّرَاسُ عَلَى الأَصَحِّ لأَنَّهُ مَجْهُولُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَالْحَصَادُ وَالدِّرَاسُ .. لما ذكر المصنف أولاً العمل وكان فيه اختلاف احتاج إلى بيانه وما صححه المصنف هو قول سحنون وصححه للدليل، وكذلك قال ابن يونس والتونسي: إنه الصواب؛ لأن الحصاد والدراس مجهولان لا يدري كيف يكونان وشأنهما قد يقل ويكثر، واستشكلا ما وقع لابن القاسم في العتبية من رواية حسين بإجازة اشتراطهما، وهو الذي حكاه المصنف عنه، ونص هذه الرواية على نقل ابن يونس، وقال حسين عن ابن القاسم: فيمن أعطى لرجل أرضاً ليقلبها وينبتها فإذا كان أوان الزراع كان البذر بينهما والزرع بينهما والعمل على الداخل والحصاد والدراس، ونقل نصيب رب الأرض إليه، قال: وبين القليب والزرع شهر، فإن كانت الأرض مأمونة جاز ذلك وإن كانت غير مأمونة لم يجز، وانظر

كيف منعوا هنا جواز اشتراط الحصاد والدراس، وأجازوا اشتراط عصر الزيتون على العامل في المساقاة. خليل: والقليب: الحرث. الجوهري: المقلب: الحديدة التي تقلب بها الأرض للزراعة. وَالْبَذْرُ الْمُشْتَرَكُ شَرْطُهُ الْخَلْطُ كَالْمَالِ لا حاجة إلى قوله: (الْمُشْتَرَكُ) لأن الخلط يغني عنه، ولما كان الخلط ظاهراً في عدم تمييز أحدهما عن الآخر بين أنه ليس المراد ذلك بقوله: (كَالْمَالِ) فأشار إلى ما قدمه وهو إما أن يكون تحت أيديهما أو أحدهما، وهكذا قال مالك وابن القاسم. اللخمي: واختلف عن سحنون فقال مرة بقول مالك، وقال مرة: إنما تصح الشركة إذا خلطا الزريعة أو جمعاها في بيت واحد وحملاها إلى فدان، ونص هذا الثاني عند ابن يونس. ومن كتاب ابن سحنون: وإذا صحت الشركة في المزارعة، وأخرجا البذر جميعاً إلا أنهما لم يخلطا فزرعا بذر هذا في فدان أو في بعضه، وزرعا الآخر في الناحية الأخرى، ولم يعملا على ذلك، فإن الشركة لا تنعقد ولكل واحد ما أنبت حبه ويتراجعان في فضل الأكرية ويتحاصان، وإنما تتم الشركة إذا خلطا ما أخرجاه من الزريعة أو جمعاه في بيت واحد، ثم زرعا الأخرى فهو جائز، كما لو جمعاها في بيت وتصح الشركة. قال بعض فقهاء القرويين: وعند ابن القاسم إن الشركة جائز خلطاً أو لم يخلطا. ابن عبد السلام: ولعل المصنف إنما سكت عنه لاحتمال جواز الإقدام على ذلك ابتداء، وإنه ممنوع أولاً، لكنه إذا وقع مضى وهو الظاهر من تفريعه.

فَلَوْ أَخْرَجَاهُ مَعاً وَبَذَرَاهُ بَذَرَاهُ؛ وَقِيلَ: كَالْخَلْطِ؛ [612/ ب] وقِيلَ: إِنْ عُلِمَتِ النَّوَاحِي فَلِكُلِّ وَاحِدٍ نَبْتُ بَذْرِهِ وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الأَكْرِيَةِ وَالْعَمَلِ .. لو اشتركا في الإخراج في وقت واحد فقولان: أولهما: أنه كالخلط وهو الجاري على قول مالك وابن القاسم. والثاني: أن لكل واحد نبت بذره إن علمت النواحي، وهو أحد قولي سحنون. وَعَلَى الصِّحَّةِ لَوْ لَمْ يَنْبُتْ بَذْرُ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ غُرَّ لَمْ يَحْتَسِبْ بِبَذْرِهِ وَعَلَيْهِ مِثْلُ نِصْفِ النَّابِتِ، وإِنْ لَمْ يُغَرَّ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ بَذْرِ الآخَرِ، والزَّرْعُ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا .. أي: وعلى القول بصحة الشركة لو لم ينبت بذر أحدهما يكون الزرع بينهما لصحة العقد، وتصور كلامه ظاهر، والضمير في (فِيهِمَا) عائد على صورتي الغرور وعدمه. ابن عبد السلام: وسكت في الرواية عن رجوع المغرور على الغار بقيمة نصف العمل، وينبغي أن يكون له الرجوع بذلك؛ لأنه غرر بالفعل. خليل: وينبغي أن يرجع عليه بنصف قيمة كراء الأرض التي غر فيها، قيل: وهذا إذا لم يغتر عليه إلا بعد انقضاء إبان الزراعة، ولو علم ذلك في إبانها للزم الغار الضمان وعليه أن يخرج المكيلة من زريعة تنبت فيزرعها في ذلك القليب وهما شريكان، ولا غرم على الآخر للغار، وإن لم يكن غره فليخرجا قفيزاً آخر فيزرعان في القليب إن اختاراها على شركتهما. تنبيه: بقي على المصنف شرط آخر في البذر وهو ثالثهما جنساً، وإن أخرج أحدهما قمحاً والآخر شعيراً أو سلتا أو صنفين من القطنية، فقال سحنون: لكل واحد ما أنبت بذره ويتراجعان في الأكرية ثم قال: يجوز إن اعتدلت القيمة. اللخمي: يريد والمكيلة.

وَفِي الْفَاسِدَةِ إِنْ تَكَافَأ فِي الْعَمَلِ فَبَيْنَهُمَا وَيَتَرَاجَعَانِ غَيْرَهُ لما ذكر المزارعة الصحيحة وشروطها علم أن الفاسدة ما فقد منها شرط، ولذلك لم يحتج إلى بيان الفاسدة، وتقدير كلامه: والحكم في المزارعة الفاسدة تفسخ قبل العمل، وإن فاتت ففي المذهب طريقان: أولاهما تفصيلية وهي التي بدأ بها المصنف، وذكر منها ثلاث صور، الصورة الأولى: (إِنْ تَكَافَأ فِي الْعَمَلِ) أي: فالزرع بينهما، وذلك إذا أخرج أحدهما البذر والآخر الأرض والعمل بينهما، ولا خلاف في فسادهما لمقابلة الأرض بالبذر، فيكون الزرع بينهما. (وَيَتَرَاجَعَانِ غَيْرَهُ) أي: غير العمل وهو البذر والأرض فيكون على صاحب البذر نصف كراء الأرض وعلى صاحب الأرض مكيلة البذر، وهكذا نقله ابن المواز عن مالك وابن القاسم، وظاهر كلام ابن حبيب أن الزرع لصاحب البذر وحده، ويكون عليه لصاحب الأرض كراء أرضه وقيمة نصف العمل؛ لأنه قال: وأصل هذا أن كل متزارعين على معادلة وقع في مزارعتهما، كراء الأرض بالبذر فافسخه واجعل الزرع لرب البذر، وكل متزارعين على غير معادلة سلماً من كراء الأرض بشيء من البذر، فاجعل الزرع بينهما نصفين، ويتراجعان في الفضل فيما سوى ذلك. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا مَعَ الْعَمَلِ فَالزَّرْعُ لَهُ وَعَلَيْهِ الأُجْرَةُ هذه الصورة الثانية وفسدت بما فسدت به الأولى؛ لأن قوله: (مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا) البذر مع العمل يقتضي أن الأرض من عند الآخر، وحينئذ يقابل الأرض جزء من البذر. (فَالزَّرْعُ لَهُ) أي: لصاحب البذر والعمل؛ لأنه اجتمع له من الثلاثة شيئان، وقدم لذلك. (وَعَلَيْهِ الأُجْرَةُ) أي: أجرة الأرض.

ابن القاسم وابن حبيب: وإن أخرج أحدهما الأرض والعمل على ألآخر وجميع البذر على أنه له نصفه على رب الأرض، لم يجز شرط السلف، وإن وقع فالربح بينهما نصفين لضمانهما الزريعة، وتكافيهما في العمل وكراء الأرض، ويرجع مخرج البذر بنصفه معجلاً على الآخر، وقال سحنون: الزرع لمسلف البذر وعليه كراء الأرض، قبض رب الأرض حصته من الزريعة أو لم يقبض إذا وقعت الشركة على شرط السلف إلا أن يكون أسلف على غير شرط بعد صحة العقد. إِنْ كَانَ الْبَذْرُ فَقَطْ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِي؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الزَّرْعُ لِلْعَامِلِ، وَقَالَ سُحْنُونُ: الزَّرْعُ لِرَبِّ الْبَذْرِ ثُمَّ يُقَوِّمَانِ مَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ مَكِيلَةِ الْبَذْرِ وَأُجْرَةِ الأَرْضِ والْعَمَلِ .. هذه هي الصورة الثالثة ودل كلامه على أنها تقع على وجهين: الأول: أن يكون البذر من المالك أي للأرض ومن الآخر العمل. والوجه الثاني: أن يكون البذر من أجنبي فتكون الأرض لواحد والبذر لآخر والعمل لآخر وتكون الشركة من ثلاثة أشخاص، ولا إشكال في فساد الوجه الثاني لمقابلة جزء من الأرض بجزء من البذر، وأما الوجه الأول: فقد يقال: فيه نظر؛ لأن كلام المصنف يقتضي أن سحنون يقول بفساده، والمنقول عنه فيما إذا أخرج أحدهما الأرض والبذر، وأخرج الآخر العمل وقيمة ذلك، مثل كراء الأرض جواز ذلك وعن ابن حبيب عدم جوازه. ابن حبيب: وإن نزل فالزرع لصاحب الأرض والبذر والبقر وعليه للآخر قيمة عمل يده، وكأنه آجره بنصف ما تنبت أرضه اللهم إلا أن يقال: إن مراد المصنف إذا وقعت الشركة بينهما على التفاضل.

وقوله: (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الزَّرْعُ لِلْعَامِلِ) يعني: في الوجهين، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم في الموازية، ونص ما نقله ابن يونس: قال ابن المواز: ومن قول مالك وابن القاسم: إن الزرع كله في فساد الشركة لمن تولى القيام به كان مخرج البذر صاحب الأرض أو غيره، وعليه إن كان هو مخرج البذر له كراء أرض صاحبه، وإن كان صاحبه مخرج البذر فعلي له مثل بذره، وهكذا نقل [613/ أ] الشيخ أبو محمد هذا القول، واعترض القرويون على أبي محمد ما نقله عن ابن القاسم أنه لصاحب العمل، وقالوا: لم نجد لابن القاسم أن الزرع للعامل دون أن يضاف إليه. وقوله: (وَقَالَ سُحْنُونُ: الزَّرْعُ لِرَبِّ الْبَذْرِ) ظاهره أيضاً في الوجهين، وهذا القول رواه ابن غانم عن مالك أن الزرع لصاحب الزريعة وعليه قيمة كراء الأرض والعمل. ابن حبيب: وبه قال من المدنيين مطرف وابن الماجشون وابن نافع، ومن المصريين ابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، ولم أر النص عن سحنون إلا في الوجه الأول، وهذا إذا كان البذر من عند رب الأرض، قال ابن يونس: نقل عنه أن الزرع لرب البذر، وذكر عنه أيضاً صورة أخرى فقال: قال سحنون: وإذا اشترك ثلاثة فأخرج أحدهم الأرض ونصف البذر، والآخر نصف البذر فقط، والثالث البقر والعمل على أن الزرع بينهم أثلاثاً لم يجز، فإن نزل فالزرع على مذهب ابن القاسم بين العامل ورب الأرض، ويغرمان لمخرج نصف البذر مكيلة بذره. ومذهب سحنون أن الزرع لصاحبي الزريعة وعليهما كراء الأرض والعمل، وقال ابن حبيب: قد أخطأ والزرع بينهم أثلاثاً، والذي ذكر ابن المواز على أصل ابن القاسم أن الزرع لمن ولي العمل إذا سلمت الأرض إليه فيؤدي مثل البذر لمخرجه، وكراء الأرض لربها. انتهى.

قوله: (ثُمَّ يُقَوِّمَانِ) هو من القيام وهو معنى الغرم والضمير المثنى عائد على صاحب الأرض والعامل وهذا مرتب على قول ابن القاسم وسحنون أي فعلى قول ابن القاسم أن الزرع للعامل يكون عليه كراء الأرض ومثل البذر إذا كان من غيره وعلى قول سحنون أن الزرع لصاحب البذر وتكون عليه قيمة العمل وكراء الأرض إن كانت لغيره، ولما فرغ رحمه الله من الطريق التفصيلية شرع في الإجمالية فقال: وَقَالَ الْبَاجِيُّ: فِي الْفَاسِدَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الأَوَّلُ: لِصَاحِبِ الْبَذْرِ. الثَّانِي: لِلْعَامِلِ الثَّالِثُ: لِمَنْ لَهُ اثْنَانِ مِنَ الأَرْضِ وَالْبَذْرِ والْعَمَلِ. الرَّابِعُ: لِمَنْ لَهُ الْبَقَرُ والأَرْضِ والْعَمَلِ. الْخَامِسُ: لِمَنْ اجْتَمَعَ لَهُ شَيْئَانِ مِنَ الأَرْبَعَةِ. السَّادِسُ: إِنْ سَلِمَتْ مِنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَى مَا شَرَطُوهُ وَإِلا فَلِصَاحِبِ الْبَذْرِ. (الْبَاجِيُّ) هو ابن رشد وقد تقدم في الطلاق سبب ذلك وهذه الطريقة ذكرها في المقدمات فقال: واختلف في المزارعة الفاسدة إذا وقعت وفاتت بالعمل على ستة أقوال: أحدها: أن الزرع لصاحب البذر ويؤدي لأصحابه كراء ما أخرجوه. والثاني: أن الزرع لصاحب العمل وهو تأويل ابن أبي زيد عن ابن القاسم فيما حكى عنه ابن المواز.

والثالث: لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة وهي البذور والأرض والعمل فإن كانوا ثلاثة واجتمع لكل واحد منهم شيئان منها أو انفرد كل واحد منهم بشيء منها فالزرع بينهم أثلاثاً وإن اجتمع لأحدهم شيئان دون أصحابه كان له الزرع دونهم، وهو مذهب ابن القاسم واختيار ابن المواز على ما تأول أبو إسحاق التونسي. والرابع: أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أشياء على هذا الترتيب وهي الأرض، والعمل، والبقر. والخامس: أن يكون لمن اجتمع له شيئان من اربعة أشياء على هذا الترتيب وهي: الذر، والأرض، والعمل، والبقر. والسادس: قول ابن حبيب: إن الفساد أن سلم من كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع بينهم فالزرع على ما اشترطوه وتعادلوا في ما أخرجوه. وإن دخله كراء الأرض بما يخرج منها فالزرع لصاحب البذر. وعلى هذا فقول المصنف في القول الرابع: (لِمَنْ لَهُ الْبَقَرُ والأَرْضِ والْعَمَلِ) ليس بجيد وصوابه "لمن له اثنان من الأرض والبقر والعمل" وكذلك الخامس صوابه أن يقول: "لمن اجتمع له شيئان من البذر والبقر والأرض والعمل" ولا يقال كلام المصنف غير صحيح من حيث المعنى؛ لأنه إذا اجتمع لواحد أربعة فماذا يكون للآخر؛ لأنه لا يلزم من كون الأربعة لواحد أن يكون جميعها له فمن الجائز أن يكون معه شريك في بعضها وفي كلها ألا ترى إلى القول الثالث في كلام ابن رشد.

الإجارة

الإِجَارَةُ الجوهري: الأجر: الثواب، آجره الله، يأجره أجراً. وكذلك آجره الله إيجاراً أو آجر فلان خمسة من ولده، أي: ماتوا فصاروا أجرة. والأجرة: الكراء، يقال: استأجر الرجل فهو يأجرني أي يصير أجري، قال تعالى: أن تأجرني ثماني حجج. انتهى. فحكى في الفعل: القصر والمد، وأنكر الأصمعي المد. عياض: وهو صحيح. فقد نقل اللغتين غير واحد. (الإِجَارَةُ): منافع معلومة، وهي مأخوذة من الأجر وهو الثواب. كَالْبَيْعِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لَهَا أَرْكَان يعني: أن كل ما يصح بيعه جازت إجارته، وما ليس فليس، لأن الإجارة بيع منافع، ولا فرق بين بيع المنافع والأعيان، وهكذا قال عياض. وهي معاوضة صحيحة يجري فيها ما يجري في البيوع من الحلال والحرام. الأَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ كَالْمُتَبَايِعْيَنِ يعني: العاقدان للإجارة فأشار إلى أن للإجارة أركان. (أَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ كَالْمُتَبَايِعْيَنِ) شرطهما التمييز وقيل: إلا السكران. والتكليف شرط اللزوم، والإسلام شرط المصحف والمسلم، واقتضى تشبيهه أنه لو آجر الصبي نفسه لكان للولي إمضاؤه وفسخه، وقد نص في المدونة على ذلك، وكذلك المعين. قال في المدونة: فإن فعلا، فعليه الأكثر مما سماه، وأجرة المثل. ابن راشد: وللسفيه البالغ أن يؤاجر نفسه على ظاهر المذهب، فإن كان في أجره محاباة فلوليه [613/ ب] النظر في ذلك.

قال مطرف وابن الماجشون: لا بأس أن يستأجر الرجل الغلام لم يبلغ الحلم، والجارية لم تحض، من أنفسهما إذا عقلا وكان ما فعلوه نظراً، ويدفع إجارتهما إليهما، ويبرأ بذلك الدافع ما لم يكن شيء له بال. وما كان في إجارتهما من محاباة فعلى المستأجر إتمامها، كان معهما ولي أم لا، وكذلك إذا عقد عليما أخ أو عم. يجوز في ذلك ما يجوز إذا عقداه، ويبرأ بذلك إذا كان الولي مأموناً، وإن كان ولياً من الإمام كان أحب إلينا. وقال ابن عبد الحكم وأصبغ لا يؤاجر إلا المأمون. وهكذا نقل صاحب النوادر وغيره، وذكر بعض على هذا الموضع أنه لا يجوز لهما أن يعقدا على أنفسهما عند ابن القاسم، وأنه إنما يعقد عليهما عنده والوصي أو مقدم القاضي. الأُجْرَةُ كَالثَّمَنِ هذا هو الركن الثاني، ومعنى كلامه: أن ما جاز أن يكون ثمناً، جاز أن يكون أجرة، وحاصله: أنه يشترط في الأجرة ما قدمه في المعقود عليه في البيع أن يكون طاهراً، منتفعاً به، مقدوراً على تسليمه، معلوماً. وهذه الكلية لا ينخرم إلا بكراء الأرض مما يخرج منها، لأن الطعام يصح أن يكون ثمناً، ولا يصح أن يكون أجرة بالنسبة إلى الأرض. وأجاب ابن عبد السلام: بأن مراده، أن كل ما هو صالح للتنمية من حيث هو في البيع، فهو صالح لأن يكون عوضاً في الإجارة، إلا أن يعرض بذلك مانع من الموانع. ألا ترى أنه لا يصلح الاعتراض بالثمرة مثلاً على المعقود عليه، من جهة أنه لا تصلح المعاوضة بينه وبين الرطب، وأيضاً فالمانع من كون الطعام إجارة، ما يؤدي إليه، إما من الربا، وإما من المزابنة باعتبار ما يخرج من الأرض. وأجاب غيره بأن المصنف قد استثناه بعد الأرض.

فإن قيل: كلامه منتقض بما أجازه ابن القاسم في العتبية في الخياط المخالف الذي لا يكاد يخالف مستخيطه أن يراضيه على أجرة إذا فرغ، فإنه يدل على عدم اشتراط المعلومية. قيل: هذه صورة نادرة، فلا تقدم على أن ابن حبيب قال: لا ينبغي أن يستعمله حتى يسمي أجرته. وَلا تُتَعَجَّلُ إِلا بَشَرْطٍ أَوْ عَادَةٍ إِلا أَنْ يَكُونَ عَرْضاً مُعَيَّناً أَوْ عَلَى إِجَارَةٍ مَضْمُونَةٍ إنما لم تتعجل الإجارة، لأن عوضها غير معجل بخلاف البيع. ولو قال: إلا أن تكون عرضاً معيناً أو تكون الإجارة مضمونة كما في الجواهر لكان أبين، ولا إشكال في لزوم التقديم مع الشرط أو العادة. ولزوم التقديم في العقد المعين، لئلا يؤدي إلى بيع معين يتأخر قبضه وما في الإجارة المضمونة؛ لئلا يلزم الدين بالدين كالسلم، وقيد ذلك في الموازية بألا يشرع، وأما لو شرع في الركوب لجاز التأخير. وكذلك قال عبد الوهاب؛ أي: لأن قبض الأوائل كقبض الأواخر، فلا يلزم الدين بالدين. قال في المقمات: قال عبد الوهاب: يجب في المضمونة تعجيل أحد الطرفين من الأجرة، والشروع في الاستيفاء، يريد إذا كان العمل يسيراً ليخرج من الدين بالدين وقيد ما قال غيره بأن يكون العمل يسيراً. وما ذكره المصنف من لزوم التقديم إذا كان الكراء مضموناً، نص عليه مالك، وهو الأصل لما تقدم، لكن اختلف في ذلك في الكراء المضمون؛ أي: الحج ونحوه بسبب ضرورة عارضت ذلك. ففي الموازية عن مالك في من تكارى كراءً مضموناً إلى أجل، مثل الحج في غير إبانه فلا يجوز أن يؤخر النقد، ولكن يعجل الدنانير ونحوها. وكان يقول: لا ينبغي إلا أن ينقد

مثل ثلث الكراء، ثم رجع فقال: قد اقتطع الأكرياء أموال الناس، فلا بأس أن يؤخرهم بالنقد، ويقدموهم بالدنانير وشبهه. تنبيه: قيد في الجواهر الطعام بأن يكون رطبا، وتبع في ذلك صاحب التلقين. والظاهر أنه لا فرق بين الطعام الرطب واليابس؛ لأنه بيع عين يتأخر قبضه فيهما، نعم الغرر في الرطب أقوى، وفي بعض النسخ بعد قوله: (مُعَيَّناً أَوْ طَعَاماً وَشِبْهَهُ) وَمَنَافِعُ الْعَيْنِ كَالْعيْنِ أي: الأجرة تصح بمنفعة العين كالعين. ومراده بـ (الْعَيْنِ) المعين؛ أي: الابة التي تقابل المنفعة، ويدل عليه إضافة المنافع إليه. وَلِذَلِكَ جَازَ سُكْنى بِسُكْنَى، أَوَّلُهُمَا مُتَّفِقُ أَوْ مُخْتَلِفُ اللام: للتعليل؛ أي: ولأجل أن منافع العين كالعين، جاز أن تكون سكناً عوض السكنى، ولو كانت منافعا لذات كالمنافع المضمونة، لم يجز ذلك، وخصص السكنى لأنها الواقعة في الرواية، وإلا فلا فرق في ذلك بين العبد والدابة والأرض. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطُ وَلا عَادَةُ أَخَذَ مُيَاوَمَةُ هكذا نقل صاحب الجواهر وغيره عن ابن القصار. ومعنى (مُيَاوَمَةُ) أي: كل ما تمكن من استيفاء منفعة وما لزمه أجرته، لأنه المسكن وظاهر كلام المؤلف يتناول المنافع، بالأجرة حقيقة في العرف مقصورة عليها، والمذهب أن الصانع لا يستحق الأجرة عند الإطلاق، إلا بعد تمام العمل.

نعم خرج بعض الشيوخ على قول ابن المواز، في الصانع يضمن المصنوع بصيغته، ويأخذ الأجرة بكمالها، أن يكون حكمه عند التنازع في قبض الأجرة حكم مكري الراحلة، مهما عمل شيئاً أخذ بحسابه. فَإِنْ كَانَ عَلَى عَرْضٍ مُعَيَّنٍ وَالْعُرْفُ التَّأخِيرُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَسَدَ الْعَقْدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَصِحُّ وَيُعَجَّلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الإِطْلاقَ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ أَوَّلاً .. (فَسَدَ الْعَقْدُ) أي إلا أن يشترط التعجيل. وقال غيره: يصح ويجبر على التعجيل؛ وهو معنى قوله: (وَيُعَجَّلُ) والبناء الذي ذكره المصنف ذكره الأستاذ أبو [614/ أ] بكر، فقال: وهذا أصل مختلف فيه بين ابن القاسم والمدنيين. فعند ابن القاسم: يحمل الإطلاق على العرف، فإن كان العرف فاسداً. وعند ابن الماجشون وغيره من المدنيين: لا حكم للعرف الفاسد، وإنما التأثير للعرف الصحيح. ووجه قول الغير؛ أن الحمل على الفساد خلاف قصد المتبايعين لأنهما قاصدان لانبرام العقد. ونوقش المصنف في تخصيص الخلاف هنا إذا كان العرف التأخير. وإن مذهب ابن القاسم في كراء الرواحل الفساد إذا لم يكن العرف التقديم، سواء كان العرف التأخير أو لم يكن عرف وكانوا يتبايعون بالوجهين. وابن حبيب يصحح في الوجهين، صرح بذلك اللخمي وابن يونس وغيرهما، وعلله ابن يونس بأنه إذا لم يكن ثم عرف من قاعدة ابن القاسم عدم تعجيل الأجرة فكان ذلك الشرط التأجيل والدنانير والدراهم إذا كانت أيضاً معينة حكمها حكم العرض.

نص على ذلك في المدونة، ففيها وقال غيره في الدنانير جائز وإن تلفت فعليه الضمان وعلى هذا، ففي قول المصنف: عرض معين، قصور، وفي بعض النسخ وهو أحسن. وَلَوِ اسْتَاجَرَ السَّلاَّخَ بِالْجِلْدِ، وَالنَّسَّاجَ بِجُزْءِ مِنْ الثَّوْبِ، وَالطَّحَّانَ بِالنُّخَالَةِ لَمْ يَجُزْ .. لما ذكر أن الأجرة كالثمن فلا يجوز فيها الجهالة ذكر صوراً ممنوعة لذلك. ابن عبد السلام: وظاهر كلامه في الجلد أنه لا فرق بين أن تكون الشاة مذبوحة أو حية، وهو كذلك إذ لا يدري كيف يخرج بعد السلخ. خليل: وقد تقدم في بيع الجلود على ظهور الخرفان في البيوع ستة أقوال ينبغي أن تأتي هنا، واستقرأ من المدونة جواز بيع الجلد من إجازته بيع السباع حية لأخذ جلودها. وقد يقال: السباع لما لم تؤكل، إما على طريق المنع أو الكراهة، لم يكن المقصود فيها إلا الجلد، فيحتاط له بخلاف هنا، فإن اللحم مقصود أيضاً، فلذلك قد لا يحاول على الجلد، وذلك سبب إلى قطعه في مواضع. قوله: (وَالنَّسَّاجَ بِجُزْءِ مِنْ الثَّوْبِ) علله في المدونة بالجهالة. قال: لأنه لا يدري كيف يخرج، ولأن ما لا يجوز بيعه، لا يجوز أن يستأجر به. قال فيها: ولو قلت له: انسج لي هذا الغزل بغزل آخر، عجلته له جاز، ولإجارة الإجارة بجزء من الغزل قال المصنف: (مِنْ الثَّوْبِ) ليخرج هذه الصورة. ابن حبيب: ويجوز إذا أعطاه الغزل على جزء ولم يبين هل هو من الثوب أو من الغزل؟ خليل: وأصل ابن القاسم هنا المنع. فرع: فإذا وقعت المسألة على ما قاله المصنف، أصبغ: فله أجر مثله والثوب والجلد لربها.

ابن عبد السلام: يريد أصبغ، أنه لم يحصل النصف الآخر وعليه أجرة وعليه أجرة المثل في دباغة الجميع، أما لو دفع إليه نصف الجلود قبل الدبغ على أن يدفعها مجتمعة، فأفاتها بالدباغ، فله نصفها بقيمتها يوم قبضها، وله أجر عمله في نصفها للتحجير في نصف الدابغ، وهذا أبين. وأشار بعضهم إلى أنه يختلف في ضمان الصانع لنصفها في هذا الوجه الأخير إذا شرع في دباغها، ويختلف في فواتها بالشروع أيضاً، لأن قبضه لها ليس قبضاً حقيقياً، لكونه غير متمكن من الانتفاع بما قبضه. قوله: (وَالطَّحَّانَ بِالنُّخَالَةِ) أي: للجهالة بقدرها. خليل: وعلى هذا، فلا يجوز ما يفعل عندنا بمصر في طحن العامة، لأنهم يعطون للطحان أجرة معلومة والنخالة وهي مجهولة، وانظر لو آجره بصاع من النخالة، هل يجوز؟ لأن النخالة لا تختلف أو يختلف فيها كما في صاع دقيق. ابن عبد السلام: والنفس أميل إليه لأن من الطحن ما تخرج نخالته كثيرة الأجزاء، ومنه ما لا تخرج كذلك. وإلى مسألة صاع من دقيق أشار بقوله: وَفِي صَاعٍ دَقِيقٍ قَوْلانِ من الجواز مذهب المدونة ففيها: ولا بأس أن يؤاجره على طحن إردب قمح بدرهم وبقفيز من دقيقه، إذ ما جاز بيعه، جازت الإجارة فيه، وإن واجرته بطحنه لك بدرهم وبقسط من زيت زيتون قبل أن يطحن جاز ذلك. والمنع لابن القاسم في الواضحة وابن المواز. اللخمي: ولا وجه له، وصوب غيره أيضاً الجواز، فكأنهم لم يرتضوا بتفرقة ابن المواز بين البيع والإجارة، أنه إنما جاز في البيع، لأن المبيع إذا هلك رجع المبتاع بثمنه، وفي الإجازة إذا طحن وهلك ذهب عمله باطلاً؛ لأنه ليس بمضمون على ربه ولو ضمنه كان فاسداً؛ أي: لأنه كمن اشترى معيناً، وشرط على البائع ضمانه.

وأجاب ابن حيبب عن هذا بأنه إذا ضاع بعد الطحن، رجع بقيمة طحنه كما يرجع من اشترى ثوباً بعبد فاستحق الثوب من يده فإنه يرجع في عبده إن كان قائماً، فإن فات رجع بقيمته. بعض القرويين: وهذا إذا كان غير صانع، وأما إن كان صانعاً وثبت ضياع الدقيق بعد طحنه، فلا أجرة له على مذهب المدونة، لأنه لم يوف الصنعة إلى يد ربه. وعلى ما في الموازية أن ضمان الصنعة إذا ثبت ضياع الدقيق من صاحبه، ينظر قيمة القفيز الذي شرطه الصانع لنفسه، فإن كان درهماً، وقد طحنه بقفيز ودرهم، رجع بنصف إجارة مثله. وقال اللخمي: إن ضاع القمح، يعني: وفرعنا على المشهور وكان ذلك قبل الطحن وكان الدرهم مساوياً لقيمة صاع الدقيق أو أكثر انفسخت الإجارة فيما ينوب الصاع، لأنه عرض بعرض ولم ينفسخ فيما ينوب الدرهم وعلى رب القمح أن يأتي بمثل ذلك ويطحنه له وإن لم يعلم الضياع إلا من الأجير، فرأى ابن القاسم مرة أنه غيبه فلزمه أن يغرمه ويطحن جميعه ويأخذ [614/ ب] الصاع منه ومرة لم يبلغ أنه غيبه حقيقة فيحلف على ضياعه ويغرمه ولا يطحن إلا ما قابل الدرهم. قال: وإن طحنه ثم ادعى ضياعه، لم يصدق، وغرمه مطحوناً، واستوفى منه الصاع واختلف إن شهدت البينة على ضياعه. فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه ولا أجر. فعلى هذا يأتي ربه بطعام ويطحن الأجير ما ينوب الدرهم بمنزلة ما لم ثيطحن وقيل له الأجرة، فيأخذ الدرهم، وإجارة المثل فيما ينوب الصاع. ابن حبيب: ولا يجوز اطحنه على أن لك نصفه دقيقاً، لأنه جعل بغرر والأول إجارة بشيء معلوم.

وَلَوْ أَرْضَعَتْهُ بِجُزْءٍ مِنَ الرَّضِيعِ الرَّقِيقِ بَعْدَ الْفِطَامِ لَمْ يَجُزْ أي: ولو أرضعت الرقيق، فحذف المفعول لدلالة ما بعده (بِجُزْءٍ) أي: بنصف أو ثلث أو غير ذلك لم يجز لأنه معين يتأخر قبضه. ومفهوم قوله: (بَعْدَ الْفِطَامِ) أنه لو كان على أن يأخذ النصف الآن لجاز، وهو ظاهر من جهة المعنى لانتفاء ما فرض مانعاً. لكن ظاهر المدونة خلافه ففيها: ومن واجرته على تعليم عبدك الكتابة والقرىن سنة وله نصفه لم يجز، إذ لا يقدر على قبض باقيه قبل السنة. وصرح الشيخ أبو محمد بذلك، فقال ولو قبض المعلم نصفه الآن، لم يجز. قال: فإن وقع وشرط قبض نصفه بعد السنة، فسخ، فإن فات وعلمه سنة ولم يفت العبد، فله قيمة تعليمه والعبد لسيده. فإن فات بعد السنة بيد المعلم، فالعبد بينهما وعلى ربه قيمة تعليمه وعليه نصف قيمة العبد يوم قبضه ويكون بينهما. وَتَعْلِيمُهُ بِعَمَلِهِ سَنَةً مِنْ يَوْمِ أَخْذِهِ جَازَ مثله في المدونة، ففيها: وإن دفعت غلاماً إلى خياط أو قصار أو غيره ليعلمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة، جاز. يحيى بن عمر: والسنة محسوبة من يوم أخذه. وهذا معنى قوله: (أَخْذِهِ) وقال غيره في المدونة: يجوز بأجر معلوم. وَاحْصُدْ زَرْعِي وَلَكَ نِصْفُهُ يَجُوزُ. (وَاحْصُدْ) بكسر الصاد وضمها. قال في المدونة: ومن قال لرجل: احصد زرعي ولك نصفه، أو جذ نخلتي ولك نصفها، جاز وليس له تركه؛ لأنها إجارة، وكذلك لقط الزيتون، وهو كبيع نصفه.

زاد بعض المختصرين: وقال غيره: لا يجوز؛ والأقرب الجواز، لاسيما إن قلنا أنه ملك نصفه قبل العمل. عياض: وهو الذي يأتي على أصولهم أنه يجب بالعقد. ابن حبيب: والعمل في تهذيبه بينهما. ابن يونس: ولو شرط في الزرع قسمه حباً، لم يجز وإن كان إنما يجب له بالحصاد، فجائز وكذلك في كتاب ابن سحنون، ولا تجوز قسمته قتة لأنه خطر ويدخله التفاضل وما ذكره عبد الحق من منع قسمته غرماً أصل مختلف فيه في الربويات وغيرها واعترض منع اشتراط قسمته حباً، لأنه شرط يوافق مقتضى العقد، لأن الأجير لا يستحقه إلا بعد عمله، وحينئذ لا يتمكن من أخذ نصيبه إلا مجزفاً. وأجيب بمنع أنه لا يملكه إلا بعد الحصاد فقد قال ابن القاسم: إذا تلف قبل أن يحصده أو بعد أن حصد بعضه، هو بينهما، وعليه أن يستعمله في مثله، أو مثل ما بقي. وقال سحنون: عليه مثل نصف قيمة الزرع، وليس أن يحصد مثله. اللخمي: يريد إذا كان تلفه قبل الحصاد ولا يتعذر الخلف وقيد قول سحنون بما إذا تعذر الخلف. وعلله يحيى بن عمر بأن الزرع يختلف وظاهره خلاف، وعلى ما تأوله اللخمي عليه، فقد اتفق القولان على أن ملك نصيبه في الزرع قبل العمل؛ لأن سحنوناً إنما أوجب له القيمة لتعذر الخلف. وَمَا حَصَدْتَ فَلَكَ نِصْفُهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجُوزُ وَهِيَ جِعَالَةُ وَلَهُ التَّرْكُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لا يَجُوزُ .. هكذا في المدونة سواء، والقولان لمالك في الموازية؛ لأن محمداً قال: اختلف قول مالك في قوله: فما لقطت من شيء فلك نصفه وثلثه. وقال مرة: لا خير فيه وكما لا يجوز

بيعه، لا تجوز الإجارة به. وقال أيضاً: لا بأس به لأنه من الجعل لا من الإجارة بمنزلة من قال لرجل: لي على فلان مائة دينار، فما أقضيت من شيء فلك نصفه، فإذا علم كم الدين وكم الزرع لم يكن له بأس ومتى شاء أن يترك ترك، لأنه جعل، وإن لم يعلم كم الدين أو الزرع، لم يكن فيه حرج. وعلى هذا الخلاف إنما هو في تحقيق المسألة، هل هي من باب الجعل، أو الإجارة؟ فمن ردها إلى الجعل أجاز ومن ردها إلى الإجارة منع والله أعلم. وَاحْصُدِ الْيَوْمَ وَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ فُهْمَتِ الْجِعَالَةُ اعلم أنه إذاقال له: احصد اليوم ولك نصفه؛ إن فهمت الإجارة واللزوم امتنع باتفاق؛ نقله ابن عبد السلام وغيره وإنما الخلاف إذا قال على أن يترك متى شاء وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر؛ لأن قوله: (وَقِيلَ) يقتضي أن القول الثاني شاذ، وليس كذلك، بل هو مذهب المدونة، ففيها: وإن قال له: احصد اليوم أو التقط فما اجتمع فلك نصفه؛ فلا خير فيه، إذ لا يجوز بيع ما يحصد اليوم، إلا أن يشترط أن يترك ما شاء فيجوز وعلى هذا ففي قول المصنف: (إِنْ فُهْمَتِ) نظر؛ لأن الفهم أعم من التصريح والخلاف إنما هو إذا صرح بترك العمل متى شاء ففي المدونة الجواز كما رأيته ونص في العتبية على المنع ولو منع التصريح بالترك متى شاء وما في المدونة صواب. فإن قيل: كيف هو أصوب مع أن الجعل لا يجوز فيه ضرب الأجل؟ قيل: لما صرح بالترك متى شاء، لم يبق أجل البتة وشبهه في العتبية بالتقاضي: تقاضي مالي شهراً ولك نصفه، أو ما تقاضيت فلك بحسابه [615/ أ] ومتى شئت أن تخرج فهذا لا يجوز إذا لم يتم الشهر. ولو تقاضيا شيئاً ذهب عناؤه باطلاً.

وفرق ابن يونس بأن الإسقاط بيد لا مانع له منه والدين قد يلدد فيه الغريم حتى يذهب الأجل ولم يتناقض شيئاً وحمل ابن عبد السلام كلام المصنف على أنه تكلم على مسألتين: الأولى: انتهت عند قوله: (لَمْ يَجُزْ) أي: باتفاق، وقيل: يجوز؛ إن فهمت الجعالة وفهم من قوله: (وَقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ فُهْمَتِ) قولاً آخر بالمنع وفيه تعسف. وَانْفُضْ زَيْتُونِي فَمَا سَقَطَ فَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ قال في المدونة: وإن قال له: انفض شجري، أو حركها فما نفضت أو سقط فلك نصفه، لم يجز لأنه مجهول، لأنه لا يدري ما يسقط. ابن يونس: ولو قال: انفضه كله ولك نصفه، جاز. خليل: ولو قال: القط، فما التقطت من شيء فلك نصفه، فإنه جائز ووجهه ما تقدم إذا قال: فما حصدت من شيء فلك نصفه على مذهب ابن القاسم. انتهى. واتفق على الجواز في اللقط وعلى المنع في التحريك واختلف في النفض وجعله ابن القاسم كالتحريك وجعله ابن حبيب كاللقط. ابن القصار: معناه النفض باليد وأما النفض بالقضيب فهو كالحصاد وهو بعيد، لأن النفض باليد غير معتاد. وَاعْصِرْ زَيْتُونِي فَمَا خَرَجَ فَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ وهكذا قال في المدونة: لو قال اعصر زيتوني أو جلجلاني فما عصرت فلك نصفه. ونص ابن حبيب على الجواز إذا قال: اعصر زيتوني، واحصد زرعي واطحن هذا الحب ولك نصفه، قال: وهو محمول على أنه ملك نصف الأرض حتى يصرح بخلافه.

ابن عبد السلام: وهذا على النظر في العقد إذا احتمل الصحة والفساد على ما تقدم، وتقدم أن أصل ابن القاسم المنع فلا يبعد أن يمنع ما أجاز ابن حبيب هنا. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَلَوْ قَالَ: احْصُدْهُ وَادْرُسْهُ وَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ زَرْعاً يَابِساً عَلَى أَنْ يَحُصُدَهُ وَيَدْرُسَهُ؛ لأَنَّهُ بَيْعُ حَبَّ جُزَافاً لَمْ يُعَايَنْ، بَعْدَ الْفِطَامِ .. لما تكلم على الحصاد تكلم عى ما انضم إليه عمل آخر وهو الدراس. فقال ابن القاسم في المدونة: لا يجوز ذلك، لأنه استأجره بنصف ما يخرج من الحب، لأنه لا يدري كيف يخرج كما لو باعه حباً جزافا وقد يبس على أن حصاده ودراسه وتذريته عليه، فإنه لمي جز، لأنه اشترى حباً لم يعاين تصييره. نقله ابن يونس في سماع أشهب عن مالك في من طاب زرعه وحل بيعه، فقال لرجل: احصده وادرسه على النصف لا بأس وإليه أشار بقوله: (وَقِيلَ: يَجُوزُ). وهو كما ذهب إليه ابن حبيب، أن ذلك محمول على أن له النصف الآن، على أن يحصد النصف الآخر ويدرسه لربه. وحمله اللخمي على أنه اختلاف سؤال، لأن لفظ المدونة: ولك نصف ما يخرج؛ فمقتضاه أن حصاد الجميع ودراسه على ملك صاحبه ويكون له نصف ما يخرج وذلك مجهول. والذي في العتبية إنما هو إذا قال على النصف، ولم يقل نصف ما يخرج، فكان له النصف على هيئته وهو شريك، وعلى هذا فنقل المصنف القول الثاني ليس بظاهر لأنه لم يذكر لفظه فيوهم أنه لفظ المدونة. خليل: لكن الظاهر هنا الحمل على الخلاف، لأن قوله: (وَلَكَ النِصْفُ) محتمل للنصف من الآن ومحتمل لما يخرج وقاعدة ابن القاسم أن ذلك فاسد وحينئذٍ فلا فرق بين: "فلك نصف ما يخرج" وبين: (وَلَكَ النِصْفُ) والله أعلم.

فإن قيل: لم نسب هذه المسألة لابن القاسم دون المسائل التي قبلها، مع أن الكل في المدونة؟ قيل: أجاب عن ذلك ابن عبد السلام قال لعله لابن القاسم قاس مسألة البيع مع إمكان بينهما بأن متولي العمل في الإجارة هو المشتري فكأنه ملكه من الآن بخلاف البيع فإن متولي العمل هو البائع فكأن للمشتري ما ملك إلا ما يخرج وهو جزاف غير مرئي فلهذا تبرأ المصنف من عهدته بنسبته إلى ابن القاسم. ورد بأن المعروف من عادته فيما يتبرأ منه، هو ما كان منسوباً إليهم ويعبر عنه بـ"قالوا" لا إلى واحد، والظاهر أنه نسبه إليه لوقوع الخلاف فيه فأراد أن يرجح القول الأول بنسبته له. ابن القاسم: ولو قال ذو شجرتين فقد طابت لرجل: احرصها واجنها ولك نصفها، لا بأس بذلك؛ لأنه لا بأس أن يكره نفسه بما يحل بيعه. وَاعْمَلْ عَلَى دَابَّتِي فَمَا حَصَلَ فَلَكَ نِصْفُ ثَمَنِهِ أَوْ أُجْرَتِهِ: لا تَجُوزُ بِخِلافِ الْحَطَبِ أَوِ الْمَاءِ .. يعني: أن من دفع دابته لرجل على أن لقابضها نصف ثمن ما يحتطب عليها، أو نصف أجرة ما يحمل عليها لغيره، فإن ذلك لا يجوز لجهالة الأجرة، بخلاف نصف الحطب والماء؛ أي: نصف كل نقلة، لأنه معلوم. محمد: وكذلك لي نقلة ولك نقلة، فإنه جائز. فَإِنْ نَزَلَ فَاسِداً فَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ قَالَ: وَلَكَ النِّصْفُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ذكر للمسألتين وجهين الصحة والفساد، بين حكم الفاسدة وذكر فيها ثلاثة أقوال:

الأول: أن الكسب للعامل وعليه أجرة المثل، سواء قال هو لك النصف، أو قاله صاحبها وسواء قال: اعمل لي أو لم يقل. الثاني: أن الإجارة في ذلك للعامل وعليه كراء الدابة. الثالث: الفرق إن قال ربها: اعمل ولك النصف فالكسب كله لربها وعليه كراء العامل وإن قال العالم أعطني دابتك أعمل عليها ولك النصف، فله الكسب كله وعليه أجرة [615/ ب] المثل في الدابة. والأول هو مذهب المدونة ففيها: وإن أعطيت الدابة أو السفينة أو الإبل ليعمل عليها على أن ما أصابت بينكما لم يجز؛ فإن عمل عليها فالكسب للعامل، وعليه كراء المثل هنا ما بلغ وكأنه اكترى ذلك كراءً فاسداً. اللخمي: واختلف إذا قال: اعمل عليها، فقال ابن القاسم في رواية الدباغ: ما كسب عليها للعامل وعليه إجارتها كالأول، وقال ابن الجلاب: ما كسب عليها لصاحبها، لقوله: اعمل لي، وللعامل إجارة المثل. والقول الثاني في كلام المصنف أن الكسب كله لربها مطلقاً عزيز الوجود. والذي في الجلاب إنما هو مقيد بما إذا قال: اعمل لي؛ لكن نقل ابن شعبان ما ظاهره موافق لإطلاق المصنف، فقال: ولا يدفع الكلب على نصف صيده أو غير ذلك من الأجزاء فمن فعل فالكسب للعامل، ولربه أجر مثله، وفيه خلاف وأطلق ولم أر الثالث. فرع: وأما لو دفع إليه دابة ليكريها للغير ليعمل عليها، ففي المدونة وإن دفعت إليه دابة أو إبلا أو سفينة أو حماماً على أن يكري ذلك وله نصف الكراء، لم يجز. وإن نزل كان لك جميع الكراء وله أجر مثله كما لو قلت له بع سلعتي هذه، فما بعتها به فهو بيني وبينك أو قلت له: فما زاد على مائة فهو بيننا، فذلك لا يجوز والثمن لك وله أجر مثله.

وفرق في المدونة بينه وبين الفرع السابق، بأنه في الأول أكرى ذلك كراء فاسداً وفي هذه آجر نفسه. وسوى ابن القاسم في هذا بين الدور والدواب والسفن. وفي الواضحة أن الدور والأرحية والحوانيت إذا قال قم لي عليها بنصف غلتها، فالخراج لربها ولهذا إجارة مثله وأما الدواب وآلة السفن فالكسب للعامل وعليه أجرة ذلك، لأن المستأجر في الدور وشبهها لرجل، وفي الدواب والسفن هي المستأجرة. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالإِجَارَةِ جَازَ كما لو باع له ثوباً بدرهم وينسج له ثوباً آخر ونحو ذلك. وحكى عبد الوهاب قولاً بالمنع، ووجه الأول أنها بياعات كلها، فأشبه ما لو كانا بيعتين أو إجارتين ووجه المنع أن كثيراً من الإجارة لا تنفك من الغرر، فكان عقد رخصة، فلا ينضم مع غيره كالقراض ولاختلاف ضمانها فإن ضمان المبيع من المشتري وضمان المستأجر من ربه، فكما لو جمع في عقدين بين بيع وخيار والمشهو من المذهب منع ذلك. ابن عبد السلام: وهذا إذا كانت الإجارة في غير المبيع كما مثلنا فإن كانت في نفس المبيع، كما لو باع له جلوده على أن يخرزه البائع نعالاً للمشتري ففي ذلك قول مشهور بالمنع، وكأنه يرى أن المبيع هو ما تخرجه الصنعة وذلك غير مرئي. خليل: هو قول سحنون؛ قال في النوادر: وهو خلاف قول ابن القاسم وأشهب. وَفِي الْجُعْلِ مَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلانِ أي: مع البيع والإجارة، والمشهور: المنع للتاجر؛ لأن البيع لا يجوز فيه الغرر، بخلاف الجعل، والبيع يلزم بالعقد بخلاف الجعل ويجوز الأجل في البيع بخلاف الجعل وذكر اللخمي في المسالة خلافاً، وخرج أيضاً بعضهم قولاً بالجواز من قول سحنون

الذي يجيز البيع ورد بأن المغارسة تلزم بالعقد بخلاف الجعل وإذا امتنع ضم الجعل إلى أحدهما فأحرى إلى مجموعهما، وصرح ابن عبد السلام بأن القول في ضم الجعل إلى مجموع البيع والإجارة. فَلَوْ بَاعَهُ نِصْفَ سِلْعَةٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ لَهُ نِصْفَهَا أَوْ بِأَنْ يَبِيعَ لَهُ نِصْفَهَا- فَثَالِثُهَا: إِنْ عَيَّنَ أَجَلاً جَازَ، وَرَابِعُهَا: عَكْسُهُ، وَعَلَى الصِّحَّةِ فِي التَّعْيينِ لَوْ بَقِيَ بَعْضُ الأَجَلِ حُوسِبَ وَلَوْ انْقَضَى وَلَمْ يَبِعِ اسْتَحَقَّهُ .. ذكر هذه المسألة عقب المسألة السابقة، لأنها من اجتماع الجعل والإجازة مع البيع. فإن قلت: فما الفرق بين قوله: (عَلَى أَنْ يَبِيعَ) وبين قوله: (بِأَنْ يَبِيعَ) قيل: بيع النصف في الثاني مجموع الثمن مجموع الثمن بخلاف الأول، فإن بيع النصف بعض الثمن كما لو قال له: أبيعك النصف بدينار على أن تبيع النصف الآخر، وذكر أربعة أقوال: الأول: الجواز، وهو ظاهر الموطأ قال في "بع نصف ثوب" على أن يبيع له النصف الآخر: هذا جائز. ابن لبابة: يريد ضرب أجلا أم لا في بلده أم غير بلده وله من الأجل قدر ما يباع إليه. الثاني: المنع وهو لمالك في المدونة، ففيها: روي عن مالك إن باعه نصف الثوب على أن يبيع له النصف الآخر فلا خير فيه. وفي اختصار ابن يونس لم يجز وقال: يريد وإن كان بالبلد. قيل لمالك: فإن ضرب للبيع أجلاً، قال: ذلك أحزم؛ وبه أخذ ابن المواز. والقول الثالث: إن عين أجلاً جاز وإلا فلا؛ لأن مع ضرب الأجل تبقى إجارة، وهي جائزة الاجتماع مع البيع ومع عدم ضربه فهو جعل، ولا يجوز اجتماعه مع البيع وهذا القول مذهب المدونة، وأطلق المصنف فيها وقيده في المدونة بأن يكون البيع في البلد نفسها، وأما إن كان في بلد آخر فلا يجوز.

أبو إسحاق: لأنه اشترى شيئاً بعينه لا يقبضه إلا إلى أجل بعيد وهو بلوغه البلد. والقول الرابع عكس الثالث. ابن عبد السلام: وهو بعيد جداً، ويقرب منه ما في مختصر ما ليس في المختصر: إن ضربا أجلاً فمكروه، وإن لم يضرباه فلا بأس به. قوله: (وَعَلَى الصِّحَّةِ فِي التَّعْيينِ) أي: في ضرب الأجل وتعيينه وقال وعلى الصحة في التعيين ولم يقل وعلى الثالث ليشمل القول الأول أيضاً، فإنه أجاز في الأول مطلقاً سواء ضربا أجلاً أم لا وهكذا في المدونة ففيها: وإن ضربا للبيع أجلاً فإنه يجوز، وإن باع ذلك في نصف الأجل فله نصف الإجارة وإن مضى الأجل ولم يقدر على بيع ذلك فله الأجرة كاملة. ابن القاسم في الموازية: وإن باعه نصف ثوب بعشرة على أن يبيع له النصف الآخر في شهر، فباعه في نصف شهر نظر كم قيمة بيعه في شهر، فيقال: درهمان، فكأنه باع بعشرة وبدرهمين وهو سدس الثمن فوقع الإجارة [616/ أ] بسدس الصفقة، فلما باع في نصف الأجل انفسخ في نصف الإجارة وانفسخ بذلك نصف سدس الصفقة، فيرجع بنصف سدسها وهو ربع السدس قيمة الثوب كله، يرجع كله ثمناً، أي لضرر الشركة على أصل ابن القاسم. وقال يحيى بن عمر: إن كانت السلعة قائمة كان فيها شريكاً ولم يراع ضرر الشركة. ابن عبد السلام: فإما أن يكون ذلك على أصل أشهب في هذا الباب، وإما أن يوافق ابن القاسم في الأصل وخالفه في هذا الفرع، لأن المبتاع دخل أولا على الشركة ولم يعتبر زيادتها، واعتبرها ابن القاسم.

فَإِنْ كَانَ طَعَاماً لَمْ يَجُزْ إِلا بِالتَّاجِيلِ يريد: وفي معنى الطعام: كل مكيل وكل موزون مما لا يعرف صرح به ابن يونس وغيره ولعله خصص الطعام تبعاً للمدونة. ومن أبقى الرواية على ظاهرها، وقصر الحكم على الطعام، فقد أبعد وفي المسألة ثلاثة أقوال؛ أولها: التفصيل بين ما يعرف بعينه وما لا يعرف بعينه وهو مذهب المدونة كما ذكر المصنف. والثاني في الموازية: الجواز مطلقاً؛ لأنهما دخلا على التمام وعدم النقص فما طرأ بعد ذلك فهو كالاستحقاق. وثالثها اختيار ابن المواز: المنع مطلقاً وهو الظاهر؛ لأنه قد ينتفع في بعض الأجل فيسترجع البائع مناب بقية الأجل، وذلك مؤدي إلى: تارة بيعاً وتارة سلفاً؛ لأنه لا يدري بماذا يرجع، هل بجزء من الثوب أو القيمة. وَلا يَجُوزُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِشَيْءِ مِنَ الطَّعَامِ كَانَ مِمَّا تُنْبِتُهُ الأَرْضُ أَوْ مِمَّا لا تُنْبِتُهُ وَلا بِبَعضِ ما تُنْبِتُهُ مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ والزَّعْفَرَانِ، وَيَجُوزُ بِالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَرَوَى يَحْيَى بنُ يَحْيَى: لا تُكْرَى بِشَيْءِ إِنْ أُعِيدَ فِيهَا نَبَتَ وَتُكْرَى بِمَا سِوَاهُ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: تُكْرَى بِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا لَمْ يُزْرَعْ فِيهَا إِلا الْحِنْطَةَ وَأَخَوَاتِهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تُكْرَى بِكُلِّ شَيْءٍ .. الأصل في هذا ما في الموطأ، أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المزابنة والمحاقلة. المزابنة: شراء التمر بالرطب؛ والمحاقلة: شراء الزرع بالحنطة، وكراء الأرض بالحنطة. وذكر هذا في الحديث في المدونة وزاد فقال في حديث آخر أنه عليه السلام: "نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها" وهو المخابرة التي نهى عنها في حديث آخر.

وذكر المصنف في كرائها أربعة أقوال: المشهور وهو مذهب المدونة أنه لا يجوز كراؤها بشيء من الطعام كان مما تنبته كالفول والحمص أم لا كالعسل والسمن ولا يجوز أيضاً كراؤها بما تنبته طعاماً أو غيره كالقطن ويجوز بالقصب: وهو بفتح الصاد المهملة. وهكذا قال ابن شاس وصاحب التلقين وأما الخشب فذكره في المدونة وزاد العود والحطب والجذوع قيل لسحنون في كتاب ابنه: ولم جاز كراؤها بهذه الأشياء وهي كلها مما تنبته الأرض؟ فقال: هذه الأشياء يطول مكثها ووقتها فلذلك سهل فيها. ابن عبد السلام: وقد علم أن القصب دون هذه في البعد، وقال بعضهم رعياً للمعنى الذي أشار إليه سحنون: يجوز كراؤها شهرين بشيء لا يمكن أن ينبته إلا في السنة وهو غير طعام، كجواز كرائها بالشجر. وعلل ابن الماجشون ذلك فقال: لأن الخشب ليس بزرع ونقضه الباجي بالقطن والكتان. وحكى ابن أبي زمنين عن ابن الماجشون جواز كرائها بالقطن والزعفران في أرض لا تنبت القطن ولا الزعفران والذي حكى ابن حبيب عن جماعة سواه مثل القول الأول. وفي الموازية جواز كرائها بالخضر، لكن تأوله الشيخ أبو محمد على أنه يريد الكلأ لأنه لا يزرع ولا بأس بكرائها بالماء. وقوله: (سِوَاهُ) يريد: بكل ما لو أعيد فيها لم ينبت طعاماً أو غيره وقال بهذه الرواية يحيى وابن كنانة وابن مزين وقول ابن نافع هو القول الثالث. ابن عبد السلام: ومنهم من لا يذكر فيه في الاستثناء إلا الحنطة ويسكت عما عداها ومنهم من يقول مثل قول المصنف: (إِلا الْحِنْطَةَ وَأَخَوَاتِهَا) ومنهم من يقول: إلا الحنطة والشعير والسلت؛ فعلى هذا ينبغي أن يقال: إلا الحنطة وأختها.

خليل: وعلى هذا فأخواتها من إطلاق الجمع على المثنى ويحتمل أن يضم إليها العلس على القول بضمه فيكون الجمع على بابه والقول بجواز كرائها بكل شيء حتى الحنطة لابن شعبان والأصيلي وغيرهما. تنبيه: شدد سحنون في كرائها بما يخرج منها فقال: من فعل ذلك فهو جرحة في شهادته. وتأوله محمد على من كان مذهبه المنع أو مقلدا لمن مذهبه المنع. سحنون: ولا يؤكل طعامه ولا يشتري منه من ذلك الطعام الذي أخذه في كرائها. وتأوله ابن رشد على أن ذلك من الورع وإذا نزل فإنما لربها كراؤها بالدراهم. وذكر الشيخ أبو محمد أن عيسى بن مسكين وغيره الذي يجري به أكريتهم ثمناً أصاب قليلاً أو كثيراً ولم يعتبر ما قيمة كرائها يوم العقد لأنه لا كراء لها على المكري في الأرض إذا لم يصب فيها شيئاً أصلاً من قضاة أصحابنا حكموا أن ينظر إلى ما يقع له من ذلك الجزء من ثلث أو ربع، فيعطى قيمة ذلك الجزء دراهم قالوا: لأنه لا يعرف لها بالمغرب قيمة كراء ذلك بالعين. فلذلك يعطى قيمة ذلك الجزء [616/ ب] الذي يجري فيه أكريتهم. الثَّالِثُ: الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةُ- غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ اسْتِيفَاءَ عَيْنٍ قَصْداً- مَقْدُورُ عَلَى تَسْلِيمِهَا- غَيْرُ حَرَامٍ وَلا وَاجِبَةٍ - مَعْلُومَةُ .. الركن الثالث: المنفعة: وهي عوض الأجرة وذكر المصنف أنه يشترط فيها خمسة قيود وسيتكلم على كل واحد منها واحترز بقوله: (قَصْداً) من إجارة الثياب ونحوها، فإن بعضها يذهب بالاستعمال، لكن بحكم التبع ولم يقصد بخلاف استئجار الأشجار لثمرتها ونحوه.

ابن عبد السلام: بل جعل بعضهم ذهاب شيء من العين شرطاً في جواز الإجارة ورأى أن هذا سبب كراهة إجارة الحلي بالذهب والفضة لما يؤدي إلى بيعها بأحد النقدين غير ناجز. وَفِي إِجَارَةِ الأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ: قَوْلانِ هذه تتعلق بقوله: (مُتَقَوِّمَةُ) والخلاف فيها خلاف في حال، هل هذه متقومة أم لا؟ والقولان ذكرهما ابن شاش ولم يعزهما. ابن عبد السلام: والأقرب الجواز، لأن الانتفاع بالأشجار في هذا الوجه مما يتأثر الأشجار، وبه تنقص منفعة كثيرة منها. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا تَصِحُّ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لِلتَّزَيُّنِ وَمَا لا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، وقِيلَ: يَصِحُّ إِذَا لازَمَهَا الْمَالِكُ .. يحتمل أن يعود إلى القيد الأول ويكون الخلاف خلافاً في حال: هل منفعة التزين متقومة أم لا؟ ويحتمل أن يعود للثاني وهو قوله: (غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ اسْتِيفَاءَ عَيْنٍ) لأن ذهاب عين الدنانير مقصوده والأول أولى؛ لأن بعده ما لا يصح تعلقه بالقيد الثاين وهو الخلاف في إجارة المصحف، ولأنها إذا لازمها لا تبقى هنا إذهاب عين أصلاً، وأفرد المصنف الدنانير والدراهم وإن كانا داخلين فيما لا يعرف بعينه لانفرادهما غالباً بالتزين والقول الثاني للأبهري وغيره. الباجي: ولا يخالف ابن القاسم إذا لم يغب عليها وإن كان عبد الوهاب وجه القولين، وكلام المصنف وابن شاش يأتي على طريقة عبد الوهاب، وأما طريقة الباجي فليست في المسألة إلا قول واحد. ومنع ابن العطار إجارة قدور الفخار وصحاف الحنتم بناء على عدم المعرفة ووافقه ابن الفخار في القدور وخالفه في صحاف الحنتم وقال: إنها تعرف ولا معنى لمنع إجارتها.

وَفِي إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ قَوْلانِ، بِخِلافِ بَيْعِهِ المشهور وهو مذهب المدونة: الجواز قياساً على بيعه والشاذ لمحمد وابن حبيب ونقله عمن لقيه من أصحاب مالك. ابن حبيب: والفرق بين البيع والإجارة أنه في البيع ثمن للزوم الخط، وفي إجارته ثمن القرآن. ورد بأنه إن كان مراده ثمن القرآن، أي ثمن القراءة فالقراءة فعل القارئ ولا معاوضة وإن كان مراده القرآن حقيقة فذلك أيضاً غير مبيع ولا مستأجر وإنما المبيع الرق بصفته وذلك هو المستأجر وقوله (بِخِلافِ بَيْعِهِ) أي: فإنه متفق على جوازه. وَلا يَصِحُّ فِي الأَشْجَارِ لِثِمَارِهَا وَالشَّاةِ لِنِتَاجِهَا وَلَبَنِهَا وَصُوفِهَا هذا متعلق بالقيد الثاني وهو قوله: (غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ اسْتِيفَاءَ .. قَصْداً) فلذلك لا يصح استئجار الأشجار لاستيفاء ثمارها لأن ذلك مؤد إلى بيع ثمرة قبل بدو صلاحها وكذلك الشاة للنتاج والصوف وأما اللبن فقال ابن عبد السلام وغيره والمذهب لا يمنع مطلقاً خلاف ما ذكره المصنف، لأن غاية استئجارها لذلك أن يؤدي إلى بيع اللبن وقد أجازة في المدونة إذا كان جزافاً بشرط أن تكون الغنم كثيرة كالعشرة ونحوها، وأن يكون في الإبان، وأن يعرفا وجه حلابها، وأن يكون إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله، وأن يشرع في أخذ ذلك يومه أو إلى أيام يسيرة وأن تسلم إلى ربها لا إلى غيره وإن كان على الكيل أسقطت الشرط الأول فقط وذلك؛ لأن الغالب وجود اللبن في بعضها أو كلها وعلى هذا فيحمل كلام المؤلف على ما إذا لم يكن في زمان الإبان كما في الثمرة والصوف. وَاغْتُفِرَ ثَمَرَةُ مَا فِي الدَّارِ وَالأَرْضِ الْمُسْتَاجَرَةِ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الثُّلْثِ بِالتَّقْوِيمِ لا بِمَا اسْتَاجَرَ .. لما تكلم على امتنع لأجل استيفاء العين قصداً أتبعه بما يجوز لأنه لدفع ضرر دخول المستأجر الدار لجداد الثمرة وسقيها.

وقوله: (مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الثُّلْثِ) يقتضي جواز الثلث وهكذا بلغ ابن القاسم وأما في روايته عنه فلم يبلغ بها الثلث واقتصر المصنف على هذا الشرط كما في المدونة وزاد اللخمي ثلاثة شروط وهو: أن يشترط جملتها وأن يكون طيبها قبل انقضاء أمد الكراء وأن يكون قصد باشترائها دفع المضرة في التصرف إليها. وقوله: (بِالتَّقْوِيمِ) قال في المدونة بعد طرح قيمة المؤونة والعمل فيقوم كراء الدار والأرض بغير شرط فإن قيل: عشرة قيل: فما قيمة الثمرة فيما عرف مما يطعم كل عام بعد طرحه قيمة المؤونة؟ فإن قيل: خمسة: جاز. وقوله: (لا بِمَا اسْتَاجَرَ) لأنه قد يستأجر بخلاف القيمة. خليل: وهو شبيبه على ما يفعلونه في هذا الزمان من القناطر ليوصلوا بذلك إلى بيع الثمرة قبل بدو الصلاح فيظهرون أن الأجرة كثير ثم يبرئه بعد العقد وهي حيل لا تخفى على عالم الخفيات. واستشكل اللخمي هذا التوقع بأنه أعلى من الصفة التي دخل عليها مشتريها قال: والصواب أن يقال: كم قيمتها؟ على أن سقيها على مشتريها وعلى أن المصيبة إن [617/ أ] كانت من المكتري وعلى إن جاءت على خلاف المعتاد لم يكن له مقال فقال ابن القاسم لا يرى له مقال إن احتيجت فينبغي أن تقوم على ما اشتريت عليه فإن كان الكراء بالنقد قومت الثمرة بالنقد، لأنه أبخس لقيمتها وإن كان على أنه يقبض مشاهرة قومت الثمرة على أن ما ينوبها مشاهرة وهذه المسألة في أول كتاب كراء الدور ولها فروع تركناها لعدم ذكر المصنف لها.

واسْتِئْجَارُ الْمُرْضِعِ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ عَيْناً لِلضَّرُورَةِ (اسْتِئْجَارُ) معطوف على ثمرة الدار. قوله: (وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ عَيْناً لِلضَّرُورَةِ) أي: جائز وهو ظاهر التصور كما قال المصنف. قيل: ولأن اللبن غير مقصود، لأنه تبع لقيامها بالصبي وتكلفها جميع مؤنته، ولهذا أجازوا إجارتها بالطعام وإن كان فيه طعام بطعام غير ناجز لكن التعليل بالضرورة عام في جميع صور المسألة الأولى بخلاف الثانية فإن الاستئجار قد يكون على الرضاع فقط. وقوله: (لِلضَّرُورَةِ) تعليل لها والتي قبلها واشترطوا في الأولى التبعية ولم يشترطوا في هذا، لأن دليل الأولى من جهة القواعد دليل الثاني، قوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) إلى قوله: (أُخْرَى) [الطلاق: 6]. اللخمي: ويشترط حضور الصبي ليرى سنه فإن كان غائباً لم يجز إلا أن يذكر سنه، لأن الرضاعة تختلف، فليس رضاع ابن شهرين كرضاع ابن سنة وإن جربت رضاعه لأنه قال: هي الظئر تستأجر لرضاع صبيين فمات أحدهما تنفسخ الإجارة لاختلاف الرضاع، لأنها لو استأجرت نفسها لتجد أجر مكان الميت لم يدر هل رضاعه كالميت أم لا؟ وظاهره التخريج وحكاه المتيطي عن سحنون صريحاً. وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وإن فعلت ذلك بغير إذنه فله أن يفسخه لما يلحقه في ذلك من الضرر بتشاغلها عنه وتغيير حالها ولا سيما إن كانت خدمته عليها. وَفِي مَنْعِهِ مِنَ الْوَطْءِ قَوْلانِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ ضَرَرُ الصَّبِيِّ مُنِعَ يعني: إذا أذن لها في الإجارة أو أجازها، فهل يمنع من الوطء وهو مذهب المدونة أو يجوز له؟ وهو قول أصبغ بشرط عدم مضرة الصبي وألا يشترط عليه تركه، أما إن

تبين ضرره منع واحتج أصبغ بقوله عليه السلام: "لقد هممت أن أنهى الناس عن الغيلة .. " الحديث. وأجيب بأن ليس لكل مباح يتناوله عقد الإجارة واختار ابن حبيب واللخمي الأول وحمل ابن القاسم استئذانه لأجل حقه في الإصابة وجعل أصبغ استئذانه لأن له المنع لما يلحقه من المعرة والمضرة وأقاموا مما في المدونة أنه إذا خالعها على رضاع ولده أنها لا تتزوج، وأن له منعها من ذلك لأن اللبن مشترى فيهما. فروع: الأول: ابن عبد الحكم: وإن أراد الزوج السفر بها لم يكن له ذلك إن أجرت نفسها بإذنه، وإن كان بغير إذنه فله ذلك وتنفسخ الإجارة. الثاني: إذا حملت الظئر فخيف على الولد انفسخت الإجارة ولا يلزمه أن تأتي بغيرها يرضعه، قاله في المدونة وهل يجوز أن تأتي بالغير إن نقد لها الأب والأجرة؟ لم يجز، لأنه فسخ دين في دين على أصل ابن القاسم وإلا جاز. وإذا فسخناه لحمل الظئر فقال ابن عبد الحكم: لو كانت تكملة الأجرة لم تحبس فيها لأنه طوع. الثالث: قال في المدونة: ترضعه حيث اشترطوا فإن لم يشترطوا شيئاً فشأن الناس الرضاع عند الأبوين إلا امرأة لا يرضع مثلها عند الناس أو يكون الأب وضيعاً لا يرضع مثلها عنده فذلك لها. الرابع: قال في المدونة: وإن سافر الأبوان فليس لهما أخذ الصبي إلا أن يدفعا إلى الظئر جميع الأجرة.

الخامس: قال في المدونة: وإذا مرضت مرضاً لا تقدر معه على رضاع فسخت الإجارة، ولو صحت في بقية منها أجبرت على الرضاع في بقيتها، ولها من الأجر بقدر ما أرضعت، وليس عليها أن ترضع ما مرضت. قال غيره: إلا أن يكون الكراء انفسخ بينهما فلا تعود. واختلف: هل قول الغير وفاق أو خلاف؟ والقولان منصوصان في غير المدونة وأما إن تزوجت وأقامت في زوجها فللأب أن يفاسخها فإن فاسخها لمرض أو سجن يطول ثم قامت أو خرجت بالقرب فاخلتف في إمضاء الفسخ أو رده، قيل: وتفسخ إجارة الظئر بأربعة شروط: بموتها، ومرضها وحملها وموت الصبي، قال في المعين: وكذلك إن سجنت في حقو خيف طول سجنها، وإن مات زوجها باتت في بيتها فلأب الصبي أن يفاسخها. السادس: قال في المدونة: وإن واجرها على رضاع صبي لم يكن لها أن ترضع غيره معه. وَلا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَرْضٍ لِلزَّرَاعَةِ وَمَاؤُهَا غَامِرُ وَانْكِشَافُهُ نَادِرُ هذا شروع منه فيما يتعلق بالقيد الثالث وهو قوله: (مَقْدُورُ عَلَى تَسْلِيمِهَا). (وَمَاؤُهَا غَامِرُ) جملة حالية وكذلك قوله: (وَانْكِشَافُهُ نَادِرُ). ومعنى (غَامِرُ) كثير. الجوهري: وقد غمره الماء يغمره إذا علاه. ومذهب المدونة خلاف ما ذكره المصنف ففيها: وإن أكريت منه أرضك الغرقة بكذا إن انكشف عنها الماء وإلا فلا كراء بينكما؛ جاز إذا لم ينقد ولم يفرق بين أن يكون انكشافه نادراً أم لا.

قال في المدونة: وقال غيره إن خيف ألا ينكشف لم يجز وإن لم ينقد. ابن عبد السلام: هذا شاذ والأول [617/ ب] هو مختار غير واحد. ووقع في بعض النسخ عوض (غَامِرُ) (غَائِرُ) ولعله يوافق ما في الموازية فيمن اكترى أرضاً ولها بئر لا تكفي، أن الكراء فاسد وإن لم ينقده، لأنه خاطر على أمر لا يدري أيتم أم لا يتم. ابن يونس: وظاهر المدونة كراهة النقد في ذلك خاصة والأشبه أن ذلك لا يجوز. وَأَمَّا أَرْضُ النِّيلِ وَالْمَطَرُ الْغَالِبُ عَادَةً فَتَصِحُّ إِجَارَتُهَا وَالنَّقْدُ فِيهَا، وَقِيلَ: لا يُنْقَدُ فِي أَرْضِ الْمَطَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوِ اسْتَوَى الاحْتِمَالانِ فِي انْكِشَافِ الْمَاءِ جَازَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لا يَجُوزُ .. الخلاف في جواز العقد لا في جواز النقد فقوله: (جَازَ) أي: العقد. ابن راشد: والقول الثاني أظهر، لأن هذه الأرض لا ينتفع بها والأصل فيها عدم الجواز حتى يغلب على الظن إمكان الانتفاع بها وقد تقدم أن ابن القاسم أجاز العقد بالنسبة إلى أرض ماؤها غامر وانكشافها نادر وإذا أجاز ذلك عنده فهذه المسألة أحرى ولهذا قال صاحب المقدمات: تحصيل مذهب ابن القاسم جواز العقد كانت أرض مطر أو نيل وغيرهما، مأمونة كانت أم لا. وأما تحصيل مذهبه بالنسبة إلى جواز النقد ووجوبه فما كان من الأرض مأموناً كأرض النيل أو المطر أو السقي بالعيون الثابتة والآبار المعينة فالنقد فيها الأعوام الكثيرة جائز، وما كان منها غير مأمون فلا يجوز النقد فيه إلا بعد أن تروى ويتمكن من الحرث كانت من النيل أو المطر أو السقي بالعيون أو الآبار. وأما وجوب النقد فيجب عنده في أرض النيل إذا رويت إذ لا يحتاج إلى غير ذلك، وأما غيرها فلا يجب النقد فيها عنده حتى يتم الزرع وتستغني عن الماء، ووافقه ابن

الماجشون إلا في أرض السقي المأمونة فيجعلها كأرض النيل يجب النقد فيها إذا رويت. وعلى مذهب ابن الماجشون فالأرض بالنسبة إلى جواز النقد فيها على أربعة أقسام: أرض النيل المأمونة فيجوز فيها الكراء بالأعوام الكثيرة بالنقد أو غير النقد قرب إبان شربها أو ريها أم لا. وأرض السقي بالعيون لا يجوز عنده كراؤها إلا لثلاثة أعوام أو أربعة، ولا ينقد إلا سنة؛ يريد أنهي نقد السنة الثانية قبل تمام الأولى بيسير إن لم ترو الأرض. قاله في الواضحة. وأما أرض المطر فلا يجيز الكراء فيها حتى تروى رياً مبلغاً له أو لأكثره مع رجاء مطر غيره. انتهى باختصار. وَتَصِحُّ إِجَارَةُ الرَّقَبَةِ وَهِيَ مُسْتَاجَرَةُ أَوْ مُسْتَثْنًى مَنْفَعَتُهَا مُدَّةً تَبْقَى فِيهَا غَالِباً يعني: ليس من شرط الإجارة قبض المنفعة في الحال، بل يجوز لربها إذا كانت الرقبة مستأجرة أن يؤاجرها من آخر بعد مدة الأول وكذلك يجوز له أن يؤاجرها إذا كان مستثنى منفعتها وصورتها أن يشتري إنسان شيئاً، فيستثني بائعه منفعته مدة معينة تبقى فيها الرقبة غالباً فللمشتري أن يؤاجرها ليقبضها المستأجر بعد المدة التي استثناها البائع والمشهور جواز النقد على منفعة عبد أو دابة تقبض بعد شهر، وإنما يمنع شرط النقد خاصة. وقال غير ابن القاسم: يمنع عقد الكراء على مثل هذا. وقيد محمد الأول بما إذا لم تكن الدابة في سفر. ففي المدونة: ومن اكترى داراً على أن لا يقبضها إلى سنة جاز ذلك وجاز النقد فيها لا منها، فإن بعد الأجل جاز الكراء ولا يجب النقد فيه.

وَالنَّقْدُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِهَا، وَاسْتُخِفَّ فِي الْعَقَارِ سِنينَ، وَاسْتُكْثِرَ فِي الْحَيَوَانِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ .. (فِيهَا) أي في الرقبة المستأجرة. (يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِهَا) فإن كانت الرقبة يؤمن بقاؤها وعدم تغييرها جاز النقد فيها وإلا فلا، ولهذا (وَاسْتُخِفَّ فِي الْعَقَارِ سِنينَ) أي: أنهم أجازوا النقد شرطاً في العقار على أن يقبض إلى سنين ولم يجيزوا ذلك في الحيوان إلا القصيرة كعشرة أيام. فإنقلت: هلا حملت كلامه على مقدار أمد الإجارة الذي يكون قبض الشيء المستأجر بعده، قيل: لو حملناه على ذلك لأقصرنا أمد الإجارة على عشرة أيام في الحيوان إلا عشرة أشهر، بل يجوز أكثر من ذلك. نعم المختار عند المتأخرين التفرقة بين الحيوان والرباع والثياب ويفرق أيضاً في الرباع بينا لقديم والحادث منهما وإن كان المتقدمون لم يفصلوا في ذلك ولكن لم يذهب أحد منهم إلى استكثار عشرة أيام في الحيوان. وذكر اللخمي في أمد إجارة العبد ثلاثة أقوال: أجاز في الموازية العشر سنين بالنقد، وفي المدونة خمس عشرة سنة، ومنعه ابن القاسم في العشر. اللخمي: وأرى أن ينظر إلى العقد فقد يكون شاباً وقد يكون شيخاً. وَيَصِحُّ بَيْعُهَا إِلَى مَا يُنْقَدُ فِيهِ يعني: ويصح بيع الرقبة على أن تبقى بيد بائعها إلى ما يجوز النقد فيه في الإجارة، إما لكونه آجرها أو لينتفع بها، فيستكثر في الحيوان عشرة أيام ويستحب في العقار السنون. ابن راشد: وأجاز ابن القاسم استثناء منفعة الأرض عشرة أعوام وأجاز المغيرة السنين الكثيرة وأجاز ابن القاسم سكنى الدار بينه وبين العام ولم يجز أكثر من ذلك لما يخشى من تغييرها وأجاز ابن حبيب السنين وقيل: تجوز السنة ونصف السنة [618/ أ].

وروى سحنون: ثلاثة أعوام، وروي عن ابن القاسم في الموازية جواز استثناء سكنى عشرة أعوام والخلاف خلاف في حال ولا نفقة فإن كانت المدة لا تتغير فيها غالباً جاز. وَلا يَجُوزُ اسِتِئْجَارُ حَائِضٍ عَلَى كَنْسِ مَسْجِدٍ هذا يتعلق بقوله غير حرام وكلامه مقيد بما إذا كانت هي تكنس وأما لو كانت الإجارة متعلقة بذمتها فيجوز، وكذلك أيضاً عكس هذه المسألة: لو آجر المسلم نفسه لكنس كنيسة ونحو ذلك، أو آجر نفسه ليرعى له الخنازير أو ليعصر له خمراً. مالك: ويؤدب المسلم إلا أن يعذر بجهالة واختلف قول مالك هل تؤخذ الأجرة من الكافر ويتصدق منها أو لا؟ ابن القاسم: والتصدق بها أحب إلينا وللشيوخ خلاف فيمن باع داره أو آجرها لمن يتخذها كنيسة، هل يتصدق بالثمن كله أو الكراء أو إنما يتصدق بفضلة الكراء، أو يفرق فيتصدق في البيع بالفضل، وفي الكراء يتصدق بالجميع؟ ابن يونس: وبالثالث أقول. وَلا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ عَلَى عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَيْهِ كَالصَّلاةِ والصِّيَامِ وتَقَدَّمَ الْحَجُّ وهذا يتعلق بقوله: (وَاجِبَةٍ) واحترز بقوله: (مُعَيَّنَةٍ) مما على الكفاية كغسل الميت ونحوه. واعلم أن العبادة المعينة قد لا تكون واجبة كالوتر وركعتي الفجر، فلا يصح الاستئجار عليها. فكلامه هذا أحسن من قوله أولاً: (وَلا وَاجِبَةٍ) ولم تجز الإجارة هنا لأن من شرط العقد على المنفعة، أن تحصل المنفعة للمستأجر وإذا استأجره على أن يصلي ما وجب عليه أو يصوم عنه لم تحصل المنفعة للمستأجر.

وقوله: (وتَقَدَّمَ الْحَجُّ) أي: في الحج. بِخِلافِ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَحَفْرِ الْقَبْرِ فإن الإجارة عليهما جائزة. وَفِي الإِمَامَةِ ثَلاثَةُ: لابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ حَبِيبِ وَغَيْرِهِمَا- ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَلَى انْفِرَادِهَا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَعَ أَذَانٍ وَالْقِيَامُ بِالْمَسْجِدِ جَازَ. وَفِيهَا: وَتَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الأَذَانِ وَالصَّلاِة مَعاً .. الجواز لابن عبد الحكم ورأى أن الإجارة على ملازمة الموضع لا على نفس الصلاة. ابن يونس: وهو القياس. والمنع لابن حبيب قال: لا تجوز الإجارة على أذان ولا صلاة. والثالث تصوره من كلام المصنف ظاهر وهو مذهب المدونة وبه العمل ولو قال المصنف إن كانت مع غيرها جاز لكان أحرى على قاعدته لأنه خالف هنا الغالب من عادته إذ لم يجعل صدر الثالث هو القول الأول. ابن راشد: وروى ابن زياد عن مالك الجواز في الفرض دون النفل. المتيطي: ذكر الطلمنكي في كتابه وروى ابن الماجشون عن مالك إجازة الأجرة في قيام رمضان وقال: هو مثل المؤذن ومعلم القرآن قال فيها في الصلاة: وتجوز الإجارة على الأذان؛ يعني بخلاف الصلاة يفردها. وفيها في آخر الصيام: ولا يؤم أحد بإجارة في رمضان ولا في الفرائض. وفي الجعل: وكره مالك الإجارة في الحج وعلى الإمامة في الفرض وفي قيام رمضان. ابن عبد السلام: وحيث نسب إلى المدونة المنع فهل هو على الكراهة كما في هذا المواضع، أو على التحريم؟ وحمل الكراهة فيه تردد.

خليل: الراجح الحمل على الكراهة، وهو الذي نص عليه صاحب النكت وابن يونس، ولو كانت ممنوعة عنده لما جاز الإجارة على الأذان والصلاة لاشتمال الصفقة حينئذ على حلال وحرام. ابن يونس: واختلف شيوخنا إذا اوجر على الأذان والصلاة ثم تعطل عن الصلاة لأمر عرض له، هل تسقط حصة ذلك من الإجارة بناء على أن الاتباع حصة من الثمن أم لا؟ والظاهر الإسقاط وهو اختلاف اللخمي وصاحب النكت. تنبيهات: الخلاف الذي ذكره المصنف، إنما نقله المتقدمون في الذي يأخذ الأجرة من الناس الذين يستأجرونه على ذلك من أموالهم، والظاهر أن ما يؤخذ من بيت المال والأحباس أخف وأن قصارى أمره الكراهة ولا ينتهي إلى التحريم وذكر القرافي أن ما يؤخذ من بيت المال متفق على جوازه، قاله ابن عبد السلام. الثاني: المتيطي: ويحسب على الإمام الكثير من مرضه أو مغيبه دون القليل، وأما إن غاب الجمعة ونحوها فلا بأس بذلك ولا يحط من أجرته شيء، قاله غير واحد من القرويين. الثالث: وليس لأهل المسجد ولا لبعضهم بعد الاتفاق على الرضا بالإمام أن يخرجوه ولا يتأخروا عن الصلاة خلفه، إلا أن يثبتوا عند الحاكم ما يجرحه، لكن يكره للإمام إذا كره الأكثر من الجيران الصلاة خلفه أن يصلي بهم وهم يكرهونه ولكن لا يقضي عليه. ابن مغيث في وثائقه: وذلك إذا استأجره صاحب الأحباس، وأما إن استأجره الجماعة فلهم تأخيره من غير إثبات جرحة.

الباجي: ونزلت بإشبيلية سنة ثمانين وثلاثمائة في إمام اختلف الجيران عليه وكره بعضهم الصلاة خلفه وقال أحمد بن عبد الله: إن قام من الجيران النفر اليسير فلا يؤخر الإمام عن الصلاة إلا أن يثبتوا عليه جرحة وإن قام الجيران يجمعون أو جلهم فإنه يمنع من الصلاة بهم لما جاء: "لا يصلي الإمام بقوم وهم له كارهون". وهكذا [618/ ب] ذكر ابن حبيب فيها؛ وشاور قاضي قرطبة الفقهاء فقال عمر بن أحمد بن عبد الملك وتابعه عليه غيره كذلك فحكم به وإن كان غير القائمين القليل من الجيران وهم أهل العدالة والخير والقائمون ليسوا كذلك فلا يلتفت إليهم. وَكُرِهَ إِجَارَةُ قُسَّامِ الْقَاضِي هذا إن كان لهم رزق في بيت المال وتقدمت هذه المسألة ولعل الكراهة أن معظم القسمة علم لا عمل ولأنه وكيل على الناس فكان كالقاضي. وَلا بَاسَ بِمَا يَاخُذُهُ الْمُعَلِّمُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَإِنْ اشْتَرَطَ شَيْئاً مَعْلُوماً جَازَ .. لما في الصحيح: "إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله". وقوله: (وَإِنْ اشْتَرَطَ) مبالغة. وقوله: (وَإِنْ اشْتَرَطَ شَيْئاً مَعْلُوماً جَازَ) يعني: سواء كان ذلك المعلوم كل شهر ونحوه بكذا أو على الحذاق. ابن الجلاب: وقيل: لا يجوز إلا مشاهرة ونحوها ولا يقضى للمعلم بهدايا الأعياد والجمع، وهل يقضى بالحذقة؟ وهي الإصرافة إذا جرى به العرف؟ وهو قول سحنون أولا وهو قول أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم وليس فيها شيء معلوم وهي على قدر حال الأب. وإذا بلغ الصبي ثلاثة أرباع القرآن لم يكن لأبيه إخراجه ووجبت الحذقة للمعلم ووقف في الثلثين.

فرع: قال في المدونة: وأكره الإجارة على تعليم الفقه والفرائض كما يكره بيع كتبها، وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنحو أو على كتابة ذلك أو إجارة كتب فيها ذلك، وبيعها وكره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف بالغناء. عياض: معنى نوح المتصوفة: أناشيدهم ورواه بعضهم نحو وهو غلط. واختلف في الاستئجار على تعليم الفقه كالاختلاف في بيع كتبه، ومنع ابن القاسم الاستئجار على تعليم النحو والشعر. وأجاز أصبغ وابن حبيب الإجارة على تعليم الفقه والنحو وتعليم الرسائل وأيام العرب، وأما تعليم الغناء والهجو فلا يختلف في منعه. وَلابُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَنْفَعَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَا تَقَعُ الْمُشَاحَّةُ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عُرْفُ وَتُقَيَّدُ هذا شروع منه فيما يتعلق بالقيد الآخر وهو قوله: (مَعْلُومَةُ) أي: لا بد من بيان جنس المنفعة لينتفي الغرر كما إذا أكرى دابة ليحمل عليها أو ليركبها ما لم يكن عرف كحمير المكارية عندنا بمصر فإنه جاز في ركوبها. (وَتُقَيَّدُ) هو بالتاء من فوق وفتح القاف لما لم يسم فاعله؛ أي: وتقيد المنفعة بزمان أو مكان، وهو يرجع إلى بيان قدرها. وفي بعض النسخ: (ويقيد) - بالياء- فيكون صفة للعرف؛ ليحترز بذلك من عرف ليس بمنضبط. وفي بعضها: (وتقيد) مصدر من قيد. فَإِنْ كَانَ اسْتِصْنَاعاً فَبِالزَّمَانِ أَوْ بِمَحَلِّ الْعَمَلِ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فَسَدَ .. هذا بيان كيفية تقييد المنفعة وذكر أنه إذا كان العمل المستأجر عليه صنعة فإنها تقيد بالزمان أو بالمحل، فخياطة ثوب مثال لما يقيد بمحل العمل، واليوم مثال لما يقيد بالزمان.

وإن جمع بينهما- بأن قال: خط هذا الثوب في هذا اليوم بدرهم- فسد. وهذا في الجواهر، وعلله فقال: لأنه ربما تمم العمل في اليوم أو بعده. وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في ذلك بين أن يمكن أن ينقضي الأجل قبل تمام العمل أم لا، فأما إن كان محتملاً فقال التونسي وابن رشد: لا خلاف أن ذلك لا يجوز. وقال في البيان: واختلف إذا كان الإشكال في أن العمل يمكن إتمامه قبل انقضاء الأجل، فالمشهور أنه لا يجوز وهو موافق لإطلاق المصنف. وقيل: يجوز. وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى، وقول ابن حبيب. وظاهر ما في العتبية دليل قوله في المدونة فيمن استأجر ثوراً على أن يطحن له كل يوم إردبين فوجده لا يطحن إلا إردباً، أن له أن يرده ويعطي في الإردب ما ينوبه ولم تنفسخ الإجارة. وقال اللخمي: إن لم يدر هل يفرغ العمل في تلك المدة لم يجز. واختلف إذا كان الغالب أنه يعمله فيه فقيل: ذلك جائز. وقيل: لا يجوز. وقال ابن عبد السلام: الذي قاله من أرضى من الشيوخ في تعيين المشهور فمنهم من عينه في المنع ومنهم من أشار إلى أنه الإباحة واحتج بمسألة الثور. فرع: فإن وقعت الإجارة على الوجه الفاسد فقال ابن القاسم: له إجارة المثل ولا ينظر إلى المسمى لأنه فاسد، واختار اللخمي الصحة، قال: لأن الغرض أن يسرع بالعمل تلك المدة وإن تأخر وخاطه بعد المدة نظر إلى خياطته على أن يسرع في ذلك الأجل وعلى أن يخيطه في الوقت الذي خاطه فيه فيحط من المسمى بقدره. اللخمي: وإن يضرب أجلاً في أصل العقد ثم قال: عجله لي اليوم وأزيدك نصف درهم، فقال ابن القاسم: لا بأس به، ولم يره مثل الرسول يزاد لسرعة السير وقال محمد: لا بأس به في الرسول.

وَفِي التَّعْلِيمِ بِالزَّمَانِ أَوْ بِحَصْرِ مَا يُعَلَّمُ وتضبط المنفعة في التعليم، تعليم قرآن أو غيره بالزمان لكل شهر كذا أو بحصر ما يعلم كربع القرآن وقد تقدم أن هذا هو المشهور. وفي الجلاب قول: أنه لا يجوز إلا على مدة معلومة. ابن عبد السلام: ولابد من اختبار حال المعلم إن كانت الإجارة على تعليمه جزءاً من القرآن أو مقدار الصنعة [619/ أ] لسرعة الحاذق وبطء تعليم البليد. وَيَلْزَمُ تَعْيينُ الرَّضِيعِ وَالْمُتَعَلِّمِ بِخِلافِ غَنَمٍ وَنَحْوِهَا يحتمل ويلزم تعينها عند عقد الإجارة لاختلاف الصغير في الرضاعة وفي التعليم بحسب الذكاء والبلادة وقد تقدم أن اللخمي قال: لو وصفوا سنه من غير اختبار رضاعة وصناعة جاز عقد الإجارة، وعلى هذا الوجه لا يكون في كلامه التصريح بأن هذين الصبيين إذا ماتا لا يزلم آباؤهما الخلف نعم يؤخذ منه بطريق اللزوم لأنه يلزم من التعيين الفسخ ويحتمل أن يريد بتعيينهما أنهما لو ماتا قبل انقضاء مدة الإجارة انفسخت الإجارة ولا يلزم آباؤهما خلفهما بل نص الباجي على أنه لا يجوز العقد فيهما على مضمون وهذا هو المشهور عن سحنون أنه يلزم الأب خلف الرضيع وأجراه على القاعدة: أن ما تستوفي به المنفعة لا تنفسخ الإجارة بهلاكه. والاحتمال الأول أولى، لأنه أقرب إلى لفظه؛ لأنه سيتكلم على الانفساخ فعورضت مسألة الرضيع ها هنا بما ذكره في المدونة في البيوع الفاسدة إذا باع أمة ولها ولد رضيع وشرط عليهم رضاعه ونفقته سنة، قال: إن مات الصبي أرضعوا له آخر. وفرق ابن يونس بأن مسألة البيع الغرر فيها تبع بخلاف الإجارة كقول مالك في بيع لبن شاة جزافاً فإنه لا يجوز، وأجاز كراء ناقة شهراً واستثنى حلابها وأصل ذلك من بيع

الثمرة قبل بدو صلاحها إذا انفردت وكان يغمز مسألة البيع وقال: لا يجوز هذا البيع إلا على وجه الضرورة لأن المبتاع ربما يحتاج إلى أن يظعن بها فيكلف الصبي المؤونة لا يدري قدرها وذلك غرر. وقيل: إنما يجوز بيع هذه الأمة إذا كان الرضاع مضموناً على مشترى الأمة لا في هذا الصبي بعينه، لأنه في هلاكه يسقط فلذلك يحتاج أن يكون مضموناً ليكون ما في المدونة ثابتاً في كل حال، وأما الرضاع في غير الأمة فلا يجوز أيضاً لأن المشتري يصير غير قادر على التصرف فيها فيكون كمن اشتراها على ألا يبيعها إلا إلى سنة. ابن يونس: وقد يقال: وقد يقال علي بيعها ويشترط على المبتاع الرضاع أيضاً. ولمالك في العتبية فيمن باع جارية وشرط أن ترضع ابنا له سنة: أنه لا خير فيه وقيل له: فإن اشترط أن يأتي بغيرها قال: لا يعجبني. قوله: (بِخِلافِ غَنَمٍ وَنَحْوِهَا) أي: فلا يلزم تعيينها ويلزم خلفها إن هلكت. فَلَوْ عَيَّنَهَا وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْبَدَلَ فَفِي تَعْيينِهَا قَوْلانِ ظاهره صحة العقد مع عدم شرط الخلف، وإنما يختلف في تعيينها ففي التعيين لا يجب خلف الماشية إذا هلكت وعلى ضده العكس. وقد ذكر اللخمي هذين القولين فقال: قيل: الأجرة جائزة ويخلف غيرها إن أصيبت ولا تتعين وقيل جائزة وتتعين لئلا يتكلف رب الماشية البدل. والقول الأول لأشهب وابن الماجشون وسحنون وأصبغ وابن حبيب ومذهب المدونة خلاف القولين وهو أنه لا يصح العقد إلا باشتراط الخلف فإن لم يشترط الخلف فسد العقد وعلى هذا فكلام المصنف في هذه المسألة ليس بظاهر، إما أولاً: فلتركه مذهب المدونة.

وإما ثانياً: فلأن كلامه يوهم صحة العقد باتفاق. وإنما الخلاف في تعيينها خاصة. وفي المسألة قول رابع: يجوز العقد من غير اشتراط الخلف إن قرب الزمان لا إن بعد؛ حكاه اللخمي واختار قولاً خامساً بالجواز فيما قرب، بعد التحجير على رب الماشية في البيع. تنبيه: الأكثرون فهموا المدونة على ما ذكرنا، ورجحوا قول ابن الماجشون ومن وافقه. وفهم الباجي أن المذهب على ما قاله ابن الماجشون وأن شرط الخلف الذي ذكره في المدونة إنما أراد به رفع اللبس عند العقد لأن العقد يفسد عند عدم الشرط وهو بعيد من لفظ المدونة لأن فيها: فإن كانت بأعيانها فلا تجوز الإجارة حتى يشترط أنه إن ماتت أو باعها أخلف غيرها. وَتُحْمَلُ فِي الدَّهَانِ وَغَسْلِ الْخِرَقِ وَغَيْرِهِ عَلَى الْعُرْفِ، وَقِيلَ: عَلَى الظَّئْرِ قوله: (وَتُحْمَلُ) أي الظئر ويحتمل الإجارة هذا إن كان تحمل بالتاء المثناة من فوق وإن كان بالياء المثناة من تحت فيحتمل عوده على الأب وعلى العقد. وقوله: (وَغَيْرِهِ) يعني: تحميمه ودق ريحانه ونحو ذلك على العرف، فإن اقتضى أنه على الظئر فعليها وإن اقتضى أنه على الأب فعليه هذا مذهب المدونة ولم يصرح فيها بالحكم إذا لم يكن عرف. نعم، نص ابن حبيب على أنه مع عدم العرف على الأب. وقوله: (وَقِيلَ: عَلَى الظَّئْرِ) أي: مع عدم العرف؛ لأن العرف محل اتفاق وهذا القول لابن عبد الحكم ولعل المصنف حمل المدونة على قول ابن حبيب، فلهذا ذكر هذا القول مقابلاً له لأن كلامه يوهم أن هذا القول مخالف مع ثبوت العرف.

و (الدَّهَانِ) بفتح الدال مصدر؛ أي: فعل الدهان؛ لأنه محل للقولين، وهكذا ضبط عياض "دهنه" الواقع بفتح الدال؛ لأنه إنما أراد هنا الفعل، يعني: وأما "الدهان" بالكسر فهو اسم لما يدهن به، نص عليه الجوهري، وهو على الأب باتفاق. ابن عبد الحكم: فأما ما ترقد فيه الظئر من لحاف [619/ ب] وفراش فذلك على ما تعارفه الناس فإن لم يكن عرف فذلك عليها ويكون على الأب لحاف الصبي ودثاره وما يرقد فيه. وَتُعَيَّنُ الدَّارُ وَالْحَانُوتُ وَالْحَمَّامُ وَشِبْهُهُ لما تكلم على استئجار الآدمي شرع في ذكر العقار ولابد من تعيينه ولا يصح أن يكون في الذمة إذ لابد من ذكر موضعه وحدوده وهذا بخلاف الدواب والسفن فإن الإجارة تكون فيها معينة وفي الذمة وسيأتي الكلام على الدواب. وَتُقَيَّدُ بِمُدَّةٍ تَبْقَى فِيهَا غَالِباً، وَيَنْقُدُ إِنْ كَانَ لا يَتَغَيَّرُ غَالِباً. يعني: في تقييد مدة الإجارة في العقار بمدة تبقى فيها العقار غالباً، فالأرض آمن من الديار وكذلك الجديد آمن من القديم والضابط في الجميع ما ذكره المصنف. المتيطي: الذي جرى به العمل من الحكم كراء الرباع لعشر سنين وخمسة عشر وعشرين وأزيد ولا بأس بتعجيل الوجيبة كلها، ومذهب ابن حبيب أن الكراء في الرباع جائز إلى سنين كالبيع وإن بعد فلا بأس به دون النقد. قوله: (وَيَنْقُدُ .. إلخ) ظاهر التصور، لكنه مقيد بما إذا كانت ملكاً للمكري أو ملك منافعها حياته، ففي النوادر عن مالك: لا بأس أن يكريها مدة قريبة وينتقد ولا يكريها كثيراً. ابن القاسم: والقليل السنة ونحوها. وقال ابن ميسر: لو أكراها ثلاث سنين أو أربعاً لم أر به بأساً.

ابن يونس: وأما إن لم ينقد فجائز، لأنه كلما عمل أخذ بحسابه وذكر ذلك في العبد ولا فرق، وصرح بذلك المتيطي في الدور. وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ سَنَةٍ جَازَ كَالأَشْهُرِ مِنَ السَّنَةِ يعني: ويجوز عقد الكراء على سنين بكذا وإن لم يسم لكل سنة شيئاً، كما يجوز أن يستأجر منه سنة بكذا وإن لم يعين لكل شهر شيئاً وكان المقصود من شهور السنة: بعضها، كما أشار إليه في المدونة في دور مكة ويرجع إلى التقويم عند حصول مانع كما يجوز جمع سلع مختلفة في البيع. وقوله: (جَازَ) يفهم منه أيضاً الجواز مع التسمية من باب أولى، فهو مفهوم موافقة. فرع: ثم إن شرط الرجوع- إن طرأ مانع- إلى القيمة دون التسمية لحل اتفاقاً وإن شرط الرجوع بالتسمية امتنع اتفاقاً وإن دخلا على المكث فمذهب ابن القاسم وروايته في المدونة أن التسمية لغو ويقتضي بالقيمة وهو قول سحنون وأصبغ ولمالك في العتبية أن الكراء فاسد وذكر ذلك في البيان. وزعم ابن عبد السلام أن في كلام المصنف ما يوهم أنهما إذا سميا لزمته التسمية عند استحقاق ورد بأنه ليس مفهوم موافقة ولا مخالفة. أَوْ تُقَيَّدُ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ بِكَذَا فَتَصِحُّ وَلا يَلْزَمُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ فِي الْمَذْكُورِ لما قدم الكلام على كراء الوجيبة شرع في الكلام على كراء المسابقة والمشاهرة، قوله: (أَوْ تُقَيَّدُ) معطوف على قوله: (وَتُقَيَّدُ بِمُدَّةِ) قوله: (فَتَصِحُّ) أي الإجارة ولا يلزم كل واحد من المتعاقدين في المذكور سواء سكن بعضه أم لا، وهذا مذهب ابن القاسم، وروي عن مالك في المدونة.

وروى مطرف وابن الماجشون: أنه يلزمه أقل ما سميا، فإن قالا: كل شهر بكذا لزم في شهر، وإن قالا، كل سنة بكذا لزم في السنة. وبه قال ابن حبيب واختاره اللخمي، قال: لأنهما أوجبا بينهما عقداً ولم يجعلا فيه خياراً، فوجب أن يحملا على أقل ما تقتضي التسمية. واختار ابن يونس المشهور قال: لأنه كأنه قال: أكريتك من حساب الشهر والسنة بكذا. وفي المسألة قول ثالث: لا يلزمه شيء كالقول الأول حتى يشرع في السكنى فيلزمه أقل ما سميا كالقول الثاني وهو أيضاً مروي عن مالك. ولكراء الوجيبة ألفاظ؛ الأول أن يقول: أكريتك هذه الدار أو الحانوت شهر كذا أو سنة كذا. والثاني: أن يقول: أكريتك هذا الشهر وهذه السنة. والثالث: أن يسمي العدد فيما زاد على الواحد فيقول سنتين أو ثلاثاً. والرابع: أن يقول: أكري منك إلى وقت كذا واختلف إذا قال: أكري منك سنة بكذا أو شهراً بدرهم فحمل أكثرهم كابن لبابة وغيره المدونة على أنه وجيبة وذهب أبو محمد إلى حمل المدونة على أنه غير لازم، كما إذا قال: اكتري كل سنة بكذا أو السنة بكذا. ابن سهل: ورأيت في حاشية كتاب بعض شيوخنا: إن قال: أكريتك السنة بكذا- بالنصب- لزمته السنة، وإن قال أكريتك السنة بكذا- بالرفع- كان مثل قوله: أكريك كل سنة بكذا على رواية ابن القاسم قال: وهذا إن شاء الله حسن. ابن رشد: ولا وجه لاستحسانه عندي، لأنه لما نصب احتمل لزوم السنة واحتمل بحسابه السنة فيجب الحمل على عدم اللزوم، لأن الأصل براءة الذمة فأما إذا رفع فلا إشكال ولم يتكلم عليه ابن القاسم.

فَلَوْ نَقَدَه مَبْلَغاً لِزَمَتْ فِيمَا يُقَابِلُهُ اتِّفَاقاً هكذا حكى اللخمي الاتفاق أيضاً وعلى هذا فلو قال: كل شهر بكذا ونقد كراء كل شهر لزمه في النصف ثم على المشهور لزمه أن ينحلا عن الكراء وعلى قول عبد الملك يلزمه النصف الآخر. فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنِ ابْتِدَاءً الْمُدَّةَ حُمِلَ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ يعني إذا قال: اكتر شهراً أو سنة ولم [620/ أ] يبين أولها حمل على أن ذلك أولها من حين العقد لأنه لو لم يحمل على ذلك لزم فساد العقد لأن الكراء لا يجوز على غير سنة معينة وإذا وقع العقد على شهر فإن كان في أوله لزمهما الكراء في ذلك الشهر على ما كان من نقص أو تمام وإن كان ذلك في بعض شهر لزمهما الكراء في ثلاثين يوماً من يوم عقداه، وكذلك السنة إن كان في أول شهر فاثنى عشر شهراً بالأهلة. مالك في أكرية الدور من المدونة: وإن وقع بعد أن مضى من الشهر عشرة أيام حسباً أحد عشر بالأهلة وشهرا على ثلاثين يوماً كالعدة والأيمان ولا يقع الكراء على ما بقي من السنة إذا قال: أكري منك هذه السنة إلا ببيان. قال في المقدمات: بين ذلك رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الصيام فيمن قال: لله عليَّ صيام هذه السنة لسنة ست وثمانين وقد مضى بعضها أن عليه صيام اثني عشر شهرا وكذلك روايته عنه في كتاب الأيمان، في من قال لامرأته: أنت طالق إن فعلت كذا هذه السنة أنه إن كان نوى ما بقي فله نيته، وإن لم ينو شيئاً استقبل اثني عشر شهراً. قال في المدونة: ومن اكترى داراً سنة أو سنتين ولم يسم متى يسكن جاز، ويسكن أو يسكن غيره ما لم يأت من ذلك ضرر بين على الدار. ابن يونس: يريد ضرراً في السكنى.

ابن عبد السلام: ويحتمل عندي خلاف ما نص عليه مالك في المختصر: إن غلقها المكري وخرج فذلك له وليس لصاحبها أن يقول تخربها عليَّ. وَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الأَرْضِ بِنَاءً وَلا زِرَاعَةً وَلا غَرْساً وَلا غَيْرَهُ وَبَعْضُهُ أَضَرُّ فَلَهُ مَا يُشْبِهُ فَإِنْ أَشْبَهَ الْجَمِيعُ فَسَدَ .. سكت عن التعيين لظهور الحكم فيه ووقع في بعض النسخ بعد قوله: (وَلا غَيْرَهُ) (وَلا خَيَّرَهُ) وهو يقتضي: أنه لو خيره جاز ونحوه في الجواهر، فإنه قال: ولو قال: انتفع بالأرض كيف شئت، جاز وتردد فيه التونسي قال: انظر لو رضي رب الأرض بذلك هل يجوز إذا كان الأمران مختلفين أو لا يجوز؟ كمن اكترى إلى طريق فأراد أن ينتقل إلى ما يخالفها. وقوله: (وَبَعْضُهُ أَضَرُّ): جملة حالية. (فَلَهُ مَا يُشْبِهُ) أي ما دل العرف عليه (فَإِنْ أَشْبَهَ الْجَمِيعُ) أما إن كان العرف يقتضي الجميع أو لم يكن هناك عرف (فَسَدَ) أي: العقد وهذا أشبه بمذهب غير ابن القاسم في المدونة قال في أكرية الدور: وإذا كانت الأعمال يتفاوت ضررها وأكريتها لم يجز كراؤها إلا على شيء معروف يعمل فيه وإن لم يختلف فلا بأس وهو مخالف لظاهر مذهب ابن القاسم فيها، قال: ومن اكترى داراً فله أن يدخل متى شاء فيها من الدواب والأمتعة وينصب فيها الحدادين والقصارين والأرحية ما لم يكن ضرر فيمتنع. ولم يقل يفسد العقد وقال في الأرضين: من اكترى أرضاً ليزرعها عشر سنين فأراد أن يغرس فيها شجراً، فإغن كان ذلك أضر بها منع، وإلا فله ذلك. وفي اللخمي: أجاز- يعني ابن القاسم- كراء الحوانيت والديار على الإطلاق من غير مراعاة لصنعة مكتري الحوانيت ولا لعيال من يسكن الدار. وعلى قول غيره لا يجوز

إلا بعد المعرفة بذلك. وصرح بأن قول الغير خلاف. وقال ابن القاسم: والدواب؛ يريد إلا ان يكون العرف جارياً بعدم دخول الدواب الدور، وقاله بعضهم. وَلَوْ سَمَّى صِنْفاً يَزْرَعُهُ جَازَ مِثْلُهُ وَدُونَهُ يعني: ولا يجوز أن يزرع ما هو أضر. وتصور كلامه ظاهر. وفي الموازية: من اكترى أرضاً على ألا يزرع فيها إلا قطناً لم يجز، فإن نزل فعليه قيمة الكراء. وقال محمد: ذلك جائز عندي. وَلا يَلْزَمُ تَعْرِيفُ قَدْرِ الْبِنَاءِ وَصِفَتِهِ بِخِلافِ الْبِنَاءِ عَلَى الْجِدَارِ وإذا اكترى أرضاً ليبني فيها لم يلزمه أن يذكر قدر البناء؛ لأن الأرض لا ضرر عليها في بقاء البناء بخلاف الجدار إذا أكراه ليبني عليه. وَفِي الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ بِتَعْيينِهَا، وَفِي الذِّمَّةِ بِتَبْيينِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالذُّكُورَةِ وَالأُنُوثَةِ. لما فرغ من كراء العقار شرع في كراء الدواب؛ وكراؤها لأربعة أوجه: للركوب، وللحمل، وللحراثة، وللاستسقاء. فأما الركوب فهو على وجهين: أحدهما: أن يقول: أكريتك هذه الدابة. والثاني: أن يكري منه دابة في ذمته. وقوله: (بِتَبْيينِ) يتعلق بالذمة. وإنما اشترط ذكر الجنس والنوع والذكورة والأنوثة لاختلاف الأغراض والمنافع في ذلك. وظاهر كلامه الاكتفاء بالتعيين في الوجه الأول وينبغي أن يختبرها الراكب لينظر سيرها في سرعته وبطئه، فرب دابة كما قال مالك: المشي خير من ركوبها. محمد: وإن وقع الكراء على الإطلاق حمل على المضمون حتى يدل دليل على التعيين.

قال: ولو اكترى منه أن يحمله إلى بلد كذا على دابة أو سفينة قد أحضرها ولم يعلم له غيرهأن ولم يقل تحملني على دابتك هذه أو سفينتك. فهلكت بعد أن ركب فعلى المكري أن يأتيه بدابة أو سفينة غيرها وهو مضمون حتى يشترط أنه أكرى منه هذه بعينها. محمد: ويكون نصف السفينة أو ربعها كشرط التعيين. وَلا يَتَعَيَّنُ الرَّاكِبُ، [620/ ب] وَلَوْ عُيِّنَ لَمْ يَلْزَمْ تَعْيينُهُ، وَجَعَلَ مِثْلَهُ فَأَدْنَى. وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكُ فِي الدَّابَّةِ خَاصَّةً إِلا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَبْدُوَ لَهُ .. هكذا وقع في بعض النسخ على أنه ابتداء مسألة، وفي بعضها (وَلا يَتَعَيَّنُ الرَّاكِبُ) عطفاً على قوله: (وَفِي الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ بِتَعْيينِهَا، لا بِتَعْيينِ الرَّاكِبِ، بَلْ لَوْ عَيَّنَ لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْيينُهُ) ولهذا لو مات الراكب لم تنفسخ الإجارة؛ لأن به تستوفي المنفعة. قوله: (وَجَعَلَ مِثْلَهُ) وفي بعض النسخ: (وَحَمَلَ) وكل منهما يحتمل أن يكون مبيناً للفاعل على تقديره (وَجَعَلَ) الراكب المعين (مِثْلَهُ فَأَدْنَى) ويحتمل أن يبنى للمفعول، وهذا لمالك في كتاب الرواحل والكراء. قال: وأكثر قول مالك له في حياته أن يكريها من مثله في حاله أو أمانته وخفته. وقوله: (وَاسْتَثْقَلَهُ) أي: واستثقل مالك رحمه الله حمل المثل على الدواب خاصة، وهو قوله في الجعل والإجارة. قال: وكره مالك لمكتري الدابة لركوبه كراؤها من غيره وإن كان أخف منه أو مثله، فإن أكراها لم أفسخه، وإن تلف لم يضمن إذا أكراها فيما اكتراها فيه من مثله وحالته وأمانته وخفته. وعلى هذا فيحتمل أن يكون المصنف ذكر قولي مالك، ويحتمل أن يكون إنما ذكر قولاً واحداً ويكون قوله: (وَجَعَلَ مِثْلَهُ فَأَدْنَى) مقيدا بعد: (وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكُ).

وقوله: (فِي الدَّابَّةِ خَاصَّةً) أي: للركوب أي: وأما غير الدابة أو في الدابة لغير الركوب فلم يستثقله. محمد: ولم يختلف من أدركت من العلماء في إجازته في الكراء في الدور والسفن والمتاع والصناعات في مثل ما اكترى، وقد استثقله مالك في الركوب إلا أن يقيم أو يموت ولم يختلف قوله في الإحمال. قوله: (إِلا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَبْدُوَ لَهُ) هو كما حكيناه عن الموازية. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالثَّوْبِ لِلُبْسِ مِثْلِهِ أي: مثل الركوب. ونسبه لابن القاسم لأنه هو الذي قاله في المدونة. قال بعد أن ذكر مالك الحكم في الدواب وكذلك الثياب في الحياة والممات: وظاهره أنه لا يضمن في الثوب إذا أكراه من مثله كالدابة. والذي في المدونة عن ابن القاسم أنه يضمن إذا هلك بيد الغير لاختلاف الناس في اللبس ولا يضمن إن هلك بيده. لكن قال سحنون: هذا حرف سوء فلا يضمن. قال: ومسألة الفسطاط هي الأصل، وهي قول ابن القاسم: وإن اكتريت فسطاطاً إلى مكة فأكريته من مثلك في حالك وأمانتك، وصنيعه فيه مثل صنيعك، وحاجتك إليه مثل حاجته جاز. وقد يقال: في استدلال سحنون نظر؛ لأن الاختلاف في اللبس أكثر من الاختلاف في الفسطاط. ويُعَيَّنُ الْمَحْمِلُ أَوْ يُوصَفُ وَالْمَعَالِقُ مِثْلُهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَةً لَمْ يُحْتَجْ فِي الْجَمِيعِ إذا أكرى ليركب في محمل فلابد من تعيينه أو وصفه بما لا يختلف، فإنه مما يختلف بالكبر والصغر.

و (الْمَحْمِلُ) بفتح الميم وسكون الحاء وكسر الميم الثانية. الجوهري: واحد المحامل وهي الأوعياء، وأما (الْمَحْمِلُ) بكسر الميم الأولى وفتح الثانية فهو علاقة السيف. وقوله: (وَالْمَعَالِقُ مِثْلُهَا) أي: فلابد من وصفها وتعيينها. (وَالْمَعَالِقُ) ما يزيده المكتري على حمل الدابة. فإن قيل: في المدونة: وقد عرفت للحاج زيادة من السفر والأطعمة لا ينظر فيها المكاري ولا يعرف ما حمل فلا ضمان عليه في ذلك. وظاهره أنه لا يحتاج إلى تعيينها ولا إلى وصفها خلاف ما قاله المصنف. فالجواب أنه قد عرفت فصار هذا مدخولاً عليه بالعرف، فدخل تحت قول المصنف: فإن كانت عادة لم يحتج في الجميع إلا في المحمل والمعاليق. قال في المدونة: وإن أكريت دابة بعينها، فليس لربها أن يحمل تحتك متاعاً ولا يردف رديفاً، وكأنك ملكت ظهرها وإن جعل في متاعك على الدابة متاعاً بكراء أو بغير كراء فلك كراؤها إلا أن تكون أكريت منه على حمل أرطال مسماة كالزيادة له. أشهب: وإن أكراه ليحمله وحده أو مع متاعه فكراء الزيادة للمكتري ولو كان المكتري منعه من الزيادة عليها إذا أكراه دابة. قيل: وقول أشهب وفاق. وَأَمَّا السَّيْرُ وَالْمَنَازِلُ فَالْعُرْفُ كَافٍ أي: في تفصيل السير ومقداره في الليل والنهار، وهو ظاهر. ثم أخذ يتكلم على الوجه الثاني:

وَالْحَمْلِ بِرُؤْيَةِ الْمَحْمُولِ أَوْ بِكَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ أَوْ عَدَدِهِ فِيمَا لا تَفَاوُتَ فِيهِ (وَالْحَمْلِ): مجرور معطوف على (الرُّكُوبِ) أي: وفي إجارة الدواب للحمل. (وَالْحَمْلِ) بالفتح مصدر حمل. ابن السكيت: وهو بفتح الحاء لما كان في بطن أو شجر، وبالكسر لما كان على ظهر أو رأس. وقوله: (بِرُؤْيَةِ .. إلخ) هو ظاهر، ولم يتعرض المصنف للجنس ولابد من بيانه، واستغنى المصنف عن اشتراطه؛ لأن رؤية المحمول تغني عنه؛ ولأن قوله: فيما لا تفاوت فيه يؤخذ منه اشتراط ذكر الجنس. قال في المدونة: ومن اكترى دابة ولم يسم ما يحمل عليها لم يجز إلا من قوم قد عرف حملهم. وقال غيره: لو سمى حمل الطعام أو بر أو عطر جاز. وحملها قدر حمل مثلها. ولو قال: أحمل عليها حمل مثلها ما شئت؛ لم يجز لاختلاف الأشياء في الحمل. عياض: واختلف الشيوخ فحمل بعض القرويين قول الغير على الخلاف وأن معنى قوله: "قد عرف حملهم" أي: قدره، وحمله الأندلسيون على الوفاق؛ أي: عرفوا نوع ما يحملون من التجارة فلا يضرهم جهل [621/ أ] مقداره. وإليه ذهب فضل، وهو ظاهر الكتاب أنه متى كان الجنس عرف لا تبال عن التقدير وحملت الدابة حمل مثلها. فحاصله أن القرويين يقولون: لا يجوز على قول ابن القاسم ولو سمى الجنس حتى يكون القدر معروفاً إما نصاً أو عرفاً. والأندلسيون يقولون: إنما لم يجز لكونه لم يسم الجنس، ولو سمى الجنس لجاز، ويصرف القدر على الاجتهاد. وممن حمله على الخلاف اللخمي، فإنه قال: إن سمى القدر دون الجنس لم يجز، فقد يتفق الجنس ويختلف الكراء لاختلاف المضرة، وكراء الكتان

والرصاص مختلف وإن استوى الوزن. واختلف إذا سمى الجنس دون القدر، فمنعه ابن القاسم، وأجازه غيره فيحمل عليها حمل مثلها؛ والأول أحسن وليس كل واحد من المكترين يعرف قدر ما تحمل دابة غيره. وَلا تُوصَفُ الدَّابَّةُ إِلا مِثْلَ زُجَاجٍ وَنَحْوِهِ. يعني: أن الدابة في الحمل لا يحتاج إلى وصفها لعدم اختلاف الأغراض في ذلك إلا أن يكون مما يفسد- أي: المحمول- بسقوط الدابة كالزجاج والدهن ونحوه كالفخار؛ فيحتاج إلى تعيينها ووصفها لتعلق الأغراض بذلك. ثم انتقل المصنف إلى الوجه الثالث، وهو الحرث فقال: وَلِلْحِرَاثَةِ بِتَعْرِيفِ صَلابَتِهَا وبُعْدِهَا الضمير في (صَلابَتِهَا وبُعْدِهَا) عائد على الأرض المفهومة من الكلام. واستغنى المصنف بالضد عن الضد الآخر، وتقدير كلامه: بتعريف صلابة الأرض ورخوها وقرب الأرض وبعدها. ودل قوله (وبُعْدِهَا) على جواز الكراء في أرض غائبة على الصفة كالبيع، وقد نص عليه في المدونة في الدار ولا فرق. تنبيه: لم يتكلم المصنف على الوجه الرابع وهو إجارة الدواب للسقي. قال في الجواهر: ولابد من معرفة قدر الدلاء والعدد وموضع البئر وبعد الرشاء إذا كان مبايناً للمعارف مباينة بينة إلا أن يكون جميع ذلك أو بعضه معلوماً بالعرف فيكتفى به.

وَعَلَى مُكْرِي الدَّابَّةِ الْبَرْذَعَةُ وَشِبْهُهَا والإِعَانَةُ فِي الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ ورَفْعِ الْحِمْلِ، وحَطَّهَا بِالْعُرْفِ .. (الْبَرْذَعَةُ) - بالذال المعجمة- وشبهها السرج والحزام واللجام ونحو ذلك. ومفهوم قوله: (بِالْعُرْفِ) أنه لو لم يكن عرفاً فإن ذلك على المكتري. وهكذا نقل ابن عبد السلام عن بعض الشيوخ لكن مفهوم المدونة خلافه، ففيها: ولا بأس أن تكتري من رجال إبلاً على أن عليك رحلتها، وظاهره لولا الشرط لكان ذلك على رب البعير. وَإِذَا فَنِي الطَّعَامُ الْمَحْمُولُ رُجِعَ فِي بَدَلِهِ إِلَى الْعُرْفِ يعني: إذا أكرى على حمل وزن معلوم أو كيل من طعام فكان يأكل منه ويعلف فأراد بدل ما نقص وأشكل الحال رجع إلى العرف. وهكذا قال ابن القاسم في المدونة، وسكت عن الحكم إذا لم يكن عرف. وقال غيره: فإن لم تكن لهم سنة فلهم حمل الوزن الأول إلى غاية الكراء، وعكس هذا إذا اكترى منه على حمل خمسمائة رطل فحملها وأصابها مطر فزاد وزنها. قال سحنون: فكأنه ليس هو بعينه، فلا يلزم إلا حمل خمسمائة رطل، فإن نقل منه حتى صار إلى الوزن الأول لزمه وإلا فلا. ويُوَفِّرُ الْمُسْتَاجِرُ عَلَى الْعُرْفِ كَنَزْعِ الثَّوْبِ لَيْلاً وفِي الْقَائِلَةِ يعين: وإن كان اللفظ يقتضي خلافه؛ لأن استئجار الثوب شهراً يقتضي بحسب الظاهر استغراق جميع الشهر لكن ترك ذلك للعرف، وكذلك الطيلسان، وينبغي أن يترك لباسه داخل المنزل.

قال ابن عات: قال بعض الشيوخ: الفتوى إذا اكترى دواب على حمل متاع وبالطريق نهر لا يجاز إلا بالمركب وقد عرف ذلك كالنيل فأجرة المتاع على ربه وأجرة الدواب على ربها، وإن كان يخاض بالمخائض فاعترضه حملان لم يعلموا به فحمل المتاع على صاحب الدواب وتلك جائحة نزلت به وكذلك إن كان النهر شتوياً يحمل بالأمطار إلا أن يكون وقت الكراء قد علموا جريه فيكون كالنهر الدائم. وَلَيْسَ الْخَيْطُ عَلَى الأَجِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ عُرْفُ أي: بل على رب الثوب إلا أن يكون العرف أن ذلك على الأجير، وهكذا قال ابن شاس، وفي بعض النسخ: (والْخَيْطُ عَلَى الأَجِيرِ) أي: الخياط. والجاري عندنا بمصر أن الخيط من الخياط، ولا يطالب رب الثوب أصلاً إلا أن يكون جرى فإنه تختلف فيه العادة، فقد يطلبه وقد لا يطلبه. نعم إذا أطلق عقد الإجارة حمل على أنه على الخياط. قال في المدونة: ومن واجرته على بناء دار فالأداة والفؤوس والقفاف والدلاء والماء على ما تعارف الناس أنه عليه، وكذلك حيتان التراب على حافر القبر ونقش الرحا على ربه. وَالاسْتِرْضَاعُ لا يَسْتَتْبِعُ الْحَضَانَةَ وَلا الْعَكْسَ نحوه في الجواهر وهو ظاهر، وقوله: (وَلا الْعَكْسَ) أي: والاستئجار على الحضانة لا يستلزم الإرضاع؛ لأن لكل واحد منهما حقيقة مغايرة للآخر، فإن عقد عليهما معاً فانقطع اللبن جرى ذلك على مسائل الاستحقاق فإن كان اللبن وجه الصفقة فسخ الجميع. وَإِذَا كَانَ بِالدَّارِ وَشِبْهِهَا مَا يَضُرُّ كَالْهَطْلِ وَشِبْهِهِ لَمْ يُجْبَرِ الْمَالِكُ، وَخُيِّرَ الْمُسْتَاجِرُ، وَقِيلَ: يُجْبَرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى إِلا بِإِزَالَتِهِ أُجْبِرَ .. شبه الدار الحانوت والحمام، (مَا يَضُرُّ) مما هو في حيز القليل (كَالْهَطْلِ) بسكون الطاء؛ وهو تتابع المطر قاله الجوهري.

وشبهه: أي كالصدع وضعف الأساس والهدم اليسير، و (لَمْ يُجْبَرِ) أي: المالك على الإصلاح، وهذا قول ابن القاسم، (وَخُيِّرَ الْمُسْتَاجِرُ) بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج. قوله: (وَقِيلَ: يُجْبَرُ) هذا لغير ابن القاسم في المدونة. ابن عبد السلام: والعمل عليه في زماننا. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى .. إلى آخره) وهو خلاف فرض المسألة؛ لأن الكلام في الهطل وشبهه، لكن المصنف قد تكلم على ما هو أعم من فرض المسألة. قال صاحب المقدمات: والهدم في الدار على قسمين: يسير وكثير، فاليسير على ثلاثة أوجه؛ الأول: لا مضرة فيه على الساكن ولا ينقص من كراء الدار شيئاً كالشرفات ونحوها، فالاتفاق على أن الكراء لازم ولا يحط عن المكتري منه شيء. الثاني: أن يكون لا مضرة فيه على الساكن، إلا أن ينقص من قيمة كراء الدار فهذا يلزمه السكنى ويحط عنه ما نقص من قيمة الكراء إن لم يصلحه رب الدار ولا يلزمه إصلاحه، فإن سكت وسكن لم يكن له شيء. الثالث: أن تكون مضرة على الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئاً كالهطل وشبهه، فهذا فيه قولان، فذكر القولين على نحو ما قدمناه، وعلى هذا فكلام المصنف خاص بهذا الحكم الثالث؛ لأن الحكم في الأولين على خلاف ما ذكره. وذكر اللخمي أنه إذا كان ذهاب الشرفات ينقص من جمال الدار، أنه ينقص من الكراء بقدر ذلك. قال في المقدمات: وإن كان الهدم كثيراً لم يلزم رب الدار إصلاح بإجماع، وهو أيضاً على ثلاثة أوجه:

الأول: أن يعيب السكنى وينقص من قيمة الكراء ولا يبطل شيئاً من المنافع؛ مثل أن تكون الدار مبلطة مجصصة، فيبطل تبليطها وتجصيصها فيكون المكتري بالخيار بين السكنى بجميع الكراء أو يخرج إلا أن يصلح ذلك رب الدار، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء على مذهب المدونة، بخلاف رواية عيسى، وقد قيل: إن الحكم في هذا الوجه كالبيت ينهدم من الدار وهو بعيد. والثاني: أن ينهدم بيت من بيوتها، فهذا يلزمه السكنى ويسقط عنه ما ناب المنهدم. والثالث: أن يبطل أكثر منافع الدار أو منفعة البيت التي هي وجهها ويكشفها بانهدام حائطها، وما أشبه ذلك فهذا يخير المكتري بين السكنى والخروج، فإن أراد أن يسكن على أن يحط من الكراء ما ينوب المنهدم لم يكن له ذلك إلا برضا ربها، فإن رضي بذلك جرى على جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وإن بنى المكري الدار قبل أن يخرج المكتري منها لزمه الكراء، ولم يكن له أن يخرج، وإن بناها بعد أن خرج لم يكن له الرجوع إليها إلا أن يشاء، وإن سكت وسكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف رواية عيسى عنه في العتبية. فَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: أُصْلِحُ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَاجِرِ ضَرَرُ بِطْولِ الْمُدَّةِ أَوْ لا يَحْتَمِلُ مِنَ الضَّرَرِ خُيِّرَ أَيْضاً. فإن طلب رب الدار الإصلاح والتمادي على عقد الكراء وكان على المكتري ضرر في ذلك إما بسبب طول المدة وإما لكثرة ما انهدم كالتكشيف على أهله، فإن ذلك لا يسقط حق المكتري فيما وجب له من الكراء، بل يجر، كما إذا قال المالك: أنا لا أصلح وهو معنى قوله: (خُيِّرَ أَيْضاً).

وَلَوْ فَسَدَ الزَّرْعُ بِجَائِحَةٍ فَالأُجْرَةُ لازِمَةً يعني: لو فسد الزرع ببرد أو طير أو جراد أو غير ذلك من الجوائح لزم المكتري جميع الكراء؛ لأنه قد تسلم جميع المنفعة، وذلك بمنزلة ما لو غصبه غاصب. فَلَوْ كَانَ لِكَثْرَةِ دُودِهَا أَوْ فَارِهَا أَوْ عَطَشِهَا سَقَطَ الْكِرَاءُ أي: فلو كان فساد الزرع من جهة الأرض إما لكثرة دودها أو فأرها أو عطشها سقط الكراء عن المكتري، وألحقوا العطش بالموانع الأرضية وكذلك الغرق إذا تمادى حتى خرج وقت الزراعة، أما إن حدث بعد إبانها أو انقطع قبل الإبان فالكراء لازم، وفي معنى فساد الزرع بسبب العطش أن يحصل ما لا بال له، واختلف في تحديد هذا القليل، فقيل: خمسة فدادين أو ستة من مائة. وقيل: قدر الذريعة مرة. وقيل: قدرها مرتين. وقيل: ينظر إلى الإصابة المتوسطة فما نقص عنها سقط من الكراء بنسبته. وَلَوْ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَاقٍ، وَالأَمَدُ بَعِيدُ، وَكَانَ رَبُّهُ قَدْ عَلِمَ فَلِرَبِّهَا قَلْعُهُ أَوْ إِبْقَاؤُهُ بِالأَكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى أَوْ كِرَاءِ الْمِثْلِ .. القول الذي صدر به لابن حبيب والقول بكراء المثل هو مذهب المدونة على ما فهمه، فنذكر أولاً قول ابن حبيب، ثم نذكر ما في المدونة ليتبين لك ذلك. ابن حبيب: وإن اكترى أرضاً سنة أو سنتين فنفدت ولم يبق منها إلا شهران أو شهر، وما لا ينتفع به في الزرع فليس للمكتري أن يحدث به زرعاً إلا بكراء مؤتنف ولا يحط عنه لما تقدم شيء ولربها حرثها لنفسه وليس للمكتري منعه؛ لأنه مضار فإ، زرعها المكتري وهو يعلم أن الوجيبة تنقضي قبل تمام الزرع بالأمد البعيد، فربها مخير إن شاء حرث أرضه وأفسد زرعه أو أقره وأخذ بالأكثر من قيمة الكراء أو كراء الوجيبة، وإن كان ظن أن

الزرع ينقضي عند تمام الوجيبة فزاد عليها الأيام والشهر ونحوه، فليس لربها قلعه ولربها [622/ أ] زيادة المدة على حسب كراء الوجيبة، فقول ابن حبيب: أو أقره وأخذ بالأكثر إلى آخره، هو قول المصنف: (بِالأَكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى أَوْ كِرَاءِ الْمِثْلِ) ونص ابن حبيب على أنه لا فرق في هذا بين أرض الزرع والمباقل. وقال في المدونة: ومن اكترى أرضاً سنة فحصد زرعه قبل تمام السنة، فأما أرض النهر فمحمل السنة فيها الحصاد وينقضي بذلك فيها، وأما ذات السقي التي تكرى على أمد الشهور والسنين فللمكتري العمل إلى تمام السنة، فإن تمت وله فيها زرع أخضر أو بقل فليس لرب الأرض قلعه وعليه تركه إلى تمامه، وله فيما بقي كراء المثل على حساب ما أكراها منه، وهكذا اختصرها البراذعي وابن أبي زمنين. وطرح سحنون قوله: على حساب ما أكرى، قيل: لأنه تناقض؛ إذ لا يصح كراء المثل على حساب ما أكرى، وإليه ذهب الشيخ أبو محمد، واختصرها فقال: وله فيما بقي كراء المثل على ما أكراه. ورجح ما قاله الشيخ بأن المسألة وقعت في العتبية من سماع أبي زيد على ما اختصر الشيخ، هكذا في الرواحل في المدونة في التعدي في المسافة. ورأى ابن لبابة أنه في المدونة ذكر القولين فاختلط ذلك على السامع وظنهما قولاً واحداً. ودفع عبد الحق وابن يونس ما أشاروا إليه من التناقض على الرواية الأولى وقالا: بل معناها صحيح بأن يقوم كراء الزيادة، فإن قيل: دينار، قيل: وما قيمة السنة كلها، فإن قيل: خمسة، فقد علمت أنه وقع للزيادة مثل خمس كراء السنة فيكون كراء الأول ومثل خمسه.

وعلى هذا فقول المصنف: (وقيل: كِرَاءِ الْمِثْلِ) هو مذهب المدونة على تأويل سحنون والشيخ أبي محمد وغيرهما. ولعل المصنف ممن ذهب إلى هذا المذهب لرجحانه برواية أبي زيد وبما في الرواحل؛ فلذلك اقتصر عليه، لكن لو أراد هذا لقدم هذا القول على الأول. قال في المدونة بإثر الكلام السابق: وقال غير ابن القاسم: فإن بقي من السنة بعد حصاده ما لا يتم فيه زرعه فلا ينبغي أن يزرع، فإن فعل فعليه في زيادة المدة الأكثر من كراء المثل؛ إذ كأنه رضي به، أو كراء المثل وهو قول ثالث في المسألة، وقيده ابن يونس بأن لا يكون ربها عالماً به، فإن علم فتركه فله، على حساب الكراء الأول، كما قال الغير في الدابة يكتريها مدة فيتجاوزها. وَإِنْ كَانَ ظَنَّ تَمَامَهُ فَزَادَ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ نِسْبَةُ الْمُسَمَّى، وَقِيلَ: كِرَاءُ الْمِثْلِ (وَإِنْ كَانَ ظَنَّ) تأكيد؛ أي وإن لم يكن متعمداً، بل ظن الزرع يطيب عند انقضاء الأجل. وَلَوْ زَرَعَ مَا ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ لَهُ فَلِلْمَالِكِ قَلْعُهُ، أَوْ أَخْذُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مَعَ الْكِرَاءِ .. قد تقدم أنه إذا عين صنفاً جاز أن يزرع مثله أو دونه، وتكلم هنا على ما إذا زرع الأكثر ولا شك أنه متعد فلذلك كان للمالك قلعه أو أخذ ما بين القيمتين مع الكراء الأول، وكيفية التقويم ظاهرة لا تخفى عليك، والقلع مقيد بما إذا كانت مدة الزراعة باقية، وأما إن مضت فليس إلا كراء الزيادة مع الكراء الأول، وهكذا قال صاحب الجواهر وغيره. ابن عبد السلام: وإنما له التخيير إذا لم يطب الزرع، ولو كان بعد طيبه لم يكن له إلا ما بين القيمتين، وهذا إذا كان بعد الزراعة، وإن كان قبلها فأراد أن يزرع ما ضرره أكثر وأذن له

في ذلك رب الأرض فظاهر المدونة جوازه؛ لأن ذلك يعيب الأرض، فهو حق آدمي يسقط بالإذن. وتردد بعض القرويين في جوازه؛ لأنه كمن نقل الصانع من صنعة إلى صنعة وكمن أراد أن ينقل الحمل من طريق إلى طريق يخالفها، اختلف إذا استأجر شخصاً في شيء ثم أراد أن يستعمله في غيره فإن كان من جنسه ومثل مشقته جاز وأجرته عليه، وإن كان من غير جنسه ورضيا بذلك فأجازه ابن القاسم في اليسير وابن حبيب في الكثير ومنعه سحنون فيهما. واختلف أيضاً إذا أكراه ناحية: هل يجوز أن ينقله إلى مثلها؟ فأجازه ابن القاسم في المدونة بالتراضي، ومنعه القرويون ولو تراضيا. وقال أشهب: للمكتري ذلك إن تساوى الطريقان، وإن لم يرض ربها فيمكن أن يخرج هذا الخلاف في مسألتهما. وَلَوْ اسْتَاجَرَ لِلْغَرْسِ أَوْ لِلْبِنَاءِ سِنِينَ فَانْقَضَتْ فَلِلْمَالِكِ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعاً بَعْدَ إِسْقَاطِ مَا يَغْرَمُ عَلَى الْقَلْعِ وَالإِخْلاءِ .. يعني: فله أن يأمره بقلع بنائه كما في بناء الغاصب والمعار إذا انقضت مدة الإعارة. وقيد عبد الحق وغيره هذا بما إذا لم يكن في الشجر ثمر أو كان فيها ثمر غير مأبور وهذا هو الذي له أن يأمره بقلع الزرع. قال: وإن كان الثمر مأبوراً عند تمام الأمد أجبر رب الأرض على بقائه وعليه قيمة الكراء؛ لأنه إذا تكلف المكتري القلع أضر به في فساد ثمرته عليه. واحترز المصنف بقوله: (لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ) مما لو استأجرها للزرع ولم يبد صلاحه، فليس رب الأرض قلعة ولا شراؤه قاله في المدونة، وقال التونسي: الأشبه جواز شرائه للزرع؛ لأنه قابض له بقبضه

الأرض المحتوية عليه، وحديث النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لا يتناول هذه الصورة؛ لأنه تجاوز من البائع، ومسألتنا الضمان فيها من المبتاع للقبض الذي قلناه. وقوله: (عَلَى الْقَلْعِ وَالإِخْلاءِ) يعني: إلا أن يتولاه بنفسه أو عبده. وَلَوْ حَمَلَ عَلَى دَابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا شَرَطَ فَعَطِبَتْ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ خُيِّرَ رَبُّهَا فِي قِيمَةِ كِرَاءِ مَا زَادَهُ مَعَ كِرَائِهِ أَوْ قِيمَتِهَا يَوْمَ التَّعَدِّي، كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمَكَانَ وَإِنْ لَمْ تَعْطَبْ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ فَلَهُ كِرَاءُ مَا زَادَهُ كَمَا لَوْ لَمْ [622/ ب] تَعْطَبْ .. لزيادة المكتري صورتان؛ إحداهما: أن يزيد في الحمل، الثانية: أن يزيد في المسافة. وتكلم المصنف عليهما فذكر أنه إذا زاد في الحمل؛ فإما أن يزيد زيادة تعطب بمثلها، أم لا، ولا فرق في الأول بين أن يزيد في الوزن أو فيتفاوت الضرر كما لو حمل مكان حنطة قنطار رصاص. فقال المصنف: (إِذَا عَطِبَتْ) أي: هلكت (خُيِّرَ رَبُّهَا) في أخذ كراء ما زاد على الكراء الأول او أخذ (قِيمَتِهَا). قال في المدونة: ولا كراء له. ابن يونس: يريد إذا زاد ذلك في أول الحمل. يعني: وأما إن زاد بعد أن صار نصف المسافة، فله نصف الكراء الأول وقيمتها يوم التعدي. وقول المصنف: (يَوْمَ التَّعَدِّي) يشمل الصورتين. قوله: (كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمَكَانَ) أي: فعطبت، والتشبيه في مطلق التجاوز؛ إذ لا فرق هنا- أعني: إذا عطبت- بين أن يزيد في المسافة ما تعطب الدابة في مثلها أم لا، ولهذا قال: (وَإِنْ لَمْ تَعْطَبْ) أي: بمثل هذا التجاوز.

قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: المشهور الفرق بين الزيادة في المسافة والقدر، وأنه لا يفصل في الزيادة في المسافة. (وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ) أي: وعلى المشهور، وأشار بالعمل إلى ما عليه الفقهاء السبعة من تضمينه في زيادة المسافة ولم يفصلوا. ونقل ابن يونس عن بعض القرويين أنه يضمن في زيادة الحمل إذا عطبت، وإن كانت لا تعطلب بمثلها كزيادة المسافة، وهذا هو الشاذ في كلام المصنف. ابن عبد السلام: وقال المؤلف: إنه يضمن بالزيادة في المسافة عطبت الدابة أو لم تعطب وذكر أنه المشهور وعليه العمل. انتهى. وما ذكره المصنف من الضمان بالزيادة في المسافة هو كما ذكرناه إذا عطبت، أما إن لم تعطف فقال ابن القاسم في المدونة: إذا ردها بحالها بعد زيادة الميل أو الأميال أو بعد حبسها اليوم ونحوه لمالك في الواضحة: وأياماً يسيرة، لم يضمن إلا كراء الزيادة. ابن القاسم: وأما إن كثرت الزيادة أو حبسها أياماً أو شهراً. ابن حبيب: وأياماً كثيرة كالشهر ونحوه وردها بحالها، فلربها كراؤها الأول، والخيار في أخذ قيمتها يوم التعدي أو كرائها فيما حبسها فيه من عمل، أو حبسها أياماً بغير عمل ما بلغ ذلك، وإن لم تتغير. وقال غيره: إن كان ربها حاضراً معه فإنما له فيما حبسها بحساب الكراء الأول، وكأنه رضي به؛ لأنه قادر على أخذها، وتمادى المكتري منه بالمسمى، وإن كان غائباص عنه ورد الدابة بحالها فله في الزيادة الأكثر من قيمة كراء الزيادة ونسبة كراء الأول، عمل عليها شيئاً أم لا، وإن شاء فله الزيادة يوم حبسها، والكراء الأول لازم في كل حال. وبما قررناه- أعني: حمل كلامه في زيادة المسافة على ما إذا عطبت- يندفع قول ابن عبد السلام، وما ذكره صحيح لكن بشرط أن تكون تلك الزيادة كثيرة أو طال زمان

حبسها وانضم إلى ذلك تغيير سوق وشبهه. ثم استشهد بما في المدونة؛ لأنه يقول: إنما اشترط هذا في المدونة إذا سلمت، ولم يتكلم عليه المصنف. وقوله في المدونة: "أياماً" يحتمل أن يكون قول ابن حبيب تفسيراً لما قال في كتاب الزكاة: يترك للمفلس كسوته الأيام، وفسرت بشهر، ويحمتل أن يكون خلافاً. فإن قيل: لا يصح الأول؛ لأنه يلزم منه التكررا؛ لأنه حينئذ يصير التقدير: أو حبسها مثل شهر أو شهر. قيل: لأنه يؤخذ من قوله: "مثل شهر" أن تكون التسعة والعشرون ونحوها مقتضية للتخيير بخلاف الشهر. قوله: (وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ) اسم كان عائد على الحمل الزائد. وقوله: (مِمَّا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ) أي: فعطبت فله كراء الزيادة، وليس له أن يضمنه قيمة الدابة. وقوله: (كَمَا لَوْ لَمْ تَعْطَبْ) فليس له إلا كراء الزيادة وإن حمل عليها ما تعطب بمثله. تنبيهات: الأول: مقتضى كلام المصنف أن الدابة إذا عطبت في زيادة المسافة يضمن مطلقاً, وهو قول نقله ابن المواز: أنه يضمن ولو بزيادة خطوة. أبو الحسن: وهو خلاف المدونة؛ لأن فيها: يضمن في الميل ونحوه. وأما مثل ما يعدل الناس إليه في الراحلة فلا ضمان. ومثله في كتاب الغصب فيمن استعار دابة. خليل: وقد يقال: ليس هو خلافاً؛ لأن هذا لما كان الناس يعدلون إليه لم تبق زيادة. الثاني: قد أشار المصنف إلى الفرق بين الزيادة في الحمل والمسافة في العمل.

وفرق ابن يونس وغيره بينهما بأن مجاوزة المسافة تعد كله، فلذلك يضمن إذا عطبت في قليله وكثيره، بخلاف زيادة الحمل، فإنه اجتمع فيه تعد ومأذون فيه، وفيه نظر؛ لأن الدابة إنما هلكت بمجموع التعب الحاصل بسبب التصرف المأذون فيه السابق مع عدم المأذون فيه. الثالث: اللخمي وابن يونس: صفة كراء الزيادة في الحمل إذا وجبت لربها أو اختارها أن يقال: كم يساوي كراء هذه الدابة المحملة حسبما تعدى؟ فيكون ذلك لربها مع الكراء الأول. ابن يونس: قال بعض الأصحاب: يكون له الكراء الأول وفضل الضرر كمن أكراها لحمل معين فحمل أضر منه وأثقل، فإنه يكون له فضل الضرر، وفيه نظر؛ لأن الذي زاد في الحمل حمل ما أذن له فيه وزاد عليه، فإنما عليه كراء الزيادة مع الكراء الأول، والذي حمل غير ما اكتراها له كمن ركبها في غير الطريق الذي أذن له فيه فهذا له فضل الضرر. والله أعلم. خليل: والكراء على الوجه الأول أكثر منه على الوجه الثاني؛ لأنه في الأول بقدر ذكر الزيادة والدابة محملة بخلاف الثاني، والله أعلم. الرابع: إذا تعدى في المسافة أو في الحمل، ثم هلكت بعد رجوعه من المكان الزائد وبعد أن زال عنها ما زاده في الحمل. قال سحنون: لا ضمان عليه، كرده ما تسلف من الوديعة، وعليه كراء الزيادة. وقال ابن الماجشون وأصبغ: إن كانت الزيادة يسيرة فيها فكذلك، وإن زاد كثيراً فهو ضامن. ابن يونس: وهو أحسن وبه أقول؛ لأن الزيادة اليسيرة يعلم أنها لا تعين [623/ أ] على هلاكها بخلاف الكثيرة، فإنها التي أعانت على هلاكها، والله أعلم.

وَتَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَاجَرَةِ كَمَوْتِ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَيُحْسَبُ مَا مَضَى .. لما فرغ من الأحكام المتعلقة بالإجارة شرع في الطوارئ عليها، وهذا كما يقولون: كل عين تستوفي منها المنفعة فهلاكها يفسخ الإجارة. واحترز بـ (الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ) من المضمونة، ولم يذكر المصنف التعيين في الدار؛ لأن كراء الدور لا يكون إلا معيناً كما تقدم. (وَيُحْسَبُ مَا مَضَى) أي: فيكون لرب الدار والدابة بحسابه على حسب القيمة. وَلَوْ سَكَنَ أَلَمُ السِّنِّ أَوْ عَفَا مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ انْفَسَخَتْ هذه المسألة وقعت في بعض النسخ، ومعناها: أن من استؤجر على أن يقلع لرجل سناً أو استؤجر على أن يستوفي القصاص من رجل آخر، فسكن ألم السن أو عفا من له القصاص، فالإجارة تنفسخ، والمعنى فيهما واحد. وَأَمَّا مَحَلُّ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْزَمُ تَعْيينُهُ كَالرَّضِيعِ وَالْمُتَعَلَّمِ فَكَذَلِكَ، وَإِلا لَمْ تَنْفَسِخْ عَلَى الأَصَحِّ كَثَوْبِ الْخِيَاطَةِ .. القاعدة هنا أن كل عين تستوفي بها المنفعة، فهلاكها لا يفسخ الإجارة على المشهور، إلا في أربع مسائل؛ وهي صبيان، وفرسان: صبياً للتعليم والرضاعة، وفرساً للنزو والرياضة. وذكر المازري أن أهل المذهب ألحقوا خامسة، وهي إذا استأجر على أن يحصد أرضه وليس له غيرها، أو يبني له حائطاً كذلك، ثم حل مانع من ذلك. قال: وزاد الشيخ أيضاً الخياط والحائط إذا دفع إليه ثوباً ليعمله، وكان للباس لا للتجارة وليس عنده غيره، وكذلك أيضاً تنفسخ في المسألتين السابقتين.

وألحق الباجي بها الطبيب يؤاجر على معاناة العليل مدة فيموت قبلها، والحق أيضاً بعضهم بها ما إذا استؤجر على الجواهر النفيسة ليصنع بها شيئاً ثم هلكت، والعلة فيها كلها تعذر الخلف غالباً. وقوله: (عَلَى الأَصَحِّ) نحوه في الجواهر قال: ولو هلك الثوب المستأجر على خياطته، كان له أن يبدله بغيره على الظاهر من المذهب، قال عبد الوهاب: والظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين بالإجارة، وأنه إن عين فذلك بالوصف. وفي المقدمات: والمشهور انفساخ الإجارة إذا تلف ثوب الخياطة، ولعل مراده إذا كان اللباس كما تقدم. وَلَوْ اسْتَاجَرَ دَابَّةً إِلَى مَكَانٍ، وَشَرَطَ أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ حَاجَتَهُ دُونَهَا حَاسَبَهُ جَازَ؛ لأَنَّ ذَلِكَ كَالْخِيَارِ .. هكذا قال مالك في العتبية والموازية بشرط أن لا ينقد؛ لأنه إن نقد يؤدي إلى أنه تارة ثمناً وتارة سلفاً. وهو مثل ما في المدونة في الذي يستأجر الرجل شهراً على أن يبيع له ثوباً، على أن المستأجر متى شاء أن يترك ترك: أن ذلك جائز إذا لم ينقد، ومنعها سحنون للجهل في الكراء والإجارة. قال في البيان: والجواز هو الأظهر؛ لأنه بمنزلة ما لو قال: أبيعك من صبرتي ما شئت، كل قفيز بدرهم. ووافق سحنون على الجواز في كراء الدار سنة، على أنه إن خرج قبلها حاسبه. وقال فضل: إنما منع سحنون مسألة المدونة؛ لأنه كراء بخيار إلى أمد بعيد.

قال: وليس كما قال: لأن الخيار إنما هو الآن، وكلما مضى من الشهر شيء كان الخيار فيما بقي، وليس كالسلعة التي يشتريها على أنه بالخيار فيها مدة طويلة؛ لأنه يحتاج في توفيتها إلى انقضاء أمد الخيار، فلذلك لا يجوز، وليس ذلك في الإجارة والكراء، إلا أن يكتري الدابة على أن يكريها بعد شهر، أو يستأجر الأجير على أن يخدمه بعد شهر، على أنه بالخيار في الإجارة والكراء. وقوله: (إِلَى مَكَانٍ) فيه حذف صفة؛ أي: معين. وَتَنْفَسِخُ بِغَصْبِ الدَّارِ وَغَصْبِ مَنْفَعَتِهَا أَوْ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ بِإِغْلاقِ الْحَوَانِيتِ. الثاني: من الطوارئ الموجبة للفسخ: غصب الدار أو غصب منفعتها، أو بأمر السلطان بإغلاق الحوانيت. ووجهه أن المكتري منع من استيفاء المنفعة، فوجب الفسخ كالنكاح، وكما لو انهدمت الدار، وما ذكره المصنف هو المشهور. ونقل ابن حارث عن سحنون: أن المصيبة من المكتري، وهو بعيد. ولا يقال: يجري على أن قبض الأوائل كقبض الأواخر لانتقاضه بإجماعهم على الفسخ بالهدم. ولابن حارث ثالث بالفرق: إن غصبت رقبة الدار فمن المكري، وإن غصبت السكنى فمن المكتري، وهو أيضاً بعيد، وينبغي أن يكون هذا الخلاف مقصوراً على ما إذا غصبت المنفعة أو الرقبة بعد قبض المكتري إياها. وأما لو كان ذلك قبل القبض، فتكون المصيبة من المكري؛ لأن المكتري لم يتمكن من القبض. تنبيه: وقع لابن القاسم وعبد الملك في المجموعة: إن اغتصبها منه رجل فالكراء على المكتري، إلا أن يكون سلطان ليس فوقه سلطان لا يمنع منه إلا الله تعالى، وعده في البيان وفاقاً لقدرة المكتري على دفع من دونه.

وَلا تَنْفَسِخُ بإِقْرَارِ الْمَالِكِ يعني: أن الإجارة بعد انعقادها لا تنفسخ بإقرار المكري لأجنبي في الرقبة أنه باعها له، مثله: إذا أنكر ذلك المكتري ولا بينة؛ لأنها على قصد الكراء، وسماه المصنف مالكاً باعتبار الحكم؛ لكي يقبل إقراره على نفسه، ثم لا يخلو إما أن يكون إقراره بفور الكراء أو لا، فإن أقر بفور الكراء فالمقر له بالبيع يخير بين [623/ب] أربعة أشياء: الفسخ إن كان الثمن أكثر من القيمة، أو أخذ القيمة إن كانت أكثر؛ لأنه حال بينه وبين قبض المبيع، أو أخذ ما أكريت به، أو قيمة الكراء إن كانت أكثر. وإن أقر بذلك بعد انقضاء المدة لم يكن للمشتري مقال في رده البيع، وكان له الأكثر من كراء المثل أو المسمى، هكذا ذكر اللخمي في كراء الرواحل. وَلَوْ حَبَسَ الثَّوْبَ أَوِ الدَّابَّةَ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ ثَبَتَتِ الأُجْرَةُ إِذِ التَّمْكِينُ كَالاسْتِيفَاءِ أي: التمكين من الانتفاع كاستيفائها. فَلَوْ زَادَ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِراً فَنِسْبَةُ الْمُسَمَّى وَإِلا فَالأَكْثَرُ يعني: فلو زاد المكتري على مدة الكراء، فاختلف فيما يلزم المكتري على ثلاثة أقوال: الأول: نسبة المسمى، حضر المالك أو غاب. الثاني: عليه الأكثر من نسبة المسمى وكراء المثل، وهذا القول حكاه ابن المواز هكذا. والثالث: إن كان المالك حاضراً معه بالمصر، فيكون له كراؤها في هذه المدة بحسب الكراء الأول، ويعد راضياً به لما كان قادراً على أخذها وتركها، وإن لم يكن حاضراً فعليه الأكثر، وهذا لغير ابن القاسم في المدونة. ولم يذكر المصنف مذهب ابن القاسم فيها أن عليه كراء المثل مطلقاً.

فإن قلت: هلاَّ جعلت هذا هو القول الثاني في كلام المصنف كما قال ابن عبد السلام؟ قيل: لأن ذلك يخالف اصطلاحه؛ إذ قاعدته أنه يجعل عجز القول الثالث هو القول الثاني. وَفِي إِسْقَاطِ بَعْضِهِ بِتَقْدِيرِ الاسْتِعْمَالِ قَوْلانِ أي: بعض الأجر. وفي بعض النسخ (نَقْصِهِ) أي: نقص الاستعمال. ومعنى كلامه: أنه إذا لم يستعمل الثوب أو الدابة في الزائد على المدة المعينة، فاختلف في إسقاط بعض الكراء على تقدير الاستعمال على قولين: مذهب ابن القاسم في المدونة: السقوط، واختلف عليه في كيفية التقويم، فقيل: يقال: كم كراء مثل هذا الثوب شهراً ملبوساً؟ فيقال مثلاً: عشرة. فيقال: وكم ينقصه اللبس؟ فيقال مثلاً: خمسة. فيقال: على الذي حبسه خمسة؛ لأنه كأنه استأجره بعشرة رد عليه في الثوب منها خمسة. ابن يونس: وفيه نظر؛ إذ قد ينقصه اللبس والركوب في مدة حبسه قدر كرائه، فيؤدي إلى أن لا يغرم شيئاً وهو قد حبس تلك المنافع، وإنما يقال: بكم يكرى هذا الثوب على أن لا يلبس، وهذه الدابة على أن لا تركب؟ فما قيل يساوي كراؤه، وجب عليه غرمه. وللخمي نحو ما اختار ابن يونس، والقول بعدم الإسقاط لعدم الاستعمال هو ظاهر قول غير ابن القاسم في أكرية الرواحل، أن عليه العمل من كراء المثل ونسبة المسمى، عمل عليها شيئاً أم لا. وَلَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَحَبَسَهَا فَكَذَلِك وَالْكِرَاءُ الأَوَّلُ بَاقٍ ولو كانت مدة الإجارة غير معينة، بل اكترى دابة على أن يذهب عليها إلى موضع كذا أو يحمل عليها شيئاً ولم يذكر أياماً بأعيانها، فحبسها المكتري عنده ولم يخرج بها، لزمه في مدة حبسها ما ذكره المصنف فوق هذا على القولين، والكراء الأول باقٍ.

فإن قلت: فقد قال المصنف أولاً، وإذا لم يعين ابتداء المدة حمل من حين العقد، فينبغي أن ينفسخ في غير المعين كالمعين. قيل: لعل قوله: "من حين العقد" محمول على الحكم؛ أي: لو رفعه إلى الحاكم فحكم عليه بأخذها والانتفاع بها حتى لو ترك حينئذٍ لزمه الكراء ويصير كالمعين. ولعله في هذه المسألة لم يرفعه، هكذا ظهر لي، فتأمله. وَلَوْ أَخْلَفَهُ رَبُّ الدَّابَّةِ لَمْ تَنْفَسِخْ وَلَوْ فَاتَ مَا كَانَ يَرُومُهُ إِلا إِنْ كَانَ اكْتَرَى يَوْماً بِعَيْنِهِ، بِخِلافِ الْحَجِّ لأَنَّ الأَيَّامَ فِي الْحَجِّ مُتَعَيِّنَةٌ ... (لَمْ تَنْفَسِخْ) هو مذهب المدونة ففيها: قال مالك: في الدابة بعينها يكريها ليركبها إلى غد فيغيب ربها، ثم يأتي بعد اليومين والثلاثة، فليس له إلا ركوبها. (وَلَوْ فَاتَ مَا كَانَ يَرُومُهُ) أي: يقصده من تشييع شخص أو تلقي رجل أو نحو ذلك. وعلل ابن المواز ذلك بأنه كاشتراء سلعة بعينها يدفعها من الغد أو مضمونة، فمطله بذلك حتى فاته ما يريد فلا حجة له، وإنما له السلعة. وقاله مالك في الأضاحي: إذا أسلم فيها فيؤتى بها بعد أيام النحر، أنها تلزمه. قوله: (إِلا إِنْ كَانَ اكْتَرَى يَوْماً بِعَيْنِهِ) يعني: فأخلفه المكتري، فإنه يفسخ. ابن المواز: ولا يجوز فيه ولا في الحج التمادي، وإن رضيا. وقوله: (بِخِلافِ الْحَجِّ) راجع إلى قوله: (لَمْ تَنْفَسِخْ). قوله: (لأَنَّ الأَيَّامَ فِي الْحَجِّ مُتَعَيِّنَةٌ) هو تعليل ابن المواز. اللخمي: وإذا تغيبت الجمال يوم خروجك إلى الحج فالكراء منفسخ. وقال في الموازية: لا ينفسخ.

وقال غيره: في غير الحج ينفسخ، قال: والفسخ في كلا الموضعين؛ فإنه لا يختلف أنه لو رفعه إلى الحاكم لفسخه عنه لما عليه من الضرر في الصبر. وَلَوْ آجَرَ مُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ وَمَاتَ قَبْلَ مُدَّتِهَا فَفِي انْفِسَاخِها قَوْلانِ إذا أكرى مستحق الوقف بالنقد لم يجز إلا السنة والسنتين، ويجوز له أن يكري لما شاء من السنين وإن طالت المدة إذا كان الكراء منجماً، فكلما حل نجم أخذ كراءه وقدم له كراء نجم آخر، فإن مات قبل انقضاء [624/أ] المدة، فقال ابن شاس: إذا مات البطن الأول من أرباب الوقف بعد الإجارة وقبل انقضاء المدة، انفسخت الإجارة في باقي المدة؛ لأنه تناول بالإجارة ما لا حق له فيه. وقيل: إذا أكرى مدة يجوز الكراء إليها لزمه باقيه. ابن راشد وغيره: والأول أصح. و (مُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ) هو المحبس عليه. وَلَوْ آجَرَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ مُدَّةً فَبَلَغَ قَبْلَهَا انْفَسَخَتْ فِي الْبَاقِي الولي يعم الأب والوصي والمقدم. (فَبَلَغَ قَبْلَهَا) أي: قبل انقضائها، على حذف مضاف. (انْفَسَخَتْ) الإجارة (فِي الْبَاقِي) أي: في باقي المدة. وهكذا قال في المدونة، وظاهره أن بنفس البلوغ يخرج من الحجر. عياض: ولا يختلف أن هذا لا يكون في الوصي، ولا في الأب على المعروف كما تقدم، ولهذا قيد ابن القاسم ويحيى بن عمر المسألة بأن يبلغ رشيداً. إِلا أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لا يَبْلُغُ فِيهَا فَيَلْزَمُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي يَسِيراً كَالشَّهْرِ يعني: أنها لا تنفسخ إلا باجتماع شرطين: أن يظن أن الصبي لا يبلغ قبلها، وأن يبقى من المدة يسير.

قال في المدونة: كالشهر ويسير الأيام. تنبيه: أخذ من هذه المسألة جواز مؤاجرة الأب والوصي لليتيم. عياض: وهو المشهور في الأب والمتفق عليه في الوصي. وفي المتيطية في باب النفقة: للأب أن يؤاجر الصغير للنفقة عليه، كان الأب غنياً أو فقيراً، وبه قال غير واحد من الموثقين. وقال بعض الفقهاء: إذا كان الأب أو الابن غنياً، لم يجز أن يؤاجره، ونحوه لمالك في الموازية: ويسلَّم لتعليم القرآن أو تجارة ونحوها مما يليق به. وهل للأب أن ينتفع بفاضل خراجه عن نفقته؟ منعه غير واحد من الموثقين، وأجازه أصبغ في الثمانية، ونحوه لابن لبابة في أحكام ابن بطال. فَلَوْ كَانَ رَبْعَهُ وَدَوَابَّهُ فَقِيلَ: مِثْلُهُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي كَثِيراً القولان في المدونة؛ الأول لغير ابن القاسم، والثاني لابن القاسم. ونصها: وإن أكرى ربعه ودوابه ورقيقه سنين واحتلم بعد مضي سنة، فإن كان يظن أن مثله لا يحتلم في تلك المدة فحصل الاحتلام وأُنس منه الرشد- فلا فسخ له، ويلزمه باقيها؛ لأن الوصي صنع ما يجوز، وقال غيره: لا يلزمه إلا فيما قل. قال ابن القاسم: وإن عقد عليه إجارة يعلم أنه يبلغ قبله، لم يلزمه في نفسه إلا فيما يملك من ربع أو غيره، وكذلك الأب. والفرق على قول ابن القاسم بين ربعه ونفسه شدة الضرر في النفس.

ابن عبد السلام: واختار بعضهم قول ابن القاسم، إلا أنه قيده بشرط أن لا يكون الوصي فعل ذلك من أجل حاجته إلى الإنفاق عليه في زمان إن لم يفعل باع تلك الأرض والدار، فيلزم حينئذٍ ولو طالت المدة. وَرَبْعُ السَّفِيهِ الْبَالِغِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً يَمْضِي وَإِنْ رَشَدَ، وَقِيلَ فِي السَّنَةِ وَنَحْوِهَا فَقَطْ أي: وفي إجارة ربع السفيه. وقوله: (وَإِنْ رَشَدَ) أي: قبل انقضائها، وهذا قول ابن القاسم في المدونة، قال: لأن الوصي عقد ما يجوز له، ولأنَّ الرشد لا تعلم له غاية. وقوله: (وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ) أي: أنه لا يمضي إلا في السنة، وهو قول غيره فيها، قال: لأنه جل كراء الناس. وَلا تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ بِعِتْقِ الْعَبْدِ، وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ عَبْدٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ، وَأُجْرَتُهُ لِسَيِّدِهِ إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّهُ حُرٌّ بَعْدَ الْمُدَّةِ ... يعني: لو آجر عبده سنة، وفي معنى ذلك إذا أخدمه سنة ثم أعتقه قبل السنة، لم تنفسخ الإجارة بسبب عتق العبد لتعلق حق المستأجر والمخدم. وقوله: (وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ عَبْدٍ) يريد: في شهادته والقصاص منه وله، ولا يريد أنه يساوي العبيد في جميع أحكامهم. ألا ترى أنه لا يجوز للسيد وطؤها إن كانت أمة؟ وقوله: (حَتَّى تَنْقَضِيَ) أي: الإجارة، قال في العتق الثاني من المدونة: إلا أن يترك المستأجر أو المخدم للعبد بقية الخدمة، فيعجل عتقه. اللخمي: وقيل في هذا الأصل: لا يعجل عتقه؛ لأن للسيد حقاً في الجناية عليه قبل السنة. خليل: وهذا إنما يأتي إذا أراد السيد أنه حر بعد السنة، وأما إن أراد أنه ينجز عتقه، فإن الظاهر أن أرش الجناية للعبد والله أعلم.

قوله: (وَأُجْرَتُهُ لِسَيِّدِهِ ... إلى آخره) فقال أشهب: ويحلف على ذلك، فإن نكل كانت الأجرة للعبد. وَلا تَنْفَسِخُ بِفِسْقِ الْمُسْتَاجِرِ كَشُرْبِهِ وَسَرِقَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُفَّ أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ كَبَيْعِهَا لَوْ كَانَتْ مِلْكاً ... أي: لا تنفسخ الإجارة بفسق المستأجر. اللخمي: وأرى أن يخرج إن لم يتيسر كراؤها من يومه أو نحوه، وتخلى حتى يأتي من يكتريها، فإن لم يأتِ مكترٍ حتى خرج الشهر لزمه كراؤها. وقوله: (كَبَيْعِهَا لَوْ كَانَتْ مِلْكاً) وهو لمالك في الواضحة: أن الفاسق إذا أعلن بفسقه في داره أنه يعاقب على ذلك وإن لم ينته باع الإمام عليه. اللخمي: وأرى أن يبدأ بعقوبته فإن انزجر وإلا أكريت عليه، وإن لم ينته وكان يؤذي الجيران ويقول: آتي لداري ونحوه، بيعت عليه. وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمَالِكِ مِنَ الْمُسْتَاجِرِ يعني: أنه يجوز للمالك أن يستأجر من المستأجر ما كان استأجره منه من ربع أو حيوان، وعلى هذا فـ (اسْتِئْجَارُ) مصدر مضاف إلى الفاعل. وَيَقُومُ الْوَارِثَانِ مَقَامَ الْمُسْتَاجِرَيْنَ يعني أن الإجارة لا تنفسخ بموت المالك ولا المستأجر، بل يقوم ورثة كل واحد منهما مقامه؛ [624/ب] لأن من مات عن حق فلورثته. ابن عبد السلام: وجمع المصنف في تثنية المستأجرين اسم الفاعل واسم المفعول وهو غير جائز؛ إذ ليس ذلك ضم اسم إلى مثله.

ورد بأن كل واحد منهما مستأجر في المعنى؛ لأن الاستئجار طلب الأجر وكل منهما طالب له. وَإِذَا عَطِبَتِ السُّفُنُ أَوْ عَرَضَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْبَلاغِ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ عَلَى الْبَلاغِ وَلا شَيْءَ لِرَبِّهَا وَلَوْ غَرِقَتْ بِالسَّاحِلِ. ابْنُ نَافِعٍ: حُكْمُهَا حُكْمُ الْبَرِّ مَا سَارَتْ فَلِرَبِّهَا بَحِسَابِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنْ أَدْرَك مَامَناً يُمْكِنُ السَّفَرُ مِنْهُ وَحَاذّاهُ فَكَالْبَرِّ، وَإِلا فَعَلَى الْبَلاغِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جِعَالَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ أَوْ تَنْقَسِمُ .... كلام المصنف في هذه المسألة ظاهر التصور؛ لأنه عزى الأقوال ووجهها؛ يعني أن قول مالك مبني على أنها جعالة فلا يستحق الجعل إلا بتمام العمل كغيره من صور الجعل. وقول ابن نافع على أنها إجارة فيأخذ بحسابِ ما صار كالدَّوَاب. وروى أَصْبغُ أنها إجارة إن أدرك مأمناً يمكن السفر منه وجعالة إن لم يمكن. واستشكل بناء المصنف الأول على الجعالة؛ لأن الجعالة لا تلزم بالعقد وكراء السفن يلزم بالعقد عند مالك وابن القاسم، فأولى أن ينبني على أنها إجارة على البلاغ كما في المدونة، وقول مالك مقيد بقيدين: أولهما: أن لا ينتفع بحمالته، وقد نقل سحنون عن ابن القاسم في من اكترى سفينة من الإسكندرية إلى الفسطاط فغرقت في الطريق، واستخرج نصف القمح وجعله في غيرها، أنَّ لرب السفينة الأولى كراء ما يخرج من القمح بقدر ما انتفع به ببلوغه إلى الموضع الذي غرقت فيه، وقاله سحنون في كتاب ابنه وشبهها بمسألة حفر البئر يحفر بعضها ثم يترك وتكمل فإنه يعطى الأول بقدر ما انتفع به رب البئر. القيد الثاني: قيد يحيى بن عمر قوله: (وَغَرِقَتْ بِالسَّاحِلِ) بما إذا لم يكن من أرباب المتاع تفريط في نقل المتاع، وأما إن فرطوا لزمهم الكراء، وكذلك لو أخذوا في التفريغ فركبهم الهول ومنعهم منه حتى غرقت لكان الكراء على من سلم متاعه دون من لم يسلم.

وقوله: (عَرَضَ) بفتح الراء. الجوهري: ومعناه ظاهر؛ أي: من ريح أو قلة ماء أو نحو ذلك وفي المسألة قول رابع: إن كان سيرهم عرضاً فهو البلاغ، وإن كان طولاً فلهم بحساب ما ساروا. وَإِذَا خِيِفَ عَلَى الْمَرْكَبِ الْغَرَقُ جَازَ طَرْحُ مَا يُرْجَى بِهِ نَجَاتُهَا غَيْرَ الآدَمِيِّ بِإذْنِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَيَبْدَأُ بِمَا ثَقُلَ جِسْمُهُ وَعَظُمَ جِرْمُهُ ... (الْمَرْكَبِ) بفتح الميم والكاف ومراده بالجواز الوجوب؛ لأن حفظ النفوس واجب، وعبر المصنف بعبارة الأكثرين هنا؛ وذلك أن إتلاف المال لغير فائدة حرام والجواز هو المقابل للتحريم، فإن أرادوا رفع التحريم رفعوه بالجواز. قوله: (مَا يُرْجَى بِهِ نَجَاتُهَا) أي من حيوان بهيمي وعرض، ولما كان الطرح واجباً لإحياء نفوسهم لم يحتج إلى إذن المالك. وقوله: (غَيْرَ الآدَمِيِّ) قد تقدم في باب الجهاد أن اللخمي انفرد بجواز الطرح بالقرعة ويبدأ بما ثقل جسمه وعظم جرمه، وإن لم يثقل كأعدال القطن ونحوه، ويبدأ بهذا؛ لأنه المحتاج إلى طرحه، ولأنه بطرح ذلك يسلم ما هو أرفع. وَيُوَزَّعُ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ مِمَّا يُطْرَحُ أَوْ مِمَّا لَا يُطْرَحُ عَبِيداً أَوْ نَاضَّاً أَوْ جَوْهَراً أي: يوزع المطروح فيكون من رمي له شريكاً بما يحاسب له في السالم في النماء والنقص. ابن القاسم: حتى يكون ما يطرح وما يسلم كأنه لجميعهم. ابن زيد: فإن كانت قيمة ما رمي كقيمة ما سلم، فلمن رمي متاعه نصف السالم، وإن كانت قيمته نصف قيمة السالم فله ثلث السالم، ولا شركة بين من لم يرم لهم بعضهم على بعض.

وقوله: (عَبِيداً أَوْ نَاضَّاً أَوْ جَوْهَراً) يعني: يوزع على جميع مال التجارة وإن كان ذلك المال لا يطرح وهو العبيد أو قليل الجرم، وهكذا قال ابن حبيب إن كان معه دراهم أو دنانير يريد بها التجارة فهي داخلة في الشركة. وقال ابن عبد الحكم وابن أبي زمنين: من كان معه عين فلا يلزمه شيء من قيمة ما طرح. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَرْكَبَ وَعَبِيدَهُ لا يَدْخُلُ هكذا قال ابن عبد الحكم: أجمع أصحابنا على أن المركب وعبيده لا يدخل في شيء من حكم الطرح, وقوله: (وَالْمَذْهَبُ) إما تبرِّياً منه، إذ بالطرح سلم الجميع، وإما إشارة إلى الخلاف، ويكون بمنزلة قوله: المنصوص، فابن حبيب نقل عن سحنون أن المركب يدخل فأحرى عبيده. وسئل ابن أبي زيد عن مركب كان مرسىً بالمهدية فأخذه هول فنقر بقاعه قاع البحر، فخيف عليه أن يهلك فرمى منه التجار بعض ما فيه ليخف ولا يصل إلى قاع البحر فذهب الهول وخلص المركب، فأراد أصحاب المتاع أن يدخلوا المركب في قيمة ما طرح وأبى صاحب المركب، فقال: إذا رمي خوفاً على المركب دخل في القيمة. وَمَا لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَالْعَدَمِ طُرِح أَوْ لَمْ يُطْرَحْ يعني إن طرح فلا شيء لصاحبه، وإن لم يطرح فلا شيء على ربه، ونقل على ذلك الاتفاق. ابن عبد السلام: ولا يبعد تخريج الخلاف من الخلاف الذي في المركب وعبيده. وهو قول أهل العراق وهو الذي مال إليه ابن يونس وقال: إنه القياس؛ إنه لا فرق بين عروض التجارة وعروض القنية في التوزيع.

وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْرُوحِ [625/أ] مَتَاعُهُ فِي مَا يُشْبِهُ لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته وظاهره أنه يصدق في ثمنه وفي صفته ومقداره، وفي ذلك تفصيل، أما الثمن فقال ابن القاسم: هو مصدق بيمينه في تلف متاعه المطروح والسالم ما لم يأت بما يستنكر ويتبين كذبه فيه. وقال سحنون: القول قول بغير يمين إذا ظهر صدقه، إلا أن يتهم فيحلف. وأما الصفة فقال ابن أبيزيد: إذا ادعى صاحب المتاع أن صفته كذا وكذبه الباقون فالقول قولهم مع أيمانهم، فإن جهلوا فالقول قوله مع يمينه. وأما قدره فإذا ادعى المطروح له الكثير وقال رب المركب: لم يستحق عندي إلا أقل ما ادعى، فقيل: يرجع إلى ما في التنزيل؛ لأن أمر الناس جرى إليه، وما كان داخل المتاع مما يخفى ذكره في التنزيل فالقول قول صاحب المتاع فيه مع يمينه إذا أتى بما يشبه أن يملك مثله. وخالفه ابن يونس فيما لم يكتبه في التنزيل ورأى أنه مدعٍّ فيه، قال: وقد ظلم نفسه؛ إذ لم يكتبه فيجب أن لا يصدق. فرع: فإن زعم رب السفينة أنه رمى بعض ما فيها لهول أصابه وكذبه أصحابه، فقال أبو سعيد ابن أخي هشام: هو مصدق في العروض في قول ابن القاسم، ولا يصدق في الطعام إلا ببينة. وَفِي صِفَةِ التَّوْزِيعِ أَرْبَعَةٌ: بِقِيمَتِهِ وَقْتَ التَّلَفِ، وَأَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ، وَمَكَانِ الْحَمْلِ، وَمَا اشْتُرِيَ بِهِ ... القول باعتبار قيمته وقت التلف رواه أشهب؛ أي في موضع طرح فيه في البحر.

والقول باعتبار قيمته في أقرب المواضع ذكره ابن شاش ولم يعزه، وعلله بأنه لا قيمة له في محل التلف. ابن عبد السلام: ولعل الأول يرد إليه؛ إذ قد لا تكون له قيمة حين التلف. والقول باعتبار قيمته في (مَكَانِ الْحَمْلِ) أي: مكان حمل منه لمالك في المختصر. وقال مالك في موضع آخر من المختصر: قيمته في موضع يحمل إليه. والقول بـ (مَا اشْتُرِيَ بِهِ) لابن القاسم من رواية أصبغ في الواضحة وقيده في الرواية بأن يكون الشراء لا محاباة فيه، قال: وهذا إن اشتروه من مكان واحد، وأما إن كان اشتراؤه من مواضع شتى أو فيهم من اشترى ومن لم يشتر وقد طال مكث شرائه حتى حالت سوقه قوم الذاهب والسالم بالموضع الذي ركبوا منه يوم يركبوا، ثم يكونون بتلك القيمة شركاء في السالم، قال: وقول جميع أصحاب مالك كذلك في العتبية عن ابن القاسم. ابن عبد السلام: والأقرب هو الأول مقيد بالقول الثاني، وكيف يكونون شركاء بقيمته يوم حملوه، ولو ضاع مال أحدهم قبل هول البحر لم يضمنوه؟ ولم يحسن أيضاً وأن يضمنون بقيمته في الموضع المحمول إليه مع اتفاقهم أنه إن هلك قبله فمن ربه. وَالْمُسْتَاجِرُ أَمِينٌ عَلَى الأَصَحِّ أي: فلا ضمان عليه كان المستأجر عليه مما يغاب عليه أم لا. ومقابل الأصح أثبته اللخمي وغيره كالمصنف، وذكر اللخمي أنه في كتاب ابن سحنون، وقال أشهب في الجفنة يدعي ضياعها: إنه ضامن، وأنكر ابن المواز أن تكون الرواية هكذا وقال: وإنما الرواية في دعواه الكسر؛ لأنه يقدر على تصديق نفسه بإحضار الفلقتان وأما الضياع فيصدق، ولهذا قال مالك في رواية أخرى: وأين الفلقتان؟

ابن المواز: إلا أن يقول سرقت مني الفلقتان أو تلفتا. وحكى صاحب البيان الاتفاق على نفي الضمان قال: فلا أعلم فيه خلافاً إلا ما لابن القاسم في الدمياطية في مكتري دابة يشترط عليه الضمان قال: لا ضمان عليه، قال: والمناجل وآلة الحديد يضمنها، قال: وهو شذوذ، قال: وظاهر كلامه في الدابة أنه كراء فاسد، وعليه في الفوات كراء المثل، وفسر مسألة الدمياطية بأنها كبيع الثنيا يجبر مع القيام ويكون للمكتري في الفوات الأكثر. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الأُجْرَةِ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، وَقِيلَ: تَسْقُطُ بِحِسَابهَا (وَيَلْزَمُهُ) معطوف على مفعول القول المحذوف؛ أي قال ابن القاسم: المستأجر أمين ويلزمه جميع الأجرة. قال في المدونة: إلا أن يأتي ببينة على وقت الضياع، وكان معه قوم في السفر فيشهدوا أنه أعلمهم بضياع ذلك وطلبه بمحضرهم، فيحلف فيسقط عنه من يومئذٍ ما بقي من المدة. وعلى هذا فقول المصنف: (مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ) ليس بظاهر؛ لحضرة البينة إلا أن يفهم قوله: (بَيِّنَةٌ) على البينة التي تعرف أنه ذكر الضياع. قال فيها: وقال غيره: لا يلزمه من الأجرة إلا ما قال أنه انتفع به، وبه أخذ سحنون وقال في قول ابن القاسم أنه يصدقه في الضياع ويغرمه الكراء فيما لم ينتفع به. ورأى ابن القاسم أن الكراء في ذمته فلا يبرأ منه إلا ببينة بخلاف المستأجر فإنه فيه أمين، وناقض التونسي قول ابن القاسم هنا بقوله في كتاب العارية فيمن استعار دابة وزعم ربها أنه أعارها إلى دون المكان الذي ركبها إليه، وقال ابن القاسم: القول قول المستعير في دفع الضمان. وأجاب ابن يونس بأن المستأجر مدعٍّ في دفع الأجرة فعليه البيان.

وَفِي ضَمَانِهِ مَا آجَرَهُ لِغَيْرِهِ ثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: إِنْ كَانَ فِي مِثْلِ أَمَانَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ يعني: واختلف في [625/ب] ضمان المستأجر ما آجره لغيره على ثلاثة أقوال: الأول: عدم الضمان مطلقاً وهو غير موجود، ولا يقتضيه الفقه؛ إذ لا ينتفي الضمان إذا آجره لمن ليس في مثل أمانته. الثاني: أنه يضمن مطلقاً وهو معترض أيضاً؛ لأنه إذا آجر لغير من هو في أمانته فالضمان ظاهر، وإن كان لمن هو في أمانته فلا، وإنما وقع في المدونة مقيداً بالثوب قال: لاختلاف الناس في اللباس، مع أن سحنون اختار نفي الضمان واحتج بمسألة الفسطاط. والثالث: ظاهر التصور. وَأَمَّا الصَّانِعُ كَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ فَضَامِنٌ، وَحُكْمُهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ عَمِلَ فِي بَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ، بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، تَلِفَ بِصُنْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، إِذّا انْتَصَبَ لِلصَّنْعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ رَبِّ السِّلْعةِ وَلَمْ يَكُنْ مُلازِمَهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا- فَأَمِينٌ ... لما قدم المصنف أن الأجير أمين استثنى الصانع ولهذا أتى بـ (أَمَّا) المقتضية للتفصيل وأشار بـ (الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ) إلى أنه لا فرق في الصانع بين أن يكون التغيير في ذات المصنوع كالخياط أو صفته كالصباغ، ولما كان تضمينهم على خلاف الأصل أشار المصنف إلى الاستدلال عليه بالمنقول عن الخلفاء. قال في المدونة وغيرها: وقد قضى الخلفاء بالتضمين وظاهر هذا أن عثمان رضي الله عنه منهم، وعلى هذا فسكوت المصنف عنه ليس بظاهر، ثم حكم الخلفاء مستلزم للإجماع؛ إذ لم ينكر حكمهم. وقد نقل عبد الوهاب وغيره في المسألة الإجماع ولا يقال: قد نقل عن علي رضي الله عنه خلاف ذلك؛ لأن صاحب المقدمات لم يُثبِت ذلك عنه، وضمير (حُكْمُهَا) عائد على المسألة،

وفي بعض النسخ (حُكْمُهُمَا) بالتثنية وليست بشيء لعودها على الخياط والصباغ، والنقل عن الخلفاء غير مخصوص، ووجه تضمينهم من جهة المعنى ما قاله عبد الوهاب وغيره. ثم نظرنا فرأينا: من قبض مالاً على المنفعة لربه فقط كالوديعة يكون ضمانه من ربه، وإن كان لمنفعة الأخذ كالمسلف يكون ضمانه من آخذه، فجعلنا المشترك بينهما كالرهن والعارية على هذا التفصيل لقوة التهمة فيما يغاب عليه، وأيضاً فإنهم لم يؤتمنوا وإنما الضرورة دعت الناس إلى الدفع إليهم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: لا يصلح للناس إلا ذلك. فكان من المصلحة العامة تضمينهم ترجيحاً للمصلحة العامة. وذكر أبو المعالي أن مالكاً كثيراً ما يبني مذهبه على المصالح، وقد قال أنه يقتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين. المازري: وهذا الذي حكاه أبو المعالي صحيح. وقوله: (بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) ظاهر، ولو قيل بعدم الضمان إذا كان بغير أجر ما بعد؛ لما تقدم أن عبد الوهاب وغيره نصوا على أن القابض لمنفعة ربه فقط لا يكون عليه ضمان. وقوله: (بِصُنْعِهِ) كما لو ادعى أن سارقاً سرقه. ابن رشد: الضمان بسبب الصنعة إنما هو إذا لم يكن فيها تغيير، وأما إذا كان فيها تغيير كثقبل اللؤلؤة ونقش الفصوص وتقويم السيوف وإحراق الخبز عند الفران والغزل في قدر الصباغ، فلا، إلا أن يعلم أنه تعدى فيها وأخذها على غير وجه مأخذها، ونحوه لابن المواز. وقوله: (إِذّا انْتَصَبَ لِلصَّنْعَةِ) شرط في الضمان ثلاثة شروط أو شرطاً مركباً من ثلاثة أجزاء: الأول: أن ينصِّب نفسه للصنعة بخلاف الأجير الخاص للرجل والجماعة دون غيرهم، والصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للصنعة فلا ضمان على هؤلاء؛ لأن التضمين إنما كنا للمصلحة العامة وقيده بعضهم إذا عمله بغير أجر وإلا فيضمن.

ابن يونس: وحكى هذا القائل أنه منصوص للمتقدمين، وقد نقل عبد الحق وغيره عن القرويين القولين؛ أعني: هل الضمان على من لم ينصب نفسه للصنعة مطلقاً أو بشرط أن لا يأخذ أجرة؟ ونقل بعضهم الاتفاق على الثاني. المازري: واختلف إذا كان هذا الصانع الذي لم ينصب نفسه عمل بغير أجر؛ فقال عيسى: لا ضمان عليه، وقيل: يضمن، والصواب أنه يضمن وهي رواية رأيتها للمتقدمين. الشرط الثاني: أن لا يكون في بيت رب السلعة، وإلا فلا ضمان عليه جلس معه أم لا بأجر أم لا. ابن حبيب: لأنه هنا أجير خاص. الشرط الثالث: أن لا يكون رب السلعة ملازمه، وإلا فلا ضمان عليه؛ لأنه بحضوره معه يشبه الصانع الخاص. وقد حكى اللخمي في هذا خلافاً فقال: اختلف إذا عمله الصانع في حانوته بحضرة صاحبه، فقال محمد: القول قول الصانع في تلفه، وفي الواضحة في مثل ذلك: أنه ضامن، وليس بحسن. ونوزع اللخمي فيما ذكره عن الواضحة؛ لأن الذي فيها وفي العتبية: إذا جاءه بثوب يكمده له فكمده مع رب الثوب فأصابه خرق، فإن كان مِن فعل ربه لم يضمن وإن كان من فعل الكمَّاد فهو ضامن، وإن جهل بينهما يكون على الكماد نصف ما نقصه، وإن انفرد الصانع بالكمد فعليه الضمان وإن لم يفرط، فقيل: إنما ضمانه هنا بالفساد وتلف مال الغير الذي يستوي في ضمانه العمد والخطأ فلا يكون الصباغ كذلك. ابن رشد: وقوله: (وَإِنْ جَهِلَ) معناه: أنهما [626/أ] قالا: لا ندري مِن عمل من هو، وأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه فالحكم أن يحلفا، فإن حلفا أو نكلا ضمن الصانع

النصف، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر عمل على قول الحالف. قال: ولابن دحون أن ضمان الكماد بحضرة رب الثوب على ما قال ابن القاسم ولا يستقيم. قال: وإذا حضر عمل متاعه أينما كان فلا ضمان على الصانع، وإن كان العمل في موضع الصانع. ابن رشد: وقاسه على حامل الطعام وما أصاب؛ لأن حامل الطعام ضمن للتهمة، فحضور ربه معه رافع لها، وإفساد الثوب قد علم أنه من الكماد. وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ مُلازِمَهُ) يريد الإفساد مسألة الكماد، وانظر هل يأتي على ما تقدم لأشهب من الضمان مع البينة الضمان هنا، لأن التهمة فيهما منتفية، فإذا ضمنه في إحداهما فكذلك في الأخرى أولى؛ لأن التلف في مسألة الحضور مقطوع به، بخلافه في البينة فإنه مظنون وتردد في ذلك بعض الأشياخ وقوله: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا) إما كون الصانع في بيت رب السلعة، وإما ملازمة ربها. (فَأَمِينٌ) أي: فالصانع أمين ولا ضمان عليه. و (كَانَ) تامة، وفي كلامه حذف مضاف تقديره: فإن حصل نقيض أحد الأمرين- بحصول أحدهما، فإن لم يكن في بيت ربها أو لم يكن ربها ملازماً له- مقتضي للضمان، وفي بعض النسخ: (أحدها) فيعود على الثلاثة. وَالْوَاجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ دَفْعِهِ لما ذكر الضمان وشرطه تكلم على زمانه. تصور كلامه ظاهر. قال في المدونة والواضحة: وليس لربه أن يقول أؤدي الأجرة وآخذ قيمته معمولاً.

قال في المقدمات: إلا أني قول الصانع أنه تلف بعد العمل، فيكون لربه أن يؤدي إليه أجرة عمله ويضمنه قيمته معمولاً. قال: وهذا على القول: إن البينة إذا قامت على تلفه معمولاً أنه يلزمه أداء الأجرة وتكون مصيبته منه، وهذا أحد قولي ابن القاسم في الموازية. وخرج جماعة قولاً بلزوم القيمة لآخر يوم رئي عنده على القول به في الرهن، واختلف في الخياط يقطع الثوب ثم يغيب عليه، ففي الموازية: عليه قيمته صحيحاً قبل قطعه، ولو كانت شقة فقطع منها ثوبين وادعى ضياع أحدهما كان عليه نصف الشقة صحيحة لا قيمة نصف صحيح. وقال ابن القاسم في مختصر ما ليس في الختصر: يغرم قيمته مقطوعاً. اللخمي: ويختلف على هذا إذا أفسد الخياط بالخياطة أو القطع، فعلى ما في المدونة: يغرم قيمته صحيحاً في الوجهين، وقال ابن شعبان: إن كان الفساد في القطع غرم قيمته صحيحاً، وإن كان في الخياطة غرم قيمته مقطوعاً. اللخمي: وهو فقه حسن؛ يعني: فيغرم قيمته على الوجه الذي أفسده عليه. قال في المدونة: وإذا فرغ الخياط أو الصانع من عمل ما في يده، ثم دعا صاحب المتاع، فقال: خذ متاعك، فلم يأتِ حتى ضاع المتاع عند الصانع، هو ضامن على حاله. اللخمي: يريد أنه لم يحضره، ولو كان أحضره ورآه صاحبه مصنوعاً على صفة ما شارطه عليه وكان قد دفع الأجرة ثم تركه عنده فادعى ضياعه لصدق؛ لأنه خارج عن حكم الإجارة إلى حكم الإيداع، ونص أبو الحسن على أنه وفاق للمذهب. وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ فَفِي سُقُوطِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أي: فإن قامت بينة على تلفه عند الصانع من غير صنعة، ففي سقوط الضمان على الصانع قولان:

مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك: السقوط، ومقابله لأشهب بناءً على أن الضمان للتهمة وهي زالت بقيام البينة أو بالأصالة. فرع: قال في المدونة: ويضمن القصار قرض الفأر؛ إذ لا يعرف ولو علم أن الفأر قرضه من غير تضييع وقامت بذلك بينة لم يضمن. محمد: إذا لم يضيع. وقال ابن حبيب: إذا ثبت بالبينة أن الذي أصاب الثوب قرض فأر أو لحس سوس وهو بيد صانع أو مرتهن لم يضمن، ولو قال رب الثوب: إنهما ضيعا، وأنكرا ذلك صُدِّقا، فعلى رب الثوب البينة أنهما ضيَّعا؛ لأن قرض الفأر والسوس أمر غالب والتعدي لا يلزم بالدعوى. ابن يونس: وظاهر المدونة أن عليه البينة أنه ما ضيع؛ لأن الثوب بيده على الضمان فلا يخرجه إلا البينة، وقد تقدم الكلام على إحراقه أو إحراق بعضه إذا احترق منزله في الرهن. وَعَلَى سُقُوطِهِ: فَفِي سُقُوطِ الأُجْرَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَوَّازِ يعني: ويتفرع على سقوط الضمان إذا قامت البينة بهلاكه مصنوعاً في سقوط الأجرة قولان؛ فابن القاسم يسقطها ومحمد لا يسقطها، وحكاية المصنف الخلاف في الأجرة يستلزم أن تكون البينة قامت على هلاكه مصنوعاً كما قلنا؛ إذ هو المحل الذي يسقط ضمان الصانع، والنقل أيضاً كذلك فرأى ابن القاسم أن الصانع لم يسلم الصنعة لرب السلعة، ولا يستحسن الأجرة إلا بالتسليم. ورأى محمد أن وضع الصنعة في السلعة كوضعها في يده.

وزاد في البيان ثالثاً: بالفرق بين قيام بينة وعدمه، ورابعاً: أن عليه الأجرة، سواء قامت بينة على ضياعها قبل العمل أو لا، ويؤدي قيمته معمولاً؛ أخذه من قول ابن القاسم في العتبية: إذا نقص الدقيق فعلى الطحان ضمان ما ينقص مثل قيمته من الدقيق. ابن رشد: وهو خلاف مذهبه في المدونة ولا يجوز على مذهبه فيها أن يأخذ ما نقصه من الدقيق لما يدخله من التفاضل بين القمح والدقيق؛ إذ الواجب عليه ما نقصه من القمح فإن كان القمح مثلاً ثمانية أقفزة ويزيد بالطحن قفيزاً، فلم يجد إلا ثمانية فعليه ثمانية أتساع قفيز من قمح وعليه طحنه ويأخذ جميع أجرته، وإن لم يطحنه أنقصه تسع الأجرة فلو أخذ منه على هذا دقيقاً لكان قد ابتاع منه قفيز دقيق بثمانية أتساع قفيز من قمح وبتسع الأجرة فيدخله التفاضل. وَلَوْ شَرَطَ نَفْيَ الضَّمَانِ فَفِي انْتِفَاعِهِ بِهِ رِوَايَتَانِ ضمير (شَرَطَ) عائد على الصانع، وضمير (انْتِفَاعِهِ) عائد على الضمان، وفي بعض النسخ (وفي انتفائه) فيعود الضمير على الصانع. (رِوَايَتَانِ) روى ابن القاسم أنه لا ينفعه شرطه وبما قال قال في الجواهر. وروى أشهب أنه ينفعه ولم يذكر صاحب النوادر والباجي وصاحب المقدمات ذلك على أن أشهب رواه، بل على أنه قاله. نعم، تقدم في الرهن أن أشهب روى عدم الانتفاع بالشرط فيه والباب واحد ورأيت للخمي وغيره أن هذا الخلاف إنما هو في الصانع الواحد، وأما لو اشترط الصناع كلهم نفي الضمان فيتفق على أنهم لا يوفى لهم بذلك؛ لأن في الوفاء لهم عدم ما تقدم من الدليل. واعلم أن بعض شيوخنا قال لمن اشترط نقل الضمان من محل إلى محل غيره: فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكون المحل استقر فيه الضمان لم يختلف فيه أحد من العلماء أنه

محل له فهذا لا يجوز نقله بلا خلاف، أو يكون فيه خلاف في المذهب كالغائب والمحبوسة بالثمن فهذا لا خلاف في جواز نقل الضمان من أحد المحلين إلى الآخر. وإما أن يكون متفقاً عليه في المذهب، وفيه خلاف خارجي كالصناع فهذا وشبهه فيه قولان، وعلى هذا فلا يعد أن يختلف في المسألة وإن اشترط الصناع كلهم نفي الضمان، فانظره. أَمَّا لَوْ بَاعَهُ دَقِيقَ حِنْطَةٍ عَلَى الْكَيْلِ وَعَلَيْهِ طَحْنُهَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ (فَالضَّمَانُ) أي: على البائع وإن قامت البينة على التلف اتفاقاً، وحاصله: أن ما تقدم من سقوط الضمان إذا قامت البينة على الهلاك إنما هو فيما ليس فيه حق توفية بعد الصنعة وأما ما فيه ذلك فيتفق على أن الضمان منه، ولهذا أتى بـ (أَمَّا) المشعرة بالتفصيل. ابن عبد السلام: وهذه المسألة إذن لا إشكال فيها وإنما كان ينبغي أن يذكر إذا باع حنطة على أن البائع طحنها، فهذا إذا قلنا بالجواز يمكن أن يقال أنه بيع وإجارة، وهل يضمنه مطلقاً أو يفرق فيه؟ وإن ضاع ببينة سقط الضمان، وإن كان بغير بينة وجب الضمان والمنصوص وجوب الضمان من البائع فهذا هو محل الإشكال والتنصيص عليه أولى. وَأَمَّا غَيْرُ مَحَلِّهَا بِالْحَاجَةِ كَالْكِتَابِ لْلنَّسْخِ، وَالْجَفْنِ يُصَاغُ عَلَى نَصْلِهِ، وَظَرْفِ الْقَمْحِ- فَقَوْلانِ ... ضمير (مَحَلِّهَا) عائد على الصنعة والباء سببية؛ أي بسبب الحاجة، واحترز به مما لا يحتاج الصانع إليه في عمله كدفع زَوْجَي خُفٍّ ليعمل في أحدهما فإنه اتفق على أنه لا يضمن إلا المصنوع. قال في البيان: اختلف في صفة تقويم المضمون فقيل: يقوم وحده، وقيل: يقومان جميعاً، ثم يقوم الثاني وحده فيغرم ما بين القيمتين ومنشأ القولين اللذين ذكرهما المصنف: هل الحاجة إليه تصيره كالمصنوع أو لا؟

وحكى في البيان ثلاثة أقوال: الأول: لا يضمن إلا ما فيه عمل وإن كان يحتاج إليه الصانع والمصنوع، وهو قول سحنون. والثاني: أنه يضمنه فيهما، وهو قول ابن حبيب. والثالث: أنه لا يضمن ما ليس فيه عمل وإن احتاج إليه الشيء المعمول، إلا أن يحتاج إليه في عمله، وهو قول مالك في سماع أحمد بن خالد، وقول ابن المواز. وقول المصنف: (يُصَاغُ عَلَى نَصْلِهِ) قيد الصياغة بأن تكون على النصل، فإنها لو كانت على الجفن لكان محلاًّ للصنعة فكان الصانع يضمنه ولا يأتي هذا الاختلاف فيه. وَالأُجَرَاءُ وَالصُّنَّاعُ تَحْتَ يَدِ الصَّانِعِ أُمَنَاءُ لَهُ يعني: إذا كان للأجير أجراء أو صناع تحت يده فتلف بأيديهم شيء بغير تعدٍّ فلا ضمان عليهم؛ لأنهم صناع له خاصة. واحترز بقوله: (تَحْتَ يَدِهِ) مما لو غابوا على السلع فإنهم يضمنون. فقد نص أشهب في العتبية والموازية: أنه لو أكثر الثياب على الغسال، فآجر آخر يبعثه بها إلى البحر فادعى تلفها أنه ضامن. ابن ميسر: وذلك إذا آجره على غسل أثواب فقاطعه؛ أي كل ثوب بكذا، وأما إن كان في إجارته يوماً أو شهراً فدفع إليه شيئاً يعمله في داره وغاب عليه فلا ضمان عليه. ابن يونس: وإنما يضمن أجير الصناع هنا؛ لأنه كصانع دفع إلى صانع ما استُعمل عليه. وفي الموازية في الخياط يدفع إلى الصبيان المتاع يمضون به إلى ديارهم ليتموها بالليل فيدعون الضياع أنهم لا ضياع عليهم. ابن ميسر: معنى ذلك أنهم عملوا جلها في الدكان بحضرة الصانع وبقي اليسير فانسحب عليهم حكم الأكثر في نفي الضمان.

قال في الموازية والعتبية: وإذا دفع ربُّ الثوب إلى الصانع إجارته فلم يدفع الصانع الأول للثاني إجارته فلرب الثوب قبض الثوب من الثاني بغير إجارة، ويتبع الثاني الأول إذا ثبت دفع رب الثوب إليه. بعض القرويين: والأشبه في القياس ألا يأخذ رب الثوب ثوبه من الثاني إلا أن يدفع إليه إجارته؛ لأنه ليس مستحقاً لعين الصنعة فيأخذها بغير شيء. ابن ميسر: وإن لم تقم بينة أنه دفع الأجرة للأول فليحلف الثاني أنه ما قبض أجرته ويكون على ربها الأقل من أجرة مثله أو من [627/أ] إجارة الأول، فيتبع هذا الهارب ببينة أجرته. قال في الموازية: ثم إن قدم الأول فأقر بقبض أجرته فليرجع الغارم على الثاني بما قبض منه. الشيخ أبو محمد: وهذا غير مستقيم ولا تقبل دعوى القادم على المقيم إذا كان القادم عديماً. ابن رشد: وقول الشيخ صحيح، ولم ينص ابن المواز على أنه يرجع على الثاني لإقرار القادم إن كان عديماً فينبغي أنيحمل قوله على ما يصح إذا كان مليئاً، قال: وقول محمد: "يحلف الثاني ويأخذ الأقل" صحيح، وكذلك لو أقر صاحب المتاع أنه لم يدفع إلى الأول شيئاً، قال: وهذا إذا علم بما استؤجر له أو أقر بذلك الثاني، وأما إن لم يكن كذلك فلا سبيل إلى أخذ المتاع إلا بعد أن يدفع إليه جميع إجارته إن علمت وإن لم تعلم فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن القول قوله في مبلغها مع يمنيه إذا أتى بما يشبه وإن لم يأت بما يشبه لم يصدقه وله أجرة المثل. والثاني: أنه لا يكون له إلا أجرة المثل وإن أشبه ما ادعاه. وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم، قال: وإنما وجب أن يكون للثاني الأقل على صاحب المتاع؛ لأنه غريم غريمه، لا من أجل أن السلعة رهن له؛ إذ ليست برهن فلا

يكون له إمساكها ولا يكون أحق بها من صاحبها إن أفلس عند ابن القاسم، ولذلك لا يكون القول قوله إن ادعى أكثر من إجارة مثله. قال: وإنما وجب أن يكون لصاحب المتاع أخذه معمولاً، بل يغرم الثاني إذا كان دفع للأول؛ لأن العمل على الأول مضمون، ولو كانت الإجارة على عمل الأول بعينه لما وجب لصاحب المتاع. ولو كان قد دفع الأجر للأول إلا أن يعلم الثاني بتعدي الأول. قال: وهو الذي يأتي على أصولهم ولا أعلم فيها نصاً. وَأَمَّا أَجِيرُ حَمْلٍ- غَيْرِ الطَّعَامِ- فَإِنْ غَرَّ فِيهِ أَوْ فَرَّطَ ضَمِنَ، وَإِلا فَلا لمَّا فرغ من الصانع شرع في أجير الحمل وغيره، وما ذكره نحوه في المدونة، ففيها: وإن قال المكتري في حمل عرض أنه إن هلك أو سرق أو عثرت الدابة فانكسرت به القوارير فذهب الدهن صُدِّق، إلا أن يغر من عثار أو ضعف حبل فيضمن حينئذٍ. وقوله: (غَرّ) صَادَق على الغرور بالقول والفعل. اللخمي: فإن كان بفعل ضمن، وإن كان بقول ففيه قولان: هل يضمن أم لا؟ اللخمي: فإن عرف الحمال ضعف الحبل وربطه فهو غرور بفعل، وإن سمى الحبل للمكتري فربطه وكان المكتري هو الذي سيرها فهو غرور بقول. وعلى الضمان فقال ابن حبيب: يلزمه المثل أو القيمة بموضع هلك، وله من الكراء بحساب ما سار. ابن يونس: وهو قول ابن القاسم وعلى قول غيره يخير في أن يضمنه قيمته يوم تعدى؛ أو يوم هلك، وحمل اللخمي قول ابن القاسم على معنى قول الغير؛ لأنه قال: وقال ابن القاسم فيمن حمل دهناً من مصر إلى فلسطين وانكسر بالعريش وكان قد غر من الدواب أن عليه قيمته بالعريش؛ لأنه قال: قيمته بالعريش ضعف قيمته بالفسطاط والإنسان لا يختار إلا الأكثر.

وَفِي حَمْلِ الطَّعَامِ يَضْمَنُ مُطْلَقاً إِلا بِبَيِّنَةٍ أَوْ يَصْحَبُهُ رَبُّهُ، وَقَالَ بِهِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ قوله: (مُطْلَقاً) أي: لا فرق في الأقوات والإدام، بل يضمن جميعها على المشهور لسرعة الأيدي إليه خلافاً لابن حبيب كما سيأتي، ويحتمل أن يريد بالإطلاق سواء فرط أم لا؛ يعني: ولا تفصيل فيه كما في غير الطعام، وظاهر قوله: (يَضْمَنُ مُطْلَقاً) لأنه لا فرق في ذلك بين السفر والحضر. اللخمي: وهو المعروف، وقول ابن كنانة: لا ضمان عليه في المدينة؛ لأنه في المدينة قادر على أن يصحبه من غير ضرورة. (إِلا بِبَيِّنَةٍ) أي: فإن الضمان يسقط بها. وقوله: (أَوْ يَصْحَبُهُ رَبُّهُ) ثبت في بعض النسخ وسقط من بعضها؛ لأنه يؤخذ الحكم فيه من باب مفهوم الموافقة، فإن هلاكه بحضرة صاحبه أقوى في البراءة من هلاكه بحضرة البينة. وحكى اللخمي الخلاف في الضمان إذا حمله في البحر ولو صحبه ربه فقال: واختلف إذا حمله في السفر ببحر وصاحبه معه أو لم يكن معه صاحبه، وليس الطعام مما تدعو الحاجة إليه في الغالب. فالمعروف من المذهب أنه غير مصدق إذا غاب عليه وإذا حمله في البلد، خلافاً لابن كنانة قال: وإن صحبه في البحر ثم نقص أو ذهب بعضه، صدق عند مالك، وفي أكرية السفن أنه غير مصدق. ابن عبد السلام: قال بعضهم: إلا أن تلجئ قوماً ضرورة إلى من يخاف على الطعام معه فيستأجروه تقاية لشره وليدفع شر قوم آخرين فيضمن، أو تعلن منه الجناية فيضمن. اللخمي: وأرى أن يضمن الذي يحمل القمح والشعير والقطاني وما أشبه ذلك وإ، صحبه ربه إذا نقص؛ لأنه قد علم منه السرقة، ونص قول ابن حبيب: وإنما يضمنون من الطعام

الإدام ما كان قوتاً خاصة فمن ذلك القمح والشعير والدقيق والسلت والذرة والدخن والعلس والكرسنة، وليس الأرز من ذلك لأنه مما يتفكه به. أبو محمد: لعل هذا في غير بلد الأرز وإلا فبعض البلدان هو جل قوتهم. قال: يضمن الفول والحمص والعدس واللوبيا والجلبان، ولا يضمون الترمس؛ لأنه متفكه، ولا يضمنون من الإدام إلا الزيت والعسل والخل والسمن، وأما الرُّب والأشربة الحلال والجبن واللبن والزبد وسائر اللحم والأبزار فلا يضمنونه، ولا يضمنون من خضر الفواكه ورطبها ويابسها إلا التمر والزبيب والزيتون، ويضمنون الملح، ولا يضنمون شيئاً من الأدهان وكل ما لا يضمنوه فهم [627/ب] مصدقون في تلفه كالعروض. وأنكر هذا التفصيل جماعة. ابن يونس: وهو استحسان قوله (وَقَالَ بِهِ)؛ أي بالضمان في الطعام (الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ). زاد ابن شاس وربيعة: وذلك لمصلحة العامة لاحتياج الناس إلى حمله وسرعة يد الحامل إليه، فيضمنون كالصناع. تنبيه: قوله: (أَوْ يَصْحَبُهُ رَبُّهُ) لا يشترط دوام الصحبة فقد قال أصبغ في الموازية: إذا فارق رب الطعام حامله في بعض الطريق لم يضمن. وعلله محمد بأن أصل حمله لم يكن على التسليم. ونقل ابن يونس عن بعضهم أنه فصَّل فقال: إن فارقه على أن يعود فكذلك، وإن كان على أن لا يعود فعليه الضمان. وَأَمَّا أَجِيرُ الْحِرَاسَةِ فَلا يَضْمَنُ شَيْئاً أي: ولو كان طعاماً أو مما يغاب عليه هكذا نص عليه ابن المواز وغيره.

ابن المواز: وكذلك لا ضمان عليه إذا أعطاه طعاماً يبيعه فيضيع أو يضيع ثمنه، إلا أن هذا لا أجر له ولا ضمان عليه. قال: وإن استؤجر ليحرس بيتاً فينام فيسرق ما فيه، فلا يضمن وإن غاب عليه، وله جميع الأجرة وكذلك حارس النخل. وقال مالك في العتبية فيمن بعثت معها بخادم يبلغها موضع كذا بأجر مسمى فنام في الطريق فأبقت أو ماتت، فإن أبقت حوسب، وإن ماتت فله الأجرة كلها، وقال ابن القاسم: الموت والإباق واحد وله الأجرة كلها، ويستعمل في مثل ذلك حتى يتم أو يبلغ. وقال ابن وهب: له من الإجارة حيث بلغ فقط. فرع: واختلف قول مالك في ضمان السماسرة. ابن رشد: والذي أفتى به على طريق الاستحسان مراعاة للخلاف تضمينهم، إلا أن يكونوا مشهورين بالخير. ابن راشد: ورأيت بعض قضاة الإسكندرية ضمن السماسرة، وكأنه ذهب إلى أن ذلك من مصالح الناس العامة لفساد الزمان. وَالْحَمَّامِيُّ أَمِينٌ عَلَى الثِّيَابِ، وَقِيلَ: يَضْمَنُ (الْحَمَّامِيُّ): مكتري الحمام. ابن راشد: والأول قوله في المدونة، والثاني قوله في الموازية: يضمن إلا أن يأتي بحارس؛ ونحوه في العتبية؛ لأن فيها: وقد أشرت على صاحب السوق أن يضمن أصحاب الحمامات ثياب الناس، أو يأتوا بمن يحرسها. ابن يونس: ورأيت في بعض الحواشي عن ابن عبد الحكم مثله، وزاد: وألا ضمان على من يحرسها.

وأما حارس الثياب ففي البيان: إن أكراه صاحب الحمام بأجرة في ذمته فلا خلاف في نفي الضمان إلا أن يضيع أو يفرط، وإن كان بأجرة يأخذها من الناس، فقال مالك: لا ضمان عليه. ابن لبابة: وما سواه خطأ، وضمنه ابن حبيب، واختار اللخمي نفي الضمان عن الحمامي والحارس ولو دفع له أجرة؛ لأنه حينئذٍ كالمودع يدفع له أجرة على أمانته. ابن القاسم: ولو قال الحارس: جاءني إنسان فشبهته بك فدفعت إليه الثياب، ضمن. اللخمي: وكذلك يضمن إن رأى إنساناً يأخذ ثيابك فيتركه ظناً منه أنه أنت. وَكُلُّ مَنْ أَوْصَلَ نَفْعاً عَنْ عَمَل أَوْ مَالٍ بِأَمْرِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مِمَّا لابُدَّ لَهُ مِنْهُ بِغُرْمٍ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْعَمَلِ وَمِثْلُ الْمَالِ، بِخِلافِ عَمَلٍ يَلِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَبْدِهِ أَوْ مَالٍ يَسْقُطُ مِثْلُهُ عَنْهُ .. (أَوْصَلَ) يريد: ولو بغير قصد، كما قالوا في من حرث أرض غيره ظانّاً أنها أرضه. وقوله: (عَنْ عَمَل أَوْ مَالٍ) تبيين للنفع؛ مثال العمل: لو حرث لرجل كرمه أو سقى حرثه أو أرضه أو حصد زرعه أو قطع ثوبه وخاطه أو طحن قمحه بغير أمره، ومثال المال: لو أنفق على زوجته أو ولده أو عبده، وسواء كان ذلك (بِأَمْرِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) بشرط أن يكون ذلك الواصل مما لابد منه للمنتفع به. وقوله: (بِغُرْمٍ) شرط فيما يرجع به، واحترز به من أن يعمل له عملاً لا يحتاج إليه أو يتولاه صاحبه بنفسه، فلا غرم، أو ينفق على من لا يلزمه الإنفاق عليه، أو ينفق أكثر من القدر المحتاج إليه. المازري: ولا خلاف فيه إذا كان ربه ممن يتولاه بنفسه، وإلا فقد ذكروا خلافاً فيمن خاط ثوب غيره بغير إذنه.

فقال سحنون: يأخذه ربه ولا شيء عليه لخياطة هذا الفضولي. وقيل: لا يأخذه حتى يغرم لهذا الأقل من قيمة خياطته أو ما يخيط به هو. وقوله: (فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْعَمَلِ) أي: قيمة المنفعة، ومثال المال هو ظاهر إن كان من ذوات الأمثال. ابن عبد السلام: وإن كان من ذوات القيم، فيحتمل أن يقال عليه القيمة. وقوله: (بِخِلافِ عَمَلٍ يَلِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَبْدِهِ) راجع إلى قوله: (بِغُرْمٍ) أي: بخلاف ما إذا كان المنتفع لا يغرم عليه شيئاً، بل يليه بنفسه أو بعبده، فإنه لا يغرم على ذلك شيئاً. مسألة: قوله تعالى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95] إلى قوله: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] دليل على جواز الغرم على القبيلة في دفع ضرر يعمهم واستخدامهم في ذلك، وكذلك مصالحهم أجمع. التَّنَازُعُ: لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: سُرِقَ، وَقَالَ: اسْتَصْنَعْتَنِي، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَالَفَانِ وَيُقَالُ لِلْمَاِلكِ: ادْفَعْ قِيمَةَ الْعَمَلِ، فَإِنْ أَبَي قِيلَ لِلصَّانِعِ: ادْفَعْ قِيمَةَ الْمَتَاعِ بِغَيْرِ عَمَلٍ، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ بِالْقِيمَةِ وَالْعَمَلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَامِلُ مُدَّعٍ ... لما فرغ من أركان الإجارة وأحكامها شرع في الاختلاف، وتصور المسألة من كلامه ظاهر فرأى ابن القاسم في المدونة: ألا مزية لأحدهما على الآخر، فأوجب التحالف؛ لأن كل واحد مدعٍّ على صاحبه، ورأى غيره أن صاحب المال أقوى؛ لأن المال ماله والأصل عدم الغرم. قال في المدونة في قول الغير: ولا يكونان شريكين.

صاحب النكت: وعلى قول الغير يحلف رب الثوب أنه ما دفعه إليه ثم يلزم الصانع غرم قيمة الثوب جبراً على ما أحب أو كره. واعلم أن صاحب النكت والتونسي واللخمي قيدوا [628/أ] قول ابن القاسم بما إذا أراد رب المال تضمين الصانع ولم يرد أخذ ثوبه؛ لأنهم قالوا: إن قال رب الثوب: أريد أن أضمن الصانع فإن أطاع الصانع فدفع قيمة الثوب أبيض فلا يمين على واحد منهما، وإن أبى عن ذلك تحالفاً على ما سيأتي، وأما إن اختار رب الثوب أخذه ويعطي قيمة الصبغ، فإنك تنظر فإنْ كانت قيمة الصبغ مثل ما ادعى الصانع، أو كان ما ادعى أقل أدى ذلك رب الثوب ولا يمين عليه، وإن كانت قيمة الصبغ أقل مما ادعى الصانع حلف رب الثوب ما دفعه إليه وأدى قيمة الصبغ. قوله: (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَالَفَانِ) الشيخ أبو محمد وغيره: ويحلف رب الثوب أولاً أنه ما استعمله ثم يقال للصانع: ادفع إليه قيمة ثوبه وإلا فاحلف أنه استعملك، فإن حلف قيل لربه: ادفع إليه قيمة عمله وحده. وهذا معنى قوله: (وَيُقَالُ لِلْمَاِلكِ: ادْفَعْ إِلَيْهِ قِيمَةَ الْعَمَلِ) وبقية قول ابن القاسم من كلام المصنف ظاهرة. فَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: أَوْدَعْتُكَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الصَّانِعِ وَإِلا ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ؛ لأَنَّهُمْ لا يَشْهَدُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَامِلُ مُدَّعٍ .... يعني: وقال الصانع: بل استصنعتني، فرأى ابن القاسم أن الصانع لما كان جلوسه للصنعة كان القول قوله؛ لأنه أتى بما يشبه، والفرق على قول ابن القاسم بين هذه والتي قبلها أن المالك هنا معترف بأنه أذن في وضع يد الصانع ورأى أن الصانع مدعٍّ؛ لأنه ادعى ملك شيء متصل بملك غيره وأنه باعه من رب الثوب فعليه البينة، وقاله ابن حبيب

وزاد: وكذلك لو قال ربه: سرق مني، ويحلف ويأخذ ثوبه مصبوغاً أو مغسولاً بغير غرم إلا أن ينقصه الصبغ أو يفسده، فربه مخير في أخذه أو تركه وأخذ قيمته، وإن زاده الصبغ فله أخذه بلا غرم هكذا ذكر ابن يونس. وذكر في البيان أنه اختلف في تفسير قول الغير، فقيل: كما ذكره ابن يونس، وقيل: إنه مدعٍّ في الأجرة فإن ادعى أكثر من أجرة المثل وحلف على ما ادعى عليه لم يستحق بيمينه ما حلف عليه، ويحلف رب الثوب على ما ادعى فيسقط عنه بيمينه ما زاد على أجرة المثل، وإن نكل عن اليمين أخذ العامل ما حلف عليه، وإن نكل العامل عن اليمين وحلف رب الثوب أخذ ثوبه مصبوغاً ولا شيء عليه. ونحوه لصاحب النكت وزاد: وليس له أن يضمنه؛ لأنه أقر بوضع يده عليه بخلاف قوله: سرق مني. وَلَوْ صَاغَ سِوَارَيْنِ فَقَالَ: أَمَرْتُكَ بِخَلْخَالَيْنِ، صُدِّقَ الصَّانِعُ الخلخالين بفتح الخاء: الجوهري: وخلخل لغة فيه. (صُدِّقَ الصَّانِعُ) يعني: مع يمينه وكلام المصنف وهو ظاهر الدونة أنَّ الصانع إذا حلف أخذ المسمى. وقال سحنون في رواية أخرى: القول قول الصنَّاع مع أيمانهم ولهم الأقل من أجرة مثلهم أو مما سموا. اللخمي: وعلى مذهب سحنون يكون القول قول صاحب الفضة، أنه لم يستأجره ليعمله، والقول قول الصانع أنه لم يتعدَّ، ويكونان شريكين؛ هذا له قدر الفضة والآخر له قدر الصنعة، إلا أن يحب صاحب الفضة أن يعطيه إجارة المثل إذا كانت أقل.

فَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ بِثَلاثَةٍ وَالصَّانِعُ بِأَرْبَعَةٍ صُدِّقَ الصَّانِعُ فِيمَا يُشْبِهُ بِخِلافِ الْبِنَاءِ؛ لأَنَّهُ غَيْرُ حَائِزٍ لِذَلِكَ .... يعني: وإن اختلفا في قدر الأجرة، فإن كان المصنوع تحت يد الصانع صدق الصانع مع يمينه إذا ادعى ما يشبه لبقاء شبهه تحت يده، فكان بمنزلة من باع سلعة ولم يخرجها فالقول قوله. وإن لم يأتِ بما يشبه حلف المالك إن أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه فللصانع أجرة مثله، وإن لم يكن المصنوع تحت يده فالقول قول المالك كالبناء؛ لأنه لم يبق المصنوع بيده بل لم يكن بيده أصلاً وهو تحت يد مشتري الصنعة وقد فات، فلذلك كان القول قول المشتري. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي رَدِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ- قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ- وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ، وَإِلا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّانِعِ ... (الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ) لأن الصانع اعترف بقبضه وادَّعى رده، وسواء كان قبضه الصانع ببينة أو بغير بينة، وكذلك الرهن والعارية والمبيع على خيار فيما يغاب عليه؛ لأن هذه كلها مقبوضة على الضمان، ورأى ابن الماجشون أن المصنوع كالوديعة والقراض. ***

الجعالة

الْجِعَالَةُ أَرْكَانٌ هي الإجارة على عمل مجهول النهاية. والأصل فيه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وحديث الرُّقية. وقوله: (أَرْكَانٌ) أي: لها أركان: العَاقِدَانِ: أَهْلِيَّةُ الاسْتِئْجَارِ، وَالْعَمَلُ أي: الأول (العَاقِدَانِ) و (أَهْلِيَّةُ) خبر ابتداء محذوف؛ أي: شرطها أهلية الاستئجار، (وَالْعَمَلُ) أي: من صح له أن يجاعل ومن صح له أن يكون أجيراً صح له أن يكون مجعولاً، فلا يصح أن يكون الذمي مجعولاً على طلب مصحف. ولم يصرح المصنف بشروط العاقدين في الإجارة وإنما أحال ذلك على البيع فقال: (الْعَاقِدَانِ كَالْمُتَبَايعَيْنِ). وعلى هذا فالأحسن أن يشبه المصنف هنا بالمتبايعين، ولعله أحال على الإجارة لينبه على أن الإجارة أصل وأن الجعالة مستثناة من الممنوع للضرورة. وَلا يُشْتَرَطُ فِي الْمَجْعُولِ لَهُ التَّعْيِينُ وَلا الْعِلْمُ بِالْجِعَالَةِ فَلَوْ قَالَ: مِنْ رَدَّ عَليَّ عَبْدِيَ الآبِقَ فَلَهُ دِينَارٌ فَمَنْ أَحْضَرَهُ اسْتَحَقَّهُ؛ عَلِمَ بِالْجُعْلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، تَكَلَّفَ طَلَبَهُ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّفْ .... يعني: لا يشترط في المجعول له وهو العام أن يكون معيناً بخلاف الإجارة فإنه لا يجوز أن يكون الأجير إلا معيناً، ولا يشترط في المجعول له التعيين. وقوله: (عَلِمَ بِالْجُعْلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) بيان؛ لأنه لا يشترط علم المجعول له بالجعالة وهو قول ابن الماجشون وأصبغ وغيرهما، وذكره [628/ب] ابن حبيب عن مالك. وقال ابن القاسم في العتبية: إذا قال من جاءني بعبدي الآبق فله عشرة دنانير فجاء به من سمعه فله العشرة، وسواء كان شأنه أو لا، وإن جاء من لم يسمعه لم يكن له ذلك إلا أن يكون ذلك شأنه. فاشترط ابن القاسم سماع الجعالة فيمن لم تجرِ عادته بذلك.

قال في البيان: وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الجاعل لما أراد بقوله: من جاء بعبده فله عشرة، تحريض من سمع قوله فلا تجب إلا لمن سمع، واستحسن اللخمي قول ابن حبيب إذا قال: علمت على الجعل ولم أتطوع، إلا أنه قال: كان له الأقل من جعل مثله أو ما جعل له سيده. وقال المازري: إن قال في ملأ من الناس: من جاء به فله عشرة، فأتى به من لم يسمع وهو ممن يطلب الإباق فله جعل مثله، وإن كان ممن لا يطلب الإباق فههنا قولان: قال ابن القاسم: يدخل في الخطاب لسماعه، وقال ابن حبيب: لا يدخل إذا كان ممن لا يطلب الإباق. انتهى باختصاره. قوله: "وقال بعض الشيوخ" لعله اللخمي فإنه قال: من جاء به من ذلك شأنه، وقال: لم أعلم تلك التسمية لأن لي طلب مثل ذلك من غير قول السيد، وإنما أفادني قول سيده المعرفة أن قد ذهب له عبد حلف على ذلك وكان له جعل مثله إذا كان أكثر من المسمى. وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ يعني: وعلى المجعول له نفقة الآبق والشارد في مدة الإتيان به إلى سيده، وهذا قول ابن القاسم في العتبية. وفي الموازية: ووجهه أن الجعل إنما هو على أن يأتيه به ويوصله إليه فلا يلزم الجاعل عن الجعل. ابن عبد السلام: وفيه نظر؛ لأن العوض جزء من المعوض وذلك بيع مقترن بالجعالة، إلا أن يقال: إن ذلك من ضروريات هذا العقد، ولا يتصور الانفكاك عنه إلا أن يجعل سلفاً من المجعول له يؤديه عنه الجاعل إلى أن يصل إلى سيده الجعل يرد به إلى قاضي الموضع لينظر لسيده بما رآه من سجنه أو بيعه ويحكم له بجعله، فإن لم يفعله وأرسله بعد أن أخذه ضمن؛ لأنه أتلفه عليه.

فَلَوْ أَحْضَرَهُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَعَادَتُهُ التَّكَسُّبُ بِذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بِقَدْرِ تَعَبِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّهُ تَرَكَهُ لَهُ وَلا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَادَتَهُ فَلَهُ نَفَقَتُهُ فَقَطْ ... لما تكلم على ما إذا أتى به بعد التزام رب الجعل تكلم على ما إذا أتى به قبل التزام رب الجعل. وقوله: (فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ) يريد إذا كان ربه ممن لا يتولى ذلك بنفسه كما تقدم وكان لربه تركه؛ لأن أجرته قد تزيد على قيمة ربه فلو تكلف دفع الأجرة هنا لتضرر بذلك، وسقطت الأجرة إذا لم تكن عادته طلب الإباق؛ لأن الغالب ممن يفعل ذلك الاحتساب بالله تعالى. وخرَّج بعضهم فيها خلافاً من الخلاف المتقدم في الإجارة إذا كان ربه لا يتولى ذلك بنفسه، وإنما يستأجر عليه، ولم يحكموا بالاحتساب بالنفقة؛ لأن النفوس لا تخف عليها النفقة بخلاف من المنافع. فإن قيل: فما الفرق بين النفقة هنا وبين النفقة على اللقيط فإنهم قالوا: لا يرجع بها إذا ظهر له أب؟ قيل: لأن اللقيط لما كان حراً ولا يعلم له أب فالمنفق عليه لا يدخل على العوض غالباً، وأما الآبق فهو مملوك وسيده مليء ولو لم يكن إلا به. وقال ابن الماجشون فيمن ليس شأنه: لا شيء له؛ لا نفقة ولا أجرة. وَلَوِ اسْتُحِقَّ بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ فَالْجُعْلُ عَلَى الْجَاعِلِ لا عَلَى الْمُسْتَحِقِّ بعد أن وجده يعني قبل أن يقبضه الجاعل فالجعل على الجاعل؛ لأنه هو الذي أدخله في العمل. ابن القاسم في العتبية والموازية: ولا شيء به على المستحق. وقال ابن المواز: الجعل على الجاعل ويرجع على المستحق بالأقل من ذلك أو من جعل مثله، قال: وقاله من أرضى.

اللخمي: وهو أبين إلا أن يكون المستحق ممن يطلب بنفسه أو بشخص عنده بلا أجرة. وقيد صاحب البيان هذا الخلاف بما إذا أخذ المستحق العبد، قال: وأما إن أجاز البيع وأخذ الثمن فالجعل على الجاعل قولاً واحداً. وَفِي سُقُوطِهِ بِحُرِّيَّةٍ قَوْلانِ أي: سقوط الجعل، وفي بعض النسخ (سُقُوطُهَا) فيعود الضمير على الجعالة، ومعناه إذا جعل سيد العبد جعلاً على الإتيان به فجاء به شخص فظهر أنه حر؛ فقال أصبغ: يسقط ولا جعل على أحد، وقال ابن القاسم: لا يسقط ويكون على الجاعل، ورأى أن الجاعل هو الذي أدخله في ذلك. الْجُعْلُ كَالإِجَارَةِ أي: يشترط فيه نفي الجهالة كالإجارة. وأحال المصنف الجعل على الأجرة مع أنه شبه الأجرة بالثمن، فكل ما جاز بيعه جاز الاستئجار به وجاز أن يكون جعلاً وما لا فلا، وعلى هذا فيشترط في الجعل أن يكون طاهراً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه معلوماً. واستثنى ابن القاسم على ما نقله صاحب البيان وغيره من هذا مسألتين بجواز في الجعل دون البيع: الأولى: أن يجعل على أن يغرس له أصولاً حتى تبلغ حد كذا ثم هي والأصل بينهما، فإن نصف هذا لا يجوز بيعه. والثانية: أن يقول انفض زيتوني، فما لقطت فلك نصفه. فَلا يَجُوزُ بِعْهُ وَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينَارٍ قِيرَاطٌ، وَلا لَكَ نِصْفُ الآبِقِ هذا مفرع على ما قبله فلذلك عطفه بالفاء، ولم يجز؛ لأنه لا يعلم بكم دينار [629/أ] يباع فصار الجعل مجهولاً، وكذلك نصف الآبق مجهول.

قال في الموازية: وأجاز مالك في بيع الثياب أن يقول: بعها ولك في كلِّ ثوب درهم، ولم يجز في كل دينار درهم. فَإِنْ نَزَلَ فَلَهُ جُعْلُ مِثْلِهِ أي: فإن وقع الجعل في هاتين الصورتين أو في إحداهما على الوجه الممنوع لم يجز ذلك ورد إلى جعل مثله. وذكر المصنف هذه المسألة ولم يكتفِ بما سيذكره في حكم الجعل الفاسد؛ لأن في هذه المسألة معنى زائد، وهو أنه قال في المدونة في مسألة الإباق: فإن جاء به فله أجر مثله وإن لم يأت به فلا شيء له، وظاهره أن الواجب له أجر المثل. لكن المحققون على ما قال المصنف أن مرادَهُ جُعل المثل لقوله: "وإن لم يأت به فلا شيء له" لأن الواجب له أجرة المثل، ولو كان المراد حقيقة الأجرة لوجب له إذا عمل سواء ظهر لعمله فائدة أم لا. ولعل المصنف ذكر هذا إشارة إلى تأويل مسألة المدونة، واستغنى بتعبيره بالجعل عن قوله في المدونة: وإن لم يأتِ به فلا شيء له. على أن صاحب البيان حمل المدونة على ظاهرها واستشكلها. فرع: فإن ملك العبد في قوله: ولك نصفه، قبل أن يدفع إلى ربه، ففي النكت للمجعول له على الجاعل قيمة عنائه في رجوعه إلى وقت هلاكه، وللجاعل على المجعول له قيمة نصف عبده يوم قبضه؛ أي: ويقدر أن المجعول له مشترٍ له يوم قبضه شراء فاسداً. وَلَوْ قَالَ: لِوَاحِدٍ دِينَارٌ وَلآخَرَ دِينَارَانِ فَرَدَّاهُ مَعاً فَقَوْلانِ: يَنْفَرِدَانِ، وَيَشْتَرِكَانِ تصوره ظاهر. وقوله: (فَرَدَّاهُ مَعاً)؛ أي فجاءا معاً به.

وقوله: (يَنْفَرِدَانِ) هو القول الأول أن يكون لكل واحد نصف جعله؛ فلصاحب الدينار نصفه ولصاحب الدينارين دينار، وهذا قول ابن نافع ونقله ابن المواز عن ابن عبد الحكم واختاره هو واللخمي وغيرهما. (وَيَشْتَرِكَانِ) هو القول الثاني؛ أي في أكثر الجعلين وهما الديناران فيكونان بينهما أثلاثاً لصاحب الدينار ثلثهما ولصاحب الدينارين ثلثاهما، وهو قول ابن القاسم في المدونة ورأى أن الجاعل قد رضي بدفع أكثر الجعلين. قال في النكت: ولو جعل لأحدهما عشرة وللآخر عرضاً فأتيا به معاً، فعلى قول ابن نافع: لهذا نصف عشرة ولهذا نصف عرض، وعلى قول ابن القاسم يقدم العرض فإن سمى خمسة فلصاحب العشرة ثلثاها ويخير الآخر بين أن يأخذ ثلث العشرة أو يأخذ ما يقابل ذلك من العرض وهو ثلثا ذلك العرض من الذي جعل له. الْعَمَلُ: كَعَمَلِ الإِجَارَةِ إِلا أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْلُوماً، فَإِنَّ مَسَافَةَ رَدِّ الْعَبْدِ وَالضَّالَّةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ... قوله: (كَعَمَلِ الإِجَارَةِ) أي: فيشترط فيه الشروط المتقدمة في الإجارة، واستثنى المصنف كونه معلوماً فلا يشترط هنا، وعلل ذلك بأن مسافة رد الآبق والضالة غير معلومة. وأورد ابن عبد السلام أن ظاهر كلامه أن المعلومية لا تشترط في جميع أنواع الجعالة وليس كذلك، فإن مذهب المدونة أنه لا يجوز الجعل في حفر بئر إلا أن تختبرا معاً الآخر، وأجيب بأن حفر البئر قد ذكر المؤلف في آخر الباب أنه متردد بين الجعل والإجارة وبين شروطه هناك.

وَلَوْ وَجَدَ آبِقاً أَوْ ضَالاً مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ فَلا جُعْلَ لَهُ عَلَى رَدِّهِ وَلا عَلَى دَلالَتِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ .... ذكر هذا؛ لأن ما يشترط في الإجارة من كون المنفعة غير واجبة شرط في الجعالة، وهكذا قال ابن حبيب: من وجد آبقاً أو ضالاً أو ثياباً فلا يجوز أخذ الجعل على رده ولا على أن يدله على مكانه، بل ذلك واجب عليه، وعلى هذا فقوله: (لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ) يرد إلى جميع ما تقدم؛ أي لوجوب ما ذكر عليه. ويحتمل أن يكون مشيراً إلى الأكثر فقط، ويكون علة منع أخذ الجعل على الأول عدم تقدم المنفعة، وعلى هذا الأخير اقتصر ابن عبد السلام. قال المازري: وإن أتى رجل إلى ربه عرف موضع الآبق فقال: اعطني دينار وأنا أطلبه لك وأنا أخبرك مكانه، فإن كان ممن لا يطلب ذلك فلا شيء له باتفاق، وإن كان ممن يطلبهم فقولان: قيل: له الذي سمى، وقيل: لا شيء له، وأوجب عليه أن يخبره به وأن يصدقه عليه إن وجده ويأتيه به، فلا يجوز أخذ الأجرة على ذلك. والصواب لا شيء له إلا أن يكون سافر أن يخبره لذلك لا لشغل غيره، فيكون له أجرة تعبه بقدره وهذا معنى كلامه. وَمِنْ شَرْطِهِ: أَنْ لا يُقَدَّرَ بِزَمَانٍ وَإِلا فَهُوَ إِجَارَةٌ الضمائر كلها عائدة على العمل. قال في المدونة: ولا يكون مؤجلاً، ألا ترى أن من قال: بع لي هذا الثوب ولك درهم أنه جائز وقت له في ذلك وقتاً أم لا وهو جعل، فإن قال: اليوم، لم يصح إلا أن يشترط أن يترك متى شاء؛ لأنه إن مضى يوم ولم يبعه ذهب عمله باطلاً، وإن باع في نصفه أخذ الجعل كاملاً ويسقط عنه بقية عمل اليوم فهذا خطر، والجعل لا يكون مؤجلاً إلا أن يكون إذا شاء أن يرده. وقد قال في مثل هذا جائز وهو

جل قوله: (وَإِلا فَهُوَ إِجَارَةٌ)؛ يعني وإن قدر بزمان وكان الأجر بتمام الزمان عمل أم لا؛ لأنه خرج من باب الجعالة ودخل في باب الإجارة. تنبيه: واختلف في معنى قول سحنون في المدونة: "وقال في مثل هذا أنه جائز" ما هو هذا المثل؟ فقال ابن أبي زيد: هو الجعل المؤجل باليوم واليومين من غير شرط أن يترك متى شاء، وقال ابن القصار: يريد مثل هذا الباب في توقيت الجعل بيوم أو يومين، ويشترط أن يترك متى شاء، ويكون أراد بجل قوله ما في المدونة من [619/ب] الجواز، ويقابله ما رواه عيسى عنه في من قال لرجل: جذنخلي اليوم فما جذذت فلك نصفه ومتى شئت أن تخرج خرجت لك نصف ما عملت؛ لا خير فيه. وقال ابن لبابة: يريد الإجارة مع اشتراط الترك متى شاء، وأنه اختلف قوله فيها، فمرة رأى أنها إجارة جائزة ومرة رآها إجارة فاسدة. وقال صاحب المقدمات: أما قول ابن أبي زيد فهو خطأ صراح؛ لأن الجعل إذا سمَّى فيه أجلاً من لم يشترط أن يترك متى شاء- لم يجز باتفاق، فكيف يصح أن يقال: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه؟! وأما تأويل ابن القصار بعيد من لفظ المدونة إلا أن معناه صحيح تصح به المسألة، وأما تأويل ابن لبابة فهو بعيد على ظاهر اللفظ غير صحيح المعنى؛ لأنها إذا كانت إجارة فهي إجارة ولا وجه لفساده، وأما معنى المسألة عندي أن قول ابن القاسم اختلف إذا قال الرجل للرجل: بع لي هذا الثوب ولك درهم، فقال في الكتاب: إنه جُعل ولا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يترك ترك، وله قول آخر: أن ذلك جائز وهو إجارة لازمة لا جعل، فإن باع في بعض اليوم كان له من الأجرة بحساب ذلك، وهذا القول قائم من المدونة وانظر المقدمات.

وأجاب بعضهم عن الشيخ أبي محمد بأنه لا يلزم من ترك اشتراط أن يترك متى شاء عدم الجواز؛ لأن الترك متى شاء مفهوم من وضع الجعل لا يحتاج إلى اشتراطه. وَفِي جَوَازِهِ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ قَوْلانِ أي: في جواز الجعل. عياض: اشترط عبد الوهاب في الجعل أن يكون في الشيء القليل وخالفه غيره. وقال في المقدمات: الصحيح أنه جائز في كل ما لا يصح للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه قليلاً كان أو كثيراً، وبذلك قال ابن المواز أن الجعل على حفر الآبار لا يجوز إلا فيما لا يملك من الأرضين؛ لأن ما يملك من الأرضين إن ترك العامل العمل بعد أن حفر ما ينتفع الجاعل به منها. لكن أجاز ابن القاسم الجعل في حفرها وإن كانت في ملك الجاعل، فأما ما حكاه المصنف من القولين في طريقة بعضهم في نقل، ومنهم من يقول: ما يقبل القلة والكثرة لا يجوز الجعل على كثيره، وما لا يقبل إلا الكثرة كالمغارسة فإن العمل لا يتم فيها إلا بعد سنين فلا تكون الكثرة ما نقهل منها. انتهى. ابن المواز: ويكون عند مالك وأصحابه الجعل على الشراء فيما قل أو كثر في الحضر والسفر، لا بأس أن يجعل له على مائة ثوب ليشتريها له ديناراً إذا كان ما اشترى له يلزمه، وأما إن كان يختار عليه ما يشتري فلا خير فيه. مالك: ولا يضمن المال محمولاً إلا أن تعرف منه محاباة أو اشترى غير ما أمره به. وفي المدونة ما يتمسك به لما قاله عبد الوهاب من المنع ففيها: ولا يجوز الجعل على كثير السلع والدواب والرقيق كالعشرة أثواب ونحوه، ولا على ما فيه مشقة سفر من قليلها، لكن أجاز فيها الجعل على شراء الكثير.

وتأوله ابن يونس وعياض وجماعة من القرويين وغيرهم على معنى أنه لا يأخذ شيئاً معلوماً أو كانت متساوية القيمة أو دخلاً على قصد الإجارة على العدد، ولو كان على القيم لم يجز. قال: وأما لو كان لا يأخذ شيئاً إلا بشراء الجميع فلا يجوز، فالجعل على البيع والشراء سواء. وقيد ابن يونس الجواز في البيع أيضاً بما إذا كان على أنه إن شاء أن يترك بقية الثياب ولم يسلم الثياب إليه، قال: وكذلك الشراء يجوز إذا كان كل ما اشترى أخذ بحسابه وأن يترك متى شاء، فإن وقع على هذا الشرط جاز في الجميع. ونحوه في الموازية، ونحوه لابن رشد، فقال: وقوله إن الكثير من السلع تصلح فيه الإجارة ولا يصلح فيه الجعل، فإنما يريد في البيع خاصة؛ لأن كثيراً من السلع إذا جاعله على بيعها ودفعها إليه، كان الجاعل قد انتفع بحفظه لها مدة كونه بيده، ولو لم يدفعها لجاز الجعل إذا جعل في كل ثوب منها جعلاً مسمى، ولزم الجاعل في الجعل في البيع جميعها، ألا ترى أن الجعل في الشراء على الثياب الكثيرة جائز إذا كان لا يتولى حفظها وكلما ابتاع ثوباً أسلمه إلى الجاعل ووجب له فيه جعله، ولو شرط على المجعول له أن يمسك الثياب وتكون في أمانته وقبضه حتى يتم شراء العدد الذي جاعله عليه لم يجز للعلة التي قدمناها. وَفِيهَا: مَا جَازَ فِيهِ الْجُعْلُ جَازَتْ فِيهِ الإِجَارَةُ وَلا يَنْعَكِسُ تصوره ظاهر. قال في المقدمات: والأعمال على ثلاثة أقسام: منها ما يصح فيه الجعل والإجارة، ومنها ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة، ومنها ما تصح فيه الإجارة ولا يصح فيه الجعل. فأما ما يصح فيه الجعل والإجارة فكثير، من ذلك بيع الثوب والثوبين وشراء الثياب القليلة والكثيرة وحفر الآبار واقتضاء الديون والمخاصمة والحقوق على أحد قولي مالك، وروي عنه أن الجعل في الخصومة لا يجوز.

وأما ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة فنوعان: أحدهما: ما لا يجوز للمجعول له فعله، والثاني: ما يلزمه فعله. وأما ما تصح فيه الإجارة ولا يصح فيه الجعل فكثير أيضاً، من ذلك خياطة الثوب وخدمة الشهر وبيع السلع الكثيرة وعلى بيع سلعة ببلد أخرى، وما أشبه ذلك مما يبقى فيه للجاعل فيه حق منفعة، وإن لم يتم المجعول له العمل، وهل يشترط في صحته أن يكون للجاعل فيه منفعة أم لا؟ في ذلك قولان. وَهِيَ [630/أ] جَائِزَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ شَرَعَ لَزِمَ الْجَاعِلَ، وَقِيلَ: لازِمَةٌ فِيهِمَا بِالْقَوْلِ، وَقِيلَ: فِي الْجَاعِلِ ... اختلف في لزوم عقد الجعالة على ثلاثة أقوال: الأول: ابن عبد السلام: وهو المشهور أنها جائزة من الجانبين ولكل واحد منهما الإحلال إلا أن يشرع المجعول له في العمل فيلزم الجاعل ولا يكون له الانحلال. الثاني: لازمة بالقول لهما قياساً على الإجارة، وهذا القول حكاه اللخمي وغيره. ابن راشد: وهو القياس. والثالث: أنها تلزم الجاعل بالقول دون المجعول، وهو قوله في الواضحة. وَنَقْدُهُ كَالْخِيَارِ يعني: ونقد الجعل كالثمن في بيع الخيار. سحنون: جاز التطوع له ولا يجوز اشتراطه، والتعليل فيهما واحد. ابن عبد السلام: وهذا على القول الأول والثالث. زاد غيره ممن تكلم على هذا الموضع: وأما على القول بأنها لازمة لهما بالعقد فيجوز النقد بشرط كالإجارة.

خليل: والظاهر أنه لا فرق؛ لأنه قد لا يجد الآبق مثلاً فيحتاج إلى رد الجعل. وَيَسْقُطُ بِالتَّرْكِ إِلا أَنْ يَسْتَاجِرَ الْجَاعِلُ عَلَى الإِتْمَامِ فَيَكُونَ لَهُ مَا بَقِيَ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى نِسْبَةِ عَمَلِهِ ... أي: سقط جميع الجعل بترك المجعول له تمام العمل، وقد قال ذلك في الإجارة إذا هرب الصانع، المشهور في الإجارة أنها تكرى عليه، فإن استأجر العامل من أتم العمل فإن له حينئذٍ أن يرجع عليه. قوله: (إِلا أَنْ يَسْتَاجِرَ الْجَاعِلُ) يريد: أو يجاعل؛ إذ لا فرق بينهما. وقوله: (فَيَكُونَ لَهُ مَا بَقِيَ .. إلخ) يعني: اختلف إذا اكترى بما يجب للمجعول له؛ فقال مالك في العتبية: يكون له بنسبة ما بقي، فإذا جاعله على الإتيان بخشبة بخمسة فحملها نصف الطريق ثم ترك وجاعل عليها ثانياً بعشرة فإنه يكون للأول خمس نسبة جعل الثاني، واعترضه ابن يونس فقال: الأول قد رضي أن يحملها جميع الطريق بخمسة فكان يجب على هذا أن يعطى نصفها؛ لأنه إنما حملها نصف الطريق والمغابنة جائزة في الجعل وغيره، وإلى هذا الاعتراض أشار التونسيز ابن عبد السلام: وقد يجاب عنه بأن عقد الجعالة لما كان منحلاً من جانب المجعول له بعد العمل، فإذا ترك بعد حمل نصف المسافة صار تركه لها إبطالاً للعقد من أصله، فإذا اكترى ربها على حملها انتفع بالحمل الأول فتلزمه قيمته، لكن إنما يحسن هذا إذا كانت الإجارة ثانياً بقية العمل فأقل، ولا يحسن إذا كانت بأكثر على الاعتراض المذكور فلا يجب للثاني إلا درهمان ونصف. وحمل ابن راشد القول الثاني في كلام المصنف على اختيار ابن يونس، ويحتمل أن يريد به ما كان لابن القاسم بقوله: إن له قيمة عمله يوم عمل، ويكون معناه ما لم يزد على نسبة قيمة عمله يوم عمل الأول.

قال في العتبية: قال ابن كنانة: بل قيمة ما عمل اليوم؛ أي يوم عمل الثاني كانت القيمة مثل الجعل، أو قال: وأكثر، ودخل ابن القاسم وابن كنانة على مالك فقال: بل يعطى بقدر ما انتفع بحفره؛ يعني القول الأول، وهكذا رأيته في العتبية. وحكى اللخمي عن مالك مثل قول ابن كنانة وذكر أنه قضى لابن كنانة. فإن قلت: ما حملت عليه القول الأول من أن المراد أن يكون للأول نسبة ما بقي خلاف ظاهر كلامه، وإنما ظاهره أن يكون له ما بقي بعد إجارة الثاني، فلا يكون في المثل المتقدم شيء، قيل: نعم هو ظاهر كلامه لكن لم أر نقلاً يساعده، قاله ابن عبد السلام. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ سَقَطَ أي: بعد أن يجده المجعول له. وقبل أن يوصله لربه وكذلك لو هرب؛ لأن العمل لم يتم. وَإِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الْجُعْلِ تَحَالَفَا وَوَجَبَ جُعْلُ الْمِثْلِ نحوه في الجواهر وفيه نظر، لكنه إن كان تنازعهما قبل العمل فلا شك أن القول قول الجاعل لانحلال العقد، والمجعول له بالخيار بين أن يجعل بما قال له أو يترك، وإن كان بعد العمل فيكون القول قول العامل إذا كان بيده لحيازته، إلا أن يدعي ما لا يشبه فيكون القول قول ربه، فإن ادعى الآخر ما لا يشبه تحالفا كما تقدم في الصانع. وَفِي الْفَاسِدَةِ ثَالِثُهَا: التَّفْصِيلُ كَالْقِرَاض وَلَمْ يُبَيَّنْ واختلف في الجعل الفاسد هل يجب فيه جعل المثل وهو قول ابن القاسم من رواية أصبغ، أو إجارة المثل وهو قول محمد بناءً على أن المستثنى من أصل إذا بطل هل يرد إلى صحيح أصله أو إلى أصل نفسه؟ والقول الثالث: التفصيل؛ أي فيرد في بعض المسائل لجعل المثل وفي بعضها لإجارة المثل، لكن لم يبين التفصيل هنا كما بين في القراض، هذا معنى كلامه.

ولأن المصنف- والله أعلم- لما رأى ابن شاس ذكره مجملاً ولم يبينه اعتقد أنه وقع كذلك في قوله، وقد بينه في البيان فقال: إن قال: إن وجدته فلك كذا وإن لم تجده فلك نفقتك. فهذا يرجع إلى إجارة المثل؛ لأنه جعله في الوجهين وليس بحقيقة الجعل، وإن كان لم يسمِّ شيئاً إلا في الإتيان به ولا شيء له إلا أن يأتي به فإنه يرجع إلى جعل المثل، قال: وهو أظهر الأقوال، واختاره ابن حبيب وحكاه عن مالك مطرف وابن الماجشون، وحكى قولين آخرين أحدهما في العتبية: له جعل مثله إذا وجده وأجر مثله إذا لم يجده، والثاني في المدونة: في الذي يقول: إن جئتني بعبدي الآبق فلك نصفه، قال: له إجارة مثله إن أتى به، وإن لم يأتِ به فلا جعل له ولا إجارة، قال: لا حظَّ له في القياس. [630/ب]. وَمُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ وَالْمُعَلِّمِ عَلَى الْقُرآنِ وَالْحَافِرِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَاءِ بِتَعْرِيفِ شِدَّةِ الأَرْضِ وَبُعْدِ الْمَاءِ، وَكِرَاءُ السَّفِينَةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُعْلِ وَالإِجَارَةِ ... هكذا ذكر ابن شاس هذه الأربعة وزاد المغارسة وهو أن يعطي الرجل أرضه لمن يغرس عدداً من الأشجار، فإذا بلغت كذا وكذا كانت الأشجار والأرض بينهما، قال: وكل هذه الفروع يختلف فيها وسبب الخلاف في جميعها ترددها بين العقدين. ابن عبد السلام: وظاهر المذهب أن هذه الفروع كلها من الإجارة على البلاغ إلا مسألة الحافر فإنها من الجعالة، ولا يقال: إن الإجارة على البلاغ مساوية للجعل في أن الأجرة لا تستحق إلا بتمام العمل؛ لأنه لا يلزم من استوائهما في هذا الوجه استواؤهما في غيره، فإن الإجارة على البلاغ لازمة بالعقد بخلاف الجعالة. ونص سحنون على أن الأصل في هذا الجعالة. ووجه تردد هذه الأمور بين الإجارة والجعالة بأنه لما لم يكن للعامل شيء إلا بتمام العمل شابهت الجعالة، ولما كان إذا ترك الأول العمل ثم كمل غيره يكون للأول بحسابه كما تقدم شابهت الإجارة. قوله: (بِتَعْرِيفِ شِدَّةِ الأَرْضِ وَبُعْدِ الْمَاءِ) للمصاحبة، وهي تجري مجرى الشرطية.

إحياء الموات

إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ: الأَرْضُ الْمُنْفَكَّةُ عَنِ الاخْتِصَاصِ الأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْمَرَ أَرْضاً مَيْتَةً لَيْسَتْ لأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" رواه البخاري. وفي الترمذي والنسائي عنه عليه السلام: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعرقِ ظَالِم حَقٌّ" وهو حسن المسند، وبدأ المصنف بتعريف الموات إما لأنه السابق في الوجود فلتقدمه طبعاً قدمه وضعاً، وإما لأن حقيقة الموات متحدة. والإحياء يكون بأمور كل منها مضاد للموات فاحتاج إلى ذكره أولاً ليذكر أضداده، والتعريف الذي ذكره تبع فيه صاحب الجواهر، وصاحب الجواهر تبع فيه الغزالي، قال: السالم عن الاختصاصات بالجمع. واستغنى المصنف عن الجمع بالاسم المحلى بأل المفيدة للعموم وهو قريب مما قاله الجوهري: الأرض الميتة هي التي لا مالك لها من آدميين ولا ينتفع بها أحد، ومعنى (الْمُنْفَكَّةُ) المخلصة والمنفصلة، وفي بعض النسخ عِوَض (الْمُنْفَكَّةُ) (السَّالِمَةُ)، ولما قال (السَّالِمَةُ عَنِ الاخْتِصَاصِ) شرع في وجوه الاختصاص فقال: وَالاخْتِصَاصُ عَلَى وُجُوهٍ؛ الأَوَّلُ: الْعِمَارَةُ وَلَوِ انْدَرَسَتْ، فَإن كَانَتْ عِمَارَةَ إِحْيَاءٍ فَانْدَرَسَتْ فَقَوْلانِ ... العمارة عمارة ملك كما لو ملك أرضاً بإرث أو هبة أو شراء. قال في المدونة: أو خطة، والخطة هي الإقطاع من الإمام وهو أعم من أن يكون إقطاع تمليك أو إقطاع إحياء، وقلنا مراده عمارة ملك لمقابلتها بقوله (فَإن كَانَتْ عِمَارَةَ إِحْيَاءٍ فَانْدَرَسَتْ فَقَوْلانِ) أحدهما أن اندراسها يخرجها عن ملك محييها ويجوز لغيره أن يحييها وهو قول ابن القاسم. والثاني لسحنون أنها للأول وإن أعمرها غيره، حكاه صاحب البيان وغيره. وحكى عنه ثالثاً إن كان قريباً من العمران فالأولى أولى به، وإن كان بعيداً فالثاني أولى بها. قال: وقوله

عندي صحيح على معنى ما في المدونة: أما ما قرب لا يحييها إلا بقطيعة من الإمام؛ فكأنه صار ملكاً. وسأل ابن عبدوس سحنون هل تشبه هذه المسألة الصيد إذا نَدَّ؟ قال لا والفرق بين الصيد لو ابتاعه ثم ندَّ واستوحش كان لمن اصطاده، ولا خلاف أن من اشترى أرضاً فاندرست فأحياها غيره أنها لمن اشتراها. قال في البيان: ولا أعلم نص خلاف أن من اشترى مواتاً واختطه لا يزال ملكه عنه بتركه إياه حتى تعود حالته الأولى إلا أن الاختلاف يدخل في ذلك من مسألة الصيد يند من صاحبه. وقال ابن المواز فيه: إن الثاني أحق به، ولم يفرق بين أن يكون الثاني صاده أو ابتاعه فيلزم مثله في إحياء الموات، ثم حصل في مسألة الصيد يباع والأرض الموات تباع ثم يعود إلى حالهما أقوال: أحدها أن الأول أحق بها، الثاني عكسه، الثالث أن الأول أحق بالصيد والموات إن كان اشتراه وأن الثاني أحق بهما إن كان الأول صاد الصيد وأحيا الموات، الرابع الفرق بين الصيد والموات فالثاني أحق بالصيد والأول أحق بالموات وهو الذي يأتي على ما قاله ابن عبدوس، الخامس أن الثاني أحق بالموات والأول أحق بالصيد، قال: وإنما يكون الثاني أحق بالموات من الأول على من رآه أحق به منه حسبما بيناه إذا كانت المدة قد طالت بعد عودها إلى حالتها، وأما إن أحياها الثاني بحدثان عوده إلى الحالة الأولى فإن كان عن جهل منه بالأول فله قيمة عمارته قائمة للشبهة، وإن كان عن معرفة منه به فليس له إلا قيمة عمارته منقوضة بعد يمين الأول أن تركه إياه لم يكن إسلاماً له وأنه كان على نية إعادته. واعترض على المصنف بأن قوله: (أَوَّلاً الْعِمَارَةُ) مستغنى عنه؛ لأن مجرد الملك كاف في الاختصاص ولا يفتقر إلى العمارة، وأجيب لعله إنما ذكر العمارة ليقسمها.

الثَّانِي: حَرِيمُ عِمَارَةٍ، وَحَرِيمُ الْبَلَدِ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ لِرَعْيِ مَوَاشِيهِمْ وَمُحْتَطَيهِمْ مِمَّا تَلْحَقُهُ غُدُوَّاً وَرَوَاحاً .... أي: حد العمارة التي يمنع أن يحدث فيها أحد ما يضر بها. عياض: والتحريم والحرام والحريم والحرمة المنع، والمحارم من النساء الممنوع نكاحهن فحريم البئر ما يتصل به من الأرض [631/أ] التي من حقها ألا يحدث فيها ما يضر بها لا باطناً من حفر بئر ينشف ماؤها أو يذهبه أو مطمر تطرح النجاسة فيه فيصل غليها وسخها ولا ظاهراً كالبناء والغرس. قوله: (وَحَرِيمُ الْبَلَدِ ... إلخ) يعني: ما يحتاج إليه عامر الأرض من النواحي الخارجة عن الأرض التي يلحقه الخارج بمواشيه غدواً ورواحاً. سحنون: وما كان من العمارة على يوم وما لا تدركه المواشي في غدوها ورواحها فأراه من البعيد، وأما ما تدركه المواشي غدوها ورواحها وأبعد من ذلك قليلاً مما فيه الرفق للعمارة فهو من القريب، ونحوه لابن القاسم. وعن سحنون: يجتهد ويشاور أهل الرأي. وَحَرِيمُ الدَّارِ الْمَحْفُوفَةِ بالْمَوَاتِ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ مِنْ مَطْرَحِ تُرَابٍ، وَمَصَبِّ مِيزَابٍ، وَالْمَحْفُوفَةِ بِالأَمْلاكِ لا تَخْتَصُّ، وَلِكُلٍّ الانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ وَحَرِيمِهِ بِمَا لا يَضُرُّ الآخَرَ ... يعني: أن الدار على ضربين: فإن كانت محفوفة بالموات؛ أي: المحوطة بالموات فحريمها ما يرتفق به فيما ذكره المصنف، وإن كانت محفوفة بالأملاك فليس لربها حريم تختص به، لكن لكل واحد أن ينتفع بملكه وحريمه بما لا يضر بالآخر. ولا يقال قوله: (لا تَخْتَصُّ) يقتضي أنه لا حريم لها وهو منافٍ لقوله: (وَلِكُلٍّ الانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ وَحَرِيمِهِ) لأنه إنما نفى عنها أولاً الاختصاص بالحريم لا الحريم، فيكون لكل دار حريم لكن لا تختص به.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَأَمَّا حَمَّامٌ، وَفُرْنٌ، وَكِيرٌ لِلْحَدِيدِ، وَرَحىً تَضُرُّ بِالْجِدَارِ فَلَهُمْ مَنْعُهُ، قَالَهُ مَالِكٌ ... لقوله عليه السلام: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ". واستخف في المدونة وغيرها التنور. وقوله: (فُرْنٌ) يعني كان للخبز أو لسبك الذهب والفضة، قاله في المدونة وغيرها. وضرر الحمام والفرن والكير بيّن، وأما الرحى فكلام المصنف وظاهر الرواية يدل على أنها إنما تمنع لضرر الجدار ولو تضرر الجار بصورتها فقط لم تمنع، وهو قول كثير من الشيوخ. وذهب بعضهم إلى منع ضرر الصوت، وأشار آخرون إلى أنه إنما يمنع منه وقت النوم دون ما عداه، وبالأول قال مطرف وابن الماجشون لأنهما قالا في الغسال والضراب يؤذي جاره رفع صوتها لا يمنع، لكن قيده الباجي بالصوت الضعيف أو ما يستدام وأمَّا مَا كَانَ صوتاً شديداً كصوتِ الكمَّادِين فيمنع منه. وصرح بعضهم بأن المذهب عدم مراعاة ضرر الأصوات وأن القول بمنع ذلك شاذ، وجعله ابن رشد من المتفق على عدم اعتباره إلا على قول ضعيف. وَقَالَ أَشْهَبُ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى حَفْرِ بِئْرٍ فِي دَارِهِ حَفَرَ وَإِنْ أَضَرَّ بِجَارِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِمَنْعِ جَارِهِ أَنْ يَضُرَّ بِهِ مِنْ مَنْعِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ ... هذا مقيد بأن يضر ببئر جاره باعتبار تقليل مائها، وأما لو حفر بئراً للنجاسة فأضرت بماءِ بئره لمنع وردمت عليه اتفاقاً، قاله اللخمي قال: وبلوغ النجاسة كبلوغ الدخان وغيره في الظاهر، وكذلك أيضاً يتفق على المنع إذا أضرَّ بجداره، نقله ابن رشد وذكر فيها: يضر بين الجدار أربعة أقوال: الأول قول أشهب هكذا أنه يجوز إن اضطر وإن أضر بجاره، الثاني ظاهر المدونة أنه يمنع إذا أضر بجاره وأطلق، الثالث لابن كنانة أن يحفر في داره بئراً وإن أضر ببئر جاره وأطلق، الرابع في العتبية لا يمنع إلا أن يضر ببئر جاره ضرراً بينا وهو أن يستفرغ ماؤه ماء بئر جاره.

ابن عبد السلام: وترك المصنف مذهب ابن القاسم في المدونة أنه لا يجوز إحداث بئر تضرُّ بالجارِ اضطر محدثها إليها أم لا، قال: وخلاف ابن القاسم وأشهب عام في الأرض التي ملكت بإحياء أو بغيره، والأظهر مذهب أشهب والله أعلم، لأن ضررهما متقابل ويترجح من أراد الإحداث بأنه تصرف في ملكه. وَلا تُمْنَعُ الأَبْرِجَةُ وَالأَجْبَاحُ إِلا أَنْ تُعْلَمَ الْمَضَرَّةُ للسَّابِقِ (الأَبْرِجَةُ) للحَمَام (وَالأَجْبَاحُ) للنَّحْل. ابن عبد السلام: والمضرة بالسابق إن كان لدخول حمام الأول أو نحله في الثاني فظاهر، وإن أُمِن ذلك لكن يقل دخول ذلك في الأول فاختلف المذهب في رعي ضرره على قولين والأقرب مراعاته والله أعلم، أما لو كانوا لغير برج وقالوا إن ذلك يضرهم في زرعهم وشجرهم وطلبوا منعه من ذلك فقولان: أحدهما أنه لا يمنع من ذلك وهو قول ابن كنانة وأصبغ، قال أصبغ: والحمام والدجاج والإوز والماشية لا يمنع من اتخاذه وإن أضرت وعلى أهل القرية حفظ زرعهم وأشجارهم وقاله ابن القاسم، وقال مطرف وابن حبيب: يمنع إلا أن تكون كالماشية، قال لأن هذه طائرة ولا يقدر على الاحتراز مها. فَإِنْ دَخَلَ حَمَامٌ أَوْ نَحْلٌ لا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ فَهُوَ كَصَيْدٍ نَدَّ قوله: (لا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ) يعني ولو أمكنه رده رد اتفاقاً، قاله اللخمي واستشكل لأن إيواء الحمام إلى ملك الأول لا يوجب ملكه إذا لم يزل عن حالة التوحش إذا ند قبل وضع اليد عليه إن آوى إلى نخل الرجل لا يرد للأول، وأما إن لم يمكن رده فقال في المدونة: يكون للثاني ولا يرد للأول، وإليه أشار بقوله: (كَصَيْدٍ نَدَّ) ولم يقل فهو للثاني ليدخل في كلامه قول ابن حبيب.

وَحَرِيمُ الْبِئْرِ مَا لا يَضُرُّ بِمَائِهَا وَلا يَضِيقُ عَلَى دَوَابِّ وَارِدِيهَا أي: وليس له حد مخصوص، هذا مذهب مالك وابن القاسم في المدونة وغير مالك، ومن الآبار ما يكون في أرض رخوة وأخرى في أرض صلبة فإنما ذلك على قدر الضرر في البئر، هذا في آبار الماشية وكذلك في آبار الزرع منها بئر كثيرة الماء وأخرى قليلة الماء وإنما جعل لكل واحد ما يكفيها من الأرض [631/ب] وفي الوجهين. قال ابن سحنون: حريم البئر والأرض والوادي في أرض غير مملوكة عشرون ذراعاً، وقيل ستون ذراعاً، وقال ابن نافع: حريم البئر العادية خمسون ذراعاً والذي ابتدئ عملها خمس وعشرون، وعكس ذلك ابن مصعب وزاد وحريم بئر الزرع خمس مائة ذراع وحريم النهر ما لا يضر بمن يرده. وقال ابن المسيب: حريم بئر الزرع ثلاث مائة ذراع من نواحيها كلها. ابن شهاب: وسمعت الناس يقولون حريم البئر خمسمائة ذراع وحريم الأنهار ألف ذراع. وروى الدارقطني مرسلاً عن ابن شهاب عنه عليه السلام قال: "حَرِيمُ البئرِ المحدَثةِ خمسٌ وعشرون، وحريمُ البئرِ العادِيَّةِ خمسون ذراعاً، وحريمُ بئرِ الزرع ثلاثُمِائَةِ ذراعٍ، وحريمُ العَيْنِ السَّيحِ ستُمائةُ ذراعٍ". وسأل ابن غانم مالكاً عن حريم النخلة فقال: قدر ما يرى أن فيه مصلحتها، قال: وسأل عن ذلك أهل العلم به فقالوا اثني عشر ذراعاً من نواحيها كلها إلى عشرة أذرع وذلك حسن، وسئل عن الكرم أيضاً وعن كل شجرة أهل العلم فقالوا يكون لكل شجرة قدر مصلحتها.

الثَّالِثُ: التَّحْجِيرُ وَفيه قَوْلانِ؛ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَعْرِفُ مَالِكٌ التَّحْجِيرَ إِحْيَاءً، وَلا تَرْكَهُ ثَلاثَ سِنِينَ، وَقَالَ أَشْهَبُ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُنْتَظَرُ ثَلاثَ سِنِينَ، وَأَنَا أَرَاهُ حَسَناً، وَقَالَ أَيْضاً: لا يُفِيدُهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ بَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ مَا لَمْ يَمْنَعْ عُذْرٌ، أَمَّا مَا لا يَقْوَى عَلَى عَمَلِهِ فَلا يُفِيدُ اتِّفَاقاً .... ما ذكره من رواية ابن القاسم نحوه في الاستذكار والجواهر والتهذيب، قال ابن القاسم: ما سمعت من مالك في التحجير شيئاً. وقال أشهب: القول الثاني. وقوله: (وَقَالَ أَيْضاً) أي: أشهب هو راجع إلى القول الأول فلذلك لم يذكر في المسألة إلا قولين. والتحجير هو ضرب حدود بإزاء ما يريده من الموات يريد بذلك منع الناس منه. وقوله: (أَمَّا مَا لا يَقْوَى ... إلخ) يعني: وإنما الخلاف فيما يمكن إحياؤه، ومثال هذا في كونه إحياءً عند أشهب لابن القاسم- رعي كلأ الأرض، وحفر بئر الماشية فيها. الرَّابِعُ: الإِقْطَاعُ مِنَ الإِمَامِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ وَلا يُطَالَبُ بِالإِحْيَاءِ أي: الرابع من وجوه الاختصاص، وقوله: (تَمْلِيكٌ) أي: فله أن يهب ويبيع ويتصرف ويورث عنه وليس هو من الإحياء بسبيل وإنما هو تمليك مجرد. قال الأستاذ أبو بكر: هكذا روى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم سواء كانت في المهامه والفيافي أو قريبة من العمران، ولا يطالبه الإمام بعمارتها بخلاف الإحياء، هكذا قال اللخمي أن ظاهر المذهب إن تملكها بشرط العمارة. ولمطرِّف وابن الماجشون أن من أقطعه الإمام أرضاً- أي أعطاه- على عمارتها فله أن يبيع ويتصدق ما لم ينظر في عجزه فيقطعها لغيره. ابن زرقون: ورأى غير واحد أنه تفسير، وعده الباجي خلافاً والأول أظهر، إذ لا منافاة بينهما لأن الإقطاع في الأول لم يكن للعمارة.

وَلا يُقْطِعُ غَيْرَ الْمَوَاتِ تَمْلِيكاً وَلَكِنْ إِمْتَاعاً أي: لا يقطع المعمور وهو مراده بـ (غَيْرَ الْمَوَاتِ تَمْلِيكاً) وفيه نظر، فقد نص في البيان على جواز إقطاع البئر والمعمول من غير أرض العنوة، قال وهو ظاهر ما في كتاب الداودي. ومثله حكى ابن حبيب عن مالك من رواية ابن القاسم قال: قال لا أرى للإمام أن يقطع أحداً من أرض العنوة. قال في البيان: ورأيت للخمي جواز إقطاع المعمورة من أرض العنوة ليس بصحيح على مذهب مالك، وأما الإحياء في أرض العنوة فقال بعض القرويين يجوز الإحياء في ما بَعُدَ من العمران وأطراف الأرض كانت أرض عنوة أو غيرها أسلم عليها أهلها. وفي البيان: لا يصح الإحياء إلا في البور والإقطاع يكون في البور والمعمور لا في معمور أرض العنوة. وقال ابن الهندي: لا يجوز الإحياء في أرض العنوة لأنها موقوفة لنوائب المسلمين وأطلق، ويمكن رده إلى ما قبله. وفي النكت: الأراضي خمس: أرض عنوة لا توهب ولا تباع، وإنما تبقى لمنافع المسلمين، وأرض صلح فهي لأهلها يصنعون فيها ما يحبون من بيع أو غيره، وأرض أسروا أهلها لهم أيضاً ليس لأحد فيها شيء، وأرض خرجوا عنها أهلها وتركوها فهي للإمام يجتهد فيه ما رأى، وأرض العرب للذين كانوا فيها مثلنا قبل أن يسلموا أو بعد ذلك. الْخَامِسُ: الْحِمَى، وَللِإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ وَقَلَّ مِمَّا فَضَلَ عَنْ مَنَافِعِ أَهْلِهَا، وَحَمَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقِيعَ لِخْيلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَحَمَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا الرَّبَذَةَ لِمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ ... يعني: يجوز للإمام أن يحمي بشرطين؛ الأول: أن يحتاج إليه، والثاني: أن يقل ويفضل عن منافع أهلها، وهكذا قال سحنون الأحمية إنما تكون في بلد الأعراب العفاء التي لا

عمارة فيها غرس ولا بناء وإنما تكون الأحمية منها في الأطراف حيث لا تضيق على ساكن، وكذلك الأودية والعفا التي لا مساكن بها إلا ما فضل عن نافع أهلها من المسارح والمراعي. ووقع في بعض النسخ عوض (قَالَ) (وَقيلَ فِيهِمَا نَظَرٌ)، أما (قَالَ) فلإيهامها أنَّ مالكاً قاله وإنما هو لسحنون، وأما الثانية فلإيهامها أن الثاني خلافاً للأول وليس كذلك. وزيد شرط ثالث وهو أن يكون للجهاد ونحو ذلك. وروى أبو [632/أ] داود عن الصعب بن جثامة أنه عليه السلام حمى البقيع وقال: "لا حمى إلا لله ورسوله" انظر ما في الحديث من قوله "حمى" وهو الذي قاله المصنف وذكره الجوهري رباعياً فقال: وأحميت المكان جعلته حمىً. و (الْبَقِيعَ) قيده عياض في المشارق بالنون، قال: وهو الموضع الذي أحماه النبي عليه السلام والخلفاء بعده وهو صدر وادي العقيق على عشرين فرسخاً ومسافته ميل في بريد، ونحوه للخطابي. وضبطه أبو عبيدة بالباء مثل بقيع الغرقد، وكذلك ذكره البكري. و (الرَّبَذَةَ) بتحريك الباء والذال المعجمة والنقيع بالنون مستنقع الماء والبقيع موضع القبول بالمدينة. وصح أن عمر رضي الله عنه قال لمن ولاه على الحمى: "أدْخِلْ رَبَّ الصُّريمة والغُنيمة وإيَّاك ونَعَمَ ابنِ عفانَ وابنِ عوفٍ" وقال له فيما أوصاه: "اتَّقِ دعوةَ المظلوم فإنها مجابَةٌ، والذي نفسي بيده لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم في أرضهم شبراً، والله إنهم يزعمون أني قد ظلمتهم" والربذة اسم مكان. السَّادِسُ: الْقُرْبُ، وَيَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى إِذْنِ الإِمَامِ فَلَوْ لَمْ يَسْتَاذِنْ لَكَانَ لِلإِمَامِ إِمْضَاؤُهُ أَوْ جَعْلُهُ مُتَعَدِّياً، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَفْتَقِرُ .... (فِيهِ) أي: في القرب، مفهومه أن البعيد لا يفتقر فيه إلى إذن الإمام.

قال في البيان: وهو المشهور، وعزاه في النوادر لمالك وابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون. وروى يحيى عن ابن نافع: ليس لأحد أن يفتح البعيد إلا بإذن الإمام، وعلى هذا فثالثها المشهور يفتقر في البعد. وفي المدونة فيمن أقطع مواتاً بعيداً أو أحياه بغير إذن الإمام: ينظر فيه الإمام. (وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَفْتَقِرُ) أي: إلى الإذن في القريب، والمغيرة يمضي فعله، والمشهور ما قاله المصنف وهو قول مالك وابن القاسم أن للإمام إمضاؤه (أَوْ جَعْلُهُ مُتَعَدِّياً) أي: فيعطى قيمة إحيائه مقلوعاً، ورأى اللخمي أنه يعطى قيمته قائماً للشبهة. اللخمي: وقال مُطرِّف وابن الماجشون: الإمام مخير في أربعة أوجه: أن يقره له أو يقره للمسلمين أو يعطه قيمته مقلوعاً أوي أمره بقلعه ويقطعه لغيره ويكون للأول قيمته منقوضاً. ابن رشد: وهو القياس، وقال في موضع آخر: وهو معنى ما في المدونة. فرع: ومن أحيا أرضاً في الفيافي فليس لغيره أن يحيي بالقرب منه إلا بإذن الإمام، قاله سحنون في المجموعة قال: لأنه صار بالإحياء عمراناً. واعترض كلام المصنف بوجهين؛ الأول: أن فيه تداخلاً؛ لأن هذا السادس هو الوجه الثاني وهو حريم العمارة، وقيده هناك بما يرتفقون به مما يلحقونه غدواً ورواحاً، وهذا هو القريب، وقد تقدم أن سحنون حدَّهُ هكذا وحد البعيد باليوم. الثاني: إذا كان القرب من وجوه الاختصاص فلا يكون القريب مواتاً، إذ الموات ما انفك عن الاختصاص فلا يتصور فيه إحياء؛ لأن الإحياء إنما يكون في الموات.

وَأَمَّا الإِحْيَاءُ فَمَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ عِمَارَةً مِثْلَهَا كَبِنَاءٍ، وغَرْسٍ، وَحَرْثٍ، وَحَفْرِ بِئْرٍ، وَإِجْرَاءِ نَهْرٍ ... أي: مثل تلك الأرض. عياض: الإحياء يكون بعشرة أشياء، سبعة متفق فيها وثلاثة مختلف فيها؛ فأما الثلاثة: فالتحجير، وحفر بئر الماشية، ورعي كلأ الأرض ليس هو إحياء عند ابن القاسم خلافاً لأشهب. وأما السبعة فتفجير الماء فيها بحجر بئر أو فتق عين، الثاني إجراء الماء من عامرها، الثالث البناء، الرابع الغرس، الخامس الحرث وتحريك الأرض بالحفر ونحوه، السادس قطع غياضها ومأشجارها، السابع كسر أحجارها وتسوية أرضها. وقول المصنف: (أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ) يريد: إذا لم تكن لماشية وإلا فحفر بئر الماشية ليس إحياء عند ابن القاسم. وَفِي إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثَالِثُهَا: يَمْلِكُ إِنْ كَانَ بَعِيداً يعني أن الذمي إذا أحيا في جزيرة العرب لم يترك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبقيَنَّ دِينانِ بجزيرة العرب" وإن أحيا بغيرها فثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين القرب والبعد كما تقدم. ابن عبد السلام: وليس الأول منصوصاً للمتقدمين لكن ركن إليه الباجي، وقيل: بل ينزع ذلك منه كجزيرة العرب، وهو قول ابن القصَّار، ونص قوله عند اللخمي: وقال ابن القصار: ولا يكون للإمام أن يأذن لأهل الذمة في الموات؛ ولم يفرق بين قريب وبعيد. ابن عبد السلام: والثالث هو المنصوص للمتقدمين، قال في الرواية: لأن ما قرب بمنزلة الفيء، واستشكله الباجي قال: يلزم عليه ألا يصح من المرأة والعبد لأنهما ليسا من أهل الفيء، ولو قيل: إن حكمهم كالمسلمين ما بعد كما كان لهم ذلك فيما بعد، وهذا هو الركن الذي ذكرناه. انتهى.

وذكر ابن يونس وغيره أن ابن القاسم قال في المجموعة: من أحيا من أهل الذمة أرض الإسلام فذلك له لقوله عليه السلام: "من أحيا أرضاً مَيْتاً فهي له" ظاهره أنه لا فرق بين القرب والبعد. ولا يقال الثالث متحد مع الأول لأنكم قلتم في الأول أن حكمه حكم المسلمين، وحكمهم التفرقة كما في الثالث لأنهم لا حق لهم في القرب على الثالث مطلقاً، وعلى الأول يكون لهم فيه حق إذا أذن لهم الإمام. مالك: وجزيرة العرب الحجاز ومكة والمدينة واليمن، زاد ابن حبيب والنجود فإنه قال ما معناه أنّ حدها طولاً من أقصى عدن وما والاها من أرض اليمن كلها إلا ريف العراق وحدها عرضاً من جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر وفي المغرب والمشرق ما بين سرف إلى منقطع السماوة. وَلا تُحَازُ الشَّوَارِعُ بِالْبُنْيَانِ لأن الطرق محبسة ولا إشكال في منع ما يضر وهدمه [632/ب] وأما ما لا يضر فروي عن مالك الجواز والكراهة، فإن نزل لم يهدم على ظاهر قول ابن القاسم وأصبغ. وذهب مطرف وابن الماجشون وسحنون إلى المنع وأنه يهدم، واختلف فيه قول أشهب فكرهه مرة ومنعه أخرى وقال يهدم. ابن عبد السلام: قيل والهدم هو المشهور، وهو مقتضى كون الطرق أحباساً. وَلا تُمْنَعُ الْبَاعَةُ مِنْهَا فِيمَا خَفَّ وَلا غَيْرُهُمْ، فَمَنْ سَبَقَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَسْجِدِ ... احترز بقوله: (فِيمَا خَفَّ) مما يستدام ويضر بالمار.

خليل: وعلى هذا فلا ينبغي أن يشتري من هؤلاء الذين يغرزون الخشب في الشوارع عندنا لأنهم غُصَّاب للطريق، وقاله سيدي أبو عبد الله بن الحاج رحمه الله. وقوله: (فَمَنْ سَبَقَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَسْجِدِ) تشبيه لإفادة الحكم. ابن عبد السلام: ويسقط حق الجالس بقيامه لا بنية الرجوع أن يعود، فأشار بعضهم إلى أن في المستألتين قولين قال: ولم أر ذلك له ولا لغيره في المسجد إلا ما وقع لهم في من ارتسم معرفة موضعهل سؤاله وغير ذلك. وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ مَسْكَنَاً إِلا مُجَرَّداً لِلْعِبَادَةِ وَلِقِياِم اللَّيْلِ، وَخُفِّفَ فِي الْقَائِلَةِ وَالنَّوْمِ نَهَاراً ... هكذا ذكر ابن حبيب، والظاهر أن ينبغي هنا للوجوب؛ لأن السكنى في المسجد على غير وجه التجرد للعبادة ممتنع؛ لأنه تغيير له عما وضع له وعلى ولي الأمر وفقه الله تعالى هدم المقاصير التي اتخذوها في بعض الجوامع للسكنى. وقوله: (إِلا مُجَرَّداً) أي: إلا لرجل مجرد للعبادة بقيام الليل وإحيائه فلا بأس أن يكون ذلك منه دائماً. ابن حبيب: إن قوي على ذلك. وقوله: (خُفِّفَ) بضم الخاء مبني للمفعول؛ لأن ابن حبيب ذكر عن عبد الملك قال: ولا بأس بالقائلة في المسجد والنوم فيه نهاراً وللمسافر والمقيم، ولا بأس بالمبيت فيه للمسافر. ابن حبيب: وأرخص أن يطعم الضيف في مساجد البادية، وقال ذلك شأن المساجد وكره أن يوقد فيه نار. ابن عبد السلام: ومنهم من أجاز المبيت في مساجد المدائن، والمشهور خلافه وهو أقرب إلى ما روي من الأثر.

اللخمي: ولا يجوز حدث الريح فيه وإن كان مخلياً لحرمة المسجد والملائكة، ويجوز قتل العقرب فيه، وأجاز ابن رشد في أجوبته للملتجئ المبيت فيه وخاف أن يخرج لصاً أو سبعاً أن يتخذ معه آنية ليبول فيها. قال في مختصر ما ليس في المختصر: ويجب على من رأى في ثوبه دماً كثيراً في الصَّلاة أن يخرج عن المسجد ولا يخلعه فيه، قال: وقد قيل يخلعه ويتركه بين يديه ويغطي. وَيُكْرَهُ فِيهِ الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ، وَسَلُّ السَّيْفِ، وَإِنْشَادُ الضَّالَّةِ، وَالْهَتْفُ بِالْجَنَائِزِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ وَلَوْ لِعِلْمٍ ... ينبغي أن تكون الكراهة هنا أيضاً على المنع، وقد ثبت عنه عليه السلام قال للأعرابي الذي بال في المسجد: "إن هذا المسجِدَ لا يصلُحُ لشيء من هذا البولِ والقذرِ، وإنما هو لِذِكْرِ الله والصلاةِ والقراءةِ" وفي النسائي أنه عليه السلام قال: "إذا رَأَيْتُم من يبيعُ أو يَبْتاعُ في المسجدِ قولوا: لا أَرْبَحَ الله تجارتَكَ، وإذا رَأَيْتُمْ من يَنْشُدُ الضالةَ في المسجد فقولوا: لا رَدَّهَا اللهُ عليكَ". قوله: (وَالْهَتْفُ بِالْجَنَائِزِ) قال سيدي عبد الله بن الحاج: تسامح علماؤنا في الإعلام بالميت بأن يقف الرجل على باب المسجد عند انصراف الناس فيقول: أخوكم فلان قد مات بصوت. يجهر به على سنة الجهر يعني، وأما ما يفعله الناس عندنا من زعقات المؤذنين بذلك فهو من النعي المنهي عنه، فقد روى الترمذي عن حذيفة رضي الله أنه قال لما احتضر: إذا أنا مت فلا تؤذنوا بي أحداً فإني أخاف أن أكون نعياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهي، فإذا مت فصلوا علي وسلوني إلى ربي سلاً. وقوله: (وَرَفْعُ الصَّوْتِ وَلَوْ بِالْعِلْمِ) أتى بـ (لَوْ) للمبالغة وهي إنما تحسن لو كان رفع الصوت بالعلم في غير المسجد غير مكروه كما قال ابن مسلمة، وأما على المشهور من

كراهة ذلك مطلقاً فلا، قال مالك: ما للعلم ورفع الصوت، ووجهه ما قال ابن حبيب: كنت أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل العلم في المجلس فيقول: يا أبا مروان اخفض من صوتك وأمر جلساءك أن يخفضوا أصواتهم. واستخف أهل المذهب قضاء الدين في المسجد أن يخفضوا أصواتهم. واستخف أهل المذهب قضاء الدين في المسجد، ورأوه يسيراً من المعاملة بالبيع والشراء. واستحسن جماعة عقد النكاح فيه ورأوه مخالفاً لعقد البيع. وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ جَعْلُ عُلْوِ مَسْكَنِهِ مَسْجِداً، وَلا يَجُوزُ جَعْلُ سُفْلِهِ مَسْجِداً وَيُسْكَنُ الْعُلْوُ لأَنَّ لَهُ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ ... نحوه في المدونة في باب الصلاة والواضحة في كتاب الجعل من المدونة. وفي المدونة: وكره مالك السكنى بالأهل فوق المسجد، فإن قلت: قد صرح بالكراهة هنا خلاف ما في الواضحة، قيل: الظاهر حملها على المنع توفيقاً بين النقلين. وَكُرِهَ دُخُولُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عِنْدَ نَقْلِهِا إِلَيْهِ بِخِلافِ الإِبِلِ وإنما كره مالك عند نقلها شيئاً إلى المسجد لبناء أو غيرها لنجاسة أبوال الخيل والبغال والحمير وطهارة أبوال الإبل، على أن الإجازة إنما هو للضرورة وإلا فالمسجد منزه عن أقل من هذا. وعبر المصنف بالكراهة لأن ابن حبيب نقله عن نمالك كذلك ولذلك يصح أن يقرأ (كَرِهَ) بفتح الكاف مبني للفاعل ويعود الضمير على مالك، وبضم الكاف للمفعول. وَكُرِهَ أَنْ يَبْصُقَ عَلَى أَرْضِهِ وَيَحُكَّهُ وَأَنْ يُعَلِّمَ فِيهِ الصِّبْيَانَ هذا ظاهر حكماً وتعليلاً.

وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ ذَهَباً أَوْ فِضَةً فَإِلَى الإِمَامِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلِصَاحِبِ الأَرْضِ أَوْ لأَهْلِ الصُّلْحِ .... [633/أ] لما تكلم على المنافع المشتركة شرع في الأعيان المستفادة كالمعادن والمياه، والثلاثة الأقوال قد تقدمت وتقدم الكلام عليها في باب الزكاة، والأولان مبنيان على أن من ملك ظاهرها هل يملك باطنها أم لا؟ والفرق استحسان. وقوله: (فَلِصَاحِبِ الأَرْضِ) أي: المعين (أَوْ لأَهْلِ الصُّلْحِ) أي: فتحت صلحاً، وحاصله: إن قسم المالك قسمين وهو ظاهر، وإن كان ابن عبد لاسلام قد اعترض أيضاً قال: وعطف المصنف أهل الصلح على صاحب الأرض أنهم بعض أصحاب الأرض. وَلا يَنْظُرُ الإِمَامُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ العَنْبَرِ وَاللُؤْلُؤِ وَغَيْرِهِ قد تقدم أيضاً هذا في الزكاة من كلام المصنف ونص على أنه لواجده من غير تخميس. قال في المدونة: وأما التراب يوجد بساحل البحر فيغسل فيخرج منه ذهب أو فضة ففيه الزكاة كالمعدن. وَأَمَّا الْمَاءُ فِي آنِيَةٍ أَوْ بِئْرٍ فِي مِلْكِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَنْعُهُ نبه بقوله: (فِي آنِيَةٍ أَوْ بِئْرٍ) على أنه لا فرق في ذلك بين ما ينقص بالاغتراف ولا يخلفه غيره كالآنية أوي خلفه غيره كالبئر فيجوز له بيعه ومنعه على المشهور. وقال يحيى بن يحيى: أربع لا أرى أن تمنع: الماء والنار والحطب والكلأ، وقد ورد بمنع هذه الأربعة حديث ضعيف. وقيد ابن رشد هذا بالخلاف بما إذا كان البئر أو العين في أرضه بما لا ضرر عليه في الدخول إلى الاستسقاء منها، وأما البئر التي في دار رجل أو حائطه قد حط عليها فله أن يمنع من الدخول عليه.

وقوله: (وَمَنْعُهُ) مقيد بما إذا لم يؤد ذلك إلى هلاك قوم فيجب عليه حينئذ، وهل له أن يأخذ العوض عنه؟ قولان: قال في المدونة: وكل من وجد في أرضه أو داره بئراً فله منعها وبيع مائها وله منع المارة منها إلا بثمن معهم وإن تركوا من غير ماء هلكوا. وقال أيضاً فيها في الذي انهارت بئره وخاف على زرعه أنَّ له أن يسقي بماء جاره الذي يجوز بيعه بغير ثمن. ابن يونس: وإحياء النفوس أعظم من إحياء زرعه بغير عوض فلا. وَمَا يَسِيلُ مِنَ الْجِبَالِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ يُسْقَى بِهِ الأَعْلَى فَالأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ ... لما في الموطأ أنه عليه السلام قال لسيل مَهْزُورٍ ومُذَيْنِبٍ "يُمْسَكُ حتى الكعبين ثم يُرْسِلُ الأعلى على الأسفل". ومهزور ومذينب واديان بالمدينة يسيلان. وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال للزبير لما أتى مخاصماً لغيره: "اسقِ يا زبيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارِكَ، فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلوَّنَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمَّ قال: يا زبيرُ اسقِ ثم احبسِ الماءَ حتى يبلغَ الجُدُرَ، قال الزبيرُ: فنزلت {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] الآية" ونظرنا في قوله عليه السلام "احبس الماء" حتى بلغ الجدر فكان إلى الكعبين. قال الأئمة: وكأنه صلى الله عليه وسلم ندب الزبير إلى إسقاط حقه رعياً للمجاورة، فلما تكلم بذلك الرجل استوفى للزبير حقه. وقوله: (الأَعْلَى) ظاهر التصور. ابن نافع: والنيل كذلك، فإن كان الجنانان متقابلين قسم الماء بينهما وإن كان الأسفل مقابلاً لبعض الأعلى حكم لمقابل الأعلى بحكم الأعلى والمقابل الأسفل بحكم مقابله. واختلف هل قوله عليه السلام: "إلى الكعبين" بعد ري الجنان وإليه ذهب ابن الماجشون ومطرف

وابن وهب، أو قبل ريه، وأما إذا روي فيرسل الجميع وهو قول ابن القاسم وابن رشد، والأول أظهر. قال ابن كنانة: بلغنا أنه إذا سقى الزرع أمسك الماء حتى بلغ إلى شراك النعل، وإذا سقى النخل والشجر وما له أصل حتى يبلغ الكعبين، وأحب إلينا أن يمسك غيره حتى يبلغ الكعبين لأنه أبلغ في الري. وروى زياد عن مالك معنى الحديث أن يجري الأول في الماء بقدر ما يكون في ساقيته إلى الكعبين حتى يروي حائطه ثم يفعل الذي يليه كذلك، واستحسنه ابن مزين. وجوز ابن رشد أن يكون وفاقاً لرواية غيره قال: أما إذا لم يكن فيه فضل عما يسقى فيه واحد بعد واحد فإنه يكون خلافاً، قال: وهو الأظهر. وعلى المشهور يرسل الأعلى جميع الماء في حائطه ثم ينتهي إلى الكعبين ثم من تحت كذلك هكذا أبداً ما لم يحتج الأول إلى إعادة السقي ثانية فيكون أحق به ثم الذي تحته، فلا يكون في الماء حق لمن لم ينته إليه متى احتاج الأعلى إلى إعادة السقي، وعلى رواية زياد لا يأخذ جميعه بل يأخذ منه في ساقيته بقدر ما يكون إلى الكعبين ثم من تحته كذلك حتى يتم الماء، وأما إن لم يكن في الماء فضل ولا يتأتى به الفضل إلا الواحد فلا حق للأسفل إلا ما فضل عن الأعلى. وَيُؤْمَرُ بِالتَّسْوِيَّةِ فَإِنْ تَعذَّرَ سَقَى كُلَّ مَوْضِعٍ عَلَى حِدَةٍ أي: ويؤمر الأعلى بتسوية أرضه إن كان بعض أعلى من بعض. قال سحنون: فإن تعذرت عليه التسوية سقى كل ما كان مستوياً على حدة وعد كأنه حوائط، قاله الباجي. إِنْ حَدَثَ إِحْيَاءُ الأَعْلَى فَالأَقْدَمُ أَحَقُّ هو كالتقييد لما ذكر من تبدية الأعلى، وهكذا قال سحنون ورأى أن هذه الصورة تخرج من عموم الحديث ضرب من الاستدلال، لكن زاد سحنون على ما ذكره المصنف

في فرض المسألة زيادة فقال: إن أراد أن ينفرد الأعلى بالماء ويسقي قبل الأسفل الذي أحيا قبله وذلك يبطل عمل الثاني ويتلف زرعه، فالقديم أولى بشرط في إخراج هذه الصورة من العموم أن يكون زرع الأقدم يخشى عليه فيحتمل أن يرى أن الأقدم [633/ب] أولى إذا فقد هذا الشرط رعياً لظاهر الحديث ما أمكن. فَإِنْ كَانَ مَسِيلُهُ فِي مَمْلُوكِهِ فَلَهُ حَبْسُهُ مَتَى شَاءَ وَإِرْسَالُهُ هكذا قال سحنون، يعني وإن أحب ألا يرسله فذلك له؛ لأن بدخوله في أرضه يصير أحق به من غيره كما لو صدته نيته وهذا مقابل قوله أرض مباحة أي غير مملوكة. فَإِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فِي إِجْرَاءِ مَاءٍ إِلَى أَرْضِهِمْ لَمْ يُقَدَّمِ الأَعْلَى، وَكَانَ بَيْنَهُمْ يُقَسِّمُونَهُ بِالْقِلْدِ وَشِبْهِهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ... تصوره ظاهر، ولم يقدم هنا لأن الماء ملكوه قبل وصوله إلى أرضهم بسبب أعمالهم، ويحسب ذلك العمل ويقسم بينهم عليه، ولما ذكر القلد أخذ يفسره فقال: وَالْقِلْدُ قِدْرٌ يُثْقَبُ وَيُمْلَأُ مَاءً لأَقَلِّ جُزْءٍ وَيَجْرِي النَّهْرُ لَهُ إِلَى أَنْ يَنْفَدَ ثُمَّ كَذَلِكَ لِغَيْرِهِ ... القدر لغة الحظ من الماء قاله صاحب المحكم، وإطلاقه على القدر من إطلاق الحالِّ على المحل. وذكر المصنف ثلاث صفات: الأولى أن يثقب القدر بمثقاب ويملأ ماء لأقلهم جزءاً كما لو كان الثمن، ثم يعلق على ثلاثة شعب ولا يزال النهر جميعه يجري إليه حتى ينفد ما في القلد، ثم يجعل لصاحب النصف أربعة أمثاله أربع قدور ثم كذلك، فإن اختلفوا فيمن يبدأ به فالقرعة.

أَوْ يُعْرَفَ مِقْدَارُ مَا يَسِيلُ مِنْهُ يَوْماً وَلَيْلَةً، وَيُقْسَمُ عَلَى أَنْصِبَائِهِمْ، وَيَجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِقْدَارَهُ فِي قِدْرٍ أَوْ قُدُورٍ بِمِثْقَابِ الأَوَّلِ وَيَجْرِي مِنَ النَّهْرِ لَهُ حَتَّى يَنْفَدَ ... هذه هي الصفة الثانية، وذكر أنه ينقب القدر بثقب فيوضع على يد أمين ثم يعلق القدر مع انصداع الفجر ويجعل تحتها ما ينصب فيه، وكلما هم أن ينضب الماء زاد فيه حتى يكون سيله معتدلاً لأن النهار كله والليل كله إلى انصداع الفجر فينحيانها ويقتسمان ما اجتمع من الماء على أقلِّهم سهماً أو كيلاً أو وزناً ثم يجعل لكل واحدٍ قدرٌ تحمل سهمه من الماء ويثقب كل قدر بمثقاب الأول، فإذا أراد أحدهم السقي غلق قدره بمائه وصرف له الماء كله مدة سيل الماء من القدر، وكلمّا هم أن ينضب الماء من القدر زيد فيه إذا كان له أكثر من قدر واحد ثم كذلك، وإن اختلفوا في البداية اقترعوا؛ هكذا ذكر هذه الصفة ابن حبيب عن عبد الملك وغيره من علماء المدينة، وعلى هذا فقول المصنف: (فِي قِدْرٍ أَوْ قُدُورٍ) ليس بظاهر لأنهم قالوا: يجعل لكل واحد نصيبه في قدر، ولهذا اعترض ابن يونس فإنهم إذا اختلف أنصباؤهم كان صاحب الكثير مغبوناً؛ لأن القدر كلما كبرت ثقل فيها الماء وكثر جريه من الثقب حتى يكون مثلي ما يجري من الصغيرة أو أكثر فيأخذ صاحب القدر الصغيرة أكثر من حقه لخفة جري الماء، قال: والذي أراه لصاحب الكثير في القدر الأول. وقد يقال لعل المصنف أراد بقوله: (فِي قِدْرٍ أَوْ قُدُورٍ) القولين؛ أي: قول المدنيين وقول ابن يونس وتكون (أَوْ) للتفصيل، لكن هو بعيد من كلامه. عياض: واعتراض ابن يونس صحيح، وقد غفل عما هو أشد منه وهو قوله: "وكلما هم الماء أن ينضب" فهذا فيه من الاعتراض نحو ما ذكره؛ لأن صاحب القدر من الثقب وهي ممتلئة بخلاف صبها بعد نقصها، ولو قال كلما نقص من الماء شيء زاده ليكون أخلص حتى يكون جري الماء من الثقب على حد واحد، وقد تفطن لها أبو عبد الله بن

العطار وقال: متى نقص الماء من القدر ملأها ولعله مراد ابن حبيب، وإن كان النضوب في لسان العرف إنما هو عدم الماء وذهابه لا نقصه. ابن العطار: وإن كان ابتداء شركهما في الأرض معلوماً من ميراث أو شراء أو نحوه وماء القدر حينئذ بينهم، ثم تقاسموا فيحسب زمان البعيد منه من وقت أرسل إليه لا من وقت وصوله إلى أرضه؛ لأن الأرض قد ضمت على حالها من القرب والبعد وإن لم يطم في الأرض التي لها ولا قسمته واشتراك قبل ولا كيف كان ملكهم، يريد وكان ملكهم لها تأخر عن قسمة الأرض فلا يحسب على البعيد لا من وقت وصول الماء إلى أرضه. وقال ابن الماجشون في ورثة قسموا أرضاً ولها ماء كثير يكفي البعيد والقريب في السفر فقلَّ ذلك صار لا يكفي البعيد فأراد نقض القسمة، فقال ينقض قسم الأرض ويرد قسم الماء فيزاد من بعد على من قرب بقدر ما يستوي القريب والبعيد في السقي، فيكون البعيد منه أكثر ما للقريب كما لو قسمت الماء قسماً واحداً. عياض: وهو غير مخالف للأول، قال: وإذا كان هكذا لم تصح قسمته ماء القدر بينهم ولا يقاسمه ولا يجمع ما يخرج من القدر حتى يطلق أول الماء إلى أرضه وماء الثقب من القدر يجري في الأرض مراقاً غير مجموع ولا محبوس، فإذا بلغ أرضه أشهدوا الإناء حينئذ ببلوغه بصوت أو ضرب حتى يبلغهم لحينه فيمتدون حينئذٍ بجميع الماء في الآنية وحسابه على ما تقدم. أَوْ يُقْسَمُ بِخَشَبَةٍ يُجْعَلُ فِيهَا خُرُوقٌ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ هذه هي الصفة الثالثة أي ينصب خشبة وتجعل فيها خروق متساوية للأنصباء يجري منها الماء. وقوله (أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ) أي: مما يوصل إلى القسمة كما لو قسم بالسهام. وقد أطال عياض في هذه المسألة فانظره.

وَأَمَّا مَاءُ الْبِئْرِ الَّتِي حُفِرَتْ فِي الْفَيَافِي فَلا تُبَاعُ وَصَاحِبُهَا أَوْ وَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِكِفَايَتِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا حَظَّ فِيهَا لِلزَّوْجَيْنِ، وَلا يُمْنَعُ مَا فَضَلَ قوله: (وَمَاءُ الْبِئْرِ) والماجل [634/أ] لأنه كالبئر على المشهور. وقال المغيرة: له منعه لعظم النفقة فيه وعدم خلف ما أخذ منه فليس كالبئر. وقوله (الَّتِي حُفِرَتْ) أي: للمواشي، وأما النخل والزرع فقال مالك: له المنع ولا يجبر إلا أن ينهدم بئر جاره ويخاف على زرعه فيقضي له عليه حتىي صلح بئره. الباجي وغيره: ويشترط في الجبر أربعة شروط: الأول: أن يكون زرع أو غرس على أصل ماء فانهار وأما إن كان على غير أصل ماء فلا يجبر. الثاني: أن يخاف على زرعه وإلا فلا. الثالث: أن يفضل ماء عن صاحب البئر. الرابع: أن يشرع من انهارت بئره في إصلاحها وإلا فلا. واحترز بالفيافي مما لو حفرها في ملكه فإن له المنع كما تقدم، والفيافي واحدها فيفاء وهي الصحراء الملساء. وقوله (فَلا تُبَاعُ) إنما لا تباع؛ لأن العادة جرت فيما حفر على هذا الوجه أن ينتفع ربها بشربها ويبقى ماشيتها ثم يتركها للناس فلذلك كان هو أو ورثته أحق بكفايتهم وما فضل عنه فللناس. فإن قيل: يباع منها مقدار حق حافرها. قيل: ذلك الحق غير منضبط وإنما يقدر بحسب عوارض الحاجات. وظاهر قول المصنف: (لا تُبَاعُ) أن البيع ممنوع، ونحوه في المجموعة والواضحة ففيها: لا يباع ولا يورث ولا يوهب وصاحبها أو ورثته أحق

بحاجتهم، ومن استغنى منهم فليس له أن يعطيه غيره وهو قول ابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب، وهو قول أصحابنا وروايتهم عن مالك. ونقل الباجي عن المجموعة أيضاً أنه قال فيها قال مالك: لا يجوز بيع بئر الماشية. قال عبد الوهاب: وظاهر قوله عليه السلام "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ". الباجي: وظاهر المدونة أن المنع على الكراهة، ففي الجعل والإجارة: أراه حراماً أي بيع الماء وبيع أصل البئر. وصح فيها في موضع آخر بالكراهة قال: وعندي أن الكراهة إذا حفر على معنى الانفراد، وأما إذا حكم له بحكم الإباحة فالتحريم. ولذلك حمل صاحب البيان ما في المدونة الكراهة أنَّه حفرها لنفسه، وما في المجموعة على أن مالكاً لم يصدّقه في ادعائه أنه حفرها لنفسه، قال: وعلى هذا تتفق الروايات وهو أولى من حملها على التعارض، وصاحبها أو ورثته أي بعد موته أحق بكفايته يحتمل في أنفسهم ويحتمل في أنفسهم ودوابهم، والأول أولى ففي المقدمات: يبدأ أولاً أهل الماء ثم المارة حتى تروى ثم دواب أهل الماء ثم دواب المارة ثم مواشي أهل الماء ثم الفضل لسائر الناس. وقال أشهب: دواب المسافرين قبل دواب أهل الماء ثم التبدية لجميع ما يروى به إن كان الماء كافياً للجميع، وإن لم يكن في الماء فضل بدئ بأنفس المجهدين ودوابهم وإن استووا عند أشهب بدئ بالمسافرين. قال ابن لبابة: إذا استووا في الجهد فأهل الماء أحق بالتبدية لأنفسهم ودوابهم وإن قل الماء جداً وخيف على بعضهم بتبدية بعض أخذ الماء بقدر ما يذهب عنهم الخوف ثم المسافرون كذلك ثم دواب أهل الماء، قال: ولا خلاف عندي في هذا الوجه، انتهى.

ابن الماجشون: وإن كان لورثته سنة من تقديم ذي المال الكثير أو قوم على قوم أو كبير على صغير حملوا عليه وإلا استهموا. قال في المقدمات: وهذا عندي إذا استوى قعددهم من حافرها وأما إن كان بعضهم أقرب فهو أحق بالتبدية قَلَّتْ ماشيته أو كثرت. قوله (وَلا حَظَّ فِيهَا لِلزَّوْجَيْنِ) هكذا قال ابن الماجشون، وتأوله الباجي وابن رشد وغيرهما على ما إذا لم يكن أحد الزوجين من بطن الآخر، وقيل لا يختص ورثة حافرها بما كان له وإنما ذلك لأنه لا تورث بئر الماشية على معنى الملك. وَالْمُسَافِرُونَ أَحَقُّ مِنَ الْمُقِيمِينَ، وَلَهُمْ عَارِيَّةُ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ وَالْحَوْضِ يعني: بعد أهل البئر كما تقدم، ووجهه ظاهر لأنه إذا بدأ بالمسافرين خلصوا لسفرهم وشأنهم. وقوله (وَلَهُمْ) أي المسافرين على الحاضرين (عَارِيَّةُ) الآلة. ابن عبد السلام: وهي إطلاقات أهل المذهب أن وجوب عارية الآلة في هذا الباب عامة في حق المليء والفقير، ولعل ذلك لأن مالكاً لم يتخذها للكراء (وَالرِّشَاءِ) ممدودٌ الحبلُ. فَلَوْ بَيَّنَ حَافِرُهَا وَأَشْهَدَ أَنَّهُ مِلْكٌ فَقَالَ الْبَاجِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْلِكُ وَلا نَصَّ فِيهِ أي: لو بين حافر بئر الماشية وأشهد أنه أي المالك، وكلام الباجي ظاهر. ونص في البيان على أن الحكم هنا إنما يملك ولم يذكر خلافه، بل قرره على أنه هو المذهب. خليل: وهذا مبني على فهمه من المدونة إنما هي أنه حفرها لنفسه وأن ذلك متفق عليه كما تقدم.

وَأَمَّا تَوَابِعُ الْمَاءِ مِنَ الصَّيْدِ وَالْكَلأِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لَمْ يُمْنَعُ أَحَدٌ ... إنما كانت توابع الماء لأنها لا تكون إلا حيث يكون. وقوله (فَإِنْ كَانَ) أي: في الأصل وهو الماء وهكذا قال في الجواهر، وهذا كالأودية والأنهار والأراضي التي ليست مملوكة وعلة هذه المسألة واضحة، لأنه لما كان الصيد والكلأ غير مملوكين وكان الماء أيضاً غير مملوك كانا كسائر المباحات فمن سبق كان أحق به، (وَالْكَلأِ) مهموز مقصور. الجوهري: يطلق على الرطب واليابس، وقيل الكلأ بالقصر هو الربيع وبالمد هو الحشيش. وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْتُ مَالِكاً عَنْ بُحَيْرَاتٍ بِمِصْرَ يَبِيعُ أَهْلُهُا سَمَكَهَا فَقَالَ: لا يُعْجِبُنِي لأَنَّهَا تَقِلُّ وَتَكْثُرُ وَلا أُحِبُّ لَهُ مَنْعَ أَحَدٍ يَصِيدُ. وَقَالَ سُحْنُونٌ: لَهُ مَنْعُهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ طَرَحُوهَا فَتَوَالَدَتْ مُنِعَتْ يعني: وأما إن كان الماء مملوكة، وقوله في رواية ابن القاسم: لا يعجبني هو على المنع بدليل [634/ب] تعليله بقوله (لأَنَّهَا تَقِلُّ وَتَكْثُرُ) إذ الجعل مقتضي المنع، وهذه الرواية رواية في المدونة. ورأى ابن الكاتب أنه إنما منع ذلك لأن الأرض ليست لهم وإنما هم متولون لها إذ أرض مصر أرض خراج، وأما إن كان أرض أنساب وملكه فله منع الناس. وقال غيره من القرويين: إنما لا يمنع الناس منها إذا كان لا يصيد ذلك إذ لا يجوز بيعه لأن بيعه غرر، وإلى هذا ذهب صاحب المقدمات لأنه قال: واختلف في الصيد في الغُدر والبرك التي تكون في ملك الرجل فقال ابن القاسم له المنع، ثم ذكر الثلاثة. وذكر الباجي أن ابن حبيب روى عن أصبغ أن ابن القاسم ساوى بين الناس فيما كان في ملكهم أو غير ملكهم كالكلأ.

قوله: (وَقَالَ سُحْنُونٌ: لَهُمْ مَنْعُهُ) أي: لأهل الأرض منع من يصطاد ورأى أنه يملك الصيد لكونه في أرضه. وفرق أشهب فقال: إن طرحوها فتوالدت فلهم المنع، وإن جره الماء فلا. زاد الباجي في قوله بعد قوله: "وإن لم يطرحوها فلا" إلا أن يضر به الصائدون. مطرف وابن الماجشون: لهم المنع فيما كان ملكاً لأهله في حوزهم قالا: وما كان في الأنهار والخلج التي لا تملك لمن له بها سكنى أن يمنع من طرأ. اللخمي: وأرى الأرض المملوكة على أربعة أوجه: إن طرحوه فيها أو كان في مزدرع وتركها لذلك فهو أحق وإن كان في مزدرع ولم يأت أبان الزراعة ولو أتى لمسيل الماء عنها فهو كالكلأ والماء وإمساكه هنا أشبه من الكلأ ومن فضل ماء البئر لأن الكلأ يملك وفضل ماء البئر يذهب تحت الأرض فلا يمنع ما ينفع غيره وإن تركه هلك وذهب، والحرث يبقى وينمو ويتوالد فكان له منعه وبه أخذ. انتهى. وَأَمَّا الْكَلأُ فَسَأَلَ ابْنُ دِينَارٍ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مُطَرِّفاً عَنْ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَمَا يُبَاحُ فَقَالا: لا يَبِيعُ وَيَمْنَعُ مَا فِي مُرُوجِهِ وَحِمَاهُ مِنْ مِلْكِهِ، وَيُبَاحُ مَا فَضَلَ عَنْهُ مِمَّا فِي فُحُوصِها مِنَ الْبُورِ وَالْعَفَا. قَالا: إِلا أَنْ يَكْتَنِفَهُ زَرْعُهُ فَلَهُ مَنْعُهُمْ لِلضَّرَر، وَسُئِلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي بَيْعِهِ إِلا مَا فَضَلَ عَنْهُ مِنْ الْعَفَا، وَسَوَّى أَشْهَبُ فِي مَنْعِهِ، وَقَالَ: هُوَ كَالْمَاءِ الْجَارِي لا يَحِلُّ مَنْعُ مَا فَضَلَ عَنْهُ وَلا بَيْعُهُ إِلا أَنْ يَجُزَّهُ وَيَحْمِلَهُ فَيَبِيعَهُ ... أي: سأل عيسى ابن القاسم عن رأي مالك وكذلك ابن حبيب سأل ابن الماجشون عن رأي مالك، هكذا صرح به جماعة. (وَالْمُرُوجُ) جمع مفرده مرج. الجوهري: وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب يسيل فيه الماء وينبت العشب أي في مروجه وحماه مما قد بوره من أرضه، وأما ما فيه فحوصه وهي الأرض التي لم يبورها للمرعى وإنما ترك زراعتها فنبت فيها الكلأ. وحاصل ما

ذكره المصنف في القسمين ثلاثة أقوال، ومعنى يباع ما فضل عنه من البور والعفا يعني أن له أن يمنعه من الفحوص إن احتاج إليه وإلا فلا منع له. وقوله (قَالا: إِلا أَنْ يَكْتَنِفَهُ زَرْعُهُ) هكذا نقل عنهما في النوادر لأنه نقل عنهما أنهما قالا إلا أن يكون عليه في وصول الناس بدوابهم مضرة مثل فدان فيه خصب وحواليه خصب وحواليه الزرع فله منعهم للضرر. قوله: (وَسُئِلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ) هو القول الثاني والسائل له هو ابن حبيب (فَسَوَّى بَيْنَهُمَا) أي: في القسمين أي بين البور والمروج، فقال: له أن يمنع إن احتاج ويبيع إن لم يحتج إلا ما فضل عنه من العفا وهو ما لا يحرث فليس له منعه. وقال في البيان: باتفاق. وقوله: (وَسَوَّى أَشْهَبُ فِي مَنْعِ كِلاهُمَا وَبَيْعِهِ) أن يبيع إذا احتاج إليه ولا يبيعه إلا أن يجزه ويحمله ويبيعه هو من نسخة أشهب، ورأيت أن أذكر كلامه في البيان ليتبين لك ما ذكرته ولما فيه من الفوائد وإن كان فيه طول، قال: لا يخلو الكلأ أن يكون في أرض غير مملوكة كالبوادي والفيافي فلا خلاف أن الناس كلهم فيه سواء ليس لأحدهم أن يمنعه، لما في الصحيح: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ". واختلف إن سبق أحدهم إليه فنزله فجعل يرعى ما حوله أو حفر بئراً، هل يكون أحق بقدر حاجته من كلأ ذلك الموضع دون الفضل؟ فقيل ليس هو أحق الناس معه أسوة، وهو نص ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة. وقال أشهب: هو أحق وإن لم يحفر بئراً فرآه أحق بالسبق، ومعناه إذا انتجع إليه وقصده من بعد وأما إذا مر به فلا يكون أحق بمجرد سبقه أولاً. وأول بعضهم قول أشهب على أنه أحق؛ لأن ذريعته لذلك الجنان إحياء، فيكون أحق بما يحدث فيه من الكلأ مرة أخرى وفي المسألة قول ثالث أنه لا يكون أحق بمجرد النزول إلا أن يحفر بئراً وهو ظاهر قول المغيرة وأعدل الأقوال وأولاها بالصواب، لأنه لا يقدر على المقام على الماء إذا لم يكن له في ذلك الموضع مرعى

فتذهب نفقته في البئر باطلاً، وكذلك لو سبق بالنزول وبنى فيه بنياناً أوجب على قياس هذا أن يكون أحق بقدر حاجته لئلا يذهب نفقته باطلاً، وقد قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار". وأما إن كان في أرض مملوكة فهو على أربعة أقسام: أحدها أن تكون محظرة قد حظر عليها بالحيطان كالجنان والحوائط، والثاني أن تكون غير محظورة إلا أنه حماه من وجه التي قد بورها للمرعى وترك زراعتها من أجل ذلك، والثالث فدادينه وفحوص أرضه التي لم يبورها للمرعى وإنما ترك زراعتها لاستغنائه [635/أ] عن زراعتها وليحبسها للحرث، والرابع العفا والمرج من أرض قريبة فالمحظرة أن ما فيها لصاحبه له أن يبيعه ويمنعه احتاج إليه أو لم يحتج وليس لأحد الدخول عليه إلا بإذنه، وأما العفاء والمرج من أرض قريبة فلا خلاف أنه ليس له أن يبيعه ولم يمنع عما فضل عن حاجته منه إلا أن يكون عليه في تخلص الناس بدوابهم ضرر من زرع يكون له حواليه فيفسد عليه بالإقبال والإدبار، وأما الأرض التي بورها للمرعى ويترك الانتفاع بزرعها مدة لأجل ذلك، فقيل: له أن يمنع إن احتاج إليها ويبيع إن لم يحتج إليه ممن يرعاه أو يحصده وهو مذهب ابن القاسم، فإن لم يحتج إليه ولا وجد من يبيعه منه جبر على أن يخلي بين الناس وبينه ولا يباح له أن يمنع الناس ويترك حتى يبس ويفسد، وقيل: له أن يمنع الناس إن احتاج إليه وليس له أن يبيع وهو قول أشهب، وأما فحوص أرضه وفدادينه التي لم يبورها للمرعى فقال ابن القاسم وأشهب: له أن يمنع إن احتاج وليس له أن يمنع إن لم يحتج إليه، فأشهب رأى أنه ليس له أن يبيع مراعي أرضه كان قد بورها للكلأ أو لم يبورها لذلك، وابن القاسم يفرق بين إجازة البيع إذا استغنى عنه وبين الأرض التي بورها للمرعى وبين الأرض التي لم يبورها للمرعى فتحصل في مجموع الطريقتين ثلاثة أقوال، وفي كل طرف منها على انفرادها قولان.

وقد اختلف فيما وقع في حريم البئر من المدونة من قول مالك: إن كانت له أرض فلا بأس أن يبيع كلأها إذا احتاج إليه وإلا فليخل بين الناس وبينه، ومن قوله فيها: لا بأس أن يبيع الرجل خصب أرضه ممن يرعى عامة ذلك بعد أن ينبت ولا يبيعه عامين ولا ثلاث فقيل إن ذلك اختلاف من قوله، فمرة رأى للرجال أن يبيع خصب أرضه كان قد وقفها للمرعى أو لم يوقفها مثل قول ابن الماجشون، ومرة رأى أنه ليس له أن يبيعه كان قد وقف الأرض للمرعى أو لم يوقفها له مثل قول ابن القاسم، وهو تأويل عيسى ابن دينار له. انتهى. ***

الوقف

الْوَقْفُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ الأفصح فيه وقف. الجوهري: وفيه لغة رديئة أوقفت قال وحبست فرساً في سبيل الله أي وقفته فهو محبوس، وحُبس والحبس بالضم ما وقف. واختار المصنف لغة الوقف على لفظ الحبس لأنه أتمه كما سيأتي. الْمَوْقُوفُ: يَصِحُّ فِي الْعَقَارِ الْمَمْلُوكِ لا الْمُسْتَاجَرِ مِنَ الأَرَاضٍي وَالدِّيَارِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَوَائِطِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْمَصَانِعِ وَالآبَارِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَقَابِرِ وَالطُّرُقِ- شَائِعاً أَو غَيْرَهُ ... (الْمَوْقُوفُ) خبر ابتداء محذوف، أي الركن الأول: الموقوف ويصح وقف العقار المملوكة له رقبته لا منفعته وهو يعني (لا الْمُسْتَاجَرِ) واعترض على المصنف بأن ظاهره أن المنافع المملوكة دون الرقبة لا يصح وقفها، وفي الإجارة من المدونة: ولا بأس أن يكري أرضه على أن يتخذ مسجداً عشر سنين فإذا انقضت كان النقض للذي بناه. (وَالْمَصَانِعِ) هو البنيان المرتفع. وقوله (شَائِعاً أَو غَيْرَهُ) يعني يجوز وقف العقار سواء كان شائعاً كما لو وقف نصف دار أو غير شائع. ولا يريد المصنف أنه يجوز وقف المشاع من غير إذن الشريك فإن ذلك لا يجوز ابتداءً؛ أعني فيما لا يقبل القسمة. واختلف إن فعل هل تنفذ تحبيسه أم لا؟ وعلى الثاني اقتصر اللخمي آخر الشفعة، قال: لأن الشريك لا يقدر حينئذ على بيع جميعها وإن فسد فيها شيء لم يجد من يصلح معه، واختار ابن زرب الأول. اللخمي: وإن كانت الدار مما ينقسم جاز له الحبس إذ لا ضرر عليه في ذلك.

وسأل ابن حبيب ابن الماجشون عمَّن له شريك في دور ونخل مع قوم فتصدق بحصته من ذلك على ولده أو غيرهم صدقة محبسة، ومنها ما ينقسم ومنها ما لا ينقسم ومن الشركاء من يريد القسمة، قال: يقسم بينهم فما أصاب المتصدق منها فهو على التحبيس وما لا ينقسم يباع، وما أصاب المتصدق من الثمن في حصته اشترى به ما يكون صدقة محبسة في مثل ما سبلها فيه المتصدق. واختلف هل يقضي عليه بذلك أم لا؟ وَفِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ رِوَايَتَانِ، وَقِيلَ: لا خِلافَ فِي الْخَيْلِ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً .... أي: وفي جواز وقف الحيوان ومنعه بحذف مضافين. والصحيح وهو مذهب المدونة الجواز، لما في الصحيحين أنَّ خالداً رضي الله عنه حبس أدرعه وأعبده في سبيل الله- بالباء الموحدة من أسفل، وفي رواية اعتده بالمثنات من فوق. ولما في البخاري من قوله عليه السلام: "من حبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً وتصديقاً بوعده كان شبعه وريه في ميزانه يوم القيامة". وفي البيان ثالث بالكراهة في الحيوان والعروض، ورابع بالجواز في الخيل والكراهة فيما عداها، وخامس بالكراهة في الرقيق خاصة لأنه ضيق على العبيد في العتق وهي لمالك في الموازية، وهذا هو القول الأخير في كلام المصنف. قال في البيان: وهذا إنما هو في التحبيس المعقب أو على النفر بأعيانهم، وأما تحبيس ذلك لينتفع بعينه في السبيل أو ليجعل غلة ما له غلة من ذلك بكراء أو غيره موقوفة لإصلاح الطرق وبناء المساجد فلا خلاف في جوازه ما عدا العبيد وإلا فمكروه فيهم للتضييق. وَلا يَصِحُّ وَقْفُ الطَّعَامِ نحوه في الجواهر، وعلله بأن منفعته لا تكون إلا باستهلاك عينه، وإنما يكون الوقف مع بقاء الذوات لينتفع بها مع بقاء عينها [635/ب] وفيه نظر، ففي البيان: وأما الدنانير

والدراهم وما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه التحبيس فيه مكروه، وإن وقع كان فيه لآخر العقد مالك، إن كان معقباً وإن لم يكن معقباً وكان على معنيين رجع إليه بعد انقراض المحبس عليهم. وفي المدونة في كتاب الزكاة جواز وقف الدراهم والدنانير لتسلف وقد ذكره المصنف، فالطعام ينبغي أن يكون كذلك. وفي المتيطية وثيقة بتحبيس امرأة دراهم أو دنانير على ابنتها لتنفقها في نفسها أو نحو ذلك، وفيها أيضاً وثيقة ذلك على رجل يتجر بها. ابن راشد: وفي الحقيقة هو قرض، ولعل مراد المصنف وابن شاس أنه لا يصح وقفه بشرط بقاء عينه. الثَّانِي: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، فَلا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّناً وَأَهْلاً، فَإِنْ رُدَّ فَقِيلَ: يَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ مِلْكاً ... أي: الركن الثاني الموقوف عليه، ويشترط قبول الموقوف عليه إذا كان غير معين كالفقراء ونحوهم إذ لو اشترط لما صح الوقف ولما صح أيضاً على المساجد وغيرها إلا المعين فيشترط قبوله. (وَأَهْلاً) أنه لم يكن أهلاً للقبول كالصغير والسفيه يكون كغير المعين. ابن عبد السلام وغيره: فيه نظر، وينبغي أن يقام من يقبل له كما لو وهب له أو تصدق عليه. وقوله (فَإِذَا رُدَّ) أي: الأهل فقيل يكون لغيره وهو وقف، وهذا القول لمالك في الموازية لأن فيها: من أوصى بفرسه في سبيل الله وقال أعطوه فلاناً فلم يقبله فلان كان حبساً وأعطي لغيره، وإن لم يقل حبساً رد إلى ورثته والقول بأنه يرجع ملكاً منسوب لمطرف. وقيد اللخمي الخلاف بما إذا قصد بوقفه القربة وقال: أرى إن أعطاه ليركبه ليس ليغزو عليه أن يرجع ميراثاً، وإن كان ليغزو عليه فهو موضع الخلاف.

وَيَصِحُّ عَلَى الْجَنِينِ، وَعَلَى مَنْ سَيُولَدُ، وَعَلَى الذِّمِّيِّ، بِخِلافِ الْكَنِيسَةِ وَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَشِبْهِهِ، وَالْوَقْفُ فِي مَعْصِيَةٍ بَاطِلٌ ... ما ذكره من صحة الوقف على الجنين نص عليه محمد بن السليم وابن العطار وابن زرب والباجي في وثائقه. ابن العطار: وزعم بعضهم أن التحبيس على الحمل لا يجوز وذلك جائز بدليل جوازه على الأعقاب. ولعل المصنف ذكر قوله: (وَعَلَى مَنْ سَيُولَدُ) كاستدلال ابن العطار والصدقة كذلك. الباجي: وقيل إن الصدقة لا تكون على الحمل. وقوله: (وَعَلَى الذِّمِّيِّ) لأن في الصدقة عليه أجر. ونقل ابن وهب عن مالك جواز وصية المسلم للذمي وهو كالوقف. أصبغ: لا تجوز الوصية للحربي لأن في ذلك قوة لهم على حربهم، ولا فرق في ذلك بين الوصية والحبس. وقوله: (بِخِلافِ الْكَنِيسَةِ) الباجي: ولو حبس على كنيسة فالأظهر عنده أنه يرد لأنه وجه معصية كما لو صرفها في شراء الخمر وإعطائها لأهل الفسق، فظاهر هذا أنه غير منصوص وهو خلاف كلام المصنف. ابن عبد السلام: وكلام الباجي صحيح وكذلك عكس هذه المسألة، وقد قال مالك في نصرانية بعثت دنانير إلى الكعبة فقال: يرد إليها. قوله: (وَالْوَقْفُ فِي مَعْصِيَةٍ بَاطِلٌ) ظاهر، ولو سكت عنه لأخذ مما تقدم. وَلا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْقُرْبَةِ لما ذكر أن الوقف في معصية باطل خشي أن يتوهم منه اشتراط ظهور القربة فبين أن ذلك غير مشترط فيه بل يصح، يعني إذ هو من باب العطية والهبة.

وَلا يَصِحُّ عَلَى وَارِثٍ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لأنه راجع إلى الوصية ولا يجوز، قال عليه السلام: "وإن اللهَ أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيةَ لوارثٍ". وَإِنْ شَرَكَ فمَا خَصَّ الوَارِثَ فَمِيرَاثٌ، وَرَجَعَ بَعْدَ مَوْتِ الْوَارِثِ إِلَى مَرْجِعِهِ يعني: وإن شرك المريضُ الوارثَ في الوقف مع غيره فذلك لا يوجب صحة الوقف مطلقاً وإنما يصح منه لأجنبي، وما خص لوارث على وجه الملكية إن لم يكن معقباً، وإن كان معقباً رجع النصيب الموقوف بين جميع الورثة. ولا يبطل الوقف بسبب ما فيه من التعقب ويبقى بيد جميع الورثة على حكم الإرث ما دام المحبس عليه موجوداً، فإذا انقرض المحبس عليه رجع إلى مرجعه. ابن عبد السلام: وإنما يتم ما ذكره المصنف إذا كان الوارث الذي شارك مع الأجنبي بعض الورثة لا كلَّ الورثة، ولكن اتكل المصنف في بيان ذلك على المثال الذي ذكره. فَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ عَلَى ثَلاثَةِ أَوْلادٍ وَأَرْبَعَةِ أَوْلادِ وَلَدٍ وَمَاتَ وَتَرَكَهُمْ وَأُمّاً وَزوْجَةً وَالثُّلُثُ الْموْقُوفُ يَحْمِلُ فَلِوَلَدِ الْوَلَدِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعٍ وَقْفاً، وَالْبَاقِي لْلْوَلَدِ مَوْقُوفٌ بِأَيْدِيهِمْ يُقَسَّمُ عَلَى الْوَرَثَةِ كَغَيْرِهِ .... هذه المسألة تعرف بمسألة ولد الأعيان، وقد أفرد الشيخ أبو محمد لها تأليفاً. وقال سحنون: إنها من حسان المسائل وقلَّ من يعرفها، وهي في أكثر الكتب خطأ لدقة معانيها وغامض تفريعها، وليس غرضنا بها حكاية كلامهم بل جل كلام المصنف. وقوله: (وَلَوْ وَقَفَ) يعني داراً أو غيرها، واحترز بمرضه مما لو وقف في صحته فإن ذلك ينفذ، والمراد المرض المخوف فيه على المريض.

قوله: (عَلَى ثَلاثَةِ أَوْلادٍ) أي: صلب وهم أولاد الأعيان (وَأَرْبَعَةِ أَوْلادِ أَوْلادٍ) يريد: أو عقبهم فلذلك لم يبطل ما ناب أولاد الصلب لتعلق حق غيرهم به، فإنه لو مات أولاد الصلب رجع جميعه ونفى لأولاد الأولاد وأعقابهم ولأنه لو مات جميع من حبس عليهم رجع حبساً على أقرب الناس بالمحبس، وكان ينبغي للمصنف أن ينبه على أن الوقف معقب لكونه شرطاً في المسألة. وقوله: (وَمَاتَ وَتَرَكَهُمْ) أي: السبعة وترك أماً وزوجة والثلث يحمل ما وقفه؛ لأنه وصية التونسي وإن لم يحمل الثلث فما خرج في الثلث عمل فيه ما يعمل لما حمله الثلث. وقوله (فَلِوَلَدِ الْوَلَدِ ... إلخ) يعني: فيقسم جميع الوقف [636/أ] على سبعة: أربعة لولد الولد حبساً. سحنون ومحمد: إن كانت حالتهم واحدة وإلا فعلى قدر الحاجة. ابن القاسم: والذكر والأنثى فيه سواء. قال في البيان: وهذا هو المشهور، وظاهر ما في العتبية لابن القاسم أنه لا يفضل هنا محتاج على غيره وهو مذهب ابن الماجشون، لأن الحبس في المرض كان بمعنى الوصية لا يفضل فقيرهم على غنيهم، وإذا اقتسمناه على سبعة: أعطي ولد الأعيان ثلاثة أسهم فتأخذ الأم سدسها والزوجة ثمنها ثم يقسم الباقي بينهم أثلاثاً، ودخلت الزوجة والأم لأنهم إنما أخذوه على سبيل الإرث، ولا يختص وارث عن آخر، ولهذا لو كان في ولد الأعيان أنثى لقسم للذكر مثل حظ الأنثيين. فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الأَوْلادِ رَجَعَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي يَقْسِمُهُ الْوَرَثَةُ وَيَدْخُلُ جَمِيعُ وَرَثَةِ الْوَلَدِ الْمَيْتِ بِنَصِيبِ وَلَدٍ لأَنَّهُ كَمِيراثٍ ... يعني: (فَلَوْ مَاتَ) والمسألة بحالها أولاً: أحد ولد الأعيان (رَجَعَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ الثُّلُثَانِ) وظاهره أن القسمة تنتقض وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى بن يحيى وقول سحنون

ومحمد ابن يونس، وهذا كما ينتقض بحدوث ولد الأعيان أو لأحد ولد الولد، قال: ولا أعلم في نقض القسمة هنا خلافاً ولا ينتقض بموت الزوجة أو الأم اتفاقاً، وإذا انتقضت القسمة قسم جميع الحبس على ستة: اثنين للباقين من ولد الأعيان وأربعة لولد الولد، وهذا معنى قوله (رَجَعَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ الثُّلُثَانِ). قوله: (وَالْبَاقِي) أي: السهمان يقسم على ورثة المحبس فلأم المحبس سدسها وللزوجة ثمنها ثم يقسم الباقي على ثلاثة فيأخذ الولدان الباقيان اثنين ويحيا الميت بالذكر فما نابه يكون لورثته من كانوا، يدخل فيه زوجة المحبس إن كانت أمه، وما كان من ولد الولد ولده وغيره ممن هو وارث له ويصير بيد ولد هذا الميت نصيب، بمعنى الحبس من جده ونصيب بمعنى الميراث من أبيه، وعلى هذا فلو مات آخر من ولد الأعيان انتقض أيضاً القسم ويقسم كله على خمسة كما تقدم، وإن مات الثالث رجع الحبس كله لولد الولد. وروي عن ابن القاسم في العتبية قول آخر أن القسم لا ينتقض وقاله سحنون أيضاً، فإذا مات أحد أولاد الأعيان وقسم ما كان أخذه من القسمة الأولى وهو سُبُعُ الحبس بانضمام ما أخذتا منه أم الميت الأولى وزوجته، وبه يكمل السبع فيقال لهذه الأم والزوجة قد كنتما تحتجان عليه أن يستأثر بذلك وأنتما وارثان معه، وقد نزلت هذه الحجة فيقسم هذا السبع على ولد الولد وعلى الباقين من ولد الأعيان بالسواء، فما ناب ولد الولد أخذه ومن ناب الباقين من ولد الأعيان أخذت والدة المحبس وزوجته منه السدس والثمن ويقسم الباقي على الباقين، وعلى الميت أن يحيا بالذكر ويكون ما نابه لورثته. سحنون: وإنما هذا في الثمار وأشباهها من الغلات، وأما فيما يسكن من دار أو زرع من أرض فلابد من نقض القسْم في جميع الحبس. ورأى ابن يونس أن هذا إنما يصح على القول بعدم نقض القسْم. فإن قيل: فهل ينظر لهذا الخلاف في المعنى أثر؟ قيل: نعم، وقد بين ذلك ابن يونس فانظره.

فَلَوْ مَاتَ أَوَّلاً أَحَدُ وَلدِ الْوَلَدِ رَجَعَ لَهُمُ النِّصْفُ وَالْبَاقِي عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ فَلَوْ انْقَرَضُوا رَجَعَ الْجَمِيعُ كَمِيرَاثٍ لِلْوَرَثَةِ ... أي: فلو مات أولاً أحد وَلَدِ الْوَلَدِ ولم يمت من أولاد الأعين شيء رجع لولد الولد النصف، ظاهره أن القسْم يُنتقض وهو أحد قولي ابن القاسم خلافاً لقوله الآخر، ولا يخفى عليك مما تقدم ما يأتي على كل قول. وقوله: (فَلَوْ انْقَرَضُوا) أي: أولاد الولد (رَجَعَ الْجَمِيعُ كَمِيرَاثٍ) إنما قال: (كَمِيرَاثٍ) لأنه ليس بميراث حقيقة بل إنما ينتفعون به انتفاع الملك، ولو انقرض أيضاً ولد الأعيان رجعت الدار مثلاً حبساً على أقرب الناس بالمحبس، قاله في المدونة. قوله: (رَجَعَ الْجَمِيعُ كَمِيرَاثٍ لِلْوَرَثَةِ) أي: فتدخل الأم، هكذا روى يحيى عن ابن القاسم وابن عبدوس عن سحنون، وقاله عيسى في العتبية خلاف ما له عند ابن عبدوس، ولا تدخل فيه الأم والزوجة، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: وَقَالَ سُحْنُونٌ: لا تَدْخُلُ الأُمُّ وَالزَّوْجَةُ لأَنَّ رُجُوعَهُ لِلْوَقْفِيَّةِ لأَنَّهُمْ أَوْلَى قوله: (لأَنَّ رُجُوعَهُ لِلْوَقْفِيَّةِ) أي: رجوعه مرجع الأوقاف لا مرجع الميراث لأنه يكون لأقرب الناس بالمحبس، ويتضح لك قول سحنون هنا بالوقوف على كلامه في العتبية فإنه قال: وإنما تقاسم الأم والزوجة ولد الأعيان إذا هلك الأول وبقي اثنان أو هلك اثنان وبقي واحد، وأما ما يرجع إليهم من حق ولد الولد فلا تدخل فيه الأم والزوجة لأن ذلك مما يرجع إليهم من وصية قد أنفدت لوجهها ولم تكن فيها محاباة لوارث. سحنون: ألا ترى لو أن رجلاً أوصى لولد ولده بئراً وحبس عليهم وله ولد بصلبه وأم وزوجة لكانت وصيته نافذة لهم لأنهم غير ورثة ولم يكن للزوجة فيها مقال ولا لأم فكذلك هنا، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (لأَنَّ رُجُوعَهُ لِلْوَقْفِيَّةِ) ولم يرجع على معنى الوصية.

وقوله: (لأَنَّهُمْ) أي لأن أولاد الأعيان أولى من غيرهم بمرجع الحبس. وفي بعض النسخ (لأَنَّهُمْ أَوْلادٌ) أي: فيكونون أحق بالمرجع؛ لأنهم أقرب الناس بالمحبس. قال في البيان: وقول ابن القاسم أن الزوجة والأم يدخلان فيما يرجع إليهم من حق ولد الولد هو [636/ب] الصحيح لأنه وصية لوارث إذا لم يرجع إليهم مرجع الأحباس وإنما رجع إليهم بحكم تحبيس المحبس عليهم، وإلى هذا أشار التونسي كما نقله عنه المصنف بقوله: قَالَ التُّونُسِيُّ: قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ صَوَابٌ؛ لأنَّ الرُّجُوعَ لا يَكُونُ مَعَ وُجُودِ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ ... يعني: أن ما ذكره سحنون من رجوع الوقف للأولاد يعني مراجع الأحباس ليس بجيد وأنه رجع إليهم فإنهم المحبس عليهم، وإذا كانوا محبساً عليهم امتنع الرجوع بمعنى الوقفية إذ الرجوع مشروط بانقراض من حبس عليه، وكذلك قال اللخمي أنَّ قول ابن القاسم أصوب، وهذا القدر كاف في تصور كلام المصنف، ومن أحب الزيادة فليقف على كلام الشيخ أبي محمد فيها وكلامه في البيان وكلام ابن يونس كاف فيها والله أعلم. وَلا تَخْرُجُ لِلأُمِّ وَالزَّوْجَةِ حَتَّى يَنْقَرِضَ الأَوْلادُ فَيَرْجِعَ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمُحَبَّسِ ظاهر التصور. وَلا يَصِحُّ وَقْفُ الإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ: إِنْ أَفْرَدَ لأن فيه تحجيراً على نفسه وعلى وارثه بعد الموت ولأنه لابدَّ من تغاير المعطي والمعطى، والثاني نقله الباجي وابن شاس. ابن عبد السلام: وغيرهم عن ابن شعبان.

وَكَرِهَ مَالِكٌ إِخْرَاجَ الْبَنَاتِ، وَقَالَ: عَمَلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الشَّانُ يُبْطَلُ، وَقَالَ أَيْضاً: إِنْ حَيزَ مَضَى، وَإِنْ لَمْ يُحَزْ عَنْهُ فَلْيَرُدَّهُ مُسَجَّلاً، وَقَالَ أَيْضاً: إِن فَاتَ مَضَى وَإلا فَلْيَجْعَلْهُ مُسَجَّلاً، وَقِيلَ: يَجُوُز عَلَى الْبَنِينَ خَاصَّةً، وَعَلَى الْبَنَاتِ خَاصَّةً، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ مَبْنِيُّ عَلَى الْهِبَةِ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ .... وقع في المجموعة أن عائشة رضي الله عنها نهت عن إخراج البنات من الحبس وقالت: ما مثل ذاك إلا كما قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ} إلى قوله: {شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139]. وقوله: (وَكَرِهَ مَالِكٌ .. إلخ) هو رواه علي وغيره عن مالك، فإن وقع فروى ابن القاسم عن مالك: الشأن يبطل؛ وقاله ابن شعبان، وزاد في العتبية أنه يبطل إذا شرط أن من تزوج منهن بطُلَ حقُها. وقوله: (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) يوهم أنه قاله وإنما رواه، وانظر هل هذا القول مخالف للأول لأن الكراهة تقتضي الإمضاء بعد الوقوع، وهكذا فهم اللخمي عنه. ابن عبد السلام: والمراد بالكراهة التحريم، ويدل عليه تعليله ذلك بأنه من عمل الجاهلية وليكون موافقاً للقول الثاني. وقوله: (الشَّانُ) أي عمل الصحابة. وقوله: (وَقَالَ أَيْضاً) ابن القاسم (إِنْ حَيزَ) عنه (مَضَى) على ما حبسه (وَإِنْ لَمْ يُحَزْ عَنْهُ فَلْيَرُدَّهُ مُسَجَّلاً) أي: مطلقاً وعاماً للبنين والبنات، يقال أسجلت الشيء إذا أمكنت من الانتفاع به من غير قيد. وقوله: (وَقَالَ أَيْضاً) تصوره ظاهر، وظاهره أن الفوات بغير حرز، وفي البيان: ظاهر قول مالك أن الحبس لا يجوز ويبطل على كل حال خلاف مذهب ابن القاسم أنه يمضي إذا فات ولا ينقض، وفوت الحبس عنده أن يحاز عن المحبس، انتهى.

وقال اللخمي: وقال ابن القاسم: إن كان المحبس حياً فيفسخه ويدخل فيه البنات، وإن حيز أو مات كان على ما حبسه عليه، وقال: إن كان المحبس حياً فليفسخه ويجعله مسجلاً وإن مات لم يفسخه، انتهى. محمد: وإنما يفعل ما قال مالك من حبس الحبس وجعله مسجلاً إذا لم يأت من حُبِّس عليهم، وإن أبرأ لم يجز فسخه وبقي على ما حبس وإن كان حياً إلا أن يرضوا برده وهم كبار. وقوله: (يَجُوُز ... إلخ) هو قول ابن نافع وهو في مختصر الوقار فظاهره من غير كراهة. وقوله: (وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ مَبْنِيُّ عَلَى الْهِبَةِ) يحتمل هذا أن يعود على الخلاف وأن يعود على القول الرابع فقط، لكن الباجي آلا رابعاً فيتعين الأول، على أن صاحب البيان ذكر ما يخالف إجراء الباجي فقال: إخراج البنات من الحبس عند مالك أشد في الكراهة من هبة الرجل لبعض ولده دون بعض إذ لم يختلف في قوله في الهبة. انتهى. وخرج اللخمي الأقوال فيما إذا تصدق على بعض دون بعض. وشَرْطُ الْوَقْفِ حَوْزُهُ عَنْهُ قَبْلَ فَلَسِهِ وَمَوْتِهِ وَمَرَضِ مَوْتِهِ وَإِلا بَطَلَ وقع هذا إلى قوله: (الصِّيغَةُ) في بعض النسخ وهي نسخة ابن راشد وابن عبد السلام. ووقع في بعضها بعد قوله: (الثَّالِثُ الصِّيغَةُ) عقب قوله: (ثُمَّ عَلَى الْفَقِيرِ) ثم بعده، (وَالْوَقْفُ لازِمٌ) وهذه النسخة هي الصواب، لأن المصنف ذكر أول الباب أن أركانه أربعة وهذا هو الرابع، وقد صرح ابن شاس بذلك؛ فإن قلت الشرط خلاف الركن، قيل: أطلقه عليه مجازاً لأنهما قد اشتركا في أن الماهية لا توجد دونهما. فإن قلت: وكذلك على النسخة الأولى تكون الصيغة هي الركن الرابع. قيل: وقد صرح المصنف بأنها الركن الثالث واشترط فيها الحوز؛ لأنه أحد أنواع العطايا فاشترط فيه ذلك كسائرها، وذكر أن من شرط الحوز أن يكون قبل فلسه وموته

ومرض موته وإلا؛ أي: وإن لم يقع قبل ذلك بطل الوقف، فقوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) غير قوله: (مَرَضِ مَوْتِهِ) لأنه لا يلزم أن تقول كل موت مرض. فرع: ومن هو الحائز؟ فنقول: التحبيس إذا كان على المساجد ونحوها فلا يفتقر إلى حائز إذا دخل بين الناس وبينه صح وإن كان على معين لم يكن بدٌّ من حيازته، ثم إن كان رشيداً وحاز لنفسه فلا إشكال وإن كان محجوراً عليه فقال ابن الهندي تصح حيازته لأن القصد خروج ذلك من يد المحبس. ووقعت في أيام القاضي منذر بن سعيد فشاور فقهاء بلده فأجمعوا على أن ذلك حيازة حاشا إبراهيم بن إسحاق والقاضي في وثائقه كقول ابن [637/أ] إسحاق: وهذا الخلاف إنما هو إذا كان له ولي. ابن راشد: وينبغي أن يتفق على أنه حيازة إذا لم يكن له ولي، وإن حاز غير المحبس عليه بوكالة فذلك نافذ ولأن قبض الوكيل كقبض الموكل سواء غائباً أو حاضراً وبغير وكالة لا يخلو أن يكون غائباً أو حاضراً، فإن كان غائباً وجعل المحبس أو الواهب أو المتصدق ذلك بيد من يحوز حتى يقدم فذلك جائز، وإن كان حاضراً افترق الحال بين الحبس والهبة والصدقة ففي الحبس يجوز أن يقدم المحبس من يحوز له بجري الغلة عليه، ولا يجوز ذلك في الهبة والصدقة. فَإِنْ كَانَ يَصْرِفُ مَنْفَعَتَهُ فِي مَصْرِفِهَا؛ فَثَالِثُهَا فِيهَا: إِنْ كَانَ غَلَّةً يَصْرِفُهَا فَلَيْسَ بِحَوْزٍ، وَإِنْ كَانَ كَفَرَسٍ أَوْ سِلاحٍ فَحَوْزٌ .... وإن كان الموقوف لم يحز عنه ولكن يصرفه في مصرفه فثلاثة أقوال وكلها روايات فيها أي في المدونة، والفرق فإن كان الموقوف ذا غلة فليس بحوز كالديار والحوائط ونحوها وإن لم يكن ذا غلة كالسلاح والكتب يدفعها لمن يقاتل بها أو ينظر فيها ثم يعيدها إلى المحبس، وهو اختيار صحيح. وجرى اللخمي هذا القسم من الخلاف، قال: ويختلف

إذا لم يأت وقت إنفاذه للجهاد ولم يطلب القراءة حتى مات المحبس هل يبطل الحبس؟ وقيد اللخمي وغيره القسم الثاني بما إذا لم يتصرف فيه إذا عاد تصرف المالك، قال: وقراءة الكتاب إذا عاد إليه خفيف وإن أنفد بعض الحبس ما أنفد وإن قيل وهو كحوز الكبير اليسير من صدقة الأب. وحكى في القسم الأول قولين عن مالك وقيده بما إذا كان حبساً على غير معين وعلم أنه كان يصرف الغلة في مصرفها، وأما إن شك هل أنفد غلته في مصرفها فإنه يبطل الحبس، وتقييد اللخمي بغير المعين يدل على أنه لو كان معيناً لاتفق على إبطال الحبس. فإن قلت: ما الفرق على مذهب المدونة لقسمين؟ قيل: لأن خروجها من يده اختياراً لها من عودها إلى يده، إنما كان بعد صحة الحوز بخلاف ما إذا كان بيده وهو يصرف الغلة في مصرفها. أَمَّا لَوْ كَانَ وَالِياً عَلَى مَنْ وَقْفُهُ عَلَيْهِ فَحَوْزٌ إِذّا أَشْهَدَ وَصَرَفَ الْغَلَّةَ فِي مَصْرِفِهَا هو كالخرج من عموم قوله: (وَشَرْطُ الْوَقْفِ حَوْزُهُ عَنْهُ) أخرج من ذلك ما إذا كان الواقف والياً على الموقوف عليه كالأب على صغار ولده والكبار والسفهاء وكالوصي. ابن عبد السلام: والنص أن الحاضن لا يجوز، انتهى. وفي البيان في الفلس الثالث: اختلف هل يتنزل منزلة الوصي مطلقاً أولاً على أربعة أقوال: الأول: أنه يتنزل منزلته مطلقاً وهو دليل المدونة في القسم ورواية ابن غانم، فإنه روى عن مالك: إن كان ولي يقيم قريباً أو بعيداً فهل يجوز ما وهب له، وعليه ما ذكره ابن الهندي في وثائقه من جواز بيع المحضون على حاضنه ما له قدر وبال. والثاني: أنه لا يكون كالوصي على حال. الثالث: أنه كالوصي إذا كان أماً أو جدة أو جداً دون سائر القرابة.

الرابع: أنه كالوصي إذا كان خلاف جده أو أخاه. وقوله: (إِذّا أَشْهَدَ وَصَرَفَ الْغَلَّةَ) يعني لتمام الحبس شرطان: أولهما أن يشهد على التحبيس وقاله ابن القاسم في العتبية. وثانيهما: أن يصرف الغلة في منافع ولده. ابن زرقون: ذكر الموثقون أن الأب إذا تصدق على ابنه الصغير بما له غلة وقامت البينة أن الأب يستغل ويدخل الغلة في مصالح نفسه إلى أن مات الأب فالصدقة باطلة بمنزلة السكنى إذا لم يخل الدار حتى مات، ومثله في المدونة لابن كنانة، وظاهر المدونة خلافه أن الصدقة جائزة لأن الكراء إذا كان محمولاً على أنه لابنه فإنه أنفق مال ابنه، انتهى. وقال غيره: المشهور المعمول به البطلان، وبه كان الشيوخ يفتون ويقضون. وَيُشْتَرَطُ فِي مُعَايَنَةِ الْحَوْزِ شَهَادَةٌ بِمُعَايَنَةِ البَيِّنَةِ يعني: أنه لابد من معاينة البينةِ قَبْضَ الحوز عليهم، هكذا قال ابن راشد وابن عبد السلام. ولا يكفي إقرار المحبِّس؛ لأن المنازع للمحبَّس عليه إما الوارث وإما الغريم فلو اكتفى في ذلك بالإقرار لزم قبول الإقرار على غيره. الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَلَوْ أَذِنَ فِي الصَّلاةِ مُطْلَقاً وَلَمْ يَخُصَّ شَخْصاً وَلا زَمَاناً فَهُوَ كَالصَّرِيحِ ... الركن الثالث: الصيغة، والواو في قوله بمعنى أو، وصرح بأو في بعض النسخ ثم بين ما يقوم مقامها بقوله (فَلَوْ أَذِنَ فِي الصَّلاةِ مُطْلَقاً) أي إذناً مطلقاً ويحتمل في الصلاة مطلقاً، أي ولم يخص فرضاً ولا نفلاً والأول هو الذي يؤخذ من الجواهر، وظاهر قوله: (فَلَوْ أَذِنَ) أنه لا يلزم تحبيس المسجد بمجرد بنيانه.

الباجي: وهو ظاهر المدونة وقول مطرف فيه نظر، وكان يجب أنه يلزم بمجرد البنيان إلا أنه لا تتم حيازته إلا بالإباحة للناس. ابن شعبان: إذا خلَّى بينه وبين الناس مضى ولا يحتاج أن يجعل بيد قيم سواء كان باب المسجد داخل باب داره أو خارج الباب، ويحتمل أن يقال لا يلزم بمجرد البنيان لمن جوز أن يبني مثل هذا البنيان مسجداً لنفسه في داره. وَلَفْظُ وَقَفْتُ يُفِيدُ التَّابِيدَ الذي حكاه عبد الوهاب وغيره من العراقيين أن لفظ الوقف يفيد التأبيد بالاتفاق. وقال صاحب المقدمات وابن زرقون: لفظ الوقف والحبس سواء، ويدخل [637/ب] في لفظ وقفت من الخلاف ما يدخل في حبست. وَحَبَسْتُ وَتَصَدَّقْتُ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ مِنْ قَيْدٍ أَوْ جِهَةٍ لا تَنْقَطِعُ تَأَبَّدَ وَإِلا فَرِوَايَتَانِ (وَحَبَسْتُ) هو على حذف مضاف؛ أي: ولفظ حبست. (وَتَصَدَّقْتُ) بذلك على ذلك. وقوله: (إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ) على التأبيد (مِنْ قَيْدٍ) أي: في الكلام كقوله: حبس أو صدقة لا يباع ولا يوهب. واختلف إذا جمع بين اللفظين فقال: حبس صدقة أو بالعكس، ففي المدونة: لم يختلف قول مالك أنه لا يباع ويرجع إلى أقرب الناس يوم المرجع حبساً. ابن رشد وغيره: وليس صحيحاً، فإن لمالك في المختصر أنه يرجع إذا كان على معين ملكاً كالعمرى أو هو قول ابن وهب في العتبية أنه يرجع إليه ملكاً مطلقاً إذا حبس على معين، وإن قال لا يباع ولا يوهب حياة المحبس عليهم. وقوله: (لا تَنْقَطِعُ) أي كما لو حبس على الفقراء وطلبة العلم وإصلاح المساجد، ولا فرق في الجهة بين أن تكون محصورة أم لا، غير أنه إذا تعذر الصرف في الجهة

المحصورة صرف في مثلها، قاله عياض فقال: وإن جعله على وجه معين محصور كقوله في وقود مسجد كذا وإصلاح قنطرة كذا فحكمه كالحبس المبهم أي في التأبيد، وإن تعذر ذلك أي بخلاء البلد أو فساد موضع القنطرة حتى يعلم أنها لا تبقى وقف إن طمع بعوده إلى حاله أو صرفه في مثله. عياض: فإن قال: حبس على فلان ولا يباع ولا يوهب ولا يورث فهي حبس على مذهبه في الكتاب، وله في العتبية: يرجع ملكاً كالعمرى. وقال مطرف: لوق ال: بع هذا على فلان بعينه؛ فهو حبس، واختلف فيها في الصدقة أيضاً، فروى أشهب عن مالك أنه بتل ولا يضر الشرط. وقال أشهب وسحنون: إنه حبس محرم. وقال مالك وابن القاسم أيضاً: هي صدقة باطلة إما بتلها أو رجعت إليه، إلا لصغير أو سفيه فيشترط له ذلك إلى رشده، وهو مذهبه أيضاً في الهبة على هذا الشرط وهو كالصدقة في هذا الاختلاف. وأما لو قال في جميع هذا لا يباع ولا يورث ولا يوهب ولا يملك لكان حبساً محرماً بغير خلاف لارتفاع الاحتمال، نص عليه البغداديون، انتهى. وفي كلام المصنف نظر من جهة تسويته بين لفظ الحبس والصدقة، فإن الحكم في الصدقة على ما قال عياض وغيره أنه قال: إذا قال: صدقة للمساكين ولفلان؛ أنه تكون لهم أو له ملكاً ويباع ويصرف الناظر ثمنها على المساكين على حسب اجتهاده يوم الحكم، ولا يلزم التعميم إذ هو غير مقدور عليه ولا هو مراد المحبس. واختلف قول مالك إذا قال صدقة على مجهولين محصورين كقوله: على فلان وعقبه؛ فعنه في المدونة أنه حبس مؤبد يرجع بعد انقراضهم مرجع الأحباس سواء قال: ما عاشوا أم لا.

وفي رواية أشهب أيضاً: يرجع لأىخر المحبس عليهم ملكاً، وقيل بل حكمها حكم العمري. وحكى ابن الجلاب إذا جعلها صدقة في وجه كذا أنها اختلف فيها قول مالك؛ فمرة جعلها كالعمري ومرة جعلها تنفد حبساً، قال: إلا أن يريد أنه تصدق بغير ملكه لا بمنفعته فتكون ملكاً لمن تصدق بها عليه. عياض: وهو عندي يرجع إلى معنى اختلافه في هذا الوجه المجهول المحصور. قوله: (وَإِلا فَرِوَايَتَانِ) أي: وإن لم يقترن به ما يدل على التأبيد، وهذا يصدق على صورتين: إحداهما: أن يكون مجرداً عما يدل على عدم التأبيد. والثانية: أن يكون مقترناً بما يدل على عدم التأبيد. الأول: وقد قدمنا أنه مجهول في الصدقة على التمليك، وأما في الحبس فنص ابن رشد وعياض على أنه إذا أطلق وقال داري حبساً أنه لا خلاف أنه وقف مؤبد لا يرجع ملكاً، وعلى هذا فالمصنف لم يرد هذه الصورة. ابن يونس وسند: وكذلك إذا حبسته على محصورين غير معينين كقولك: حبس على ولد فلان، أو عقبه، أو بنيه، أو نسله- فإن هذا ليس فيه اختلاف أنه مؤبد لا يرجع إلى المحبس ويكون بعد انقراض المحبس عليهم حبساً على أقرب الناس بالمحبس إلا أن يقول حياتهم، فذهب ابن الماجشون إلى أنها ترجع ملكاً بعد انقراضهم. انتهى. وحكى عياض في هذه المسألة خلافاً فقال: وأما إن جعله في وجه محصور غير معين يتوقع انقراضه كقوله على بني زيد وعلى عمر وولده أو عقبهما أو فرسي حبس على من يغزو في هذه الطائفة أو لطلبة العلم بمدينة كذا، فحكم هذا حكم الحبس المطلق المؤبد يمضي أبداً ويرجع بعد انقراض الوجه الذي وجه له لمرجع الأحباس على ما تقدم، وهذا مذهبه في المدونة وغيرها.

واختلف فيه قدماء أصحابه، ونقل اللخمي عن ابن الجلاب أنها تعود ملكاً وأراه تأوله عليه وسيأتي نقل ابن الجلاب، وقيل هي على من وجه كما لو عين وهو الذي له في المجموعة، وعلى هذا فليس هذا محلاً للروايتين وإنما محلهما إذا حبس على قوم بأعيانهم. ونقل ابن الجلاب وغيره فيما إذا حبس في وجه كذا روايتين: إحداهما: أنه يبقى حبساً فإذا انقرض الوجه الذي جعله فيه رجع له ملكاً في حياته ولورثته بعد وفاته. والثانية: حبساً على أقرب الناس بالمحبس فإذا انقرضوا رجع على الفقراء والمساكين، وهو ظاهر المذهب وهي التي اقتصر عليها في الرسالة لئلا يلزم العود في الصدقة وفيه نظر، وإنما يلزم العود في الصدقة لو كان أولاً بمعنى الصدقة وهو أعم، ولا فرق فيما إذا حبس على معين بين أن يقول حياته [638/أ] أم لا على ظاهر المدونة وتأويل سحنون. وقال محمد: إن قال في حياته وشبهه فلا يختلف أنه كالعمري، ونحوه لمطرف، قال مالك: وكذلك لو قال على فلان بعينه. واستبعد ابن رشد قول محمد. المتيطي: أما لو قال وقفاً على هذه العشرة حياتهم فلا خلاف أنه يرجع ملكاً. فإن قلت قول المصنف (وَإِلا فَرِوَايَتَانِ) يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الحبس والصدقة، قيل: يحمل على الصورة المتقدمة وهي ما إذا قال: صدقة على مجهولين محصورين. ثم فرَّع على الروايتين فقال: وَإِذَا لَمْ يَتَأَبَّدْ رَجَعَ بَعْدَ انْقِرَاضِ جِهَتِهِ مِلْكاً لِمَالِكِهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ وَإِذَا تَأَبَّدَ رَجَعَ إِلَى وَرَثَةِ الْمُحَبِّسِ مِنَ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ عَلَى عَصَبَتِهِمْ، وَيَدْخُلُ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ عَصَبَةً، وَقِيلَ: لا تَدْخُلُ النِّسَاءُ، وَلا تَدْخُلُ الزَّوْجَةُ وَلا الْجَدَّةُ لِلأُمِّ ... أي: حيث حكمنا بعدم التأبيد فإنه يرجع ملكاً لمالكه إذا كان حياً ولورثته بعد موته، وإن حكمنا بالتأبيد وتعذر صرفه في ما حبس عليه رجع حبساً على أقرب الناس بالمحبس

يوم المرجع، لأنه لما امتنع على هذه الرواية الرجوع إلى المحبس صرف إلى أقرب الناس به لما يجتمع في ذلك من الصلة وسد خلّة الفقراء، قاله ابن كنانة وشرط في الذي يرجع إليه الحبس الفقر بقوله: (مِنَ الْفُقَرَاءِ) لأن (مِنْ) للبيان. ابن عبد السلام: وهو المشهور، وقيل إذا لم يكن أهل المرجع فقراء ولم يكن فيهم من أهل الحاجة أحدٌ أعطي الأغنياء منهم، وقيل يدخل الأغنياء في السكنى دون الغلة. واختلف أيضاً إذا كان في مراجع الأحباس فقراء فأخذوا ما يكفيهم وبقيت بقية، هل يرجع إلى من هو أبعد منهم أو ترد عليهم؟ وقوله: (ثُمَّ عَصَبَتِهِمْ) أي: من الفقراء. ولو قال المصنف ثم عصبة الأقرب فالأقرب لأن عصبة عصبته عصبة له لكان أقرب إلى الفهم. وأجاب بعض من تكلم على هذا المحل بأنه قصد الاقتداء بعبارة الأقدمين وفيه نظر، لأني لم أر هذه العبارة للأقدمين بل الذي لمالك في العتبية أنه يرجع على عصبة المحبس. وقال ابن القاسم: يرجع إلى أولى الناس من ولد أو عصبة، وقاله مالك في الموازية. وقوله: (وَيَدْخُلُ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَوْ كَانَ رَجُلاً كَانَ عَصَبَةً) أي: ويدخل من النساء في مراجع الأحباس، وهكذا قال مالك في الموازية ونحوه لأصبغ، وقيل يدخل النساء هذا القول لابن القاسم في العتبية لأنه قال: يرجع إلى المحبس قال إنها ابنة واحدة قال ليس النساء عصبة إنما يرجع إلى الرجال، ولم يذكر المصنف على القولين بدخولهن إلا قولاً واحداً وهو: أنّ من كان من النساء ذكراً كان عصبة وهو مقتضى ما في سماع ابن القاسم، وعليه فتدخل العمات وبنات العمات وبنات العم وبنات الأخ وبنات الأخوات للأب والأم أو للأب دون الأخوات للأم، وتدخل أمه وبنات المعتق وقيل لا يدخل من النساء إلا من يرث منهن خاصة ومن البنات وبنات الأبناء والأخوات الشقائق أو لأب وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون، ولا يدخل من النساء إلا من كان من جد من

النسب كالبنات وبنات الأبناء والأخوات ولا تدخل الأم لأنها ليست من قوم نسبه، ولا العمات لا بنات العم وبنات الأخ، ولمالك من رواية أشهب أن الأم لا تدخل فأحرى الجدة. وروي عن ابن القاسم أن الأم تدخل دون الجدة. صاحب البيان وابن زرقون: ولا خلاف أنه لا تدخل الأخوات للأم ولا الخالات ولا بنات البنات ولا بنات الأخوات وعلى دخولهن فقال مالك في المدونة: الذر والأنثى فيه سواء وإن شرط في أصل الحبس للذكر مثل حظ الأنثيين، قال لأن المرجع ليس فيه شرط ولو لم يكن له يوم يرجع إلا ابنة واحدة لكان لها جميعه. وَالْوَقْفُ لازِمٌ وَلَوْ قَالَ وَلِي الْخِيَارُ لأن بقوله: "وقفت" لزم فلا يقبل قوله: (وَلِي الْخِيَارُ)؛ لأنه رجوع بعد لزومه، وهكذا في الجواهر. ابن عبد السلام: وفيه نظر؛ لأنه إلزام له غير ما التزمه. وقال بعض من تكلم هنا: لا أعلم للمصنف موافقاً. خليل: وقد قال جماعة أن المحبس إذا شرط في حبسه أنه إن ذهب قاض أو غيره إلى كذا يرجع إليَّ حبسي فجميع حبسه راجع إليه إن كان حياً أو إلى ورثته أو صدقة لفلان- أن له شرطه، وكذلك قال إذا شرط أن من احتاج من المحبس عليهم باع الحبس أنه يصح هذا الشرط ولزم المحبس عليه إثبات حاجته أو اليمين على ذلك إلا أن يشترط المحبس أنه مصدق فله البيع من غير إثبات. وَلا يُشْتَرَطُ التَّنْجِيزُ كَمَا إِذَا قَالَ: إِذَا جَاءَ رَاسُ الشَّهْرِ فَهُوَ وَقْفٌ تصوره ظاهر.

وَلا التَّابِيدُ بَلْ يَصِحُّ جَعْلُهَا مِلْكاً لَهُمْ وَلِغَيْرِهِم بَعْدُ هكذا قال في المدونة والمجموعة فيمن قال: داري حبس على عقبي وهي للآخر منهم أنها تكون للآخر منهم ملكاً. وَلَوْ قَالَ: "عَلَى أَوْلادِي" وَلا أَوْلادَ لَهُ فَفِي جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ إِيَاسِهِ قَوْلانِ: ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُحْكَمُ بِحَبْسِهِ وَيُخْرَجُ إِلَى يَدِ ثِقَةٍ لِيَصِحَّ الْحَوْزُ، وَتُوقَفُ ثَمَرَتُهُ فَإِنْ وُلِدَ لَهُ فَلَهُمْ وَإِلا فَلأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ ... القول بالجواز لمالك في الموازية والمجموعة، قاله فيمن حبس على ولده ثم هو في سبيل الله، والقول بالمنع لابن القاسم قال: ليس له أن يبيع حتى ييأس من الولد، قال: ولو أجزت له أن يبيع لأجزت له إن كان له ولد وماتوا أن يبيع ولا ينتظر أن يولد له، قال: وإن مات قبل أن [638/ب] يولد له صار ميراثاً، وقول ابن الماجشون ثالث أي أن الحبس قد تم وإن لم يولد له رجع إلى أقرب الناس بالمحبس. وقوله: (فَإِنْ وُلِدَ لَهُ فَلَهُمْ)، أي الحبس والثمرة، وإذا بقي وقفاً عليهم رد إليه لأنه لا يصح حوز لولده، قاله الباجي. وَلا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَصْرِفِ لَفْظاً، بَلْ لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ صُرِفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ: فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ ... نحوه في الجواهر؛ لأنه قال: وإن قال وقْفٌ ولم يعين المصرف صرف إلى الفقراء، قاله مالك في الكتاب. وقال القاضي أبو محمد: يصرف في وجوه الخير، ولفظ المدونة: ومن قال داري حبس فقط؛ ولم يجعل لها مخرجاً فهو حبس على الفقراء والمساكين، إلا أن يرى لذلك وجه يصرف إليه؛ مثل أن يكون موضع رباط كالإسكندرية وجلُّ ما يحبس الناس فيها السبيل فيجتهد فيها الإمام. وفي الجلاب نحو قول القاضي.

وقال ابن عبد السلام وقوله: (وَقِيلَ: فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ) عدَّه المصنف خلافاً وليس كذلك، وإنما هو المذهب أن يسأل المحبس إن أمكن عن قصده فيعمل عليه وإن لم يمكن كموته ونحو ذلك نظر إلى غالب ما يحبس الناس فيه ذلك الجهة، فإن لم يكن غالب صرف إلى الفقراء. انتهى. وفيه نظر، لأنه كلام مع سؤال المحبس والغلبة وإنما الكلام إذا لم يكن واحد منهما. وقوله في الجلاب: صرف في وجوه الخير أعم من الفقراء، فهما قولان والله أعلم. وَمَهْمَا شَرَطَ الْوَاقِفُ مَا يَجُوزُ لَهُ اتُّبِعَ كَتَخْصِيصِ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ أَصْحَابِ مَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ ... لأن ألفاظ الواقف تتبع كألفاظ الشارع، واحترز بقوله: (مَا يَجُوزُ لَهُ) مما لو شرط معصية، ولا يعارض هذا بأحد القولين في نقل أنقاض المسجد إذا دثر ويئس من عمارته لخراب البلد ونحوه إلى مسجد آخر، لأن شرطه إنما يتبع مع الإمكان ولأن هذا أوفق لقصده لدوام الانتفاع بوقفه. وكذلك روى أصبغ عن ابن القاسم في مقبرة عفت فلا بأس أن يبني فيه مسجد وكل ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وكذلك قال ابن الماجشون في أرض محبسة لدفن الموتى فضاقت بأهلها وأرادوا أن يتوسعوا ويدفنوا بمسجد بجانبه فلا بأس به وذلك حبس كله. وسأل ابن وضاح سحنون عن زيت المسجد يكون كثيراً يباع ويدخل في منفعة المسجد قال: تجعل فتائل غلاظ ولم ير بيعه، قال: أيوقد به في مسجد آخر؟ قال: فلا بأس به، قال: فالخشبة تكون في المسجد قد عفت لا يكون فيها كثير منفعة أتباع ويشتري بثمنها خشب يرم به المسجد؟ قال: أما أنا فلا أجعل سبيلاً إلى بيعها أصلاً إلا ثم قولاً ضعيفاً.

وَلَوْ حَبَّسَ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْروٍ، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فَحِصَّتُهُ لِلْفُقَرَاءِ إِنْ كَانَتْ َغَلَّةً، وَإِنْ كَانَتْ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَشِبْهِهِ فَرِوَايَتَانِ ... قوله: (عَلَى زَيْدٍ وَعَمْروٍ) أي: معينين، واحترز من نحو فلان وعقبه أو على بني بنيهم وهذا إن بقي واحد فله جميع الغلة. ابن راشد: قوله: (ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ) أي: ثم جعله في آخر على الفقراء أو غيرهم ثم مات بعض الأولين، فإن كان الحبس يتجزأ بالقسمة كغلة الحائط انتقل نصيب الميت إلى المصرف الثاني، وإن كان لا يتجزأ بالقسمة كركوب الابة وسكنى دار فاختلف هل ينتقل نصيب الميت للمصرف الثاني أو لبقية الأولين؟ ابن عبد السلام: وقد كثر فيها اضطراب المتقدمين وكذلك بين فقيهي قرطبة ابن رشد وابن الحاج، وألف كل واحد منهما على صاحبه.

بيان مقتضى الألفاظ

بَيَانُ مُقْتَضَى الأَلْفَاظِ أي: باب بيان الألفاظ الواقفة، أي باعتبار ما تدل عليه إذا عبر بها الواقف عن الموقوف عليه. وَوَلَدِي أَوْ أَوْلادِي يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الصُّلْبِ مُطْلَقاً وَوَلَدَ ذُكُورِهِمْ وَيُؤْثَرُ الأَعْلَى، وَقِيلَ: يُسَوَّى ... يعني: إذا قال هذا وقف على أولادي أو على ولدي فإنه يكون على أولاد الصلب مطلقاً ذكراً أو أنثى وولد ذكورهم دون ولد الأنثى وهذا هو المعروف خلافاً لابن عبد البر وغيره من المتأخرين في إدخالهم. ودليل الأول الإجماع على عدم دخولهم في قوله: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]. فإن قيل: قد قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] وقال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ} ولاشك أن ولد البنت داخل فيها، قيل: يحمل على المجاز؛ لأنَّا قد اجتمعنا على أن إطلاق الولد الذكر حقيقة، فلو كان حقيقة في ولد الأنثى لزم الاشتراك، ويرجح لك أيضاً المجاز قول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد قوله: (وَيُؤْثَرُ الأَعْلَى) على مذهب مالك وابن القاسم في المدونة، والقول بالتسوية للمغيرة، وعلى المشهور فذلك مع تساوي الحال فإن كانت الحاجة في ولد الولد أوثر وتكون الآباء معهم، قاله ابن القاسم وعبد الملك ومحمد وهو استحسان، هذا على قول المغيرة القائل بدخول بني الابن في الحبس، واختار ابن المواز من قولي مالك نفي دخولهم إلا في الفضل.

وَوَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي- الْمَنْصُوُص أَيْضاً: لا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ يعني: وكذلك أولادي وأولاد أولادي، والمنصوص قول مالك وهو مذهب المدونة على ما وقع في بعض الروايات، ومقابله هو ما ذكره ابن العطار عن أهل قرطبة أنهم كانوا يفتون بدخولهم وقضى به محمد بن السليم بفتوى أكثر زمانه. قال في المقدمات: وهو ظاهر اللفظ، لأن الولد يقع على الذكر والأنثى، فإذا قال على ولدي وولد ولدي فهو بمنزلة قوله على أولادي ذكورهم وإناثهم وعلى أعقابهم. وَأَوْلادِي: فُلانٌ وَفُلانٌ وَفُلانَةُ وَأَوْلادُهُمْ؛ يَدْخُلُونَ اتِّفَاقاً، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَأَخْطَأَ ابْنُ زَرْبٍ .... يعني: إذا سمى الذكور والإناث ثم قال: وأولادهم [639/أ] دخل ولد البنات باتفاق لما سمى الذكر والأنثى، وقال: (وَأَوْلادُهُمْ) ولم يختص اختصاص أولاد الذكور، والباجي هو ابن رشد كما تقدم. قال في المقدمات بعد التصريح بخطأ ابن زرب: وكان ابن زرب يفتي بما عليه الجماعة من دخول ولد البنات حتى نزلت فقاسها على ما روي عن موسى بن طارق عن مالك فيمن حبس على ولده، فقال: ولد البنات ليسوا بعقب، قال: ورجوع ابن زرب لهذه الرواية غلط لأ، الرواية إنما هي فيمن حبس على ولده وولد ولده بخلاف هذه، فإن تسمية البنات قد صرح به فيها. فرعان: الأول: وقع في سماع سحنون في من قال: داري حبس على ابنتي وعلى ولدها أن ولد الولد يدخلون فيه، قال غيره: إنما يكون حبساً على ولد الابنة دنية فإذا ماتوا لم يكن لأولاد أولادها شيء.

الثاني: إن قال حبست على أولادي ذكورهم وإناثهم وأعقابهم ولم يسمهم، ففي المقدمات: ظاهر المذهب دخولهم، وفي الموازية مسألة استدل بها بعضهم على أن ولد البنات لا يدخلون في المثال المذكور، وهو قوله في من حبس على ولده الذكر والأنثى وقال في من مات منهم فولده بمنزلته، قال مالك: لا أرى لولد البنات شيئاً، وهو استدلال ضعيف. وَوَلَدِي وَوَلَدِهِم بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أي: أقوى من (وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي) وأضعف من (وَلَدِ فُلانٍ وَفُلانٍ وَفُلانَةَ) وقد اختلف في هذه المسألة فحكى ابن أبي زمنين عن مالك عدم دخولهم فيحتمل أن تكون من المسألة الأولى، وأدخلهم ابن السليم بفتوى أكثر زمانه فيحتمل أن تكون من الثانية. وَبَنِيَّ وَبَنِي بَنِيَّ كَـ "وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي" عَلَى الْمَنْصُوصِ أي: فلا يدخل ولد البنات، وهكذا في الجواهر فقال: البنون عند مالك يتناول ولد الولد الذكور والإناث. قال مالك: من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بنيه يدخلن في ذلك. وروى عيسى عن ابن القاسم في من حبس على بناته أن بنات بناته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابنا أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. ابن راشد: وعلى ما تقدم على ابن عبد البرِّ وغيره يدخل أولاد البنات، ولعل هذا هو الذي أشار إليه المصنف بمقابل المنصوص، على أن يدخل ولد البنات هنا أضعف من دخولهم هناك، لأن لفظ الولد حقيقة يطلق على الذكر والأنثى، وأما الابن فلا يطلق على البنت. وَعَقِبِي كَوَلَدِي فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ أُنْثَى فَلَيْسَ بِعَقِبٍ فلا يدخل ولد البنات لأن العقب من ينسب إلى الإنسان، ولم يفرق أحد بين ولدي وعقبي.

وقوله: (فَإِنْ حَالَتْ) أي: بين المحبس والذكر أنثى وهو زيادة إيضاح، ولو سكت عنه لفهم. وَنَسْلِي كَذَلِكَ أي: مثل العقب، وقيل ولد البنات يدخلون في النسل. وَذُرِّيَّتِي يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ اتِّفَاقاً؛ لأَنَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ هكذا حكى الاتفاق ابن العطار، واستدل بقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} [الأنعام: 84] إلى قوله: {وَعِيسَى} وهو ولد بنت، وأجيب بأن عيسى عليه السلام لم يكن له أب وقامت الأم مقامه. قال في المقدمات: وهو جواب غير صحيح، وانظره. وفي الاتفاق نظر، لأن في المقدمات: اختلف في النسل والذرية فقيل: منزلة الولد والعقب لا يدخل البنات فيهما، وقيل يدخلون. وفرق ابن العطار فجعل النسل كالولد بخلاف الذرية. وَعَلَى إِخْوَتِهِ يَدْخُلُ الذَّكَرُ وَالأُنْثَى هكذا قال ابن شعبان، إذا قال داري حبس على إخوتي كانت على ذكورهم وإناثهم من أي جهة، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقد أجرى الإناث في الحجب مجرى الذكور. وَرِجَالِ إِخْوَتِي وَنِسَائِهُمْ، يَدْخُلُ الصَّغِيرُ مَعَهُمْ قوله: (يَدْخُلُ الصَّغِيرُ مَعَهُمْ) أي والصغيرة ففيه حذف معطوف، ويحتمل أن يريد بالصغير الجنس فيعم. واستدل ابن شعبان على دخولهم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً} [النساء: 176] الآية. ابن شعبان: وبهذا حنث من حلف لا يكلم رجال بني فلان فكلم صبيانهم الذكور.

وَعَلَى بَنِي أَبِي إِخْوَتُهُ الذُّكُورُ وَأَوْلادُهُمُ الذُّكُورُ، وَقَالَ التُّونُسِيُّ: هُوَ اخْتِلافٌ لا إشكال في عدم دخول الإخوة للأم هنا، لأن قوله (بَنِي) يخرجهم. وقوله: (إِخْوَتُهُ الذُّكُورُ) أي سواء كانوا أشقاء أو لأب، وهكذا قال ابن شعبان لأنه قال: على بني أبي دخل فيه إخوته لأمه وأبيه ومن كان ذكراً من أولادهم خاصة مع ذكور ولده لأنهم من ولد أبيه. وفي كلام المصنف نظر من أوجه: أولها: كان ينبغي أن يزيد بعد قوله (وَأَوْلادُهُمُ الذُّكُورُ) وذكور ولده كما وقع في الرواية. ثانيها: قوله (وَقَالَ التُّونُسِيُّ) وإنما هو ابن شعبان، وسبب وهمه أن ابن شاس إذا أراد ابن شعبان عبر عنه بالشيخ أبي إسحاق، فتوهم المصنف أنه التونسي. ثالثها: أن ابن شعبان لم يصرح بالمعارضة وإنما أشار إليه ابن شاس، لأنه لما حكى قول ابن شعبان، قال: وهذا يشعر بأنه لا يرى دخول الإناث تحت قوله بني، وهو خلاف ما تقدم في الرواية. ابن عبد السلام: ويمكن أن يفرق بينهما من جهة العرف لا من جهة اللغة، لأن لفظ (الابن) يستعمل عرفاً في الجنان والبنت أحق بذلك، بخلاف (بَنِي أَبِي) فإنه يستعمل في المتناصر ولا مدخل للأنثى فيه. وَآلِي وَأَهْلِي قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَوَاءٌ، وَهُمُ الْعَصَبَةُ وَمَنْ لَوْ كَانَ رَجُلاً كَانَ عَصَبَةً، وَقِيلَ: الأَهْلُ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الأَبَوَيْنِ قَرُبُوا أَوْ بَعُدُوا كَالأَقَارِبِ يعني: أن ابن القاسم قال: الآل والأهل سواء، ويدخل في ذلك من النساء من لو كان رجلاً كان عصبة فتدخل الأخوات والبنات وبنات الأبناء. الباجي: [639/ب] وقول ابن القاسم هو المشهور من المذهب.

وقال ابن شعبان: يدخل في الأهل من كان من جهة الأبوين بعدوا أو قربوا، هكذا روي عن مالك في الأقارب. وقال أشهب في المجموعة: لأنه قال يدخل فيه كل ذي رحم محرم من قبل أبيه وأمه، وقال ابن كنانة لأنه قال: ويدخل فيه من العمات والأخوال والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. الباجي: ويلزم من أدخل في ذلك بني الأخت أن يدخل بني الخالات إلا أن يكون لجهة الأب مزية، وعلى هذا فيكون قوله كالأقارب استدلال لقول ابن شعبان، ويحتمل أن يقصد بذلك التشبيه في القولين، لأنه روي عن مالك في الموازية والمجموعة في من أوصى للأقارب يقسم على الأقرب فالأقرب بالاجتهاد. قال مالك: ولا يدخل ولد البنات ولا ولد الخالات. وحكى صاحب المعين وغيره فيما إذا أوصى لقرابته أو ولد قرابته: ثلاثة أقوال؛ الأول: لا دخول لقرابته من قبل النساء بحال، وهو قول ابن القاسم. الثاني: أنهم يدخلون، وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايتهما عن مالك. ابن حبيب: وهو قول جميع أصحاب مالك. الثالث: لعيسى أنه لا يدخل في ذلك قرابته من النساء إلا ألا يبقى من قرابته من الرجال أحد، قالوا: وأما إن لم يكن له من قبل الرجال قرابة فلا خلاف أنه لا يكون لقرابته من النساء. وَعَلَى مَوَالِيهِ رُوِيَ: مَوَالِيهِ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ فَقَطْ وَأَوْلادُهُمْ، وَرُوِي: وَمَوَالِي أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَرُوِيَ: مَوَالِيهِ وَمَوَالِي مَوَالِيهِ، وَرُوِيَ: وَمَوَالِي الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ وَالأُمِّ وَالأَخِ، وَفِي الْجَمِيعِ يُؤْثَرُ الأَحْوَجُ فَإِنِ اسْتَوَوْا فَالأَقْرَبُ ... يعني: إذا وقف على مواليه فلا خلاف في دخول من أعتقهم ذكورهم وإناثهم. ثم اختلف فروى ابن القاسم عن مالك في العتبية: لا يدخل غيرهم، (وَرُوِي: وَمَوَالِي أَبِيهِمْ)

دلت الواو على أنه في الرواية وافق على ما في الأولى، وزاد وكذلك في الثالثة، وهذه الرواية الثانية لابن القاسم في العتبية أيضاً، (وَرُوِيَ: مَوَالِيهِ وَمَوَالِي مَوَالِيهِ) أي: يدخل في هذه الرواية مواليه وموالي أبيه وابنه وموالي مواليه. وقوله: (وَمَوَالِي الْجَدِّ) تصوره ظاهر وهي لمالك في المجموعة قال فيه: ولا يدخل موالي بني الإخوة والعمومة، ولو دخلت موالي هذه لدخلت موالي القبيلة. قوله: (وَفِي الْجَمِيعِ)؛ يعني في جميع الروايات يؤثر الأحوج وإن كان أبعد، (فَإِنِ اسْتَوَوْا) في الحاجة أوثر الأقرب، وهكذا في المجموعة. وَعَلَى قَوْمِهِ عَصَبَتُهُ دُونَ النِّسَاءِ نحوه لابن شعبان. واستدل بقوله: {لا يَسْخَرْ} [الحجرات: 11] إلى قوله: {خَيْراً مِنْهُنَّ} وبقول زهير: وما أدري ولسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن نساء وينبغي أن يرجع إلى العرف إن كان هناك عرف. وَأَطْفَالِ أَهْلِي وَصِبْيَانِهِمْ وَصِغَارِهِمْ- لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ أي: من الذكور والإناث. وَشُبَّانِهِمْ وَأَحْدَاثِهِمْ: لِمَنْ بَيْنَ الْبُلُوغِ وَكَمَالِ الأَرْبَعِينَ هو ظاهر، وقاله ابن شعبان. وَكُهُولِهِمْ لِمَنْ جَاوَزَهَا إِلَى السِّتِّينَ، وَشُيُوخِهِمْ: لِمَنْ جَاوَزَهَا، وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَى فِي الْجَمِيعِ سَوَاءٌ ... يعني: أن يعتمد في جميع هذا على العرف. وقوله: (وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ) أي: من الأطفال إلى الشيوخ، وهو معنى قوله: (فِي الْجَمِيعِ).

وَأَرَامِلِهِمْ: الذَّكَرُ وَالأُنْثَى هكذا قال ابن شعبان أنه إذا قال لأراملهم كان الرجل الأرمل الذي لا زوجة له والمرأة الأرملة التي لا زوج لها، واستشهد بقول جرير: هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر ابن عبد السلام: ومن نسب هذا البيت للحطيئة لم يقل شيئاً. قال ابن السّكيت: الأرامل: المساكين رجال أو نساء ويقال لهم وإن لم يكن فيهم نساء. وَحُكْمُ مُطْلَقِهِ: التَّنْجِيزُ مَا لَمْ يُقَيَّدْ بِاسْتِقْبَالٍ، وَهُوَ مِنْ رَاسِ الْمَالِ فِي الصِّحَّةِ، وَالتَّنْجِيزُ فِي الْحَيَاةِ، وَإِلا فَفِي الثُّلُثِ ... أي: حكم المطلق من الوقف التنجيز في الحال إلا أن يقيد باستقبال، كقوله: أوقف بعد شهر، وهو استثناء منقطع لأنه إذا قيد باستقبال لا يكون مطلقاً. وقوله: (مِنْ رَاسِ الْمَالِ فِي الصِّحَّةِ، وَالتَّنْجِيزُ) لأن الصحيح لا حجر عليه. واحترز بالصحة من المرض فإنه إنما يكون في الثلث، وبالتنجيز بما لو وقع موقوفاً على الموت فإنه إنما يكون في الثلث، وإليه أشار بقوله (وَإِلا فَفِي الثُّلُثِ). وَيَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْغَلَّةَ وَالثَّمَرَةَ وَاللَّبَنَ وَالصُّوفَ يملك الموقوف عليه الغلة بخلاف الرقبة فإنها على ملك الواقف، وعطف الثمرة واللبن والصوف على الغلة من باب عطف الخاص على العام، أو يقال الغلة أراد بها ما ليس عينٌ قائمة. وَنِتَاجُ الإِنَاثِ وَقْفٌ وَيُبَاعُ فَضْلُ ذُكُورِهَا عَنْ ضِرَابِها في إنَاثٍ، وَمَا كَبُرَ مِنْ إِنَاثٍ كَالذُّكُورِ ... لمَّا كان المقصود من الحبس بقاء عينه لينتفع به المحبس عليه، والحيوان لا يطول مقامُه كالرّباع، وكان التناسل فيه يقوم مقام عينه، فلذلك قالوا: لا يباع إناثه وما يراد من

الذكور للضراب ويباع ما لا يُرجى نسله من الإناث وما استغني عنه من الذكور يريد ويجعل في إناث، كذا روى ابنُ القَاسم عن مالك في الموازية ولعله إنما سكت عن ذلك لما سيذكر في الفرس والثوب. وقوله (وَنِتَاجُ الْحَيَوَانِ) أي: الموقوف بحذف الصفة. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا سِوىَ الْعَقَارِ إِذَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ الَّتِي وُقِفَ لَهَا كَالْفَرَسِ يَهْرَمُ، وَالثَّوْبِ يَخْلَقُ- يُبَاعُ فِي مِثْلِهِ أَوْ شِقْصِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا يُبَاعُ وَقْفٌ وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ بِشَرْطٍ ... ابن عبد السلام: أبقى جماعة قول ابن القاسم على إطلاقه، وقال اللخمي: إن انقطعت منفعة الحبس وصار بقاؤه ضرراً جاز بيعه، وإن لم يكن [640/أ] ضرراً أو رجي أن تعود منفعته لم يجز. واختلف إذا لم يكن ضرر ولا وجبت منفعته، وكذلك صرح صاحب البيان بالاتفاق على الوجهين الأولين. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ بِشَرْطٍ) أي: في أصل الحبس فإنه إن هرم أو فسد بيع فحينئذ يجوز بيعه بالاتفاق. وَيَتَوَّلَى الْوَقْفَ مِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لا الْوَاقِفُ وَلَوْ شَرَطَهُ لَمْ يَجُزْ قال في الجواهر: والنظر في مصالح الوقف إلى من شرط الواقف فإن لم يولِّ تولاه الحاكم ولا يتولاه بنفسه. قال في المختصر الكبير: ولا يجوز للرجلِ أن يحبس ويكون هو ولي الحبس. وقال في الموازية في من حبس غلة داره في صحته على المساكين فكان ولياً عليها حتى مات وهي بيده أنها ميراث، قال: وكذلك لو شرط في حبسه أنَّ يلي ذلك لم يجزه له ابن القاسم وأشهب.

خليل: وانظر قوله في الموازية، وكذلك لو شرطه هل المراد أنه يبطل حبسه وهو ظاهر لفظاً ومعنى. قوله: (أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ) أي: لم يجز له هذا الشرط بل يصح ويخرج إلى غيرهم. والأظهر أن معنى ما في الموازية أن المحبس مات ولم يجز عنه ولا إشكال في البطلان مع ذلك، وأما إن كان حياً فإنه يصح الوقف ويخرج إلى يد ثقة ليتم الحوز، وهكذا فسر ابن عبد السلام كلام المصنف. فقولُه: (لَمْ يَجُزْ) أي: الشرط ويحتمل لم يجز الوقف ويبطل ولَو كانَ حياً، ويؤيده اختلافهم في الفرع الذي بعده، ولاشك أنَّ البطلان هنا أقوى من الفرع الذي بعده، والأول هو القياس كما قدم فيما إذا شرط الخيار أنه يصح الوقف ويبطل الشرط، والضمير في شرطِهِ عائد على (المتولي) المفهوم من يتولى، ولا يصح أن يعود على الواقف لأنه يؤدي إلى تعدي فعل المضمر إلى ضميره المتصل. فَإِنْ جَعَلَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ وَيَتَسَلَّمُ مِنْهُ غَلَّتَهُا وَيَصْرِفُهَا وَعَلَى ذَلِكَ وَقَفَ- فَقَوْلانِ الضمير في (جَعَلَهُ) عائد على الوقف، وفي غيره يعود على الواقف وفي (مِنْهُ) يعود على الغير، والقول بالجواز لمالك في الموازية وهو قول ابن عبد الحكم. ابن المواز: وأباه ابن القاسم وأشهب. اللخمي: وأرى أن يمضي في الوجهين لأنه حبس أنفذ في ما حبس له ولم يعد فيه محبسة وقد تقدم إذا كان الوقف بيد واقفه ويصرف غلته ويخرجه من يده وانتفع به ثم يعود إليه هل يصح الحبس أو لا؟ ابن عبد السلام: القول بالصحة يصح هنا من باب الأولى، وعلى القول بالبطلان تأتي القولان اللذان ذكرهما المصنف هنا والله أعلم.

وَيَبْدَأُ بِإِصْلاحِهِ وَنَفَقَتِهِ وَلَوْ شَرَطَ خِلافَهُ، لَمْ يُقْبَلْ ويبدأ الناظر بإصلاحه إن كان عقاراً وبنفقته إن كان حيواناً، لأ، الغرض من الوقف دوام المنفعة، ولذلك قال ابن شعبان: لو شرط خلاف البداية بإصلاحه ونفقته لبدئ بذلك وبطل شرطه، لأنه شرط يؤدي إلى بطلان الوقف وما كان كذلك من الشروط لا يوفى بها. فَإِنْ كَانَتْ دَاراً لِلسُّكْنَى فَإِمَّا أَصْلَحَ، وَإِمَّا خَرَجَ فَتُكْرَى بِمَا تُصْلَحُ بِهِ أي: فإن كانت العين الموقوفة داراً للسكنى واحتاجت إلى إصلاح خُيِّر الساكن المحبَّس عليه فإما إن يصلح، وإما أن يخرج فتكرى بما تصلح به ثم يعود، قاله اللخمي، قيل: لأن المحبس لما علم أنها تحتاج إلى إصلاح ولم يوقف لذلك شيئاً فقد أذن في الكراء عند الحاجة. وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ إِصْلاحَهَا عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ (عَلَيْهِ) أي: على الموقوف عليه (لَمْ يُقْبَلْ) أي: الشرط؛ أي: ويصح الوقف وهكذا في المدونة وعلل فيها صحة الوقف بأنها فاتت في سبيل الله وبطلان الشرط بأنه راجع إلى الكراء المجهول، قال في المدونة: ومرمتها من غلتها. يحيى بن عمر: وإن كانت موقوفة للسكنى خير الساكن بين أن يُصلِحَ أو يخرج فتكرى بما تُصلح به وأمضى في المدة الحبس بمجرد العقد. قال محمد: يرد الحبس ما لم يُقْبَض، قال: ولو اشترط أن يرمَّ ما اغتل منها بغير كراء جاز، نقله اللخمي.

وَإِنْ كَانَ فَرَساً فِي الْجِهَادِ وَشِبْهِهِ فَعَلَى بَيْتَ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيعَ وَعُوِّضَ بِهِ سِلاحٌ ... أي: وإن كان الموقوف فرساً في الجهاد وشِبْهِهِ كالرباط، واحترز بذلك مما لو كانت وقفاً على معين فإنه ينفق عليه من غلته، ويحتمل أن يقرأ (وَشِبْهِهِ) بالنصب؛ أي: وشبه الفرس العبد ونحوه، وعلى ذلك مشاه ابن راشد. والنفقة على ذلك من بيت المال، وإن لم يكن بيت مال بيع واشتري ما لا يحتاج إلى النفقة كالسلاح ونحوه؛ لأن السلاح ونحوه أقرب من غيرهما إلى قصد الواقف. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: تَبْقَى وَلَوْ تَحَقَّقَ هَلاكُهَا أي: تبقي العين الموقوفة ولو تحقق هلاكها؛ أي: ولا يباع الفرس ونحوه. وكلام المصنف جار على طريقة من نقل عن ابن الماجشون عدم البيع، وأما على ما نقله اللخمي وغيره كما تقدم فلا. وَمَنْ هَدَمَ وَقْفَاً فَعَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا كَانَ لا قِيمَتُهُ أي: لأن قيمته كبيعه، وإن كان على من هدم عين وقف إعادته كما كان على قول، وإن كان المشهور خلافه كان ذلك هنا أحرى، هكذا ذكره في النوادر إلا أنه عزاه لابن كنانة، ولا ينقض بنيان الحبس ويبنون فيه حوانيت للغلة وهو ذريعة إلى تغيير الحبس. ومن سكن حبساً من أهل الحبس أو غيرهم فعليه أن يرد البنيان كما كان قبل أن تؤخذ منه القيمة فتحول الدار عما كان حبسها عليه، وفي اللخمي: ومن تعدى على حبس فقطع النخل وهدم الدار وقتل العبد أو الفرس أو أفسد الثوب أغرم قيمة ما أفسد، وإن كان الحبس في السبيل أو في الفقراء جعل ما أخذ من هدم أو قطع نخل في بناء تلك الدار وغراسة تلك النخلن وفي مثل ذلك العبد والفرس [640/ب] والثوب، وعلى قول

أشهب يصرف فيما يرى أنه أفضل، ويختلف إذا كان الحبس على معين هل يسقط حقه فيما حبس أو يعود حقه في تلك القيمة. وَمَنْ أَتْلَفَ حَيَوَاناً وَقْفاً فَالْقِيمَةُ وَتُجْعَلُ فِي مِثْلِهِ أَوْ شِقْصِهِ يجعل في مثله إن بلغ وإن لم يبلغ جعل في شقصه أي في بعضه. ووقع في بعض النسخ بعد النص المتقدم ما نصه: (وَقِيلَ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ قِيمَةَ عَبْدٍ قُسِمَ كَالْغَلَّةِ). ابن راشد: ولم أقف على هذا القول. وفرق في المدونة بين الفرس والثوب، فذكر في الفرس مثل ما ذكره المصنف أنها إذا لم تبلغ فرساً جعله في شقص فرس، وقال في الثوب المحبس: إن لم يبلغ تصدق به في السبيل. بعض القرويين: وليس بخلاف، ومسألة الفرس محمولة على ما إذا وجد من يشاركه والثوب على ما إذا لم يجد. وقيل: بل لما كان المقصود في الخيل المنفعة بها في الغزو رجعت أثمانها في مثلها والثياب المنفعة بها للغزاة، فإذا بليت ولم ينتفعوا بها بنفسها أعطى ثمن ما يبيع من خلقها لهم. وَفِي بَيْعِ النَّقْضِ قَوْلانِ ابن شعبان: لا يباع نقض الوقف إذا خرب. ومن أصحابنا من أجاز بيعه ولا أقول به. وكذلك اختلف في نقل الأنقاض إلى وقف آخر، فقال ابن أبي زمنين: إذا خرب المسجد ولم ترجى عمارته أخذ وبني به في سائر المساجد ويترك منه ما يكون علما لئلا يندرس أثره. وكذلك قال عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة، ولا بأس ببيع نقضها إذا خيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك، وتوقف إن رجيت عمارتها وإن لم ترج أعين به في غيره أو صرف النقض إلى غيره، والمنقول عن ابن القاسم المنع.

ابن عبد السلام: وأهل المذهب منع البيع والنقل والنقض الخشب وما في معناه مما ينتفع به في البنيان. وَلا يُنَاقِلُ بِالْعَقَارِ وَلَوْ دَثُرَ وَخَرِبَ مَا حَوْلَهُ، وَبَقَاءُ أَحْبَاسِ السَّلَفِ دَاثِرَةً يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ بَيْعِهَا وَمِيرَاثِهَا ... المناقلة: بيع ربع في آخر. قال ابن شعبان: لا يناقل بالوقف وإن خرب ما حوله، وقد تعود العمارة بعد الخراب. واستدل ابن عبدوس على المنع بما ذكره المصنف من بقاء أحباس السلف داثرة أي مهدومة، وكذلك وقع هذا الاستدلال في نفس المدونة. وفي بعض النسخ: عياض: ورخص في موطأ ابن وهب في بيع داثر ويعوض منه ربع ونحوه، ويكون حبساً. وفي الرسالة: ولا يباع الحبس وإن خرب، ويباع الفرس الحبس يكف ويجعل ثمنه في مثله أو يعان به في مثله، واختلف في المعاوضة بالربع الخرب بربع غير خرب. وَعَنْ مَالِكٍ: لا بَأَسَ أَنْ يُشْتَرَىَ مِنْ دُورٍ مُحَبَّسَةٍ لِتَوْسِعَةِ مَسْجِدٍ أَوْ طَرِيقٍ لأَنَّهُ نَفْعٌ عَامٌّ، وَقِيلَ: فِي مَسَاجِدِ جَوَامِعِ الأَمْصَارِ لا الْقَبَائِلِ ... القول بأن ذلك في كل المساجد نقله في النوادر عن مالك وقاله سحنون في نوازله. والقول بخصوصية ذلك في مسجد جوامع الأمصار لمطرف وابن الماجشون وأصبغ. ودليل الجواز أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم زيد فيه دار محبسة والناس متوافرون في ذلك الوقت ولم ينكر ذلك أحد، حكاه ابن الماجشون. وقاس مالك في المبسوط الطريق فأفتى ابن المكوي بالرواية التي في المبسوط. وقال ابن زرب: لا يجوز ذلك إلا في مسجده خاصة.

ووقع لأبي عمران في مسائله: إذا ضاق الجامع وإلى جانبه حبس المساكين فلا يباع لتوسعة الجامع، وإن اشترى بثمنه مثله لكن يكرى من مال الجامع، وأما البيع فلا. صاحب البيان: واختلف هل يقضى عليهم أن يجعلوا الثمن في حبس مثله، فقال مالك وابن القاسم: ولا يقضى به عليهم ولو استحقت فأخذ فيها ثمناً فعل به ما شاء، قاله مالك وابن القاسم. وقال ابن الماجشون في الثمانية: ويقضى عليهم. واختلف إذا أبوا من البيع هل يجبرون وهو قول الأكثر أم لا؟ وقيل: يجبرون في مساجد الجوامع دون غيرها. وَيُكْرِي الْمُتَوَلِّي بِنَظَرِهِ للسَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ كَالْوَكِيلِ، فَإِنْ أَكْرَاهَا لِمَنْ مَرْجِعُهَا إِلَيْهِ جاَزَتِ الزِّيَادَةُ، وَقَدْ أَكْرَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ مَنْزِلَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ عَشْرَ سِنِينَ وَاسْتُكْثِرُتْ ... معناه إذا كانت الدار على قوم معينين ثم هي على أولادهم وشبه ذلك، وأما إن كانت على الفقراء وشبههم فينبغي أن يجوز أوسع من هذا الأجل؛ إذ لا يتقي في ذلك سوى انهدام الدار، وهذا الاحتمال لا يمنع من طول الأجل في الدار، فإن أكراها ممن مرجعها إليه جازت الزيادة. ابن الماجشون: ومثل الأربع والخمس، وقيل: يجوز في الأراضي الأربع سنين. وقوله: (جاَزَتِ الزِّيَادَةُ) يعني لضعف القدر لأن الذي له المرجع إنما يعقد على نفسه بخلاف غيره. وقوله: (سَنَتَيْنِ) ولو أكريت من غير من مرجعها إليه. قال في البيان: ويجوز كراء الأمد القريب بغير نقد باتفاق، ويختلف هل يجوز بغير نقد في البعيد وبالنقد في القريب على قولين. ابن عبد السلام: وأجاز جماعة من فقهاء بلدنا وعمل به منذ عشرين عاماً كراء بقعة من أرض الحبس أربعين عاماً أن يبني بها داراً، وليس الحبس فيها على معينين بعد أن بدل

فيها مكتريها عرضاً خارجاً في الكثرة عن العادة. قوله: (وَقَدْ أَكْرَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ مَنْزِلَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ) أي: مرجعه إليه عشر سنين، واستكثر المغيرة وغيره العشر. وَلا يُفْسَخُ كِرَاءُ الْوَقْفِ لِزِيَادَةٍ قيده في الجواهر بما إذا كان الكراء وقع على وفق القبضة في الحال. ابن عبد السلام: وأما إن كان فيه غبن فتقبل الزيادة فيه حاضراً أو غائباً، وأهل تونس في هذا التاريخ وقبله بسنين كثيرة استمروا على أنه يكرى ربع الحبس على قبول الزيادة فيه ويجعلونه منحلاً من جهة [641/أ] المكري ومنعقداً من جهة المكتري، وهو قول منصوص عليه في المذهب. ووقع في المدونة ما يقتضيه وإن كان بعضهم رأى ما في المدونة خارجاً عن أصول المذهب، واعتقد من لقيناه أن ذلك مخالف للإجماع لأن ذلك راجع إلى بيع الخيار ولم يجزه أحد إلى سنة. وأشار ابن رشد إلى أن المسألة ليست كبيع الخيار الذي جعل أمد الخيار فيه سنة، فإن ذلك ينتقض فيه البيع من أصله إذا أراد حله من جعل له الخيار، وهنا لا ينتقض إلا ما بقي من المدة. وَلا يُقْسَمُ إِلا مَا وَجَبَ بِالْسُّكْنَى وَغَيْرِهَا؛ لأَنَّ الْمَيِّتَ يَسْقُطُ وَالْمَوْلُودَ وَالْمُتَجَدِّدَ يَسْتَحِقُّ، فَلَوْ قُسِّمَ قَبْلَهُ فَقَدْ يُحْرَمُ مُسْتَحِّقٌ وَيَاخُذُ غَيْرُهُ ... ولا يقسم الناظر في كراء الوقف إذا كانت كراء عن منافع مستقبلة، وسواء كان الكراء عن سكنى أو زراعة أو غيرهما إلا ما وجب بمضي مدته، لأنه لو قسم قبل الوجوب لزم أن يعطى من لا يستحق إذا مات ولزم أن يحرم المولود والغائب وكلامه ظاهر التصور في هذا. قال ابن الماجشون: لا يكرى الحبس بنقد لأنه يوقف في وقفه

تعرض التلف ولأن كراءه بالنقد أقل من غيره فيلزم النقض في العرض من غير فائدة، وهذا كله إذا كان الوقف على قوم معينين، وأما إن كان على الفقراء والغزاة وشبههم فيجوز كراؤه بالنقد والصرف للآمر ما أشار إليه المصنف والله أعلم. وَإِذَا بَنَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَصْلَحَ بِخَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَمْرُهُ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فَهُوَ وَقْفٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِوَرَثَتِهِ وَلَمْ يَرَ مَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ يَسِيراً كَمِيزَابٍ وَنَحْوِهِ فَوَقْفٌ، وَإِلا فَلا .... أي: في الواقف فأمره له، فإن بين أنه له فهو له يورث عنه وإن بين أنه وقف فهو وقف، فإن مات ولم يذكره فثلاثة أقوال: الأول لمالك في المدونة أنه يوقف لا شيء لورثته فيه. الثاني لابن القاسم في الموازية أنه لورثته ولم ير ما قال مالك، وما كان لأبيهم حيَّاً فهو لورثته ميتأً واستصوبه أكثرهم، لأن نفس البناء لا يكون وقفاً وإنما هو على ملكه بدليل لو أوصى بما كان له فالأصل بقاء ملكه حتى يتبين خلافه. والثالث: للمغيرة الفرق وتصوره ظاهر. التونسي: وهو الصواب. وعن ابن القاسم مثل القول الأول، وحمله التونسي على ان العادة جرت عندهم بذلك، ووقع لمالك أيضاً في كتاب الشفعة: وإذا بنى قوم في دار حبست عليهم ثم مات أحدهم فأراد ورثته بيع نصيبه من البناء فلإخوته فيه الشفعة، واستحسنه مالك وقال: ما سمعت فيه شيئاً. واختلف الشيوخ هل ما في الموضعين خلاف أو يقيد ما في الشفعة بما في الحبس ويكونوا معنى أنه أوصى على معينين؟ وَلَوْ خَرِبَ الْوَقْفُ فَأَرَادَ غَيْرُ الْوَاقِفِ إِعَادَتَهُ فَلِلْوَاقِفِ أَوْ وَرَثَتِهِ مَنْعُهُ لِأَنَّ عَيْنَهُ مِلْكٌ، وَإِنِ امْتَنَعَ نَقْلُهُ عَنِ الْوَقْفِيَّةِ ... تصور كلامه ظاهر، وما ذكره من أن عين الوقف ملك هو المذهب، نص عليه الباجي وغيره. ويستحسن للواقف أو ورثته تمكين غير الواقف من البناء إذا كان وقفاً

على وجه من وجوه الخير وأراد الباقي إلحاق بنائه بالوقف، لأن ذلك من باب التعاون على الخير، قوله وإن امتنع. قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ حَبَّسَ عَلَى قَوْمٍ وَأَعْقَابِهِمْ فَلِلْمُتَوَلِّي تَفْضِيلُ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْعِيالِ وَالزَّمَانَةِ فِي السُّكْنَى وَالْغَلَّةِ بِاجْتِهَادِهِ ... أي: باجتهاد المتولي، وماذ كره المصنف نص صاحب البيان على أنه المشهور، قال: وقال ابن القاسم: لا يفضل ذو الحاجة على الغني في الحبس إلاب شرط من المحبس، قال: وفرق ابن نافع بين السكنى والغلة فسوى في السكنى الغني والفقير بخلاف الغلة، وعلى الأول روى ابن القاسم: من حبس على الفقراء وفي سبيل الله وابن السبيل وللغرباء وفي قرابته غني فلا يعطى منه، ولكن ذو الحاجة. وفي المجموعة: من حبس على قوم وأعقابهم ذلك كالصدقة لا يعطى منه الغني شيئاً ويعطى منه المسرد بقدر حاله، فإن كان للأغنياء أولاد كبار فقراء بلغوا أعطوا بقدر حاجتهم. الباجي: يريد والمسرد الذي له كفاية وربما ضاقت حاله بكثرة عياله، وإذا تساووا في الفقر والغنى أوثر الأقرب وأعطي الفضل من يليه، وإن اختلفوا أوثر الفقير، ذكره ابن عبدوس. الباجي: وهو إذا كان عدد المحبس عليهم لا ينحصر ولا يفضل على فقرائهم بشيء وإن فضل عن فقرائهم شيء صرف إلى الأغنياء، وقاله ابن القاسم. وَأَمَّا عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ سَوَاءٌ أي: كمن حبس على قوم وأعقابهم، وهو لمالك في المجموعة. والقول بأن الغني والفقير سواء لعبد الملك، قال: لأنه تصدق على ولده وهو يعلم أن منهم الغني والمحتاج فلا يفضل أحدهما على الآخر إلا بنص على ذلك.

أَمَّا إِن عَيَّنَهُمْ سُوِّيَ بَيْنَهُمْ إذا لم يكن الحبس معقباً وكان على معينين كهؤلاء العشرة فإنه يقسم بينهم بالسواء، واعترضه ابن عبد السلام بأنه أسقط الفاء من جواب أما وهو غير جائز، وأجيب بأنه اختلف إذا وقعت إن بعد أما هل الجواب لـ (أَمَّا) وهو مذهب سيبويه أو لـ (إِنَّ) وهو مذهب الفارسي، أولهما؛ فعلى مذهب الفارسي يكون الجواب لـ (إِنَّ) والماضي إذا وقع جواباً لا يحتاج فيه إلى الفاء والفاء محذوفة مع قول محذوف؛ أي: فقالوا يسوى بينهم على حد قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] أي: فيقال لهم: أكفرتم. [641/ب]. وَمَوَالِيهِ مِثْلُهُ يعني: بالمثلية التعيين وعدمه. وَلا يَخْرُجُ السَّاكِنُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيَّاً يعني: إذا سكن بعض المحبس عليهم لاحتياجه، ثم استغنى فإنه لا يخرج لغيره إلا أن يكون الواقف شرط ذلك وكان الأصل أن يخرج. ولعل ما ذكره المصنف وغيره إنما هو لأن عودته إلى حالته الأول لا تؤمن. قوله (وَلا يَخْرُجُ السَّاكِنُ لِغَيْرِهِ) قال في الجواهر: وإن كان الغير محتاجاً ولم يكن في الدار سعة، وهذا إنما إذا سكن باستحقاق، وأما لو بادر أحدهم إلى السكنى فليس له بابتداره ولكن ينظر الإمام أحوجهم وأقربهم، قاله ابن كنانة. ابن القاسم: وإن تساووا في الغناء أو الحاجة فمن سافر فهو أحق بالسكنى وليس على العدد ولكن بقدر العيال، فليس العزب كالمعيل.

ابن القاسم ومحمد: وإن كان بعضهم حاضراً فهو أولى بالسكنى من الغائب إذا لم يكن على الحاضر فضل، بخلاف الغلة فإنها تقسم بين الحاضر والغائب بل المحتاج الغائب أولى من الغني الحاضر ثم لا يسقط حق الساكن بسفره إلا أن يسافر سفر انقطاع لبعض ما يعرض للناس كان له أن يكري مسكنه إلى أن يعود، نقله الباجي وغيره. وجعل في البيان السفر البعيد يشبه سفر الانقطاع في انقطاع حقه، ثم أشار في آخر كلامه أنه إذا جهلت حالته أن ظاهر قول مالك في رواية علي أن غيبته محمولة على الانقطاع والمقام حتى يتبين خلاف ذلك. وعلى ظاهر قول ابن القاسم محمولة على الرجوع وعدم الانقطاع حتى يتبين خلافه. ومن كان يسكن من أهل الحبس مع ابنه فباع فإن كان قوياً يمكنه الانفراد فله مسكنه من الحبس، وإن لم يتزوج وضاق عليه مسكن أبيه، فأما من ضعف عن الانفراد فلا يسكن إلا أن يتزوج فيكون له حقه في السكنى، وأما الإناث فلا سكنى لهن في كفالة الأب، قاله عبد الملك في المجموعة. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ لا يُحَاطُ بِهِمْ فَقَدْ عُلِمَ حَمْلُهُ عَلَى الاجْتِهَادِ يعني: أن من وقف على من لا يحاط بعدده كالفقراء والغزاة فبالضرورة يقسم على من حضر منهم على الاجتهاد؛ لأن العادة دلت على أن المراد من الواقف إن فارق المحبس عليهم وسد خلتهم. وَمَنْ خَصَّ مُعَيَّناً مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ بُدِئَ بِهِ لا يريد بالمعين خصوصية الشخص كزيد بل أعم من ذلك، كما لو حبس على الفقراء وخص من له عيال منهم فليبدأ بالمسمى، ولابن القاسم في العتبية: إلا أن يعمل في ذلك عامل فيكون أولى بحقه. ابن القاسم: وكذلك في غلة المبذور.

الهبة

الْهِبَةُ أرْكَانُها ثَلاثَةٌ الهبة مصدر وهبت له شيئاً وهباً ووهباناً بالتحريك وهبة، والاسم الموهب والموهبة بكسر الهاء فيهما، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة، وتواهب القوم إذا وهب بعضهم لبعض، ورجل وهاب ووهابة كثير الهبة؛ لأن الهاء للمبالغة. صاحب المحكم: ولا يقال وهبك، هذا قول سيبويه. وحكى السيرافي عن أبي عمرو أنه سمع أرعابياً يقول للآخر: انطلق معي أهبك نفلاً. اللخمي وغيره: وهو نقل الملك بغير عوض. وأحكام الهبة والصدقة متفقة إلا في أمرين: أولهما: منع الاعتصار في الصدقات، وثانيهما: كراهة اشترائها بخلاف الهبة فيهما. قال في المقدمات: إلا أن تكون الصدقة على الابن فعن مالك في ذلك ثالث روايات: أولهما: أن الرجوع فيها لا يجوز إلا من ضرورة مثل أن تكون أمة فيتبعها نفسه أو يحتاج فيأخذ الحاجة، وهو ظاهر ما في المدونة. ثانيها: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وأن الاعتصار يكون له، وهو قول مالك في سماع عيسى؛ لأنه أجاز أن يأكل ما تصدق به على ابنه الصغير، وذلك لا يكون إلا بمعنى الاعتصار وهو لا إذن له، ولا خلاف في شرعيتها. الصِّيغَةُ وَشِبْهُهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فِي الإِيجَابِ وَالْقَبُولِ الركن الأول: (الصِّيغَةُ) وهو لفظ الهبة وما تصرف منها وشبهها. (قَوْلٍ) كأعطيتك، أو بذلت لك، (أَوْ فِعْلٍ) به كالبيع. وقوله: (فِي الإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) أي: التمليك من قبل الواهب والقبول من جهة الآخر.

ابن عبد السلام: ولا ينتقض ما قاله المصنف في الفعل بها، في كتاب ابن مزين في رجل قال لولده: اجعل في هذا الموضع كرماً أو حيواناً أو ابْنِ فيه داراً، ففعل الابن ذلك في حياة أبيه، والأب يقول: كرم ابني وجنان ابني، أن القاعة لا تستحق بذلك وهي موروثة وليس للابن إلا قيمة عمله منقوضاً، قال: وقول الرجل في شيء يعرف له: هذا كرم ولدي أو دابة ولدي، ليس له شيء ولا يستحق منه الابن شيئاً إلا بالإشهاد بهبة أو صدقة أو بيع صغيراً كان أو كثيراً، وكذلك المرأة فإنا نقول: ليس كل فعل يدل على نقل الملك، فلا يلزم من كون الفعل غير دال في هذا الموضع على نقل ملك الرقبة إلا أن يكون دالاً في غيره، وأيضاً فإنه دل على نقل تلك المنفعة زماناً حتى إن الأب لو طلب كراء أرضه في المدة التي انتفع بها الابن لم يكن له ذلك. وَمِثْلُهَا: الْعُمْرَى كَقَوْلِهِ: أَعْمَرْتُكَ دَارِي أَوْ ضَيْعَتِي وَهِيَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاتَهُ فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ لِلْوَاهِبِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ كَوَقْفٍ غَيْرِ مُؤَبَّدٍ ... هي بضم العين وسكون الميم مقصور. الجوهري: أعمرته داراً أو أرضاً أو إبلاً إذا أعطيته إياها، وقلت: هي لك عمري أو عمرك فإذا مت رجعت إلي، قال لبيد: وما المال إلا معمرات ودائع والاسم العمرى. وقوله: (وَمِثْلُهَا) أي: في أن أركانها [642/أ] ثلاثة وأنها تنعقد بالصيغة كـ (أَعْمَرْتُكَ) وشبهها من قول كـ "أسكنتك داري مدة حياتك"، أو فعل يدك على ذلك. وقوله: (وَهِيَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاتَهُ) استدلال على ما ذكره من المماثلة كأنه يقول: العمرى كحقيقة الهبة فوجب استواؤهما في الحكم؛ لأن العمرى هبة المنافع، والهبة هبة الذوات وذلك وصف طردي.

ثم في قوله: (وَهِيَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاتَهُ) فائدة أخرى وذلك؛ لأنه لما قال: (كَقَوْلِهِ: أَعْمَرْتُكَ دَارِي أَوْ ضَيْعَتِي) خاف أن يتوهم قصرها على العقار فعرَّفها بما يعم العقار وغيره. فقد روى ابن القاسم عنمالك في باب العارية جواز العمرى في الرقيق والحيوان، قال: ولم أسمع من مالك في الثياب شيئاً، وهي عندي على ما أعارها من الشرط، وكذلك نص على أن الحلي عنده كذلك في باب الهبة. قوله: (حَيَاتَهُ) أي: حياة الآخذ؛ فإذا مات المعمَر بفتح الميم اسم مفعول رجعت إلى ربها أو لورثته إن مات، ولا فرق في المذهب بين أن تكون معقبة كـ (أَعْمَرْتُكَ) أم لا. وقال أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما: لا تعود لربها وهي للمعمر أعقبها أم لا. وقال ابن شهاب: مذهبنا: إن لم يعقبها، وبالثاني إن أعقبها لما رواه وغيره عنه عليه السلام أنه قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها". هذا لأنه أعطاها إعطاء أوقعت فيه للمواريث، وجوابه ما قال مالك بإثره: أن العمل ليس عليه وأن المسلمين عند شروطهم. على أن بعض أصحابنا أوَّل الحديث وقال: المراد به أنه أعطى المنافع لرجل وعقبه فإنه لا تكون له ولعقبه، ولا يبطل حق عقبه بموته بل حتى ينقرض العقب. خليل: وقول مالك في الموطأ: "ليس العمل على هذا" يقتضي أنه فهمه على خلاف هذا التأويل. صاحب الاستذكار: وسواء عند مالك وأصحابه ذكر ذلك بلفظ العمرى أو السكنى أو الاستغلال أو الإفقار أو الإخبال ونحو ذلك من العطايا. والرُّقْبَى غَيْرُ جَائِزَةٍ مِثْلُ: إِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَدَارِي لَكَ، فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي فَدَارُكَ لِي هو بضم الراء وسكون القاف مقصور، وهي: إعطاء المنفعة لمدة أقصرهما عمراً وهي المراقبة والانتظار؛ لأن كلاًّ منهما يرقب موت صاحبه.

وقوله: (غَيْرُ جَائِزَةٍ) هو قول ابن القاسم؛ لأنه قال في رجلين حبَّسا داراً بينهما على أن من مات منهما أولاً فنصيبه حبس على الآخر: لا خير فيه؛ لأنه غرر لأنهما خرجا عن وجه المعروف إلى المخاطرة. اللخمي: ويختلف في ذلك إذا نزل فعلى القول أن مرجع الحبس إذا كان على معين يعود ملكاً فيبطل هذا الحبس ويصنعان بالدار ما أحبا، وعلى القول بأنه يرجع حبساً يبطل السكنى خاصة وتكون ملكاً لهما حتى يموت آخرهما فتكون على مراجع الأحباس في المدونة بإثر ما تقدم، وسألته عن العبد بينهما يحبسانه على أن من مات منهما أولاً فنصيبه يخدم آخرهما موتاً مدة حياته، ثم يكون العبد حراً بعده فلم يجزه مالك، إلا أنه ألزمهما العتق بعد موتهما. وإن مات منهما يحرم ورثته دون صاحبه ويبطل ما أوصى به في الخدمة؛ لأنه خطر، وإذا مات أحدهما كان نصيب كل واحد حراً من ثلثه كمن قال: إذا مت فعبدي يخدم فلاناً حياته ثم هو حر. واستشكل جمعه بين إلزامه العتق وخروجه من الثلث؛ لأنه إن كان معتقاً إلى أجل يخرج من رأس المال، وإن كان موصى به فلا يلزمه العتق لكونه له الرجوع عنه. وأجيب بأنه كالمدبر وفيه نظر، فإن أصله في مثل هذا أنه لا يكون مدبراً حتى يقصد به التدبير، وإن لم يقصد به ذلك فهو موصى بعتقه على ما قاله في أول كتاب المحجور، قالوا: على وجه التتميم، فإن مات الأول نظر فإن حمل الثلث نصيبه خدم الورثة بقيمة الأجل، وإن لم يحمله الثلث خير الورثة بين أن يجيزوا أو يعتقوا منهم محمل الثلث بتلاً. الثَّانِي: الْمَوْهُوبُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ يَقْبَلُ النَّقْلَ أي الركن الثاني، واحترز بقبول النقل من أم الولد والاستمتاع بالزوجة، فإن ذلك لا يقبل النقل شرعاً، واعترض بأنه تجوز هبة ما لا يجوز نقل الملك فيه كجلد الأضحية

وكلب الصيد. وجوابه أن جلد الأضحية قابل النقل وإنما الممتنع نقله على وجه خاص أعني بالبيع. وظاهر قول ابن شعبان بطلان هبة جلد الأضحية ونحوها؛ لأنه قال: من وهب ما لا يحل بيعه بطلت الهبة كانتل ثواب أو غير ثواب. فَتَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ وَالآبِقِ وَالْكَلْبِ وَالْمَرْهُونِ هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها بالواو وبالفاء أحسن. وقوله: (الْمَجْهُولِ) هو المعروف من المذهب وهو ظاهر المدونة وغيرها. وفي النوادر: أعرف لابن القاسم في غير موضع أن هبة المجهول جائز. نقل المتيطي عن جماعة من الموثقين: الآبق من معرفة المتصدق به وقمدره. واستحب اللخمي ألا يفعل إلا بعد المعرفة بقوله وهبته خوف الندم بعد معرفته به. قال: واختلف إن فعل ثم تبين أنه على خلاف ما كان يظن، فقال ابن القاسم في العتبية فيمن تصدق بميراثه من رجل ثم تبين أنه خلاف ذلك أن له أن يرد عطيته، وكذلك في الواضحة. وقال محمد بن عبد الحكم: لا رجوع له وأرى له مقالاً بردِّ الجميع تارة من غير شركة، وتارة يكون شريكاً، فإن كان الوارث يرى أن للموروث داراً يعرفها في ملكه وبدلها الميت في غيبته بأفضل [642/ب] كان له أن يرد جميع العطية إذا قال: كان قصده تلك الدار، وإن خلف مالاً حاضراً ثم طرأ مال لم يعلم به مضت العطية فيما علم خاصة، وإن كان جميع ماله حاضراً أو كان يرى أن قدره كذا ثم تبين أنه أكثر كان شريكاً بالزائد. ابن عبد السلام: ولا خلاف في جواز هبة الكلب؛ لأنه يورث. وقوله: (وَالْمَرْهُونِ) تصوره ظاهر. ثم فرع على ذلك فقال:

وَيُخَيَّرُ الْمُرْتَهِنُ فِي إِمْضَائِهَا؛ فَإِنْ لَمْ يُمْضِ فَفِي جَبْرِهِ عَلَى افْتِكَاكِهِ مُعَجَّلاً إِنْ كَانَ لا يَجْهَلُ أَنَّ الْهِبَةَ لا تَتِمُّ إِلا بِتَعْجِيلِهِ- قَوْلانِ، وَعَلَى النَّفْيِ يَحْلِفُ مَا قَصَدَ التَّعْجِيلَ، وَيَقْضِي فِي الأَجَلِ إِنْ كَانَ مُوسِراً وَيَاخُذُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ... إذا وهب الراهن ما رهنه خير المرتهن في إمضاء الهبة وعدم إمضائها، فإن أمضى فلا كلام ولوضوحه تركه المصنف، وإن لم يمضها ففي إجبار الواهب على افتكاك المرهون معجلاً إن كان الواهب لا يجهل أن الهبة لا تتم إلا بتعجيل الدين قولان، مذهب المدونة الإجبار. اللخمي: وقد قيل في هذا الأصل: ليس عليه أن يعجل، وهذا هو الذي فرعه المصنف على نفي إجبار حيث قال: وعلى النفي يحلف ما قصد التعجيل. وكلام اللخمي يدل على أن هذا القول ليس نصاً في عين المسألة خلاف المصنف وابن شاس. ومفهوم قوله: (إِنْ كَانَ لا يَجْهَلُ) أنه إن كان يجهل لم يجبر وهو ظاهر؛ لأنه لا يمين عليه؛ لأنه إنما جعل اليمين على القول بنفي الإجبار. ويحتمل أن يقدر قوله: (وَعَلَى النَّفْيِ) أي: وعلى الحكم بنفي الجبر، فيدخل في كلامه من يجهل ومن لا يجهل على أحد القولين. وقد نص اللخمي وابن شاس على أنه إن كان ممن يجهل ذلك يحلف على ذلك ولا يجبر على تعجيل اتفاقاً. وظاهر قوله: (فَفِي جَبْرِ الْوَاهِبِ) أنه إن رضي بالتعجيل وأجبر عليه فلا مقال للمرتهن. وقيده بعض القرويين بما إذا لم يكن الدين عروضاً مؤجلة، وأما إن كان عروضاً مؤجلة فلا يجبر المرتهن على أخذها ويبقى العبد ونحوه رهناً وليس له أن يعطيه رهناً آخر.

وقوله: (وَيَقْضِي فِي الأَجَلِ) هو مفرع على عدم إجباره، وبقي الرهن في يد المرتهن فإنه إذا حل الأجل والواهب موسر قضى الدين وأخذ الموهوب له الرهن، ثم ما ذكره المصنف إنما هو كله إذا كان المرتهن قد قبض الرهن، وأما إن لم يكن قبضه وقبضه الموهوب له فقال ابن المواز: هو أحق به من المرتهن إذا كان الواهب موسراً ولا يعجل للمرتهن حقه؛ لأنه فرط في حيازته، وإن كان معسراً فالمرتهن أولى به إلا أن يكون وهبه لثواب، وإن وهبه ثم مات قبل أن يحوزه واحد منهما فإن كان موسراً جازت الهبة وكان أحق به من المرتهن وحكم للمرتهن بتعجيل حقه، وإن أعسر بعد ذلك أتبعه بحقه. وقوله: (فَفِي جَبْرِ) صوابه إجبار؛ لأنه من أجبر. وَتَصِحُّ هِبَةُ الدَّيْنِ، وَقَبْضُهُ كَقَبْضِهِ فِي الرَّهْنِ مَعَ إِعْلامِ الْمِدْيَانِ بِالْهِبَةِ يعني: وسواء كان الدين أو غيره؛ لأن الدين عام. فإن قيل: قوله: (وَقَبْضُهُ كَقَبْضِهِ فِي الرَّهْنِ ... إلخ) يدل على أنه لم يرد ذلك إلا إذا كان على غير المديان، قيل: تخصيص الضمير لا يقتضي تخصيص الظاهر على الصحيح، وقد سمع إعلام المديان زيادة بيان؛ لأن قوله: (كَقَبْضِ الرَّهْنِ) يغني عنه، ألا ترى أنه قال في كتاب الرهن: (وَقَبْضُ الدَّيْنِ بِالإِشْهَادِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْغَرِيمَيْنِ إِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ) ثم إن إعلام المديان إنما هو مع حضوره، وأما إن كان غائباً ففي المدونة: ويصح القبض إذا أشهد وقبض ذكر الحق، وهكذا تقبض الديون. ولم يتعرض المصنف لدفع الوثيقة. وفي المدونة في الهبة: وإن كان دينه على غيرك بوهبه لك فإن أشهد وجمع بينك وبين غريمه ودفع إليك ذكر الحق وأحالك عليه كان ذلك قبضاً. وحمله صاحب النكت على ظاهره من أنه إذا لم يدفع ذكر الحق لا تتم الهبة بموت الواهب كالدار المغلقة إذا لم يعطه مفتاحها حتى مات الواهب أنه لا يصلح للموهوب له شيء، وإن أشهد له وجعل دفع الوثيقة في وثائق ابن العطار من شروط الكمال.

وظاهر قول المصنف: (مَعَ إِعْلامِ الْمِدْيَانِ بِالْهِبَةِ) وقوله في المدونة: "وجمع بينه وبين غريمه" أن ذلك شرط ويجب أن يجعل ذلك على أنه شرط كمال؛ لأنه قد حكى في البيان في الجزء الثاني من الصدقات الاتفاق على عدم اشتراطه، فقال: ولا خلاف في أن الذي عليه الحق حائز لمن تصدق عليه به إن لم يعلم المتصدق عليه غائباً أو حاضراً. الثَّالِثُ الْوَاهِبُ: مَنْ لَهُ التَّبَرُّعُ أي الركن الثالث: الواهب. قوله: (مَنْ لَهُ التَّبَرُّعُ) وهي إخراج المال من غير عوض؛ أي من لم يحجر عليه، وقد تقدم بيان المحجور عليهم في باب الحجر. وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِهِ ظاهر. وَشَرْطُ اسْتِقْرَارِهَا لا لُزُومِهَا الْحَوْزُ كَالصَّدَقَةِ هذا هو المعروف أن الهبة والصدقة يلزمان بالقول ولا يتمان إلا بالقبض. قوله: (كَالصَّدَقَةِ) تشبيه لإفادة الحكم، وروي عن مالك أنها تلزم بالقول وللواهب الرجوع فيها، وإنما تلزم بالقبض. وحكى أبو تمام أن الصدقة والحبس يتمان بالقول ولا يُفْتَقر إلى حيازة. وعلى الأول فقال ابن القاسم: يقضى عليه بإخراج الصدقة مطلقاً. قال أشهب: لا يجبر على إخراجها إلا إذا كانت الصدقة على معين يلي خصومته، ودليل اللزوم بمجرد القول أن هذا عقد هبة حصل بالإيجاب ولاقبول والإشارة يحتمل عودها على قوله: (وَشَرْطُ اسْتِقْرَارِهَا) ويحتمل أن تعود إلى قوله: (إِلا فِي صَدَقَةِ أَبٍ) وكلاهما صحيح على قول ابن القاسم وأشهب في افتقار الهبة إلى القبول وعدمه، فلم يكن

له رده قياساً على البيع ولقوله أو جواباً لعقده، ولما في الصحيح: "العائد في هبته كالكلب يعومد في قيئه"، فشبه الراجع بالكلب والمرجوع عنه بالقيء، وذلك غاية التنفير المقتضي للمنع. إِلا فِي صَدَقَةِ أَبٍ عَلَى صَغِيرٍ وَعَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ هذا الاستثناء من شرط [643/أ] الاستقرار؛ أي إلا في صدقة أب على صغير فلا يشترط في استقرار صدقته أو هبته الحوز؛ ولو قال: إلا في عطيته ليشمل الهبة وغيرها لكان أحسن، وتخصيصه الصغير والأب ليس بظاهر؛ لأنَّ السَّفيه في هذا كالصَّغير والوصي ومقدم القاضي سيان كالأب، إلا أن يقال: إنما خصصهما؛ لأنه محل الدليل أعني موافقة علماء المدينة، فمن ذلك قول عثمان: "من نحل ولداً له صغيراً لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة". وفي الواضحة نحوه عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. ابن عبد السلام وغيره: واستثناؤه يوهم أن الحيازة تسقط في عطية الأب ابنه الصغير وليس كذلك، وإنما الذي اختص به الأب ومن يتنزل منزلته في حقّ الصَّغير والسَّفيه أن يكون حائزاً لما وهب لهما، فيقال في الإشهاد: رفع يد الملك ووضع يد الحوز، وألحقوا الأب بالأجنبي في سكناه وما يلبسه فشرطوا معاينة الشهود للدار خالية من شواغل الأب ولحوز الملبوس. ونقل أبو محمد صالح الاتفاق على أنه إذا أشهد الأب على هبته لولده ولم يزيدوا على قوله: اشهدوا أني وهبت له كذا- فهي حيازة، وهذا فيما يعرف بعينه من الأصول والعروض، واختلف فيما لا يعرف بعينه كالذهب والفضة واللؤلؤ والمكيلات والموزونات؛ فروى ابن القاسم عن مالك وبه أخذ المصريون وغيرهم: أنه لا يتم الحوز ولو ختم عليه

بحضرة الشهود إلا أن يجعل على يد غيره، وذهب المدنيون إلى أنه يتم الحوز فيها بوضعها على يديه إذا أحضرها بحضرة الشهود وختم عليها بخاتمه، قالوا: وتصح أيضاً وإن لم يختمها بحضرة الشهود ولو ختموا عليها كان خيراً وأحسن. وروي أيضاً عن مالك وقريب منه في الموطأ: أنه يجوز إذا أبرزه وإن لم يخرجه من يده، قيل: وبالأول جرى العمل وهو مذهب الرسالة لقوله: وإنما يحوز له ما يعرف بعينه. وَتُحَازُ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ الضمير في (تُحَازُ) عائد على الهبة، وفي (بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ) يعود على الواهب. وقوله: (وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ) أي: الواهب على الوز إذا أباه وهذا على أنها لازمة بالقول وهو المشهور من المذهب على ما تقدم. وفي المدونة والموازية مثل ما ذكره المصنف. وإذا فرَّعنا على المشهور اختلف المذهب في حيازة الرهن هل يشترط فيها إذن الراهن؟ واختلف في اشتراط أمر الأخذ في حيازة الهبة إذا حازها له غيره، فقال مطرف في من تصدق على ابنته وهي ذات زوج بمسكن فخزن الزوج فيه طعاماً حتى مات الأب: أن ذلك حيازة للبنت. وقال أصبغ: لا يكون حيازة إلا أن توكله، ورواه ابن القاسم في الذي يتصدق على رجل غير سفيه بدراهم وجعلها على يد غيره وهو حاضر أنها حيازة إذا لم يشترط على المدفوع إليه ألا يدفعها إلا بأمره، ولا خلاف أنه إذا اشترط ألا يدفعها إلا بأمره أنها لا تمضي كما لا خلاف إذا قال له: خذها له، أو ادفعها له، وقال الموهوب: أمسكها عندك- أنها تمضي. واختلف إذا لم يقل: ادفعها، ولا: أمسكها، ولو شرط إمساكها حتى يموت الواهب فلا خلاف أنها وصية ماضية من الثلث، وقاله محمد.

وَيُشْتَرَطُ حُصُولُهُ فِي صِحَّةِ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَقِيَامِ وَجْهِهِ أي: يشترط في تمام الهبة حصول الحوز في صحة جسم الواهب وعقله وقيام وجهه. واحترز بصحة الجسم من مرض الموت لما في الموطأ أن أبا بكر رضي الله عنه نحل ابنته أحداً وعشرين وسقاً، فلما حضرته الوفاة فقال: "والله يا ابنتي ما من الناس أحب إليَّ غنىً بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقراً منك، وإنه كنتُ نحلتك بواحد وعشرين وسقاً، فلو كنت جردتيه واحتزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هم أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله". واحترز بصحة عقله مما لو جن الواهب قبل الحوز توقف، فإن صح الواهب لزمت وإن اتصل ذلك بالموت بطلت كما سيأتي من كلام المصنف، والمراد بقيام الوجه: ألا يفلس. ابن عبد السلام: وظاهر كلامهم في غير هذا الموضع أن قيام الوجه هو السلامة من التفليس بالحكم من قيام الغرماء بدين إن أحاط دينهم بمال الغريم ولو لم يحكم القاضي بفلسه، وأما هذا الموضع فإحاطة الدين بمال الواهب مانعة من الحيازة، فقد نص الباجي على أنها لو حيزت وقد كان تداين ديناً يحيط بماله قبل العطية أنها لا تحاز؛ لأنه ليس له أن يعطي ملك غيره. أصبغ في العتبية: وإن كانت قيمة الموهوب أكثر من قيمة الدين أن يبيع جميعه وإن بيع بقدر الدين قصر عنه فإنه يباع جميعه فيقضي منه الدين ويعطى ما بقي للواهب ولا شيء للموهوب له، كما لو استحقه مستحق؛ لأن الغرماء استحقوه من يده، وأما إن أداه بعد العطية وقبل الحيازة فقال مطرف وابن الماجشون: الدين أولى وتبطل الصدقة والهبة فاعتبر يوم الحيازة، وقال أصبغ: الصدقة أولى من الدين المستحدث وإن لم تقبض، وإنما يراعى يوم الصدقة لا يوم الحيازة.

الباجي: وإذا قلنا بمراعاة، فقال أصبغ: إذا تقدم الدين وقد كان له وفاء يوم الصدقة أو بعده فالصدقة المقبوضة أولى، وإن كان الأب حازها لولده الصغير حتى يعرف خلاف ذلك، كما لو استغل ما تصدق به عليهم، ولم يدرَ استغل لنفسه أو لهم فالصدقة ماضية حتى يعلم أنه إنما كان استغلها لنفسه دونهم. [643/ب]. وروى أبو زيد عن ابن القاسم في الصدقة المقبوضة لا يدري هل الدين قبلها أو بعدها: الصدقة أولى حتى يعلم أن الدين قبل، ونحوه في المدونة. وَالْعَارِيَّةُ وَالْقَرْضُ كَالْهِبَةِ فِي الْحَوْزِ يريد: وكل معروف كالعارية والمنحة والعمرى والسكنى والحبس. ابن عبد السلام: واختلف في الكفالة، والمشهور أنها لا تفتقر إلى حيازة. فَلَوْ مَاتَ قَبْلَهُ وَهُوَ جَادٌّ فِيهِ أَوْ سَاعٍ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الْهِبَةِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حَوْزٌ وَصَحَّتْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: بَطَلَتْ ... أي: مات الواهب قبل الحوز والموهوب له جاد فيه؛ أي: في القبض، أو في الطلب المفهوم من السياق، والموهوب له ساعٍ في تزكية شهود الهبة لكون الواهب أنكره، فقال ابن القاسم في المدونة والموازية: هي تامة ويقضى بها للموهوب، واستشهد بالمفلس إذا خاطبه الرجل في غير سلعته ثم مات المفلس: أن ربها أحق بها إن ثبت ببينة. ابن المواز: وليس له إيقافها إلا في البينة القريبة مثل الساعة، وأما ببينة بعيدة فلا يحال بينه وبين ربها إلا بشاهد. وقوله: (حَوْزٌ وَصَحَّتْ) ويستغنى بأحدهما عن الآخر. وقال ابن الماجشون: وتبطل الهبة، ورأى أن غاية البينة أن يكون كإقرار الواهب، ورأى أن غاية البينة أن يكون كإقرار الواهب، ولو أقر له ومات قبل القبض بطلت.

وقال أشهب: إذا حال القاضي بينه وبينها حتى لا يجوز حكمه فيها فليقضِ بما ثبت عنده فيها، كما كان يقضي في حياته وإن لم يمنع منها المعطى ولم يطلبها فهي باطلة. ابن راشد: وينبغي إذا لم يعلم بالهبة- فلمَّا مات الواهب دفع له عقد الهبة وعلم ذلك- ألا تبطل، وقد وقعت بتونس ووقع فيها اضطراب، ووجدت في الطراز أنه معذور بعدم علمه وهو الصواب، والله أعلم. فَإِنْ مَرِضَ أَوْ جُنَّ بَطَلَ الْقَبْضُ إِنِ اتَّصَلا بِالْمَوْتِ فَإِنْ صَحَّ فَلَهُ الطَّلَبُ الأَوَّلُ هو ظاهر التصور ولا إشكال في المرض. وأما المجنون فوقع لابن القاسم في العتبية في امرأة تصدقت على رجل بعبد أو دين فلم يحز عنها حتى ذهب عقلها أنه كالموت والتفليس. الباجي: يريد: فتكون موقوفة فإن برئت فهي على صدقتها، وإن اتصل ذلك بموته بطلت فهذا الحق ما ذكره المصنف. ابن عبد السلام: وهذا إنما ينبني على الشاذ في أن الهبة لا تلزم بالقول، وأما على المشهور أنها تلزم بالقول بمقتضى القياس كون دفعها للموهوب له، والفرق بين ذهاب العقل وبين المرض والدين أن الحق في ذهاب العقل للواهب، وقد أسقط بالتزامه، والحق في المرض والدين لغير الواهب وهو الوارث والغريم. انتهى. فكأنهم يرون أن الجنون مرض. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ قَبَضَ فِيهِمَا فَثَالِثُهُمَا: وَصِيَّةٌ وَلا أَرَى قَوْلَ مِنْ جَعَلَهَا وَصِيَّةً وَلا قَوْلَ مَنْ أَبْطَلَهَا ... (فِيهِمَا) أي: في المرض والجنون، وأعاد الضمير عليهما؛ لأنهما يفهمان من (مَرِضَ أَوْ جُنَّ).

قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ) هو معطوف على ما تقدم؛ وذلك لأنه قدم أن المرض يبطل القبض، ثم قال: (وَقَالَ أَشْهَبُ) فكأنه يقول: المشهور أنه إذا مرض بطلت الهبة وإن قبض في المرض؛ وهو صحيح، وقد نقل الباجي أن ابن القاسم روى عن مالك أنه إذا قبض في المرض لا يجوز وإن كانت من غير وارث، قال: واحتج بحديث أبي بكر رضي الله عنه ثم ذكر قول أشهب، وقوله في الموازية قال: يقضي له الآن بثلثها فإن صح قضى له بباقيها، ولا أرى قول من قال: تجوز كلها من الثلث، ولا قول من أبطلها. ابن المواز: وأظن جوابه يعني أنه لم يراعِ غيرها فلذلك قال: ثلثها، ونقل عن أشهب أيضاً أنه قال: ذهب ربيعة رضي الله عنه إلى أنه إذا لم يجز المعطي عطيته حتى مات المعطي أن له ثلث العطية. وقال ابن شهاب وغيره: هي للمعطى إن حملها الثلث، ولا أقول ما قالاه. وَلَوْ فَلَّسَ وَلَوْ بِحَادِثٍ بَطَلَتْ ولو فلس الواهب ولو بدينٍ بعد الهبة بطلت خلافاً لأصبغ، فإنه قال: تبطل بحادث، وقد تقدم. وَبَقَاؤُهُ فِي الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ بِاكْتِرَاءٍ أَوْ إِعْمَارٍ أَوْ إِرْفَاقٍ حَتَّى مَاتَ مُنَافٍ لِحَوْزِهِ أي: بقاء الواهب في الدار الموهوبة بأي وجه كان إلى أن يموت لا يصح معه حوز الهبة وتبطل. وَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْنَ هِبَةِ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ دَارَ سُكْنَاهُمَا؛ لأَنَّ الْيَدَ فِي السُّكْنَى لِلزَّوْجِ ... هو كالاستثناء من إبقاء الواهب في دار سكناه مبطل؛ أي: إلا في هبة الزوجة للزوج داراً وهي ساكنة معه فيها فإنها في ذلك تصح الحيازة بخلاف العكس.

وقوله: (لأَنَّ الْيَدَ فِي السُّكْنَى لِلزَّوْجِ) تعليل للفرق، ويعلم به حكم المسألتين وإلا فالمصنف لم يصرح بحكمهما. (وَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ) في العتبية، ونسبة التفرقة له مشعرة أن هناك من يخالفه وهو كذلك؛ لأن ابن القاسم روى عن مالك أنه حوز في الوجهين، وروى أشهب أنه حوز ضعيف لا يصح في الموضعين، هكذا حكاه ابن زرقون عن ابن العطار، وإن كان صاحب البيان قال: لا أحفظ فيه كلاماً. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون نسبة هذا الكلام لابن القاسم إشارة إلى أنه كالمناقض لما بعده، وأنه يتخرج في المسألة ثلاثة أقوال من المنصوص في كل واحد منهما. وَأَمَّا الْخَادِمُ عِنْدَهُمَا وَمَتَاعُ الْبَيْتِ يَهَبُهُ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لازِمٌ، وَرَوَى أَشْهَبُ: أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ .... ضمير (عِنْدَهُمَا) و (أَحَدُهُمَا) عائد على الزوج والزوجة، فروى ابن القاسم؛ أي: في الموازية والعتبية: أن الهبة جائزة، وروى أشهب في الكتابين أنه ضعيف وما هو بالبيِّن. واعلم أنه لم يذكر في رواية ابن القاسم متاع البيت، وكلام المصنف يوهم ذكره في الرواية، نعم روى محمد [644/أ] عن ابن القاسم وابن عبد الحكم أن متاع البيت كالخادم؛ أي على رواية ابن القاسم. محمد: وبه أقول. ابن رشد وابن زرقون: والأظهر أن يغلب، فأشارا إلى تفرقة ابن القاسم في السكنى ففرقا واستدلا على ذلك باتفاقهم على أن القول قول الزوج إذا اختلفا في متاع البيت فيما يكون للرجال والنساء، قالا: وقد قيل القول قوله فيما عرف من متاع النساء وأنه لا يد له معه. وقوله: (عِنْدَهُمَا)؛ أي يكون هذا الموهوب مستعملاً بينهما، وكذلك قال الباجي قال: وأما ما يستعمل منفرداً كعبد الخراج ففي العتبية من سماع أشهب عن مالك في امرأة

نحلت ابناً لها صغيراً عبداً فلم يحزه الأب ولا الولي حتى ماتت الأم أن ذلك مختلف، فأما غلام الخراج فليس بحوز للصبي، وأما غلام الخدمة يخدمه ويختلف معه ويقوم في حوائجه فإنه حوز، وكذلكلو نحله أبوه الغلام وهو مع أبيه لكن اختلافه معه وخدمته للحوز، وإن خدم الأب مع الغلام إلى أن مات الأب. وَلَوْ حَازَهَا ثُمَّ أَجَّرَهَا أَوْ أَرْفَقَ بِهَا الْوَاهِبُ فَرَجَعَ إِلَيْهَا عَنْ قُرْبٍ بَطَلَتْ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ فَقَوْلانِ ... أي (لَوْ حَازَهَا) الموهوب الهبة (ثُمَّ أَجَّرَهَا) للواهب (أَوْ أَرْفَقَ بِهَا الْوَاهِبُ) فرجع إلى الهبة عن قرب (بَطَلَتْ) الهبة باتفاق لما دلت عليه القرينة أن ذلك تحيُّل لإسقاط الحيازة، وهكذا صرح الباجي وغيره بالاتفاق. وإن كان عن طول وهو سنة فقولان، وأقربهما أن ذلك لا يضر وهو الذي رواه محمد عن مالك وأصحابه، والقول بأن ذلك يبطلها لمطرف وابن الماجشون. ووقع في بعض النسخ عوض قول المصنف: (قَوْلانِ) (رِوَايَتَانِ) والأولى أصح؛ لأن الثاني ليس هو رواية. وقد رجح قول مطرف بالقياس على الرهن، ويجاب أن الرهن على ملك الراهن ولذلك اشترط فيه استدامة الحيازة بخلاف الموهوب، ويدل على هذا اتفاقهم على أنه لو رجع الواهب في الهبة مختفياً أو ضيفاً فمات أن ذلك لا يبطل الهبة وإن كان عن قرب، وهو معنى قوله: وَلَوْ رَجَعَ مُخْتَفِياً أَوْ ضَيْفاً فَمَرِض فَمَاتَ لَمْ تَبْطُلْ وَلَوْ كَانَ عَنْ قُرْبٍ أي: ولو بعد يوم، قاله مطرف وابن الماجشون، وهذا بخلاف الرهن فإنه يبطل بذلك.

قوله في صدر المسألة: (وَلَوْ حَازَهَا ثُمَّ أَجَّرَهَا) يدل على أن الموهوب له يحوز لنفسه، أما إن كان صغيراً فحاز عنه الأب أو غيره ثم رجع الأب إليها قبل أن يكبر ويحوز لنفسه سنة فهي باطلة. محمد: لا يختلف في ذلك مالك وأصحابه، والفرق بين الصغير والكبير أن الولد الكبير يتصور منه منع الأب من الرجوع في الهبة فلا يعد رجوع الأب إليها رجوعاً في الهبة، والصغير لا يقدر على ذلك فيعد رجوعه رجوعاً في الهبة. وما ذكره ابن المواز من الاتفاق على بطلانها بذلك إذا سكنها الأب وحده، وأما إن سكن فيها مع الولد فظاهر قول مالك أيضاً البطلان. وحكى أبو محمد مكي في كتاب الاختلاف عن ابن حبيب أنها لا تبطل؛ لأنه إنما سكن بحضانته لهم. وَلَوْ بَاعَ الْوَاهِبُ فَإِنْ عَلِمَ نَفَذَ وَالثَّمَنُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ رُدَّ وَهُوَ عَلَى طَلَبِهِ يعني: لو باع الواهب الهبة قبل أن يحوزها الموهوب له افترق الحكم بسبب علم الموهوب له وعدم علمه، فإن علم الموهوب له نفذ البيع والثمن للموهوب له، هكذا في المدونة على إحدى الروايتين، وذلك أنه قال في أول كتاب الصدقة: ومن تصدق على رجل بصدقة ولم يقبضها حتى بيعت تم البيع وكان الثمن للمعطي. وروي بفتح الطاء اسم المفعول وهذا موافق لكلام المصنف، وروي بكسر الطاء اسم فاعل ومقتضى القياس خلاف الروايتين؛ إذ الهبة تلزم بالقول فكان القياس يقتضي أن يجيز الموهوب في إجازة البيع أو رده، إلا أنهم راعوا قول من يقول: إنها لا تلزم إلا بالقبض. قوله: (وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ)؛ أي: الموهوب له بالهبة رُدَّ البيع والموهوب له على طلبه بالحوز. وقوله: (رُدَّ) إن أراد الموهوب له ذلك، وإن أراد إمضاءه فله ذلك كبيع الفضولي.

ابن يونس: وكذلك يكون له رد البيع إذا علم الموهوب له ولم يفرط حتى جاعله؛ يعني المتصدق بالبيع، ونحوه لأصبغ. وما ذكره المصنف من التفرقة بين علم الموهوب له وعدم علمه هو مذهب المدونة، ولابن القاسم أن البيع أولى؛ لأن البيع عقد معاوضة فكان أولى، ونحوه لأشهب. وروى أبو زيد عن ابن القاسم يرد البيع ويأخذ المعطي عطيته فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: ثالثها المشهور: الفرق فإن علم نفذ وإن لم يعلم رد. وزاد المتيطي رابعاً بأن المتصدق عليه أولى إن كان لم يفرط في الحيازة، وإن فرط لم يكن له شيء وهو قوله في العتبية. وخامساً: الفرق بين ألا يمضي من المدة ما لا يمكنه فيه الحوز فيكون أحق وبين أن يمضي ما يمكنه فيه الحوز فلا يكون له إلا الثمن. وسادساً أنه إن مضى ما يمكنه فيه الحوز لم يكن له شيء. الباجي: وإذا قلنا ينقض فروى محمد عن ابن القاسم إنما ذلك المعطى المعين فيقضى له، وأما إن كان لغير معين مثل أن يجعل داره في السبيل ثم يبيعها فلا يبطل البيع؛ لأنه لا يقضى عليه بها، وإن قلنا بإمضاء البيع فقال أشهب وابن عبد الحكم: تبطل الصدقة ولا شيء للمعطى من الثمن. وروى ابن حبيب [644/ب] عن مطرف: إن كان المعطى حاضراً فلم يقم حين علم بالبيع مضى وله الثمن، فإن مات المعطي على إثر ذلك ولم يفرط بطل البيع لكون العطية ملكاً. مطرف وابن القاسم: ولو كان المعطي غائباً فقدم في حياة المعطي خير بين رد البيع وأخذ الثمن.

فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ عِلْمِهِ فَفِي بُطْلانِهَا قَوْلانِ. وَاضْطَرَبَ فِيهَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ بِخِلافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ ... أي: فإن مات الواهب قبل علم الموهوب بالهبة وقد كان الواهب باعها فقال ابن القاسم في المدونة وغيرها: بطلت. قال بعض من تكلم هنا: بطلت، والقول بعدم البطلان لا يكاد يوجد؛ لأن الواهب مات قبل حيازة الموهوب له، ولاسيما وقد انضم إلى هذا مبطل آخر وهو بيع الواهب لها وليس وهمه في هذا، والله أعلم أن ابن شاس ذكر مسألة البعي ثم مسألة الموت ثم قال: وقال محمد: اضطرب قول ابن القاسم فظن أن هذا الاضطراب راجع إلى الموت فذكر فيه قولين وليس كذلك، وإنما راجع إلى أول المسألة، وكذلك ذكره الباجي وغيره في مسألة البيع. انتهى. خليل: ويمكن أن يجعل هذه مستقلة لا مفرعة على التي قبلها ويكون ضمير (مَاتَ) عائداً على الموهوب، ويكون القول بالبطلان معللاً بعدم القبول، والقول بالبطلان معلل بالقبول كما قالوا في من أرسل هدية، والله أعلم. وقوله: (بِخِلافِ الرَّهْنِ) ابن راشد: يعني لأنه إذا باعه قبل القبض نفذ من غير خلاف. انتهى. وقد قال بعضهم: معناه بخلاف ما لو رهن العطية فإن الرهن يبطل وتصح العطية، ونحوه للباجي لأنه قال: ولو رهن المعطي العطية قبل القبض فقال ابن القاسم في من حبس على ابنه ثم رهنه فمات: بطل الرهن وثبت الحبس. وفي بعض النسخ بعد قوله: (بِخِلافِ الرَّهْنِ) فإنها تبطل إذا رهنها وهكذا حكى ابن شاس، أما لو رهنها الواهب ثم مات فقال ابن القاسم: ثبت الرهن وتبطل الهبة.

فَلَوْ كَانَ وَهَبَهَا وَحَازَهَا الثَّانِي فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ لِلأَوَّلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ وَالْحَائِزُ أَوْلَى ... يعني: فلو وهب الواهب الهبة بعدما وهبها ولم يكن الأول قد حازها وحازها الثاني، فقال ابن القاسم: هي للأول، وقال أشهب- وهو اختيار محمد: الثاني أولى بحيازته؛ وروي أيضاً عن ابن القاسم. والأول أقيس؛ لأن الهبة عندنا تلزم بالقول فلم يهب إلا ملك الأول، وظاهر هذين القولين أنه لا فرق بين أن يفرط الموهوب له أو لا، وزاد في البيان في الرابع من الصدقات قولين آخرين؛ أحدهما: أن يعلم فيفرط أو لا يعلم، والثاني: الفرق بين أن يمضي من المدة ما يمنكه فيه القبض أم لا، وعلى قول ابن القاسم فقال أصبغ في العتبية: إن علم الموهوب بالهبة وفرط فلا شيء له، وإن لم يعلم أو علم ولم يفرط وقدم المتصدق فعاجله بأن تصدق بها على غيره، فالأول أولى إن أدركها قائمة فله قيمتها على المتصدق، وهذا الفرق يقوي قول أشهب فوقه؛ إذ لم ينزل الهبة منزل البيع. فَإِنْ أَعْتَقَ الْوَاهِبُ الأَمَةَ أَوِ اسْتَولْدَهَا فَفِي رَدِّهِ وَتَقْوِيمِ الأَمَةِ قَوْلانِ أي: قبل حوز الموهوب له، والقول بإنفاذ العتق والاستيلاد من غير قيمة لابن القاسم في العتق الثاني من المدونة: وسواء علم المعطي بالهبة أو لم يعلم، وقاله في الموازية والعتبية، والقول برد العتق ولزوم قيمة الأمة في الإيلاد لابن وهب وهو أقيس وله رده- راجع للعتق وتقويم الأمة للإيلاد فهو لف ونشر، وزاد في البيان ثالثاً للمغيرة: أن العتق أولى على كل حال إلا أن يكون بين الصدقة والعتق ما لا يمكن فيه الحوز من المدة. الباجي: إذا قلنا بقول ابن القاسم فكاتب الواهب العبد أو دبره أو أعتقه إلى أجل فقال أصبغ: يمضي ولا شيء للمعطي في خدمة المدبر ولا كتابة المكاتب ولا رقبته إن عجز.

ابن القاسم: ولو قتله رجل فالقيمة للموهوب له. الباجي: لأن قتله ليس بمعنى الرجوع. وَفِي بَيْعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَهِبَتِهِ قَوْلانِ، بِخِلافِ الْعِتْقِ سقطت هذه النسخة من نسخة ابن راشد وابن عبد السلام هي ثابتة عندنا؛ أي: إذا وهب الموهوب له الهبة أو باعها قبل أن يقبضها فهل ذلك حوز ولا يضر بعد ذلك موت الواهب قولان؛ والقول بأنه حوز لمطرف ونحوه لمالك من رواية ابن وهب، لكن قال: إن أشهد المعطي على فعله وأعلن. وقال أصبغ: ليس حوزاً. وروى ابن الماجشون أن البيع حوز وليست الهبة حوزاً؛ لأنها محتاجة إلى حوز، واتفقوا على أن العتق حوز، وإلى هذا أشار بقوله: (بِخِلافِ الْعِتْقِ). وَمَنْ حَبَسَ دَاراً أَوْ دُوراً وَهُوَ فِي بَعْضِهَا وَحِيزَ الْبَاقِي فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا حِيزَ لَزِمَ دُونَ الْبَاقِي، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ كَثِيراً لَزِمَ الْجَمِيعُ، وَإِلا فَلا ... أي: أو وهب أو تصدق، فإن سكن بيتاً صغيراً منها؛ أي من دور كثيرة، أو داراً صغيرة منها؛ أي من دور كثيرة، (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا حِيزَ لَزِمَ) وهذا القول حكاه ابن الجلاب وقال: يبطل ما سكنه قليلاً كان أو كثيراً. واعتبر في هذا القول كل شيء بانفراده، وقيل: إن كان المحاز كثيراً لزم الجميع؛ يعني: ما سكن وما حيز عنه، مثل أن يسكن داراً صغيرة من دور أو بيتاً صغيراً من دار، هكذا حكى ابن شاس هذا القول واعتبر فيه التبعية. وحكى ابن شاس قولاً ببطلان الجميع بمطلق [645/أ] السكنى. وفي المدونة: ومن حبس على صغار ولده داراً أو دوراً أو وهبها لهم أو تصدق بها عليهم فذلك جائز وحوزه لهم حوز، إلا أن يكون ساكناً في كلها أو جلها حتى مات فيبطل جميعها أو تورث على فرائ الله، وأما الدار الكبيرة ذات المساكن سكن أقلها وأكرى لهم باقيها فذلك نافذ فيما سكن وفيما لم يسكن.

مالك: وقد حبس زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وسكنا منزلاً منهما حتى ماتا فنفذ حبسهما في ما سكنا وفي ما لم يسكنا. وفرق بعضهم بين الحبس والصدقة فلم يجزه في الصدقة. اللخمي: وإن سكن النصف وحيز النصف بطل ما سكن وصح ما لم يسكن، ونسبه لابن القاسم وأشهب بجعل القليل دون النصف والكثير ما فوقه. وفي الواضحة: القليل ما دون الثلث. وفي الموازية عن ابن القاسم وأشهب: إن سكن قدر الثلث فأقل جاز الحبس. وفي المتيطية: إن سكن ثلث الحبس أو أقل نفذ الحبس في ما سكن وفي ما لم يسكن، وإن كان أكثر من الثلث لم يجز شيء من الحبس ورد جميعه ميراثاً، هذا مذهب المدونة وبه الحكم. انتهى. ففهم أن الثلث كثير وهو خلاف ما قاله اللخمي. ولأصبغ قول آخر بالتفصيل بين الدار والدور، فقال في الدور: ما سكن منها من دار فهي باطلة وصح غيرها قل أو كثر، وأما دار واحدة فإن سكن منها يسيراً جازت كلها وإن سكن أكثرها بطلت، ولا يظهر لتخصيص المصنف بالحبس معنى. وقد نص في المدونة على أن الهبة والصدقة كالحبس كما تقدم ولاسيما والباب إنما هو معقود للهبة. وقيد صاحب البين الإطلاق في سكنى الأب الأكثر من الدور وبما إذا كان هو الحائز، قال: وأما إن سكن الأب الأكثر أو الجل وحاز الكبار بقيتها فيجوز لهم ما حازوه، ولا أعرف فيه نص خلاف. وَفِي جَعْلِ هِبَةِ الْمَغْصُوبِ كَالدَّيْنِ يَحُوزُهُ بِالإِشْهَادِ قَوْلانِ. وَاخْتَارَهُ سُحْنُونٌ وَأَنْكَرَهُ يَحْيَى ... يعني: إذا وهب ما تحت يد الغاصب لم يكن الإشهاد حيازة عند ابن القاسم وأصبغ في المدونة. وقال أشهب: هي حيازة كالدين.

قوله: (يَحُوزُهُ بِالإِشْهَادِ) بيان لحكم الدين المشبه به وهي جملة في موضع الحال من الدين، وذلك لأنه لما شبه هبة المغصوب بالدين في أحد القولين- بَيَّن حكم الدين، وهي زيادةُ إيضاحٍ، وإلا فقد قام ذلك. قوله: (وَاخْتَارَهُ سُحْنُونٌ) اختار جعله كالدين، وضمير (أَنْكَرَهُ) عائد على الجعل أو على الاختيار المفهوم من (اخْتَارَ). واختار محمد أيضاً قول أشهب إلا أنه خالفه في الحجة؛ لأنها ليس حوزاً، وغير هذا يرد: لا يقدر على أكثر من هذا، وقال: لأن الغاصب ضامن فهو كالدين. اللخمي: وتعليل أشهب أحسن؛ لأن الواجب رفع يده ولا يقدر على أكثر من هذا وليس كالدين؛ لأنه إنما وهب عين المغصوب ولم يهب قيمته ولما قال في المدونة: وليس قبض الغاصب قبضاً للموهوب له، قيل له: ولِمَ والهبة ليست في يد الواهب؟ قالت: لأن الغاصب لم يقبض للموهوب ولا أمره الواهب بذلك فيجوز إذا كان غائباً. قال بعضهم: ظاهره لو أمره جاز، وهذا إذا رضي الغاصب أن يحوز. وَفِي هِبَةِ الْمُودَعِ لَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ حَتَّى مَاتَ الْوَاهِبُ قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وُهِبَ لَهُ فَقَبَضَ لِيَتَرَوَّى ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ ... يعني: إذا وهب رب الوديعة للمودع الوديعة بأن قال: قبلت تمت الهبة وإن لم يقل قبلت حتى مات الواهب، وفي معنى ذلك: إذا وهب الدين للمديان ولم يقل قبلت حتى مات الواهب فقولان: الأول لابن القاسم في المدونة والموازية: أنها باطلة لأنها لم تنقل إلى ملك الموهوب له قبل موت الواهب؛ إذ من شرط النقل القبول. والثاني لأشهب: أنها جائزة؛ لأن كونها بيده أحذر للحوز، قال في الموازية: إلا أن يقول: لا أقبل، واستحسنه محمد.

ومفهوم قوله: (حَتَّى مَاتَ) أنه لو قال: قبلت قبل موت الواهب وبعد مفارقة المجلس أنها تصح، واعترضه التونسي وقال: كان يجب على أصل ابن القاسم: إذا افترقا ألا تصح؛ لأنه كلام يقتضي جوابه على رهنه، كما لو قال: بعتك بكذا، ولم يقل له المبتاع شيئاً فليس له بعد افتراقه أن يقول رضيتها، قال: وإنما اختلفوا في التمليك بعد المجلس؛ لأنه لم يحتج إلى نظر. قوله: (وَكَذَلِكَ مَنْ وُهِبَ لَهُ .. إلخ) هو ظاهر التصور، ومقتضى كلامه أن القولين جاريان أيضاً، لكن قال ابن راشد: جعل محمد هذه المسألة حجة لقول أشهب في الوديعة، وذلك يقتضي أنها نافذة له وإن لم يقل قبلت بغير خلاف وإلا لما صح الاحتجاج بها. انتها. وهو كلام ظاهر، والفرق ظاهر؛ لأن إنشاء القبض من الموهوب قوي في الدلالة على الرضا بخلاف الوديعة، فإنه ليس فيها ذلك. قوله: (لِيَتَرَوَّى) أي: ليرى رأيه. وَلَوْ تَصَدَّقَتْ بِصَدَاقِهَا فَقَبِلَهُ ثُمَّ مَنَّتْ عَلَيْهِ فَرَدَّ كِتَابَهَا أَوْ أَشْهَدَ لَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ؛ لأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ تُقْبَضْ ... هو ظاهر؛ لأن صداقها عليه دين فإذا قبل سقطت فإذا رده إليها أو أشهد على نفسه كان هبة منه لها، فإذا مات لم يكن لها شيء؛ لأنها عطية لم تقبض قبل موت الواهب. وَإِذَا وَهَبَهُ مَا تَحْتَ يَدِ الْمُودَعِ وَمَاتَ وَعَلِمَ الْمُودَعُ صَحَّتْ، بِخِلافِ مَا لَوْ وَهَبَهُ مِمَّا تَحْتَ يَدِ وَكِيلِهِ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ إِلا مَا قَبَضَ ... صوابه على مذهب سيبويه [645/ب] وهب له كما تقدم؛ يعني إذا وهب الوديعة لغير من هي تحت يده (وَمَاتَ) أي: الواهب.

(وَعَلِمَ) جملة في موضع الحال، زاد ابن القاسم في فرض المسألة رواية سحنون: ولم يأمر الواهب الموهوب بقبض الهبة، ولم يذكر ابن المواز هذه الزيادة، بل ذكر إذا جمع بينهما واشترط العلم ليكون حائزاً للموهوب له ولو دفعها الواهب كان رضا بخلاف ما وهب له ما تحت وكيله فإنه لا شيء له إلا ما قبضه، فلو وهبه مائة فقبض خمسين ثم مات الواهب لم يكن له إلا الخمسون؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، ومسألة الوكيل رواها عيسى عن ابن القاسم في العتبية، ورواها أبو حنيفة عن مطرف وأصبغ. وَمَا تَحْتَ يَدِ الْمُخْدَمِ وَالْمُسْتَعِيرِ كَالْمُودِعِ. وَلَمْ يَشْتَرِطِ ابْنُ الْقَاسِمِ عِلْمَهُمَا بِخِلافِ الْمُودَعِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ لا يَحُوزَ لِلْمَوْهُوبِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الإِخْدَامُ وَالْهِبَةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَهُوَ حَوْزٌ لَهُ، وَإِلا فَلا ... (كَالْمُودِعِ) فيه حذف مضاف؛ أي كوديعة المودع فيكتفي بعلم من هما بيده إذا أشهد الواهب، وكذلك قال ابن شاس، وحيازة المخدم والمستعير حيازة للموهوب له إذا أشهد. ونقل في النكت عن بعض شيوخه أنه اعتبر علم المخدم ورضاه كما في فضلة الرهن. اللخمي: ويشترط أن يبتل له الرقبة الآن وتكون المنفعة على المخدم على الواهب ولا على الموهوب له، قال: وإن وهب إليه المرجع بعد انقضاء الخدمة ليس الآن لم يكن له حوز. انتهى. وعلى هذا فلا تشبيه بين المخدم والمستعار وبين المودع في حصول الحيازة بالعلم. قوله: (وَلَمْ يَشْتَرِطِ ابْنُ الْقَاسِمِ عِلْمَهُمَا) هكذا قال في المدونة. وقوله: (لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ لا يَحُوزَ لَهُ) أي: المودع لما كان قادراً على رد ما تحت يده إلى من دفعه له صار كالوكيل لمن استحفظه على ذلك، والموهوب له هو المالك الآن فلابد من علم المودع بمن هو حافظ، والمخدم والمستعير غير قادرين على رد ما قبلاه من المعطي فليسا بوكيلين لأحد فلا يشترط عملهما، وهذا القول للتونسي. وقوله: (وَقِيلَ .. إلخ) نص في الجواهر. وقال عبد الملك: إذا تقدم الخدمة لم يكن المخدم حائزاً للموهوب، وإن أخدم ووهب في مرة واحدة كان ذلك حيازة للموهوب.

عبد الملك: ولو كانت الهبة والإخدام في عبد فقتل بعد ذلك كان قيمته لمن وهبت له الرقبة. وَمَا تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَاجِرِ لَيْسَ بِحَوْزٍ، إِلا أَنْ يَهَبَ الإِجَارَةَ، فَقَالَ أَشْهَبُ: الْمُسْتَاجِرُ كَالْمُودَعِ ... الأول مذهب ابن القاسم: أن المرهون لا يتم حوزه إلا بافتكاكه كما تقدم في بابه، وأما المستأجر فلا يتم إلا أن يهب الإجارة. وقيده ابن زرقون وغيره بأن تكون الإجارة غير مقبوضة ليكون اقتضاء الموهوب منه الإجارة حيازة، وأما قبض الواهب الأجرة فلا. والفرق بين المخدم والمرتهن والمستأجر أن المخدم محوز عن ربه والمستأجر والمرهون محوز له. قوله: (فَقَالَ أَشْهَبُ: الْمُسْتَاجِرُ كَالْمُودَعِ) ظاهره أنه لا يفتقر إلى علم المستأجر وفيه نظر؛ لأن الذي له في الموازية أن ذلك نافذ إذا أشهد وإن لم يسلم الإجارة معه، هكذا نقل اللخمي وغيره. ابن عبد السلام: والأحسن لو زاد المؤلف فيما حكاه عن أشهب التشبيه بالمستعير فيقول كالمودع والمستعير، هكذا في الرواية عن أشهب؛ لأن اقتصاره على التشبيه بالمودع يوهم موافقة لابن القاسم في تفريقه بين المودع والمستعير من غير حاجة لذلك. وَالْمُرْسِلُ هَدِيَّةً يَمُوتُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وُصُولِهِ، فِي الْمُدَوَّنَةِ: تَرْجِعُ إلى الْمُهْدِي أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَعُلِّلَ بِفَوَاتِ الْحَوْزِ أَوْ بِعَدَمِ الْقَبُولِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ بَطَلَتْ بِخِلافِ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ لِمَنْ حَوْزُهُ حَوْزٌ لَهُمْ كَصِغَارِ بَنِيِه وَأَبْكَارِ بَنَاتِهِ مَضَتْ إِنْ أَشْهَدْ ... أي: إذا أرسل هدية لغائب عنه ثم مات الواهب أو الموهوب له قبل وصول الهدية ففي المدونة ترجع إلى المهدي أو إلى ورثته. وتبع المصنف في التعليل بفوات الحوز راجع إلى موت الواهب، وبعدم القبول راجع إلى موت الموهوب.

وفي المدونة: مقيد بما إذا لم يشهد، وأما إذا أشهد فهي للمعطى أو لورثته، وتبع المصنف في التعليل الذي ذكره ابن شاس ونسبه المؤلف للمدونة لإشكالها، أما أولاً: فلأنه أبطلها بموت الموهوب والمؤثر في بطلان الهبة إنما هو موت الواهب. وقد نص في المدونة في باب الهبة على خلاف هذا فقال: وإن وهبت هبة لحر أو عبد ولم يقبضها حتى مات فلورثة الحر ولسيد العبد قبضها وليس لك أن تمتنع من ذلك. وإلى هذا الإشكال أشار التونسي وغيره، ولهذا قال عياض: ولعل ما في المدونة أن يقول الباعث: أنا إنما قصدت بها صلة للمبعوث إليه بعينه إن وجد حياً، ويكون مصدقاً؛ إذ لا يلزمه إلا ما أقر به من معروفه إذا لم يشهد على أصله فيلزمه بظاهر فعله وقوله. وأما ثانياً: فلأنه قد أمضاها بالإشهاد وهو مبطل للتعليل، ولهذا قال ابن عبد السلام: الصواب عندهم في تعليل المسألة أنه مع الإشهاد قد فعل غاية المقدور في الحوز. قوله: (وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ .. إلخ) هو كما حكيناه عن المدونة في الهبة. قوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ .. إلخ) هذا تأويله [646/أ] عن مالك في رواية يحيى عنه، قال: سألت ابن القاسم عن قول مالك في الرجل يشتري المتاع في الحج لبعض أهله ثم يموت قبل أن يبلغهم ذلك المتاع أنهم لهم، قال: وإنما أراد أن يكون اشتراه لأصاغر ولده، ومثله روى علي بن زياد عن مالك أن الإشهاد لا ينفع في ذلك لمن يحوز عليه من ولده الصغير، وأما الكبير والأجنبي فلا يحوز لهم إلا أن يحوزه غيره. ورده محمد بأن الإشهاد في مثل هذا هو الحوز، ورآه أيضاً عياض بأنه لو لم يحز إلا للصغار لم يختص ذلك إلا بالحج والسفر دون الإقامة، ولا معنى لما قاله بعض الصقليين، إنما يعني ذلك إذا وهب العين ثم اشترى به فعجل الشراء يقوم مقام الحوز؛ لأن مسألة الذي وجه صلته وهبته قد جعلها حوزاً، والعلة في ذلك كله عدم التفريط في الحوز. واعترض كلام المصنف بأن ظاهر كلامه أن تأويل ابن القاسم في المسألة إنما هي في موت المهدي إذا كانت الهدية بيده، ولو أخر تأويل ابن القاسم إلى مسألة الحاج كان أولى؛ وهي قوله:

وَمَا يَسْتَصْحِبُهُ الْحَاجُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْهَدِيَّةِ لأَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ كَذَلِكَ أي: المشهور فيه الاكتفاء بالإشهاد؛ لأن غاية المقدور عليه، وتصور هذا الكلام ظاهر. فرع: قال مالك: وإن حلى الأب صبياً بحلي ثم مات فهو للصبي دون الورثة؛ لأنه مظنة الحوز. فائدة: لا تعتبر حيازة أخ ولا غيره من غير الموهوب إلا في أربع مسائل: المتصدق بثوب في السفر، والحاج يشتري لأهله شيئاً ويشهد عليه ثم يموت، والحبس الذي لا غلة له كالسلاح إذا أخرجه مرة ثم رجع له، والدار يتصدق بها فتحاز عنه سنة ثم يكريها فيموت فيها. وَالْهِبَةُ قِسْمَانِ: مُقَيَّدٌ بِنَفْيِ الثَّوَابِ، وَمُطْلَقٌ وقسم مطلق، وبقي عليه قسم آخر وهو مقيد بالثواب وذكره آخر الباب. الأَوَّلُ: قِسْمَانِ: لِلْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ فَلا رُجُوعَ إِلا لِلأَبِ والأُمِّ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَحُزْهُ الْمُتَوَلَّى عَلَيْهِ ... يعني: أن القسم الأول وهو المقيد ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يراد به وجه الموهوب له وهو معنى قوله: (لِلْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ)، والثاني: أن يريد به وجه الله. وما ذكره من أنه لا رجوع للواهب للمودة والمحبة إلا للأب أو للأم هو مذهب مالك، ودليله ما رواه أبو داود عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن

عباس رضي الله عنهم عنه عليه السلام قال: "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي لولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يعود في قيئه" ورواه النسائي أيضاً، وقال أبو عمر: وصله حسين المعلم وهو ثقة. وتقاس الأم على الأب. وقيل: هو لعبد الملك قال: لا تعتصر الأم إذا حاز الهبة عنها له أبوه أو وهبه أو وهو إن كان يلي نفسه، قال: ويعتصر الأب؛ لأن أصل العصرة له، قال: وإنما تعتصر ما وهبت له إذا كانت هي التي تليه ولم تخرج الهبة عن يده. اللخمي: واختلف في اعتصار الأب إذا كان فقيراً، فقيل: له ذلك، ومنعه سحنون قال: وإنما يعتصر إذا كان الأب في حجره أو بائناً عنه وله مال كثير، وصح اعتصار الأم إذا كان للولد أب سواء كان الأب موسراً أو معسراً أو الابن موسراً، ويختلف إذا كان الابن والأب فقيرين قياساً على اعتصار الأب من الولد الفقير، ويصح اعتصار أم مع عدم الأب إن كان الاب موسراً، قاله أشهب في الموازية. ولا يصح إذا كان صغيراً فقيراً؛ لأنها حينئذٍ على وجه الصدقة، ويختلف إذا كان كبيراً فقيراً فعلى قول سحنون لا تعتصر، والمعروف من المذهب أنها تعتصر وإن كان صغيراً فقيراً ثم أيسر قبل البلوغ أو بعده لم يعتصر؛ لأن المراعى حين العطية هل كان على وجه الهبة أو الصدقة إن كان له أب يوم العطية، ولم تعتصر الأم حتى مات الأب كان لها أن تعتصر؛ لأنه لم تكن على وجه الصدقة، وفي الموازية: لا تعتصر، والأول أحسن؛ لأن المراعى يوم العطية. انتهى مختصراً. وَفِي إِلحَاقِ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ بِهِمَا رِوَايَتَانِ الإلحاق لمالك في الموازية؛ لأن الجد يطلق عليه أب، وعدم الإلحاق رواه ابن القاسم في المدونة؛ لأن الأصل عدم الرجوع ولا يتحقق دخولها تحت الحديث.

وَلَوْ تَلِفَ الْمَوْهُوبُ أَوْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ أَوْ تَزَوَّجَتِ الْبِنْتُ أَوِ ادَّانَ الابْنُ لأَجْلِ الْهِبَةِ- وَقِيلَ: مُطْلَقاً- فَاتَ الرُّجُوعُ .... لما ذكر الاعتصار شرع في موانعه، وامتنع مع تلف الموهوب لفوات محل الاعتصار، وكذلك إن زال ملكه عنه؛ أي ببيع أو هبة أو غير ذلك. قوله: (أَوْ تَزَوَّجَتِ الْبِنْتُ) لعله خصصه للاتفاق عليها لما تعلق للزوج من الحق في مالها، وظاهر المذهب أن تزويج الابن كذلك، وهو مذهبه في الموطأ وبه قال ابن القاسم في العتبية من رواية عيسى، وهو ظاهر المدونة لقوله: كذلك إن بلغ الصغار ما لم ينكحوا. وقال ابن دينار: نكاح الذكر لا يمنع الاعتصار؛ لأنه دخل في أمر مخرجه بيده بخلاف الأنثى، والأظهر أن الأنثى أيضاً تعلقاً بمال الزوج بسبب النفقة والكسوة والسكنى؛ إذ ذلك كله على قدر ماله. وقوله: (أَوِ ادَّانَ الابْنُ) لعله خصصه؛ لأنه الذي يتصرف غالباً وإلاف لا فرق بين الابن والبنت في هذا. وقوله: (لأَجْلِ الْهِبَةِ) مفهومه أنه لو داينوه، لا لأجلها جواز الاعتصار كما لو كان الابن [646/ب] موسراً أو يعلم أنه لم يداين للهبة، وهذا مذهب الموطأ ورواه مطرف وقال به، وبه قال ابن القاسم وأصبغ ومحمد. وقوله: (وَقِيلَ: مُطْلَقاً) وقيل الدين مطلقاً سواء كان لأجل الهبة أم لا يمنع الاعتصار، ونسبه صاحب البيان لابن الماجشون، والظاهر أن المراد بقوله: (أَوِ ادَّانَ لأَجْلِ الْهِبَةِ) أن يكون رب الدين قد قصد ذلك ولا يكفي قصد الولد، هذا مقتضى كلام اللخمي وغيره لقوله: وإن دويِن أو تزوج أو تزوجت البنت لأجل الهبة امتنع الاعتصار. قال محمد: ويمتنع الاعتصار إذا داينه الناس لأجلها، وإن كان أبو الحسن قال: انظر لو

كانت الهبة كثيرة ولم تعلم الزوجة ولا الذي داينه بها هل يصح الاعتصار إذا لم ينكح لذلك ولا داين له؟ وَلَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا فَكَذَلِكَ وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ مَرِضَ الأَبُ فَلَهُ، وَقَالَ أَيْضاً: فَلَيْسَ لَهُ، وَقَالَ: وَأَمَّا الابْنُ فَلا أَدْرِي ... أي: الواهب أو الموهوب له (فَكَذَلِكَ) أي: يفوت الاعتصار عند مالك وابن القاسم. قال في البيان: وهو المشهور؛ لأنه لو مرض الواهب فاعتصاره لغيره وهو الوارث، وإن مرض الموهوب له فقد تعلق حق ورثته به. وروى أشهب: إن مرض الأب فله الاعتصار دون العكس؛ لأن الاعتصار له قبل المرض فلا يزول به عملاً بالاستصحاب. ابن نافع: وللسيد أن ينتزع مال مدبره وأم ولده أقرَّا عنه على مال ولده وإن كان قد وهبه؛ لأن العبد ملك على ترقب والولد ملك حقيقة، وقدرة الأب على الاعتصار لا توجب ضعفاً في ملكه، فانظره. وَعَلَى إِفَاتَتِهِ لَوْ زَالَ، فَفِي عَوْدِ الرُّجُوعِ قَوْلانِ الضمير في (إِفَاتَتِهِ) وفي (زَالَ) يعود على المرض، والقول بعود الاعتصار لابن القاسم وأشهب والمغيرة وابن دينار وابن الماجشون. ابن القاسم: لأن المرض أمر لم يعامله الناس عليه فهو بخلاف النكاح والمداينة، والقول بعدم الاعتصار لمالك في الواضحة وقاله أصبغ. واختار اللخمي الأول، ولسحنون ثالث بعود الاعتصار بزوال ملك الأب دون الابن، أما لو حصل تزويج ثم زال فلا يعود الاعتصار، ولم يحكِ اللخمي في ذلك خلافاً. والفرق ما أشار إليه ابن القاسم كما ذكرناه؛ لأن مانعية النكاح والدين مانعية محققة، ألا ترى كيف اتفق عليها دون المرض.

وَلَوْ وُهِبَ له عَلَى هَذِهِ الأَحْوَالِ فَفِي إِفَاتَتِهَا الرُّجُوعَ قَوْلانِ أي: لو وهب له وهو مزوج أو مديان أو مريض فقال ابن الماجشون: لا رجوع لها. وقال أصبغ: له الرجوع. اللخمي: قول ابن الماجشون ليس بحسن، وهكذا قال ابن عبد السلام: الأقرب صحة الاعتصار؛ لأن الموهوب له لم يدخل أحداً في عهدته بسبب الهبة. وَتَغَيُّرُ الأَسْوَاقِ لا يُفِيتُ هكذا نقل الباجي عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ. ابن راشد: ولا يختلف فيه. وَفِي زِيَادَةِ عَيْنِهَا وَنُقْصَانِهَا قَوْلانِ أي: وفي تفويت الرجوع في الهبة بزيادة عينها ككبر الصغير وسمن الهزيل وانقضائها بعيب قولان. مطرف وابن الماجشون: لا يفيت، وأصبغ: يفيت. الباجي: وهو القياس من قول مالك وابن القاسم. واختار اللخمي أنه لا يفيت في النقص، قال: لأن مضرته على الواهب بخلاف الزيادة إلا أن يكون الأب هو المنفق على العبد وبماله نما. اللخمي: فإن كانت أمة فزوجها كان له أن يعتصرها على أحد القولين؛ لأن التزويج عيب. مالك وابن القاسم: وإن كانت العطية دنانير فضربها حلياً فليس له اعتصاره، وكذلك قال ابن الجلاب إذا خلط الدنانير بمثلها، واستقرأ من المدونة خلافه. وَلَوْ وَلدَتِ الأَمَةُ لَمْ يُعْتَصَرِ الْوَلَدُ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِلا بِفَوْرِ الْوِلادَةِ (لَمْ يُعْتَصَرِ) أي: وتعتصر الأم، وقد تقدم أن اللخمي ذكر أن مجرد التزويج يمنع الاعتصار على أحد القولين، وقال اللخمي: (إِلا بِفَوْرِ الْوِلادَةِ) أي: فيعتصر الولد، وما

ذكره من اعتصار الأم بعد الولادة وقع لمالك في كتاب المدنيين. اللخمي: ولم يبين هل الولد من زوج أو من زنى. وَالْحَمْلُ مِنْهُ يُفِيتُ، وَفِي مُجَرَّدِ الْوَطْءِ قَوْلانِ أي: وإذا ولدت من الولد فات الرجوع؛ لأنها صارت أم ولد، وفي معنى ذلك لو كاتبها أو دبرها أو أعتقها إلى أجل. واختلف في مجرد الوطء، فمذهب المدونة وهو قول مالك وابن القاسم وأكثر الأصحاب يفيت وإن كان ثيباً. وقال المغيرة: لا يفيت وبه قال ابن الماجشون، قال: وتوقف حتى تستبرأ فإن حملت بطل الاعتصار، وعلى الأول فلو خلا الابن وادعى الوطء لم يعتصر، قاله يحيى بن عمر. ابن عبد السلام: والأقرب أن الخلاف مقصور على وطء الثيب وأن وطء البكر يتفق على التفويت به. الثَّانِي: مَا يَقْصِدُ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ لِفَقِيرٍ أَوْ يَتِيمٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلا اعْتِصَارَ فِيهِ لأَبٍ وَلا لأُمٍّ وَلا لِغَيْرِهِمَا لأَنَّهُ صَدَقَةٌ ... أي: الثاني من قسمي القسم الأول وهو المودة؛ يعني: ما قصد به التقرب إلى الله تعالى من صلة الرحم أو صلة أو صلة لفقير أو يتيم ونحوهما مما يدل على قصد التقرب إلى الله تعالى به، فلا رجوع في ذلك لأب ولا لأم؛ لأنه صدقة، وقد ورد النهي عن العود في الصدقة. واختلف إذا اشترط الرجوع في الصدقة، فقيل: لا رجوع؛ لأن سنتها عدم الرجوع، والذي قاله الباجي في وثائقه وابن الهندي: أن له ذلك. ابن الهندي: قال فضل: سنة الصدقة عدم الرجوع، قيل: وسنة الحبس عدم الرجوع وإذا اشترط المحبس بيعه كان له شرطه.

فرع: ويلحق في الصدقة في عدم الارتجاع ما لو وهب هبة لوجه الله الكريم، قاله ابن الماجشون [647/أ] مثل أن يكون له ابن أو ابنة محتاجاً فقيراً في حجره أو كبيراً بائناً عنه. وقال مطرف: من وهب هبة لله أو لوجه الله فله الاعتصار، وبالأول جرى العمل وبقول مطرف تعلم أن ما حكاه بعضهم من الاتفاق على عدم الرجوع في الهبة إذا أريد بها وجه الله ليس بجيد. وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِوَجْهٍ إِلا بِمِيرَاثٍ الضمير في تملكها عائد على الصدقة. وظاهر قوله: (وَلا يَنْبَغِي) الكراهة وهو ظاهر المدونة لقوله في الزكاة: (وأكره للرجل شراء صدقته)، والأصل فيه قوله عليه السلام لعمر في الفرس الذي تصدق به: "لاَ تَشْتَرِهِ وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ". اللخمي: ومشهور المذهب حمل النهي على الندب، وحمله الداودي على التحريم. وتخصيصه الصدقة يدل على الجواز في الهبة وهو قول مالك في الموازية، وكره ذلك عبد الوهاب في الصدقة وأنه لا يشتريها ممن حصلت له من المتصدق عليه. وَلا يَاكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَلا يَرْكَبُهَا قال في المدونة: ومن تصدق على أجنبي بصدقة لم يجز له أن يأكل من ثمرها ولا يركبها ولا ينتفع بشيء منها، وأما الأب والأم إذا احتاجا فينفق عليهما ما تصدقا على الولد. وفي المدونة أيضاً: ومن تصدق على ابنه الصغير بجارية تبعها نفسه فلا بأس أن يقومها على نفسه ويشهد ويستقصي للابن، وفرض المسألة في العتبية في العبد. ابن رشد: وهو في الجارية أعذر. وقال ابن المواز: للرجل أن يأكل من لحم غنم تصدق بها على ابنه ويشرب من لبنها ويكتسي من صوفها إذا رضي الولد وكذلك الأم.

محمد: وهذا في الولد الكبير، وأما الصغير فلا يفعل، قاله مالك. وقوله: (وَلا يَاكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَلا يَرْكَبُهَا) ظاهره أنه لا ينتفع مطلقاً. وفي الرسالة: ولا بأس أن يشرب من لبن ما تصدق به. أبو الحسن: وظاهره خلاف المدونة. وفي المعونة: إلا أن يشرب من ألبان الغنم يسيراً أو يركب الفرس الذي جعله في السبيل وما أشبه ذلك مما يقل خطره. وقيل: معنى ما في الرسالة إن كان بحيث لا ثمن له، وقيل: يحمل ما في الرسالة على ما ذكره ابن المواز وقد تقدم. وقال ابن عبد السلام: يعني لا ينتفع بما تصدق برقبته، وأنه إذا تصدق بحائط فلا يأكل من ثمره وإذا تصدق بدابة فلا ينتفع بركوبها، وفي ذلك قولان أشهرهما الجواز لحديث العرايا، وقال عبد الملك: لا ينتفع بذلك. خليل: وفيه نظر؛ لأن الجواز خلاف ظاهر المدونة. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ هذا هو القسم الثاني منأصل تقسيم الهبة حيث قال: (وَالْهِبَةُ قِسْمَانِ). وسمي مطلقاً؛ لأنه لم يقيد بنفي ثواب ولا بوجوده فيحمل على ما يتفقان عليه، فإن اتفق الواهب والموهوب له على الثواب أو على عدمه عمل عليه. وَإِذَا اخْتَلَفَا حُكِمَ بِالْعُرْفِ مَعَ الْيَمِينِ فَإِنْ أَشْكَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ مَعَ يَمِينِهِ نحوه في الجواهر والجلاب، ولفظ الجلاب: ومن وهب هبة مطلقة وادعى أنه وهبها للثواب نظر في ذلك وحمل على العرف فيه، فإن كان مثله يطلب الثواب على هبته قبل قوله مع يمينه، وإن كان مثله لا يطلب الثواب على هبته فالقول قول الموهوب له مع

يمينه، وإن أشكل ذلك واحتمل الوجهين فالقول قول الواهب مع يمينه وألزمه اليمين سواء شهد العرف أم لا. عياض: وهكذا في بعض نسخ المدونة ذهب ابن زرب وأبو عمران إلى نفي اليمين إذا شهد له العرف. وفي المقدمات: وإن لم يتبين أنه أراد بهبته مجرد الثواب دون مكافأة أو قصد الوجهين جميعاً، وذلك مثل هبة النظراء والأكفاء من أهل الوفر والغنى. ففي المدونة: القول قول الواهب. واختلف الشيوخ في تأويلها هل بيمين أو بغيرها، قال: وأرى أنه على ثلاثة أوجه: إن قال الواهب: أردت الثواب ولم أشترط، فعلى الخلاف في يمين التهمة وله الثواب، وأما على القول الذي لا يوجب عليه اليمين في التهمة فلا يحلف بوجه، وإنقال: اشترطت عليك الثواب، وقال الموهوب له: بل بينت ألَّا ثواب، فالقول للواهب مع يمينه بنفي الثواب وذلك راجع إلى الموهوب أو الموهوب له، فالأولى كهبة الدنانير والدراهم فالهبة مردودة. وقال في المختصر: لا ثواب له إلا أن يكون لذلك وجه كالسبائك والحلي المكسور فإن ابن القاسم نص على نفي الثواب فيهما، وجعل ابن القاسم الحلي الصحيح مما يثاب عليه خلافاً لأشهب، والثاني كهبة أحد الزوجين للآخر فإنه لا ثواب بينهما على مذهب المدونة، ففيها: ولا يقضي بين الزوجين بثواب ولا بين ولد ووالده إلا أن يظهر ابتغاء الثواب بينهم؛ كالزوجة تهب لزوجها جارية فارهة تسألها إياه لما تستجلبه من صلته، أو الزوج يهبها والابن لما يستقر من أبيه، فلذلك حكم بنفي الثواب ولو اشترطا ثواباً لزمهما، وكذلك نص فيه على الهبة في حق الأقارب أنه لا رجوع إذا علم أنه لا يريد الثواب، وأنَّى له الثواب إن علم أنه أراده.

وحكى في المقدمات في الأقارب والزوجين قولين: الأول: أنه لا يصدق في الثواب إلا أن يشترطه، وروي عن مالك أيضاً وبه قال ربيعة والليث، والثاني: أنه يصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقه، حكاه صاحب [647/ب] المعونة وكهبة الطعام، ونحوه للقادم في سفر، ففي المدونة: وإذا قدم غني من سفره فأهدى له الفقير الفاكهة والرطب وشبهه ثم قام يطلب الثواب فلا شيء له، ولا له أخذ هبته وإن كانت قائمة بعينها. وقال ابن عبد الحكم: يجب الثواب في المهدى للمسافر. اللخمي: وهو أبين والشأن الثواب؛ لأن الناس على ضربين: منهم من لا يتكلم على ذلك وإن لم يطلب فهما إن وقع بينهما بعد ذلك مقابحة على الهبة لم يكن له شيء. ومنهم من يتكلم على الثواب فيقضى له به. ونص ابن العطار على أنه يقضى بالثواب فيما يهدونه في إعسارهم من الجزاف ونحو ذلك. الباجي: قضى قضاة بلدنا: فيقضى للمهدي بقيمة الكباش وبوزنها إن علم وزنها ويقاصه بما أكل عنده ومن جاء معه، وكهبة غني لفقير أو فقير لغني فلا يصدق في الثواب إذا لم يشترطه، بخلاف هبة الغني لغني أو فقير لفقير فيصدق في الثواب، قاله في المدونة. وَلا يَلْزَمُ الْمَوْهُوبَ إِلا قِيمَتُهَا قَائِمَةً أَوْ فَائِتَةً. وَقَالَ مُطَرِّفٌ: لِلْوَاهِبِ أَنْ يَابَى إِنْ كَانَتْ قَائِمةً ... يعني: أن هبة الثواب إن فاتت لم يلزم الموهوب إلا قيمتها، وإن كانت قائمة فالمشهور أن الموهوب له إذا دفع قيمتها لزم الواهب قبولها. وقال مطرف: له أن يمتنع من قبول القيمة وأكثر؛ لأنه لو أراد قيمته أو أكثر لباعها في السوق، وللموهوب له أن يردها إلا أن تفوت.

واختلف بما تفوت في حق الموهوب له حتى تلزمه القيمة على أربعة أقوال: أولها: القبض، رواه ابن الماجشون عن مالك. ثانيها: حوالة الأسواق، وهو قول ابن القاسم في الموازية. ثالثهاً: الزيادة أو النقصان، قاله ابن القاسم في المدونة. الباجي: وهو المشهور. ورابعها: النقص فقط، رواه عيسى عن ابن القاسم في العتبية. واختلف أيضاً في فواتها بالنسبة إلى الواهب حتى تلزمه القيمة على خمسة أقوال: أولها: مجرد الهبة على قول محمد الذي يقول: إنه يلزمه دفع الهبة وإن لم يقبض الثواب. ثانيها: القبض وهو المشهور. ثالثها: التغيير بالزيادة والنقصان في كتاب الشفعة من المدونة. رابعها: النقصان فقط، قاله أشهب. خامسها: لا تفوت إلا بذهاب عينها أو العتق ونحوه، فإن تلف بعضها فللآخذ الباقي، قاله مطرف. ومن هذا المعنى اختلافهم متى تكون القيمة؟ فلمالك قولان: يوم القبض، ويوم الهبة، ومذهب محمد واختيار محمد يوم القبض، فعلى أن ضمانها من البائع تكون القيمة في السلعة الموهوب يوم القبض، وعلى القول بأن ضمانها من المبتاع تكون القيمة قيمتها يوم الهبة، وهو اختيار ابن القاسم وابن المواز، وهذا على القول بأن للواهب أن يمسك هبته حتى يأخذ الثواب وعلى القول بأنه ليس له أن يمسكها ويلزمه دفعها بخلاف البيع بضمانها بعقد الهبة من الموهوب له ولا يدخلها ما يدخل الحبوسة بالثمن. انتهى. والقول بأنه يحبسها حتى يأخذ الثواب هو مذهب المدونة، ومقابله لمحمد وعلل ذلك بأنها مبنية على المكارمة.

وَفِي تَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ثَالِثُهَا لابْنِ الْقَاسِمِ: إِلا فِي الْحَطَبِ وَالتِّبْنِ وَشِبْهِهِ القول بتعيين الدنانير والدراهم لأشهب، والقول بأنها لا تتعين ويلزم الواهب قبول ما دفعه الموهوب له مما فيه وفاء بالقيمة لسحنون. والثالث لابن القاسم: لا تتعين ولا أن يثيبه ما شاء إلا ما كان كالحطب والتبن والعبد والمخدم ما لم تجر العادة أن يثاب بمثله وهو الأقرب؛ لأن العرف كالشرط. وهل يعتبر فيما بين الهبة وعرضها السلامة من الربا؟ اعتبر ذلك في المدونة فمنع أن يعرض من الحلي دراهم ومن الطعام طعاماً مخالفاً ومن الثياب ثياباً أكثر منها من نوعها، وأجاز في الموازية كثيراً من هذا المعنى. وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الثَّوَابِ بَعْدَ تَعْيِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ لأنه التزمه بعينه. وَإِذَا صَرَّحَ بِالثَّوَابِ فَإِنْ عَيَّنَهُ فَبَيْعٌ كما لو قال: أهبها لك بمائة دينار، ولا خفاء فيه. وقال: (بَيْعٌ) ولم يقل بـ "حائز"؛ ليعلم أنه يشترط في ذلك شروط البيع كالرد بالعيب. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ أي: وإن وهبه بشرط الثواب ولم يسمِّه فأجازه ابن القاسم في المدونة وقاله أصبغ. الباجي: وهو أولى؛ لأن العرف كالشرط، ولأنه مبني على المكارمة، فملا أخذ شبهاً من ناحية المعروف لم يحتج إلى حيازة. وقوله: (وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ) هو ابن الماجشون؛ أي: لأنه كبائع سلعة بقيمتها، وذلك جهل بالثمن.

اللقطة

اللُّقَطَةُ: كُلُّ مَالٍ مَعْصُومٍ مُعَرَّضٍ لِلضَّيَاعِ فِي عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ اللقطة- بفتح القاف وضم اللام- ما التقط، هكذا استعمله الفقهاء. وقياس هذا أن يكون ممن يكثر منه الالتقاط كالهمزة والضحكة، وفسرها الزبير على الأصل: اللقطة- بفتح القاف وسكونها- ما التقط. وحكى ابن الأثير القولين، قال: والأول أصح. عياض: الالتقاط وجود الشيء من غير طلب. وقول المصنف: (كُلُّ مَالٍ .. إلخ) كلية تعرف به اللقطة، واحترز بالمعصوم من غيره كمال الحربي وبمعرض للضياع مما هو في حفظ، والغامر- بالغين المعجمة- ضد العامر، ولا يقال تخرج منه الشاة الملتقطة في الصحراء لأنها غير معصوم، إذ لآخذها [648/أ] أكلها من غير ضمان، لأنا نقول: المراد بالمعصوم في الأصل والشاة كذلك، ولأن إطلاق اللقطة عليها مجاز. وَلا يَلْتَقِطُ الإِبلَ فِي الصَّحْرَاءِ لما في الموطأ والصحيحين: سئل عليه السلام عن لقطة الذهب والفضة فقال: "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستبقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدِّها إليه". وسئل عن ضالة الإبل فقال: "ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتشرب الماء حتى يجدها ربها". وسأله عن الشاة فقال: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" وفي رواية حماد بن سلمة عند مسلم: "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فأعطها إياه، وإلا فهي لك" وعنده أيضاً من حديث سفيان وزيد بن أنيسة وحماد بن سلمة في حديث آخر: "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه". وقوله: "وسقاءها" هي استعارة لصبرها عن الماء كمن حمل معه سقاء. والحذاء- بالحاء المهملة والذال المعجمة ممدوداً- ما وطأ عليه البعير من خف والفرس من حافر. قاله الجوهري وعياض. وهي استعارة لصبرها على المشي كمن لبس الحذاء.

وأشار ابن شهاب إلى أن الإبل لم تزل على ما ذكره في الحديث من عدم التقاطها إلى زمان عثمان رضي الله عنه فأمر بتعريفها ثم تباع، فإن جاء صاحبها أعطي الثمن لفساد الناس حينئذ. واختلف هل تلتقط حين لا يؤمن عليها السباع؟ مالك وابن القاسم وأشهب: إن كان الإمام عدلاً أخذت ودفعت إليه ليعرفها، وليس للملتقط أكلها ولا بيعها، فإن لم تعرف ردها حيث وجدها. ابن القاسم: وهو رأي على ما روي عن عمر رضي الله عنه. قال مالك مرة فيمن وجد بعيراً ضالاً: فليأت به الإمام يبعه ويجعل ثمنه في بيت المال. وقال في مدونة أشهب: يباع ويوقف ثمنه حتى يأتي ربه، فإن يئس منه تصدق به عنه كما جاء عن عثمان رضي الله عنه. قالوا: وإن كان الإمام غير عدل لم تؤخذ وتركت مكانها. انتهى. وفي المقدمات بعد أن ذكر عدم التقاط الإبل: قيل: إن ذلك في جميع الأزمان. وهو ظاهر قول مالك في المدونة والعتبية. وقيل: بل هو خاص بزمان العدل وصلاح الناس، وأما في الزمان الذي فسد فيه الناس فالحكم فيه أن تؤخذ وتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها، فإن لم يأت ويئس منه تصدق به عنه على ما فعله عثمان رضي الله عنه. ابن عبد السلام: وصحيح مذهب مالك عدم التقاطها مطلقاً. وقوله: (فِي الصَّحْرَاءِ) نحوه في المدونة فيحتمل ألا يكون له مفهوم، وأنه خرج مخرج الغالب، ويحتمل أن يكون له مفهوم وهو محتمل للموافقة؛ لأنه إذا امتنع التقاطها حيث يتوهم ضياعها فامتناعها حيث لا يتوهم ضياعها أولى، ومحتمل للمخالفة فيكون معناه أنها تلتقط في العمران لسهولة وجدان ربها له بخلاف ما إذا نقلها من الصحراء إلى العمارة فلا يتأتى معرفة ربها، ولأنها في العمران لا تجد ما تأكل فتهلك. ابن عبد السلام: والأول أسعد لظاهر المذهب، والثاني أقرب إلى لفظه، وإلا لقال لا تلتقط الإبل وسكت عن الصحراء.

وَفِي إِلْحَاقِ الْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ثَالِثُهَا لابْنِ الْقَاسِمِ: تُلْحَقُ الْبَقَرُ دُونَهَا القول بالإلحاق لأشهب، قال: لا تؤخذ البقر والبغال والحمير، وإن أخذها عرفها سنة ثم تصدق بها. وقال ابن شعبان: لا تلحق البقر وتؤكل، وعلى هذا فتلتقط الخيل والحمير ويعرف ما قاله في المدونة. والثالث مذهب المدونة، قال فيها: وضالة الإبل إن كانت بموضع يخاف عليها فهي كالشاة وإن كانت بموضع لا يخاف عليها من السباع والذئاب فكالإبل، فإن وجد الخيل والبغال والحمير فليعرفها، فإن جاء ربها أخذها، وإن لم يأت تصدق بها. وَيُلْتَقَطُ الْكَلْبُ، وَالْمَتَاعُ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَالْمَطْرُوحُ خَوْفَ الْغَرَقِ، وَبِالْفَلاةِ لِعدْمِ الرَّاحِلَةِ لأَرْبَابِهَا وَعَلَيْهِمْ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ... يريد: المأذون في اتخاذه، وأما غيره ففي المدونة: لا شيء على قاتله فكيف يلتقط. وقوله: (لأَرْبَابِهَا) قد تقدم في هذا خلاف في باب الزكاة وعليهم أجرة حمله إن شاءوا أخذه وإن شاءوا تركه لواجده لم يلزمهم شيء. وَالالْتِقَاطُ حَرَامٌ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ خِيَانَةَ نَفْسِهِ، وَمَكْرُوهٌ لِلْخَائِفِ، وَفِي الْمَامُونِ الاسْتِحْبَابُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالاسْتِحْبَابُ فِي مَا لَهُ بَالٌ، والوُجُوبُ إِنْ خَافَ عَلَيْهَا الْخَوَنَةَ يعني: أن حكم اللقطة يختلف بحسب الملتقط، وجعل الأقسام ثلاثة: أولها: أن يعلم من نفسه الخيانة إن أخذها فيكون التقاطه عليه حراماً. وثانيها: أن يخاف على نفسه أن يستقرئ الشيطان أن يأخذها ولا يتحقق ذلك فيكون التقاطه له مكروهاً. وثالثها: أن يتق بأمانة نفسه. ثم قسم هذا على قسمين:

الأول: أن تكون بين ناس لا بأس بهم ولا يخاف عليه الخونة. والثاني: أن يخاف عليها، فإن خافهم وجب عليه الالتقاط لقدرته على حفظ مال أخيه. وحكي على ذلك الاتفاق، وإن لم يخف فثلاثة أقوال وهي كلها لمالك: الاستحباب لأن تعريفها ينبه لها ربها، والكراهة لأن صاحبها قد يأتي إليها ويذكر موضعها فيأتي إليه فإذا لم يجدها لا يطلبها. وقوله في القول الثالث: (الاسْتِحْبَابُ فِي مَا لَهُ بَالٌ) [648/ب] فتركه أفضل. وقيد ابن رشد هذا الخلاف بأن يكون الإمام عدلاً، وإن كان الإمام غير عدل وكانت بين قوم مأمونين فالاختيار ألا يأخذها اتفاقاً، وإن كانت بين قوم غير مأمونين فيخير بين أخذها وتركها بحسب ما يغلب على ظنه من أحد الطرفين. فَإِنْ أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا ثُمَّ رَدَّهَا ضَمِنَ قال: (لِيَحْفَظَهَا)؛ لأنه لو أخذها ليسأل عنها من بين يديه لم يضمن كما في المدونة في واجد الكساء بأرفقة فأخذها وصاح: أهذا لكم؟ فقالوا: لا. فرده، قال: قد أحسن في رده ولا يضمن. عياض: ولا خلاف في مسألة الكساء إذا ردها في الحين. وقوله: (ثُمَّ رَدَّهَا ضَمِنَ) ظاهره سواء ردها في القرب أم لا، أما إن لم يردها عن قرب فمذهب ابن القاسم أنه يضمن وإليه ذهب عبد الوهاب، وقال أشهب: لا ضمان عليه وإن مكث في يده، وأما إن ردها بالقرب ففيه أيضاً خلاف. لكن اختلف تأويل الشيوخ هل يوافق ابن القاسم قول أشهب هنا أو يقال بالضمان مطلقاً؟

وَهِيَ أَمَانَةٌ مَا لَمْ يَنْوِ اخْتِزَالَهَا فَتَصِيرُ كَالْمَغْصُوبَةِ يعني: فيضمن ولو فاتت بسماوي، ويصدق ولا يلزمه الإشهاد عليها حالة التقاطها خلافاً لبعض الحنفية. وَيَجِبُ تَعْرِيفُهَا سَنَةً عَقِبَهُ فِي مَظَانِّ طُلابِهَا فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فِي كُلِّ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ، أَوْ يَسْتَاجِرُ مِنْهَا إِنْ كَانَ مِثْلُهُ لا يُعَرِّفُ ... (عَقِبَهُ) أي عقب الالتقاط، وظاهره لو أخر التعريف لضمن، وفي اللخمي: إن أمسكها سنة ولم يعرفها ثم عرفها فهلكت ضمنها. انتهى. وينبغي ألا يتقيد بالسنة. وقوله: (فِي الْجَوَامِعِ)؛ هو بدل من قوله: (فِي مَظَانِّ طُلابِهَا) وظاهره أن التعريف يكون فيها، ولعل ذلك مع خفض الصوت، ويحتمل أن يكون على حذف مضاف، أي في باب الجامع والمساجد وهو أحسن، أما أولاً فلأنه كذلك في المدونة وغيرها؛ وأما ثانياً فلأن في مسلم عنه عليه السلام: "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا" ولهذا قال مالك في العتبية: لا أحب تعريف اللقطة في المساجد. فرع: وإن وجدها بين مدينتين عرفها فيهما. ابن القاسم: وإن وجدت بقرية ليس فيها إلا أهل الذمة فليدفع لأحبارهم. وقوله: (فِي كُلِّ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ) أي: مرة. هكذا روى ابن نافع عن مالك. ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون أكثر من ذلك في أول تعريفه. اللخمي: واختلف عن مالك هل يسمي جنس اللقطة إذا أنشدها أو لا يسمي أحسن، ويلفق ذكرها مع غيرها؟

وهو مخير بين أربع: بين أن يعرفها بنفسه أو يدفعها إلى السلطان إذا كان عدلاً، أو إلى مأمون يقوم مقامه أو يستأجر منها من يعرفها فجائز أن يعرفها للحديث. وأجاز له في المدونة أن يدفعها إلى السلطان، وأجاز ابن القاسم في العتبية أن يدفعها إلى المأمون يعرفها، وأجاز ابن شعبان أن يستأجر منها عليها يريد إذا لم يلزم تعريفها وكان مثله لا يلي مثل ذلك، يعني فإن كان مثله ممن يتولى ذلك لم يستأجر عليها إلا من مال نفسه لأنه بالتقاطه كالملتزم لتعريفها، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ إِنْ كَانَ مِثْلُهُ لا يُعَرِّفُ). فإن قلت: لم جاز له هنا أن يستنيب فيها ولم يجز في الوديعة والمقصود فيهما الحفظ؟ قيل: رب اللقطة لم يعن الملتقط الحفظ بخلاف المودع. ابن كنانة: وإذا دفعها لغيره وقال له اعمل بها ما شئت. الباجي: وقد أعلمه أنها لقطة فإن ادعى الملتقط ضياع اللقطة فقال ابن القاسم: لا شيء عليه. وقال أشهب وابن نافع: عليه اليمين. أشهب: وإن ادعى صاحبها أنه التقطها ليذهب بها فالقول لملتقطها أنه أخذها للتعريف بلا يمين، والله أعلم. وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بَعْدَهَا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهَا ضَامِناً لَهَا. قَالَ الْبَاجِيُّ: إِلا مَكَّةَ فَلا تُمْلَكُ لُقَطَتُهَا لِلْحَدِيثِ، وَالْمَذْهَبُ خِلافُهُ، أَوْ يُبْقِيَهَا أَمَانَةً أي: وللملتقط أن يتملك اللُّقَطَة بعد سنة أو يتصدق بها ضامناً لها، أي إن جاء صاحبها فظاهر كلامه أنه مخير، وبذلك صرح في الجلاب. ابن عبد السلام: ونصوص المذهب على رجوحية التمليك، وربما وقع المنع من ذلك؛ لأن المراد من الملتقط أن يتصرف فيها. انتهى.

قيل: وظاهر المدونة الكراهة لقوله: لا آمره بأكلها قلَّت أو كثرت ولا يتجر باللقطة بالسنة ولا بعد السنة أيضاً كالوديعة. وقال ابن القصار: يكره أن يملكها غنياً أو فقيراً فإن أكلها جاز. اللخمي: وقال ابن شعبان: له ذلك إن كان غنياً بمثلها. وقال ابن وهب: إن كانت قليلة وكان فقيراً أكلها. والذي يقتضيه قول ابن القاسم في المدونة أن له أن يستمتع بها غنياً كان أو فقيراً. وذكر في الاستذكار أن تحصيل المذهب جواز الأكل للفقير والغني، وقال: وعليه يناظر أصحابه للحديث: "شأنك بها بعد السنة" ولم يفرق بين الفقير والغني. وقوله: (وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِلا مَكَّةَ) ابن عبد السلام: نحوه للّخمي وابن رشد وابن العربي ومذهب الداودي. والحديث المشار إليه في الصحيحين أنه عليه السلام قال: "لا تحل لقطتها إلا لمنشِد" يعني: على الدوام، وإلا فلا فائدة لتخصيصه، قاله الباجي. وحفظ هؤلاء للمذهب معلوم، غير أن ابن القصار حكى عن المذهب كما حكى المصنف، وأياً ما كان [649/أ] فموافقة الحديث واجب لصحته، وهو خاص وغيره من أحاديث هذا الباب عام. خليل: وفيما حكاه اللخمي نظر؛ لأن الذي فيه بعد ذكر نقل ابن القصار: ومذهب الشافعي أبين للحديث وللقياس وليس في هذا الاختيار مذهب الغير فاعلمه. وقوله: (أَوْ يُبْقِيَهَا أَمَانَةً) هو معطوف على أول المسألة وهو قوله وله أن يتملكها بعد أن يتصدق بها. وَأَمَّا التَّافِهُ فَلا يُعَرَّفُ يعني: أن التعريف بالسنة يختص بالكثير، وأما القليل الذي لا يفسد فإن كان تافهاً لا قدر له بحيث يعلم أن صاحبه في العادة لا يتبعه لقلته فلا يعرف أصلاً. قال في البيان:

كالعط والسوط وشبه ذلك لما صح من حديث أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام مر بثمرة بالطريق فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها". وقال المصنف: لا يعرف؛ لأنه يؤخذ منه أنه لا ضمان عليه، ولم يقل فله أكله لأنه لا يلزم من الأكل نفي الضمان. وَأَمَّا مَا فَوْقَهُ مِنْ نَحْوِ مِخْلاةٍ وَدَلْوٍ فَقِيلَ: يُعَرَّفُ أَيَّامَ مَظَنَّةِ طَلَبِهِ، وَقِيلَ: سَنَةً كَالْكَثِيرِ .... (فَوْقَهُ) أي: فوق التافه ودون الكثير مما يشح به صاحبه ويطلبه. ابن رشد: ولا خلاف في وجوب تعريفه، إلا أنه يختلف في حده فقيل: سنة كالذي له بال وهو ظاهر رواية ابن القاسم في المدونة. وقيل: لا يبلغ به الحول وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة، وروى عيسى عن ابن وهب في العتبية في مثل الدريهمات والدينار أنه يعرف بذلك أياماً، وقال: ظاهر رواية ابن القاسم لقوله من التقط دنانير أو دراهم أو حلياً مصوغاً أو عروضاً أو شيئاً من متاع أهل الإسلام فليعرفه سنة وإن جاء صاحبها، وإلا لم آمره بأكلها كثرت أو قلت درهماً فصاعداً. ابن عبد السلام: وتأوله بعضهم على القول الأول من كلام المصنف وهو الذي عليه الأكثر من أهل المذهب وغيرهم. وَأَمَّا مَا يَفْسُدُ كَالطَّعَامِ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ أَوْ فِي رُفْقَةٍ فِيهِ قِيمَةٌ فَثَالِثُهَا: يَضْمَنُ إِنْ أَكَلَهُ وَلا يَضْمَنُ إِنْ تَصَدَّقَ بِهَا، وَإِلا أَكَلَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ يعني: إن التقط ما يفسد بالتأخير كالفاكهة واللحم، فإن كان هذا الطعام في قرية أو رفقة له فيه قيمة فثلاثة أقوال: الأول: يضمنها سواء أكله أو تصدق به وهو ظاهر قول أشهب لأنه قال يبيعه ويعرف به.

الثاني: لا ضمان عليه مطلقاً قاله صاحب المقدمات وغيره وهو ظاهر المدونة لقوله يتصدق به أعجب إلي فإن أكله فلا شيء عليه. والثالث: يضمن إن أكله لانتفاعه به ولا يضمنه إن تصدق به قاله مطرف في الواضحة. وإن لم يكن في قرية ولا رفقة- وإليه أشار بقوله وإلا أكله غنياً كان أو فقيراً ولا ضمان عليه قياساً على الشاة. وَالشَّاةُ بِمَكَانٍ يُخْشَى عَلَيْهَا وَيَعْسُرُ حَمْلُهَا كَذَلِكَ أي: الشاة كالطعام في التفصيل، والخلاف بشرطين: أولهما: أن تكون بمكان يخشى عليها كالفوات بخلاف ما إذا كانت بقرية أو بالقرب منها فإنها تعرف في أقرب القرى إليها، قاله في المدونة. وثانيهما: أن يعسر حملها إلى العمارة لقوله عليه السلام: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وعلى هذا فحكم الشاة والطعام متفق إذا وجد بالبعد مختلف إذا وجد بالقرب من العمارة إذ بها تعرف الشاة. وتقدم أن ظاهر المدونة نفي الضمان. وقال سحنون: إن أكل الشاة واجدها بالفلاة أو تصدق بها ثم جاء صاحبها ضمنها. واختاره ابن عبد البر واستدل بقول مالك فيمن اضطر إلى طعام غيره أنه يأكله ويضمنه، وقال: والشاة الملتقطة أولى بذلك. وإذا فرعنا على المشهور فلو ذبحها بالفلاة ثم أتى بلحمها أكله غنياً كان أو فقيراً. أصبغ: ويصير لحمها وجلدها مالاً من ماله ولا ضمان عليه في ذلك إلا أن يجده صاحبه بيديه فيكون أحق به، وإن أتى بالشاة من الفلاة إلى العمارة فلها حكم اللقطة يعرفها وإن أتى ربها أخذها. اللخمي: يريد ويعطيه أجر نقله. قال في المدونة: ويغرم ما أنفق عليها وعلى الفقر والقياس ألا شيء له في الشاة وإن كانت حية لأنه نقلها بعد أن ساغ له تملكها ولولا ذلك لم ينقلها.

ووقع في العتبية فيمن قدم بالطعام والإدام إلى العمران أنه يضمنه. ابن يونس: فعلى هذا يضمن اللحم إن أكله خلافاً لأصبغ. وَأَمَّا مَنَافِعُهَا وغَلَّاتُهَا وَحِلابُهَا فَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ الْحِلابُ وَلا يُتْبَعُ إِلا بِهَا وَبِنَسْلِهَا، وَقِيلَ: إِلاأَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَنٌ ... هكذا في بعض النسخ وسقط من بعضها أو غلاتها، وعلى النسختين فعطف الحلاب من باب عطف الخاص على العام. وما نسبه لمالك رواه عنه ابن نافع في الرجل يكون في غنمه وباديته فيجد شاة بفلاة من الأرض فلاه حلابها ولا يتبع إن جاء ربها إلا بها وبنسلها. قال: ويحبسها سنة فإن ذبحها قبل السنة ضمنها لربها إلا أن يخاف فوتها فيذبحها فلا شيء عليه إلا أن يقدر على بيع لحمها. والقول الثاني لمطرف قال: أما اللبن والزبد فإما بموضع يكون لذلك ثمن فليبع ويصنع بثمنه ما يصنع بثمن لبنها، وإن كان لربها قيام وعلوفة فله أن يأكل منها بقدر ذلك، وإما بموضع لا ثمن له فليأكله. مطرف: وأما الصوف والسمن فليتصدق به أو بثمنه. وَلَهُ أَنْ يُكْرِيَ الْبَقَرَ وَغَيْرَهَا فِي عُلُوفَتِهَا كِرَاءً مَامُوناً، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ إِلَى مَوْضِعِه، ثُمَّ إِنْ رَكِبَهَا بَعْدُ ضَمِنَهَا ... هكذا روى ابن حبيب عن مطرف [649/ب] وأصبغ، وكان له أن يكري لأن علفها غير واجب عليه وبقاؤها كذلك يضر بها وكان من المصلحة كراؤها، ولهذا لا يكريها إلا بقدر ما يدفع به الضرورة لا أزيد، ويشترط أن يكون ما تكرى فيه من العمل مأموناً وكان له أن يركبها لموضعه، لأ، قوده يعسر وضمن إذا ركبها بعد ذلك لتعديه.

وَلَهُ بَيْعُ مَا يَخَافُ ضَيْعَتَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ بِخِلافِ مَا لا مُؤْنَةَ فِي بَقَائِهِ قوله: (بِخِلافِ) يحتمل وجهين: أولهما: فليس له بيعه مطلقاً. ثانيهما: فله البيع بإذن الحاكم. ففيه احتمال، على أن ما ذكره المصنف لا يوجب قولاً مستقلاً بل بالتلفيق لأن مذهب ابن القاسم في المدونة أن اللقطة إذا بيعت بعد السنة فليس لربها إذا جاء أن يفسخ البيع ولو بيعت بغير إذن الإمام، ولربها أخذ الثمن ممن قبضه، ولم يفصل مذهب أشهب في العتبية إن باعها بغير أمر السلطان بعد السنة فلربها نقض البيع، والآن لم يقدر فلا شيء له إلا الثمن إن باعها خوفاً من الضيعة. وإن باع الثياب وما لا مؤنة في بقائه ولا ضرورة له إلى ذلك فربه أحق به إن وجده بيد المبتاع، فإن لم يجده فله إن شاء الثمن من البائع أو القيمة يوم بيعه. قال: وكلما بيع من هذا بأمر السلطان مضى البيع وليس لربه إلا الثمن. فذكر المصنف حكم ما يخاف عليه الضيعة على مذهب ابن القاسم وما لا يخاف عليه على مذهب أشهب، وليس بسديد. وَلَيْسَ لِحَبْسِهِ إِيَّاهَا حَدٌّ إِلا عَلَى اجْتِهَادِهِ أي: لحبس اللقطة إن كانت تحتاج نفقةً حد بل ذلك على قدر الاجتهاد وصبره على ذلك، وهكذا قال مطرف وأصبغ في الواضحة، وظاهره قبل السنة وبعدها، وليس لحبسه بعد السنة حد. وَربُّهَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ غُرْمِ النَّفَقَةِ وَإِسْلامِهَا فِيهِ فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ يعني: أن ربها ليس له أخذها بغير شيء وإنما هو مخير بين أخذها ودفع نفقتها وبين إسلامها ولا يكون عليه شيء، وهكذا في المدونة وغيرها. أشهب: وإن أسلمها ثم بدا له أن يطلبها فليس له ذلك، وهذا معنى قوله: (فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ) أي فليس له الرجوع. قال في المدونة: والملتقط أحق بالنفقة من الغرماء كالرهن.

وَيَجِبُ رَدُّهَا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالإِخْبَارِ بِصِفَتِهَا مِنْ نَحْوِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا وَهُمَا الْمَشْدُودُ فِيهِ وَبِهِ ... أما ردها ببينة فلا خلاف فيه، ويجب أيضاً ردها عندنا بالإخبار بصفتها من نحو العفاص والوكاء للحديث المتقدم، ثم فسرهما بقوله: (وَهُمَا الْمَشْدُودُ فِيهِ وَبِهِ) فالأول للأول والثاني للثاني، وهذا هو المعلوم في اللغة وعليه أكثر الفقهاء. بل نقل صاحب الاستذكار الإجماع عليه. ونقل الباجي عن أشهب عكسه. والوكاء ممدود وقيل مقصور، قيل وهو غلط. وأشار بقوله ودفع الثياب بالصفة نحو عفاصها إلى أن ما لا عفاص له ولا وكاء من اللقطة يدفع بالإخبار بصفتها الخالصة المحصلة للعلم. اللخمي: واختلف في دواب هل تدفع بالصفة أو لابد من البينة، ودفع الثياب بالصفة أبين لأن الصفة فيها كالعفاص والوكاء في العين. وَفِي اعْتِبَارِ عَدَدِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ قَوْلانِ القول باعتباره لابن القاسم وأشهب، والآخر لأصبغ وعلله بأن ذكر العدد في حديث أُبي وأضرب عنه في حديث زيد بن خالد، والأول أظهر لأن المختار زيادة قبول العدل. وَفِي إِلْزَامِهِ الْيَمِينَ مَعَ الصِّفَةِ قَوْلانِ المشهور سقوطها خلافاً لأشهب واستقرأ من المدونة مثل قوله، والأول أظهر لأن اليمين لم يرد في الحديث. واستحسن اللخمي أن يحلف، فإن نكل دفعت إليه. وَيُجْتَزَأُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْمُغَلِّبَةِ لِلظَّنِّ عَلَى الأَصَحِّ. وَيُسْتَانَى فِي الْوَاحِدَةِ أي: يكتفي ببعض الصفات اثنتين فصاعداً، يدل على ذلك قوله بعد ويستأنى في الواحدة والأصح لأشهب، قال: إن عرف وصفين ولم يعرف الثالث دفعت إليه، ومقابله

لابن عبد الحكم قال: أصاب تسعة أعشار الصفة لم يعطها إلا بمعنى واحد أن يذكر عدداً فيصاب أقل منه لاحتمال أن يكون قد اغتل فيه، وماذ كره المصنف في الصفة الواحدة نحوه لأصبغ قال: فإن عرف العفاص وحده فليستأن فإن جاء أحد وإلا أعطى. الباجي: ولا يبعد أن يكون ابن عبد الحكم يوافق أصبغ لأنه إنما امتنع من دفعها إليه إذاً خطأ بأن وصف شيئاً بغير صفته فيكون ابن عبد الحكم على ما إذا أخطأ وأصبغ على ما إذا أجهل. الباجي: وقد اختلف على هذا قول أصبغ فقال: إن قال في خرقة حمراء وخيط أصفر فوجدت الخرقة حمراء والخيط أسود يستبرأ أمره. ثم رجع فقال: هذا أكذب نفسه بادعائه المعرفة فلا يصدق وإنما يصدق لو أصاب في بعض وادعى الجهل في بعض. وفي المقدمات: إن وصف مدعي اللقطة بعض اللقطة وجهل بعضها أو غلط فيه ففي ذلك اختلاف وتفصيل؛ فأما جهله بالقدر فلا يضره، وإذا عرف العفاص والوكاء فاختلف فيه على قولين، وكذلك اختلف أيضاً إذا جهل صفة الدنانير وعرف العفاص والوكاء، وإذا غلط في صفة الدنانير فلا أعلم خلافاً أنه لا شيء له، وأما العفاص والوكاء إذا وصف أحدهما وجهل الآخر أو غلط فيه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعاً. والثاني: يستبرأ أمره فإن لم يأت أحد بأثبت مما أتى به دفعت. والثالث: أنه [650/أ] إن ادعى الجهالة استبرأ أمره وإن غلط لم يكن له شيء. وهو أعدل الأقوال عندي. واختلف في الاعتماد على السكة وحدها، فقال سحنون: لا يستحقها بذلك حتى يذكر علامة غيرها. وقال يحيى بن عمر: لا يتبين لي قول سحنون، وأراد إذا وصف السكة وذكر بعض الدنانير إن كان فيها نقص فأصابه أن يأخذها. اللخمي: يريد يحيى بن عمر إذا كانت دنانير البلد سككاً فإن كانت سكة واحدة لم تدفع إليه اتفاقاً. وأشار الباجي إلى أنه ينبغي أن يكون قول سحنون مقيداً بما إذا ذكر سكة البلد، وأما لو ذكر سكة شاذة ليست منهما فينبغي أن تدفع إليه.

وَلَوْ وَصَفَهَا اثْنَانِ بِمَا يَاخُذُهَا بِهِ الْمُنْفَرِدُ تَحَالَفَا وَقُسِمَتْ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ حَلَفَا، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا أَخَذَهَا الْحَالِفُ ... هذا بيِّن إذا وصف كل منهما ما وصفه الآخر، وأما لو اختلفا فعرف أحدهما العفاص والوكاء والآخر العدد والوزن فهي لمن عرف العفاص والوكاء. قال: واستحسن أن تقسم بينهما فإن نكل أحدهما وحلف الآخر فهي للحالف. وإن نكلا فقال أشهب: لا تدفع إليهما؛ واختار اللخمي أن تقسم بينهما كما لو حلفا، ونقله في البيان عن ابن حبيب. وَلَوْ دَفَعَهَا بِصِفَةٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ وَصَفَهَا ثَانٍ أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً فَلا شَيْءَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ لَمْ يُشْهِدْ بِالْقَبْضِ عَلَى الْوَاصِفِ ضَمِنَ فلا شيء على الملتقط؛ هو مذهب ابن القاسم وأشهب. ووجهه أنه فعل ما أمر به في الحديث سواء دفعها بصفة أو ببينة بصفة أو غيرها. أشهب: وإذا أقام الثاني البينة وكان الأول أخذها بالوصف أخذها الثاني من الأول. وقال ابن الماجشون: إن دفعها للأول بصفة وأقام الثاني البينة ضمن الملتقط- إذا قال: دفعتها لمن لا أعرفه- ولم يشهد لتفريطه. هكذا نقل قول ابن الماجشون جماعة، ونقص المصنف منه وقال: ودفعتها لمن لا أعرفه. وساق صاحب الجواهر قول ابن الماجشون على أنه خلاف وهو ظاهر كلام ابن يونس. ابن عبد السلام: والظاهر أنه خلافه ويحتمل الموافقة. فإن قيل: ما قاله ابن الماجشون هنا بخلاف أصله في الوكيل المخصوص أن القول قوله في الدفع بغير بينة. قيل: لم يأذن له مالك اللقطة وإنما الإذن عموماً من جهة الحكم، وأيضاً فلأن الدافع قال دفعتها لمن لا أعرفه ولو كان الوكيل مثل لضمن، والله أعلم.

أشهب: وإن دفعها للأول ببينة ثم أقام الثاني أيضاً بينة فهي لأولهما إذا كانت بتاريخ، فإن لم يكن تاريخاً فهي لأعدلهما بينة، فإن تكافآ كانت لمن هي في يده وهو الأول بعد يمينه أنها له ما لم يعلم لصاحبه فيها حقاً، فإن نكل حلف الثاني وأخذها فإن نكل فهي للأول بلا يمين. ابن يونس: ويحتمل على أصل ابن القاسم أن تقسم بينهما وإن حازها الأول لأنه قال: قد عرف أصله كقوله فيمن عرف رجلاً مولى يدعيه وأقام على ذلك بينة وأقام الآخر بينة أنه مولاه وتكافأت فالمال يقسم بينهما لأنه مال قد عرف أصله. قال غيره: لمن هو في يده؛ وهو نحو قول أشهب هنا، وكذلك الحكم لو أخذ الأول بالصفة فأتى آخر بحضرة دفعها وتحقق أنه لم يسمع صفة الأول لا نبغي أن تكون للأول على قول أشهب هنا، ويقسم بينهما على قول ابن القاسم. وأما لو دفعت للأول ثم أتى الثاني بعد حين وصفها فلا خلاف أنها للأول لاحتمال أن يكون الثاني سمع صفة الإمام. وَلِصَاحِبِهَا أَخْذُهَا بَعْدَ السَّنَةِ حَيْثُ وَجَدَهَا (بَعْدَ السَّنَةِ) يؤخذ منه أن الحكم كذلك قبل السنة من باب أولى؛ لأنه إذا كان أخذها حيث يكون للملتقط شبهة كان له حيث لا يكون له شبهة أولاً، ولما كان هذا الاستلزام ظاهراً في قوة النظر وحسن من المصنف أن يقول أيضاً. وقوله: (حَيْثُ وَجَدَهَا) أي: سواء وجدها بيد الملتقط أو بيد المبتاع منه، سواء نوى الملتقط تملكها أو لا تصدق على نفسه أو عن ربها. فَإِنْ وَجَدَهَا بِيَدِ الْمُبْتَاعِ مِنَ الْمُلْتَقِطِ لا الْمَسَاكِينِ بَعْدَ السَّنَةِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَاخُذُ الثَّمَنَ لا غَيْرُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ بَاعَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ .... يعني: فإن وجدها بيد المشتري لها من الملتقط بعد السنة فقال ابن القاسم: البيع ماض ولا يأخذها وإن بيعت بغير أمر الحاكم. وقال أشهب: كذلك إن باعها بإذن الإمام

وإلا فله نقض البيع، وإن لم يقدر عليها فلا شيء له غير الثمن إن باعها خوفاً من الضيعة، وأما إن باع الثياب ولا مؤنة في بقائه ولا ضرورة بدا لي ذلك فربها أحق بها إن وجدها بيد المبتاع، وأما إن لم يجدها فله إن شاء الثمن من البائع أو القيمة يوم بيعها. هذا نص قوله، والمصنف نقص منه فوائد كما ترى. وقوله: (لا الْمَسَاكِينِ) يحتمل أن يكون التقدير لا بيد المبتاع من المساكين، وهكذا قال ابن القاسم فإنه قال: وإن وجدت بيد من ابتاعها من المساكين فله أخذها منه ثم يرجع المبتاع على من تصدق بها عليهم. وقال غيره: يرجع بالأقل من الثمن الذي دفع للمساكين أو من قيمتها يوم تصدق بها. ابن يونس مفرعاً على قول ابن القاسم: وإن أخذها من المبتاع من المساكين رجع المبتاع بالثمن على المساكين إن كان له بأيديهم كما يأخذ منهم عينها وإن أكلوه فأولى أن يرجع على الملتقط الذي سلطهم عليها كما لو أكلوها، وينبغي أن يرجع عليه [650/ب] بالأقل من ثمنها أو قيمتها يوم الصدقة بها ويرجع بتمام ثمنها على المساكين لأنهم البائعون منه. والفرق بين بيع الملتقط والمساكين أن الملتقط جعل له الشارع التصرف بقوله "فشأنك بها" ولأنه يبيعه خوفاً من الضياع، والمساكين إنما يأخذونها على أنها ملك فللمستحق نقض بيعهم كنقض بيع المشتري في الاستحقاق. وهذه المسألة على قول ابن القاسم مخصصة لقوله أولاً لصاحبها أخذها بعد السنة حيث وجدها، ويحتمل أن يكون في كلامه أولاً حذف معطوف دلت عليه هذه الصورة تقديره وله أخذها أو أخذ ثمنها، ويحتمل أن يكون أطلق أخذها على المعنى الحقيقي- وهو أخذ عينها- وعلى المجاز- وهو أخذ ثمنها- وهو المختار عنده في كتاب الأصول أن ذلك جائز بطريق المجاز.

فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ تَمَلُّكِهَا أَوْ تَصَدُّقِهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ ذَلِكَ أَوْ مِثْلُهَا يعني: بأن أتى ربها بعد أن تلفت كلها وبعد أن تملكها أو تصدق بها فعليه قيمتها إن كانت مقومة أو مثلها إن كانت مثلية يوم ذلك أي يوم التمليك أو يوم التصدق، وضمانه في التمليك صحيح على القول بتأثير النية مع بقاء اليد، وأما التصدق فهو تصرف بالفعل، قال في المدونة: لربها أخذها من المساكين إن كانت قائمة بأيديهم، وإن أكلوها فليس له تضمينهم إن شاء. فَإِنْ وَجَدَهَا نَاقِصَةً بَعْدَهُمَا خُيِّرَ: أَخَذَهَا نَاقِصَةً أَوَ قِيمَتَهَا مِنَ الْمُلْتَقِطِ فلما فرغ من الكلام على الأولين تكلم على الثالث. وقوله: (بَعْدَهُمَا) أي بعد التملك والتصدق. وحكى في البيان في هذه المسألة إذا نقصها بالاستعمال ثلاثة اقوال: أولها: كما ذكر المصنف. ثانيها: أنه بالخيار بين أن يضمنه قيمتها أو يأخذها وقيمة ما نقصها. وَلِلْمُلْتَقِطِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي عَيْنِهَا إِنْ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا إِلا أَنْ يَكُونَ تَصَدَّقَ عَنْ نَفْسِهِ ... يعني: فإن اختار مالك اللقطة في المسألة المتقدمة أخذ القيمة من الملتقط لأجل ما دخلها من النقص، وإن كان تصدق بها فللملتقط أن يرجع على المساكين فيما بقي من عينها إن كان تصدق بها عن نفسه فليس له أن يأخذ ما بقي. وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِأَيْدِيهِمْ فَلَيْسَ لِرَبِّهَا سِوَاهَا أي: قائمة بيد الفقراء ولم يدخلها نقص فليس لربها غيرها سواء تصدق بها عن نفسه أم لا، أي ليس لصاحبها أن يضمنه قيمته إن شاء.

وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ عَبْداً فَمَا وَجَبَ بِالتَّعَدِّي فَفِي رَقَبَتِهِ كَالْجِنَايَةِ، وَبِغَيْرِهَا فَفِي ذِمَّتِهِ ... لما قدم أن للملتقط التصرف فيما بعد السنة لا قبلها علم أن بيعها بعد السنة لا يكون تعدياً وأن قبلها تعدياً، فلذلك إذا استهلك العبد الملتقط قبل السنة تعلقت برقبته لتعديه، وإذا استهلكها بعد السنة لا تتعلق إلا بذمته كالحر. ***

اللقيط

اللَّقِيطُ: طِفْلٌ ضَائِعٌ لا كَافِلَ لَهُ (اللَّقِيطُ) فعيل بمعنى مفعول، وقوله: (طِفْلٌ) أراد الجنس، فيشمل الذكر والأنثى، وإلا فاللقيط إنما هو الذكر. ابن سيده: وأما الأنثى فلقيطة. وكلامه ظاهر. والمنبوذ مرادف للقيط على مقتضى كلام الجوهري والمتقدمين من أصحابنا. عياض في المشارق: وقيل المنبوذ ما طرح صغيراً أول ما ولد، واللقيط ما التقط صغيراً، والشرائد في الخلاء وشبه ذلك. وقيل: اللقيط إذا أُخذ، والمنبوذ ما طرح- مطروحاً- ولا يسمى لقيطاً إلا بعد أخذه. وَالالْتِقَاطُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لأن حفظ النفوس واجب، وكان على الكفاية لأن المعنى المقصود يحصل بواحد، وذلك فرض الكفاية. وَيَنْبَغِي الإِشْهَادُ أي: ظاهره الاستحباب. وقال ابن عبد السلام: ظاهره الوجوب خوف الاستغراق. انتهى. وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بَعْدَ أَخْذِهِ هكذا لمالك في المدونة؛ لأن فرض الكفاية يتعين بالشروع فيه كالنافلة.

وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ لِيَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ فَلَمْ يَقْبَلْهُ. قَالَ الْبَاجِيُّ: يَعْنِي إِنْ كَانَ مَوْضِعاً مَطْرُوقاً وَيُوقِنُ أَنَّ غَيْرَهُ يَاخُذُهُ يعني: وقال أشهب: ليس له رده إلا أن يكون أخذه ليرفعه للحاكم ولم يقصد تربيته، ولم يقبله الإمام لأنه لم يلزم تربيته. وتقييد الباجي ظاهر لأنه إذا لم يكن الموضع مطروقاً فلا يرده لأنه يعرض للتلف غالباً. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ الالْتِقَاطُ إِلا بِإذْنِ السَّيِّدِ لأنه يشتغل بتربيته ونفقته عن سيده، ومراده بالعبد الغني ومن فيه شائبة من الرق. وإنما نص على المكاتب لأنه قد يتوهم لما أحرز نفسه وماله أن له ذلك، ووُجِّه أنه ليس له ذلك فإن اللقيط يحتاج إلى حضانة والحضانة تبرع وليس من أهله. وَوَلاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ قال مالك في الموطأ: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر وولاؤه لجميع المسلمين يرثونه ويعقلون عنه، لكن في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أن قال للملتقط طفلاً: اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته. وَيُنْزَعُ اللَّقِيطُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلامِهِ مِنَ الذِّمِّيِّ خشية أن يربيه على دينه أو يطول الزمان فيسترقه، قاله مطرف وأصبغ. ولو لم يفطن إلى ذلك حتى كبر الصبي أو الصبية على دين ملتقطه [651/أ] لم يلتفت غلى ذلك وحكم بإسلامه وإلا فهو مرتد. هذا ظاهر كلامهم. انتهى. لأنه قد سئل سحنون عن نصرانية التقطت صبية فربتها حتى بلغت على دينها، قال: إن ثبت أنها لقطة فتردها إلى الإسلام وهي حرة. واحترز بقوله المحكوم بإسلامه مما لا يحكم بإسلامه، وسيأتي تفصيل ذلك.

وَإِذَا ازْدَحَمَ اثْنَانِ فَالسَّابِقُ ثُمَّ الأَوْلَى وَإِلا فَالْقُرْعَةُ أي: وإن كان الآخر أولى فالسابق أحق لسيقيته، وهو مقيد بما إذا لم يؤد إلى ضياعه عند الأول. أشهب: إن كانا سواء أو متقاربين فالأول أحق به، فإن خيف أن يضيع عند الأول فالثاني أحق به إلا أن يكون طال مكثه عند الأول وليس اللقط من ضرر فالأول أحق به. وقوله: (ثُمَّ الأَوْلَى) يعني: إن تساويا في السبقية فالأقوى في الحضانة أحق به، وإن تساويا في الكفالة فالقرعة. وَعَلَى الْمُلْتَقِطِ حَضَانَتُهُ لأنه التزمها بالتقاطه. وَأَمَّا نَفَقَتُهُ فَمِنْ مَا لَهُ مِنْ وَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ شَيْءٍ كَانَ تَحْتَهُ أَوْ مَلْفُوفاً مِمَّا يَظْهَرُ أَنَّهُ وُضِعَ لَهُ وَإِلا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى الْمُلْتَقِطِ حَتَّى يَبْلُغَ أَوْ يَسْتَغْنِيَ ... قوله: (فَمِنْ مَا لَهُ) هو بفتح اللام. وقوله: (مِنْ وَقْفٍ .. إلخ) بيان ذلك. وقوله: (أَوْ شَيْءٍ .. إلخ) سواء كان فرشاً أو دراهم أو دنانير. وهو ظاهر. ابن شاس: وأما المدفون في الأرض تحته فليس هو معه إلا أن توجد معه رقعة مكتوبة أنه له. ابن شعبان: وما وجد قريباً منه من مال أو دابة فهي ضالة أو لقطة، فإن لم يكن له شيء مما ذكر ولم يتبرع أحد بإنفاق عليه أعطي له من بيت المال شيء، وهو معنى قوله: (وَإِلا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ) لأنه فقير من فقراء المسلمين. قوله: (فَإِنْ تَعَذَّرَ) فلمالك في الموازية: نفقته على ملتقطه حتى يبلغ ويستغني. هكذا نقل الباجي وغيره هذه الرواية بالواو خلاف قول المصنف ويستغني. ووجبت النفقة على الملتقط؛ إما لأن العادة التزامها، أو لأنه أولى الناس به.

فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَباً بِالْبَيِّنَةِ طَرَحَهُ عَمْداً لَزِمَتْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ حِسْبَةً فَلا رُجُوعَ، فَإِنْ أَشْكَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْفِقِ .... قوله: (ثَبَتَ أَنَّ لَهُ) أي: اللقيط، (بِالْبَيِّنَةِ) لا مفهوم له؛ لأنه لو أقر أنه ولده كان كذلك، وإنما تشترط البينة أو ما يقوم مقامها في التصديق في الاستلحاق كما سيأتي. وقوله: (طَرَحَهُ عَمْداً) هكذا في تضمين الصناع من المدونة لأنه قال: إن تعمد طرحه وهو ملي رجع عليه بما أنفق، وإن لم يطرحه فلا شيء عليه. ووجهه أنه إذا لم يطرحه الأب فالنفقة حينئذ ساقطة لأنه لا يمكنه توصيله إلى الولد. وقوله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ حِسْبَةً) هو استثناء من قوله: (لَزِمَتْهُ) أي: ألا تلزمه النفقة إلا أن يكون الملتقط أنفق حسبة؛ أي تطوعاً لله تعالى. وروى أشهب أنه لا شيء على الأب بحال لأنه أنفق تطوعاً. وقوله: (فَإِنْ أَشْكَلَ) أي: لم يقم دليل على أنه أنفق عليه حسبة أو على الرجوع (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْفِقِ) أي: الملتقط- مع يمينه أنه ما أنفق إلا ليرجع. قاله ابن شاس. وَيُحْكَمُ بِإِسْلامِ اللَّقِيطِ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاضِعِهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قُرَى المُشْرِكِينَ فَمُشْرِكٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَلْتَقِطَهُ مُسْلِمٌ ... الأول مذهب المدونة ونص عليه في تضمين الصناع، ووجهه أن المعتبر الدار إذ يغلب على الظن أن من وجد بموضع أنه من أهله، والحكم للغالب. وروى أشهب أنه مسلم إذا التقطه مسلم تغليباً لحكم الإسلام لأنه يعلو ولا يعلى عليه. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ بَيْتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَمُشْرِكٌ إِلا أَنْ يَلْتَقِطَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ كَحُرِّيَّتِهِ لِلاحْتِمَالِ .... لما تكلم على ما إذا كانت القرية كلها للمسلمين أو مشركين تكلم على ما إذا كانت القرية كلها للمسلمين مشتركة والأغلب الشرك ويعمهم من تعيين المصنف هذه الصورة

بالخلاف أنه لو كان المسلمون مساوين أو أكثر أو قريباً من التساوي أن يحمل اللقيط على الإسلام ولو التقطه مشرك، لأنه لما احتمل الإسلام انبغى أن يغلب ولا عبرة بملتقطه، كما لو التقطه عبد فإنه يجعل حراً تغليباً لشرف الحرية ولا عبرة للعبد الملتقط، وهذا معنى قوله: (كَحُرِّيَّتِهِ لِلاحْتِمَالِ). فإن قلت: في الأصل معنى ليس في الفرع وهو كثرة الأحرار بل الفرع بالعكس، لأن المشركين أكثر. قيل: وصف الأكثرية ملغى باتفاق الضمير بدليل أنه لو التقطه مسلم عند ابن القاسم لكان مسلماً. وَفِي اسْتِلْحَاقِ الْمُلْتَقِطِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَوْلانِ أي: صحة الاستلحاق. وقوله: (بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) وأما بالبينة فيقبل باتفاق. وقوله: (قَوْلانِ) الذي رواه ابن القاسم أنه لا يلحق به. وقال اشهب: لحق به أبو إسحاق وهو الاختيار، وربما طرح الناس أولادهم للإملاق أو غيره. ووجه القول الأول أن العرف يكذبه. وَفِي مُسْلِمٍ غَيْرِهِ ثَالِثُهَا: إِنْ أَتَى بِوَجْهٍ لَحِقَ كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ طَرَحَهُ لأَنَّهُ لا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ وَسَمِعَ أَنَّهُ إِذَا طَرَحَهُ عَاشَ ... أي: وفي لحوقه بمسلم غير الملتقط ثلاثة أقوال: أولها لأشهب أنه يلحق به لأنه مجهول النسب. ثانيها: لا يلحق به إلا ببينة لأن الولد قد ثبت للمسلمين. الثالث ذكره ابن شعبان أنه لا يلحق به إلا أن يكون رجلاً تكلة لا يعيش له الأولاد فزعم أنه فعل ذلك لذلك. وأسقط المصنف منه قوله يعلم [651/ب] أنه فعل ذلك لذلك. ابن راشد: وينبغي إذا أتى بوجه يدل على قوله ألا يختلف في قبول قوله. وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلا يَلْحَقُهُ إِلا بِبَيِّنَةٍ زاد ابن شاس: ويكون على دينه إلا أن يسلم قبل ذلك وبعقل الإيمان فيكون مسلماً.

وَفِي الْمَرْأَةِ ثَالِثُهَا: تُصّدَّقُ إِنْ قَالَتْ مِنْ زِنىً وَتُحَدُّ قال ابن القاسم: لا يقبل قولها وإن أتت بما يشبه من العدم. وقال أشهب: تصدق مطلقاً. وقال محمد: إن قالت من زنى صدقت وحدت لبعد التهمة حينئذ، وأما من لها زوج فلا حتى يدعيه فيلحق به. وَاللَّقِيطُ حُرٌّ وَلا يُرَقُّ إِلا بِبَيِّنَةٍ لا بِإِقْرَارٍ هو ظاهر، وإنما لم يقبل إقراره لأنه ليس له أن يرق نفسه والحرية ظاهرة فيه. ***

كتاب الأقضية

الأَقْضِيَةُ: وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ قال الأزهري: القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه. وقال الجوهري: القضاء: الحكم. وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع الفقه، إلا أنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء، وقد يحسنها من لا باع له في الفقه، وهو كالتصريف من علم العربية، فإنه ليس كل النحاة يعلم التصريف، وقد يحسنه من ليس له باع في النحو، وإنما كان فرضاً، لأنه لما كان الإنسان لا يستقل بأمور دنياه، إذ لا يمكن أن يكون حَرَّاثَاً طَحَانَاً خبازاً إلى غير ذلك من الصنائع المفتقر إليها، احتاج إلى غيره، ثم بالضرورة قد يحصل بينهما التشاجر والخصام لاختلاف الأغراض؛ فاحتيج إلى من يفصل تلك الخصومات، ويمنع بعضهم من غرضه، فلهذا وجب إقامة الخليفة، لكن نظر الخليفة أعم إذا جد ما ينظر فيه القاضي، ولما كان هذا الغرض يحصل بواحد وجماعة كان فرض كفاية؛ لأن ذلك شأن فروض الكفاية. فَإِذَا انْفَرَدَ بِشَرَائِطِهِ تَعَيَّنَ أي: إذا انفرد شخص بشرائطه تعين قبوله للقضاء، ولم يجز له الهروب منه، ووجب على الإمام توليته. قال مالك: ويجبر عليه إذا تعين، قيل له: الجبر بالضرب والحبس، قال: نعم، ومثله لابن شعبان، وقد ذكر ابن سحنون أن الإمام أقام حولاً يجبر أباه على القضاء حتى تخوف منه، فحينئذ قبل. وإذا كان القضاء فرض كفاية وقد تعين كانت منزلته عظيمة؛ أعني: بشرط أن يعن القاضي على الحق كما كان في الصدر الأول، وأما إذا لم يعن عليه وربما أعان من ولاه عليه لبلوغ هواه.

ابن عبد السلام: فينقلب ذلك الواجب محرماً نسأل الله السلامة في الدين والدنيا، وبالجملة: إن أكثر الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على مسميات خسيسة انتهى. ولهذا كان الأولى الهروب عن خطة القضاء ما لم تتعين. ولخطر هذه الخطة قال أصحابنا: إذا عين الإمام رجلاً للقضاء وَثَمَّ مَنْ يصلح غيره جاز له الاستعفاء والهروب، بخلاف سائر فروض الكفاية؛ فإنه إن عين بعضهم لم يجز الهروب، كما لو عين طائفة لقتال العدو فإنه يتعين في حقها. وَخَرَّجَ النسائِيُّ عن بُرَيْدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة؛ رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار" والتقسيم في الحديث إنما هو باعتبار الأنواع فربما لم يوجد من النوع إلا شخص واحد، ويوجد من الآخر آلاف وَخَرَّجَ النسائي من حديث عثمان الأخنسي، ووثقه يحيى ابن معين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين" وفي رواية: "من استعمل على القضاء فكأنما ذبح بالسكين". وقال أصحابنا: وقد يجب طلب القضاء، وقد يستحب، وقد يحرم، ويكره. فيجب إذا كان من أهل الاجتهاد والعدالة ولا يكون هناك قاض، أو يكون ولكن لا تحل ولايته، أو يعلم أنه إذا لم يتول تضيع الحقوق ويكثر الهرج. ويستحب إذا كان عالماً خفي علمه عن الناس فأراد أن يشهره بالقضاء؛ لِيُعَلِّمَ الجاهل ويفتي المسترشد، أو يري أنه أنهض وأنفع للمسلمين من غيره. ويحرم على الجاهل ومن طلب به اكتساب دنيا، ويكره إذا كان عدلاً مشهوراً ينفع الناس بعلمه، وخاف إن تولى القضاء إلا يقدر على ذلك.

المازري: ويبعد عندي تصور الإباحة إلا عند تقابل أدلة الأحكام وقرائن الأحوال، ولا يقدر على ترجيح بعضها على بعض. وَصِفَاتُهُ ثَلاثَةٌ: شَرْطٌ وَاجِبٌ، وَمُوجِبٌ لِلْعَزْلِ غَيْرُ شَرْطٍ، وَمُسْتَحَبٌّ لما ذكر أنه إذا انفرد بشرائطه تعين شرع في بيان تلك الشرائط، ولما كانت الشروط قائمة بالقاضي أطلق عليها صفات. قوله: (وَصِفَاتُهُ) عائد على القاضي. وقوله: (شَرْطٌ وَاجِبٌ) أي: الأول، ووصف الشرط بالواجب لئلا يُعْتَقَدُ أنه شرط كمال، ومعنى الشرطية: أن عدم شيء من هذه الصفات يمنع صحة العقد وينفسخ بحدوثه. وقوله: (وَمُوجِبٌ لِلْعَزْلِ) أي: الصفة الثانية غير شرط في صحة الولاية وانعقادها ابتداء، ولكنه يجب أن يكون متصفاً بها، وعدمها موجب للعزل، وينفذ ما مضى من أحكامه. فإن قلت: قوله أولاً: (فَإِذَا انْفَرَدَ بِشَرَائِطِهِ تَعَيَّنَ) إما أن يريد به الصفة الأولى فقط أو الجميع، قيل: لا هذا ولا هذا؛ لأنه لو أراد الصفة الأولى فقط، لزم أن من حصلت فيه تعين عليه القضاء، فلا يكون الوصف الثاني موجب للعزل، ولو [652/أ] كان المراد الجميع لزم أن من انفرد بالصفتين الأوليين لا يتعين عليه، وليس كذلك؛ لأن الصفة الأولى مستحبة لا واجبة، وإنما مراده مجموع الصفتين الأوليين، لكن يبقى في كلامه تضاد؛ لأنه قال في الثاني: (وَمُوجِبٌ لِلْعَزْلِ غَيْرُ شَرْطٍ) فيكون أطلق الشرط على الشرائط وغيره. الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَكَراً حُرَّاً بَالِغاً عَاقِلاً مُسْلِماً عَدْلاً مُجْتَهِداً فَطِناً أي: الشرط الأول أو الوصف الأول أو القسم الأول مركب من ثمانية قيود:

أولها: أن يكون حراً، احترازاً من العبد، وَمَنْ فيه شائبة من شوائب الرق مِنْ مكاتب ومدبر ومعتق إلى أجل ومعتق بعضه؛ لأن كلاً من هؤلاء لا يلي أمر نفسه، فأحرى غيره، ولأنه لا يصح أن يكون شاهداً، والقضاء أعم من الشهادة، ويشمل قوله: (حُرَّاً) المعتق. ابن عبد السلام: وهو مذهب الجمهور. ومن النوادر عن سحنون المنع، واعتل بأنه قد يستحق فيرد إلى رق؛ فترد أحكامه، وأورد النقض بقبول شهادته مع أنه قد يستحق، وأجيب بأن للإمام مندوحة عن ولايته بخلاف قبول شهادته في أمر تَعَيَّنَ عليه لا يعرفه غيره. ثانيها: أن يكون ذكراً؛ فلا يصح عقد الولاية لامرأة؛ لما في البخاري: "لن يفلح قوم وَلَّوْ أمرَهم امرأة". روى ابن أبي مريم عن ابن القاسم إجازة توليتها القضاء. ابن زرقون: وأظنه يريد فيما تجوز فيه شهادتها كقول أبي حنيفة. انتهى. ويحتمل أن يريد الإطلاق كقول محمد بن الحسن والطبري والمازري. والإجماع على أنها لا تُوَلَّى الإمامة الكبرى، ولا يقال: قد وَلَّى عمر رضي الله عنه الشفاء الحسبة، وهي قضاء وحكومة؛ لأنا نقول: عموم الحديث مقدم عليه. المازري: واعتذر عنه بعض أصحابنا بأنه إنما جعل لها تغيير ما يقع من المنكرات في السوق، ولا يلزم من تخصيص عموم الحديث بهذه الصورة تخصيصه بغيرها. ثالثها: أن يكون بالغاً. رابعها: أن يكون عاقلاً، ولا خلاف في اعتبارهما. خامسها: أن يكون مسلماً، ولا خلاف فيه إلا ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه من ولاية الكافر الحكومة بين أهل دينه. المازري: إن كان معناه أنهم يردون إلى دينهم إذا لم يتراضوا بحكم الإسلام، وتخاصموا الحبر من أحبارهم من دينهم، ويمنع أحد الخصمين من الامتناع منه- فهذا مما لا يستنكر.

سادسها: أن يكون عدلاً. المازري: وقد نص الله تعالى على اشتراط العدالة في الشاهد، والقاضي أشد حرمة منه. قال: وعلى منع ولاية الفاسق العلماء، وشذ قوم من المتكلمين فذهبوا إلى أن الفسق لا ينافي عقد ولاية القضاء، وهو مذهب مستنكر. سابعها: أن يكون مجتهداً؛ فلا تصح ولاية المقلد ولا تنفذ أحكامه. المازري: هكذا يحكي أصحابنا عن المذهب أنه لا تجوز ولاية المقلد. وهذا إنما هو إذا كان المجتهد موجوداً، وإلا فعند عدمه تصح الولاية لغيره كما سيأتي. قال مالك في الواضحة: لا ارى خصال القضاة تجتمع اليوم في أحد، ولكن يجب أن يكون عالماً عدلاً. ابن حبيب: فإن لم يكن عالماً فعاقلاً ورعاً؛ لأنه بالعقل يسأل وبالورع يقف، فإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده. ابن رشد: يريد بالعقل: العقل الحصيف، وأما العقل الذي هو شرط التكليف فإنما هو شرط في صحة الولاية. أصبغ: ويعزل الجاهل إلا أن لا يوجد غيره فيقر، ويؤمر أن يستكثر من المشورة ويتفقد أمره في كل حين. المازري: وما قاله ابن حبيب تسهيل في ولاية القاضي المقلد، ولكنه لم يصرح بجواز هذا مع القدرة على نظار، بل أشار إلى كون الضرورة تدفع إلى ولاية المقلد. وهكذا قال أصبغ إذا لم يوجد إلا عدل لا علم عنده وعالم لا بأس بحاله، لكن الذي لا علم عنده أعدل منه فإن العالم هو الذي يولى. فإن كان ليس بعدل، فيولى العدل الذي ليس بعالم، ويؤمر بأن يستشير. قال: وهذا الذي وقع في المذهب ينبغي أن يحمل على

مواضع الضرورة، وأما مع الاحتمال وكثرة النظار فلا يختلف أن ولاية النظار أولى من ولاية المقلدين، وإنما يتصور الخلاف هل تصح ولاية المقلد وتنفذ أحكامه وتنعقد ولايته وهو قول أبي حنيفة أم لا، وهو قول الشافعي وهو الذي يحكيه أئمة مذهبنا عن المذهب؟ ثامنها: أن يكون فطناً؛ فلا يجوز ولاية المغفل كما في الشهادة، بل الاشتراط هنا أولى، وهذا الشرط لم يقع في كل النسخ، وكلام الطرطوشي يدل على اشتراطه. وبقي على المصنف شرط تاسع، وهو أن يكون القاضي واحداً، نص عليه ابن شاس وابن شعبان وغيرهما؛ أي: لا يجوز أن يفوض القضاء إلى اثنين لا يتم الحكم إلا باجتماعهما. المازري: وأغلى الباجي في المنع حتى ادعى عليه الإجماع، وقال: لم يتفق هذا من زمانه عليه السلام إلى زماننا، وخاف من النقض عليه بالحكمين، لأنهما إذا اختلفا انتقل إلى غيرهما، وفي القاضيين لا يمكن التنقل عنهما، فيؤدي اختلافهما إلى وقف الأحكام. المازري: وعندي أنه لا يقوم دليل على المنع إذا اقتضت ذلك المصلحة ودعت إليه الضرورة في نازلة يرى الإمام أنها لا تصلح، وترتفع فيها التهمة إلا بقضية [652/ب] رجلين. وذكر الباجي أنه قد ولي في بعض بلاد الأندلس ثلاثة قضاة على هذه الصفة، ولم ينكر ذلك من كان من فقهائه، وانه أنكر هو فعلهم. وَإِنْ لَمْ يُوْجَدْ مُجْتَهِدٌ فَمُقَلِّدٌ؛ فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إِلَى مُقَلَّدِهِ، وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُ، وَقِيلَ: لا يَجُوزُ لَهُ إِلا بِاجْتِهَادِهِ ... يعني: أنه لا تترك ولاية القضاء عند عدم الاجتهاد لئلا يؤدي إلى الهرج وإبطال الحقوق، ولأن إنصاف المظلوم من الظالم واجب، وهو ممكن من المقلد. ابن راشد وابن عبد السلام: إلا أنه ينبغي أن يختار أعلم المقلدين ممن له فقه نفيس وقدرة على الترجيح بين أقاويل أهل مذهبه ويعلم منها ما هو أحرى على أصل مذهب إمامه مما ليس

كذلك، وأما إذا لم يكن بهذه المزية فيظهر من كلام الشيوخ اختلاف بينهم هل يجوز توليته القضاء أم لا؟ عياض: وشرط العلم إذا وجد لازم، فلا يصح تقديم من ليس بعالم، ولا ينعقد له تقديم مع وجود العالم المستحق للقضاء، لكن رخص فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم، إذا لم يوجد من بلغها. ومع كل حال فلابد أن يكون له علم ونباهة وفهم لما يتولاه، وإلا لم يصح له أمر. وقوله: (فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مُقَلَّدِهِ) بفتح اللام. ابن العربي: ويقضي حينئذ بفتوى مقلده بنص النازلة، فإن قاس على قوله أو قال: "يجيء من هذا كذا" فهو متعد. خليل: وفي هذا نظر، والأقرب جوازه للمطلع على مدارك إمامه. ووجه المازري ما ذكره المصنف بأنه لو حكم بغير مذهبه تطرقت إليه التهمة بالحيف والقضاء بالشهوة؛ فأمر باتباع مذهبه للسياسة لا لمقتضى أصول الشرع؛ لأن أصول الشرع مبنية على أن المفتي والقاضي يؤمران باتباع الحق حيثما ظهر لهما. قوله: (وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُ) هذا القول ذكره في الجواهر عن الطرطوشي، ونصه: ولا يلزم أحداً من المسلمين أن يقلد في النوازل والأحكام من يعتزي إلى مذهبه، فمن كان مالكياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقوال مالك، وهكذا القول في سائر المذاهب، بل أينما أداه اجتهاده من الأحكام صار إليه، فإن شرط على القاضي أن يحكم بمذهب إمام معين من أئمة المسلمين ولا يحكم بغيره فالحكم صحيح والشرط باطل، كان موافقاً لمذهب المشترط أو مخالفاً له.

قوله: (وَقِيلَ: لا يَجُوزُ لَهُ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) أي: وقيل: لا يجوز لهذا المقلد إذا أَدَّاهُ اجتهاده إلى خلاف مذهبه أن يحكم إلا باجتهاده، ولا يقال: قوله: (إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) ينافي فرض المسألة؛ إذ الكلام في عدم المجتهد؛ لأن المراد عدم المجتهد المطلق، وأراد بقوله: (إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) الاجتهاد المقيد، وهو الاجتهاد في مذهبه والإطلاع على مدارك إمامه. وقال ابن عبد السلام: قوله: (وَقِيلَ: لا يَجُوزُ لَهُ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) معناه: لا يجوز تولية المقلد البتة، ويرى هذا القائل أن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وأنها موجودة إلى الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانقطاع العلم فيه، ولم نصل إليه إلى الآن، وإلا كانت الأمة مجمعة على الخطأ. انتهى. وفيه بُعْدٌ؛ لأن الفرض عدم المجتهد. خليل: العلماء في جواز خلو الزمان عن مجتهد قولان: فاختار ابن الحاجب وغيره الجواز خلافاً للحنابلة وتحقيق ذلك في محله، وهو عزيز الوجود في زمننا، وقد شهد المازري بانتفائه ببلاد المغرب في زمانه، فكيف في زمننا؟! وهو في زمننا أمكن لو أراد الله بنا الهداية؛ لأن الأحاديث والتفاسير قد دونت، وكان الرجل يرحل في طلب الحديث الواحد، لكن لابد من قبض العلم على ما أخبر به عليه السلام. فإن قيل: يحتاج المجتهد أن يكون عالماً بمواضع الإجماع والخلاف، وهو متعذر في زماننا لكثرة المذاهب وتشعبها، قيل: يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعاً عليها؛ لأن القصد أن يحترز من مخالفة الإجماع، وذلك ممكن. وَقَالَ أَصْبَغُ: الْعَدْلُ مِنَ الثَّانِي يعني: أن المشهور أن العدالة من الأول؛ فلا تصح الولاية لفاسق، ولا تنفذ أحكامه، وافق الحق أم لم يوافقه.

ورأى أصبغ أن العدالة من الوجه الثاني، وهو الموجب للعزل؛ فلا يجوز أن يُوَلَّى الفاسق، وإن طرأ وجب عزله، ويمضي مِنْ أحكامه ما وافق الحق. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْعَالِمُ مِنَ الثَّالِثِ أي: من المستحب، وعليه فتنعقد ولاية الجاهل، ولا يجب عزله. وقوله: (وَقَالَ الْبَاجِيُّ) ليس بجيد، وإنما هو ابن رشد، وقد تقدم غير مرة السبب المقتضي لذلك، ووهَّم ابن عبد السلام ابن شاس فيه أيضاً، قال: لأنه ليس قولاً لابن رشد، وإنما حكى فيه ابن رشد كلام غيره كما حكاه الأكثرون، ولكنه أشبع الكلام على العلم إثر كلامه على النوع الثالث؛ فاعتقد ابن شاس أنه يرى كون العلم من هذا النوع. خليل: وليس توهيم ابن شاس بجيد، فقد نص في المقدمات على أن العلم من الصفات المستحبة، وكذلك الفطانة، ولم يعز ذلك لغيره. الثَّانِي: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلامُ، وَلا نَصَّ فِي الْكِتَابَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الثَّالِثِ أي: القسم الثاني أو الوصف الثاني: وهو الموجب للعزل، فتنعقد ولاية الأصم والأعمى والأبكم وتنفذ أحكامه سواء ولي كذلك أو طرأ عليه ذلك، وهكذا قال صاحب المقدمات. ابن راشد: وظاهر ما في وثائق ابن القاسم [653/أ] أنها من الأول، والمذهب ما تقدم. وذكر الباجي أنه لم ير في السمع نصاً، واختار المنع، وعلله بسماع الدعاوى والشهادات، وليس كلهم يمكنه أن يكتب، وكذلك ذكر أنه لا خلاف في منع كون الأعمى حاكماً. وذكر عياض وابن زرقون أن الماوردي حكى عن مالك جوازه. عياض: ولا يصح عن مالك؛ إذ لا يتبين طالب من مطلوب ولا شاهد من مشهود عليه.

ولا نص في الكتابة، هكذا قال الباجي وابن رشد أنه لا نص هل يشترط في القاضي أن يكتب؟ وعن الشافعية قولان: أظهرهما الجواز؛ لأن إمام المسلمين وسيد المرسلين وأفضل الحاكمين صلى الله عليه وسلم كان أُمِّيَاً، قالا: وللمنع وجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بخلاف غيره. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَرِعاً غَنِيَّاً لَيْسَ بِمِدْيَانٍ، بَلَدِيَّاً مَعْرُوفَ النَّسَبِ غَيْرَ مَحْدُودٍ حَلِيماً مُسْتَشِيراً لا يُبَالِي لَوْمَةَ لائِمٍ، سَلِيماً مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ .... هذا هو المستحب. قوله: (وَرِعاً) أي: عن الشبهات. (غَنِيَّاً) لأن الفقير قد يحتاج إلى غيره، ومقالة السوء تكثر فيه بخلاف الغني. ابن عبد السلام: والظاهر الاكتفاء بالغنى عن عدم الدين؛ فإن وجود الدين مع الغنى بما يزيد على مقدار الدين لا أثر له. خليل: وفيه نظر، والظاهر خلافه، ولا يخفى عليك. (بَلَدِيَّاً) ليعرف الناس والشهود، والمقبولين من الشهود وغيرهم. ابن راشد وابن عبد السلام: والولاة الآن يرجحون غير البلدي، إذ لا يخلو البلدي من أعداء، والغالب وجود المنافسة بينه وبين أهل بلده. (مَعْرُوفَ النَّسَبِ) لأن من لا يعرف أبوه من ولد لعان أو زنى يطعن فيه، فلا يكون له في نفوس الناس كبير هيبة. وقال سحنون: لا بأس بتولية ولد الزنى، ولكن لا يحكم في الزنى كما لا يحكم لولده. الباجي: والأظهر أنه ممنوع؛ لأن القضاء موضع رفعة وطهارة أحوال، فلا يليها ولد الزنى كالإمامة في الصلاة.

وقوله: (غَيْرَ مَحْدُودٍ) أي: في زنى ولا غيره. وفي كتاب أصبغ: ويستقضى المحدود في الزنى والقذف، والمقطوع في السرقة إذا كان اليوم مُرْضِيَاً. وجوز أصبغ حكمه فيما حد فيه، ومنعه سحنون قياساً على الشهادة. (حَلِيماً) أي: على الخصوم، وَمِنْ حلمه أن يسمع الكلام الذي لا يفيد إلا أن تنتهك حرمة الشرع، فيكون انتصاره لغيره، وبذلك تتم مهابته التي هي أحد صفات الكمال. (مُسْتَشِيراً) أي: لأهل العلم؛ لأنه أهون له على حصول الصواب. المازري: وأغلى الشافعي في هذا، وقال: يجمع المخالفين له في المذهب ويشاورهم؛ لأ، كل من انتحل مذهباً وتفرد للذب عنه كل خاطره في الإكثار من الأدلة عليه. وقوله: (لا يُبَالِي لَوْمَةَ لائِمٍ) الظاهر أن هذا راجع إلى الوصف الأول؛ لأن الخوف من لومة اللائم راجع إلى الفسق. وقوله: (سَلِيماً مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ) لأن السلامة منها رأس كل خير، وكثيراً ما يؤتى على أهل الخير من جهة قرنائهم السوء. والبطانة: هم الأصحاب. (غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ) هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعضها: (وغيره) بواو العطف؛ ليكون معطوفاً على مقدر؛ أي: فَطِنَاً وغير زائد في الدهاء؛ لأن ذلك يحمله على الحكم بالفراسة وتعطيل الطرق الشرعية مِنْ البينة والأيمان. فَقَدْ عَزَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زِيَاداً لِذَلِكَ هذا استدلال منه على ما ذكره أنه لا يكون القاضي زائداً في الدهاء، ويقال: إن عمر قال لزياد لما عزله: كرهت أن أحمل الناس على فضل عقلك. والله أعلم بصحة هذا، وما

رأيت مَنْ ذَكَرَ زِيَاداً في قضاة عمر، وقد وَلَّى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وَوَلَّى عليٌّ زياداً وقيسَ بن سعد بن عبادة وهؤلاء هم دهاة العرب، وكان عمر إذا استضعف عقل رجل قال له: "سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص" وحكاياته في حروبه في فتوح الشام ومصر مشهورة عند الإخباريين، إلا أن هؤلاء كانوا أمراء غير قضاة، وقد يحتاج الأمير في زيادة الدهاء إلى ما لا يحتاج إليه القاضي. وَلَوْ تَجَرَّدَ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ عَنْ الاسْتِخْلافِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْلافٌ، وَقِيلَ: إِلا فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ... يعني: إن أذن له في الاستخلاف، أو نص له على عدمه عَمِلَ على ذلك، وأما إن تجرد عقد التولية عن ذلك فإن لم يكن له عذر لم يكن له ذلك، وإن كان له عذر فقال مطرف وابن الماجشون: له ذلك. وقال سحنون: ليس له ذلك وإن مرض أو سافر، ورآه كالوكيل المخصوص. هكذا حكى جماعة هذا القول عن سحنون، ومقتضى كلام المصنف أنه المذهب عنده. ابن راشد: وهذا إذا استخلف في البلد الذي هو فيه ليكفيه بعض تعب الخصوم، وأما إن كان عمل القاضي واسعاً فيريد أن يقدم في الجهات البعيدة فالمشهور الجواز، وقال ابن عبد الحكم؛ لا يجوز إلا بإذن الخليفة. ابن محرز: ولم يختلفوا أن القاضي ليس له أن يوصي بالقضاء عند موته لغيره، بخلاف الوصي والإمام الأكبر، وضابط ذلك أن كل مَنْ ملك حقاً على وجه لا يملك معه عزله فله أن يوصي به، ويستخلف عليه كالخليفة والوصي والمجبر على ما ذهب إليه ابن القاسم وإمام الصلاة، وكل من ملك حقاً على وجه يملك معه عزله عنه فليس له أن يوصي به كالقاضي والوكيل، ولو كان مفوضاً [653/ب] إليه أو خليفة القاضي للأيتام وشبه ذلك.

وَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِمَا يُسْتَخْلَفُ فِيهِ الضمير في (عِلْمُهُ) عائد على المستخلف بفتح اللام، المفهوم من السياق، يعني: أنه لا يشترط في خليفة القاضي أن يكون عالماً بجميع أبواب الفقه، بل إنما يشترط علمه بما يستخلف فيه، مثاله: لو استخلف على النظر بين الزوجين فيشترط علمه بالأنكحة وما يتعلق بها، إلا أن يفوض إليه فيشترط علمه بالجميع كما في الأصل. وَلِلإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَرَى غَيْرَ رَايِهِ فِي الاجْتِهَادِ وَفِي التَّقْلِيدِ، وَلَوْ شَرَطَ الْحُكْمَ بِمَا يَرَاهُ كَانَ اشْتِرَاطاً بَاطِلاً، وَالتَّوْلِيَةُ صَحِيحَةٌ. قَالَ الْبَاجِيُّ: كَانَ فِي سِجِلَّاتِ قُرْطُبَةَ وَلا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وَجَدَهُ (لِلإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَرَى غَيْرَ رَايِهِ) كالمالكي يولي شافعيَّاً أو حنفيَّاً. ولو شرط- أي الإمام- على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له كان الشرط باطلاً وصح العقد، هكذا نقله في الجواهر عن الطرطوشي. وقال غيره: العقد غير جائز، وينبغي فسخه ورده؛ لكونه صار مأموراً بمخالفة الحق، وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهداً. وكذا فرض المازري المسألة فيه ثم قال: وإن كان الإمام مقلداً أو كان متبعاً لمذهب مالك واضطر إلى ولاية قاض مقلد- لم يَحْرُمْ على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك، ويأمره ألا يتعدى في قضائه مذهب مالك؛ لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي هذا القاضي منه، وولي عليهم، وقد وَلَّى سحنون لما ولي القضاء أمناء وكان فيمن ولاه رجل سمع كلام بعض أهل العراق فأمره سحنون ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة. وقوله: (قَالَ الْبَاجِيُّ) هكذا نقله الطرطوشي عن الباجي. الطرطوشي: وهو جهل عظيم منهم؛ يريد: لأن الحق ليس في شيء معين.

ابن راشد: وما نقل عن سحنون من ولاية ذلك الشخص على أن لا يخرج عن أقوال أهل المدينة؛ يريد: قولهم، وكيف يقول الأستاذ ذلك والناس إذا أتوا المالكي إنما يأتونه ليحكم بينهم بمذهب مالك؟! وقد أخبرني القرافي عن شيخه ابن عبد السلام أنه كان يرى في المسألة رأياً، وإذا سئل عنها ترك رأيه وأفتى بقول الشافعي، فقيل له في ذلك فقال: هذا لم يسألني عن اختياري، وإنما سألني عن مذهب الشافعي. وَيَجُوزُ أَنْ يُنَصَّبَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ فَأَكْثَرُ، كُلٌّ مُسْتَقِلٌ أَوْ مُخْتَصٌ بِنَاحِيَةٍ أَوْ بِنَوْعٍ .... لأن الناس قد يكثرون فلا يكفيهم الواحد، وفهم من كلامه أنه ليس من شرط ولاية القضاء أن تكون عامة، وهو مذهب مالك والشافعي خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا تنعقد إلا عامة. وعلى مذهبنا فيجوز للإمام أن يستثني أشخاصاً لا يحكم بينهم. أصحابنا: ولا يجوز أن ينهاه الأمير عن النظر في مسألة رجل بعد أن نظر فيها وأشرف على الحكم، أو نوع كالدماء والأموال. فَلَوْ تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي الاخْتِيَارِ فَالْقُرْعَةُ يعني: إذا كان في البلد قاضيان، وتنازع الخصمان في الاختيار، وطلب كل واحد منهما التحاكم عند من لم يطلب صاحبه الحكم عنده، فالقول قول الطالب. المازري: ولو فرضنا أن يكون الخصمان جميعاً طالبين- كل منهما يطلب صاحبه- فإن لكل منهما أن يطلب حقه عند من شاء من القضاة، ويطلب الآخر حقه عند من شاء. ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم أنه لا يراعي الطالب وإنما يراعي أقربهما مكاناً. ابن عبد السلام: فإن استوى المكانان أو كان كل واحد منهما طالباً فأشار المازري إلى أنه يرجح من جاء رسوله أولاً، فإن استووا فالقرعة، وينبغي أن ينظر أيضاً فيمن

يقرع بينهما، فإن ذلك يؤدي إلى تشاجر آخر؛ لأنهما قد لا يتفقان على القرعة؛ فلابد من حاكم يقرع بينهما. وَالتَّحْكِيمُ مَاضٍ فِي الأَمْوَالِ، وَمَعْنَاهَا كَحُكْمِ الْحَاكِمِ التحكيم: أن يُحَكِّمَ الخصمان رجلاً يحكم بينهمان وليس مولَّى من قبل الإمام ولا من قبل القاضي. ولا يؤخذ من قوله: (مَاضٍ) الجواز ابتداء، وقد نص المازري على جوازه من حيث الجملة، قال: كما يجوز لهما أن يستفتيا فقيهاً ويعملا بما يقول، ويرجعا إلى ما يفتي به. وتقييد قوله: (مَاضٍ) بالأموال قد يدل على أنه لا يمضي في خلافها، لكنه سيصرح بخلاف هذا المفهوم. واحترز بالأموال من غيرها فقد قال سحنون: لا يجوز في الحدود واللعان، وأضاف أصبغ الطلاق والعتاق واللواء والنسب والقصاص وقال: وأما الجراح فله أن يُمَكِّنَ مَنْ يستقاد منه كحكم الحاكم؛ أي: فلا يكون لواحد منهما ولا لحاكم غيرهما نقضه إلا أن يكون جوراً بَيِّنَاً، وامتنع التحكيم في هذه الأمور؛ لأنها يتعلق بها حق لغير الخصمين؛ إما لله تعالى وإما لآدمي، فاللعان فيه حق للولد في نفي نسبه، وكذلك الأنساب، قالوا: والطلاق والعتاق فيهما حق لله تعالى؛ إذ لا يجوز بقاء المطلقة البائن في العصمة، ولا رد العبد في الرق. وَفِي اشْتِرَاطِ دَوَامِ الرِّضَا إِلَى حِينِ نُفُوذِ الْحُكْمِ قَوْلانِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: [654/أ] يُشْتَرَطُ إِلَى أَنْ يَنْشَبَا ... يعني: واختلف في لزوم الحكم للخصمين، هل هو مشروط بدوام الرضا إلى حين الحكم ولكل واحد منهما أن يرجع قبل النفوذ، وهو قول سحنون، أو ليس بشرط وليس لأحدهما أن يبدو له إن كان قبل أن يفاتحه، وحكمه لازم لهما كحكم السلطان، وهو قول ابن الماجشون؟ ومنشأ الخلاف هل يقال: إنهما لما حكَّماه صار كالوكيل لهما أولاً، وهو كالحاكم، وفي كلامه حذف معطوف تقديره: إلى نفوذ الحكم وعدم اشتراطه.

وقوله: (إِلَى حِينِ نُفُوذِ الْحُكْمِ) أي: إلى نفوذه، وهكذا صرح به سحنون. وأشار ابن عبد السلام: إلى أن كلام المصنف لا يؤخذ منه هذا؛ لأن بين نفوذ الحكم وزمان نفوذه فرقاً. وفيه نظر. وقال أشهب: يشترط رضاهما إلى أن ينشبا في الخصومة، فإذا نشبا فلا رجوع لأحدهما. ولابن القاسم في المجموعة: إذا أقام البينة عنده ثم بدا لأحدهما فأرى أن يقضي ويجوز حكمه. ولابن المواز: له الرجوع ما لم يشرف على الحكم. فَلَوْ حُكِّمَ فِي غَيْرِ الأَمْوَالِ فَقَتَلَ أَوْ حَدَّ أَوِ اقْتَصَّ أَوْ لاعَنَ أُدِّبَ وَمَضَى مَا لَمْ يَكُنْ جَوْراً بَيِّناً ... هذا هو التصريح بخلاف ما فهم من قوله أولاً: (مَاضٍ فِي الأَمْوَالِ). وما ذكره المصنف نص عليه أصبغ فقال: إذا حكم فيما ذكرنا أنه لا يحكم فيه فإن القاضي يمضي حكمه، وينهاه عن العودة. وإن فعل المحكم ذلك لنفسه فقتل أو اقتص أو حد ثم رفعه إلى الإمام أدبه السلطان وزجره، وأمضى ما كان صواباً من حكمه. وانظر قول أصبغ: "ما كان صواباً" وقول المصنف: (مَا لَمْ يَكُنْ جَوْراً بَيِّناً) فإن الظاهر أن بينهما فرقاً. ابن راشد: وظاهر كلام سحنون أن يمنع من نقضه إلا أن يكون جوراً بيناً، وأما الحكم بإنفاذه وإمضائه فلم يصرح به، وأشار بعض الشيوخ إلى أن مالكاً وسحنوناً اتفقاً على نقض ما هو جُورٌ بَيِّنٌ، وما ليس كذلك فنَصَّ مالك على أن القاضي يمضيه، وظاهر كلام سحنون أنه لا يعارضه.

فَلَوْ حَكَّمَا عَبْداً أَوِ امْرَأَةً أَوْ مَسْخُوطاً فَقَوْلانِ، بِخِلافِ الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُوَسْوِسِ يطلب من الخصمين ابتداءً ألا يُحَكِّما إلا من اجتمعت فيه صفات القضاء، فإن حكما من لم تجتمع فيه، فأما الكافر والمجنون والموسوس فلا يمضي قضاؤهم باتفاق. قاله ابن راشد. وأشار اللخمي والمازري إلى أن الجاهل متفق على بطلان حكمه؛ لأن تحكيمه تخاطر وغرر. واختلف في غير من ذكر، فحكى اللخمي والمازري أربعة أقوال: الأول لأصبغ: يصح حكمهم. والثاني لمطرف: لا يصح. الثالث لأشهب: يمضي إلا في الصبي؛ لأنه غير مكلف، ولا إثم عليه إن جار، ونسب أيضاً لأصبغ. والرابع لعبد الملك: يصح إلا في الصبي والفاسق، وذِكرُ المصنف الصبي مع الكافر والمجنون يوهم أنه متفق عليه، وليس بظاهر. فَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَهُ فَثَالِثُهَا: يَمْضِي مَا لَمْ يَكُنِ الْمُحَكِّمُ الْقَاضِيَ ابن عبد السلام: هذه الأقوال صحيحة حكاها غير واحد، وأشار بعضهم أو صرح بنفي الخلاف في أن حكمه غير ماضٍ، وحكى بعضهم أنه يمضي، لكنه لم يتعرض لنفي الخلاف، ونص اللخمي على أنه لا يلزم حكم المحكم إذا كان مالكيَّاً والخصمان كذلك إذا خرج عن قول مالك وأصحابه وإن لم يخرج عن ذلك باجتهاده لزم. وَيَجُوزُ الْعَزْلُ لِمَصْلَحَةٍ لما فرغ من شروط القاضي وما يتعلق بذلك تكلم على عزله.

وقوله (لِمَصْلَحَةٍ) يريد: أو درء مفسدة، كما لو رأى أن غيره أصلح أو أقوى، وأراد نقله إلى بلد آخر أو خطة أخرى. أصبغ: وينبغي للإمام عزل من يخشى عليه الضعف والوهن، أو بطانة السوء وإن أمن عليه الجور في نفسه. وَالْمَشْهُورُ الْعَدَالَةُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعْزَلَ لِمُجَرَّدِ الشَّكِيَّةِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُعْزَلَ إِنْ وُجِدَ بَدَلُهُ، وَقَدْ عَزَلَ عُمَرُ سَعْداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَهُوَ أَعْدَلُ مَنْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .... الأول لمطرف قال: لا يعزل المشهور بالعدالة والرضا بالشكية فقط وإن وجد منه بدلاً؛ لأن في ذلك فساد للناس على قضاتهم، وإن لم يكن مشهوراً بالعدالة والرضا فليعزله إذا وجد منه بدلاً وتظاهرت الشكية عليه، فإن لم يجد منه بدلاً كشف عنه، فإن كان على ما يجب أبقاه، وإن كان على غير ذلك عزله. وقال أصبغ: أَحَبُ إليَّ أن يعزل بمجرد الشكية وإن كان مشهور العدالة، واحتج بقضية سعد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم. ابن عبد السلام: جعل المصنف الخلاف في مشهور العدالة، وهو صحيح؛ ألا ترى إلى احتجاج أصبغ، وبعضهم أشار إلى أن الخلاف فيمن لم تتحقق عدالته، وأما مشهور العدالة فيتفق عنده على أن لا يعزل بمجرد الشكوى. أصبغ: وإذا علمت الشكية وتظاهرت فليوقفه بعد عزله للناس؛ ليرفع من يرفع، ويحقق من يحقق، فقد وقف عمر سعداً فلم يصح عليه شيء من المكروه رضي الله عنهما، وقد دعا على من كذب عليه في تلك القضية فاستجيب له فيه.

ولأشهب في المجموعة: إذا شُكي القاضي في أحكامه [654/ب] وميله بغير حق، فينبغي للإمام أن ينظر في أمره قَلَّ شاكوه أو كثروا، فيبعث إلى رجال من أهل بلده ممن يثق بهم فيسألهم عنه سراً، فإن صدقوا قول الشكاة عزله ونظر في أقضيته فيمضي ما وافق الحق ويبطل ما خالفه، وإن قال مَنْ سألهم عنه: لم نعلم إلا خيراً وهو عدل عندناً، ثبَّته وتفقد أقضيته. فما خالف السُّنَةِ رَدَّهُ وما وافقها أمضاه، ويحمل على أنه لم يتعمد جوراً ولكنه أخطأ. مطرف وأشهب: وينبغي للإمام ألا يغفل عن التفقد لقضاته، فإنهم سنام أمره ورأس سلطانه. ابن عبد السلام: وفي النفس شيء من احتجاج الفقهاء في مسألة القضاء بقضية سعد ونحوها من الأمراء، وذلك أن الأمير نظره أوسع من نظر القاضي، فإن نظره مقصور على مسائل الخصام، وهو مستند فيها إلى الإقرار والبينة وشبه ذلك من الطرق فيظهر عدله وتبعد التهمة في حقه. وَإِذَا عَزَلَهُ عَنْ سُخْطٍ فَلْيُظْهِرْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ فَلْيُبَرِّئْهُ، وَقَدْ عَزَلَ عُمَرُ شُرَحْبِيلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: أَعَنْ سُخْطٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لا، لَكِنْ وَجَدْتُ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْكَ، فَقَالَ: إِنَّ عَزْلَكَ عَيْبٌ؛ فَأَخْبِرِ النَّاسَ بِعُذْرِي، فَفَعَلَ ... كلامه ظاهر تصوراً وتصديقاً، وإنما تظهر الجرحة لئلا يتولى بعد ذلك، وما ذكره من قضية شرحبيل هكذا ذكرها سحنون في المجموعة. ابن عبد السلام: وليس فيها كبير حجة؛ لأن شرحبيل طلب ذلك. انتهى. وفي القضية نظر من وجه آخر؛ لأن ما نقله صاحب الاستيعاب يخالفها، لأنه نقل أن شرحبيل صيره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على جيش الشام ولم يزل والياً على بعض نواحي الشام لعمر إلى أن هلك في طاعون عمواس مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم في يوم واحد سنة ثمان عشرة. واستعمل المصنف شرحبيل غير منصرف، وكذلك ذكره الزبيدي.

وقال صاحب المحكم: شرحبيل اسم رجل، وقيل: هو أعجمي، هذا يشعر بالخلاف في صرفه. وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَخْلِفُ لَمْ يَنْعَزِلْ مُسْتَخْلَفُوهُ وَلَوْ كَانَ الْخَلِيفَةَ (الْمُسْتَخْلِفُ) بكسر اللام و (مُسْتَخْلَفُوهُ) بفتحها، وظاهره الإطلاق؛ فيتنالو الإمام والأمير والقاضي، وهو مقيد بما عدا القاضي ونائبه، فإن نائب القاضي ينعزل بموت القاضي. نص عليه مطرف وأصبغ وابن حبيب. ابن رشد: ولا أعلمهم اختلفوا فيه. قيل: ولعله أراد المتقدمين، وإلا فقد نقل ابن العطار الخلاف عن فقهاء زمانه في موت الإمام، وجعلوا مثله مقدم القاضي على النظر للأيتام. ابن عبد السلام: وعندي أن ما قالوه من انعزال نائب القاضي بموت القاضي صحيح إن كان استناب بمقتضى اللواية على لاقول بأن له ذلك، وأما إن استناب رجلاً معيناً بإذن الأمير أو الخليفة فينبغي ألا ينعزل ذلك النائب بموت القاضي، ولو أذن له في النيابة إذناً مطلقاً فاختار القاضي رجلاً ففي انعزال هذا الرجل بموت القاضي نظر. وانظر ما الفرق بين نائب القاضي في انعزاله ونائب الأمير أو الخليفة في عدم انعزاله؟ وقد استشكل فضل وغيره الفرق بينهما. فإن قلت: ما وجه المبالغة بقوله: ولو كان الخليفة؟ قيل: لأن الأمير إذا كان مأذوناً له في الولاية فكأن الخليفة ولاه، فإذا مات الأمير بقي القاضي كأنه مولى من جهة الخليفة، بخلاف موت الخليفة. فإن قيل: وما الفرق بين الوكيل في عزله بموت موكله وبين القاضي المقدم من الأمير أو الخليفة؟ قيل: لأن القاضي لم يقدم لحق الخليفة أو الأمير، وإنما قدم لحق

المسلمين؛ فلا يزال والياً حتى يعزله الخليفة أو الأمير الثاني، بخلاف الوكيل فإن من قدم لمصلحته قد مات. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْعَزْلِ: "قَضَيْتُ بِكَذَا" أَوْ شَهِدَ بِأَنَّه قَضَى لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لأنه إذا قال: (قَضَيْتُ بِكَذَا) مقر على غيره، وإذا شهد بأنه قضى فشاهد على فعل نفسه. وفي بعض النسخ: (أَوْ شَهِدَ مَعَ عَدْلٍ) وهكذا ذكر سحنون، قال: وكذلك لو شهد مع رجل فلا ينفذ حتى يشهد اثنان سواه، ومعناه في المدونة، ففيها: وإذا مات القاضي أو عزل وفي ديوانه شهادة البينة وعدالتها لم ينظر فيه من ولي بعده ولم يجزه إلا أن تقوم عليه بينة، وإن قال المعزول: ما في ديواني قد شهدت به البينة عندي. لم يقبل قوله ولا أراه شاهداً، فإن لم تقم بينة على ذلك أمرهم القاضي المحدث بإعادة البينة. وللطالب أن يحلف المطلوب بالله تعتالى أن هذه الشهادة التي في ديوان القاضي ما شهد عليه بها أحد، وإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة عند الحق. فإن قيل: لم قبل المأذون في دين يقر به بعد الحجر عليه، ولم يقبل قول القاضي بعد عزله وكلاهما كان مطلق اليد؟ قيل: لأن المأذون لا تهمة عليه؛ إذ ضرر إقراره عليه لتعلقه بذمته، ألا ترى أنه لو ضاع المال بقي الدين متعلقاً بذمته بخلاف الحاكم فإن أمره قد سقط بالعزل. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَحْبُوسِينَ وَالأَوْصِيَاءِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى. هذا شروع منه فيما يبدأ به القاضي إذا تولى القضاء، وهكذا قال أصحابنا أن أول ما ينظر فيه القاضي المحبوسين حتى يعلم من يجب إخراجه من العذاب الذي هو فيه ومن لا يجب؛ لأن الضرر في ذلك أشد من [655/ أ] الضرر في الأموال، ثم ينظر في الأوصياء ثم في

المقدمين؛ لكون من تكون له مطالبة عليهم قد لا يعرب عن نفسه، ثم في اللقطة والضوال ثم بين الخصوم، هكذا ذكر المازري هذا بـ (ثم) والمصنف اكتفى بالتقديم اللفظي. أصبغ: وينبغي للقاضي إذا قعد أن يأمر بالنداء في الناس: "إن كل يتيم لم يبلغ ولا وصي له ولا وكيل، وكل سفيه مستوجب الولاية فقد منعت الناس مداينته ومتاجرته، ومن علم أحد من هؤلاء فليرفعه إلينا لنولي عليه، فمن داينه بعد أو باع منه أو ابتاع فهو مردود". المازري: وإذا ولي قضاء غير بلده فينبغي أن يسأل عن أحوال عدول ذلك البلد قبل خروجه إليه إن كان بمكانه من يعرف حالهم حتى يكون قدومه على خبرة من حالهم، وقد يفتقر إلى الاستعانة في حال قدومه بأحد منهم فيكون قد عرف حال من استعان به، وينادي مناد يشعر الناس باجتماعهم لقراءة سجله المكتوب بولايته، فإذا فرغ نظر في مكانه الذي يجلس فيه، والعدل أن يكون في وسط البلد. وَيَخْتَارُ الْكَاتِبَ وَالْمُزَكِيَّ وَالْمُتَرْجِمَ أي: يختار الكاتب باعتبار أن يكون أعدل الموجودين، ففي المدونة: لا يستكتب القاضي أهل الذمة في شيء من أمور المسلمين إلا العدول المرضيين. مطرف وابن الماجشون وأصبغ: سواء غاب الكاتب عن كتابته أو لم يغب، فلا يكون إلا من أهل العدالة والرضا، وظاهر ما نقله المتيطي عن ابن المواز عدالة الكاتب من باب الأولى، لأنه قال: وقال ابن المواز: ينبغي أن يكون كاتبه عدلاً فقيهاً يكتب بين يديه ثم ينظر هو فيه، لكن قال اللخمي: لا يبعد حمل قول محمد على الوجوب. وقال المازري: ينبغي أن ينظر القاضي فيما يكتبه؛ لاحتمال أن يزيد أو ينقص غلطاً أو سهواً أو تعمداً لرشوة يأخذها. وإن كان غير ثقة فلابد من إطلاع القاضي على ما يكتبه، فيجلسه قريباً بحيث يشاهد ما يكتب عنده، وإن كان عدلاً فالمذهب أنه مأمور بالنظر إلى ما يكتب، وقد ترجم

بعض أشياخي في وجوب ذلك على القاضي إذا كان الكاتب عدلاً؛ لأنه إذا شاهد ما كتب أشهد على نفسه بأمر يتيقنه، وإذا عول على تصديق الكاتب العدل اقتصر على أمر مظنون مع قدرته على اليقين. وقوله (وَالْمُزَكِيَّ) ظاهره الاكتفاء بالواحد. أشهب: وينبغي للقاضي أن يتخذ رجلاً صالحاً مأموناً منتبهاً، أو رجلين بهذه الصفة؛ يسألان له عن الشهود في السر في مساكنهم وأعمالهم، وإن قدر ألا يعرف من يسأل له فذلك حسن. قال: ولا ينبغي للمكشف أن يسأل رجلاً واحداً أو اثنين، وليسأل ثلاثة أو أربعة أو أكثر؛ خيفة أن يزكيه أهل وده بخلاف ما يعلمه اثنان أو ثلاثة من غيرهم، أو يسأل عنه عدواً فيجرحه، وينبغي للقاضي ألا يضع أذنه للناس في الناس. ابن الماجشون: وكل ما يبتدئ فيه القاضي السؤال عنه والكشف يقبل فيه قول الواحد، وما لم يبتدئه هو. وإنما يبتدئ به في ظاهر أو باطن فلابد من شاهدين فيه. وفي الجواهر: ويشترط العدد في المزكي والمترجم دون الكاتب، وقال الشيخ أبو إسحاق: إن ترجم عنه واحد أجزاه، واختار القاضي أبو الحسن أنه إن كان الإقرار بمال قبل في الترجمة شاهد وامرأتان. وروى أشهب وابن نافع: يترجم للقاضي رجل ثقة مسلم مأمون، واثنان أحب إلينا، والواحد يجزئ. ولا يقبل ترجمة كافر أو عبد أو مسخوط، ولا بأس أن يقبل ترجمة امرأة إذا كانت عدلة، وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا لم يجد من الرجال من يترجم له، قالوا: وامرأتان ورجل أحب إلينا. انتهى. وقال سحنون: لا تقبل ترجمة النساء ولا ترجمة رجل واحد ولا ترجمة من لا تجوز شهادته؛ لأن من لا يفهم قوله كالغائب عنه، وقيد صاحب البيان ما وقع له من أنه لا

يقبل ترجمة الكافر والعبد والمسخوط بوجود العدل، ولو اضطر إليهم لعمل على قولهم كقول الطبيب النصراني، وغير العدل مما يضطر إليه. والخلاف في اشتراط الواحد أو الاثنين مبني على أنه من باب الخبر أو الشهادة، لكن ضعف فضل كونه من باب الخبر؛ لأنه لو كان كذلك لقبل العبد والمسخوط. وَيَتَّخِذَ مَجْلِساً يَصِلُ إِلَيْهِ فِيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمَرْأَةُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَالقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحَقِّ وَالأَمْرِ الْقَدِيمِ. ابن شعبان: من العدل أن يكون منزل القاضي متوسطاً من المصر، ويجلس متربعاً مستقبل القبلة عليه السكينة والوقار، أو محتبياً. مطرف وابن الماجشون: ولا ينبغي للقاضي أن يتضاحك مع الناس، ويستحب أن تكون فيه عبوسة بغير غضب، وأن يلزم التواضع والتقرب من غير وهن. وكلامه في المدونة يدل على استحباب القضاء في المسجد، وأتى المصنف بكلامه في المدونة إما استشهاداً لما ذكره من اتخاذ مجلس يصل إليه الضعيف والمرأة، وإما استشكالاً؛ لأنه قد تدخله الحائض والجنب من غير شعور بهما، ويؤدي إلى رفع الأصوات فيه، ولهذا مال إلى الكراهة بعض الأندلسيين. وَقَالَ مَالِكُ رَحِمَهُ اللهُ: إِنَّ مَنْ أَدْرَكْتُ [655/ ب] مِنَ الْقُضَاةِ لا يَجْلِسُونَ إِلا فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ؛ فَسُمِّيَتْ رَحْبَةَ الْقُضَاةِ، وَإِنِّي لأَسْتَحِبُّهُ فِي الأَمْصَارِ مِنْ غَيْرِ تَضْييقٍ؛ لِيَصِلَ إِلَيْهِ الْحَائِضُ وَالذِّمِّيُّ .. هذا لمالك في الواضحة من رواية مطرف وابن الماجشون، وحمله اللخمي على الخلاف فقال: اختلف في الموضع الذي يجلس فيه للقضاء على ثلاثة أقوال: فقال في المدونة: القضاء في المسجد من الأمر القديم.

وقال في الواضحة: كان من مضى من القضاة لا يجلسون إلا في رحاب المسجد خارجاً إما عند موضع الجنائز وإما في رحبة دار مروان وما كانت تسمى إلا رحبة القضاة. مالك: وإني لأستحب ذلك في الأمصار من غير تضييق ليصل إليه اليهودي والنصراني والضعيف. وقال أشهب: لا بأس أن يقضي في منزله وحيث أحب. ففهم اللخمي عن أشهب أنه لا فرق بين المسجد ومنزله وغيرهما، وفهم غيره عنه أن أشهب إنما أراد تساوي المنزل وغيره في أصل الإباحة، ولا يخالف في استحباب المسجد، فلا يكون قوله ثالثاً، واحتج على جواز القضاء في المسجد بقوله تعالى: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) [ص: 21] إلى قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ) [ص: 22] وبأنه صلى الله عليه وسلم قضى فيه وبأن قاضي عمر بن عبد العزيز كان يقضي فيه، والأقرب في زماننا الكراهة لكثرة التساهل في العياض في المسجد. والله أعلم. وَلا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسْجِدِ وَيُعَزِّرُ التَّعْزِيرَ الْيَسِيرَ نحوه في المدونة، مالك: كالخمسة الأسواط والعشرة. وقوله: (وَلا تُقَامُ) هو محتمل للمنع؛ لأنه ذريعة إلى أن يخرج منه ما ينجس المسجد، والكراهة تنزيهاً له. فرع: وللقاضي أن يتخذ بواباً وحاجباً. قَالَ مَالِكُ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ نَهَارَهُ كُلَّهُ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكْثِرَ فَيُخْطِئَ قال في المدونة: ولا ينبغي للقاضي أن يكثر الجلوس جداً.

وفي الموازية لمالك: ينبغي أن يكون جلوسه في ساعات من النهار؛ لأني أخاف أن يكثر فيخطئ، وليس عليه أن يتعب نفسه للناس نهاره كله. وكلام مالك أولاً يشعر عرفا ًبإباحة إتعاب نفسه، وكلامه آخراً يشعر بمنعه من ذلك، ولعله استعمل الكلام الأول بحسب أصل اللغة؛ فإن المكروه والمحرم ليس على الإنسان فعلهما. وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ أَيَّامَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ سَفَرِ الْحَاجِّ وَقُدُومِهِ وَفِي كَثْرَةِ الْمَطَرِ وَالْوَحْلِ؛ لأَنَّهُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبيْنَ الْعِشَاءَيْنِ. لأن للناس اشتغالاً في هذه الأيام، وكذلك يوم التروية ونحو ذلك، ويوم عرفة، وكلامه ظاهر. قال علماؤنا: وينبغي أن يكون جلوس القاضي معلوماً لا يختلف؛ لأنه إذا اختلف جلوسه انقطعوا عن مهماتهم لعدم معرفتهم بوقت جلوسه. ابن الماجشون ومطرف بعد أن ذكرا نحواً مما قاله المصنف: وما علمنا من فعله من القضاة إلا لأمر يحدث في تلك الأوقات فلا بأس أن يأمر فيها وينهى ويسجن، ويرسل للأمير أو الشرط، وأما الحكم فلا. ولأشهب: لا بأس أن يقضي بين المغرب والعشاء إذا رضي الخصمان، فأما أن يكلف كاره الخصومة فلا، ولا بأس أن يقضي بعد أذان الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويرسل إلى الخصم يحضره ثم يقضي عليه إن شاء. والوحل: هو الطين الجاري.

وَفِي كَرَاهَةِ حُكْمِهِ فِي مُرُورِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَوْلانِ الكراهة لسحنون ومطرف وابن الماجشون وأشهب، والجواز لأشهب أيضاً بشرط ألا يشغله المسير ورحبة الناس والنظر إليهم؛ لأن ذلك يمنع من الفكر التام وليس لمروره إلى المسجد خصوصية، بل كل مسير كذلك. ولا بأس أن يقضي وهو متكئ، نقله ابن زرقون، وقال اللخمي: ولا يحكم متكئاً، لأن فيه استخفافاً بالحاضرين، وللعلم حرمة. واختلف القرويون إذا أراد المسلم خصام اليهودي يوم السب هل يمكن من ذلك أم لا؟ المازري: وألف بعضهم على بعض في ذلك. وَلا يَحْكُمُ فِي حَالِ غَضَبِ وَلا جُوعٍ، وَلا مَا يُدْهِشُ عَنْ الْفِكْرِ لما في البخاري عنه عليه السلام: "ولا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان". وخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان". فذكر الحكم مع وصف مناسب له، ففهم منه أن المقصود ما يشوش الفكر. قال في المدونة: وإذا دخله هم أو ضجر فليقم. وأجاز له أشهب وابن عبد الحكم إجماع نفسه في الحديث في مجلس ضقاته؛ ليرجع إليه فهمه، ومنعه مطرف وابن الماجشون وابن حبيب لظاهر المدونة. اللخمي: والأول أحسن، وهو أحب من قيامه وصرف الناس. فرع: فإن حكم في حال غضب مضى، وفرق ابن حبيب بين القليل والكثير.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَحْضَرِ الْعُدُولِ؛ لِيَنْقِلُوا الإِقْرَارَ فَيَحْكُمَ بِهِ، وَيَكْتُبُهُ خَشْيَةَ نِسْيَانِهِ .. ظاهر قوله: (وَيَنْبَغِي) أنه ليس بواجب. وقال المازري: يؤمر بذلك ويتأكد الأمر على القول بأن القاضي لا يحكم بعلمه. وقال اللخمي: لا يجلس للقضاء إلا بمحضر عدول ليحفظوا إقرار الخصوم خوف رجوع بعضهم عن ما يقر به، وإن كان ممن يحكم بعلمه، فإن أخذ بما لا خلاف فيه أحسن. ابن راشد: مذهب مالك وابن القاسم أن القاضي إذا سمع إقرار الخصم لا يحكم بإقراره عليه حتى يشهد بإقراره شاهدان، ثم يحكم بما سمع وإن لم يشهد عنده بذلك. ابن الماجشون: والذي عليه قضاة المدينة، ولا أعلم أن مالكاً قال غيره- أنه يقضي بما سمع منه وأقر به عنده، وأنهم رأوا أن الخصمين لما جلسا للخصومة رضيا أن يحكم بينهما بما أقرا به [656/ أ] ولذلك قعدوا، والأول هو المشهور. خليل: وإن كان الأول هو المشهور فيكون إحضاره للشهود واجباً، وإلا فلا فائدة في جلوسه. وقوله: (وَيَكْتُبُهُ) مرفوع مستأنف؛ أي: ويأمر كاتبه أن يكتب الحكم خيفة نسيانه، ويحتمل (ويكتب) بالنصب؛ أي: ويأمر كاتبه بشرح الدعوى والإنكار واسم المسألة وأسماء المتداعبين وأنساب الجميع وما يعرفون به وما بحكم به بينهما، ويحفظه في خريطة أو جراب أو غيره، ويختم عليه حتى لا ينساه، ويكتب عليه خصومة فلان في شهر كذا من سنة كذان ويجعل خصومة كل شهر على حدة.

وَقَالَ أَشْهَبُ وَمُحَمَّدُ: وَبِمَحْضَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمُشَاوَرَتِهِمْ كَعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ مُطَرِّفُ وَابن الماجشون: لا يَنْبَغِي أَنْ يُحْضِرَهُمْ وَلَكِنْ يَسْتَشِيرُهُمْ كَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ .. هذا معطوف على قوله: (بِمَحْضَرِ الْعُدُولِ). وقوله: (كَعُثْمَانَ) إشارة إلى ما حكاه أشهب أن عثمان رضي الله عنه كان إذا جلس للقضاء أحضر أربعة من الصحابة رضي الله عنهم ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه. وقال مطرف: فلا ينبغي أن يحضرهم كفعل عمر. وقيده اللخمي بألا يكون مقلداً فلا يسعه القضاء بغير محضرهم. المازري: وقول مطرف وغيره إنما هو إذا كان فكر القاضي في حال حضورهم كعدم حضورهم معه، وأما إن كان حضورهم يكسبه ضجراً حتى لا يمكنه التأمل لما هو فيه فإنه يرتفع الخلاف، وكذلك إذا كان القاضي من البلادة على حالة لا يمكنه ضبط قول الخصمين وتصور مقاصدهما حتى يستغنى عنه- فإنه يرتفع أيضاً الخلاف، ولا يختلف في وجوب حضورهم. وَلا يَنْبَغِي لِقَاضٍ أَنْ يَثِقَ بِرَايِهِ وَيَتْرُكَ الْمُشَاوَرَةَ وَيَسْتَكْبِرَ عَنْهَا، فَقَدْ سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ الْجَدَّةِ، وَعُمَرُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ الجَدِّ، وَسَأَلَ عَنْ مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا .. هو ظاهر التصور؛ لأن الجماعة إذا فكروا كان ما اتفقوا عليه أوثق في النفس، وقد ورد الشرع بها فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وهو إن كان المراد منه أمور الحرب فالجميع سواء. وبالغ الشافعي في هذا حتى قال: يجمع المخالفين له في المذهب ويشاورهم كما تقدم.

ابن عطية في تفسيره: ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه. سحنون: ولا يستشير من يشهد عنده فيما شهد فيه بعض من تكلم على هذا الموضع، ولم يقع في الموطأ وأبي داود والترمذي والنسائي في قصة عمر أنه سأل، وإنما ذكر عمر أنها لا ترث من الدية فأخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. وَلا يُفْتِي الْحَاكِمُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا بَاسَ بِهِ كَالْخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ .. يعني: أن له الإفتاء في غير مسائل الخصام، والمشهور أنه لا يفتي في الخصام؛ لأن إفتاءه في ذلك من إعانة الخصوم على الفجور؛ لأنهم إذا عرفوا مذهب القاضي تحيلوا في التوصل إلى ذلك المذهب أو في الانتقال عنه، وأيضاً فإذا علم مذهبه يكون مشروطاً بشرط، فمن لا يعرف ذلك الشرط اعتقد في القاضي- إذا لم يحكم بذلك المذهب لعدم ذلك الشرط- أنه مال عن الحق، وأجاز له ابن عبد الحكم ذلك بغيرها؛ لأنه لم ينقل عن الخلفاء التوفق في مسائل الخصام. وَلا يَشْتَرِي بِنَفْسِهِ وَلا بِوَكِيلٍ مَعْرُوفٍ ظاهره في مجلس قضائه وغيره، ونحوه ذكر ابن شاس، وبمعناه عن محمد بن عبد الحكم. ابن عبد السلام: ولا تبعد صحته، إلا أن المازري وغيره ذكروا عن المذهب ما يدل على جواز بيعه وشرائه ابتداءً، وحكى المازري عن الشافعي مثل ما حكاه المؤلف هنا. انتهى. أي: لأن المازري نقل عن أصحاب مالك أنهم أجازوا للقاضي الشراء إذا لم يكن في مجلس قضائه، ولم يجيزوا له ذلك في مجلس قضائه؛ لما فيه من شغل باله.

مطرف وابن الماجشون: ولا يشتغل في مجلس قضائه بالبيع والابتياع لنفسه. سحنون: وتركه أفضل. قال: ولا بأس بذلك في غير مجلس قضائه له أو لغيره. وما باع أو ابتاع في مجلس قضائه فنافذ، إلا أن يكون أكره غيره على هضمه فليس هذا بعدل وهو مردود، كان في مجلس قضائه أو غيره، والذي ذكره المازري هو الذي في النوادر وغيرها. وَيَتَوَرَّعُ عَنِ الْعَارِيَةِ وَالسَّلَفِ وَالْقِرَاضِ وَالإِبْضَاعِ وَالْوَلائِمِ، إِلا وَلِيمَةَ النِّكَاحِ الْعَامَّةَ، وَلا بَاسَ بِأَكْلِهِ فِيهَا .. ظاهر كلامه أن هذه الأمور أخف من المبايعة؛ لتعبيره في الشراء بـ (لا يفعل) وهنا (يَتَوَرَّعُ) والعكس أولى؛ لأن العارية ونحوها انتفاع بمال غيره بغير عوض، وفي التي قبلها إنما يتوهم ذلك ولا يتحقق، لكن هذه الأشياء فلا تناقض على مذهبهما، [656/ ب] وإنما الإشكال على ما ذكره المصنف لا يقال: أنت نقلت عنهما أنه ينتزه عن الشراء؛ لأنا نقول: التنزه لا ينافي الجواز. مطرف وابن الماجشون: ولا ينبغي له أن يجيب الداعي إلا في الوليمة وحدها للحديث. ثم إن شاء أكل أو ترك. وقال أشهب: لا بأس أن يجيب الدعوة العامة، كانت وليمة أو صنيعاً عاماً لفرح، فأما أن يدعى مع عامة لغير فرح فلا. وقال سحنون: يجيب العامة دون الخاصة، والتنزه أحسن. ابن المواز: وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم، ولا بأس للقاضي بحضور الجنائز وعيادة المرضى، وتسليمه على أهل المجالس، ورده على من سلم عليه، ولا ينبغي إلا ذلك.

وَلا يُقْبَلُ هَدِيَّةً مُطْلَقاً وَلَوْ كَافَأَ عَلَيْهَا أَضْعَافَهَا، إِلا مِنْ وَلَدِهِ أَوْ وَالَدِهِ وَأَشْبَاهِهِمْ ظاهر قوله: (وَلا يُقْبَلُ) المنع، وعليه ينبغي أن يحمل قوله. ابن حبيب: لم يختلف العلماء في كراهة قبول الإمام الأكبر وقاضيه وجباة أموال المسلمين الهدايا، قال: وهو مذهب مالك وأهل السنة، وذلك كما قال ربيعة: إنها ذريعة إلى الرشوة، ولهذا قال عليه السلام في العامل الذي بعثه على الصدقة فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدي إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه؛ بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت" مرتين وقال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا: "إنه غلول". وقوله: (مُطْلَقاً) أي: سواء كانت حال الخصام أو قبله، ولو كافأ عليها أضعافها. وعن أشهب جواز قبولها من غير الخصوم إذا كافأ عليها بمثلها. ثم استثنى الولد والوالد، ونحوهم من الخالة والعمة وبنت الأخ؛ لارتفاع التهمة؛ لأنه معلوم أن بينه وبين أبيه وولده من الحرمة وشدة الميل ما لا يحتاج معه إلى تأكيد الهدية، ولأن مثل هؤلاء إنما تطرق التهمة إلى القاضي إذا حكم من جهة القرابة من الهدية، بخلاف الأجانب والأقارب البعداء على عادتهم من إهدائهم له قبل الولاية. ومنعهم على قولين: الجواز لابن عبد الحكم. ابن حبيب: ويأخذ الإمام من قضاته وعماله ما وجد في أيديهم زائداً على ما ارتزقوه من بيت المال، ويحصى ما عند القاضي حين ولايته، ويأخذ ما اكتسبه زائداً، وقدر أن هذا التكسب إنما اكتسبه بجاه القضاء، وتأول أن مقاسمة عمر رضي الله عنه ومشاطرته لعماله كأبي

موسى وأبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم إنما فعل ذلك لما أشكل عليه مقدار ما اكتسبوه بالقضاء والعمالة. وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الرَّاكِبِينَ مَعَهُ، وَالْمُصَاحِبِينَ وَالْمُلازِمِينَ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُخَفَّفُ مِنَ الأَعْوَانِ مَا اسْتَطَاعَ. ابن عبد السلام: لأن بكثرتهم تعظم عنده نفسه، ويستأكل من معه بذلك أموال الناس، ولأن الأعوان إنما يعيشون غالباً من تجنيب الخصوم وقلب الأحكام، خلاف ما كانوا عليه أيام سحنون أن لهم أرزاقاً من بيت المال. مطرف وابن الماجشون: ولو استغنى عن الأعوان أصلاً لكان أحب إلينا. ويجب عليه أن يؤدب أحد الخصمين إذا أساء على الآخر ما يستحقه. ظاهره أن الحق في ذلك لله تعالى؛ لانتهاك حرمة مجلس الحكم، ونحوه لمطرف وابن الماجشون، قالا: إذا شتم الخصم فقال: يا فاجر، يا ظالم، ونحو ذلك فليزجره وليضربه على مثل هذا ما لم تكن فلتة من ذي مروءة فليتجاف عن ضربه. ابن عبد السلام: ولا يعد الفقهاء تكذيب أحد الخصمين فيما ادعى عليه وشبه ذلك من السباب، ولو كان بصيغة كذب وشبهها من ذلك. انتهى. ومن أحكام ابن زياد: ومن قال للشهود أو لأهل الفتوى: "تشهدون أو تفتون علي، لا أدري من أكلم" كأنه ذهب مذهب التوبيخ لهم، فقال ابن كنانة وابن غالب: يؤدب أدباً وجيعاً. وفي المجموعة: إذا قال للشاهد: "شهدت علي بالزور" وقصده أذاه نكل بقدر حالهما، وإن كان إنما عنى: "أن الذي شهدت به علي باطل" لم يعاقب.

وَيَنْبَغِي ذَلِكَ إِذَا أَسَاءَ عَلَى الْحَاكِمِ، إِلا فِي مِثْلِ: اتَّقِ اللهِ فِي أَمْرِي وَشِبْهِهِ، وَلا يُعْظِمُ عَلَيْهِ .. عبر في الأول: بـ (يَجِبُ) وهنا بـ (يَنْبَغِي) وكذلك فعل مطرف وابن الماجشون، ووجهه ظاهر؛ لأنه هنا كالمنتقم لنفسه، وليس هو حقيقة، ولهذا قال مطرف وابن الماجشون: إن الأدب في مثل هذا أمثل من العفو. ابن عبد السلام: وظاهر كلام مالك أن هذه المسألة في الوجوب كالتي قبلها؛ لأنه روي عن ابن القاسم: إن قال: "ظلمتني" فذلك يختلف، فإن أراد بذلك أذى القاضي وكان القاضي من أهل الفضل فليعاقبه. قوله: (إِلا فِي مِثْلِ: اتَّقِ اللهِ .. إلخ) هذا لابن عبد الحكم، زاد: ويجيبه جواباً ليناً، نحو: "رزقني الله تقواه، أو ما أمرت إلا بخير، وعلينا وعليك أن نتقي الله". وليس له من أين يحكم عليه من غير أن يظهر لذلك غضباً. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا يَقُولُ الناسُ فِي أَحْكَامِهِ وَشُهُودِهِ وَسِيرَتِهِ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَقْوِيَةُ عَلَى أَمْرِهِ .. هذا لابن [657/ أ] عبد الحكم؛ لأنه إذا أخبره بما يكره منه تركه، أو من أعوانه عزله بعد الفحص عن أمره. وَإِذَا صَحَّ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالزُّورِ وَيَاخُذُ الْجُعْلَ عَزَّرَهُ عَلَى الْمَلأِ، وَلا يَحْلِقُ لَهُ رَاساً وَلا لِحْيَةً .. صح أنه عليه السلام عد شاهد الزور من الكبائر. ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه إذا لم يكن له مخرج بغفلة أو خطأ أو نسيان أنه يؤدب، وهذا إذا ظهر عليه، وأما إن جاء تائباً فذكر اللخمي قولين:

الأول لابن القاسم: لو أدب لكان لذلك أهلاً. الثاني لسحنون: لا يعاقب. وما ذكره المصنف هو لابن عبد الحكم في النوادر، قال: إذا ثبت عليه أنه يشهد بالزور، ويأخذ على شهادته الجعل رأيت أن يطاف به، ويشهر في المجالس والحلق وحيث ما يعرف جماعات الناس، ويضرب ضرباً موجعاً، ولا يحلق له رأساً ولا لحية، ويكتب القاضي بشأنه وما ثبت عنده كتاباً، وينسخه نسخاً يرفعها عند الثقات. إلا أن الشيخ أجمل في التعزير، وقد صرح ابن عبد الحكم بأنه على الملأ، وتبع المصنف في قوله: (وَيَاخُذُ الْجُعْلَ) الرواية، ولا مفهوم لذلك؛ لأن العقوبة المذكورة في المذهب سواء أخذ جعلاً أم لا، ولعل ابن عبد الحكم ذكر ذلك على الغالب، ونص مالك على أن التأديب بقدر ما يرى القاضي، وكذلك نص مالك على أنه يجلد، ولم يذكر عدداً. ابن الماجشون: بالسوط. ابن كنانة: ويكشف عن ظهره. مالك: ويطاف به في الأسواق والجماعات ويسجن، ولا أرى الحلق والتسخيم. ورأى ابن العربي أن يسود وجهه. فَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَداً؛ لأَنَّهُ لا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ .. مفهومه: إن لم يكن ظاهر العدالة حين شهد بالزور أنه تقبل شهادته، وفي ذلك قولان: أحدهما: عدم القبول وهو ظاهر إطلاق المدونة ونقله في النوادر عن ابن القاسم.

وثانيهما: لابن القاسم، قال في النوادر، وأظنه لمالك: القبول، فقيل على هذا: إن كان ظاهر العدالة لم تقبل اتفاقاً، وإن كان غير ظاهر العدالة فقولان، وعكس ابن رشد فقال: إن كان ظاهر العدالة فقولان، وإن لم يكن ظاهر العدالة لم تقبل اتفاقاً. ابن عبد السلام: والطريق الأول أنسب للفقه، والثانية أقرب لظاهر الروايات؛ لأنابن المواز قال: تكعرف توبته بالصلاح والتزيد في الخير. وكذلك أشار إليه ابن الماجشون؛ لأن التزيد في الخير لا يكون إلا في ظاهر العدالة. وفي جواز حكم الحاكم لمن لا تجوز له شهادته ثالثها: قال ابن الماجشون: إلا لزوجته ويتيمه الذي يلي ماله. الجواز لأصبغ إذا لم يكن من أهل التهمة، قال: وقد يحكم للخليفة وهو أقوى تهمة؛ لتوليته إياه. والمنع لأشهب ومحمد ومطرف نظراً للتهمة واختاره اللخمي، قال: ولا فرق في ذلك بين الحكم والشهادة. والتفرقة لابن الماجشون نظراً إلى قوة التهمة في زوجته وفي يتيمه الذي يلي ماله وأحرى ولده الصغير؛ إذ كأنه حكم لنفسه، وأما غيرهم فلا يتوهم فيه. وحكى اللخمي رابعاً عن أصبغ أيضاً بالتفرقة، فإن قال: "ثبت عندي" ولا يدرى أثبت عنده أو لم يثبت لم يجز مطلقاً، وإن أحضر الشهود وكانت الشهادة ظاهرة بحق بين جاز إلا لزوجته وولده الصغير ويتيمه الذي يلي ماله. وأشار اللخمي إلى أنه متى كان الحكم بغير مال وكان مما يتضمن ما تدركه فيه الحمية أو ما تدفع فيه المعرة لم يجز بحال. وَلا يَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ. هو متفق عليه، واتفاقهم هنا واختلافهم في الأول يدل على أن مانع العداوة أقوى من مانع المحبة.

وَلا يَتَعَقَّبُ أَحْكَامَ الْعَدْلِ الْعَالِمِ وَلا يَنْقُضُ مِنْهَا إِلا مَا خَالَفَ الْقَطْعَ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ رَاياً فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ سَهْواً .. تعقب الأحكام هو اختيارها لينظر ما وافق الحق وما خالفه، وعلى هذا فالتعقب سابق للنقض وأعم منه، وقد نفى الأعم فينتفي الأخص بانتفائه. وقوله: (الْعَدْلِ الْعَالِمِ) تقسيم منه للقاضي، وحاصل ما ذكره هو وغيره ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون المعلوم من حال القاضي العدالة والعلم فلا يتعقب القاضي الذي يليه أحكامه؛ لئلا يكثر الهرج والخصام، إلا أن يخالف في حكمه القطع فينتقض حينئذ. فإن قلت: لا يعلم ما خالف القطع إلا بعد التعقب، قيل: يجوز أن يرفع إليه فيظهر خطأه من غير تأمل. وقوله: (إِلا مَا خَالَفَ الْقَطْعَ) نحوه في الجواهر وهو يقتضي أنه لا ينقض ما خالف الظن الجلي. وليس بظاهر، بل قالوا: إذا خالف نص السنة غير المتواترة أنه ينقض، ولا يفيد القطع. نقله ابن عبد السلام عن بعضهم. وينقض إذا خالف القياس الجلي، ولهذا قال القرافي: ينقض حكم الحاكم إذا خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً. ابن حبيب عن ابن الماجشون: ويرد ما اختلف فيه الناس مما في كتاب الله، أو في سنة قائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستسعاء العبد المعتق بعضه، وشفعة الجار، أو بعد القمسة والحكم بشهادة النصراني أو اليهودي لمثله؛ لأنه على خلاف قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2] وقوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282] أو ميراث العمة والخالة والمولى الأسفل، وكذا ما تواطأ عليه أهل المدينة، أو شاع العمل به عن الصحابة والتابعين. وأما ما كان من رأي العلماء أو استحساناً فلا ينقضه وإن كان

على خلاف رأي [657/ب] المدينة. قال: وهذا في كل ما يأخذه الحاكم ويعطيه، فأما ما هو ترك لما فعل الفاعل مثل الذي يخير امرأته فتختار نفسها- فقد قال بعض الناس: إنها واحدة بائنة- فإن تزوجها قبل زوج فرفع إلى حاكم يرى ذلك فأقره ولم يفرق بينهمأ، ثم رفع إلى من ولي بعده فهذا يفسخ نكاحها ويجعله البتة، وليس إقرار الأول حكماً منه وإن أشهد على ذلك وكتب، ومثله من حلف بطلاق امرأة إن تزوجها، ثم نكحها، أو بعتق عبد إن ملكه ثم رفع إلى الحاكم فأقر الملك والنكاح، أو أقام شاهداً على قتل رجل فرفع إلى من لا يرى القاسمة فلم يحكم بها، ثم رفع ذلك كله إلى من يرى الحكم فليحكم ولا يضره ترك الأول لذلك؛ لأن تركه ليس بحكم. قال: وكذلك إن أقام شاهداً عند من لا يرى الشاهد واليمين فلم يحكم به، ثم رفع إلى من يراه فليحكم وإن كان فيه سنة قائمة؛ لأن الأول إنما ترك النظر فيه، وقاله مطرف، وروى أكثره عن مالك، وقاله أصبغ. ونقل ابن عبد الحكم عن مالك فيمن طلق البتة فرفع إلى من يراها واحدة فجعلها واحدة ولم يمنعه من نكاحها، فنكحها الذي أبتها قبل زوج أنه يفرق بينهما، وليس هذا من الاختلاف الذي يقر إذا حكم به. قال ابن عبد الحكم: لا ينقض ذلك كائناً ما كان، ما لم يكن خطأ بينا. فضل: والذي حكاه سحنون عن ابن القاسم ملائم لقول ابن عبد الحكم أنه لا ينقض ما اختلف فيه، وما كان من جور وخطأ بين لم يختلف الناس في خطأه ورده، فإن قلت: فهل يأتي كلام المصنف على هذا؟ قيل: لا؛ لاحتمال أن يتفقوا على ظن جلي. والظاهر أن ما ذكره ابن حبيب من الفرق بين أن يعمل أو يترك لا يأتي على مذهب ابن القاسم، ألا ترى قول المصنف: (وَفِي مِثْلِ تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بِلا وَلِيِّ ... إلخ) فاعلمه.

المازري: والقول بنقض حكمه باستسعاء العبد بعيد؛ لأنه قد روى مسلم وغيره حديث الاستسعاء وكذلك الشفعة للجار مع ورود أحاديث تقتضيها. وقوله: (أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةُ) أي: فينقض أيضاً، ومعناه: إذا حضرته البينةوعلمت قصده في الحكم وعدوله عنه على سبيل الخطأ، فإذا شهدت بذلك البينة عند الثاني نقضه، هكذا قال ابن محرز. عياض: وكذلك عندي إذا كان الحاكم يلتزم مذهباً ويحكم بتقليده لا باجتهاده فحكم بحكم من يرى أن مذهبه وغلط فيه فله هو نقضه دون غيره. وَأَمَّا الْجَاهِلِ فَيَتَعَقَّبُهَا، وَيُمْضِي مَا لَمْ يَكُنْ جَوْراً هذا هو القسم الثاني؛ يعني: وأما أحكام العدل الجاهل فيتعقبها، أي: يتصفحها، ويمضي منها الذي لم يكن جوراً، وحكى المازري رواية شاذة أن الجاهل تنقض أحكاه وإن كان ظاهرها الصواب؛ لأنه وقع منه من غير قصد. ابن عبد السلام: وقيد بعضهم ما ذكره المصنف بما إذا كان يشاور أهل العلم في أحكامه، وأما إذا كان لا يشاورهم فتنقض كلها؛ لأنه حكم حينئذ بالحدس والتخمين، وهو صحيح. انتهى. وقال اللخمي: تتعقب أحكام العدل الجاهل، إلا أن يعلم أنه لا يحكم إلا بعد مشاورة أهل العلم، ورأى إذا كان يحكم من غير مطالعة أهل العلم أن يرد من أحكامه ما كان مختلفاً فيه؛ لأن ذلك كان منه تخميناً وحدساً، والقضاء بذلك باطل. وَتُنْبَذُ أَحْكَامُ الْجَائِرِ وَقَالَ أَصْبَغُ: هُوَ كَالْجَاهِلِ هذا هو القسم الثالث: ومعنى (تُنْبَذُ) أي: تطرح كلها، وقد تقدم قول أصبغ أول الباب حيث قال: (وَقَالَ أَصْبَغُ: الْعَدْلُ مِنَ الثَّانِي) يريد: كان عالماً أو جاهلاً.

وَنَقْلُ الأَمْلاكِ وَفَسْخُ الْعُقُودِ وَشِبْهُهُ وَاضِحُ أَنَّهُ حُكْمُ، وَفَتْوَاهُ فِي وَاقِعَةٍ وَاضِحُ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَفِي مِثْلِ تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بِلا وَلِيِّ رُفِعَ إِلَيْهِ فَأَقَرَّهُ قَالَ ابن القاسم: حُكْمُ، وَقَالَ ابن الماجشون: لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَلَوْ قَالَ: "لا أُجِيزُهُ" وَلَمْ يَفْسَخْهُ فَفُتْيَا .. لما قدم أن حكم القاضي لا ينقض إلا في مسائل شرع في بيان الحكم، وجعله ثلاثة أقسام: الأول: اتفق على أنه حكم كنقل الأملاك من يد إلى يد، وفسخ العقود من بيع وشراء. والثاني: اتفق على أنه ليس بحكم كفتواه في واقعة باجتهاده أو مذهبه؛ لأن الفتوى لا ترفع الخلاف. والثالث: مختلف فيه كما لو زوجته امرأة نفسها بغير ولي ورفع إلى قاض فأقره ولم يفسخه- فقال ابن القاسم: إقراره له حكم ولا ينقض، واختاره ابن محرز وقال: لأنه لا فرق بين أن يحكم بإمضائه أو فسخه، ورأى ابن الماجشون أنه ليس بحكم وإنما هو ترك لما فعل الفاعل من ذلك، وإمساك عن الحكم عليه. وجملة (رفع إليه فأقره) تفسيرية لقوله: (تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بِلا وَلِيِّ) وقوله: (فَلَوْ قَالَ: "لا أُجِيزُهُ" .. إلخ) هو متفق عليه كما قدم. وَالْحُكْمُ بِالْفَسْخِ لِمُعَارِضٍ اجْتِهَادِيُّ لا يَقْتَضِي الْفَسْخَ إِذَا تَجَدَّدَ السَّبَبُ ثَانِياً، بَلْ يَكُونُ مُعَرَّضاً لِلاجْتِهَادِ كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَنِكَاحِ امْرَأَةِ فِي عِدَّتِهَا وَهِيَ كَغَيْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحاً مَعَ بَيْعٍ أَوْ مَعَ إِجَارَةِ يعني: أن الحكم بالاجتهاد لا يكون كلياً بل هو جزئي، ولا يتعدى الصورة التي هي محل حكمه، وسبب ذلك أن حكم القاضي لا يتعلق إلا بالجزئيات؛ لأن معظم ما ينظر

فيه القاضي يحتاج فيه إلى بينة، والبينة إنما تشهد بما رأته وشافهته، وذلك جزئي؛ فلهذا إذا فسخ نكاحاً بين زوجين بسبب أن [658/أ] أحدهما رضع من أم الآخر- مثلاً- وهو كبير فالفسخ ثابت لا ينقضه أحد، ولكنه إن تزوجها بعد ذلك فرفع أمرها إليه أو إلى غيره ممن ولي بعده لم يمنعه ذلك الفسخ أن يجتهد ويبيحها إذا أداه اجتهاده إلى أن رضاع الكبير لا ينشر الحرمة، وهكذا من تزوج امرأة في عدتها ورفع إلى مالكي يرى مع الفسخ تأبيد التحريم ففسخ النكاح فإن حكمه لا يتعدى الفسخ، وأما تحريمه في المستقبل فمعرض للاجتهاد كغيره، وله أن يبدل اجتهاده. قوله: (وَهِيَ كَغَيْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ) أي: وهذه المرأة التي تزوجها وقد رضع معها، أو في عدتها كامرأة أخرى تزوجها وقد رضع معها أو في عدتها، فذكر أن هذه التي لم يتقدم فيها حكم تكون معرضة للاجتهاد كالتي فيها الحكم. وقوله: (كَمَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحاً مَعَ بَيْعٍ أَوْ مَعَ إِجَارَةِ) أشار بهذا إلى أنه لا فرق بين أن يكون الخلاف خارج المذهب كما في الصورتين الأوليين، أو في المذهب كما في النكاح مع البيع أو الإجارة. وَيَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُ حُكْمِ نَفْسِهِ فِيمَا يَنْقُضُ فِيهِ حُكْمِ غَيْرِهِ، وَفِيمَا لَهُ فِيهِ رَايُ فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ سَهْواً .. (فِيمَا يَنْقُضُ فِيهِ حُكْمِ غَيْرِهِ) يندرج فيه ما خالف القطع أو قامت البينة على أنه قصد الحكم بشيء فحكم بغيره سهواً. وقوله: (وَفِيمَا لَهُ فِيهِ رَايُ) هذه صورة ثالثة يختص بها في قضاء نفسه، وهو أن يقصد الحكم باجتهاده أو بمذهبه فيحكم بغيره سهواً فإنه يتذكر ذلك وينقض حكمه الأول، ولا يتصور ذلك فيمن تقدمه؛ لأنه لا يطلع على غلط من تقدمه إلا بقيام البينة على ذلك.

ابن عبد السلام: وظاهر كلامه التسوية في وجوب النقض بين جميع صور هذه المسألة، والذي قاله سحنون فيما له فيه رأي فحكم بغيره سهواً: أن له نقضه، ولم يقل: يجب عليه نقضه، ورد بأن نص قول سحنون في النواد: إذا نسي ثم تذكره أنه يرجع فيه، وكذلك ذكره فضل في مختصره، وظاهر وجوب النقض لقوله: وهذا يرجع فيه. فَلَوْ حَكَمَ قَصْداً فَظَهَرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ فَقَالَ ابن القاسم: يُفْسَخُ الأَوَّلُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسحنون: لا يَجُوزُ فَسْخُهُ، وَصَوَّبَهُ الأَئِمَّةُ .. لما ذكر ما ينقض فيه القاضي حكم نفسه باتفاق تكلم على المختلف فيه. وقوله: (فَظَهَرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) هو ظاهر التصور، وهكذا نسبه ابن محرز وغيره لابن القاسم. ابن راشد: وهو المشهور، وظاهر ما روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما فت الطينة عندي أهون من نقض قضاء قضيت به ثم رأيت الحق في خلافه". وقال ابن الماجشون وسحنون: لا يجوز فسخه، وصوبه الأئمة كابن محرز وعياض وغيرهما من المتأخرين بوجهين: بالقياس على حكم غيره، ولأنه لو نقض حكم نفسه في هذا لما كان لأحد وثوق بحكم؛ لاحتمال نقضه، وتبع في نسبة عدم النقض لابن الماجشون وسحنون ابن عبد الحكم، لكن كلام سحنون وقع مطلقاً من غير تقييد، وقال مطرف وابن الماجشون: إنما ينقض حكم نفسه في هذه المسألة ما دام والياً، أما إن عزل ثم ولي مرة أخرى فظهر له الصواب في غير ما كان قضى به فلا ينقضه، وتكون ولايته الثانية كولاية غيره، وتأول على المدونة القولين اللذين ذكرهما المصنف، وليس ما نسبه المصنف لابن القاسم بصريح في أصل المدونة، وإن كان المصنف لم ينسبه إليها.

خليل: وقال عياض: وقوله في المدونة: "إذا تبين للقاضي أن الحق في غير ما قضى به رجع فيه "حمل أكثرهم مذهبه في الكتاب على أن له الرجوع كيف كان؛ من وهم أو انتقال رأي، وهو قول مطرف وعبد الملك، وقال سحنون: ونقل أيضاً عن عبد الملك أنه إنما يرجع فيما حكم به ذهلاً أو غلطاً لا فيما انتقل فيه اجتهاده، وهو أظهر وأقرب للصواب، وإلا لما استقر حكم حاكم وما كان أحد على وثيقة من الحكم. انتهى باختصار. ونقل أشهب في الموازية: إن كان القضاء بمال نقضه، وإن كان بإثبات نكاح أو فسخه لم ينقضه. ابن عبد السلام: وكلام المصنف بحسب ما تدل عليه صيغة أفعل يوهم أن محل الخلاف مقصور على ما إذا ظهر للقاضي أن ما حكم به أولاً صواب وأن غيره أصوب، وأنه لو ظهر له أن ما حكم به خطأ لنقضه بالاتفاق، وليس كذلك، بل المسألة مفروضة في الرواية إذا ظهر له أن الحق في غير ما حكم به، ولو أخذ من هذا الكلام أن الحكم في مسألة المؤلف عدم النقض لما بعد. انتهى. وفيه نظر؛ فقد قال صاحب البيان: إذا حكم باجتهاد ثم رأى خلافه فالمشهور من المذهب أن القاضي إذا قضى بقضاء ثم رأى ما هو أحسن منه فإنه ينقضه ويرجع إلى ما رأى ما دام على ولايته، وعلى هذا فالخلاف في الصورتين. وَلا يُمْضِي فَسْخَ حُكْمِ غَيْرِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ وَجْهَ فَسْخِهِ اتَّفَاقاً، وَفِي فَسْخِ حُكْمٍ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ قَوْلانِ .. يعني: أنه إن فسخ حكم غيره فالاتفاق على أنه لابد من بيان وجه الفسخ؛ دفعاً للظنة عنه في حق القاضي المتقدم، ولحق المحكوم عليه أولاً، وهكذا حكى ابن حبيب الاتفاق، وفي اشتراط بيان وجه الفسخ في حكم نفسه قولان: [658/ ب].

أحدهما: اشتراطه دفعاً للتهمة اللاحقة للقاضي من جهة الحكم له أولاً. والثاني: عدم الاشتراط لضعف التهمة، لأن النفس مجبولة على دفع الخطأ عنها، وهو قول أصبغ، قال: إشهاده على الفسخ كاف إذا كان مأموناً، ولكن لو قال مع هذا: قضيت للآخر لم يجز قضاؤه لعدم استيفاء الآجال والجرح والحجج، وعادا جميعاً إلى رأس أموالهما. وَلا يُحِلُّ الْقَضَاءُ حَرَاماً كَمَنْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ فَحُكِمَ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ لِلْمَالِكِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ .. أي: لا يحل حراماً في الأموال ولا في الفروج ولا غيرهما، والمثال الذي قاله المصنف: (كَمَنْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ) ظاهر، وكما لو شهد رجلان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً ففرق القاضي بينهما وانقضت عدتها، فلا يجوز للشاهد أن يتزوجها، وبقولنا قال جمهور العلماء. ووافقنا أبو حنيفة في الأموال وخالف في الفروج، ورأى أن القضاء يحلها، وبه قال كثير من أصحابنا فيما حكاه ابن عبد البر، وعلى هذا فالأموال مجمع عليها، لكن وقع في المذهب قول فيمن شهد على رجل أنه أعتق عبده فرد القاضي شهادته، ثم اشتراه ذلك الرجل الشاهد- أنه لا يعتق عليه ولو تمادى على إقراره بعد الشراء، وكذلك من اشترى أمة واختلف مع البائع بوجه من الوجوه المؤدية في اختلاف المتبايعين إلى فسخ البيع ورجعت الأمة إلى البائع- أنه يجوز له وطؤها، وفيها اعتذارات ضعيفة مع أن الأمر يؤدي فيها إلى خلاف الإجماع؛ لأن ذلك في الأموال. ودليل الجمهور ما رواه مالك وغيره أنه عليه السلام قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار" والحديث عام في الفروج وغيرها.

وما ذكره من قوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ .. إلخ) ظاهر التصور، ونقله ابن محرز عن ابن الماجشون فقال: وإن كان حكم باجتهاد وحكم بقول شاذ فذهب ابن الماجشون إلى فسخ حكمه، ومثل ذلك: الحكم بالشفعة من الجار، وتوريث ذوي الأرحام، وترك الحكم بالشاهد واليمين. قال: وخلاف أهل العراق في هذا ظاهر، وهي من المسائل التي شرع فيها الاجتهاد، وقد ذهب جماعة إلى توريث ذوي الأرحام من الصحابة والتابعين، ولا أدري ما هذا. وقد ذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم أن القاضي إذا حكم بخلاف كائناً ما كان أنه يمضي ولا يرد، وهذا هو الصواب، وكذلك استشكل ابن عبد السلام النقض في مسألة شفعة الجوار، قال: لأن ما تقدم الظاهر فيه مخالف للباطن، ولو علم القاضي بكذب الشهود لما حكم بهم إجماعاً، بخلاف مسألة الشفعة فإنها مختلف فيها، وحكم القاضي يرفع الخلاف فيكون كالمجمع عليه، وما هذا سبيله يتناول الظاهر والباطن، والذي قلناه هو مكان كلام السيوري في بعض مسائله قال: وعلى هذا لو غصب غاصب شيئاً فنقله عن مكان الغصب وكان مما اختلف فيه هل يفوت بنقله أم لا؟ فقضى القاضي لربه بأخذه وكان مذهب ربه أنه يفوت وتجب فيه القيمة فينبغي على هذا أن لا يكون لربه التصرف فيه. وذكر المصنف في أصوله في الاجتهاد: لو قال مجتهد شافعي لمجتهدة حنفية: أنت بائن، ثم قال: راجعتك- أنه يرفع إلى الحاكم فيتبع حكمه، وهذا يدل على أن حكمه يرفع الخلاف. وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَى الْحَاكِمِ أَمْرُ تَرَكَهُ، قَالَ سحنون: لا بَاسَ أَنْ يَامُرَ فِيهِ بِالصُّلْحِ، وَلا يَحْكُمُ بِالتَّخْمِينِ؛ فَإِنَّهُ فِسْقُ وَجَوْرُ .. قد يشكل على الحاكم كلام الخصمين من جهة تصوره؛ فيأمرهما بالإعادة ليفهم عنهما، وقد يفهم عنهما ويشكل عليه وجه الحكم- وهذا هو الذي تكلم عليه المصنف-

فلا يحل له الإقدام على الحكم باتفاق، وإذا لم يحل للمفتي أن يجزم بما يفتي به هنا فأحرى القاضي؛ نعم المفتي قد يرشد إلى الأخذ بالأحواط بخلاف الحاكم، ثم للحاكم أن يصرفهما عنه، وله أن يرشدهما إلى الصلح. ابن عبد السلام: والأقرب إن كان هناك قاض غيره أن يصرفهما إليه؛ لاحتمال ألا يشكل عليه الحكم، وإن لم يكن غيره أمرهما بالصلح إن كان من الأحكام التي يتأتى فيها الصلح. وإذا ظهر للقاضي وجه الحكم فلا يدعو إلى الصلح إلا أن يرى لذلك وجهاً، مثل أن يرى أن الحكم يوقع فتنة وتهارجاً. قوله: (وَلا يَحْكُمُ بِالتَّخْمِينِ؛ فَإِنَّهُ فِسْقُ وَجَوْرُ) نحوه لابن محرز، قال: ويفسخ ذلك الحكم هو وغيره إذا ثبت عند الغير أنه يحكم على ذلك؛ وظاهر كلامه أنه يفسخ وإن طابق الحق، ونحوه لابن خويز منداد، لكن تعقب القابسي قوله ورأى أن يمضي من أحكام الجاهل ما وافق الصواب، وظاهر كلام بعضهم أنه متفق على ذلك. الجوهري: والتخمين: القول بالحدس. وَلا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ مُطْلَقاً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَقَوْلانِ أي: لا يحكم القاضي بعلمه لئلا ينسب إلى الميل، ولقوله عليه السلام: "فأقضي له على نحو ما أسمع" ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أمية لما لا عن زوجته: "إن جاءت به على صفة كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك ابن سحماء" فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها".

وقوله: (مُطْلَقاً) أي: سواء علمه قبل ولايته أو بعدها، علمه في مجلس قضائه أم لا سواء الحدود وغيرها، ثم استثنى من الإطلاق صورة مختلفاً فيها بقوله: (إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَقَوْلانِ). والمشهور أنه لا يحكم بعلمه أيضاً، وقال مطرف وابن الماجشون وسحنون: يقضي بما علمه في مجلسه، ولذلك جلس، ووقع في بعض النسخ: (وَلا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ مُطْلَقاً، ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسحنون: إِلا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ [659/ أ] الشُّرُوعِ فِي الْمُحَاكَمَةِ) وهو أحسن. واختلف هل يشهد بما سمع منهما عند غيره؟ فقيل: لا يشهد به، وقيل: بل يشهد به. ابن محرز: وهو الصواب؛ لأنه أمر علمه فلا يحكم به، ويشهد به عند غيره كسائر الحقوق، والقولان لمحمد. وعلى القول بقبولهما فقيل: يرفع لمن هو فوقه لا لمن هو دونه، وإليه ذهب سحنون لقوله في السلطان الأعظم الذي ليس فوقه سلطان: إذا رأى أحد هذا حداً لا يقام أبادً، وأراه هدراً، وقيل: يجوز الرفع لمن هو دونه. وظاهر المدونة أنه لا يرفع لمن هو دونه إلا السلطان الأعظم الذي ليس فوقه سلطان للضرورة، وكذلك قال بعضهم: إن مذهب المدونة التفصيل، ففي المسألة ثلاثة أقوال. فَلَوْ حَكَمَ بِعلْمِهِ فِي غَيْرِهِ فَفِي فَسْخِهِ قَوْلانِ. وَأَمَّا مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومَةِ فَحَكَمَ بِهِ فَلا يُنْقَضُ. أي: في غير مجلس حكمه، والقول بالفسخ لابن القصار، ونحوه في الموازية، قال: إن حكم بما عنده من الشهادة قبل أن يلي، ثم ولي غيره نقضه. التونسي: ينقضه هو وغيره. ابن راشد: وهذا القول هو الأصل، والقول بعدم الفسخ حكاه ابن القصار عن بعض الأصحاب.

ابن عبد السلام: وهو الظاهر مراعاة لقول من أجاز له الحكم بعلمه مطلقاً كأبي حنيفة وغيره، وأما ما أقر به في مجلس الخصومة فحكم به فلا ينقض؛ أي: بالاتفاق، لكن ظاهر كلامه أنه لا ينقضه هو ولا غيره. والذي في الموازية: ولو حكم بما أقر به في مجلس القضاء ثم وليغيره لم ينقضه، وأما ما دام هو قاضياً فينقضه. فَلَوْ أَنْكَرَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ فَقَالَ مَالِكُ وابن القاسم: لا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسحنون: يَحْكُمُ .. فهذا هو الخلاف الذي استثناه بقوله: (إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُخَاصَمَةِ) فهو تكرار. فَلَوْ أَنْكَرَ أَنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ لَمْ يُفِدْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي الْجَلابِ: إِذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حَكَمَ فَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ إِلا بِبَيِّنَةٍ عَلَى حُكْمِهِ .. يعني: فلو أقر أحد الخصمين فحكم عليه القاضي مستنداً لإقراره مضى ذلك الحكم، ولا يفيد الخصم إنكاره بعد حكم القاضي، هذا بخلاف المسألة الأولى؛ لأن الإنكار فيها قبل تمام الحكم. وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) هكذا صرح اللخمي بمشهورية هذا القول وعبر عنه المازري بالمعروف، وشرط في ذلك أن يكون القاضي باقياً على ولايته، وجعل اللخمي والمازري ما في الجلاب مقابله، وأشار ابن عبد السلام إلى أن كلام ابن الجلاب ليس نصاً في المخالفة؛ لأن مسألة المشهور أن يخالف الخصم في الحكم، وإنما خاف في سببه وهو الإقرار بخلاف مسألة الجلاب فإن الخصم نازع فيها في أصل الحكم، ولو عرضت مسألة المشهور على ابن الجلاب لاحتمل أن يوافق على المشهور. قال: ولهذا لم يكتف المصنف بذكر المشهور عن ذكر مقابله، بل ذكر ما في الجلاب لينبه على ذلك.

خليل: وهو وإن كان كلاماً ظاهراً إلا أنه خلاف ما فهم اللخمي والمازري وغيرهما. المازري: والأصل الأول؛ لأن الحاكم إذا كان باقياً على قضائه فله أن يقول الآن مستأنفاً لإيقاع الحكم: "أشهوا علي أني قضيت على هذا لهذا بكذا بعد أن استقصيت الواجب" ولا يمكن المحكوم عليه أن يتلقاه بالمدافعة، وكأن الذي في الجلاب بناه على حماية الذرائع ورأى أنه من باب حكم القاضي بعلمه. فَلَوْ حَكَمَ بِأَمْرٍ وَنَسِيَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ أَمْضَاهُ عَلَى الأَصَحِّ كَمَا يُمْضِيهِ غَيْرُهُ اتِّفَاقاً .. قال القاضي عبد الوهاب: إذا وجد القاضي في ديوانه حكماً بخطه ولم يذكر أنه حكم به لم يعتمد على خطه؛ لاحتمال التزوير، ولو شهد به شاهدان عنده أمضاه على الأصح، وهو قول مالك، ومقابل الأصح لا يمضيه، وحكاه أبو عمر أيضاً رواية، وبمقابل الأصح قال أبو حنيفة والشافعي، واحتج للأصح بما أشار إليه المصنف أنه حكم شهد به شاهدان؛ فوجب على من رفع إليه من القضاة تنفيذه؛ أصله لو رفع إلى قاض غيره، وفرق بأن أحكام غيره لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالنقل بخلاف أحكامه فإنه يعلمها من جهة نفسه، والغالب أنه يعلمها بحيث لم يعلم دل على ريبة فيمن نقله، وألغى هذا الفرق لأن الحاكم قد تكثر أحكامه فينسى فتدعو الضرورة إلى الرجوع فيها إلى الظن. واحتج لمقابل الأصح بالقياس على الشهادة، فإنه لو شهد عدلان بأن فلاناً شهد بكذا وأنكر فلان أو لم يذكر فإنه لا يعمل بشهادتهما، وفرق بأن الشاهد متعبد بأن لا يشهد إلا بما يعلم؛ لقوله تعالى: (وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا) [يوسف: 81] بخلاف الحاكم فإنه يبني على شهادة غيره، وهي إنما تفيد غالباً الظن.

تنبيه: تقييد المصنف الحكم بالنسيان موافق لصاحب التلقين والجواهر، ومفهومه أنه لو لم ينس بل كان منكراً أنه لا يمضي؛ لأن الإنكار أشد، لكن هذا المفهوم غير معمول به، فقد نقل صاحب الجواهر في آخر كلامه ما يخالفه فقال: قال ابن حبيب: أخبرني أصبغ عن ابن وهب عن مالك في القاضي يقضي بقضاء ثم ينكره فيشهد عليه به شاهدان- فلينفذ ذلك، وإن أنكر الذي قضى به معزولاً كان أو لم يعزل، ولذلك فرض ابن الجلاب [659/ ب] المسألة في الإنكار. وَلْيُسَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَينِ فِي الْمَجْلِسِ وَالنَّظَرِ وَالسَّلامِ وَالْكَلامِ وَغَيْرِهِ مُطْلَقاً، وَقِيلَ: لَهُ رَفْعُ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ .. الأول ظاهر المذهب وهو ظاهر رسالة عمر، وهو لمالك، والثاني له أيضاً. المازري: وإذا دخل الخصمان فهو بالخيار إن شاء سكت عنهما حتى ينطق أحدهما فيستدعي الجواب من الآخر، وإن شاء سألهما جميعاً بلفظ التثنية فيقول: مالكما؟ وما حاجتكما؟ أو ما في معنى ذلك، ولا يخص أحدهما بالسؤال فيقول: مالك؟ لأن ذلك يشعر بعناية القاضي به. فائدة: رأيت أن أذكر هنا رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما؛ فإنها أصل فينبغي حفظها والاعتناء بها وهي: بسم الله الرحمن الرحيم. من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام الله عليك، أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدليإليك، وأنفذ إذا تبين لك؛ فإنه لا

ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالا. ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وعدت فيه لرشدك- أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي على الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة. ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه، وإلا أوجبت عليه القضاء؛ فإنه أنفى للشك وأبلغ للعذر. الناس عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب؛ فإن الله قد تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات والأيمان. وإياك والقلق والضجر والتأذي للخصوم في المجالس؛ فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن عليه الذخر، فمن خلصت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غيره شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام وفي بعض هذه الألفاظ اختلاف بين الرواة والكل متقارب. وَإِذَا سَكَتَ الْخَصْمَانِ أَمَرَ الْمُدَّعِيَ بِالْكَلامِ، فَإِذَا انْتَهَى طَالَبَ بِالْجَوَابِ، فَإِنْ أَقَرَّ فَلِلْمُدَّعِي الإِشْهَادُ عَلَيْهِ، وَلِلْحَاكِمِ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. قد تقدم أن القاضي مخير إذا حضر بين يديه الخصمان في السكوت، أو يقول لهما: ما بالكما؟ ثم إذا علم الحاكم المدعي أو اتفقا عليه أمره الحاكم بالكلام. أشهب: ويسكت المدعي عليه حتى ينتهي المدعي، ثم يأمره بالسكوت ويستنطق الآخر. وهو معنى قوله: (فَإِذَا انْتَهَى) أي: المدعي- طالب القاضي المدعى عليه بالجواب.

وظاهر قوله: (طَالَبَ) أن للقاضي أن يسأل المدعى عليه وإن لم يقل المدعي: سله. المازري: وهو ظاهر الروايات؛ لأن شاهد الحال يغني عن هذه الزيادة، فإن أقر؛ أي: المدعى عليه فللمدعي الإشهاد عليه لئلا ينكر. وظاهر قوله: (وَلِلْحَاكِمِ) التخيير، وفي النوادر عن ابن عبد الحكم: وإن أقر له المطلوب بشيء أمره أن يشهد عليه لئلا ينكر، وإنما كان للقاضي التنبيه على الإشهاد ولم يكن من تلقين لأحد الخصمين لأن الإشهاد مع ما فيه من تحصين الحق فيه قطع النزاع وتقليل الخصام، وذلك من شأن القضاة. فَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ: أَلَكَ بَيِّنَةُ؟ فَإِنْ قَالَ: "لا" وَاسْتَحْلَفَهُ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الأَشْهَرِ إِلا أَنْ يَظْهَرَ عُذْرُهُ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ .. لما كان للمدعي عليه حالتان: إقرار وإنكار، وقدم الكلام على الأولى- أتبعه بالكلام على الثانية، فإذا أنكر سأل القاضي المدعي: ألك بينة؟ فإن قال: "نعم" أمره بإحضارها وسمع منها وأعذر فيها لخصمه، فإن لم يظهر مدفعاً حكم عليه، وإن ادعى مدفعاً أجله في إثباته، فإن لم يأت به وإلا قضى عليه. وإن قال: "لا بينة لي" أخبره القاضي أنه ليس له إلا يمين المطلوب، فإن استحلفه فحلف ثم أتى المدعي ببينة؛ فإن كان له عذر في تأخيرها من نسيان أو عدم تقدم علم أو ظن أنها ماتت أو بعدت وشبه ذلك قبلت، ولا بد من يمين المدعي على دعوى نسيان البينة أو غيره مما يدعيه. قال ابن الماجشون في الواضحة: فإن لم يكن له عذر فالأشهر أنه لا تسمع البينة، وهو قوله في المدونة في كتاب الشهادات؛ لأنه نفاها وأدخل خصمه عهدة اليمين، ومقابله لمالك أيضاً من رواية ابن نافع وقاله أشهب؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه: "البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة".

تنبيه: قال المازري: الأصل أن القاضي لا يستحلف المدعى عليه إلا بإذن من المدعي، إلا أن يكون من قرينة الحال ما يدل على أنه أراد من القاضي ذلك، وقد ذكر عن بعض القضاة أن رجلاً ادعى على آخر ثلاثين ديناراً فأنكر المدعي عليه فاستحلفه القاضي، فقال الطالب: لم آذن [660/ أ] في هذه اليمين ولم أرض بها، فلا بد من إعادة اليمين، فأمر القاضي غلامه أن يدفع عن المطلوب من ماله الثلاثين ديناراً؛ كراهة أن يكلفه إعادة يمين قضى عليه بها. وَإِنْ تَنَازَعَا فِي الابْتِدَاءِ فَالْجَالِبُ إِنْ عُلِمَ وَإِلا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فإن تنازعاً في تعيين المدعي فقال كل منهما: "أنا المدعي" قدم الجالب؛ لأن قرينته تدل على صدقه، وإن لم يعرف الجالب فقال ابن شعبان: إن اصطلحا على تقديم أحدهما، وإلا أقرع بينهما. المازري: وهو الأظهر. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا لم يدر من جلب أو استعدى لم أبال بأيهما بدأ، وإن كان أحدهما ضعيفاً أحب إلي أن يبدأ به. وحكى ابن المنذر قولين آخرين: أحدهما: أن يصرفهما حتى يصطلحا. وضعفه المازري؛ لأنهما قد لا يصطلحان فيبقيان في المشاجرة. وثانيهما أنهما يتحالفان. وضعفه أيضاً بأنه يعود الكلام فيمن يبدأ بالحلف. وفي بعض النسخ: (فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَمَرَ بِالانْصِرَافِ، فَمَنْ أَبَى إِلَّا الْمُحَاكَمَةَ فَهُوَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ أَبَيَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا) ونحوه في الجواهر وهو في الواضحة لأصبغ، إلاأنه لم يجعل في ذلك قرعة.

قال في المجموعة: وإن قال أحد الخصمين: أنا المدعي، وسكت الآخر فإن للقاضي أن يسأل المدعي عليه إذا سكت الآخر عن إنكار قوله أنه هو المدعي، قال: وأحب إلي ألا يسأله القاضي حتى يسلم له الآخر ذلك نطقا. وَيَحْكُمُ بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ: أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةُ؟ فَيَقُولَ: "لا" فَإِنْ قَالَ: "نَعَمْ" أَنْظَرَهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَدَدَهُ، ثُمَّ هُوَ عَلَى حُجَّتِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ. هذا هو الذي يسميه الفقهاء الإعذار؛ يعني: ويحكم القاضي بعد أن يسأل المدعى عليه أبقيت لك حجة؟ فيقول: لا، فقوله (فَيَقُولَ) منصوب بالعطف على (يَسْأَلَهُ) وكأن المصنف هرب بإفراد الضمير مما في المدونة من تثنيته؛ لأن فيها: وجه الحكم في القضاء إذا أدلى الخصمان بحجتهما ففهم القاضي عنهما وأراد أن يحكم بينهما أن يقول: أبقيت لكما حجة؟ فإن قالا: "لا" حكم بينهما، ثم لا تقبل منه حجة بعد إنفاذه. فاستشكل بأن الحجة إنما تطلب ممن توجه عليه الحكم، وهو المدعى عليه، ولهذا اختصر أبو محمد المدونة بإفراد الضمير، لكن الجواب عما في المدونة أن الحكم تارة يتوجه على الطالب وتارة على المطلوب؛ لأنه قد تقوى حجة المدعى عليه وتضعف حجة المدعي، فيتوجه الحكم عليه بالإبراء أو بغيره فلابد من الإعذار أيضاً، فلما كان مرة يعذر إلى هذا ومرة إلى هذا اختصر في الكلام وأتى بذلك في لفظ واحد، هكذا قال عياض وغيره. وقوله: (فَإِنْ قَالَ: "نَعَمْ") أي: قال المدعى عليه: "نعم لي حجة" أنظره القاضي فضرب له أجلاً، فإن تبين لدده ففي الموازية: يضرب له أجلاً غير بعيد ثم ينفذ الحكم، ولو ادعى بينة بعيدة كما لو قال: "بينتي بالعراق أو بالمغرب" قضى عليه، ومتى حضرت بينته كان على حجته ويقوم بها عند هذا القاضي وعند غيره. ابن يونس وغيره: وينبغي إذا ذكرأن له بينة بعيدة أن يكتب الحاكم في قضيته أنه ذكر أن له بينة بعيدة الغيبة ومتى حضر شهوده كان على حجته، وقاله بعض القرويين.

تنبيهان: أولهما: ما ذكره من أنه إذا ذكر أن له حجة وتبين لدده يقضي القاضي عليه هو التعجيز، قال غير واحد: ويصح التعجيز في كل شيء إلا خمسة: العتق والطلاق والنسب والأحباس والدماء، وبه قال ابن القاسم وأشهب وابن وهب، وفيه خلاف. ثانيهما: للموثقين في حد أجل الإعذار كلام؛ ففي وثائق ابن القاسم: الآجال تختلف باختلاف الشيء المدعى فيه، ففي ما عدا الأصول ثمانية أيام ثم ستة ثم أربعة ثم ثلاثة تلوماً، وفي الأصول الشهرين والثلاثة، لاسيما إذا ادعى مغيب البينة، وحينئذ يعجز، وفيه خلاف. وفي إثبات الديون ثلاثة أيام. وفي الإعذار في البينات وحل العقود ثلاثون يوماً. وللقاضي جمعها وتفريقها، وبتفريقها جرى العمل. وفي الوثائق المجموعة: يضرب في غير الأصول ثمانية أيام، ثم ستة، ثم أربعة، ثم ثلاثة؛ فيكون إحدى وعشرين يوماً. قال: وليس يضرب لمن ذهب إلى استدفاع يمين واجبة عليه مثل الآجال المذكورة، إنما يؤجل إذا زعم أن عنده ما يدفع اليمين الأجل القريب ثلاثة أيام ونحوها؛ لأن قوله هذا محمول على اللدد، وألآجال في الأصول أوسع من الديون والحقوق، وهي تختلف باختلاف أحوال المضروب. وروى أشهب عن مالك في الرجل يدعى عليه في منزل بيده، ويأتي المدعي ببينة عدل فيقول المدعى عليه: "لي بينة" ويسأل التأجيل فيضرب له الأجل الواسع الشهر والشهرين والثلاثة، ويمضي الأجل ولا يحضر شيئاً، ويذكر غيبة شهوده وتفرقهم؛ هل ترى أن يضرب له أجلاً آخر أم يقضي عليه؟ فقال: أما الصادق المأمون الذي لا يتهم أن يدعي باطلاً فأرى أن يمد له في الأجل، وأما الذي يرى أنه يريد الإضرار بخصمه فلا أرى أن يمكن من ذلك الأمد القريب ثم يقضي عليه بما يرى. انتهى باختصار.

وفي مفيد الحكام: الأجل في الإعذار موكول إلى اجتهاد الإمام؛ خمسة عشر يوماً، ثم ثمانية، ثم ثلاثة تلوماً هذا في الأموال. وفي غيرها ثمانية أيام، ثم ستة، ثم أربعة، ثم ثلاثة. وفي أحكام ابن سهل: فيمن شهد عليه بما يقتضي قتله فادعى عداوة بينه وبين القاضي تمنع حكمه عليه أنه يؤجل لإثباتها شهرين، اتفق على ذلك فقهاء قرطبة؛ فاعلمه. وَإِذَا حَكَمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: "لا حُجَّةَ لِي" فَأَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: لَهُ ذَلِكَ، [660/ ب] وَقِيلَ: عِنْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ .. يعني: وإذا حكم على المدعى عليه بعد أن قال: "لا حجة لي" ثم أتى بعد ذلك ببينة لم يعلم بها- ففي المدونة: لا تقبل من المطلوب حجة إلا أن يأتي بما له وجه، مثل بينة لم يعلم بها أو يكون أتى بشاهد عند من لا يقضي بشاهد ويمين، وحكم عليه، ثم وجد شاهداً آخر بعد الحكم وقال: "لم أعلم به" فليقض له. وقيل: إنما يكون له القيام بالبينة التي لم يعلم بها عند هذا القاضي دون غيره؛ لأن القيام بالبينة عند غيره شبيه بنقض الحكم الأول، وهو قول ابن المواز. وقيل: لا يقبلها مطلقاً- لا عنده ولا عند غيره- لأنه أقر على نفسه أولاً بأنه لا حجة له. وصرح في البيان: بأن المشهور إذا عجز المطلوب وقضى عليه أن الحكم يمضي، ولا يسمع منه ما أتى به بعد ذلك، وذكر في تعجيز الطالب والمطلوب قولين، وذكر ثالثاً بالقبول من الطالب دون المطلوب، ورابعاً في الطالب إن عجزه في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجزه بعد أن وجب على المطلوب عمل ثم رجع عليه؛ أي: كما لو ادعى داراً وأقام بينة أنها لأبيه وأثبت المطلوب الحيازة .. ، ثم قال: وقيل هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام، وقيل: بل ذلك فيه وفيمن بعده، وهذا الاختلاف إنما هو إذا أعجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا أعجزه السلطان

بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة، فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد ورد من قوله قبل نفوذ الحكم، فلا يسمع بعد نفوذه. انتهى. وفي المدونة في باب: "القطع" إثر المسألة المتقدمة؛ أعني: إذا قالا: لا حجة لنا، وإن قال: "قد بقيت لي حجة" فأمهله فلم يأت بشيء حكم عليه، فإن أتى بعد ذلك يريد أن ينقض ذلك لم يقبل منه إلا أن يأتي بأمر يرى أن له وجهاً. ابن القاسم: مثل أن يأتي بشاهد عند من لا يقضي بشاهد ويمين، وقال: "لا أعلم لي شاهداً آخر" فحكم عليه القاضي ثم وجد شاهداً آخر بعد الكم فليقض بهذا الآخر، ومثل أن يأتي ببينة لم يعلم بها، وإلا لم يقبل منه. ابن المواز: وإنما ذلك عندنا في القاضي نفسه، فأما لو ولي غيره لم يكن له أن ينظر فيه ولا ينقضه. وقال سحنون: لا يقبل القاضي بعد الحكم من المطلوب حجة وإن أتى بما له وجه. بعض القرويين: وما في المدونة أشبه، وفي المجموعة في الذي يقضي عليه ثم يجد بينة لم يعلم بها أن ذلك له وقد عزل القاضي، أيقضي بها الثاني؟ قال: نعم. ابن يونس: وهو صواب كما لو قال: لي بينة غائبة بعيدة. ابن عبد السلام: وانظر هذا الخلاف حيث يقول المحكوم عليه: "بقيت لي حجة" والمؤلف حكاه حيث يجيب بقوله: "لا حجة لي". انتهى. وكلام المصنف يأتي على كلام ابن رشد؛ فانظر ذلك. وَإِذَا تَزَاحَمَ الْمُدَّعُونَ فَالسَّابِقُ ثُمَّ الْقُرْعَةُ، إِلا الْمُسَافِرَ وَمَا يُخْشَى فَوَاتُهُ يعني: سواء كان الوقت لا يسع إلا بعضهم، أو كان يسع الجميع ولكن كل واحد أراد التقديم- فيقدم الأول فالأول. قيل: وينبغي أن يوكل من يعرف له الأول فالأول،

فإن لم يعرف الأول أقرع. وصفتها أن تكتب أسماءهم في رقاع ثم تؤخذ إحدى الرقاع بعد خلطها، فمن وجد اسمه في تلك الرقعة قدم. واستثنى المصنف المسافرين لضرورتهم بفوات الرفاق. المازري: إلا أن يكثروا كثرة يلحق منهم المقيمين الضرر، فيصار إلى القرعة. بعض الشافعية: وإنما يبدأ الأول في حق واحد، واختار المازري تقديمه في حقين إذا كان لا يطول ولا يضر بالجماعة، كما لو خاصم الأول وطال خصامه معه، قال: وربما كان خصام الاثنين كخصام واحد يطول معه الخصام. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْرِدَ وَقْتاً أَوْ يَوْماً لِلْنِّسَاءِ هو ظاهر تصوراً وتصديقاً؛ خوفاً من الفتنة في اجتماعهن مع الرجال في المجلس. المازري: وإن كانت شابة لها جمال، ويخاف إن تكلمت أن يؤدي كلامها إلى شغف بها فإنها تؤمر أن توكل من ينوب عنها، ولا يكون من حق الخصم أن يؤتى بها لمجلس القضاء، وإن احتيج إلى أن يبعث إليها وهي بدارها تخاطب من وراء سترها من يبعثه القاضي إليها ممن تؤمن ناحيته لشيخوخته ودينه، أو يكلفه الحكومة في أمرها فعل، وقد حضرت الغامدية مجلسه عليه السلام، وقال في المرأة الأخرى: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها .. ". وَالْمُفْتِي كَذَلِكَ أي: في التقديم بالسبقية. زاد ابن شاس: وكذلك المدرس، وجرت العاةد بتقديم قارئ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قارئ الفقه.

وَإِنْهَاؤُهُ إِلَى حَاكِمٍ بِالإِشْهَادِ وَالْمُشَافَهَةِ المراد بالإنهاء التبليغ؛ يعني: فتبليغ القاضي حكمه لحاكم آخر يكون بوجهين: أولهما: أن يشهد شاهدان على تفصيل حكمه. أشهب: ولا تفيد شهادتهما أنه كاتبه حتى يشهدا أنه أشهدهما عليه. وقوله: (بِالإِشْهَادِ وَالْمُشَافَهَةِ) أي: ولا يكون بغيرهما؛ فلا يكتفي في ذلك بالشاهد الواحد، أو بالشهادة على أن الكتاب بخط القاضي، أو أن أختم ختمه، وما يفعله أهل زماننا من كتب القاضي خطه في العلامة والاكتفاء بالشهادة على خطه دون إشهاد القاضي عليه خارج عن نصوص المتقدمين، وإن كان وقع لسحنون وابن كنانة الاكتفاء بكتب أمنائه من أعراض البلد فجعل ذلك بعض المتأخرين أصلا ًفي قبول الإعلام إذا شهد على خط القاضي، وسيأتي ما استثني من ذلك في نواحي البلد، وإلى هذا أشار بقوله: فَالإِشْهَادُ يَكُونُ بِشَاهِدَيْنِ مُطْلَقاً، وَقَالَ سحنون: وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إِن كَانَ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ .. (مُطْلَقاً) أي: في كل حق، سواء كان الحق المحكوم به مما يثبت في أصله بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، أو بشاهد وامرأة، أو لا يثبت إلا بأربعة كالزنى، فلا يشهد على النقل إلا أربعة. قوله: (، وَقَالَ سُحْنُونُ .. إلخ) تصوره ظاهر، ولعل منشأ الخلاف الاختلاف في الشاهد واليمين فيما ليس بمال ولكنه يؤول إلى المال.

وَاسْتُحِبَّ أَنْ تَكُونَ بِكِتَابٍ مَخْتُومٍ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِخِلافِهِ أَمْضَى .. [661/ أ] بعض من تكلم هنا: ينبغي أن يقرأ: (اسْتُحِبَّ) لما لم يسم فاعله؛ لئلا يتوهم عوده على مالك، ولم ينص على ذلك، وما ذكره من الاستحباب نحوه في الجواهر، قال: ولو شهد بما فيه وهو مفتوح بغير ختم لجاز أيضاً. ابن عبد السلام: ولا يظهر للاستحباب كبير وجه إذا كان المعتمد على ما قاله من الشهادة؛ لأن القبول معها دائر وجوداً وعدماً، وإنما يتصور ما ذكره المصنف من شهادة الشهود بخلاف الكتاب إذا أشهدهما على الحكم وأعطاهما الكتاب ولم يقرأه عليهما، زاد ابن شاس بعد قوله: إنما يعمل بالشهادة ولو خالفت الكتاب إذا طابقت الدعوى. فَلَوْ قَالَ: أَشْهَدْتُكَمَا عَلَى أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ خَطِّي أَوْ حُكْمِي، فَرِوَايَتَانِ وَمِثْلُهُ لَوْ أَقَرَّ مُقِرُّ بِمِثْلِهِ .. هكذا حكى صاحب المعونة هاتين الروايتين. ابن عبد السلام: والصحيح عندي منهما إعمال ما في الكتاب؛ لأنهما أديا عنه ما أشهدهما به، ولا معارض. انتهى. واحتج القاضي إسماعيل للإعمال بأنه عليه السلام دفع إلى عبد الله بن جحش كتاباً وأمره ألا يقرأه إلا بعد أن يسير ليلتين، فإذا قرأه فليبلغ ما فيه. ووجه المازري الرواية الأخرى بأنهم إذا لم يعلموا ما تضمنه فالشهادة بمضمونه شهادة بما لم يعلموا، وضعفه بأن ما تضمنه على الجملة قد أقر به من أمرهم بالشهادة، والعلم تارة يقع جملة وتارة يقع تفصيلاً.

ابن عبد السلام: وقوله: (وَمِثْلُهُ لَوْ أَقَرَّ مُقِرُّ بِمِثْلِهِ) ظاهر أن فيه الروايتين: وكلام ابن شاس أظهر في ذلك، والصحيح قبول هذه البينة، وإنما يحفظ الخلاف في المذهب بالكراهة في شهادة الشاهد، كذلك في الوصايا؛ لاحتمال أن يكون فيها جور، وحكى عبد الوهاب روايتين فيمن دفع إلى شهود كتاباً مطوياً فقال: اشهدوا علي بما فيه. خليل: وعموم ما نقله القاضي يصحح الخلاف الذي أشار إليه المصنف. وَتُؤَدَّى عِنْدَ مَنْ كُتِبَ إِلَيْهِ وَغَيْرِهِ. نحوه في المدونة لأن في باب الأقضية: وإذا كتب قاض إلى قاض فمات الذي كتب إليه الكتاب أو عزل قبل أن يصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، أو مات المكتوب إليه أو عزل ووصل الكتاب إلى من ولي بعده فالكتاب جائز، ينفذه من وصل إليه، وإن كان إنما كتب لغيره. أبو إسحاق: ولا ينبغي أن يسمي المكتوب إليه، وإنما يقال: "قاضي فلانة، ابن الحاج" وهو خلاف المدونة؛ لقوله فيها: وإن كان إنما كتب لغيره. المازري: ووقع لابن القاسم في قاضي مصر إذا كتب لقاضي إفريقية في القضاء على غائب بإفريقية فلقي المحكوم له المحكوم عليه بطرابلس أنه لا يحاكمه فيها، وهذا يتأول على أن المحكوم عليه لا يعرف حيث لقيه خصمه، وإنما يعرف بالبلد الذي كتب إلى قاضيه، وإلى هذا أشار سحنون. وَيُمَيِّزُ الْغَائِبَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ وَحِرْفَتِهِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمَيَّزُ بِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ آخَرُ حَيُّ أَوْ مَيِّتُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَتَعَيَّنَ بِوَجْهٍ إذا حكم القاضي على الغائب وطلب المحكوم له من القاضي أن يكتب له كتاباً بذلك إلى حاكم بلد المطلوب ليمشي به أو يرسله مع وكيل له- وجب على القاضي أن يجيب لذلك.

ويعين المحكوم عليه بكل ما يقع به التمييز من اسم ونسب وحلية وحرفة وشهرة وغير ذلك، فإن لم يوجد بتلك البلد على تلك الأوصاف التي وقع التمييز بها إلا واحداً فإن القاضي يؤمر بالكشف ثم يوجه الحكم عليه، وإن وجد على تلك الصفة اثنان فأكثر، لم يحكم على أحدهما إلا بتعيين البينة له أنه الذي أراده القاضي. واختلف إذا عين الطالب واحداً وطلبه بحميل حتى يأتي بالبينة؛ فقال ابن القاسم في المدونة: لا يمكن من ذلك، وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: يمكن إذا لم تؤمن غيبته، ولم يكن من أهل البلد. وإن ترك القاضي الكاتب التمييز ففي المذهب قولان: أولهما: أن القاضي المكتوب إليه لا يعدي الطالب على صاحب الاسم المكتوب حتى يثبت الطالب أنه ليس بتلك الجهة من هو بهذه الصفة، والاسم والشهادة في ذلك على العلم، وهو دليل قول ابن وهب في سماع زونان. وثانيهما: أن يعديه إلا أن يثبت صاحب هذا الاسم أن بالبلد من يوافقه في الاسم والصفة وهو ظاهر قول أشهب في سماع زونان، وقول ابن القاسم في المدنية. قول: (بِوَجْهٍ) وما يتعين به كأن يموت مشاركة في هذا الاسم قبل تاريخ هذا الدين. وَالْمُشَافَهَةُ بِأَنْ يَكُونَا قَاضِيَيْنِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ، أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرَفِ وِلايَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَسْمَعُ فِي غَيْرِهَا لَمْ يُسْمَعْ، وَلَوْ كَانَ السَّامِعُ فَهِيَ شَهَادَةُ، وَلا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا كَغَيْرِهَا .. هذا هو الوجه الثاني من وجهي الإنهاء. وقوله: (أَنْ يَكُونَا قَاضِيَيْنِ بِبَلَدٍ) هذا- والله أعلم- إذا عرض للأول عارض يمنعه من التمام كمرض ونحوه، وإلا فللأول أن يتم الحكم، وتردد المازري في هذين

القاضيين؛ أعني: إذا كانا ببلد واحد وأخبر أحدهما الآخر أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان كذا هل يكتفي بخبر القاضي أم لا؟ قال: فإن قلنا: إن هذا من القاضي كنقل عن شهادة فلا يكتفي هذا القاضي [661/ ب] المخاطب بتعريفه أنهم شهدوا عنده بكذا؛ لأن الشهود المنقول عنهم حضور، ولا يصح نقل عن شاهد حاضر من غير عذر، وإن قلنا: إن ذلك كقضية؛ فإن القاضي الثاني ينفذ ما قاله الأول من غير أن يطلب إحضار الشهود، وقد يقال: إذا قبلنا قول القاضي وحده فكذلك يصح نقله. قوله: (أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرَفِ وِلايَتِهِ) وذلك إما بأن يكون لكل واحد جهة من البلد، أو يكونا في جهتين متجاورتين. (وَلَوْ كَانَ الْمَسْمَعُ فِي غَيْرِهَا) أي: في غير ولايته (لَمْ يُسْمَعْ) لأنه معزول في تلك الجهة، فصار كقوله بعد العزل: "كنت حكمت بكذا" وأجاز أهل طليطلة أن يخبر القاضي المحل بغير بلده قاضي البلد وينفذ حكمه. ابن سهل: ولو كان السامع للحكم في غير محل ولايته والمسمع في محل ولايته ثم رجع السامع إلى محل ولايته له أن يحكم بما سمعه في غير محل ولايته؛ لأنه حينئذ حاكم بعلمه، وفي أحكام ابن سهل عن أصبغ ما ظاهره أن له أن يحكم، وأجراه مجرى تنفيذ الأحكام في غير ولايته. ابن عبد السلام: وانظر قول المؤلف: (فَهِيَ شَهَادَةُ) فظاهره أن القاضي السامع لو طلب منه أن يؤدي ما سمعه من هذا القاضي إلى قاض ثالثا لكان ذلك له ويكون شاهداً، فيحكم بقوله مع يمين الطالب، أو مع شهادة شاهد آخر، وفي هذا الأصل قولان: هل يكتفي بالشهادة بذلك أو لا بد من السماع من القاضي من زيادة قوله: أشهد علي بكذا؟ ولو قيل: إنه لا يشهد في هذه الصورة من غير خلاف لما بعد، فإن ذلك الخلاف إنما هو إذا

أشهد القاضي شاهدين على نفسه وحضر مجلسه اثنان غيرهما فهل لهذين الاثنين أن يشهدا بما أشهد به الأولان؟ في ذلك قولان، وفي هذه الصورة لم يقصد القاضي المسمع إلى الإشهاد بوجه، وإنما قصد إلى إعلام قاض آخر مشافهة ولم يتم الحكم بها؛ فتأمله. وَلَوِ اقْتَصَرَ الأَوَّلُ عَلَى سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ وَجَبَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُنْهَىَ إِلَيْهِ الإِتْمَامُ مِنَ التَّعْدِيلِ وَالْحُكْمِ .. أي: لو اقتصر القاضي الأول على سماع البينة في بلده ولم ينظر في عدالتها، فعلى القاضي الثاني النظر في عدالتها والحكم بمقتضاها، وإن ثبت عند الأول العدالة حكم الثاني، وليس قول القاضي: "ثبت عندي كذا" حكماً منه بمقتضى ما ثبت عنده فإن ذلك أعم منه، وإنما ذكرنا هذا لأن بعض القرويين غلط في ذلك، وألف المازري جزءاً في الرد عليه وجلب فيه نصوص المذهب. وَأَمَّا الْكِتَابُ الْمُجَرَّدُ فَلا أَثَرَ لَهُ أي: عند الإشهاد، وهذا راجع إلى قوله: (بِالإِشْهَادِ وَالْمُشَافَهَةُ). قَالَ مَالِكُ: كَانَ مِنَ الأَمْرِ الْقَدِيمِ إِجَازَةُ الْخَوَاتِمِ حَتَّى حَدَثَ الاتِّهَامُ فَأُحْدِثَتِ الشَّهَادَةُ .. هذا استدلال منه لما ذكر من أن الكتاب المجرد لا أثر له. قوله: (عَلَى إِجَازَةُ الْخَوَاتِمِ) أي: ختم القاضي على كتابه. ابن شعبان: وأول من أحدث الشهادة هارون الرشيد، وقيل: أبوه محمد المعروف بالمهدي. وفي البخاري: إن أول من سأل البينة عن كتاب القاضي ابن أبي ليلى.

وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: كَذَلِكَ إِلا فِي الْقَرِيبِ كَأَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ إِلَى قَاضِيهَا فِي الْحَقِّ الْيَسِيرِ فَإِنَّهُمْ بَقُوا عَلَى الاجْتِزَاءِ بِالْخَطِّ وَالْخَوَاتِمِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِلا فِي الْقَرِيبِ وَأَطْلَقَ .. أي: وقال ابن كنانة: لا يكتفي بالخواتم، وهو معنى قوله: (كَذَلِكَ إِلا فِي الْقَرِيبِ) ككتاب الأمناء بأعراض المدينة إلى قاضيها، وهي قراها. الجوهري: يقال: أخصبت أعراض المدينة، والأعراض: قرى بين الحجاز واليمن. وقيده بالحق اليسير، ونص قول ابن كنانة في النوادر: والناس اليوم على أنه أرجاء من أعراض المدينة، اجتزوا بمعرفة طابعه وخطه، وجوابه إن كان في الحقوق اليسيرة. (وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلا فِي الْقَرِيبِ وَأطْلَقَ) ككتاب الأمناء بأعراض المدينة إلى قاضيها، وهي قراها. مطرف وابن الماجشون وأصبغ: ولا بأس إذا كتب القاضي إلى القاضي في الشيء يسأله عنه من عدالة شاهد أو أمر يستخبره من أمر الخصوم أن يكون كتابه بغير شهود إذا عرف خطه، ما لم يكن فيه قضية قاطعة وكتاب هو ابتدأه به فلا ينفذه إلا بعدلين، قالوا: وأما كتابه إلى قاضي الجماعة أو إلى فقيه يسأله ويسترشده ويخبره، فهذا يقبله إذا عرف خطه وأتاه به رسوله أو من يثق به، إلا أن يأتيه به الخصم فلا يقبله إلا بعدلين. وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ مَا يَرِدُ إِلَيْهِ عَنْ الْحَاكِمِ فِي الْمَالِ وَالْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْعَفْوِ وَغَيْرِهَا إِنْ كَانَ أَهْلاً، وَرَدُّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ فَإِنْ جَهِلَهُ قَبِلَهُ إِنْ كَانَ مِنْ قُضَاةِ الأَمْصَارِ، وَكَشَفَ عَنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ. يعني: لا فرق في الحقوق إذا انتهت إلى حاكم بين المالية وغنيرها، إن كان القاضي الكاتب أهلاً؛ أي: للقضاء، بأن تجتمع فيه شروط الولاية.

(وَرَدُّهُ) معطوف على (قَبُولُ) أي: ويجب رده إذا لم يكن القاضي الأول أهلاً بأن تختل منه شروط القضاء أو بعضها. (فَإِنْ جَهِلَهُ ... إلخ) أي: فإن جهله المنهي إليه قبله؛ أي: المنهي إن كان من قضاة الأمصار؛ لأنه لا يستقضى في الأمصار إلا من كان أهلاً للقضاء، وذلك واضح نص عليه أصبغ في الواضحة. قَالَ ابن الماجشون: الْعَمَلُ عِنْدَنَا أَنْ تُسْمَعَ الْبَيِّنَةُ حَضَرَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، ثُمَّ يَعْلَمُ بِهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْفَعُ وَإِلا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرَهُ سُحْنُونُ إِلا بِمَحْضَرِهِ إِلا أَنْ يَكُونَ غَائِباً غَيْبَةً بَعِيدَةً ... الذي ذكره ابن الماجشون هو مذهب المدونة، وهو أجري على أصل المذهب في القضاء على الغائب. وقوله: (ثُمَّ يَعْلَمُ بِهِمْ) هذا لا بد منه، ويعذر إليه في شهادتهم. أما لو شهدوا على إقراره بمحضر القاضي فهل يعذر إليه فيهم أم لا يعذر لكونه سمع إقراره معهم؟ قولان: الأول لابن الفخار، والثاني مذهب الأكثر، وبه مضى العمل. وقال صاحب التحرير: يعذر في كل الشهود إلا في خمسة: أولها هذا، ثانيها: من وهجه الحاكم من قبل نفسه، [622/ أ] ثالثها: المزكي في السر، رابعها: المبرز في العدالة، والعمل على أنه يعذر فيه بالعداوة لا غير، خامسها: من قبلت شهادته بالتوسم. خليل: وتزاد سادسة نقلت عن ابن بشير القاضي، وذلك أنه حكم على وزير في قضية وهو غائب، فقال: له الوزير: أخبرني بمن شهد علي، فقال له ابن بشير: مثلك لا يخبر بمن شهد عليه؛ يعني: وإن كان نص في المدونة أنه يخبر بمن شهد عليه وبالشهادة فلعل عنده حجة، وإلا حكم عليه، وعلى هذا فيتخصص الكتاب بهذه الصورة.

ابن رشد: ولابد من تسمية الشهود في الحكم على الغائب على القول بأن الحجة ترجى له؛ ليجد سبيلاً إلى رد القضية بتجريح الشهود، هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وإن لم يسم البينة فالقضية مردودة؛ تفسخ ويستأنف الحكم فيها، وقاله أصبغ في الواضحة وغيرها، وهو الصحيح على القول بأن الحجة ترجى له، وأما الحكم على الحاضر فلا يحتاج إلى تسمية الشهود؛ إذ قد أعذر فيهم إلى المحكوم عليه، إلا أن تسميتهم أحسن. أصبغ: وبذلك مضى العمل. ابن أبي زمنين: وهو الذي عليه الحكام، وأما الغائب والصغير فلابد من تسميتهم، وقد روى سحنون أيضاً أنه لا يلزم ذلك في الغائب وأن ذلك أحسن، وهو إنما يأتي على قول ابن الماجشون أن الغائب إذا حكم عليه لا ترجى له الحجة. انتهى. وَيَحْكُمُ بِالدَّيْنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَمَيَّزُ غَالِباً بِالصِّفَةِ كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَدَّعِ الْحُرِّيَّةَ أَوْ يَدَّعِيهِ ذُو يَدٍ .. يعني: أن ما يحكم به إما أن لا يقبل التمييز قبل الحكم، أو يقبله؛ فالأول: لا يطلب؛ إذ لا معنى لطلب ما يتعذر حصوله، فتقول البينة مثلاً: "غصب له حديداً قيمته كذا". والثاني: وهو ما يقبل التمييز لا يخلو إما أن يكون تحت يد منازع فيه وشبهه كدعوى العبد الحرية، أو لا يكون كذلك، والثاني لا يطلب حضوره؛ لأن الأصل ألا يكلف مدعيه بينة، بل يأخذه بالصفة والأمارة وما في معناهما. والأول المشهور فيه الاكتفاء بالصفة، والشاذ لابن كنانة. قال في المجموعة وكتاب ابن سحنون: فأما من يدعي الحرية أو عبداً أو قربة بيد رجل فلا يدرك ذلك بصفته في كتاب قاض حتى تراه البنية فيثبتونه، ولم أسمع من قضى بذلك.

وَفِي الْعَقَارِ ثَالِثُهَا: فِي الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ هذا الكلام يوهم أنه فرع من المسألة التي قبله، وليس كذلك؛ لأن السابق هل يشترط حضور المحكوم به لتشهد البينة على عينه أو لا؟ وهذه المسألة إنما المراد بها هل يشترط حضور المحكوم عليه ليستوفي حجته أم لا؟ ابن عبد السلام: والقول بأنه يحكم عليه لعبد الملك، والقولان الباقيان في المدونة ما لم تبعد الغيبة جداً مثل الأندلس وطنجة من المدينة فإنه يحكم عليه، وهذا الخلاف إنما هو في الاستحقاق وحده، وأما بيع الربع في الدين على الغائب وشبه ذلك من الحقوق فلا خلاف في المذهب أنه يباع عليه بينة، هكذا قال بعضهم، ووقع في العتبية خلاف في بيع الرباع في الدين. انتهى. وعلى هذا ففي حكاية المصنف الأقوال الثلاثة نظر؛ لأن البعيد جداً يحكم عليه، قال بعضهم: بلا خلاف، والقريب الغيبة كالحاضر، ولم أر جميع الأقوال، وسأذكر لك ما وقفت عليه. وقد قسم ابن رشد الغيبة إلى ثلاثة أقسام: قريبة ومتوسطة وبعيدة جداً أو غيبة انقطاع. أما القريبة كاليومين والثلاثة والطريق مأمونة فالوجه أن القاضي إذا ثبت عنده قرب غيبته مع الأمن وهو من أهل علمه، فإنه يكتب إلى قاضي البلد الذي هو فيه أو إلى عدلين من عدول ذلك الموضع، ويعلمه بمن قام عليه وبما ادعاه وبما ثبت عنده وبتسمية الشهود الذين قبلهم وبتسمية المعدلين لهم، فإذا ثبت عنده إقراره بألا مدفع له، أو ادعى مدفعاً وعجز عنه سجل عليه وقضى عليه في الربع وغيره، ولا يختلف في ذلك، ولا حجة له بعد ذلك، ولا يحكم عليه بشيء قبل الإعذار إليه. والمتوسطة كعشرة أيام ونحوها أو على مسيرة يومين أو ثلاثة والطريق مخوفة فيحكم عليه فيما عدا الأصول، وفيها قولان:

قال في المدونة في القسم: سمعت من يذكر عن مالك أنه لا يقضي على الغائب في الدور، وهو رأيي، إلا في الغيبة البعيدة مثل الأندلس وطنجة من المدينة، وما بعد فليقض عليه، وما علمت في هذا خلافاً. وكذلك قال مالك في الواضحة وأنكر ذلك ابن الماجشون وقال: إنما يقول ذلك أهل العراق، وعلماء المدينة وحكامها على خلافه، وبه قال سحنون. وحيث قضى عليه فإنه لا يعذر إليه، وترجى له الحجة، واختلف النقل عن سحنون هل ترجى له الحجة أم لا؟ فذكر ابن رشد عنه أنه لا ترجى له، وكذلك ذكر ابن الهندي. والذي ذكره عنه في الجواهر أنه ترجى له. وأما البعيدة كمكة من إفريقية والأندلس من خراسان فهذا يحكم عليه في كل شيء من الديون والحيوان والعروض والرباع والأصول، وترجى له الحجة في ذلك. ابن القاسم في كتاب القسم: ولايقيم القاضي لغائب أو لطفل وكيلاً يقوم بحجته. أبو عمران: لأن الموكل تنقطع حجته بانقطاع حجة وكيله، فلو وكل القاضي لهما لانقطعت حجتهما بانقطاع حجة الوكيل؛ فكان تركهما على حجتهما أنفع لهما. [662/ ب]. ابن عبد السلام: وظاهر ما ذكره ابن القاسم أنه سمعه عن مالك عدم القضاء على الغائب ولو بعدت غيبته، وعلى هذا حمله بعضهم. وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ عَلَى عَدَمِ الإِبْرَاءِ وَالاسْتِيفَاءِ وَالاعْتِيَاضَ وَالإِحَالَةِ وَالاحْتِيَالِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى الاقْتِضَاءِ فِيهِ وَفِي بَعْضِهِ، وَقِيلَ: وَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ إِلَى الآنَ .. أي: يحكم على الغائب بالدين إذا قامت للطالب بينة أو حلف، والقول الثاني من كلام المصنف يستلزم التكرار؛ لأن قوله: (وَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ إِلَى الآنَ) يستلزم نفي الاحتيال والإبراء وغير ذلك، وربما زاد الموثقون وغيرهم في فصول هذه المسألة: لم يسقط عليه من

الدين شيء، وعم هذه الزيادة بعضهم لضعف توجه دعوة الهبة على أحد القولين، وكذلك عم الإبراء الذي ذكره المصنف، وظاهر كلام المصنف أنه لا بد من حلف الطالب، وقد ذكر المازري فيها قولين للعلماء: أحدهما: أن يمين الطالب واجبة على القاضي لا يصح الحكم إلا معها؛ لأن القاضي يبرم القضية ويقول في حكمه: أوجبت على الغائب هذا الحق. وثانيهما: أنه استظهار واحتياط، وعليه فإن لم يحلف الطالب ووصل وكيله إلى المطلوب فادعى أنه قضاه الحق فإنها مسألة فيها إشكال، ووقف فيها حذاف العلماء، وعندنا فيها قولان: أحدهما: أنه لا يلزم المحكوم عليه بتسلم الحق حتى يستحلف له الطالب للحق، فيعود وكيله إليه حتى يتم الحكم باستحلافه من الطالب. وقيل: بل يلزم بدفع الحق وينصرف هو يطلب يمين الغائب، لأن هذا إن لم يفعل وقفت الأحكام على الغائب، ولم يعجزه أحد عن إيقافها بهذه الدعوى. المازري: وهذا إنما يتصور إذا أثبت الحق على الغائب مستحقه، وأما ل وأثبته وكيل المستحق فإنه لا يطلب بهذه اليمين ويرجى الأمر فيها إلى أن يدعيها الغائب إذا ورد الحكم عليه، وأما الميت والصبي والمجنون فإنهم لا يقضى عليهم بالديون إلا بعد استحلاف الطالب؛ لكون الميت يستحيل منه قضاء الدين، وكذلك الصبي والمجنون ما دام الصبي في حال الطفولة، والمجنون في حال جنونه. انتهى. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ غَائِباً عَنِ الْبَلَدِ أَوْ مُتَوَارِياً أَوْ مُتَعَذِّراً. الإشارة بذلك إلى إنفاذ القضاء على الغائب ولم يحد مقدار الغيبة.

المازري: وهي مصروفة إلى الاجتهاد، ولم يرد الشرع بحد معلوم، ووقع لسحنون الإعذار إلى من بصقلية، ووقع في رواية أخرى أن الغائب يحكم عليه قربت غيبته أو بعدت، إلا أن تقترب جداً. وقوله: (أَوْ مُتَوَارِياً) أي: مستخفياً. قال في البيان: إن تغيب بعد استيفاء حجته فراراً من القضاء عليه فإنه يقضي عليه ويعجزه كما لو حضر ولا حجة له، إلا على القول بأن المحكوم عليه إذا أتى بحجة لها وجه بعد الحكم أنها تسمع، وإن تغيب قبل استيفاء حجته تلوم له، فإن لم يخرج قضى عليه من غير قطع حجته. وذكر ابن شعبان أنه إذا توارى وأثبت الطالب حقه حكم عليه إن كان له مال ظاهر، وإن لم يكن له مال ظاهر وثبت أنه في منزله فمنهم من يرى أنه يختم على بابه ويبعث رسولاً ثقة ومعه شاهدين؛ ينادي بحضرتهما ثلاثة أيام، كل يوم ثلاث مرات: "يا فلان ابن فلان القاضي فلان يأمرك بحضور مجلس الحكم مع خصمك، وإلا نصب لك وكيلاً فإذا نصب له وكيلاً وسمع البينة قضى عليه إلى أن يقدر على استخراج المال منه. ومنهم من يرى أن يهجم عليه. ومنهم من يرى أن يرسل عدلين ومعهما جماعة من الخدم والنسوان والأعوان فيكون الأعوان بالباب وحول الدار، ثم يدخل النسوان، ثم الخدم بغتة ويعزلن خدم المطلوب في بيت ويفتش المنزل. وقوله: (أَوْ مُتَعَذِّراً) بالذال المعجمة؛ يعني: كتمسكه بجاه ونحوه وفي بعض النسخ: (متعززاً) بزائين، والمعنى قريب.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ لَهُ بِالْبَلَدِ مَالُ أَوْ حَمِيلُ أَوْ وَكِيلُ، وَإلا نُقِلَتِ الشَّهَادَةُ يعني: أن ابن عبد الحكم قال: إنما يحكم على الغائب بشرط أن يكون له ببلد الحكم مال أو حميل أو وكيل؛ يريد: لأنه إذا لم يكن ببلد الحكم أحد هذه الأشياء صار القاضي حاكماً على من ليس في ولايته؛ فلذلك قال: وإلا تنقل الشهادة مع عدم هذه الأشياء لقاضي بلد المدعى عليه. واختلف إذا كانت الدعوى في بلد والمدعى عليه في غيرها؛ فقال عبد الملك: الخصومة والقضاء حيث يكون المدعي، وأقامه فضل من المدونة. وقال مطرف: حيث يكون المدعى عليه. مطرف: وبه الحكم في المدينة، وبه حكم ابن بشير بالأندلس، قاله أصبغ وسحنون. ابن عبد السلام: واشتراط حضور الوكيل لا تظهر له كبير فائدة؛ لأنه إن كان للمدعى عليه عند الوكيل مال فالمال وحده كاف، وإن لم يكن له عنده مال فلا معنى لنزاعه معه، اللهم إلا أن يكون الوكيل مفوضاً إليه يلزم الموكل إقراره عليه، فحينئذ تظهر لذلك فائدة. وَيُجْلَبُ الْخَصْمُ مَعَ مُدَّعِيهِ بِخَاتَمٍ أَوْ رَسُولٍ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى، فَإِنْ زَادَ لَمْ يَجْلِبْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدُ فَيُكْتَبُ إِلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَحْضُرَ أَوْ يَرْضَى .. لما تكلم على الحكم الغائب، تكلم على حاضر وما في معناه فذكر أنه يجلب مع خصمه بخاتم أو رسول إذا كان على مسافة يعدى عليه [663/ أ] فيها، ولم يحددها. ابن عبد الحكم وابن حبيب: والقريب مثل أن يأتي ثم يرجع ويبيت في منزله والطريق مأمونة، وحدد الباجي القرب في سجلاته بثلاثة أميال. الجوهري: والعدوى: طلبك إلى والٍ ليعديك على من ظلمك؛ أي: ينتقم منه، يقال: استعديت على فلان الأمير فأعداني عليه، أي: استعنت به عليه فأعانني. والاسم منه العدوى وهي: المعونة.

وقوله: (فَإِنْ زَادَ لَمْ يَجْلِبْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدُ .. إلخ) أي: شاهد بالحق، هكذا هو منصوص لابن عبد الحكم، وفي وثائق ابن هشام: لا يجلب من البعد خصماً ولا شاهداً. سحنون في العتبية: والبعد ستون ميلاً. وَلا يَلْزَمُ مَنْ يُزْرِي بِهَا حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَنْ تَحْضُرَ لِتَحْلِفَ وَلَوْ كَانَتْ تَتَصَرَّفُ، وَيَبْعَثُ الْحَاكِمُ مَنْ يُحَلِّفُهَا، فَإِنْ كَانَ فِيمَا لَهُ بَالُ فَفِي الْمَسْجِدِ لَيْلاً .. الأصل أن النساء كالرجال، إلا أنه لما كان شأنهن الستر وفي تركه امتهان لهن لم يكلفن بالإتيان إلى مسجد الحاكم، ويبعث الحاكم من يحلفها، ولا مقال للخصم؛ لأن الذي له- إحلافها لا امتهانها. وقوله: (وَلَوْ كَانَتْ تَتَصَرَّفُ) نحوه في الجواهر، وفيه نظر، ويتم ما قالا إلا إذا كانت تحلف في مجلس الحكم، وأما إن كانت تحلف بغيره فلا يزم من الإزراء بها في حضور مجلس الحكم الإزراء بها في حضور الجامع، ثم هو خلاف ظاهر المدونة؛ لأن فيها: وتخرج المرأة فيما له بال من الحقوق فتحلف في المسجد، فإن كانت ممن لا تخرج نهاراً فلتخرج ليلاً، وتحلف في اليسير في بيتها. وأم الولد مثل الحرة، بخلاف المدبرة والمكاتبة؛ اللهم إلا أن يحمل قول المصنف: (وَلَوْ كَانَتْ تَتَصَرَّفُ) على أنها تتصرف ليلاً. وفي الطراز عن المشاور: كل من تخرج من النساء بالنهار إلى خصام أو نزه أو مقابر وشبه ذلك تحلف بالنهار وإن خرجن مستترات، وأما التي لا تحلف بالنهار ممن تختمر فلا تخرج في النهار في شيء، وقريب منه ذكره ابن عبد السلام فقال: الذي مشى عليه العمل ربط هذا الحكم؛ فمن تخرج نهاراً في حوائجها تحلف في الجامع نهاراً، ومن لا تخرج نهاراً تحلف في بيتها أو في الجامع ليلاً، وهكذا قال بعض الأندلسيين.

قوله: (وَيَبْعَثُ الْحَاكِمُ مَنْ يُحَلِّفُهَا) نص في المدونة على أنه يكتفي بالواحد، وهذا النعت إنما هو فيما لا بال له، فإن كان له بال ففي المسجد ليلاً. المازري: والمشهور أن المال الذي له بال ربع دينار. وقال ابن المواز: بل أكثر منه مما له بال. ابن محرز: وهو أشبه بظاهر الكتاب. وَإِذَا مَسَّتْ يَتِيماً حَاجَةُ وَلَهُ رِبَاعُ فِي وِلايَةٍ أُخْرَى كَتَبَ بِحَاجَتِهِ، وَقُضِيَ بِبَيْعِ أَقَلَّهَا رَدَّاً عَلَيْهِ وَتَنْفِيذِ ثَمَنِهِ .. يعني: إذا كان يتيم في ولاية قاض، وله رباع في ولاية قاض آخر، فإن قاضي بلده يكتب بحاله وحاجته، ويطلب منه أن يبيع من رباعه أقلها رداً عليه- والرد هو المنفعة- وينفذ الثمن إلى القاضي الكاتب، فتنفيذه مخفوض معطوف على بيع، وقد تقدم في الحجر الوجوه التي يباع فيها عقار اليتيم. فروع: الأول: إذا كانت المرأة خارجة عن ولاية القاضي لم يجز له إنكاحها إلا إذا دخلت في محل ولايته، نقله في الجواهر. الثاني: للقاضي النظر في جميع الأشياء إلا في قبض الخراج. ويختص القاضي أو موليه بأمور عشرة؛ التقديم على الأيتام، والنظر في الأوصياء وأموال الغائب من القسمة عليه وغيرها، والأحباس المعقبة، والطلاق، والتحجير، والإثبات، والتسجيل، والدماء، والحدود، والأنساب. الثالث: إذا قام عن الغائب محتسب في شيء تعدى فيه على الغائب أو أخذ له أو في عيب أحدث عليه في داره أو أرضه فهل يمكن القاضي هذا القائم من مخاصمة ذلك المتعدي أو لا؟ خمسة أقوال:

أولها: أنه لا يمكن من ذلك إلا الأب والابن ومن له قرابة قريبة، ثم إذا مكنه من المخاصمة فلا يخرج الملك من يد حائزه، ولا يزيل العيب الذي أحدث؛ لاحتمال أن يقر به الغائب أو يقر بأنه أعلم بما حدث، وإنما يشهد بذلك خوفاً من موت الشهود ثم ينظر الغائب، ولو أقر من بيده العقار أو غيره أنه للغائب أخرجه عنه وجعله بيد ثقة، ويقطع العيب إن اعترف بإحداثه. ثانيها: أنه يمكن من ذلك القريب والأجنبي، قاله ابن القاسم أيضاً، وذهب سحنون إلى أن القاضي يوكل من ينوب عن الغائب، وهو أحد قولي ابن الماجشون وقاله أصبغ. وثالثها: أنه يمكن من إقامة البينة ولا يمكن من الخصومة. ورابعها: أنه لا يمكن من إقامة البينة ولا من الخصومة إلا بتوكيل الغائب، قاله ابن الماجشون ومطرف في الواضحة. وخامسها: أن القريب والأجنبي يمكن من الخصومة في العبد والدابة والثوب دون توكيل؛ لأن هذه الأشياء تفوت وتحول وتغيب، ولا يمكن من الخصومة في غير ذلك إلا الأب والابن، حكاه ابن حبيب عن مطرف. وعلى القول بالتمكين فهل ذلك في القريب والبعيد، أو في القريب خاصة؟ قولان: قال سحنون: في القريب الغيبة دون بعيدها. وقيل: في البعيد، وهو الظاهر من رواية أشهب وقول ابن الماجشون.

كتاب الشهادات

الشَّهَادَةُ وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُسْلِماً بَالِغاً عَاقِلاً عَدْلاً مُسْتَعْمِلاً لِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ، وَفِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُوَلَّى عَلَيْهِ لِسُوءِ نَظَرِهِ فِي الْمَالِ لا لِجُرْحَةٍ خِلافُ أي: وشرط قبولها؛ لأن تحملها يكون بدونه. واحترز بالحر من الرقيق القن ومن فيه شائبة من شوائب العتق؛ [633/ ب] لأن الشهادة مرتبة شريفة فسلب العبد أهليتها لنقصه عن المناصب الشريفة جرياً على ما ألف من محاسن العادات، وعلل بعضهم المنع بأن الرق أثر كفر فمنع كأصله. واحترز بالمسلم من الكافر لقوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282] والكافر ليس بمرض، والإجماع على عدم قبول شهادتهم على المسلمين، وكذلك شهادة بعضهم على بعض عندنا، خلافاً لأبي حنيفة في قبوله شهادة الكفار بعضهم على بعض، وخلافاً للشعبي وقتادة في قولهما: تقبل شهادة كل كافر على من شاركه في كفره. وبالبالغ من الصبي؛ لاحتمال كذبه؛ لعلمه بعدم التكليف. وبالعاقل من المجنون، وبالعدل من الفاسق. وباستعماله مروءة مثله ممن ليس كذلك، وسيأتي تفسيرها، ولم يجعل المصنف المروءة داخله في العدالة تبعاً للمازري وابن محرز وغيرهما، وجعلها عياض داخلة فيها، والأمر في ذلك قريب. وقوله: (وَفِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُوَلَّى عَلَيْهِ لِسُوءِ نَظَرِهِ فِي الْمَالِ) القول بإجازة شهادته لمالك من رواية أشهب وابن عبد الحكم. وقال أشهب: لا تجوز؛ لأن المحجور عليه مخدوع، والمخدوع لا تجوز شهادته، وإن كان مثله لو طالب بماله أخذه. محمد: وهو أحب إلي.

قال في البيان: وهو الذي يأتي على المشهور المعلوم من المذهب من قول مالك وأصحابه أن المولى عليه لا تنفذ أقواله. ابن عبد السلام: وهو ظاهر كتاب الشهادات من المدونة. وَالْعَدَالَةُ: الْمُحَافَظَةُ الدِّينِيَّةُ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَذِبِ وَالْكَبَائِرِ، وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، لَيْسَ مَعَهَا بِدْعَةُ؛ فَإِنَّهَا فِسْقُ .. تعرض لتفسير العدالة ولم يتعرض لما قبلها لوضوحها، واحترز بالمحافظة الدينية من المحافظة على ما ذكره المصنف؛ لتحصيل منصب دنيوي ونحوه، كما هو الموجود في كثير من أهل زماننا. والمراد بـ (الدِّينِيَّةُ) أن يكون الحامل على هذه الأوصاف الأمر الديني كخوف الله تعالى وطلب ثوابه، وانظر لو كان فعل الإنسان هذه الأوصاف بجبلته، والأقرب أنه لا يقدح، وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس بخصلتين جبله الله عليهما، وهما: الحلم والأناة. واحترز بالديني من الدنيوي كالرياء وطلب المنزلة. ابن عبد السلام: وعطف الكبائر على الكذب وإن كان منها لكونه أهم ما يطلب في الشهادة، وغاير بين الصغائر والكبائر على مذهب الأكثرين خلافاً لمن عدها كلها كبائر، وظاهر الأدلة الشرعية مع الأكثرين، ولكن اضطربوا في الطرق التي بها تمتاز إحداهما عن الأخرى فمنهم من عدها. قال المصنف في أصوله: وقد اضطرب في الكبائر فروى ابن عمر رضي الله عنهما: "الشرك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، والزنى، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، والإلحاد في الحرام" وزاد أبو هريرة رضي الله عنه:

"أكل الربا" وزاد علي رضي الله عنه: "السرقة وشرب الخمر" ومنهم من سلك طريقة الحصر بالضوابط، ففي الإكمال عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كل ما نهي عنه فهو كبيرة. وسئل: أهي سبع؟ فقال: إلى السبعين أقرب، ويروى إلى سبعمائة أقرب. وقال أيضاً: "الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب" ونحوه عن الحسن، وقيل: هي ما أوعد الله عليه بنار أو بحد في الدنيا، وقال ابن مسعود وجماعة رضي الله عنهم: هي جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء: 31] وقيل: ما عظمت مفسدته فهو كبيرة وما لم تعظم فهو صغيرة، وقيل: كل ما أسقط العدالة فهو كبيرة. وفيه نظر؛ لأنه يؤدي إلى الدور؛ إذ سقوط الشهادة فرع عن كونها كبيرة، ثم إن العدالة قد تسقط بصغائر الخسة، وقال ابن عبد السلام: قال الشافعي: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهو من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليها فهو من الكبائر. وعد من الكبائر شتم الرب والرسول، والاستهانة بالرسل، أو تكذيب واحد منهم، وتلطيخ الكعبة بالعذرة، وإلقاء المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة. ابن دقيق العيد: وهذا الذي قاله عندي داخل فيما نص الشرع عليه بالكفر، قال: ولابد مع هذا من أمرين: أحدهما: أن المفسدة لا توجد مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع الغلط في ذلك، ألا ترى أن السابق إلى الذهن أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل، فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه ألا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة؛ لخلائها عن تلك المفسدة، ومع ذلك فإنها كبيرة؛ لما اقترن بها من مفسدة التجرؤ على شرب الكثير الموقع في تلك المفسدة، فبسبب هذا الاقتران تصير كبيرة.

الأمر الثاني: أنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الصغائر مساوياً لبعض الكبائر وزائداً عليها، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلماً معصوماً لمن يقتله فهو كبيرة وأعظم مفسدة من أكل الربا وأكل مال اليتيم مع كونهما منصوصاً عليهما في الكبائر، وكذلك لو دل على [664/ أ] عورة من عورات المسلمني تفضي إلى قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم كان ذلك أعظم من فراره من الزحف، وفراره من الزحف منصوص على أنه كبيرة. خليل: وهذا الثاني مندرج في كلام ابن عبد السلام؛ فتأمله. وظاهر قوله: (وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ) العموم، لكنه سيخصصه بقوله: (وَلا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرُ). وقيد المصنف في أصوله الصغائر بصغائر الخسة، وكذلك قال الأبهري: إن العدل: المتوقي لأكثر الصغائر. قوله: (وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ) وهو مندرج في الكبائر باعتبار ضده، وهو الخيانة؛ لأن الشارع قد نص عليها فكان الأولى تركها، وأجاب ابن عبد السلام: بأن الكبائر من قبيل ما هو مطلوب الترك، وأداء الأمانة من قبيل ما هو مطلوب الفعل؛ فلا يدخل أحدهما تحت الآخر، ورد بأن الكبائر تعم الأفعال والترك، ولو كانت خاصة بمطلوب الترك لزمه أن يذكر جميع الأفعال التي يكون تركها كبيرة كالصلاة والزكاة ونحوهما. قوله: (وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ) ابن عبد السلام: هو شرط في العدالة؛ لأن الإنصاف من نفسه في ما عليها والاقتصار على مالها من لوازمه. والضمير في قوله: (لَيْسَ مَعَهَا بِدْعَةُ) عائد على العدالة. انتهى.

ويحتمل عوده على المحافظة واحترز بذلك مما لو كان حافظاً لدينه لكن يصحبه مع ذلك بدعة من الاعتزال ونحو ذلك، وعلل ذلك بأن البدعة فسق، ومن يقول بالتكفير فالمنع على قوله واضح. ابن شعبان: ولا تقبل شهادة المبتدع وإن لم يدع إلى بدعته، وزاد الأبهري في شروط الشاهد: أن يكون متوسط الحال بين البغض والمحبة. ابن محرز: يريد: لأن الفرض في المحبة يقوي تهمة من شهد له كالآباء والأزواج، والفرض في البغض كالعدو والخصم يقوي تهمته، وترك المصنف هذا اكتفاءً بما سيذكره في الموانع. وَلا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ وَلا تَاوِيلٍ كَالْقَدَرِيِّ وَالْخَارِجِيِّ لما ذكر أن البدعة تمنع من قبول الشهادة بين هنا أنه لا فرق في البدعة بين أن يكون صاحبها متعمداً أو جاهلاً أو متأولاً، ومثل الجاهل والمتأول بالقدري والخارجي ويحتمل أن يكون القدري مثالاً للجاهل؛ لأن أكثر شبههم عقلية والخطأ فيها يسمى جهلاً، والخارجي مثالاً للمتأول؛ لأن شبههم سمعية فالخطأ فيها يسمى تأويلاً، ويحتمل أن يريد بالجاهل المقلد من الفريقين، والمتأول: المجتهد منهما. وَلا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرُ هكذا في الجواهر لأنه قال: قال علماؤنا: وليست العدالة أن يمحض الرجل الطاعة حتى لا تشوبها معصية، وذلك متعذر لا يقدر عليه إلا الأولياء والصديقون، ولكن من كانت الطاعة أكثر حاله وأغلبها عليه وهو مجتنب للكبائر محافظ على ترك الصغائر فهو العدل. وهذا الكلام مخصص لقوله أولاً: (وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ) وعلى هذا فالمراد: لا يشترط انتفاء جميع الصغائر، وإلا فالكبائر لابد من اجتنابها كلها، ويدل على ذلك قوله: (فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرُ) لأن تجنب الكبائر لا يتعذر.

وَلَكِنْ رُبَّ مَعْصِيَةٍ لا يُحَافِظُ مُرْتَكِبُهَا عَلَى دِينِهِ عَادَةً لما ذكر أنه لا يشترط انتفاء جميع المعاصي خشي أن يتوهم أن ارتكاب أي معصية من الصغائر لا ينافي العدالة؛ فاستدرك ذلك بأن بعض المعاصي وإن كانت صغيرة يشترط انتفاؤها لوصف اقترن بها يدل على أن مرتكبها لا يبالي بدينه. المصنف في أصوله: كصغائر الخسة، كسرقة لقمة والتطفيف بحبة. فروع: الأول: اختلف في شهادة القارئ بالألحان. الباجي: وأحب إلي ألا تجوز. الثاني: الباجي: البخيل الذي ذمه الله ورسوله هو الذي لا يؤدي زكاة ماله، فمن أدى زكاة ماله فليس ببخيل ولا ترد شهادته. وقال بعض أصحابنا: شهادة البخيل مردودة وإن كان مرضي الحال يؤدي زكاة ماله؛ لأنه ساقط المروءة. انتهى. الثالث: من ترك واجباً كالصلاة والصوم حتى خرج وقته سقطت شهادته، وهذا ما كان من العبادة على الفور، وأما ما كان على التراخي فلا تبطل شهادته إلا أن يترك ذلك المدة الطويلة التي يغلب على الظن تهاونه بها مع تمكنه من أدائها، فقد قال سحنون فيمن كان صحيح البدن متصل الوفر منذ بلغ عشرين سنة إلى أن يبلغ ستين فلا شهادة له وإن كان من أهل الأندلس؛ يريد: إن ترك الحج. وأما ترك المندوب فما كان منه يتكرر ويتاكد كالوتر وركعتي الفجر وتحية المسجد وما قد واظب عليه الناس فإن كان ذلك مرة أو مراراً لعذر أو لغير عذر فلا تسقط عدالته، وأما من أقسم ألا يفعله أو تركه جملة فإن ذلك يسقط شهادته، قاله الباجي.

المازري: واختلف المذهب عندنا في التجريح بترك صلاة الجمعة؛ فقيل: لا يجرح به؛ لأن الأعذار القاطعة قد تخفى على الناس فتوكل إلى أمانة الناس، إلا أن يتحقق أنه تركها لغير عذر. وقيل: بل يجرح؛ لأن الظاهر أن تركها معصية، والأعذار نادرة حتى تثبت، ثم حكى الخلاف على هذا القول هل يجرح بالمرة أو لابد من ثلاث؟ انتهى. وعزى الباجي القول بالمرة لأصبغ، ووجهه القياس على سائر الفرائض، قال: وهو ظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم. والقول بأن العدالة لا تسقط إلا بتركها ثلاثاً لسحنون ورواه مطرف عن مالك، قال: وأما إن تركها جملة فعدالته ساقطة. وَفِيهَا: لَوْ ثَبَتَ عَلَى الشُّهُودِ أَنَّهُمْ شَرَبَةُ خَمْرٍ أَوْ أَكَلَةُ رِباً أَوْ مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، أَوْ أَصْحَابُ قِيَانٍ، أَوْ مُجَّانُ يَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطَرَنْجِ فَذَلِكَ يُسْقِطُهُ وَمَا يُشْبِهُهُ. هكذا وقع في [664/ ب] التهذيب في باب السرقة، إلا الكذب ففي باب الشهادة: والشربة: جمع شارب، وكذلك الأكلة، وفي معنى الشرب هنا بيع الخمر وعصرها، ولا يشترط أكله الربا، بل يكفي بيعه به وشراءه. (أَوْ مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ فِي غَيْرِ شَيْءٍ) الظاهر أن قوله: (مَعْرُوفُونَ) يغني عن قوله: (فِي غَيْرِ شَيْءٍ) ولهذا لم يذكر في المدونة إلا قوله: (فِي غَيْرِ شَيْءٍ) ومقتضى كلامهم أنه لا يجرح بالكذبة الواحدة، وهو الذي في الرسالة لقوله: "أو مجرب في كذب". فإن قلت: ينبغي أن تكفي الكذبة الواحدة؛ لأن الكذب كبيرة فلا تشترط الكثرة قياساً على الشرب وغيره. قيل: لعل الفرق أن التحرز منه عسير إلا على من وفقه الله، والله أعلم. والقينة- عند الفقهاء-: الأمة المغنية، وصرح الجوهري بأنها الأمة مطلقاً، سواء كان مغنية أم لا، قال: وبعض الناس ظنها المغنية خاصة وليس كذلك.

ثم الغناء إن كان بغير آلة فهو مكروه عندنا، نقله المازري وغيره، وإذا كان مكروهاً فلا يقدح في الشهادة بالمرة الواحدة بل لابد من تكراره، وكذلك نص عليه ابن عبد الحكم؛ لأنه حينئذ يكون قادحاً في المروءة، وفي المدونة: ترد شهادة المغني والمغنية، والنائح والنائحة إذا عرفوا بذلك. المازري: وأما الغناء بآلة فإن كانت ذات أوتار كالعود والطنبور فممنوع، وكذلك المزمار، والظاهر عند بعض العلماء أن ذلك ملحق بالمحرمات، وإن كان محمد أطلق في سماع العود أنه مكروه، وقد يريد بذلك التحريم، ونص ابن عبد الحكم على أن سماع العود ترد به الشهادة إلا أن يكون ذلك في عرس أو صنيع وليس معه شراء يسكر فإنه لا يمنع من قبول الشهادة، قال: وإن كان ذلك مكروهاً على كل حال. وقد يريد بالكراهة التحريم كما قدمنا. وقوله: (أَوْ مُجَّانُ) جمع ماجن. الجوهري: والمجون ألا يبالي الإنسان ما صنع، وقد مجن بالفتح يمجن مجوناً ومجانة فهو ماجن، والجمع مجان. وقوله: (مُجَّانُ يَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ) أحسن منه ما في المدونة: أو مجان، أو أنهم يلعبون بالنرد؛ لأن مجرد المجانة قادحة، وفي مسلم أنه عليه السلام قال: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه". ابن عبد السلام: وأما الشطرنج فقد جاءت فيه أحاديث غير صحيحة تتضمن ذمه، وقد اختلف العلماء في إباحته ابتداءً إذا كان لعبه من غير قمار؛ فمذهب مالك أنه ممنوع فتارة يعبر عن ذلك بالكراهة، وتارة يقول: هو شر من النرد، وهو نص على التحريم. انتهى. خليل: وقد يقال: في هذا نظر؛ لأن ما ذكره عن مالك من قوله: "هي ألهي من النرد" هو له في المدونة، مع أنه نص فيها على أنه لا يجرح إلا بالإدمان، ولو كان حراماً ما اشترط الإدمان، ولعل مالكاً إنما قال: "هي ألهى" لأنها تفتقر إلى حساب وفكرة بخلاف النرد، لا أنها مثلها في الحرمة.

وفي الجواهر النص على الكراهة في الشطرنج، وفي إجرائه على ظاهره أو التحريم خلاف، ثم قال: وقيل: الإدمان عليه حرام؛ وقيل: إن لعبت على وجه يقدح في المروءة كالمحترم يلعبها على الطريق ومع الأطراف والأوباش فلا يحل ذلك، وإن لعبت في الخلوة مع الأمثال والنظراء من غير إدمان ولا في حالة تلهي فيه عن العبادات والمهمات الدينية والدنيوية فهي مباحة، وعلى هذا فلا شك أن النرد أشد من الشطرنج؛ لعدم الاختلاف فيه. هذا هو الذي يؤخذ من كلام الأصحاب، وقال المازري: حكم النرد في ظاهر المذهب كحكم الشطرنج، قال: وهو المعروف، وأشار محمد بن عبد الحكم إلى مخالفة حكمهما فقال: إن الشطرنج لا يوجب رد الشهادة إلا إذا ترك اللاعب بها الصلاة في الجماعة، وأما النرد فإنه لا يلعب به في زماننا إلا أهل السفه وتاركوا المروءة. انتهى. قوله: (وَمَا يُشْبِهُهُ) أي: من سائر اللعب المؤذن بترك المروءة. وَيُشْتَرَطُ الإِدْمَانُ فِي التَّجْرِيحِ بِالشِّطْرَنْجِ عَلَى الأَصَحِّ اشتراط الإدمان لمالك في أول شهادات المدونة، وذلك للخلاف في إباحتها ابتداء فقد روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يلعبون بها، وذكر الشافعي أن سعيد بن جبير كان يلعب بها استظهاراً؛ أي: من غير نظر فيه وإنما يأمر غيره بما يفعل، ولم يقيد اللعب به في المدونة في كتاب السرقة والرجم بالإدمان، واختلف هل هو خلاف لما في الشهادات أو هو مقيد به؟ فعلى الخلاف يكون القولان في المدونة، ونقل ابن يونس وغيره مقابل الأًح عن بعضهم أنه لا تجوز شهادته، وإن لم يكن مدمناً، وقال ابن عبد الحكم: لا ترد به الشهادة إلا أن يكثر اللعب بها حتى يشغله عن الصلاة في الجماعة.

فرع: إذا اشترطنا الإدمان ففسره أحمد بن نصر بأن يلعب بها في السنة مرة. نقله صاحب النكت، وقال بعض الأصحاب: أن يلعب بها في السنة مرتين. وَالْمُرُوءَةُ: الارْتِفَاعُ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ يُرَى أَنَّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهِ لا يُحَافِظُ مَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَاماً كَالإِدْمَانِ عَلَى لَعِبِ الْحَمَامِ وَالشِّطْرَنْجِ، وَكَالْحِرْفَةِ الدَّنِيَّةِ مِنْ دِبَاغَةٍ وَحِجَامَةٍ وَحِيَاكَةٍ اخْتِيَاراً مِمَّنْ لا يَلْيقُ بِهِ، فَأَمَّا أَهْلُهَا أَوْ مَنِ اضْطُرَّ فَلا يُقْدَحُ .. ابن محرز: ولسنا نريد بالمروءة نظافة الثوب وفراهة الركوب وجودة الآلة وحسن الشارة، ولكن المراد بها التصون والسمت والحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق رديء يرى أن من تخلق به لا يحافظ معه على دينه وإن لم تكن في نفسه جرحة، كالإدمان على لعب الحمام والشطرنج وإن لم يقامر عليها. انتهى. وفي آخر كتاب الرجم: ولا تجوز شهادة لاعب الحمام إذا كان يقامر عليها. واختلف الشيوخ هل يقيد ما قاله في غير هذا الموضوع بهذا القيد؛ أي: [665/ أ] المقامرة، أو هو خلاف. أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة فقال: "شيطان يتبع شيطانة". وما ذكره المصنف في الحرف نحوه في الجواهر، وألحق بعض أهل المذهب وغيرهم بمن اضطر إلى هذه الحرف من قصد باستعمال هذه الصنائع كسر نفسه ومباعدتها عن الكبر، وتخليقها بأخلاق الفضلاء كما قد اشتهر ذلك عن جماعة.

تنبيه: ذكر المصنف أن الدباغة والحجامة والحياكة ممن لا تليق به تقدح في المروءة، وهذه لا يقال: إن صاحبها لا يحافظ معها على دينه؛ فانظره، وإليه أشار ابن راشد. وَلا يُقْبَلُ عَبْدُ وَلا كَافِرُ مُطْلَقاً قد تقدم هذا. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُمَيِّزِ مِنَ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: هِيَ السُّنَّةُ، وَمَا أَدْرَكْتُ الْقُضَاةَ إِلا وَهُمْ يَحْكُمُونَ بِهَا .. هذا كالتقييد لقوله أولاً: (بالغاً) ولما كان قبول شهادتهم على خلاف الأصل ذكر دليله وهو إجماع أهل المدينة، ومن جهة المعنى أنهم يندبون إلى تعليمهم الرمي والثقاف والصراع ليدربهم على حمل السلاح والكر والفر، والغالب أن الكبار لا يحضرون معه فلو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لأدى إلى إهدار دمائهم غالباً. قوله: (فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً) ومراده بالدماء: القتل والجراح، وهذا هو المشهور، وقال ابن عبد الحكم: لا تقبل فيها على الأصل وقال أشهب: تقبل في الجراح دون القتل؛ لعظم أمره. وفي قوله: (إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) نظر؛ لأن صاحب الاستذكار نقل عن القاسم وسالم أنهما لم يجيزاها. وستأتي شروط قبول شهادتهم. بِخِلافِ النِّسَاءِ فِي الْمَآتِمِ وَالأَعْرَاسِ عَلَى الأَصَحِّ أي: فلا تقبل، والأصح لمالك، ومقابله في الجلاب عن بعض الأصحاب، واعتبرها بشهادة الصبيان بعضهم على بعض، وألحق بالأعراس الحمام. والفرق للمشهور أن

الصبيان مندوبون إلى الاجتماع بخلاف النساء؛ لأن شهادة الصبيان على خلاف الأصل فلا يصح قياس عليها. و (الْمَآتِمِ) بالتاء المثناة، الزبيدي: هو الجماعة من النساء والرجال في حزن. الجوهري: وهو عند العرب: النساء يجتمعن في الخير والشر، والجمع المآتم، وعند العامة: المصيبة. وَاشْتُرِطَ أَنْ يَكُونُوا أَحْرَاراً مَحْكُوماً بِإِسْلامِهِمُ، اثْنَيْنِ فَصَاعِداً، مُتَّفِقَيْنِ غَيْرَ مُخْتَلِفَيْنِ، قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ، إِلا أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ ... لما ذكر أن شهادة الصبيان مقبولة في الدماء شرع في شروطها: الأول: أن يكونوا أحراراً فلا تقبل شهادة العبيد. أشهب: ولا من فيه بقية رق؛ لأنه إذا لم تجز شهادة كبارهم فأحرى صغارهم، وهذا هو المعروف، وحكى عبد الوهاب في شرح الرسالة عن بعض متأخري أصحابنا أن شهادة العبيد الصغار جائزة. الثاني: أن يكونوا محكوماً بإسلامهم، قال في البيان: لا أعلم فيه خلافاً. الثالث: أن يشهد منهم اثنان فصاعداً قياساً على الكبار، ولا تجوز شهادة الواحد عند مالك وابن القاسم، ولا تكون معه قسامة، ولذلك قال المغيرة: لا يحلف معه في الجراح، وقال ابن نافع في كتاب ابن مزين: يقسم بشهادة الصبي الواحد في العمد، وقال ابن الماجشون في المبسوط: يحلف ولي الصبي في الجراح مع شهادة الصبي الواحد، قال في البيان: وقيل: يحلف الصبي المشهود له إذا بلغ مع شهادة الصبي. الرابع: أن تكون شهادتهم متفقة.

وقوله: (مُتَّفِقَيْنِ) مثنى لاثنين؛ لأنهما إذا اختلفا لم يحصل النصاب، ويحتلم أن يكون جمعاً لكنه يكون الاختلاف مقيداً بما تبطل بمثله شهادة الكبار، كما لو شهد اثنان منهم أن فلاناً شج فلاناً، وقال آخران: بل شجه فلان، فقال مالك: تبطل شهادتهم. الباجي: ولو اختلفوا اختلافاً يقتضي في الكبار الأخذ بشهادة أحدهما لم تبطل، وقال ابن الماجشون: لو شهد صبيان أن صبياً قتل صبياً وشهد آخران أنه لم يقتله وإنما أصابته دابة قضى بشهادة من شهد بالقتل، وقال بعض القرويين: بل هو اختلاف يوجب سقوط شهادتهم. وروى ابن وهب عن مالك في ستة صبيان لعبوا في البحر فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة على اثنين أنهما أغرقاه، وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم أغرقوه- أن العقل على الخمسة؛ لأن شهادتهم مختلفة، وقال مطرف وابن المواز: لا تجوز لاختلافهم. وقوله: (غَيْرَ مُخْتَلِفَيْنِ) نعت تأكيدي لمتفقين. الشرط الخامس: أن تكون شهادتهم قبل تفرقهم؛ لأن تفرقهم مظنة تخبيبهم وتعليمهم؛ فلا تقبل إلا أن يشهد العدول على شهادتهم قبل تفرقهم. وَفِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورِيَّةِ قَوْلانِ الشرط السادس: الذكورية، وهي شرط عند مالك في المدونة، وهو المشهور، وبه قال ابن القاسم في شهادات المدونة، وبه قال ابن الماجشون وأشهب وسحنون، وأجاز المغيرة شهادتهن. أبو عمران: يعني في الجراح والقتل، وقال ابن محرز: الأظهر أنه يجيزها في الجراح فقط، وعلى القبول فروى معن بن عيسى ومطرف عن مالك اشتراط ذكر معهن، فقال: يقبل غلام وجاريتان، وقال ابن الماجشون: لا يجوز غلام وجارية، ولا جوارٍ وإن كثرن. ابن رشد وغيره: عن ابن الماجشون أنه تجوز شهادة الصبيات وحدهن دون صبي. التونسي: وهو ظاهر أحد قولي ابن القاسم.

وَفِي قَبُولِهَا فِي الْقَتْلِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ قد تقدما على القبول، فقال غير واحد من أصحاب مالك: لا تجوز حتى يشهد العدول على رؤية البدن مقتولاً. وَلا يَقْدَحُ [665/ ب] رُجُوعُهُمْ وَلا تَجْرِيحُهُمْ يعني: لا يقدح رجوعهم عما شهدوا به ولو كان قبل الحكم كما يقدح ذلك في شهادة الكبار؛ لأن الظاهر أن ما شهدوا به أولاً هو الواقع وأن الثاني من التعليم، أما لو تأخر الحكم بشهادتهم حتى بلغوا وعدلوا ثم رجعوا فإن رجوعهم يقبل، قاله في الموازية، قال: ولو شكوا بعد بلوغهم لم يضر حتى يوقنوا أنهم قد شهدوا بالباطل. وأما تجريحهم فقال ابن المواز: لم يختلف أنه لا ينظر إلى ذلك؛ أي: لأن رأس أوصاف العدالة قد عدم منهم؛ وهو البلوغ. وَفِي قَدْحِ الْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ قَوْلانِ الشرط السابع: وهو مختلف فيه، وهو أن لا يكون الشاهد قريباً للمشهود له، ولا عدواً للمشهود عليه، والقول بالقدح بالقرابة لابن القاسم. ابن المواز: وعلى قوله فلا يجوز مع العداوة، ونقل ابن يونس القبول فيهما عن ابن المواز، ولعبد الملك المنع بالقرابة فقط؛ فإن القرابة توجب المخالطة والمحاماة من سن الصغر. وأما العداوة فلا يظهر سببها للصغير، واختار جماعة قول ابن القاسم؛ لأنا علمنا بالعادة من حال الأطفال الميل إلى القريب والبغض للعدو.

وَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى كَبِيرٍ لِصَغِيرٍ وَلا عَلَى عَكْسِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: أَمَّا عَلَى صَغِيرٍ بِقَتْلِهِ فَتَجُوزُ. الشرط الثامن: أن تكون شهادة بعضهم على بعض؛ فلا تجوز شهادتهم لصغير على كبير ولا بالعكس؛ لاحتمال التعليم من الكبير، وقال مطرف وابن الماجشون: شهادتهم جائزة لصغير على كبير وبالعكس، والأول أظهر، وقول محمد بن المواز له وجه؛ لأن معناه أن شهادتهم مقبولة على صغير أنه قتل كبيراً؛ لأن بموت الكبير يؤمن تعليمه بخلاف العكس فإنهم متهمون بالدفع عن أنفسهم، وقول المصنف في قول محمد بقتله احترازاً مما لو جرحه فإنه لا تقبل عنده، ولهذا زاد في قول محمد: لأنه لم يبق حتى يعلمهم، قال بعضهم: يريد: قتل قصاص. والقصاص: الموت مكانه، ذكره الجوهري. وَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ حُضُورِ كَبِيرٍ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ الشرط التاسع: أن لا يحضر معهم كبير، ولم يخالف في ذلك إلا سحنون في أحد قوليه. فَإِنْ كَانَ فَاسِقاً أَوْ كَافِراً أَوْ عَبْداً فَقَوْلانِ إذا كان الكبير الحاضر ممن لا تجوز شهادته كالكافر والفاسق والعبد فقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: لا يضر حضورهم شهادة الصبيان. المازري: ولا خلاف منصوص فيه عندنا، وقاله سحنون في كتاب ابنه ثم توقف. فالقول بعدم الإجازة على هذا ليس بمنصوص، إلا أنه لازم في التعليل بالتخبيب، ثم التخبيب في حق هؤلاء أشد، والأول مبني على أن عدم قبول شهادة الصبيان مع حضور الكبير إنما هي لأجل ارتفاع الضرورة بشهادة الكبير، والله أعلم. وبقي عليه من الشروط: أن يكون الشهود والمشهود عليهم في جماعة واحدة.

المازري: المعروف من المذهب أنه لا تقبل شهادة صغار على صغار لم يكن الشهود في جملتهم، وانفرد ابن مزين فقبل ذلك في المارين بهم، وأن يكون الصغار ممن يعقل الشهادة؛ لأن الشهادة من شروطها الضبط، إلا أن يقال: استغنى المصنف عن هذا الأخير بقوله أولاً: (المميز). فرع: اللخمي: واختلف إذا شهد صبيان أن هذا الصبي قتل صبياً وشهد عدلان أنه لم يقتله هل يؤخذ بقول الصبيين لأنهما أثبتا حكماً، أو بقول الرجلين وهو الأحسن؟ وَيَعْتَمِدُ الْحَاكِمُ عَلَى عِلْمِهِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ اتِّفَاقاً ذكر المازري أنه لا خلاف فيه، وعلى هذا فالمسألة مجمع عليها لا تحتاج إلى دليل، وفرق بينه وبين غيره بأن العدالة وضدها يشارك القاضي فيها غيره فلا تقع تهمة، بخلاف العلم بإقرار رجل وإنكاره فإنه لو لم يحكم بعلمه في عدالة من شهد عنده لافتقر إلى عدلين آخرين وهكذا فيتسلسل، ولا يقال: إن ذلك ينقطع بأن يكون العدلان ظاهري العدالة؛ لأنا نقول: اتفاق مثل هذا نادر، فلو توقفت الأحكام على مثله لكانت تضيع. سحنون: ولو شهد عندي عدلان مشهوران بالعدالة وأنا أعلم خلاف ما شهدا به لم يجز لي أن أحكم بشهادتهما، ولم يجز لي ردها لظاهر عدالتهما، ولكن أرفع ذلك للأمير الذي هو فوقي، وأشهد بما علمت، وغيري بما علم فيرى فيه رأيه. قال: ولو شهد عندي رجلان ليسا بعدلين على أمر أعلم أنه حق فلا أقضي بشهادتهما؛ لأني أقول في كتاب حكمي بعد أن صحت عندي عدالتهما: وإنما صحت عندي جرحتهما. ومثله لابن كنانة وابن الماجشون.

وَكَذَلِكَ الْمَشْهُورُ الْعَدَالَةُ وَالْجُرْحَةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الاسْتِزْكَاءُ مَهْمَا شَكَّ الاستزكاء: طلب التزكية، وحاصله إنما يطلب الحاكم التزكية إذا شك في أمره، وأما إن علم عدالته وجرحته فإنه يعمل على ذلك، وهكذا قال في المدونة والعتبية وغيرهما. وشهد ابن أبي حازم عند قاضي المدينة أو عاملها فقال: أما الاسم فعدل، ولكن من يعرف أنك ابن أبي حازم. قال في النوادر: وأعجب ذلك مشايخنا. وقوله: (وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الاسْتِزْكَاءُ) أي: على القاضي، وإذا وجب هذا على القاضي فلا يجوز له أن يقبل المسلم المجهول الحال، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه. وأجاز [666/ أ] ابن حبيب قبول شهادة الغرباء على التوسم فيهم، وأجاز بعض المتأخرين مثل ذلك في أهل البلد في اليسير من الحقوق، واختار ابن عبد البر وجماعة من العلماء قبول رواية طلبة العلم، وجعل الأصل فيهم العدالة حتى يظهر خلافه؛ لقوله عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" أي: ويقبل الكافر بإثر إسلامه على ظاهر المذهب؛ لأنه محيت عنه الآثام، وتوقف ابن القصار في قبولهما حتى يظهر من حاله ما يوجب قبولها. ابن عبد السلام: ورأيت في بعض التعاليق مما ينسب لأبي عمران أنه ينظر إلى صفات هذا الشاهد قبل إسلامه، فإن كانت لم ينقص منها إلا وصف الإسلام قبلت، وإن كانت على غير هذا أو جهل أمره توقف القاضي عنها. وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِالْعَدَالَةِ حُكِمَ عَلَيْهِ خَاصَّةً يعني: إذا أقر المشهود عليه بأن الذي شهد عليه عدل فإن الحاكم يحكم عليه لإقراره بعدالته، وحكى في الكافي عن أصبغ أنه لا يحكم عليه إلا بالتزكية ولو رضي الخصم بعدالته.

ابن عبد السلام: وينبغي أن يتأول ما ذكره المصنف على أن الخصم أقر بعدالة الشاهد بعد أدائه الشهادة، وأما لو أقر قبل أدائها ففي لزومها له نظر؛ فقد قالوا إذا قال أحد الخصمين: "كل ما شهد به علي فلان حق" فشهد عليه أنه لا يلزمه ما شهد به؛ لأنه يقول: ظننت أنه لا يشهد إلا بحق. انتهى. وفرق بينهما بأنه إذا أقر بعدالته أقر بأمر متقدم بعلمه منه، بخلاف من التزم ما شهد به؛ لأنه يقول: ظننت أنه لا يشهد إلا بالحق. وقوله: (خَاصَّةً) أي: ولا يحكم بها على غيره. ظاهره: ولو تضمنت شهادته هذه حقاً على المشهود له، وفيه نظر؛ لأن ابن لبابة قال في منتخبه: الذي نعرفه من فتيا من أدركنا من الشيوخ أن المشهود له يلزمه ما شهد له به وعليه شاهده إذا كان لا يصل إلى حقه إلا بشهادته. قالوا: ويقال له: إن قلت: "صدق الشاهد" فيلزمك ما شهد به، وإن قلت: "كذب في بعض" فقد جرحته" فلا تعطى بشهادته شيئاً. ابن الماجشون: في اليهودي يشهد المسلمون أنه رضي بشهادة اليهودي فيحكم عليه حكامهم ثم يرجع عن الرضا بهم فذلك له. ابن القاسم: ولو رضي المسلمون بشهادة المسخوطين فيما بينهم لزم، وليس لمن رضي بذلك الرجوع عنه كما لو رضيا بغير شهادة، ولو رفعا ذلك إلى حاكم لم يحكم بينهما بشهادتهما. وفي المتيطية: روي عن مالك في الرجل يشهد لابنه بحق فيدفع المشهود عليه الحق بشهادته بغير حكم، وفي الرجل يقوم له شاهد واحد فيدفع المشهود عليه الحق بشهادته خاصة، وفي الرجل يطلق امرأته- يريد: طلاقاً بائناً- فتدعي عليه حملاً غير ظاهر فينفق عليها ثم ينفش الحمل: إن ذلك كله أصله واحد لا رجوع لواحد منهم، ولو شاءوا لتثبتوا.

وَلا يُقْبَلُ فِي التَّعْدِيلِ إِلا الْفَطِنُ الَّذِي لا يُخْدَعُ، قَالَ سحنون: وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ، وَلا يُقْبَلُ إِلا الْعَارِفُ بِوَجْهِ التَّعْدِيلِ وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ عَدَالَتَهُ بِطُولِ الْمِحْنَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ لا بِالتَّسَامُعِ، وَقَالَ سحنون: فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، قَالَ مَالِكُ: وَإِذَا صَحِبَهُ شَهْراً فَلَمْ يَعْلَمْ إِلا خَيْراً فَلا يُزَكِّيهِ بِهَذَا .. هذا كالمتفق عليه، ووجهه أن التصنع كثير؛ فلذلك لا يقبل في التعديل كل من شهد، بل من يطلع على عور الناس، وكذلك لا يقبل أيضاً إلا بطول المعاشرة، قال سحنون: تقبل تزكية كل من يعرف باطنه كما يعرف ظاهره ممن صحبه طويلاً وعامله في السفر والحضر، وعلى هذا ففي نقل المصنف لقوله نقص. ابن كنانة وسحنون: ومن عدل رجلاً لم يعرف اسمه فليقبل تعديله. مالك: ويجب على من عرف عدالة شخص أن يزكيه؛ لأنه من جملة الحقوق، إلا أن يجد غيره فهو في سعة، ورخص في ذلك ابن نافع؛ لأن العدالة لا يقطع بها بخلاف سائر الحقوق. ويجب التجريح إذا خاف إن سكت أن يحق بشهادة المجروح باطلاً أو يفوت حقاً. وَلا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ سُوقِهِ وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ إِذَا كَانَ فِيهِمْ عُدُولُ لأن ترك أهل محلته وسوقه ريبة، قاله مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، لكنهم قيدوه بما إذا كان غير مشهور العدالة، قالوا إلا أن يكون معدلوه أهل برازة في العدالة والفضل، وإن لم يكن فيها عدول فأقرب البلدان إليهم. وَفِي الْمُدَوَّنةِ: وَلا يُقْبَلُ فِي الْبَلَدِيِّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِخِلافِ الْغَرِيبِ هذه مسألة كتاب اللقطة، ومعناها أنه إذا شهد عند القاضي ولا يعرفه وطلب تعديله فعدله قوم لم يعرفهم القاضي ولكن وجد من يعدلهم ممن يعرفهم القاضي بالعدالة فالشاهد الأول إن كان من أهل البلد فشهادته ساقطة؛ لأن جهل أهل بلده بحاله ومعرفة

غيرهم به ريبة، والريبة هنا أشد من المسألة السابقة، وإن كان الشاهد الأول غريباً، فإن ذلك جائز لعدم الريبة، وألحق بعضهم بالغريب النساء في هذا. وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَزَأَ بِتَعْدِيلِ الْعَلانِيَةِ بِخِلافِ السِّرِّ يعني: أنه يستحب في التعديل الجمع في ذلك بين السر والعلانية، وهكذا صرح الباجي وغيره بأن الأفضل الجمع بينهما، وإن اقتصر على العلانية جاز، وهذا مذهب [666/ ب] المدونة، وقال ابن الماجشون: لا يقبل التعديل في العلانية فقط. اللخمي: وهو أحسن؛ لأن الناس يتقون أن يذكروا في العلانية ما يعلمونه من السر خيفة العداوة. وقوله: (بِخِلافِ السِّرِّ) أي: فإنه يجوز الاكتفاء به، ولا خلاف فيه. قال في الاستذكار: وأول من سأل سراً ابن شبرمة قال: كان الرجل إذا قيل له: هات من يزكيك فيأت القوم فيستحيون منه فيزكونه، فلما رأيت ذلك سألت في السر، فإذا صحت شهادتهم قلت: هات من يزكيك في العلانية. قَالَ مَالِكُ: وَلا أُحِبُّ أَنْ يَسَأَلَ فِي السِّرِّ أَقَلَّ مِنِ اثْنَيْنِ؛ فَلا بَاسَ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَحْدَهُ. يعني: أن مالكاً استحب في تزكية السر اثنين، مع أنه أجاز الواحد، وهذا لأن أصل المذهب أن كل ما ابتدأ القاضي فيه بالسؤال اكتفي فيه بالواحد. وفي النوادر: وكل ما يبتدئ القاضي السؤال عنه والكشف من الأمور فله أن يقبل فيه قول الواحد، وما لم يبتدئ به هو وإنما يبتدئ به في ظاهر أو باطن فلابد من شاهدين فيه. وحكى الباجي عن سحنون أنه قال: لا يقبل في السر إلا اثنان.

ابن رشد: حمل الباجي القولين على الخلاف، وهو أظهر، وذهب غيره إلى أنه ليس بخلاف، وأنه لا خلاف أن الشاهد الواحد يجزأ في تعديل السر، وإن كان الاختيار اثنين. وسكت المصنف عن تزكية العلانية لأنها على الأصل في أنها لا يقبل فيها إلا اثنان. وحكى ابن بطال في أحكامه عن ابن لبابة أن التزكية لا تكون بأقل من ثلاثة، وظاهر المذهب أن شهود الزنى كغيرهم، وهو قول ابن الماجشون ومطرف أنه لا يكفي تزكية شهود الزنى إلا أربعة، وكذلك المشهور قبول التزكية مطلقاً. وقال أحمد بن عبد الملك: لا تكون عدالته في الدماء. ابن زرقون: ولم يصحب هذا القول عمل. وحكى في المتيطية قولاً بقبول تزكية النساء فيما تجوز فيه شهادتهن. مطرف وابن الماجشون: وينبغي للحاكم أن يستكثر من المعدلين، ولا يكتفي باثنين إلا في مثل الثابتين في العدالة والعلم بالتعديل. وَيَسْمَعُ التَّجْرِيحَ فِي الْمُتَوَسِّطِ الْعَدَالَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَيَسْمَعُ فِي الْمُبَرِّزِ الْقَدْحَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ وَشِبْهِهِ، وَفِي قَبُولِ تَجْرِيحِهِ فِي الْعَدَالَةِ ثَلاثَةُ لِمُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانُوا مِثْلَهُ أَوْ أَعْدَلَ قُبِلَ .. يعني: أن القاضي إذا رفعت إليه بينة وزكيت أو قبلها لعلمه بعدالتها فلا يحكم على الخصم إلا بعد الإعذار إليه على ما استمر عليه العمل، ويجب الإعذار في البينة وفيمن زكاها، صرح بذلك ابن القاسم الموثق وصاحب المعين وغيرهما. فإذا أعذر للخصم فأما المتوسط فتسمع فيه المطاعن كلها من تجريح وعداوة وقرابة. وقول المصنف في التجريح يحتمل أن يكون اقتصر على التجريح لأن العداوة والقرابة أولى، ويحتمل أن يكون أطلق الجرح على ما هو أعم.

وأما المبرز فتسمع فيه القوادح ما عدا التجريح على المعروف، وروي عن مالك أنه لا يباح تجريح المبرز بعداوة وقرابة ولا غيرهما، واستبعدها ابن رشد. وظاهر كلام المصنف أنه يسمع في المبرز القدح بالعداوة والقرابة ممن هو مثله ودونه، وبذلك صرح في البيان. وحكى المصنف في قبول تجريحه ثلاثة أقوال، وقد علمت من قاعدته أن الثالث يدل على الأولين، وأن الأول من الأقوال للأول من القائلين؛ فالقبول لمطرف، وعدمه لأصبغ، والتفصيل لابن عبد الحكم: إن كان المجرحون مثل الشاهد أو أعدل قبل، وإن كانوا دونه لم يقبل، واختار اللخمي وابن عبد السلام قول مطرف، كما لو شهد عليه بموجب حد وغير ذلك، وبقول مطرف قال ابن الماجشون. أحمد بن محمد: ويجرح في العداوة من هو دون الشهود في العدالة ومن يزكي ولا يقبل بفسقه. أحمد بن سعيد: ولا بأس أن يجرح في العداوة والخصومة من لا تقبل شهادته إلا بتعديل، وكذلك أيضاً ذكر صاحب الوثائق المجموعة وغيره، ولم أر ما يخالف ذلك. خليل: وينبغي أن يقيد تجريح من يزكي بأن يكون من يجرح ليست عدالته بينة، فإن بعض الشيوخ أشار إلى أنه يتفق على أنه لا يقبل تجريح من يزكي البين العدالة؛ لأن الحاكم لما نصبه للعدالة كان الاعتماد على قوله أولى. عياض: والمبرز بكسر الراء المشددة؛ أي: ظاهر العدالة سابقاً غيره متقدماً فيها، وأصله من تبريز الخيل في السبق، وتقدم سابقها، وهو المبرز لظهوره وبروزه أمامها. فرع: ما ذكرناه من الإعذار هو المعمول به، وصفة ذلك أن يقول: "شهد عليك فلان، فإن كان عندك مدفع ادفع عن نفسك" ويعلمه أن له التجريح إن كان يجهل ذلك، قيل: وهذا الخلاف فيه.

واختلف هل يقول له: دونك والجرح؛ فقال مالك: لا يقوله له، وفي ذلك توهين للشهادة. وقال ابن نافع: إذا عدل الشاهد فيقول القاضي للمطلوب: دونك والجرح وإلا حكمت عليك، وبه قال مطرف وابن الماجشون وابن كنانة. وقال أشهب: يقول له ذلك إن قبل الشهود بالتزكية، [667/ أ] ولا يقوله في المبرز. وقال ابن القاسم: يقول له ذلك إذا كان ممن لا يدري ذلك كالمرأة والضعيف. ابن راشد: والأول أصوب. ابن عبد السلام: وظاهر المدونة إن طلب ذلك الخصم مكنه وإن لم يطلبه، فإن لم يظن به جهلاً أو ضعفاً دعاه إليه وإلا فلا. وَيُؤَجِّلُ الْخَصْمَ لِلتَّجْرِيحِ ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ يعني: فإن ادعى المدعى عليه أن عنده تجريحاً أجله في إثباته، ولم يذكر المصنف مقدار الأجل، وهو الأصل؛ لأنه ينبغي أن يوسع لمن لا يعلم منه اللدد، ويضيق على من علم منه ذلك، لكن جرى العمل على أحد عشر يوماً، فمن القضاة من يجمعها، ومنهم من يؤجله ثمانية أيام ثم يرفعه، فإن طلب الزيادة أجله ثلاثة. ابن راشد: وعلى التفرقة جرى العمل. وَقِيلَ لابن القاسم: أَيُجْرَحُ الشَّاهِدُ سِرَّاً؟ قَالَ: نَعَمْ هو ظاهر؛ لما يحصل في الإظهار من العداوة. وَلَوْ سَأَلَ ذُو الْحَقِّ عَنِ الْمُجَرِّحِ فَعَلَى الْحَاكِمِ إِخْبَارُهُ لأنه قد يكون بين المجرح وصاحب الحق عداوة، أو بينه وبين المشهود عليه قرابة. واختلف إذا كان صاحب الحق ممن يتقى شره هل يعلم بالمجرح أم لا؟ حكى المتيطي وغيره في ذلك قولين، وقد تقدم عن ابن بشير أنه عمل بالقول بعد الإخبار.

ابن عبد السلام: وإنما يلزم عندي الإخبار إذا كان التجريح من بينة، وأما إن كان المعول في القدح على أن القاضي سأل الشاهد عن ذلك سراً فحصل عنده ما يقدح في شهادته فلا يلزمه أن يخبر بذلك الحق؛ إذ لا إعذار في ذلك على أظهر القولين. وَيَكْفِي فِي التَّعْدِيلِ: "أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلُ رِضاً" وَقِيلَ: أَوْ أَعْلَمُهُ أَو أَعْرِفُهُ، وَقِيلَ: أَوْ أَرَاهُ عَدْلاً رِضاً ... ويكفي: "هو عدل رضا" هو اختيار مالك وأصحابه؛ لأن العدالة تشعر بسلامة الدين، والرضا يشعر بالسلامة من البله والغفلة. واختار الشافعي أن يقول: "عدل جائز الشهادة أرضاه لي وعلي". وليس ذلك بتزكية عندنا. قاله عبد الوهاب؛ لأنه قد يرضى بغير العدل وبالمتهم لغرض له فيه ولا يرضى بالعدل، وقولنا موافق للقرآن لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2] وقوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282] وظاهر كلام المصنف أنه لا يكفي أحد اللفظين، وهو الذي صرح به في الجلاب، قال في الكافي: وهو تحصيل مذهب مالك، وقال ابن زرقون: المعلوم من المذهب خلافه، وأنه لو اقتصر على أحد اللفظين من العدالة والرضا أجزأ، وهو معلوم لمالك وسحنون وغيرهما، واختار اللخمي التفصيل: فإن قال إحدى الكلمتين ولم يسأل عن الأخرى فهو تعديل؛ لأن العدل من رضي للشهادة، والرضا عدل، وقد ورد القرآن بقبول شهادة من وصف بإحدى الكلمتين، ولو سأل عن الأخرى فوقف كان ذلك ريبة في تعديله ويسأل عن السبب في وقوفه فقد يذكر وجهاً لا يقدح في العدالة، أو وجهاً يريب فتقف عنه. وقوله: (وَقِيلَ: أَوْ أَعْلَمُهُ أَو أَعْرِفُهُ) يعني: أن القول الأول يشترط أن يقول: "أشهد" وهو القول: يكفي عنده أشهد، أو أعلمه عدلاً رضاً، أو أعرفه" وهو لمالك من

رواية ابن كنانة، وزاد بعد: "عدل رضا" "جائز الشهادة" ولا يقبل منه: "لا أعلمه إلا عدلاً رضاً". وقوله: (وَقِيلَ: أَوْ أَرَاهُ) ابن عبد السلام: لمطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ أنه يجزيه عندي: "عدل رضا" وليس عليه أن يقول: "هو عند الله رضاً" ولا أن يقول: "أرضاه علي ولي". ورواه أشبه عن مالك رحمه الله، والأقرب أن مراد المصنف بهذا القول ما لمالك في المجموعة قال: إذا قال المزكي: "لا أعلم إلا خيراً" ليس هذا بتزكية حتى يقول: "أعلمه وأراه عدلاً" لأن قول المصنف: (أَوْ أَرَاهُ) يقتضي أن هذا القائل يوافق على: "أعلمه أو أعرفه" ولم يقع في قول مطرف أعلمه ولا أعرفه. فإن قيل: لم يقع أيضاً في المجموعة "أعرفه" قيل: هي في معنى أعلمه، والله أعلم. وَلا يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ التَّعْدِيلِ لأن التعديل إنما يكون بعد الصحبة الطويلة واختبار الأفعال الكثيرة وذكر ذلك يطول، وقد تعسر العبارة دونه فيسقط لما فيه من المشقة ولهذا لم يختلف فيه كما اختلف في ذكر سبب الجرح؛ لأن الجرح يكفي فيه الشيء الواحد. وَفِي سَبَبِ الْجَرْحِ ثَالِثُهَا لِمُطَرِّفٍ: إِنْ كَانَ عَالِماً بِوَجْهِهِ لَمْ يَجِبْ، وَرَابِعُهَا لأَشْهَبَ: إِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَرِّزٍ لَمْ يَجِبْ .. تصور الأقوال لا يخفى عليك، والأقرب أنه لابد من ذكر سببه؛ لاختلاف العلماء في أسبابه مع غموض بعضها، وقد جرح أقوام من المحدثين ونسبوا إلى أشياءٍ هم منها براء، واستفسر من جرحهم فذكر ما لا يصلح؛ لأن بعضهم قال: رأيته يبيع ولا يرجح في الميزان، وقال آخر: رأيته يغتاب بحضرته ولا ينكر، وقال بعضهم: رأيته يبول قائماً، فقيل: وإذا بال قائماً، قال: يتطاير عليه بوله، فقيل له: فهل رأيته صلى بعد ذلك؟ قال: لا؛ فظهر غلطه في التجريح لما كوشف عن سببه.

والتفت أشهب إلى حال المجرح بفتح الراء؛ فإن كان غير مبرز لم يجب على من جرحه ذكر السبب، وإن كان مبرزاً وجب. وذكر اللخمي وابن شاس وغيرهما هذه الأربعة. وذكر المازري في شرح [667/ ب] البرهان في الأصول له أن الخلاف إنما يحسن إذا وقع ذلك من عالم بالجرح والتعديل، قال: ولا يحسن أن يذهب محصل إلى قبول ذلك مطلقاً من رجل غمر جاهل لا يعرف ما يجرح به ولا ما يعدل، وعلى هذا فلا يبقى في المسألة إلا ثلاثة أقوال. وَلَوْ شَهِدَ فَزُكِّيَ ثُمَّ شَهِدَ فَثَالِثُهَا: إِنْ لَمْ يُغْمَزْ فِيهِ بِشَيْءٍ لَمْ يَحْتَجْ، وَرَابِعُهَا: إِنْ كَانَ الْمُزَكَّي مُبَرِّزاً لَمْ يَحْتَجْ .. يعني: أن الشاهد إذ زكي ثم شهد مرة أخرى، فروى أشهب أن شهادته تقبل بالتزكية الأولى، وقال سحنون: لا تقبل، ويكلف التزكية كلما شهد حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته. قال في البيان: وهو إغراق في الاستحسان، قال: لأنه قد لا يعرفه غير الذين عدلوه أولاً وقد ماتوا أو غابوا؛ فيبطل حقاً وقد شهد به من قد زكي وثبتت عدالته. والثالث لمالك في الواضحة من رواية مطرف وابن الماجشون: أنه لا يحتاج إلى تعديل آخر إلا أن يغمز فيه بشيء أو يرتاب منه. والرابع لابن كنانة: إن زكاه من هو مشهور بالعدالة في تزكية لم يحتج إلى إعادة التزكية، هكذا نقل ابن راشد هذا القول، وعليه فيضبط المزكي في القول الرابعمن كلام المصنف بالكسر اسم فاعل، وضبطه بعض من تكلم على هذا الموضع بالفتح على أنه اسم مفعول، وهو مقتضى نقل الباجي لأنه قال: وقال ابن كنانة: المشهور بالعدالة يجزئ فيه التعديل الأول حتى يجرح بأمرين، والذي ليس بمعروف يتوقف فيه على تعديل ثان.

والضبط الأول أظهر؛ لأن المبرز إنما يقال لمن هو ثابت العدالة. ولابن القاسم في العتبية: إن كانت الشهادة قريبة من الأولى ولم تطل جداً لم يكلف تزكية، وإن طال فيكشف عنه ثانية، طلب ذلك المشهود عليه أم لا، والسنة طول. ولأشهب في المجموعة: إن شهد بعد خمس سنين ونحوها سئل عنه العدل الأول، فإن مات عدل مرة أخرى، وإلا لم يقبل. وَإِذَا عُدِّلَ وَجُرِّحَ فَفِي تَقْدِيمِ الْجَرْحِ أَوِ التَّنَافِي قَوْلانِ القول بتقديم الجرح لابن نافع وسحنون. قال في البيان: وهو دليل ما في السرقة من المدونة ورواية عيسى عن ابن القاسم. قوله: (أَوِ التَّنَافِي) وهو القول الثانيز ابن عبد السلام: فلا يريد بالتنافي سقوط الشهادتين معاً؛ لأن هذا تغليب للجرح؛ لأنه إذا سقطت الشهادتان يبقى كالمجهول، وإنما مراده أن يصار إلى الترجيح بزيادة العدالة أو زيادة العدد عند من جرح به، ولهذا كان ما وقع في بعض النسخ عوض التنافي (وَالأَرْجَحُ أَحْسَنُ). ولمطرف وابن وهب أن بينة التعديل أولى؛ لأنها شهدت بفضل؛ فهي أولى من القول بالشر، واختار ابن رشد وغيره تقديم الجرح؛ لأنها علمت ما لم يعلم المعدلون، وقيد الخلاف بما إذا قال المعدلون: "هو جائز الشهادة" وقال المجرحون: "هو غير جائزها". ولمطرف وابن وهب أن بينة التعديل أولى؛ لأنها شهدت بفضل؛ فهي أولى من القول بالشر، واختار ابن رشد وغيره تقديم الجرح؛ لأنها علمت ما لم يعلم المعدلون، وقيد الخلاف بما إذا قال المعدلون: "هو جائز الشهادة" وقال المجرحون: "هو غير جائزها". وأما إن فسر المجرحون الجرحة فلا خلاف في تقديمهم. وأشار المازري إلى أنه ينبغي أن يتفق على التجريح إذا اجتمعت البينتان على إثبات شيء وضده كقول المجرحين: "رأيناه عاكفاً ليلة كذا على شرب الخمر" ويقول المعدلون: "شاهدناه تلك الليلة عاكفاً على الصلاة" فيقطع بكذب إحداهما.

ابن عبد السلام: والمسألة عامة فيما إذا تساوى عدد المعدلين والمجرحين أو اختلفا، وإن كان القاضي الباقلاني حكى الإجماع إذا تساوى عدد المعدلين والمجرحين، أو كان عدد المجرحين أكثر على تقديم شهادة المجرحين، وقصر الخلاف على ما إذا كان المعدلون أكثر، وأنكر هذا غيره، والصحيح في النقل ما قدمناه انتهى. فرع: إذا اتفق شاهدان على تجريح شاهد، لكن اختلفا في سببه كما لو شهد أحدهما بخيانته وآخر بزناه، فاختلف قول سحنون في تلفيقها، وبالتلفيق قال ابن عبد الحكم. الْمَوَانِعُ: الأَوَّلُ: التَّغَفُّلُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: قَدْ يَكُونُ الْخَيِّرُ الْفَاضِلُ ضَعِيفاً عَقْلُهُ لِغَفْلَتِهِ فَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ: إِلا فِيمَا لا يَكَادُ يُلَبَّسُ فِيهِ .. قول ابن عبد الحكم ظاهر، ومثال ما لا يلبس فيه أن يقول: "رأيت هذا قبل هذا، أو سمعت هذا قال لزوجته: أنت طالق" بخلاف ما كثر من الكلام وأبطل بعضه ببعض، ولهذا يعتمد أكثر أهل الزمان في تزكيتهم الشاهد في قضية ثم لا يزكونه في أخرى، ولم يذكر المازري وابن شاس هذا على أنه خلاف بل ساقاه على أنه تقييد، وهو كذلك إن شاء الله تعالى خلاف ما قاله المصنف. الثَّانِي: أَنْ يَجُرَّ بِهَا أَوْ يَدْفَعَ كَمَنْ شَهِدَ عَلَى مَوْرُوثِهِ الْمُحْصِنِ بِالزِّنَى أَوْ قَتْلِ الْعَمْدِ مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيراً، أَوَ كَمَنْ شَهِدَ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ عَبْداً يُتَّهَمُ فِي وَلائِهِ، وَكَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ جَرَحَ مَوْرُوثَهُ، وَكَوَصِيَّ شَهِدَ بِدَيْنِ لِلْمَيِّتِ، وَكَمُنْفَقٍ عَلَيْهِ شَهِدَ لِمُنْفِقٍ، وَفِي عَكْسِهِ قَوْلانِ .. المانع الثاني: أن يجر بشهادته نفعاً لنفسه أو يدفع عنها ضرراً، وذكر للجر أمثلة. أولها: أن يشهد على موروثه المحصن بالزنى أو بقتل العمد؛ لأنه يتهم أن يكون قصد قتله ليرثه.

وقوله: (مَوْرُوثِهِ) أعم من أن يكون أباً أو غيره. وقيد الموروث بالإحصان وبأن لا يكون فقيراً احترازاً من البكر [668/ أ] ومن الفقير؛ لعدم التهمة فيهما. وهكذا قال أشهب في أربعة أولاد عدول شهدوا على أبيهم بالزنى وهو فقير: أنه يرجم، وحمله ابن رشد على أنهم ممن يعذر بجهل في شهادتهم بالزنى على أبيهم، أو أنهم دعوا إلى شهادة عليه كأن يقذفه رجل بالزنى فيسأل شهادتهم ليسقط عنه حد القذف، وأما إن جهلوا ولم يدعوا فذلك عقوق منهم؛ لأنهم مأمورون بالستر فلا تجوز شهادتهم، ونقل أبو محمد عن ابن اللباد قولاً آخر أنها لا تجوز وإن كان الأب فقيراً؛ لأنهم يتهمون بإسقاط نفقته اللازمة لهم، وهذا لا يكون إلا في الأب وإنما يتم إذا كان الأب عاجزاً عن التكسب، وأما إن كان قادراً عليه ويتكسب فلا، وقال ابن لبابة: شهادتهم عليه بما يوجب قتله جائزة ملياً كان أو معدماً، قال: ولا يتهم العدول بالميراث ولا بطرح النفقة. ابن رشد: وله وجه في المبرز. المثال الثاني: أن يشهد أن موروثه أعتق عبداً فلا تجوز شهادته؛ لأنه يتهم في قصد ولايته وشرط في المدونة أن يكون هذا ممن يرغب في ولائه، وأن يكون في الورثة من لا حق له في الولاء كالبنات والزوجات، وأن تكون التهمة حاصلة الآن بأن يكون لو مات حينئذ ورثه، وأما إن كان الولاء قد يرجع إليهما يوماً ما فتجوز، ولو لم يتهم الولدان في ولائه لدناءتهم جازت شهادتهما، والتهمة في هذه المسألة ضعيفة؛ لأن هذه الشهادة إنما يجوز الابنان بها المنفعة بتقدير أن يموت العبد قبلهما، وقد يموت عن غير بال. المثال الثالث: أن يشهد رجل أن رجلاً جرح ابن عم الشاهد أو غيره ممن يرثه الشاهد لو مات؛ لأنه إذا مات يقسم هذا الشاهد ويستحق الدية، أما لو شهد له بجرح خطأ وقد برأ الجرح، فيعود إلى الشهادة بالمال وهي جائزة ما لم تقرب القرابة بينهما كما سيأتي.

المثال الرابع: إذا شهد الوصي بدين للميت لم تجز شهادته؛ لأنه يجر بذلك النظر في المال، وهذا بشرط أن يكونوا صغاراً. قال في المدونة: وإن كانوا كباراً يلون أنفسهم فتجوز شهادته؛ لأنهم يقبضون لأنفسهم. المثال الخامس: أن يشهد المنفق عليه للمنفق، وهذا المثال هو أول مسألة من شهادات المدونة، والتهمة فيها للشاهد قوية؛ لأنه يخشى من تركه الشهادة أن يقطع عنه النفقة. قوله: (وَفِي عَكْسِهِ قَوْلانِ) أي: عكس الخامس، وهي شهادة الشاهد لمن في نفقته؛ أجازها ابن حبيب، ومنعها بعض القرويين إذا كان من قرابة الشاهد كالأخ ونحوه؛ لأن تركه للنفقة عليه إذا كان فقيراً معرة، فيتهم أن يشهد له ليقطع عنه النفقة. ابن يونس: وهو استحسان. وعلى هذا فالخلاف مخصوص بالقريب، ولا يعم الأجنبي، وكلام المصنف لا يؤخذ منه هذا، وكذلك اختلف في شهادة الوصي على الطفل الذي في ولايته، فالمشهور جوازها، وفي الجلاب قولاً آخر بعدم الجواز؛ لأنه يتهم أن يكون كارهاً في النظر لمحجوره فيضيع ماله. فَلَوْ شَهِدَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فِي وَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَ مَا لَهُ كَثِيراً لَمْ يُقْبَلْ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ يَسِيراً فَثَالِثُهَا: يُقْبَلُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ .. احترز بالوصية من أن يشهد لنفسه ولغيره في غير وصية فلا تصح له ولا لغيره على المشهور؛ لأن الشهادة إذا بطل بعضها للتهمة بطل جميعها، وأجازها في الموازية في غير الوصية أيضاً إذا كان ما شهد به له يسيراً جداً، والفرق بينهما على المشهور أن الموصي قد يخشى معالجة الموت ولا يحضره إلا الموصى له فيضطر إلى إشهاده بخلاف غيرها، والمشهور مقيد بما إذا كان الجميع في ذكر حق على ما قاله الشيوخ، ولو كانت في حقين لجازت للأجنبي، وكذلك لو أدى الشهادة لفظاً؛ إذ لا يقدح ذكر ما له عليه وإدخاله ذلك في شهادته بما شهد به لغيره إذا لم يكن حقاً واحداً.

وقوله: (فَإِنْ كَانَ مَا لَهُ كَثِيراً) أي: في الوصية، و (مَا) موصولة، وما قاله من عدم القبول إذا كان الذي له في الوصية كثيراً هو المشهور، وفي الجلاب رواية أخرى بالجواز لغيره فقط، وأما إن كان نصيبه يسيراً فحكى المصنف ثلاثة أقوال: الأول: يقبل له ولغيره، وهو قول ابن القاسم في المدونة، ورواه مطرف عن مالك. الأبهري: وهو استحسان، فإن لم يكن في الوصية شاهد غيره حلف الموصى له مع شهادته ويأخذ هو ما له فيها بغير يمين؛ لأنه يسير في حكم التبع. والقول الثاني: عدم القبول له ولغيره، رواه ابن وهب عن مالك، وعلله الأبهري بأنه جار لنفسه، قال: وهو القياس. والثالث: يقبل لغيره ولا يقبل له، وهو أيضاً لمالك، وبه قال ابن الماجشون. وعليه فإن لم يكن إلا شاهد حلف الموصى له واستحق، وإن كانا شاهدين كل منهما شهد له ولغيره أخذ الموصى له بغير يمين، وحلف كل واحد منهما واستحق مع شهادة صاحبه. [668/ ب] وحكى في المقدمات رابعاً: أن شهادته تجوز له ولغيره إن كان معه شاهد غيره فتثبت الوصية بشهادتهما ويأخذ ما له فيها بغير يمين، وإن لم يكن معه غيره فتجوز لغيره ولا تجوز له، ويحلف الغير مع شهادته. وفي المدونة: عن يحيى بن سعيد: إن كان معه غيره جازت له ولغيره، وإلا جازت لغيره فقط. سحنون: يريد: إذا كان معه غيره أخذ ما شهد به لنفسه بلا يمين إذا كان تافهاً، كما لو شهد رجلان في وصية أوصى لهما فيها بتافه- أخذاه بغير يمين.

وقال بعض القرويين: يحتمل أن يريد: إن كان وحده جازت شهادته لغيره مع يمينه ولم يأخذ الشاهد شيئاً، وإن كان معه غيره أخذ الغير بغير يمين؛ لأنه اجتمع عليه شاهدان، وأخذ الشاهد بيمين؛ لأن شهادته لنفسه ساقطة. وخصص صاحب المقدمات هذا الخلاف بما إذا كانت شهادة الشاهد في وصية مكتوبة، قال: وإن شهد على الوصية لفظاً بغير كتاب فإن شهد لنفسه بيسير فلا تجوز لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره مع يمين الغير إن لم يكن إلا ذلك الشاهد، وإن شهد آخر كذلك أخذ غيرهما بغير يمين، وأخذ كل من الشاهدين بشهادة صاحبه بشرط أن يحلف، وقد يقال: لا تجوز له ولا لغيره على قول مطرف وابن الماجشون، ولا تجوز على ما في سماع أشهب من كتاب الشهادات. وَأَمَّا شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلآخَرِ فَجَائِزَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ لما تكلم على من شهد لنفسه ولغيره شرع فيمن شهد لمن شهد له، وذكر أن المشهور جواز الشهادتين، وظاهره سواء كان المشهود عليه بالحق واحداً أو لا، في مجلس واحد أو مجلسين متقاربين أو متباعدين، وهو قول ابن القاسم في العتبية فيمن شهد لرجل بعشرة دنانير وشهد المشهود له للذي شهد له على آخر- أن ذلك جائز، وقاله سحنون، والشاذ منعها، وإليه رجع سحنون. اللخمي: وقال مطرف وابن الماجشون: إن شهد بعضهم لبعض على رجل واحد في مجلس واحد لم يجز، وإن كان شيئاً بعد شيء جاز جميعها وإن تقارب ما بين الشهادتين، وإن كان على رجلين مفترقين جاز ذلك في مجلس أو مجلسين، وأرى أن ترد جميعاً، وسواء كانت على رجل أو رجلين في مجلسين أو مجلس بلفظ أو كتاب؛ لأنهما يتهمان على: "اشهد لي وأشهد لك" إلا أن يطول ما بينهما. انتهى.

وقول مطرف ثالث، واختيار اللخمي راجع إلى المنع مطلقاً، ولم يحك المازري في اختلاف المجلس خلافاً في القبول لأنه قال: إن شهد رجلان لرجلين بدين لهما على زيد، ثم شهد المشهود لهما للشاهد الأولين بحق آخر على زيد بعينه فإنه إن كان ذلك في مجلسين متقاربين أو متباعدين جازت الشهادة، وإن كان ذلك في مجلس واحد فظاهر المذهب على قولين: المنصوص منهما لمطرف وابن الماجشون رد الشهادة، وظاهر كلام أصبغ إمضاؤها، ثم أشار إلى أنه ينبغي أن يلتفت في هذا إلى التبريز في العدالة وحقارة المشهود فيه، وأنه بحيث لا يتطرق فيه طلب المجازاة في شهادة بشهادة. وَفِيهَا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَافِلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ هي في المدونة في كتاب المحاربين، وعلله فيها بأنه لا سبيل إلى غير ذلك، ونص فيها على القبول إذا كانوا عدولاً سواء شهدوا بقتل أو أخذ مال أو غيره، ولعل المصنف أتى بها استشهاداً للمشهور الذي قدمه، ولم يعتبر تعليله في المدونة بالضرورة، وما قدمه مطلق. فإن قتل: القبول هنا مخالف لما قالوه في المجتلبين أنه لا تقبل شهادة بعضهم لبعض إلا أن يكون النفر الكثير عشرين فأكثر، وأباه سحنون في العشرين. قيل: فرق بينهما ابن سهل بأن المجتلبين تذكرهم حمية البلد فلذلك رد شهادتهم. وَأَمَّا الدَّفْعُ فَكَشَهَادَةِ بَعْضِ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ الْقَتْلِ خَطَأً لما ذكر أمثلة ما يجر به الشاهد لنفسه نفعاً شرع في تمثيل ما يدفع به عن نفسه ضرراً وذكر المثالين: الأول: أن يشهد عدلان أن فلاناً قتل فلاناً خطأ فشهد عدول من العاقلة التي وجب عليها القيام بالدية بتجريح شاهدي القتل فلا تقبل؛ لأنها تدفع ما لزمها من الدية.

ابن عبد السلام: وقد أطلقوا القول برد هذه الشهادة مع أن الفقير لا يلزمه شيء، والمقدار الذي يلزم الغني يسير جداً على ما يتبين في موضعه، وقد تقدم حكم من شهد لنفسه في وصية أو غيرها، ورد بأن الكلام فيمن يلزمه أداؤها فلا يرد الفقير، وتهمة الدفع أقوى؛ لأن كثيراً من الناس لا يسهل عليه إخراج شيء وإن [669/ أ] قل. وَكَشَهَادَةِ الْمِدْيَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّهِ هذا هو المثال الثاني: والمديان بكسر الميم وتخفيف الدال: الذي عليه الدين. احترز بالمعسر مما لو كان موسراً فإنه تجوز شهادته، قاله ابن القاسم وأشهب ومطرف وابن الماجشون. والضمير في: (لِرَبِّهِ) عائد على الدين المفهوم من المديان، وعلله مطرف بأنه كالأسير في يده، وقيده الباجي: بأن يكون الدين حالاً أو قرب حلوله، وما إن كان بعيداً فيجيء على مذهب سحنون جواز الشهادة، وعلى قول ابن وهب ردها. وفسر الغني بأن لا يستضر بإزالة هذا المال عنه، وأما إن كان يستضر بأخذه منه فترد شهادته. ابن زرقون: وتجوز شهادته فيما عدا المال- قاله مطرف- ولما يرجو أن يكافئه على ما شهد له به إما بصبر عليه أو بتخفيف عنه من دينه، فلا فرق بين المال وغيره من الحقوق، وربما كان غير المال أهم عند المشهود له من المال. خليل: وينبغي أن يقيد العسر هنا بأن يكون إعساره ثابتاً عند الحاكم، والله أعلم. وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ؛ لأَنَّهُ جَارُّ معناه أن يشهد رب الدين لمديانه بمال فإن شهادته ترد؛ لأنه يتهم أن يكون شهد له به ليقضيه، وما قدرنا به المسألة بالمال هو كذلك في المازري وغيره، وكأن المصنف استغنى عن ذلك بقوله: (لأَنَّهُ جَارُّ) وهذا مذهب ابن القاسم، وأجازها أشهب وإن كان المديان

معدماً، وأشار بعضهم إلى التفرقة بين أن يكون المديان ملياً فتجوز، أو معدماً فيمتنع، ولعل المصنف إنما أخر هذه المسألة ولم يقدمها في أمثلة الجر للاختصار، والله أعلم. واختلف في شهادة العامل لرب المال؛ فقال سحنون: إن كان المال عيناً ردت وإن كان في سلع جازت، وقال ابن وهب: وإن كان ملياً قبلت وإن كان معدماً ردت، وقال ابن القاسم: هي جائزة ملياً كان أو معدماً. بعض الشيوخ: وكذلك شهادة رب المال للعامل فيه الثلاثة الأقوال. الثَّالِثُ: أَكِيدُ الشَّفَقَةِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ كَالأُبُوَّةِ وَالأُمُومَةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْبُنُوَّةِ مِنْ ذَكَرٍ وَانْثَى وَإِنْ سَفَلَتْ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ فِيْهِمَا ... المانع الثالث: الشفقة الأكيدة لا مطلق الشفقة؛ إذ تجوز شهادة بعض الأقارب لبعض؛ لأنه لا يوجد في جميعهم أكيد الشفقة، والباء في: (بِالنَّسَبِ) للسببية، ومراده بالنسب القرابة، وبالسبب الزوجية كما يفعل الفرضيون. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد بالنسب عمودية الأعلى والأسفل، وبالسبب من يدلي بهما، وذكر الزوجية على طريق التكملة. خليل: وفيه بعد، وضمير (عَلَوْا) عائد على الآباء والأمهات؛ فيندرج الأجداد والجدات، وغلب المصنف في علو المذكر. وضمير (سَفَلَتْ) عائد على البنوة. سحنون: ولا تجوز شهادة ابن الملاعنة للذي نفاه، واستدل مالك على هذا الأصل في المجموعة بقول عمر رضي الله عنه: "لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين" وجعله في المدونة من قوله عليه الصلاة والسلام. وحكى بعض الشافعية عن مالك قبول شهادة الولد لأبيه دون العكس، وهي حكاية مستنكرة وربما كانت وهماً.

ابن رشد: شهادة الأب عند ابنه، أو الابن عند أبيه، وشهادة كل واحد منهما على شهادة صاحبه، وشهادة كل منهما على حكم صاحبه، وشهادة كل منهما مع شهادة صاحبه- الحكم فيها كل سواء، والاختلاف فيها كلها واحد، قيل: إن ذلك جائز، وهو قول سحنون؛ لأنه أجاز شهادة الأب على قضاء ابنه بعد عزله، وأجاز هنا شهادته عنده بشرط التبريز، قال: وينبغي هذا الشرط عندي في بقيتها، وهو قول مطرف؛ لأنه أجاز شهادة كل واحد منهما على شهادة الآخر. وقيل: ذلك لا يجوز، وهو قول أصبغ؛ لأنه لم يجز شهادة كل منهما على شهادة الآخر وكذلك الذي يأتي على مذهبه في بقيتها، وفرق ابن الماجشون بين شهادته معه وشهادته على شهادته، وبين شهادته على حكمه بعد عزله؛ فأجازها في الأوليين، وردها في الأخرى، قال: وذلك تناقض، وأما تعديل كل منهما لصاحبه فلا يجوز عند واحد منهم إلا ابن الماجشون فإنه قال: إذا لم يكن نزعه وليس له قام، وإنما الذي نزعه وقام به أحيا شهادته، فلا بأس أن يصفه بالذي تتم به شهادته من عدالته. ابن رشد: وفيه بعد. وقوله: (وَكَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ) فيهما الإشارة إلى الأبوة والنبوة. وقوله: (فِيْهِمَا) عائد على الزوجين المفهومين من السياق؛ أي: لا تجوز شهادة كل منهما لصاحبه. ابن عبد السلام: وأشار إلى خلاف النخعي في قوله: تقبل شهادة الزوج لزوجته دون العكس، وقال شيخنا: الضمير عائد على الجر والرفع. فرع: فلو كانت الشهادة بغير مال كما لو شهد الزوج أن سيد زوجته أعتقها، وشهد معه غيره لم تقبل شهادته لاتهامه على إخراجها من الرق؛ ليكون ولده منها حراً. وهل يمكن من وطئها؟ عندنا [669/ ب] قولان: أحدهما أنه لا يحل له ذلك؛ لكونه يرق ولداً يعتقد

أنه حر، فيكون وطؤه سبباً لارتقاق ولده، وكذلك لو كان الزوج عبداً لكان لها فراقه؛ لاعترافه أن الفراق صار بيدها لما عتقت. وإن رضيت بالبقاء فهل يمكن من وطئها؟ ففيه قولان. وإذا قلنا: يمكن الزوج من وطئها إذا ردت شهادته فقال بعض الأشياخ: يشتريها ليفرق بين ولده الرقيق وولده العتيق. وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ بِتَوْكِيلِهِمْ غَيْرَهُمْ بِخِلافِ تَوْكِيلِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ يعني: أن الأب والولد والزوج والزوجة تجوز شهادتهم على بعضهم بعضاً بأنهم وكلوا غيرهم إذا كانت المنفعة للغير؛ لأنها شهادة عليهم. ولا تجوز شهادتهم على الغير بأنه وكلهم، ولهذا قال في المدونة في الشفعة: ومن لا تجوز شهادته من القرابة لقريب فلا يجوز أن يشهد أن فلاناً وكله على شيء، ويجوز أن يشهد عليه أنه وكل غيره؛ فأتى بلفظ (له) حيث منع الشهادة، وبلفظة (عليه) حيث أجازها. وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الأَخِ غَيْرِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ لأَخِيهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَاً، وَقِيلَ: فِيمَا لا تَتَّضِحُ فِيهِ التُّهْمَةُ. احترز بغير المنفق عليه من أن يكون الأخ الشاهد في نفقة أخيه فلا تجوز شهادته، فإن كان الشاهد هو الأخ المنفق فقد تقدم فيه خلاف. وقوله: (تَجُوزُ) يريد: في الأموال وما في معناها لأن المازري وغيره نقل اتفاق أهل المذهب على رد شهادة الأخ لأخيه بما يكتسب به الشاهد شرفاً وجاهاً، أو يدفع به معرة، أو تقتضيه الحمية والعصبية، مثل أن يشهد لأخيه وهو نازل القدر أنه تزوج امرأة لها قدر ممن يتشرف بنكاحها، أو يشهد أن فلاناً قذفه، أو يجرح من جرح أخاه، وكذلك رأى غيره أنه يتفق على رد شهادته له بالمال الكثير الذي يحصل له به الشرف. والمشهور أنه لا تجوز شهادته له في جرح العمد خلافاً لأشهب، والقول بالجواز وقع في بعض ألفاظ المدونة، والقول

باشتراط التبريز هو الذي في شهادات المدونة، واختلف الشيوخ؛ فحمله الأكثرون على أنه خلاف كما فعل المصنف، ورأى بعضهم أن ما في أول الشهادات مقيد لغيره. وفي الرسالة: وتجوز شهادة الأخ العدل لأخيه، وظاهره عدم اشتراط التبريز. قال صاحب المقدمات والبيان: مذهب ابن القاسم اشتراط التبريز في ستة مسائل: هذه أولها، الثانية: إذا زاد في شهادته أو نقص منها بعد أن شهد بها، والثالثة: شهادة الأجير لمن استأجره إذا لم يكن في عياله، والرابعة: شهادة المولى لمن أعتقه، والخامسة: شهادة الصديق الملاطف لصديقه، والسادسة: شهادة الشريك المفاوض لشريكه في غير مال المفاوضة، وزاد في المقدمات التزكية. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَاً، وَقِيلَ: فِيمَا لا تَتَّضِحُ فِيهِ التُّهْمَةُ) ليس هذا خلافاً على ما تقدم من حكاية المازري الاتفاق، لكن حكاه ابن شاس على أنه خلاف؛ لأنه قال: وأما شهادة الأخ لأخيه فأجازها في الكتاب من رواية ابن القاسم، إلا أن يكون في عياله. وقال بعض أصحابنا: لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز على شرط، ثم اختلف في تحقيق ذلك الشرط؛ ففي الموازية: لا تجوز شهادته إلا أن يكون مبرزاً. وقيل: تجوز إذا لم تنله صلته. وقال أشهب: تجوز في اليسير دون الكثير إلا أن يكون مبرزاً فتجوز في الكثير. وقال غير هؤلاء: تقبل الشهادة للأخ إلا فيما تتضح فيه التهمة، مثل أن يشهد له بما يكتسب به الشاهد شرفاً وجاهاً أو يدفع به معرة أو تقتضي الطباع والعصبية فيه الغضب والحمية، كشهادته بأن فلاناً قتله، أو يجرح من جرحه. انتهى. وقال اللخمي بعد أن ذكر أنه لا تجوز شهادته له فيما تقدم من كلام المازري أنه لا تجوز شهادته فيه: واختلف في شهادته له في الأموال على أربعة أقوال: فقيل: جائزة، وقيل: لا تجوز، وقيل: إن كان مبرزاً جازت وإلا فلا، وقيل: لا تجوز في اليسير دون الكثير.

وقال صاحب البيان: لا خلاف أن شهادته له في الأموال جائزة إذا لم يكن في عيال المشهود له، قيل: مطلقاً، وقيل: بشرط التبريز، وألزم أشهب على قوله بالإجازة في جراح العمد أن يجيزها له في القتل والحدود، قال: إذا لم يراع في جراح العمد ما يقع في ذلك من الحمية. وقال عياض: قد اختلف في شهادته له في الحدود والقصاص وغير المال مما هو مستور. وَفِي جَوَازِ تَعْدِيلِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ الجواز لابن القاسم وهو ظاهر المدونة بشرط التبريز؛ لقوله فيها: "إذا لم يكن الأخ والأجير في العيال تجوز شهادتهما إذا كانا مبرزين في الأموال والتعديل؛ وعلى هذا الظاهر حمله الأكثرون، وروى ابن زياد وابن نافع عن [670/ أ] مالك جواز تعديله، وقال بعضهم: المراد بالتعديل هنا تعديل من شهد لأخيه فيكون من باب المال، وبقول أشهب قال ابن نافع وأصبغ وعبد الملك وهو الظاهر؛ لأنه يتشرف بعدالة أخيه له. وعلى الأول يجرح من جرحه، وعلى الثاني لا يجرح من جرحه، ولابن الماجشون ثالث أنه يعدله ولا يجرح من جرحه واختاره ابن حبيب، وظاهر كلام ابن رشد وغيره أن الخلاف في تجريحه إنما هو إذا جرح بالإسفاه، وأما إذا جرح بالعداوة فيجوز أن يجرح من جرحه، ونقل المازري عن بعض الأشياخ أنه مال إلى رد شهادته وإن جرح بالعداوة؛ لأن في تجريحه بها نقصاً. المازري: ولعمري إن التهمة فيه لا تتضح اتضاحها إذا ردت شهادة أخيه من ناحية كونه فاسقاً. وَفِي إِلْحَاقِ أُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ بِأُخُوَّةِ النَّسَبِ قَوْلانِ المشهور قبول شهادته لصديقه إذا كان ليس في نفقته، ولا يشتمل عليه بره وصلته، وقال ابن كنانة: يقبل في اليسير فقط، وحكى الباجي عن مالك في القبول والرد روايتين، إذا كان الشاهد هو الذي يصل بالمعروف صديقه المشهود له. وقد تقدم أن ابن القاسم يشترط في ستة مسائل التبريز منها هذه.

ابن عبد السلام: ويؤخذ من كلامه أن من ألحق أخوة الصداقة بالنسب يختلف، هل يقبلها بشرط التبريز أو بشرط أن لا تتضح التهمة، والدخول تحت هذه العهدة في النقل صعب. وَفِي شَهَادَةِ الرَّجُلِ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ أَوْ زَوْجَةِ ابْنِهِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَا جَازَ الجواز لسحنون اعتباراً بالحال؛ لأن شهادته لم تكن لابنته ولا لابنه، والرد لابن القاسم نظراً للمال؛ لأنه أميل لابنه أو ابنته، والثالث حكاه ابن محرز عن بعض شيوخه، واختلف في شهادة الرجل لأبوي امرأته وولدها من غيره وفي شهادة المرأة لولد زوجها، هكذا ألحقه المازري بالخلاف المتقدم. وَفِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لأَحَدِ وَالِدَيْهِ عَلَى الآخَرِ، وَشَهَادَةِ الأَبِ لأَحَدِ وَلَدَيْهِ عَلَى الآخَرِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَيْلُ لِلمَشْهُودِ لَهُ- قَوْلانِ .. هكذا حكى ابن محرز هذا الخلاف، قال: والصواب الإجازة؛ لأن الشاهد قد استوت حالته فيمن يشهد له وعليه فصار بمنزلة شهادته لأجنبي على أجنبين وشرط بعضهم التبريز في قبول هذه الشهادة. واحترز بقوله: (إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَيْلُ) مما إ ذا ظهر ميل للمشهود له فإنه يتفق على الرد كما لو شهد للصغير على الكبير، أو للبار على العاق. ابن محرز: ولو شهد لأبيه على ولده أو لولده وليس في حجره لتخرج على الخلاف في شهادته لأحد أبويه على الآخر، ولو شهد لأبيه على جده أو لولده على ولد ولده لانبغى ألا يجوز اتفاقاً، ولو كان على العكس لانبغى أن تجوز اتفاقاً. فَإِنْ ظَهَرَ مَيْلُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَأَوْلَى بِالْجَوَازِ كما لو شهد للعاق على البار.

وقوله: (أَوْلَى) أي: على القول بالجواز، ولا يريد أنه يتفق على الجواز؛ لأن سحنوناً يمنع وإن شهد للأكبر من أولاده على الأصغر، والرشيد منهما على السفيه الذي في ولايته، والعاق على البار، وكأنه رآه حكماً غير معلل وأن المنع في ذلك له. وقال سحنون في نصراني مات وله ولد نصراني يرثه، وله ولدان مسلمان يشهدان بدين لأبيهما على رجل: إن شهادتهما لا تقبل مع ارتفاع التهمة بموت أبيهما وصيرورة ماله لولده النصراني. قالوا: ترد شهادة الأب لولده وإن كان عبداً مع كون العبد لا يملك ما شهد له أبوه به ملكاً لا يقدر على انتزاعه. وزادوا فقالوا: لا تقبل شهادته لسيد ولده ولسيد أبيه؛ لأجل التهمة بأن يصانع لسيد ولده أو سيد أبيه الشهادة ليحسن إلى أبيه أو إلى ابنه، ولذلك لو شهد ولدان على سيد أبيهما أنه باعه أو شهدا أن أباهما العبد جنى على رجل فإن شهادتهما لا تقبل أيضاً؛ لأنهما يتهمان أن يكونا قصدا إنقاذ أبيهما أو ولدهما من سوء مملكة السيد. فَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُمَا مُنْكِرَةً لِلطَّلاقِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلأَبِ عَلَيْهَا احترز بقوله: (مُنْكِرَةً) من أن تكون مقرة بالطلاق قائمة به- فلا تقبل. نص عليه أشهب وأصبغ وسحنون، وأطلق ابن القاسم القبول ولم يقيد بكون الأم مقرة أو منكرة، لكن قيده صاحب البيان بقول أشهب ولم يجعل بينهما خلافاً، ولهذا - والله أعلم- لم يتعرض المصنف لقول ابن القاسم، لكن حمله اللخمي على الخلاف. وقوله: (مُنْكِرَةً لِلطَّلاقِ) يريد: والأب أيضاً منكر، ولا يريد أن الأب مقر؛ لأن الأب لا يحتاج إلى شهادتهما إذ الطلاق بيده. فإن قيل: لعله أراد إذا كان الأب مدعياً للطلاق على خلع والأم منكرة له.

قيل: إن أراد هذه الصورة لزمه خلاف النقل؛ لأن الذي في النوادر عن ابن سحنون: إذا شهدا أن [670/ ب] أمهما اختلعت من زوجها لم تجز شهادتهما، جحدت الأم أو لا. ولم يذكر خلاف ذلك. ولو شهدا أن الأب طلق ضرة أمهما فإن كانت أمهما في العصمة لم تقبل، وإن ماتت قبلت شهادتهما، ومال بعض الشيوخ إلى ردها. وإن كانت أمهما مطلقة من أبيهما وهي حية فشهد الابنان بطلاق الضرة ففي المذهب قولان؛ منع شهادتهما ابن القاسم، وأجازها أصبغ. وهذا إذا كانت الضرة منكرة للطلاق، واختلف إن كانت هي القائمة بشهادتهما وأمهما في عصمة الأب؛ فأجازها أصبغ، ومنعها سحنون بعد إجازته لها. اللخمي: والقياس أن تمنع سواء كانت الأم في عصمة الأب أو مفارقة أو ميتة؛ لأن العادة جارية بين زوجة الأب وربيبها بالعداوة، وإن كانت شابة كان أبين؛ لأنه يخشى ما يكون من ولد يشاركه في الميراث أو يميل بماله إليها، ومدار الأمر في هذا الباب على التهمة القوية، فحط الفقيه الالتفات إليها. الرَّابِعُ: الْعَدَاوَةُ، وَلا تُقْبَلُ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ لَهُ عَكْسَ الْقَرَابَةِ إنما لم تقبل للتهمة كما في التي قبلها. فإن قيل: ما الذي أفاده قوله: (عَكْسَ الْقَرَابَةِ) مع تصريحه أولاً بأنها لا تقبل له وتقبل عليه؟ قيل: فائدتين. الأولى: تقييد العداوة بالبينة كما قيد في القرابة تأكيد الشفقة. قال ابن كنانة في المجموعة: إن كانت الهجرة في أمر خفيف فشهادة أحدهما تقبل على الآخر، وأما المهاجرة الطويلة والعداوة البينة فلا تقبل عليه.

الثانية: أنه لم يصرح في القرابة بأنها تقبل عليه ولا تقبل له، وهذا المعنى وإن كان مفهوماً مما تقدم فالتصريح هنا به أولى. فإن قيل: (أل) في: (الْقَرَابَةِ) إما للعهد وهو متنف لعدم تقدم ما هو معهود، أو للجنس وهو لا يصح، وإلا لزم المنع في الأعمام والأخوال. قيل: هي للعهد، وقد تقدم ما يدل على القرابة من وجهين: أحدهما: أكيد الشفقة. والثاني: قوله: (كَالأُبُوَّةِ وَالأُمُومَةِ) فإن قيل: فإن كان هذا عكس الثالث كان ينبغي أن يذكر أولاً في المانع الثالث القرابة دون أكيد الشفقة. قيل: ذكر أولاً أكيد الشفقة لينبه على العلة الملحوظة، والله أعلم. وَشَرْطُهُا: أَنْ تَكُونَ عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيِّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ خِصَامٍ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ دَيْناً يَتَشَوَّفُ بِهِ عَادَةً إِلَى أَذًى يُصِيبُهُ. قَالَ سحنون: وَمِثْلُهُ لَوْ شَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى الشَّاهِدِ وَهُوَ فِي خُصُومَتِهِ. وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةَ فَلا أَثَرَ لَهَا فَأَوْلَى بِقَبُولِهَا .. شرط في العداوة المانعة أن تكون دنيوية، كذلك إن كان أصلها ديناً ولكن قويت حتى زادت على القدر الواجب- فإن ذلك القدر الزائد يمنع الشهادة، قاله المازري وعياض. وهو صحيح؛ فإن تلك العداوة لو كانت لله تعالى لما تعدت القدر المأذون فيه وما حكاه عن سحنون يوهم أنه لو شهد عليه بعد الخصومة لقبل، والذي نقل المازري عن سحنون إذا شهد رجل بشهادة فبعد ذلك بنحو شهرين شهد المشهود عليه على الشاهد الذي شهد عليه: إن شهادته لا تقبل، وأشار المازري إلى أنه لابد من الالتفات إلى بروزهما في العدالة، وكون الشهادة الأولى لم تقع بما يوجب حقداً لاحتقار ما شهد به الشاهد الأول.

وقال أصبغ فيمن شهد على رجل حاضر فلما أتم الشهادة قال للمشهور عليه والقاضي يسمع: "إنك تشتمني وتشبهني بالمجانين" قال: لا نطرح شهادته إلا أن تثبت العداوة من قبل. هكذا نقل ابن عبد السلام ونقل المازري عن أصبغ رد الشهادة، وعلله بكون الشاهد أقر عن نفسه بعداوة المشهود عليه. ونقل ابن سهل هذا عن ابن الماجشون، ونقل عن أصبغ أنها لا تبطل إذا كان ذلك منه على جهة الشكوى لا على طلب المخاصمة، وتبطل إن كان على وجه الخصومة. خليل: ويمكن أن يجمع بين النقلين الأولين بهذا، واستحسن اللخمي ردها، إلا أن يكون الشاهد مبرزاً. وقوله: (وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةَ) هو مفهو من الشرط أولاً، لكن صرح به هنا لما ترتب عليه بقوله: (فَأَوْلَى بِقَبُولِهَا) وقد حكى الأبهري الإجماع على أن العداوة في الدين لا تبطل الشهادة بدليل جواز شهادتنا على سائر الملل. فروع: الأول: إ ذا طرأ بين المسلم والكافر عداوة لأمر حدث فاختلف أصحابنا في قبول شهادة المسلم حينئذ عليه. عياض: والصحيح عدمه. الثاني: قال مالك: إذا شهد وجب عليه أن يخبر الحاكم بأنه عدو، وعن سحنون لا يخبر تنفيذاً للحق، ولا يسعى في إبطاله. ابن رشد: وهو أصح. الثالث: إذا خاصم الرجل عن غيره ففي مفيد الحكام: تجوز الشهادة عليه في اليسير الذي ليس مثله يورث الشحناء. وفي المتيطية: الخصم هو الذي يخاصم غيره، وقال ابن وهب: هو الوكيل على [671/ أ] الخصومة. ومقتضى قول ابن وهب تجوز شهادته على الوكيل مطلقاً.

وَفِي شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى ابْنِ عَدُوَّهِ بِمَالٍ وَمَا لا يَلْحَقُ الأَبَ مِنْهُ مَعَرَّةُ- قَالَ ابن القاسم: لا تَجُوزُ وَلَوْ كَانَ مِثْلَ أَبِي شُرِيْحٍ وَسْلَيْمَانَ بنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: تَجُوزُ، وَقَالَ ابن الماجشون: تَجُوزُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وِلايَتِهِ، وَقَالَ أَيْضاً: تَجُوزُ إِنْ كَانَ الأَبُ مَيِّتاً .. لما ذكر أن العداوة بين الشاهد والمشهود عليه تمنع الشهادة، أخذ يتكلم فيما إذا كانت تسري إليه. واحترز بقوله: (بِمَالٍ) وبـ (مَا لا يَلْحَقُ الأَبَ فِيهِ مَعَرَّةُ) مما لو شهد عليه بما يلحق أباه منه معرة فإنه يمتفق على رد شهادته، كشهادته بزنى الابن وسرقته؛ لأنه مما يتأذى به الأب، وذكر المصنف أربعة أقوال: الأول لابن القاسم: عدم الجواز، ولو كان الشاهد في الصلاح قد بلغ النهاية. ابن يونس: وهو الصواب. الثاني لمحمد: تجوز وإن كان الأب حياً والابن في ولاية أبيه، هكذا نقل اللخمي عن محمد. الثالث لابن الماجشون: تجوز الشهادة إذا لم يكن الابن في ولاية أبيه، هكذا نقل اللخمي والمازري وغيرهما هذا القول، ولم يصرحوا فيه بمفهوم الشرط؛ أعني: بعدم القبول إذا كان في ولايته؛ نعم هو مفهوم الكلام. الرابع لابن الماجشون أيضاً: لا تجوز بمال إذا كان الأب حياً. اللخمي: يريد: وإن كان رشيداً. وتجوز على الصبي بعد موت أبيه وأجاز ابن القاسم الشهادة إذا شهد على صبي أو سفيه في ولاية عدوه ومنعها مطرف وابن الماجشون.

وَمَنِ امْتَنَعَتْ لَهُ امْتَنَعَتْ فِي تَزْكِيَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ وَتَجْرِيحِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَمَنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ امْتَنَعَتْ فِي الْعَكْسِ .. هذا ضابط حسن مع اختصار اللفظ وفهم المعنى، فالأب يمتنع أن يشهد لولده، فكذلك يمتنع أن يشهد بتزكية من شهد لولده؛ إذ البينة لا تتم إلا بالتزكية، فكان كأنه شهد لولده، وكذلك يمتنع تجريحه لمن شهد على ابنه، وكذلك العدو تمتنع شهادته عليه، فتمتنع شهادة تزكية من شهد عليه أو تجريح من شهد له؛ لأنه يتوصل بذلك إلى ضرر عدوه. الْخَامِسُ: الْحِرْصُ عَلَى إِزَالَةِ التَّعْبِيرِ بِإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ أَوْ بِالتَّأَسِّي كَشَهَادَتِهِ فِيمَا رُدَّ فِيهِ لِفِسْقٍ أَوْ صِباً أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ .. المانع الخامس: أن يحرص الشاهد على دفع ما عير به، والتعيير بالعين المهملة مصدر عير تعييراً. والباء في قوله: (بِإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ أَوْ بِالتَّأَسِّي) للسببية، ثم مثل للأول بـ (كَشَهَادَتِهِ فِيمَا رُدَّ فِيهِ .. إلخ) يعني: إذا شهد في حال فسقه أو صباه أو رقه أو كفره فحكم الحاكم بردها ثم زالت موانعم فأدوها فلا تقبل منهم؛ للتهمة بسبب ما جبلت عليه الطباع البشرية من الحرص على دفع المعرة بقبولها منهم بعد ردها. وقوله: (فِيمَا رُدَّ) تحرز بذلك مما لو شهد بذلك ولم ترد حتى زال المانع- فإنها تقبل لكن بشرط إعادتها بعد زوال المانع. قاله غير واحد. واستدل ابن يونس لذلك بما نقله سحنون عن بعض العلماء، وقال: هو قولي، وقياس قول مالك وأصحابه أن العبد والصبي والنصراني إذا أشهدوا عدولاً على شهادتهم ثم انتقلوا إلى الحال التي تجوز فيها شهادتهم قبل أن تنقل عنهم وغابوا أو ماتوا فشهدوا على شهادتهم- أن ذلك غير مقبول، بخلاف أن لو شهدوا في الحال الثانية بما

شهدوا في الحال الأولى، وقول ابن القاسم في عبد حكم بشهادته يظن حريته فعلم بذلك بعد عتقه- أن الحكم الأول يرد، ثم يقوم الآن فيشهددون له. واحترز أيضاً بقوله: (فِيمَا رُدَّ فِيهِ) مما لو قال القائم بشهادتهم للقاضي: "عند فلان العبد، أو فلان الصغير، أو النصراني" فقال القاضي: لا أجيز شهادة هؤلاء- فإن هذا ليس رداً لشهادتهم، وتقبل شهادتهم بعد ذلك؛ لأن كلامه إنما هو فتوى. قاله غير واحد. وَكَشَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَى فِي الزِّنَى اتِّفَاقاً هذا مثال السبب الثاني، وهو التأسي، وقيده بقوله: (فِي الزِّنَى) لأنها تقبل فيما عداه، وإنما ردت شهادته في الزنى لاتهامه فيها بحرصه على دفع المعرة عنه بأن يجعل غيره مثله، لأن المصيبة إذا عمت هانت، وإذا نزرت هالت، ولهذا قال عثمان رضي الله عنه: "ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين". قال مطرف وابن الماجشون: وكذلك لا تقبل فيما يتعلق بالزنى كاللعان والقذف والمنبوذ. وَكَشَهَادَةِ مَنْ حُدَّ فِي مِثْلِ مَا حُدَّ فِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: تُقْبَلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَأَنَّ وَلَدَ الزِّنَى لا يَنْدَفِعُ عَارُهُ بِالتَّوْبَةِ هذا مثال ثاني للتأسي. وقيد بقوله: (فِيمَا حُدَّ فِيهِ) لأن شهادته تقبل إذا تاب فيما عداه، وإنما اختلف في شهادته فيما حد فيه كشهادة السارق بعد توبته وقطع يده في السرقة، وكذا القاذف والشارب فالمشهور عدم القبول، ومقابل المشهور لمالك من رواية ابن نافع، وبه قال ابن [671/ ب] كنانة وصرح صاحب الاستذكار بالمشهور كالمصنف.

المازري: وقول ابن كنانة هو ظاهر المدونة؛ لقوله فيها: والمحدود إذا ظهرت توبته وحسنت حالته جازت شهادته في الحقوق والطلاق، فالظاهر عموم الحقوق. ورأى بعضهم أن ظاهر المدونة كالمشهور، ولهذا يقع في بعض النسخ قول المصنف: (وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ) إثر: (الْمَشْهُورِ). قوله: (وَفُرِّقَ) أي: على القول بالقبول هنا بينه وبين ولد الزنى، بأن ولد الزنى عاره لا يرتفع بالتوبة بخلاف هذه الأشياء فإن معرتها تزول بالتوبة ويصير الفاعل لها كأنه لم يفعل كالكافر إذا أسلم. وفيه نظر؛ لأنه وإن تاب وحسنت حالته يعلم من الناس أنهم ينظرونه بتلك العين فيجد في نفسه انكساراً فيتسلى بما يصيب غيره من ذلك. السَّادِسُ: الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالأَدَاءِ وَالْقَبُولِ، فَفِي التَّحَمُّلِ كَالْمُخْتَفِي لِتَحَمُّلِهَا: لا يَضُرُّ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ وَقَالَ مُحَمَّدُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَخْدُوعاً أَوْ خَائِفاً. قوله: (فِي التَّحَمُّلِ) يحتمل أن تكون (فِي) للسبية أو للظرفية، ثم بدأ بالكلام على الحرص في التحمل، وذكر أن المشهور لا يقدح، وبه قال أشهب وعيسى بن دينار، وعليه عامة أصحاب مالك وأكثر أهل العلم. ومقابل المشهور إما مبني على القول بأنه لا يجوز حتى يقول المشهود عليه للشاهد: اشهد علي- وهو قول لمالك- وإما مبني على القول بجوازها لكن يرى الاختفاء يضر بها. ابن رشد: وهو قول سحنون، وقول محمد تقييد للمشهور، بل هو من تمامه؛ ففي الموازية قال مالك في رجلين قعدا لرجل من وراء حجاب يشهدان عليه، قال: إن كان ضعيفاً أو مخدوعاً أو خائفاً لم يلزمه، ويحلف: "ما أقر إلا ما ينكر" وإن كان على غير ذلك لزمه،

ولعله يقر خالياً ويأبى من البينة فهذا يلزمه ما سمع منه، قيل: فرجل لا يقر إلا خالياً هل أقعد له بموضع لا يعلم للشهادة عليه؟ قال: لو أعلم أنك تستوعب أمرهما، ولكنني أخاف أن تسمع جوابه لسؤاله، ولعله يقول له في سر: ما الذي لي عليك إن جئتك بكذا؟ فيقول له: لك عندي كذا، فإن قدرت أن تحيط بسرهما فجائز. وَفِي الأَدَاءِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ، فَفِيمَا تَمَحَّضَ مِنْ حَقِّ الآدَمِيِّ قَادِحَةُ، فَإِنْ كَانَتْ حَقاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمِ كَالطَّلاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَقْفِ وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ عَنِ الْقَصَاصِ لَمْ تَقْدَحِ الْمُبَادَرَةُ بَلْ تَجِبُ، وَإِنْ كَانَتْ حَقَّاً لا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلا تَقْدَحُ وَلا تَجِبُ إِلا فِي التَّجْرِيحِ لِمَنْ شَهِدَ عَلَى أَحَدٍ .. حاصل كلامه أن الحقوق ثلاثة: الأول: حق متمحض لآدمي فلا يؤديها قبل أن يسألها، بل رفعه لها قدح في عدالته، نعم قال علماؤنا: يجب عليه أن يعلم صاحبه به إن كان حاضراً، فإن لم يفعل فروى عيسى عن ابن القاسم: ذلك جرحة وتبطل شهادته، وقال مطرف وابن الماجشون: إلا أن يعلم صاحب الحق بعلمهم، وجعله ابن رشد تفسيراً. وقال سحنون: لا يكون ذلك جرحة إلا في حق الله تعالى؛ لأن صاحب الحق إذا كان حاضراً فقد أضاع حقه، وإن كان غائباً فليس للشاهد شهادة. ابن يونس: ويلزم على هذا التعليل أنه إن كان حاضراً لا يعلم أن تلك الرباع له مثل أن تكون تلك الرباع لأبيه فأعارها للذي هي بيده، أو أكراها منه فباعها للذي بيده، والولد لا يعلم أن تلك الرباع كانت لأبيه- أن على الشاهد أن يعلم بذلك وإلا بطلت شهادته. الباجي: وعندي أن ذلك إنما يكون جرحة إذا علم الشاهد أنه إذا كتمها ولم يعلم بشهادته بطل الحق أو دخل بذلك مضرة أو معرة، وأما على غير هذا فلا يلزمه القيام بها؛ لأنه لا يدري لعل صاحب الحق قد تركه.

ونقل في الإكمال قولين آخرين: أولهما: أن ما يكون جرحة في الشهادة نفسها لا يصلح له أداؤها بعد، قال: وهو الظاهر، والثاني: إنما يكون جرحة إذا سكت حتى رأى صاحب الحق صالح عن حقه واضطر إلى شهادته ولم يعرفه بها حتى بطل حقه. الثاني: أن يكون الحق لله تعالى يستدام فيه التحريم، كما لو شهد على رجل بعتق عبده أو أمته أو بطلاق زوجته أو بمخالعته لها أو بكونه رضع معها، وقيد ابن شاس الوقف بأن يكون على غير معينين، وأطلق القول فيه الباجي وابن رشد- فهذا تجب مبادرة الشاهد إلى الشهادة، فإن سكت عنها كان ذلك جرحة في حقه. قال في البيان: ووقع لأشهب في المبسوط أن الشهادة لا تبطل بالإمساك عنها كان الحق بطلاق أو حرية أو بمال. واستبعده، قال: ويجيء عليه أنه لا يلزمه أن يقوم في ذلك بشهادته حتى يسألها. الثالث: أن يكون الحق لله تعالى لكن لا يستدام فيه التحريم بأن تكون المعصية قد انقضت كالزنى وشرب الخمر فلا يجب الابتداء بها. قال في الإكمال: لما جاء في الستر على المسلم، إلا أن يكون مشهوراً بالفسق مشتهراً بالمعاصي مجاهراً بذلك فقد كره مالك وغيره الستر على مثل هذا ورأوا رفعه والشهادة عليه بما اقترف؛ ليرتدع عن فسوقه. وَفِي الْقَبُولِ كَمُخَاصَمَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الآدَمِيِّ، وَفِي مُخَاصَمَتِهِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ وَحَلَفَ [672/ أ] فِيهِمَا قَوْلانِ .. هذا هو الوجه الثالث من وجوه الحرص، فإذا خاصم الشاهد المشهود عليه في حق الآدمي دل ذلك على تعصبه للمشهود له، وأما إن كانت المخاصمة في حق الله فقد اختلف في أربعة تعلقوا برجل ورفعوه للقاضي وشهدوا عليه بالزنى؛ فقال ابن القاسم:

لا تقبل شهادتهم، وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: تقبل، وهو اختيار اللخمي، وكذلك ابن راشد، وقال: إنه أصح؛ لأن أصل المنازعة في سبب الدين. قوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ وَحَلَفَ فِيهِمَا) أي: في حق الله وحق الآدمي، والقول برد الشهادة لابن شعبان، وأخذ ابن رشد من العتبية أنه لا يمنع. ابن عبد السلام: إلا أن يكون الشاهد من جملة العوام فإنهم يتسامحون في ذلك، فينبغي عندي أن يعذروا بذلك. السَّابِعُ: الاسْتِبْعَادُ، وَأَصْلُهُا الْحَدِيثُ: "لا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ" وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَضَرِ؛ لأَنَّهَا مَظِنَّةُ الرِّيبَةِ، فَأَمَّا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا أَوْ رَآهمُاَ أَوْ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَلا رِيبَةَ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ. المانع السابع: - وهو آخر الموانع- الاستبعاد، وذلك لأنه يبعد في العادة إشهاد أهل الحاضرة رجلاً من البادية يحتاج إليه، ويترك شهادة الحاضرين المتيسرين. وقوله: (وَأَصْلُهُا) فيه حذف مضاف؛ أي: وأصل رد هذه الشهادة. وأعاد الضمير على الريبة المفهومة من السياق على حذف مضاف؛ أي: وأصل اعتبارها، والحديث رواه أبو داود، وقال النسائي فيه: ليس بالقوي. (وَمَحْمَلُهُ) أي: الحديث. وكلام المصنف ظاهر التصور، وإنما أخرج الحديث عن عمومه لمعارضته لظاهر قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2] فإنه يتناول البدوي وغيره فحملت الآية على شهادة عدلين لا يستراب في شهادتهما، وحمل الحديث على ما يتسراب فيهما جمعاً بينهم. وقوله: (عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَضَرِ) قيده اللخمي فقال: إلا أن يعلم أنه مخالط لهما أو يكون جميعهم في سفر، وقيد المنع بالوثائق والصدقات، وأما بالقتل والجراح والقذف وما

أشبه ذلك مما لا يقصد في مثله الإشهاد، أو بمال إذا لم يشهد وقال: "مررت بهما" ونحو ذلك- فتجوز، ومنع ابن وهب شهادة البدوي على الحضري في المال وغيره، وقيد بأن يشهد على حضري لبدوي مثله لما في ذلك من التهمة. ابن وهب: واختلف في شهادة الحضري على البدوي؛ فرأى قوم أنها لا تجوز، وأنا أرى أنها جائزة إلا أن يدخلها ما دخل شهادة البدوي على الحضري من الظنة والتهمة. قال في البيان: ومن هذا المعنى شهادة العالم على العالم فإنه وقع في المبسوطة من قول ابن وهب أنه لا تجوز شهادة القارئ على القارئ، يعني العلماء؛ لأنهم أشد الناس تحاسداً وتباغضاً، وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: لا يُقْبَلُ شَهَادَةُ السُّؤَّالِ إِلا فِي التَّافِهِ الَيَسِيرِ؛ لِحُصُولِ الرِّيبَةِ فِيمَا لَهُ قَدْرُ وَبَالُ .. أتى بهذه المسألة لمناسبتها لما قبلها؛ لأن المانع منها الاستبعاد أيضاً؛ لأن مثل هؤلاء لم تجر العادة باستشهادهم وترك الأغنياء المشهورين، وينبغي أن يقيد هذا بما إذا قصد إلى إشهاده، وأما لو قال السائل، مررت بفلان وفلان وهما يتنازعان فأقر فلان لفلان بكذا فتقبل شهادته كالفرع السابق، وإليه أشار اللخمي. فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ غَيْرَ سُؤَّالِ أَوْ سُؤَّالاً لِلإِمَامِ أَوْ لِلأَعَيَانِ قُبِلَتْ مُطْلَقاً عَلَى الأَصَحِّ يعني: فإن كانوا فقراء لا يسألون. بعض القرويين: أو كانوا لا يسألون ولكنهم يقبلون إذا أعطوا. (أَوْ سُؤَّالاً لِلإِمَامِ) يعني: وكذلك إن كان يسأل ولم يشتهر بالمسألة، ولكن يسأل عن فاقته الإمام أو الرجل الشريف- قبلت مطلقاً؛ أي: في القليل والكثير. ومقابل الأصح لابن كنانة: لا تقبل فيما كث بالخمسمائة دينار.

اللخمي: يريد: إذا كان بوثيقة،؛ لأن العادة إنما يقصد بالوثائق غير هؤلاء، وأما إن قال: "سمعته أقر بذلك" فأرى أن تقبل وإن كثر، لكن إنما نقل اللخمي قول ابن كنانة فيما إذا لم يقبل الصدقة قال: واختلف إذا كان متكففاً؛ فقيل: تجوز في اليسير، وقال ابن وهب في العتبية في الرجل الحسن الحال الظاهر الصلاح يسأل الصدقة فيما يتصدق به على أهل الحاجة أو يسأل الرجل الشريف أن يتصدق عليه، وهو معروف بالمسألة ولا يتكفف الناس- لم تجز شهادته، إلا أن يكون ممن يطلب الصدقة عند الإمام، وإذا فرقت وصية رجل، وكذلك المعترض لإخوانه تجوز شهادته. واستبعد المازري قول ابن كنانة ورأى أنه خارج عن قواعد الشرع، ونقل عن ابن القاسم أنه قال: لا تجوز شهادة السائل في الكثير، وتجوز في القليل إذا كان عدلاً. وقول ابن القاسم يمكن أن يكون مراد المصنف بمقابل الأصح. واحترز بقوله: (سُؤَّالاً لِلإِمَامِ) ممن يسأل من هو دونه من الولاة فإن ابن وهب قال: ليس ذلك بعدل لما عرف من حال الولاة. وَلا يَكْفِي فِي زَوَالِ الْفِسْقِ مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ، بَلْ يُرْجَعُ إِلَى قَرَائِنِ الأَحْوَالِ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ بِزَوَالِهَا إِلَى الْعَدَالةِ، وَقَدْ يَظْهَرُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ وَعَنْ بُعْدٍ لاخْتِلافِ حَالِ الظَّانِّ وَالْمَظْنُونِ فِي الْفِطْنَةِ وَالْغَوْرِ، وَقِيلَ: لابُدَّ مِنْ سَنَةٍ، وَقِيلَ: [672/ ب] سِتَّةُ أَشْهُرٍ ... لما كان قبول الشهادة متوقفاً على ارتفاع هذه الموانع، وكان بعضها لا يخفى زواله كالصبا والرق، وبعضها قد يخفى زواله كالفسق والعداوة أخذ يتكلم فيما يدل على زواله وذكر أنه لا يكفي مجرد قوله: "تبت" يعني: في الحكم الظاهر بين الناس، وإلا فالتوبة مقبولة، وإنما اختلف العلماء: هل يقطع بقبولها وهو الصحيح، أو يظن وهو قول القاضي؟ والصحيح ما ذكره المازري وغيره أن المعتبر في الحكم بانتقال الفسق ما ذكره المصنف من اختلاف حال الظان والمظنون.

و (الْفِطْنَةِ) راجعة إلى (الظَّانِّ) وحذف مقابله وهو البلادة (وَالْغَوْرِ) راجع إلى (الْمَظْنُونِ) وحذف أيضاً مقابله ويحتمل أن ترجع (الْفِطْنَةِ) و (الْغَوْرِ) إلى كل منهما. (وَقِيلَ: لابُدَّ مِنْ سَنَةٍ) أي: من حين إظهار التوبة؛ لأن الحكم مرتب عليها في مواضع كالعنين. والقول بالستة أشهر أضعف من القول بالسنة، قاله المازري. وَزَوَالُ الْعَدَاوَةِ كَالْفِسْقِ يعني: أن زوال العداوة يوجب قبول الشهادة، لكن ذلك يختلف بحسب طول الزمان وقرائن الأحوال، والمنصوص هنا أنهما إذا اصطلحا وطال الزمان قبلت شهادة أحدهما على الآخر، واختلفا مع القرب: فمنعه ابن الماجشون، وفي الموازية القبول مطلقاً، هكذا فهم اللخمي والمازري وغيرهما، وتشبيه المصنف يقتضي جريان الأقوال الثلاثة ويعز وجودها؛ اللهم إلا أن يقال: إنما يقصد المصنف التشبيه في الخلاف إذا لم يعين راجعاً، وأما إذا عينه فإنما يشبه في الراجح، وقد تقدم ذلك. وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ قَضَى بِعَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ نُقِضَ الْحُكْمُ، بِخِلافِ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ، وَفِي نَقْضِهِ بِفَاسِقَيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ .. يعني: إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين بعد الفحص عن حالهما ثم ظهر له أنهما عبدان أو كافران أو صبيان نقض الحكم اتفاقاً؛ لأن الحكم إنما كان مستنداً للشاهدين، وقد تبين أن شهادتهما بطلت، وخرج بعض أشياخ المازري خلافاً في العبدين من الفاسقين، بل أولى لوقوع الإجماع على عدم قبول شهادة الفاسق ووقوع الخلاف في قبول شهادة العبد، ورده المازري بأن الفسق معول القاضي فيه على الظن والاجتهاد فلا يأمن الغلط فيه ثانياً، كاجتهاد ظهر بعد الأول، فلا ينقض الأول له، بخلاف العبد، فإنه مقطوع به، فكان كنص ظهر بعد الاجتهاد.

وقوله: (وَفِي نَقْضِهِ بِفَاسِقَيْنِ قَوْلانِ) القولان لمالك، وهما في المدونة، ففي الشهادات: ينتقض كقول ابن القاسم، وفي الحدود: لا ينقض كقول أشهب، وبقول أشهب قال سحنون، وزاد سحنون فقال: وينتقض أيضاً بظهور أحد الشاهدين مولى عليه. قال اللخمي: والأحسن ألا ينتقض في المولى عليه؛ لأن الخلاف في شهادته شهير في المذهب، وإن تبين أن قضاء القاضي وقع بشهادة عدوين أو قريبين فأجراه بعضهم على مسألة الفاسقين، ورده المازري بنحو ما قدمنا عنه. وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ أَدَاءٍ الشَّهَادَةِ بَطَلَتْ مُطْلَقاً، وَقِيلَ: إِلا بِنَحْوِ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ ضمير (حَدَثَ) عائد على الفسق المفهوم من فاسقين. (بَطَلَتْ) أي: الشهادة. (مُطْلَقاً) سواء كانت مما يستسر به كالزنى والسرقة والشرب أو لا كالقتل والجراح، وقيل: إنها تبطل فيما يستسر به لا الجراح والقتل؛ لأنه يؤمن من القتل والجراح من تقدم ذلك قبل أدائه الشهادة، بخلاف ما يستسر به، وهذا قول ابن الماجشون، والأول لمطرف وأصبغ وابن القاسم. وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَبْدُ أَوْ ذِمِّيُّ نُقِضَ وَرُدَّ الْمَالُ إِلا أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهَدِ الْبَاقِي، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مَالَهُ، فَإِنْ نَكَلَ فَلا شَيْءَ لَهُ .. يعني: وإن ظهر المانع في أحد الشاهدين فقط بعد أن قضى بمال بشهادتهمابقي الحكم موقوفاً؛ لأنه بقي مستنداً إلى شاهد واحد، فإن حلف الطالب مع الشاهد الباقي فلا ينتقض، فإن نكل الطالب حلف المطلوب واسترجع المال، هكذا قال في المدونة في باب الرجم، وكمله في كتاب ابن سحنون كما ذكر المصنف فقال: فإن نكل- أي: المحكوم عليه- فلا شيء له، وفي بعض النسخ: (عَلَيْهِ) أي: على الطالب.

وَيَحْلِفُ فِي الْقِصَاصِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ عَصَبَتِهِ خَمْسِينَ يَمِيناً يعني: إن ظهر أن أحد الشاهدين عبد أو ذمي في غير المال، وكان ذلك في القصاص؛ أي: في النفس. قوله: (خَمْسِينَ يَمِيناً) حلف ولي الدم، ولا يحلف وحده كسائر الحقوق، بل لابد من رجل آخر معه من عصبته فأكثر، كما سيأتي في بابه أنه لا يحلف في العمد أقل من رجلين. وَيَكْفِي فِي كُلِّ يَمِينٍ: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَلا يُزَادُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَيَخْتِمُّ الْحُكْمُ .. ذكر هذا- والله أعلم- هنا لرفع توهم أن اليمين في القصاص غير اليمين في المال لعظم حرمة الدماء، ولو سكت عنه لكان أحسن؛ لأنه سينبه على ذلك في فصل اليمين. فَإِنْ نَكَلَ فِي الْقَطْعِ وَالْقِصَاصَ حَلَفَ الْمَقْطُوعُ بِأَنَّهَا بَاطِلَةُ، وَفِي الْقِصَاصِ رُدَّتِ الشَّهَادَةُ وَغَرِمَ الشَّاهِدُ وَالشُّهُودُ فِي الْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ، وَقِيلَ: عَاقِلَهُ الإِمَامِ، وَقِيلَ: هَدَرُ، وَقِيلَ: إِنْ عَلِمَ الشُّهُودُ غَرِمُوا، وَإِلا غَرِمَ الْحَاكِمُ؛ وَقِيلَ: إِنْ عَلِمُوا بِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ لا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ غَرِمُوا، وَإِلا فَهَدَرُ، وَلا غُرْمَ عَلَى الْعَبْدِ. لما ذكر الحكم إذا ظهر أن أحدهما عبد أو ذمي وبين ما إذا حلف المقتص له تكلم على ما إذا نكل، وأتى بمسألة القطع تتميماً للفائدة؛ لأن الحكم فيها كالنفس، [673/ أ] وإلا فالمسألة السابقة إنما هي في القصاص من النفس، وفهم من كلامه أنه لو لم ينكل في القطع لتم القصاص، وهكذا سحنون في كتاب ابنه. وقوله: (فَإِنْ نَكَلَ فِي الْقَطْعِ وَالْقِصَاصَ) اشتمل كلامه على مسألتين كما ذكرنا، ولذلك أجاب الشرط بجواب مركب من جزئين؛ أعني قوله: (حَلَفَ الْمَقْطُوعُ).

و (رُدَّتِ) إلى قوله: (حَلَفَ) راجع إلى مسألة نكول القاطع في القطع، فإذا حلف استحق دية يده، ومفهوم كلام المصنف أنه لو لم يحلف لم يكن له شيء، وإنما حلف المقطوع ليرد شهادة الشاهد الثاني. وقوله: (وَفِي الْقِصَاصِ) متعلق بـ (رُدَّتْ) و (رُدَّتْ) راجع إلى (الْقِصَاصِ) وإنما ردت شهادة الشاهد الثاني في القصاص من النفسلأن ولي الدم نكل، ولم يبق من ترجع عليه اليمين. وقوله: (وَغَرِمَ الشَّاهِدُ وَالشُّهُودُ فِي الْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ) هو أيضاً من باب اللف والنشر؛ لأن قوله: (فِي الْقِصَاصِ) راجع إلى الشاهد، و (الرَّجْمِ) راجع إلى (الشُّهُودُ) أي: الثلاثة الباقية إذا تبين أن الرابع عبد أو ذمي، والقول بأن ذلك على عاقلة الإمام حكاه ابن سحنون عن بعض الأصحاب، وكذلك القول بأنه هدر لا شيء على الحاكم والبينة والمحكوم له. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ عَلِمَ الشُّهُودُ غَرِمُوا، وَإِلا غَرِمَ الْحَاكِمُ) هو قول رابع. وقوله: (عَلِمَ الشُّهُودُ) أي: فإن الذي شهد معهم كما ظهر من أمره. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ عَلِمُوا بِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ لا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ غَرِمُوا، وَإِلا فَهَدَرُ) هو قول خامس. ابن عبد السلام: وهو الأقرب؛ لأنه إذا كان الشهود عالمين بأن أحدهم عبد أو ذمي، وبأن شهادته لا تجوز فهم متسببون في قتل المشهود عليه أو قطع يده، وإن لم يعلموا بشيء من ذلك، أو بمجموع الأمرين فلا غرم عليهم، ولا على الحاكم؛ لأن الواجب الاجتهاد وقد حصل. انتهى. وبقي على المصنف مذهب المدونة: إن علم الشهود فالدية عليهم وإلا فالدية على عاقلة الإمام، ولا يقال هو القول الرابع؛ لأن الغرم هناك متعلق بالحاكم وهنا بعاقتله.

وقوله: (وَلا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ) نحوه في المدونة، وظاهره لا شيء عليه من الحد ولا من الدية، لكن قال فضل معناه: لا شيء على العبد من الدية، وأما حد القذف فذلك عليه، ورأى أصبغ أن العبد يغرم إذا علم، حكاه عنه اللخمي. وَلَوْ حَدَثَتْ تُهْمَةُ الْجَرِّ وَالدَّفْعِ وَالْعَدَاوَةِ بَعْدَ الأَدَاءِ لَمْ تُبْطِلِ الشَّهَادَةَ لما تكلم على حدوث الفسق بعد أداء الشهادة تكلم في حدوث التهمة إما بدفع مضرة أو جلب منفعة وفي حدوث العداوة، وذلك كله بعد الأداء، وذكر أن الشهادة لا تبطل، وهكذا قال أصبغ في العتبية في رجل شهد لامرأة وأثبتها القاضي ولم يحكم بها حتى تزوج الشاهد تلك المرأة أنه يحكم بهأ، قال: وليس ذلك كالوصية؛ يعني: مسألة المدونة: إذا أوصى الرجل بمال فلم يمت الوصي حتى صار الموصى له وارثاً فإن الوصية تبطل. ابن رشد: إلا أن يعلم لذلك سبب قبل أدائها، مثل أن يشهد الرجل للمرأة ثم يتزوجها فيشهد عليها أنه كان يخطبها قبل أن يشهد لها ونحو ذلك، بدليل قول ابن القاسم في الرجل يشهد على الرجل بطلاق امرأته البتة ثم تزوجها، فأتى المشهود عليه ببينة تشهد أن الشاهد كان يخطب هذه المرأة قبل أن يتزوجها هو: أن شهادته تبطل، ولأصبغ في الثمانية: أن الشاهد إذا خاصم المشهود عليه بعد الشهادة لم تبطل شهادته إلا أن يقر أن الذي يطالبه به من ذلك كان قبل إيقاع الشهادة. وَلا يَثْبُتُ حُكْمُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ مُنْفَرِدَةٍ لما تكلم على الشهادة وشرائطها وموانعها تكلم في مراتبها. و (مُنْفَرِدَةٍ) صفة لـ (شَهَادَةِ). واحترز من الحكم بالشاهد واليمين، ولابن القاسم أن المشهور الاكتفاء بالواحد؛ لأنه نائب عن الحاكم، وكذلك الشهدة على الحيازة على القول بالاكتفاء به؛ لأنه كنائب

عن القاضي؛ إذ الأصل حضور القاضي لتحديد ما شهد به شهود استحقاق الأرض، فإذا صعب الحضور على القاضي بعث رجلاً نائباً عنه، وكذلك لا يرد القائف والمرأة الواحدة في الرضاع على أحد القولين؛ لأن القائف على هذا القول مخبر؛ إذ هو مخبر عن علم فكان كالطبيب، ولذلك قالوا: إذا لم يوجد طبيب عدل قبل غيره، وإن لم يوجد مسلم قبل الكافر، وشرط قبول المرأة عن هذا القائل الفشو، وذلك يمنع من انفراد الشهادة. ويعني المصنف بالحكم في قوله: (وَلا يَثْبُتُ حُكْمُ) هو أحد ما وقع التخاصم فيه وما أشبه ذلك، فلا يحسن أن ينقض عليه بأن الشاهد الواحد في الطلاق والعتاق يوجب على الزوج والسيد اليمين؛ فإن اليمين جزء وشرط في طريق الحكم، وليست بحكم، والله أعلم. وَهِيَ مَرَاتِبُ: الأُولَى: بَيِّنَةُ الزِّنَى، وَشَرْطُهُا: أَرْبَعَةُ ذُكُورٍ مُجْتَمِعِينَ غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ يَشْهَدُونَ بِزِنًى وَاحِدٍ وَرُؤْيَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ .. المرتبة الأولى: بينة الزنى، والإجماع على اعتبار الأربعة، إلا طائفة شاذة اكتفت بثلاثة وامرأتين، وهو خلاف القرآن؛ لقوله تعالى: (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء: 15] ولقوله فيما يدفع به حد القذف: (ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ) [النور: 4]. وقوله: (مُجْتَمِعِينَ غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ) هو [673/ ب] المشهور، وقال أشهب: يحد المشهود عليه ولا يضر افتراقهم. قال: ولا ينبغي للإمام أن يؤخر حد من شهد قبل أن يتم الشهادة، وإن هو فعل ولم يحد الأول حتى تمت الشهادة حد المشهود عليه، وقال أبو الفرج: لو سأل الثلاثة أن ينظرهم حتى يأتوا برابع كان معهم لوجب عليه إنظارهم ويجمع الشهادة، وكذلك المشهود عليه. اللخمي: وهو أحسنها.

وقوله: (غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ) ابن عبد السلام: الأقرب أنه نعت لبيان لا تأكيد؛ لأن قوله: (مُجْتَمِعِينَ) لا يفيد إلا مطلق الاجتماع، وهو أعم من أن يكون ذلك في المشهود به أو له وفي زمانه، ثم الشهود هل أدوا شهادتهم مجتمعين أو متفرقين؟ الأمر محتمل لذلك كله بين المصنف بقوله: (غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ) أن مراده كونهم أتوا بشهادتهم في وقت واحد. وقال بعض من تكلم هنا: الأظهر أنه نعت تأكيدي؛ لأن الاجتماع فيه أو في المشهود به مستفاد من قوله: (بِزِنًى وَاحِدٍ) وكذلك أيضاً المشهور اشتراط ما ذكره من الزنى الواحد، وهو الجاري على أصل المذهب أنه لا تلفق الشهادة على الأفعال. وقال ابن الماجشون: إذا اتفقوا في صفة الرؤية واختلفوا في الأيام والمواطن لم تبطل الشهادة. وقوله: (وَرُؤْيَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا .. إلخ) أي: لا بد أن يشهدوا بهذه الرؤية المخصوصة ولا خلاف فيه، ويدل عليه قصة عمر رضي الله عنه لما شهد عنده ثلاثة على المغيرة بن شعبة بالرؤية المذكورة، وقال الرابع: رأيت نفساً تعلو واضطراباً ورجلاها على كتفيه كأنهما أذنا حمار، فقال: الله أكبر، وأسقط الحد، وحد الثلاثة. وَلِلْعَدْلِ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ قَصْداً لِلتَّحَمُّلِ لأنه لا تصح الشهادة إلا بذلك. واحترز بالعدل من غيره فإنه لا يجوز له ذلك؛ لأن من لا تجوز شهادته لا فائدة في نظره، وذكر المازري أن جواز النظر هو ظاهر المذهب. ابن عبد السلام: ومنع ذلك بعضهم فيما أشار إليه بعض الشيوخ، ورأى أنه لا يشهد إلا بنظرة الفجاءة، لأن النظر حرام، والتحمل غايته أداء الشهادة، والأداء غير واجب فوسيلته كذلك، وأشار بعض المخالفين لنا ممن يوافق المذهب على إجازة النظر إلى أنه إنما ينظر لمغيب الحشفة؛ لأنه القدر المحتاج إليه ويكف عن غيره.

فإن قلت: لم اختصت شهادة الزنى بالأربعة؟ قيل: لقصد الستر ودفع العار الذي يلحق الزاني والمزني بها وأهلهما، ولما لم يلحق ذلك في القتل اكتفي باثنين، وإن كان أعظم من الزنى، وقيل: لأنه لما كان لا يتصور إلا من اثنين اشترط أربعة؛ ليكون على كل واحد اثنان، وقيل: لما كان الشهود مأمورين بالستر ولم يفعلوا غلظ عليهم في ذلك ستراً من الله تعالى على عباده. وَاللَّوَاطُ كَالزِّنَى أي: في الاحتياج إلى الأربعة، وبقية الأوصاف، وإباحة النظر. وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ: مَا هِيَ؟ وَكَيْفَ أَخَذَهَا؟ وَمِنْ أَيْنَ؟ وَإِلَى أَيْنَ؟ وَقَالَ سحنون: إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجْهَلُ .. فيه حذف معطوف عليه؛ أي: في الزنى والسرقة. ابن القاسم في المجموعة: ويفرقون في الزنى فقط، وقال أشهب: لا يفرقون إلا أن يستراب في شهادتهم. ابن المواز: فإن غابوا قبل أن يسألهم غيبة بعيدة أو ماتوا نفذت الشهادة وأقام الحد، قال: وإن كان الشهود أكثر من أربعة فغاب منهم أربعة بعد أن شهدوا لم يسأل من حضر، وثبت الحد؛ لأن من حضر لو رجع عن شهادته لثبت الحد ممن غاب، ورأى بعض الشيوخ أن غيبة أربعة منهم لا يمنع سؤال من حضر؛ لاحتمال أن يذكر الحاضرون إذا سئلوا ما يوجب الوقف عن شهادة الغائبين والحاضرين جميعاً. وقيد اللخمي قول محمد: "إذا غابوا" بما إذا كانوا من أهل العلم بما يوجب الحد، وقول سحنون إنما هو منقول عنه في السرقة، ولعل المصنف أتى به إشارة إلى تخريجه في الزنى، ولا يؤخذ من قول المصنف أن قول سحنون إنما هو منقول في السرقة، والتخريج غير لازم لعظم أمر الزنى، ثم الأقرب هو المشهور؛ لأنهم وإن كانوا عالمين فقد يخالفهم القاضي في رأيهم.

وَفِي قَبُولِ اثْنَيْنِ فِي الإِقْرَارِ بِهِ قَوْلانِ أي: أو لابد من الأربعة، والقولان هنا كالقولين في الاكتفاء باثنين على حكم القاضي على رجل بالزنى. وقوله: (بِهِ) أي: بالإقرار بالزنى، وفي بعض النسخ (بِهِمَا) فيعود على الزنى واللواط، لا على السرقة؛ فإنه يكتفي فيها بالاثنين بلا إشكال. ابن شاس، وهذا الخلاف على القول أنه إذا رجع عن إقراره بغير عذر أنه لا يقبل رجوعه. الثَّانِيةُ: مَا لَيْسَ بِزَنًى وَلا مَالٍ وَلا آيلِ إِلَيْهِ كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالطَّلاقِ وَالْعِتْقَ وَالإِسْلامِ وَالرِّدَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْوَلاءِ وَالْعِدَدِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَثُبُوتِهِ وَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَشَرْطُهُا اثْنَانِ ذَكَرَانِ المرتبة الثانية من مراتب الشهادة، وعرفها بثلاثة قيود سلبية: ألا تكون بزنى ولا بمال ولا بما يؤول إلى مال، والأولى لو زاد: ولا يختص النساء به بالعادة؛ لتخرج الولادة ونحوها فإن ذلك يثبت بامرأتين. فإن قيل: لعله سكت عنه اكتفاءً بما يذكره في المرتبة الثالثة. قيل: فكان يستغنى عن قوله: (مَا لَيْسَ بِزَنًى وَلا مَالٍ). ولا يقال: ذكر من أمثلة هذه المرتبة العفو عن القصاص وثبوت القصاص وليس من شرطها الذكران؛ لأن العفو يثبت باليمين والنكول، والقصاص يثبت بالشاهد والقسامة وبقية أنواع اللوث. لأنا نقول: مورد التقسيم في مراتب الشهادة فلا مدخل لما أورد فيها، وإنما كان يلزم السؤال لو جعل مورد التقسيم ما تثبت به الحقوق، وحكى في البيان عن ابن الماجشون وابن نافع: أن النساء يزكين الرجال [674/ أ] إذا شهدوا فيما تجوز فيه شهادتهن، ويلحق

بما ذكره المصنف الشرب والحرابة والسرقة والقذف والإحلال والإحصان والإيلاء والظهار والاستيلاد. الثَّالِثَةُ: الأَمْوَالُ وَمَا يَؤُولُ إِلْيَهَا كَالأَجَلِ وَالْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالإِجَارَةِ وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ مُطْلَقاً، وَجِرَاحِ الْمَالِ مُطْلَقاً، وَفَسْخِ الْعُقُودِ وَنُجُومِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَتَقَ بِهَا فَيَجُوزُ رَجُلُ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ بِالْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ .. أي: الأموال حقيقة، أو عوارض لها كالأجل إذا ادعى المشتري أنه اشترى لأجل وادعى البائع أنه باع نقداً، أو ادعى أحدهما الخيار والآخر البت. (وَالشُّفْعَةِ) أي: أن هذا شفيع أو شفيع بتل السنة أو أسقطها. (وَالإِجَارَةِ) أي: هل أجر منه أم لا؟ (وَقَتْلِ الْخَطَأِ) عده المصنف فيما يؤول إلى المال، وعده غيره مالاً باعتبار الدية. وقوله: (وَمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ مُطْلَقاً) فسره ابن عبد السلام بجراح الخطأ، وفسر قوله: (وَكَذَلِكَ جِرَاحِ الْمَالِ) بالجراح التي لا يقتص منها في العمد؛ لكونها متالف كالجائفة والمأمومة، وفسر شيخنا ما يتنزل منزلة الخطأ بقتل الصبي والمجنون، وأراد بالإطلاق عدم التفرقة، وجعل جراح المال يعم ما لا يقاد من عمده، وجراح الخطأ وفسخ العقود سواء كان اختياراً كالإقالة أو اضطراراً كالفساد (وأَدَاءِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ) وإن أدى إلى العتق. قوله: (وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ بِالْمَالِ) أي: وكله في حياته ليتصرف له. (وَالْوَصِيَّةُ بِهِ) أي: إذا أوصى بأن يتصرف في أمواله بعد وفاته لا أنه أوصى له بمائة مثلاً فإن هذه مال محقق فلا يجري فيها خلاف، ومقابل المشهور في الوكالة والوصية لعبد

الملك، ومنشأ الخلاف هل ينظر إلى أنها آيلة إلى المال فيقبل، أو إلى أنها شهادة على غير مال؟ وكذلك عكس هذا مما هو مال ويؤدي إلى ما ليس بمال وأجازه مالك مثل أن يشهد على شراء الزوج لزوجته فيحلف وتصير ملكاً له فيجب بذلك الفراق، وكذلك على دين متقدم يريد به العتق، أو يقيم القاذف شاهداً أو امرأتين على أن المقذوف عبد ليسقط الحد. الرَّابِعَةُ: مَا لا يَظْهَرُ لِلرِّجَالِ كَالْوِلادَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ وَالاسْتِهْلالِ وَالْحَيْضِ فَيَثْبُتُ بِامْرَأَتَيْنِ وَيُثْبِتُ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِيْنٍ .. المرتبة الرابعة: ما لا يظهر للرجال غالباً، ونبه بذلك على العلة في قبول شهادتهن، ومثله في الولادة، وظاهره أنه لا يحتاج إلى حضور شخص المولود، وهو المشهور خلافاً لسحنون في اشتراط ذلك حتى يشاهده الرجال. قوله: (وَعُيُوبِ النِّسَاءِ) يتناول الحرائر والإماء؛ أما الحرة فلا ينظرها النساء بل تصدق على المشهور خلافاً لسحنون، وقد تقدم ذلك في بابه. وأما الإماء فإن كان العيب بفروجهن فقال المازري: وظاهر المدونة قبول شهادة النساء في ذلك لانخفاض رتبتهن عن رتبة الحرة، وإن كان في غير الفرج مما هو عورة، ففي الموازية وغيرها أن شهادة النساء تقبل فيما تحت الثوب، وقيل: بل يبقى الثوب على موضع العيب ويراه الرجال، فعلى هذا لا تقبل شهادة النساء فيه. وأما الاستهلال فهو أيضاً مما ينفردن به كالولادة. وقوله: (فَيَثْبُتُ بِامْرَأَتَيْنِ) أي: لا بامرأة. المازري: واختلف في الاكتفاء بواحدة إذا أرسلها القاضي وكانت الأمة حاضرة، أما إن ماتت أو غابت فلابد من امرأتين؛ لأنها شهادة بخلاف الوجه الأول عند من اكتفى بالواحدة فإنه نزلها منزلة القاضي كالترجمان والقائف ونحوهما، وهل تقبل هنا شهادة امرأة ورجل؟ ذهب مالك وربيعة وابن هرمز إلى إسقاط شهادة المرأة؛ لأن بحضور

الرجل ارتفعت الضرورة التي لأجلها قبلت شهادة المرأة، وذكر ابن حبيب عمن يرضاه القبول واختاره. وقوله: (وَيُثْبِتُ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ) هو راجع إلى شهادتهن بالولادة والاستهلال. والضمير في: (لَهُ وَعَلَيْهِ) يعود على المولود، فإن شهدتا أنه استهل ومات بعد أمه ورثها، وورثه والده. قوله: (بِغَيْرِ يَمِيْنٍ) هكذا قال مالك وأطلق، ولا خلاف في هذا إن كان القائم بشهادتهن لا يعرف حقيقة ما شهدت به البينة، وإن كان القائم بشهادتهن يتيقن صدقها كالبكارة والثيوبة، فحكى اللخمي والمازري في إلزامه اليمين قولين. ابن عبد السلام: ولا يطرد هذا الخلاف في هذا الفصل كالولادة والذكورة والأنوثة فإن مذهبنا ومذهب علماء الأمصار الاكتفاء بشهادتهما بلا يمين. وفي الموازية في امرأتين شهدتا أن الزوج أرخا الستر، وكان هو أنكر ذلك أن شهادتهما مقبولة مع اليمين، وطرجد بعض الشيوخ هذا الخلاف في سائر مسائل هذا الفصل ورأى غيره أن الزوج ههنا يحقق الدعوى عليها بأنها كذبت فيحسن تعلق اليمين مع شهادة امرأتين بخلاف بقية مسائل الفصل. وَفِي قَبُولِهَا فِي أَنَّهُ ابْنُ فُلانٍ قَوْلانِ أي: اختلف في قبول شهادة المرأتين على أن المولود ذكر؛ فقبلها ابن القاسم لكن بشرط حلف القائم بشهادتهما، وعلله ابن القاسم بأن شهادتهما على مال، وردها مالك في رواية أشهب، واختاره أشهب وسحنون وعلله بأن الجسد لا يفوت والاستهلال يفوت، ولأصبغ قول ثالث: إن طال الأمد حتى [764/ ب] لا يمكنه الاطلاع على حالة المولود لكونه تغير في قبره فإن كان الوارث له بيت المال أو رجلاً بعيداً فإنه يقضي هنا بشهادة النساء، وإن كان ذلك يرجع إلى بعض الورثة دون بعض فكقول أشهب، ورد قوله: بأن

بيت المال كوارث معلوم. قال في النوادر: وجدت له أنه رجع إلى قول أشهب، وفي بعض النسخ أنه ابن فلان، ولا حاجة إلى زيادة (فُلانِ) والله أعلم. مَا لَمْ يَتَعَذَّرْ تَاخِيرُهُ لِلرِّجَالِ ظاهره أن هذا التقييد لمحل الخلاف، وأنه إن تعذر قبلت بالاتفاق، وبذلك صرح ابن راشد، وهذا التقييد وقع لأصبغ وسحنون وغيرهما. وَلَوْ شَهِدَ عَلَى السَّرِقَةِ رَجُلُ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ يريد: أو رجل مع يمين الطالب، ولو وصل هذه المسألة بالمرتبة الثالثة كما فعل ابن شاس لكان أحسن؛ لأنها من الأموال، ولهذا قال ابن عبد السلام: لا خلاف في المذهب في هذه، وإنما اختلف هل يضمن ضمان الغصب وهو مذهب ابن القاسم، أو ضمان السارق وهو مذهب أشهب؟ وَكَذَلِكَ قَتْلُ عَبْدٍ عَمْداً، وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ. أي: وكمسألة السرقة لو شهد رجل وامرأتان على قتل عبد عمداً لثبت المال وهو العبد القاتل؛ إما أن يسلمه ربه أو يفديه بدفع الأرش دون القصاص فلا يقتل العبد المشهود عليه بأنه قاتل، وقد علمت من هذا الكلام أن المصنف أضاف (قَتْلُ) إلى الفاعل، وحذف المفعول. وَعَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ مَوْتِ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ قَبْلَ الآخَرِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ .. فابن القاسم يثبت المال دون النكاح والنسب، وقال أشهب: لا يصح الميراث إلا بعد ثبوت النكاح ولا يثبت ذلك، وقد تقدم هذا في كلام المصنف في النكاح.

وَعَلَى الْمَوْتِ وَلا زَوْجَةَ وَلا مُدَبَّرَ فِي ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ قَوْلانِ هذا معطوف أيضاً على (السَّرِقَةِ) أي: ولو شهد رجل وامرأتان على المدبر، ونحو المدبر الموصى بعتقه، وتزويج البنات وغير ذلك، والقولان في الوصايا؛ الأول من المدونة، قال: وإن شهدت امرأتان مع رجل على موت ميت فإن لم تكن له زوجة ولا أوصى بعتق عبد ونحوه، وليس له إلا قسمة المال فجائزة شهادتهما، وقال غيره: لا تجوز، وجعل صاحب المقدمات هذين القولين قاعدة فقال: المشهور من المذهب أن الشهادة إذا رد بعضها للسنة جاز فيها ما أجازته السنة، وقيل: إنها ترد كلها، وذلك قائم من المدونة من قوله في شهادة النساء للموصى: أن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز إن كان فيها عتق وأبضاع نساء. ومفهوم المدونة وكلام المصنف أنه لو كان هناك عتق أو زوجة أو نحوهما لم تقبل الشهادة بالاتفاق، قال بعضهم: ويقوم من ذلك مثل ما في الواضحة عن ابن الماجشون في الشاهد العدل يشهد أن فلاناً قتله فلان ونحن في سفر، فمات فقضى ودفناه: أنه لا قسامة فيه بالشاهد العدل. قال: وإنما تكون القسامة إذا كان الموت معروفاً، أرأيت لو جعلت القسامة بشهادته على القتل الغائب فأقسم الولاة وقتلوا أيعتق أم ولده ومدبره ويفرق بينه وبين زوجته بالواحد؟! هذا لا يكون. أصبغ: ويستأني السلطان بذلك، فإن جاء ما هو أثبت من هذا وإلا حكم في ذلك بالقسامة مع الشاهد، وبموته وتعتد زوجته وأم ولده وينكحن، قال: وقد قيل: يقسم ولاتته ويقتل قاتله، ولا يموت في المرأة ولا في رقيقه، قال: وهذا أضعف الأقوال. وَلَوْ أَقَامَ شَاهِداً فَطُولِبَ بِالتَّزْكِيَةِ أُجِيبَ إِلَى الْحَيْلُولَةِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لما فرغ من مراتب الشهادة شرع فيما يترتب عليها قبل تمامها، وكلامه صريح في أن المسألة مفروضة في استحقاق المعينات، واعترض ابن عبد السلام ما ذكره المصنف من

الحيلولة بالشاهد المجهول الحال، وهي إنما تكون بشاهدين باتفاق أو بشاهد واحد مقبول ولم يرد المستحق أن يحلف معه، بل ذكر أن له شاهداً آخر انتهى. ووقع في بعض النسخ: (شَاهِديْنِ) وهو الذي في الجواهر ولا إشكال عليها، على أنه وقع في كلام عبد الحق وغيره نحو كلام المصنف أنه يحال بالشاهد وإن لم تثبت عدالته، وذكر غير واحد ممن صنف في الأحكام أن الذي به القضاء: لا يكون الإيقاف إلا بشاهدين وحيازتهما لما شهدا به. واختلف الأندلسيون في الواحد العدل؛ فأوجب ذلك به عبد الله بن يحيى وأبو صالح، وروي عن ابن لبابة وعن سحنون، وبه قال ابن القاسم في سماع عيسى؛ لأنه قال فيمن ادعى زيتوناً بيد رجل وأقام شاهداً: فإن كان عدلاً حلف القائم وأخذه، وإن كان الحاكم ممن لا يقضي بالشاهد واليمين وقف ذلك. وفي أحكام ابن بطال: لا تجب العقلة إلا بشاهدين، وقاله ابن لبابة أيضاً وغيره. عياض: وتؤول على قول ابن القاسم، وقال ابن بطال: وهو قول ابن القاسم، ولابن العطار في وثائقه: لا تجب العقلة بشاهد واحد، لكن يمنع من إحداث بنيان أو بيع أو غيره، ولا يخرج عن يده، وفي مسائل ابن زرب: كل ما يغاب عليه من العروض وغيرها يوقف بشاهد عدل، بخلاف الأصول لا تعقل إلا بشاهدين وحيازتهما. ابن سهل: الذي عليه الفتوى: إن كانت الدعوى في دار اعتقلت بالقفل، وإن كان في أرض منع من حرثها بعد التوقيف، وإن كانت في شيء مما له خراج وقف الخراج، وإن كانت حصته فيدار أو أرض اعتقلت الدار كلها والأرض وجميع الكراء فيما له كراء. وقيل: يوقف من الكراء ما يقع للحصة المدعى فيها فقط، ويدفع سائره إلى [675/ أ] المدعى عليه، قال: والأول أصوب عندي؛ وكان سحنون يؤجل المعقول عليه في الإخلاء اليومين والثلاثة.

وإن سأله أن يترك فيها ما ثقل عليه إخراجه فعل، ثم يغلقها ويطبع عليها ويكون المفتاح عنده، وإن كانت في غير الحاضرة بعث أميناً يغلقها عليه. وَلا يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِ أُجْرَةِ الْعَقَارِ. ابن عبد السلام: لعل معناه إذا سبق عقد الكراء الخصام، وأما إن أراد أن يعقد الكراء بعد الشروع في الخصام فلا يبعد ذلك على ظاهر المدونة، وفي كتب الأحكام خلاف ذلك. انتهى. وذكر في غلة المعتقل ثلاثة أقوال: أولها: أنها للمدعي وهو قول ابن القاسم. والثاني: مذهب المدونة أن الغلة للذي كانت في يده حتى يقضى بها للطالب؛ لأنها لو هلكت كان ضمانها من المطلوب. الثالث: في الموطأ أنها للأول إلا أن يثبت حق الثاني. وَتُحَالُ الأُمَةُ وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ إِلا أَنْ يَكُونَ مَامُوناً عَلَيْهَا، وَقِيلَ: تُحَالُ الرَّابِعَةُ مُطْلَقاً. يعني: تحال الأمة من يد المدعى عليه إما بالشاهد العدل أو بالشاهدين كما تقدم، وإن لم يطلب ذلك المدعي؛ صيانة للفروج، إلا أن يكون السيد مأموناً فيؤمر بالكف عنها. وقيل: تحال الرابعة مطلقاً؛ أي: كان أميناً أم لا، وعزاه ابن شاس لأصبغ، وزاد عنه: وإن كانت من الزخش رأيتها كالعبد، وينبغي إن كان مكذباً لمن شهد لخصمه مصمماً على ذلك أن يحال بينهما ولو كان مأموناً؛ لأنه يعتقد أنها حلال له. وَمَا يَفْسُدُ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا: يُبَاعُ وَيُوقَفُ ثَمَنُهُ إِنْ كَانَ شَاهِدَانِ، وَيُسْتَحْلَفُ وَيُخَلَّى إِنْ كَانَ شَاهِدُ .. (وَيُسْتَحْلَفُ) أي المدعى عليه، ما يستحق من هذا شيء.

(وَيُخَلَّى) أي: المدعى فيه تحت يد المدعى عليه، وتبرأ منه بقوله: (قَالُوا) لإشكاله، وذلك لأن الحكم كما يتوقف على الشاهد الثاني فكذلك يتوقف على عدالة الشاهدين؛ فإما أن يباع ويوقف ثمنه فيهما، أو يخلى بينه وبين من هو بيده فيهما. وأجاب صاحب النكت: بأن مقيم العدل قادر على إثبات حقه بيمينه، فلما ترك ذلك اختياراً صار كأنه مكنه منه بخلاف من أقام شاهدين أو شاهداً ووقف ذلك القاضي لينظر في تعديلهم لا حاجة عليه في ذلك؛ لعدم قدرته على إثبات حقه، وأشار المازري إلى فرق آخر وهو أن الشاهدين المجهولين أقوى من الواحد؛ لأن الواحد يعلم قطعاً الآن أنه غير مستقل، والشاهدان المجهولان إذا عدلا فإنما أفاد تعديلهما الكشف عن وصف كانا عليه حين الشهادة، ويحتمل أن وجه الإشكال الذي أراده ما ذكر ابن عبد السلام مقتصراً عليه فإنه قال: إنما تبرأ منه لأنهم مكنوا من الطعام من هو بيده بعد قيام شاهد ولم يمكنوه منه، بل يباع ويوقف ثمنه إن قام له شاهدان، والشاهد أضعف. قال: فإن قلت: ولأجل أن الشاهد الواحد أضعف من الشاهدين أبقي الطعام بيد المدعي عليه؛ لأنه إذا ضعفت الدعوى لضعف الحجة ضعف بسبب ذلك أثرها، فإبقاء الطعام بيده ليس هو لما توهم من تقديم الأضعف على الأقوى، بل عين ترجيح الأقوى، وأجاب عن ذلك: بأنه لو كان صحيحاً للزم مثله فيما يخشى فساده أن يحلف من هو بيده ويترك له يفعل فيه ما أحب، قال: ويجاب عن أهل المذهب بأن ما يخشى فساده قد تعذر القضاء بعينه للمدعي لما يخشى عليه من الفساد قبل ثبوت الدعوى، فلم يبق إلا النزاع في ثمنه، فهو إذا كدين على من هو بيده فيمكن منه بعد أن يحلف؛ ليسقط حق المنازع في تعجيله له، ولا يلزم مثل ذلك فيما أقام عليه شاهدان؛ لأن حق المدعي فيه أقوى من حق المدعى عليه.

وَيَشْهَدُ الأَصَمُّ فِي الأَفْعَالِ، وَالأَعْمَى فِي الأَقْوَالِ قدم المصنف الأصم للاتفاق عليه، وللإيماء إلى الاستدلال على أبي حنيفة والشافعي في عدم قبولهما شهادة الأعمى، والخلاف مبني على أنه هل يمكن أن يحصل له علم ضروري بأن هذا صوت فلان أم لا، واحتج مالك للقبول بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" فأمر بالإمساك عند ندائه وهو لا يعلم إلا بالصوت، وبأن الناس كانوا يأخذون عن أزواجه صلى الله عليه وسلم وهم إنما يسمعون منهن من وراء حجاب. ربيعة: ولو لم تجز شهادة الأعمى لما جاز وطء أمته ولا زوجته، لأنه لا يعرفها إلا بكلامها. وَفِي الاعْتِمَادِ عَلَى الْخَطِّ فِي ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ- خَطُّ الْمُقِّرِ، وَخَطُّ الشَّاهِدِ الْمَيِّتِ أَوِ الْغَائِبِ، وَخَطُّ نَفْسِهِ- طَرِيقَانِ: الأُولِ: إِجْمَالُ الْمَذْهَبِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: تَجُوزُ فِي الأَوَّلِ خَاصَّةً، وَرَابِعُهَا: وَفِي الثَّانِي. وَالْغَيْبَةُ الْبَعِيدَةُ قِيلَ: مَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَقِيلَ: مِثْلُ مَكَّةَ مِنَ الْعِرَاقِ .. هكذا حكى ابن شاس الطريقين، و (طَرِيقَانِ) مبتدأ خبره (وَفِي الاعْتِمَادِ). وفي بعض النسخ (الأُولَى: إِجْمَالِيَّةُ) وفي بعضها: (الأُولِ: إِجْمَالي) وهما على تأنيث الطريق وتذكيره، وفي بعض النسخ: (الأُولَى: إِجْمَالِي) أي: طريق إجمالية، وفي بعضها: (الأُولَى: إِجْمَالُ) أي: ذات إجمال. وقوله: (ثَالِثُهَا .. إلخ) فيكون القول الأول الجواز في الثلاثة، والثاني عكسه، والثالث: الجواز في خط المقر دون الآخرين، والرابع: تجوز في خط المقر وخط الشاهد الغائب أو للميت ولا تجوز في خط نفسه، وقد علمت أن الأول أقواها والثاني يليه؛ لأن كل من قال بالإجازة في الأخير أجاز فيهما.

وفهم من قول المصنف: (الْمَيِّتِ أَوِ الْغَائِبِ) أنها [675/ ب] لا تجوز على الحاضر، وكذلك الغائب القريب، لأن امتناع الشاهد من أداء شهادته مع قرب موضعه من القاضي ريبة، فلذلك اختلف في تحديد الغيبة على ما ذكره المصنف، والتحديد بمسافة القصر لابن الماجشون، والتحديد الثاني لأصبغ. ابن عبد السلام: والأحسن قول سحنون عدم التحديد إلا فيما ينال الشاهد فيه المشقة، والقاضي يعلم ذلك عند نزوله، هذا ما فهمته من كلامه وجرت العادة عندنا أن اختلاف عمل القضاة يتنزل منزلة البعد، وإن كان ما بين العملين قريباً؛ لأن حال الشاهد يعلم في بلده وعند قاضيه، ولا يعلم حاله في غير بلده، وفيه مع ذلك ضعف؛ فإن الذي يشهد على خطه كالناقل عنه، ولابد أن يعدل الناقل من نقل عنه، أو تكون عدالته معلومة عند القاضي. الثَّانِيةُ: تَفْصِيلُ؛ أَمَّا عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَجَائِزَةُ كَإِقْرَارِهِ وَلا يَحْلِفُ عَلَى الأَصَحِّ ظاهره أنه يتفق هنا على القبول، وكذلك قال ابن المواز وابن سحنون. قال في البيان: لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما روي عن محمد بن عبد الحكم: لا تجوز الشهادة على الخط، وأطلق. ابن عبد السلام: وما حكاه من الخلاف في اليمين ليس بجيد؛ فإن الذين ذكروا الخلاف في الحلف إنما هم أصحاب الطريق التي ذكروا فيها الخلاف في إعمال الشهادة على خط المقر، ومن رأى الاتفاق على إعمالها لم يحتج إلى زيادة اليمين. وكان حق المصنف أن يذكر الخلاف في اليمين في الطريق الأول لا في هذه. وفي الجلاب: إذا ادعى رجل على رجل دعوى فأنكرها فشهد له شاهدان على خطه دون لفظه ففيها روايتان: إحداهما أنه يحكم له بالشهادة على الخط، والأخرى أنه لا يحكم بها.

وإذا قلنا أنه يحكم له بالشهادة على الخط فهل عليه يمين مع الشاهد أم لا؟ فيها روايتان: إحداهما أنه يحكم له بمجرد الشهادة على الخط، والأخرى أنه لا يحكم بمجرد الشهادة على الخط حتى يحلف معها فيستحق حقه بالشهادة واليمين. ومنشأ الخلاف هل يتنزل الشاهدان على خطه منزلة الشاهدين على الإقرار، أو منزلة الشاهد فقط لضعف الشهادة على الخط؟ وإذا قلنا بإعمال الشهادة على خط المقر ففي الواضحة: عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ: لا تجوز في طلاق ولا عتاق ولا حد من الحدود ولا كتاب قاض إلى قاض، وإنما تجوز في الأموال فقط، قالوا: وحيث لا تجوز شهادة النساء ولا الشاهد مع اليمين فلا تجوز على الخط، وحيث تجوز تجوز، ولمالك في العتبية والمختصر في امرأة كتب إليها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له: إن وجدت من يشهد لها على خطه نفعها. ابن رشد: فكان من أدركت من الشيوخ يقول: ما حكى ابن حبيب هو مذهب مالك لا خلاف فيه، وأن معنى قول مالك في العتبية والمختصر: "نفعها ذلك" أي: تجب لها اليمين على الزوج، قال: وعندي أن كلام ابن حبيب إنما هو في الشهادة على خط الشاهد لا على خط المقر، بل هي جائزة على خطه أنه طلق أو نكح أو عتق. وفي أحكام ابن سهل: عن محمد بن الفرج مولى ابن الطلاع أنه قال: الأصل في الشهادة على الخطوط من قول مالك وأكثر أصحابه أنها لا تجوز في الحقوق والطلاق والأحباس وغيرها. ابن رشد: ومعنى الشهادة على الطلاق إذا كان الخط بإقراره على نفسه بأنه طلق زوجته، مثل أن يكتب إلى رجل يعلمه أنه طلق زوجته، أو يكتب إلى زوجته بذلك على هذا الوجه فيشهد لها على خطه، وأما إن كان الكتاب إنما هو بطلاقه إياها ابتداءً فلا يحكم عليه به، إلا

أن يقر أنه كتب به مجمعاً على الطلاق، وفي قبول قوله أنه كتب غير مجمع على الطلاق بعد أن أنكر أن يكون كتبه اختلاف. فروع: الأول: قال في البيان: شهادة الرجل على نفسه إقرار عليها، وإقراره على نفسه شهادة عليها، فإذا كتب الرجل شهادته في ذكر الحق المكتوب عليه، أو كتب ذكر الحق ولم يكتب فيه شهادته فقد أقر على نفسه؛ إذ لا فرق بين أن يكتب "لفلان علي كذا، أو لفلان على فلان كذا ويسمي نفسه". وإن كتب ذكر الحق على نفسه بيده ثم كتب فيه شهادته فهو أقوى في الإقرار؛ لأنه إقرار بعد إقرار، قال: ونزلت في أيام ابن لبابة وأفتى بخلاف معاصريه بعدم الجواز، وحكاه عن مالك من رواية ابن نافع، قال: وهو غلط؛ لأن الموجود في المبسوط من قول ابن نافع وروايته أنها جائزة وإنما الخلاف إذا كتب شهادته في ذكر الحق على أبيه، أو أقر أن شهادته فيه وزعم أنه كتبها بغير حق، أو أنكرها فشهد على خطه فقال مطرف وأصبغ: يؤخذ بالحق؛ لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه، وقال ابن الماجشون: ليس ما شهد به على غيره كما شهد به على نفسه، ولا يؤخذ منه الحق إلا بالإقرار سوى خط شهادته، ومحمله محمل الشهادة لا محمل الإقرار، واختار ابن حبيب الأول. ابن رشد: والثاني أقيس. الثاني: إذا ادعى رجل على رجل بمال فأنكر، فأخرج المدعي صحيفة مكتوبة بإقرار المدعى عليه وزعم أنها خطه فأنكره، وطلب المدعي أن يجبر المدعى عليه أن يكتب بحضرة العدول ويقابلوا ما كتبه بما أظهره المدعي فأفتى عبد الحميد بعدم جبره، وأفتى اللخمي بجبره على ذلك على أن لا يطول تطويلاً لا يمكن أن يستعمل فيه خطاً غير خطه، واحتج المازري للأول بأن إلزام المدعى عليه ذلك كإلزامه إحضار بينة تشهد عليه بما قاله خصمه، وهو غير لازم قطعاً، وأشار اللخمي إلى الفرق بأن البينة قد يقطع

بكذبها؛ فلا يلزمه أن يسعى في أمر يقطع ببطلانه، بخلاف الذي يكتب [676/ أ] خطه ويطول تطويلاً يؤمن معه التضييع، ثم البينة تقابل ما كتبه بما أحضره المدعي وتشهد بموافقته أو مخالفته. الثالث: إذا أقام شاهداً واحداً على الخط فروايتان حكاهما ابن الجلاب، وهما مبنيتان على أنه إذا شهد له اثنان هل يحتاج إلى يمين أم لا؟ فمن قال: لا يحتاج إلى يمين أعمل الشهادة هنا، ومن قال: يحتاج أبطل الشهادة هنا، وإذا قلنا: يحكم له به فيحتاج إلى يمينين، يمين مع شاهده، ويمين أخرى ليكمل السبب. الشرمساحي في شرح الجلاب: وصح أن يحلف بيمينين في حق واحد؛ لأنهما على جهتين مختلفتين لا على جهة واحدة. وَأَمَّا الثَّانِي فَرِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهَا جَائِزَةُ، وَضَعَّفَهَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ يُشْهِدْهُ عَلَيْهِا، وَصَوَّبَهُ الْبَاجِيُّ إِلا فِي الأَحْبَاسِ وَنَحْوِهَا، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِي إِخْبَارِهَا وَلا يَتَسَاهَلُ فِي كِتَابَتِهَا .. يعني: وأما القسم الثاني وهو الشهادة على خط الشاهد الغائب أو الميت. وجعل المصنف المشهور من الروايتين أو أشهرهما الجواز على اختلاف النسخ، وتبع في ذلك صاحب البيان؛ لأنه قال: لم يختلف قول مالك في الأمهات المشهورة في إعمالها وإجازتها، وروي عنه أنها لا تجوز، وإليه ذهب محمد. وقال الباجي: مشهور قول مالك أنه لا تجوز الشهادة على خط الشاهد، وروى ابن القاسم وابن وهب إجازتها، وقاله سحنون، واحتج محمد لما اختاره من رد الشهادة بما ذكره المصنف عنه أن غاية خطه أن يكون كلفظه وهو لو سمعه بنص شهادته لم يجز له نقلها عنه وصوب الباجي تضعيف محمد إلا في الأحباس، وأعاد المصنف الضمير في: (صَوَّبَ) على ما فهم من ضعفها.

و (الْبَاجِيُّ) هنا هو ابن رشد، وإنما التبس على المصنف كعادته، قال في البيان: والذي جرى به العمل عندنا على ما اختاره الشيوخ إجازتها في الأحباس وما جرى مجراها مما هو حق لله تعالى وليس بحد. وقال ابن أبي زمنين: الذي جرى به العمل أن الشهادة على الخط لا تجوز إلا في الأحباس خاصة. قوله: (وَالْفَرْقُ .. إلخ) هو رد على كلام محمد؛ لأن محمد قاس رد الشهادة هنا على ردها في سماع الشهادة، ففرق بينهما بأن الشاهد قد يتساهل فيما يخبر به بخلاف التي يكتبها فإنه لا يعضها إلا بعد تحققها. بعض الشيوخ: ولو كتب مع ذلك الإذن في النقل عنه لما اختلف في قبول الشهادة على خطه. ابن عبد السلام: لعله يريد أن ينفي خلاف ابن المواز لا نفي الخلاف مطلقاً، فقد علل بعض من منع الشهادة على خط الشاهد أن الخطوط كثيراً ما يضرب عليها، فلا يقع الجزم بها، وهذه العلة لا تنتفي بكتاب الإذن في نقل الشهادة. وَعَلَى قَبُولِهَا لَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مَنْ أَشْهَدَهُ عَلَيْهَا فَقَوْلانِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: لا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ لِمَا قَدْ يَتَسَاهَلُ النَّاسُ فِي وَضْعِهَا عَلَى مَنْ لا يَعْرِفُونَ يعني: إذا فرعنا على قبول الشهادة على الخط، فلو لم يعرف الشاهد على الخط أن الشاهد الأول وهو المشهور على خطه كان يعرف من أشهده معرفة العين لم يجز له أن يشهد على خطه، وهذا قول ابن زرب، والقول الثاني: الجواز بناءً على أن الشاهد لا يضع خطه إلا على من يعرف. وقوله: (الْبَاجِيُّ) هو ابن رشد، قال: لا ينبغي أن يختلف في عدم الجواز لما قد يتساهل الناس فيه من وضع شهادتهم على من لا يعرفون. وعلى هذا فيحتاج الشاهد على الخط أن يضمن شهادته أن المشهود على خطه يعرف من عليه الحق، وهكذا قال أحمد بن سعيد.

تنبيه: قالوا: ظاهر قول ابن القاسم أن الشهادة على الخط إنما تكون في معرفة الخط، ومعرفة المشهود له كمعرفة الحيوان والنبات وسائر الأشياء لا فرق بين ذلك، ووقع في كتاب القزويني أن الشهادة في ذلك إنما هي على العلم. فرع: قال مالك: ولا تجوز الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب حتى يقول: إنه كان في تاريخ الشهادة عدلاً ولم يزل على ذلك حتى توفي؛ احتياطاً من أن تكون شهادته سقطت بجرحة، أو كان غير مقبول الشهادة. وَفِي قَبُولِهَا فِي غَيْرِ الأَمْوَالِ قَوْلانِ القول بأنها تختص بالأموال لمطرف وابن الماجشون وأصبغ، قالوا: ولا تجوز الشهادة على الخط إلا حيث اليمين مع الشاهد، والقول الآخر لمالك وقد تقدم قول ابن سهل نقلاً عن ابن الطلاع، قال: الأصل من قول مالك أن الشهادة على الخط تجوز في الأحباس والطلاق وغيرهما. وفي البيان: الذي جرى به العمل واختاره الشيوخ أنها تجوز في الأحباس وما جرى مجراها مما هو حق لله تعالى وليس بحد، وذكر ابن عبد السلام عن بعضهم أنه يرى الاتفاق على قبولهم في غير الأموال. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْوُ وَلا رَيبَةُ فَلْيُشْهِدْ. قَالَ مُطَرِّفُ: ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: وَلا يُشْهِدُ حَتَّى يَذْكُرَ بَعْضَهَا، وَالأَوَّلُ أَصْوَبُ؛ إِذَ لابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ يعني: وأما القسم الثالث؛ وهو شهادة الشاهد على خط نفسه ولا يذكر الشهادة فقال مالك أولاً: إذا كان الكتاب نقياً وليس فيه محو ولا ريبة فليشهد، وبه أخذ مطرف وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم وابن دينار وابن وهب وابن حبيب، وسحنون في نوازله.

مطرف: وعليه جماعة الناس، ثم رجع مالك فقال: لا يشهد حتى يذكر بعضه، وهو قوله في المدونة، قال فيها: [676/ ب] وإذا عرف خطه في كتاب فيه شهادته فلا يشهد حتى يذكر الشهادة ويوقن بها، ولكن يؤدي ذلك كما علم ثم لا تنفع الطالب. وفي البيان في هذه المسألة خمسة أقوال: الأول: أنها شهادة جائزة يؤديها ويحكم بها. والثاني: أنها غير جائزة لا يؤديها ولا يحكم بها. والثالث: أنها غير جائزة إلا أنه يؤديها، ولا بحكم بها. والرابع: أنها إن كانت في كاغد لم يجز له أن يشهد، وإن كانت في رق جاز له أن يشهد، قال: يريد والله أعلم: إذا كانت الشهادة في بطن الرق ولم تكن على ظهره؛ لأن البشر في ظهره أخفى منه في الكاغد. والخامس: إن كان ذكر الحق والشهادة بخطه جاز أن يشهد، وإن لم يكن له بخطه إلا الشهادة لم يشهد. قوله: (حَتَّى يَذْكُرَ بَعْضَهَا) ظاهره أنه إذا عرف خطه وذكر بعض ما فيه أنه يؤديها وينفع، وظاهر المدونة وهو المشهور عندهم أنه يؤديها ولا ينفع، وإنما ينفع إذا ذكرها كلها، وصوب جماعة المرجوع عنه بما ذكره المصنف من أنه لابد للناس من ذكل لكثرة نسيان الشاهد المنتصب، ولأنه لو لم يشهد حتى يذكرها لما كان لوضع رسم خطه فائدة. تنبيه: معنى اشتراط انتفاء المحو والريبة: إذا لم يكن معتذراً عنه في الوثيقة، وأما إذا كان معتذراً عنه فهو من ريبة الوثيقة على ما قاله بعض كبار الشيوخ، والتأدية عند من يقول بها مشروطة بأن يكون على بصيرة أنه لم يكتب قط مسامحة، وإن كان في بعض الأزمنة يتسامح في الكتابة، فلا يؤدي شيئاً لا يعلمه، قاله عياض وغيره.

فَعَلَى الأَوَّلِ يُؤَدِّيهَا وَلا يَقُولُ لِلْحَاكِمِ حَالَهُ، قَالَوا: وَإِنْ قَالَهَا فَلا يَقْبَلْهَا، وَعَلَى الثَّانِي قَالَ مَالِكُ: يُؤَدِّيهَا وَيَقُولُ حَالَهُ .. أي: قول مالك الأول، وقال ابن شاس قالوا: تبرياً منه؛ لأنه كيف يجوز للشاهد أن يكتم الحاكم ما لو أعلمه به لم يقبلها؟ ثم إنهم قالوا: يلزمه أن يؤديها. وروى ابن وهب في موطأه القبول إذا ذكر الشاهد حاله وهو ظاهر؛ إذ يسلم من الإشكال الذي أشار إليه المصنف. وقال ابن عبد السلام: ولا يريد بقوله: (فَعَلَى الأَوَّلِ) التفريع على القول الأول؛ فإنه لو كان تفريعاً عليه للزمه البيان ولم ينفعه، وإنما معناه أن الذي ينبغي للشاهد أن يفعله على تقدير أن يكون مذهب القاضي هو قول مالك الأول. خليل: وهذا كلام ليس بظاهر، ثم هو مخالف لما ذكره صاحب النوادر وابن شاس وغيرهما، وجعل ابن عبد السلام ما ذكره المصنف يقرب من مذهب المدونة، وليس هو في الحقيقة، فإن قوله في المدونة: "لا ينتفع بها الطالب" دليل على أنه يخبر الحاكم بحاله ولابد وإلا لنفعت، وهذا القول الذي حكاه المصنف قال فيه: إنه لا يقول للحاكم حاله، وهذا هو مذهب المدونة، ولكن نقص منه المصنف موضع الحاجة؛ وهو: أنه يؤديها ولا ينتفع. ابن محرز: وكأنه يقول: هي لا تنفع عندي، ولكن ترفع للقاضي ليجتهد فيها. وقال ابن المواز: لا يرفعها أصلا. وجعل ابن رشد قوله في المدونة وقول ابن المواز مفرعين على القول الثاني. وتعقب المتأخرون مذهب المدونة بأنه كيف يجوز للشاهد أن يحمل القاضي على أن يحكم بما هو عند الشاهد خطأً فيكون معيناً له على الوقوع في الخطأ ولا يجوز؟! وأجيب بأن هذا لا يلزم على القول بتصويب المجتهدين، ولهذا أخذ صاحب البيان من هذا

الموضوع أن مالكاً يرى أن كل مجتهد مصيب، واختلف كيف يؤديها على القول بأنه لا ينتفع بها؛ فروى أشهب أنه يقول: إن كتاباً يشبه كتابي، وأظنه إياه، ولست أذكر شهادتي ولا أني كتبتها، وقال ابن القاسم: يقول: هذه شهادتي بخط يدي ولا أذكرها. وَمَنْ لا يُعْرَفُ نَسَبُهُ فَلا يَشْهَدُ إِلا عَلَى عَيْنِهِ لئلا يضع غير اسمه عليه. قال مالك في العتبية: وأحب إلي أن يشهد على من لا يعرف فإن عرفه بعضهم ففيه بعض السعة، وهكذا قال في البيان: إن شهد عليه جماعة فلمن لا يعرفه منهم أن يضع شهادته عليه، وهو من ذلك في سعة؛ إذ قد أمن بمعرفة بعضهم له أن يكون قد تسمى باسم غيره، وأما إذا لم يعرفه أحد فيكره لهم أن يضعفوا شهادتهم عليه؛ مخافة أن يكون تسمى باسم رجل فيقر أنه قد باع داره من هذا، أو يقر له على نفسه بحق فيكتبون شهادتهم عليه، فيشهد على خطوطهم بعد موتهم فتجوز الشهادة، وتؤخذ الدار من صاحبها أو الحق بغير حق، قال ذلك مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وذلك على مذهب من يحيز الشهادة على خط الشاهد. انتهى. ونقل ابن مزين عن بعضهم: أنه إن كان معروفاً اكتفي باسمه واسم أبيه وقبيلته، وإن كان مجهولاً كتب اسمه واسم أبيه وجده وقبيلته ومسكنه. ابن مزين: وليس بشيء؛ لأن المجهول قد يخاف أن يتسمى بغير اسمه وينتمي إلى غير قبيلته وإلى غير مسكنه، قال: والصواب في المجهول أن ينعت بنعته ويكتب اسمه واسم أبيه وقبيلته، فإذا جهله الشاهد حلاه بتحليته ووصفه بصفته، فإن كان حاضراً قطع عليه الشهادة، وإن كان ميتاً أو غائباً فعلى صفته، وعلى هذا اقتصر المصنف. وَلا يَشْهَدُ عَلَى مُتَنَقَّبَةٍ حَتَّى تَكْشِفَ وَجْهَهَا لِيُعَيِّنَهَا [677/ أ] عِنْدَ الأَدَاءِ قد تقدم قريب من هذا من كلام المصنف في كتاب النكاح، وهذا مخصوص بالنكاح. وقال في البيان في النكاح والحقوق بخلافه، فقد قال مالك: لا أرى أن يشهد

الرجل على من لا يعرف، ومثله لأصبغ في الخمسة، قال: وأما الحقوق من البيوع والوكالات والهبات ونحو ذلك فلا يشهد عليها في شيء من ذلك إلا من يعرفها بعينها واسمها ونسبها. والفرق بين النكاح وما سوى ذلك أنه يخشى وإن لم يشهد على شهادتهم في الحقوق أن يموتوا فيشهد على خطوطهم فتلزم باطلاً بما لم تشهد به على نفسها. وعلى ما جرى به العمل عندنا أنه لا يقضى بالشهادة على الخط إلا في الأحباس، ونحوها يكون النكاح والحقوق سواء. فرع: في كتاب ابن سحنون عن أبيه: ولو شهد على امرأة بإقرار أو نكاح أو براءة وسأل الخصم إدخالها في نساء ليخرجوها وقالوا: "شهدنا عليها على معرفة منا بعينها ونسبها، ولا ندري هل نعرفها اليوم وقد تغيرت حالها" أو قالوا: "لا نتكلف ذلك" - أنه لا بد أن يخرجوا عينها، فإن شكوا أو أيقنوا أنها بنت فلان، ولم يكن لفلان إلا بنت واحدة من حيث شهد عليها إلى اليوم جازت الشهادة، وإن قالت البينة: "شهدنا عليها متنقبة، وكذلك نعرفها، ولا نعرفها بغير نقاب" فهم أعلم بما تقلدوا؛ إن كانوا عدولاً وعينوها قطع بشهادتهم، وانظر هذا مع قول المصنف: ولا يشهد على متنقبة حتى تكشف وجهها. وقال ابن دينار فيمن شهد على امرأة بإقرار أو بيع ولم يعرفوها بعينها، وعرفوا الاسم والنسب وقالوا: "إن كانت فلانة بنت فلان فقد أشهدتنا" فإن شهد غيرهم أنها فلانة بنت فلان حلف رب الحق على ذلك وثبت حقه.

وَلَوْ عَرَفَهَا رَجُلانِ فَفِي جَوَازِ أَدَائِهِ عَلَيْهِا قَوْلانِ، أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ وَلَوْ بِامْرَأَةٍ فَلا إِشْكَالَ .. يعني: إذا دعي الرجل ليشهد على امرأة لا يعرفها لكن شهد عنده رجلان أنها فلانة، فقال ابن القاسم: لا يشهد بذلك عليها إلا على شهادتهما؛ فيكون نقل شهادة عنهما فينتفع عند تعذر أدائها ويسميهما ليعذر فيهما. وقال ابن نافع: يشهد، ورواه عن مالك. صاحب البيان: والذي أقول به: إن كان المشهود له أتاه بالشاهدين ليشهدا عليها بشهادتهما عنده أنها فلانة بنت فلان فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فليشهد عليها وهذا كله ما لم يحصل عنده العلم، أما لو حصل عنده العلم ولو بامرأة لجاز أن يشهد كما ذكر المصنف؛ لأن خبر الواحد قد تحتف به قرينة فيفيد العلم. وَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِ امْرَأَةٍ زَعَمَتْ أَنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ فَلا يُسَجَّلُ عَلَى بِنْتِ زَيْدٍ يعني: فلا يكون للقاضي أن يسجل على بنت زيد حتى تثبت بالبينة أنها بنت زيد وكذلك لا يشهد الشهود أنها بنت زيد، وهو ظاهر؛ لاحتمال أن تكون انتسبت إلى غير أبيها. خليل: وينبغي أن يكون الرجل كذلك قال إنه فلان ابن فلان والله أعلم. وَيُعْتَمَدُ عَلَى الْقَرَائِنْ الْمُغَلَّبَةِ لِلظَّنِّ فِي التَّعْدِيلِ، وَالإِعْسَارِ بِالْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ ابن القاسم: تَجُوزُ فِي الضَّرَرِ بِالسَّمَاعِ مِنَ الأَهْلِ وَالْجِيرَانِ يعني: أنه يجوز للشاهد في هذه الصورة أن يعتمد فيما يشهد به على الظن القوي؛ لأنه المقدور على تحصيله غالباً، ولو اشترط العلم تعطلت الأحكام غالباً، وقد تقدم الكلام على ما يعتمد عليه العدل في التعديل.

ويعتمد في الإعسار على صبره على الجوع ونحوه مما لا يكون إلا مع الفقر وضرر الزوجين، وإن كان قد يمكن فيه القطع لكونه من الجيران أو القرائب لكنه نادر، وقول ابن القاسم ظاهر، وقد تقدم نحوه من كلام المصنف في باب الطلاق. وَتَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ الْفَاشِي عَنِ الثِّقَاتِ فِي الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ وَالْمَوْتِ لِلضَّرُورَةِ. شهادة السماع تنقسم إلى قسمين: أولها: تفيد العلم وسيأتي، والثاني: تفيد الظن، ولابد فيه من الفشو كما ذكر المصنف. وقوله: (عَنِ الثِّقَاتِ) كذا قال ابن المواز، وظاهره أنه لا يقبل إذا كان غير الثقات، وهو قول مطرف وابن الماجشون، قالا: ولا يجوز من غير أهل العدل من سامع أو مسموع عنهم، وظاهر المدونة نفي اشتراط العدالة في المنقول عنهم إلا في الرضاع. المازري: ولعله إنما استثنى الرضاع لأن شرط شهادة المرأتين فيه الفشو والانتشار، وهذا لا يشترط فيه النقل عن العدول؛ لأن الأخبار التي يقع بها العلم لا يشترط فيها أن يكون المخبرون عدولاً كخبر التواتر، وقيل: لابد من السماع من غير العدول مع العدل؛ لأن قصر السماع على العدل يخرجه إلى نقل الشهادة عن المعينين، وذلك باب آخر. وأشار المصنف بقوله: (لِلضَّرُورَةِ) إلى علة قبول هذه الشهادة؛ لأن الأصل أن الشاهد لا يشهد إلا بما استفاده من الحواس، وذكر ثلاثة مواضع: أولها: الملك؛ أي: المطلق، قال في الجواهر: إنما يشهد بالملك إذا طالت الحيازة وكان يتصرف فيه تصرف المالك من الهدم [677/ ب] ونحوه ولا ينازعه أحد. ولا يكتفي بشهادتهم أنه يحوزها حتى يقولوا: إنه يحوزها لحقه وأنها له ملك، وأما من يشتري شيئاً من سوق المسلمين فلا يجوز أن يشهد بالملك؛ لأنه قد يشتري من غير مالك.

المازري: والملك لا يكاد يقطع به، ومن الناس من حاول صورة فيها القطع؛ وهي: إذا صاد صيداً بحضرة بينة، ورد باحتمال أن يكون ند ممن صاده ولم يتوحش. وحاول بعضهم أخرى؛ وهي: إذا غنم من الكفار، ورد بجواز أن يكون المغنوم وديعة أو من أموال المسلمين، واشترط بعضهم أن يستفيض الخبر والحديث بكون هذا الشيء ملكاً لمن هو في يده، ومنهم من لم يشترطه. ثانيها: الوقف نص عليه في المدونة. قال بعض الأندلسيين: ولو شهدوا على أصل الحبس لم يكن حبساً حتى يشهدوا بالملك للمحبس يوم حبس، وتجوز شهادتهم على السماع، ولا يسمون المحبس، ولا يحتاج إلى إثبات ملك. ثالثها: الموت، وقيد الباجي الشهادة فيه على السماع فيما بعد من البلاد، وأما ما قرب أو ببلد الموت فإنما هي شهادة بالبت، وإن كان سبب هذه الشهادة السماع، إلا أن لفظ شهادة السماع إنما يطلق عند الفقهاء على ما يقع به العلم للشاهد، ولذلك يؤدي على أنه سمع سماعاً فاشياً، وأما إذا تواتر الخبر حتى وقع له العلم فإنما يشهد على علمه. انتهى. تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن شهادة السماع تكون بالملك في الانتزاع، والذي نص عليه أصحابنا أنه لا يخرج بها شيء من يد حائز، وإنما يصح للحائز كما لو ثبت على حائز لدار أنها لأبيه أو لجده، وهذا الطالب غائب فيقيم الذي هو في يده بينة على السماع في تطاول الزمان أنه اشتراها من أبي هذا القائم أو جده أو ممن صارت إليه عنهم فيثبت له بقاؤها بهذه الشهادة، واشترط في المدونة في قبول شهادة السماع لبقاء الدار في يد الحائز أن يقول الشهود: سمعنا أنه اشتراها هو وأبوه أو جده من هذا القائم فيها أو من أبيه، ولو قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولا ندري ممن اشتراها منه لم ينتفع بهذه الشهادة؛ لجواز أن يكون

اشتراها من غاصب، وكذا قال ابن المواز: لا تجوز شهادة السماع إلا لمن كان الشيء بيده، ولا يستخرج بها من يد حائز، وحكى ابن الحبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم وأصبغ ما يقتضي أنه يستخرج بها من اليد. وهل يستحق بها ما ليس في حوز أحد كعفو من الأرض؟ قولان عندنا، بناهما المازري على اختلاف المذهب في بيت المال هل يعد حائزاً لما لا مالك له أم لا؟ بِشَرْطِ طُولِ الزَّمَانِ وَانْتِفَاءِ الرِّيَبِ، فَلَوْ شَهِدَ رَجُلانِ عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْقَبِيلِ مِائَةُ مِنْ أَسْنَانِهِمَا لا تُعْرَفُ لَمْ تُقْبَلْ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ وَبَاءُ فَهِيَ طُولُ، وَلا يُسَمُّونَ مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ فَيَكُونَ نَقْلَ شَهَادِةٍ، قَالَ التُّونُسِيُّ: بَعْدَ يَمِينِهِ؛ إِذَ لَعَلُّهُ عَنْ وَاحِدٍ، وَيُجْتَزَأُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَرْبَعَةُ؛ لأَنَّهَا كَالنَّقْلِ فَاحْتِيطَ فِيهَا .. اعلم أن لشهادة السماع شروطاً. أولها: طول الزمان. مالك: ولا تجوز شهادة السماع في ملك الدار بخمس سنين. ابن القاسم: وإنما تجوز فيما أتت عليه أربعون أو خمسون سنة، حكاه صاحب المفيد. ابن زرقون: وهو ظاهر المدونة، ونقل عن ابن القاسم عشرون سنة. ابن رشد: وبه العمل بقرطبة. واختلف في الخمس عشرة على الثلاثة الأقوال التي ذكرها المصنف، والقول بأنها طول لمطرف وابن الماجشون وأصبغ، ومقابله لابن القاسم في الموازية، والثالث نقله التونسي، وجعله بعضهم تقييداً للثاني.

الشرط الثاني: السلامة من الريب فلذلك لو شهد اثنان بالسماع وفي القبيل مائة رجل من أسنانهما لم تقبل شهادتهما ولو طال الزمان، إلا أن يكون علم ذلك فاشياً فيهم، وأما إن شهد بذلك شيخان وقد باد جيلهما لقبلت شهادتهما وإن لم يشهد بذلك غيرهما، قاله ابن القاسم، وهو مأخوذ من مفهوم كلام المصنف، وعارض بعضهم عدم القبول هنا فيما إذا انفرد شاهدان برؤية هلال رمضان في الصحو، وفرق بأن السماع لا كلفة فيه على السامع ولا داعية تدعو للسماع، بخلاف الهلال؛ فانظره. وقوله: (وَلا يُسَمُّونَ مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ) هو ظاهر التصور. الشرط الثالث: أن يحلف، قاله غير واحد؛ لاحتمال أن يكون أصل السماع عن شاهد واحد ولا يقوم به الحق إلا مع اليمين، ونسبة المصنف اليمين للتونسي ليست بظاهرة، وليس ذلك في التعليقة، ولعله لما رأى ابن شاس ذكر اليمين بعد كلام نسبه للتونسي أعتقد أن ذلك للتونسي، وقد بين ابن شاس أن ابن محرز هو الذي نص على اليمين. الرابع: أن يشهد بذلك اثنان ويكتفي بهما على المشهور، واشترط عبد الملك أربعة كما ذكره المصنف عنه. وَالْمَشْهُورُ جَرْيُهَا فِي النِّكَاحِ وَالْوَلاءِ وَالنَّسَبِ. أَصْبَغُ: يُؤْخَذُ الْمَالُ وَلا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ .. يعني: أن المشهور جريها في هذه الثلاث مسائل، ومقتضى كلامه أن المشهور ثبوت النسب والولاء. ونحوه [678/ أ] ذكره ابن المواز فقال: اختلف قول مالك في شهادة السماع في الولاء والنسب، وذهب أصبغ إلى أنه يثبت المال دون النسب والولاء، وقال نحوه ابن القاسم، ولا يعجبنا هذا، وقول مالك وابن القاسم أنه يقضي له بالسماع بالنسب والولاء، نقله أبو محمد في كتاب الأقضية.

وقال في البيان: مذهب ابن القاسم أن شهادة السماع إذا لم تفد العلم لا تعمل؛ لأنه لم يقض بها في الولاء وإنما حكم بها في المال لأنه ليس له طالب، ولا تفيد فيا لحبس إلا مع القطع على المعرفة أنه محترم بحرمة الأحباس، ولا في الأشرية القديمة إلا مع الحيازة. وهذا الذي نسبه لابن القاسم هو مذهب المدونة ففيها: وإن شهد شاهدان أنهما سمعا أن هذا الميت مولى لفلان هذا لا يعلمان له وارثاً غير هذا، أو شهد شاهد واحد أنه مولاه أعتقه- استؤني بالمال، فإن لم يستحقه غيره قضي له به مع يمينه، ولا يجر بذلك الولاء. ونقل عن أشهب أنه يجر الولاء، لكن قيد المدونة بعض القرويين بما إذا كانت الشهادة في غير بلد الموت، قال: لاحتمال أن يستفيض ذلك عن رجل واحد، وأما بالبلد فيبعد استفاضة ذلك عن رجل واحد فيقضي في ذلك بالمال والولاء؛ أي: كما في الموازية، وهذا يؤدي تشهير المصنف؛ فاعلمه. أبو الحسن: وانظر من أين أخذ مذهب ابن القاسم في الحبس، ثم قال: قوله في المدونة: والشهادة على السماع في الأحباس جائزة لطول زمانها، يشهدون: "إنا لم نزل نسمع أن هذه الدار حبس تحاز حوز الأحباس" فانظر قوله: "إن هذه الدار حبس" هل عرفوا أنها تحاز فتكون كما قال ابن رشد؟ والظاهر أن قوله: "إنها حبس تحاز" مسموع كله لا معروف، وفي الأمهات: "أن هذه الدار حبس، وأنها تحاز كحوز الأحباس" فانظر هل يظهر منه تأويل ابن رشد؟ أبو عمران: ويشترط في شهادة السماع على النكاح أن يكون الزوجان متفقين عليه، وأما إذا أنكر أحدهما فلا، ومسائل قبول شهادة السماع كثيرة، وينسب لابن رشد وولده شعر يتضمن تلك المسائل.

ابن عبد السلام: ولست أدخل تحت عهدة نسبة القطعتين إلى من ذكر، ولكن أكثر ما احتوتا عليه منقول. والذي نسب لابن رشد: أَيَا سَائِلِي عَمَّا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ... وَيَثْبُتُ سَمْعاً دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ فَفِي الْعَزْلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْكُفْرِ بَعْدَهُ ... وَفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدِ ذَلِكَ كُلِهِ وَفِي الْبَيْعِ وَالإِحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ ... وَالرَّضَاعِ وَخُلْعٍ وَالنِّكَاحِ وَضِدِّهِ فِي قِسْمَةٍ أَوْ نَسَبٍ وَوِلايَةٍ ... وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ وَالْمُضِرِّ بِأَهْلِه وزاد عليه ولده ستاً فقال: وَمِنْهَا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ فَاعْلَمَنْ ... وَمِلْكُ قَدِيمُ قَدْ يُضْمَّنْ بِمِثْلِهِ وَمِنْهَا وِلادَةُ وَمِنْهَا حِرَابَةُ ... وَمِنْهَا الإِبَاقُ فَلْيُضَمَّ لِشَكْلِهِ فَدُونَكَهَا عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدِ ... تَدُلُّ عَلَى حَذْقِ الْفَقِيهِ وَنُبْلِهِ أَبِي نَظَمَ الْعِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ ... فَأَتْبَغْتَهَا سِتاً تَمَاماً لِفِعْلِه فهذه سبعة وعشرون موضعاً. قوله: "أو ضد ذلك كله" يعني: الإسلام والرشد والعدالة. وقوله: "والوصية" يريد: ما حكاه في الكافي: إذا شهد أنه لم يزل يسمع أن فلاناً كان في ولاية فلان وأنه كان يتولى النظر له والإنفاق عليه بالإيصاء من أبيه أو بتقديم قاض عليه، وإن لم يشهد أبوه بالإيصاء ولا القاضي بالتقديم، ولكنه علم ذلك بالاستفاضة من العدول وغيرهم- أن ذلك جائز، ويصح بذلك تسفيهه. وزيد الملا والعدم والأسر والعتق واللوث الموجب للقسامة. وفي المتيطية عن ابن عتاب: أن شهادة السماع في خطوط الشهود الأموات، وفي حياطة الأحباس جائزة.

وَأَمَّا السَّمَاعُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ فَقَالَ ابن القاسم: هُوَ مُرْتَفِعُ عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ مِثْلَ أَنَّ نَافِعاً مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهِ عَنْهُمَا، وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابنُ الْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لِذَلِكَ أَصْلاً فَقِيلَ له: أَيَشْهَدُ أَنَّكَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ لا يَعْلَمُ أَبَاكَ، وَلا أَنَّكَ ابْنُهُ، فَقَالَ: نَعَمْ وَيَقْطَعُ بِهَا وَيَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ .. هذا هو النوع الثاني من شهادة السماع المفيد للعلم، وهو متفق على قبوله، وظاهر كلام الفقهاء فيه عموم حكمه في الأصوات، وأنه من العلم التواتري، وقد علم أن خبر التواتر يشترط فيه أن يكون خبراً عن أمر محسوس. وَالتَّحَمُّلُ حَيْثُ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ يعني: أن تحمل الشهادة حيث يفتقر إليه فرض على الكفاية؛ أما أنه فرض فلأنه لو تركه الناس كلهم أدى إلى إتلاف الحقوق، وأما أنه على الكفاية فلأن الفرض يحصل بالبعض. وإذا كان على الكفاية فيتعين في حق من انفرد كما في سائر فروض الكفاية. وضمير (إِلَيْهِ) عائد على التحمل، واحترز من أن يدعى الشاهد إلى تحمل شهادة لا يتعلق بها حكم، ودليله قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) بعد قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2] وظاهره في التحمل. وأما قوله تعالى: (وَلا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) فقد اختلف فيه هل المعنى: إلى الأداء وهو تأويل مالك، أو إلى الشهادة أو إليهما- على ثلاثة أقوال؟ واستظهر الثاني؛ لأن الآية [678/ ب] إنما وردت فيما يفعله المتبايعان وقت البيع، ولأن عقبه: (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ) [البقرة: 282] والكتاب إنما هو عند التحمل، ويرجح قول مالك بأن الشاهد حقيقة إنما هو من تحمل لا من دعي لها، ذكره أهل الأصول في مسائل الاشتقاق. ويجاب عنه بما قاله بعضهم من أن التفصيل في المشتق إنما هو إذا كان الوصف محكوماً به، وأما إذا كان متعلق

الحكم كقوله سبحانه: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة: 5] فهو حقيقة في الجميع فيما حصل وفيما سيحصل. وَالأَدَاءُ مِنْ نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ إِنْ كَانَا اثْنَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَلا تَحِلُّ إِحَالَتُهُ عَلَى الْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَزِئِ الْحَاكِمُ بِاثْنَيْنِ فَعَلَى الثَّالِثِ .. لقوله تعالى: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة: 283] وشرط في الوجوب شرطين: أولهما: أن يكون قريباً من موضع الحاكم كالبريدين، ونحوه لسحنون. ثانيهما: أن يكونا اثنين، فلو كانوا أكثر بقي على الكفاية لحصول الغرض بالبعض، فإن لم يكتف الحاكم باثنين؛ إما لريبة وإما لمانع في أحدهما تعين على من بقي حتى يثبت الحق. وقوله: (وَلا تَحِلُّ) يعني: ولو كان على الحق شاهدان فامتنع أحدهما وأحال المشهود له على اليمين مع صاحبه لم يحل ذلك؛ لأنه أدخله في عهدة اليمين وألزمه ما لا يلزمه. وَلا يَلْزَمُ مِنْ أَبْعَدَ هذا تصريح منه بمفهوم قوله: (نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ) وهذا التحديد لا يقوم عليه دليل، والأصل أن ما لا كبير مشقة فيه على الشاهد يجب الأداء منه بخلاف ما عظمت المشقة فيه. وَلا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ فِيمَا لَزِمَهُ إِلا فِي رُكُوبِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَابَّةُ وَعَسُرَ مَشْيُهُ يعني: إذا كان على نحو البريدين لم يجز له أن ينتفع بشيء، واستثنى من ذلك ركوب الدابة بشرطين: ِأن لا يكون للشاهد دابة وأن يعسر مشيه، فإن لم يحصل الشرطان فنص سحنون على سقوط شهادتهم.

وَيَجُوزُ فِيمَا لا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَامَ بِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ دَابَّةٍ وَنَفَقَةٍ عَجَزَ أَوْ لَمْ يَعْجَزْ، وَقِيلَ: لا تَجُوزُ فِيهِمَا وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ فِي غَيْرِ الْمُبَرِّزِ. ضمير التثنية المجرور بـ (في) راجع إلى حالتي العجز وعدمه والأقرب جواز ذلك في الوجهين ليسارة المنفعة، ولأن الشاهد لم يستفضل شيئاً في ذلك، ولنأت بكلام سحنون وكلام صاحب البيان عليه فهو الذي حكاه ابن شاس وقصد المصنف اختصاره لما فيه من الفوائد، قال سحنون في الشهود يدعون إلى الشهادة في غير البلد فيقولون: " يشق علينا النهوض إلى الحاضرة" فيعطيهم المشهود له دواباً وينفق عليهم: فإن كانوا على مثل البريد أو البريدين وهم يجدون الدواب والنفقة فلا يأخذوا ذلك منه، فإن فعلوا سقطت شهادتهم، وإن كانوا لا يجدون جاز ذلك وقبلوا، ولو أخبروا بذلك القاضي كان أحسن، وإن كان على مثل ما تقصر فيه الصلاة فأكثر لم يشخص الشهود من مثل ذلك ويشهدون عند من يأمرهم القاضي به في تلك البلاد، ويكتب بما يشهد به عنده إلى القاضي. ابن رشد: وخفف ذلك ابن حبيب إذا كان قريباً، وكان أمراً خفيفاً، وينبغي أن يحمل على التفسير؛ فالقريب على قسمين: قريب جداً تقل فيه النفقة ومؤنة الركوب- لا يضر فيه الشاهد ركوب الدابة ولا أكل الطعام، وغير قريب جداً فهذا يبطل الشهادة إن ركب دابه المشهود له وله دابة أو أكل طعامه عند سحنون. وقيل: لا يبطل ذلك وهو ظاهر قول أصبغ ومطرف في الشاهد في الأرض النائية يحتاج إلى تعيينها بالحيازة لها: أنه لا بأس أن يركب دابة المشهود له ويأكل طعامه. ابن رشد: وهو الأظهر؛ إذ ليس هذا مما يتمول ليسارته، وإن كان الشاهد لا يقدر على النفقة، ولا على اكترائه دابة، ويشق عليه الإتيان راجلاً فلا تبطل شهادته إذا لم يسقط عن نفسه ما هو واجب، وقد قيل: تبطل، وأما إن كان من البعد بحيث لا يلزمه الإتيان ولم يقم القاضي من يشهد عنده بالموضع الذي هو به فلا يضره أكل طعام المشهود له وإن كان

له مال، وكذلك إن احتجب السلطان عن الشاهد لم يضره أن ينفق عليه المشهود له ما أقام منتظراً له إذا لم يجد من يشهد على شهادته ثم ينصرف، وقد قيل: تبطل بذلك لتوفير نفقتهم، قال: وهو الأظهر، قال: فانظر على هذا أبداً إذا أنفق المشهود له على الشاهد في موضع لا يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه جاز، وإن أنفق عليه في موضع يلزمه ذلك فلا يجوز إلا فيما يركب إذا لم تكن له دابة ولم يقدر على المشي، فلا اختلاف أنه يجوز للشاهد أن يركب دابة المشهود له إذا لم تكن له دابة وشق عليه جملة من غير تفصيل بين قريب ولا بعيد، ولا موسر ولا معسر، وإنما يفرق ذلك حسبما ذكر في النفقة والركوب إذا كانت له دابة. وَتَثْبُتُ الأَمْوَالُ وَحَقُوقُهَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، أَوِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ لما رواه مالك مرسلاً، ومسلم وغيره مسنداً أنه عليه الصلاة والسلام قضى باليمين مع الشاهد. قال صاحب الاستذكار: وقد أسنده جماعة ثقات عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يرفعه، وقد صح من حديث ابن عباس مرفوعاً، وروى ذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، [679/ أ] ولم يرو عن واحد مخالفته، وقاله جماعة من التابعين منهم الفقهاء السبعة، وخالف في ذلك أبو حنيفة ويحيى بن يحيى من أصحابنا وزعم أنه لم ير الليث يفتي به، وخصصناه بالأموال؛ لأن عمرو بن دينار راوي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وذلك في الأموال. وقوله: (وَحَقُوقُهَا) أي: كالغصب والتعدي والجنايات والشركة والإبراء من الدين والمصالحة عليه والإجارة وهبة الرقاب والمنافع.

وقامت المرأتان مقام الرجل لأن الله تعالى جعلهما عوضه فقال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) [البقرة: 282]. وَيُطَالَبُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلاقِ وَالْعِتْقِ بِأَنْ يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ فَإِنِ امْتَنَعَ فَالأَخِيرَةُ أَنْ يُحْبَسَ لَهُمَا إِلا أَنْ يُحْكَمَ بِالشَّهَادِةِ، وَقَالَ ابن القاسم: يُحْبَسُ سَنَةً، وَقَالَ سحنون: أَبَداً .. أي: إذا ادعت المرأة على زوجها الطلاق، أو ادعى العبد على سيده العتق لم يطالب بتلك الدعوى إلا أن يقيم كل واحد منهما شاهداً أو امرأتين فحينئذ يكلفه القاضي إما بالإقرار أو بالحلف، فإن لم يقر وحلف برئ، ومساواته النكاح لهذين خلاف المعروف، نعم حكى ابن الهندي في وثائقه قولاً بوجوب اليمين في النكاح كما يجب في غيره؛ لأن النكاح أشب الأشياء بالبيوع، واستقرأ أيضاً مما لابن القاسم في الموازية ومما في الواضحة، أما الموازية فلأن فيها في دعوى الرجل على المرأة نكاحاً، أو دعوى المرأة على الرجل نكاحاً: إن اليمين ساقطة ما لم يقم لذلك شاهد واحد، فظاهره أنه إذا أقام شاهداً حلف المدعى عليه، ولعل المتيطي لما قوي عنده هذا الأخذ نقله صريحاً عن الموازية، وأما الواضحة فلأن فيها فيمن زوج رجلاً أو امرأة وزعم أنه وكله أو وكلته على ذلك فأنكر المدعى عليه الوكالة: إنهما يحلفان، فاستقرأ اللخمي منها وجوب اليمين مع الشاهد، قال: وإذا حلف بدعوى الوكالة مع كون الوكيل يدفع التعدي عن نفسه فلأن يحلف مع الشاهد من باب أولى. ورده المازري بأن المدعى عليه الوكالة لو صدقها لكان النكاح منعقداً؛ لأن النزاع في إذنه في الوكالة؛ لأن العقد قد ثبت بشاهدين بين الوكيل والزوجة. عبد الملك: وإن أقام شاهداً على رجل أنه زوجه ابنته البكر حلف الأب، فإن أبى سجن حتى يحلف، ولا مقال لابنته في ذلك، ولو كانت ثيباً فليس عليه يمين.

وقال أصبغ: ليس عليه يمين بحال. قوله: (فَإِنِ امْتَنَعَ) أي: امتنع من الإقرار والحلف فلمالك روايتان؛ لأن الأخيرة تستدعي الأولى. (يُحْبَسَ لَهُمَا) أي: للطلاق والعتاق، ويحتمل للمرأة والعبد المفهومين من السياق لا أن يحكم بالشهادة، وأتى بهذا ليعلم أن الرواية الأولى الحكم لهما، ودليل كلامه أن الحكم لهما مستند إلى الشهادة فقط، وليس كذلك، بل على هذه الرواية إنما يثبت الطلاق بمجموع الشاهد والنكول. وبين صاحب الجلاب ذلك حيث فرق بين الشاهد واليمين أنه لا يقضي بهما في الطلاق بخلاف الشاهد والنكول على هذه الرواية؛ لأن الشاهد والنكول من جهتين فقويا لذلك، بخلاف الشاهد واليمين فإنهما من جهة المدعي فقط، وقد يجاب عنه بأن في كلام المصنف ما يقتضي اعتبار النكول؛ لأنه قال: (فَإِنِ امْتَنَعَ) وامتناعه هو نكوله. وقوله: (فَالأَخِيرَةُ أَنْ يُحْبَسَ لَهُمَا) لم يبين أمد الحبس، وقد بين ذلك في المدونة بقوله: فإن طال سجنه دين ويخلى بينه وبينها، والقول بالسنة نقله ابن يونس عن مالك أيضاً أواخر العتق الثاني، وقول سحنون أيضاً لمالك، ولعل المصنف وابن شاس لما رأيا أن الطول في كلام مالك غير محدد واحتمل أن يريد أحد القولين تركاه لذلك. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى شِرَاءِ الزَّوْجَةِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى نُجُومِ الْكِتَابَةِ فَتَثْبُتُ وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ وَالْعِتْقُ. فضل: فإما لأنه ليس بمال محض بل مركب من مال وغيره، ومثل لذلك بمسألتين: الأولى: أن يدعي سيد الأمة أن زوجها ابتاعها منه وأنكر الزوج فأقام السيد على دعواه شاهداً فإنه يحلف معه ويثبت البيع، وهو مال، ويترتب عليه فسخ النكاح، وهو

ليس بمال، وإنما حكمنا فيها بذلك لأنا لو لم نحكم بذلك لأدى إلى أحد أمرين كل منهما باطل؛ إما رد شهادة الشاهد وقد دل الحديث على قبولها، وإما بقاء الزوجة في عصمة مالكها ولا يصح ذلك إجماعاً. والمثال الثاني: أن يقوم للمكاتب شاهد على أداء نجوم الكتابة فيثبت الأداء وإن ترتب عليه العتق، وقد علمت أن في قول المصنف: (وإن ترتب عليه الفسخ والعتق) لفاً ونشراً. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْقَضَاءِ بِمَالٍ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ لا تُمْضَى. وَلَهُ اسْتِحْلافُ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ بِغَيْرِ يَمِينِ الطَّالِبِ. فصلها بـ (أَمَّا) لأنها عكس ما قبلها؛ لأن الشهادة في اللتين قبلها على مال ويؤول إلى غيره، وهذه بالعكس ومعنى كلامه: إذا ادعى رجل على آخر أن القاضي حكم له عليه بمال فأنكر، فأقام عليه شاهداً بذلك فهل له أن [679/ ب] يحلف مع شاهده؟ المشهور لا، وتعقب ابن عبد السلام حكاية الخلاف في الشهادة على حكم القاضي فقال: والذي حكاه الباجي وغيره أن القولين في كتاب القاضي بشاهد ويمين، وذلك لأنه حق ليس بمال ويؤول إلى مال، وأما دعوى أحد الخصمين على الآخر أن القاضي حكم عليه بمال فدعوى مال حقيقة، ولا ينبغي أن يختلف فيها، ورد بأن الخلاف أيضاً موجود في حكم القاضي، حكاه فضل. والقول بقبول الشاهد لمطرف وأصبغ، ومقابله لابن القاسم وابن الماجشون: لا يقبل في ذلك إلا شاهدان؛ لأنه من وجه الشهادة على الشهادة، وأخذ به ابن حبيب ولعل المصنف شهره إما لأخذ ابن حبيب به، وإما لأنه قول ابن القاسم، وإما لكون الشهادة فيه باشتر مالاً وإما للمجموع. خليل: وانظر ما الفرق على قول ابن القاسم بين هذه المسألة وبين ما إذا قامت المرأة شاهداً على النكاح بعد الموت، فإنه قال: تحلف وترث، والجامع بينهما الشهادة على ما ليس بمال

ويؤول إليه, وقد يفرق بأن يقال: يمكن هنا إثبات المال بنكول المطلوب كما ذكر المصنف، بخلاف النكاح فإن الضرورة داعية فيه إلى القبول، والله أعلم. قوله: (وَلَهُ اسْتِحْلافُ الْمَطْلُوبِ) هو تفريع على المشهور؛ أي: إذا فرعنا على المشهور في أن الشاهد مع اليمين على حكم القاضي لا يمضي؛ فيكون للطالب استحلاف المطلوب إن القاضي لم يحكم عليه بمال. وقوله: (فَإِنْ نَكَلَ) أي: المطلوب. (لَزِمَهُ) أي: المال (بِغَيْرِ يَمِينِ الطَّالِبِ) وفي بعض النسخ: (بَعْدَ يَمِينِهِ) أي: الطالب وهي الصواب. وفي الأول نظر لوجهين. أولهما: كيف يمنع على ما ذكره المصنف الشاهد واليمين، ويقبل فيه النكول واليمين، والثاني أضعف على أصل المذهب. ثانيهما: أنها خلاف المدونة؛ لأن فيها في الأقضية: وللطالب أن يحلف المطلوب بالله أن هذه الشهادة التي في ديوان القاضي ما شهد عليه بها، فإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة، ثم ينظر فيها الذي ولي بما كان ينظر المعزول، وفي كتاب ابن سحنون أيضاً عن أبيه: أن المطلوب يحلف على ما في ديوان القاضي من شهادة أو إقرار أو قضاء، فإن نكل حلف الطالب وثبت له ما ادعى. وَالسَّفِيهُ وَالْعَبْدُ كَالرَّشِيدِ لا كَالصَّبِيِّ عَلَى الْمَشْهُورِ يعني: إذا شهد للسفيه والعبد شاهد فإنهما يحلفان الآن كالرشيد، وليس كالصبي على المشهور، وفهم منه أن الصبي لا يحلف، وهو المعروف، وعن مالك أن الصبي يحلف. ابن رشد: وهو غريب. وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: في العبد والسفيه، وظاهره أن الشاذ يراهما كالصبي، وذكر الباجي والمازري الشاذ في السفيه وأخذاه من رواية ابن حبيب عن مطرف، قال: يحلف المطلوب ويؤخر، فإذا رشد السفيه حلف مع شاهده.

وأنكر ابن زرقون الخلاف في السفيه ابتداءً وقال: لم يختلف ابن القاسم ومطرف أن السفيه يحلف مع شاهده، وإنما اختلفا إذا نكل وحلف المطلوب ثم رشد السفيه؛ فقال مطرف: يحلف بعد رشده ويقضى له، وقال ابن القاسم: قد ينفذ الحكم للمطلوب ولا تعاد اليمين للسفيه، قال: وهكذا هو منصوص في الواضحة. ابن عبد السلام: وأما العبد فلا أعلم فيه خلافاً، وما أظن نقل المؤلف فيه إلا وهماً. انتهى. ولعله خرجه من السفيه، على أن يحتمل على بعد أن يكون قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى الصبي، ويكون إشارة إلى ما حكاه ابن رشد عن مالك. الباجي: وإذا قلنا يحلف السفيه مع شاهده؛ فإنه إن حلف قبض ما استحقه بيمينه الناظر له. ابن شعبان: والاختيار أن يقبض ما حلف عليه، فإذا صار بيده قبضه من الناظر؛ لأنه لا يستحق بيمينه شيئاً إلا من الذي قبضه. وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبِ ثُمَّ أَتَى الطَّالِبُ بِشَاهِدٍ آخَرَ لَمْ يُضَمَّ هَذَا الثَّانِي إِلَى الأَوَّلِ بِاتِّفَاقٍ، وَفِي اعْتِبَارِهِ لِيَحْلِفَ مَعَهُ قَوْلانِ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ فَفِي تَحْلِيفِ الْمَطْلُوبِ قَوْلانِ .. يعني: أن من أقام شاهداً ولم يحلف معه، ثم ردت اليمين على المدعى عليه فحلف، ثم أتى الطالب بشاهد آخر- لم يضم هذا الثاني إلى الأول اتفاقاً؛ لأن شهادة الأول قد بطلت بنكوله ويمين المطلوب. والاتفاق ليس بظاهر؛ فقد روى ابن الماجشون وابن عبد الحكم عن مالك الضم، وبه قال أصبغ، نقله اللخمي وصاحب البيان وغيرهما، لكن قال ابن كنانة: وهو وهم، وقد كان يقول: لا يضم إلى الأول، قال: وإنما هذا في المرأة تقيم شاهداً على طلاق فيحلف الزوج، ثم تجد شاهداً- أنه يضم إلى الأول؛ لأنه لم يوجد منها نكول. وعلى عدم

الضم فهل للطالب أن يحلف مع هذا الثاني؛ إذ يظهر له الآن ما يقدم معه على اليمين أو لا، وهو قول ابن كنانة، وقول ابن القاسم في المبسوط، لأنه قد ترك حقه بنكوله أولاً؟ وعلى أن الطالب يحلف، فلو نكل فهل يحلف المطلوب مرة ثانية لأنه لم يستفد باليمين الأولى سوى إسقاط الشاهد الأول، أو يسقط حقه بدون يمين المطلوب، لأن يمينه قد تقدمت، فلا تكرر اليمين عليه؟ حكى المصنف وغيره في ذلك قولين: الأول في الموازية والثاني لابن ميسر، وجمع بعضهم المسألة من أصلها مع فرعها فقال: فيهما أربعة أقوال: أولها: إن أتى بشاهد ثان استؤنف له الحكم وهو قول ابن القاسم في الموازية، واختلف إن نكل هل يحلف المطلوب ثانية؟ وثانيها: إن أتى بشاهدين قضى له بهما، وإن أتى بشاهد أضيف إلى الأول، وأخذ حقه بلا يمين، وهو رواية ابن الماجشون عن مالك. وثالثها: أن نكوله أولاً قطع لحقه، فلا يكون له شيء، وإن أتى بشاهدين غير الأول، وهو قول ابن القاسم وابن كنانة في المبسوط. ورابعها: إن جاء بشاهدين غير الأول قضى له بهما، وإن أتى بشاهد واحد لم يقض له بشيء، حكاه ابن رشد ولم يعزه. فَلَوْ كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الاسْتِقْبَالِ كَالشَّاهِدِ لِصَبِّي وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ فَالْمَنْصُوصُ: يَحْلِفُ الْمَطْلُوبْ بِحِصَّةِ الصَّبِيِّ، فَإِذَا حَلَفَ فَفِي وَقْفْ الْمُعَيَّنِ قَوْلانِ .. اعلم أن اليمين على أربعة أحوال: الأولى: أن تكون ممكنة وهي التي تقدم حكمها. والثانية: أن تكون ممتنعة في الحال مرجوة الاستقبال. والثالثة: أن تكون ممتنعة [680/ أ] غير مرجوة. والرابعة: أن تكون ممكنة من بعض ممتنعة من بعض.

وأخذ المصنف يتكلم على هذه الثلاثة؛ يعني: إذا قام شاهد بحق لصبي وحده أو بحق له مع بالغ فلا يحلف الصبي الآن، وهذا على المعروف كما تقدم، لكن رأى الأصحاب أنه لابد للشهادة من أثر ناجز، فالمنصوص في المذهب أن المطلوب يحلف الآن، وأشار بمقابله إلى ما فهمه الباجي من قول مالك في الموازية: أن المدعى عليه لا يحلف الآن، وإنما يوقف للصبي حقه حتى يحتلم فيحلفه كما يفعل في حق المغمى عليه، ويمكن أن يفرق بقرب إفاقة المغمى عليه، أشار إلى ذلك المازري. قوله: (فَإِذَا حَلَفَ) أي: المطلوب، وكان المدعى فيه معيناً كدار وثوب، وزاد اللخمي: أو كان غنياً والمدعى عليه يخشى فقره فاختلف المذهب على قولين: أحدهما: وقف المدعى فيه حتى يبلغ الصبي. والثاني: أنه لا يوقف ويسلم للحالف، وبه قال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وعليه فإذا بلغ وحلف أخذه بعينه إن كان قائماً، وبقيمته إن كان فائتاً، والأول هو ظاهر الموازية وكتاب ابن سحنون. ابن عبد السلام: وهو ظاهر؛ لأن شهادة الشاهد لم تبطل رأساًن وإنما حلف المدعى عليه ليتأخر الحكم، وبنى المازري الخلاف في الإيقاف على الخلاف في إسناد الحكم إلى الشاهد فقط. واليمين كالعاقد، فيحسن الإيقاف أو إليهما فيضعف الإيقاف. فَإِنْ نَكَلَ الْمَطْلُوبِ فَفِي أَخْذِهِ مِنْهُ تَمْلِيكاً أَوْ وَقْفاً قَوْلانِ لما ذكر الحكم إذا حلف المطلوب ذكره إذا نكل وأشار إلى أنه يؤخذ منه الشيء المنازع فيه لنكوله، ثم اختلف هل يؤخذ منه أخذ تمليك كما لو كانت الدعوى على كبير وقام عليه شاهد ونكل عن اليمين، وهو مذهب الموازية، بل زعم صاحب البيان الاتفاق عليه أو أخذ وقف، وهو منسوب للواضحة لأنه قال: إذا بلغ الصغير ونكل عن اليمين فإن الحق يرد إلى من أخذ منه، وهو ظاهر؟ والفرق بين الصغير والكبير في هذا ما قاله المارزي

أنه معذور في نكوله هنا؛ لأنه يقول: إنما حملني الآن على النكول أن يميني الآن لا يتم لي بها الحكم لأني لو حلفت لم يفدني ذلك فائدة في مذهب من رأى الوقف ولا كبير فائدة على مذهب من لا يرى الوقف؛ لأن للصبي أن يحلف بعد بلوغه ويتم له الحكم. وَعَلَى وَقْفِهِ أَوْ يَمِينِهِ يُسَجِلُّ الْحَاكِمُ الشَّهَادَةَ لِيَسْتَحْلِفَ الصَّبِيَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ وَاِرثَهُ قَبْلَهُ .. أي: وإذا حلف المدعى عليه أو نكل ولم يحكم عليه فإن الحاكم يكتب شهادة الشاهد ويثبتها ويسجلها للصغير؛ صيانة لحقه خوفاً من موت الشاهد أو تغيير حاله عن العدالة قبل بلوغ الصبي، ولو مات الصبي قبل بلوغه لحلف وارثه الآن واستحق. فَإِنْ نَكَلَ اكْتُفِيَ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ الأُولَى عَلَى الْمَشْهُورِ. يعني: فإن بلغ الصبي ونكل عن اليمين أو نكل وارثه، وقد كان المدعى عليه حلف فإنه يكتفي بتلك اليمين التي حلفها على المشهور، وفي بعض النسخ: (نَكَلَا) ليعود على الصبي ووارثه، ومقابل المشهور أنه يستحلف ثانياً، حكاه في البيان صريحاً. وقال الباجي: المشهور مبني على أن يمين المطلوب ليوقف الحق بيده، خاصة لما تعذر يمين الطالب، فإذا حلف الطالب أخذ، وإن نكل حلف المطلوب يمين الاستحقاق؛ إذ لو كانت يمينه أولاً يمين استحقاق لوجب إذا نكل عنها أن ينفذ القضاء عليه ولا يحلف المدعي يميناً بعدها، وهذا أصل متنازع فيه. فَإِنْ كَانَ وَارِثُ الصَّغِيرِ مَعَهُ أَوَّلاً وَكَانَ قَدْ نَكَلَ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْمَنْصُوصِ؛ لأَنَّهُ نَكَلَ عَنْهَا .. يعني: فإن كان الشاهد شهد بحق لصغير وأخ كبير فنكل الكبير واستؤني الصغير، ثم مات الصغير قبل بلوغه فكان أخوه الكبير وارثه فليس له أن يحلف؛ لأنه قد نكل أولاً

فلا ترجع عليه يمين، وهذا لبعض شيوخ صاحب النكت: وقال ابن يونس: والذي يظهر لي أن يحلف على نصيبه؛ لأنه إنما نكل أولاً عن حصته، ألا ترى أنه لو حلف أولاً وأخذ مقدار حصته ثم إنه ورث الصغير- لم يأخذ نصيبه إلا بيمين ثانية، ولما حكى المازري فيها القولين للمتأخرين قال: ولا نص فيه للمتقدمين، وعلى هذا فتعبير المصنف على الأول بالمنصوص ليس بظاهر. وَلَوْ كَانَ الأَبُ مُنْفِقاً وَالصَّبيُّ فَقِيراً فَفِي قَبُولِ حَلِفِهِ قَوْلانِ يعني: إذا قام للصغير شاهد بحق ورثه من أمه ونحو ذلك فهل للأب أن يحلف؟ قولان. وقيد الخلاف بقيدين: أولهما: أن يكون الأب منفقاً على الصغير. والثاني: أن يكون الابن فقيراً؛ لأنه إذا كان غنياً فالنفقة عليه من مال نفسه فلا يمكن؛ لأنه يحلف ليستحق غيره من غير فائدة تحصل له، فالقول بالحلف في كتاب المدنيين، والقول بنفيه لمالك في الموازية، قال: لا أظن ذلك. قال في البيان: وهو المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقيد الخلاف بما إذا لم يل الأب أو الوصي المعاملة، فأما ما وليه فاليمين واجبة عليه؛ لأنه إن لم يحلف غرم. فَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ مُمْكِنَةً مِنْ بَعْضٍ مُمْتَنِعَةً مِنْ بَعْضٍ كَالشَّاهِدِ عَلَى رَجُلٍ بِوَقْفٍ عَلَى بَنِيهِ وَعَقِبِهِمْ بَطْناً بَعْدَ بَطْنٍ فَرَوىَ مُطَرِّفُ أَنَّهُ [680/ ب] إِذَا حَلَفَ وَاحِدُ ثَبَتَ الْجَمِيعُ، وَرَوَى ابن الماجشون: إِذَا حَلَفَ الْجُلُّ، وَقَالَ مُحَمَّدُ وَغَيْرُهُ: كَمَسْأَلَةِ الْفُقَرَاءِ. وَقِيلَ: يَثْبُتُ لِمَنْ حَلَفَ نَصِيبُهُ .. هذه هي الحالة الثانية؛ وهي: أن تكون اليمين ممكنة من بعض دون بعض؛ يعني: فإن قام شاهد بحق لقوم بعضهم معين وبعضهم غير معين كما لو قام شاهد بوقف على بني رجل فاليمين ممكنة من الأولاد الموجودين، ممتنعة ممن لم يوجد من أعقابهم فأربعة أقوال:

الأول لمالك من رواية مطرف وابن وهب: أنه إذا حلف واحد من البطن الأول مع الشاهد ثبت الحبس للجميع. الثاني لمالك من رواية ابن الماجشون على ما ذكره صاحب النوادر والباجي والمازري: أنه إذا حلف الجل من أهل هذه الصدقة ثبت جميعها. الثالث: نقله ابن المواز عن أصحابنا فقال: الذي يذهب إليه أصحابنا امتناع اليمين مع هذه الشهادة على الإطلاق، ويكون كما لو شهد على وقف للفقراء وهم مجهولون. والحكم في الفقراء على ما نص عليه اللخمي أن يحلف المشهود عليه، فإن نكل لزم الحبس. وفي قول المصنف: (وَقَالَ مُحَمَّدُ) نظر؛ لأن محمداً إنما نقله عن غيره، ولأنه لا يؤخذ من كلام المصنف الحكم؛ لأنه لم يذكر الخلاف في الفقراء. وقول ابن عبد السلام أفاد تشبيه المصنف بالفقراء فائدتين؛ الإعلام بالحكم في مسألة الفقراء، وبيان الحجة في مسألة الحبس ليس بظاهر. القول الرابع لبعض القرويين، ورجحه اللخمي وغيره بمنزلة الشاهد يشهد بحق لحاضر وغائب أو حمل. وسبب الخلاف أن الشهادة اشتملت على ما تصح اليمين معه وما لا تصح، فمن التفت إلى جانب تعذرها أبطل الحبس، ومن التفت إلى جانب الصحة صحح الحبس. ثم اختلف على القول بالتصحيح هل يكتفى بالجل؛ لكونهم يقومون مقام الكل، أو يكتفي بواحد؛ لأن يمينه تنسحب على حق غيره لكون الشهادة بشيء واحد لا تتبعض في الحكم؟ المازري: وربما هجس في خاطري تعليل آخر؛ وهو: أنه إذا حلف واستحق نصيبه طالبه بقية طبقته بنصيبهم مما أخذ؛ إذ حقهم فيه على الشياع وهو مقر لهم، فإذا أخذ منهم شيئاً

عاد اليمين لإكمال نصيبه، فلا يزال هكذا حتى يؤخذ الحبس كله فاكتفى بيمينه وحده يميناً واحدة؛ لأنه حلف على الجميع لحق نفسه. فَلَوْ مَاتَ فَفِي تَعْيِينِ مُسْتَحِقَّهِ مِنْ بَقِيَّةِ الأَوَّلِينَ أَوِ الْبَطْنِ الثَّانِي أَوْ مَنْ حَلَفَ أَبُوهُ خِلافُ .. هذا تفريع على القول الرابع؛ وهو: أن من حلف من البطن الأول استحق نصيبه، فلو حلف واحد منهم ونكل باقيهم ثم مات الحالف وبقي إخوته الناكلون فذكر المصنف في هذا ثلاثة أقوال، والمازري إنما جعلها كالاحتمالات، وعلى هذا فاستحقاق بقية البطن الأول مبني على أن نكولهم عن نصيبهم لا يمنع من استحقاق نصيب الأخ الصغير إذا مات على أحد القولين، واستحقاق البطن الثاني مبني على بطلان حق الإخوة بنكولهم، وأن البطن الثاني إنما يتلقونه عن جدهم المحبس، واستحقاق من حلف أبوه خاصة مبني على أن استحقاق البطن الثاني له من قبل آبائهم كالوراثة، فمن نكل أبوه بطل حقه. ثُمَّ فِي أَخْذِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ قَوْلانِ يعني: أن من وجب له أخذه من بقية البطن الأول أو من البطن الثاني فقيل: يأخذه بغير يمين بناء على أنه كالوراثة. وقيل: يأخذه بيمين بناء على أنه يستحقه عن جده، وصرح المازري بالخلاف في البطن الثاني، لكن إنما نقل القول باليمين عن الشافعية، وقال إنه القياس، وأجرى الخلاف في يمين بقية البطن الأول، ونقل الباجي القول بسقوط اليمين عن المغيرة. وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ قَوْلانِ هما في المدونة، ففي الشهادات منها: وكل جرح فيه قصاص فإنه لا يقتص فيه بشاهد ويمين، وكل جرح لا قصاص فيه مما هو متلف كالجائفة والمأمومة وشبههما

فالشاهد واليمين فيهما جائزة؛ لأن العمد والخطأ فيها إنما هو أموال. وفي الديات: من أقام شاهداً عدلاً على جرح عمداً أو خطأ فليحلف معه يميناً واحدة، ويقتص في العمد ويأخذ العقل في الخطأ، قيل لابن القاسم: لم قال مالك ذلك في جراح العمد وليست بمال؟ فقال: كلمت مالكاً في ذلك فقال: إنه لشيء استحسناه وما سمعنا فيه شيئاً، وقد تبين لك بهذا السياق رجحان ما في الشهادات، وزاد في البيان ثالثاً بأنه يقضى بالشاهد مع اليمين فيما صغر من الجراح لا فيما عظم منها كقطع اليد وشبهه، وهو قول ابن الماجشون وروايته، واختاره سحنون، ونص سحنون على أن المرأتين كالعدل في القصاص، قال: لأن من أصلنا أن كل شيء يجوز فيه شاهد ويمين تجوز فيه شهادة امرأتين، وأجرى صاحب المقدمات على هذا الخلاف خلافاً في حد القذف هل يثبت بالشاهد مع اليمين؟ نص في البيان على أن المعروف عدم ثبوته إلا بشاهدين. وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ تَجْرِي فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ، وَشَرْطُهُا أَنْ يَقُولَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَوْ يَرَاهُ يُؤَدِّيهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ: يَتَعَيَّنُ الأَوَّلُ .. (فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ) أيك من حد أو طلاق أو عتاق. ونبه على قول أبي حنيفة [681/ أ] أنها لا تقبل في العقوبات التي هي حق لله تعالى، وتقبل في العقوبات التي هي حق للخلق إلا القصاص، وعن الشافعي القولان. ومنشأ الخلاف هل النقل شبهة تدفع الحد؟ (وَشَرْطُهُا) أي: وشرط تحملها أن يقول شاهد الأصل للفرع: اشهد على شهادتي، أو يراه يؤديها عند الحاكم، وأما لو سمعه يخبر أن فلاناً أشهده بكذا فلا يشهد. قال في البيان: باتفاق؛ لما علم من تساهل الناس في الأخبار ولو كانوا في غاية الورع، وإنما يتحرزون في الإشهاد والتأدية عند الحاكم. وقال محمد: يتعين الأول، فلا يجوز فيما إذا رآه يؤديها عند الحاكم. والأول أظهر، وهو اختيار ابن حبيب وقول مطرف، وبالثاني قال

أشهب وأصبغ وابن يونس وهو أشبه بظاهر المدونة. واختلف أيضاً إذا سمعه يشهد غيره هل يشهد بذلك أم لا؟ مطرف: ولا يشهد بقول القاضي: ثبت عندي لفلان كذا حتى يشهده، حكاه في المفيد. فرع: من شرط شهادة النقل أن يسمي الناقلون من نقلوا عنه؛ لاحتمال أن يكونوا إذا سموهم حضروا. قاله المازري. فَلَوْ طَرَأَ فِسْقُ أَوْ عَدَاوَةُ أَوْ رِدَّةُ امْتَنَعَتْ يعني: فلو تغير حال شاهد الأصل، وكان يومئذ في النقل عنه عدلاً لا عداوة بينه وبين المشهود عليه ففسق قبل أداء الشهادة عنه أو ارتد أو حدثت بينه وبين المشهود عليه عداوة فلا يجوز للفرع أن يؤديها حينئذ؛ لأن المعتبر حال الشاهد وقت الأداء، وذكر المازري أن بعض الأصحاب أشار في الفسق إلى الفرق بين ما يخفى كالزنى وما لا يخفى كالقتل كما تقدم، وهو كلام صحيح. ولو تغيرت حالة الشاهد الأصل بعد الفسق إلى العدالة فهل للناقل الذي أشهده في حال العدالة الأولى أن ينقل الآن عنه من غير تجديد إذن الأصل في النقل عنه؟ المازري: فيه خلاف بين الناس. ولم يصرح هل هو في المذهب أو خارجه؟! وَالْجُنُونُ مِنْ كُلِّ لا يَمْنَعُ أي: في كل من الأصل والفرع؛ لأن الجنون غير قادح فيما تقدمه، ولا يظهر لذكر الجنون بالنسبة إلى الفرع كبير فائدة؛ لأنه إن جن قبل أداء الشهادة لم يبق نقل، وإن جن بعده فواضح عدم اعتباره كموته.

وَلا تُسْمَعُ إِلا بِمَوْتِ الأَصْلِ أَوْ غَيْبَتِهِ بِمَكَانٍ لا يَلْزَمُهُ الأَدَاءُ مِنْهُ، قَالَ مُحَمَّدُ: لا يَكْفِي فِي الْحَدِّ مَسَافَةُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثِةِ ... هذا شرط في أدائها والأول في تحملها؛ يعني: شرط النقل تعذر الشهادة من الأصل؛ لأن تأخره مع القدرة ريبة في شهادته، ولأن الظن في شهادة الأصل أقوى؛ فلا يعدل إلى الأضعف مع القدرة على الأقوى والمرض مقيد بأن يشق معه الحضور. واختلف في حد الغيبة فقيل: أن يكون على مسافة لا يلزم الشاهد منها الأداء. اللخمي: وقال ابن القاسم في الموازية: إن كانت الشهادة في الحدود لم تنقل عنهم إلا في الغيبة البعيدة، وأما اليومان والثلاثة فلا، ويجوز ذلك في غير الحدود، وقال سحنون: إن كانت المسافة تقصر في مثلها الصلاة أو الستين ميلاً كتب القاضي إلى رجل تشهد عنده البينة، ولم يفرق بين أن تكون الشهادة في مال أو حد. انتهى. ونقل ابن يونس عن الموازية نحو ما نقله اللخمي. المازري: وأشار في المدونة إلى كون الثلاثة أيام في غير الشهادة بالحدود قريبة فقال: من أراد أن يستحلف خصمه لكون من شهد له على مسافة ثلاثة أيام فإنه لا يمكن من ذلك حتى يسقط القيام بالبينة، وجعلها في حكم الحاضرة، والظاهر أن مراد المصنف بقوله: (وقَالَ مُحَمَّدُ) نظر؛ لأنه إنما رواه، وحمل ابن عبد السلام قول المصنف في الحد على أن المراد حد المسافة، ولم أر نقلاً يساعده. وَيُنْقَلُ عَنِ الْمَرْأَةِ بِحُضُورِهَا، وَقَالَ مُطَرِّفُ: لَمْ أَرَ بِالْمَدِينَةِ امْرَأَةً قَطُّ أَدَّتْ، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَنْهَا .. يعني: أن ما ذكره من اشتراط غيبة شاهد الأصل إنما هو في الرجل، وأما المرأة فينقل عنها مع حضورها؛ لما طلبت به من الستر، ولو فرق بين من عادتها الخروج وغيرها كما قيل في اليمين لما بعد.

وَلَوْ زَكَّى النَّاقِلُ الأَصْلَ جَازَتِ الشَّهَادَتَانِ أي: شهادة النقل وشهادة التعديل، ولا خلاف فيه، بل شرط أبو حنيفة والشافعي في صحة القضاء بالشهادة المنقولة أن يعدل شاهد الفرع شهود الأصل، والمذهب صحة النقل عمن لم يعرف حاله بجرحة أو عدالة، ويكون البحث في ذلك على القاضي؛ نعم لا ينبغي لهما أن ينقلا عمن لم يعلما جرحته؛ لأن في ذلك تغريراً للقاضي وتلبيساً عليه، قاله المازري وغيره. وَتُنْقَلُ الْمَرْأَتَانِ مَعَ رَجُلٍ فِي بَابِ شَهَادَتِهِنَّ، وَمَنَعَهُ أَشْهَبُ أي: من الأموال وما يؤول إليها كالوكالة والوصية، وما تختص به كالولادة وهذا هو المشهور، ووافق أصبغ إلا فيما يتخصص به، فأجاز فيه نقل امرأتين عن امرأتين. قال في الجواهر: وقال أشهب وعبد الملك: لا يجوز نقلهن للشهادة بوجه لا في مال ولا في غيره؛ إذ النقل لا يجوز فيه الشاهد واليمين، وإنما تجوز شهادتهن حيث يحكم بالشاهد واليمين، ومنشأ الخلاف أن النقل ليس بمال ولكنه يؤدي إلى مال، فهل يعتبر المال أم لا كما تقدم.؟ وَيَشْهَدُ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ اثْنَانِ لا يَكُونُ أَحَدُهُمَا شَاهِدَ الأَصْلِ وَيُكْتَفَي بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الآخَرِ، قَالَ [681/ ب] عَبْدُ الْمَلِكِ: لابُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ. يعني: أنه يكتفي في صحة نقل الشهادة- فيما عدا الزنى- أن يكون الناقلان اثنين شهد كل منهما على كل من الأولين على المشهور، بشرط أن لا يكون أحدهما شاهد في الأصل؛ لأنه إذا كان أحد الناقلين ممن شهد في الأصل كان الحق- كما قال ابن المواز- كأنه إنما يثبت بشاهد واحد، وقال عبد الملك: لا يقبل في النقل أقل من أربعة يشهد على كل واحد اثنان.

وَأَمَّا الزِّنَى فَيُكْتَفَى بِأَرْبَعَةٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَرْبَعَةِ أَوْ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ اثْنَانِ، فَلَوْ شَهِدَ ثَلاثَةُ عَلَى ثَلاثَةٍ وَوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَمْ تَتِمَّ، وَرَوَى مُطَرِّفُ: لابُدَّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَقَالَ ابن الماجشون: يَكْفِي أَرْبَعَةً عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ، فَإِنْ تَفَرَّقُوا فَثَمَانِيَةُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ، وَرُوِيَ يُكْتَفَى بِأَرْبَعَةٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ .. يعني: وأما الشهادة على الشهادة في الزنى فيحتاط في نقلها كما احتيط في أصلها، وذكر المصنف فيها أربعة أقوال: الأول وهو المشهور: يكتفى بأربعة يشهد كل واحد من الأربعة على كل من الأربعة، أو يشهد على كل اثنين اثنان، فلذلك لو شهد ثلاثة على ثلاثة وواحد على أربعة لم يتم الحكم؛ لأن الرابع لم يشهد على شهادته اثنان. وروى مطرف أنه لا بد من ستة عشر؛ على كل شاهد أربعة غير الأربعة الذين شهدوا على غيره. قوله: (وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ .. إلخ) يدخل في قول ابن الماجشون صورة لا تدخل على المشهور؛ وهي: إذا شهد اثنان على ثلاثة واثنان على واحد، وإنما لا تدخل على المشهور لأنه اشترط أن يكون على كل اثنين اثنان، فإن تفرقوا على قول ابن الماجشون فثمانية وإنما اكتفي في الاجتماع بأربعة لبعد الغلط حينئذ، ويفهم من حكايته عن عبد الملك أنه يعتبر ثمانية من غير تفصيل، والتزكية على رواية مطرف وقول ابن الماجشون تابعة للنقل؛ أي: لا يكتفي بأربعة، وروي عن مالك أنه يكفي في النقل اثنان كغير الزنى. تنبيه: وقع في بعض النسخ إثر قول ابن الماجشون: (وَقَالَ مُحَمَّدُ: يَكْفِي أَرْبَعَةً عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ) والظاهر أنه راجع إلى القول الأول، اللهم إلا أن يكون معنى قول محمد أنه لا يقبل أن يشهد كل من الأربعة على كل من الأربعة، لكن لم أر نقلاً يساعده.

وَيُلَفَّقُ الأَصْلُ مَعَ النَّقْلِ كَاثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ شَهِدُوا بِالرُّؤْيَةِ، وَاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ .. أما التلفيق فهو متفق عليه. قوله: (وَاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ) راجع إلى قوله: (كَاثْنَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ). وقوله: (أَوْ وَاحِدٍ) راجع إلى قوله: (أَوْ ثَلاثَةٍ) وهو تفريع على قول ابن القاسم لا على قول من اشترط أربعة على كل واحد. وَإِذَا كَذَّبَ الأَصْلُ الْفَرْعَ قَبْلَ الْحُكْمِ بَطَلَتْ، وَبَعْدَهُ ثَلاثَةُ؛ ابن القاسم: يَمْضِي وَلا غُرْمَ، ابْنُ حَبِيبٍ: يُنْقَضُ، مُحَمَّدُ: يَمْضِي وَيَغْرَمُ الأَصْلُ لِرُجُوعِهِمْ. يعني: أن لتكذيب الأصل الفرع حالتين: الأولى: أن يكذب شهود الأصل الفرع قبل أن يحكم القاضي بالشهادة فتبطل. ابن عبد السلام: بلا خلاف؛ لأنه كرجوعهم عن الشهادة قبل الحكم. ومفهوم قوله: (إِذَا كَذَّبَ) أنه إذا لم يكذبوهم بل شكوا عدم البطلان، والذي نص عليه ابن المواز أن الشك كالإنكار، وخرجه في البيان على اختلافهم في الحديث إذا شك الأصل، والفرع جازم. والحالة الثانية: أن يكون التكذيب بعد الحكم فحكى المصنف في المسألة ثلاثة أقوال: أولها: لابن القاسم في العتبية، وبه قال مطرف: أن الحكم ماضٍ ولا غرم؛ لأن الحكم عن اجتهاد ولا قطع بكذب الشهود، فلا ينقض. الثاني: لمالك في الواضحة أن الحكم ينقض؛ لأن بتكذيب الأصل صار الحكم مستنداً إلى غيره شهادة، ولأن شهود الأصل إذا صدقوا بطلت الشهادة، وإن كذبوا بطل أيضاً لتكذيبهم ونسبة المصنف هذا القول لابن حبيب ليست بظاهرة.

والثالث: أنه يمضي ويغرم شهود الأصل، وهذا ليس نصاً، بل استقرأة اللخمي من قول محمد في رجلين نقلا عن أربعة: إنهم أشهدونا أنهم يشهدون على فلان بالزنى، ولم يحد الناقلان حتى قدم الأربعة فأنكروا أن يكونوا أشهدوهم- قال: يحد الأربعة القادمون حد القذف ويسلم الاثنان؛ لأنهما صارا شاهدين على الأربعة بالقذف. اللخمي: فأثبت النقل وجعل إنكار الأربعة رجوعاً. ولو أن الشهود الذين شهدوا عند القاضي وحكم بشهادتهم أكذبوه بعد أنوقع الحكم فيه ففي المجموعة: ينظر السلطان في ذلك؛ فإن كان القاضي عدلاً أمضى الحكم ولا يلتفت إلى تكذيب من حكى القاضي أنهم شهدوا عنده. وفي الموازية في قاض حكم لزيد على عمرو بمائة، فأتى الشهود فأنكروا ذلك ونسبوا الغلط إليه وقالوا: إنما شهدنا عندك بأن لعمرو على زيد مائة بعكس ما حكمت عنا" فإن القاضي إذا كان على يقين لم ينقض الحكم، ولكن يغرم لعمرو مائة بشهادة هؤلاء عليه أنه أتلف مال من حكم عليه. المازري: ومقتضى قولنا أنه لو رفع إلى غيره والقاضي معسر لا ينزع ممن قضى له به. ابن المواز: ولو أن القاضي شك في صدقهم وجوز كونه غلطاً لنقض الحكم بنفسه. وَلِلرُّجُوعِ ثَلاثُ صُوَرٍ؛ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلا قَضَاءَ لما شبه في القول الثالث بالرجوع حسن أن يأتي بأحكام الرجوع. وقوله: (فَلا قَضَاءَ) أتى بالنفي العام ليعم المال وغيره. فَإِنْ قَالا: وَهِمْنَا بَلْ هُوَ هَذَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: سَقَطَتَا مَعاً يعني: فإن لم يرجعا عن المشهود له وإنما رجعا عن المشهود عليه وقالا: إنما الحق على هذا، فقال ابن القاسم وأشهب في الموازية: لا تقبل شهادتهما على واحد منهما، وهو معنى

قوله: [682/ أ] (سَقَطَتَا) وراه ابن القاسم عن مالك، وعلله أشهب بأنهما أخرجا أنفسهما من العدالة لإقرارهما أنهما شهدا على الوهم والشك. فَإِنْ قَالَ: شَكَكْتُ ثُمَّ قَالَ: زَالَ الشَّكُّ فَقال المازري: هِيَ مِثْلُ الشَّكِ قَبْلَ الأَدَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: تَذَكَّرْتُهَا فَالْوَاضِحُ قَبُولُهَا، وَثَالِثُهَا لِمَالِكٍ: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَاً قُبِلَتْ .. قال المازري: إذا وقع بعد أدائها تشكك فعاد إلى القاضي وقال له: توقفت في قبول شهادتي، ثم عاد بعد ذلك وقال: ذهب عني الشك فإن من الناس من ذهب إلى أن ذلك على قولين، ولا يبعد أن يجري في هذا التشكيك بعد الأداء ما كنا حكيناه عن المذهب إذا جرى ذلك من الشاهد قبل الأداء، والذي حكاه المازري قبل ذلك أن مالكاً سئل عمن يسأل عن شهادته فلم يذكرها، ثم عاد فقال: تذكرتها- فقال: تقبل شهادته ولا يضر بشرط التبريز، ويشترط ألا يمضي ما يستنكر فيه صحة ما اعتذر به. المازري: والظاهر قبولها من غير اشتراط التبريز؛ لأن التوقيف يعرض للعالم بالشيء ثم يذهب عنه ويعود إلى اليقين، ثم قال المازري: قال سحنون: وإن قال أنا أتذكر فيها، ثم عاد فقال: تذكرتها فإنها تقبل منه إذا كان بارز العدالة، وإن قال: لا أعلمها، ثم قالت: تذكرت فعلمتها فإن قول مالك اختلف في ذلك. المازري: وكأن سحنوناً أشار إلى أنه من الفرع الأول لما قال: "أنا أتذكر، ثم قال: علمت" لم يأت في قوله ثانياً بما ينافي الأول، بخلاف ما إذا قال: "لا أعلمها" فإنه كالمنافي بعد ذلك لقوله: "قد علمتها". وقول المصنف: (فَالْوَاضِحُ) أي: فيما إذا شك قبل الأداء؛ لأن المازري إنما قال ذلك فيها لا فيما إذا تقدم نفي العلم على الأداء، وعلى هذا فالثلاثة الأقوال إنما هي في الشك بعد الأداء والقولان اللذان حكاهما سحنون والفرق بين المبرز وغيره، وأما إذا شك قبل الأداء فلم يحك المازري وغيره قولاً في ذلك بعدم القبول مطلقاً.

الثَّانِيةُ: بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْلَ الاسْتِيفَاءِ، قَالَ ابن القاسم: يُسْتَوْفَى الدَّمُ كَالْمَالِ، وَقَالَ أَيْضاً وَغَيْرُهُ: لا يُسْتَوْفَى؛ لْحُرْمَةِ الدَّمِ .. هذه الصورة الثانية؛ وهي: أن يرجع الشهود عن شهادتهم بعد أن حكم القاضي وقبل الاستيفاء، فإن كان الحكم بمال مضى اتفاقاً، وإن كان بقصاص أو حد فقال ابن القاسم: لا ينقض الحكم كما في المال، فقوله: (كَالْمَالِ) أتى به للاستدلال، ونقل المصنف هذا القول عن مالك، وقال ابن القاسم أيضاً وغيره: لا يستوفى الدم أيضاً لحرمته، وتجب الدية، هكذا نقل المازري، وكان ابن القاسم يقول أولاً بالأول، ثم رجع واستحسن الثاني، قال: والأول القياس، وحكى المازري عن أصبغ ثالثاً أنه لا ينقض الحكم ولا دية فيه، وعلى وجوب الدية فقال بعض الشيوخ: لم يذكر على من تكون هل هي على الشهود؛ لأنهم أبطلوا الدم؟ وإن أراد ذلك فلم يبين أيضاً هل عليهم دية الذي شهددوا باستحقاق إراقة دمه أو دية الثاني الذي وجب عليه القصاص إن كان القاتل رجلاً والمقتول امرأة أو بالعكس؟ قال: ويمكن أن يريد: أن العقل يجب على القاتل الذي شهدوا أن القصاص يجب عليه حتى لا يبطل الدم عنه قال: وهذا عندي أظهر. وَمِثْلُهُ لَوْ رَجَعَ شُهُودُ الإِحْصَانِ لَجُلِدَ جَلْدَ الْبِكْرِ يعني: ومثل رجوع شهادة القتل رجوع شهادة الإحصان فيمضي رجمه على أحد القولين ولا يمضي على القول الآخر هكذا قال ابن عبد السلام، والأظهر أن المراد: ومثل القول الثاني؛ لقوله: (لَجُلِدَ جَلْدَ الْبِكْرِ). الثَّالِثَةُ: بَعْدَ الاسْتِيفَاءِ فَيَغْرَمَانِ الدِّيَةَ وَغَيْرَهَا إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَمْدُهُمَا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَلا يُغَرَّمَانِ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ .. الصورة الثالثة: أن يرجع الشاهد بعد استيفاء الحكم فلا خلاف أن الحكم تام وإنما النظر في الغرامة، ثم لهما حالتان:

الأولى أن يقولا: "غلطنا" فقال ابن القاسم وأشهب: يغرم الشاهدان؛ لأن الخطأ والعمد بالنسبة إلى ضمان أموال الناس سواء، وقال ابن الماجشون: لا يغرم الشاهدان؛ لأنهما لو غرما في الخطأ مع كثرة الشهادة عليه لتورع الناس عنهما، وبالأول قال مطرف وأصبغ، قيل: وهو ظاهر المدونة في كتاب السرقة، وبالثاني قال المغيرة وابن دينار وابن أبي حازم، وحكي عن أصبغ قول ثالث أن الدية على عواقلهما. فَإِنْ ثَبَتَ عَمْدُهُمَا فَالدِّيَةُ لابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْقِصَاصُ لأَشْهَبَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: لا نَصَّ لِمَالِكٍ فِي التَّغْرِيمِ إِلا أَنَّ أَصْحَابَهُ اتَّفَقُوا عَلَى تَغْرِيمِ مَا أَتْلَفُوهُ بِالتَّعَمُّدِ. تصور المسألة ظاهر، والأقرب قول أشهب؛ لأنهم قتلوا نفساً بغير شبهة، والقاضي والولي معذوران، وقول محمد راجع في المعنى إلى قول ابن القاسم على أن الأولى أن يعاد قول محمد على غير النفس كما لو أتلفوا بشهادتهم مالاً، وإن كان ظاهر كلام المصنف خلافه؛ لأنا لو أعدناه على الدية لم يصح؛ لأن المازري حكى عن مالك روايتين كقول ابن القاسم وأشهب، وقال: الأشهر عند أصحابه الغرم، اللهم إلا أن يقال: إن محمداً لم يطلع على الرواية بعدم الدية. وَلَوْ عَلِمَ الْحَاكِمُ بِكَذِبِهِمْ وَحَكَمَ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْقَتْلَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ هكذا حكى [682/ ب] المازري وابن شاس، وظاهره أنه تجب الدية عند ابن القاسم كالأول. وفيه نظر؛ ففي آخر الرجم من المدونة: وإن أقر القاضي أنه رجم أو قطع الأيدي أو جلد تعمداً للجور أقيد منه. وهو ظاهر في لزوم القود له وإن لم يباشر، وعلى ذلك حمله بعضهم. ابن عبد السلام: ولا أظنه يختلف في ذلك، وظاهره أن القود يجب في السوط وهو أحد القولين.

وَأَمَّا لَوْ رَجَعَا فِي شَهَادَةِ قَذْفٍ أَوْ شَتْمٍ وَشِبْهِهِ فَالأَدَبُ لا غَيْرُ أي: ولا غرامة هنا، وقد نقل سحنون الاتفاق على ذلك، قال: ولا تقع المماثلة في اللطمة والسوط، وقد يسبق إلى الذهن أن من يرى القود في السوط من أصحابنا يرى أن للمشهود عليه هنا أن يقتص من الشهود، وهذا إنما يتم لو كان أشهب الذي يوجب للمشهود عليه القصاص من الشهود يقول بالقود في السوط. وَقَدْ قال المازري: لا خِلافَ فِي تَعَلُّقِ الْغَرَامَةِ بِهِمْ إِذَا شَهِدُوا عَلَى قَتْلٍ عَمْدٍ فَاقْتُصَّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ حَيُّ، وَإِنَّمَا الْخِلافُ فِي الْبِدَايَةِ وَفِي الرُّجُوعِ فَقَالَ ابن القاسم: يَبْدَأُ بِالشُّهُودِ فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَمِنَ الْقَاتِلِ، وَقِيلَ: الْمُسْتَحِقُّ مُخَيَّرُ ليست هذه المسألة من مسائل الرجوع لأن الشاهدين لم يرجعا، وإنما تبين كذبهما من جهة غيرهما، لكنه ذكره في فصل الرجوع لاشتراكه معه في تعلق الغرامة. وقوله: (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) نحوه في الجواهر وعزاه لسحنون أيضاً، وإنما عزاه المازري لسحنون، وهو الظاهر؛ لأن الذي نقله في النوادر عن ابن القاسم في رجلين شهدا أن هذا الرجل قتل ابن هذا عمداً فقضى بقتله ثم قدم ابن الرجل حياً: أنه لا شيء على الإمام ولا على عاقلة الأب، ويغرم الشاهدان ديته في أموالهما، وقاله أصبغ، ولم يذكر عن ابن القاسم الرجوع على القاتل إذا كانوا فقراء، وإنما قال سحنون: أنه يرجع على القاتل ولا يكون له على الشهود رجوع. المازري: وروي نفي الترتيب، وأن ولي الدم مخير إن شاء تبع الشاهدين بالدية، وإن شاء تبع ولي القاتل، ثم إن بدأ بطلب الشهود لم يكن له العدول عنهم إلا أن يجدهم فقراء فيطلب الأب القاتل، وإن اختار البدأة بالأب فليس له الرجوع عنه ملياً كان أو معدماً.

وَفِي الرُّجُوعِ قِيلَ: إِنَّمَا يَرْجِعُ الشُّهُودُ بِمَا أَدَّوْا عَلَى الْقَاتِلِ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: لا رُجُوعَ .. قال: (إِنَّمَا) ليفيد أنه على هذا القول لا يرجع القاتل عليهم، وهذا من كمال القول بتخيير المستحق، هكذا ذكر المازري. وقوله: (وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ) لم أره، والقول الثالث ينفي رجوع أحدهما عن الآخر، ذكره ابن شاس وغيره عن سحنون. فَلَوْ كَانَتْ عَلَى قَتْلٍ خَطَأٍ فَأُخِذَتِ الدَّيةُ مِنَ الْعَاقِلَةِ لَرُدَّتْ فَإِنْ أُعْسِرَ فَعَلَى الشُّهُودِ، وَلا رُجُوعَ .. يعني: فإن كانت الشهادة بقتل الخطأ فأخذت الدية من العاقلة ثم قدم المشهود بقتله حياً لردت الدية، فإن أعدم أحدهما غرمها الشهود؛ لأنهم السبب في تمكين أخذه منها، وهذا قول ابن القاسم، وقيل: يبأ بالشهود فتأخذ منهم العاقلة ما أخذه الولي، فإن كانوا فقراء رجعت على الولي بما أخذ منهم ثم لا يرجع الغارم من الشهود على الولي، ولا الولي على الشهود، وقيل: بل العاقلة تخير بين أن ترجع على الشهود أو على الأب، فإن وجدت الشهود فقراء رجعت بما غرمت على الولي، وإن اختارت البداءة بالولي فليس لها الرجوع على الشهود، وإن وجدت الولي فقيراص فأخذت من الشهود رجعوا على الولي، وإن أخذت من الأب لم يرجع على الشهود. المازري: فتخلص من هذه أن المذهب لم يختلف في أن الطلب يتوجه على الأب القابض للدية وعلى الشهود؛ لأنهم هم مكنوا الأب منها، ولكن إن كان أحد الصنفين فقيراً طلب الموسر بغير خلاف، وإن كانا مليين فاختلف هل تخير العاقلة بين طلب الأب أو طلب الشهود أو يقع على الترتيب؟ وعلى الترتيب فاختلف بمن يبدأ؛ فقيل: بالأب، وقيل: بالشهود ثم في رجوع الشهودعلى الأب خلاف، وأما الأب إذا غرم فلا يرجع عليهم.

وَعَنْ أَشْهَبَ فِيمَنْ رُجِمَ بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مَجْبُوبُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الإِمَامِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَصْلِهِ .. قال أشهب: إلا أن يقولوا رأيناه يزني قبل جبه فتجوز شهادتهم، ولا حد عليهم على كل حال. وقوله: (وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَصْلِهِ) أي: عليهم الدية مع وجيع الأدب وطول السجن، هكذا قال في كتاب الرجم، زاد: ولا حد على الشهود؛ إذ لا يحد من قال لمجبوب: يا زان، قال جماعة: يريد إذا جب قبل البلوغ لأن بذلك يظهر كذبهم. ونبه بقوله: (عَلَى أَصْلِهِ) على مخالفة أشهب لأصله، لأن أصله القصاص، ولقصد مناقضة أشهب والله أعلم صدر المصنف المسألة بقول أشهب، وإلا فشأنه تقديم قول ابن القاسم إذا كان في المدونة، وزعم بعضهم وجوب الدية هنا، قال: لأن المشهود عليه قادر على أن يظهر الجب، وأجرى بعض الشيوخ فيها الخلاف المتقدم في مسألة الرجوع عن الشهادة، ووقع في بعض النسخ عوض (وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَصْلِهِ) (وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى عَاقِلَةِ الشُّهُودِ) والأول أصح؛ لموافقته المدونة، ولا يبعد أن يخرج مما في حريم البئر من المدونة قول كالنسخة الثانية، لأن فيها: وأما من حفر بئراً في غير ملكه لماشية فلا يمنع فضلها من أحد وإن منعوه حل قتالهم، وإن لم يقو المسافرون على دفعهم حتى ماتوا عطشاً فدياتهم على عواقل المانعين، والكفارة عن كل نفس منهم على كل رجل من أهل الماء مع وجيع الأدب. فرع: قال محمد بن عبد الحكم في رجل [683/ أ] قيد عبده وحلف لا ينزعه شهراً، وحلف أيضاً بحريته إن وزن العبد عشرة أرطال، فشهد شاهدان أن وزنه ثمانية، فحكم القاضي بحرية العبد لأجل شهادتهما بحنث السيد، ثم نزع السيد القيد عند الأجل،

فوجد كما حلف عليه، أن الحكم ينقض ويرد العبد إلى الرق، وقال أبو حنيفة: الحكم ماض ولا يرد العبد إلى الرق، ويغرم الشهود قيمة العبد كما يغرمان ذلك إذا رجعا عن شهادتهما، وفرق ابن عبد الحكم بأن رجوع البينة محتمل للكذب فلا ينتقض الحكم بالاحتمال، ومسألة العبد تيقن كذبهما فيها. وَيُحَدُّونَ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى فِي الصُّوَرِ كَلِّهَا أي: في الثلاث صور، إذا رجعوا قبل الحكم وبعده وقبل الاستيفاء وبعدها. فَلَوْ رَجَعَ أَحَدُ الأَرْبَعَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ حُدُّوا، وَبَعْدَ إِقَامَتِهِ حُدَّ الرَّاجِعُ اتِّفَاقاً دُونَ الثَّلاثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَبْدُ حُدُّوا أَجْمَعُونَ. يعني: إذا رجع أحد الأربعة فإن كان رجوعه قبل الحكم حد الجميع، وإن كان بعد إقامة الحد أو بعد الحكم على المشهود عليه حد الراجع اتفاقاً؛ لاعترافه على نفسه بالقذف دون الثلاثة على المشهور، وهو مذهب المدونة؛ لأن الحكم قد نقل شهادتهم وهم باقون عليها، والشاذ أنهم يحدون أيضاً. قوله: (وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَبْدُ حُدُّوا أَجْمَعُونَ) نحوه في المدونة والفرق أن الرق وصف ظاهر لا يشك فيه، وأما الرجوع فيحتمل لفسق طرأ أو لميل مع أحد الخصمين أو نحو ذلك، ولهذا ألحقوا بالعبد الكافر والأعمى وولد الزنى والمولى عليه. فَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْ سِتَّةٍ لَمْ يُحَدَّ الْبَاقُونَ؛ لاسْتِقْلالِهِمْ وَلا الرَّاجِعَانِ؛ لأَنَّهُمَا كَقَاذِفَيْنِ شَهِدَ لَهُمَا أَرْبَعَةُ إِلا أَنْ يُكَذِّبَا الشُّهُودَ .. تصوره ظاهر، واختلف قول ابن القاسم في حد الراجعين فقال مرة هو وعبد الملك: لا يحدان للعلة التي ذكرها المصنف؛ أنهما كقاذفين شهد لهما أربعة بالزنى، وقال مرة: يحدان؛ لاعترافهما على أنفسهما بالقذف.

المازري: وإن قال: "انفردت أنا بالكذب، ولا أعتقد كذب من شهد معي" لم يحد، وكلام المصنف راجع إلى هذا. فَلَوْ رَجَعَ ثَالِثُ حُدَّ هُوَ وَالسَّابِقَانِ وَغَرِمُوا رُبُعَ الدِّيَةِ وَإِنْ رَجَعَ رَابِعُ فَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ .. أي: رجع ثالث مع الاثنين اللذين رجعا قبل، ففي الموازية: يغرم هو والراجعان قبله ربع الدية بينهم أثلاثاً. والحد على كل واحد منهم، قال: سواء رجعوا معاً أو مفترقين. قوله: (وَإِنْ رَجَعَ رَابِعُ فَنِصْفُ الدِّيَةِ) أي: على هذا الراجع، وعلى الثلاثة الذين قبله بالسواء، ولذلك إن رجع خامس كان على الراجعين ثلاثة أرباع الدية، وإن رجع السادس كانت الدية على الستة، وهذا معنى قوله: (وَعَلَى ذَلِكَ). فَلَوْ ظَهَرَ بَعْدَ رُجُوعِ اثْنَيْنِ أَنَّ أَحَدَ الأَرْبَعَةِ عَبْدُ فَقَالَ مَالِكُ: يُحَدُّ الرَّاجِعَانِ وَيُغْرَمَانِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَحُدَّ الْعَبْدُ بِغَيْرِ غَرَامَةٍ .. يعني: لو رجع اثنان من الستة، ثم ظهر بعد رجوعهما أن أحد الأربعة الذين لم يرجعوا عبد ففي الموازية ما ذكره المصنف، وفي كتاب الرجم من المدونة: وإن علم بعد الرجم أو الجلد أن أحدهم عبد حد الشهود جميعاً، وإن كان مسخوطاً لم يحد واحد منهم؛ لأن الشهادة قد تمت باجتهاد الإمام في عدالتهم، ولم تتم في العبد، ويصير من خطأ الإمام، فإن لم يعلم الشهود كانت الدية في الرجم على عاقلة الإمام، وإن علموا فذلك على الشهود في أموالهم ولا شيء على العبد في الوجهين. فإن قيل: هل ما في الكتابين متخالف فيتخرج في المسألتين خلاف، أو لا؟ قيل: يحتمل أن يقال: مسألة المدونة انتقض الحكم فيها بظهور كون الرابع من الشهود عبداً، وإذا انتقض وجب حد الثلاثة الباقين، وأما مسألة الموازية فإن الحكم

ينتقض لأن قصارى الأمر أنه شهد خمسة وأقيم الحد، ورجع منهم اثنان، وذلك غير موجب لنقض الحكم، فلهذا لم يحد الثلاثة الباقون فيها. فإن قلت: فكان ينبغي على ما في الموازية أن يسقط الحد عن العبد. قيل: قذف العبد للمشهود عليه سابق على حد الزنى، فلعله لما كان مطالباً به وقد ظهرت الشبهة في زنى المشهود عليه فرجع بعض الشهود استصحب القذف ووجب حد العبد، والمسألة مع ذلك مشكلة. وَقَالَ مُحَمَّدُ: لَوْ رَجَعَ وَاحِدُ مِنَ السِّتَّةِ بَعْدَ أَنْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ ثَانٍ بَعْدَ مُوضِحَةٍ ثُمَّ ثَالِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعَلَى الأَوَّلِ سُدُسُ دِيَةِ الْعَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِي مِثْلُهُ وَخُمُسُ الْمُوضِحَةِ، وَعَلَى الثَّالِثِ رُبُعُ دِيَةِ النَّفْسِ فَقَطْ، وَقِيلَ: مُضَافاً إِلَى السُّدُسِ وَالْخُمُسِ .. يعني: لو شهد ستة على رجل بالزنى فأمر القاضي برجمه لأنه كان محصناً فرجع واحد منهم بعد أن فقئت عين المرجوم، ثم رجع ثان بعد أن أوضحه موضحة فلا غرامة على الراجعين لبقاء أربعة يشهدون بالزنى، ولا حد عليهم على أحد قولي ابن القاسم كما تقدم، ثم إن رجع ثالث بعد قتله وجب على الأول سدس دية العين؛ لأنها فقئت بشهادة ستة هو أحدهم، وكذلك على الثاني مع خمس دية الموضحة، ولا شيء على الأول في الموضحة؛ لأنه رجع قبلها ولم يشارك فيها، واختلف فيما يجب على الثالث؛ فقيل: يجب عليه ربع دية النفس فقط. وقيل: بل يضاف إلى ذلك مثل ما على الأولين. ابن المواز: والأول أصح؛ أي: لأن القتل يندرج تحته الجراح، وهذا الفرع الذي ذكره محمد [683/ ب] مبني على مذهبه أن رجوع الشهود بعد الحكم وقبل الاستيفاء يمنع من الاستيفاء، وأما على القول الذي رجع إليه ابن القاسم أنه يستوفي فينبغي أن يكون على

الثلاثة الراجعين ربع دية النفس دون العين والموضحة لأنه حينئذ قتل بالستة، ودية الأعضاء تندرج؛ فتأمله. وَإِذَا رَجَعَ أَرْبَعَةُ الزِّنَى وَشَاهِدَا الإِحْصَانِ فَفِي اخْتِصَاصِهِ بِالأَرْبَعَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ .. أي: في اختصاص الغرم، واختار أصبغ وسحنون قول ابن القاسم بالاختصاص؛ لأن شهود الإحصان لم يصفوا الزاني عيناً، وبقول أشهب قال ابن الماجشون وابن المواز، ووجهه أن شهود الإحصان لولاهم لم يجب الحد، ويترجح قول ابن القاسم بأن عبد الملك قال: إن رجوع المزكين عن تزكية من زكي في حق لا يوجب عليهما الغرامة، وهكذا قال سحنون أيضاً، واحتج بأن الحق إنما يثبت بغير المزكين، قال: ولو شاء الشاهدان بالحق لم يشهدا، ثم فرع على قول أشهب فقال: وَعَلَى التَّعْمِيمِ فَفِي تَنْصِيفِهَا قَوْلانِ أي: ففي تنصيف الدية- وهو قول ابن القاسم- وعدم تنصيفها بل تكون بينهم أسداساً- وهو قول أشهب وعبد الملك- بناء على أن القتل مرتب على كل واحد من النوعين، أو يعتبر عدد ما يثبت به الأمران معاً وهو عدد الشهود. وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُمَا رَجِعَا مُكِّنَ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ طَلَبَ يَمِينَهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا فَقَوْلانِ .. خالف أبو حنيفة في إقامة البينة عليهما بالرجوع ولم يمكن المشهود عليه من ذلك، ونقض عليه محمد بن عبد الحكم بأنه يوافق على أنهما لو أقرا بالرجوع لزمهما الغرم، وكل ما صح الإقرار به صحت إقامة البينة عليه، وعلى المذهب فإن طلب المشهود عليه تحليفهما على أنهما لم يرجعا فقال ابن القاسم وعبد الملك وابن المواز وسحنون: يمكن من ذلك بشرط أن

يأتي بلطخ، فإن لم يأت بلطخ فلا يمين عليهما، فإذا توجهت اليمين عليهما حلفا وبرئا، فإن نكلا حلف المدعي وأغرمهما ما أتلف بشهادتهما، وإن نكلا فلا شيء عليهمأ، وأطلق المصنف نقل هذا القول، وهو مقيد بما ذكرناه من إقامة اللطخ وذلك مما يثقوي القوبل الثاني بعدم سماع هذه الدعوى من غير بينة؛ لأنها لو كانت كسائر الدعاوى ما احتيج في توجيهها إلى اللطخ، وهو قول ابن عبد الحكم، وهو أقيس؛ لأنفي ذلك وهناً على الشهود. وَلَوْ رَجَعَا عَنِ الرُّجُوعِ لَمْ يُقْبَلْ؛ لأَنَّهُ إِقْرَارُ بِإِتْلافٍ الضمير في (يُقْبَلْ) وفي (أَنَّهُ) عائد على (الرُّجُوعِ) أي: لأن رجوعهما إقرار منهما للمشهود عليه بإتلاف ماله فلا يقبل رجوعهما عنه. أَمَّا لَوْ ثَبَتَ كَذِبُهُمْ نُقِضَ إِذَا أَمْكَنَ فصله من (الرُّجُوعِ) لمخالفته له؛ لأن الحكم لا ينقض في الرجوع بخلاف تبيين الكذب فإنه ينقض، ولم يذكروا فيه خلافاً، وهذا كما تقدم في المشهود بقتله ثم يقدم حياً، وفي المشهود بزناه ثم ثبت أنه مجبوب. وقوله: (أَمْكَنَ) ظاهره أنه يعود على النقض المفهوم من: (نُقِضَ) واحترز بذلك من الفوات بالاستيفاء إذ لم يبق حينئذ إلا الغرم، وأعاده ابن عبد السلام على الثبوت المفهوم من: (ثَبَتَ). وَلَوْ رَجَعَا فِي شَهَادَةِ طَلاقٍ وَأَقَرَّا بِالتَّعَمُّدِ نَفَذَ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولاً بِهَا فَلا غُرْمَ عَلَيْهِمَا كَشَهَادَةِ عَفْوِ الْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا فَفِي تَغْرِيمِهِمَا نِصْفَ الصَّدَاقِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ .. لما فرغ من رجوعهما في الدماء شرع في رجوعهما في الأبضاع فقال: (وَلَوْ رَجَعَا فِي شَهَادَةِ الطَلاقٍ) يريد: بعد الحكم؛ لقوله: (نَفَذَ).

ثم لا تخلو المرأة المشهود بطلاقها إما أن تكون مدخولاً بها أم لا؟ فالمدخول بها لا غرم على الشاهدين؛ لأن الصداق قد استحق عليه بأول وطئه، وإنما فوتا عليه استمتاعاً ولا قيمة له، وشبهه المصنف بشهادة من شهد مستحق القصاص أنه عفا عنه ثم رجعا فإنهما لا غرم عليهما؛ لأنهما إنما فوتا عليه دماً، وشبهه المصنف بالقصاص لإفادة الحكم، فلا يرد عليه أن تشبيهه ليس بجيد؛ لأن التشبيه إنما يكون للخفي بالجلي، والمختلف فيه بالمتفق عليه، والأمر هنا بالعكس فإن البضع ليس بمال البتة، ودم العمد مختلف فيه، هل الواجب القصاص فقط أو التخير بينه وبين الدية؟ ولهذا خالف ابن عبد الحكم في العفو فغرمهما الدية؛ لأنا نقول: إنما يرد هذا لو قصد المصنف بتشبيهه الاستدلال، أما إذا قصد إفادة الحكم فلا، والمشهور أنه لا بأس عليهما إذا رجعا عن شهادتهما أنه عفا عن القصاص. سحنون: ويجلد القائل مائة ويحبس سنة ويؤدب الشاهدان. وأما إن كانت غير مدخول بها فقال ابن القاسم: يغرمان نصف الصداق بناءً على أنها لم تملك بالعقد شيئاً؛ لجواز ارتداداها، فبشهادتهما غرم نصف الصداق، وقال أشهب وابن عبد الحكم: لا غرم عليهما، وأفتى به أصبغ بناء على أن نصف الصداق واجب العقد فلم يوجبا على الزوج شيئاً لم يكن واجباً عليه. واعلم أنه نص في المدونة على أنهما يغرمان النصف، وسكت عمن يستحقه، فمن يقول هو الزوج يعلل بما عللنا به، ومن يقول هي الزوجة يرى أن الصداق كان واجباً لها على الزوج، والشاهدان هما اللذان منعاها الباقي فيغرمانه، وانظر كلامه في المدونة على كل من التأويلين، فإنه مبني على خلاف ظاهر المذهب أن المرأة تملك النصف بالعقد، وأيضاً فإنه لا يلتئم ما في المسألة التي بعد هذه وهي قوله: وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَةِ الدُّخُولِ فِي مُطَلَّقَةٍ لَغَرِمَا نِصْفَ الصَّدَاقِ يعني: إذا طلق الزوج زوجته وأنكر الدخول فشهد عليه به شاهدان وغرم [684/ أ] جميع الصداق بشهادتهما ثم رجعا فعليهما نصف الصداق؛ لأنهما أتلفاه، وإن رجع أحدهما غرم ربعه.

وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالدُّخُولِ وَاثْنَانِ بِالطَّلاقِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالأَكْثَرُ: لا غَرَامَةَ عَلَى شَاهِدَيِ الطَّلاقِ، وَقِيلَ: كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا. يعني: إذا شهد شاهدان بطلاق امرأة ثبت نكاحها بشهادة غيرهما، وشهد آخران أنه دخل بها، فقضى لها بجميع الصداق ثم رجع الأربعة، فأكثر أهل المذهب أنه لا غرامة على شاهدي الطلاق؛ لأن الصداق إنما دفع بشهادة شاهدي الدخول. ابن سحنون: وبعض الرواة على خلافه: يريد- والله أعلم-: أن الصداق يكون على جميعهم. ابن عبد السلام: وكان ينبغي أن يقول: كما لو انفردا. وَيَرْجَعُ شَاهِدَا الدُّخُولِ عَلَى الزَّوْجِ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ إِذَا كَانَ مُنْكِراً طَلاقَهَا يعني: فإن ماتت المرأة في المسألة المفروع منها فإن شاهدي الدخول يرجعان على الزوج بما غرماه؛ لكونه منكراً لشهادتهما، مقراً بوجوب جميع الصداق عليه، لموتها في عصمته. وقوله: (إِذَا كَانَ مُنْكِراً طَلاقَهَا) زيادة بيان؛ إذ لا يحتاج إلى الشهادة إلا مع الإنكار. وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى شَاهِدَيَ الطَّلاقِ بِمَا فَوَّتَاهُ مِنَ الْمِيرَاثِ دُونَ مَا غَرِمَ لَهَا، وَتَرْجِعُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِمَا بِمَا فَوَّتَاهَا مِنَ الْمِيرَاثِ وَالصَّدَاقِ .. أي: لو شهدا عليه بالطلاق ثم رجعا فماتت الزوجة، فإن الزوج يرجع على شاهدي الطلاق بما فوتاه من ميراثها؛ إذ لو بقيت في عصمته لورثها، ولا يرجع عليها بشيء مما غرم من الصداق لاعترافه بأن جميع الصداق تكمل عليه بالموت. وقوله: (وَتَرْجِعُ .. إلخ) يعني: ترجع هي إن مات الزوج بما فوتاه من الميراث وما أسقطاه من صداقها فيما إذا كانت غير مدخول بها؛ لأنهما حينئذ أغرماها نصف الصداق والزوجان منكران للطلاق.

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ تَجْرِيحٍ أَوْ تَغْلِيطٍ لِشَاهِدَيْ طَلاقِ أَمَةٍ غَرِمَا لِلسَّيِّدِ مَا نَقَصَ بِرَدِّهَا زَوْجَةً .. يعني: إذا شهد رجلان بطلاق أمة من زوجها ففرق القاضي بينهما في شهادتهما، ثم جاء شاهدان آخران فشهدا بأن الأولين كاذبان؛ لغيبتهما مثلاً عن البلد، أو لغير ذلك فقضى القاضي ببقاء الأمة على العصمة، ثم رجع الشاهدان المكذبان للشاهدين الأولين فإن الراجعين يغرمان للسيد ما نقص من ثمنها لما ألحقا بهما من عيب التزويج؛ فيغرمان لسيد الأمة ما بين قيمتها ذات زوج وقيمتها خالية منه. وَلَوْ رَجَعَا عَنْ الْخُلْعِ فِي ثَمَرِةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاحُهَا فَقَالَ ابن الماجشون: يَغْرَمَانِ قِيمَتَهَا عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ كَمَنْ أَتْلَفَهَا، وَفِي الْعَبْدِ الآبِقِ يَغْرَمَانِ الْقِيمَةِ فَإِنْ ظَهَرَ عَيْبُ عِنْدَ الْخُلْعِ اسْتَرَدَّ مَا يُقَابِلُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: يُؤَخَّرُ الْجَمِيعُ إِلَى الْحُصُولِ فَيَغْرَمَانِ مَا يَحْصُلُ .. لا إشكال إن رجعا عن شهادة على امرأة بأن زوجها طلقها بعوض وهي تنكر ذلك أنهما يغرمان ذلك العوض ولو كان الخلع المشهود به على ثمرة لم يبد صلاحها فقضي بذلك للزوج ثم رجعا فقال عبد الملك كما ذكر المصنف: عليهما قيمة الثمرة على الرجاء والخوف قياساً على من أتلف الثمرة قبل زهوها، وقال محمد: لا يرجع عليها بشيء حتى يجد الزوج الثمرة ويقضيها، فيطالب الشاهدان حينئذ بالغرامة، وكذلك اختلف إذا كان الخلع بعبد آبق فقال عبد الملك: يغرمان قيمة الأبق والشارد على أقرب صفاتهما، فإن ظهر بعد أنهما كانا معيبين عند الخلع استردا مما غرماه ما يقابل العيب. ابن شاس: وعلى قول محمد إذا كان حصول الأبق أمداً قريباً أخذت الغرامة إلى حصوله حسبما قاله في الثمرة، وإن كان بعيداً غرم الشاهدان قيمته على الصفة التي أبق عليها، ثم رجع محمد فقال: لا غرامة على الشاهدين لا في هذا ولا في الجنين إذا وقع الخلع به ورجع

الشاهدان إلا بعد خروج الجنين وقبضه، وبعد وجدان العبد الآبق والبعير الشارد وقبضهما؛ فيغرمان قيمة ذلك يومئذ، وقد كان قبل ذلك تالفاً، وكذلك الجنين، وكذلك الثمرة قبل بدو صلاحها. انتهى. وعلى هذا المصنف إنما ذكر عن محمد ما رجع إليه، وقول عبد الملك أقيس، وإنما يقع الغرم وهو على الصفة التي كان عليها يوم الخلع كالإتلاف، والاعتبار بقول محمد أنه إن كان تالفاً يومئذ؛ لأن ذلك إنما يعتبر في البيع، أما الإتلاف فلا. وَإِذَا كَانَتْ مُنْكِرَةً لِلزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهَا تَكْذِيبُ نَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ مُدَّعِيَةُ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ يَمُوتُ فَلَهَا تَكْذِيبُ نَفْسِهَا وَتَرِثُهُ هذه المسألة وقعت في بعض النسخ، وليست هي من رجوع البينة، وهي منصوصة في الموازية وكتاب ابن سحنون. وقوله: (بَعْدَ الْبَيِّنَةِ) فيه حذف مضاف؛ أي: شهادة البينة، واحترز بـ (قَبْلَ الْبِنَاءِ) مما لو بنى بها فإنها تأخذ هنا ما شاهدا به، ولو كانت مقيمة على الإنكار؛ لاستباحة بضعها، فلها تكذيب نفسها إذا طلقه قبل البناء وتأخذ نصف الصداق وتقول: "إنما جحدت النكاح كراهية للزوج" ولها أيضاً الميراث. الشيخ أبو محمد: بشرط أن تحلف، ولو شهدا عليه بأنه تزوجها بمائة وصداق مثلها مائتان ثم رجعا فإنها ترجع عليهما بما نقص من صداقها. ولما فرغ [684/ ب] من البضع شرع في العتق وما يتعلق به فقال: وَلَوْ رَجَعَا عَنْ عِتْقٍ فَإِنْ كَانَ نَاجِزاً غَرِمَا قِيمَتَهُ، وَالْوَلاءُ لِسَيِّدهِ يعني: وإن شهدا على فلان أنه أعتق عبده فأعتقه السلطان عليه، ثم رجعا عن شهادتهما لم يرد الحكم، وضمنا قيمته لسيده؛ لكونهما منعاه من الانتفاع به ويكون الولاء لسيده؛ لاعترافهما بذلك، وعلى دعوى السيد فيأخذ ميراثه بالرق؛ لإنكاره العتق.

ابن عبد السلام: وينبغي أن يرد لهما من تركة العبد القيمة التي أخذت منهما؛ لأنه إنما أخذها بمقتضى الملك فيما يزعم لا بمقتضى الولاء، والجمع بين الملك وأخذ القيمة باطل، قيل: وفيه نظر؛ لأن القيمة عوض عما حرمه من منافع الرقبة لا تعلق لذلك بماله، كما لو قتله رجل فإنه يأخذ منه القيمة ويأخذ ماله. وَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: عَلَيْهِمَا الْقِيمَةُ بَعْدَ إِسْقَاطِ قِيمَةِ مَنَافِعِ مَا قَبْلَ الأَجَلِ عَلَى غَرَرِهَا وَيَسْتَوْفِيهَا السَّيِّدُ، قَالَ مُحَمَّدُ: لَيْسَ بِمُعْتَدِلٍ؛ لأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ أَكْثَرَ فَيَذْهَبُ مَجَّاناً، وَتَعَقَّبَهُ الْمَازِرِيُّ بِامْتِنَاعِهِ عَادَةً؛ لأَنَّهَا دَاخِلَةُ فِي تَقْوِيمِهِ، وَقَالَ سحنون: عَلَيْهِمَا الْقِيمَةُ وَلَهُمَا مَنَافِعُ الْعَبْدِ إِلَى الأَجَلِ إِلا أَنْ يَسْتَوْفِيَا مَا غَرِمَاهُ قَبْلَهُ، فَلَوْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَخَذَا مَا غَرِمَاهُ؛ لاعْتِرَافِ السَّيِّدِ لَهُمَا بِذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: يُخَبَّرُ السَّيِّدُ فِي تَسْلِيمِ خِدْمَتِهِ كَسُحْنُونِ، وَفِي الاسْتِمْسَاكِ وَدَفْعِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ وَقْتاً بَعْدَ وَقْتٍ كَابْنِ الْمَاجِشُونِ ... يعني: وإن شهدا على رجل أنه أعتق عبده إلى أجل ثم رجعا، وما نسبه لعبد الملك فيه نظر، وإنما نسبه صاحب النوادر والمازري وابن شاس لمحمد بن عبد الحكم. وكان عليهما القيمة؛ لأنهما منعاه من بيعه والانتفاع به، ثم تسقط من تلك القيمة قيمة منافع العبد إلى أجلها. وأشار بقوله: (عَلَى غَرَرِهَا) إلى أن المنافع تقوم إلى الأجل على تجويز أن يموت العبد قبل الأجل أو يعيش إليه، ويستوفي السيد تلك المنافع. والضمير في قوله: (يَسْتَوْفِيهَا) عائد إلى (الْمَنَافِعِ) لا إلى (الْقِيمَةُ) والذي نقله صاحب النوادر عن عبد الملك أن الشاهدين يغرمان القيمة وتسليم إليهما الخدمة يأخذان منها ما يؤديا، واعترض ابن المواز القول الذي ذكره المصنف بأن قيمة منافع العبد إلى الأجل قد تكون مساوية لقيمة العبد فيكونان كأنهما أتلفا عليه العبد ولا يغرمان شيئاً.

المازري: والذي قال محمد صحيح من جهة الفقه لو أمكن تصوره، لكنه كالممتنع عادة؛ لأن قيمة المنافع المؤجلة داخلة في قيمة رقبته التي تبقى مملوكة بها طول حياته، وما يكون داخلاً في الشيء لا يكون أكثر منه، هذا معنى كلامه، وهذا الذي قاله المازري صحيح ولو كان الناس يلتفتون في تقويم العبد إلى مدة حياته، وأكثرهم يقطعون النظر عن ذلك. وقوله: (وَقَالَ سُحْنُونُ) هو القول الثاني: عليهما قيمة العبد معجلة ويأخذان العبد فيستخدمانه في الأجل، فإن حصل لهما مثل ما دفعاه إلى السيد عند حلول الأجل فقد تم الحكم وخرج العبد حراً، وإن حل الأجل وقد بقي لهما من القيمة شيء فكذلك، ولا شيء لهما مما بقي، وإن استوفيا قبل الأجل رجع العبد يخدم سيده، ثم إن مات في يد السيد قبله؛ أي: قبل الأجل وترك مالاً أو قتل فأخذ ماله قيمة، أو مات بعد الحرية وترك مالاً فليأخذ الشاهدان من ذلك ما بقي لهما، وعلل المصنف هذا الأخذ من ماله أو قيمته بأن السيد معترف أن ما يستحقه من مال العبد عليه فيه دين، وهو مقدار ما أخذ منهما، وقول محمد الذي حكاه المصنف ظاهر التصور، نقله ابن يونس على وجه أتم من المصنف؛ لأنه قال: قال ابن المواز: وإن قال اسليد بعدما أغرمهما قيمته: "أنا لا أسلمه إلى الشاهدين، ولكن أنا استخدمه وأدفع إليهما ما يحل من خدمته" فذلك له، وربما كان ذلك في الجارية النفيسة وذات الصنعة فله ذلك. ويدفع إلى الراجعين كسبهما وعملهما حتى ينتهي ذلك إلى ما غرماه، والسيد في ذلك مخير بين أن يسلمه إليهما ليأخذا من خدمته ما أديا، أو يحسبه ويدفع إليهما كل ما حصل من خدمته إلى مبلغ ما أديا. وإن شهدا بتنجيز عتق إلى أجل فقضى بذلك ثم رجع فعليهما قيمة الخدمة إلى الأجل على غررها ولو كان معتقاً إلى موت فلان فعليهما قيمة خدمته أقصى العمرين عمر العبد وعمر الذي أعتق إلى موته وذهب أصبغ إلى أنه يغرم قيمة الرقبة.

فَإِنْ كَانَ بِعِتْقِ تَدْبِيرِ غَرِمَا قِيمَتَهُ نَاجِزاً وَاسْتَوْفَيَا مِنْ خِدْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ عَتَقَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَلا شَيْءَ لَهُمَا، وَإِنْ رَدَّهُ أَوْ بَعْضَهُ دَيْنُ فَهُمَا أَوْلَى كَالْجِنَايَةِ. يعني: وإن كان الإشهاد عليه بأنه دبر عبده فقضى عليه بذلك ثم رجعا فإنهما يغرمان قيمته ناجزاً؛ لمنعهما سيده من بيعه وهبته، ويقال لهما: ادخلا فيما أدخلتماه فيه فاقتضيا من الخدمة التي أبقيتماها بيده من رقه ما أديتما، ثم ترجع خدمته لسيده، ثم حكمهما في موته في مدة حياة السيد أو بعدها ولم يستوفيا ما غرماه حكمهما في العتق إلى الأجل، ومقتضى كلام المصنف وغيره أنه يتفق على هذا، ويرجح قول سحنون في العتق إلى الأجل. وقوله: (فَإِنْ عَتَقَ) يعني: فإن أخذ منهما ثم مات [685/ أ] السيد وحمله الثلث خرج هذا المشهور بتدبيره حراً، ولا يكون للشاهدين عليه شيء، وإن رق منه شيء فهما أولى به حتى يستوفيا منه، وكذلك إن رده دين فهما أولى من صاحب الدين، وهما كأهل الجناية، ثم إذا بيع وفضل منه فضل لم يكن للشاهدين أخذه؛ إذ لا يربحان. محمد بن عبد الحكم: فإن كان الشاهدان عديمين لم يوجد عندهم ما يؤخذ من القيمة التي لزمتهما فالواجب أن يحكم عليهما بما بين قيمة هذا العبد مدبراً ممنوعاً مشتريه من بيعه ومحرز عتق جميعه أو عتق بعضه أو رق جميعه لو جاز في الشرع البيع على هذا فيطلب سيد العبد ذلك من الشاهدين متى أيسر. وقال بعض أهل الحجاز: بل يستخدمه سيده ويحسب عليه في الاستخدام ما لزمهما من قيمة جميع العبد حتى يستوفي ذلك، فيبقى في يده مدبراً أو يموت العبد قبل أن يستوفي القيمة فيطلب الشاهدين بالقيمة أو بما بقي منها متى أيسرا، قال: ولو قال قائل: إن الشاهدين إنما يغرمان ما بين هاتين القيمتين اللتين ذكرناهما كانا موسرين أو معسرين لم أعب ذلك، وهو أقوى في النظر من القول الأول، ولو كان عوض المدبر مدبرة ممن لا حرفة لها ونهي عن استئجارها فإنها إذا قضى على

الشاهدين بقيمتها نجز عتقها؛ إذ لا فائدة في بقائها إلا أن يلتزما النفقة عليها رجاء رقها بعد وفاة سيدها فذلك لهما، أو يتطوع السيد بذلك رجاء أن ترق له بذلك. وَإِنْ كَانَتْ كِتَابَةً فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَالأَكْثَرُونَ: غَرِمَا قِيمَتَهُ وَاسْتَوْفَيَا مِنْ نُجُومِهِ، فَلَوْ رَقَّ اسْتَوْفَيَا مِنْ رَقَبَتِهِ، وَقَالَ ابن القاسم: تُجْعَلُ الْقِيمَةُ بِيَدِ عَدْلٍ حَتَّى يُسْتَوْفَي مِنَ الْكِتَابَةِ مِثْلُهَا فَتُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَضَعَّفَهُ مُحَمَّدُ: وَقَالَ سحنون: تُبَاعُ الْكِتَابَةُ بِعَرْضٍ فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ أَتَمَّاهَا .. الظاهر في: (كَانَ) أنها تامة و (كِتَابَةً) فاعلها، وحذف الصفة لدلالة السياق عليها؛ أي: حصلت كتابة مشهود بها مرجوع عنها، ويحتمل أن تكون ناقصة، واسمها مضمر عائد على الشهادة، وحذف حرف الجر من: (كِتَابَةً) وهو الخبر أو حذف مضاف التقدير، فإن كانت الشهادة المرجوع عنها بكتابة، أو شهادة كتابة ابن راشد: واتفق المذهب على إلزام الشاهدين قيمة المكاتب؛ لمنعها السيد من الانتفاع. محمد: والقيمة يوم الحكم. وإذا كان الحكم في التدبير الغرم فأحرى هنا؛ لأن تصرف السيد في المدبر أقوى من الكتابة، لكن اختلف المذهب؛ فالمشهور على ما صرح به المازري وغيره ما ذكره المصنف عن عبد الملك والأكثرين: أنهما إذا غرما القيمة فأدياها من النجوم فإن كانت النجوم مساوية للقيمة وأداها خرج حراً ولا كلام، وكذلك إن كانت أقل فلا كلام للشهود، وإن كانت أكثر أخذا منها مقدار القيمة وأخذ السيد باقيها، وإن عجز عن الباقي رق له، وإن عجز قبل أن يقبض الراجعان ما أديا بيع لهما بتمام ما بقي لهما، فإن لم يكن فيه تمام ذلك فلا شيء لهما غيره. قوله: (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) تصوره ظاهر، ووجه تضعيف ابن المواز ما أشار إليه في كتابه من أن ذلك يستلزم ضررين:

أحدهما: على السيد؛ لإخراج عبده من يده من غير عوض ناجز مع إقرارهما بإتلافه. وثانيهما: على الشاهدين في أنهما ممنوعان من القيمة ومن الكتابة مع احتمال ضياع القيمة فيضمناها مرة أخرى، ولهذا قال: لو كنت أقول بهذا المذهب لجعلت للشهود أن يستردوا من القيمة الموقوفة مثل ما أخذ السيد، ولا تبقى موقوفة كلها بعد أن وصل إلى السيد بعضها، وما حكاه المصنف عن سحنون ظاهر التصور، لكنه ليس مذهباً لسحنون، وإنما حكاه سحنون على ما في النوادر وابن يونس عن بعض الأصحاب، وحكاه ابن المواز عن عبد الملك، واختيار سحنون هو القول الأول. فَإِنْ كَانَتْ بِاسْتِيلادٍ فَالْقِيمَةُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُخَفَّفُ لِمَا بَقِيَ مِنَ الاسْتِمْتَاعِ وَلا شَيْءَ لَهُمَا إِلا بِجِنَايَةٍ عَلَيْهِا فَلَهَا مِنَ الأَرْشِ مَا غَرِمَاهُ، وَفِي مَالٍ بِاسْتِفَادِةٍ قَوْلانِ .. أي: فإن كان الرجوع عن الشهادة باستلاد، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى: عن، كقوله: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي خَبِيرُ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ ومعنى كلامه: أنهما إذا شهدا على رجل أنه استولد أمته ثم رجعا فعليهما القيمة على المشهور. قال في النوادر: وروي عن بعض أشياخنا أنه لا شيء عليهما، قال: وهو مذهب لا أدري حقيقته. المازري: والأمر كما ذكر؛ لأنه يخرج عن الأصول التي عقدناها في أمثال هذه المسألة ولا يعذر عن ذلك بالخلاف في بيع أم الولد، فإن الخلاف في بيع المدبر أشهر. ابن عبد السلام: وعلى الأول فالمشهور أنه يرجع عليهما بقيمة أمة موقوفة، وكلام ابن عبد الحكم خلاف.

وقوله: (وَلا شَيْءَ لَهُمَا) يعني: إذا غرما القيمة لم يكن لهما شيء على السيد؛ إذ لا خدمة للسيد في أم الولد حتى يرجعا بها، اللهم إلا أن تخرج أو تقتل فيؤخذ لذلك أرش فلهما الرجوع في ذلك بمقدار ما أديا؛ لأن القيمة عوض رقبتها، فإن فضل من الأرش فضل فهو للسيد. واختلف في رجوع الشاهدين في مال استفادته فقال سحنون: يرجعان فيما استفادت بما أديا، وقال ابن المواز: لا يرجعان فيما أفادته بخدمة أو سعاية. وَإِنْ كَانَ بِعِتْقِ أُمِّ وَلَدٍ فَالأَكْثَرُ: أَلا [685/ ب] غُرْمَ، وَقَالَ ابن القاسم: قِيمَتُهَا كَمَا لَوْ قَتَلاهُا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُخَفَّفُ .. الباء تحتمل أن تكون ظرفية وبمعنى عن كما تقدم؛ أي: إذا شهدا على رجل أنه أعتق أم ولده ثم رجعا فقال المازري: الأكثر على أنهما لا يغرمان شيئاً؛ لأنهما إنما أتلفا عليه الاستمتاع بالفرج، وهو لا يقوم كما في الرجوع عن الطلاق بعد البناء، وقال ابن القاسم في الموازية: يغرمان قيمتها كما لو قتلاها، والفرق أن أم الولد بقي فيها أرش الجناية وانتزاع المال، وقال محمد بن عبد الحكم: يخفف عنها، قال في النوادر: بقدر ما بقي له فيها من الرق. ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون التخفيف هنا بإسقاط أكثر منه في المسألة التي قبلها؛ لأنه يسقط هنا باعتبار الرقبة وهناك باعتبار المنفعة، وقال أصبغ: لا قيمة على قاتل أم الولد. فَإِنْ كَانَ بِعِتْقِ مُكَاتَبِ غَرِمَا قِيمَةَ كِتَابَتِهِ ما ذكره من غرم قيمة الكتابة ظاهره خلاف المنصوص؛ فإن الذي في الموازية وكتاب ابن سحنون وذكره المازري وغيره أنهما يغرمان للسيد ما أتلفاه عليه مما كان على المكاتب، عيناً كان أو عرضاً، قال في الموازية: ويؤديانه على النجوم، وقاله عبد الملك.

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَةٍ بِإِقْرَارٍ بِبُنُوَّةٍ لَمْ يَغْرَمَا إِلا بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ بِالْمِيرَاثِ يعني: إذا ادعى رجل أن فلاناً أبوه فأنكر فشهد له شاهدان بذلك فحكم القاضي بشهادتهما ثم رجعا فلا غرامة على الشاهدين ما دام المشهود له لم يصل إلى شيء من مال الأب؛ لأنهم لم يتلفوا على الأب مالاً، فلو مات المحكوم عليه وله ورثة فحجبهم هذا الولد أو شاكرهم غرم الشاهدان جميع ما أخذه المشهود له، وإن لم يكن للولد مشارك غرما جميع التركة لبيت المال، فإن كان في التركة مقوم غرما قيمته. فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِبُنُوَّتِهِ عَبْداً لَهُ غَرِمَا قِيمَتَهُ نَاجِزاً ثُمَّ غَرِمَا بَعْدَ الْمِيرَاثِ مَا فَوَّتَاهُ .. يعني: فلو كانت المسألة بحالها إلا أن المشهود ببنوته عبداً للمشهود عليه، وكلامه ظاهر التصور. فَإِنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَاً آخَرَ عُزِلَتْ قِيمَةُ الابْنِ الأَوَّلِ؛ لأَنَّ الْمُلْحَقَ أَقَرَّ أَنَّ أَبَاهُ ظَلَمَ فِيهَا الشُّهُودَ، ثُمَّ يَغْرَمُ الشَّاهِدَانِ نِصْفَ مَا بَقِيَ؛ وَهُوَ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ .. يعني: فإذا مات الأب وترك هذا الابن المشهود له بالبنوة وولداً آخر ثابت النسب فإنهما يقتسمان التركة، إلا قيمة الولد التي غرمها الشاهدان فتدفع للابن الثابت النسب فقط؛ لأن المشهود له مقر أنه لا حق فيها لأبيه؛ لصحة نسبه على دعواه، فيكون الأب قد ظلم فيها الشهود، ثم يغرم الشهود مثل ما أخذه المشهود له للابن الثابت النسب، وهكذا قال في الموازية. وَلَوْ ظَهَرَ دَيْنُ مُسْتَغْرِقُ أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ، وَكُمِّلَ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الأَوَّلِ بِمَا غَرِمَهُ الْمُلْحَقُ لِلْغَرِيمِ؛ لأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا .. يعني: فلو فرضنا المسألة بحالها، ولكن طرأ على الميت دين فإنه يبدأ بما في يد الولدين فيوفى منه، فإن لم يف بالدين فإن بقية الدين تؤخذ من القيمة التي بيد ثابت النسب ما دامت

القيمة تسعه، ثم يرجع الشاهدان على ثابت النسب بما غرماه له؛ لأنهما إنما غرماه له بسبب إتلافهما له بشهادتهما فلما ثبت الدين على أبيهما وجبت التركة للدين ولم يتلفا عليه شيئاً. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمُلْحَقِ وَالتَّرِكَةُ مِائَتَانِ وَكَانَتِ الْقِيمَةُ الْمَاخُوذَةُ مَائَةً أَخَذَ الْمُلْحَقُ مِائَةً وَالْعَصَبَةُ أَوْ بَيْتُ الْمَالِ مِائَةً، ثُمَّ غَرِمَا لَهُمَا مِائَةً أُخْرَى؛ الَّتِي فَوَّتَاهَا .. يعني: فإن لم يترك الميت غير الولد الملحق. والواو في: (وَالتَّرِكَةُ مِائَتَانِ) للحال وإحدى المائتين القيمة، والمائة الأخرى من كسب الأب، فإن مائة القيمة لا يحل للابن أخذها كما تقدم، فيأخذها العاصب أو بيت المال ثم يغرم الشاهدان للعصبة أو بيت المال المائة التي أخذها الابن، وهو ظاهر. فَلَوْ طَرَأَ دَيْنُ مِائَةُ أُخِذَتْ مِنَ الْمُلْحَقِ وَيَرْجِعُ الشَّاهِدَانِ بِمِائَةٍ عَلَى مَنْ غَرِمَاهَا لَهُ. إنما أخذت المائة من الملحق وحده لاعترافه أن أباه لم يترك ما يقضي منه دينه سواها، وأن المائة التي أخذها العصبة أو بيت المال ظلم على المشهود، وإنما رجع الشاهدان بالمائة التي أخذها المستلحق على من غرماها له لأن المستلحق قد أداها في الدين، فكشف الأمر أن الشاهدين لم يفوتاها على العصبة ولا على بيت المال. وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادِةِ عُبُودِيَّةٍ لِمُدَّعِي حُرِّيَّةٍ فَلا قِيمَةَ عَلَيْهِمَا فِي الرَّقَبَةِ، وَيَغْرَمَانِ كُلَّ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ اسْتِعْمَالِ وَمَالٍ مَنْزُوعٍ، وَلا يَاخُذُهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، وَيُوَرَّثُ عَنْهُ بِالْحُرِّيَّةِ لا بِالرِّقِّ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ هِبَةٍ وَصَدَقَةٍ وَعِتْقٍ، وَلا يَتَزَوَّجُ؛ لأَنَّهُ يُنَقِّصُ رَقَبَتَهُ .. يعني: إذا شهدا على رجل أنه عبد لفلان وهو يدعي الحرية فقضى عليه بالرق ثم رجعا فقال محمد بن عبد الحكم ما ذكره المصنف: لا قيمة عليهما؛ لأن الحر لا قيمة له،

ويتخرج على ما اتفق عليه فقهاء قرطبة في أيام القاضي ابن بشير فيمن باع حراً وتعذر فسخ البيع: "أن عليه الدية" أن يكون هنا عليه الدية، وعلى ما ذكره المصنف فيغرم الشاهدان للعبد من ماله، ثم ليس لمن قضى له بملكه أن يأخذ ذلك؛ لأنهما لم يتلفاه عليه، ولأنه لو أخذه لزمهما غرامته [686/ أ] ثانياً وثالثاً ويتسلسل، فإن مات العبد وما أخذه من الشاهدين في يده ورثه ورثته الأحرار؛ لأنه إنما ملكه على تقدير أنه حر، ولذلك كان له الهبة والصدقة والعتق فيه، وليس له التزويج في هذا المال ولا في غيره؛ لأن ذلك يعيب رقبته. وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَةٍ بِمَائَةٍ لِزَيْدٍ وَعُمَرَ ثُمَّ قَالاَ: هِيَ لِزَيْدٍ وَحْدَهُ غَرِمَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَمْسِينَ لا لِزَيْدٍ .. تصور المسألة واضح، وإنما غرما للمشهود عليه خمسين لاعترافهما أنهما أخرجا خمسين من يد المشهود عليه إلى من لا حق له فيها. وقوله: (لِزَيْدٍ) لأن شهادتهما ثانياً لا تقبل؛ لأنهما مجرحان. ابن عبد السلام: ولم يضمن أهل المذهب الشاهدين لزيد شيئاً وعذروهما بالنسيان، وقد اختلف في المودع هل يضمن بالنسيان، وقد ضمنوا من أقر بثوب لزيد ثم لعمرو، فألزموا المقر قيمة الثوب لعمرو ولم يعذروه بنسيانه أولاً، وقد يفرق بأن الشاهد يكثر تحمله للشهادة ولو ضمن بالنسيان لكثر تضمينه، وفي ذلك ضرر عظيم، لكنه لو أقر أنه شهد أولاً لمن شهد له متعمداً للزور لانبغى أن يتفق على تضمينه للثاني. وَمَتَى رَجَعَ أَحَدُهُمَا غَرِمَ نِصْفَ الْحَقِّ، وَعَنْ بَعْضِهِ غَرِمَ نِصْفَ الْبَعْضِ يعني: إذا قضى بشاهدين ورجع أحدهما غرم نصف الحق الذي شهدا به، ولو رجع أحدهما عن نصف ما شهد به غرم ربع الحق؛ لأن الحق ثبت بهما فكل واحد أتلف نصفه.

وَلَوْ رَجَعَ مَنْ يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِعَدَمِهِ فَلا غَرَامَةَ فَإِذَا رَجَعَ غَيْرُهُ غَرِمَ، وَأُدْخِلَ الأَوَّلُ مَعَهُ، وَعَنْ أَشْهَبَ: يُغْرَمُ الرَّاجِعُ فَقَطْ؛ مِنْ ثَلاثَةْ الثُّلُثَ وَمِنْ أَرْبَعَةٍ الرُّبُعَ .. تصور كلامه ظاهر، والأول هو المشهور. فَإِنْ حَكَمَ بِرَجُلٍ وَنِسَاءٍ فَرَجَعُوا فَعَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ، وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ لأن النساء وإن كثرن فكرجل واحد، فلو رجع رجل وامرأة من ثلاثة نسوة فعلى الرجل نصف الحق؛ لأنه قد بقي على نصف الحق امرأتان. فَلَوْ رَجَعَ مِنْ عَشْرٍ ثَمَانٍ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ رَجَعَتْ تَاسِعَةُ فَعَلَى التِّسْعِ الرُّبُعُ هذا جار على المشهور، وأما على قول أشهب: فأي امرأة رجعت غرمت نصف السدس. وقوله: (فَإِنْ رَجَعَتْ تَاسِعَةُ فَعَلَى التِّسْعِ الرُّبُعُ) هو متفق عليه. وفيه نظر؛ لأن شهادة الواحدة مطروحة في الأموال من كل الوجوه بدليل أنه لو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا كلهم لم يكن على المرأة شيء، وعلى هذا التقدير فالواحدة التي لم ترجع في مسألة المصنف شهادتها مطروحة، فكان ينبغي أن يكون على التسع النصف والله أعلم. فَلَوْ كَانَ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهِ امْرَأَتَانِ كَالرَّضَاعِ وَغَيْرِهِ فَعَلَى الرَّجُلِ السُّدُسُ، وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ نِصْفُ السُّدُسِ .. يعني: فلو كانت المسألة بحالها، وشهد رجل وعشر نسوة على رضاع امرأة مع رجل والنكاح معقود بينهما، ثم رجعوا وغلب الذكر، فعلى الرجل سدس الحق؛ لأنه كامرأتين، وعلى كل امرأة نصف السدس، ونحوه لابن شاس. وفيما قالاه نظر؛ لأن الرجل هنا كامرأة؛ لأن شهادة امرأتين تقبل فيه، ولم أرها في كلام غيرهما.

ابن عبد السلام: وإن صحت منقولة للمتقدمين فلعل وجهها أن الشهادة لما آلت إلى المال حكم في الرجوع بحكم الرجوع عن شهادة الأموال، إلا أن في كلام ابن شاس ما يمنع هذا التأويل، وقد ذكر المؤلف بعضه في قوله: فَلَوْ رَجَعُوا إِلا امْرَأَتَيْنِ فَلا غُرْمَ يعني: فلو رجع الرجل وثمان نسوة فلا غرم على المرأتين الباقيتين لاستقلالهما. فَلَوْ رَجَعَتْ أُخْرَى فَالنِّصْفُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ رَجَعَ، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَشْهَبَ خِلافُهُ أي: فلو رجعت- والمسألة بحالها- تاسعة فعلى الرجل والتسع نصف؛ لأن النصف الباقي مما تستقل به المرأة. وقوله: (فَالنِّصْفُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ رَجَع) إن عنى أن الرجل كالمرأة فهو خلاف ما تقدم، وإن عنى أنه كامرأتين فهو مشكل. وقوله: (وَقِيَاسُ قَوْلِ أَشْهَبَ خِلافُهُ) هو راجع إلى قوله (فَلَوْ رَجَعَ مِنْ عَشْرٍ ثَمَانٍ) وشبهه وهو ظاهر. وَلِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مُطَالَبَتُهَا قَبْلَ غُرْمِهِ لِيَغْرَمَهُ لِلْمَقْضِي لَهُ يعني: أن الشاهدين إذا شهدا أن لرجل على آخر حق فقضي عليه ثم رجعا قبل أن يغرم المقضي عليه فله أن يطالبهما بالدفع للمقضي له، ومقتضى كلامه: أن يطالبهما بالدفع إليه ليغرمه للمقضي له، وأصل هذا في النوادر لابن عبد الحكم، والذي فيها: أن للمقضي عليه أن يطالب الشاهدين بالمال حتى يدفعاه عنه إلى المقضي له، قال: وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: لا يحكم على الشاهدين بشيء حتى يؤدي المقضي عليه، وفي هذا تعريض لبيع داره وإتلاف ماله، والذين أوجبنا عليهم ذلك قيام، أرأيت لو حبسه في

ذلك أيترك محبوساً ولا يغرم الشاهدين؟ بل يؤخذان بذلك حتى يخلصاه، فإن لم يفعلا حبسا معه. ووقع تضعيف ابن عبد الحكم في بعض النسخ إثر المسالة التي بعد هذه، وليس بظاهر؛ لأن تضعيفه إنما هو في هذه على ما في النوادر وابن يونس. وَلِلْمَقْضِيَّ لَهُ ذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَ مِنَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُمَا إِلا بَعْدَ إِغْرَامِ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ .. الإشارة بذلك إلى الطلب المفهوم من مطالبتهما، أي: طلب الشاهدين، وفاعل تعذر يعود على الغرم، وما قاله المصنف هو مقتضى الفقه؛ لأن الشهود غرماء غريمه، إلا أنه خلاف ما في الموازية، ففيها: وإذا حكم بشهادتهما ثم رجعا فهرب المقضي عليه فطلب المقضي له أن يأخذ الشاهدين بما كان يغرمانه لغريمه لو غرم، قال: لا يلزمهما غرم حتى يغرم المقضي عليه. قوله: (وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُمَا .. إلخ) أي: لا يلزم الشاهدين الغرم، وهذا ظاهر الموازية. * * * انتهى المجلد السابع من كتاب التوضيح للشيخ خليل بن إسحاق الجندي ويليه المجلد الثامن وأوله كتاب الدعوى

التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب تأليف خليل بن إسحاق الجندي المالكي (المتوفى سنة776هـ) ضبطه وصححه الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب المجلّد الثامن

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الدعوى

تَعَارُضُ الْبَيَّنَتَيْنِ: وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ جُمِعَ، فَإِنْ تَنَاقَضَتاَ فَالتَّرْجِيحُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ [686/ب] تَسَاقَطَتَا، وَبَقِيَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ حَائِزِهِ مِنْهُمَا ... التعارض بين البينتين: التقابل بينهما على وجه يمنع كلاً منهما صاحبه، ولا إشكال في الجمع بينهما إذا أمكن، كما في تعارض الأثرين عند أهل الأصول. مثال عدم التعارض في الشهادة: لو شهد واحد أنه أقر له بخمسين وآخر بمائة في مجلسين، وإن لم يمكن الجمع صير إلى الترجيح، وسيأتي ما يكون به الترجيح، فإن تعذر - أي: الترجيح- سقطت البينتان وبقي المدعي في يد حائزه؛ لما رواه الدارقطني عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن وهب بن حبيب المصري وهو ثقة عن الشعبي عن جابر: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عيه وسلم للذي بيده. قال في المدونة: ويحلف الحائز، وهو مبني على قبول بينة المدعي عليه وهو المشهور، وقال عبد الملك: لا ينتفع الحائز ببينة؛ لقوله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". فحصول البينة في جانب المدعي واليمين في جانب المدعي عليه. وروى ابن القاسم أن هذا إنما هو إذا لم يأت المدعي عليه بمثل ما أتى به المدعين ودل كلامه على أن المتنازع فيه محوز وأن حائزه أحد الخصمين وأن الحائز يقبل. وَإِنْ كَانَ بيَدِ غَيْرِهِمَا فَلِمَنْ يُقَرُّ لَهُ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: يَبْقَى فِي يَدِهِ اسم (كَانَ) عائد على المدعي فيه؛ أي: في غير المدعيين اللذين أقام كل منهما البينة على أنه له، وحكى المصنف قولين؛ أولهما: أن ذلك لمن يقر له وهو في يده منهما، وعلى هذا فإن ادعاه من هو في يده فهو له. وثانيهما: أنه يبقى في يده، فإن أراد المصنف أنه يبقى كما كان أولاً قبل قيام البينتين؛ فهو كالقول الأول، وإن أراد أنه يبقى موقوفاً بيده إلى أن يأتي

أحدهما بشهادة راجحة أو يصطلحان؛ هذا القول غير معروف في المذهب وإنما هو محكي عن الشافعي، وإنما في المذهب رواية ثانية بأنه يقسم بينهما لأن البينتين اتفقتا على انتزاعه من يده، وقيل: يبقى لمن هو تحت يده؛ لأنه يقول: خرج بعضها بعضاً، أو وقف بعضها بعضاً؛ أي: ذلك كان لا ينزع من يدي، وإن اعترف به أحدهما كان على القولين، فمن قال: إن من ادعاه لنفسه يقر في يديه يجعله الآن لمن أقر بيده، ومن قال أنه ينتزع منه يقول هذا كذلك، واختلف أيضاً إذا أقر لغيرهما هل يكون له أو يقسم بينهما؟ وَيُقْسَمُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِيهِمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا عَلَى قَدْرِ الدَّعَاوِي اتَّفَاقاً يعني: إن لم يكن المتنازع فيه بيد أحدهما، كما لو تنازعا في عفو من الأرض، ويدخل في قوله ما كان بيد ثالث على أحد القولين المتقدمين، وظاهر قوله: (يُقْسَمُ) أنه يقسم في الحال وفي تفصيل، فإن كان يخشى فساده، قال في المدونة: كالحيوان، والرقيق، والطعام؛ فإنه يستأني فإن لم يأتيا بشيء وخيف عيه قسم بينهما، وإن كان مما لا يخشى عليه الفساد كالدور، قال في المدونة: يترك حتى يأتي أحدهما بأعدل مما أتى به صاحبه. ابن القاسم: إلا أن يطول الزمان ولا يأتيان بشيء غير ما أتيا به أولاً؛ لأنه يقسم بينهما لأن ترك ذلك ووقفه ضرر. ابن نافع: إنه قال يوقف إذاً حتى يأتي أحدهما بأثبت مما أتى به صاحبه. وقوله: (اتِّفَاقاً) راجع إلى قوله: (قَدْرِ الدَّعَاوِي) لا إلى (القسم) للاختلاف في قسم العفو من الأرض، فإن فيه رواية ابن نافع ورواية ابن القاسم المذكورتين آنفاً. ابن عبد السلام: فإن قلت في نقله لرواية ابن القاسم نظر؛ فإنه في المدونة لم يصرح بذلك. قيل: قد نقل أبو الحسن أن ابن القاسم قال في المدونة: إنه يقسم بينهما، قال: وهو تفسير للمدونة، واختلف إذا أقام أحد المدعيين للعفو بينة أعدل، هل يحلف معها وهو مذهب المدونة، ومذهب سحنون والقرويين ومعظم الأندلسيين لا يرون عليه يميناً.

وَإِنْ كَانْ فِي أَيْدِيهِمَا، فَقِيلَ: عَلَى الدَّعَاوِي، وَقِيلَ: نِصْفَيْنِ أي: فإن كان المدعي فيه بأيديهما واختلفت دعواهما فيه- كدعوى أحدهما الجميع والآخر النصف- فأقام بينة على دعواه ولم يرجح أحد البينتين، أو حلف كل منهما، فقال مالك، وابن القاسم، وعبد الملك وغيرهم: يقسم على قدر الدعاوى وهو المشهور. وقال أشهب وسحنون: يقسم بينهما نصفين لتساويهما فيه في الحيازة، وإذا أراد اليمين في هذه المسألة وما يشبهها من سائر هذا الفصل مما تقدم أن يأتي، واختلفا في التبرئة، فقال بعض الشيوخ: يقرع بينهما، والمنصوص للمتقدمين: أن الحاكم يختار، ثم هل يحلف كل منهما على إثبات دعواه وإن نكل؟ أشار بعض الشيوخ إلى أن البحث يقرب فيها من مسائل اختلاف المتبايعين. وَإِذَا قُسِمَ عَلَى الدَّعَاوِي، فَقَالَ الأَكُءَرُونَ: تَعُولُ عَوْلَ الْفَرَائِضِ. وَقِيلَ: نِصْفَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَخْتَصُّ مُدَّعِي الأَكْثَرِ بالزَّائِدِ إذا فرعنا على المشهور من القسم على الدعاوي، فاختلف في كيفية القسمة، فقال مالك وأكثر أصحابه: يسلك فيها مسلك عول الفرائض؛ لتساوي أقوالهما في التداعي فيه، ولتعذر الترجيح؛ فصار كورثة زادت الأشياء الواجبة لهم على الجميع. وقال ابن القاسم، وابن الماجشون: مبني هذه المسألة [687/أ] على التنازع، فمن أسلم شيئاً سقط حقه فيه، بخلاف مسائل العول فإن التنازع فيها منتف؛ لأن الشرع أوجب لكل من الورثة حقاً، فإذا ادعى أحدهم الدار كاملة وادعى الآخر نصفها؛ فعلى الأول يعال لمدعي النصف بمثل حقه اثنين، فيقسم المدعي بينهم أثلاثاً لمدعي اثنان، وعلى الثاني يختص مدعي الكل بالنصف ثم يقسم الآخر بينهما.

وَعَلَى الاخْتِصَاصِ لَوْ زَادُوا عَلَى اثْنَيْنِ فَقَوْلانِ؛ أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ مُدَّعِي الأَكْثَرِ بِمَا زَادَ عَلَى الدَّعْوَيَيْنِ جَمِيعاً وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالثَّانِي: اخْتِصَاصُهُ بمَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِهِمَا ... الأول لابن المواز، والآخر لابن القاسم في المجموعة وهو قول أشهب، ولسحنون في كتاب ابنه: ومنشأ الخلاف هل كلام مدعي الأكثر معهما معاً أو مع كل منهما، وصوب المصنف الأول؛ لأن في كلامها منازعة. وَإِذَا تَدَاعَا اثْنَانِ الْكُلَّ وَالنِّصْفَ؛ فَالأَكْثَرُ تَعُولُ بالنِّصْفِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: يَخْتَصُّ مُدَّعِي الْكُلِّ بالنِّصْفِ وَيُسَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .... هذا مثال لقول الأكثرين وابن القاسم وقد تقدم. فَلَوْ كَانَ ثَالِثٌ يَدَّعِي الثُّلُثَ جَاءَ الْقَوْلانِ، فَعَلَى الأّوَّلِ: يَخْتَصُّ مُدِّعِي الْكُلِّ بالسُّدُسِ، ثُمَّ يَأخُذُ مِنَ الْبَاقِي نِصْفَهُ وَهُوَ رُبُهٌ وَسُدُسٌ، ثُمَّ يَخْتَصُّ مُدِّعِي النِّصفِ بمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ وَيَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ. وَعَلَى الثَّانِي: يَخْتَصُّ مُدَّعِي الْكُلِّ بالنِّصْفِ، ثُمَّ يَاخُذُ مِنَ الْبَاقِي نِصْفَ مَا زَادَ عَلَى الثُلُثِ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسٍ، وَيَاخُذُ مُدِّعِي النِّصْفِ نِصْفَ السُّدُسِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ الْبَاقِي أَثْلاثاً لِلثَّلاثَةِ .... (أل) في القولين للعهد؛ أي: هل يختص مدعي الأكثر بما زاد على مجموع الدعوتين، أو على أكثرهما؟ فعلى الأول وهو الاختصاص بما زاد على المجموع لو ادعى واحد الجميع وآخر النصف وآخر الثلث؛ اختص مدعي الكل بالسدس لأن الزائد على مجموع الدعوتين، ثم يأخذ نصف الباقي لأنه يدعيه، والاثنان يدعيانه وهو ربع وسدس؛ لأن نصف النصف ربع، ونصف الثلث السدس، ثم يختص مدعي النصف بما زاد على الثلث وهو نصف سدس، ثم يقسم الثلث الباقي بينهما، وجرى في هذه القسمة ذكر الثلث

والسدس ونصفه فيستغني عنهما بنصف السدس، وجرى أيضاً ذكر النصف والربع، مخرجهما داخل في مخرج نصف السدس، فيستغني بمخرجه وهو اثنا عشر لمدعي أولاً سدس وهو اثنان، ثم نصف الباقي وهو خمسة، ثم يختص مدعي النصف بواحد، ثم يقسم الأربعة بينه وبين مدعي الثلث، وهذه القسمة أحسن مما في الجواهر؛ لأن قسمها من أربعة وعشرين، لكنه تبع في ذلك النوادر. وقوله: (وَعَلَى الثَّانِي ... إلخ). يعني: وعلى أنه يختص بما زاد على الدعوتين يختص مدعي الأكثر بما زاد على أكثر الدعوتين وهو النصف لا يشاركه خصماً، ويبقى النصف الباقي يسلم قسمه مدعي الثلث ما زاد على دعواه وهو السدس؛ فيقسم بين مدعي الكل والنصف، فيكون لكل منهما نصف سدس، ثم يقسم الباقي بين الثلاثة أثلاثاً، وقد جرى هناك ذكر النصف والسدس، ونصف السدس ومقام النصف والسدس داخل في مقام نصف السدس، فيستغني به وهو اثنا عشر، وجرى أيضاً ذكر الثلث وثلث الثلث، فيستغني بثلث الثلث وهو من تسعة وهو موافق لاثني عشر بالثلث، فتضرب ثلث أحدهما في كامل الآخر؛ إما ثلاثة في اثنا عشر، أو أربعاً في تسعة، كل منهما يؤدي إلى ستة وثلاثين؛ فلمدعي الكل نصفها أولاً، ثم نصف السدس، وذلك أحد وعشرون، ولمدعي النصف نصف السدس ثلاثة، ثم لكل واحد أربعة. وَالتَّرْجِيحُ بوُجُوهٍ: الْمَزِيَّةُ فِي الْعَدَالَةِ لما ذكر أولاً أن التعارض حيث لا ترجيح شرع في بابه، وقوله: في (الْمَزِيَّةُ) خبر ابتداء محذوف تقديره الأول؛ أي: المزية، أي: الزيادة في العدالة، وهذا هو المشهور. وروي عن مالك: أنه لا يرجح بزيادة العدالة، وعلى الأول فلابد من حلف من زادت عدالته ببينة. وفي الموازية: لا يحلف، بناء على أن زيادة العدالة هل هي كشاهد واحد أو شاهدين.

وَفِي زِيَادِةِ الْعَدَدِ قَوْلانِ، إِلا أَنْ يَكْثُرُوا جَمِيعاً. يعني: وفي الترجيح بزيادة عدد إحدى البينتين قولان؛ عدم الترجيح حتى قال في المدونة: ولو شهد لهذا اثنان ولهذا مائة لا ترجح المائة، وحمله المازري على المبالغة، وأما لو كثروا حتى يقع العلم بصدقهم لقضي بها؛ لأن شهادة الاثنين إنما تفيد غلبة الظن. وروى مطرف، وابن الماجشون: أنه يترجح بذلك، وعلى هذا فتحصل في الترجيح بمزيد العدالة والعدد. ثالثها: المشهور يرجح بالعدالة لا العدد. وقوله: (إِلا أَنْ يَكْثُرُوا جَمِيعاً) أي: فلا تراعي الكثرة حينئذ بالاتفاق، وفرق القرافي للمشهور بأن المقصود من القضاء دفع النزاع، ومزيد العدالة أقوى في التعدد من زيادة العدد؛ لأن كل واحد من الخصمين يمكنه زيادة العدد في المشهود بخلاف العدالة، واعترضه ابن عبد السلام: بأن من رجح زيادة العدد لم يقل به كيفما اتفق، وإنما اعتبره مع قيد العدالة، ولا نسلم أن زيادة العدد بهذا القيد أسهل الوجود، وقد تقرر في الأصول أن الوصف مهما كان أدخل تحت الانضباط وأبعد عن النقض والعكس كان أرجح، وزيادة العدد وصف منضبط محسوس لا يختلف فيه العقلاء، بخلاف العدالة؛ لأنها مركبة من قيود كما [687/ب] تقدم، فقد يكون واحد الشاهدين أشد محافظة على توقي الصغائر، والآخر أشد محافظة على أداء الأمانة، وإن اشتركا في المحافظة المعتبرة في قبول الشهادة، وعلى هذا التقدير فضبط زيادة العدالة متعذر أو متعسر، فلا ينبغي أن يعتبر في الترجيح فضلاً أن يكون راجحاً على زيادة العدد. وَفِي الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ قَوْلانِ، وَرَجَعَ عَنْهُ يعني: وفي ترجيح الشاهدين على الشاهد واليمين قولان، وكذلك القولان في ترجيح الشاهدين على الرجل والمرأتين، ورجع ابن القاسم عنه؛ أي: عن الترجيح. وقال

أشهب: بالمرجوع إليه، والأظهر الترجيح فيهما، أما الأول: فالاتفاق على قبول الشاهدين والخلاف في الشاهد واليمين. وأما الثاني: فلقوله تعالى: {فَإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ} [البقرة: 282] فإنه يدل على راجحية الشاهدين على الرجل والمرأتين؛ لأن جعل مرتبتهم عند عدم الشاهدين، واعلم أنه اختلف في الحق هل هو مستند للشاهد فقط واليمين استظهاراً وهو مستند لهما وأن اليمين كالشاهد، وتظهر فائدة الخلاف في الفرع الأول، فعلى أنها كشاهدين لا حجة للشاهدين، وعلى الآخر رجح الشاهدين، وكذلك تظهر إذا رجع الشاهد هل يغرم نصف الحق أو جميعه. وَعَلَى التَّسَاوِي لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْدَلَ مِنْ كُلِّ مِنْهُمَا فَقَوْلانِ أي: على تساوي الشاهدين مع الشاهد واليمين، ومع الشاهد والمرأتين لو قدرنا أن الشاهد الذي يشهد مع اليمين أو المرأتين أعدل من كل واحد من الشاهدين فقولان. وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أنه يقضي بالشاهد الأعدل دون الشاهدين. وروى ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون: أن الشاهدين أرجح. وانظر كيف جعل المصنف هذا مبنياً على التساوي في الفرع السابق، وهو محتمل أن يبقى على الخلاف في الترجيح بالعدد. وَفِي أَعْدَلِيَّةِ الْمُعَدِّلِينَ فِي الْمُزَكِّيينِ قَوْلانِ يعني: أنه اختلف إذا تساوت البيِّنات في العدالة، لكن معدلو أحدهما أزيد عدالة، فروى ابن القاسم وابن الماجشون عدم الترجيح بذلك؛ لأن العدالة إنما هي بالبينة، ألا ترى أن المزكين لو رجعوا لم يغرموا. وروى مطرف عن مالك: الترجيح بذلك؛ لقوة النظر بعدالة من زكاة الأرجح.

وَالْيَدُ مُرَجَّحَةُ عِنْدَ التَّسَاوِي مَعَ الْيَمِينِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَذَهَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَنَّ الْحَائِزَ لا يَنْتَفِعُ بِبَيِّنَةٍ .... يعني: إذا تعارضت البينتان وتساوتا فإنما تسقطان ويبقى الشيء بيد حائزه ترجيحاً لليد، هذا هو المشهور، ومقابله لعبد الملك أن بينة الحائز لا تسمع وأن البينة بينة الخارج، وتقدم وجهه. وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع للترجيح باليد لا إلى اليمين. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون مقابل المشهور قولاً بالاكتفاء باليد من غير بينة وأحفظه منصوصاً، واعترض ابن عبد السلام على المصنف: بأن إيراد هذه المسألة في مسائل الترجيح بين البينتين؛ لأن البينتين تساقطتا عند المساواة فصارتا كالعدم وبقي حوزه على ما كان عليه، وكأن المصنف أتى بها لمناسبتها ما تقدم في مطلق الترجيح. فَلَوْ تَرَجَّحَتِ الْبَيِّنَةُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْيَدِ، وَفِي يَمِينِ الْخَارِجِ حِينَئِذٍ قَوْلانِ يعني: فلو ترجحت بينة الخارج سقطت اعتبار اليد، واختلف في يمين الخارج حينئذٍ، أي: حين الترجيح على قولين، ورجح توجيه اليمين لليد، والمراد بالداخل الحائز، فإن قيل: هل يفهم من كلام المصنف أنه لو ترجحت بينة الحائز لا يفتقر إلى يمين. قيل: لا؛ لأن بينة الداخل فيها قولان كما تقدم، فإذا كان يحلف مع البينة المسموعة اتفاقاً؛ فلأن يحلف مع المختلف في سماعها أولى، وإذا ترجحت إحداهما قضى بها، وفي يمين من قضى له قولان. وَاشْتِمَالُ إِحْدَاهُمَا عَلَى تَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ بسَبَبِ مِلْكٍ مُرَجَّحٌ (اشْتِمَالُ) مبتدأ، و (مُرَجِّحٌ) خبره؛ يعني: إذا شهدت إحداهما أن هذا يملكه من سنة والأخرى يملكه من سنتين؛ فإنه يقضي بأبعد التاريخين، قال في المدونة: وإن كانت

الأخرى أعدل، قال فيها: ولا يبالي بيد من كانت الأمة منهما، إلا أن يحوزها الآخر من تاريخها بالوطء والخدمة والادعاء لها بمحضر الآخر فتبطل دعواه، وإنما رجح بالملك السابق؛ لأن الملك قد يثبت به والأصل استصحابه. وقوله: (أَوْ بسَبَبِ مِلْكٍ) كما لو شهدت إحداهما أنه صادها أو نتجت عنده وشهدت الأخرى بالملك المطلق، تقدمت من شهدت بسبب الملك، وهو في المعنى راجع إلى الفرع الأول، بأن يشمل التاريخ المتقدم على الملك، فلو أقام بينة أنه بيده منذ سنين وأقام الآخر بينة أنه له منذ سنين؛ لقدمت بينة الملك وإن كان متأخراً، وخالفه التونسي ورأى أن الواجب رد ما وقع النزاع فيه إلى من تقدم حوزه حتى يثبت ما يوجب خروجه من يده، وقيد أشهب أيضاً اعتبار سبب الملك بضم الملك إليه حتى لو أقام بينة أنها ولدت عنده ولم يقولوا أنها له فلا يقضي له بها، وخالفه أيضاً التونسي وقيد الترجيح بالنتاج إذا لم تشهد البينة الأخرى للآخر أنه اشتراها. ابن القاسم: فإن شهدت بذلك كان صاحب المقاسم أحق إلا أن يدفع إليه الثمن الذي اشتراها به ولو كانت بيد صاحب النتاج، واختلف في الشهادة بنسج الثوب، هل هي كالشهادة بالنتاج فأحرى أن ما في المدونة مجرى النتاج. وفي كتاب ابن سحنون: أن [688/أ] بينة الملك مقدمة على بينة النسج، ويقضي لمن شهد له بالنسج بقيمة عمله بعد أن يحلف أنه لم يعمله باطلاً. المازري: وهذا إذا كان الناسج ينسج لنفسه، وأما إن انتصب للناس فلا تنفع الشهادة له بالنسج وهكذا النسج، وقيد أيضاً مسألة النسج بأن يكون الثوب مما يستحيل في العادة أن ينسج مرتين، فأما إن صح ما يقال أنه ينسج مرتين فلا يقال على شهادة النسج في معارضة شهادة الملك.

وَفِي مُجَرَّدِ التَّارِيخِ قَوْلانِ وفي الترجيح بمجرد التاريخ بأن تكون إحدى البينتين أُرِّخت والأخرى لم تؤرَّخ، والقول بتقديم المؤرخة لأشهب، زاد إلا أن يكون في شهادة التي لم تؤرخ أن الحاكم قضى بهذا العبد لمن شهدت له، والقول بنفي التقديم ذكره الشيخ والمازري ولم يعزواه. وَيُشْتَرَطُ فِي بَيِّنَةِ الْمِلْكِ بِالأَمْسِ مَثَلاً أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ فِي عِلْمِهِمْ قوله: (بالأَمْسِ) تنبيه منه بالأخف على الأشد؛ لأنه إذا اشترط هذا في أقرب الأيام الماضية بعدم خروج الملك عن يد مالكه في هذا الزمان القريب، فلأن يشترط في أبعد من ذلك من باب أولى، وهذا الشرط الذي ذكره هو ظاهر ما في شهادة المدونة، ففيها: من تمام شهادتهم أن يقولوا ما علمناه باع ولا وهب ولا خرج عن ملكه بوجه من الوجوه، وليس عليه أن يأتي ببينة تشهد على البَتِّ أنه ما باع ولا وهب، ولو شهدت البينة بذلك كانت زوراً وهذا الظاهر. قال ابن القاسم: لأنه قال وإن أبوا أن يقولوا ما علموه باع ولا وهب ولا تصدق فشهادتهم باطلة، وظاهر ما في كتاب العارية من المدونة أنه ليس بشرط، قال: وإن شهدوا أن الدار له ولم يقولوا لا نعلم أنه ما باع ولا وهب ولا تصدق ويقضي له. ابن عبد السلام: وقد أكثر الشيوخ هل كلامه في المدونة متناقض أو لا؟ وهل تقبل شهادة هؤلاء الذين قطعوا بالملك من إطلاقه عليها الزور، أو يفصل فيهم بين أن يكونوا من العلماء فلا تقبل أو يكونوا من وما الناس فتقبل، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو محمد وأبو عمران، والذي قاله الشيخ أبو إبراهيم وأبو الحسن: أن ما في الشهادة شرط كمال. أبو الحسن: إلا أن تكون الشهادة على ميت فذلك شرط صحة، ومراده بقوله: (كانت زوراً) أنها غير مقبولة. عياض: ولا يختلف أنهم لايلزمهم ما لزم شهود الزور من العقاب.

أَمَّا لَوْ شَهِدَتْ بالإِقْرَارِ اسْتُصْحِبَ يعني: أما لو شهدت عليه بينة أنه أقر بالأمس مثلاً أنه ملك زيداً استصحب الإقرار، ويكتفي بهذه الشهادة وإن لم يزد الشهود: لا نعلم خروج ذلك الشيء عن ملكه إلى الآن، لأن في شهادتهم على ذلك الخصم بأنه أقر لخصمه إسقاط الملك المقر بخصوصيته، فعليه بيان صحة ملكه بعد ذلك بشراء من المشهود له أو بغير ذلك من أسباب الملك. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ مِلْكاً لَهُ بِالأَمْسِ (أَحَدُهُمَا) أي: أحد الخصمين أن هذا الشيء المتنازع فيه الآن كان ملكاً بالأمس لخصمه، فهو إقرار منه لخصمه كما في الفرع السابق. وَكَمَا لَوْ شُهِدَ أَنَّ أَحَدَهُمَا اشْتَرَاهُ مِنَ الآخَرِ (شُهِدَ) بضم الشين مبني لما لم يسمَّ فاعله؛ أي: ومثل الشهادة بالإقرار في الاستصحاب لو شهد شاهدان أن أحد الخصمين اشتراه من الآخر، فإنها تستصحب ولا يقبل قول المشهود عليه أنها عادت إليه. وَلَوْ شُهِدَ أَنَّهُ غُصِبَهُ جُعِلَ صَاحِبَ يَدٍ أي: لو شهد شاهدان أن رجلاً غصب هذا الشيء المتنازع فيه لجعل المغصوب منه صاحب يد، ويقضي على من هو بيده أن يرده إلى المشهود له، ويكون المشهود له صاحب يد فقط، ولا يبعد ذلك بثبوت الملك. وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ عَلَى الْحَوْزِ لأن الملك أقوى فتقدم بينته، ولو كانت بينة الحوز متقدمة؛ لأن الحوز قد يكون بملك وبغيره، ولهذا لو لم يعلم شهد مع طول الحيازة بالملك لم يثبت الملك إلا أن يشهدوا

أنه غنمها من دار الحرب وشبهه. قيل: لسحنون متى يشهد الشاهد أنها ملكه، قال: إذا طالت حيازته إياها وهو يفعل فعل المالك لا منازع له، وقد حضروا دخولها في ملكه أولاً فتشهد بالملك، قيل: فالشاهد يشهد بالملك لطول الحيازة، وإن لم يشهد بالحيازة التي بها شهد م يحكم بها، قال: وهو كذلك، ولابد من أن يكون في شهادتهم أنها لم تخرج عن ملكه في علمهم، وعلى هذا فللشهادة بالملك أربعة شروط: طول الحيازة، وتصرفه تصرف المالك، وعدم المنازع، وأنها لم تخرج عن ملكه في علمهم. وَالنَّاقِلَةُ عَلَى الْمُسْتَصْحِبَةِ؛ إِذْ لا تَعَارُضَ لأن الناقلة زائدة. وَكَذَلِكَ دَعْوَى ابْنِ دَاراً، أَوْ زَوْجَةِ أَنَّهَا أَخَتْهَا صَدَاقاً أَوْ بَيْعاً يعني: أن من له داراً وتوفى عنها فادعى ولده أنها لم تزل على ملك أبيه إلى الموت وقام على ذلك بينة، وادعت زوجته أنه أعطاها لها في صداقها أو اشترتها منه وأقامت على ذلك بينة، فتُقدَّم بينتُها لأنها ناقلة وبينة الابن مستصحبة، ولو قال المصنف: (كدعوى) لكان أحسن؛ لأنه مثال لتقديم الناقلة على المستصحبة، ولهذا قال ابن عبد السلام: الأولى أن يحمل كلام المؤلف هنا على المعاوضة وقعت بينهما وبين الولد لتقع المغايرة بني هذا وبين ما قبله، [688/ب] والظاهر أن المصنف إنما أراد ما قلناه أولاً؛ لأن المسألة كذلك في الجواهر، ويغلب على الظن أن المصنف يتبعه، فإن قيل: أخذ الدار عن الصداق هو أحد أنواع البيع والمصنف قد غاير بينهما؛ قيل: هو وإن كان بيعاً لغة، لكنه في عرف الفقهاء ليس كذلك، والموثقون يسمونه تغييراً.

وَكَأَخَوَيْنِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيِّ، ادَّعَى الْمُسْلِمُ أَنَّ أَبَاهُ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّصْرَانِيِّ ... يعني: أن الولدين اتفقا على أن الأب نصراني، وادعى النصراني أنه مات على ذلك، فالقول قول النصراني؛ لأنه تمسك باستصحاب الحال ولا بينة بينهما. وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ لأنها ناقلة. وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ النَّصْرِانِيِّ أَنَّهُ نَطَقَ بالنَّصْرَانِيَّةِ ثُمَّ مَاتَ فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ أي: شهدت بينة المسلم أنه نطق بكلمة الإسلام ومات حينئذٍ فهما متعارضتان فيصار إلى الترجيح، فإن لم يكن ترجيح، فيقول المصنف: أنه يقسم بينهما وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة، وقال غيره فيها: إذا تكافأت البينة قضى بالمال للمسلم بعد أن يحلف على دعوى النصراني؛ لأن بينته زادت. ابن يونس: قال بعض الفقهاء: وقول ابن القاسم أصوب؛ لأن معناه أن الرجل جهل أصله، وإذا جهل فليس ثم زيادة والأمر يرد إليه فوجبت قسمة المال بينهما، وإذا كانت بينة المسلم زادت على تأويل غير ابن القاسم لم يحتج إلى تكافؤ البينة؛ لأن من زاد قضي بزيادته وإن كانت الأخرى أعدل منها. وقال إسماعيل القاضي: يشبه أني كون ابن القاسم أراد بتكافؤ البينة أن تشهد بينة المسلم أن أباه لم يزل مسلماً حتى توفي، وتشهد بينة النصراني أنه لم يزل نصرانيَّاً حتى مات، وكان الأب لا يُعرف حالُه فإن الشهادتان تسقطان، فأما إن شهدت بينة المسلم أن أباه كان نصرانيَّاً فأسلم وشهدت بينة النصراني أنه لم يزل نصرانيَّاً إلى أن مات؛ قضى ببينة المسلم لأنها زادت حدوث الإسلام.

وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ مَجْهُولَ الدَّينِ قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَهُمَا كَالتَّعَارُضِ يعني: لو كان الأب مجهول الحال ولم يكن هنا إلا دعواهما، فإن المال يقسم بينهما؛ إذ ليست دعوى أحدهما أولى من الآخر. وقوله: (كَالتَّعَارُضِ) أي: كما لو أقام كل من المسلم والنصراني بينة على صحة قوله والأب مجهول الحال. وَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً فَاخْتَلَفَتْ دَعَاوِيهِمْ؛ قُسِمَ الْمَالُ لِكُلِّ جِهَةٍ نِصْفٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ عَدَدُهُمْ ... ولو كان المدَّعُون في هذه المسألة جماعة واختلفت دعاويهم، فادعى بعضهم أنه مات على الإسلام، وبعضهم على النصرانية؛ فالمال يقسم نصفين لكل جهة، ولو كان من أحد الجهتين عدد أكثر من عدد الأخرى. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْوَلَدَيْنِ طِفْلٌ، فَقَالَ سُحْنُونٌ: يَحْلِفَانِ وَيُوقَفُ ثُُلُثُ مَا بأَيْدِيهِمَا، فَإِذَا كَبُرَ فَمَنِ ادَّعَى دَعْوَاهُ شَارَكَهُ وَيُجْبَرُ عَلَى الإِسْلامِ ... يعني: فإن كان مع الولدين المدعيين في دين أبيهما طفل، فقال سحنون: يحلفان ويوقف ثلث ما بيد كل واحد منهما حتى يكبر الصغير فيدعي دعوى أحدهما فيؤخذ ما أوقف له من سهمه ويرد إلى الآخر ما أوقف من سهمه، وظاهر قول المصنف: (شَارَكَهُ) أي: الصغير شارك من وافقه في الدعوى فيقسم بينهما نصفين، والنقل إنما هو ما ذكرته أن من وافقه يأخذ الموقوف فقط وهو ثلث ما بيد من وافقه ومصيبة الثلث الباقي من الصغير؛ لأن من وافقه ثبت له ثلث المال. وقوله: (فَإِنْ مَاتَ) أي: الصغير قبل البلوغ حلفاً واقتسما ميراثه. سحنون: وإن مات أحدهما قبل بلوغه وله ورثة يعرفوه فهم أحق بميراثه ولا يرد، وإذا كبر الصغير الصبي

فادعاه كان له. وقال أصبغ في العتبية: يوقف النصف، قال: لأن كلاًّ منهما يقر بالنصف للصغير فله النصف ويجبر على الإسلام ويقسم النصف الآخر بينهما، هكذا نقل صاحب النوادر قول أصبغ، ونقله المازري على أنه يوقف نصف ما بيد كل واحد من الولدين؛ لأن هذا يجوز إذا كبر أن يدعي دعوى أحدهما فيكون الواجب قسمة المال بينه وبين الصغير، ويكون ما أخذه المخالف له في الدعوى كمال غصبه غاصب من التركة قبل القسمة، وهو مخالف لظاهر نقل أبي زيد من وجهين؛ أولهما: الاتفاق. وثانيهما: أن ظاهره في الآخر المخالف أن يسترجع ما أوقف من نصيبه. والله أعلم. الدَّعْوَى والْجَوَابُ والْيَمِينُ والنُّكُولُ والْبَيِّنَةُ أما البينة فقد تقدمت، وأما الأربعة التي قبلها فذكرها في القضاء أنسب، وهي مرتبة في الواقع على نحو ما ذكرها المصنف. وَمَنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِرْجَاعِ عَيْنِ حَقَّهِ بيَدِهِ آمِناً مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ إِلَى رَذِيلَةٍ جَازَ لَهُ يعني: إنما يحتاج إلى الدعوى من لا يقدر على أخذ متاعه، وأما إن قدر على أخذ شيئه بعينه وأمن من فتنة تترتب على أخذه؛ من قتال، أو إراقة دم ونحو ذلك من غير رفع إلى الحاكم؛ لأن المقصود من الرفع إنما هو الوصول إلى الحق، فإذا أمكن ذلك بدونه فالرفع إليه عناء، وربما لم يجد الرافع بينة فيؤدي إلى ضياع ماله، وهو ضد ما أمر به من حفظه. وَأَمَّا فِي الْعُقَوبَةِ فَلابُدَّ مِنَ الْحَاكِمِ يعني: انه إنما يستوفي حقه إذا كان مالاً، وأما إن كان حقه عقوبة فلابد [689/أ] من الرفع، وكذلك إذا كان حقاً لله تعالى حدَّا كان أو أدباً.

وأَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِه، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ يعني: وأما إن قدر على أن يأخذ غير حقه فثلاثة أقوال، وتصورها من كلامه ظاهر، وقد تقدمت هذه المسألة آخر كتاب الوديعة وتكلمنا عليها بما فيه كفاية، لكنه إنما ذكر الخلاف في المسألة السابقة في مثل حقه، وها هنا عم الجنس وغيره، واختلف على القول بإجازة الأخذ من غير جنس حقه، هل يتولى بيع ذلك وهو اختيار بعض الشيوخ. المازري: أو يرفع إلى الحاكم ليتولى ذلك وفيه نظر؛ لأن الرفع إلى الحاكم يوجب عدم أخذه، وقد بنينا على القول بجوازه؛ لأن القاضي لا يبيع إلا بعد ثبوت دينه وكون ما يبيع ملكاً لغريمه. واختلف أيضاً هل يكون ضمان هذا الذي يباع من ضمان البائع، أو هو كالوكيل. وَعَلَيْهِ الْخِلافُ فِي إِنْكَارِ مَنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنْ أَنْكَرَهُ غَيْرُهُ أي: وعلى هذا الخلاف وهو ظاهر، واشترط في الجواهر أن يكون الحقان حالين. ابن عبد السلام: واختلف هل له أن يحلف ويؤدي؟ وَالْمُدَّعِي: مَنْ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ مُصَدِّقٍ. وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: مَنْ تَرَجَّحَ بمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ لما كان يمين المدعي والمدعى عليه مما يشكل وجرى النظر فيه احتاج إلى تفريقهما، ويقال: إن علم القضاء يرد، وعلى تمييز أحدهما من الآخر فإن العلماء لا يختلفون في حكم كان منهما؛ يعني: أن من تمسك باستصحاب المال هو المدعى عليه، ومن أراد النقل عن ذلك فهو المدعي، والظاهر أن قوله: (أَصْلٍ) يغني عن قوله: (بمَعْهُودٍ) لأن المعهود هو أيضاً أصل فيستصحب، وعرفهما معاً ولم يكتب بواحد؛ لأن القصد من التعريف البيان، وإفراد كل منهما بالتعريف أوضح، ولكنه أشكل على تمييز أحدهما عن الآخر، فقد تكون معرفة كل واحد منهما ظاهرة، وقد تظهر معرفة أحدهما دون الآخر، فإذا كان رسم كل واحد منهما معلوماً عند الفقيه وعرضت عليه مسألة؛ نظر فيها بقول كل واحد من

الخصمين، فإن انطبق رسم المدعي على أحدهما ورسم المدعي عليه على الآخر فذلك غاية البيان، وإن انطبق رسم المدعي على كلام أحدهما ولم ينطبق رسم المدعي عليه على كلام آخر لم يضره ذلك؛ لأن معرفة المدعي توجب معرفة المدعي عليه وكذلك العكس. فَلِذَلِكَ كَانَ مُدَّعِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ مَقُبُولاً لائْتِمَانِهِ، وَمُدَّعِي حُرِّيَّةِ الأَصْلِ صَغِيراً كَانَ اوْ كَبيراً مَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ حَوْزُ الْمِلْكِ، بخِلافِ مُدّّعِي الْعِتْقِ يعني: أنه لا عبرة بلفظ المدعي عليه، وإنما المعتبر المعنى المذكور، فلأجل ذلك المعنى كان قول المدعي لرد الوديعة إذا لم يكن أصلها ببينة مقبولاً؛ لأنه ترجح بمعهود عرفي، إذ العرف في ائتمانه يقتضي تصديقه، وكان قول مدعي الحرية في الأصل مقبولاً؛ لأنه ترجح بأصل، إذ الأصل عدم الرق، اللهم إلا أن يثبت عليه حرز الملك فيستصحب، وهكذا نص عليه في كتاب العتق الثاني من المدونة. قوله: (بخِلافِ مُدَّعِي الْعِتْقِ) أي: فإن قوله غير مقبول؛ لأنه ثبت رقه والأصل استصحابه. ابن عبد السلام: وقد قيل بمسألة الحرية ثلاثة أقوال. فوائد: الأولى: أن من تمسك بالأصل فهو المدعي عليه وخصمه هو المدعي، وذلك من قوله: (وَمُدَّعِي حُرِّيَّةِ الأَصْلِ). الثانية: بين قوله: (مَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ حَوْزُ الْمِلْكِ) أن الأصل والغالب إذا تعارضا فالحكم للغالب. الثالثة: إذا ثبت الانتقال عن الأصل ببينة أو إقرار، فمن طلب رفعه فهو المدعي. وَشَرْطُ الْمُدَّعَى: أَنْ يَكُونَ مَعْلُوماً مُحَقَّقاً، فَلا يُسْمَعُ: لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ أي: شرط المدعي به، واحترز بالمعلوم من المجهول فلا يسمع: لي عليك شيء، وبالمحقق فلو قال: أظن أن لي عنده شيئاً، أو شك فلا يسمع ذلك.

المازري وغيره: إنه لو قال: لي عنده شيء، جوزنا فيه أن الطالب يقر بعمارة ذمة المطلوب بشيء وجهل مبلغه وأراد أن يجاوبه المطلوب عن ذلك؛ إما بإقرار أنه ادعى به عليه التفصيل وذكر المبلغ، وإما بالإمكان له من أًله؛ ألزم الجواب، قال: وكذلك لو سأله سؤالاً شاكًّا فيما له عليه، هل يستحق قبله شيئاً أم لا، فإن هذا يظن فيه وفي تفصيل القول فيه. وزاد المازري شرطاً آخر للدعوى؛ وهو أن تكون مما لو أقر بها للمدعي عليه للزمه، فإنه لو ادعى رجل على آخر هبة، وقلنا: إنها لا تلزم بالقول، فإن بعض العلماء ذهب إلى أن الجواب لا يلزمه هناك، وكذلك الوصايا إذا رجع عنه وهو شرط ظاهر. وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْتُ وَبِعْتُ وَتَزَوَّجْتُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ. يعني: أن من ادعى أمراً معلوماً محققاً من بيع أو شراء أو تزويج فلا يلزمه بيان شروط صحته، ولا يستفصل شروط الحاكم المدعي على ذل، بل يكفيه أن يقول: اشتريت وبعت وتزوجت، وخالفت الشافعي في النكاح فقط ورأى أنه لا يقبل الدعوى فيه حتى يذكر المدعي شروط الصحة، فيقول: عقدت النكاح بصداق وولي وشاهدين، ووافق على أنه لا يلزمه في النكاح انتفاء الموانع؛ إذ لا فرق بين ذكر شروط الصحة وانتفاء موجبات الفساد. وَلا يَحْلِفُ مَعَ [689/ب] الْبَيِّنَةِ إِلا أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ طُرُوُّ مَا يُبَرِّئُهُ مِنْ إِبْرَاءٍ أَوْ بَيْعٍ يعني: إذا أقام بينة معتبرة على دعواه فلا يلزمه مع ذلك يمين على صحتها خلافاً للشافعي، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه". إلا أن يدعي المدعي عليه على المدعي أنه أبرأه من الحق أو عاوضه: فيحلف المدعي حينئذٍ، لأن البينة لم تتضمن ذلك إثباتاً ولا نفياً، وإذا توجهت اليمين على المدعي فنكل عنه حلف المطلوب وبرئ، قاله في المدونة.

فرع: واختلف إذا قال المدعي عليه إن قام عليه بشهادة عدول: احلف لي بأنك لا تعلم فسق شهودك، هل يحلف على ذلك، أم لا؟. ذكر المازري فيه الخلاف عن العلماء، ثم أشار إلى استظهار الوجوب، فكذلك إذاقال له: احلف لي أنك تستحلفني في هذه الدعوى فيما مضى، قال: والذي مر به القضاء والفتيا عندنا لزوم المدعي اليمين للمدعي عليه أنه ما استحلف قبل ذلك، أو يرد عليه قد استحلفه على هذه الدعوى أنه لا يحلف له مرة أخرى. فَلَوْ قَالَ: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ الْغَائِبُ مِنَ الحَقِّ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْتَظِرُ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: إِنْ كَانَ كَالْيَوْمِ، وَإِلاَّ حَلَفَ الْوَكِيلُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ... أي، إذا قال المدعي عليه لوكيل الغائب: أبرأني موكلك الغائب من الحق، فقال ابن القاسم في المجموعة: لا يحلف الوكيل وينتظر الغائب، وفي بعض النسخ: وينتظر، فيعود على المدعي عليه أن يؤخر حتى يجتمع بالمدعي، وقال ابن كنانة في المجموعة: إن كان الطالب قريباً من مثل اليومين فيكتب إلى الحاكم فحيكم، وإن لم يكن قريباً حلف الوكيل أني ما علمت أنه قبض من الحق شيئاً، أوي قضي له، وقال ابن المواز: يقضي على المطلوب وترجى له اليمين على الموكل، فإذا لقيه حلف المطلوب واسترجعه، وكلام المصنف يقتضي أن قول ابن كنانة خلاف لقول ابن القاسم، وحمل غير واحد قولهما على الوفاق، وأن ابن القاسم يوافق على الانتظار في المدة القريبة، ولهذا قال في البيان: ولا خلاف في الغيبة القريبة أنه لا يقضي للوكيل إلا بعد يمين موكله. وَمَنِ اسْتَمْهَلَ لإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ دَفْعِهَا أُمْهِلَ جُمُعَةً، وَيُقْضَى وَيَبْقَى عَلَى حُجَّتِهِ، وَلِلْمُدَّعِي طَلَبُ كَفِيلٍ فِي الوَجْهَيْنِ ... (اسْتَمْهَلَ) أي: طلب أن يمهل، أي لإقامة بينة، هذا في حق المدعي، أو لدفعها، هذا في حق المطلوب أمهل جمعة، هو لغير ابن القاسم في المدونة، قال فيها: وإذا ادعى شهوداً

حضروا على حقه أوقف الخمسة الأيام والجمعة. ابن عبد السلام: والمذهب لا تحديد في ذلك. قال غير واحد من أهل المذهب: وضرب الأجل مصروف إلى اجتهاد القضاة والحكام، وليس فيه حد محدود لا يتجاوز، وإنما هو بحسب ما يقتضيه الحال، وقد تقدم في الأقضية من كلام ابن راشد: أن العمل على أحد وعشرين يوماً، وذكر ابن سهل وغيره: إذا كان في الأصول أُجِّل المعذر إليه من طالب أو مطلوب خمسة عشر يوماً، ثم ثمانية، ثم أربعة أيام، ثم ثلاثة تتمة الثلاثين يوماً، ذكره ابن العطار. وقوله: (وَيُقْضَى وَيَبْقَى عَلَى حُجَّتِهِ) ظاهره كان طالباً أو مطلوباً، وهو ظاهر المدونة آخر كتاب الأقضية؛ لقوله: يقبل ما أتى به بعد التعجيز إذا كان لذلك وجه، وقيل: لا تبقى له حجة طالباً كان أو مطلوباً، ونقله ابن عبد السلام عن الأكثر، قال في المدونة: تدل عند الأكثرين عليه، وقيل: تقبل من الطالب دون المطلوب، وقد تقدم هذا المعنى في الأقضية. وَلِلْمُدَّعِي طَلَبُ كَفِيلٍ فِي الأَمْرَيْنِ أي: في إقامة البينة وفي دفعها، وأجمل في الكفيل؛ إذ لم يبين هل بالوجه أو بالمال، فأما المطلوب إذا أجل لدفع البينة؛ فللطالب أخذ حميل بالمال. المازري: وكذلك لو أقام عليه شاهداً وطلب ذلك المدعي ليأتي بشاهد آخر، وأما إن طلب الدعي كفيلاً حتى يقيم البينة بالحق، فحكى المازري الاتفاق على أنه لا يلزمه حميل بالمال. وأما بالوجه ففي الحمالة من المدونة: ومن كان بينه وبين رجل خلطة فادعى عليه حقَّا؛ لم يجب عليه حميل بوجه حتى يثبت حقه، قال غيره: إذا ثبت الخلطة بينهما فله عليه كفيل بنفسه ليوقع البينة على عينه، وفي الشهادات: ومن ادعى قبل رجل ديناً أو غصباً أو استهلاكاً، فإن عرف بمخالطته في معاملته أو علمت تهمته فيما ادعى قبله من التعدي والغصب؛ نظر فيه الإمام، فإما أن يحلفه أو يأخذ له كفيلاً حتى يأتي بالبينة، وإن لم تعلم

خلطته أو تهمته فيما ذكر لم يعرض له، ثم قيل: ما في الموضعين خلاف، وقال أبو عمران: المراد بالكفيل في الشهادات الوكيل، بمعنى أنه يوكل من يلازمه ويحرسه؛ لأنه يطلق على الوكيل كفيل، وقال ابن يونس: في الحمالة؛ يعني عن ابن القاسم: إذا لم يكن المدعي عليه معروفاً مشهوراً فللطالب عليه كفيل بوجهه ليوقع البينة على عينه، وأما لو كان المدعي عليه معروفاً مشهوراً؛ فليس للطالب عليه كفيل بوجهه، لأنا نسمع عليه البينة في غيبته، [690/أ] وكذلك معنى قول ابن القاسم، والله أعلم. وَإِذَا امْتَنَعَع الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ، فَرَوَى أَشْهَبُ: يُحْبَسُ، وَقَالَ أَصْبَغُ: هُوَ كَالنَّاكِلِ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ بالْبَيِّنَةِ طُولِبَ بِهَا وَحُكِمَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يُخَيَّرُ فِي الثَّلاثَةِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْحُكْمَ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَانَ عَلَى حُجَّتِهِ ... يعني: إذا فرغ المدعي من دعواه كلف المدعي عليه بالجواب بأن يقر أو ينكر، فإن لم يفعل؛ فروى أشهب: يحبس حتى يقر أو ينكر واستصوبه محمد. ابن راشد: وهو الظاهر؛ لأن الخصم لم يتوجه عليه غير ذلك. ابن عبد السلام: وبه جرى العمل ويؤدب. ابن سهل: وأفتى فقهاء قرطبة في مثل هذا بالضرب حتى يقر أو ينكر، فإن تمادى على إنكاره حلف عليه بغير يمين. وقال أصبغ: لا يخلو الذي وقع التنازع فيه إما أن يثبت بالنكول واليمين أو لا؛ فالأول: يقول القاضي إما أن تجيب، وإما أن يحلف ويحكم له عليك. وهذا بشرط أن تكون الدعوى مشبهة ولم يتعرض المصنف لهذا الشرط لكونه شرطاً في مطلق الدعوى، وسيأتي تنبيه المصنف. والثاني: وهو أن تكون الدعوى مما لا يثبت إلا ببينة، فإنه يطلب خصمه، فإن تمادى هذا على ترك الكلام حكم عليه، وهذه الزيادة أيضاً لا تفهم من كلام المصنف، وقال محمد بن المواز: يحكم عليه ولا يحتاج إلى يمين المدعين وقال اللخمي: مخير في الثلاثة

المتقدمة؛ فإما أن يحبس له المدعى عليه فيجيب بالإقرار أو الإنكار، وإما أن يحلف ويأخذ ما وقع النزاع عليه ملكاً؛ لأن امتناع المدعى عليه من الجواب امتناع من اليمين في المعنى؛ لأن الجواب سابق على اليمين وشرط فيها، وإما أن يحكم له الآن دون يمين، فإن أجاب خصمه بعد ذلك بالإنكار سمع منه وتمم الحكم بينهما. وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ السَّبَبِ، وَيُقْبَلُ دَعْوَى نِسْيَانِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وقَالَ الْبَاجِيُّ: الْقِيَاسُ اليْمِينُ ... يعني: أن المدعي إذا ادعى بألف درهم مثلاً؛ فللمدعي عليه أن يسأله من أي وجه يستحقها عليَّ، فإن بيَّن الطالب وجهه؛ وقف المطلوب عليه ولزمه أن يقر أو ينكر، وإن أبى ولم يدعِّ نسيانه لم يسأل المطلوب عن شيء، قاله أشهب في المجموعة، وهو في كتاب ابن سحنون أيضاً، ووجهه: أن المدعي إذا ذكر السبب يحتمل ان يكون فاسداً فلا يرتب على المدعي عليه غرامة. وقوله: (وَيُقْبَلُ دَعْوَى نِسْيَانِهِ بغَيْرِ يَمِينٍ) وقال الباجي: القياس بيمين، هذا من تمام قول أشهب، وقول الباجي أظهر. فرع: وإن أنكر المطلوب المعاملة كلف الطالب البينة، نقله الباجي. وَجَوابُ دَعْوَى الْقِصَاصِ عَلَى الْعَبْدِ، وَدَعْوَى الأَرْشِ عَلَى السِّيِّدِ لأنه إنما يكلف الجواب من يتوجه الحكم عليه، وفي معنى القصاص حدُّ القذف ونحوه. وقوله: (وَدَعْوَى الأَرْشِ عَلَى السِّيِّدِ) يريد: إلا أن تقوم قرينة توجب إقرار العبد فيها بالمال، كما قال في كتاب الديات: في عبد على برذون مشى على أصبع صبي فقلعها فتعلق

به وهو يدمي، يقول: هذا فعل فيَّ، فصدقه العبد؛ أن الأرش يتعلق برقبة العبد، وأما على غير هذا من إقرار العبد فلا يقبل إلا بالبينة، وحيث قلنا إقرار العبد في القصاص يعفو عنه من يستحق القصاص على أن يأخذ العبد فليس له ذلك؛ لأن العبد يتهم على أن يكون أراد الفرار من سيده بإقراره على هذا الوجه، قاله في المدونة أيضاً. وَالْيَمِينُ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هَوَ فَقَطْ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَرَوَى ابْنُ كِنَانَةَ: يُزَادُ فِي رُبَُعِ دِينَارٍ، وَفِي الْقَسَامَةِ، وَاللِّعَانِ: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .... ظاهره أنه لابد من الاسم المعظم ووصفه بالذي لا إله إلا هو. المازري: والمعروف من المذهب المنصوص عند جميع المالكية أنه لا يكتفي بالله فقط، وكذلك نص عليه أشهب، وكذلك لو قال: وهو الذي لا إله إلا هو، ما أجزأه حتى يجمع بينهما، وقال اللخمي: الذي يقتضي قول مالك الإجزاء إذا اقتصر على أحدهما، واختاره واستدل له بلزوم الكفارة في أحدهما بغير خلاف. المازري: وإنما تعلق ما نسبه لمالك بما وقع في المدونة في ذكره يمين اللعان في قوله: يقول بالله، وبما قاله في يمين اليهودي والنصراني أنه يقول بالله، وهذا ليس المقصود به عند مالك- رضي الله عنه- أنه اللفظ الذي يذكر هنا، وإنما أراد بيان ما وقع فيه الإشكال، وإثبات الزيادة واللعان، وإثبات ذكر الذي أنزل التوراة على موسى- عليه السلام- في حق اليهودي، وإثبات الذي أنزل الإنجيل على عيسى - عليه السلام- في حق النصراني. وقوله: (وَرَوَى ابْنُ كِنَانَة ... إلخ) ظاهر التصور، وزيد في القسامة قول ثالث؛ أن يقول: أقسم الله الذي أحيا وأمات. ويتحصل في فهم اللخمي في اللعان أقوال؛ الأول مذهب المدونة: بالله. الثاني في الموازية: أشهد بعلم الله.

اللخمي: يريد أنه جائز لا أنه لا يجزئ غيره. الثالث: القول الذي قدمه المصنف. الرابع: القول الثاني من كلام المصنف. الخامس: بالله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. ويتحصل فيه أقوال؛ أولها: بالله الذي لا إله إلا هو. الثاني: أن يقول الذي أمات وأحيا. الثالث: أن يقول لا إله [690/ب] إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. الرابع: وذكر ابن رشد أنه مضى به العمل عندهم: عالم الغيب والشهادة، ولم يذكر الرحمن الرحيم، وزاد فيه أن تكون الأيمان إثر صلاة العصر يوم الجمعة. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلا يُزَادُ عَلَى الْكِتَابِيِّ: الْذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ. وَقِيلَ: يُزَادُ الأول المشهور، والثاني رواه الواقدي عن مالك، ومعناه: يزاد على اليهودي؛ الذي أنزل التوراة على موسى، وعلى النصراني، الذي أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام، وأطلق المصنف لعدم الإلباس، وإنما جمعها في القول الألو في سياق النفي. قال في المدونة: ويحلفون في كنائسهم حيث يعظمون، وظاهر قول مالك: أن المجوسي يحلف كما يحلف المسلم بالله الذي لا إله إلا هو. وقيل: لا يلزمه أن يقول إلا بالله، ومقتضى كلام المصنف أن الكتابي يقول في يمينه: والله الذي لا إله إلا هو. وفي المدونة: ولا يحلف اليهودي والنصراني في قوله في لعان أو غيره إلا بالله. عياض: فحمله بعض الشيوخ على ظاهره وأنهم لا يلزمهم تمام الشهادة؛ إذ لا يعتقدونها فلا يكلفون ما لا يدينون به وهو مذهب ابن شبلون، وفرق غيره بين اليهود فألزمهم ذلك لقولهم بالتوحيد وبين غيرهم. وقال غيره: لنا يحلفون بالله فقط هنا، لما سأله عنه: أيزيدون الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والإنجيل على عيسى عليه السلام، فقال: أن يحلفوا بالله فقط لا يلزمون بما سألت عنه. وذهب بعضهم إلى أن جميعهم يلزمه هذا اعتقده أم لا، رضيه أم كرهه، ولا يعد قولهم ذلك إسلاماً، وإنما هو حكم يجريه عليه الإسلام كما يلزمون فيما تحاكموا فيه مع المسلمين بحكم الإسلام، وإليه ذهب المتقدمون الأصحاب. انتهى باختصار.

وَتُغَلَّظُ فِيمَا لَهُ بَالٌ بالْمَكَانِ. وَقِيلَ: وَبِوَقْتِ الصَّلاةِ، وَتُغَلِظُ فِي الدِّمَاءِ وَاللِّعَانِ بهِمَا ... الذي له بال هو ربع دينار فصاعداً، (بالْمَكَانِ) أي: بالجامع. وأما ما دون ذلك فيحلف حيث كان. قوله: (وَقِيلَ: وَبوَقْتِ الصَّلاةِ) فهم منه شيئان؛ أولهما: أن الأول تغلظ بوقت الصلاة. وثانيهما: أن القول الثاني وافق على التغليظ بالمكان أو لإثبات الدار. وقوله: (بوَقْتِ الصَّلاةِ) أي: حين يحضر الناس في المساجد ويجتمعون للصلاة وتغلظ في الدماء وفي اللعان بهما؛ أي: بالزمان والمكان، وحاصله: أنه اتفق على التغليظ بهما في الدماء واللعان، واختلف في الأموال، ونزل قوله: (إِنَّ الذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران:/ 77] فيمن حلف بعد العصر على يمين كاذبة. فرع: المازري: المعروف أنه لا ينوب مناب الجامع الأعظم آخر ولو كان مسجد جماعة وقبائل، وأخذ الباجي التحليف في سائر المساجد مما رواه ابن سحنون: في امرأتين ممن لا يخرجن فأمر أن يخرجا من الليل إلى الجامع، فسئل عن تحليفهما في أقرب المساجد ولا يكلفان إلى الجامع، فأجاب إلى ذلك، ورده المازري بكونه ذكر اختصاص من يُستحلف بمعنى يوجب تغير الحكم بكون امرأتين مخدرتين لا يتصرفان، فكما نقلهما من الحلف نهاراً إلى الليل ستراً عليهما كذلك ينقلهما إلى أقرب المساجد. وَتَخْرُجُ الْمُخَدَّرَةُ مِنَ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ لَيْلاً، وَيُجْزِئُ فِي تَحْلِيفِهِمَا الوَاحِدُ، وَالاثْنَانِ أَوْلَى ... أي: تخرج فيما له بال: لأن كلامه فيه، وظاهره أنه تخرج لربع دينار فصاعداً.

المازري: وهو المشهور وهو قول مطرف وابن الماجشون. وفي الموازية عن ابن القاسم: أنها لاتخرج إلا في المال الكثير الذي له بال، وفسره اللخمي بالدينار فأكثر. الجوهري: والخدر الستر، وجارية مخدرة: اللازمة الستر، وظاهر كلام المصنف: أنها تخرج ليلاً ولو كان لا تخرج جملة ولا تتصرف كنساء الملوك، وهكذا قال الأندلسيون، قالوا: وإن منعت من الخروج حكم عليها بحكم الملك. عياض: وليس بصواب؛ لأنها مكرهة فكيف تؤخذ بذنب، وقال ابن كنانة وغيره، وهو الذي ذكره عبد الوهاب: إن مثل هذه تحلف في بيتها وهو ظاهر، والمدونة محتملة للقولين؛ لقوله: وإن كانت من لا تخرج نهاراً فلتخرج ليلاً. وفي بعض النسخ: (لا تخرج) ولم يذكر نهاراً، وهذا إنما هو فيما تطلب به المرأة من اليمين وجب عليها، فأما يمينها فيما تستحق به حقها فلتخرج إلى موضع اليمين، نص عليه ابن كنانة في المدونة وغيره ولم يذكر فيه خلافاً. وقوله: (مِنَ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ) نحوه في الجواهر عن ابن عبد الحكم، والذي في المدونة: وأم الولد مثل الحرة فيمن تخرج أو لا تخرج، فخص ذلك بأم الولد، وقال بإثر ذلك: وأما العبد ومن فيه بقية رق فهو كالحر في اليمين. ابن عبد السلام: وفي المدونة: وأما المكاتبة والمدبرة فهما كالحرة في اليمين. خليل: لم أجد هذا في كل النسخ بل في بعضها، ولم يتكلم على هذه الزيادة أبو الحسن في التنبيهات في باب الأقضية. وقوله- يعني في المدونة-: وأما ما سألت عنه من المكاتب والمدبر وأمهات الولد؛ فسننهم سنة الأحرار، إلا أني أرى أمهات الأولاد كالحرائر؛ منهن من تخرج ومنهن من لا تخرج. حمل بعضهم الكلام الأول على الذكران دون الإناث، ولهذا استثنى أمهات

الأولاد، وعليه اختصر أبو محمد، وذهب آخرون إلى أن الكلام [691/أ] على الذكران والإناث وأنهم ما عدا أمهات الأولاد كالرجال في اليمين، وإنما استثنى أمهات الأولاد؛ لأن لهن حرمة ساداتهن وأبنائهن كحرمة الحرائر، ومن عداهن من المكاتبات والمدبرات والسراري كالذكران من الرجال، وإليه ذهب ابن محرز. ووقع في كلام ابن القاسم في هذه المسألة في كتاب الشهادات: وأما ما سألت عنه من المدبرات والمكاتبة وأمهات الأولاد فسنتهم سنة الأحرار. انتهى. وهذايرجح سقوط التي ذكرها ابن عبد السلام، ثم قوله: (الحرة) يحتمل في نفس اليمين. قوله: (وَيُجْزئءُ فِي تَحْلِيفِهِمَا الْوَاحِدُ، وَالاثْنَانِ أَوْلَى) وهو مذهب المدونة. قال عياض: وهو أحد قوليه في هذا الأصل كالنظر في العيوب والترجمان، ونحو ذلك. وَيَمِينُ الْمَسْجِدِ قَائِماً مُسْتَقْبِلاً. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ فِي لِعَانٍ أَوْ قَسَامَةٍ أخذ من صريحه أن اليمين إذا كانت فيام له بال وأوقعت في المسجد يلزم فيها القيام والاستقبال، وفهم من كلامه أنه إذا لم تكن فيما له بال يحلفها كيف تيسر، وهذا قول مطرف وابن الماجشون، وهو خلاف مذهب المدونة؛ لأن فيها: وكل ما له بال فإنما يحلف فيه في جامع بلده في أعظم مواضعه وليس عليه أن يستقبل القبلة، وروي عن مالك: أنه يحلف جالساً ولا يحلف قائماً. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ فِي لِعَانٍ أَوْ قَسَامَةٍ) أي: فيحلف فيهما قائماً مستقبلاً، وهو قول أشهب. وَلاَ يَعْرِفُ مَالِكٌ الْيَمِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إِلا فِي الْمَدِينَةِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَاكَثَر، وَيَحْلِفُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ ... نحوه في المدونة، وإنما اختص منبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا لأنه موضع مصلاه، وقد قال عليه السلام: "من حلف عند منبري آثماً إنما تبوأ مقعده من النار".

وظاهر المدونة ألا يحلف في سائر المساجد غير مسجده صلى الله عليه وسلم عند المنبر، وقد صرح ابن وهب في روايته بذلك، وقال مطرف وابن الماجشون: يستحلفون في ربع دينار في المدينة عند منبره صلى الله عليه وسلم، وفي غيرها في المسجد الأعظم حيث يعظمون منه عند غيرهم أو تلقاء قبلتهم، ولو اتفق أن يكون في بعض المساجد المنبر في وسط المسجد لكانت اليمين عند المحراب دون المنبر. المازري: والمعروف أنه يحلف في المدينة عند منبره صلى الله عليه وسلم، وفي مكة عند الركن، وفي غيرهما من البلاد في الجامع الأعظم، وهل يختص في الجامع الأعظم بمكان المنبر؟ وقع في بعض الإطلاقات ما يشير إلى أنه لا يشترط اليمين عند المنبر إلا في منبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن حبيب عن بعض أصحاب مالك أن الاستحلاف عند المنبر وتلقاء القبلة، يشير بذلك إلى أن المحراب هو أعظم حرمة مما سواه في المسجد لكونه محل من يقتدى به. المازري: والمعروف من المذهب أنه لا يستحلف في المسجد في أقل من ربع دينار، لكن ابن الجلاب قصر هذا الاحترام على مسجده صلى الله عليه وسلم، فقد شرط في الاستحلاف أن يبلغ الحق ربع دينار، واستحلف فيما سواه من البلدان في المسجد الأعظم في أقل من ربع دينار، وعلى هذا فقول المصنف: (وَيَحْلِفُ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ) خلاف المعروف. قَالَ: وَمَنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَهُ كَانَ نَاكِلاً أي: قال مالك: ومن أبى أن يحلف عند المنبر كان ناكلاً. وَشَرْطُ الْيَمِنِ أَنْ يُطَابِقَ الإِنْكَارَ اليمين إذا توجهت على المدعى عليه لإنكاره فشرطها أن تكون مطابقة لإنكاره، ما لو ادعى عليه أنه اشترى منه فأنكره، فيحلف أنه اشترى نمه كذا. قال في المدونة: ولو أراد أن يحلف أنه لا حق لك قبلي، فليس له ذلك؛ لأن هذا يريد أن يوري.

ابن القاسم: يعني يلقن. وشرحه التونسي: بأنه يريد أن يتحيل على أن يكون القول قوله في القضاء بقوله: ما له عندي. واشترط ابن الماجشون المطابقة وأجاز أن يحلف أنه لا حق لك قبلي، يريد لا قليلاً ولا كثراً، هكذا ذكر المازري عنه وهو ظاهر؛ لأن اليمين على نية المستحلف. المازري: واختار ابن حبيب الاستظهار بقرائن الحال، فإذا كان المدعى عليه من أهل الصلاح والفضل والمدعي من أهل التهم ومن يظن به أنه ادعى الباطل؛ قنع في اليمين بما قاله ابن الماجشون، فيقول: ما لك عندي حق قليل ولا كثير، وقال: وهذا قاله ابن الماجشون. (لا قليل ولا كثير) إشارة إلى إحدى الطريقتين ي المسألة التي أشرنا إلى اختلاف العلماء فيها إذا ادعى رجل بعشرة، فقال: مالك عندي عشرة، أنه يضيف إلى هذا ولا أقل منه. وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى وَفْقِ الشِّهَادَةِ بِأَنَّه أَقَرَّ، وَلا يَلْزَمُهُ أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا لما تكلم على اليمين في جانب المدعي عليه تكلم فيما إذا كانت في جانب المدعي، وهي على قسمين؛ أحدهما: أن يقوم له شاهد بالحق. والثاني: أن يردها عليه، لكن المصنف ترك بيان هذا القسم الثاني استغناء ببيان يمين المدعى عليه، فإن من ردت عليه يمين فإنما يحلفها إثباتاً ونفياً على مناقضة من ردها عليه، كما استغنى أيضاً عن باين يمين المدعى عليه إذا ردها المدعي إذا قام له شاهد للوجه الذي قلناه، ومعنى كلامه هنا: أنه إذا شهد شاهد له أن فلاناً أقر له بمائة، فإنما يحلف على [691/ب] وفق الشاهد لا على وفق دعواه. ابن عبد الحكم: وليس للطالب أن يحلف أن له عليه مائة أو غصبه مائة، ولهذا لو قال المصنف عوض قوله: (وَلا يَلْزَمُهُ) (ولا يقبل منه أن عليه كذا) كان أحسن، ثم يظهر ما قاله ابن عبد الحكم إذا قلنا أن اليمين كشاهد ثانٍ، وأما على قول من يرى أن الحق إنما هو مستند للشاهد واليمين إنما هي استظهار؛ فينبغي ألا يشترط المطابقة.

فَإِنْ كَانَ عَلَى غَائِبٍ زَادَ: وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ إِلَى الآنَ قد تقدم في كلام المصنف في آخر باب الأقضية في هذه المسألة خلاف، لكن إذا حلف أنه باقٍ عليه إلى الآن استلزم الفصول كلها. ويَحْلِفُ مَنْ بَلَغَ مِنْ وَرَثَتِهِ كَذَلِكَ عَلَى نَفْي الْعِلْمِ يعني: إذا ادعى من عليه الحق من الورثة أنهم علموا بالقضاء فيحلف من كان منهم بالغاً يوم الموت؛ لأنه يظن به أنه علم بذلك، وأما من كان صغيراً فلا. وقوله: (عَلَى نَفْي الْعِلْمِ) فيقول: ما علمت أنه قبض منك شيئاً، ولا يكلف البَتَّ. قال في الجواهر: وإذا حلف البالغ قضي لجميعهم، واختلف: هل لا يحلف الوارث إلا بشرط أن يدعي المطلوب عليه العلم او لا يشترط ذلك. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنه لا يحلف كل من بلغ، والمذهب أنه لا يحلفها من البالغين إلا من يظن به منهم العلم؛ كقريب القرابة المخالط، وأما من بَعُد كابن العم والأخ الذي لا يخالط أخاه فلا يحلف كالصغير. وَيَحْلِفُ فِي الرَّدِيءِ عَلَى نَفْي الْعِلْمِ، وَفِي النَّقْصِ عَلَى الْبَتِّ أي: في الدرهم الجيد والردئ، فحذف الموصوف، فيقول: ما أعطيته إلا جياداً في علمي، وظاهره أن هذا في حق الصيرفي وغيره وهو قول ابن القاسم، وقيل: بل يحلف على البت، وفصل ابن كنانة وابن حبيب فقالا: يحلف الصيرفي على البت وغيره على العلم؛ لأن الصيرفي لا تشكل عليه الدراهم بخلاف غيره. قال في الجواهر، ولو قال: ما أعرف الجيد من الردئ، فقال بعض الأصحاب: يحلف ما أعطيته رديئاً في علمي، وحلف في النقص على البت؛ لأن النقص يمكن فيه حصول القطع ولا يتعذر الجزم به أو بعدمه بخلاف الجودة والرداءة.

وَمَا يُحْلَفُ فِيهِ بَتًّا يُكْتَفَى فِيهِ بظَنٍّ قَوِيًّ، أَوْ خَطِّ أَبيهِ، أَوْ قَرِينَةٍ مِنْ خَصْمِهِ وَشِبْهِهِ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ التَّغْييرُ ... لما ذكر أولاً أن اليمين إن كانت على نفي العلم اكتفى بالظن، وإن كانت على البت فقولان؛ أولهما: الاكتفاء بالظن كالأول. والثاني: لابد من العلم. والقولان لمالك، والأول في كتاب ابن سحنون، واستقرأ من المدونة من كتاب الشهادات وكتاب الوديعة وكتاب الديات، والثاني في الموازية، واحتج للأول: بأنه لو أقام الصغير شاهدين بدين لأبيه لساغ له أخذ هذا المال والتصرف فيه مع أنه لا يقطع بصدق الشاهدين، فلما أبيح له الاعتماد على الظن أبيح له أن يحلف عليه بأن استباحة الأموال ورد الشرع بالتعويل فيها على الظاهر، ولو طلب فيها اليقين لأدى إلى ضرر عظيم لعسر تحصيل اليقين في كل وقت يحتاج الإنسان فيه قوته وغير ذلك من مهماته، ويلزم ألا يشتري شيئاً من السوق حتى يعلم صحة ملك البائع له، والبائع من البائع، بخلاف اليمين فنه لا مانع في طلب اليقين فيها، بل مقتضى تعظيم حق الله ألا يحلف به إلا مع تيقن الصدق، ومن هنا تعلم أن قول المصنف في باب الأيمان: (وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظَّنِّ كَذَلِكَ) مبني على القول الثاني لا على الأول. وَالْيَمِينُ عَلَى نِيِّةِ الْحَاكِمِ فَلا تُفِيدُ تَوْرِيَةٌ الاسْتِثْنَاءَ أي: التي يحلفها المدعي عليه هي على نية القاضي واعتقاده لا على نية الطالب، وقد تقدمت هذه المسألة في باب الأيمان، ووقع في بعض النسخ أن ما تقدم على المشهور؛ وهي زيادة تصح على طريق بعض الشيوخ كما تقدم. وَيَمِينُ الْمَطْلُوبِ: مَا لَهُ عِنْدِي كَذَا وَلاَ شَيْءَ مِنْهُ، لاَ مُطْلَقاً كما لو ادعى عليه عشرة وأنكرها فإنه يحلف: ما له عندي عشرة ولا شيء منها.

المازري: واختلف العلماء هل يكتفي بقوله: مالك عندي عشرة، لكونه مطابقاً لما سئل عنه أو لابد أن يقول: ولا شيء منها. قال: والتحقيق عندي يقتضي ألا يكلف زيادة على العشرة إلا حين يدعي سؤالاً بآخر، ويقول: فهل لي عندك بعض العشرة، ويسمي جزءاً؛ فيلزم حينئذٍ المجاوبة. فَإِنْ ذَكَرَ السَّبَبَ نَفَاهُ مَعَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ يُكْتَفَى بذِكْرِ السَّبَبِ. وَعَنْ مَالِكٍ: يُقْبَلُ: مَا لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، ثُمَّ رَجَعَ ... أي: إن ذكر سبب العشرة، كما لو قال: أسلته عشرة مثلاً، وفهم من هذا أن الكلام الأول إذا لم يذكر السبب، وقوله: (نَفَاهُ) أي: السبب معه. ابن عبد السلام: أي مع العدد ويحتمل أن يقدر بعكس هذا التقدير، فيقول المدعي عليه في يمينه: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي عشرة من سلف ولا من غيره، هكذا نص عليه أشهب وسحنون. وقال الباجي: القياس أن يكتفى بقوله: ما له عندي عشرة من سلف؛ لأن اليمين مطابقة للجواب، والجواب مطابق كنفي الدعوى، والطالب لم يطلبه [692/أ] بغير ذلك، وفي أخذ زيادة قوله: ولا من غيره من كلام المصنف نظر، وهي زيادة لابد منها، ونص أشهب على أنه لو لم يزدها أن اليمين لا تجزئه. وعن مالك يقبل: ما له علي حق، ثم رجع، هذا هو الشاذ المقابل للمشهور وهو مذهب ابن الماجشون. قَالَ ابْنُ دِينَارٍ، قُلْتُ لابْنِ عُبْدُوسٍ: فَيُضْطَرُّ إِلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَوْ غُرْمِ مَا لاَ يَجِبُ، فَقَال: يَنْوِي شَيْئاً يَجِبُ رَدُّهُ، وَيَبْرَأُ مِنَ الإِثْمِ ... نسبة السؤال إلى ابن دينار وهم؛ لأنه إما محمد بن دينار وهو من أصحاب مالك، وإما عيسى بن دينار وهو من أصحاب ابن القاسم، وكلاهما أقدم من ابن عبدوس لأنه من أصحاب سحنون، والصواب ما ذكره ابن شاس، قال ابن حارث، قال محمد بن زياد لمحمد بن إبراهيم بن عبدوس: إذا أسلف الرجل الرجلَ مالاً فقضاه إياه بعد ذلك بغير

بينة وجحد القابض، فإن أراد أن يحلفه أنه ما أسلفه، فإن باطن أمره أنه قد قضى- أعني في ضميره- سلفاً يجب علي رده إليك في هذا الوقت، وبرئ من الإثم في ذلك، وانظر هذا مع قولهم أن اليمين على نية الحاكم، ووقع في بعض النسخ، قال ابن زياد: وعليها يندفع الاعتراض، ثم إن ما ذكره ابن عبدوس إنما هو مبني على القول الذي رجع إليه مالك، وأما على المرجوع عنه؛ فيكفي: ماله عندي شيء. وَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ: هُوَ وَقْفٌ، أَوْ لِوَلَدِي، أَوْ لَيْسَ لِي، لَمْ يُمْنَعِ الْمُدَّعِي مِنَ الْبَيِّنَةِ إذا كان المدعي فيه معيناً وكان بيد رجل فأجاب الذي هو بيده أنه وقف، أو قال: لولدي سواء كان صغيراً أو كبيراً، أو قال: ليس لي ولم يزد، قيل للمدعي: أقم البينة بأن هذا لا ينازعك فيه، وتكون المخاصمة بين المدعي وبين الناظر في الوقف، وبينه وبين الولد إن كان كبيراً، وبينه وبين أبيه إن كان صغيراً. وَلَوْ قَالَ: لِفُلانٍ الْحَاضِرِ، فَلْيَدَّعِ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ فَلِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُ الْمُقِرِّ، فَإنْ نَكَلَ حَلَفَ وَغَرِمَ قِيمَةَ مَا فَوَّتَهُ ... هذا تفريع على قوله: (أَوْ لَيْسَ لِي) فلابد من استفساره إذا سماه، فإما أن يكون حاضراً أو غائباً، وتكلم المصنف أولاً على الحاضر وذكر أن الدعوى تنقل إليه إذا وافق على أنه له، ثم المدعي إما أن يقيم بينة وإما أن يحلف المقر له، فإن أقام بينة فواضح، وإن حلف فللمدعي أن يحلف المقر أنه ما أقر إلا بالحق، وإن نكل -أي: المقر-حلف-أي: المدعي- وغرم له المقر قيمة ما أتلف عليه بإقراره، أو مثله إن كان مثليًّا، وهذا ظاهر إذا حلف المقر له أولاً. وأما إن كان المقر له نكل فانتقلت اليمين على المدعي فنكل عنها، فلا ينبغي أن يحلف المقر له؛ لأن من حجة المقر أن يقول: هب أني نكلت فلا يتعلق لك الحق بنكولي خاصة،

ولابد من اليمين معه، وقد توجهت هذه اليمين عليك بنكول المقر له فنكلت عنها، ومن نكل عن يمين فلا يعود فيها. المازري: بعد أن ذكر ما ذكره المصنف: إن للمدعي بعد تحليف المقر له أن يحلف المقر أيضاً، قال: وعلى قول من ذهب من الناس إلى أن متلف الشيء بإقراره لغير مستحقه لا يطلب بالغرامة، لا يمين هنا على المقر؛ لأنه لم يباشر الإتلاف، وإنما قال قولاً حكم الشرع فيه بإخراج ما أقر به من يده وكان سبباً في إتلافه، فلهذا لا يمكن من تحليفه؛ لأنه إذا لم يلزمه بالإقرار حكم ولا غرامة فلا يلزمه يمين، وأشار المازري إلى أن من الناس من رأى أنه لا غرامة على المقر إذا نكل بعد القول بتوجيه اليمين عليه. ابن عبد السلام: وفيه نظر. وَإِنْ كَانَ غَائِباً لَزِمَهُ الْيَمِينُ أَوِ الْبَيِّنَةُ وَانْتَقَلَتِ الْحُكُومَةُ إِلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَإِنْ جَاءَ الءمُقَرُّ لَهُ فَصَدَّقَ الْمُقِرَّ أَخَذَهُ ... فإن كان المقر له غائباً غيبة بعيدة لا يلزم الإعذار إليه فيها، فلا خلاف أنه لا يسلم لمدعيه بمجرد دعواه، ولا خلاف أيضاً أنه لا يقبل قول المدعي مجرداً عن يمين وبينة ثم أقام بينة على أنه للغائب؛ كانت الدعوى بين هذا المدعي والغائب، وإن لم يقر وطلب المدعي يمين المقر؛ فقال أشهب: ما حكاه لمصنف تلزمه اليمين أو البينة. وقال المازري: يسأل المدعي عن غرضه في تحليفه، فإن كان لينكل فيحلف المدعي ويغرم المقر قيمة الثوب، جرى على الخلاف في التغريم إذا أتلفه بالإقرار، وإن كان لينكل فيحلف المدعي ويستحق على المتنازع فيه ويبطل حق الغائب فيه الآن؛ ففيه خلاف. وذكر ابن سحنون فيمن ادعى في دار في يده، فقال: هي لفلان الغائب، أنه إن حلف بقيت في يده، وإن نكل سلمها للمدعي من غير حلف حتى يقدم الغائب فيأخذها بإقرار من كانت في يده، قال: واختار بعض أشياخي سقوط اليمين عنه إذا لم يقل المدعي أنه أودعه هذه الدار ورهنه إياها؛ لكونه لا يلزمه أن يحلف لإثبات ملك غيره، فإن ادعى

عليه هذا الطالب أنه أودعه إياها أو رهنها عنده توجهت عليه اليمين لينفي عن نفسه غرامة قيمتها الواجبة عليه بإقراره بها لغيره، قال: ومن الناس من ذهب إلى أنه إذا نكل وحلف المدعي؛ أخذ المدعي فيه حتى يقدم الائب فيخاصمه، ورأى أن هذا صيانة لقاعدة [692/ب] الشرع؛ لأنا لو صرفنا المدعي عن اخذ الثوب وعن تحليف المدعي عليه، لكان كل أحد يمكنه أن يصرف خصمه بإضافة المدعي فيه لغائب فتفسد قاعدة الشرع، لا سيما إذا قلنا: إن النكول مع يمين المدعي كالشهادة على هذا القول، وهو أن القاضي يحكم للمدعي باخذ ما ادعاه ويمين المقر، فهل يكون ذلك حكماً على الغائب المقر له يستوفي له حجته كما تقدم في الحكم على الغائب، أو يكون حكماً على الحاضر فلايفتقر إلى ذلك؛ لأن الغائب لم يتحقق ملكه لجواز أن يقدم فيرد الإقرار؟ المازري: والأولى عندي أن يستظهر باليمين الواجبة في القضاء على الغائب، ولو أقام المدعي بينة أن الدار مثلاً له ولم يكن للمدعي عليه حجة، فإنها تسلم إليه ويبقى الغائب على حقه إذا قدم، ولو أراد من بيده الدار ان يقيم بينة بملك الغائب يعارض بها بينة المدعي ولم يثبت له وكالة تبيح المدافعة؛ ففي تمكينه من ذلك للعلماء خلاف، فإن زعم المدعي عليه أن هذه الدار رهن في يديه؛ فالتحقيق يقتضي أن يمكن من إقامة البينة التي للغائب حينئذٍ. وقوله: (فَإِنْ نَكَلَ) أي: المقر عن اليمين؛ أخذ المدعي المدعي فيه بغير يمين إذا جاء المقر له وصدق المقر أخذه المقر له، وهو الذي تقدم لابن سحنون في مسألة الدار، فأما إن حضر وكذب الإقرار سقط حقه ويبقى النظر هل يستحقه بيت مال المسلمين ويكون كمالٍ لا مالك له. المازري: وهو ظاهر الروايات عندنا، أو يقال يسلم لمدعيه لكونه لا منازع له، وبيت المال حتى يدافع الإمام عنه كما قيل: يما أخذه السلابة فأخذ منهم فإنه يقضي به لمدعيه بعد الاستيناء

والإياس ممن طلبه، والتحليف على ذلك كما أشار إليه بعض العلماء في هذه المسألة، وأشار بعضهم إلى أن الإمام يضرب عن ذلك صفحاً ويبقى الثوب بيد من هو بيده. النُكُولُ: وَيَجْرِي فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ أي: نكول المدعى عليه عن اليمين المتوجهة عليه أولاً لأجل نكول يعني: يدخل نكول المدعى عليه اليمين لنكول المدعي وغير ذلك من أنواع النكول لقوله: وَلاَ يَثْبُتُ الْحَقُّ بِمُجَرَّدِهِ، بَلْ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي المازري: أشار أصحابنا إلى إجماع الصحابة على ذلك، وروى الدارقطني: أنه عليه الصلاة والسلام رد اليمين على طالب الحق. إلا أن في إسناده إسحاق بن الفرات وهو ضعيف، ويقيد كلام المصنف بما عدا يمين التهمة، فإن الحق يثبت فيها بمجرد النكول على المشهور، وصرح به ابن رشد. وَيَتِمُّ بِقَوْلِهِ: لا أَحْلِفُ وَشِبْهِهَا، وَيَتَمَادَى عَلَى الامْتِنَاعِ شِبْهُ (لا أَحْلِفُ) (أنا ناكل) ويقول للمدعي: احلف أنت، ويتم أيضاً بتمادي المدعى عليه على الامتناع من الجواب، وهكذا قال ابن شاس زاد: ويحكم عليه بغير يمين، وهو يأتي على أحد الأقوال المتقدمة، وسئل ابن عتاب عمن وجبت عليه يمين فردها على الطالب بحضرته فسكت الذي ردت عليه حينئذٍ ومضى زمان ثم أراد أن يحلف، فقال له الراد: لا أريد أن أحلفك لأني مكنتك من اليمين حينئذٍ ولم تحلف وأنا أحلف، فقال: يحلف من ردت عليه اليمين طال الزمان أم قصر، وهو قول مالك وأصحابه. وَيَنْبَغِي لِلإِمَامِ بَيَانُ حُكْمِ النُّكُولِ يعني: يقال للمدعي عليه إذا توجهت عليه اليمين: إن نكلت عن اليمين حلف المدعي واستحق ما ادعاه، وظاهر قوله وقول ابن شاس: (ينبغي) أنه مستحب، ووقع لمالك في كتاب ابن سحنون الأمر بذلك، فقال: وإذا جهل المطلوب فليذكره له القاضي.

وَإِذَا تَمَّ نُكُولُهُ، فَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ لَمْ يُقْبَلْ أي: تم نكول المدعى عليه ثم بدا له، فقال: أنا أحلف، لم يمكن من ذلك، رواه عيسى عن ابن القاسم؛ لأنه تعلق لخصمه حق بنكوله، فلا يمكن من إبطال ما تعلق به، ومثاله ما في المدونة فيمن قام له شاهد بحق فرد اليمين على المدعى عليه أنه لا رجوع له في ذلك. أبو عمران: وهو متفق عليه، قال: وأما المدعى عليه يلزم اليمين ثم أراد الرجوع عنه إلى إحلاف المدعي فذلك له؛ لأن التزامه لا يكون أشد من التزام الله سبحانه وتعالى، قال: وقد خالفه في ذلك ابن الكاتب ورأى أن ذلك يلزمه وليس له رد اليمين، والصواب ما قدمناه. فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي كَانَ كَيَمِينِ الْمَطْلُوبِ أي: إن نكل المدعي عن اليمين التي ردها المطلوب عليه، فإن نكول المدعي كيمين المدعى عليه في سقوط الحق عنه. وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَاهُ، ثُمَّ نَكَلَ بَعْدَ نُكُولِهِ لَزِمَهُ يعني: ومثل ما قلناه في نكول المدعي بعد رد اليمين عليه أن يدعي المطلوب بالذي قضاه وينكل الطالب بتوجه اليمين على الطالب؛ لأن المطلوب مدَّعٍ، فإن حلف الطالب استحق، وإن نكل انقلبت على المطلوب، فإن حلف سقط عنه الحق، وإن نكل غرم الحق للطالب. فقوله: (ادَّعَى أَنَّهُ) الضميران عائدان على المطلوب. وقوله: (قَضَاهُ) عائد على المطلوب أو الطالب. وقوله: (ثُمَّ نَكَلَ) أي: المطلوب (بَعْدَ نُكُولِهِ) أي: الطالب (لَزِمَهُ) أي: الغرم.

وَالْمُسْتَمْهِلُ لِحِسَابٍ وَنَحْوِهِ أُمْهِلَ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ بكَفِيلٍ بوَجْهِهِ، وَقِيلَ: مَا يَرَى الْحَاكِمُ ... إذا طلب المطلوب من القاضي أن يمهله ليتحقق ما يجيب به من إقرار أو إنكار، فقال ابن شعبان: يمهل اليومين والثلاثة لا أكثر. ابن شعبان: ويحكم عليه بإقامة زعيم بوجهه، ولا يبعد أن يكون هذا الكفيل [693/أ]؛ لأن المطلوب الآن شارك في وجوب الجل عليه، وفي المذهب خلاف إذا شك المطلوب: هل يقضي عليه دون يمين يلزم الطالب، أو لابد من يمينه؟ وعلى التقديرين فالحق قد توجه على المطلوب، أو هو في معنى المتوجه. وقوله: (وَقِيلَ: مَا يَرَى الْحَاكِمُ) من الاستمهال، وهذا لابن عبد الحكم وهو الظاهر. الدَّعْوَى ثَلاثَةٌ: مُشْبِهَةٌ عُرْفاً: كَالدَّعَاوِي عَلَى الصُّنَّاعِ، وَالْمُنْتَصِبينَ لِلتِّجَارَةِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْوَدَائِعِ عَلَى أَهْلِهَا، وَالْمُسَافِرِ فِي الرُّفْقَةِ، وَالْمُدَّعِي لِسِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا فَلا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ خُلْطَةٍ ... يعني: أن الدعوى متنوعة على ثلاثة: لائقة بالمدعي والمدعى عليه وهو مراده بالمشبهة، وبعيدة لا تشبه حال كل واحد منهما، ومتوسطة. وتتوجه اليمين في المشبهة دون إثبات خلطة، ولما كان الأصل عندنا عدم توجه الدعوى إلا بالخلطة كانت المشبهة خارجة للأصل، فمن الأصحاب من ضبط المشبهة بضابط كلي، ومنهم من عدد المسائل، وارتكب المصنف الطريق الأولى لأنها الأحسن؛ إذ فيه إعطاء الحكم بسببه وإلى هذا ذهب عبد الوهاب، فإنه قال: إذا كانت الدعوى تشبه أن يُدعى بها على مثل المدعى عليه، وقال بعضهم: أن يشبه أن يعامل المدعي المدعى عليه به. المازري: وهما متقاربان، أحدهما راعى الشبهة من جنس المدعى فيه، والآخر راعاها من جهة المدعي والمدعي عليه، وذكر المصنف لهذه المسألة خمس صور:

الأولى: الدعاوي على الصناع، ونص عليه يحيى بن عمر، فقال: والصناع يتوجه عليهم الدعوى لمن ادعى عليهم في صناعتهم دون إثبات خلطة؛ لأنهم نصبوا أنفسهم للناس. الثانية: الدعوى على التجار، وهذا ألزمه الباجي وغيره ليحيى بن عمر، وكلامه السابق، أعني: إذا ادعى عيهم غريب أو بدعي وكانوا قد نصبوا أنفسهم للبيع والشراء، وأما دعوى أهل السوق بعضهم على بعض، فقال المغيرة وسحنون: لا تكون الخلطة حتى يقع البيع بينهما. سحنون: وكذلك القوم يجتمعون في المسجد للصلاة والدرس والحديث، فلا يثبت بينهم خلطة في ذلك. الثالثة: دعوى الودائع على أهلها، ونعني بالأهل أن يكون المدعى عليه الوديعة ممن يودع مثله لها، وقيده أصبغ وغيره بأن يكون المودع غريباً، وقيد اللخمي المسألة بثلاثة قيود؛ أولها: أن يكو المدعي يتملك مثل ذلك في جنسه وقدره، وأن يكون الودع ممن يودع مثل ذلك، وأن يكون هناك ما يوجب الإيداع، وفسر ابن عبد السلام قول المصنف: (على أهلها) بذلك؛ لأنه فسر الأهل بأن يكون المودِع والمودَع معاً ممن يليق بهما ما ذكر. الرابعة: المسافر يدعي أنه دفع مالاً لبعض الرفقة، نص أصبغ عليها، ووجهها: أن المسافر قد يخاف في سفره لأمر فيحتاج إلى إيداع غيره. الخَامِسَةُ: الْمُدَّعِي سِلْعَةٍ بعَيْنِهَا يعني: وإنما يحتاج إلى الخلطة فيما هو في الذمم، وهذا القول لابن شاس وغير واحد من القرويين، واستدلوا بمسائل المدونة بقوله في كتاب الشفعة: إذا أنكر المشتري الشراء وادعاه البائع أنهما يتحالفان، وفي السرقة إذا ادعى السارق شراء المسروق، قال: يحلف

ربه. وفي القذف: إذا ادعى شراء الأمة التي شهد عليه بوطئها من ربها، قال: يحلف السيد، ولم يذكر في ذلك خلطة، ورده المازري: بأن المقصود بيان ما يتعلق به الحكم من ذلك المحل، ولا يلزم الفقيه تفصيل كل ما يستند إليه الحكم؛ لأنه قد يكتفي بتفصيل ذلك في موضعه، وقال بعض الأشياخ لا تتعلق اليمين في بياعات المعينات إلا بإثبات الخلطة؛ لأن التعليل بحسم تعرض السلعة للأفاضل يقتضي ذلك، وذكر ابن يونس قولاً آخر عن بعض مشايخه أن اليمين لا تجب إلا بالخلطة في الأشياء المعينة وغيرها، إلا في مثل أن تعرض للرجل سلعة في السوق للبيع فيأتي رجل فيقول: قد بعتها مني، فمثل هذا تجب له يمينه بغير خلطة عرضها لما ادعى عليه فيه، وزاد أصبغ مسألة سادسة وهي المتهم بالسرقة، وسابعة وهي دعوى الرجل عند موته أن له عند فلان كذا، وزيد أيضاً: إذا باع الأذون متاعاً واقتضى الثمن هو وسيده فادعى المبتاعون أنهم دفعوا إلى السيد بعض الثمن، وقال مالك: عليه اليمين، ولعل المصنف لم ينص على هذه المسائل؛ لأنه رأى أن ما ذكره يتناولها. وَغَيْرُ مُشْبِهَةٍ عُرْفاً: كَدَعْوَى دَارٍ بِيَدِ حَائِزٍ يَتَصَرَّفُ بِالْهَدْمِ وَالْعِمَارَةِ مُدَّةَ طَوِيلَةً وَالْمُدَّعِي شَاهِدٌ سَاكِتٌ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ خَوْفٍ وَلاَ قَرَابَةٍ وَلاَ مُصَاهَرَةٍ وَشِبْهِهِ فَغَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ... إنما لم تنك مشبهة عرفاً؛ لأن العرف يكذب مدعيها، واقتصر المصنف على المتفق عليه من مسائل الحيازة وترك ما عداه، والكلام فيه متسع؛ إذ هنا ثلاثة أركان: أولها: المحوزات، وهي ثلاثة أنواع: عقار، وعروض، وحيوان. ثانيها: الحائز، وهو أيضاً ثلاثة أنواع: أجانب شركاء، وأجانب غير شركاء، ومن له حرمة من قرابة أو صهر وولاء أعلى أو أسفل.

ثالثها: صفة الحوز، وهي أيضاً ثلاثة أنواع، وهو إما أن يؤثر تغييراً في العين [693/ب] كالهدم والبنيان والغرس، وإما أن يؤثر تغييراً في الملك كالبيع والعتق والتدبير والهبة والصدقة ونحوها، وإما أن يؤثر في ملك المنافع كالاغتلال وسكنى الدار وحرث الأرضين وركوب الدابة ولباس الثياب، وتكلم المصنف على الدار، فقال: (كَدَعْوَى دَارٍ ... إلخ). وقوله: (بيَدِ حَائِزٍ) يعم الشريك وغيره، ولا يريد القريب؛ لأنه سيذكر القرابة في الموانع والحكم في الشريك وغيره مختلف، لأن الشركاء لا حيازة بينهم في العشرة الأعوام إذا لم يكن هدم ولا بناء، ويكون في العشرة مع الهدم والبناء، ولا يختلف فيه قول ابن القاسم، وقيل: يختلف، وأما غير الشركاء ففي البيان في باب الاستحقاق: المشهور أن الحيازة تكون بينهم في عشرة أعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان. وروي عن ابن القاسم: لاتكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان، ووقع في الواضحة أن الثمانية الأعوام في حكم العشرة في هذا، ولا خلاف في الحيازة بينهم مع الهدم والبنيان. ثم تكلم على صفة الحوز بقوله: (يَتَصَرَّفُ بالْهَدْمِ وَالْعِمَارَةِ)، وهو مقيد بما إذا لم يهدم ما يخشى سقوطه، فإن ذلك لا ينقل الملك، قيل: وكذلك الإصلاح اليسير؛ لأن رب الدار يأمر المكتري به، وسكت المصنف عن نوعين؛ أحدهما: أعلى وهو ما يؤثر في تغيير الملك، فإنه لايحتاج إلى مدة طويلة كإتلاف الشيء، وكوطء الأمة ونحوه، فإنه إذا علم الدعي بذلك ولم ينكر بحدثان وقوعه فإنه تبطل دعواه لما جبلت عليه طباع البشر بأنهم لا يسكتون عن الإنكار على متلف أموالهم. النوع الثاني: ما يؤثر في ملك المنافع بالاغتلال، وقد تقدم الآن حكمه في الشريك وغيره. وقوله: (وَالْمُدَّعِي شَاهِدٌ سَاكِتٌ) احترازاً من الغائب، فإن له القيام وإن طال، ولا إشكال في بعد الغيبة كالسبعة الأيام، وأما إن كانت قريبة كأربعة أيام ونحوها وثبت

عذره-من عجز ونحوه- عن القدوم أو التوكيل وعلم بذلك فلا حجة عليه، وإن أشكل أمره، فظاهر المذهب أنه على قولين؛ الأول، قال ابن القاسم: لا يسقط حقه لأنه قد يضعف عن القدوم، فقيل له: فإن لم يتبين له عجزه عن ذلك، فقال: قد يكون معذوراً ممن لا يتبين عذره، وذكر ابن حبيب أنه يسقط حقه إذا كان على مسافة قريبة إلا أن يثبت عذره. واحترز بقوله: (سَاكِتٌ) مما لو تكلم، واشترط في الحاضر أن يعلم أنها ملكه، قال في الوثائق المجموعة: وإذا كان وارثاً وادعى أنه لم يعلم قضى له. قوله: (وَلا مَانِعَ) قيد في السكوت، ثم فسر المانع بوجوه؛ الأول: الخوف؛ أي: خوف المدعي ممن هي بيده لكونه ذا سلطان. والثاني: القرابة، وأطلق فيها فإن كان الابن مع أبيه أو العكس، ففي البيان: لا خلاف أن الحيازة لا تكون بينهما بالسكنى والازدراع، ولاخلاف أنها تكون بالتفويت من الهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء، واختلف في الهدم والبنيان والغرس، والمشهور: أنها لا تكون حوزاً أقام أحدهما على الآخر في حياته أو بعد موته، قال: يريد- والله أعلم- إلا أن يطول الأمر جدِّا إلى ماتهلك فيه البينة وينقطع فيه العلم، والشاذ أنه يحوز عليه بذلك؛ قام عليه في حياته أو على سائر ورثته بعد وفاته، وهو قول ابن دينار ومطرف. وأما حيازة الأقارب الشركاء بالميراث وغيره، فلا تكون بالسكنى والازدراع اتفاقاً إلا على ما تأوله بعضهم. وقوله في المدونة: أرأيت لو أن داراً بيدي ورثتها عن أبي، فأقام ابن عمي البينة أنها دار جدي وطلب مورثه، فقال: هذا من وجه الحيازة التي أخبرتك، لأنه لم يرق فيها بين الأقارب والأجنبيين وهو بعيد. خليل: نقل في النوادر عن مطرف أنه قال: لا حيازة بين الورثة والشركاء فيما يزدرع أو يسكن بغير عمارة طال الزمان أو قصر في بعض ذلك كله حضروا أو غابوا، إلا أن يطول

الزمان جدّاً الخمسين سنة أو أكثر، ثم قال ابن رشد: وتكون بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق والكتابة والوطء وإن لم تطل المدة، واختلف قول ابن القاسم في الحيازة بين هؤلاء بالهدم والبنيان، فمرة قال: العشر سنين في ذلك حيازة، ومرة قال: إنها لا تكون حيازة إلا أن يطول المد أربعين سنة. ابن رشد: ولا فرق في حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض، وإنما يفترق ذلك في الأجنبي، فقال أصبغ: السنة والسنتان في الدواب حيازة إذا كانت تركب، وفي الإماء إذا كُنَّ يستخدمن، وفي العبيد والعروض فوق ذلك، ولا يبلغ شيء من ذلك بين الأجنبيين عشرة أعوام كما في الأصول. أصبغ: وما أحدث الأجنبي فيما عدا الأصول من بيع أوعتق أو تدبير أو كتابة أو صدقة أو وطء فلم ينكر ذلك حتى يبلغه استحقه الحائز، وأما القرابة غير الشركاء والموالي والأصهار الشركاء، فاختلف إذا حصل الحوز بالهدم والبناء على ثلاثة أقوال؛ الأول: أنهم كالأجانب. والثاني: أن ذلك ليس حيازة، يريد إلا أن يطول. الثالث: الفرق ولم يبينه هنا، لكن ذكره أول كلامه؛ وهو أنه لا يكون حيازة في الأقارب ويكون حيازة في المصاهر، وسكت في هذا القسم عن الحيازة بالسكنى والازدراع، ولعله عنده ليس حيازة. وأما الموالي والأصهار غير الشركاء، فاختلف [694/أ] فيها على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الحيازة لا تكون بينهم في العشرة أعوام بالسكنى والازدراع. الثاني: أنه لا تكون الحيازة بينهم في العشرة الأعوام إلا مع الهدم والبناء. والثالث: أنه لا تكون الحيازة بينهم بالهدم والبنيان إلا أن يطول الزمان جدّاً. وقوله: (وَشِبْهِهِ) أي: الموالي كما ذكرنا. وقوله: (فَغَيْرُ مَسْمُوعَةٍ) ظاهره: ولا يمين عليه، وهو ظاهر ما نقله ابن يونس، وإذا أقام سنين ثم أقام البينة أن ذلك له صار مدعياً لغير العرف فلا يقبل قوله ولا ينظر إلى

بينته، والقول قول الحائز أنه صار إليه ذلك ببيع أو هبة أو صدقة، واختلف في الهبة والصدقة، الصواب لا فرق، ولكن صرح ابن رشد بأنه لابد من اليمين. فرع: وهل يطالب الحائز ببيان وجه ملكه، قال ابن أبي زمنين: لا يطالب به. وقال غيره: يطالب. وقال: إن لم يثبت أصل الملك للمدعي لم تسمع دعواه ولا يسأل الحائز عن أصل ملكه، وإن ثبت الأصل للمدعي ببينة أو بإقرار الحائز سئل عن سبب ذلك، وقال ابن عتاب وابن العطار: لا يطالب إلا أن يكون الحائز معروفاً بالغصب والاستطالة والقدرة على ذلك. وَلاَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ إِلا بِإسْكَانٍ، أَوْ إِعْمَارٍ، أَوْ مُسَاقَاةٍ وَشِبْهِهِ أي: لا تسمع بينة المدعي على الحائز إلا أن تشهد البينة للمدعي بأنه أسكن الحائز أو أعمره أو ساقاه أو زارعه وشبه ذلك، فإذا أقام البينة على ذلك حلف على رد دعوى الحائز وقضى له، هذا إن ادعى الحائز أن المالك إنما باعه أو نحوذ لك، وأما إن لم يدع نقل الملك وإنما تمسك بمجرد الحيازة؛ فلا يحتاج إلى يمين. وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي مِثْلِهِ؛ كَالنَّقْدِ، وَالْحَمُولَةِ، وَالسَّيْرِ، وَالأَبْنِيَةِ، وَمَعَاقِدِ الْقُمُطِ، وَوَضْعِ الْجُذُوعِ ... هذا الاستدلال بالقياس على أن القول قول الحائز بشهادة العرف له كما اعتبرت هذه الشهادة فيا لنقد إذا اختلفا في النقد، فإن القول قول من ادعى عرف البلد، وكذلك الحمولة في الدابة إذا اختلف في قدرها أو صفتها، وكذلك السير، وكذلك الأبنية، وكلامه ظاهر.

وَالْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ، قِيلَ: مَا يُعَدُّ طُولاً فِي مِثْلِهِ. وَقِيلَ: عَشْرٌ. وَقِيلَ: سَبْعٌ الأول ظاهر المذهب، ابن القاسم في المدونة: ولم يحدَّ لي مالك في الحيازة والرباع عشر سنين ولا غير ذلك، وهو مقتضى النظر؛ لأن الرجوع في هذا إلى ما دارت عليه العوائد، والقول بالعشر لربيعة في المدونة، وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، ودليله: ما رواه أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من احتاز شيئاً عشر سنين فهو له". ذكر في المدونة من رواية ابن المسيب أيضاً، ولابن القاسم في الموازية: والسبع والثاني وما قارب العشرة مثل العشرة، وهو التحديد في حق الأجانب في العقار، وقد تقدم الكلام على الأقارب والعروض والحيوان. ابن عبد السلام: وقيل في السكنى بمجردها لا تكون دالة وإن طال السكوت فيها. وقيل أيضاً في الحيازة بين الشركاء ومن ألحق بهم: لاتكون دالة إلا إذا كان كالخمسين سنة ونحوها، وذكر مطرف في الشركاء أن حاز منهم مقدار سهمه أو أكثر فإنه يدل ذلك على الملك، ولو زعم بعد ذلك أن حقه فيما بقي على الشياع لم يقبل منه، وإن ادعى ما حازه صار إليه وحده عن معاوضة، ولم أقف على القول الثاني في كلام المصنف. وَمُتَوسِّطَةٌ: كَدَعْوَى دَيْنٍ فَيُسْمَعُ وَيُمَكَّنُ مِنَ الْبَيِّنَةِ وَلا يَسْتَحْلِفُ إِلا بإِثْبَاتِ خُلْطَةٍ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ ... هذا هو النوع الثالث من أنواع الدعاوي، واحترز بالدين من دعوى المعينات؛ فإنها لاتحتاج إلى خلطة كما تقدم، ومعنى كلامه أن هذه الدعوى تسمع ويمكن من إقامة البينة، فإن لم تقم للمدعي بينة على صحة دعواه وطلب يمين المدعى عليه؛ فلا يمكن من ذلك، إلا أن يثبت المدعي خلطة بينه وبين المدعى عليه، وهذا هو المعروف من المذهب، وقال ابن نافع باستحلافه من غير خلطة كمذهب أبي حنيفة والشافعي، ثم استدل المصنف على ما قاله بإجماع أهل المدينة، وعطف عليه المصنف الفقهاء السبعة من عطف

الخاص على العام، وقد نقل أيضاً في الموطأ على ما ذكره المصنف بـ (العمل) واستدل من قال بقول ابن نافع بالحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر". وخصه أصحابنا بالقياس لما يلزم عليه من التعرض لأداء أهل الفضل، ولما رواه سحنون عن نافع عن حسن بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إذا كانت بينهما خلطة". وهذا نص في تصحيح المذهب، وزيادة الدول مقبولة لرجحانه بعمل المدينة. فرع: وما هي الخلطة؟ قال ابن القاسم في رواية أصبغ عنه، وغيره: الخلطة أن يبايع إنسان إنساناً بالدين مرة، أو يبايعه بالنقد مراراً، وبه قال أصبغ، وقال سحنون: لا تكون الخلطة إلا بالبيع والشراء. الباجي: فخالف ابن القاسم في المسالفة. وقال الأبهري: الخلطة أن يثبت الدعوى، أن يدعي بمثلها على المدعى عليه، وقال ابن القصار: ينظر إلى التداعي؛ فإن كان للمدعى عليه بينة [694/ب] أن يعامل الدعي أحلف، وهل كل من أثبت خلطة وإن كانت سلفاً، أو لا تكون خلطة حتى يكون مبايعة؟ وتعلقوا بقول ابن القاسم لَّما سئل عن الخلطة أهي مسالفة أم مبايعة مراراً، أو يقول بقول سحنون: لا تكون الخلطة إلا بالمبايعة. المازري: ومنهم من أشار إلى إنكار الخلاف في هذا ورأى أن معنى قول ابن القاسم سالفه يحتمل أن يريد به السلف الذي بمعنى السلم لا الذي بمعنى القرض، والأظهر أن المداينة تثبت بها الخلطة على أصل هؤلاء قرضاً كانت أو بيعاً. انتهى. وفي سماع يحيى عن ابن القاسم فيمن يأتي قوماً فيذكر حقًّا كتبه على نفسه لرجل غائب فأشهد بما فيه: لا أرى أن يكتب فيه؛ لأني أخاف أن يكتب الغائب ليستوجب ذلك

مخالطة فيحلفه إن ادعى عليه. بعض الشيوخ: فظاهره المرة الواحدة مخالطة، وقال غيره: إنها تفسير لرواية أصبغ المتقدمة، فيكون معناها أنها تضاف إلى معاملة قبلها. وقيل: رواية أصبغ في المعاملة المنتجزة فاشترط تكررها. وقال أصبغ: إنما الخلاف إذا بايعه بالنقد ولم يقع النقد. ففي شهادات المدونة: ليست بخلطة. وفي الموازية: أنها خلطة. وَفَي اسْتِحْلافِ الْمُتَّّهَمِ قَوْلانِ القول بثبوتها بشاهد وامرأة من غير يمين لابن كنانة، وقاله ابن القاسم من رواية عيسى، والقول بأنها لا تثبت إلا بشاهدين مع يمين لابن المواز، والأول أظهر؛ لأن القصد إنما هو اللطخ، واعلم أن المرأة لا تعتبر شهادتها بانفرادها إلا هنا على أحد القولين، واختلف على من فسر المخالطة بالسلف والمبايعة إذا انقضت، هل يبقى حكمها أم لا؟ واختلف إذا أقام المدعي بينته فردها المدعى عليه بعداوة أو جرحة، هل تتوجه اليمين بهذه الدعوى أم لا؟ المازري: والمشهور الجرحة كالعدم. وكُلُّ دَعْوَى لا تَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ، فَلا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا وَلاَ تُرَدُّ؛ كَقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاقِ، وَالنَّسَبِ، وَالْوَلاءِ، وَالرَّجْعَةِ ... إذ لا فائدة في توجه اليمين، فإن فائدتها إنما هي إذا نكل المدعى عليه يحلف المدعي ويستحق ذلك، ولا يمكن هنا؛ لأنه إما يفيد اليمين في النكول في الأموال، وما في معناها ممن يكون فيه الشاهد واليمين. فرع: توجهها، وإذا لم تتوجه لم ترد. قيل: ولو سكت عن قوله: (لاَ تُرَدُّ) ليستفيد من كلامه إلا أنها لا تتوجه، ولا يفهم من كلامه إذا وجهت مع شاهد فنكل عنها، فبين المصنف أنها لا ترد مطلقاً، واختلف في توجه دعوى الجرح من غير بيان لسبب، فقيل: يحلف المدعى عليه، وقيل: لا يحلف، وإن بين المدعي لذلك سبباً، فقيل: يحلف المدعى

عليه. وقيل: يضرب، فإن أبى أن يحلف على القول بذلك، فقيل: يسجن. وقيل: إن طال سجنه أدب إلا أن يكون مبرزاً. المازري: وقاعدة المذهب أن كل دعوى لو أقر بها المدعى عليه لانتفع المدعي بإقراره، فإنه إذا لم يقر وأنكر تعلقت به اليمين على الجملة، يخرج بذلك أصلاً من قواعد الشرع كطلب المحكوم عليه القاضي باليمين أنه لم يشر عليه أو يطلب الشهود بأنهم لم يكذبوا في شهادتهم، فلا يختلف في سقوط هذه الدعوى، وأنه لا يلتفت إليها. وَلَوِ اسْتَحْلَفَ وَلَهُ بَيِّنَةٌ حَاضَرَةٌ يَعْلَمُهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا تُسْمَعُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: تُسْمَعُ .. شرط في قول ابن القاسم في المدونة أني كون تاركاً لبينته، ولم يثبت هذا الشرط في كل الروايات، واختلف في معنى الترك، فقال عياض: عن أكثرهم أنه لا فرق في الترك بين التصريح والإعراض عنها، وقال آخرون: لا يكون تاركاً إلا بتصريحه بترك القيام بها. وقول أشهب هو ظاهر قول عمر رضي الله عنه: البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة. ولهذا صححه ابن القاسم وغيره. واحترز بقوله: (حَاضِرَةٌ) من الغائبة، يريد: إذا كانت الغيبة قريبة، قال في المدونة: وإن كانت على مثل اليومين والثلاثة لم يحلف إلا على إسقاطها، وفصل في موضع آخر منها: الجمعة في حد القرب. واحترز بقوله: (يَعْلَمُهَا) مما لم يعلم بها فإن له القيام. سحنون: والقول قوله في نفي العلم مع يمينه. قال في النكت: ولو أحلف لم يرفعه إلى السلطان وله بينة بعيدة الغيبة فله القيام ببينته إذا قدمت؛ لأنه لو رفع الأمر إلى الحاكم لكان هذا الذي يفعل، وذلك بخلاف لو صالحه المطلوب على شيء لبعد غيبته؛ لأنه قد رضي بما أخذ فلا قيام له بالبينة.

موجبات الجراح

مُوجَبَاتُ الْجِرَاحِ خَمْسَةٌ: الْقِصَاصُ، وَالدِّيَةُ، وَالكَفَّارَةُ، وَالتَّعْزِيرُ، وَالْقِيمَةُ الجيم من (مُوجَبَاتُ الْجِرَاحِ) مفتوحة؛ أي: الأمور التي توجبها الجراح، والجراح بالكسر جمع جراحة، فيقال: جره جرحاً، والاسم: الجرح بالضم، والجمع جروح، فلم يقولوا: أجراح، إلا ما جاء في الشعر، قاله الجوهري وصاحب المحكم، وجرحه يجرحه جرحاً إثر هذا بالسلاح، وعلى هذا فالجرح اللغوي يشمل القتل وما دونه، وعلى هذا مشى المصنف؛ لكونه جعل الكفارة من موجبات الجراح؛ وهي إنما تجب في النفس، لكن المتبادر إلى الاصطلاح من الجروح هو ما دون النفس؛ لقوله تعالى: {وَكَتَبّنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٍّ} [المائدة: 45] وحفظ النفس المجمع عليها في كل ملة [695/أ]، وهي النفوس والأديان والعقول والأعراض والأموال، ومنهم من يذكر الأنساب عوض الأموال، قال تعالى: {وَلَكُم فِي الْقِصَاصِ} [البقرة: 179] فقيل: الخطاب للورثة؛ لأنهم إذا اقتصوا قد سلوا وحيوا بدع شر هذا القاتل الذي صار عدواً لهم بالقتل. وقال بعضهم: الخطاب للقاتلين؛ أي: الجاني إذا اقتُصَّ منه فقد امتحى إثمه فيبقى حياً حياة معنوية، وعلى هذين القولين لا إضمار، وقيل: الخطاب للناس، والتقدير: ولكم في مشروعية القصاص حياة؛ لأن الشخص إذا علم أنه يُقتص منه انكفَّ عن القتل، ويحتمل ألا يكون في الآية على هذا تقدير، ويكون القصاص نفسه فيه الحياة، أما غير الجاني لانكفافه، وأما للجاني للسلامة من الإثم، وبالجملة فالدماء خطيرة القدر في الدين، وأدلة الشريعة من الكتاب والسنة متواترة على ذلك. الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ لما ذكر أن موجبات الجراح خمسة، شرع في الكلام على الأول، فإن قيل: ثم قسم ثالثاً وهو الجراح، فالجواب: أن الطرف الناحية من النواحي، قاله الجوهري، فالجرح إن كان في الظهر أو في الوجه أو غر ذلك من الجراح، فهو طرف للجسم تلك الجهة.

وَلِلنَّفْسِ ثَلاثَةُ أَرْكَانٍ فيه حذف مضافين؛ أي: لوجوب قصاص النفس، ثم أخذ يتكلم عليها، فقال: الْقَتْلُ، وَشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ عَمْداً مَحْضاً عُدُوَاناً أي الأول: القتل، وشرط فيه ثلاثة شروط، واحترز بالعمد من الخطأ وبالمحض من شبه العمد، وبالعدوان مما لو قتله بوجه شرعي، كقتله في حد أو قصاص. وَهُوَ: الْقَصْدُ إِلَى مَا يَقْتِلُ مِثْلُهُ مِنْ مَبَاشَرَةٍ أَوْ تَسَبُّبٍ (هُوَ) ضمير عائد على العمد الموصوف بالمحض العدوان، ومراده أن يقصد الضارب إلى الضرب بما يقتل منه، قصد القتل أم لا، فـ (ما) من قوله: (إِلَى مَا) موصولة أو نكرة موصوفة، ولا يصح أن تكون مصدرية؛ لأنه كان حينئذٍ يشترط أن يقصد القتل، وهو خلاف المشهور، على ما صرح به في المقدمات، فإنه قال: فإن قصد الضرب ولم يقصد القتل، فكان الضرب على وجه الغضب، فالمشهور عن مالك المعروف من قوله أن ذلك عمد، وفيه القصاص، إلا في الأب والأم، وهذا رد على من فسر كلام المصنف بأن يقصد القتل، ولايقال: الغالب أن المصنف تبع الجواهر، ويكون المصنف قصد ذكر الصورة المتفق عليها؛ لأن قوله: (مِثْلُهُ) يمنع أن تكون مصدرية، والله أعلم. ويشكل ما ذكره المصنف بما ذكره في المدونة وغيرها، والقود باللطمة والقضيب وليس مما يقتل مثلها. وقوله: (مِنْ مُبَاشَرَةٍ أَوْ تَسَبُّبٍ) يعني: إذا قصد إلى ما يقتل قتل، سواء كان ذلك مباشرة أو تسبب.

فَالْمُبَاشَرَةُ؛ كَقَتْلِهِ بِمُحَدَّدٍ، أَوْ مُثَقَّلٍ، أَوْ عَصْرِ الأُنْثَثَيْنِ، وَخَنْقٍ، وَتَغْرِيقٍ، وَتَحْرِيقٍ، وَمَنْعِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَوْ لَطَمَهُ، أَوْ وَكَزَهُ، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرَبَهُ بِعَصاً مُتَعَمِّداً عَلَى وَجْهِ الْقَتْلِ لا اللِّعِبِ فَمَاتَ عَاجِلاً أَوْ مَغْمُوراً لَمْ يَتَكَلَّمْ؛ فَفِيهِ الْقَوَدُ ... لا فرق في المحدد بين الحديد وغيره، كاللطمة والخشبة المحددة، صرح به الباجي، ولا خلاف في القود بالمحدد، وقصر الحنفي القصاص عليه وعلى النار، وعنه في مثقل الحديد روايتان، ودليلنا ما رواه البخاري عن أنس: أن يهوديَّاً رضَّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا فلان فلان حتى ذكر يهوديَّاً؟ فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر النبي صلى الله ليه وسلم أن يُرَضَّ رأسه بالحجارة. وأجب بأن قتل اليهودي إنما كان للحرابة، بدليل ما وقع في الروايات أنه قتلها على حلي لها، ورد بأن قتله لو كان للحرابة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله على الهيئة الخاصة، فرضُّه بالحجارة يدل على قصد القصاص. قوله: (فَلَوْ لَطَمَهُ) نحوه في المدونة، وجعل اللخمي اللطمة والسوط والعصا والبندقة والوكز من شبه العمد، إلا أن يقوم دليل العمد لقوة الضربة من الرجل، التقدير لمرض أو ضعف. وقوله: (عَلَى وَجْهِ الْقَتْلِ) احترز بما لو كان على وجه الأدب أو اللعب، فلا يكون فيها قود، وسيأتي الكلام على الأدب من كلام المصنف، وأما اللعب، ففي المقدمات: ففيها ثلاثة أقوال: أولها: كمفهوم كلام المصنف أنه خطأ، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة. والثاني: فيه القود، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وروايتهما عن مالك، قال: وتأويل الثاني على ما إذا ضربه على وجه اللعب دون أن يلاعبه صاحبه، والأول ما إذا

لاعبه صاحبه، فترجع القولان إلى قول، والأظهر من ذلك اختلاف من القول، ولا فرق بين أن يلاعبه صاحبه أم لا. والثالث: أنه من شبه العمد، وفيه الدية مغلظة، وقد قيل: إن التفرقة بين أن يلاعبه صاحبه أو لا، وهو قول رابع. انتهى. وقوله: (مَغْمُوراً لَمْ يَتَكَلَّمْ) بل صريحه أنه مات مغموراً لا قسامة في ذلك، وظاهر المدونة أن في ذلك القسامة، والله أعلم. فَلَوْ مَاتَ بَعْدُ وقَدْ تَكَلَّمَ يَوْماً أَوْ أَيَّاماً، فَالْقَوَدُ بِقَسَامَةٍ، قَالَ: وَلَمْ يَاكُلْ وَلَوْ ثَبَتَ حَيَاتُهُ ... هذا هو الذي احترز عنه (مَغْمُوراً) أي: لو تكلم بعد لطمه أو وكزه فلا يقتص إلا بقسامة تقسم، ولأنه لمن ضربه مات؛ لأنه لما تكلم احتمل أنه مات من سبب [695/ب] آخر، ولا يلتفت إلى أكله ولا إلى عدمه. وقوله: (وَلَوْ ثَبَتَ حَيَاتُهُ) أو (جنايته) على اختلاف النسخ لأكبر فائدة، والله أعلم، وهذا كله ما لم ينفذ له مقتلاً، فإنه حينئذٍ لا قسامة فيه ولو أكل، وإلى هذا أشار بقوله: أَمَّا لَوْ أَنْفَذَ لَهُ مَقْتَلاً فَلا قَسَامَةَ، وَلْو أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَعَاشَ أَيَّاماً، وَشَبَّهَهُ بالشَّاةِ كَذَلِكَ تُذَكَّى فَلا تُؤْكَلُ ... فاعل (شبَّه) عائد على ابن القاسم؛ لأنه لما سئل عن المسألة قال: لم أنبئ مالكاً عليها، ولكن قال لي مالك في الشاة التي يخرق السبع بطنها، فشق أمعاءها ونشرها: أنها لا تؤكل، وهذا ظاهر إذا قلنا: إن الذي أنفذ مقاتله هو الذي يقتل، ولو أجهز عليه آخر، وأما على قول من قال يقتل به الثاني، فيه نظر.

وَلَوْ رَمَاهُ فِي نَهَرٍ عَلَى وَجْهِ الْقِتَالِ قُتِلَ بهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ لا يُحْسِنُ الْعَوْمَ؛ فَالدِّيَةُ بِقَسَامَةٍ ... ظاهر قوله: (عَلَى وَجْهِ الْقِتَالِ قُتِلَ بهِ) أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الرامي يحسن العوم أم لا، ألا ترى أنه فصل إذا كان على وجه اللعب. ابن عبد السلام: ويجري فيها إذا لم يكن على وجه القتال ما فوق هذا في مسألة اللعب، وكلامه قريب مما في آخر ديات المدونة؛ لأنه قال فيها: وإن طرح رجلاً في نهر، ولا يدري أنه لا يحسن العوم، فمات، فإن كان على وجه العداوة والقتل قتل به، وإن كان على غير ذلك فعليه الدية ولا يقتل به. ابن يونس: يريد وتكون الدية على العاقلة، وما ذكره من وجوب الدية بقسامة لم أره، ولا وجه للقسامة هنا، وظاهر المدونة: أن الدية دية الخطأ أخماساً، وهو قول مالك وابن القاسم وأشهب. وقال ابن وهب: هي الدية المغلظة. واختار اللخمي الأول إن كان على وجه المعتاد، والثاني إن خرجا عن المعتاد. وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ أَوْ أَوْضَحَهُ أَوْ أَمَّهُ أَوْ قَطَعَ فَخِذَهُ. أي: مثل مسألة النهر، فإن كان على وجه القتال قتل به، وإن كان على وجه اللعب فالدية، ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى اللطم وما ذكر معه، فيفرق بين أن يموت مغموراً أو لا، واقتصر ابن راشد على الاحتمال الأول. وَالزَّوْجُ وَالْمُؤَدِّبُ وَنَحْوُهُ يُصِيبُ الصَّبِيَّ أَوْ غَيْرَهُ تَنْكِيلاً أَوْ غَيْرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَطَأِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعَمْدُ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَعَنْ مَالِكٍ: شِبْهُ الْعَمْدِ باطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ ... يعني: أن من يجوز له الضرب أو ما في معناه من معلِّم أو أب أو زوج وخاتن وطبيب؛ ففعله محمول على الخطأ حتى يثبت العمد، وظاهره أنه يصدق في دواه الخطأ، وفي ذلك قولان حكاهما في المقدمات، قال: وعلى التصديق فهو يمين.

وقوله: (وَقِيلَ: هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ) هذه هي طريقة الباجي، وحكى الاتفاق على أنه لا قود له، وأجرى صاحب المقدمات فيه الثلاثة الأقوال المتقدمة في اللعب. قوله: (وَعَنْ مَالِكٍ: شِبْهُ الْعَمْدِ باطِلٌ) هذه رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، لكن مالكاً لم ينكر ذلك مطلقاً كما هو ظاهر كلام المصنف، بل أنكره فيما عدا الأب، وحكى العراقيون إثباته فيما عدا الأب أيضاً. الباجي: ولا خلاف في ثبوت حق الأب. اللخمي: وشبه العمد أربعة أقسام؛ أحدها: أن يكون به القتل بغير آلة القتل، وبما لا يقصد إلى إتلاف النفس بمثله كالسوط والعصا والبندقة واللطمة والوكزة. والثاني: أن يكون بآلة القتل، لكن لا يتهم على قصد القتل كفعل المدلجي بولده. والثالث: أن يكون من أبيح له فعل مثل ذلك؛ كمعلِّم الثقاف والطبيب. والرابع: أن يكون على صفة يراد بها القتل ويتقدمه بسياطه، يعلم أنه لم يكن المراد القتل، كالمتصارعين والمتلاعبين. وَالتَّسَبُّبُ؛ كَحَفْرِ بئْرٍ، أَوْ سَرْبٍ، أَوْ وَضْعِ سَيْفٍ، أَوْ رَبْطِ دَابَّةٍ، أَوِ اتِّخَاذِ كَلْبٍ عَقُورٍ قَصْداً لِلإِهْلاكِ، حَتَّى لَوْ حَفَرَ فِي دَارِه بئْراً لِلإهْلاكِ لِص لَقُتِلَ بهِ، وَلوْ هَلَكَ بهِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ فَالدِّيَةُ أَوِ الْقِيمَةُ ... لما انقضى كلامه على المباشرة أتبعه بالتسبب وذكر له أمثلة؛ أولها: حفر بئر. زاد في الجواهر: حيث لا يجوز له ولابد من ذلك، فقد نص مالك على أنه لو حفر شيئاً مما يجوز في داره أو في طريق المسلمين مثل بئر لمصر أو لمرحاض يحفر إلى جانب حائطه؛ لأنه لا غرم عليه لما عطب في ذلك كله. أشهب: وهذا إذا لم يضر ما حفره في الطريق.

السرب بفتح السين والراء: البيت في الأرض؛ يعني: إذا فعل هذه الأشياء قصداً للإهلاك، فإن قصد إهلاك معين وهلك ذلك المعين؛ فالقصاص وإن هلك به غير المقصود، ويشمل قوله: (غَيْرُ الْمَقْصُودِ) صورتين؛ الأولى: أن يهلك غير المعين. والثانية: ألا يقصد إهلاك معين فالدية والقيمة؛ أي: فالدية في الحر والقيمة في العبد وفي غير الآدميين، وهذه المسائل التي ذكرها المصنف وقعت مفرقة في المذهب. ابن عبد السلام: وربما كان في بعض الروايات ما يوهم الخلاف، لكن ما ذكره المصنف هو التحقيق في معانيها. مالك: ومن وضع سيفاً في طريق المسلمين أو في موضع يرصد به قتل رجل، فعطب به ذلك الرجل، فإنه يقتل به. إن عطب به غيره فديته على عاقلته. مالك: وما فعله في طريق المسلمين مما لا يجوز له فعله من حفر بئر أو ربط دابة أو نحوه، فهو ضامن لما أصاب بذلك، إن كان دون ثلث الدية، وإن كان الثلث [696/أ] فعلى العاقلة، وإن صنع من ذلك ما يجوز له؛ كمن نزل عن دابته ودخل لحاجته وهي واقفة في الطريق فلا يضمن، وكذلك على باب الطريق أو باب الإمام أو في السوق، فلا يضمن شيئاً، وليس ذلك كمن اتخذ لها مربطاً في طريق المسلمين. قال البغداديون من أصحابنا: وكذلك إذا طرح قشور البطيخ في الطريق قصداً للإهلاك أنه يضمن ما هلك، ووقع في بعض النسخ التشبيه على هذه المسألة، وكذلك لو جرد قصيلاً أو عيداناً فجعله في بابه لتدخل في رجل الداخل في حائطه من سارق أو غيره فإنه يضمن، وكذلك من جعل شركاً يستضر به من يدخل، أو رش فناءه يريد أن يزلق من يمر به من السارق أو غيره؛ فهو ضامن. قال في المجموعة عن مالك: وإن كان تبرداً أو تنظفاً فيزلق به أحد فيهلك فلا يضمن. وفي العتبية في الحافر حول زرعه لما تفسده مواشي الناس من زرعه بعد إذ أنذرهم، فيقع في ذلك الحفر بعض الدواب أنه لا ضمان عليهم، أنذرهم أم لا، وينبغي أن يتأول

مسألة العتبية على ما إذا قصد حفظ زرعه، لا إتلاف الماشية، وإن قصد إتلافها فإنه يضمن كالسارق، واختلف المذهب في الكلب العقور والدابة الضوال ومن له حائط مائل، ففي البيان أربعة أقوال؛ الأول: مذهب المدونة أنه يضمن بالتقدم إلهي وإن لم يكن سلطان، وفي سماع عبد الملك أنه لا يضمن إلا أن يتقدم إليه في ذلك السلطان. وقال أشهب: يضمن وإن لم يتقدم إليه ولا أشهد عليه. وقيل: لا يضمن بحال وإن تقدم، نقله أيضاً عن أشهب: يضمن وإن لم يتقدم إليه ولا أِهد عليه. وقيل: لا يضمن بحال وإن تقدم، نقله أيضاً عن أشهب، قال: وهذا إنما هو إذا اتخذه حيث يجوز له، وأما إن اتخذه في موضوع لا يجوز له، فلا خلاف أنه ضامن. وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ لا لِقَصْدِ إِهْلاكٍ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يَجُوزُ لَهُ ضَمِنَ الدِّيَةَ أَوِ الْقِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَجُوزُُ لَهُ؛ فَإِنْ قَصَدَ ضَرَراً وَلَوْ لِسَارِقٍ ضَمِنَهُ وَغَيْرَهُ، وِإلا فَلا ... يعني: وأما لو فعل ما تقدم من حفر البئر ونحوها لا لقصد إهلاك، كأن كان في موضع لايجوز له، وتصور كلامه ظاهر، إلا أن قوله: (فَإِنْ قَصَدَ ضَرَراً) كالمخالف لفرض المسألة؛ إذ فرضها أنه لم يقصد إهلاكاً، والجواب: المراد بالضرر ما دون الإهلاك، والله أعلم. وَكَالإِكْرَاهِ، وَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ الْمَسْمُومِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَحَ عَلَيْهِ حَيَّةٌ يَعْرِفُ أَنَّهَا قَاتِلَةٌ، وَلا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ ... هو معطوف على قوله: (كَحَفْرٍ) أي: ومعناه أنه يجب القصاص على المكره لتسببه، ولذلك يقتص أيضا ًمن المكره لمباشرته، وسيصرح المصنف بذلك، وكذلك أيضاً يقتل مقدم الطعام المسموم إذا علم بذلك. ابن عبد السلام: وقد اختلف الطرق هل قتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودية التي سممت له الشاة؟ ففي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه: أن امرأة يهودية أتت

رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فأكل منها، فجيء بها إليه عليه الصلاة والسلام، فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، فقال: "مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَي ذَلِكَ". فقال عِليٌّ: أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قال: "لا". فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبو داود من حديث أبي سلمة أنه عليه الصلاة والسلام أمر باليهودية فقتلت، وبشر ابن البراء كان من أكل من تلك الشاة فمات (وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَحَ عَلَيْهِ حَيَّةٌ يَعْرِفُ أَنَّهَا قَاتِلَةٌ) أي: فيقتص منه بذلك. خليل: ولو قال بالقصاص في الحية، وإن لم يعرف أنها قاتلة ما بعُد. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَهُ بالسُّمِّ قُتِلَ وفي بعض النسخ (بهِ) فيعود على الإقرار؛ لأنه لا يقتص بالسم، وإذا أقر أنه قتله بالسم فنه يقتل، ولا يفيده رجوع لتعلق حق الآدمي، بخلاف ما لو أقر بالسم فقط، فإنه يقبل رجوعه إذا تاب، كما لو أقر شخص بالزندقة وادعى التوبة على أصح القولين. وَفِيمَنْ أَشَارَ بالسَّيْفِ فَهَربَ فَطَلَبهُ حَتَّى مَاتَ وَبَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ أَرْبَعَةٌ: الْقِصَاصُ، وَالدِّيَةُ، وَالْقَسَامَةُ، وَإِلْحَاقُهُ بشِبْهِ الْعَمْدِ، فَلَوْ أَشَارَ بالسَّيْفِ فَمَاتَ مِنْهُ فَخَطَأ ... يعني: أن فيمن أشار على أحد بسيف فهرب منه فتبعه حتى مات وبينهما عداوة أربعة أقوال، ولم يذكر المصنف في فرض المسألة أنه سقط، والقول بالقصاص لابن المواز، ونصه: إن تمادى بالإشارة وهو يفر منه وطلبه حتى مات فعليه القصاص، قال: وإن مات مكانه من أول إشارة فالدية على عاقلته، والقول بالدية لابن ميسر، قال: لا قصاص في هذا، واستحسنه طائفة من القرويين، وقالوا: لا قصاص في هذا الأصل؛ يعني: المشير بالسيف، والجاري خلفه، قالوا: إذ لا يدري هل مات من شدة الخوف أو من شدة الجري أو بمجموعهما، قال: ولا يمكن إثبات القصاص إلا على نفي شبه العمد، وظاهر قول

المصنف: (الدِّيَةُ) أنها دية الخطأ، ورأى اللخمي فيه الدية المغلظة، قال: لأن أمره مشكل، والقول بالقصاص بقسامة؛ أي: يقسِمون لمات خوفاً منه لابن القاسم، وذكر ابن القاسم أنه سقط ومات. ابن القاسم: ولو أشار عليه بالسيف سقط فمات وبينهما عداوة، هذا من الخطأ. وقال ابن الماجشون فيمن طلب رجلاً بالسيف فعثر المطلوب فمات، فعليه القصاص، [696/ب] قاله المغيرة وأصبغ وابن حبيب ولم يذكروا قسامة، وروي عن ابن القاسم أيضاً، ولم يجعل الباجي قول ابن القاسم خلافاً لقول محمد: لم يوجد شيء من فعله يحمل عليه، ورأى في الرابع التسبب والعداوة، لكن لم يتمحض عنده السبب، فألحقه بشبه المد، وعلى قول الباجي فالمسائل ثلاث: الإشارة وحدها، والإشارة مع الهروب والطلب، والإشارة مع ذلك والسقطة، وعلى قول المصنف فليس إلا مسألتان، وكلام ابن شاس هنا أحسن من كلام المصنف؛ لأنه نقل الأقوال على ما وقعت عليه في الرواية، ولم يجعل في المسألة أربعة أقوال، ولا خلاف في مسألة الإشارة أن فيها الدية. وَكَالإِمْسَاكِ لِلْقَتْلِ، وَقِيلَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْلاهُ لَمْ يَقْدِرْ أي: فيقتل الممسِك لتسببه والمباشر أيضاً، ومفهومه أنه لو أمسكه لا للقتل أنه لا يقتل، وهكذا في الموطأ، ففيه: قال مالك في الرجل يمسك الرجل فيضربه فيموت مكانه، وهو يرى أنه إنما يريد الضرب بما يضرب به الناس؛ لا نرى أنه عمد لقتله، فإنه يقتل القاتل ويعاقب الممسِك أشد العقوبة، ويحبس سنة لأنه أمسكه، ولا يكون عليه، ونحوه في المجموعة. ابن عبد السلام: وإذا تأملته وجدته كالمخالف للقول الأول من كلام المؤلف. وقال ابن نافع: ويحبس بقدر ما يرى السلطان من دينه، ويستريب من أمره، وناحية صاحبه الذي حبسه له، وقال عيسى بن دينار: ويجلد مائة فقط.

ابن مزين: والقول ما قال ابن نافع. قال في المدونة: ويستدل على حبسه للقتل بأن يرى القاتل يطلبه وبيده سيف أو رمح فقتله، فهذان يقتلان جميعاً. قال: وإن حبسه ولم يرَ معه سيفاً ولا رمحاً مشهوراً فأتاه فقتله؛ فلا قتل على الحابس وإن كان من ناحيته؛ لأنه يقول: ظننته أنه يريد غير القتل. وقوله: (يُشْتَرَطُ ... إلخ). وهذا القول لأبي عبد الله بن هرمز البصري من أصحابنا. فَلَوِ اشْتَرَكَ الْمُبَاشِرُونَ وَالْمُسَبِّبُونَ قَتِلُوا جَمِيعاً كما لو اشترك جماعة في قتل رجل، بعضهم بالمباشرة، وبعضهم بالتسبب، وقد يقال بترجيح المباشر، وقد قال بذلك بعض شيوخنا في الإكراه، لكن اتفاق المذهب على أن الجماعة الحاضرين المتمالئين على قتل واحد منهم؛ أنهم يقتلون من تولى ضربه ومن لم يتولَّه، والله أعلم. وَلَوْ تَمَالأَ جَمْعٌ عَلَى ضَرْبِهِ بِسَوْطٍ سَوْطٍ قُتِلُوا جَمِيعاً، وَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ وَالْمُكْرَهُ لما في الموطأ عن عمر- رضي الله عنه- في الصبي لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به. قال في الجواهر: لو اجتمع جماعة على رجل يضربونه فقطع رجل رجله وفقأ آخر عينه وجدع آخر أنفه وقتله آخر، وقد اجتمعوا على قتله فمات؛ قتلوا به كلهم وإن كان جرح بعضهم أنكأ من جرح بعض، ولا قصاص له في الجراح ما لم يتعمد المُثْلَة، وإن لم يريدوا قتله اقتص من كل واحد بجرحه وقتل قاتله. انتهى. ابن عبد السلام: ومسألة الأسواط جارية على أصل المذهب بشرط أن يقصدوا جميعاً إلى قتله على هذا الوجه، وأما لو قصد الضرب فليس السوط الأول ولا ما بعده مما يقرب منه مما يكون عنه القتل غالباً، فينبغي أن يقتل به الآخر، ومن قصد إلى قتله ممن تقدمه، وكذلك يقتل المكرِه والمكرَه، وكذلك أمر الظالم بعض أعوان بقتل رجل ظلماً، فإنه يقتل الآمر والمأمور.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلِّفِ مِنْهُمَا فَنِصْفُ الدِّيَةِ أي: من الكرِه والمكرَه، و (نِصْفُ الدَّيَةِ) مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: فعليه نصف الدية تحمله عاقلته؛ يعني: وعلى المكلف القصاص. وَفِي الْحَافِرِ لإِهْلاكِ شَخْصٍ فَوَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا فَرَدَّاهُ آخَرُ قَوْلانِ قيل: يقتلان جميعاً. وقيل: المردي خاصة، هذا الفرع وقع في بعض انسخ، وتصوره ظاهر، والقول بقتله لابن القطان، والثاني للقاضي أبي عبد الله بن هارون. واحترز بقوله: (لإِهْلاكِ شَخْصٍ) مما لو حفرها لمنفعة نفسه فردَّاه غيره، فإن القود على المردي اتفاقاً ولا شيء على الحافر. وَفِي قَتْلِ الأَبِ يَامُرُ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ، وَالْمُعَلِّمِ يَامُرُ الصَّغِيرَ، وَالسَّيِّدِ يَامُرُ الْعَبْدَ مُطْلَقاً قَوْلانِ .. (مُطْلَقاً) يحتمل أن يريد به صغيراً أو كبيراً، ويحتمل عجمياً أو فصيحاً، ويحتمل أن يريدهما، واحترز بـ (الصَّغِيرَ) في مأمور الأب و (الْمُعَلِّمِ) في الكبير فيهما، فإن القتل على المأمور. ابن القاسم: وليس على الآمر قتل ولا على عاقلته دية وعليه العقوبة، والقول بقتل الأب في المسائل لابن القاسم، والقول بنفي القتل لابن نافع، قال: ويوجع الأب والسيد عقوبة ويقتل العبد، وحكى ابن شعبان قولاً ثالثاً بعكس هذا، يقتل السيد دون العبد، وسواء على هذه الأقوال الفصيح والأعجمي، ويقتل السيد في الأعجمي، وعلى العبد جلد مائة وسجن سنة. وقال أصبغ: يقتل السيد والعبد جميعاً؛ كان العبد فصيحاً أو لا. وعلى قول ابن القاسم: يقتل الآمر، فقال ابن القاسم: ويكون على عاقلة الصبي نصف الدية، وإن كثر الصبيان فالدية على عواقلهم، وإن لم يجب على كل عاقلة إلا أقل من الثلث فإنها

تحمله، ثم الخلاف في قتل الأب مقيد بما إذا لم يكن الأب حاضراً، وأما إن أرسله، أصبغ: وأما لو حضره وأمره فإنه يقتل أباً كان أو غيره، كما لو اجتمع رجلان على قتل رجل فقصدا له؛ أحدهما [697/أ] مباشر، والآخر يقول: اقتل، فإنهما يقتلان به جميعاً، قال أصبغ: ونزلت ومشايخنا متوافرون فرأوا أن يقتل بقوله: اقتل على هذه الصفة. وَأَمَّا الْمَامُورُ لا يَخَافُ مُخَالِفَتَهُ فَعَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَيُضْرَبُ الآمِرُ وَيُحْبَسُ يعني: أن ما تقدم إنما هو إذا كان المأمور يخاف مخالفة الآمر، أما إذا لم يخف فالقتل على المأمور وحده. ابن القاسم وأشهب: ويضرب الآمر ويحبس سنة. وَفِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصُ بِقَسَامَةٍ، وَالْقِصَاصُ بغَيْرِ قَسَامَةٍ إِنْ كَانَ قَرِيباً، وَعَلَى الآخَرِينَ نِصْفُ الدِّيَةِ ... أي: وفي المتعمد الكبير العاقل يشارك مخطئاً أو صبياً أو مجنوناً، فحذف الأوصاف لدلالة مقابلها عليها، وحذف أيضاً المبتدأ؛ أي: ثلاثة أقوال استغناء بذكرها مفصلة. وقوله: (إِنْ كَانَ قَرِيباً) أي: الموت. وقوله: (وَعَلَى الآخَرِينَ) أي: المخطئ والصبي والجنون، ولم أقف على مجموعها في الدواوين في هذه المسألة وسأوقفك على ما وقفت عليه، وظاهر كلامه: أن الأول وجوب نصف الدية على الكبير المشارك للصغير وإن كانا متعمدين، وهو مذهب المدونة على تقييد اللخمي وابن يونس؛ وذلك لأن مالكاً نص في المدونة وغيرها على أن في شريك الصبي القصاص إذا كان هو والصبي متعمدين، فقيده اللخمي وابن يونس بما إذا تعاقدا على قتله. اللخمي: وإن لم يتعاقدا على قتله وقصد كل واحد رميه ولا يعلم بالآخر؛ لم يقتل الرجل، لإمكان أن تكون رمية الصبي القاتلة، وكذلك لو كانا رجلين والنافذة ضربة أحدهما ولم

يُعرف ولا يقتلان، وإن كان الكبير والصبي مخطئين أو كان الكبير مخطئاً كان فيه الدية، واختلف إذا كانت رمية الصبي خطأ ورمية الرجل عمداً، فقال ابن القاسم: عليه الدية ولايقتل الكبير؛ إذ لا يدري من أيهما مات. وقال أشهب: يقتل الكبير واختاره ابن المواز، واعترض حجة ابن القاسم بأنه إن كانت ضربة الصبي عمداً لا يدري أيضاً من أيهما مات. اللخمي: وقول ابن القاسم أحسن لئلا يقتل الرجل بالشك، إلا أن يدعي الأولياء أن ضربة أحدهما القاتلة فيقسوا عليها، فإن اقتسموا على ضربة الرجل قتلوه، وأما شريك المخطئ، فقال اللخمي: لا يقتل المتعمد عند ابن القاسم ويقتل عند أشهب. انتهى. فالأول، قال عبد الملك: قال ولا قسامة في ذلك إن مات مكانه، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن الأولياء مخيرون بين أن يقسموا على ما شاءوا منهما، واستحسنه أصبغ. ابن حبيب: ثم قال مرة يقسمون أن من ضربهما مات، ثم تكون نصف الدية من مال العامد ونصفها على عاقلة المخطئ. وحكى عبد الوهاب أنه متى اشترك في القتل القود، ومن لا يجب عليه كالعامد والمخطئ والبالغ والصغير والعاقل والمجنون؛ قتل من يلزمه القود وكان على الآخر بقسطه من الدية، وحيث ألزم الصبي شيء من الدية، فاختلف هل من ماله أو على العاقلة. وأَمَّا شَرِيكُ السَّبُعِ وَجَارِحِ نَفْسِهِ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمَرِيضِ بَعْدَ الْجُرْحِ فَالأَوَّلانِ أي: فالقولان الأولان؛ وهما نصف الدية والقصاص بالقسامة، وهما لابن القاسم. وَلَوِ اصْطَدَمَ فَارِسَانِ أَوْ مَاشِيَانِ أَوْ مُخْتَلِفَانِ بَصِيرَانِ أَوْ ضَرِيرَانِ أَوْ مُخْتَلِفَانِ عَمْداً فَمَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَأَحْكَامُ الْقِصَاصِ وَإِلا فَعَلى عَاقِلةِ كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةُ الآخَرِ، وَكُلُّ فَرَسٍ فِي مَالِ الآخَرِ، وَقِيلَ: نِصْفُ دِيَةِ الآخَرِ لأَنَّهُ شَرِيكٌ ... أراد بالاختلاف الأول أن يكون أحدهما ماشياً والآخر راكباً، وبالاختلاف الثاني أن يكون أحدهما بصيراً والآخر ضريراً، وعدل عن قوله بالقصاص إلى قوله: (فَأَحْكَامُ

الْقِصَاصِ) وإن كان الأول أخص؛ لأنه يتصور القصاص في موتهما، ومعنى أحكام القصاص: أنهما إذا ماتا بطل حقهما؛ لأن من وجب له قصاص يبطل حقه بموت المقتص منه، ولأن قوله: (أَحْكَامُ الْقِصَاصِ) يشمل القولين إذا عاش أحدهما، هل لا يجب عليه إلا القصاص أو التخيير بينه وبين الدية، بخلاف قوله: (فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةُ الآخَرِ) يريد: وكانا معاً مخطئين؛ لقوله: (عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ) وأما أن أحدهما متعمداً فعليه القصاص. وقوله: (كُلُّ فَرَسٍ) أي: وقيمة كل فرس، وفي معنى الفرس: لو اصطدما وبأيدهما متاع فتلف، وقيل: إنما على كل واحد نصف دية الآخر: لأن كل واحد شارك في قتل نفسه وهذا لأشهب، نقله عنه ابن القصار، ونقله أبو عمران عن سحنون، وقد قال أشهب في المجموعة في حافري البئر ينهدم عليهما فيموت أحدهما: فإن على عاقلة الحي منهما نصف دية الآخر لشركة كل منهما في قتل نفسه. وَالصَّبِيَّانِ كَذَلِكَ إِلا فِي الْقِصَاصِ يعني: فإذا اصطدم صبيان كذلك؛ أي: من كونهما راكبين أو ماشيين ... إلخ، وأن مجموع دية كل منهما على عاقلة الآخر على المشهور. وَلَوِ اصْطَدَمَ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَثَمَنُ الْعَبْدِ فِي مَالِ الْحُرِّ وَدِيَةُ الْحُرِّ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ المراد بالثمن القيمة، لكن المصنف تبع لفظ المدونة، وقال في المدونة: ويتقاصان- يعني: إن ماتا -فإن كانت قيمة العبد أكثر مندية الحر؛ كان الزائد لسيد العبد في مال الحر، وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيء. محمد: إلا أن يكون للعبد مال، فيكون بقية العقل [697/ب] في مالهن وأخذ ابن رشد من هنا أن مذهب المدونة في جناية العبد أنها حالَّة؛ لأن قيمة العبد في مال الحر حالَّة، فلما

قال: يتقاصان، ولم يقل يأخذها السيد ويؤدي الدية التي جناها العبد منجمة، دل ذلك على أنها حالَّة، وقال أصبغ خلاف هذا: وهو أن سيد العبد مخير في جنايته على الحر خطأٌ بين أن يسلمه فيها أو يفديه بها مؤجلة. فلو اصْطَدَمَ سَفِينَتَانِ فَلا ضَمَانَ بشَرْطِ الْعَجْزِ عَنِ الصَّرفِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْعَجْزُ حَقِيقَةٌ لا لِخَوْفِ غَرَقٍ أَوْ ظُلْمَةٍ ... قوله: (بِشَرْطِ الْعَجْزِ) يوهم أن هذا ليس شرطاً في الفارسين إذا أجمحا فرساهما ولم يُقدر على صرفهما فكان عن ذلك تلف، فإنه لا ضمان في ذلك، وإنما يختلف الفرسان من السفينتين والفارسين إذا جهل أمرهما في قدرتهما على الصرف حملاً على الاختيار، والسفينتان بالعكس. وقال أشهب في السفينة: إذا علم أن ذلك من أمر غلبهم وليس من أمر غرقوا فيه فلا شيء عليه، وإن لم يكن يعلم فذلك على عواقلهم، وظاهره التسوية بين الفارسين والسفينتين، والفرق على المذهب: أن جري السفينتين بالريح ويس من عملهم بخلاف الفارسين، ويناقش المصنف في قوله: (بشَرْطِ الْعَجْزِ) لأنه يقتضي أنه لابد من تحقيقه، ولا يشترط تحقيق العجز، فالأولى أن لو قال: فلا ضمان، إلا أن النواتية قادرون على صرفها. وقوله: (لا لِخَوْفِ غَرَقٍ أَوْ ظُلْمَةٍ) يعني: أو كان النواتية يقدرون على صرف السفينة، ولكن يخشون مع ذلك على أنفسهم، فلم يصرفوها حتى هلكوا غيرهم فإنهم يضمنون؛ إذ ليس لهم أن يسلموا أنفسهم بهلاك غيرهم. وقوله: (ظُلْمَةٍ) أي: كان اصطدامهم لظلمة، فإن ذلك لا يسقط الضمان عنهم كالمصطدمين في البر لظلمة، غير أن كلام المصنف يوهم أن مراده خوف الظلمة، وأنه مشارك لخوف الغرق في الحكم، والمسألة منقولة في الوجه الذي قلناه: أنه لا يصح حملها على ما فهم من كلام المصنف.

فَلَوُ جَذَبَ اثْنَانِ حَبْلاً فَانْقَطَعَ فَتَلِفَا فَكَالْمُتَصَادِمَيْنِ، وَلَوْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِنْسَانٍ أَوْ مَتَاعٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ... يعني: إذا ماتا أو أحدهما، فيجري على ما تقدم من حكم القصاص ووجوب الدية، ولو وقع أحدهما على إنسان أو متاع؛ فالضمان عليهما، لأن وقوع المباشر إنما كان من فعلهما، أما لو دفع رجل آخر فقتله فعلى الدافع العقل دون المدفوع. فروع: لو قاد بصير أعمى فوقع البصير ووقع أعمى عليه فقتله، فقال مالك في رواية ابن وهب: الدية على عاقلة الأعمى. الثاني: لو سقط ابنه من يده فمات لم يلزمه شيء، ولو سقط من يده شيء عليه فمات فالدية على عاقلته. أشهب: وإن كان الأرش أقل من الثلث ففي ماله. الثالث: لو طلب غريقاً فلما أخذه خشي على نفسه الهلاك فتركه فمات الرجل، فديته على عاقلة الساقط، قاله أشهب في المجموعة والموازية، ولو انكسرت سن الساقط وانكسرت سن الآخر، فقال ابن المواز: مذهب أصحابنا أن على الساقط دية سن الذي سقط عليه وليس على الآخر دية. وقال ربيعة: على كل واحد دية ما أصيبت، ودليل الأول أن الجناية سبب الساقط دون سبب الآخر. فلَوْ طَرَأَتْ مُبَاشَرَةٌ بَعْدَ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ عَنْ مُمَالأَةٍ قُتِلَ الْجَمِيعُ، وَلا قِصَاصَ لَهُ فِي الْجِرَاحِ مَا لَمْ يَتَعمَّدِ الْمُثْلَةَ، وَإِلا قُدَّمَ الأَقْوَى وَعُوقِبَ الآخَرُ ... يريد: وكذلك لو كان الجراح في قوت واحد، فإن كان عن ممالأة قتل الجميع، هو ظاهر، فإنهم يقتلون في الممالأة ولو كان بعضهم واقفاً، وهذا مقيد بأن يموت مكانه، وأما لو عاش وأكل وشرب؛ فإنه لا يقسم في العمد إلا على واحد، ولا قصاص في الجراح، يعني: إذا تميزت الضربات وعلم ضارب كل واحدة، والرجل الواحد لو جرح جراحات ثم قتل لم يقتص منه في الجراحات، والقتل يأتي عليها إلا أن يقصد الجارح المُثْلَة، فيجرح أولاً كما جرح، ثم يُقْتَل.

قوله: (مُمَالأَةٍ) يعني: وإن لم يتمالئوا بل قصد كل منهم إلى ضربه، قدم الأقوى: أي: من كان القتل عن ضربه ليتعين للقتل، ويقتص من كل واحد مما جرح وتلك عقوبته، هذا هو النقل لا كما يعطيه ظاهر كلام المصنف من أن المراد بالعقوبة خلاف القصاص، نعم يتعين التأديب في غير الجراحات كضرب بالعصا ونحوه. تنبيه: ما ذكره المصنف من تقديم الأقوى ومعاقبة الآخر مقيد بما إذا عرفت الضربات كما ذكرنا، وإن لم يعرف جرح كل واحد، ففي النوادر عن مالك: يقتلون كلهم إن مات مكانه، وإن لم يمت ففيه القسامة، وفي اللخمي خلافه، وانه إذا أنفذ أحد ولا يدري من هو أو من أي الضربات مات؛ أنه يسقط القصاص، أعني: إذا لم يتعاقدا على قتله وتكون الدية في أموالهم. فَلَوْ جَرَحً الأَوَّلُ ثُمَّ جَزَّ الثَّانِي الرَّقَبَةَ قُتِلَ الثَّانِي هذا مثال للمسألة السابقة، والله أعلم. فَلَوْ أَنْفَذَ أَحَدُهُمَا الْمَقَاتِلَ ثُمَّ أَجْهَزَ الثَّانِي فَفِي تَعْيينِ ذِي الْقِصَاصِ مِنْ ذِي الْعُقُوبَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ ... تصور المسألة ظاهر، واتفق على أنه لا يقتص منهما، واتفق على أنه يقتص من أحدهما، ويعاقب الآخر ويقتل الأول ومعاقبة الثاني، قال أشهب وغيره: وعليه ولا يرث ولا يورث، إلا أنه كالميت. ابن القاسم في تتميمه هذا القول [698/أ]: ويبالغ في عقوبة الثاني، وقد أتى عظيماً، وإن كان المجروح قد أكل وشرب. سحنون: ويقتل بغير قسامة، لكن يلزم على الأول أمور شنيعة، وهو إذا كان كالميت لا تجوز وصاياه، وقد ذهب إلى ذلك أصبغ، وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة؛ لأن عمر

رضي الله عنه أوصى على تلك الحال، وأنفذ المسلمون وصاياه، ويلزم أيضاً ألا يخاطب بالصلاة، وهو خلاف ما أشار إليه عمر- رضي الله عنه- من لزومها حينئذٍ بقوله: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ابن رشد: ولو قيل: يقتلان معاً، لكان لذلك وجه. الثَّانِي: الْقَتِيلُ، وَشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ بإِسْلامٍ، أَوْ جِزْيَةٍ، أَوْ أَمَانٍ، وَانْتِفَاءُ مُوجَبٍ لا عَفْوَ فِيهِ ... الركن الثاني: (الْقَتِيلُ) أي: الذي يقتل قاتله أن يكون معصوم الدم، وعصمته إما بالإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وأما بجزية؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ} إلى قوله:} حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]. وأما بأمان؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} [التوبة: 6]. قوله: (وَانْتِفَاءُ مُوجَبٍ) مرفوع بالعطف على (أَنْ يَكُونَ) أي: وشرطه انتفاء موجب لا عفو به، واحترازاً ممن وجب عليه القصاص؛ لأن للولي أن يعفو عنه، فلو قتله غير الولي قتل به. وَلا قِصَاصَ فِي مُرْتَدٍّ وَلا زِنْدِيقٍ وَلا زَانٍ مُحْصَنٍ، نَعَمْ يُؤَدِّبُ فِي الافْتِئَاتِ هذا بيان لما احترز عنه بقوله: (وَانْتِفَاءُ مُوجَبٍ) ويحتمل أن يعود إلى القيد الأول، هو العصمة بالإسلام، وإذا انتفى القصاص عن قاتل المرتد مع أن المذهب استنابته، فلأن ينتفي في الزنديق من باب أولى لتحتم قتله، ونص سحنون على نفي القصاص عن قاتل المرتد ولو كان القاتل نصرانياً، وتأديب قاتل هؤلاء ظاهر لافتئاته على الإمام.

وَأَمَّا مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَمَعْصُومٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيُّ عَمْداً فَدَمُهُ لأَوْلِيَاءِ الأَوَّلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ أَرْضًاهُمْ أَوْلِيَاءُ الثَّانِي فَدَمُهُ لَهُمْ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا شَيْءَ لأَوْلِيَاءِ الأَوَّلِ كَمَوْتِهِ ... قوله: (فَإِنْ قَتَلَهُ) أي: القاتل (أَجْنَبِيٌّ) أي: عمداً احترازاً من الخطأ وسيأتي (فَدَمُهُ) أي: دم الأجنبي لأولياء الأول؛ أي: المقتول الأول على المشهور، وهو مذهب المدونة؛ لأن أولياء الأول استحقوا نفسه فكانوا أحق بما يكون عيناً من قصاص ودية. وقوله: (فَإِنْ أَرْضَاهُْ) هو تفريع على المشهور، وهو أن دم الأجنبي لأولياء الأول إلا أن يرضيهم أولياء القتيل الثاني فيكون دمه لهم، وظاهر قوله: (فإن أرضاهم) أنه موقوف على اختيار أولياء الأول، وأن لهم ألا يرضوا بما بذلوا لهم من الدية وأكثر منها وهو مذهب المدونة. وقال ابن الماجشون في المبسوط: لولي الثاني أن يدفع الدية إلى ولي الأول ويقتص هو لنفسه، وفهم اللخمي منه إجبار أولياء الأول على قبول الدية. قوله: (وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا شَيْءَ لِأَوْلِيَاءِ الأَوَّلِ كَمَوْتِهِ) لأن حقهم كان معلقاً بعينه، وهذا يقابل المشهور. وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ يَمِينُ قَاطِعِ الْيَمِينِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فتأتى القولان، فعلى المشهور يكون القطع للمقطوع أولاً وهو ظاهر ابن القاسم في الموازية، وإن قطع يد رجل من المنكب فعدا رجل على القاطع فقطع يده من المنكب؛ أنه يقال للمقطوع يده من المنكب: إن شئت فاقتص من قاطع قاطعك من المنكب فقط ولا شيء لك غير ذلكن ويخلي بينه وبين من قطع كفه فيقتص منه ما بقي من يده بعد الكف من المنكب قصاصاً للمقطوع الأول. اللخمي: وقول محمد أحسن. ابن عبد السلام: وفيه بعد؛ لأنه يقطع رجلين في موضعين مختلفين، ولم يتول قطعه منهما غير واحد.

فَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً جَرَى الْقَوْلانِ فِي الدِّيَةِ فعلى المشهور تكون الدية لأولياء القتيل الأول، وعلى الشاذ لا يكون لأولياء الأول شيء من الدية ويكون لأولياء القتيل الثاني. وظاهر قوله: (جَرَى الْقَوْلانِ) ليسا منصوصين هنا، أو العقل وليس كذلك، بل هما منصوصان أيضاً. فَإِنْ فُقِئَتْ عَيْنُ الْقَاتِلِ أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَشِبْهُهُ عَمْداً أَوْ خَطَأً فَلَهُ الْقَوَدُ والْعَفْوُ وَالْعَقْلُ وَلاَ سُلْطَانَ لِوُلاةِ الْمَقْتُولِ ... يعني: أن الأطراف لا تدخل تحت النفس، فلا يلزم من استحقاق الأولياء دم القاتل أن يستحقوا أجزاءه، فلذلك كان القاطع إذا قطعت يده أو فقئت عينه أو فعل به شيء عمداً أو خطأً القود في العمد والعقل في الخطأ، واختلف في عكس هذا، وهو إذا قطعت يد رجل عمداً ثم قتل القاطع خطأ أو عمداً فصالح أولياؤه في العمد على مال، فقيل: لا شيء لمن قطعت يده؛ لأن الدية إنما أخذت عن النفس. وقال محمد: إن أخذ الدية في الخطأ أو العمد فللمقطوع يده أخذ حقه من ذلك، واستحسن اللخمي الأول. فَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْقَاطِعَ فَكَذَلِكَ أَيْضَاً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ كَانَ سُلِّمَ لَهُ أي: ولي المقتول هو الذي قطع من القاتل يده أو نحوها عمداً أو خطأ، والإشارة بذلك إلى القود والعفو والعقل، المشهور من مذهب المدونة، فيكون للقاتل أن يقتص من الولي، ثم للولي أن يقتله. وقال: (وَلَوْ كَانَ سُلِّمَ لَهُ) لئلا يتوهم المتوهم أن الخلاف قبل التسليم، وأما بعد فقد استحقوه حقيقة ولا يلزم الولي شيء، فبيَّن المصنف أنه لا فرق. ابن عبد السلام: وأفاد تأخير المبالغة إلى القول الشاذ فيهما [698/ب] قبل تسليم الجاني، وأما قبل تسليمه فلا، بخلاف ما لو قال: ولو كان سلم له على المشهور فإنه يوهم أن الخلاف مقصور على ما بعد التسليم، وعزا في الجواهر الشاذ لابن القاسم في الواضحة،

وعلله بأن النفس كانت لهم، قال: وليعاقبهم الإمام، وأشار أبو عمران إلى أنه لو سلم القاتل إلى الأولياء ليقتلوه فجرحه الولي، ففلت بنفسه أنه لا شيء عليه. قال: وإنما يقتص منه إذا قصد إلى جرحه، وإن غاب عليه أولياء المقتول فأصيب- قد قطعت يداه أو رجلاه - فقالوا: إنما أردنا قتله، فاضطرب حتى أصابه ذلك، فالقول في ذلك قولهم. الثَّالِثُ: الْقَاتِلُ، وشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ بَالِغاً، عَاقِلاً، غَيْرَ حَرْبيَّ، وَلا مُمَيَّزٍ عَنِ الْمَقْتُولِ بإِسْلامٍ مُطْلَقاً وَحُرِّيَّةٍ مَعَ تَسَاوِيهِمَا ... الركن الثالث: القاتل الذي يقتص منه، وذكر لشرطه أربعة أجزاء؛ الأول: (أَنْ يَكُونَ بَالِغاً) فلا قصاص على صبي. الثاني: أن يكون (عَاقِلاً) فلا قصاص على المجنون. الثالث: أن يكون (غَيْرَ حَرْبيٍّ) لأن الحربي لا يقتص. الرابع: ألا يكون (مُمَيَّزٍ) بأحد وصفين؛ أولهما: الإسلام، فلا يقتل مسلم بكافر. وقوله: (مُطْلَقاً) يعني: إن تميز القاتل بالإسلام، وغن كان عبداً مانعاً من القصاص، وإن كان مقتوله حرًّا. ثانيهما: ألا يكون مميزاً عن المقتول بحرية، فلا يقتل حر بعبد. وقوله: (مَعَ تَسَاوِيهِمَا) أي: في الدين؛ لأنه لو تميز القاتل بالحرية والمقتول بالإسلام لاقتص من القاتل على المشهور كما سيأتي. فَلا قِصَاصَ عَلَى صَبيٍّ وَلا مَجْنُونٍ بخِلافِ السَّكْرَانِ، وَعَمْدُهُمَا كَالْخَطَأِ، فَلِذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الُعَاقِلَةِ مُطْلَقاً إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ، وَإِلا فَفِي مَالِهِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ كَخَطَئِهِ وَخَطَأِ غَيْرِهِ ... هذا بيان ما احترز عنه، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ". يعني: النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق.

رواه أبو داود. وفي الموازية: أن ما أصابه المجنون المطبق هدر في الدماء والأموال. وفي المجموعة: في المجنون والمعتق يكسر سن رجل أو يحرق ثوبه؛ أنه لا شيء عليه، ظاهر إطلاقه أنه لا فرق في الصبي بين المميز وغيره، وقد تقدم في غير المميز الخلاف في باب الغصب، بخلاف السكران فإنه يقتص منه، وقد تقدم غير مرة الكلام على حكم السكران. وقوله: (وَعَمْدُهُمَا) أي: الصبي والمجنون كالخطأ في نفي القصاص. وقوله: (مُطْلَقًا) أي: في العمد والخطأ (وَإِلا) أي: وإن لم يبلغ الثلث ففي مال الصغير أو في ذمته كخطأ غير الصغير إذا كان دون الثلث، وفي بعض النسخ: (كَخَطَئِهِمَا) أي: كخطأ غير الصغير والمجنون، وفي بعض النسخ (كَخَطَئِهِ) أو خطأ غيره كخطأ من غيرهما أو خطأ وغيره؛ أي: إذا شارك أحدَهما مكلفٌ، فإن لكل حكمه. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فِي حَالِ إَفَاقَتِهِ فَكَالصَّحِيحِ هو ظاهر، ويقتص منه في حال إفاقته. ابن المواز: فإن أيس من إفاقته كانت الدية عليه في ماله. وقال المغيرة: يسلم إلى أولياء المقتول فيقتلون به إن شاءوا. قال: ولو ارتد ثم جن لم أقتله حتى يصح؛ لأني أدرأ الحدود بالشبهات، ولا أقول هذا في حق الناس. ورأى اللخمي أن يكون الخيار لأولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا هذا المجنون، وإن شاءوا أخذوا الدية إن كان له مال، وإلا اتبعوه بها. وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ قِصَاصاً إِلا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَةً، وَيُقْتَلُ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ أما قتل الكافر بالمسلم فمتفق عليه، وأما عدم قتل المسلم بالكافر فهو مذهبنا خلافاً للحنفية، ودليلنا ما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: "لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ". وقوله: (إِلا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَةً) الظاهر أن الاستثناء منقطع؛ لأنه في الحقيقة لم يقتل به، بل للفساد في الأرض، بدليل أنه لو عفا ولي الكافر لم يسقط القتل، ولا يقتل الحر بالعبد،

والغيلة بكسر الغين: القتل على المال، وفي معنى الغيلة الحرابة، فإن الحر يقتل فيها بالعبد والمسلم بالكافر، نص عليه ابن يونس وغيره. وَالْكَافِرُ مِنْ نَصْرَانِيَّ أَوْ يَهُودِيَّ أَوْ مَجُوسِيَّ ذِمِّيَّ أَوْ ذِي أَمَانٍ وَمَنْ لا يُقْتَصُّ لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ مُتَكَافِئُونَ ... (الْكَافِرُ) مبتدأ، (مِنْ) في (مِنْ نَصْرَانِيَّ) لبيان الجنس (وَمَنْ لا يُقْتَصُّ) معطوف على الكافر من عطف العام على الخاص؛ لأن هذا يشمل عبدة الأوثان ونحوهم، و (مُتَكَافِئُونَ) الخبر؛ لأن الكفر ملة واحدة، فلهذا لو قتل النصراني أو اليهودي مجوسياً قُتِلا به، ويحتمل أن يعطف قوله: (الْكَافِرُ) على (الْمُسْلِمِ) ويكون المعنى: أن الكافر بالمسلم، وبالكافر من نصراني أو يهودي أو مجوسي، ويكون ابتداء المسألة الثانية قوله: (وَمَنْ لا يُقْتَصُّ لَهُمْ) وعلى هذا الاحتمال مشى ابن عبد السلام، وعلى الأول مشى شيخنا وغيره، وكلاهما صحيح. وَلا يُقْتَلُ حُرٍّ برَقِيقٍ وَلَوْ قَلَّ جُزْءُ رِقِّهِ، وَلا مَنْ فِيهِ عَقْدُ حُرَّيَّةٍ مِنْ مُكَاتَبٍ أَوْ مُدَبِّرٍ وَأُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُعْتَقٍ إِلَى أَجَلٍ، وَيُقْتَلُونَ بالْحُرِّ جَمِيعاً كَالرَّقِيقِ ... تصور كلام المصنف ظاهر ولا خلاف فيه عندنا، وفي الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ". وروى أيضاً عن عليًّ رضي الله عنه أنه قال: من السنة ألا يقتل حر مسلم بذمي ولاحر بعبد. ونقل الباجي إجماع الصحابة على ذلك. وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ حُرًّا عَمْداً خُيِّرَ وَلِيُّهُ فِي قَتْلِهِ، فَإِنِ اسْتَحْيَاهُ خُيِّرَ سَيِّدُهُ فِي [699/أ] فِدَائِهِ بالدِّيَةِ أَوْ إِسْلامِهِ. وَفِي الْخَطَأِ يُخَيَّرُ سَيَّدُهُ فِي الدَّيَةِ أَوْ إِسْلامِهِ، وَكَذَلَِ لَوْ ثَبَتَ الأَمْرَانِ عَلَيْهِ بالْقَسَامَةِ ... هكذا الجملة وقعت في بعض النسخ، ومعناها: إذا قتل العبد حرًّا عمداً خُيِّر وليه- أي: ولي الحر- في قتل العبد واستحيائه، فإن قتله فلا كلام، وإن استحياه خُيِّر سيده في

فدائه بدية الحر وإسلامه للولي، وهذا ظاهر قول أشهب الذي يرى أن موجب العمد التخيير، وأما على قول ابن القاسم أنه ليس لولاة المقتول في العمد إلا أن يقتلوه ولا يلزموه الدية، فيفرق بين المطلوب هنا غير القاتل وهو السيد، ولا ضرب عليه في واحد من الأمرين اللذين يختارهما ولي الدم، بخلاف هذه الصورة فإن للقاتل الحر غرضاً في التمسك بماله لإغناء ورثته، وإن قتل حرًّا خطأ فالقصاص ساقط والجناية متعلقة برقبته، يخير سيده بين أن يفديه بدية الحر أو يسلمه لولي المقتول كما في سائر جنايته. قوله: (وَكَذَلك لَوْ ثَبَتَ الأَمْرَانِ عَلَيْهِ بالْقَسَامَةِ) العمد والخطأ. وَمَنْ لا يُقْتَصُّ لَهُمْ مِنْ الْحُرِّ لِنُقْصَانِ الرِّقِ مُتَكَافِئُونَ فتقتل أم الولد وغيرها بالعبد الْقِنِّ، وهو ظاهر. وَلا يُقْتَلُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ بَحُرٍّ ذِمِّيٍّ، وَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ فِي افْتِكَاكِهِ بالدِّيَةِ أَوْ إسْلامِهِ فَيُبَاعُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ... كى صاحب البيان الاتفاق على ذلك إذا لم تتكافأ دماهما، فإن حرمة الإسلام أعظم، فيخيَّر سيده في افتكاكه بدية الحر الذمي وفي إسلامه في الجناية، فيباع لأولياء الذمي لعدم جواز ملك الكافر للمسلم، وظاهر كلامه: أنه إذا بيع يعطي جميع الثمن لأولياء الذمي وإن كان أكثر من دية الحر، وهو قول ابن القاسم في المدونة وقاله مطرف، وابن الماجشون: إن فضل فضل فهو لسيده. أصبغ: والأول أصوب. وَيُقْتَلُ الْحُرُّ الذِّمِّيُّ بالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ كَالْحُرِّ بالْحُرِّ وَالْقِيمَةُ هُنَا كَالدِّيَةِ، وَقِيلَ: لا يُقْتَلُ وَهُوَ كَسِلْعَةٍ ... قد يتبين بالمسألة السابقة أن العبد المسلم أعظم حرمة من الذمي الحر، فلذلك قتل الحر الذمي بالعبد المسلم؛ لأنه إذا قتل بالكافر فأحرى إذا كان المقتول أعظم حرمة،

وأشار بقوله: (وَالْقِيمَةُ هَنَا كَالدِّيَةِ) إلى أن سيد العبد لو أراد أن يلزم الذمي قيمة العبد لجرى على الخلاف بين ابن القاسم وأشهب في الدية، فعلى قول ابن القاسم ليس له إلا قتل الذمي وليس له أن يلزمه القيمة، وعلى قول أشهب له ذلك. قوله: (وَقِيلَ: لا يُقْتَلُ) أي: الذمي بالعبد المسلم، هو قول سحنون وأحد قولي ابن القاسم. وَلِلأُبُوَّةِ وَالأُمُومَةِ أَثَرٌ فِي الدَّرْءِ باحْتِمَالِ الشُّبْهَةِ إِذَا ادَّعَيَا عَدَمَ الْقَصْدِ كَمَا لَوْ حَذَفَهُ بالسَّيْفِ وَادَّعَى أَدَبَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ لا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ شَرَكَهُ أَحَدٌ فِي قَتْلِهِ قُتِلَ ... لما فرغ من المانع مطلقاً؛ وهو الإسلام والحرية، شرع في المانع من جهة، ولهذا قال: (أَثَرٌ فِي الدَّرْءِ) ولو بعده مانعاً مطلقاً. والدرء: الدفع؛ أي: دفع القصاص. والباء في (باحْتِمَالِ) للسببية، والسببية هي الشفعة التي جبلا عليها، فلم يتهما على إرادة القتل إذا ادعيا عدم القصد؛ أي: إلى القتل، ثم مثَّل لذلك بما لو حذفه بسيف فمات، نحوه في الموطأ في قصة المدلجي، وفيه أن عمر رضي الله عنه غلَّظ عليه الدية؛ لأنه لما كان فعله يقتل به الغير وسقط عنه هو القتل للشبهة؛ غلظت عليه الدية توسطاً بين الحالتين. قوله: (وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الأَبِ لا يُقْبَلُ مِنْهُ) أي: عدم القصد إلى قتله. ابن عبد السلام: وفاعل (شَرَكَهُ) ضمير يفهم من السياق؛ أي: شركه أجنبي. انتهى. وقد يقال: بل هو عائد إلى غيره. وَلِذَلِكَ قُتِلَ مُكْرِهُ الأَبِ دُونَهُ (مُكْرِهُ الأَبِ) بكسر الراء: اسم فاعل: أي: ولأجل الشبهة وتباين حكم الأب من غيره، لو أكره الأجنبي الأب على قتل ولده؛ قتل الأجنبي فقط، وقد تقدم إلى أن المكرِه والمكرَه يقتلان معاً، فلولا ما أشار إليه لقتل الأب أيضاً.

أَمَّا لَوْ قَتِلَ مَعَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ فَيُقْتَصُّ مِنْهُ. كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَزَّ يَدَهُ فَقَطَعَهَا، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ فِي عَيْنَيْهِ فَأَخْرَجَهَا، وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَرَفَ بالْقَصْدِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يُقْتَلُ الأَبُ بابْنِهِ بِحَالٍ ... الأول -هو المشهور-: أنه يقتل هب إذا انتفت شبهة إرادة التأديب، ويقول أشهب في نفي القصاص عن الأب ولو كان على وجه تتعين معه الشبهة قال الشافعي، وقد روى الترمذي أحاديث ظاهرها لقول أشهب، لكن قال عبد الحق في الأحكام: لا يصح شيء منها. وَالأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ لِلأَبِ كَالأَبِ، وَفِي كَوْنِهِمَا مِنَ الأُمِّ كَالأُمِّ أَوْ كَالأَجْنَبيِّ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ... نحوه في الجواهر واللخمي؛ لأنه قال في الجواهر: وكذلك لا يقتل الأجداد والجدات من قبل الأب والأم، من يرث منهم ومن لا يرث، وبهذا قال عبد الملك، وقال ابن سحنون عن أبيه: اتفقوا على أنه تغلَّظ في الجد والجدة من قبل الأب، واختلفوا في الجد والجدة من قبل الأم، فقال ابن القاسم: هما كالأم، وبه قال سحنون. وقال أشهب: هما كالأجنبيين. اللخمي: وقول عبد الملك أحسن؛ لأن كل واحد منهما حناناً لايتهم معه على القتل. وروي عن ابن القاسم التغليظ في الجد أبي الأب والجدة أم الأب، ووقف في أبي الأم وأم الأب. قال شيخنا- رحمه الله-: وكان ينبغي أن يعكس ما قالوه هنا؛ إذ جهة الأم أشد شفقة، بدليل تقديم لجدات لأم في الحضانة، ولا خلاف أنها لا تغلظ [699/ب] على غير الأجداد والجدات من الأقارب. وَشَرْطُ الْقِصَاصِ عَلَى الأَجْدَادِ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بالدَّمِ غَيْرَ وَلَدِ الأَبِ يعني: إذا اقتص من الجد لإضجاعه ولد ابنه مثلاً، فشرط ذلك أن يكون القائم به عصبة غير الولد: لأنه ليس لابن أن يقتل أباه، وهكذا قال في الموازية فيمن قتل زوجته

وابنها ابنه؛ أنه ليس له قتل أبيه وأرى له الدية على عاقلته، وفرض المصنف المسألة في الأجداد؛ لأنه يؤخذ منه الحكم في الآباء بطريق الأولى، كما لو قتل رجل ابنه فليس لابنه الآخر القصاص منه، لا يقال: إن ما ذكره من هذا الشرط منافٍ لما في المدونة، ويكره قصاص الابن من أبيه، فإن الكراهة لا تنافي الجواز؛ لأنا نقول المراد بالكراهة المنع، وإنما عبر بها المصنف تبعاً للمدونة، وعلى المنع حملها أبو عمران وغيره. وَلا أَثَرَ لِفَضِيلَةِ الرُّجُولِيَّةِ وَالْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَالشَّرَفِ وَسَلامَةِ الأَعْضَاءِ وَصِحَّةِ الْجِسْمِ، فَيُقْتَلُ الصَّحِيحُ بالأَجْذَمِ، وَالأَعْمَى وَالْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بالسَّالِمِ .... قد تقدم أنه لا أثر للعدد، وأما بقية المسائل؛ فلقوله تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة: 45] فعم؛ فلذلك قتل الرجل بالمرأة والصحيح بالمريض. وقوله: (وَالأعْمَى وَالْمَقْطُوعُ ... إلخ). هو عكس الذي قبله، والمقصود: أنه كما يقتل السليم بالمعيب فكذلك العكس. وقال ابن عبد السلام: وفي كلام المصنف قلب؛ لأن مقصوده قتل السالم بغيره ولا حاجة إلى دعوى القلب. وَإِذَا صَادَفَ الْقَتْلُ تَكَافُؤَ الدِّمَاءِ لَمْ يَسْقُطْ بَزَوَالِهِ؛ كَالْكَافِرِ يُسْلِمُ، وَالْعَبْدُ يَعْتِقُ لما تكلم على ما يمنع القصاص وما لا يمنعه، تكل في المانع إذا حصل بعد القتل، وبيَّن أنه لا عبرة به، كما لو أسلم الكافر بعد قتله كافراً، أو كما لو أعتق العبد بعد قتله عبداً، فإن القصاص لا يسقط عنهما؛ لأن العبرة التكافؤ حالة القتل وهو حاصل، ولا يعترض عليه بما أوصى لوارث فصار غير وارث أو العكس، فإن العبرة بالمثال؛ لأن الوصية عقد منحل، وفي المجموعة في نصراني قتل نصرانياً عمداً ولا ولي له إلا السلطان

ثم أسلم، قال: العفو عنه إذا صار أمره إلى الإسلام أحب إليَّ؛ لأن حرمته الآن أعظم من المقتول، ولو كان للمقتول أولياء لكان القود لهم. فَلَوْ زَالَ حُصُولِ الْمُوجِبِ وَوُصُولِ الأَثَرِ كَعِتْقِ أَحَدِهِمَا أَوْ إِسْلامِهِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الإِصَابَةِ وَبَعْدَ الْجُرْحِ وَقَبْلَ الْمَوتِ. فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْمُعْتَبَرُ فِي الضَّمَانِ حَالُ الإِصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، كَمَا لَوْ رَمَى صيداً ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ وَسُحْنُونُ: حَالُ الرَّمْيِ، ثَم رَجَعَ سَحْنُونُ، فأَمَّا الْقِصَاصُ فَبِالْحَالْيْنِ مَعاً ... (زَالَ) أي: التكافؤ بين (حُصُولِ الْمُوجِبِ) أي: السبب (وَوُصُولِ الأَثَرِ) أي: السبب. فقال ابن القاسم: المعتبر في الضمان- أي: ضمان دية الحر وقيمة العبد- حال الإصابة والموت؛ أي: حصول السبب، كما لو رمى صيداً أو أرسل عليه جارحاً ثم أحرم، ثم أصابه السهم أو الجارح فعليه جزاؤه، وقال أشهب وسحنون: المعتبر في الضمان حال الرمي وحال الجرح، ورجع سحنون إلى موافقة ابن القاسم، وأما القصاص: فيعتبر في الحالين معاص؛ أي: فيشترط دوام التكافؤ من حصول السبب إلى حصول المسبب اتفاقاً، ولو قيل باعتبار السبب في الجرح والمسبب في مسألة الرمي ما بعد، وفي كلام المصنف إشارة إلى ترجيح قول ابن القاسم بالوجهين، أولهما المسألة المقيس عليها، فإن أشهب وسحنوناً ليوافقا عليها، ما أحسن الاستدلال بها، وثانيهما ما اتفق عليه من اعتبار حال الإصابة في القصاص. فَلَوْ رَمَى عَبْدٌ حُرًّا خَطَا ثُمَّ أُعْتِقَ فَالدِّيَةُ عَلَى الأَوَّلِ وَالْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى الثَّانِي أي: ثم أعتق قبل الإصابة لزم الضمان على قول ابن القاسم الدية؛ لأنه حالَ الضرب كان حرًّا، وعليه القيمة على قول أشهب؛ لأن الرمي حالَ كان عبداً.

وَعَكْسُهُ الدِّيَةُ عَلَى الأَوَّلِ وَالْقِيمَةُ عَلَى الثَّانِي عكس هذا الفرع لو رمى حر عبداً ثم أعتق العبد؛ فعلى الرامي الدية على قول ابن القاسم، لأنه حال الإصابة كان حراً، وعليه القيمة على قول أشهب؛ لأن الرامي كان عبداً، ولا فرق في هذه المسألة بين أن يكون رمي العبد خطأً أو عمداً. وَلَوْ رَمَى مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ؛ فَدِيَةُ مُسْلِمٍ عَلَى الأَوَّلِ وَلا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي ... لأن الرمية خرجت حالَ كون الرمي مهدور الدم، ووصلت إليه حال كونه معصوم الدم وتصوره ظاهر، وهو صحيح بالنسبة إلى الحربي، وأما بالنسبة إلى المرتد، فإنما يصح على قول سحنون في المرتد أنه لا شيء على عاقلته، وأما على قول أشهب فلا، كأنه يرى على قاتل المرتد الدية، اختلف على قوله هل دية مجوسي أو دية الدين الذي ارتد إليه. وَلَوْ رَمَى مُرْتَدٍّ مُسْلِماً خَطَأً ثُمَّ أَسْلَمَ؛ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى الأَوَّلِ، وَفِي مَالِهِ عَلَى الثَّانِي؛ إِذْ لا عَاقِلَةَ لمُرْتَدَّ ... هذا عكس الذي قبله. وقيل بقوله: (خَطَأٌ) لأنه لو كان عمداً لقتل على القولين، فالدية على العاقلة؛ لأن القاتل كان حال الرمي مسلماً، وكلامه ظاهر التصور. وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ مُسْلِمٌ نَصْرَانِياًّ أَوْ مَجُوسِياًّ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ تَمَجَّسَ أَوْ تَنَصَّرَ ثُمَّ مَاتَ؛ فَدِيَةُ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنْ إِسْلامِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الأَوَّلِ [700/أ] وَدِيَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَى الثَّانِي ... (ثُمَّ أَسْلَمَ) أي: أحدهما، وهذا لأن العطف باقٍ، ووقع في بعض النسخ: (أَسْلَمَا)، وأما (تَمَجَّسَ أَوْ تَنَصَّرَ) فلا يصح إلا بالإفراد؛ أي: تمجس النصراني أو تنصر المجوسي، ولا يصح تمجسهما؛ لأن معناه حينئذٍ: تمجس النصراني والمجوسي، وهو في المجوسي تحصيل الحاصل.

وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ فَالْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَلا قَوَدَ باتِّفَاقٍ فِيهِمَا ... أي: لو قطع رجل يد رجل مسلم ثم ارتد المقطوعة يده ونزا في جرحه حتى مات وجب القصاص حين القطع؛ لحصول التكافؤ، فلا قصاص في النفس، كأنه صار إلى محل دمه فيه هدر. وقوله: (فِيهمَا) يعود على القولين، ويحتمل أن يعود على القطع وعدم القود؛ لأن القولين يتفقان في الأمرين، وهذا موافق لقوله: (فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَبِالْحَالَيْنِ مَعاً). فَأمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَإِبَانَةُ طَرَفٍ، وَكَسْرٌ، وَجُرْحٌ، وَمَنْفَعَةٌ لما فرغ من الكلام على النفس شرع فيما دونها، وجعل ما دون النفس أربعة أقسام؛ لأن أثر الضرب إما في الذات، أو في المعنى القائم بها. الثاني: المنفعة، والأولى إما أن يقع بسبب ذلك الضرب انفصال بعض الأجزاء عن بعض أو لا، والأول: إبانة الطرف، والثاني: إما أن يكون الضرب هيئة لذلك الانفصال أو لا، والأول هو الكسر والثاني هو الجرح، فإن قيل: في كلامه هنا مع كلامه في أول الجراح تنافي؛ لأنه جعل الطرف بعض المقابل للنفس، وجعله في أول الجراح كل المقابل، ويمتنع أن يكون الشيء كلاًّ وبعضاً، قيل: تمام المقابل للنفس أولاً هو الطرف، فهو أعم من أن تحصل فيه إبانة أو كسر أو جرح أو زوال منفعة، وبعض المقابل للنفس هو إبانة الطرف وهو أخص، فلا تنافي، و (كَسْرٌ، وَجُرْحٌ) وما بعده مرفوع بالعطف على إبانة. وَالأَمْرُ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَالْقَتْلِ يعني: أن ما تقدم في أركان القصاص في النفس مشروط هنا فيما دونها.

إِلا أَنَّ مَنْ يُقْتَصُّ لَهُ فِي الْقَتْلِ مِنْ النَّاقِصِ لِشَرَفِهِ لا يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ فِي الأَطْرَافِ عَلَى الْمِشْهُور. كَمَا لَوْ قَطَعَ الْعَبْدُ أَوِ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. وَرُوِيَ: الْمُسْلِمُ مُخَيَّرٌ. وَرُوِيَ: يَجْتَهِدُ السُّلْطَانُ. وَرُوِيَ: تَوَقَّفَ فِيهِ. وَقِيلَ: الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْقَوَدِ ... ما شهره المصنف، قال الأستاذ: هو ظاهر المذهب. وقال ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم: المسلم بالخيار إن شاء اقتص أو أخذ الدية، وجعله المصنف رواية، ولعله اعتمد على قول الأستاذ، وجعل أصحابنا هذه رواية مخرجة في العبد والكافر، فقالوا: للمسلم أن يقتص منهما، وخرجوا هذه الرواية من قول مالك ي النصراني يفقأ عين المسلم. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال: يجتهد السلطان في ذلك. والرواية بالتوقف رواها أشهب في العتبية، وقيل: الصحيح وجوب القود، هكذا نقل الأستاذ عن الأصحاب، قال: وهو كما قالوا أو لتأيده بالعمومات، كقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله عليه الصلاة والسلام: "الْمُسْلِمُونَ تَتكَافَأ دِمَاؤُهُمْ". ولأن في عدم القصاص من الكافر إغراء لهم على المسلمين، وتأول جماعة- وأراه ابن عبد الحكم- من اجتهاد السلطان على وجوب القود. وروى ابن القصار عن مالك القصاص. وقوله: (وَرُوِيَ: الْمُسْلِمُ مُخَيَّرٌ) قد تقدم أن الأصحاب خرجوا ذلك في العبد أيضاً. وَتُقْطَعُ الأَيْدِي بالْوَاحِدَةِ كَالنَّفْسِ لعله إنما نص على هذه لئلا يتوهم أن المذهب كمذهب أبي حنيفة؛ حيث إنه قتل الجماعة بالواحد، ولا تقطع بالواحدة، وإلا فهي تؤخذ من قوله: (وَالأَمْرُ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَالْقَتْلِ).

أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَتِ الْجِنَايَتَانِ مِنْ غَيْرِ مُمَالأَةٍ اقْتُصَّ مِنْ كُلِّ بمِسَاحَةِ مَا جَرَحَ احترز بقوله: (مِنْ غَيْرِ مُمَالأَةِ) مما لو تمالئوا فإنهم يقطعون، وذكر أنه يقطع من كل الجنايتين بمساحة ما جنى؛ أي: لا ينظر إلى تفاوت الأيدي بالغلظ مثلاً، بل لو قطع أحدهما النصف والآخر النصف، لقطع من يد كلٍّ منهما النصف، وهذا ظاهر إذا كان ابتداء أحدهما من غير الجهة التي ابتدأ الأول، وقطع باقي اليد مثلاً، فإنه يبتدأ في القصاص من الجهة التي بدأ بها الجاني، فتأمله. الْجِرَاحُ: وَفِي الْمُوضِحَةِ؛ وَهِيَ: مَا أَفْضَى إِلَى الْعَظْمِ مِنَ الرَّاسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدَّيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ إِبْرَةٍ، وَفِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الدَّامِيَةِ، وَالْحَارِصَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ، وَالسِّمْحَاقِ؛ وَهِيَ: الْكَاشِطَةُ لِلْجِلْدِ، وَالْبَاضِعَةِ؛ وَهِيَ: الَّتي تَبْضَعُ اللَّحْمَ؛ أَيْ: تَشُقُّهُ. وَالْمُتَلاحِمَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ كَثيراً مِنْ غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْمِلْطَاةٍ؛ وَهِيَ: الَّتِي يَبْقَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ سِتْرٌ رَقِيقٌ- الْقِصَاصُ (الْقِصَاصُ) مبتدأ مؤخر (وَفِي الْمُوضِحَةِ) وما عطف عليها الخبر، وليس القصاص ترجمة كما يقع في بعض النسخ، ومعنى كلامه: أنه يقتص من الموضحة وما قبلها منالجراح، والذي قبلها ستة: ثلاثة متعلقة بالجلد، وثلاثة متعلقة باللحم. فأما المتعلقة بالجلد؛ فأولها الدامية: وهي التي تسيل منها الدم، ثم الحارصة: وهي التي تشق الجلد، ثم السمحاق: وهي التي تكشط. وأما الثلاثة المتعلقة باللحم؛ فأولها الباضعة: وهي التي تبضع اللحم؛ أي: تشقه، ثم [700/ب] المتلاحمة: وهي تغوص في اللحم في عدة مواضع، ثم الملطاة: وهي التي يبقى بينها وبين العظم ستر رقيق، ولم يفسر المصنف الدامية؛ لأن لفظها ينشد عن تفسيرها على أنه يمكن أن يكون مراد المصنف أن الدامية مرادفة للحارصة، وهكذا ذكر في التنبيهات،

فقال: أولها الحارصة بحاء وصاد مهملين: هي التي جرحت الجلد؛ أي: قطعته، وهي الدامعة بعين مهملة؛ لأن الدم ينبع منها كالدمع، ثم ذكر قولاً كما فسرنا به كلام المصنف أولاً، ويرجح حمل كلام المصنف على الأول، بأنه كذلك في الجواهر، وذكر ابن عبد البر قولاً ثالثاً فقال: أولها الحارصة، ويقال لها الحرصة: وهي حرصت الجلد؛ أي: شقته، قال: وقيل: بل الدامية، وهي تدمي من غير أن يسيل منها دم، ثم الدامعة، وهي: التي يسيل منها، وقيل: الدامية والدامعة سواء، ويقال: مِلطاء بكسر الميم بالمد والقصر، وملطاة. وقيل: إن الباضعة والمتلاحمة مترادفتان. وقيل: الحارصة هي السمحاق، وفي هذه الألفاظ خلاف كثير من غير ما ذكرت تركته خوف الإطالة. وَلا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْهَاشِمَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ، وَالْمُنَقَّلَةِ؛ وَهِيَ: مَا أَطَارَتْ فِرَاشَ الْعَظْمِ وَإِنْ صَغُرَ، وَالأمَّةِ؛ وَهِيَ: مَا أَفْضَى إِلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ بِقَدْرِ إِبْرَةٍ، وَالدَّامِغَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَخْرِقُ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: فِي الْهَاشِمَةِ الْقِصَاصُ إِلا أَنْ تَصِيرَ مُنَقَّلةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لابُدَّ أَنْ تَصِيرَ مُنَقَّلَةٌ أي: بعد الموضحة، ويحتمل بعد الجراح السابقة، ويسقط على قول ابن القاسم ذكر الهاشمة؛ لأنها لابد أن تصير منقلة عنده، و (الْمُنَقَّلَة) بكسر القاف، وحكي فيها الفتح، (فَرَاشَ) بفتح الفاء وكسرها، ويقال: لأن (مَا) موصولة أيضاً، وفسر بعضهم الأمة بما فسر به المصنف الدامغة بالغين المعجمة. ابن عبد السلام: والظاهر أنهما مترادفان أو كالمترادفين، وإذا قلنا بالقصاص في الهاشمة، فقال أشهب: يستفاد منه، فإن أدت إلى الهشم وإلا أخذ أرش الزائد. محمد: وهو صواب إذا كان بذي جرح الأول موضحة ثم تهشمت، فأما إذا كانت الضربة هي التي هشمته فلا قود فيها.

اللخمي: يريد إذا رضت اللحم وهشمت ما تحتها من العظم، فأما لو كان ذلك بسيف أو سكين، فشقت اللحم فبلغت العظم ثم هشمته، فإن له أن يقتصَّ من موضحه. انتهى. وما ذكره المصنف من نفي القصاص في المنقَّلة هو لمالك، وبه أخذ ابن القاسم وأشهب، وهو مروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر عبد الوهاب رواية ثانية بثبوت القصاص فيهما، وأقاد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه من المنقِّلة، وروي أنه أقاد من المأمومة، وروي من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا قَوَدَ فِي الْمَامُومَةِ وَلاَ فِي الْجَائِفَةِ وَلاَ فِي الْمُنَقِلَةِ". لكنهم ضعفوه. وَفِي جِرَاح الْجَسَدِ مِنَ الْهَاشِمَةِ وَغَيْرِهَا وَالظُّفُرِ وَنَحْوِهِ الْقَوَدُ بشَرْطِ أَنْ لا يَعْظُمَ الْخَطَرُ كَعِظَامِ الصَّدْرِ وَالْعُنُقِ وَالصُّلْبِ وَالْفَخِذِ، وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ إِنْ كَانَ مَخُوفاً بخِلافِ الْعَضُدِ وَالتُّرْقُوَةِ ... يريد: أن ما تقدم من عدم القصاص في الهاشمة والمنقَّلة الجائفة إنما هو إذا كان في الرأس العظيم الخطر، وأما هاشمة الجسد وغيرها فذلك غير مخوف فيقاد منه، ونقل في النوادر عن ابن القاسم وأشهب القصاص في منقلة الجسد، ونص المصنف على الظفر؛ لأن فيه خلافاً، ففي النوادر: واختلف قول مالك في الظفر، فقال: إن كان يستطاع القصاص اقتص منه، وروى ابن وهب في المجموعة أن فيه الاجتهاد، و (الْقَوَدُ) مبتدأ خبره (فِي الْجِرَاحِ) ثم بين أن القصاص مشروط بألا يعظم الخطر؛ أي: لا يكون متلفاً، لأنه إذا اقتص في المتلف يؤدي إلى أخذ النفس فيما دونها وهذا هو المشهور، وقال ابن عبد الحكم: يقتص من كل جرح وإن كان متلفاً، إلا ما خصه الحديث عنه من المأمومة والجائفة، وبقي على المصنف شرط آخر وهو أن تتحقق فيه المماثلة، فإن كان لا تتأتى فيه المماثلة، فلا قصاص فيه اتفاقاً، كبياض العين، وإن تأتت فيه المماثلة والغالب نفيها ككسر

العظام؛ فحكى عبد الوهاب فيه روايتين، و (الْخَطَرُ) بفتح الخاء المعجمة والطاء، الجوهري: وهو الإشراف على الهلاك. قوله: (كَعِظَامِ الْصَّدْرِ) مثال لما يعظم فيه الخطر. وكذلك القطع لا قصاص فيه بخلاف العضد والترقوة ففيه القصاص. ابن عبد السلام: قال غير واحد، ولابد من جراح العمد من تأديب القاضي للجارح، اقتص منه أو لم يقتص. عياض: والترقوة بفتح التاء وضم القاف، وهو عظم أعلى الصدر المتصل بالعنق. وَإِذَا بَرِئَ الْعَظْمُ الْخَطِرُ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ فَكَالْخَطَأِ فَلا شَيْءَ فِيهِ سِوَى الأَدَبِ فِي الْعَمْدِ، بخِلافِ الْعَمْدِ فِي غَيْرِه، فَإِنَّهُ يُقَادُ مِنْهُ وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثْمٍ ... العثم بالعين المهملة والثاء المثلثة المفتوحة العين، هكذا رأيت مضبوطاً بفتح الثاء في نسخة صحيحة من الصحاح، وقال عياض: العثم والعثل بالميم واللام والعين المهملة المفتوحة والثاء المثلثة مفتوحة مع [701/أ] اللام ساكنة مع الميم كلاهما بمعنى؛ وهو الأثر والشَّين؛ يعني: أن ما لا قصاص فيه لخطره لو برئ على غير عثم فلا شيء، أما القصاص فلما تقدم أنها مخوفة، وأما العوض فلأن الشرع لم يسمِّ فيه شيئاً، وكل ما لاتسمية فيه فإنما هو بحسب الشِّين، والفرض أنه لا شَين، نعم يؤدِّب القاضي المتعمد لتعديه. وقوله: (بخِلافٍ الْعَمْدِ فِي غَيْرِهِ) أي: غير الخطر، وهو ظاهر. وَيُْتَصُّ فِي الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، وَالْعَيْنِ، وَالأَنْفِ، وَالأُذُنِ، وَالسِّنِّ، وَالذَّكَرِ، وَالأَجْفَانِ، وَالشَّفَتَيْنِ ... لقوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِِصَاصٌ} [المائدة: 45] وجمع الأجفان وثنَّى الشفتين وأفرد ما قبلهما؛ لأن اليد وما بعدها متقاربة ي المنفعة، لأنه اتفق

على تساوي اليدين وما بعدهما في الدية، وليوافق في العين وما بعد نص الآية، وثنَّي الشفتين ليبين تساويهما؛ لأن ابن المسيب يعضد السفلى كما سيأتي، وجمع الأجفان لتعددهما وليبين تساويهما، فقد روي عن الشعبي في أحد قوليه أن في الأسفل ضعف ما في الأعلى، وعكس مكحول. وَفِي اللِّسَانِ رِوَايَتَانِ، وَفِيهَا: إِنْ كَانَ مُتْلِفاً لَمْ يُقَدْ مِنْهُ الروايتان مبنيتان على خلاف في تحقيق: هل القصاص منه خطر أو لا، وما ذكره عن المدونة: الظاهر أنه غير متلف فيه. ابن عبد السلام: وظاهر المدونة خلاف ما حكاه المؤلف عنها، ففيها: وسمعت أهل الأندلس سألوا مالكاً عن اللسان إذا قطع وزعموا أنه ينبت، فرأيت مالكاً يصغي إلى أنه لا يعجل حتى ينظر إلى ما يصير إذا كان القطع منعه الكلام، قلت: في الدية أو القود؟ قال: في الدية، وهذا الترديد إنما هو في مسألة أخرى، هل ينتظر بالدية إلى البرء أم لا، وكذلك بالقود عند بعض الشيوخ، لا في أنه متلف. انتهى. وفيه نظر؛ لأن فيها قبل هذا: وفي اللسان القود إذا كان يستطاع منه القود ولم ينك متلفاً مثل الفخذ والمنقلة والمأمومة وشبه ذلك، وإن كان متلفاً لم يُقَد منه. وَفِيهَا: فِي رَضِّ الأُنْثَثَيْنِ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُتْلِفاً، وَمَا أَدْرِي مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ هكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها: (فِيهَا: فِي رَضَّ الأُنْثَيَيْنِ) وهي أحسن؛ لأنها كذلك في التهذيب، لأنه نص في المدونة على وجوب القصاص في إخراجهما. وَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ نِصْفُ الدِّيَةِ بغَيْرِ تَفْصِيلٍ هذه المسألة والتي بعدها لا تناسب ما تكلم فيه المصنف؛ لأنه إنما تكلم فيما يقتص منه، وإنما يناسب الكلام على الديات، ونبه بقوله: (بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ) على قول ابن المسيب

في اليسرى نصف الدية، وفي اليمنى الثلث، قيل له: لَمِهْ؟ قال: لأن اليسرى إذا ذهبت لم يولد له وإذا ذهبت اليمنى ولد لهن وعلى ما حكاه ابن حبيب أن في اليسرى الدية كاملة، وهو أشهر عند المذهب من قول ابن المسيب حتى أن بعضهم نسبه لابن حبيب، والصحيح أنه نقله ولم يسم قائله، وأبعد من قال أن المصنف أشار بعدم التفصيل إلى أنه لا فرق بين أن يتقدم قطعها عن الذكر أو يتأخر عنه، وسيتكلم على ذلك في فصل الديات. وَالشَّفَتَانِ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: فِي السُّفْلَى ثُلُثُ الدِّيَةِ علل ابن المسيب ذلك: بأن السفلى أحمل للطعامن ورد عليه في المجموعة بأن العليا أشد، كما لو قيد ابن شعبان في الشفة التي يجب بذهابها الدية كل ما زال جلد الذقن والخدين من أعلى أو أسفل مستدير بالفم، هو كل مرتفع من اللثات. الباجي: وما كان في الجانبين فذلك الشدقان، فإن اتسعت الشفة ولم تظهر هناك مباينة أحد الجانبين للآخر ففيها حكومة، وإن ظهرت فيجب من ديتها بقدر ما ظهر؛ لأنه في معنى النقص، فإن نقص مع ذلك شيء من الكلام أعطي على أكثر الأمرين ما نقص من الشفتين من الكلام، قاله في المجموعة، وقال: هذا الأصل يجب له ما نقص من كل واحد منهما. وَإِذَا قَطَعَ مِنْ لَحْمِهِ بَضْعَةً فَفِيهَا الْقِصَاصُ وفي نسخة: (قَطَعَهُ) ومعناهما واحد. وقوله: (فَفِيهَا) البضعة، ويحتمل في المدونة بعدم موجب نسبة هذه المسألة للمدونة، وبضعة اللحم بفتح الباء لا غيرن وأما في العدد، فيقال: بضع وبضعة بفتح الباء وكسرها فيهما. وَفِي ضَرْبَةِ السَّوْطِ الْقَوَدُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ المشهور مذهب المدونة، والشاذ أيضاً فيها؛ لأنه لا قود فيها كاللطمة، والفرق على المشهور بين اللطمة وضربة السوط.

عيسى: إلا أن يقال الأصل أنه لا قصاص إلا في الجراح؛ لقوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة:45] واللطمة لا جرح فيها، والخلاف في السوط مبني على أنه يستلزم الجرح غالباً أو لايستلزمه. ابن عبد السلام: والمشهور أن الضرب بالعصا لا قود فيه. وَأَمَّا الْمَعَانِي كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ فَإِنْ كَانَ ذَهَابُهُ بسِرَايَةِ مَا فِيهَ الْقِصَاصُ كَمُوضِحَةٍ اقْتُصَّ لَهُ فِيهَا. فَإِنْ ذَهَبَ اسْتَوْفَى وَإِلا فَعَلَيْهِ دِيَةُ مَا لَمْ يَذْهَبْ .. لما فرغ من الضرب والكسر والجرح تكلم على المعنى ومثله بالسمع والبصر، وأدخل كاف التشبيه ليدل على عدم الحصر، ليدخل فيه الذوق والشم وغيرهما. وقوله: (ذَهَابُهُ) عائد على المعنى؛ أي: فإن كان ذلك المعنى بسبب جرح فيه القصاص سرى [701/ب] إلى تلف ذلك المعنى، كما أوضحه موضحة عمداً ذهب منها بصره، ويقتص من الجاني بمثلها، فإن ذهب بصره فقد حصل المطلوب، وإن لم يذهب وجبت دية البصر للمجني عليه. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي مَالِهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ أي: دية ما لم يذهب في ماله، وهو مذهب المدونة، وروى أشهب أنه من العمد الذي يتعدد القصاص بما شبه الجائفة. وَكَذَلِكَ السِّرَايَةُ إِلَى يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَلا قِصَاصَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجَبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ وَهُوَ كَالخَطَأِ إِلا الأَدَبَ ... أي: مثل السراية إلى المعنى السراية إلى الضرب، كما لو جرحه في كتفه فشلت يده، وهو ظاهر في أشفار العينين والحاجبين واللحية، وهو كالخطأ وعمد الأدب؛ لأن هذه ليست جراحاً وإنما ورد القصاص في الجراح.

خليل: والمراد إذا زال الشعر لا لحم الحاجب، ومعنى كلامه: أنه إذا لم ينبت الشعر ففيه حكومة ولا قصاص في عمد الأدب والخطأ، نعم يؤدب في العمد وهذا هو المشهور. وقال أشهب وأصبغ: في ذلك القصاص، وفي إزالة شعر الرأس. وعن المغيرة في الرجل ينتف لحية الرجل أو رأسه أو شاربه أو بعض ذلك منه عمداً؛ فلا قود فيه وفيه الأدب بالاجتهاد، لاختلاف عظم الخطر فيها، ولو نتف جميع اللحية والشارب فاقدته منه لكان ذلك أقرب إلى الصواب، أن تكون لحية بلحية وشارب بشارب، وأما إن نتف بعض ذلك فليس إلا الأدب. قال في النوادر: وأعرب أصبغ فيما أحسب أن القصاص فيه بالوزن، وعاب ذلك غيره لاختلاف اللحية للصغر والكبر. وقال الباجي: لو قيل يقتص من الرأس، وباللحية من اللحية لكان صواباً. وَفِيهَا: إِذَا ذَهَبَ الْبَصَرُ بضَرْبَةٍ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ؛ إِنْ كَانَ يُسْتَطَاعُ الْقَوَدُ مِنَ الْبَيَاضِ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ أُقِيدَ، وَإِلا فَالْعَقْلُ ... نسبها للمدونة لإشكالها؛ لأن القياس أن يضرب كما ضرب، وإن آل إلى الحساب عينه، وذكر أبو عمران أنه يقاد من العين التي ذهب بصرها بجناية وهي قائمة، قال: وأرفع ما في ذلك أن عثمان- رضي الله عنه- أتى برجل لطم عين رجل فذهب بصره وعينه قائمة، فأراد عثمان بقيده فأعيي ذلك عليه وعلى الناس حتى أتى علِيَّاً رضي الله عنه، فأمر بالمصيب فجعل على عينه كرسف، ثم استقبل به عين الشمس وأدنيت من عينه مرآة فالتمع بصره وعينه قائمة، وروي: أن علِيَّاً رضي الله عنه، أمر بمرآة فأحميت ثم أدنيت قطعت عينه وبقيت قائمة مفتوحة. وَلَوْ شَلُّتْ يَدُهُ بضَرْبِهِ ضُرِبَ مِثَلَها، فَإِنْ شَلَّتْ وَإِلا فَالْعَقْلُ فِي مَالِهِ تصوره ظاهر، وأطلق المصنف بقوله: (ضُرِبَ مِثْلَهَا) تبعاً للمدونة، وقيده أشهب، فقال: هذا إذا كانت الضربة بجرح فيه القود، وإن ضربه على رأسه بعصا فشلت يده؛ فلا قود فيه وعليه دية اليد.

وَتُشْتَرَطُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَلا تُقْطَعُ الْيُمَنَى بالْيُسْرَى، وَلا بالْعَكْسِ، وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ وَالْعَيْنُ سَوْاءٌ، وَلا السََّبابَةُ بالْوُسْطَى، وَلا الثَّنِيَّةُ بالرَّبَاعِيَةِ، وَلا الْعُلْيَا بالسُّفْلَى، وَتَتعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِهَ الدِّيَةُ .. يعني: أنه لابد من المماثلة في أمور ثلاثة؛ وهي: المحل، والقدر، والصفة؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. قوله: (وَلا تُقْطَعُ الْيُمْنَى بالْيُسْرَى) راجع إلى اتحاد المحل، ثم بين أنه لا فرق في ذلك بين اليد والعين من الرجل؛ لينبه على قول الحسن بن حي: أنه تؤخذ العين اليسرى باليمنى لا العكس. والرباعية بفتح الراء مخفف الياء، الجوهري: كالثمانية، هي بين الثنية والنياب. وقوله: (وَتَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِهِ) أي: محل الجناية، ويحتمل أن يعود على المماثل المفهوم من المماثلة، وإذا تعذر القصاص وجب المصير إلى الدية، كما إذا عدم المثل في المثليات، فإن القيمة تتعين، والدية هنا في مال الجاني اتفاقاً؛ لأن الجناية عمداً. فَإِنْ قُطِعَتْ بعد جِنَايَتِهِ بسَمَاوِيٍّ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ لِغَيْرِهِ؛ فَلا شَيْءَ لِلْمَجْنِيٌ عَلَيْهِ .. يعني: إذا قطع رجل يمنى آخر ثم قطعت يد الجاني بأحد الوجوه التي ذكر؛ فقد سقط حق المجني عليه، لأن حقه إنما كان في القصاص، وإذا تعذر لتعذر محله بطل حقه، وهذا بين على المشهور أنه لا حق للمجني عليه إلا في القصاص، وأما على قول أشهب أن الواجب التخيير في ذلك أو الدية بحث، وفي بعض النسخ، بغير جناية المجني عليه إذا قطعها فقد استوفى، وفي بعض النسخ: (بغَيْرِ جِنَايَةِ أَجْنَبيَّ)، واحترز بذلك بقطعها من جناية أجنبي، فإن للمجني عليه أولاً أن يقتص من الجاني ثانياً على المشهور كما تقدم.

وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ جَمَاعَةٌ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلا قَطْعُهُ لَهُمْ أَوْ لأَحَدِهِمْ، كَمَا لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةً فَلَيْسَ لَهُمْ إِلا قَتْلُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَو قَتَلَ رَجُلَيْنِ فَصَالَحَهُ أَوْليَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى مالٍ فَلأَوْلِيَاءِ الآخَرِ قَتْلُهُ ... يعني: ومثل ما تقدم في أن الجاني لا شيء عليه بعد القطع لو قطع جماعة وقاموا فإنه يقطع لهم، وكذلك إذا قام أحدهم ولو كان آخرهم جناية فقطع له؛ فلا شيء للباقي. [702/أ] وشبه المصنف ذلك بالقتل. وقوله: (لأَحَدِهِمْ) فيه تكرار مع قوله: (القصاص لغيره) إنما يتمشى على القول بأنه ليس لهم إلا القصاص، وأما على قول من يرى لهم الخيار في ذلك في الدية، فقال ابن عبد السلام: إذا تعمد القاضي قتله لأحدهم فقد منع الباقين من أخذ الدية، وفي تضمينه حينئذ ما منعهم منه نظر، ولاسيما من مذهبه التخيير فتأمله. وَفِي اعْتِبَارِ الْقَدْرِ بالْمِسَاحَةِ أَوْ بالنِّسْبَةِ إِلَى قَدْرِ الرَّاسَيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَعَلَيْهِمَا لَوْ كَانَتِ الشَّجَّةُ نِصْفَ رَاسِ الْمَشْجُوجِ وَهِي قَدْرُ رَاسِ الشَّاجَّ، ولا تَكْمُلُ بغَيْرِ الرَّاسِ اتِّفَاقاً ... لما ذكر أنه لابد من المماثلة في القدر أخذ يبينه وذكر أن ابن القاسم يعتبره بالمساحة، وهذا مذهب المدونة، فيقتصر في طول الجرح وقصره، وصوبه ابن رشد، لقوله تعالى: (وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة: 45] وذكر أن أشهب اعتبر القدر بالمساحة؛ يعني: النسبة، فيجرح ربع الرأس بالربع والثلث بالثلث كذلك، ورجع إليه ابن القاسم في الموازية. ابن المواز: وبه أقول. وذكر ابن المواز أن ابن القاسم خالف في قوله الأول أصحابه والعلماء قبله، وبقية كلام المصنف ظاهر، وإنما لم يكمل بغير الرأس اتفاقاً؛ لأنه تعتبر المماثلة بالمحل، وقال مالك فيمن قطع بعض أصبع وأصبعه أطول؛ فلا يقطع بقدره، ولكن إن كان قدر ثلث أصبع قطع من أصبع الآخر مثله، وكذلك في القصاص في

الأنملة، قال أبو عمران: يحتمل أن يكون ابن القاسم مثل في هذه الرواية أشهب، ويرى فيه كما يرى في الجرح أنه يقاس، ولم يوجد عنه نص فيهما. وَلَوْ زَادَ الطَّبِيبُ الْمُقْتَصُّ عَلَى مَا اسْتُحِقَّ فَكَالْخَطَأِ فإن كان أنقص من الثلث ففي ماله، وإلا فعلى العاقلة، أما لو زاد عمداً اقتص منه، فإن قيل: فإذا قصت زيادة الطبيب، يلزم منه أن يكون المصنف شبه الشيء بنفسه، قيل: شبه الخطأ المستند إلى عمد ما دون فيه بالخطأ المحض، فلا يلزم ما ذكرت، وما ذكرناه من الاقتصاص من الطبيب المتعمد نص عليه الشيوخ، إلا أنه لا يمكن في غالب الحال؛ لأن زيادته إنما تكون بعدما أذن فيه، فإذا طلب القصاص من الطبيب لم يوصل إليها منه إلا بعد تقدم جرح، وقد لا يكون جرح أحداً فضلاً عن الأدب، فيتعذر القصاص، غير أنه إن برئت الزيادة على غير عثم وجب أدبه فقط، وإلا وجب الأدب مع الحكومة في ماله، هذا خطأه بالنقصان ففي المجموعة عن ابن القاسم: لا يرجع فيقتص له من حقه؛ لأنه قد اجتهد لهن وكذلك الأصبغ يخطئ فيها بأنملة، ولا يقاد مرتين، وعنه في الموازية والعتبية: إن علم بمضرة ذلك قبل أن يبرأ وينبت اللحم أتم ذلك عليه وإلا فات، ولا شيء له في تمام ذلك ولا دية. وقال أصبغ: إن قص يسيراً فلا يعاود، وإن كان في موضعه قبل البرء وبعده، وإن كان كثيراً فإن كان يصوره اقتص له تمام حقه، وإن كان برئ وأخذ الدواء فلا يرجع إليه برئ أو لم يبرأ، ويكون في الباقي العقل، كان هو ولي القصاص أو من جعله إليه السلطان. وَلا تُقْطَعُ الصَّحِيحُةُ بِالشَّلاءِ الْعَدِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ اتِّفَاقاً وَإِنْ رَضِيَا، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْمُسْتَحِقُ ... لأن الصحيحة ليست كالشلاء، فلذلك لا تقطع الصحيحة بها، ولو رضي الجاني بأن يسلم يده الصحيحة لم يكن له ذلك، وهو بمنزلة من أسلم يده لرجل ليقطعها من

غير موجب، وكذلك لا يجوز، وفي بعض النسخ: رضيا، فيعود على الجاني والمجني عليه، وما ذكره المصنف من تقييده الشلاء بالعديمة النفع. ابن عبد السلام: نحوه لأشهب، وحملوا قوله على الوفاق. انتهى. والذي في النوادر عن ابن القاسم وأشهب في أشل اليد والأصبع يقطعها أنه لا قصاص فيها، وكذلك إن شل بعضها؛ إذ لا يقدر أن يقاد له بقدر ما بقي، ولكن له من الدية بقدر ما بقي بالاجتهاد، قيل: وقول ابن عبد السلام أنهم حملوا قول أشهب على الوفاق وهْمٌ، فإن هذا إنما ذكره أشهب في العكس، وهو قطع الشلاء بالصحيحة؛ لأن الشلاء كالعدم، وهي كنوع آخر. وقيل: يخير المستحق في القصاص وتركه وأخذ الدية، وهذا رواه يحيى في العتبية. قال في البيان: والأول مذهب المدونة، ولأشهب ثالث: أنه ليس له أن يقتص إن كان جل منفعتها قد ذهب. وَفِيهَا: وَلَوْ قَطَعَ أَقْطَعُ الْكَفِّ الْيُمْنَى يَمِينَ رَجُلٍ مِنَ الْمِرْفَقِ؛ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي أَشَلَّ تَعَيَّنَ الْعَقْلُ ... لعله نسبها للمدونة إشارة إلى معارضة هذه المسألة التي قبلها؛ لأن يد الجاني ناقصة في الصورتين، ولهذا قال: ولو كان الجاني لا يقتص منه، وأما قطع الكف ببقية ساعده بعض حق المقطوعة يده، فله أخذه. وَأَمَّا مَا فِيهِ نَفْعٌ فَكَالصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ الأَكْثَرُ بَاقِياً هذا مقابل قوله أولاً: العديمة النفع. وحاصله: أنه في المشهور اعتبر مطلق النفع واعتبره أشهب بقيد الأكثر، وتأمل هذا مع قوله في البيان: لا خلاف إذا كان جل منفعتها [702/ب] قائمة أن المجروح بالخيار بني أن يستفيد منها بنقصانها وبين أن يأخذ عقلها، وعلى هذا فاليد الذي فيه نفع على قسمين؛ إذا كان الجل قد ذهب فهو محل خلاف، وإن

كان الجل باقياً فهو محل اتفاق، هذا فيما إذا كانت اليد هي الجانية، وأما إن كان المجني عليها؛ فلا قصاص من الصحيحة. وَالذَّكَرُ الْمَقْطُوعُ الْحَشَفَةِ كَالأَقْطَعِ الْكَفِّ يعني: إذا قطع صاحب ذكر مقطوع الحشفة ذكر سالمها: خير المجني عليه بين القصاص من الذكر المقطوع الحشفة وبين أخذ دية ذكره الصحيح، كما تقدم إذا قطع أقطع الكف يد شخص صحيحة من المرفق. وَعَيْنُ الأَعْمَى وَلِسَانُ الأَبْكَمِ كَالْيَدِ الشَّلاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَحُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ اقْتَصَّ لَهُمَا أَوْ أَخَذَ العَقْلَ ... في بعض النسخ: على المشهور، وسقط ذلك من بعضها، وهي الصواب، وفي ثبوتها قلق جدًّا؛ لأنك إما أن تحمل كلامه على أن صاحب اللسان الأبكم والأعمى جانيان أو مجنياً عليهما، فعلى أنهما جانيان يكون معنى كلامه: أن الأعمى والأبكم إذا جنيا على صحيح؛ فالمشهور لا يكون للصحيح عليهما إلا العقل، ومقابل المشهور أن الصحيح مخير في العقل والقصاص، والفرق على الشك بين ذلك واليد الشلاء، أن في عين الأعمى جمالاً، وفي لسان الأبكم الإحساس والذوق، وعلى هذا الخلاف راجع إلى المشبه به، ويحتمل على هذا أن يرجع إلى المشبه والمشبه به ويكون كرره للخلاف في اليد الشلاء ليعين المشهور إذ لم يعينه أولاً، وقد نص في البيان على أن لعين الأعمى كاليد الشلاء إذا جنيا على الصحيح في دخول الخلاف، لكن يرد على هذا كله قوله: (فَحُكُومَةٌ) لا يبقى له وجه؛ لأن الحكومة إنما تجب في الجناية على الأعمى والأبكم والأشل في جنايتهما، وإن حملنا كلامه على أن الأعمى والأبكم مجني عليهما؛ فيكون في لسان الأبكم وعين الأعمى حكومة على المشهور، فيقتضي هذا أن الشاذ فيهما دية، ولا يعلم هذا في المذهب. قوله: (وَإِنْ كَانَ اقْتَصَّ ... إلخ). هو مبالغة على المشهور، وهو ظاهر.

وُتُقْطَعُ الْيَدُ النَّاقِصَةُ أَصْبُعاً بالْكَامِلَةِ، وَلا دِيَةَ لِلأَصْبُعِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَصْبُعٍ خُيَّرَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ تَامًّا، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَتَعَيَّنُ الْعَقْلُ ... يعني: أن من كان له أصبع مقطوع من يد قطع يداً صحيحة، فإن المجني عليه يقتص من اليد الناقصة، واختلف بما يكون له عوض عن ذلك النقص، وهو لمالك أولاً وهو المشهور، وهو لمالك أيضاً، ولابن القاسم ثالث في الموازية أن المجني عليه يخير إما أن يقتص بغير دية الأصبع، وإما أن يأخذ عقل يده، فلا قصاص. قوله: (فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ) أي: وإن كان النقص أكثر من أصبع كأصبعين أو ثلاثة؛ فمذهب المدونة أنه مخير بين أن يأخذ العقل تاماً أو يقتص. وقال أشهب وعبد الملك: ليس له إلا العقل، وفي العتبية قول ثالث: أنه تقطع كف تلك ويكون عليه عقل الأصبعين، غير أن قول المصنف: (فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ أَكْثَرَ) يدخل فيه أربع أصابع، والمنصوص أصبعان أو ثلاثة، لكن لفظه في البيان كلفظ المصنف. ابن عبد السلام: والمستحسن عندي مذهب المدونة في الأصبعين ومذهب أشهب نفي القصاص مطلقاً، وإنما أربعة أخماس دية اليد، والأنملتان كالأصبع في الثلاثة. فَإِنْ كَانَتِ النَّاقِصَةُ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ أَصْبُعاً فَثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَالْمُغِيرَةِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ غَيْرَ الإِبْهَامِ اقْتُصَّ مِنْهُ ... قد علمت أن القول الثالث يدل على الأولين، وأن الأول من الأقوال للأول من القائلين، فمذهب ابن القاسم القصاص، سواء كان الأصبع الناقص هو الإبهام أو غيره، وهو قوله في المدونة. ومذهب أشهب نفي القصاص مطلقاً، وإنما أربعة أخماس دية اليد، والأنملتان كالأصبع في الثلاثة، كأن الأقل يتبع الأكثر، واستحسن في الأنملة القصاص ابن المواز، واختلف قوله فيه، وتصور الثالث ظاهر، ونسبه المصنف للمغيرة، وإنما رأيته منسوباً لابن الماجشون.

وإِنْ كَانَ أَصْبُعَيْنِ فَلا قِصَاصَ اتِّفَاقاً يعني: وإن كان يد المجني عليه ناقصة الأصبعين لم يقتص له من الكاملة اتفاقاً، وإنما له ثلاثة أخماس دية اليد، وهكذا حكى ابن المواز اتفاق مالك وأصحابه على هذا. وَلَوْ قُطِعَ مِنَ الْمِرْفَقِ لَمْ يَجُزْ مِنَ الْكُوعِ وَإِن رَضِيَا لأن المماثلة في المحل شرط، وهو خلاف قوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة: 45] ولو جاز هذا لجاز أن يقطع غير القاطع مع الرضا. وَتُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ خِلْقَةً أَوْ مِنْ كِبَرٍ لأنه كما يقتص للضعيف بالضعيف من القوي، فكذلك يقتص للعين الضعيفة من السالمة، ولأنا لو شرطنا التساوي في العوضين أدى ذلك إلى عدم القصاص غالباً لعدم تحقيق مساواتهما. فَإِنْ كَانَ مِنْ جُدَرِيٌ أَوْ رَمْيَةٍ أو شِبْهِهَا فَلا قَوَدَ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِن كَانَ فَاحِشاً. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِن كَانَ يَنْظُرُ بهَا ثُمَّ أُصِيبَ عَمْداً فَالْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ لَهَا عَقْلاً، بِخِلافِ الْخَطَأِ ... الجوهري في فصل الجيم مع الذال المعجمة: الجدري [703/أ] بضم الجيم وبفتح الدال وبفتحهما لغتان، يقال: منه جدر الرجل فهو مجدر، يعني: وإن كان الإبصار بطارئ على العين من جدري أو رمية أو قرحة أو غير ذلك؛ فلا قود فيها، وفيها: يحسب ما بقي. وقيد ابن الماجشون نفي القصاص بما إذا كان النقص فاحشاً، قال: وأما النقص اليسير فله النقصان. وفرق ابن القاسم في المدونة: بأن أصيبت عمداً فله القصاص ولو أخذ لها أولاً عقلاً، وإن أصيبت خطأ فليس له إلا بحساب ما بقي، ووقع في بعض النسخ قول ابن الماجشون مقدماً على قول ابن القاسم، والنسخة الأولى أظهر.

وَلَوْ فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ الأَعْوَرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ اقْتُصَّ أَوْ أَخَذَ دِيَتَهَا أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ بهِ الْخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ... تصوره ظاهر، واستشكل تخيير مالك هنا بين القصاص والدية مع أن مشهور مذهبه تحتم القصاص في العمد، وأجيب بأن الموجب للتخيير هو عدم المساواة؛ لأن عين المجني عليه ديتها ألف دينار بخلاف عين الجاني، فكان كمن كفه مقطوعة وقطع يد رجل من المرفق، ولم يرتض بعضهم هذا الجواب وجعل قولاً ثالثاً بالجراح بالتخيير من هنا، والأقرب هنا الفوات الأول، ولا حاجة إلى هذا الإلزام، فإنه قد نقل عن مالك قول بالتخيير صريح. قوله: (وَقَالَ بهِ) أي: تكون ديته ألف دينار من ماله، ولم يرد أنهم قالوا بالتخيير. فَلَوْ فَقَأَ الأَعْورُ مِنْ ذِي عَيْنَيْنِ مِثْلَهَا لَهُ؛ فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ أَوْ أَخَذَ أَلْفَ دِينَارٍ دِيَةَ مَا تَرَكَ وَإِلَيْهِ رَجَعَ. وَعَنْهُ: خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ. وَعَنْهُ: الْقِصَاصُ فَقَطْ ... هذه عكس التي قبلها، ومعناها: إذا فقأ الأعور لصاحب عينين مثل العين الباقية له، في المسألة لمالك ثلاثة أقوال؛ الأول: للمجني عليه أن يقتص من عين الأعور وله أن يأخذ دية عينه خمسمائة دينار. الثاني وإليه رجع مالك: أنه يخير الجاني بين القصاص وبين دية عين الأعور ألف دينار، وهذان القولان في المدونة. والثالث رواه أشهب في الموازية: ليس إلا القصاص، واستشكل أيضاً قول مالك بالتخيير هنا كما استشكلوه في المسألة السابقة، وأجيب أنا إنما خيرنا الصحيح هنا لأنه إن قصد القصاص فهو له؛ لأن الفرض أن للأعور مثل ما فقأ، وإن قصد الدية فقد دعا إلى الصواب، ورد بأنه يلزم منه إجبار القاتل على الدية؛ لأن أولياء المقتول دعوا أيضاً إلى الصواب.

وَلَوْ فَقَأَ الَّتِي لا مِثْلُهَا لَهُ؛ فَنِصْفُ دِيَةِ فَقَطْ فِي مَالِهِ يعني: ولو فقأ الأعور الصحيح العين التي ليست له، فعليه نصف دية فقط، ولا خلاف في ذلك لتعذر القصاص فيه لانعدام محله، ولأن ديتها خمسمائة. وقوله: (فِي مَالِهِ) أي: في مال الأعور؛ لأنه جناية عمد، وإنما امتنع القصاص لعدمها في حقه. وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَيِ الصَّحِيحِ فَالْقِصَاصُ وَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ فَقَأَهُمَا فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ وبَدَأَ بالْمَعْدُومَةِ، فَأَمَّا لَوْ بَدَأَ بالَّتِي مِثْلُهَا لَهُ ثُمَّ ثَنَّى بالأُخْرَى فَهُمَا كَالْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ... أي: ولو فقأ الأعمى عيني الصحيح، فقال ابن القاسم في المدونة: يقتص للمجني عليه منعين الأعور، ويأخذ نصف الدية للعين الأخرى، وظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن يكون فقأهما في دفعة واحدة أو بدأ بالتي ليست له، وأما لو بدأ بالتي مثلها له؛ فعليه القصاص وألف؛ لأنه لما فقأ التي له مثلها وجب القصاص، ثم صار أعور، فيلزم أن يجب في عينه ألف دينار، وفي بعض النسخ عوض قوله: فألف مع القصاص فهما كالمتقدمتين، وهي معناها؛ لأن معناها كالصورتين المتقدمتين، فتبدأته بالتي مثلها له تشبه فقأ الأعور عين الصحيح التي مثلها له، فيكون له القصاص، وتثنيته بالأخرى التي لا مثلها له يشبه فقأ الصحيح عين الأعور، والنص عن ابن القاسم وأشهب مثله حكاه المصنف. صاحب النكت: قول ابن القاسم هنا خلاف قوله في الأعور يفقأ عين الصحيح التي مثلها له، أن الصحيح مخير، يجب على مذهبه إذا فقأها الأعور أن يكون الصحيح مخيراً في فقأ عين الأعور بعينه أو يأخذ فيه ألف دينار أو خمسمائة دينار في عينه الأخرى التي ليس لها مثل، وإنما جواب ابن القاسم في المسألة على ما قاله مالك في أحد أقواله: أنه ليس له إلا القصاص. وأما قول أشهب فإنما بنى على مذهبه الذي اختار من قول علي، وأما على قول

ابن القاسم في المدونة فإن بدأ بالتي لا نظير لها فله فيها خمسمائة دينار، وهو في الأخرى مخير إما أن يقتص أو يأخذ ألف دينار، وإن بدأ بالتي مثلها للأعور؛ فهو مخير في أن يقتص منها بعين الأعور أو يأخذ ألف دينار، له في التي لا مثل لها ألف دينار بكل حال، لأنه عين أعور. انتهى. وَلَوْ قُلِعَتْ سِنٍّ وَرُدَّتْ وَنَبَتَتْ فَالْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَفِي الْعَقْلِ فِي الْخَطَأِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَلَوْ أَخَذَ الْعَقْلَ قَبْلَ نَبَاتِهَا ثُمَّ نَبَتَتْ لَمْ يَرُدَّ الْعَقْلَ اتِّفَاقاً ... اللخمي: إذا قلعت سن فردها فنبتت أو نبت مكانها [703/ب] أخرى، أو قطعت أذنه فردها فثبتت؛ فإن كان القلع والقطع عمداً أوجب القصاص اتفاقاً، لأن المعتبر في القصاص يوم الجرح، فأما في العقل، فإن أخذ العقل قبل الثبوت أو النبات، فحكى المصنف وصاحب البيان الاتفاق على عدم الرد، وإن لم يأخذ العقل، فقال ابن القاسم: لايمنع ثبوتها من أخذ العقل لأن لها عقلاً مسمى، فكانت كالموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة، ثم يعود الموضع كما كان قبلهن، فكأنه لا يسقط عقلهن بالاتفاق، وصرح اللخمي ورأى أشهب أن ثبوت السن يسقط العقل كسائر جراحة الخطأ غير المقدرة، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه لما كانت السن فيها مقدرة كان ردها إلى الموضحة وأخواتها أولى. اللخمي: ويختلف على هذا في إشراف الأذنين إذا ردهما وكان القطع خطأ، فعلى القول أن فيهما حكومة لا يكون له شيء، وعلى القول أن فيهما الدية تكون فيهما الدية كالموضحة، وستأتي مسألة عود السن من كلام المصنف، وسيتكلم هناك على عود البصر. وَوِلايَةُ الاسْتِيفَاءِ لأَقْرَبِ الْوَرَثَةِ الْعَصَبَةِ الذُّكُورِ. أي: استيفاء النفس دون الجراح، ويدل عليه قوله: (لأقْرَبِ الْوَرَثَةِ) لأن حق الوارث إنما يكون بعد الموت. وقوله: (لأَقْرَبِ الْوَرَثَةِ) أي: فلا يكون للأبعد حق مع الأقرب

كالإخوة مع البنين. قال صاحب البيان: وترتيبهم في القيام بالدم كترتيبهم في ميراث الولاء والصلاة على الجنائز، وفي النكاح لا يشذ من ذلك على مذهب ابن القاسم إلا الجد مع الإخوة، فإنه بمنزلتهم في العفو عن الدم والقيام به. وقوله: (الْعَصَبَةِ) احتراز من غير العاصب كالزوج والأخ للأم، واحترز بالذكور من الإناث، فإنه سيذكر ما فيهن من التفصيل والخلاف. قال في المدونة: وإن كان عشرة إخوة وجَد؛ حلف الجد ثلث الأيمان، وحمله ابن رشد على ظاهره من العموم في الخطأ والعمد، وقال: أما الخطأ فصواب، وأما العمد فالقياس على مذهبه أن تقسم الأيمان بينهم على عددهم، وحمله بعض شيوخ عبد الحق على الخطأ، وأما العمد فكما ذكر ابن رشد أنه القياس، وعن أشهب: لا حق للجد مع الإخوة في القيام ولا في العفو، فالإخوة على مذهبه يقسمون دونه، فإن استعانوا بالجد قسمت على عددهم، نقله صاحب المقدمات، ونقل عبد الحق عنه ما يخالف هذا فانظره. وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ النِّسَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةٌ كَذَلِكَ عبر اللخمي عن الأشهر بالمعروف، فقال: من قوله أن للنساء مدخلاً في الدم، وحكى ابن القصار عن مالك أنه لا مدخل للنساء في الدم جملة، واحترز بقوله: (إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةٌ) مما لو كان في درجتهن عصبة، كالبنات مع الابن، والأخوات مع الأخ، فإنه لا دخول حينئذٍ في عفو ولا قود باتفاق، والمراد بالعصبة العاصب؛ لأن العاصب الواحد يحجبهن، ويشترط في النساء على القول بدخولهن، أن يكن ممن يرثن، احترازاً من العمات وشبههن، وقد يؤخذ من كلامه هذا الشرط؛ لأنه قال في الذكور الورثة، فأشار إلى اشتراط الوراثة، وإذا اشترطت الوراثة في الذكور فأحرى النساء، ويشترط فيهن أيضاً أن يكن ممن لو كان في درجتهن ذكر ورث بالتعصيب احترازاً من

الأخوات للأم، وإذا فرعنا على الرواية بدخولهن مع العصبة، فاختلف قول مالك، هل يدخل في القتل دون العفو؟ ابن عبد السلام: والرواية بنقض ذلك على القتل هي التي يجري عليها أكثر فروع المدونة، وأشار المصنف بقوله: (كَذَلِكَ) إلى أن ولاية الاستيفاء للأقرب منهن، واختلف في الأمر؛ فرأى مالك وابن القاسم أن لها القيام بالدم، وأباه أشهب. إِلا أَنَّ الْعَصَبَةَ الْوَارِثِينَ فَوْقَهُمْ سَوَاءٌ لما كان قوله: (إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةً) أعم من أن يكون أسفل منهن عصبة، وقوله: (فَوْقَهُمْ) حال من النساء؛ أي: في حال كون النساء كائنات فوق العصبة الوارثين، كالبنت مع الإخوة. وقوله: (سَوَاءٌ) خبر (أَنَّ) وقوله: (سَوَاءٌ) أي: في القيام بالدم، ومن قام به فهو أولى، ولا عفو إلا باجتماعهم، ولم يرد بالتسوية أنهم كإخوة أو أعمام سقط القتل بعفو بعضهم، وإن كان ذلك ظاهر التسوية، وهو مذهب المدونة، وزاد عياض قولين آخرين؛ أحدهما وهو لابن القاسم في العتبية: التفصيل بني أن يثبت الدم ببينة كمذهب المدونة، أو يثبت بالقسامة، فلا حق للنساء معهم في عفو ولا قيام؛ لأنهم هم الذين لا يستحقوا الدم بقسامتهم. والثاني لمالك من رواية مطرف وابن الماجشون: إن ثبت ببينة فالنساء أولى بالعفو، وإن ثبت بقسامة فلا عفو إلا باجتماعهم، ومن قال بالدم فهو أولى. وقال ابن عبد السلام: (قُرْبُهُمْ) بالقاف والراء والباء الموحدة، والأحسن رفع الباء على الابتداء، وقوله: (سَوَاءٌ) خبره، والجملة خبر، وليس كما رأيته في بعض النسخ (فَوْقَهُمْ) على الظرف؛ إذ لا معنى لها هنا، وقد بينا [704/أ] معناها، وهو أظهر. وَالعَصَبَةُ غَيْرُ الْوَارِثِينَ إِذَا ثَبَتَ الْقَوَدُ بقَسَامَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ كَذَلِكَ قوله: (غَيْرُ الْوَارِثِينَ) يريد أن النساء قد أخذن جميع المال، وهذا لا يجوز الجميع، وهن في درجة واحدة. وقوله: (إِذَا ثَبَتَ الْقَوَدُ بقَسَامَتِهِمْ) شرط في مساواتهم للنساء في

القيام بالدم، فله ذلك كما تقدم في الوارثين، وهو معنى قوله: (كَذَلِكَ) وهو مذهب المدونة من سماع عيسى، أن العصبة أحق بالقيام والعفو، وفهم من كلامه أنه لا حق للعصبة إذا لم يثبت الدم بقسامتهم، وهو متفق عليه. وَفِي مُسَاوَاةِ الأَخِ لِلْجَدِّ أَوْ تَقْدِيمِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أن الأخ وابنه مقدمان عليه، وهو الأظهر من باب التعصيب المحض، فكان كالولاء والنكاح والصلاة على التي، ولو كان كالميراث كما يقتضيه قول ابن القاسم لما سقط قول الأنثى مع من هو في درجتها. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لا تَدْخُلُ بنْتٌ عَلَى ابْنٍ، وَلا أُخْتٌ عَلَى أَخٍ مِثْلِهَا أي: وعلى المشهور من أن للنساء مدخلاً في الولاية من حيث الجملة، فأشار بقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) إلى أن مقابل الأشهر المتقدم ليس بمشهور، وهو كذلك، وقد تقدم أن اللخمي جعله مقابل المعروف، ولا إشكال في عدم دخولهن على الشاذ، وعلى هذا فما ذكره هنا متفق عليه. واحترز بقوله: (مِثْلِهَا) من الأخت الشقيقة مع الأخ للأب، فإنها تدخل عليه، وإذا لم تدخل الأخت للأب على الأخت لأب فأحرى ألا تدخل على الشقيق. وَلا أُخْتٌ عَلَى أُمٌ، وَلا أُمٌّ عَلَى بِنْتٍ ضابط دخول النساء بعضهن على بعض أنك تقدرهن ذكوراً، فإن صح دخولهن في الذكورة دخلوا في الأنوثة وإلا فلا، وذكر اللخمي في دخول الأم على البنات قولين؛ الأول: ما ذكره المصنف. والثاني رواه ابن القاسم عن مالك: لا تسقط الأم إلا مع الأب والولد الذكر. وَتَدْخُلُ الْبَنَاتُ مَعَ الأَبِ وَالْجَدِّ، وَالأَخَوَاتُ الأَشِقِّاءُ عَلَى الإِخُوَةِ للأَبِ أي: وتدخل الأخوات الأشقاء على الإخوة للأب.

وَلا تَدْخُلُ الأُمُّ عَلَى الابْنِ وَالأَبِ هو متفق عليه. قال ابن القاسم: ولا تسقط الأم إلا مع الأب ومع الولد الذكر. وَلا تَدْخُلُ الْعَصَبَةُ عَلَى الْبَنَاتِ وَالأَخَوَاتِ إِذَا حَرَزْنَ الْمِيرَاثَ أي: إذا حرزن البنات والأخوات، وهذا محمول على ما إذا ثبت الدم ببينة، وإن لم يحمل على هذا لزم أن يعارض هذا بما قاله أولاً: أن العصبة غر الوارثين إذا ثبت الدم بقسامتهم كذلك، فوجب أن يقيد الأول بما إذا ثبت بقسامة، والثاني إذا ثبت ببينة. وَإِنْ كَانَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ غَائِبٌ انْتُظِرَ وَكُتِبَ إِلَيْهِ إِلا أَنْ يُيْئَسَ مِنْهُ كَأَسِيرٍ وَشِبْهِهِ فَلا يُنْتَظَرُ ... أي: فإن غاب بعض مستحقي الدم فلينتظر، هكذا في المدونة. ابن يونس: إلا في البعيد الغيبة، بأن حضر القتل، ونقله محمد عن ابن القاسم، وقال أبو عمران: ظاهرها انتظار الغائب وإن بعدت غيبته، وفرق سحنون بين قريب الغيبة وبعيدها، أما إن أمكن الكتاب إليه كتب ليعلم ما عنده، ونص قول سحنون عند ابن يونس: هذا فيمن بعد جدٍّا كأسير بأرض الحرب وشبهه، وأما من بعد من إفريقية إلى أرض العراق فليس من ذلك، وإلى تقييد سحنون أشار المصنف بقوله: (إِلا أَنْ يُيْئَسَ مِنْهُ ... إلخ). ابن عبد السلام: والذي نزل عليه أصول الفقه أنه لا يسقط حقه، بل يقيم له القاضي وكيلاً ينظر بالإصلاح.

وَيُحْبَسُ وَلا يُكْفَلُ؛ إِذْ لا كَفَالَةَ فِي قِصَاصٍ وَلا جُرْحٍ كَمَا يُحْبَسُ لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ فِي الْعَمْدِ حَتَّى يُزَكَّى وَلا يُكْفَلُ بخِلافِ قَتْلِ الْخَطَأِ وجِرَاحِهِ، فَإِنَّهُ مَالٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ عَلَيْهِ ... أي: إذا انتظر الغائب حبس القاتل، ولايؤخذ من القاتل كفيل، وشبه المصنف هذا بما إذا أقام الولي شاهداً يوم العمد بأنه يحبس المشهود عليه حتى يزكى ذلك الشاهد، وهو تشبيه ظاهر بعيد الحكم بطريق الأولى؛ لأن الكفالة إذا لم تقبل وسجن مع عدم كمال البينة فأولى إذا كملت. ابن عبد السلام: ولا يجري هنا الخلاف الشاذ في الكفالة تكون بالدماء على ما تقدم في الكفالة، وهو قول يشبه مذهب الليثي، وإذا عجز الكفيل على هذا القول أدى أرش الجرح، فإن من أجاز الكفالة على هذا الوجه إنما يجيزها بشرط رضا من له الحق، والفرض هنا أنه غائب. وقوله: (بخِلافِ قَتْلِ الْخَطَأِ ... إلخ). تصوره ظاهر. وقوله: (عَلَى الْعَاقِلَةِ) أي: في القتل والجراح إذا كانت الثلث فأكثر، وعليه إذا كان دون الثلث، ومذهب المدونة عدم الحبس في الخطأ، وقيده بما إذا كان مشهور العين لا يحتاج إلى الشهادة على عينه، وأما إذا كان غير مشهور فيحبس ليشهد على عينه، وقاله سحنون، ولا يبرئه من الحبس إلا حميل بوجهه. وفي العتبية: أنه يحبس في الخطأ. أبو عمران: ولعله يريد فيما دون الثلث ليشهد على عينه إذا كان مجهولاً، وإن كان سحنون فهم منه الخلاف. وَوَرَثَةُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ مِثْلُهُ أُمَّاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُا، وَلَوْ كَانَتْ بِنْتٌ مَعَ ابْنِ فَمَاتَتْ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهَا مُتَكَلِّمٌ إِلا فِي الْمَالِ إِنْ عَفَا، بخِلافِ مَا لَوْ كَانَتْ مَعَ بنْتٍ أَوْ عَصَبَةٍ ... [704/ب] يعني: إذا كان المستحق لقصاص واحد أو أكثر، فإذا مات المستحق تنزلت ورثته منزلته، فإن كان له حق في العفو والقتل فورثته كذلك، وإن لم يكن له حق في

العفو؛ كالبنت مع الابن، فورثتها كذلك لا حق لهم إلا في المال إن عفواً. وقوله: (أُمَّاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُا) يحتمل سواء كان المستحق أُماً أو غيرها، ثم بين المصنف ما ذكره بقوله: (وَلَوْ كَانَتْ بِنْتٌ مَعَ ابْنِ) وهو ظاهر. فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ؛ فَثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ وَسُحْنُونٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيباً مِنَ الْمُرَاهِقِ لَمْ يُنْتَظَرْ ... يعني: فإن كان في المستحقين صغيراً، فثلاثة أقوال؛ الأول لابن القاسم في المدونة: أنه لا ينتظر، وهذا مفهوم كلام المصنف، لأن عادته جعل الأول من الأقوال للأول من القائلين، وأن صدر الثالث هو القول الأول. والثاني لعبد الملك: أنه ينتظر كالغائب. والثالث لسحنون: أنه إن قارب البلوغ انتظر، وإن لم يقربه لم ينتظر، وقول من قال أن المصنف خالف قاعدته؛ لأن قاعدته تقديم الثبوت ليس بظاهر، بل عادته كما ذكرنا جعل الجزء الأول من الثالث لقائل الأول، سواء كان الجزء الأول ثبوتاً أو سلباً، وما ذكر المصنف من أن مذهب ابن القاسم عدم انتظار القتل، ولا ينتظر أن يكبر ولده فيبطل الدم، وإن عفوا لم يجز عفوهم إلا على الدية لا أقل، وإن كان أولاد المقتول صغاراً أو كباراً؛ فإن كان الكبار اثنين فصاعداً فلهم أن يقسموا ويقتلوا ولا ينتظر بلوغ الصغار، وإن كان عفا بعضهم فللأصاغر حظهم من الدية، وإن لم يكن إلا ولدان صغير وكبير؛ فإن وجد الكبير رجلاً من ولاة الدم يحلف معه، وإن لم يكن ممن له العفو حلفا خمسين يميناً، ثم للكبير وإن لم يجد من يحلف معه حلف خمساً وعشرين يميناً، واستؤني بالصغير فإذا بلغ حلف خمساً وعشرين واستحقوا الدم. انتهى. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ عَفَوْا فَلِلصَّغِيرِ نَصِيبُهُ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ أراد بالمشهور قول ابن القاسم، فإذا قلنا: لا ينتظر وعفا الكبار، كان للصغير نصيبه من دية عمد. وفي قوله: (مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ) فائدة حسنة؛ وهي أنهم لو صالحوا على دية خطأ

أو على أقل لم يلزم الصغير ذلك، لكن في بناء هذا الفرع على المشهور تطويل، هو جار على المشهور وغيره. فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُطْبقٌ لَمْ يُنْتَظَرْ، بخِلافِ الْمُغْمَى وَالْمُبَرْسَمِ لو كان عوض الصبي مجنون مطبق لمي نتظر وليس كالصبي؛ لأن الصبا معلوم الزوال، بخلاف المغمى والمبرسم فإنهما ينتظران لرجاء إزالتهما عن قرب. والمبرسم بفتح السين اسم مفعول. الجوهري: وبرسم فهو برسم والبرسام علة معروفة. قال غيره: وهو ورم في الرأس يثقل منه الدماغ. الجواليقي: وهو معروف. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبيرٌ فَلِلْوَلِيِّ النَّظَرُ فِي الْقَتْلِ أو الدِّيَةِ كامِلَةٌ. وَقَالَ أَشْهَبُ: أَوْ فِي أَقَلَّ مِنْهَا ... يعني: فإن لم يكن مع الصغير كبير فوليه بالخيار، إن شاء اقتص له أو أخذ الدية. ابن عبد السلام: إلا في الدية للعمد؛ أي في دية عمد لا في أقل منها، وهذا مذهب ابن القاسم. وقال أشهب: للولي أن يصالح بأقل من الدية، والمتبادر للذهن على قول ابن القاسم الذي يرى أن الواجب في العمد إنما هو القصاص، أن يكون للولي المصالحة على أقل من الدية، لقدرة الولي على تحصيل الدية، وهكذا أشار إليه ابن رشد، إن كان واحد لم يجز على أصله، وقيد أشهب بألا يتهم فيه بمحاباة لقلته، وكذلك قيد أيضاً قول ابن القاسم بما إذا كان القاتل مليًّا، وإن لم يكن مليًّا جاز الصلح بأقل منها. ابن القاسم: فإن لم يكن للصغير ولي إلا السلطان فإنه يقيم لهم وليا فيكون كالوصي. ابن عبد السلام: وهو حمل يقوي ما قلناه أولاً أن أصل المذهب أن يقدم للصغير أو للغائب ولي، ولا ينتظر ولا يسقط حقه أيضاً على القول الآخر.

وَإِذا قُطِعَ الصَّبيُّ عَمْداً؛ فَلِلأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ النَّظَرُ لا لِغَيْرِهِمَا، أَمَّا إِذَا قُتِلَ فَالأَوْلِيَاءُ أَوْلَى ... يعني: أن الصغير ما دام حيَّاً فالناظر له في الجناية عليه أبوه أو وصيه كماله، وغيرهما أجنبي. وأما إذا قتل فالأولياء أحق من الوصي؛ لأن بموت الصبي نظر الوصي، وللمحجور عليه أن يعفو عن دمه عمداً أو خطأ، كان المحجور بالغاً أو غير بالغ، ويكون عفوه عن الخطأ من ثلثه بالاتفاق، واختلف في الجرح والشتم وما ينال من بدنه أو عرضه، فأجاز ابن القاسم في الواضحة عفوه عنه، كان الجرح عمداً أو خطأ، ومنع ذلك مطرف وابن الماجشون وأصبغ. وَلَوْ صَالَحَ الأَبُ أَوِ الْوَصِيُّ عَنِ الصَّغِيرِ فِي جُرْحٍ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ عَلَى الْجَانِي بأَقَلَّ مِنْ دِيَتِهِ بالنَّظَرِ جَازَ لِعُسْرَتِهِ كَالْقَوَدِ .... الضمير في (عُسْرَتِهِ) راجع إلى (الْجَانِي) قال: ويقع في بعض النسخ بإثر (عُسْرَتِهِ) (الْقَوَد) وليس لها معنى، ولعلها من خطأ الكاتب. لفظة (عَلَى) الداخلة على الجاني لا معنى لها. انتهى وفيه نظر. ويمكن أن يكون في (لِعُسْرَتِهِ) عائداً على الصبي. وقوله: (الْقَوَدِ) ليس لها معنى، إنما الثابت عندنا في النسخ (كَالْقَوَدِ) ومعناها: كما أجاز القود له جاز صلحه. وقوله: (عَلَى الْجَانِي) فيه حذف [705/أ] مضاف؛ أي: على جناية الجاني، فلا يدعي في ذلك غلط، وفي بعض النسخ (وَلِعَشِيرَتِهِ الْقَوَدُ) بالشين المعجمة، وهي ظاهرة. وَأَخْذُ الْمَالِ فِي قَتْلِ عَبْدِ الصَّغِيرِ أَحَبُّ إِلَيْهِ؛ إِذ لا نَفْعَ لَهُ فِي الْقِصَاصِ نحوه في المدونة، وهو ظاهر التصور. وقوله: (أحب إليه) هو عائد على ابن القاسم، فإن قلت: لمَ لمْ يتعين أخذ المال. قيل: قد يكون أخذ المال في بعض الأوقات سبباً للجرأة، فيرى الولي القصاص أولى.

وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ وَمُسْتَحِقُّ الطِّرَفِ قُتِلَ وَلَمْ يُقْطَعْ يعني: إذا قطع يد واحد وفقأ عين آخر، فإنه يقتل لولاة المقتول ولا شيء للآخرين؛ لأن القتل يأتي على ذلك كله، إلا أن يقصد المثلة فيقتص منه أولاً ثم يقتل، كما في الرجل الواحد، وروى بعض العلماء خارج المذهب: أنه يقتص لصاحب اليد ونحوه ثم يقتل وإن لم يقصد المثلة، وهو القياس عند اللخمي. وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَتْلَ لِلْمُسْتَحِقِّ خِلافاً لأَشْهَبَ، وَيُنْهَى عَنِ الْعَبَثِ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ مَنْ أُذِنَ عُزِّرَ وَوَقَعَ الْمَوْقِعَ، وَلا يُمَكِّنُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ... لما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم القاتل للمستحق. فإن تولى المستحق القتل من غير إذن الحاكم عزر لتعديه على الإمام، ولئلا يجترأ على الدماء ووقع القتل في موقعه، ونص في المدونة على أنه إن قتلوه قبل أن ينهى به إلى الإمام أنه كذلك. ابن الماجشون: وإن قتلوه بعد أن شهدت البينة لهم عليه بالقتل قبل الإعذار بالقتل، فإن جرح الذين شهدوا بالقتل عليه فإنهم يقتلون، وإن لم يجرحوا أدبوا، وفي سماع أصبغ إذا كان للمقتول وليان فقتل أحدهم القاتل؛ فليس عليه قتل ويغرم لصاحبه، يريد نصف الدية لأنه أبطل له حقه؛ إذ لعله يعفو عنه، وقاله أصبغ، ولا يمكن فيما دون النفس؛ أي: من القطع والجرح اتفاقاً، ولا سؤال على قول أشهب لمساواة النفس عند الجرح، والفرق للمشهور أن المتولي فيما دون النفس هو المجني عليه، أو بحضرته فيحمله على ما أصابه على شدة الخنق؛ يريد: أي في المثلة بخلاف القتل. وَيَقْتَصُّ لَهُ مَنْ يَعْرِفُ الْقِصَاصَ، وَأُجْرَةُ مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَقِيلَ: عَلَى الْجَانِي ... أي: ويقتص للمجروح من يعرف القصاص؛ إذ ليس كل الناس يعرف ذلك.

ابن عبد السلام: ولابد أن يكون من أهل العدالة، وأجرة من يستوفي القصاص على المستحق، هذا هو المشهور، والثاني ذكره ابن شعبان، ومنشأ الخلاف هل الواجب على الجاني التمكين من نفسه أو التسليم، والأول هو اختيار ابن رشد وابن شعبان وغيرهما. وَلا يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ بالاسْتِنَادِ إِلَى الْحَرَمِ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ أطلق في القصاص ليعم النفس والطرف، تنبيهاً منه- رحمه الله- على تفصيل أبي حنيفة بين الطرف فيقتص منه في الحرم، وبين النفس فلا يقتص منه في الحرم، ولكن يلجأ إلى الخروج بألا يبايع ولا يكلم، فإذا خرج قتل، لا يعممه إذا قتل وهو في الحرم. قال في العتبية: والحرم أحق أن يقام فيه حدود الله ولا ينتظر أن يفرغ من حجه، والقياس على الطرف أو من قتل في الحرم، واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَءَامِناً) [آل عمران: 97] ولكل من الفريقين أدلة أكثر من هذا. وقوله: (وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ) إن جعلنا (أل) في المسجد للجنس فظاهر، لكن الظاهر بقرينة ذكر الحرم أنهما أرادا المسجد الحرام، لكن لا يفهم كلامه على الخصوصية بل لمساواة سائر المساجد له في منع إقامة الحدود فيها. وَيُؤَخِّرُ قِصَاصُ مَا سِوَى النَّفْسِ حَتَّى يَبْرأَ قوله: (مَا سِوَى النَّفْسِ) (ما) عامة فتعم سائر الجراح؛ لما رواه الدارقطني من حديث محمد بن خالد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من الجراح حتى ينتهي. ومحمد بن خالد وثقه ابن معين وضعفه أبو داود وغيره. وروى يحيى بن أبي أنيسة ويزيد بن عياض عن أبي الزبير عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسْتَاتَى بالجراحِ سنةٌ". لكن يحيى ويزيد متروكان.

وروى عن جابر أيضاً: أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيد، فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل واستقاد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فعنتت رجله وبرأت رجل المستقاد منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ليس لك شيء إنك أبيت". وهذا أشبه عندهم من الأولين. وظاهر قوله: (حَتَّى يَبْرَأَ) أنه ينتظر البرء ولو زاد على السنة، وهو مذهب المدونة. وقال أشهب: ليس بعد السنة انتظار، لكن قيده عياض بالخطأ، فقال: يريد في الخطأ، ويعقل الجرح بحالها عند تمامها ويطالب بما زاد بعد، وظاهر كلامه أيضاً أنه إذا برئ قبل السنة اقتص منه وهو قول الأكثر، وذهب ابن شاس إلى أنه لابد من الاستيناء سنة لتتم عليه الفصول الأربعة مخافة أن يقتص. فَإِنْ أَفْضَى إِلَى النَّفْسِ قُتِلَ وَسَقَطَ [705/ب] الْقَطْعُ وَالْجُرْحُ إِلا عِنْدَ قَصْدِ الْمُثْلَةِ أي: فإن أفضى الجرح إلى النفس قتل الجاني بعد القسامة إن شاء الأولياء القتل، ولهم أن يبقوا على حقهم في الجرح والقطع لاندراجهما في النفس، إلا أن يقصد بهما المثلة ولا يسقطان. وعلى هذا فقوله: (إِلا عِنْدَ قَصْدِ الْمُثْلَةِ) استثناء متصل. وقول ابن عبد السلام: أنه منفصل، وأنه لو حمل على الاتصال إلى أن يفعل في الجاني أكثر مما فعل بمجرد قصده ليس بظاهر؛ لأن المستثنى قصد المثلة بالقطع والجرح لا مجرد القطع، والله أعلم. وَإِن تَرَامَى إِلَى زِيَادَةٍ دُونَ النَّفْسِ أَوْ لَمْ يَتَرَامَ اقْتُصَّ مِنْهُ فَإِنْ سَرَى مِثْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ اسْتَوْفَى، وَإِنْ وَقَفَ دُونَهُ أَخَذَ أَرْشَ الزَّائِدِ ... أي: فإن ترامى دون النفس قطع أو جرح إلى زيادة النفس، أو لم يترام اقتص من الجاني قدر ما جرح الجاني، مثل جرح المجني عليه أو زاد على جرح المجني عليه وأن يموت الجاني، فقد استوفى المجني عليه حقه من القصاص، ولا شيء للجاني في الزائد

وإن لم يصل إلى ما وصل إليه جرح الجاني، وهو معنى قوله: (وَقَفَ دُونَهُ) أي: جرح الجاني وقف دون ما سري إليه جرح المجني عليه، وأخذ المجني عليه أرش الزائد. وَيُؤَخِّرُ الْعَقْلُ فِي الْخَطَأِ أَيْضاً، فَإنْ بَرِئَ عَلَى عَثَمٍ فَحُكُومَةٌ، وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ فَلا شَيْءَ فِيهِ، وَفِيمَا لا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْقَوَدُ ... وتؤخر الدية، وهو معنى قوله: (الْعَقْلُ) إلى البرء، وإلى ذلك أشار بقوله: (أَيْضاً) لأنه قد يتول الأمر إلى النفس أو يصير إلى ما تحمله العاقلة، فإن برئ على شين فعلى الجاني حكومة، وسيأتي تفسيرها، وإن برئ على غير شين فلا شيء فيه؛ أي: لا عقل ولا أدب، أما نفي الأدب فلأنه لم يتعهد، وأما نفي العقل؛ لأنه غير مقدر فيه شيء، وكل ما ليس بمقدر فإنما فيه بحسب الشين، والفرض انتفاؤه، وسيتكلم المصنف على ما فيه عقل مسمى. وقوله: (وَفِيمَا لا يُسْتَطَاعُ) هو معطوف على قوله: (فِي الْخَطَأِ) أي: يؤخر العقل في الجرح الذي لا يستطاع فيه القود إذا كان عمداً، ككسر عظام الصدر والعنق والصلب، فإن برئ على غير شين فلا عقل فيه، وعليه هنا الأدب لكونه عمدا، وإن برئ على شين فحكومة. وَفِي تَأَخِيرِ الْمُقَدِّرِ وَنَحْوِ الْجَائِفَةِ وَالْمَامُومَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَيَُخَّرُ الْمُقَدَّرُ فِيهِ وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ اتِّفَاقاً ... أي: وفي تأخير عقل الجرح المقدر فيه شيء نحو الجائفة والمأمومة وعدم تأخيره إلى أن يبرأ، فحذف معطوفاً، وغاية التأخر لابن القاسم، وعلله في المجموعة بأنه قد يجب على العاقلة دية نفس بقسامة، ونفي التأخير لأشهب؛ لأنه لما كان في هذا عقل مسمى لم يكن للتأخير فائدة، ألا ترى أنه لو برئ على غير شين لكان ذلك القدر فيه بالاتفاق كما صرح به المصنف، وأطلق المصنف قول أشهب، وقيده أشهب بأن يبلغ الثلث؛ لأن عقل الموضحة والمنقلة لا يعجل عنده، ولا يقال: إنه مثَّل بما بلغ الثلث؛ لأن المثال لا يختص.

أشهب على نقله في النوادر: لا جرح وتحمل العاقلة أو له كالجائفة والمأمومة، ومواضح تبلغ ثلث الدية فقد لزم العاقلة الثلث الآن، وله تعجيل ما حل منها، وما تناهى إلى زيادة فله ما تناهي ويقع، وفي غير المقدر في نحو الجائفة فيكون فيه حذف مضاف؛ أي: وفي تأخير، ويكون (فِي نَحْوِ الْجَائِفَةِ) بدل من قوله: (وَفِي غَيْرِ الْمَقَدَّرِ). وَالْمَازِنُ إِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ فَحُكُومَةٌ، وَقَالَ سُحْنُونٌ: بحِسَابِهِ؛ لأَنَّهُ مُقَدَّرٌ القول بالحكومة هو المشهور، وأكثرهم حمل قول سحنون على الخلاف، ورآه في النكت وفاقاً، وقال: إن خرم العظم وسلم المارن ففيه الاجتهاد، وإن خرم ما دون العظم، فذلك الخرم كالقطع فيكون ذلك بحساب ما نقص المارن بعد البرد، وهكذا في الموازية. قال: وإلى هذا يرجع ما قال ابن القاسم وسحنون، ولا يخرج عن هذين الوجهين. وَيُؤَخَّرُ لِلْحَرَّ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَمرضِ الْجَانِي هذا خاص بما دون النفس. وقوله: (الْمُفْرِطَيْنِ) لأنهما اللذان يخشى فيهما على الجاني، ونص مالك على التأخير في السرقة لشدة البرد. ابن القاسم في كتاب السرقة: وإن كان الحر مما خوفه كالبرد فأراه مثله، وجزم بذلك في كتاب الرجم، فقال: والحر عندي بمنزلة البرد، وظاهر الموازية عدم التأخر، والخلاف مبني على الخلاف في تحقيق العلة. وقوله: (وَمَرَضِ) أي: يؤخر الجاني؛ لأنه قد يتهم عليه الموت فيؤدي إلى أخذ النفس بالطرف. وَتُؤَخَّرُ الْمُوَالاةُ فِي قَطْعِ الطَّرَفِ، بخِلافِ قَطْعِ الْحِرَابَةِ يعني: إذا اجتمع عليه قطع طرفين فأكثر وخيف عليه من قطعهما في فور واحد؛ فرَّقا عليه، فإن جنى على اثنين كان يقدر في الحال على جناية أحدهما قدمت، وإن كان يطيق على واحدة منهما على الانفراد وكأن الجنايتين في فور واحد تنازعا في الابتداء، فينبغي [706/أ] أن يُقرع بينهما.

ونقل أبو الحسن: أنه إذا اجتمع على رجل حدان لله جميعاً، أو لآدمي، أو أحدهما لله، فإن كان فيه محل لأحدهما وهما جميعاً لله؛ يرى أكثرهما كالحد للزنى وشرب الخمر، فيحد للزنى إلا أن يخاف عليه من الثمانين، وإن كان الخوف أضعف ابتدئ بالحد عن الزنى، فأقيم عليه ثم يستكمل وقتاً بعد وقت، فإذا كمل المائة ضرب لشرب الخمر، وإن كان الحقان لآدمي؛ لأنه قطع هذا وقذف هذا، اقترعا أيهما يبدأ بإقامة حقه من غير مراعاة للآخر، وإن كان فيه محل لأحدهما دون الآخر أقيم عليه الأدنى من غير قرعة، وإن كان أحدهما لله والآخر لآدمي؛ بدئ بحق الله، إلا أن يكون فيه محمل إلا لما هو لآدمي فيقام عليه ويؤخر ما هو لله تعالى لوقت لا يخاف عليه، وإن كان الخوف في أي وقت وكان الحق لله تعالى ابتدئ به. انتهى. وكذلك أيضاً إذا خيف عليه التلف للموالاة في حق الله تعالى وحق الآدمي لا يوالي عليه بذلك، قال في المدونة: ولو قطع السارق شمال رجل؛ قطعت يمينه في السرقة وشماله قصاصاً، وللإمام أن يجمع ذلك ويفرقه بقدر ما يخاف عليه أو يأمن، وكذلك الحد والنكال يجتمعان جميعاً على رجل، فإن اجتمع عليه حد لله تعالى وحد للعباد بدئ بالحق الذي لله؛ إذ لا عفو فيه، فإن عاش أخذ منه حق العباد، وإن مات بطل حقه. قال في المدونة: إن سرق وقطع يمين رجل؛ قطع في السرقة فقط؛ إذ هي آكد ولا عفو فيه ولا شيء للمقطوعة يده، كما لو ذهبت يد القاطع بأمر من الله تعالى. وقوله: (بخِلافِ قَطْعِ الْحِرَابَةِ) هكذا في الموازية وغيرها، وعلل ذلك بأن حده إما القطع وإما القتل. ابن عبد السلام: وليس عندي بالبين؛ لأنا لا نخير الحاكم في قصاص المحارب مجرداً. انتهى. وإنما يجعل له الاجتهاد فيمن تعين له بعض تلك الحدود، وفي آية الحرابة، وعلى هذا فمن يستحق القطع في الحرابة لا ينبغي أن يقضي عليه بالنفي فلا يزاد عليه. انتهى. وهذا كلام ظاهر.

وَيُؤَخَّرُ الْحَامِلُ فِي النَّفْسِ لا بدَعْوَاهَا. وَقِيلَ: فِي الْجِرَاحِ الْمَخُوفَةِ لأن الحامل لو قتلت؛ لقتلت من غير تأخير- كما قلنا- نفسين، ولا تؤخر بمجرد دعواها. قال في المدونة: وينظرها النساء فإن صدقتها لم يعجل عليها، وظاهره أنه جعل القول بالتأخير في الجراح مخالفاً للأول وليس بظاهر، وهو تقييد ولا ينبغي أن يختلف فيه، وإنما ساقه في الجواهر على أنه تقييد، فقال: وتؤخر الحامل في النفس لعذر الحمل عند ظهور مخايله، ولا يكفي مجرد دعواها. محمد: وفي القصاص- الشيخ أبو محمد- يريد وفي الجراح المخوفة. وَتُؤَخَّرُ الْمُرْضِعُ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَنْ يُرْضِعُ هو ظاهر، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث العامرية. وَتُحْبَسُ الْحَامِلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَوْ بَادَرَ الْوَلِيُّ فَقَتَلَهَا؛ فَلا غُرَّةَ، فَإِنْ زَايَلَهَا قَبْلَ مَوْتِهَا؛ فَالْغُرَّةُ إِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ ... حبست إذ لا كفالة في ذلك، فإن بادر الوي بقتلها فلا غرة؛ لأن من شرط الغرة أن يزايلها قبل موتها. وقوله: (إِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ) يريد: وأما إن استهل ففيه الدية بالقسامة، كما سيأتي. وَمَنْ قَتَلَ بِشَيْءٍ قُتِلَ بهِ، إِلا الْخَمْرَ وَاللَّوَاطَ لقوله تعالى: {فَمَنِ اعتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ} [النحل: 126] وللحديث الصحيح: أنه رضخ رأس اليهودي الذي رضخ المرأة. ونبه على خلاف الحنفية في تخصيصهم القود بالسيف، لما ذكره البزار من حديث الحر أبي سهل بن مالك

عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ". قال أبو حاتم: والحر لا بأس به، ومبارك ذكره ابن حبان في الثقات وضعفه ابن معين في أحد قوليه، وذكر أيضاً عن الثوري عن جابر الجعفي عن أبي عازب مسلم بن عمرو عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْقَوَدُ بِالسَّيْفِ، وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ". عبد الحق: وكلها ضعيفة، وما ذكره المصنف يختص بمن قتل بقسامة، فإنه حكى في البيان والمقدمات أنه لا يقتل إلا بالسيف، وأشار إلى أن ذلك متفق عليه في المذهب. وقوله: (إِلا الْخَمْرَ وَاللّوَاطَ) الأولى ذكر القدر المشترك بينهما، وهو المعصية كما فعل صاحب التلقين. وَفِي النَّارِ وَالسُّمِّ قَوْلانِ أما النار، فقال الباجي: المشهور أنه يقتص به للعمومات السابقة، خلافاً لابن الماجشون، ولنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بعذاب الله. رواه البخاري. وأما السم، ففي المدونة: ومن سقي رجلاً سُماً فقتله؛ فإنه يقتل بقدر ما رأى الإمام، فحملها في البيان على أنه يقاد به، ويكون-أي الإمام- راجعاً إلى قلة السم وكثرته؛ لأن من الناس من يسرع موته باليسير، ومنهم من لا يسرع موته إلا بالكثير؛ لاختلاف أمزجة الناس، وهو ظاهر لفظ الإمام وظاهر الواضحة، وتأولها ابن أبي زيد على غير ظاهرها، فقال: يعني يجب القود بغير السم، وهذا المعنى المشار إليه نحوه لأبي عمران. فَيُخْنَقُ، وَيُغَرَّقُ، وَيُحَجَّرُ، وَلا عَدَدَ [706/ب] فِي ذَلِكَ، فَإِنْ قَتَلَهُ بعَصَوَيْنِ ضُرِبَ بِالْعَصَا حَتَّى يَمُوتَ ... يعني: ويقتص بالخنق والتغريق، وإذا قتله بالحجر قُتل به، وإن كان إذا كتف يغرق، فقال أشهب: يقتل، وكذلك كل ما هو من هذا المعنى من طرحه من مكان مرتفع،

وشرط عبد الملك في الحجر أن يكون ما يشدخ، قال: ولا يقتل بالرمي بالنبل ولا بالرمي بالحجارة؛ لأنه لا يأتي على ترتيب القتل، وهو من التعذيب. وقوله: (فَلَوْ ضَرَبَهُ بعَصَوَيْنِ) أي: ضربتين، ضُرب بالعصا حتى يموت، وهكذا قال مالك في المدونة. قال عنه ابن نافع: وذلك إذا كانت الضربة تجهزه، فأما أن يضربه ضربات فلا. اللخمي: واختلف إذا ضرب مثل العدد الأول فلم يمت، فقال ابن القاسم: يضرب بالعصا حتى يموت، وقال ابن مالك عند محمد: إن كانت العصا تجهز في ضربة ولا يكون شيء بين مختلف، فله أن يقتله بالعصا وإن شاء بالسيف، وأما ضربات فلا وليقتله بالسيف. وقال أشهب: إن رأى أنه إن زِيدَ مثل الضربتين مات زِيدَ وهذا أحسن، فإذا مات الأول عن خمس ضربات ضرب مثل ذلك العدد، فإن لم يمت ورأى أنه إن زِيدَ مثل الضربة والضربتين مات؛ فعل وإلا أجهز عليه بالسيف. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُطَوِّلُ فِي قَتْلِه؛ فَبالسَّيْفِ عَلَى الأَصَحِّ الأصح نص عليه في التلقين، وكذلك صححه القاضي أبو بكرن فقال: الصحيح من قول علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن يدخل في حد التعذيب فليترك إلى السيف، ومقابل الأصح هو ظاهر الإطلاقات. فَلَوْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ وَفَقَاً عَيْنَيْهِ قَصْداً لِلتَّعْذِيبِ فُعِلَ بهِ، وَإِنْ كَانَ مُدَافَعَةً فَالسَّيْفُ ... يعني: أن ما دون النفس يدخل فيها إلا أن يقصد التعذيب والُمثْلَة، ولو ضرب بالسيف فانكسر قبل قتله، فأخذ رمحاً وطعنه به، أو ألقاه في نهر فمات لقتله بالرمح أو التغريق، وعلى هذا فقوله: (فَالسَّيْفُ) مخصوص بمن قتل به.

وَمَهْمَا عَدَلَ الْمُسْتَحِقُّ إِلَى السَّيْفِ مُكِّنَ لأن عدل إلى الأخف. وَلَوْ قَطَعَ يَداً لِرَجُلٍ، وَرِجْلاً لآخَرَ، وَقَتَلَ آخَرَ، فَالْقَتْلُ يَاتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ هذا تكرار مع قوله أولاً: (وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ وَمُسْتَحِقُّ الطَّرَفِ قُتِلَ وَلَمْ يُقْطَعْ) وقد تقدم أنه ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يقصد المثلة، ووقع فرع يدل على خلاف هذا المعنى؛ وهو إذا قطع يد رجل عمداً، ثم قطع القاطع خطأ أو عمداً فصالح أولياؤه في العمد على مال، فقيل: لا شيء لمن قطعت يده؛ لأن الدية إنما أخذت على النفس. وقال محمد: إن أخذوا الدية في الخطأ أو العمد، فللمقطوع يده أخذ حقه من ذلك. اللخمي: والأول أحسن؛ لأن الدية إنما أخذت عن النفس ولم تؤخذ عن اليد. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ خَطَا فَلا يَسْقُطُ يعني: وأما ما كان من القطع خطأ فلا يسقط، كما لو قطع يد شخص خطأ، وفقأ عين آخر كذلك، ثم قتل آخر عمداً؛ فإن على العاقلة دية اليد والعين، ويقتص من الجاني في القتل، وهذا لا يختلف فيه. وَلَوْ قَطَعَ أَصَابِعَ عَمْداً ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ قُطِعَتْ مِنَ الْكَفِّ، إِلا أَنْ يُفْهَمَ التَّعْذيبُ فَيُفْعَلُ بِهِ كَذَلِكَ ... يعني: لا يندرج الجزء في الكل في النفس، فكذلك أيضاً لا يندرج الجزء في الكل والطرف، وكلامه ظاهر التصور.

وَفِي مُوَجَبِ الْعَمْدِ رِوَايَتَانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ: تَعَيُّنُ الْقَوَدِ، وَالتَّخْبيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ ... (مُوجَبِ) بفتح الجيم، اختلف فيما يوجب العمد، هل القصاص فقط وهي رواية ابن القاسم، أو التخيير بينه وبين الدية وهي رواية أشهب، وبها قال أشهب واختيار جماعة من المتأخرين؛ لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُؤَدِي، وَإِمَّا أَنْ يُؤّدِي، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ". قال جماعة: هذا الخلاف إنما هو في النفس، وأما الجرح العمد فإن أشهب يوافق المشهور، ونقل عن ابن عبد الحكم التخيير في جراح العمد كالنفس، وفرق الباجي بين الجراح والنفس على رواية أشهب؛ بأن الجارح يريد استيفاء الحال لنفسه، والقاتل إذا قتل ترك المال لغيره، فهو مضار بامتناعه من الدية. فَعَلى الأَوَّلِ لَوْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ أَوْ مُطْلَقاً سَقَطَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ. قَالَ: إِلا أَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ أَرَادَهَا فَيَحْلِفُ .... يعني: إذا فرعنا على رواية ابن القاسم وهي تعين القود، فإذا عفا عنه لم تبق له مطالبة، وسواء قال: عفوت عن القصاص، أو قال: عفوت وأطلق، فقوله: (مُطلَقاً) صفة لمصدر محذوف؛ أي: عفواً مطلقاً غير مقيد سقط القصاص لتصريحه بالعفو عنه، والدية لأنها غير واجبة له في الأصل. وفاعل (قَالَ) عائد على مالك، ولعله نسبه لمالك لإشكاله على عادته وعادة غيرهم أنهم يتبرءون من بعض المسائل ينسبونها لأهل المذهب بقولهم: قالوا. أو ينسبونها لمالك إشارة منهم إلى أنه ليس فيها إلا النقل، ووجه الإشكال الذي أشار إليه المصنف هنا ظاهر؛ لأن الدية إذا لم تكن واجبة له في الأصل فلا يقبل قوله في إرادتها، وعبر المصنف بقوله: (أَنْ يَظْهَرَ) وفي المدونة: لفظة (بَيْنَ) أقوى، ولهذا [707/أ] قال ابن عبد السلام: التحقيق إن كان الذي ظهر من ولي الدم أمارة قوية تدل على انه ما عفا إلا لأجل الدية؛ فيحلف ويبقى على حقه في القصاص إذا امتنع القاتل من

إعطاء الدية، وإن كانت تلك الأمارة ضعيفة لا تفيد إلا الشك أو ظناً ضعيفاً، فيحتمل ألا تعتبر ولا يمين، ويحتمل أن يقال إنها كالأمارة القوية؛ لأن القول بالتخيير قوي، ومن حق الولي أن يقول: إنما أنا اعتقدت، وإذا كان الخصم يعذر بالجهل فهنا أولى. قال: وينبغي أن يحمل قول المصنف: (إِلا أَنْ يَظْهَرَ) على القسم الأول من قسمي الأمارة؛ لأن لفظه في المدونة يدل عليه؛ لأنه قال: (بَيْنَ) هذا معنى كلامه، ثم هذا متقيد بما إذا قال في الحضرة: إنما عفوت عن الدية، وأما لو سكت حتى طال فلا شيء لهم، قاله مالك في الواضحة، وقاله ابن الماجشون وأصبغ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَفَا عَنِ الْعَبْدِ، وَلا طَلَبَ لَهُ بوَاحِدٍ مِنْهُمَا أي: عن القصاص الواجب على العبد، ثم قال: إنما عفوت لآخذ العبد، لم يكن له ذلك، إلا أن يتبين ذلك فيحلف. وقوله: (وَلا طَلَبَ لَهُ بوَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي: بالعبد، ولا بدية الحر المقتول، وفي معناها قيمة العبد المقتول. فرع: ولو حلف الولي في مسألة العبد، خيرنا السيد في دفعه له وفي دفع الدية. قال في العتبية والموازية: منجمة، وأشار ابن يونس إلى أنه تفسير للمدونة. قال ابن رشد: مذهب المدونة هنا أنها حالَّة، وقد تقدم التنبيه على ذلك في مسألة اصطدام الحر والعبد. في جعله مسألة العبد مفرعة على رواية ابن القاسم نظر؛ لأن الحكم فيها تخيير الولي في القتل أو العفو على أخذ العبد، ثم تخيير السيد على ما تقدم، فالتخيير فيها حاصل اتفاقاً لهم، إلا أن يقال: لم يقصد المصنف أن مسألة العبد مفرعة على قول ابن القاسم، وإنما عطفها على مسألة الحر لارتباطها بها، وتشبيه ابن القاسم إحداهما بالأخرى.

وَلا لِمَنْ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ؛ كَالْبَنَاتِ مَعَ الابْنِ، وَالأَخَوَاتِ مَعَ الأَخِ هذا معطوف على الحر المتقدم؛ أي: لا طلب لهؤلاء لمن يعتبر عفوه عن غير الأولياء وإن كان وارثاً، وهذا استفيد مما قدمه المصنف بقوله: (وَلا تَدْخُلُ بِنْتٌ عَلَى ابْنٍ وَلا أُخْتٌ عَلَى أَخٍ مِثْلِهَا) وهو ظاهر المذهب وبه قال ابن القاسم وأشهب. وروى أشهب عن مالك أيضاً: إن عفا الذكور كلهم فحق أخواتهم في الدية باقٍ. ابن المواز: وبالقول الأول قال من أدركنا من أصحاب مالك، ثم إن الأول مقيد بأن يعفو كل من له العفو في فور واحد، وأما لو عفا بعض من له ذلك ثم بلغ من بقي وعفا؛ فلا يضر ذلك من معهما من أخت وزوجة، لأنه مال ثبت بعفو الأول، قاله محمد. فَإِنْ بَقِيَ مَنْ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ نَصِيبُ الْعَافِي خَاصَّةً، وَلَوْ كَانَ مُفْلِساً صَحَّ، إِلا أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ أَنْ تَعَيَّنَ الْمَالُ باتِّفَاقِهِمَا ... كما لو كانوا ثلاثة بنين فعفا أحدهم؛ فإنه يسقط نصيبه ويكون لمن لم يعفُ نصيبه من دية عمد، فإن كان مفلساً صح، إلا أن يعفو بعد أن تعين المال باتفاقهما؛ أي: ولو كان العافي مفلساً صح العفو، وهو واضح على قول ابن القاسم الذي لا يرى للولي إلا القصاص، وكذلك نص أشهب ورأى أن قدرة الولي على تملك هذا المال لا تصيره ملكاً له. وقوله: (إِلا أَنْ يَعْفُوَ) ظاهره أسقط مالاً بعد وجوبه. الضمير في (اتِّفَاقِهِمَا) يعود على الولي والجاني. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ بشَيْءٍ، فَلَهُ أَخْذُ حِصَّتِهِ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ ... يعني: فإن عفا الولي بعد عفو الأول فللثاني حصته من دية عمد، وسواء كان عفو الأول على مال أو لا، وكان بعد عفو الأول عاد نصيب الثاني مالاً، وإن كان مفلساً لا يصح عفوه.

وَإِذَا عَفَا بَعْضُ مَنْ لَهُ الاسْتِيفَاءُ، فَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ رِجَالاً سَقَطَ الْقَوَدُ لما تكلم على العفو باعتبار ما يتعلق به من سقوط الدية وعدم سقوطها، شرع فيما يتعلق به من سقوط القود وعدمه، ثم إن المستحق تارة يكون جميعهم رجالاً، وتارة يكون جميعهم نساءً، وتارة يجتمعان، وتكلم المصنف على الثلاثة، فقال: (إِنْ كَانَ الْجَمِيعُ رِجَالاً سَقَطَ الْقَوَدُ) وظاهره سواء كانوا أولاداً أو إخوة أو غيرهم كالأعمام والموالين ولا خلاف في الأولاد والإخوة، وأما الأعمام ونحوهم فما ذكره المصنف هو لمالك وابن القاسم. وروى أشهب عن مالك في الموازية: عدم السقوط، وأن لمن بقي أن يقتل، وإن ثبت الدم بقسامة ونكل أحدهم؛ أقيم مكانه رجل من العشيرة, ابن رشد: وإذا عفا أحد الأولياء عن الدم بعد ثبوته بالبينة أو بالقسامة أو أكذب نفسه بعد القسامة، فثلاثة أقوال؛ أولها لابن الماجشون: الدم والدية يبطلان. ثانيها: أن لمن لم يعفُ ولا أكذب نفسه حظه من الدية. والثالث: إن عفا كان لمن بقي حقه، وإن أكذب نفسه لم يكن لمن بقي شيء من الدية، وإن كانوا قد قبضوها ردوها، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها. قال: ويأتي في بطلان الدية بعفو أحد الأولياء من الدم ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها تبطل ولا شيء لمن بقي، وهو قول ابن الماجشون. [707/ب] الثاني: أن لمن بقي حظه من الدية بغير قسامة إن كان العفو بعد ثبوت الدم، أو بقاسمة إن كان العفو قبلها. والثالث: تفرقة ابن القاسم بين أن يكون العفو قبل ثبوت الدم أو بعده، وساوى ابن القاسم بين العفو والنكول عن اليمين قبل القسامة، وفرق بعد القاسمة بين أن يعفو أحد الأولياء أو يكذب نفسه، فجعل تكذيب نفسه بعد القسامة كعفوه عن الدم قبل القسامة، لا شيء لمن بقي من الدية.

وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً نَظَرَ الْحَاكِمُ هذه الصورة الثانية. قال في المدونة: وإن لم يترك إلا بنته أو أخته، فالابنة أولى بالقتل وبالعفو، وهذا إذا مات مكانه، وقال أيضاً فيها فيمن أسلم من أهل الذمة، أو رجل لا تعرف عصابته فقتل عمداً أو مات مكانه، وترك بنات: فلهن أن يقتلن، فإن عفا بعضهن وطلب بعضهن القتل، نظر في ذلك السلطان بالاجتهاد إذا كان ذلك عدلاً، فإن رأى العفو أو القتل أمضاه، وهذا الكلام هو الذي اختصره المصنف، والكلام الأول أولى بالذكر؛ لأن النساء فيه يحزن الميراث، فتتم المقابلة بسببه بين هذه المسألة والتي قبلها. أبو عمران في مسألة المصنف: وإنما كان للإمام في ذلك؛ إذ هو بمنزلة العصبة، لأنه يرث لبيت المال ما بقي. قيل لأبي عمران: أرأيت إن لم يكن إمام عدل كوقتنا هذا، فقال: الذي يتبين لي ألا سبيل له في القتل إلا أن يكون فيه جماعة عدول مجتمعون وينظرون، فإن رأوا القتل قتلوا وينوبون مناب السلطان. فَإِنْ كَانُوا رِجَالاً وَنِسَاءً؛ لَمْ يَسْقُطْ إِلا بهِمَا أَوْ ببَعْضَهِمَا، وَإِلا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ ... هذه هي الصورة الثالثة، وهي إنما تتصور إذا كانت النساء أقرب؛ لأنه قدم أنه لا كلام لهن مع المساوي. وقوله: (لَمْ يَسْقُطْ) أي: القود إلا باجتماعهما على العفو أو بعضهما؛ أي: بعض هذا الصنف وبعض هذا الصنف، وأحرى إذا اجتمع جميع صنف مع بعض الآخر. وقوله: (إِلا) أي: وإن لم يكن ما تقدم، بل عفا أحد الصنفين وأراد الصنف الآخر القتل، وهذا مذهب المدونة؛ أن العفو لا يتم إلابهما أو ببعضهما، وأن القول قول من أراد القتل منهما جميعاً، وهو إذا ثبت الدم بقسامة. وروي عن مالك: أن القول قول العصبة في

العفو والقتل. وروي أيضاً: أن القول قول من أراد القتل منهما جميعاً، ولو ثبت الدم ببينة وحاز النساء الميراث؛ فلا كلام للعصبة كما تقدم. وَمَهْمَا أسَقَطَ الْبَعْضُ تَعَيَّنَ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ نَصِيبُهُمْ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَفَا الْبعْضُ أَوِ الْجَمِيعُ عَلَى الدِّيَةِ ... أي: مهما سقط القود بعفو بعض من له القود تعين لباقي الورثة نصيبهم من دية عمد، وكذلك لو عفا البعض أو الجميع على الدية لوجبت عليهم دية عمد. ابن عبد السلام: ولو عفا البعض على جميع الدية فللباقين نصيبهم من حساب دية عمد، ثم يقيمون كلهم ما حصل لهم ويقتسمونه كأنهم اجتمعوا على الصلح به. وَلَوْ قَالَ الْقَاتِلُ: إِنْ قَتَلْتَنِي فَقَدْ وَهْبْتُ لَكَ دَمِي، فَقَوْلانِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَحْسَنُهُمَا أَنْ يُقْتَلَ، بخِلافِ عَفْوِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَلَوْ أَذِنَ فِي قَطْعِ يَدِهِ عُوقِبَ وَلا قِصَاصَ ... هذا الذي نسبه المصنف لابن القاسم، وذكر في الجواهر أن أبا زيد رواه عن ابن القاسم، وهو في العتبية لسحنون ففيها: سئل سحنون عن الرجل يقول: يا ليتني أجد من يقتلني، فقال له رجل: أشهد على نفسك أنك وهبت دمك وعفوت عني وأنا أقتلك، فأشهد لي على ذلك، فأشهد وقتله، فقال لي: قد اختلف في ذلك أصحابنا، والأحسن في ذلك أن يقتل القاتل؛ لأن المقتول عفا عن شيء لم يجب له وإنما يجب لأوليائهن ولا يشبه من قتل فأدرك حياًن فقال: أشهدكم أني قد عفوت عنه، قيل له: فلو قال له اقطع يدي فقطعها، قال: لا شيء عليه: لأن هذا ليس بنفس، وإنما هو جرح. وزاد في البيان ثالثاً: نفي القصاص لشبهة عفو المقتول عن دمه، وتكون الدية عليه ي ماله، قال: وهو أظهر الأقوال.

وَلَوْ عَفَا عَنْ جُرْحِهِ أَوْ صَالَحَ فَمَاتَ، فَلِلأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقْسِمُوهَا وَيَقْتُلُوا فِي الْعَمْدِ، والدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، وَيَرْجِعُ الْجَانِي فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ. قَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَزِيدَ: وعَمَّا يَتَرَامَى إِلَيْهِ ... يعني: لو عفا المجروح عن جرحه أو صالح عليه بمال ثم مات المجروح، خير أولياء المجروح في إمضاء العفو والمصالحة، وفي نقض ذلك ويرجعون إلى حقهم في النفس في العمد والدية في الخطأ بعد قسامتهم، وإن نقضوا ذلك رجع الجاني فيما دفع للمجروح إن كان دفع إليه شيئاً. قوله: (قَالَ أَشْهَبُ ... إلخ) ظاهره أن المذهب: يخيرون ولو قال ذلك، وأشهب يقول: ليس لهم خيرة إذا قال ذلك. ابن عبد السلام: اختلف شارحو المدونة هل يجوز الصلح عند ابن القاسم على هذه الزيادة التي ذكرها أشهب أولا؟ واعلم أن الصلح إما أن يقع بدون هذه الزيادة أو بها، فإن وقع بدونها في العمد والخطأ فثلاثة أقوال: أولها: التخيير كما قال المصنف. ثانيها: ليس لهم التمسك بذلك الصلح في العمد والخطأ إلا برضا القاتل؛ لأن من حقه في العمد أن يقول [708/أ]: عادت الجناية نفساً فليس لكم إلا القسامة والقود، وكذلك يقول في الخطأ: الدية وجبت على العاقلة، وهو قول أشهب. والثالث لابن القاسم: الفرق، فيخيرون في العمد ولا يختارون في الخطأ، وهو ظاهر المدونة عند صاحب البيان. وأما الصلح على الزيادة المذكورة، فإن كان في جراح الخطأ والتي دون النفس كالموضحة؛ فلا خلاف أن الصلح فيها على هذه الزيادة لا يجوز، لأنه إن مات كانت الدية على العاقلة، فهو لا يدري يوم صالح ما يجب عليه، وهي خطأ، ففي البيان: يتخرج على قولين؛ أحدهما: لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في العتبية، وظاهر ما في الواضحة. والثاني: أنه جائز؛ إذ لا غرر فيه، لان دية الجراح إنما تجب على العاقلة كنفس، فإنه صالح عنها.

وأما جراح العمد فيما فيه القصاص والمصالحة فيه جائزة، على ظاهر المدونة ونص عليه ابن حبيب في الواضحة، خلاف ما نص عليه ابن القاسم في العتبية من المنع. وأما جراح العمد التي ليس فيها القصاص؛ فلا يجوز فيه الصلح على الموت، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة. قال في البيان: ولا أعرف فيه نص خلاف، وأما الصلح فيه على الجرح وحده دون الموت؛ فأجازه ابن حبيب فيما لهدية مسماة كالمأمومة والمنقلة والجائفة، وقال أيضاً: لايجوز فيه بعينه على ما يترامى إليه من زيادة، ولم يجز فيما الدية فيه مسماة إلا بعد البرء. وَلَوْ صَالَحَ فِي الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ أَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ إِلَى أَيِّ أَجَلٍ كَانَ جَازَ؛ لأَنَّهُ دَمٌ لا مَالٌ ... أي: لو صالح الجاني. وما ذكره ظاهر على قول ابن القاسم؛ لأن الواجب إنما هو القصاص؛ إذ لا مانع، وأما على قول أشهب فيحتمل أن يقال فيه بالمنع إذا صالح على مال أكثر لا يلزم من فسخ الدين في الدين، لكن شرط أن يضم إلى هذا اعتبار قاعدة: من خير بين شيئين يعد منتقلاً، وقد يقال: إن دية العمد لم تتقرر، وهذا هوا لذي نص عليه أشهب، فقد أجاز في الواضحة الصلح على ذهب أو رق أو عرض مثل الدية أو أكثر منها إلى أجل نقداً. وَلَوْ صَالَحَ فِي الْخَطَأِ اعْتُبِرَ بَيْعُ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ لأَنَّهُ مَالٌ لأن الواجب في الخطأ مال. وقوله: (بَيْعُ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ) إنما يظهر إذا كان المصالح الجاني. وأما إن صالحت العاقلة؛ فهو فسخ الدين ي الدين. ثم قوله: (اعْتُبِرَ بَيْعُ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ) فيه قصور؛ لأنه يقتضي الجواز في النقد مطلقاً، الورق عن الذهب وبالعكس؛ لأنه صرف مستأخر، وهو ظاهر.

وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنَ الثُّلُثِ وَتُحَاصُّ الْعَاقِلَةُ مَعَ ذَوِي الْوَصَايَا فِي ثُلُثِهَا وَثُلُثِ غَيْرِهَا إِنْ كَانَ ... أي: ولأجل أن الخطأ مال إذا عفا عنها لم يصح عفوه عنها إلا في الثلث، فإن خرجت من الثلث صحت الوصية، وإلا وقف الزائد على الثلث على رضا الورثة، ولو أوصى بوصايا أُخَر لتحاصت العاقلة مع أهل الوصايا الأُخَر في ثلث الدية وثلث غيرها، (إِنْ كَانَ) أي: إن كان له مال غير الدية. وَيَدْخُلُ فِي ثُلُثِهَا مَنْ أَوْصَى لَهُ بَعْدَ سَبَبِهَا، أَوْ بِثُلُثِهِ قَبْلَهَا، أَوْ بشَيْءٍ إِذَا عَاشَ بَعْدَهَا مَا يُمْكِنُهُ التَّغْييرُ فَلَمْ يُغَيِّرْ ... أي: في ثلث الدية وصية من أوصى له بعد طروء سببها، وهو الجرح أو إنفاذ المقاتل، وكذلك يدخل في ثلثها وصية من أوصى له بثلث ماله قبلها: أي: حدوث سببها، وكذلك أيضاً يدخل في ثلثها من أوصى له بشيء معين كدار وعبد. قوله: (إِذَا عَاشَ) شرط فيما يوصى به قبل سببها، و (مَا) في قوله: (مَا يُمْكِنُهُ) مصدرية ظرفية؛ أي: مدة يمكنه فيها التغيير، واحترز بذلك مما لو غم بعد الضرب أو الجرح أو الموت، فإنه لا يدخل الوصايا فيها. بخِلافِ الْعَمْدِ، فَإِنَّهُ لا مَدْخَلَ لِلْوَصِيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُورَثُ كَمَالِهِ وَيَغْرَمُ الدَّيْنَ مِنْهُ ... أي: لأن العمد ليس بمال، فإذا قبلت الدية بعد موته؛ فهو مال طارئ بعد الموت فلا تدخل فيه الوصايا. قال في المدونة: ولو أن الموصي قال: إن قبل أولادي الدية فوصيتي فيها أو أوصي بمثلها؛ لم يجز، ولا يدخل منها في ثلثه شيء؛ لأن ذلك عند الموت يوم أوصى مال مجهول، محمد: بل لا مال له، ولهذا قال بعضهم: لو أنفذ له مقتل وبقي حياً

يتكلم فقبل أولاده الدية وعلم بها لدخلت فيها وصاياه؛ لأنه مال علم به قبل زهوق نفسه. وقوله: (وَإِنْ كَانَ يُورَثُ كَمَالِهِ ... إلخ). فيعني أنه لا يضر في سلب المالية كونه يورث عنه، ويغرم منه الدين؛ لأنه مال لم يعلم، أو ليست بمال حقيقة، فتأمله. وَصُلْحُ الْجَانِي يَمْضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ كَالْعَكْسِ هذا ظاهر؛ لأن العاقلة تؤدي الدية من أموالهم ولا يرجعون بها عليه، فكما لا يلزم الأجنبي ما صالح عنه غيره كذلك هنا، وكذلك العكس. وَلِلْقَاتِلِ الاسْتِحْلافُ عَلَى الْعَفْوِ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ يَمِيناً وَاحِدَةً، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنِ ادَّعَى بَيَّنَةً غَائِبَةً تُلُوِّمَ لَهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَمِينَ عَلَى وَلِيِّ الدَّمِ؛ لأَنَّ يَمِينَ الدَّمِ لا يَكُونُ إِلا خَمْسِينَ ... يعني: إذا ادعى القاتل على ولي الدم أنه عفا عنه وأنكر؛ فله أن يستحلفه على أنه لم يعفُ، هذا هو المشهور. وقال أشهب [708/ب] في الموازية: ليس له أن يستحلف؛ لأن اليمين لا تكون في استحقاق الدم إلا خمسين يميناً، والقاتل يريد أن يجيب عليه قسامة أو بينة، ولو قال: يحلف؛ أي: يميناً واحدة: لم يكن له ذلكن أرأيت لو استحلفه فلما قدم ليقتل قال: قد عفا عني استحلفه، ولو رد على المشهور أن لاعتبار الدعوى بمجردها معارضاً بعدم اعتبار دعوى المرأة الطلاق على زوجها، والعبد على سيده الحرية، وفرق بأن القتل نادر. وقوله: (فَإِنْ نَكَل) هو تفريع على المشهور؛ أي: نكل ولي الدم ردت اليمين على القاتل. قال ابن يونس: فيحلف يميناً واحدة لا خمسين؛ لأن المدعى عليه إنما يحلف يميناً واحدة أنه ما عفا، وهي المردودة، فإن حلف القاتل برئ وإلا قتل. وقوله: (وَإِنِ ادَّعَى بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ تُلُوِّمَ لَهُ) هكذا قال في المدونة.

وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصاً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ قِسْطاً مِنْهُ سَقَطَ الْقَوَدُ، كَأَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَبَاهُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَاقِينَ؛ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلِبَقِيَّةِ الإِخْوَةِ حَظُّهُمْ مِنَ الدِّيَةِ .... يعني: إذا ملك بالميراث دم نفسه سقط القود عنه؛ لأنه لا يباح له قتل نفسه، وكذلك أيضاً إذا ورث جزءه؛ لأنه ملك من دمه حصة فهو كالعضو، ولبقية أصحابه حظهم من الدية. قال: إلا أن يكون من الأولياء الذين من قام منهم بالدم فهو أولى، فلمن بقي أن يقتلوا، وإذا سقط عنه القصاص بالإرث فنه يضرب مائة ويحبس سنة. وقوله: (ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَاقِينَ) الثلاثة .... ثلث دم القاتل منه ثلثه وهو التسع، فيسقط عنه القصاص، ويكون لكل آخر عليه أربعة أتساع الدية. أَوْ يَقْتُلُ الثَّانِي الْكَبِيرَ، ثُمَّ يَقْتُلُ الثَّالِثَ الصَّغِيرَ؛ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي وَيَثْبُتُ لَهُ عَلَى الثَّالِثِ، فَإِنْ عَفَا قَاصَّهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ... يقتل الثاني في مسألة الإخوة الأربعة الكبير منهم فيرث الأخ المقتول الثالث والصغير، فيكون بينهما دم الأخ الثاني للقاتل نصفين، فلما قتل الثالث الصغير ورث الآخر الثاني الصغير دون الثالث، فيصير له نصف دم نفسه الذي كان بيد الصغير، فيسقط القصاص ويكون هو ولي الصغير في القيام، فإن عفا عن الثالث قاصه بنصف الدية الذي كان عليه من قبل أخيه الكبير وأخذ منه النصف الباقي، وإن قتله دفع لورثته ما وجب لميتهم عليه؛ وهو نصف ديته.

فَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الابْنَيْنِ أَبَاهُ وَالآخَرُ أُمَّهُ، فَقِيلَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ، وَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي الْبِدَايَةِ؛ فَمَنَ بَدَأَ بهِ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقْتُلُوا الآخَرَ. وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا وَيِجِبُ لأَحَدِهِمَا دِيَةُ الأَبِ وَلِلآخَرِ دِيَةُ الأُمِّ ... صورة المسألة من كلامه ظاهرة، واجتهاد الحاكم على القول الأول ليس بظاهر، وينبغي أن يقرع، والقول الثاني لسحنون وابن عبدوس، واحتجا بأن لكل واحد أن يقول: اقتلوا هذا قبلي، وهو قول ابن المواز، قال: ويسجنان سنة ويجلدان مائة. وَفِي كَوْنِ إِرْثِهِ عَلَى نَحْوِ الْمَالِ أَوْ عَلَى نَحْوِ الاسْتِيفَاءِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ... الضمير في (إِرْثِهِ) عائد على القصاص، والقتل المفهوم من السياق نحو ميراث المال، فيدخل الذكور والإناث، وإن تساووا في الدرجة، وتدخل الزوجة وغيرها ويكون لهم العفو والقصاص كالعصبة، وهو قول ابن القاسم في المدونة، أو على نحو ميراث استيفاء الدم، فلا تدخل الإناث إلا أن يكون أعلى من الذكور، وهو قول أشهب. وَيُكْرَهُ قِصَاصُ الابْنِ مِنْ أَبيهِ. قَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ تَحْلِيفُهُ فَكَيْفَ بقَتْلِهِ هكذا عبر مالك بالكراهة، حملها أبو عمران على المنع وهو ظاهر، وقد قدم المصنف ما يدل عليه، وهو قوله: (وَشَرْطُ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بالْدَمِ غَيْرَ وَلَدِ الأَبِ) قيل: وإذا لم يقتص منه فإنه يضرب مائة ويسجن عاماً.

كتاب الديات

كِتَابُ الدِّيَاتِ لما فرغ من الموجب الأول وهو القصاص شرع في الموجب الثاني وهو الدية، والديات بتخفيف الياء جمع دية، وجمعها لتعددها. عياض: أصلها من الودى وهو الهلاك، ومنه أودى فلان إذا هلك، فلما كانت تلزم من الهلاك سميت بذلك لكونها بسببه، وقد تكون أيضاً من التودية وهو شد أطباء الناقة لئلا يرضعها الفصيل ومنعه من ذلك، فكأن الدية تمنع من يطلب بها من فعل ما يوجبها كما يمنع ذلك القصاص والحدود، ويحتمل أن يكون من قولهم: ودأت الشيء - مهموز- أي أصلحته، ثم سهل همزها. وَدِيَةُ الذِّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي الْخَطَأِ إِنْ كَانَ الْجَانِي مِنَ الْبَادِيَةِ مِائَةٌ مِنَ الإِبلِ مُخَمَّسَةٌ: بِنْتُ مَخَاضٍ، وَبنْتُ لَبُونٍ، وَحِقَّةٌ، وَجَذَعَةٌ. وَمِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ كَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَمِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ كَالْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَخُرَاسَانَ اثْنَا عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ... احترز بالذكورية والحرية والإسلام والخطأ مما قابلها وسيأتي ذلك. وقوله: (مِائَةٌ) مرفوع خبر دية، و (مُخَمَّسَةٌ) صفة لـ (مِائَةٌ)، و (بِنْتُ مَخَاضٍ) خبر ابتداء محذوف [709/أ]؛ أي: خمسها بنت مخاض. وجعل أصبغ وابن حبيب أهل المدينة ومكة أهل ذهب. وقال أشهب: أهل الحجاز أهل إبل وأهل مكة منهم، وأهل المدينة أهل ذهب. وما ذكره المصنف أن أهل المغرب من أهل ذهب نحوه في الجلاب. وقال ابن حبيب: أهل الأندلس أهل ورق. الباجي: وهو يحتمل أن يكون خلافاً لما في الجلاب، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن مراد ابن الجلاب: ما عدا الأندلس.

الباجي: وعندي ينظر إلى غالب أحوال النسا في البلاد فأي بلد غلب على أهله شيء كانوا من أهله، وإن انتقلت الأحوال وجب أن تنتقل الأموال، وقد أشار أصبغ إلى ذلك بقوله: فمكة والمدينة هم اليوم أهل ذهب، ولا يؤخذ عندنا في الدية غير هذا لا بقر ولا غنم ولا عرض. وَفِي الْعَمْدِ مُرَبَّعَةٌ بِإسْقَاطِ ابْنِ اللَّبُونِ فتكون خمساً وعشرين بنت مخاض، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين جذعة. قال في الجواهر: ولوجوب دية العمد سببان: العفو على دية مبهمة، وعفو بعض الأولياء، فرجع الآخر إلى الدية فهي كدية الخطأ إلا أن العاقلة لا تحمل منها شيئاً، وتنجم على الجاني ثلاث سنين، وإنما تفتقر من دية الخطأ فإن العاقلة لا تحملها. وَفِي أَهْلِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَالْخَطَأِ، وَقَالَ أَشْهَبُ؛ يُزَادُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَ التَّرْبيعِ وَالتَّخْمِيسِ، وَقِيلَ: قِيمَةُ الإِبلِ المُغَلِّظَةُ مَا لَمْ تَنْقُصْ ... يعني: اختلف إذا وجبت على أهل الذهب والورق دية عمد على ثلاثة أقوال لابن القاسم، ورواه عن مالك أنها كالخطأ وأن التغليظ خاص بالإبل؛ لأن التغليظ في الإبل لا يخرج عن القدر الواجب بخلاف التغليظ في الذهب والورق، وتصور القول الثاني من كلامه ظاهر. وقوله في القول الثالث: (الإِبلِ المُغَلِّظَةُ) أي: في دية العمد، ولا يقال: المغلظة في شبه العمد؛ لأن مالك لم يقدم لها ذكر. وَدِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَجَّمَةٌ ثَلاثَ سِنِينَ نقل الترمذي في كتابه الإجماع على هذا، قال صاحب الاستذكار: ولا خلاف بين العلماء أنها في ثلاث سنين شذوذ، والأظهر في (مُنَجَّمَةٌ) الرفع على الخبر، ويحتمل النصب على الأول، ويكون (ثَلاثَ سِنِينَ) الخبر.

وَالْعَمْدُ فِي مَالِ الْجَانِي كَذَلِكَ، وَقِيلَ: حَالَّةٌ هذا الثاني هو المشهور، وقول المصنف (قِيلَ) ليس بظاهر، والقول بأنها كذلك؛ أي منجمة في الموازية. وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي الْعَمْدِ الَّذِي لا يُقْتَلُ بهِ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ بحَدِيدَةٍ وَشِبْههَا وَهُوَ عَمْدٌ، وَلِذَلِكَ لا يَرِثُ مِنْ مَالِهِ، وَيُقْتَلُ غَيْرُهُمْ في شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْقَوْلِ بهِ كَفِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِابْنِهِ ... جمع (الآبَاء وَالأُمَّهَات) ليدخل الأجداد والجدات كما تقدم دون غيرهم من الأعمام ونحوهم. وقوله: (كَمَا لَوْ جَرَحَهُ) مثال، وقوله: (وَهُوَ عَمْدٌ) إنما أعاد ذلك لدفع أن يكون المراد بقوله: (فِي الْعَمْدِ) المجاز لوصفه بأنه لا يقتل به، (وَلِذَلِكَ) أي: أنه عمد وهو ظاهر. وأشار بصفة (الْمُدْلِجِيِّ) إلى ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب: أن رجلاً من بني مدلج- يقال له: قتادة- حذف ابنه بالسيف فأصاب ساقه فنزِيَ فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر له ذلك، فقال عمر: اعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عمر أخذ من تلك الأبل ثلاثين حِقَّةَ وثلاثين جَذَعَةٌ وأربعين خَلِفَةٌ، ثم قال: أين أخو المقتول؟ قال: هأنذا، قال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ". وَتَغْلِيظُهَا بالتَّثْلِيثِ حِقَّةٌ وَجَذَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ خَلِيفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا زاد ابن الجلاب بعد قوله (فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا): غير محدودة أسنانها، وهذا هو المشهور.

قال أشهب وعبد العزيز بن أبي سلمة: بين ست إلى بازل علمها. وقوله: (بالتَّثْلِيثِ) متعلق بـ (تَغْلِيظُهَا) وسقط (تَغْلِيظُهَا) في بعض النسخ، فيتعلق (بالتَّثْلِيثِ) بقوله أولاً: (وَتُغَلَّظُ). وَبِحُلُولِهَا معطوف على التثليث؛ أي: وتغلظ بحلولها. وَفِي كَوْنِهَا مِنْ مَالِهَ حَالَّةٌ لا عَلَى الْعَاقِلَةِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ لَهْ مَالٌ فَعَلَيْهِ يعني: أنه اختلف في الدية المغلظة على ثلاثة أقوال: المشهور: أنها حالة في ماله. والقول الثاني: أنها على العاقلة، ولم يبين هل حالة أو منجمة، والظاهر أنه أراد التنجيم، وهو قول ابن القاسم في الموازية، وحكى سحنون قولاً أنها على العاقلة حالة، فقال في كتاب ابنه: أجمع أصحابنا أنها حالة، واختلفوا في أخذها من العاقلة أو الأب. والقول الثالث من كلام المصنف: إن كان للأب مال فعليه وإلا فعلى العاقلة حالة، هكذا نقله ابن حبيب عن مطرف، وإذا أوجبناها على الجاني فحكى الاتفاق على الحلول، ويمكن أن يخرج فيها قول بتنجيمها من الشاذ في دية العمد. وَتُغَلَّظُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ عَلَى الَْمَشْهُورِ فَتُقَوِّمُ الدِّيَتَانِ وَتُزَادُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَهُمَا أي: وتغلظ في الدراهم والدنانير على المشهور، والمشهور [709/ب] مذهب المدونة، وهو أيضاً في الموازية، ثم رجع مالك في الموازية إلى التغليظ، وحكى في البيان في تغليظ المربعة وتغليظ المثلثة وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك وقول ابن نافع وهو أولى الأقوال؛ إذ قيل في دية العمد: إذا قبلت أنها مخمسة مؤجلة، قال: واختلف في صفة التغليظ على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه الأولى أنه ينظر إلى قيمة الدية المخمسة وإلى قيمة أسنان دية المربعة والمثلثة إن كان بالإبل، أصبغ: وإن كان غير بلد إبل ففي أقرب بلدان الإبل إليهم. فإن كان خمس أو رب أو ثلث أو أقل أو أكثر فذلك الجزء من الألف أو الاثنا عشر ألف درهم تزاد عليه أنه يزاد على الألف مثقال أو الاثني عشر ألف درهم ما بين القيمتين من العددين غر نسبة، وهذا القول في المعنى أظهر، والأول أشهر. والثالث: تقدم الدية المثلثة أو المربعة فتكون الدية ما كانت إلا أن ينقص من الألف دينار أو الاثني عشر ألف درهم فلا ينقص شيء، والقول بالنسبة هو المشهور، ولذلك اقتصر المصنف هنا عليه. ونقل في الكافي رابعاً: أنه يؤخذ منه ما بين القيمتين إلى أن يبلغ دية وثلثاً، فلا يزاد على ذلكن وإذا قومنا دية الخطأ والدية المثلثة والمربعة فتقوم المغلظة حالة، واختلف في دية الخطأ فعن بعض القرويين تقويمها أيضاً حالة، وقال ابن يونس: بل تقوم على تأجيلها حسبما جعلت. وَتُغَلَّظُ أَيْضاً فِي الْجِرَاحِ عَلَى الأَصَحِّ فتكون في المأمومة والجائفة ثلث الدية المغلظة، والأصح لمالك في المدونة والمبسوط وصححه، والله أعلم لعدم الغرور، وغير الأصح لمالك في المختصر؛ لأن التغليظ مُدْرَكُه التوقيف، والنفس أعظم فغلظ فيها دون غيرها. وفي المسألة قول ثالث لعبد الملك وسحنون: الفرق بين ما يقتص فيه من الأجنبي فيغلظ فيه، وبين ما لا يقتص فيه من الأجنبي كالجائفة فلا يغلظ، قال غير واحد: وهو الأصح في النظر. وعن ابن القاسم قول رابع: أن التغليظ إنما هو ما بلغ ثلث الدية فأكثر.

وَالتَّغْلِيظُ فِي الْمَجُوسِيِّ يَقْتُلُ ابْنَهُ عَلَى الأَصَحِّ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ القول بعدم التغليظ لعبد الملك، وأنكره سحنون، وقال أصحابنا: إنها تغلظ عليه إذا حكم بينهم؛ لأن علة التغليظ سقوط القود، قال: ولم أر قوله ي شيء من السماعات، ولهذا صحح المصنف القول بالتغليظ، ونقل في النوادر عن مالك والمغيرة كقول عبد الملك. وَدِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ لما تكلم على دية المسلم شرع في منتقضاتها في أربعة: كفر، وأنوثة، ورق، وكونه جنيناً، ودليل ما ذكره المصنف ما رواه الترمذي وحسنه عنه عليه الصلاة والسلام: "عقل الكافر نصف عقل المؤمن". وفي النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عقل الذمة نصف عقل المسلمين" وهم اليهود والنصارى. وحذف المصنف من الأول صفة؛ أي دية اليهودي والنصراني غير المعاهد؛ أي الذميين لدلالة قسيمه على ذلك، وإلا فقد يكون المعاهد أيضاً نصرانيّاً أو يهوديّاً. وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ هكذا رواه في الموطأ عن سليمان بن يسار، قال مالك: وهو الأمر عندنا. وَفِي الْمُرْتَدِّ ثَلاثَةٌ: دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ، وَدِيَةُ مَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ، وَالسُّقُوطُ أي: ثلاثة أقوال: والقول بأن ديته كالمجوسي لابن القاسم وأشهب وأصبغ؛ لأنه كان لا يُقَرُّ، وتجب استتابته كأن قاتله قد قتل كافراً محرم القتل فوجب على قاتله أقل ديات القاتل وهو المجوسي؛ لأن ما زاد عليه مشكوك فيه.

وثانيها: دية الذين ارتد إليهم وهو لأشهب أيضاً؛ لأنه لما كان يستتاب فإذا قتل وهو نصراني فقد قتل نصرانيّاً محرم الدم. والسقوط لسحنون وهو استحسان مراعاة لمن لا يرى؛ أي: استنابته. وَدِيَةُ نِسَاءِ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ رِجَالِهِمْ، نُقِلَ الإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَدِيَةُ جِرَاحِهِمْ كَجُرْحِ الْمُسْلِمِ مِنْ دِيَتِه ... فتكون مأمومة كل منهم وجائفته ثلث ديته نص وعشر ديته، وهو واضح. وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَقِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ لأنه مال فكان كسائر السلع ولا خلاف فيه عندنا. وَأَمَّا الْجَنِينُ فَغُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ سيأتي هذا إن شاء الله. وَفِي الْجِرَاحِ كُلِّهَا الْحُكُومَةُ إِلا أَرْبَعَةُ: الْمُوضِحَةُ؛ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالْمُنَقَّلَةُ؛ عُشْرٌ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ. وَالْمَامُومَةُ: ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالْجَائِفَةُ مِثْلُهَا وَهِيَ: مَا أَفْضَى إِلَى الْجَوْفِ وَلَوْ مَدْخَلَ إِبْرَةٍ ... سيأتي تفسير (الْحُكُومَةُ)، وقوله: (إِلا أَرْبَعَةً) لما في كتابه عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم: "وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها، وفي الموضحة خمس". وفي رواية مالك: وفي المنقلة خمس عشرة فريضة. قال في المقدمات: واتفق على ذلك العلماء، وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما قضيا في الملطاة بنصف دية الموضحة، وهو مذهب ابن كنانة. وقوله: (وَهِيَ) تفسير الجائفة، وهو واضح.

وَتَخْتَصُّ بالْبَطْنِ [710/أ] وَالظَّهْرِ كَمَا تَخْتَصُّ الْمُوضِحَةُ وَأَخَوَاتُهَا بعَظْمِ الرَّاسِ وَالْوَجْهِ دُونَ الأَنْفِ وَاللًّحْيِ الأَسْفَلِ ... لا خلاف في اختصاص الجائفة بالظهر، وأراد بـ (أَخَوَاتُهَا) المأمومة والمنقلة، ووقع في بعض النسخ: (وَأُخْتَاهَا) وهي أحسن، وتصور كلامه ظاهر، ونحوه في المدونة وغيرها. وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ: فَلَمْ يَذْكُرْهَا مَالِكٌ فَقِيلَ: مِثْلُ الْمُنَقَّلَةِ، وَقِيلَ: مِثْلُ الْمُوضِحَةِ وَحُكُومَةٌ، وَقِيلَ: مَا فِي الْمُوضِحَةِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ مُنَقَّلَةٍ أَوْ مَامُومَةٍ ... القول الأول هو الذي يأتي على كلام ابن القاسم؛ لأنه قال: ما من هاشمة إلا وتعود منقلة، وعليه كان يناظر الأبهري. والقول بأن فيها ما في الموضحة وحكومة لابن القصار. والقول الثالث نسبه ابن شاس للباجي فقال: وقال القاضي أبو الوليد ما في الموضحة فإن صارت منقلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية، وذكر ابن عبد البر أن فيها عشراً عند الجمهور، ونحوه في المقدمات؛ لأن فيها: ودية الهاشمة عند من عرفها-وهم الجمهور- عشر من الإبل وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وروي ذلك عن زيد بن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة رضي الله عنهم. وَأَمَّا هَاشِمَةُ الْبَدَنِ وَمُنَقَّلَتُهُ وَغَيْرُهُمَا فَالاجْتِهَادُ يعني: أن التقدير في المنقلة والهاشمة إنما هو إذا كانا في الرأس، وأما إذا كانا في البدن فليس فيهما إلا الاجتهاد كغيرهما من سائر الجراحات.

وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الْمُوضِحَاتُ وَالْمُنَقَّلاتُ وَالْمَامُومَاتُ بحَيْثُ يَكُونُ مَا بَيْنَها لَمْ يَبْلُغِ الْعَظْمَ تَعَدَّدَتِ الدِّيَاتُ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ ضَرْبَةٍ، بخِلافِ مَا لَوْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَرْنِهِ مِنْ ضَرْبَةٍ أَوْ ضَرَبَاتٍ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ ... إذا تعددت المواضح والمنقلات والمأمومات تعدد الواجب فيها بشرط أن يكون ما بين المواضح لم يبلغ العظم، وما بين المنقلات لم يبلغ العظم، وما بين المأمومات لم يبلغ الدماغ، وقول المصنف: (بحَيْثُ يَكُونُ مَا بَيْنَها لَمْ يَبْلُغِ الْعَظْمَ) خاص بالمواضح، واكتفى بذلك عن ذكر المأمومات والمنقلات اختصاراً، أما لو اتسعت المواضح أو غيرها بضربة واحدة أو بضربات في فور، فليس فيها إلا دية واحدة. وَإِذَا نَفَذَتِ الْجَائِفَةُ فَدِيَةُ الْجَائِفَتَيْنِ عَلَى الأَصَحِّ إذا ضربه من بطنه فخرجت من ظهره أو بالعكس فقولان- وهما في المدونة- والأصح هنا اختيار ابن القاسم وبه أخذ أشهب وابن عبد الحكم ومحمد ودليله ما رواه أشهب عن الصديق رضي الله عنه أنه قال في جائفة نافذة من الجانب الأيسر: فدية جائفتين. واختار اللخمي الأول، قال: لأنها إذا جعل فيها ثلث الدية لغررها؛ إذ قد تصادف مقتلاً إما القلب أو الكبد أو غير ذلك إنما يخشى في حين الضربة من خارج، وهي إذا تمادت حتى بلغت الجانب الآخر لم يكن فيها إلا ثلث واحد لعودها إذا نفذت من داخل إلى خارج لا غرر فيه. وَمْعَنَى الْحُكُومَةِ: أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْداً سَالِماً بعَشَرَةٍ مَثَلاً ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعَ الْجِنَايَةِ بتِسْعَةٍ فَالتَّفَاوُتُ عُشْرٌ فَيَجِبُ عَشْرُ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْنٌ فَلا شَيْءَ ... تصوره ظاهر، والتقويم هنا كالتقويم في تقويم عين السلعة المبيعة.

وقوله: (عَبْداً) منصوب على الحال، و (مَثَلاً) إما منصوب على المصدر؛ أي: مثل مثلاً، أو بفعل مقدر أي يقدر مثلاً، وما ذكره المصنف هو المعروف، وفي تفسير ابن مزين: أن الحكومة هو اجتهاد الإمام ومن حضره. عياض: وظاهره عند بعضهم خلاف الأول، وإلى الخلاف في ذلك أشار أبو عمران، وقال: هو الذي كنا نقول قبل أن نرى القول الآخر. وقوله: (وَذَلِكَ) أي: التقويم، وقد تقدم هذا. فَلَوْ كَانَ أَرْشُ الْجِرَاحِ مُقَدَّراً انْدَرَجَ الشَّيْنُ، وَفِي شَيْنِ الْمُوضِحَةِ قَوْلانِ لأن الشارع جعل فيها أرشاً مقدراً ولم يفرق مع أن الجراح قد تشين، وذكر (فِي شَيْنِ الْمُوضِحَةِ) قولين: الأول: قال ابن زرقون: يزاد فيها لأجل الشين قليلاً كان أو كثيراً؛ لأن الشين لا يلزمها غالباً فليست كالمأمومة والجائفة والمنقلة. والثاني: قول أشهب: أنه لا يزاد فيها مطلقاً، وروى ابن نافع عن مالك ثالثاً بالتفصيل يزاد فيها إلا أن يكون شيئاً يسيراً. قَالَ مَالِكٌ: مَا عَلِمْتُ أَجْرَ الطَّبِيبِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يعني: لم يمض عمل بإلزام الجاني أجر الطبيب المداوي للجرح. ابن عبد السلام: ونقل بعض الشيوخ أن الفقهاء السبعة يرون القضاء بأجر الطبيب فيما دون الموضحة، وهذا إن صح يوجب أن يكون هو المذهب؛ لأن مالكاً إنما أسقطه لأنه لم يعلمه من أمر الناس، وإذا ثبت أنه من أمر هؤلاء العلماء الذين عادته الرجوع إلى بعضهم فضلاً عن جميعهم، ولا يلزم من هذا أن مالكاً مقلد؛ لأن كلامه يشعر بأن موجب الرجوع عنده بأجرة الطبيب قائم، وإنما منعه من اعتباره مخالفة الماضين، وقد تبين أنهم لا

يخالفون في هذا انتهى. وقد تقدم من كلام اللخمي في الغصب اختلاف عندنا في أجر الطبيب هل يلزم الجاني أم لا؟ وَالْمُقَدَّرُ مِنَ الأَعْضَاءِ اثْنَا عَشَرَ: الأُذُنَانِ عَلَى الأَصَحِّ لما فرغ من النفس شرع في الأعضاء المقدرة، و (الأُذْنَانِ) إما مبتدأ والخبر محذوف؛ أي: منها الأذنان، أو خبر مبتدأ [710/ب] محذوف؛ أي: أولها الأذنان، والقولان لمالك، ومذهب المدونة وظاهر الموطأ: أنها لا تجب فيهما الدية إلا مع السمع، ونص المدونة: ليس في الأذنين إذا اصطُلِمتا أو ضربتا فشُدِخت إلا الاجتهاد، ولعل المصنف صحح القول بوجوب الدية فيها لما في كتاب عمرو بن حزم في الأذن. وحقيقة الكلمة في العضو المخصوص لا في المنقلة، ولو أزيلت الأذن فردت وعادت لهيئتها ففي سماع عيسى: الدية فيها، وخرج اللخمي ذلك على أن الواجب في إشراف الأذنين هل هو دية أو حكومة؟ قال: فعلى الحكومة لا يكون له شيء، وعلى الدية يكون له كالسن. وَالْعَيْنَانِ: وَفِي عَيْنِ الأَعْوَرِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ بخِلافِ كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الإِنْسَانِ لِمَا جَاءَ مِنَ السُّنَّةِ ... أي: ومنها العينان لما في الموطأ وغيره أن في كتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "وفي العين خمسون" بخلاف كل زوج فإن في كل واحد نصف الدية إذا كان فيها منفعة وجمال، وأما إن كان فيها جمال فقط كالحاجبين ففيها حكومة. وقوله: (السُّنَّةِ) استدلال على تكميل الدية ي عين الأعور، وأراد بالسنة ما قاله ابن شهاب- لأنه قال- هي السنة، وقضى به عمر وعثمان وعلي وابن عباس، وقاله سليمان بن يسار وابن المسيب وعروة بن الزبير رضي الله عنهم.

ولو ضرب ضربة أذهبت بصر إحدى عينيه ثم ضرب ضربة أذهبت الصحيحة، فقال أشهب: له ثلثا الدية لأن الذي أتلف عليه ثلثا ما بقي من بصره، وقال ابن القاسم وعبد الملك: إن بقي من الأولى شيء فليس له في الصحيحة إلا نصف الدية. وَالضَّعِيفَةُ بسَمَاوِيِّ كَالْقَوِيَّةِ يعني: أن من كان إبصاره ضعيفاً بسماوي إن كانت مخلوقة كذلك أو بمرض فهي كالقوية في تكميل ديتها، وقيده صاحب البيان بألا يكون النقصان أتى على أكثرها، وأما لو أتى على ذلك فليس له إلا بحساب ما بقي من عقلها. وحكى الباجي خلافاً في الناقصة بمرض فقال: قال في الموازية وليس استرخاء اللسان والذكر من الكبر وضعف العين من كبر أو رمد أو الرجل من الكبر بمنزلة الجناية عليها لا بمنزلة ما يتنزل بها من الله سبحانه، فما كان من الكبر ثم أصيب العضو ففيه الدية كاملة. وروى ابن المواز عن مالك في عين الكبير قد ضعفت أو يصيبها الشيء فينقص بصرها ولم يأخذ لها عقلاً فعلى من أصابها الدية كاملة، فساوى بين ما ينقص من الجارحة بمرض أو كبر. وقال أشهب في الموازية: من أصابه ف رجله أمر من عرق بضرب، أو رمدت عينه فنقص بصرها ثم يصاب فله ما بقي بحساب ما يبقى منها، كما لو أصابها بمثل ذلك أحد، ومن ساوى بين ما يصيبها من الله وما يصيبها من الكبر فقد غلط؛ لأن كل جارحة لابد أن تضعف، وأما المرض فقد سلم منه كثير من الناس. انتهى. وَبجِنَايَةٍ قَالَ مَالِكٌ أَوَّلاً: لَيْسَ لَهُ إِلا بحِسَابِ مَا بَقِيَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ أَخَذَ لهَا عَقْلاً، وَإِلا فَالْعَقْلُ تَامُّ ... القولان في المدونة، وحاصلها: إن لم يأخذ للنقص عقلاً فقولان، فإن أخذ له فليس له إلا بحساب ما بقي، وفي البيان ثالث: أن فيها العقل كاملاً مطلقاً، وهو قول ابن نافع،

وهو قياس قولهم في السن إذ اسودت أن فيها العقل كاملاً، فإن طرحت بعد ذلك ففيها العقل أيضاً كاملاً. وَفِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الاجْتِهَادُ يعني: فقثت بعد ذهاب بصرها فليس فيها إلا الاجتهاد، وكذلك اليد الشلاء، والاجتهاد هو الحكومة. وَالأَنْفُ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مَارِنِهِ عَلَى الأَصَحِّ فَفِي بَعْضِ الْمَارِنِ بحِسَابِهِ مِنَ الْمَارِن لا مِنْ أَصْلِهِ كَبَعْضِ الحَشَفَةِ .... أي: ومنها (الأَنْفُ) ففيه الدية كاملة إذا قطع (مِنْ أَصْلِهِ)، والمشهور أن في المارن وحده- وهو ما لان منه- الدية، ويقال للمارن أيضاً: الأرنبة والروثة، وهذا الأصح منقول عن الفقهاء السبعة، قال في المجموعة: وروى ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف يقطع مارنه بالدية كاملة. ومقابل الأصح رواه ابن نافع عن مالك أن الدية إنما تكون فيه إذا قطع من أصله؛ لما في الموطأ وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتاب عمرو بن حزم: "وفي الأنف إذا أوعب جدعاً مائة من الإبل"، وظاهره إذا استوعب قطعه، وقد يحتمل أن يكون المراد إذا استوعب القطع ما يسمى جدعاً ليكون موافقاً لما رواه ابن شهاب، والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى. وقوله: (فَفِي بَعْضِ الْمَارِنِ) هو تفريع على الأصح. وقوله: (كَبَعْضِ الْحَشَفَةِ) أي: فإنما ينسب ذلك البعض إليها. الشَّفَتَانِ أي: ومنها (الشَّفَتَانِ)، ونص في كتاب ابن حزم على أن فيهما الدية، وقد تقدم أنه لا فضل لإحداهما على الأخرى.

وَلِسَانُ النَّاطِقِ فَإِنْ قُطِعَ مِنْهُ مَا لا يَمْنَعُ مِنَ النُّطْقِ شَيْئاً فَحُكُومَةٌ فِيهَا؛ لأَنَّ الدِّيَةَ فِيهِ لِلنُّطْقِ لا لَهُ، وَفِي لِسَانِ الأَخْرَسِ حُكُومَةٌ ... لما في الترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسالم قال في كتاب عمرو بن حزم: "وفي اللسان الدية". وذكر المصنف أنه إذا قطع منه ما لم يمنعه من الكلام فيه حكومة، واستشهد لذلك بما في المدونة أن الدية إنما هي للنطق، وعلى هذا فلا ينبغي أن يعد اللسان في هذا الفصل؛ إذ الدية إنما على المنفعة [711/أ] لا عن العضو، (وَفِي لِسَانِ الأَخْرَسِ حُكُومَةٌ) كاليد الشلاء والعين القائمة. وَالأَسْنَانُ فِي كُلِّ سِنٍّ مُطْلَقاً خَمْسٌ مِنَ الإِبلِ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ مِنْ لَحْمِهَا بقَلْعِهَا أَوْ باسْوِدَادِهَا أَوْ بهِمَا ... أي: ومنها الأسنان. وقوله: (مُطْلَقاً) أي: ثنية كانت أو رباعية أو ضرساً، ونبه بذلك على خلاف من فصل في ذلك خارج المذهب، وفي الموطأ من كتاب عمرو بن حزم: "وفي السن خمس" فعم. وروى أبو داود عن شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الأصابع سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء". ولا فرق بين أن تقلع من لحمها أو من أصلها، وكذلك تجب الخمس باسودادها لذهاب الجمال منها. وقوله: (أَوْ بهِمَا) ابن عبد السلام: يريد إذا قلع بعضها واسود الباقي.

خليل: والظاهر أن مراده إذا اسودت جميعاً ثم انقلعت؛ لأن ما ذكره ابن عبد السلام يؤخذ من قوله: (وَفِي بَعْضَهَا بحِسَابهِ) فإن قلت: يرد على الثاني أيضاً عدم الفائدة أنه إذا وجب العقل بأحدهما، وأحرى إذا اجتمعا، قيل: لعله نص على ذلك لينبه على عدم تعدد الدية، ألا ترى أنها لو اسودت ثم قلعت بعد حين أن فيها دية أخرى كما سيأتي. وَفِي بَعْضِهَا مِنْهَا بحِسَابِه مِنْ لَحْمِهَا لا من أَصْلِهَا أي: من السواد والقلع، شمل ثلاث صور: إذا انقطع بعضها، وإذا اسود بعضها، وإذا انقطع بعضها واسود البعض الآخر. وَفِيهَا: إِنْ كَانِ احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا وَاخْضِرَارُهَا كَالسَّوَادِ فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا، وَالْمَشْهُورُ خِلافُهُ ... إن قلت: هو لم يحكم في المدونة بشيء، بل قال: (إِنْ كَانَ) فكيف يقول المصنف: (وَالْمَشْهُورُ خِلافُهُ)؟ قيل: المعنى: فالمشهور أنه ولو قيل: إن الاحمرار والاصفرار كالسواد لا يتم عقلها، وفي كلام المصنف نظر، أما أولاً فلأن المشهور عندهم مذهب المدونة، وأما ثانياً فلأن المذهب يحكم بالعرف، ولعل المصنف اعتمد في تفسيره على اقتصار ابن شاس عليه؛ فإنه قال: إن اخضرت أو اصفرت ففيهاعقلها بنسبة ما بعدها من البياض وقربها من السواد. وما حكاه المصنف عن المدونة هو ظاهر نص الأم؛ فإن فيها: قلت: فإن ضربه رجل فاسودت منه أو احمرت أو اصفرت أو اخضرت، ما قول مالك في ذلك؟ قال: ما سمعت من مالك إلا إذا اسودت فإن عقلها قد تم، ولا أدري ما الخضرة والصفرة والحمرة، إن كان ذلك مثل السواد فقد تم العقل، وإلا فعلى حساب ما نقصن فظاهره أن الإشارة بذلك على الثلاثة، وفهم البراذعي أن الإشارة عائدة إلى الخضرة فقط، وفيه بعد.

ولأشهب وابن القاسم أن الحمرة أقرب إلى السواد من الصفرة، قال: وفي ذلك كله بقدر ما ذهب من بياضها إلى ما بقي منه إلى اسودادها، هكذا في ابن يونس، وفي النوادر والباجي في كلام أشهب: الخضرة إلى السواد أقرب ثم الحمرة ثم الصفرة ثم الكلام على ما قاله ابن يونس. ابن عبد السلام: وأظنه أصوب. وَاشْتِدَادُ اضْطِرَابِهَا فِيمَنْ لا يُرْجَى كَقَلْعِهَا أي: لا يرجى نباتها، ابن القاسم: وليُستأنى به سنة، وقال أشهب: إن ضربها فتحركت انتظر بها سنة، فإن انتشر اضطرابها بعد السنة فهي كالمنقلة، وإن كان اضطرابها خفيفاً عقل بقدره، واحترز ممن لا يرجى من الصغير فإنه يستأنى كما سيأتي. وَالسَّوْدَاءُ كَغَيْرِهَا أي: وقلع السوداء موجب لخمس من الإبل كغيرها، واشتداد اضطرابها كذلك لبقاء منفعتها، وإنما وجبت الدية فيها بالاسوداد لذهاب الجمال. وَسِنُّ الصَّبِيِّ لَمْ يُتْغِرْ يُوقَفُ عَقْلُهَا إِلَى الإِيَاسِ كَالْقَوَدِ وَإِلا انْتُظِرَ بِهَا سَنَةً يعني: أن سن الصغير إذا قلعت قبل الإثغار خطأ أو عمداً لم يعجل فيها بالدية ولا بالقود حتى يُيأس من نباتها، فقوله: (كَالْقَوَدِ) تشبيه لإفادة الحكم، وقيد اللخمي وقف العقل بأن الجاني غير مأمون، وأما المأمون فلا يوقف، وظاهر قوله: (عَقْلُهَا) إيقاف جميع العقل وهو كذلك، وخالف سحنون في ذلك فقال: لا أرى أن يوقف عقل السن كلها؛ لأن السن قد يكون فيها نقص، ولا يمنع ذلك من القصاص مثل الأصبع من اليد، ولكن يوقف من عقل السن ما إذا انتقصت السن إليه لم يقتص له، قيل: كم ذلك، قال: معروف كالعين الضعيفة بصرها، واليد يدخلها النقص اليسير.

وقوله: (وَإِلا انْتُظِرَ بهَا سَنَةً) ابن عبد السلام: يعني إذا جاوز السن الذي لا ينبت فيه ولم تنقضِ سنة انتظرت بقية السنة، ووجبت الدية في الخطأ والقصاص في العمد. وقوله: (يُثْغِرْ) -هو بضم الياء وسكون الثاء المثلثة- لم تسقط أسنانه المراضع، قال في المحكم: وثغر الغلام ثغراً سقطت أسنانه الرواضع، وأثغر وأدغر على البدل نبت أسنانه، قال: وقيل: أثغر نبت ثغره، وقال الجوهري: الثغر ما تقدم من الأسنان، يقال: ثغره إذا كسرت ثغره، وإذا سقطت رواضع الصبي، قيل: ثغر فهو مثغور، فإذا نبتت قيل: أثَّغر، وأصله اثتغر فقلبت الثاء تاءٌ ثم أدغمت، وإن شئت قلت: اثَّغر بجعل الحرف الأصلي هو الظاهر. انتهى. فَإِنْ نَبَتَتْ سَقَطَا أي: نبتت سن الصبي سقط القود والعقل، [711/ب] وفي بعض النسخ: (سَقَطَ) يعود على أحدهما لا بعينه، واستشكل سقوط القود في سن الصغير بنباتها؛ لأن العمد إنما يقصد فيه إيلام الجاني بمثل ما فعله، ألا ترى أنه يقتص من الجراح غر الخطرة وإن برئت على غير شين، وأجيب بأن سن الصبي لا تماثل سن الكبير فوجب القصاص. وَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ وُرِثَ الْقَوَدُ وَالْعَقْلُ أي: وإن مات الصغير قبل نباتها ورث ورثته القود في العمد والعقل في الخطأ. فَإِنْ عَادَتْ أَصْغَرَ فَبحِسَابهِ فِيهِمَا أي: عادت سن الصغير أصغر منها حين قلعت أخذ الجاني بحساب ما نقص فيهما؛ أي: في العمد والخطأ، وهو مقيد في العمد بأن يعود ما ينتفع به، وأما إن عاد ما لا ينتفع به فإنه يقتص، أشار إلى ذلك اللخمي، وصرح به غيره.

فَلَوْ أَخَذَ الْمَثْغُورُ الأَرْشَ فِي الْخَطَأِ فَنَبَتَتْ فَلا يَرُدُّ شَيْئاً المثغور مقابله من لم يثغر، ومراده بالمثغور من نبتت أسنانه بعد أن سقطت، لكن إنما يقال فيه ثغراً أو مثغراً أو مدغراً، ومدغر على القول الآخر، وإنما يقال للصبي مثغور إذا سقطت أسنانه لتنبت، إلا أن صاحب المحكم ذكر عن ابن العربي أنه يقال: ثغره إذا كسر أسنانه، فيصح على هذا أن يقال: (فَلَوْ أَخَذَ الْمَثْغُورُ) أي: الذي كُسر سنُّه، لكن لا يبقى على ذلك مقابلة بين هذا وبين قوله أولاً: (لَمْ يُثْغِرْ). وقوله: (أَخَذَ) يريد: أو حكم له به، ففي البيان: وأما الكبير تصاب سنه فيضي له بعقلها ثم يردها صاحبها فثبتت فلا اختلاف بينهم أنه لا يرد العقل؛ إذ لا ترجع على قوتها، قال: والأذن كالسن في ذلك. فَإِنْ ثَبَتَتْ قَبْلَ الأَخْذِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَاخُذُ كَالْجِرَاحَاتِ الأَرْبَعِ الْمُقَدَّرَةِ بخِلافِ الأُذُنِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا شَيْءَ لَهُ كَغَيْرِهَا مِنَ الْجِرَاحِ ... أي: فإن نبتت سن الكبير، واستمسك قبل الحكم له بالأرش فقال ابن القاسم في المدونة: له أرشها، وقوّاه المصنف بالقياس على الجراحات الأربع؛ أعني الموضحة وأخواتها، فإنه اتفق فيها على أنه يأخذ عقلها وإن عادت لهيئتها، صرح بالاتفاق اللخمي وغيره، والجامع التقدير فيها. وقوله: (بخِلافِ الأُذُنِ) أي: فلا عقل لها وإن عادت لهيئتها، ولهذا فرق ابن القاسم في رواية يحيى، قال في الرواية المذكورة: وإن كان في ثبوت الأذن ضعف فله بحساب ما نقص من قوتها، قيل: الأذن إذا ردت واستمسكت وعادت لهيئتها وجرى فيها الدم، والسن لا يجري فيها الدم، وقال أشهب: لا شيء له إذا ثبت سنه كغير الجراحات الأربع، وزاد في البيان ثالثاً بالقضاء له بالعقل في الأذن والسن، قال: وهو مذهب المدونة، وهذب

صاحب النكت إلى أن مذهب المدونة التفصيل كما في قول ابن القاسم في رواية يحيى لا كما قاله في البيان، قال: لا أعلم أن الأذن إذا ردت في الخطأ فثبتت لا دية فيها، وإنما شبهها في الكتاب بالسن إذا ردت في وجوب القصاص فهو واجب على كل حال، والذي ذكرنا إنما هو في الموطأ، ولا ذكر للخطأ في الكتاب إذا ردت الأذن فثبتت وهو مذكور في غير المدونة في رواية يحيى ثم ذكرها، فظاهره أنه حمل رواية يحيى على التفسير من المدونة. وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَالْقِصَاصُ أي: سواء ثبت قبل القصاص أم لا، وكذلك الأذن، وحكى في البيان الاتفاق على ذلك. وَلَوْ عَادَ الْبَصَرُ اسْتَرَدَّ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ بخِلافِ السِّنِّ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَرُدُّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ بحُكْمِ بَعْدَ الاسْتِيناءِ لَمْ يَرُدَّ ... قوله: (اسْتَرَدَّ) يدل على أن أخذ الدية ليس بشرط بل الحكم كالأخذ، قال في البيان: لا خلاف في أنه لو عاد البصر أو العقل، قيل: الحكم لا يقضي له بشيء، وذكر المصنف في عود البصر بعد الحكم ثلاثة أقوال: الأول لابن القاسم في المدونة؛ أنه يرد الدية بخلاف السن؛ لأن البصر إذا عاد اعتقد أنه لم يذهب حقيقة، وإنما كان ستره ساتر فانكشف. الثاني لأشهب: لا يرد شيئاً، الثالث لمحمد: إن كان بقضاء الاستيناء لم يرد وإلا ردها، وهكذا حكى في البيان الأقوال الثلاثة، قال في البيان: وحكم اسمع يذهب ثم يعود قبل الحكم أو بعده حكم البصر على ما ذكره، نص أشهب أنه لا يرد إذا رد عقله، واختلف في مذهب ابن القاسم فيه، فقيل: الذي يأتي على مذهبه فيه من مسألة البصر أنه يرد، وقيل: بل كقول أشهب، والفرق بين البصر والعقل أن العقل يذهب حقيقة ثم يعود بخلاف البصر؛ فإنه إذا عاد يعلم أنه لم يزل حقيقة، قال: فتحصل في عود البصر والعقل ثلاثة أقوال: ثالثها: يرد في جميع البصر دون العقل، هذا معنى كلامه في البيان.

وَإِنْ قَلَعَ جَمِيعَ الأَسْنَانِ فَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ بضَرْبَةٍ أَوْ بضَرَبَاتٍ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ ... هذا فيه بعض التكرار مع ما قدمه، وهو قوله: (الأَسْنَانُ فِي كُلِّ مُطْلَقاً خَمْسٌ). ابن شعبان: وللألْحَى اثنتان وثلاثون وللكوسج ثمانٍ وعشرون. وَفِي الْمُضْطَرِبَةِ جِدَّاً الاجْتِهَادُ أي: في قطع المضطربة جداً الحكومة، وليس هذا تكرار مع قوله: (وَاشْتِدَادُ اضْطِرَابُهَا فِيمَنْ لا يُرْجَى كَقَلْعِهَا) كما زعم ابن عبد السلام؛ لأن الكلام الأول فيما إذا ضربها وهي قوية فاشتد اضطرابها [712/أ] وهذا الكلام في قلع المضطربة جدَّاً. وَفِي الْمَكْسُورَةِ بتَآكُلٍ أَوْ غَيْرِهِ بحِسَابِهَا نحوه في المدونة، وقيده أشهب فقال: إلا أن يتآكل منها ما لا بال له، ففيها ديتها كاملة كاليد تنقص أنملة. وَالْيَدَانِ مِنَ الْعَضُدِ إِلَى الأَصَابِعِ قَطْعَاً أَوْ شَلاَّ فَيَنْدَرِجُ مَا زَادَ عَلَى الأَصَابعِ ومنها اليدان، ولو قطع الأصابع وجبت دية اليد، وكذلك لو قطعها من العضد، ويندرج ما زاد على الأصابع كما يندرج ما زاد على الحشفة في قطع الذكر، ولا فرق بين إبانة اليد وإبطال منفعتها بالشلل. وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرلإ وَفِي كُلِّ أَنْمُلَةٍ ثُلُثُ الْعُشْرِ إِلا الإِبْهَامَ فَنِصْفُهُ، وَفِي أَقَلَّ بحِسَابِه ... نبّه بقوله: (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ) على أنه لا فرق في الأصابع لما رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام قال: "هذه وهذه سواء" الخنصر والإبهام. ويصح أن يقال: عُشر بضم

العين؛ أي: عشر الدية، وبفتحها أي عشرة من الإبل؛ لأن العشرة هي عشرها إلا أن للإبهام ثلاثة أنامل، وفي كل أنملة ثلث دية الأصابع، وإليه رجع مالك، وأخذ أصحابه بقوله الأول، قيل: والأظهر مذهب المدونة، ولو كان في الإبهام ثلاثة لكان في غيره أربعة، واتفق على أن إبهام الرجل ليس فيها إلا أنملتان. (وَفِي أَقَلَّ) أي: من أنملة بحساب ذلك وإن قطعت بدلها أربع أصابع، ورأى أشهب له دية أربع أصابع، وإن نقصت أنملة فقال ابن القاسم وأشهب؛ إن كان أخذ لها عقلاً حوسب بها إلا أن تتلف بمرض وشبهه. ابن المواز: وأنملة الإبهام كغيره في المحاسبة فيهما، أشهب: وأما الأنملتان من سائر الأصابع فيحاسب بهما في الخطأ. واختلف في الأصبع الزائدة، فقال ابن القاسم: إن كانت قوية ففيها عشر، قطعت خطأ أو عمداً؛ إذ لا قصاص فيها، وإن قطع جميع اليد كان فيها ستون، وإن كانت ضعيفة كانت فيها حكومة إن قطعت بانفرادها، وإن قطع اليد لم يزد لها شيء، قال سحنون: إذا قطعت اليد فيها ست أصابع خطأ كان له خمسمائة، قال: وقد قيل: له خمسمائة، وفي الزائد حكومة، ولم يفرق بين كونها قوية ولا ضعيفة، اللخمي: وإن قطعت عمداً كان له أن يقتص من القاطع ويأخذ دية السادسة إن كانت قوية. وَالثَدْيَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَحَلَمَتُها مِثْلُهُمَا إِنْ بَطَلَ اللَّبَنُ أي: ومنها الثديان، والحلمة: بفتح الحاء واللام. الجوهري: وهو رأس الثدي مثلهما؛ أي في وجوب الدية، أي فإذا قطعهما من أصلهما اندرج ما زاد على الحلمتين.

وقوله: (إِنْ بَطَلَ اللَّبَنُ) نحوه في المدونة، وإن قطع حلمتيهما فإن كان قد أبطل مخرج اللبن وأفسدهما ففيها الدية، وقال ابن الماجشون: حد ما تجب فيه الدية ذهاب الحلمتين، وقال أشهب: إن أذهب منها سداداً لصدرها ففيهما الدية، وإلا ففيهما بقدر شينهما. مالك: وتجب الدية ببطلان اللبن وإن لم يقطع منها شيء، وكذلك إذا فسد. فرع: ولو أُفسدت ثم عادت ردَّت ما أخذت. وَفِي الصَّغِيرَةِ إِنْ تَبَيَّنَ إِبْطَالُهَا عَقْلٌ وَإِلا اسْتُؤْنِيَ بهَا كَسِنِّ الذِّكَرِ الضمير في (إِبْطَالُهَا) عائد على منفعة اللبن المفهومة من السياق، (عَقْلٌ) أي: عقل ثديّي المرأة الكبير، وفي بعض النسخ: (عقلت) فيعود أيضاً على المنفعة. قوله: (وَإِلا) يعني: وإن لم يتبين الإبطال فالحكم وقف العقل، وميراثه كما في سن الصبي. وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَيَانِ وَمَهْمَا قُطِعَ أَحَدُهُمَا فَدِيَةٌ، وَفِي الثَّانِي مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ بضَرْبَةٍ دِيَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: حُكُومَةً كَالْكَفِّ بَعْدَ الأَصَابعِ ... ابن الجلاب: وإذا قطع الذكر والأنثيان في دفعة واحدة ففيها ديتان، وسواء قطع الذكر قبل الأنثيين أو الأنثيين قبله، وقال عبد الملك: في الأول منهما دية، وفي الثاني حكومة. انتهى. ووجه عبد الملك أن الثاني لا منفعة فيه؛ لأن الذكر إذا قطع أولاً لم يبق تمكن أن يولد له، وكذلك العكس؛ لأن النسل إنما هو بالبيضة اليسرى، وينبغي على هذا إذا قطعهما بالقرض أن يتفق على وجوب ديتين، وكلام المصنف لا يشمل هذه الصورة؛ لأنه قال: (وَفِي الثَّانِي) ن وفي هذه الصورة لا يوصف القطع بكونه ثانياً، وفي الثاني معه أو بعده دية أو حكومة وهي معنى الأولى، لكن الأولى أظهر، ولابن حبيب قول ثالث: في الذكر دية تقدم أو تأخر، وفي الأنثيين إن تقدمتا الدية، وإن تأخرتا فلا دية، يريد: وفيهما حكومة،

ونقل عبد الوهّاب أنهما إذا قطعهما معاً أن فيهما دية واحدة، والمشهور أظهر لما في النسائي أن في كتاب عمرو بن حزم: "وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية"، وفي مراسيل أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: "وفي الذكر إذا قطعت الحشفة". وَفِي ذَكَرِ الْعِنِّين وَالْخَصِيِّ قَوْلانِ أحدهما دية، والآخر حكومة، وقد تقدم في النكاح أن العنين حقيقة من له ذكر صغير لا يتأتى به الجماع، وقد يطلق على المعترض، والخلاف فيهما، ففي اللخمي: قال ابن حبيب: وفي ذَكَر الذي لا يأتي النساء الدية كاملة، قال: وكذلك الشيخ الكبير، وفي مختصر الوَقَار: في ذكر العنين حكومة، وعلى أحد قولي مالك فيه الدية كاملة، وكذلك الخصي الذي لم يخلق له ما يصيب به النساء الدية كاملة، وكذلك ذكر الشيخ الكبير الذي [712/ب] ضعف عن النساء، ذكره ابن حبيب عن مالك، وأما الخصي فإن أراد به المقطوع أحدهما وهو حقيقة الخصي كما قدمه المصنف في باب النكاح فهو تكرار مع قوله: (وَفِي الثَّانِي بَعْدَهُ أَوْ مَعَهُ دِيَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ)، بل نقص هنا تعيين المشهور، ولا يقال: أراد به مقطوع الحشفة؛ لأنه سيتكلم عليه؛ لأنه لا يفهم من لفظه على أنه لا يعلم في ذلك خلاف، والذي في الموازية والمجموعة عن مالك أن الأمر المجتمع عليه أنه ليس في المقطوع الحشفة إلا الاجتهاد، وإلى ذلك أشار بقوله: وَالْحَشَفَةُ كَالذَّكَرِ فَلَوْ قُطِعَ عَسِيبُهُ بَعْدَهَا فَحُكُومَةٌ كَالْكَفِّ بَعْدَ الأَصَابِعِ أي: الحشفة في الدية كالذكر، وقوله: (فَلَوْ قُطِعَ عَسِيبُهُ) تقدم من كلام مالك أنه الأمر المجتمع عليه. خليل: وقد يقال: فيه نظر، بل الظاهر أن تكون دية أخرى لأنه يجامع به، وتحصل له به اللذة، وبهذا يفارق الكف بعد الأصابع.

فإن قيل: فالعضو الواحد لا تكون فيه ديتان، قيل: هذا ممنوع؛ لأنا نوجب في السن إذا اسودت دية كذلك إذا قلعت، وخرج اللخمي قولاً بأن يكون فيه بحساب ما بقي من قول مالك في الأنف: هل الدية للمارن أو له من أصله؟ قال: إلا أن يكون في مسألة الذكر إجماع. وَالأَلْيَتَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حُكُومَةٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: الدِّيَةُ وجه قول ابن القاسم أنه لم يرد فيه نص، وبالقياس على الرجل، وقال أشهب: هما أعظم عليها ضرراً من ثديها، والأليتان بفتح الهمزة. الشُّفْرَانِ إِذَا بَدَا الْعَظْمُ فَالدَّيَةُ الشفران: بضم الشين وسكون الفاء، الجوهري: وشفر الرحم وشافرها حروفها، وروى ابن حبيب: أن ابن وهب روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في شفري المرأة بالدية إذا سلقا حتى يبدو العظم. وَالرِّجْلانِ كَالْيَدَيْنِ، وَالْعَرَجُ الْخَفِيفُ مُغْتَفَرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ لَهُ أَرْشاً أي: فيه الدية من الأصابع أو من الورك، ويندرج ما فوق الأصابع قطعاً أو شلاًّ، واحترز بالعرج الخفيف من العرج الشديد، فليس له إلا بحساب ما بقي، وإن لم يبق العرج فيها منفعة فالاجتهاد. وقوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ لَهُ أَرْشاً)، وأما إن أخذ له فبحساب ما بقي. ابن عبد السلام: وقد وقع في المدونة في ذلك اضطراب في هذه المسألة وأشباهها من العين الناقصة ضوءها واليد الضعيفة، وظاهر ما في المدونة أنه إن أخذ للعرج أرشاً فليس له إلا بحساب ما بقي، وإن لم يأخذ له أرشاً فقولان، وفي الموازية الخلاف وإن أخذ للنقص عقلاً، والنظر يقتضي ألا يكون له إلا بحساب ما أتلف.

وَالْمُقَدَّرُ مِنَ الْمَنَافِعِ عَشَرَةٌ: الْعَقْلُ: وَلَوْ زَالَ بِمَا فِيهِ دِيَةٌ تَعَدَّدَتْ لما فرغ من ديات الأعضاء شرع في المنافع، وبدأ بالعقل لشرفه، وإذا وجبت الدية في اسمع ونحوه فهو أولى، وقد ورد في الحديث أن فيه الدية كاملة، اللخمي: وإن جن من الشهر يوماً وليلة كان له جزء من ثلاثين جزءاً من الدية، وإن جن الليل دون النهار أو بالعكس كان له جزء من ستين. قوله: (وَلَوْ زَالَ بمَا فِيهِ دِيَةٌ تَعَدَّدَتْ) كما لو قطع يده فجن، فإن عليه ديتين، والتعدد مقيد بأن يكون حال العقل بسببه في غير محل العقل، أما إن كان في محله كما لو أَمَّه أو جدع أنفه، وقلنا: إن محله الدماغ فليس له إلا دية العقل، قال في المقدمات: وإن أصيب بمأمومة فذهب منها عقله فله على مذهب مالك دية العقل ودية المأمومة لا يدخل بعض ذلك في بعض؛ إذ ليس الرأس عنده بمحل للعقل، كمن أذهب سمع رجل وفقأ عينه في ضربة، وعلى مذهب ابن الماجشون إنما له دية العقل ولا شيء له في المأمومة، كمن أذهب بصر رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة، ومذهب مالك أن محله القلب، وهو قول أكثر أهل الشرع، وهو مذهب عبد الملك وأبي حنيفة أن محله الرأس، وهو مذهب أهل الفلاسفة. السَّمْعُ: وَفِي إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَا نَقَصَ فبحِسَابِه، وَيُعْرَفُ بِأَنْ يُصَاحَ مِنْ مَوَاضِعَ عِدَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، مَعَ سَدِّ الصَّحِيحَةِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ حُلِّفَ، وَنُسِبَ إِلَى سَمْعِهِ الآخَرِ، وَإِلا فَسَمْعٌ وَسَطٌ، فَإِنِ اخْتُلِفَتْ فَقِيلَ: لا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: لَهُ الأَقَلُّ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ صَحَّ أَنّْ أَحَدَ السَّمْعَيْنِ يَسْمَعُ كَالسَّمْعَيْنِ فَهُوَ عِنْدِي كَالْبَصَرِ ... لا أعلم خلافاً أن في السمع الدية وفي أحدهما نصفه، فإن نقص منهما أو من أحدهما فبحسابه، ومعرفة ما نقص من ذلك بأن يصاح من مواضع مفترقة بعد سد الصحيحة، فإذا لم يختلف قوله سدت الناقصةويصاح به، ثم ينظر ما بين الصحيحة والمصابة، وينسب ذلك إلى الدية وأخذ ما بقى بنسبته.

قوله: (وَإِلا فَسَمْعٌ وَسَطٌ) أي: وإن لم ينك له سمع آخر وأصيب في أذنيه نسب سمعه إلى سمع وسط ثم لابد من يمينه، نَص عليه مالك وابن القاسم وأشهب، وظاهر رواية ابن وهب سقوط اليمين، ويجري فيها الخلاف من يمين التهمة. وقوله: (فَإِنْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ) أي: اختلافاً متبايناً، وأما التقارب فيصدق كالمتساوية، وقوله: (لا شَيْءَ لَهُ) أي: للمجني عليه، وفي بعض النسخ: (فَلا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي)، وهذا قول مالك في الموازية، ونقله أصبغ عن مالك وأصحابه؛ لأن اختلاف قوله يدل على كذبه، وقال عيسى بن دينار: له الأقل مع [713/أ] يمينه، وإذا وجبت اليمين مع عدم الاختلاف فهنا أولى. وقوله: (قَالَ أَشْهَبُ) هو دليل على أن أشهب إنما قال بوجوب الدية في عين الأعور؛ لأن نظر الأخرى قد انتقل فلذلك قال: (إِنْ صَحَّ ... إلخ)، وأشار ابن القاسم في المدونة إلى أن حكم عين الأعور مقصور عليها للسنة، وذلك على خلاف القياس لقصر الحكم على محله. الْبَصَرُ: وَهُوَ كَالسَّمْعِ، وَيُخْتَبَرُ بِإغْلاقِ الصَّحِيحَةِ، وَتُجْعَلُ البَيْضَةُ ونَحْوُهَا فِي أَمْكِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَيْنُ الأَعْوَرِ .... أي: البصر كالسمع في تكميل الدية بذهاب جميعه، وفي أحدهما نصفها، فإن ادعى نقص بصره اختبر بيضةونحوها، وصفةذلك كما تقدم في السمع، وقد تقدم حكم عين الأعور كما تقدم أن فيها الدية. وَإِذَا ادَّعَى الْمَضْرُوبُ ذَهَابَ جَمِيعٍ سَمْعِهِ وَبَصَرِه صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ، وَيُخْتَبَرُ إِنْ قُدِرَ عَلَى ذِلِكَ بمَا وَصَفْنَاه، وَالظالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ .... الاختبار في الأذن أن يصاح على غفلة صياحاً شديداً. أشهب: ويشار إلى عينيه جميعاً، أو العين التي يقول ذهبت، فإن لم يستدل على كذبه صدق مع يمينه، ولما كان قبول قول المدعي من غير بينة على خلاف مقتضى الأحوال استشعر

المصنف ذلك سؤالاً فأجاب بقوله: (وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ)، وهكذا قال في المدونة، وهو جواب لا يقيم جميع صور المسألة؛ إذ الظلم من لوازم العمد، والمسألة مفروضة في العمد والخطأ، ولو قال المصنف: يختبر، كما ذكرنا لكان أحسن. الشَّمُّ: وَيَنْدَرِجُ فِي الأَنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ مَعَ الأُذُنِ أي: في الشم الدية، فإن قطع أنفه فأذهب شمه فدية واحدة، ويندرج الشم في الأنف كما يندرج البصر مع العين والسمع في الأذن، وهذا قول ابن القاسم. وقال ابن الجلاب: القياس عندي أن يكون في الشم والأنف ديتان، وكذلك في الأذنين إذا أذهبا مع السمع، والقياس أن يكون فيها دية وحكومة على اختلاف الروايتين في ذلك. النُّطْقُ: فِيهِ الدِّيَةُ إِنْ بَقِيَ الذَّوْقُ، وَمَا نَقَصَ فَبحِسَابهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: تُجَزَّأُ الدِّيَةُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً؛ عَدَدَ الْحُرُوفِ ... لا خلاف أعلمه أن في النطق الدية، وما نقص فبحسابه واختلف في ذلك، ففي المدونة وغيرها يقدر أهل المعرفة ولا ينظر إلى عدد الحروف فإن منها الرخو والشديد، فن قال: يقع في نفوسنا أنه ذهب من كلامه نصفه أو ثلثه أعطي بقدر ذلك. قال في العتبية وغيرها: وإن شك أهل المعرفة الثلث أو الربع أعطي الثلث، والظالم أحق أن يحمل عليه. قال في البيان: والأولى في الخطأ ألا يكون له إلا الأقل. أصبغ: تجزأ الدية على ثمانية وعشرين جزءاً عدد الحروف، ثم يقال له انطق بالحروف، فما عجز عن النطق به أعطي بحسابه، وبعضها إن كان أثقل إلا أن ذلك لا ينبغي أن يراعي كالأصابع، فإن بعضها أنفع منبعض وعقلها متساوٍ. واختاره اللخمي، وردّه ابن المواز وغيره بأن بعض اللسان لا حظ للسان فيه كالباء والميم اولحاء، وأيضاً فإن الحروف لا تنحصر في ثمانية وعشرين في لغة غير العرب، ولا تبقى بإسقاط حظ الزائد؛ لأن الدية عوض عن الكلام الذي هو أعمّ من لغة العرب.

وَفِي الصَّوْتِ الدِّيَةُ النطق أخصر من الصوت، وقد نص أبو بكر في الوقار على ما ذكره المصنف، أما لو ذهب دفعة واحدة النطق والصوت فدية واحدة. وفي اللخمي: إن ذهب بعض كلامه وذهب صوته أخذ جميع العقل دية كاملة، وإن ذهب نصف كلامه ونصف صوته أخذ ثلاثة أرباع الدية؛ لأنه يستحق نصف الدية عن ذهاب نصف الكلام، ويسقط ما يقابله من الصوت وهو النصف؛ لأنه لو ذهب جميع الكلام وجميع الصوت لم يزد للصوت شيئاً، وبقي نصف الكلام ذهب منها الصوت فليأخذ لما ذهب من صوته ربع الدية. وَفِي الذَّوْقِ الدِّيَةُ ابن عبد السلام: هذا هو المشهور. وعلى ما يظهر نم كلام غير واحد من الشيوخ ولم يذكر فيه أكثرهم خلافاً، ونحا أبو الفرج إلى أن فيه حكومة، وربما استقرئ هذا القول من المدونة وغيرها حيث لم يجعلوا في لسان الأخرس إلا الحكومة من أن الذوق حاصل في لسان الأخرس. انتهى. وقال ابن راشد: هكذا نقل ابن شاس. وقال اللخمي: فيه الدية قياساً على الشم، ورأيت الفقهاء بالديار المصرية ينكرون عليه هذا النقل ويقولون: هو خلاف المدونة؛ لأنه أوجب فيها في لسان الأخرس حكومة وقيد الذوق، ولعله أجاب في المدونة عن لسان الأخرس ذاهلاً عن الذوق، ولو نبه على ذلك لأجاب بالدية. انتهى باختصار. وفي المقدمات: ينبغي على أصولهم أني كون في الذوق الدية كاملة، ولا أعلم لأصحابنا فيه نصاً. وَيُجَرِّبُ بالْمُرِّ الْمَقِرِ بفتح الميم وكسر القاف، يقال منه مقر الشيء بالكسر يمقر مقراً إذا صار مراً فهو شيء مقر، والمقر أيضاً الصبر، وفي بعض النسخ: (المنفر) وهي كالأولى؛ أي الشديدة

المرارة، والذي لا يمكن الصبر عليه، وفي بعض النسخ: (المقه) وليستظاهرة؛ لأن المقه لغة: القبيح البياض، وليس المراد هنا، وسكت المصنف هنا عن اليمين، والظاهر أنه غير [713/ب] محتاج إليها؛ لأن الدال على صدقه هنا قوي، وهو اختباره بشديد المرارة، ولهذا عاقبه المصنف بوجوب اليمين في الجماع فقال: وَفِي قُوَّةِ الْجِمَاعِ الدِّيَةُ وَيَحْلِفُ لا أعلم فيه خلافاً. اللخمي: وتجب الدية في ذهاب النسل بشيء سقاه أو أطعمه وإن لم يبطل الإنعاظ. فَإِنْ رَجَعَتْ رَدَّهَا قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، وَفِي الإِفْضَاءِ قَوْلانِ: حُكُومَةٌ وَدِيَةٌ؛ وَهُوَ رَفْعُ الْحَاجِزِ بَيْنَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الذَّكَرِ ... القول بالحكومة في المدونة، ونص عليه في كتاب الرجم، والقول بوجوب الدية يه لابن القاسم، وهو الأقرب، وعلله ابن شعبان بأنه منعها اللذة، ولا تمسك الولد ولا تمسك البول إلى الخلاء؛ ولأن مصيبتها بذلك أعظم من الشفرين، وقدنصوا على وجوب الدية فيه، وتفسيره ظاهر التصور. وَلا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْمَهْرِ بخِلافِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ أي: ولا يندرج الإفضاء تحت المهر بخلاف البكارة؛ لأنه لا يمكن الوطء إلا بإزالتها. وَلَوْ أَزَالَ الْبَكَارَةَ بأُصْبُعِهِ فَحُكُومَةً أي: فعلى الزوج حكومة، وعليه نصف الصداق إن طلق، وهو القياس عند أصبغ في الموازية، ولابن القاسم أيضاً أن لها الصداق كاملاً.

وَالزَّوْجُ وَغَيْرُهُ فِيهمَا سَوَاءٌ إِلا فِي الْحَدِّ وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ فِي الإِفْضَاءِ إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ بخِلافِ الأَجْنَبيِّ يَغْتَصِبُهَا ... (فيهِمَا) أي: في الإفضاء والبكارة. وقوله: (سَوَاءٌ) أي: في لزوم الدية أو الحكومة على القولين في الإفضاء ولزوم الحكومة في البكارة، ثم استثنى من المساواة وجوب الحد على الأجنبي إذا أزال البكارة بغير أُصبُعه، وحمل العاقلة في حق الزوج فإن عاقلته تحمل أرش الإفضاء لأنه خطأ، وهو ظاهر على القول بلزوم الدية؛ ولذلك ترك المصنف التفريع عليه، وأما على القول بلزوم الحكومة فيشترط فيها أن تبلغ الثلث. واحترز بقوله: (يَغْتَصِبُهَا) مما لو طاوعته، فإنها لا أرش لها حينئذٍ في إفضائها، نص عليه في المدونة في الرجم. وقال أشهب: عليه الحكومة وإن طاوعته. واستحسنه اللخمي قال: ولا فرق في ذلك بين الزوج وغيره؛ لأن كل ذلك طوع. وفرق المشهور بأنها في الزنى أسقطت حقها بتمكينها من نفسها بخلاف ذات الزوج فإنها مجبرة على التمكين. وَفِي مَنْفَعَةِ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ الدِّيَةُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: وَفِي قِيَامِهِ فَقَطْ، ثُمَّ مَا نَقَصَ فَبِحِسَابِهِ ... يعني: أنه تجب الدية في مجموع منفعة القيام اولجلوس، وروى ابن القاسم في قيامه بانفراده الدية، ووجهه القياس على الرجل. والذي في المدونة: وقال مالك في الصلب الدية. قال ابن القاسم: ذولك إذا قصر عن القيام. فعلى هذا إن قدر على المشي مع حدب أو عتل فإنما فيه الاجتهاد، ونحوه لمالك في المجموعة، ورواه ابن وهب. وقال عبد الملك: إذا انكسر الصلب ولم يقدر على الجلوس ففيه الدية. اللخمي: وقيل: فيه الدية إذا انطوى، يريد إذا صار كالراكع.

اللخمي: ويصح أن تكون الديةفي الصلب للفصلين جميعاً إذا بطل جلوسه وإن كان يقدر على المشي على الحباء وإن لم يبلغ أن يكون كالراكع، وكذلك إذا فسد قيامه وصار كالراكع وإن كان يقدر على الجلوس. وقال ابن الماجشون: في الصلب ثلاثة وثلاثون فقارة، فإذا كان في الصلب الدية ففي كل فقارة ثلاثة من الإبل. اللخمي: فراعى الصلب، ولم يراعِ ما أفسده من المشي. وقوله: (ثُمَّ مَا نَقَصَ فَبحِسَابِهِ) أي: على كل قول فعلى الأول يعتبر النقص من مجموع القيام والجلوس وعلى الثاني يعتبر من القيام فقط. وَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ ذَلِكَ وَجِمَاعُهُ فَدِيَتَانِ يعني: أن دية ذهاب الجماع لا تندرج تحت الصلب، وإن كانت قوة أكثر الجماع من الصلب. فرع: بقي على المصنف مما فيه الدية ما إذا أجذمه أو أبرصه أو أسود جسمه. واختلف في هدم عظام الصدر، فقال ابن القاسم: فيه الدية. وقال ابن عبدوس: فيه حكومة. اللخمي: وفي الشَّوَي-وهي جلدة الرأس- الدية. وقاله عبد الملك، ونص اللخمي أيضاً على وجوب الدية إذا سقاه ما أبطل نسله، وإن كنا أنعظ ويمني. وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَحُكُومَةٌ كَأَشْفَارِ الْعَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَاللّحْيَةِ الرَّاسِ لَمْ تُنْبِتْ لأن هذه الأشياء إنما فيها جمال. فَأَمَّا جِرَاحُ الْعَبْدِ فَمُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْبُرْءِ بقِيمَتِهِ، وَفِي الشِّجَاجِ الأَرْبَعِ مِنْ قِيمَتِهِ بنِسْبَتِهَا مِنَ الدِّيَةِ، فَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ ... لما في الموطأ أن مروان بن عبد الحكم كان يقضي في العبد يصاب بالجرح أن على من جرحه قدر ما نقص من ثمن العبد؛ أي: من قيمته.

وقوله: (بَعْدَ الْبُرْءِ) أي: الحر، وهذا مقيد بما إذا لم ينك الجرح لم يتلف المقصود منه، وأما إن أتلفه فإنه يضمن جميع قيمة العبد ويعتق عليه أحب سيده أم كره؛ لأن قيمته عوضه، وهو مضار ي ترك قيمته، وأخذ ما لا ينتفع به، وإحرام العبد العتق. وقوله في المدونة: ويعتق عليه هو المشهور. وقال ابن االماجشون ومطرف: لا يعتق عليه لأنه إنما مثل بعبد غيره. قوله: (وَفِي الشِّجَاجِ الأَرْبَعِ) أي: المأمومة والجائفة والمنقلة والموضحة (مِنْ قِيمَتِهِ بنِسْبَتِهَا مِنَ الدِّيَةِ) ففي كل من المأمومة والجائفة ثلث قيمته وهو ظاهر، وإنما فرق بين هذه وغيرها ما فيها تقدير كاليد والسن؛ لأن هذه الجراح قد تبرأ [714/أ] من غير شين، فلو لم يلزم الجاني إلا ما سلم في بعض الأوقات من أرش الجناية بخلاف غيرها، هكذا في عيسى بن دينار. وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ جَبَّهُ فَلَمْ يُنِْصْهُ فَلا غُرْمَ وَيُعَاقَبُ فِي الْعَمْدِ قد تقدم الكلام على هذه المسألة وما فيها من الخلاف في الغصب حين ذكرها المصنف. وقوله: (وَيُعَاقَبُ فِي الْعَمْدِ) ليست العقوبة خاصة بهذه المسألة، بل هي في كل جناية عمد. وَالْمَرْأَةُ مُسْلِمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا تُعَاقِلُ الرَّجُلَ مِثَلَهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ ثُلُثَ دَيَتِهِ فَإِذَا بَلَغَتْهُ رُدَّتْ إِلَى قِيَاس دِيَتِهَا، فَفِي ثَلاثِةِ أَصَابِعَ مِنَ الْمُسْلِمَةِ ثَلاثُونَ وَفِي أَرْبَعٍ عِشْرُونَ، وَالْمُوضَحِةُ وَالْمُنَقَّلَةُ كَالرَّجُلِ، وَالْمَامُومَةُ وَالْجَائِفَةُ نِصْفُهَا ... تعاقله؛ أي: تساويه في العقل. ومعنى قوله: (مِثْلَهَا) المسلمة تعاقل المسلم والكتابية تعاقل الكتابي. ثمبين أن تلك المساواة بشرط ألا تبلغ الثلث، فإن بلغته رجعت إلى عقلها، ثم بين ذلك فقال: (فَفِي ثَلاثَةِ أَصَابِعَ مِنَ الْمُسْلِمَةِ ثَلاثُونَ) لكونها لم تبلغ ثلث

الدية، (وَفِي أَرْبَعٍ عِشْرُونَ) لرجوعه إلى ديتها، وهي في الموضحة والمنقلة كالرجل بخلاف الأمومة والجائفة. ولما كان هذا الحكم يستشكله الذهن بأول وهلة أتبعه بالدليل عليه فقال: وَهُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ: سَأَلْتُ ابْنَ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: كَمْ فِي ثَلاثَةِ أَصَابِعَ مِنَ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: ثَلاثُونَ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي أَرْبَع؟ فَقَالَ: عِشْرُونَ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا. فَقَالَ: أَعِرَاقِيٍّ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: بَلْ عَالِمِّ مُتَثَبِّتٌ، أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ، فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي ... هذا نقله ابن شاس، ونقل ابن عبد البر: جمهور المدينة. وبه قال الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز والليث وعطاء وقتادةوزيد بن ثابت رضي الله عنهم، ورواه النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها". عبد الحق: وفيه عياش وهو في غير الشاميين ضعيف. ابن عبد البر: وقول ابن المسيب: (هيَ السُّنَّةُ) يدل على أنه أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وَحَيْثُ اتَّحَدَ الْفِعْلُ أَوْ كَانَ فِي حُكْمِهِ لَمْ يُعْتَبَرِ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ، فَضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ تُبينُ أَصَابِعَ مِنْ يَدَيْنِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْيَدِ ... لما بين أنها تعاقله فيما دون الثلث ولا تعاقله في الثلث أخذ يبين ما يضم من الجنايات وما لا يضم، فذكر أن الفعل الواحد أو ما في حكمه يوجب الضم وإن اختلف المحل كما أن اتحاد المحل يوجب الضم وإن افترق الفعل، وخالف عبد العزيز في هذا فرأى أن ما كان مفترقاً لا يضم وإن كان في فور واحد وليس كالضربة الواحدة، وروى المغيرة عن مالك مثله. أشهب: والأول أحب إلينا كالسارق أصل سرقته.

وقوله: (حُكْمُهَا) أي: حكم اليدين كاليد الواحدة فإن قطع من اليدين ثلاثة أصابع فعليه ثلاثون، وإن قطع أربعاً فعشرون. فَلَوْ قُطِعَ لَهَا بَعْدَهُ أُصْبُعٌ لَمْ يُضَمَّ بَلْ تَاخُذُ لَهُ عُشْراً إِنْ كَانَ ثَانِياً أَوْ ثَالِثاً أَوَ خَامِساً كَمَا لضوْ كَانَ فِي كُلِّ يَدٍ عَلَى حِيَالِهَا وَكَذَلِكَ الرَّجْلانِ ... الضمير في (بَعْدَهُ) يعود على الضرب المفهوم من ضربه أوعلى القطع المفهوم من (تُبينُ). وقوله: (بَلْ تَاخُذُ) ذكَّر الأصبع لأنه يؤنث ويذكَّر، نص عليه الجوهري، ومراده بقوله: (لَمْ يُضَمَّ)؛ أي اليدين معاً، ويضم إليى اليد الواحدة فتأخذ له عشراً إن كان من اليد الأولى أصًبع أو أصبعين، وهو معنى قوله: (ثانياً أَوْ ثَالِثاً) على اختلاف النسخ وخمساً إن كان واق بأن يكون طع من اليد أولاً ثلاثة أصابع، (أوَ خَامِساً) بأن يكون قطع أولاً أربعاً. وقوله: (كَمَا لَوْ كَانَ ... إلخ) كما لو كان القطع في كل يد بانفرادها، ثم قطعت بعد ذلكمن أحد اليدين فإنها لا تضم إلى اليد المقطوعة، وقوله: (وَكَذَلِكَ الرِّجْلانِ) أي: في جميع ما تقدم، وضابط هذا أنك تضم إذا اتحد المحل وإن تعدد الضرب، وكذلك تضم إذا اتحد الضرب وإن تعدد المحل وإن لم يتحد فلا يضم، واعترض عليه ابن عبد السلام: تذكير الأصبع وهو مؤنث، وقد تقدم ما يجاب عنه، وكذلك بتقديرنا قوله: (لَمْ يُضَمَّ)؛ أي اليدين معاً يندفع قوله ابن عبد السلام أيضاً، فقول المصنف: (لَمْ يُضَمْ) منافٍ لقوله: (وخمساً إن كان رابعاً)، والله أعلم. وَقِيلَ: لا يُضَمُّ شَيْءٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ فِيهِمَا كَالْمَشْهُورِ فِي الأَسْنَانِ وَكَالْمَوَاضِحِ أَوْ الْمَنَاقِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ ... (فِيهِمَا) أي في الصورتين المتقدمتين إذا كان المقطوع في اليدين أو في كل يد على حالها، ويحتمل أن يعود على اليدين او الرجلين على ما إذا تعدد الضرب وقرب الزمان

بينهما أو بعد، وهذا القول مذهب عبد العزيز بن سلمة، وروى المغيرة عن مالك مثله، وذلك أن هذين الإمامين يقولان: لا يضاف حكم أصبع إلى الآخر إلا أن يقطع من الكف في ضربة واحدة أربع أصابع فتأخذ بحساب عقلها، ثم إن قطع بعد ذلك الأصبع الخامسة يكون خمس، وقال عبد الملك: عشرة. ونحوه عن ابن نافع، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال. انتهى. وقوله: (كَالْمَشْهُورِ فِي الأَسْنَانِ) يعني أن المشهور فيها عدم الضم، بل تأخذ لكل سن قطعت بعد غيرها خمساً، والقولان لابن القاسم، ورأى في الشاذ الضم كالأصابع. اللخمي: وعدم الضم أقيس، ولا يصح الضم إلا على قول ابن المسيب أن في جميع الأسنان [714/ب] دية كالأصابع في جميعها، وأما على قول مالك أنه لا يقتصر على دية وأن في كل واحدة خمس فلا يحسن، ويكون كالمواضح والمناقل فلا يضم بعضها إلى بعض قالوا: باتفاق. وَلا يُضّمُّ الْخَطَأُ إِلَى الْعَمْدِ-اقْتَصَّتْ أَوْ عَفَتْ-فَتَاخُذُ لِرَابعٍ وَخَامِسٍ عِشْرِينَ هذا هو المعروف، ولم يختلف فيه قول ابن القاسم وروايته، قال في البيان: وروى أشهب أنه يحسب عليها من أصابعها ما أصيب به عمداً، وهو قول سحنون والبرقي. وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ فِي حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَافٍ وَبَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الْجَانِي أَيْضاً عَلَى الأَشْهَرِ مُنَجَّمَةً ... لما فرغ من تقدير الديات في النس وأجزائها شرع في بيان من هي عليه فذكر أن الدية على العاقلة بشرط أن تكون الجناية خطأ أو في حكمه، وهو العمد الذي لا قصاص فيه كالمأمومة والجائفة، ولا يريد بما في حكمه الدية على الأب فإنه قد تقدم ان المشهور كونها على الأب.

وقوله: (مِنْ غَيْرِ اعْتِرَافٍ) يعني: ويشترط في وجوبها على العاقلة أن يثبت القتل ببينة، أو في معناه من اللَّوْث بخلاف الاعتراف، وسيأتي ما فيه من الخلاف. قوله: (وَبَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الْجَانِي) شرط ثالث؛ أي أن الدية لا تجب على العاقلة إلا أن تبلغ الثلث. أبو عمر: وهو قول الفقهاء السبعة خلافاص للشافعي في حملها القليل والكثير، وقوله: (ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الْجَانِي أَيْضاً) أي أيهما بلغ حملته العاقلة، والأشهر مذهب المدونة فلو وجبت على رجل منقلة حملتها العاقلة، ومقابل الأشهر في العتبية أن العاقلة إنما يحتمل ما بلغ ثلث دية المجني دون الجاني، ويظهر الخلاف في المرأة والكتابي والمجوسي، ولعبد الملك ثالث: أن العاقلة لا تحمل إلا ثلث دية رجل كان الجاني رجلاً أو امرأة، وإنما جعلت الدية على العاقلة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كذلك فعل، ولم تجعل على الجاني رفقاً به؛ لأنه معذور بالخطأ، ورفقاً أيضاً بالعاقلة في جعلها عليهم منجمة في ثلاث سنين، وحكى اللخمي عن أشهب أن العاقلة لا تحمل إلا ما زاد على الثلث. وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ وَفِيما لَمْ يَبْلُغِ الثُّلُثَ فَعَلَى الْجَانِي حَالَّةً هذا بيان ما احترز عنه، وقوله: (حَالَّةً) هو المشهور، وقيل: إن دية العمد منجمة. وَجِرَاحُ الْعَمْدِ الَّتِي لا قَوَدَ فِيهَا كَالْمَامُومَةِ وَالْجَائِفَة وَكَسْرِ الْفَخِذِ إِنْ بَلَغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ بخِلافِ قَطْعِ الْيَدِ وَنَحْوِه مِمَّا لَوْ كَانَ لَهُ لَقَطَعَ لأَنَّ هَذَا يَسْقُطُ لِلْعَدَمِ ... يعني: أنه اختلف في الجراح التي لا قصاص فيها لكونها متالف فكان مالك أولاً يقول: عقلها في مال الجاني. ثم رجع إلى أنه على العاقلة بناءً علىلنظر العمد أو إلى عدم القصاص فكانت كالخطأ، ولمالك ثالث أنها في ماله إلا أن يكون عديماً فعلى العاقلة.

وقوله: (بخِلافِ ... إلخ) أي أن القصاص في هذا إنما سقط لعدم وجود مثله للجاني فلهذا يكون عقلذلك في ماله، بخلاف المأمومة ونحوها فإن القصاص قد سقط مع أن موضعها قائم. وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةٌ خَطَأً فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَسَمْعُهُ فَدِيَتَانِ وَنِصْفُ عُشْرٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً وَمَامُومَةُ بضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ... نحوه في المدونة، وهو ظاهر على مذهب مالك الي يرى العقل في القلب، واما على قول عبد الملك فإذا كانت الموضحة في اللحي الأعلى من الوجه فكذلك وإن كانت في الدماغ تسقط دية الموضحة، واحترز بقوله: (خَطَأً) مما لو كانت الموضحة عمداً فإنه يقتص له من الموضحة، فإن ذهب عقل المقتص منه وسمعه فواضح، وإن لم يذهب ذلك فدية ذلك في مال الجاني على المشهور. قوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً ومَامُومَةً) إنما مثل مثالين لينبه على أنه لا فرق بين جرح ومنفعة وبين جرحين. وقوله: (بضَرْبَةٍ) احترازاً من ضربتين فإن العاقلة لا تحمل الموضحة حينئذٍ؛ لأنها دون الثلث. وَالدِّيَةُ الْمُغَلِّظَةُ عَلَى الْجَانِي عَلَى الْمشْهُورِ قد تقدم هذا. وَلا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ عَمْدٍ وَلا عَبْدٍ وَلا صُلْحَاً ولا قَاتِلاً نَفْسَهُ عَمْداً أَوْ خَطَأً، وَلا اعْتِرَافاً وَلا أَقَلُّ مِنَ الثُّلُثِ ... أما العمد فلا خلاف أن العاقلة لا تحمله إلا ما تقدم من المتالف، وأما العبد فلأنه إن جنى عمداً اقتص منه، وإن جنى خطأً ففي رقبته، وأما الصلح فإن كان عمن يلزم العاقلة

من دية الخطأ فمن حق العاقلة أن ترده إن شاءت، وإن كنات عن عمد فلا يلزمها الأصل ولا الفرع، وجمهور العلماء على أنه لا شيء في قتل الإنسان نفسه، ورأى الأوزاعي على عاقلته الدية، وسيأتي الخلاف في الاعتراف بالخطأ. قوله: (وَلا أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ) تقدم الكلام عليه. وَالْعَاقِلَةُ هِيَ الْعَصَبَةُ وَالْحِقَ بِالْعَصَبَةِ أَهْلُ الدِّيوَانِ لِعِلَّةِ التَّنَاصُرِ هذا ما قال مالك أن العاقلة هي العصبة، ابن الجلاب: قربوا أو بعدوا. ابن عبد البر: وكانت الدية في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتعاقلون بالنصرة فجرى الآن على ذلك، حتى فعل عمر رضي الله عنه الديوان. قوله: (وَالْحِقَ بالْعَصَبَةِ) مجمل في حمل العقل من حيث الجملة، ويحتمل أنهم يدخلون معهم في الحمل، والأول هو المراد؛ لأن ظاهر كلام مالك وأشهب وأًبغ أن الديوان مقدم على العصبة، وسيصرح المصنف بذلك، وحكى ابن شعبان قولاً بأنه لا مدخل للديوان في [715/أ] العصبة ولا يعقل على الإنسان إلا قومه. وَقَالَ أَشْهَبُ: بشَرْطِ قِيَامِ الْعَطَاءِ هكذا نقله اللخمي عن أشهب وابن القاسم، ومعناه أنه إنما يحمل أهل الديوان بشرط قيام العطاء لهم ليعطوا منه. أشهب: وإن لم يكنعطاءً قائماً يحمل عنه قومه، وإن لم يكن في أهل الديوان من يحمل ذلك لم يدخل معهم الخارجون من أهل الديوان، ويضم إليهم من أهل الديوان أقرب القبائل إليهم. وَالْمَوَالِي الأَعْلَوْنَ أي: اتفقوا على دخول المولى الأعلى؛ لأنه من العصبة، وعصبة النسب مقدمة عليه كما تقدم الأقرب فالأقرب من ذوي الأنساب.

وَبَيْتُ الْمَالِ أي: لمن لا عاقلة له؛ لأنهم كام يرثون يعقلون عنه. وَلِذَلِكَ يُقْسِمُ مَوَالِي أُمِّ الْمُلاعَنَةِ عَلَى ابْنِهَا فِي الْعَمْدِ، فَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْعَرَبِ فَلا قَسَامَةَ، وَأَمَّا فِي الْخَطَأ فَوَرَثَتُهُ ولأجل أن الولى الأعلى من العاقلة، لموالي الملاعنةأن يقسموا علىبنها في العمد والدية في الخطأ، وإن كانت من العرب فلا اسمة في المد لعدم العاصب بخلاف الخطأ فتقسم أمه وإخوته لأمه ويأخذون حظهم من الدية، وإلى هذا أشار بقوله: (وَأَمَّا فِي الْخَطَأ فَوَرَثَتُهُ)، ولو أسقط المصنف (أُمَّ)، وقال: مولى الملاعنة لكان أصوب، ولعله من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي الأم الملاعنة. وَالْمُوَالِي وَالْمُحَالِفُ فَلَيْسَ مِنْهَا أي: من العاقلة. وَفِي الْمَوَالِي الأَسْفَلِينَ قَوْلانِ القول بدخولهم رواه أصبغ عن ابن القاسم، وأكثر مسائل أهل المذهب تدل عليه، والقول بعدم دخولهم لسحنون في كتاب ابنه، وهو أقيس؛ لأنهم ليسوا عصبة ولا ورثة. وَفِي دُخُولِ الْجَانِي فِي التَّحَمُّلِ رِوَايَتَانِ استظهره ابن القصار وهو الصواب، وذكر صاحب الإشراف عن بعض أصحابنا أن قول مالك بدخوله استحسان وليس بقياس.

يُبْدَأُ بأَهْلِ الدِّيوَانِ فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى مَعُونَةٍ أَعَانَتْهُمْ عَصَبَتُهُمْ أي: بأهل الديوان وإن كانوا قبائل شتى، وهكذا في الموازية والعتبية، قال في البيان: وهو خلاف المدونة أن العقل إنما هو على عصبة القاتل فإن اضطر إلى معونة الديوان أعانهم عصبتهم، وفي الموازية: أعانهم من قومه من ليس معهم في الديوان، قال: ما يفعلون ذلك وإني لا أرى ذلك. ابن المواز: ليس ذلك عليهم. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ دِيوَانٍ فَعَصَبَتُهُ وَيُبْدَأُ بالْفَخِذِ ثُمَّ الْبَطْنِ ثُمَّ الْعِمَارَةِ ثُمَّ الْفَصِيلَةِ ثُمَّ أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ .... هكذا ذكر ابن شاس، وحاصله: البداءة بالأقرب فالأقرب، وما ذكره المصنف راجع إلى اللغة، وحكى الجوهري ما حكاه المصنف عن أبي عبيد عن ابن الكاتب عن أبيه قال: الشعب أكبر من القبيلة ثم العصبة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ، ولنقتصر على هذا فإنه متعلق باللغة لا بالفقه، ونقل ابن كوثر وابن أبي جمرة في وثائقهما عن سحنون أن حد العاقلة سبعمائة منتمون إلى أب واحد، وفي البيان في الديات الأولى أن في رواية سحنون: إذا كانت العاقلة خمسمائة وألف فهم قليل، ويتمم أقرب القبائل إليهم. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ فَمَوالِي فإَِنْ فَبَيْتُ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِماً، وَإِنْ كَانَ ذِمِّياً فَأَهْلُ إِقْلِيِمِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ثُمَّ يَضْرِبُ الأَقْرَبُ الَّذِينَ مِنْ كُوَرِهمْ أي: الأعلون والأسفلون على الخلاف المتقدم. وقوله: (إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِماً) هذا شرط في بيت المال؛ لأن ما قبلها من المراتب يشترط فيها المسلم والذمي، وما ذكره المصنف ظاهر على القول بأن مال الكتاب الحر لأهل دينه ولورثته، وأما على قول ابن القاسم بأن ماله للمسلمين فينبغي أن يعقل عنه في بيت المال.

واحترز بقوله: (مِنْ أَهْلِ دِينِه) من اليهودي بالنسبة إلى النصراني وبالعكس. سحنون: وإذا لزمتهم أي اليهود بمدينة القيروان وإفريقية دخل فيها من إفريقية من اليهود الذين يحملون معهم الخراج فكل من كان يحمل معهم الخراج فكان خراجهم واحداً يأخذون به ويعقلون عنه، وإن لم يكن فيمن معهم الخراج قوة على أداء العقل أسلفهم الإمام ولا يقدحون. أشهب: وإن دخل إلينا حربي بأمان فقتل مسلماً حبس وأرسل إلى موضعه وكورته فيخبرونهم بما صنع وما يلزمهم في حكمنا فإن أدوا عنه وإلا لم يلزمه إلا ما كان يؤدبه معهم، رواه البرقي عنه، وروي عن سحنون الدية في مال الجاني، وليس على أهل بلده منها شيء، وقال ابن القاسم: ديته على أهل دينه الحربيين، والكُوَر: بضم الكاف وفتح الواو، وجمع كورة بضم الكاف وسكون الواو، الجوهري: وهي المدينة. فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ صُلْحٍ فَأَهْلُ ذَلِكَ الصُّلْحِ هكذا قال مالك في الموازية. وَلا يُضْرَبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ إِلا بمَا لا يَضُرُّ بمَالِهِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ بقَدْرِه وَمِمَّنْ دُونَهُ بقَدْرِه، وَلا يُضْرَبُ عَلَى فَقِيرٍ وَلا عَلَى مُخَالِفٍ فِي الدَّينِ وَلا على عَبْدٍ وَلا صَبيِّ وَلا امْرَأَةٍ ... يعني: أنه لا يؤخذ من كل واحد من العاقلة إلا ما لا يضر بماله؛ فذلك يختلف الضرب بحسب الغني والفقر. قوله: (وَلا يُضْرَبُ) فهذا بيان منه لموانع ضربها، فلا تضرب على فقير؛ لأنها إعانه والفقير ينبغي أن يعان، ولا على مخالف في الدين لأن علتها التناصر، ولا تناصر مع اختلاف الدين، والعبد كالفقير، والصبي والمرأة [715/ب] لا تناصر فيهم، اللخمي:

خمسة يعقل عنهم ولا يعقلون: الصبيان والمجانين والنساء والفقير والغارم، وإذا كان عليه من الدين بقدر ما في يديه ويفضل له ما يكون به في عدد الفقراء، ولو كان لا شيء بيده فهو فقير. فَلَوْ بَلَغَ الصَّبيُّ أو قَدِمَ الْغَائِبُ لَمْ يَدْخُلْ، فَلَوْ أُعْدِمَ مَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ لَمْ تُزَلْ أي: المعتبر من كان موصوفاً بالصفات المتقدمة يوم ضربها؛ فلذلك إن بلغ الصبي أو قدم الغائب لم يدخلا، ولا تزاد على من أيسر، ولو أعدم من جعلت عليه لم تزل. وَفِيمَنْ مَاتَ قَوْلانِ الأقرب عدم السقوط لاتفاقهم على العدم، وهو قول ابن القاسم، والقول الآخر لأصبغ، قال: ويرجع ذلك إلى بقية العاقلة. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ أَعْطِيَاتِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ دِرْهَمٌ وَنَصِفٌ هذا كالبيان لقوله: ولا تضرب إلا بما لا يضر بماله. وَلا دُخَولَ لِلْبَدَويِّ مَعَ الْحَضَرِيِّ وَإِنْ كَانَتْ قَبِيلَتَهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ خِلافاً لأشْهَبَ، كَمَا لا يَدْخُلُ أَهْلُ مِصْرَ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ، وَبُعَدُّ كَالْعْدُومِ .... يعني: لا تعقل أهل البادية مع الحاضرة ولا بالعكس وإن كانت قبيلة، وهذا مذهب مالك في المدونة، وبه أخذ ابن القاسم بأنه لا يستقيم أن يكون في دية واحدة إبل وعبر، وأجاز ذلك أشهب، قال: ويخرج أهل البادية ما يلزمهم إبلاً وإن كان الجارح ليس منهم، ويخرج أهل القرى حصتهم عيناً وإن كان الجارح ليس منهم، وإنما تؤخذ الإبل من البدوي بقيمتها.

ابن عبد السلام: وانظر قوله: بقيمتها، وما المانع من أخذها بالجزء من نصف أو ثلث كما لو كان قاتلان أحدهما بدوي والآخر حضري، ولأشهب وعبد الملك قول آخر أن الأقل تبع للأكثر إن كان أهل العمود الأكثر كانت الدية إبلاً ويؤدي معهم أهل القرى ما عليهم إبلاً وبالعكس، وإن كان ما عليهم متناصفاً، زاد عبد الملك أو يقرب بعضهم من بعض فيحمل كل فريق من ذلك ما هم أهله، ورواه ابن وهب عن مالك. وقوله: (لا يَدْخُلُ أَهْلُ مِصْرَ مَعَ أَهْلِ الشِّامِ) وهو تشبيه لإفادة الحكم، وليس مراده به حجة علىشهب، قال بعض من تكلم على هذا الموضع: ويحتمل الاستدلال؛ لأن ابن القاسم وأشهب اتفقا على ذلك. وَفِي ضَمَّ مِثْلِ كُوَرِ فَسَطَاطِ مِصْرَ إِلَيْهِا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ يعني: أنه اختلف في مثل ضم أعمال مصر إليها، فقال بالضم ابن القاسم، وقال أشهب بعدمه، وحكى عن أشهب أيضاً الضم، وهو الأقرب لأن البلد الواحد قد يضيق عن حملها، وذهب أن مصر لا يضيق فليس غيرها كهي، والمراد بفسطاط مصر نفس المدينة، وأما مصر إذا أطلقت فقال اللخمي: مراد ابن القاسم بمصر أهل الكورة، ومصر من أسوان إلى الإسكندرية، وقال سحنون في إفريقية: بضم عقلها بعضها إلى بعض من طرابلس إلى طبنة. خليل: ومن انقطع من أهل جهة فسكن جهة أخرى اختبر الموضع الذي انتقل إليه، وأشار غير واحد إلى أنه بنفس الانتقال يتغير الحكم؛ يعني إذا فرضت الدية ولو في اليوم الذي انتقل فيه، وقال بعضهم: لابد أن تكون تقدمت قبل ذلك بأربعة أيام، وهذا الخلاف أشار بعض الشيوخ إلى تخريجه هنا من مسائل المقدمات.

وَتُنَجَّمُ الْكَامِلَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَغَيْرِه ثَلاثَ سِنِينَ أَثْلاثاً وَفِي آخِرِهَا مِنْ يَوْمِ الْحُكُمِ أي: الدية الكاملة على المسلم؛ أي المأخوذة من قبل المسلم أو غيره، ونبه بذلك حتى لا يتهم أن الكاملة مقصورة على دية المسلم؛ إذ هي أكمل الديات. وقوله: (ثلاثَ سِنينَ) لا خلاف في ذلك. ابن عبد البر: وما قيل: في أربع فشذوذ: و (أَثلاثاً) منصوب على الحال؛ أي متساوية، وقوله: (فِي آخِرِهَا) زيادة في البيان؛ إذ لو كان الدفع في أول كل سنة لزم أن تكون في سنتين، وهو مناقض لجعلها في ثلاث. قوله: (يَوْمِ الْحُكْمِ) أي يوم القتل أو يوم الخصام. وَفِي حُلَولِ غَيْرِ الْكَامِلَةِ قَوْلانِ هما روايتان، والمشهور التنجيم، وهو الموافق لقضاء عمر؛ لأنه فرض ثلثي الدية في سنتين، نقله ابن عبد البر، ولأنه إذا قيل بالحلول يكون في غير الكاملة أكثر من الكاملة؛ لأن الثلاثة الأرباع أو الثلثين إذا كانت حالة قد يكون أكثر من قيمة فيسعها مؤجلاً. وَعَلَى تَنْجِيِهِ فَفِي ثَلاثِ سِنينَ، أَوْ بالنِّسْبَةِ قَوْلانِ يعني: وإذا فرعنا على القول بتنجيم غير الكاملة فاختلف: هل ذلك في ثلاث سنين أو بالنسبة فيكون الثلث في سنة والنصف في سنة ونصف؟ ومقتضى كلامه أنه لو وجب الثلث على القول الأول نجم في ثلاث سنين، وهذا لا يوجد، وإنما ذلك بشرط أن يزيد الواجب على الثلثين كثلاثة أرباع الدية وخمسة أسداس.

وَعَلَى النِّسْبَةِ فَفِي مِثْلِ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ ثَالِثُهَا: يَنْظُرُ الْحَاكِمُ، وَالْمَشْهُورُ التَّنْجِيمُ بالأَثْلاثِ، وَلِلزَّائِدِ سَنَةٌ فَالنِّصْفُ وَالرُّبُعُ فِي ثَلاثَةٍ ... يعني: واختلف إذا بنينا على القول بالنسبة في مثل النصف والثلاثة الأرباع، قيل: يجتهد الإمام فيه إن رأى أني جعله في سنتين أو في سنة ونصف، وأخذ ابن القاسم في المدونة بالسنتين، فقال: وفي سنتين أحب إلى لما جاء أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع، وقال أشهب: في النصف يؤخذ الثلث إذا مضت سنة، والسدس الباقي [716/أ] إذا مضت السنة الثانية، وزاد اللخمي عن مالك قولاًآخر في النصف بأن يكون في سنة ونصف، قال في المدونة إثر الروايتين: أو ثلاثة أرباعها في ثلاث سنين، وقال في خمسة أسداسها؛ يجتهد الإمام في السدس الباقي. عياض: يعني يجتهد حتى يجعل في أول السنة الثالثة أو وسطها أو آخرها، وقيل: يأتي على قوله في ثلاثة أرباع الدية في ثلاث سنين ربع كل سنة أن يقسم خمسة أسداس الدية على ثلاثة سنين. انتهى. ولم أر ما شهره المصنف فضلاً عن ان يكون شهوراً، ولعله أخذه مما في المدونة أن الثلاثة الأرباع في ثلاث، ثم إن القولين المتقدمين من كلام المصنف. وقوله: (التَّنْجِيمُ بالأَثْلاثِ، وَلِلزَّائِدِ سَنَةً) وفي بعض النسخ (نسبة). ابن عبد السلام: والثانية هي الصواب؛ لأنه على الأولى يكون تكراراً مع القول المتقدم، وأن غير الكاملة تكن في ثلاث سنين على السواء، وعلى هذا يكون الثلثان في سنتين وللزائد أيضاً سنة. ثم قوله إثر هذا: (فالنصف والربع في ثلاث سنين) بغير النسخة الأولى. ابن المواز: إن جاوزت الثلثين فأمر بين فهي كالكاملة، وإن جاوزت بالشيء اليسير فذلك كل شيء.

الباجي: وإذا قلنا ما زاد على الثلثين يقطع في ثلاثة أعوام، فقال أشهب: يقطع في كل سنة ثلاثة، وإن لم يكن له مال قطع في سنتين، واستحسن أن تكون الزيادة في آخر السنتين، قال: وإن كانت ثلثاً وزيادةيسيرة فهي في سنة، وإن كان له بال ففي السنة الثانية، قال ذلككله ابن سحنون عن أبيه. وَحُكْمُ مَا وَجَبَ عَلَى عَوَاقِلَ مُتَعَدِّدَةٍ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّنْجِيمِ حُكْمُ الْعَاقِلَةِ كَمَا أَنَّ حُكْمَ مَا وَجَبَ بالْجِنَايَات الْمُتَعَدِّدَةِ خَطَأً فِي حَمْلِ الْعَاقِلَةِ حُكْمُ مَا وَجَبَ بالْجَانِي الْوَاحِدِ .... أي: أن اتحاد الجناية مع تعدد الجاني يجعل حكم العاقلة الواحدة عشرة رجال حملوا خشبة وقطعت منهم على رجل فإن الدية تنجم على عاقلة كل واحد منهم، ويكون على قبيلة كل واحد منهم عشر الثلث في كل سنة من الثلاث كما أن الجنايتين المتعددتين من قبيلة حكمهما حكم ما وجب بالجاني الواحد فتنجم عليها الجناية وإن تعددت، وهيمصيبة نزلت عليها، ونبه المصنف على هذا دفعاً لتوهم أن الجناية الثانية إنما تنجم على العاقلة بعد وفائهم الأولى. وَتَجِبُ فِي الْجَنِينِ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى عَمْداً أَوْ خَطَأً إِذَا كَانَ حُرّاً مُسْلِماً - حُرّاً كَانَ أَبُوهُ أَوْ عَبْداً-فِي مَالِ الْجَانِي غُرَّةٌ ... قد تقدم الحديث المقتضي لذلك، ثم لا فرق في الجنين بين أن يكون ذكراً أو أنثى ولا أن يكون بفعل عمد أو خطأ بشرط أن يكون حرّاً، إما أن تكون أمه حملت به وهي حرة، وإما أن تكون أمهُ لأبيه، وبشرط أن يكون محكوماً له بالإسلام. وسيأتي الكلام على الجنين المحكوم له بالرق والكفر. وقوله: (فِي مَالِ الْجَانِي) متعلق بـ (تَجِبُ)، وهذا مذهب المدونة، وروى أبو الفرج أن العاقلة تحملها؛ لأنها دية شخص قائم بنفسه، والأول مقيد بألا تكون دية الجاني، ففي

المدونة: وإن ضرب مجوسي أو مجوسية بطن مسلمة خطأ فألقت جنيناً ميتاً حملته عاقلة الضارب، والتخويف حتى تسقط موجب الغرة كالضرب بشرط أن يثبت التخويف أنه أمر يخاف منه وأن يشهد الشهود أنها لزمت الفراش منذ تخوفت إلى أن يسقط، وشهد النساء على السقط. وَهُوَ مَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَلَدٌ مُضْغَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا هذا الباب وما تكون به أم الولد وما تحل به المعتدة واحد، وقد تقدم خلاف ابن القاسم في الدم المجتمع الذي لا يذاب بالماء الساخن، وقد يقال: كلام المصنف هنا يوهم قصر الحكم على المضغة فما بعدها إلا أن يقال: غيرها يعم. وَفِي جَنِينِ الذَّمِّيِّ نِصْفُهَا أضاف الجنين للذمي لأنه تابع لأبيه، (نِصْفُهَا) أي نصف دية جنين المسل، ومراده بالذمي الكتابي؛ لأن المجوسي لا تبلغ ديته النصف لأن دية الجنين إما عشر دية أمه أو نصف عشر دية أبيه، فدية جنين المجوسي أربعون درهماً. وَفِي جَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قِيمَةِ الأُمِّ، وَقِيلَ: مَا نَقَصَهَا الأصل مذهب المدونة، ولا التفات إلى حرية أبيه لأنه تابع لأمه في الرق، والقول الثاني لابن وهب، ومنشأ الخلاف هل قيمة الأمة كدية الحرة، والأمة مال فكانت كسائر البهائم فإنه ليس فيها إلا ما نقص، ولو تزوج نصراني مجوسية أو بالعكس ففي جنينها قولان: هل على حكم أبيه أو حكم أمه؟ والأول أصح، وكذلك اختلف في العبد المسلم يكون زوج الكتابية، فقال ابن القاسم: تجب في ولده غرة؛ لأن ولدها حر من قبل أمه ومسلم من قبل أبيه، وقال أشهب: فيه عشر دية أمه.

وَالْغرَّةُ: عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ مِنَ الْحُمْرِ عَلَى الأَحْسَنِ أَوْ مِنْ وَسَطِ السُّودَانِ (الْحُمْرِ) هم البيض، قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود". وقوله: (عَلَى الأَحْسَنِ) أي الأفضل، وليس المراد على القول الأحسن وإنما استحب الحمر؛ لأنه اختلف: هل للفظ الغرة زيادة على الرقبة بحسب اللغة؟ فقيل: لا زيادة، ولهذا فسرها الباجي بالأسنان وغيره بالسمت، وبعض الشيوخ برقيق الخدمة [716/ب] لا عليه، وقيل: بل هي مأخوذة من غرة الفرس فلابد عنده أن تكون من البيض، وإلى ذلك ذهب ابن عبد البر، وقيل: هي مأخوذة من الغرة بمعنى الخيار والأحسن؛ لأن الغرة عند العرب أحسن ما يملك، فلهذا الاختلاف استحب مالك الحمر ولم يوجبه، قال في المدونة: وإن قل الحمر بتلك البلد فلتؤخذ من السودان، قال في المجموعة: من وسط السودان. ابن عبد السلام: ولم أرَ لأصحابنا في سن الغرة حداً، وقال الشافعي: أقله سبع سنين. وَمَهْمَا بَذَلَ خَمْسِينَ دِينَاراً أَوْ سِتُّمَائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ غُرَّةٌ تُسَاوِي أَحَدَهُمَا وَجَب الْقَبُولُ، وَإِلا لَمْ يَجِبْ إِلا أَنْ يَتَرَاضَوْا ... ظاهره تخيير الجاني وهو موافق لقول اللخمي الذي يقتضيه قول مالك وابن القاسم وأشهب أن الجاني بالخيار، يريد أن يغرم الغرة أو يأتي بعشر دية الأم من كسبهم، إما ذهب أو ورق، وظاهر المدونة خلافه؛ لأن فيها بعد نصه أن ذلك غرة عبد أو وليدة، والقيمة في ذلك خمسون ديناراً أو ستمائة درهم، وليست القيمة بستة مجمع عليها، وإنما أرى ذلك حسناً فإذا بذل الجاني عبداً أو وليدة أجبر على أخذه إن شاء، وأما بذل خمسين ديناراً أو ستمائة درهم، وإن ساوى أقل من ذلك، لم يجبروا على أخذه إلا أن يشاءوا، فلم ينص على الجبر إلا في الوليدة، ولذلك قال أبو عمران: انظر إن أتى الجاني بخمسين ديناراً أوستمائة

درهم هل يجبرون على أخذها، وهل تجوز أو يواطئه عليها أو يؤخره لها أو يكون ذلك ديناً بدين كما هو في قتل الخطأ إن راضوه على غير العين مؤجلاً؟ واستشكل اللخمي اشتراط أن تكون الغرة تساوي هذا القدر، قال: لأن المذكور فيالحديث الغرة، ولم تعتبر القيمة، وأثمان العبيد تختلف في البلدان، فلو وجبت الغرة بموضع لا يساوي ذلك لم يلزم بأكثر. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا تُؤْخَذُ الإِبِلُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِهَا خَمْسَ فَرَائِضَ قال في المدونة: لأنه قد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة والناس يومئذ أهل إبل، وإنما تقويمها بالعين مستحسن، واختار محمد وغيره قول أشهب، وحسَّن محمد الخمس بأن تكون بنت مخاض وبنت لبون وابن لبون ذكر وحقة وجذعة، وقاله ربيعة، ونقل ابن شعبان والباجي عن أشهب هذا التفسير أيضاً. أصبغ: ولا أحسب ابن القاسم إلا قال بالإبل، ورواه عنه ابوزيد، واعترض ابن المواز حجة ابن القاسم بأن الحديث ليس فيه إبل؛ لأنه قد وافق على الورق والذهب. وَغُرَّةُ الْجَنِينِ مُشْتَرَطَةٌ بانْفِصَالِهِ مَيِّتاً قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ اتفق على وجوب الغرة إذا انفصل في حياة أمه، واختلف إذا انفصل بعد موتها فالمشهور لا غرة فيه كعضو من الميتة، والثاني: لأشهب في الموازية. فَإِنِ انْفَصَلَ بَعْضُهُ فِي حَيَاتِهَا فَقَوْلانِ هو فرع على المشهور؛ أي إذا اشترط خروجه في حياتها فهل يقوم مقامه خروج بعضه، والقولان ذكرهما ابن شعبان. ابن راشد: والظاهر منق ول مالك أنه لا شيء فيه، وفي بعض النسخ: فإن انفصل بعد موتها أو بعضها في حياتها قولان، والنسخة الأولى أصوب لما يلزم على هذه من التكرار.

فَإِنِ انْفَصَلَ حَيّاً مُطْلَقاً وَالْجِنَايَةُ خَطَأً وَتَرَاخَى الْمَوْتُ فَالدِّيَةُ بقَسَامَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاخَ فَفِي الْقَسَامَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ... يعني: فإن انفصل الجنين حيّاً قبل موت أمه أو بعده، وهو مراده بـ (مُطْلَقاً) فإن تراخَ موته فالدية بقسامة لاحتمال أن يكون مات من غير ضربة، وإن لم يتراخَ الموت فقال ابن القاسم: لابد من القسامة أيضاً، وقال أشهب: لا يحتاج إلى القسامة، واستحسنه اللخمي، قال: لأن محله إذا مات بالحضرة أن ذلك عن الضربة كغير الجنين، والفرق لابن القاسم أن هذا المولود لضعفه يخشى عليها الموت بأدنى الأسباب، ولو قال المصنف عوض قوله: (حَيّاً) (واستهل) لكان أحسن، فقال ابن المواز: لو خرج حيّاً ولم يستهل حتى قتله رجل لا قود فيه وإنما فيه الغرة، وعلى قاتله الأدب، قال: وقال بعض العلماء: فيه دية كاملة. فرع: وإذا اشترطنا القسامة فأبى الأولياء عنها فحكى صاحب النكت عن بعض شيوخه أن لهم الغرة كمن قطعت يده ثم تراخىفمات، فأبوا أن يقسموا فإن لهم دية اليد. عبد الحق: وهو عندي غير مستقيم بل ليس لهم الغرة لأن الجنين لما استهل صارخاً صار من جملة الأحياء، وزالت ديته عن الغرة. وَإِنْ كَانَتْ عَمْداً فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ إِنْ تَعَمَّدَ هَذَا الْجَنِينَ بضَرْبِ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ فَالْقَوَدُ بِقَسَامَةٍ ... يعني: وإن كانت الجناية عمداً، والإشارة بذلك إلى تراخي موته وعدم تراخيه، والأول هو قول أشهب وقول ابن القاسم الذي جعله شاذاً هو مذهب المدونة والمجموعة، وألحق ابن شاس ضرب الرأس بالظهر والبطن بخلاف الرجل وشبهها، ونص ابن أبي زيد في مختصره على أن ضربها في الرأٍ كالرجل في نفي القصاص

[717/أ] ووجوب الدية في مال الجاني، وصرح الباجي بالمشهور كالمصنف فقالا: المشهور قول مالك أنه لا قود فيه وإن كان الضرب عمداً. وَإِذَا تَعَدَّدَ الْجَنِينُ تَعَدَّدَ الوَاجِبُ مِنْ غُرَّةٍ أو دِيَةٍ يعني: عن غرة إن لم يستهل، ودية إن استهل. وَالدِّيَةُ مُطْلَقاً تُورَثُ كَمَالِ الْمَيِّتِ (مُطْلَقاً) سواء كانت عن عمد أو عن خطأ، وقد قضى عمر رضي الله عنه بتوريث المرأة من دية زوجها لما روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسألة لا تناسب الجنين، وكأنه أراد التوصل إلى الكلام على دية الجنين، ولهذا قال: وَغُرَّةُ الْجَنِينِ وَدِيَتُهُ كَذَلِكَ يعني: أنهما موروثان على فرائض الله، وروي عن مالك أنها للأبوين فقط على الثلث والثلثين، فإن لم يكن إلا أحدهما فجميعها له، وهو قول ابن هرمز، ثم رجع مالك إلى الأول، وهو قول ابن شهاب، وقال ربيعة: هي للأم خاصة؛ لأنها ثمن عن عضو منها، اللخمي: وهو أحد قولين ابن القاسم، وانظر قول مالك وابن هرمز: فإن لم يكن إلا أحدهما فهي له، فكيف يتصور أن ينفرد الأب؟ ّ عبد الحق: وإنما يتصور إذا خرج الجنين بعد موتها على القول الذي يقول: إن فيه الغرة، وأما على قول ابن القاسم في الكتاب فلا. وَلِِذَلكَ لَوِ اسْتَهَلَّ صَارِخاً بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ وَرِثَهَا وَوَرِثَ مَا أَلْقَتْهُ مَيَّتاً قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ أي: ولكون الدية تورث عنه، (لَوِ اسْتَهَلَّ صَارِخاً بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ) يريد: ثم مات ورثها، يريد لأنه حي بعد موروثه، (ووَرِثَ مَا أَلْقَتْهُ َمَيِّتاً) قبل موتها، وسواء ألقته قبل موت المستهل أو بعده، ولا إشكال إن ألقته بعده، وكذلك إذا ألقته قبله لأن الجنين يرث.

وَإِنِ انْفَصَلَ مِنْهَا مَيِّتاً بَعْدَ مَوْتِهَا فَكَالْعَدَمِ أي: لا يرث لعدم حياته ولا يورث؛ إذ لا غرة على لمشهور. الكَفَّارَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إِذَا قَتَلَ حُرّاً مُؤْمِناً مَعْصُوماً خَطَأً هذا هو الموجب الثالث من موجبات الجراح، ودليله قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً) [النساء: 92] الآية، وقوله: (عَلَى الْحُرِّ) احترازاص من العبد؛ لأن الله تعالى قال: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)، والعبد لا يصح له ذلك إذ لا ولاء له، واحترز بـ (الْمُسْلِمِ) من الكافر فلا تجب عليه؛ إما لأنه غير مخاطب، وإما لعدم أهليته للقربة، وقوله: (إِذَا قَتَلَ ... إلخ)، ذكر للمقتول أربعة شروط: أولها: الحرية فلا تجب الكفارة في قتل العبد، نعم تستحب كما سيأتي، وظاهر الآية أن فيه الكفارة لأنه مؤمن، وهو ظاهر قول أشهب لقوله: فليعتق، نقله عنه ابن راشد. ثانيها: الإيمان للآية. ثالثها: أن يكون معصوماً. رابعاً: أن يكون خطأً. ابن عبد السلام: فإن قيل: لِمَ غير المصنف العبارة فذكر الإسلام في حق القاتل والإيمان في حق المقتول؟ قيل: الأصل في الأحكام التي بطلت ظهورها فيما بين الناس أن تكون معلقة على ظاهر مثلها، وهو ههنا الإسلام؛ لأنه ههنا وصف ظاهر، وكفارة القتل من هذا النوع، ولكن أتى المصنف بوصف الإيمان لأنه المطابق للآية، فإن قيل: فهل يظهر لذكر الإيمان في الآية بالنسبة إلى القاتل والمقتول معنى، قيل: نعم؛ لأن الإيمان مستلزم للمراقبة الحاملة على توقي أسباب القتل، وأدعى للتحرز من إذابة الممن لأخيه المؤمن بلسانه فكيف بيده فكيف بقتله؟!

تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمَنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعَيُوبِ لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ وَلا عَقْدُ عِتْقِ كَرَقَبَةِ الظِّهَارِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ انْتَظَرَ أَحَدَهُمَا ... أي: هي تحرير، وقد تقدم الكلام على شروط الرقبة، ومن لم يجدها فعليه صيام شهرين متتابعين بنص الآية، وكلامه ظاهر. وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الصَّبيِّ وَالْمَجْنُونِ جعلوا الكفارة من باب خطاب الوضع؛ لأنها لما كانت عن النفس أشبهت عوض المتلفات، فإن كان لهذا دليل من إجماع أو غيره فيجب التسليم، وإلا فالظاهر سقوطها عنهما، وردها إلى خطاب التكليف. وَفِي اسْتِحْبَابِهَا فِي الْجَنِينِ رِوَايَتَانِ أي: وعدم استحبابها، والروايتان معاً في الموازية لأن فيها: أحب إلي أن يُكفِّر، ابن المواز: وقال أشهب: لا كفارة عليه وليست بنفس، وكأنه جرحها جرحاً، وفي المدونة: واستحسن مالك الكفارة في الجنين، قيل: وظاهر قول أشهب: لا كفارة فيه خلاف المدونة. أبو الحسن: وقوله: استحسن؛ أي: استحب، ولم يرد الاستحسان الذي هو أحد الأدلة، وقول ابن عبد السلام: هذكا عبر غير واحد بلفظ الاستحباب، وعبارة الإمام فيه وفي الرقيق بالاستحسان في الحكم، والاستحسان مدركه ليس بظاهر. وَتُسْتَحَبُّ فِي الرَّقِيقِ وَالذَّمِّيِّ وَالْعَمْدِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَقَاتِلِ مَنْ لا يُكَافِئُهُ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ ... أي: وتستحب في جميع هذه الأشياء، والمذهب كما ذكر استحبابها في العمد والشافعي يوجبها فيه، ويرى أنها إذا وجبت في الخطأ فوجوبها في العمد أولى، والخلاف كالخلاف في اليمين الغموس.

وقوله: (وَقَاتِلِ مَنْ لا يُكَافِئُهُ) هذا محمول على العمد، والكلام الأول في الخطأ ولا يلزم التكرار؛ لأنه حينئذٍ لا يستفاد من قوله: (وَقَاتِلٍ مَنْ لا يُكَافِئُهُ ... إلخ) إلا ما استفيد من قوله: [717/ب] (وَتُسْتَحَبُّ فِي الرَّقِيقِ وَالذَّمِّيِّ)، وهذا إنام يأتي على تمشية ابن راشد وابن عبد السلام أن قوله: (وَقَاتِلِ مَنْ لا يُكَافِئُهُ) معطوف على (الرَّقِيقِ)، ويحتمل أن يكون (قَاتِلِ) مرفوعاً على الابتداء، (وَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ) معطوف عليه، والخبر يضرب ويحبس، وكنا الأحسن على هذا أني قول: يضربان ويحبسان لكنه أفرده باعتبار المذكور، أو حذف خبر قاتل لدلالة خبر (عُفِيَ عَنْهُ)، وعلى هذا مشاه بعض من تكلم على هذا الموضع، وهو أقرب لعدم لزوم التكرار، ولأنه كذلك في ابن شاس، والأول أقرب إلى لفظه، ولا سيما وقع في بعض النسخ: (وقتل) على المصدر. فرع: اختلف الصحابة ومن بعدهم في قبول توبة القاتل وعدم قبولها. ابن عبد السلام: واستحسان مالك الكفارة في قتل العمد مشعر بأن القاتل عنده في المشيئة، وإن كان له ما يدل على خلاف ذلك على ما نقله ابن رشد أنه لا يصلي خلفه وإن تاب. وَمَنْ عُفِي يُضْرَبُ مَائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ رَقِيقاً عَلَى الأَشْهَرِ لما فرغ من الموجب الثالث وهو الكفارةشرع في الموجب الرابع وهو التعزير، وأما الموجب الخامس وهو القيمة فإنما تجب في غير الحر، وقد تقدم ذلك، والأصل في ذلك ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلاً قتل عبده متعمداً فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقدْهُ به وأمره أن يعتق رقبة". عبد الحق: في إسناده إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في غير الشاميين، وهذا الإسناد حجازي، وأنكر غيره عليه هذه العلة هنا، وجعل أهل المذهب هذا الحديث أصلاً في

قاتل النفس عمداً إذا تعذر منه القصاص لوجه ما، وهذا الاستناد حجازي، ومقابل الأشهر لأصبغ، قال: لا يحبس العبد ولا المرأة ولكن يجلدان، قال في الجواهر: وعلىهذا التعزير: في كل من قتل عمداً ولم يقتل كمن قتل من لا يكافئه كالمسلم يقتل الكافر وكالحر يقتل العبد، وفيمن عفي عنه في العمد. انتهى. ولا فرق في العبد بين عبده وغيره، نص عليه ابن القاسم وغيره. وَكَذَلِكَ مَنْ أُقْسِمَ عَلَيْهِمْ فَقُتِلَ أَحَدُهُمْ أي: وكمن عفي عنه في الضرب والسجن، وظاهر قوله: (أُقْسِمَ عَلَيْهِمْ) أن الأولياء يقسمونعلى الميع ثم يقتلون واحداً، وهذا خلاف المشهور، فإن المشهور أنهم يعينون أحداً بالقسامة كما سيأتي. ولو كان العفو قبل القسامة قبل أن يحقق الولي الدم كشف الحاكم عن ذلك، فما كان يحق فيه الدم بالقسامة أو بالبينة جلد مائة وحبس عاماً، وما لا يوجب ذلك لا يكون ضرب ولا سجن؛ لأنه حق لله تعالى فلا يسقطه الأولياء ولو وجب للأولياء القسامة فنكلوا عنها فحلف المدعي عليهم وبرءوا، قال محمد: على المدعي عليه الجلد والسجن، ولم يخالف فيه إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: إذا نكلوا فلا سجن ولا جلد، وجمهورهم على هذا الحكم في كل مقتول ولو كان مجوسياً، وروى ابن حبيب عن مالك واختاره: إنما ذلك في المسلم عبداً كان أو حرّاً وأما غير المسلم فإنه يجب به الأدب المؤلم، واختلف في الألطخ فأوجب أشهب فيه ضرب مائة وسجن سنة، وفي الواضحة عن مالك: إذا وقعت التهمة على أحد ولم يتحقق ما تجب به القسامة ولا قتل فإن ذلك لا يجب به جلد ولا سجن سنة، ولكن يطال سجنه السنين الكثيرة.

القسامة

فرع: وهل يبدأ بالجلد قال أشهب: إن شاء بدأ بالجلد أو السجن، وظاهر قول ابن القاسم في العتبية الابتداء بالجلد لقوله: يؤتنف حبس سنة من يوم جلد، ولا يحتسب لما مضى، قال ابن القاسم: يكون أول عام الحبس من يوم الجلد، وحمل الباجي ذلك على الخلاف، عبد الملك: ويعتد ما دام اللاطخ الذي سجن فيه، فإذا لزمه جلد مائة ووجه عليه الحكم أزيل عنه الحديد وسجن سنة. الْقَسَامَة: سَبَبُهَا قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي مَحَلِّ اللِّوْثِ، فَلا قَسَامَةَ فِي الأَطْرَافِ ولا فِي الْجِرَاحِ ولا فِي الْعَبيدِ والْكُفَّارِ ... وقال في "المشارق": القسامة طرح يد الأيمان بين الحالفين. أشهب: القسامة سنة لا رأي لأحد، وكانت في الجاهلية فأقرها عليه الصلاة والسلام، والأصل فيه ما رواه مالك ومسلم والترمذي وصححه أن عن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل، قد قتل وطرح في قفير بئر أوعين، فأتى يهودي فقال: والله أنتم قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم قدم هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن، فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كبر كبر" يريد السن، فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله عليه وسلم: "إما أن تودوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، فقالوا: لا، فقال: "تحلف لكم يهود" فقالوا: ليسوا بمسلمين، [718/أ] فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده،

فبعث إليهم بمائة ناقة. هذا لفظ الموطأ. وفي رواية: أيقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته؟، فقالوا أمر لم نشهده فكيف نحلف؟! وقوله: (سَبَبُهَا)، جعل السبب مركباً من أربعة أجزاء، فاحترز بالقتل من الجراح، وبالحر من العبد، وبالمسلم من الكافر، وبمحل الموت مما لو قتل لا في محله، واشترط هذه الأجزاء لأن الحديث إنما ورد فيها. وَاللَّوْثُ مَا يَدَلُّ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ بأَمْرٍ بَيِّنٍ مَا لَمْ يَكُنِ الإِقْرَارُ، أَوْ كَمَالُ الْبَيِّنَةِ فِيهِ أَوْ فِي نَفْيهِ ... لما ذكر أن القسامة تكون في محل اللَّوث أخذ يبينه، وحاصله أن اللَّوث أمر ينشأ عنه غلبة الظن بصدق المدعي، ولما كان ما يدل على ثبوت الشيء إقرار المدعي عليه وقيام البينة عليه وهما أبين الدلالات احتاج إلى استثنائهما، فإن كل واحد منهما مستقل في إثبات الحكم بدون القسامة. وقوله: (كَمَالُ الْبَيِّنَةِ) أي: في العدد والعدالة. وقوله: (أَوْ فِي نَفْيِهِ)، فيعني أن تقوم البينة بنفي ما دل عليه اللوث، كما لو شهد شاهدان بأن زيداص قتل عمراً، وقال عند موته: قتلني بكراً، واعترض بأن البينة إذا قامت بخلاف ما دل عليه اللوث لم يكن دلالة اللوث بينة، إلا أن يقال إن القسامة لما خرجت عن الأصل قد يتهم فيها أن المعارض لا يعتبر. كَقَوْلِ الْمَقْتُولِ بَالِغاً حُرَّاً مُسْلِماً- عَدْلاً أَوْ مَسْخُوطاً، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً- قَتَلَنِي فُلانٌ - الْبَالِغُ أَوِ الصَّغِيرُ حُرَّاً أَوْ عَبْداً مُسْلِماً أَوْ ذِمِّيّاً ذَكَراً أَوْ أُنْثَى وَرِعاً أَوْ مَسْخُوطاً- عَمْداً ... هذا شروع من المصنف في بيان أمثلته وهي أربعة:

الأول: قول المقتول: دمي عند فلان بشرط أن يكون بالغاً حراً مسلماً، فاحترز بالبالغ من الصبي، والمشهور أن المراهق كالصبي، واحترز بالحر من العبد ونص المذهب نفي القسامة فيه، وإن أقام سيده شاهداً واحداً حلف يميناً واحدة واستحق قيمته، أشهب: ويجلد مائة ويحبس سنة، وإن قال دمي عند فلان، حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ، وإن نكل حلف السيد يميناً واحدة واستحق القيمة مع الضرب مائة والسجن سنة، وقال ابن القاسم: يحلف المدعى عليه يميناً واحدة ولاقيمة عليه ولا ضرب ولا سجن، فإن نكل ضرب وسجن وغرم القيمة، وروى أشهب عن مالك مثل قوله إلا ان مالكاً قال: إذا حلف المدعى عليه الأيمان لم يضرب ولم يسجن، وقال أصبغ: يحلف المدعى عليه خمسين يميناً فإن حلف برئ وإن نكل لم يلزمه شيء لا قيمة ولا ضرباً ولا سجناً إلا أن يسجن استبراء، ولابن الماجشون قولان: أحدهما كقول أصبغ هذا إلا أنه قال: ويضرب أدباً ولا يضرب مائة ويسجن سنة إلا من يملك سفك دمه بقسامة أو غيرها، والقول الثاني أنه يضرب مائة ويسجن سنة في قتل المسلم حراً كان أو عبداً، واحترز بالمسلم من الكافر، وحكى ابن زرقون إذا قال المدعي دمي عند فلان المسلم أو أقام أولاً شاهداً أربعة أقوال: ابن القاسم: يحلفون يميناً واحدة ويستحقون الدية، وقال مالكوأشهب وابن عبد الحكم: يحلف المدعى عليه خمسين يميناً ويبرأ، وفي الموازية لابن القاسم: إن لم يكن إلا قوله: دمي فلا قسامة، وإن قام لولاية شاهد بالقتل حلف ولاته يميناً وأخذ الدية وضرب مائة وسجن عاماً، وعن المغيرة أن ولاته يقسمون خمسين يميناً ويستحقون ديته ولو شهد شاهدان على الجرح فبرئ فمات، فإن ولاته يحلفون يميناً واحدة ويستحقون ديته، فإن نكل وليه لمي كن له إلا عقل الجرح إن كان مما فيه عقل، ورواه أصبغ عن ابن القاسم في الواضحة وذكر أنه قول مالك، ولم يوافق المالكية على التدمية إلا الليث، وروى الجمهور أن قبولها يشتمل على قبول قولالمدعي من غير بينة، وقد علم أن الدماء عظيمة

أعظم من الأموال، وهو لو قال عند موته: لي عند فلان كذا لم يقبل، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام: "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى الناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"، ورأى علماؤنا أن هذه الدعوى لا تشابه دعوى المال ولا غيره، لأن هذا أًل قائم بنفسه، ومن تحقق مصيره إلى الآخرة وأشرف على الموت فلا يتهم في إراقة دم مسلم ظلماً، وغلبة الظن في هذا تتنزل منزلة غلبة الظن في الشاهد، وكيف لا والغالب من أحوال الناس عند الموت التوبة والاستغفار والندم على التفريط ورد المظالم، فكيف يتزود من دنياه بقتل النفس، هذا خلاف الظاهر وغير المعتاد، واحتج علماؤنا أياضً ببقرة بني إسرائيل، واعترض عليهم بأن ذلك شرع من قبلنا، أو بأنها معجزة لموسى صلى الله عليه وسلم، وقتيل بني إسرائيل لم يقسم عليه أحد بيمين واحدة ولا خمسين [718/ب] وأجيب بأن المختار أن شريعة من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وعن الثاني أن المعجزة إنما هي في إحيائه لا في قبول قول، ولم يحتج في قصة بني إسرائيل لليمين لتيقن الصدق وفيه بحث لا يخفى. وقوله: (حُرَّاً أَوْ عَبْداً) يعني: أنه لا فرق في المدعى عليه بين أن يكون حراً أو عبداً صبياً أو بالغاً رجلاً أو امرأة عدلاً أو مسخوطاً وهذا هو المشهور، ولو كان المدعى عليه القتل أورع من في زمانه قاله في المدونة، وقال ابن عبد الحكم: لا يقبل قول المسخوط على العدل لبعد دعواه، وظاهر المذهب قبول تدمية المرأة على زوجها، وقال ابن مزين لا يقبل قولها على زوجها؛ لأنه أذن له في ضربها، وقد يتصل بالموت، وظاهر قول المصنف قتلني، أنه لا فرق بين أن يكون فيه جرح أو لا، قيل وهو ظاهر المدونة ورواه ابن وهب عن مالك وقاله أصبغ، وعن ابن القاسم: لاتقبل إلا مع الجرح، المتيطي: ويقول ابن القاسم العمل والحكم، زاد صاحب البيان ثالثاً بالقبول في الشاهد دون التدمية بقوله: وعلى قبول قوله فلا يسجن المدعي عليه ما دام المدعي حياً، لأنه يتهم أن يكون أراد سجنه

بدعواه بخلاف ما إذا ادعى ذلك بجرح ظاهر، وهل يثبت قول المدعي بشاهد واحد في ذلك قولان والأصح عدم القبول. وَكَذَلِكَ خَطَأً عَلَى الْمَشْهُورِ أي: وكذلك يقسم الأولياء إذا قال: قتلني فلان خطأٌ، وطرداً للقاعدة، والشاذ أيضاً مروي عن مالك لأنها دعوى في مال. فَلَوْ قَالَ الْوَرَثَةُ خِلافَ قَوْلِ الْمَيِّتِ فَلا قَسَامَةَ إذا قال الميت قتلني فلان عمداً، وقال الورثة بل خطأً أو العكس فلا قسامة، لأنه إذا ادعى العمد فقد أبرأ العاقلة وهم قد أبرؤوا القاتل. وَفِي قَبُولِ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ قَوْلانِ الصحيح عدم القبول لأنهم أكذبوا أنسهم وقد تعلق لخصمهم الحق بقولهم أولاً وهو قول أشهب، والقول الآخر لابن القاسم في المجموعة لقوله: إذا ادعوا خلافه فلسي لهم أن يقسموا إلا على قوله. فَلَوْ قَالَ: قَتَلَنِي وَلَمْ يُبَيِّنْ فَلِلأَوْلِيَاءِ تَبْيِينُهُ أي: من عمد أو خطأ ويقسمون عليه، فإن أقسموا على العمد قتلوا وإن أقسموا على الخطأ أخذوا الدية وهذا مذهب المدونة، ابن عبد السلام: وهذا هو المشهور، ووقف ابن القاسم في الموازية في العمد وقال: أحب إلي ألا يقسموا إلا على الخطأ، وقال في موضع آخر يكشف عن حاله وعن جراحاته وعن موضعه وعن حال القاتل وعن الحال التي كانت بينهما من العداوة وغيرها فيستدل بذلك حتى يظهر سبب يقسمون عليه حينئذ ويقتلون، فإن لم يظهر من ذلك عمد ولا خطأ لم يقبل قول الأولياء في عمد ولا خطأ

كقول المقتول، لأن السنة إنما جاءت في قول المقتول، واستحسنه اللخمي على أن في عد هذا والذي قبله خلاف نظر، ولهذا نقل ابن راشد فيها الاتفاق على ما ذكره المصنف. فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا حَلَفَ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى مَا ادَّعَى وَوَجَبَتْ دِيَةُ الْخَطَأِ لِلْجَمِيعِ أي: إذا مات ولم يبين واختلف الورثة، فقال بعضهم: عمداً وقال بعضهم: خطأً، ففي المدونة: إن حلفوا كلهم استحقوا دية الخطأ بينهم أجمعون ولا سبيل إلى القتل، وقال أشهب في الموازية: بل لمن أقسم على الخطأ نصيبهم من الدية على العاقلة، ولمن أقسم على العمد نصيبه من القاتل. اللخمي: وهو أحسن، ولا شيء لمدعي العمد على العاقلة، وينبغي أن يكون نصيبهم من الدية على العاقلة بمنزلة ما لو قال بعضهم خطأً ونكل بعضهم، قيل له فإن رجع الذين قالوا عمداً إلى دية الخطأ، قال مالك: ذلك لهم، وأباه أشهب. ابن رشد: والقياس أن يبطل الدم ولا قسامة؛ لأن العاقلة تنازع مدعي الخطأ بأن الميت لم يقله، والقاتل ينازع مدعي الدم لأن الميت أيضاً لم يقله. اللخمي: وهذا إذا استوت منازلهم فكانوا بنين أو إخوة أو أعماماً، واختلف إذا اختلفت منزلتهم، ففي الموازية: إذا اختلفت ابنة وعصبة فقال: عصبته عمداً أو ابنته خطأً، أن دمه هدر ولا قسامة ولا قود ولا دية؛ لأنه إن كان عمداً فذلك للعصبة ولم يثبت لهم ذلك الميت، وإن كان خطأ ففيه الدية ولم يَثْبِت أنه خطأ، ويقسم المدعي عليه ما قتله عمداً أو يحزر دمه، قال محمد: إن ادعى العصبة كلهم أنه عمد فلينظر إلى قول ورثته من النساء لأنه لا عفو للنساء مع الرجال وإن قال العصبة كلهم خطأ، وقال النساء عمداً أقسم العصبة خمسين يميناً وكان لهم نصيبهم من الدية انتهى.

فَلَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ: عَمْداً، وَالْبَاقُونَ: لا نَعْلَمُ بقَتْلِهِ، أَوْ نَكَلُوا-فَلا قَسَامَةً، بخِلافِ مَا لَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ: خَطَأً-حَلَفُوا وَأَخَذُوا أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ ... إذا قال بعضهم قتله عمداً، قوال بعضهم لا نعلم حال القتل من عمد أو خطأ، أو قال جميعهم عمداً ونكلوا أو بعضهم فلا قسامة ويبطل الدم وهذا مذهب المدونة، وفي العتبية لابن القاسم ان لمن قال عمداً أن يحلفوه ويستحقوا نصيبهم من الدية، وجعل ذلك بمنزلة عفو بعضهم بعد ثبوت الدم واختاره [719/أ] اللخمي. قوله: (بخِلافِ ... إلخ) أي: قال بعضهم خطأً ونكل الباقون أو قالوا لا علم لنا، وحذف ذلك لدلالة ما قبله، حلفوا أي مدعو الخطأ وأخذوا نصيبهم من الدية، ولا شيء للناكلين أو غير العالمين؛ لأن دعوى الخطأ مال، فلا يبطل حق بعضهم بنكول بعض، وقال الأبهري: القياس ألا يمكنوا من الحلف ويلزموا لو غاب بعض الورثة في قتل الخطأ، فإن المذهب أن من حضر يحلف خمسين يميناً ويأخذ نصيبه من الدية ولو كان زوجاً. فَإِنْ نَكَلَ مُدَّعُو الْخَطَأِ فَلا قَسَامَةَ لِمُدَّعِي الْعَمْدِ وَلا دِيَةَ يعني: إذا قال المقتول قتلني فلان ولمي بين، فقال بعضهم عمداً وبعضهم خطأً ثم نكل مدعو الخطأ فلا قسامة لمدعي العمد ولا دية، لأن الدية إنما وجبت لهم إذا حلف مدعو الخطأ بالتبعية؛ لأنهم إنما يدعون الدم، ابن عبد السلام: وهذا يظهر على مذهب ابن القاسم فيما إذا لم ينكلوا لأنه غلب هناك دية الخطأ، وأما على قول أشهب إن نكل واحد من المدعين يأخذ نصيبه على ما ادعاه من عمد أو خطأ بلا تبعية فينبغي أن يقسم مدعو الدم ويأخذوا نصيبه من الدية.

وَفِي قَتْلِ الأَبِ بالْقَسَامَةِ- إِنْ قَالَ أَضْجَعَنِي وَذَبَحَنِي أَوْ بَقَرَ بَطْنِي-قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَإِلا فَالدِّيَةُ ... يعني: إن قال الابن قتلني أي على صفة يجب معها القصاص، فقال ابن القاسم: يفسخ أولياؤه ويقتلون الأب، وقال أشهب: لا قسامة هنا، والأول أحسن لو ذكر هذا فرعاً على قول ابن القاسم، فيقال وكذلك لو قال الابن أضجعني أبي وذبحني، ولا يتعرض لمذهب أشهب، لأن المصنف قد تقدم عنه أن الأب لا يقتل بابنه بحال ولو مع الإقرار. وقوله: (وَإِلا فَالدِّيَةً) أي: وإن لم يصف الابن القتل بالصفة التي توجب القتل فلا يقتل الأب، هذا أعم من أن يقول قتلني خطأ أو عمداً، ولا يذكر الصفة ولا يذكر الصفة (وأل) في الدية للعهد، فتجب دية الخطأ في دعوى الخطأ، ودية العمد المغلظة في دعواه العمد، وهكذا نص عليه ابن القاسم. وَكَثُبُوتِ الْجِرَاحِ أَوِ الضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ مُطْلَقاً، وَالإِقْرَارِ بذَلِكَ عَمْداً بشَاهِدَيْنِ أَوْ بشَاهِدٍ ثُمَّ يَمُوتُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَلَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ يُقْسِمُ: لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ ... هذا هو المثال الثاني للوث، فإذا ثبت الجرح أو الضرب أوالقطع بشاهدين كان ذلك عمداً أو خطأً، وهو مراده بالإطلاق فلأوليائه أن يقسموا ويقتلوا في العمد ويأخذوا مال الدية في الخطأ، ولهم أن يدعوا القسامةويقتصوا من الجراح في العمد ويأخذوا ديته في الخطأ. وقوله: (وَالإقْرَارِ) أي: إقرار المقتول بأن يقول جرحني عمداً. وقوله: (بشَاهِدَيْنِ) راجع إلى الجميع؛ أي: إلى الجرح والضرب والإقرار بذلك عمداً، ويحتمل أن يكون قوله: (بشَاهِدٍ أَوْ بشَاهِدَيْنِ) راجعاً إلى الإقرار به فقط، ويرجح هذا أن الثبوت لا يستعمل غالباً إلا مع شاهدين، ويرجح الأول أنه لو حمل على هذا لزم مخالفة المشهور، لأن مذهب المدونة أن الضرب إذا شهد به شاهد يقسم معه، قال فيها:

وإن شهد شاهد أنه ضربه وعاش الرجل وتكلم وأكل وشرب ولم يسألوه أين دمك حتى مات ففيه القسامة، وقال ابن الماجشون وابن القاسم في رواية يحيى: لا تجب القسامة بالشاهد الواحد، وما ذكره المصنف من قبول الشاهد على إقرار المقتول عمداً نص عليه أشهب، ونقل عن ابن القاسم في العتبية والموازية أنه لا يقسم م شاهد على قول الميت. وقوله: (وَلَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ) مبالغة؛ أي: ولو أكل وشرب لَمِن ضربه مات، وهو ظاهر في الشاهدين، واما الشاهد الواحد فلابد أن يحلفوا يميناً واحدة ليثبت الضرب ويقسمون خمسين يميناً، لكن هل تفرد اليمين أو لا؟ ومجمع يمينين من الخمسين قد يجري على الحقوق المالية في الاستحقاق بشاهد واحد، هل يجمع بين فصل يصحح شهادة الشاهد وفصل الاستحقاق، أو يحلف لكل واحدة يميناً مستقلة؟ فانظر. وَالإِقْرَارُ بذَلِكَ أَوْ بقَتْلِهِ خَطَأً بشَاهِدَيْنِ يعني: وللأولياء أيضاً القسامة إذا أقر بالقتل خطأً بشاهدين، وحاصله أن الإقرار في الخطأ مخالف للإقرار في العمد، لأنه قدم أن الإقرار في العمد يطلب بشاهد، فإن قيل: فما الفرق، قيل: لأن قول الميت في الخطأ يجري عندهم مجرى الشهادة لأنه شاهد على العاقلة، والشاهد لا ينقل عنه إلا اثنان بخلاف العمد، فإن المقتول إنما يطلب بثبوت الحكم لنفسه وهو القصاص، فإن قيل: فلم لم يحمل الإقرار بذلك على إقرار القاتل، قيل لأنه لو حمل على ذلك لزم التكرار في كلامه لأنه سيقول، ولو شهد على إقراره بذلك شاهد واحد كان كالمقتول، والله أعلم. وَفِيهَا فِي الْعَدْلَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ: كُلُّ ذَلِكَ لا يُقْسِمُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُقْسِمُ عَلَى أَحَدِهِمَا ... كما لو شهد أحدهما أنه قتله بالسيف والآخر بالحجر، فلا يقسم على شهادة هذا أو شهادة هذا لتعارض الشهادتين فتسقطان ولا يبقى إلا مجرد الدعوى، وهذه المسألة نص

عليها في المدونة في الديات وفي كتاب القذف، ففي القذف وإن شهد عليه رجل أنه ذبح فلاناً، والثاني أنه أقر عندي أنه حرقه بالنار فالشهادة باطلة، والقول الثاني لسحنون، قال: هذا إذا ادعى شهادتهما جميعاً، وأما إن ادعى شهادة أحدهما أولاً ففيه القسامة. فقوله: (يُقْسِمُ عَلَى أَحَدِهِمَا) [719/ب] مقيد بأن يقوم أحدهما أولاً، والشيخ أبو محمد صالح: وليس له أن يدعي أحدهما بعدما ادعاهما، وهو ظاهر لأن تركهم القيام بإحدى الشهادتين بصير الأخرى كالعدم. ابن عبد السلام: واختلف قول سحنون في الشاهد يجرحه شاهدان بأمرين مختلفين كالزنى وشرب الخمر، هل تجمع عليه الشهادتان ويحكم بجرحته أم لا؟ ولا يبعد هنا مثل ذلك إذا ترك الأولياء خصوص الوصفين اللذين يشهد بهما الشاهدان وطلب القصاص بالسيف. وَكَالْعَدْلِ فِي مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ لا غَيْرِ الْعَدْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَمْداً، وَقِيلَ: وَالنَّفَرُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الشِّهَادَةِ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَقِيلَ: وَالْوَاحِدُ غَيْرُ الْعَدْلِ، وَقِيلَ: وَالْمَرْأَتَانِ، وَقِيلَ: وَالْمَرْأَةُ ... هذا المثال الثالث من أمثلة اللوث، والمشهور مذهب المدونة أن غير العدل ليس بلوث. وقوله: (وَكَذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَمْداً) يعني: وكذلك لو قام شاهد واحد على إقرار القاتل فإنه لوث إن كان عدلاً وإن لم يكن عدلاً فليس بلوث، هذا مقتضى التشبيه، ولا خلاف أن الشاهد على القتل لوث إذا لم يكن القاتل قتل غيلة، واختلف في الغيلة، فروى ابن القاسم: لا يقسم مع شهادته، ولا يقتل في هذين إلا بشهادتين. أبو محمد: ورأيت ليحيى بن عمر أنه يقسم معه، واختلف في شهادة الواحد على إقراره، فقال ابن القاسم في الموازية لا يكون الاشهدان على إقراره، وقال أشهب: يقسم الولاة مع الشاهد. وقوله: (وَقِيلَ ... إلخ) تصوره ظاهر.

وَكَالْعَدْلِ يَرَى الْمَقْتُولَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَالْمُتَّهَمَ بقُرْبِهُ عَلَيْهِ آثَارُ الْقَتْلِ هذا المثال الرابع من أمثلة اللوث، ويكون في المتهم الرفع على الابتداء والنصب بالعطف على المقتول من التلطيخ بالدم وشبهه، وحكى ابن سهل أن العمل جرى عندهم بأن هذا ليس بلوث، واشتراط المصنف هنا العدالة ظاهر ولم أرى من صرح بذلك، واختلف في القتيل يوجد بين الصفين وفيمن وجد في محلةقوم أو مسجدهم وسيأتي الكلام عليهما، وليس موت الرجل عندنا في المزاحمة لوثاً يوجب القسامة بل هدر، وخلافاً للشافعي في قوله: بل تجب فيه القسامة وتجب الدية. وَفِي الْعَدْلِ بالْجُرْحِ أَوِ الضَّرْبِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ الْقَتْلِ دُونَ ثُبُوتِ الْمَوْتِ لِلْقَتِيلِ قَوْلانِ أي: في كون العدل يشهد بالجرح أو الضرب أو بمعاينة القتل دون ثبوت الموت بالقتيل قولان، والقول بنفي القسامة لمحمد، وقال أصبغ: ينبغي ألا يعجل السلطان فيه بالقسامة حتى يكشف فلعل سبباً أثبت من هذا، فإذا بولغ في الاستيناء قضى بالقسامة مع الشاهد بموته، وتعتد زوجته وأم ولده، الابجي: بعد القولين، وقد قيل: يقتل قاتله بالقسامة ولا يحكم بالتوريث في زوجته ورفيقه وهو ضعيف، ابن عبد السلام: والأصح أنه لابد من ثبوت الموت لاحتمال بقائه حيّاً. وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالصَّبيُّ وَالذِّمِّيُّ فَلَيْسَ بلَوْثٍ نقل ابن المواز اتفاق مالك وأًحابه على ذلك، ونقل عبد الوهاب أن من أصحابنا من يجعل شهادة العبيد والصبيان لوثاً، فإن كان مراده الجميع فترجع إلى القول الذي قدمه المصنف بقوله: والنفر غير جائز في الشهادة، وإن كان مراده الأفراد فيكون خلافاً لكلام المصنف، ولهذا الاحتمال لم يذكر الشيخ خلافاً ولا وفاقاً.

وَإِذَا انْفَرَدَ اللَّوْثُ فَلا بُدَّ مِنَ الْقَسَامَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَالَ الْمَقْتُولُ: قَتَلَنِي فُلانِّ ... هكذا في المدونة ولا يعلم فيه خلافاً، ونبه المصنف بذلك على أن قول من يقول من أهل المذهب أن الموت كالشاهد ليس على حقيقته، فلذلك لا يليق ويحكم بالقتل دون قسامة. وَإِذاَ انْفَصَلَتْ قَبيلَتَانِ عَنْ قَتْلَى لا يُدْرَى الْقَاتِلُ، فَرُوِيَ: الْعَقْلُ عَلَى كُلِّ فَرْقَةٍ لِلْمُصَابِ فِي الأُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا فَالْعَقْلُ عَلَيْهِمَا، وَرُوِيَ: الْقَسَامَةُ، وَرَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى قَوْل مَالِكٍ فِيهِمْ: لا قَسَامَةَ وَلا قَوَدَ؛ يَعْنِي: بِمُجَرَّدِهِ، وَأَمَّا لَوْ ثَبَت لَوْثٌ فَالْقَسَامَةُ ... الرواية الأولى مذهبه في الموطأ وعليه جماعة خارج المذهب وهي أظهر، لأن الغالب إن كان من طائفة منهما أن القاتل له من غير طائفته، وإن كان من غيرهما فيحتمل أن تقتله الطائفتان أو إحداهما ولا ترجيح، وعلى كل تقدير فتكون ديته عليهما لأنهما قد تظافرتا عليه. وقوله: (عَلَى كُلِّ فِرْقَةٍ) أي: في أموالهم، قاله مالك ومحمد، وهي مقيدة بما إذا لم يعرف القاتل بعينه، وأما إن عرف فيقتص منه، قاله مالك في الموازية. والرواية الثانية في الجلاب. والرواية الثاثلة التي رجع إليها ابن القاسم هي قوله في المدونة وغيرها، واختلف في فهمها ففسرها ابن القاسم في العتبية والمجموعة بما قاله المصنف، يعني: بمجرده فقال: إنما معنى قول مالك لا قسامة فيمن قتل بين الصفين إذا لم يدعِ الميت دمه عند أحد ولا قام بذلك شاهد، وأما إن ادعى أو شهد شاهد فالقسامة، وهو قول أِهب ومطرف وابن الماجشون وأصبغ. أشهب: لأن كونه بين الصفين لم يزد دعواه إلا قوة، وقيل هي محمولة على ظاهرها من نفي القسامة، ولو ادعى أو شهدله شاهد وهو مروي أيضاً عن ابن القاسم وخطأه ابن المواز؛ لأن المدعي قوله: ولا شاهد يقتضي ذلك ولو كان من غير الطائفتين،

وتأوله صاحب البيان بتأويل لكنه لم يجزم به، بل قال: يحتمل أن يريد إذا كان [720/أ] الشاهد من طائفة المدعي وإلا فبعيد أن تنتفي القسامة مع شاهدين من غير الطائفتين وقيل: معناها لا قسام ةفي التدمية لما يقسم من العداوة بخلاف الشاهد، وهذا كله إذا كان القتال بين الصفين بنائرة أو عصبية من غير تأويل كانتا باغيتين، ولم تكن إحداهما زاحفة والأخرى دافعة، فدم الزاحفة هدر ودم الأخرى قصاص، وإن كانت إحداهما باغية والأخرى متأولة، وقتل من الباغية فهو هدر ودم المتأولة قصاص، وإن كانتا متأولتين فدمهما هدر ولا قود ولا دية قاله ابن القاسم، وروي عن مالك معناه، وذهب أصبغ إلى أنه يقتصر منه مطلقاً سواء تاب أو أخذ قبل أن يتوب. وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَتَلَ وَدَخَلَ فِي جَمَاعَةٍ فَقِيلَ: يُسْتَحْلَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِيناً وَيَغْرَمُونَ الدِّيَةَ بلا قَسَامَةٍ، وَقِيلَ: لا شَيْءَ عَلَيْهِمْ .. الأول لابن القاسم: وإن نكل بعضهم كانت الدية عليها فقط، وفيه نظر؛ لأن يمين الحالف أنقض عنه الغرم إذا حلف بعضهم ولم تسقطعنه إذا حلف جميعهم، والقول الثاني لسحنون وهو أقرب. وَلَوْ وُجِد الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ فَلَيْسَ بِمُجَرَّدِهِ لَوْثاً علله مالك في المجموعة بأنه لو أخذ بذلك لم يشأ رجل أن يلطخ قوماً بذلك إلأا فعل؛ لأن الغالب أن من قتله لا يترك بموضع هو به، واختار بعض شيوخنا أن يكون لوثاً في قتل حويصة ومحيصة، هي وجود مسلم ببلد الكفار، وأنه لا ينبغي أن يختلف في ذلك. وَالْقَسَامَةُ: أَنْ يَحْلِفُ الْوَارِثُونَ الْمُكَلِّفُونَ فِي الْخَطَأِ وَاحِداً كَانَ أَوْ جَمَاعَةً ذَكَراً أَوْ أُنْثَى خَمْسِينَ يَمِيناً مُتَوَالِيَةً عَلَى الْبَتِّ وَلَوْ كَانَ أَعْمَى أَوْ غَائِباً ... لما انقضى كلامه على سبب القسامة أتبعه بتفسيرها، وبدأ بالخطأ إما لأنه أعم إذ يحلف فيه الرجال والنساء، وإما لأنه الموافق للأصل إذ لا يحلف فيه إلا المستحق.

وقوله: (الْوَارِثُونَ الْمُكَلِّفُونَ) أي: كل وارث مكلف دل على ذلك قوله: (وَاحِداً كَانَ أَوْ جَمَاعَةً)، واشترط المصنف التوالي كابن شاس لأنه أرهب. وقوله: (عَلَى الْبَتِّ وَلَوْ كَانَ أَعْمَى) نحوه في المدونة والعمى لا يمنع من تحصيل أسباب العلم مع عشيرة في صاحبه. وَتُوَزَّعُ الأَيْمَانُ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى ذِي الأَكْثَرِ مِنَ الْكَسْرِ، وَقِيلَ: عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا لَوْ تَسَاوَى الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ .... أما توزيع الأيمان على الميراث فظاهر؛ لانه سبب لحصوله، فإن انكسرت يمين فإما أن يتساوى الكسر أو يختلف، فإن تساوى حلف واحد يمينان. ابن الجلاب: ويحتمل أن يحلف واحد فقط، وحكى ابن أبي زمنين قولان بالتساوي بالقرعة، كثلاث بنين فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً، وأشار بقوله: كما لو تساوى الكسر، وإن اختلف فالمشهور أنه يحلفها أكثرهم نصيباً من اليمين المنكسرة، فإذا كان ابن وبنت حلف الابن ثلاثاً وثلاثين، وحلفت البنت سبعة عشرة؛ لأن لها نصيباً من اليمين المنكسرةثلثها، وقيل: يحلف كل واحد كالتساوي، وفي المقدمات ثالث: يحلف صاحب الأكثر من الابنين فيحلفها الأب في المثال المفروض. ثُمَّ مَنْ نَكَلَ أَوْ غَابَ فَلا يَاخُذُ غَيْرَهُمَا حَتَّى يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِيناً ثُمَّ مَنْ حَضَرَ حَلَفَ حِصَّتَهُ ... لأن الدية لا تلزم العاقلة إلا بعد ثبوت الدم، فإذا حضر الغائب حلف حصته فقط، وحكى في المقدمات إذا نكل مدعوا الخطأ أو بعضهم خمسة أقوال: الأول: أن الأيمان ترد على العاقلة، يحلفون كلهم لو كانوا عشرة آلاف والقاتل أجل منهم، فمن حلف لم يلزمه شيء، ومن نكل لزمه ما يجب عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم، وهذا أبين الأقاويل وأصحها في النظر.

والثاني: أنه يحلف من العاقلة خمسون رجلاً يميناً واحدة فإن حلفوا برؤوا وبرئت العاقلة من جميع الدم، وإن حلف بعضهم برئ من حلف منهم، ولزم من بقية العاقلة الدية كاملة حتى يتموا خمسين يميناً وهذا قول ابن القاسم. والثالث: أنهم إن نكلوا فلا حق لهم، وإن نكل بعضهم فلا حق لمن نكل ولا يمين على العاقلة؛ لأن الدية لم تجب عليهم بعد وإنام تجب عليهم بالفرض، قاله ابن الماجشون. والرابع: أن اليمين ترجع على المدعى عليه وحده، فإن حلف برئ، وإن نكل لم يلزم العاقلة بنكوله شيء؛ لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، والنكول كالإقرار، وإنما هو بنكوله شاهد على العاقلة، رواه ابن وهب عن مالك. والخامس: أن الأيمان ترد على العاقلة، فإن حلفت برئت، وإن نكلت عن اليمين غرمت نصف الدية، قاله ربيعة، هو على ما روي عن عمر رضي الله عنه في قضائه على السعدين. وَلا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةً أشار ابن القاسم وأشهب وعبد الملك إلى أن ذلك كالشهادة، ولا يقتل بأقل من شاهدين، ألا ترى أنه لا يحلف النساء في العمد إذ لا يشهدون فيه، ويحتمل أن يعلل المنع بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: أتحلفون، فأتى بصيغة الجمع وأقل الجع اثنان عند مالك، نقله عنه في البيان. وقوله: (عَصَبَةً) أي: عصبة القتيل وسواء ورثوا أم لا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَوَالِي المولى الأعلى: واحد العصبة لكن هو أبعد العصبة، وعلى هذا فمراده بالعصبة أولاً العصبة من النسب.

فَإِنْ لَمْ [720/ب] تَكُنْ رُدَّتِ الْيَمِينُ، فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِيناً فإن لم تكن عصبة ولا موالي ردت اليمين على المدعى عليه، فإن حلف برئ من الدعوى وضرب مائة وسجن عاماً، وإن نكل حبس حتى يحلف خمسين يميناً، وظاهره تأبيد حبسه وهو كذلك، ابن عبد السلام: وقد وقع في ذلك خلاف على تفصيل تركناه خوف الإطالة، فمن أراده فلينظر المقدمات. وَلا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَمْدِ أي: في قسامة العمد. فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ وُزِّعَتْ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ اجْتُزِئَ بالْخَمْسِينَ عَلَى الأَصَحِّ ... كما لو كان له ولدان فيحلف كل واحد خمسة وعشرين. ابن عبد السلام: فإن طاع أحدهما أن يحلف أكثر من الأيمان لم يجز ذلك، هكذا قالوا، وكذلك إن كانوا ثلاثة حلف كل واحد منهم سبع عشرة، وكذلك يتوزعون الأيمان إلا أن يزيدوا على خمسين فالأصح، وهو قول ابن القاسم والمغيرة وأشهب وابن الماجشون، الاكتفاء بخمسين منهم لأن الزيادة على ذلك زيادة على سنة القسامة، وغير الأصح حكاه ابن رشد عن ابن الماجشون أيضاً إلا أنه قال: رايته في كتاب مجهول أنه لابد أن يحلف كل واحد منهم يميناً وإلا لم يستحقوا الدم، وفي المقدمات: وإن تساوت حظوظهم من الأيمان المنكسرة كثلاثة إخوة أو اثنين وثلاثين أخاً؛ لأنه وجب على كلٍ يمين وثلثان ففيه اختلاف، وذهب ابن القاسم إلى أنه يجبر الكسر كل واحدٍ منهم فيحلف الثلاثون يمينين، ويحلف كل من الثلاثة سبع عشرة يمينان، وخالف أشهب فقال: يحلف الثلاثون أخاً يميناً يميناً، ثم يقال لهم: ائتوا بعشرين رجلاً منكم يحلفون عشرين يميناً، وكذلك إن كان

بعددهم أكثر من خمسين حلفوا على مذهب ابن القاسم، وحلف كل منهم خمسين على مذهب أشهب. وَفِي الاجْتِزَاءِ باثْنَيْنِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ضمير (مِنْهُمَا) يعود على الاثنين؛ أي: إذا كان ولاة الدم أكثر من اثنين سواء كانوا خمسين أو أقل أو أكثر فقال ابن القاسم: يتجزئ بحلف اثنين منهم، وقيده الشيخ أبو محمد بأن يطيعا بذلك، ولم يكن ذلك ممن لم يحلف نكولاً، وقال أشهب والمغيرةوابن الماجشون: لابد أن يحلفاو كلهم، ولا يجوز حلف بعضهم. فَإِنْ كَانَ وَاحِداً اسْتَعَانَ بوَاحِدٍ مِنْ عَصَبَتِهِ أي: إن كان ولي الدم واحداً استعان بواحد من عصبته؛ أي: بمن يلقاه في أبٍ معروف يوازيه، قال في المقدمات: فإن وجد رجلاً واحداً حلف كل واحد منهما خمس وعشرين يميناً، وإن وجد رجلين أو أكثر قسمت الأيمان بينهم على عددهم، فإن رضوا أن يحلفوا عقد منها أكثر ما يجب عنه زاد ما لم يزد على خمس وعشرين، وإن كان للقتيل وليان فأراد أن يستعينا في القسامة بغيرهما من الأولياء الذين دونهم في المرتبة فذلك جائز، وتقسم بينهم على عددهم، فإن رضي المستعان بهم أن يحلف كل واحد منهم أكثر مماي جب عليه فذلك جائز، ولا يجوز لأحدهما أن يحلف أكثر من خمس وعشرين، وإذا حلف كل واحد من الوليين ما يجب عليه من الأيمان إذا قسمت على عددهم، فلا بأٍ أن يحلف بعض المستعان بهم أكثر من بعض، وإن حلف أحدهم خمساً وعشرين ثم وجد صاحبه من يعينه، فإن الأيمان الذي حلف المستعان به لا تكون محسوبة للمستعين بأن تقسم بين الوليين، وإن لم تقسم بينهما وحسبت كلها للمستعين، يحلف ما بقي من الخمس وعشرين فيزاد عليه حتى يستكمل نصف ما بقي من الخمسين يميناً بعد الأيمان التي حلفها المستعان به محسوبة لا تقسم بينه وبين صاحبه.

وَلا يُنْتَظَرُ الصَّغِيرُ إِلا يُوجَدَ حَالِفٌ فَيَحْلِفُ نِصْفَهَا وَالصَّغِيرُ مَعَهُ فَيُنْتَظَرُ، فَإِنْ عَفَا فَلِلصَّغِيرِ حِصَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ لا أَقَلَّ ... يعني: إذا كان للميت وليان خلاف الصغير الصغير إما في درجة واحدة أو بالاستعانة لم ينتظر الصغير وأقسما وقتلا، وإن لم يكن إلا واحد انتظر بلوغه ويحلف الكبير الآن النصف، ولا يؤخره؛ لأنه قد يموت أو يغيب قبل بلوغ الصغير فيبطل الدم. قوله: (وَالصَّغِيرُ مَعَهُ) أي: حالة اليمين لأنه أرهب والجملة في محل حال، ثم إن عفا الكبير صح عفوه، ووجب للصغير نصيبه من الدية، أي: دية عمد لا أقل منها، وظاهر كلام المصنف انتظار الصغير وإن بعد بلوغه، وهو مذهب المدونة، ابن عبد السلام: وه والمشهور، وكذلك ظاهر المدونة أيضاً انتظار الغائب، وعن سحنون: أن قرب بلوغ الصغير وانتظار الغائب، وإن بعد لم ينتظر، وتأول أبو عمران المدونة على أن الغائب ينتظر بخلاف الصغير، وفيه نظر وعكسه أحسن. وَنُكُولُ الْمُعَيَّنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لأنه لا حق له في الدم، ولأنه يتهم أن يرشى، وإذا نكل المعين ولم يكن ولي الدم إلا واحد، فإن وجد من يستعين به غير هذا، وإلا فقد بطل الدم. وَأَمَّا نُكُولُ غَيْرِِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَلَدِ أَوِ الإِخْوَةِ سَقَطَ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ عَلَى الْمَشْهُورِ ... يعني: وأما نكول غير الأولياء الذين هم في القودسواء، فإن كانوا أولاداً أو إخوة سقط القود بالاتفاق، واختلف في غيرهم كالأعمام وبنيهمومن هو أبعد، فالمشهور سقوط القود أيضاً، وهكذا صرح الباجي بمشهوريته والشاذ [721/أ] لا يسقط إلا باجتماعهم، وقال ابن نافع: إن كان على وجه العفو حلف من بقي وكنات له الدية، وإن

كان على وجه التورع حلف من بقي وقتلوا، قال: فمن الشيوخ من يحمله على التقييد ويقول: لا خلاف أن النكول إن كان تورعاً فلا خلاف أن لمن بقي أن يقسم ويقتل، ومنه من يحمله على الخلاف ويقول: إذا نكل أحد الأولياء عن القسامة فلا سبيل إلى القسامة كان نكوله عفواً أو تورعاً وهو الأظهر، وفرق ابن القاسم بين أن يكون العفو قبل القسامة فيبطل القتل والدية، أو بعدها فيبطل القتل ويكون لمن بقي حظهم من الدية، وأبطل ابن الماجشون الدية مطلقاً، والنكلو عن القسامة عند جميعهم كالعفو. وَالرُّجُوعُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْقَتْلِ كَالنُّكُولِ يعني: إذا أكذب أحد الأولياء نفسه بعد الأيمان فذلك كالنكول، فإن كان الراجع ابنا أو أخا سقط القود، وكذلك العم وابنه على المشهور، هذا مقتضى التشبيه، وفي المقدمات: إن عفا أحد الأولياء بعد ثبوته بالبينة والقسامة أو أكذب نفسه بعد القسامة فثلاثة أقوال: الأول: لابن الماجشون: أن الدم والدية يبطلان ولا يكون لمن بقي شيء من دية ولا قصاص. الثاني: لمن بقي من الأولياء حظه من الدية. الثالث: إن عفا كان لمن بقي حظوظهم وإن أكذب نفسه لم يكن للباقين شيء من الدية، وإن كانوا قبضوها ردوها، وهومذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، قال: فيأتي علىهذا في بطلان الدية بعفو أحد الأولياء عن الدم ثلاثة أقوال: الأول: لابن الماجشون: أنه يبطل ولا شيء لمن بقي. الثاني: أن لمن بقي حصته من الدية بغير قسامة إن كان العفو بعد ثبوت الدم أو قسامة إن كان العفو قبلها.

الثالث: تفرقة ابن القاسم بين أن يكون العفو بعد ثبوت الدم او قبله، وساوى ابن القاسم بين العفو والنكول عن اليمين قبل القسامة، وفرق بعد القسامة من عفو أحد الأولياء أو تكذيبه لنفسه، كعفوه عن الدم قبلها لا شيء لمن بقي على ما ذكرناه. وَعَلَى سُقُوطِ الْقَودِ فَفِي رَدِّ اليَمِينِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ أَيْمَانِ الْبَاقِي وَاسْتِحْقَاقِهِمُ الدِّيَةَ-رِوَايَتَانِ .... أي: إذا فرعنا على سقوط القود في النكول والرجوع، فروي عن مالك أن الأيمان ترد على المدعى عليه ويسقط الدم والدية، وروي عنه أن لمن بقي أن يحلف ويأخذ حظه من الدية. ابن عبد السلام: والظاهر الأول. فَإِنْ نَكَلَ فَثَلاثَةٌ: الْحَبْسُ حَتَّى يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِيناً وَلَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ، وَالدِّيَةُ، وَالْحَبْسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَطُولَ ... أي: فإن نكل المدعى عليه على القول بتوجيه اليمين عليه ففي المسألة ثلاثأقوال، وتصورها من كلامه ظاهر وأظهرها الأول، لأن طلب منه أمر يسجن بسببه فلا يخرج إلا بعد حصول ذلك المطلوب، وقوله في القول الثاني: (وَالدِّيَةُ) أي: في ماله، والقول الثالث: جار علىمسائل الطلاق والعتق. قوله: (وَلَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ)، اختلف في استعانة المدعى عليه على ثلاثة أقوال: الأول: نفي الاستعانة. ابن عبد السلام: وهو مذهب المدونة ومطرف. والثاني: قول ابن القاسم في المجموعة: أن الأيمان ترد على المدعى عليهم ويحلف معهم المتهم، وهذا القول الذي ذكره المصنف بقوله: وله أن يستعين، وحمل أبو الحسن المدونة عليه، وهو ظاهر الرسالة.

والثالث: لابن القاسم في العتبية والماوزية: أن ولاة المدعى عليه بالتخيير بين أن يحلفوا الأيمان كلها أو يحلفها المتهم وحده، وليس لهم أن يحلفوا بعضها ويحلف هو بقيتها، والأول أظهر ولا يخفى وجهه. وَكَذَلِكَ لَوْ رُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ لما ذكر حكم نكول بعض الولاة ذكر نكول الجميع، وأشار بذلك إلى جريان الأقوال الثلاثة. فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَمَاعَةً حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِيناً لأن كل واحد منهم على البدل مرتهن بالقتل، وهل لكل منهم الاستعانة؟ يجري على الخلاف المتقدم. وَحُكْمُهَا: الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ لما ذكر أسباب القسامة وحقيقتها، أخذ فيما يترتب عليها من الأحكام. وقوله: (الْقَوَدُ) يعني: في العمد لقوله عليه الصلاة والسلام: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكلامه ظاهر. وَلا يُقْتَلُ بهَا إِلا وَاحِدٌ خِلافاً لِلْمُغِيرَةِ لأن القسامة فيها ضعف من الإقراروالبينة، ولما في مسلم في بعض طرق الحديث: "يقسم خمسين منكم على رجل منهم"، قال في الموطأ: ولم نعلم قسامة كانت قط إلا علىرجل واحد، وقاس المغيرة ذلك على الشهادة، ابن القاسم في الموازية والمجموعة: وإن وجب لقوم دم رجل بقسامة، فلما تقدم للقتل أقر غيره أنه قتله، إن شاءوا قتلوا المقر بإقراره، وإن شاءوا قتلوا الأول بالقسامة، ولا يقتلوا إلا واحد.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ يَكُونُ مُعَيَّناً بالْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ اللَّوْثُ عَلَى الْجَمَاعَةِ بخِلافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ لا يُقْسَمُ إِلا عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ فِي ثَلاثِ سِنينَ، وَقَالَ أَشْهَبُ: أَوْ يَخْتَارُونَهُ بَعْدَ يَمِينِهِمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ ... أي: إذا بنينا على أنه لا يقتل بها إلا واحد، فالمشهور أن القسامة لا تكون إلا على معين وهو الذي يريدون قتله، [721/ب] ابن القاسم عن مالك في الموازية والمجموعة: وإذا أقسموا عليه قالوا: في القسامة لمات من ضربه، ولا يقولون من ضربهم. وقوله: (وَإِنْ كَانَ اللَّوْثُ عَلَى الْجَمَاعَةِ) ظاهره أنه مبالغة وليس بظاهر، لأن فرض المسألة أن اللوث على جماعة. قوله: (بخِلافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ لا يُقْسَمُ إِلا عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ فِي ثَلاثِ سِنِينَ) هكذا في المدونة ففيها: والفرق بين العمد والخطأ يقول: الضرب منا أجمعين، فلا تخصوا عاقلتي بالدية ولا حجة له في العمد انتهى. ولا فرق على مذهب ابن القاسم بين أن يكون الضرب واحداً أو متعدداً، وقال سحنون: إن كان الضرب واحداً كقوم حملوا صخرة فالقسامة على جميعهم، والخطأ والعمد في ذلك سواء، وإن كان الضرب مفترقاً فلا يقسم إلا على واحد منهم، إذ لا يمكنه أن يقتله اكثر من واحد. وقوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ: أَوْ يَخْتَارُونَهُ) هذا مقابل قوله أول المسألة: (يَكُونُ مُعَيَّناً بالْيَميِنِ)، ودلت (أَوْ) من قول المصنف: (أَوْ يَخْتَارُونَهُ)، على أن أشهب يخير في الأمرين وهو كذلك، وخيره أيضاً في ثالث وهو أن يقسموا على اثنين وأكثر، وفي قول أشهب لأنهم إذا أقسموا على الجميع ثم اختاروا واحداً أيكون من الترجيح فلا رجح؛ إذ ليس أحدهم بأولى من الآخر، وقيد ابن رشد هذا الخلاف بأني حتمل موته أن يكون على أحدهم وإن لم يحتمل ذلك، كما لو رموا عليه صخرة لا يقدر بعضهم على رفعها، فلا اختلفا أنهم يقسمون عليهم كلهم ثم يقتلون من شاءوا منهم.

أصبغ: فإن رمى بدمه نفراً فأخذ واحد وسجن وتغيب من بقي، فأراد الأولياء بقاؤه حتى يجدوا من غاب فيختارون من يقسموا عليه، وقال المسجون: إما أقسمتم علي أو أطلقتموني فذلك له ويستأنى به بقدر ما يطلبون، ويرجى الظفر بهم ويتلوم لهم في ذلك، فإن تم التلوم وحبس سنة، وإن لم يحلفوا حلف خمسين يميناً، فإن نكل سجن حتى يحلف، قالوا: وإن شاءوا صالحوا المسجون على مال ثم لهم القسامة على من شاءوا وسجن الصالح سنة بعد أن يضرب مائة. وَمَنْ أَقَرَّ بقَتْلٍ خَطَأٍ فَإِنْ كَانَ كَأَخٍ أَوْ صَدِيقٍ مُلاطِفٍ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لأَنَّهُ يُتَّهَمُ بإِغْنَاءِ وَرَثَتِِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيداً وَكَانَ عَدْلاً فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، بقَسَامَةٍ فَإِنْ لَمْ يُقْسِمُوا فَلا شَيْءَ لَهُمْ ... تصوره ظاهر والمسألة في المدونة في الديات وفي الصلح، ولا إشكال في عدم قبول قوله: إذا كان يتهم، وأما البعيد فالدية على العاقلة، قال في المدونة: إذا كان ثقة مأموناً ولم يخف أن يرشى، وعبر المصنف عن ذلك بالعدالة، وحكى ابن الجلاب في هذه المسألة أربع روايات: الأولى: مذهب المدونة وهو ما ذكره المصنف أن الدية على العاقلة بقسامة. الاثنية: أنها على المقر له ي ماله بقسامة. الثاثة: أنه لا شيء عليه ولا على العاقلة. الرابعة: يقضي عليه وعلى عاقلته، فما أصابه غرمه وما أصاب العاقلة سقط عنها. وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إِقْرَارِهِ بذَلِكَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ كَانَ كَالْمَقْتُولِ أي: على إقراره أي: القاتل، ومقتضى التشبيه أنه لا يفيد الشاهد الواحد لأنه قال: والإقرار بذلك أو بقتله خطأ بشاهدين، وقد اختلف في الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالتقل عمداً أو خطأ على ثلاثة أقوال: الأول: أنه يقسم في العمد والخطأ، الثاني: لا قسامة فيهما، الثالث: يقسم في العمد دون الخطأ وإليه ذهب سحنون وعليه أصلح المدونة.

ابن رشد: وهو أظهرها إذ قيل أن إقرار القاتل خطأ ليس بلوث يوجب القسامة، فكيف إذا لم يثبت قوله وإنما شهد به واحد. وَلَوْ شَهِدَ مَعَ إِقْرَارِه شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَالْقَسَامَةُ أَيْضاً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَالْمَقْتُولِ يعني: ولو شهد واحد بالقتل فلابد بالقسامة، ومراده إذا أقر القاتل بالقتل خطأ، وأما في العمد فإنه يقتل بإقراره. وقوله: (مِنْ غَيْرِ تَفْصيلٍ) بين أن يكون قريباً أو بعيداً كالمقتول؛ أي: كما إذا تعدد اللوث مع قول المقتول. وَفِيهَا: لا قَسَامَةَ فِي الْجِرَاحِ وَلكِنْ مَنْ أَقَامَ عَدْلاً عَلَى جُرْحِ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ حَلَفَ يَمِيناً وَاحِدَةً وَاقْتَصَّ أَوْ أَخَذَ الْعَقْلَ، وَقَالَ مَالِكٌ حِينَ اسْتُشْكِلَ الْعَمْدُ: إِنَّهُ لَشَيْءٌ اسْتَحْسَنَّاهُ وَمَا سَمِعْنَا فِيهِ شَيْئاً ... قد تقدم الكلام علىهذا ولعل المصنف أتى به هنا لأحد أمرين: أولهما ليتوصل بذلك إلى الفرع الذي بعده، وإما لأنه لمافرغ مما فيه القسامة شرع فيما لا قاسمة فيه من الجراح والكافر والعبد والجنين تصور كلامه ظاهر. وقوله: (اسْتُشْكِلَ) هو مبني لما لم يسمَّ فاعله؛ لأن المُسْتَشْكِل ابن القاسم، وقال ابن عبد الحكم: لا أرى ذلك في العمد. قوله: (أَوْ أَخَذَ الْعَقْلَ) راجع إلى الخطأ. فَإِنْ نَكَلَ قِيلَ لِلْجَارِحِ: احْلِفْ وَابْرَا، فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أي: فإن نكل من قام له شاهد بالجرح، قيل للجارح: احلف فإن حلف برئ وإن نكل سجن حتىيحلف، وكان ابن القاسم يقول: يقتص به ثم رجع، وقال ابن القاسم أيضاً: فإن طال حبسه ولم يحلف عوقب وأطلق إلا أن يكون متمرداً فليخلد في السجن.

وَلَوْ أَقَامَ النًّصْرَانِيُّ عَدْلاً أَنَّ وَلِيَّهُ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ نَصْرَانِيٌّ حَلَفَ يَمِيناً وَاحِدَةً [722/أ] وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ ... قد تقدم هذا الفرع أول القسامة. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ قد تقدم أيضاً. وَالْجَنِينُ الرَّقِيقُ وَالْجَنِينُ كَالْجُرْحِ لا كَالنَّفْسِ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَلْقَتْ جَنِيناً مَيْتاً، وَقَالَتْ: دَمِي وَجَنِينِي عِنْدَ فُلانٍ وَمَاتَتْ كَانَتِ الْقَسَامَةُ فِي الأُمِّ وَلا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ ... مراده بـ (الْجَنِينُ) ثانياً: الحر. قوله: (كَالْجُرْحِ) أي: فيمن أقام شاهداً واحداً حلف واستحق الغرة في الجرح وعشر قيمة الأم في الرقيق، فقوله: (وَالْجَنِينُ الرَّقِيقُ) مبتدأ، وقوله: (وَالْجَنِينُ) عطف عليه، و (كَالْجُرْحِ) الخبر، وإنام بين هذا وإن كان واضحاص لأن بعض الناس لم يتبين له هذا. وقوله: (وَلِذَلِكَ) أي: ولأجل أن الجنين كالجرح (لَوْ أَلْقَتْ جَنِيناً مَيْتاً، وَقَالَتْ: دَمِي وَجَنِينِ عِنْدَ فُلانٍ كَانَتِ الْقَسَامَةُ فِي الأُمِّ وَلا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ)؛ لأنه بمنزلة ما لو قال: جرحني فلان وذلك غير مسموع. وَلَوْ ثَبَتَ الأمْرَانِ بعَدْلٍ وَاحِدٍ فَالْقَسَامَةُ فِي الأُمِّ وَيَمِينٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنِينِ الأمران موتها وخروج الجنين ميتاً بعدل، فالقسامة في الأم لأنها نفس، ويحلف ولي الجنين فيه يميناً واحدة يوستحق ديته لأنه كالجرح، فلو استهل أقسم عليه أيضاً، وقد تركنا كثيراً من الفروع؛ لأن الغرض حل كلام المصنف ولقلة وقوعه، والله أعلم.

البغي

الْجِنَايَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلْعُقُوبِةِ سَبْعَةٌ: الْبَغْيُ، وَالرِّدَةُ، وَالزِّنَى، وَالْقَذْفُ، وَالسِّرِقَةُ، وَالْحِرَابَةُ، وَالشُّرْبُ ... لما تكلم على القتل والجراح اللذين يكون عنهما إذهاب النفس الذي هو من أعظم الذنوب في حق الآدميين، اتبع ذلك بالجنايات الموجبة إما لسفك الدماء ولما دونه، والجناية هي ما يحدثه الرجل على نفسه أو غيره مما يضر حالاً أو مآلاً، ثم هي منحصرة في الاصطلاح في هذه السبعة، وبدأ فيها بالبغي لأنها أعظمها مفسدة، إذ فيه إذهاب الأموال غالباً، وعقبه بالردة لأنها وإن كانت في الدين إلا ان مفسدها، وعقبه بالزنى؛ لأن مفسدته تقضي إلى إتلاف النفوس بواسطة عدم معرفة الأب الذي يقوم بمصالحه، وأعقبه بالقذف لتعلقه بالأنساب، وأما السرقةوالحرابة فالمفسد فيهما إنما هو إتلاف الأموال وهو أضعف، وكان ينبغي على هذا تقديم الشرب؛ لأن مفسدته ذهاب العقل، إلا أن يقول لم يكن الحد فيه منصوصاً عن الشارع، وقيساً على القذف أخره لذلك. الْبَغْيُ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ الإِمَامِ مُغَالَبَةً الجوهري: البغي: التعدي، وقال عياض وابن العربي: هو الطلب إلا أنه مقصور على طلب خاص، وهو أن يبتغي ما لا ينبغي ما ابتغاؤه، وهذا معنى كلامهما، وفي اصطلاح الفقهاء: الخروج عن طاعة الإمام يبتغي خلعه، أو يمتنع من الدخول في طاعته، أو يمنع حقاً وجب عليه بتأويل، وأخرج المصنف الخروج عن طاعة غير افمام من غير مغالبة فإن ذلك لا يسمى بغياً، فإن قيل قوله: (الْخُرُوجُ) لا يصدق إلا على من دخل وذلك غير شرط؛ إذ لا يشترط في انعقاد الولاية كل واح، قيل: قد يجاب عنه بأنه أراد الخروج عما وجب عليه شرعاً، وهو أعم من أن يكون دخل فيه أم لا.

وَالْبُغَاةُ قِسْمَانِ: أَهْلُ تَاوِيلٍ وَأَهْلُ عِنَادٍ يعني: ويقاتلان، وقد أجمع في ذلك في زمان أبي بكر رضي الله عنه حيث قاتل مانع الزكاة، وكان بعضهم متأولاً أن وجوبها قد انقضى بموته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِيهِم بِهَا) [التوبة: 103] وبعضهم معانداً شحَّاً بماله. وَلِلإِمَامِ الْعَدْلِ فِي قِتَالِهِمْ خَاصَّةً جَمِيعُ مَا لَهُ فِي الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمُ النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ بَعْدَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ ... (خَاصَّةً) يرجع إلى قتالهم دون الاسترقاق وقتل أسيرهم والتذفيف على جريحهم، وأعاد ابن عبد السلام: خاصة للإمام العدل؛ أي: للعدل القتال دون غيره جميعاً؛ أي: الطائفتين أهل التأويل وأهل العناد ماله في قتال الكفار من ضيف سف ورمي نبل أو منجنيق وتغريق وتحريق، ولا يمنعه من ذلك وجود النساء والذرية فيهم. وقوله: (بَعْدَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ) إلى الحق، هكذانص عليه سحنون في كتاب ابنه، وإذا كان الكفار يدعون على أحد الأقوال، فهنا أولى لأنهم مسلمون. وَلا يَقْتُلُ أَسِيرَهُمْ، وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ وَأَمِنُوا فَلا يُذَفِّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلا مُنْهَزِمِهِمْ هكذا قال أصبغ: إذا أٍر منهم أسير فلا يقتل بل يؤدب ويسجن حتى يتوب، وإن ثبت عليه أنه قتل أحداً قتل به، وظاهر كلام أصبغ، وهو ظاهر كلام المصنف عدم القتل ولو كانت الحرب قائمة، وقال عبد الملك: إن كانت الحرب قائمة فللإلمام قتل أسيهرم أو جماعة في قبضته إذا خاف أن تكون عليه دائرة أو حس ضعفا، سحنون: وإذا ظهر الإمام عليهم ظهوراً بيناً وأيس من عودتهم، فلا يقتل منهزمهم ولا يذفف علىجريحهم، وإن لم يتحقق الهزيمة ولا يؤمن رجوعهم فلا بأس أن يقتل منهزمهم، وجريحهم.

ابن حبيب: ونادى منادي علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض من حاربه ألا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسير، ثم كان موطن آخر في غيرهم فأمر باتباع المدبر وقتل الأسير والإجهاز على الجريح، فعوتب في ذلك، فقال: هؤلاء لهم فئة ينحازون إليها، الأولون لم تكن لهم فئة، ومعنى (أَلاَّ يُذَفَّفَ): لا يجهز، ونقل في النوادر [722/ب] عن سحنون أنه قال: سمعت اصحابنا يقولون لا يقتل منهزم العصبية ويقتل منهزم الخوارج على كل حال، ولعله إذا كان لهم إمام وفئة يوافق الأول. وَفِي قَتْلِ الرَّجُلِ أَبَاهُ قَوْلانِ ظاهره أنه من منع ذلك منعه على وجه التحريم، وهذا القول إنما هو منقول عن سحنون، وقال: لا أحب وظاهره الكراهة، وقد صرح سحنون في موضع آخر بالكراهة، وقال: من غيرتحريم، سحنون: وله قتل أبيه وأخيه وجده لأبيه وأمه، والقول بأن له أن يقتل أباه لأصبغ، وسكت عن الأم؛ لأن الغالب عدم قتالها ولا فهي أزيد من الأب برَّاً. وَأَمَّا أَمْوَالُهُمْ فَإِنْ كَانَتْ سِلاحاً أَوْ كُرَاعاً وَاحْتِيجَ إِلَيْهَا اسْتُعِينَ بهَا عَلَيْهِمْ، وَيُرِدُّ بَعْدَ ذَلِكَ هَوَ وَغَيْرُهُ ... ويرد إلى المال المستعان به وغيره من سائر أموالهم لأنهم مسلمون، لم يزل ملكهم عن أموالهم، فُهِمَ من كلامه أن غير السلاح والكراع لا يستعان به عليهم، وأن السلاح والكراع إذا لم يحتج إليها لا يجوز أخذها، وهكذا نقل عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه جواز الاستعانة وإلا فالأصل عدم الجواز لقوله عليه الصلاة والسلام: <لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس". وَمَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ التَّاوِيلِ مِنْ نَفْسِ وَمَالٍ فَلا ضَمَانَ يعني: أنهم إن خرجوا متأولين فلاضمان فيما أتلفوه في الفتنة من نفس ومال، واحترز بقوله: (أَتْلَفَهُ) مما لو كان بأيديهم بعينه فإن ربه يأخذه.

وَإِنْ وَلَّوْا قَاضِياً أَوْ أَخَذُوا زَكَاةً أَوْ أَقَامُوا حَدَّاً، فَفِي نُفُوذِهِ قَوْلانِ القول بالنفوذ لمطرف وابن الماجشون، وعدمه لابن القاسم، وعن أصبغ القولان، والأول أقيس؛ لأن التأويل إذا نفعهم في درأ القصاص والحدود وأخذ المال انبغى أن ينفعهم في هذه الأمور. وَمَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْعِنَادِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فَالْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ لأنهم غير معذورين. وَحُكْمُ النِّسَاءِ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمَا حُكْمُ الرِّجَالِ (مِنْهُمَا) أي: من أهل التأويل وأهل العناد من القتل، وعدم قتل الأسير والتذفيف على الجريح، وفي الجواهر: وإذا قاتل النساء مع البغاة بالسلاح فلأهل العدل قتلهن في القتال، فإن لم يكن قتالهن إلا بالتحريض ورمي الحجارة فلا يقتلن إلا أن يكن قتلن فيقتلن، الشيخ أبو محمد: يريد غير أهل التأويل، وقد تقدم ي قتل النساء من أهل الحرب. وَإِذَا سَأَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ الإِمَامَ التَّاخِيرَ أَيْاماً أَوْ أَشْهُراً حَتَّى يَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِم، وَتَأَوَّلُوا شَيْئاً لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُمْ، وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُم مَا سَأَلُوا مَا لَمْ يُقَاتِلُوا فِيهَا أَحَداً أَوْ يُفْسِدُوا ... هذه الجملة وقعت في بعض النسخ، ووقعت في نسختي ونحوها في الجواهر وهو ظاهر التصور. وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ- فَإِنْ كَانُوا مَعَ أَهْلِ التَّاوِيلِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُهُمْ، وَيُرَدُّونَ إِلَى ذِمَّتِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مَعَ أَهْلِ الْعِنَادِ فَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ ... لأن التأويل صيرهم كاهل الفتنة وكلامه ظاهر.

الردة

الرِّدَّةُ: الْكُفْرُ بَعْدَ الإِسْلامِ، وَتَكُونُ بصَرِيحٍ، وَبِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ، وَبفِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ حد المصنف الردة ظاهر التصور، ونسأل الله العظيم بجاه النبي الكريم أن يعصمنا منها، وأن يميتنا على الإسلام وهو راض عنا، وأن يقلع من قلوبنا رعونات البشرية. قوله: (وَتَكُونُ) أي: الردة، ويجوز أن تقرأ بالياء المثناة من تحت، تعود حينئذٍ على الكفر الصريح كالكفر بالله وبرسوله، واللفظ الذي يقتضيه كجحد الصلاة والصوم وما علم من الدين ضرورة، أو ادعى أن للنجوم تأثيراً، والفعل المضمن قالوا: كإلقاء المصحف في القاذورات، وتلطيخ الكعبة بها وشد الزنار ببلاد الإسلام، والسجود للصنم، ونقل ابن عبد السلام، وابن راشد عن القرافي، أن الخطيب إذا جاءه من يريد النطق بكلمة الإسلام، فقال: اصبر حتى أقرأ خطبتي أنه يحكم بكفر الخطيب، لأن ذلك يقتضي أنه أراد بقاءه على الكفر، ولم أرَ ذلك، ووقعت في أيام القرافي مسألة وهي: أن رجلاً قال لآخر أمات الله البعيد كافرا، فأفتى الكركي بكفره، قال: لأنه أراد أن يكفر بالله، وقال القرافي: إرادة الكفر لم تكن مقصودة، وإنما أراد التغليظ في الشتم، والكفر شيء يتول إليه الأمر. ابن راشد: وما قاله هو الصواب. وَتُفَصَّلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ لاخْتِلافِ النَّاسِ فِي التَّكْفِيرِ يعني: لا يقبل من الشاهد أن يقول فلان كفر وارتد عن الإسلام حتى يبين الذي كَفَر به، لأن من الناس من كفَّرَ بلازم المذهب ومنهم من لم يكفر به، ولا يقال يجري هنا الاختلاف الذي في التعديل والتجريح، لأن المفسدة هنا أشد، وظاهر كلام المصنف وجوب التفصيل، ولفظ الجواهر: ينبغي ولعل مراده أيضاً الوجوب.

وَمَنْ تَنَصَّرَ مِنْ أَسِيرٍ حُمِلَ عَلَى الاخْتِيَارِ حَتَّى يَثْبُتَ إِكْرَاهً فَكَالْمُسْلِمِ هذا هو المشهور، ووجهه أن الغالب في أحوال المكلف الاختيار وهذا صحيح، إلا أن يشتهر عن جهة من جهات الكفار أنهم يكرهون الأسير على الدخول في دينهم، ويكثرون من الإساءة إليه، فإذا تنصر خفف عنه، فينبغي عندي أن يتوقف في إجراء حكم المرتد عليه في ماله وزوجاته حتىي يثبت ذلك، وقيل: بل يحمل على الإكراه لأنه الغالب من حال المسلم. وقوله: (فَكَالْمُسْلِمِ) أي: فكما أن الكافر إذا أسلم ثم زعم أن إسلامه كان عن [723/أ] إكراه، فإنه يحمل على الاختيار ولا يقبل منه دعوى الاضطرار، هكذا قال ابن عبد السلام، قال: ولم يثبت. قوله: (فكَالْمُسْلِمِ)، أنه إذا ثبت إكراهه فكالمسلم في جميع أحكامه، ويكون أعاد بذلك إلى قوله في المدونة: وإن ثبت إكراهه فكالمسلم في جميع أحكامه، ويكون أعان بذلك ببينة لم يطلق عليه في نسائه وماله، ويرث ويورث. وَمَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ قُرْبٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ عَنْ ضِيقٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غُرْمٍ، فَفِي قَبُولِ عُذْرِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، إِلا أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ ... يعني: إذا أسلم كافر ثم ارتد وقيد المصنف ذلك بالقرب كما في الرواية لأنه الغالب، ومفهوم قوله بعد ظهوره أنه لو لم يظهر ما ادعاه ما سمع منه، وحكم فيه بحكم المرتد وهو صحيح، وقول ابن القاسم بعد ظهور عذره، وروي عن مالك، أصبغ: وهو أحب إليَّ إلا أن يقيم على الإسلام بعد ذهاب الخوف فهذا لا يقبل، وقاله ابن وهب وابن القاسم، وإلى هذا التقييد أشار بقوله: (إِلا أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ)، والخلاف مبني على أنه هل يجوز إكراه الكافر على الإسلام أو لا؟ فروى أشهب وغيره أنه إكراه بحق، وإنما لا يعتبر المكره

عليه إذا كان باطلاً، وروي في القول الأول أن الإكراه لا يجوز لأن الشرع قد أقر الذمي على دينه فلا يكره على الخروج منه، وإذا لم يجز إكراهه بإكراه لم يلزمه والله أعلم. فرع: المتيطي: إذا أجاب إلى الإسلام جملة، وتشهد وأقر بالرسالة ووقف على شرائع الإسلام من وضوء وصلاة وزكاة وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، فإن أجاب إلى ذلك تم إسلامه وقبل إيمانه، وإن ابى من التزام ذلك لم يقبل منه إسلام ولا يكره على التزامها، ولم يجبر على الإسلام وترك دينه ولا يعد مرتداً برجوعه، وكان الله غنياً عنه، وكان ينبغي عند دخوله في الإسلام أن يوقف على دعائم الإسلام المبني عليها المذكورة أولاً، قال وإن لم يوقف على شرائع الإسلام، فالمشهور من المذهب أنه يشد ويؤدب، فإن تمادى على ارتداده ترك في لعنة الله تعالى ولم يقتل؛ لأن الإسلام قول وعمل، وقاله مالك وابن القاسم وغيرهما، وبه أخذ ابن عبد الحكم وعليه العمل والقضاء، وقال أصبغ في الواضحة: سواء رجع عن إسلامه عن قرب أو بعد ولو طرفة عين إذا تلفظ بالشهادتين ثم رجع قتل بعد استتباة. انتهى. وقد تقدم في كتاب الجهاد من كلام اللخمي أنه إذا أقر بالشهادتين ثم رجع أن حكمه كالمرتد. وَمِثْلُهُ مَنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَمَّهُمْ ثُمَّ اعْتَذَرَ أي: ومثل من أسلم، وظاهره دخول الخلاف المتقدم، ويحتمل أن يكون مثله في أصل الحكم وهو قبول عذره مع ظهوره وعدم قبوله مع نفي العذر. ابن عبد السلام: وهو أظهر ويعزى الخلاف لأشهب، وحكى إسحاق بن راهويه، الإجماع على أن الصلاة دليل على الإسلام، وجعل هذا الإجماع حجة في محل الخلاف وهو كفر تارك الصلاة ويستظهر لهذا الخلاف، ففي الموازية: إذا صحب النصراني قوماً وأظهر

الإسلام وتوضأ وصلى وراءه القوم فلما أمن أخبرهم وقال: صنعت ذلك تحصناً بالإسلام لئلا يؤخذ ما معي أو ثيابي، فله ذلك إذا أشبه، قال: وفي البيان: قالمالك: لا يقبل ما أظهر من الصلاة وإن كان في موضع هو فيه آمن على نفسه، ووجهه انه رأى صلاته بهم مجوناً وعبثاً، ويجب عليه بذلك الأدب المؤلم، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون أن ذلك منه إسلام، ولا حجة إن قال: لم أرد به الإسلام، وسواء على قولهما كان في موضع هو فيه آمن على نفسه أو لا، مثل قول أشهب أي في المسألة السابقة، وفَرقٌ لسحنون بين أن يكون في موضع هو فيه آمن فيعرض عليه الإسلام فإن لم يسلم قتل، أوخائف فلا سبيل إليه وهو أظهر الأقوال. خليل: وعلى هذا فالأظهر بقاء كلام المصنف على ظاهره من التشبيه في ظهور الخلاف ولا يلزم أن يكون القائل واحداً. ابن عطاء الله: فإن أذن الكافر كان أذانه إسلاماً، وإن أذن مسلم ثم ارتد بعد فراغه جرى على الخلاف المتقدم في الردة هل يبطل العمل بمجردها أوحتى يموت عليها. انتهى. فانظر هل يأتي على ما قاله اللخمي دون ما ذكره المتيطي أو عليها. وَعَلَى قَبُولِ عُذْرِهِ يُعِيدُ مَامُومُهُ، وَعَلَى رِدَّةٍ فِي إِعَادَتِهِمْ قَوْلانِ: أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ على القول بقبول عذره يعيد من صلى خلفه لأنه صلى خلف كافر، وعلى القول بعدم قبول عذره وأن حكمه كالمرتد، فقال مطرف وابن الماجشون: يعيدون أيضاً أبداً، وظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن يسلم أو يقتل والقول بعدم إعادته سواء أسلم أو قتل لم أقف عليه، نعم قال صاحب البيان: أنه القياس إذا حكمنا بإسلامه، والظاهر هو الأول لأنا وإن حكمنا بإسلامه فهو غير موثوق به في شروط الصلاة، والصلاة لابد فيها من نية جازمة، وإسلامه إنما حكم به في الظاهر، وقال سحنون: إن كان في موضع يخاف فيه على

نفسه فلا يقبل ويعيد القوم صلاتهم، وإن كان آمناً فإنه يعرض عليه الإسلام فإن أسلم فصلاتهم تامة، وإن [723/ب] لم يسلم قتل وأعادوا. وَحُكْمُ الْمُرْتَدِّ إِنْ لَمْ تَظْهَرْ تَوْبَتُهُ الْقَتْلُ لما في البخاري وغيره عنه عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه"، وقال في المرتد للجنس يشمل الذكر والأنثى خلافاً للحنفية في إخراج الأنثى، ولنا العموم المتقدمز فرع: فإن كانت متزوجة لم تقبل حتى تستبرأ، قال في الموازية: بحيضة. فَلِذَلِكَ لا يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ إِذَا جَاءَ تَائِباً وَظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى الأَصَحِّ، بخِلافِ مَنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ، قَالَ مَالِكٌ: لأَنَّ تَوْبَتَهُ لا تُعْرَفُ؛ يَعْنِي أَنَّ التَّّقِيَّةَ مِنَ الزَّنْدَقَةِ أي: لأجل أنَّا لا نقتل المرتد إلا إذا لم يظهر توبته، لأنه إنما قتل على ما أسر، وما أظهره لا يدل على ذلك وهذا هو المعهود، وذهب ابن لبابة إلى استنابته كالمرتد، وأما إذا جاء تائباص فظاهر الحال ان توبته صحيحة لاعترافه قبل أن يطلع عليه، ومقابل الأصح ذكره ابن شاس، فقال: ومن أصحابنا من قال لا تقبل توبته إذا جاء تائباً وصلى قبل الظهور عليه، وقوله: شاذ بعيد عن المذهب. وَيَجِبُ عَرْضُ التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ، وَفِي وُجُوبِ إِمْهَالِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ رِوَايَتَانِ، وَلا يُجَوَّعُ وَلا يُعَطَّشُ وَلا يُعَاقَبُ ... لعله قال قوله: (مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ) على الأمر ليشمل كلامه المرتد والزنديق على الشك، وإلا فالمشهور أن التوبة إنما تعرض على المرتد، وظاهر المذهب وجوب إمهاله ثلاثة أيام، ففي الرسالة: ويؤخر للتوبة ثلاثاً، وحكى ابن القصار إجماع الصحابة عليه لتصويبهم قول عمر رضي الله عنه بالاستنابة من غير إنكار، ففي الموطأ لما بلغه أنهم قتلوه من غير استنابة أنه قال رضي الله عنه: أفلا حبستموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً

واستنبتموه ولعله يتوب، ثم قال عمر: اللهم إني لم أحضر ولم أرضَ إذ بلغني، ويعرض عليه الإسلام كل يوم. ابن راشد: والنص أنه يمهل، وإنما الخلاف في كونه واجباص أو استحباباً في ذلك روايتان، وعلى هذا فكلام المصنف ليس بظاهر؛ لأنه لا يؤخذ منه الاستحباب، لكن حكى ابن القصار عن مالك ما ظاهره عدم استحباب التأخير ثلاثاً؛ لأنه روي عنه أنه يستناب فإن تاب وإلا قتل. قوله: (وَلا يُجَوَّعُ وَلا يُعَطَّشُ) نحوه لمالك لكلام عمر رضي الله عنه السابق. قوله: (وَلا يُعَاقَبُ) ظاهره في الثلاثة، وهكذا نقل الباجي عن مالك، ونقل عن أصبغ أنه يخوف أيام استنابته بالضرب ويذكر بالإسلام، ويحتمل أن يردي لا يعاقبه إذا تاب وكذلك ذكره في الجواهر، قاله أشهب عن مالك. وَالسَّاحِرُ كَالزِّنْدِيقِ حُرَّاً أَوْ عَبْداً ذَكَراً أَوْ أُنْثَى، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُسْتَسِرَّاً بسِحْرِهِ وُرِّثَ ... حد ابن العربي السحر بأنه كلام مؤلف يعظم به غير الله عز وجل وتنسب إليه المقادير والكائنات، وفي الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: "حد الساحر ضربه بالسيف"، وفي الموطأ: "أن حفصة رضي الله عنها أمرت بقتل جارية لها أسحرتها". ولأنه كفر فيجب قتله، أما أنه كفر فلقوله تعالى: (وَمَا يُعَلِمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ) [البقرة: 102]، وأما الكافر يقتل لقوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، ولا يقال هذا الحديث مخصص؛ لأن المسلم يقتل بغير هذا كالحرابة، وإذا كان مخصاصً فلا يحتج به؛ لأن الصحيح عند علماء الأصول خلافه، ولهذا قال مالك إن لم تعلم كفر وإن لم يعمل به، وإذا

ثبت أن حده القتل، فقال أصبغ: فلا يقتل حتى يثبت أن ما فعله من السحر الذي وصفه الله تعالى بأنه كفر، قال ويكشف عن ذلك من يعلم حقيقته، وحكاه الطرطوشي عن قدماء الأصحاب. الباجي: يريد ويثبت ذلك عند الإمام. وقوله: (كَالزِّنْدِيقِ) أي: فإن ظهر عليه قتل ولم يستتب، وإن جاء تائباً ترك على الأصح، هذا مقتضى التشبيه، ونحوه في الجواهر لأنه قال في الساحر: إذا اطلع عليه فقيل: لا يقبل منه ما يدعيه من التوبة التي لا يعرف صدقه في دعواها إلا أن يأتي تائباً منه قبل أن يطلع عليه، وهو اختيار القاضي أبي محمد، وقال ابن عبد الحكم وأصبغ: وهو كالزنديق إن ظهر سحره، قبلت توبته وإن كان مستتراً به قتل ولم يستتب، فظاهره أن المستسر بسحره لا تقبل منه التوبة باتفاق، وإنما الخلاف إذا ظُهر على سحره كالزنديق، وظاهر ما في الموازية موافق لاختيار القاضي؛ لأن فيها لمالك أن الساحر يقتل ولا يستتاب وأن السحر كفر، وعلى هذا فلا يورث، وقال ابن عبد الحكم وأصبغ يورث إن كان مستسراً بسحره، ولا يردي إذا كان مضمراص له وقتل، وماله لبيت المال وإلى هذا أشار بقوله: وقيل إن كان مستسراً بسحره ورث وفهم منه أنه لا يورث على الأول مطلقاً. وقوله: (حُرَّاً أَوْ عَبْداً ذَكَراّ أَوْ أُنْثَى) يعني: لا فرق في الساحر بين أن يكون حرَّاً أو عبداً، ولا فرق بين أن يكون ذكراً أو أنثى والمعروف من المذهب قتل الساحر، ورو ابن نافع عن [724/أ] مالك في المبسوط في المرأة تقر أنها عقدت زوجها عن نفسها أو غيرها أنها تقتل، قال ولو سحر نفسه لم يقتل بذلك وهذا كله إنما هو فيمن يباشر السحر، وأما من ذهب إلى من يعهد به، ففي الموازية: يِؤدب إذا باشر يداً ولا يقتل. فرع: وإذا كان الساحر ذميَّاً، فقال الباجي عن مالك أنه لا يقتل إلا أن يدخل بسحره ضرراً على المسلمين، فيكون ناقضاً للعهد، فيقتل لنقض عهده، ولا تقبل منه توبة غير

الإسلام، وأما إن سحر أهل ملته، فليؤدب إلا أن يقتل أحداً فيقتل به، وقال سحنون في العتبية: في الساحر من أهل الذمة يقتل إلا أن يسلم فليترك، كمن سب النبي صلى الله عليه وسلم. الباجي: فظاهر قول سحنون أنه يقتل على كل حال إلا أن يسلم، بخلاف قول مالك أنه لا يقتل إلا أن يؤذي مسلماً، ونقل في البيان قولاً بأن الذمي إذا تزندق أو سحر يقتل وإن أسلم. وَوَلَدُ الْمُسْلِمِ الْمُرْتَدِّ يَرْتَدُّ - كَالْمُرْتَدِّ يُجْبَرُ عَلَى الإِسْلامِ يعني: أن المسلم إذا ارتد وكان له ولد فارتد أيضاً، فإن الولد حكمه كحكم المرتد، لكن لا يقتل إلا أن يبلغ، فقوله: (الْمُرْتَدِّ) صفة للوالد، وكلام المصنف يتناول المولود قبل الردة، وقد تكلم في الجواهر على المولود قبلها أو بعدها، فقال: وأما ولد المرتد فلا يلحق به في الردة إذا كان صغيراً، إذ تبعية الولد لأبيه في الدين إنما تكون في دين يقر عليه، فإن قتل الأب على الكفر بقي الولد مسلماً فإن أظهر خلاف الإسلام أجبر على الإسلام، فإن غفل حتى بلغ ففي إجباره على الإسلام خلاف إذا ولد قبل الردة، ثم في كونه بالسيف أو بالسوط خلاف أيضاً وإن ولد بعدها أجبر وإن بلغ، وقيل: إن بلغ ترك كمن ارتد، وفهم من قول المصنف: (يَرْتَدُّ) أن الولد لو لم يرتد لم يتبع أباه كما صرح به في الجواهر، ومفهوم قوله إلى أن يبلغ، أنه إذا بلغ يقتل، وهو أحد القولين اللذين حكاهما ابن شاس، وحكاهما ابن حبيب عمن كاتب من أصحاب مالك، وذكر في الباين عن ابن القاسم أنه لا يجبر بالقتل مطلقاً سواء ولد قبل الردة أو بعدها، وعن ابن كنانة: أنه إ لم يرجع الذي ولد له بعد الردة يقتل، ووقع في نسخة ابن عبد السلام: وولد المسلم المرتد كالمرتد، وجعل المرتد صفة للولد، قال: وهو خلاف ما تكلم عليه في الجواهر، وهذا لأنه لم يقع في نسخة يرتد وهي ثابتة عندنا في النسخ، فليس كلامه خلافاً لابن شاس.

وَلاَ يُقْتَلُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ وَلا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَلا يُصَلِّى عَلَيْهِ أي: إذا جعلنا حكم المرتد لم تؤكل ذبيحته ولا يصلي عليه، ووقع في بعض النسخ: (فلا تؤكل) بالفاء وهي أحسن لأنها لم تشعر بالعلة. وَلَوْ غُفِلَ عَنْهُ حَتَّى بَلَغَ اسْتُتِيبَ عَلَى الأَصَحِّ الظاهر أن هذا مرتب على كلام هالسابق فيكون في الولد إذا ارتد لارتداد أبيه وكان قد ولد قبل الردة، وقد تقدم فيه من كلام صاحب الجواهر خلاف، ومقابل الأصح لابن القاسم أيضاً في العتبية فيمن ارتد وله ولد صغار أو أبوا أن يسلموا وقد كبروا، فليجبروا بالضرب ولا يبلغ بهم القتل. وَأَمَّ مَالُُهُ فَيُوقَفُ فَإِنْ تَابَ فَلَهُ عَلَى الأَصَحِّ، وَإِلا كَانَ فَيْئاً قوله: (وَإِلا) أي: وإن لم يثبت بل قتل على ردته فماله فيء بالاتفاق، وأما إن تاب فالأصح مذهب المدونة أنه له، ومقابله أنه أيضاص فيء وتعقبه. ابن عبد السلام: فإن ظاهره أنه يتفق على الإيقاف، قال: ولا فائدة في إيقافه على القول بأنه لا يرجع إليه. خليل: والنقل كما قال المصنف، فقد قال ابن شعبان: ومن أصحابنا من يقول إذا وقف مال المرتد بارتداده ثم مات أنه لا يرد إليه لأنه شيء وجب لغيره بردته، وكلام ابن شاس ككلام المصنف، وفائدة الإيقاف على هذا القول لما قد يطرأ عليه من دين سابق والتأليف على الإسلام؛ لأنا إذا أوقفنا المال يتوهم هأنا إنما وقفناه له فيسلم لذلك. وَمَالُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ أي: إذا قتل؛ لأنه يأخذه بالملك لا بالميراث.

وَحُكْمُ الزَّوْجَةِ تَقَدَّمَ يعني: في النكاح. وَأَمَّا جِنَايَتُهُ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ عَمْداً فَإِنْ لَمْ يَتُبْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ إِلاَّ الْفِرْيَةُ وَيُقْتَلُ لأن القتل يأتي على ذلك كله، وحكى صاحب البيان الاتفاق على ذلك كله، قال في المدونة: إلا القذف وإليه أشار المصنف بالفرية، واستثنى لما يلحق المقذوف من الفرية وقيد هذا في الموازية بأن يقذفه في بلاد الإسلام، وأما في دار الحرب فإنه إذا أسر يسقط عنه حد القذف. وَإِنْ تَابَ قُدِّرَ جَانِياً مُسْلِماً فِي الْقَوَدِ وَالْعَقْلِ، وَقِيلَ: قُدِّرَ جَانِياً مِمَّنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ القولان لابن القاسم بناء على اعتبار النظر في الجناية يوم الحكم ويوم الوقوع، والقياس عند اعتبار يوم الجناية، وزاد في البيان ثالثاً: اعتبار العقل يوم الحكم والقود يوم العقل، وقد تقدمف ي موجبات الجراح هذا المعنى. وَلَوْ قَتَلَ حُرَّاً مُسْلِماً وَهَرَبَ إِلَى بَلَدِ الْحَرْبِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا شَيْءَ لَهُمْ مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لَهُمْ-إِنْ عَفَوْاً- الدِّيَةُ ... خلافهما مبني على أن الواجب في العمد هل هو القود فقط أو التخيير؛ لأنه قد يعترض على أشهب بأن الخيار إنما هو حيث لا مانع، والقاتل هنا لو حضر كان محبوساً بحكم الارتداد ولم يكن لأولياء [724/ب] الدم معه كلام. أَمَّا لَوْ جَنَى عَلَى عَبْدٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أُخِذَ مِنْ مَالِهِ هذا قسيم قوله أو لا حراً مسلماً، وإنما أخذ من ماله لأنه ترتب علهي فلا يسط عنه، وهذا مذهب ابن القاسم في الموازية وبه أخذ محمد وقاله أصبغ، قال في البيان: وعلى

قياس قول سحنون الذي يرى أنه محجور عليه في ماله بنفس الارتداد، لا يكون ذلك في ماله وإليه ذهب الفضل. وَلَوْ قَتَلَ حُرَّاً مُسْلِماً خَطَأً فَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ تَابَ فَالدِّيَةُ عَلَى تَفْصِيلِهَا كَالْمُسْلِمِ ... لأنه إذا لم يتب يرثه بيت المال فكذا يعقل عنه، لكن تقييده بالمسلم ليس بظاهر لأنه لو قتل ذمياً لكان كذلك نص أصبغ. قوله: (وَإِنْ تَابَ فَالدِّيَةُ عَلَى تَفْصيلِهَا) يحتمل أن يريد بالتفصيل دية المسلم واليهودي والمجوسي، ويحتمل أن يريد في النفس والجراح ويكون إشارة إلى أن ما دون الثلث في ماله والثلث فما زاد على العاقلة، ولا يقال يرد هذا أن المسألة مفروضة في القتل، ودية الحر المسلم لا تقبل النقصعن الثلث، لأنا نقول يجوز الكلام على أعم من فرض المسألة، لقوله عليه الصلاة والسلام: لما سئل عن ماء البحر "الطهور ماؤه الحل ميتته"، وفي البيان يتحصل ف يدية من قتل المرتد خطأً إذا أسلم ثلاثة أقوال: الأول: أن ذلك على عاقلته، والثاني: أن ذلك على جماعة المسلمين، والثالث: أن ذلك في ماله، وفي المسألة قول رابع، وروى أشهب أن ديته على أهل الدين الذي ارتد إليه. وَالْجَنَايَةُ عَلَيْهِ تَقَدَّمَتْ أي: أول الديات في قوله: (وَفِي الْمُرْتَدِّ ثَلاثَةٌ). وَعَقْلُهَا إِنْ لَمْ يَتُبْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَابَ فَلَهُ، وَعَمْدُهَا كَالْخَطَأِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي عَبْداً أَوْ ذِمِّيَّاً ... عقل الجناية إذا لم يتب للمسلمين كما يرثوا سائرها، وإن تاب فله كمالِهِ وهذا على المشهور في رجوعه ماله له إذا تاب، وجرحه عمداً كالخطأ إلا ما ذكرناه من عدم القصاص؛ لأن العاقلة تحمل ذلك وغير ذلك.

وَتُسْقِطُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِبَادَاتِ حَقًّا للهِ تَعَالَى مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَنَذْرٍ وَيَمِينٍ وَظِهَارٍ كَالْكَافِرِ الأَصْلِيِّ بخِلافِ حَقِّ الآدَمِيِّ ... يعني: أن الردة تُسقِط ما فرَّط فيه من صلاة وصيام وغير ذلك من حقوق الله تعالى حال الردة أو قبلها، فلذلك إذا تاب لا يؤمر بقضاء ذلك وهو في ذلك كالكافر الأصلي. وقوله: (وَظِهَارٍ) ينجز وأما اليمين بالظهار فسيأتي من كلام المصنف أنه يسقط، وكذلك اختصر ابن أبي زيد المدونة على سقوطها، عياض: واختلف قول ابن القاسم في يمين الظهار عند محمد، قال: وقال بعض شيوخنا وكذلك لفظ الكتاب: لوكان الظهار حنث فيه فوجب عليه الكفارة لا يسقطها ارتداده، وتأول على ذلك مسألة الكتاب بخلاف ما لو كان لزمه مجرد الضمان ولم يحنث فيه فلا يسقطه ارتداده، قال: ومثله في الموازية. قوله: (بخِلافِ حَقِّ الآدَمِيِّ) فإنه لا يسقطه بل يؤخذ بما كان الناس من قذف أو سرقة أو قتال أو قصاص أو غير ذلك. وَتُزِلُ الإِحْصَانَ فَيَاتَنِفَانِهِ إِذَا أَسْلَمَا أي: تزيل الردة إحصان الرجل والمرأة فيأتنفانه إذا أسلما، ولذلك إذا زنيا بعد الردة لجواز حد البكر وإن تقدم منهما تزويج صحيح. وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُبْطِلُ إِحْلالَهَا يعني: إذاطلق الرجل امرأته البتة فتزوجت غيره فحلت للأول، ثم ارتدت لسقط ذلك الإحلال كما يسقط الإحصان. ابن يونس: لأنها بطلت فعلها في نفسها وهو نكاحها الذي أحلها، كما أبطلت نكاحها الذي أحصنها.

بخِلافِ الْمُحَلَّلِ لأَنَّهُ أَثَرُهُ فِي غَيْرِهِ أي: بخلاف ارتداد المحلل فإن ردته لا يبطل إحلالها مطلقاً (لأَنَّهُ أَثَرَهُ) أي: الإحلال في غيره إلى المطلق وهو المرأة. كَالْيَمِينِ باللهِ وَبالْعِتْقِ وَالظِّهَارِ هذا تشبيه لأصل المسألة وهو قوله (وَتُزِيلُ الإِحْصَانَ)، وكأنه والله أعلم قصد الاستدلال أن ردة المرأة تزيل الإحصان والإحلال كي تبطبل اليمين بالله وبالعتق وبالظهار، وهكذا في المدونة وقيده ابن الكاتب بالعتق غير المعين، قال: وأما المعين فقد انعقد في ماله حق لمعين فلا يسقط كالمدبر. سحنون: ولا تسقط الردة حد الزنى لو يشاء من وجب عليه حد أن يسقطه إلا أسقطه بالردة. ابن يونس: وظاهر هذا خلاف المدونة، قال: وإنما استحب أنه إن علم منه انه إنما ارتد ليسقط الحد قاصداً لذلك فإنه لا سقط عنه ذلك، وإن ارتد لغير ذلك سقط عنه، علي بن زياد عن مالك: وإن ارتدت امرأة تريد بذلك فسخ النكاح لايكون ذلك طلاقاً وتبقى على عصمته. ابن يونس: وأخذ به بعض شيوخنا، قال: وهو كاشترائها زوجها بقصد فسخ نكاحها. وَقِلَ: لا تُزِيلُ الإِحْصَانَ وَلا الإِحْلالَ كَطَلاقِهِ إِذْ لا يَتَزَوَّجُ مَبْتُوتَةً قَبْلَهَا إِلا بَعْدَ زَوْجِ، وَأُجِيبَ بأَنَّ أَثَرَهُ فِي غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَوِ ارْتَدَّتِ الْمَبْتُوتَةُ مَعَهُ حَلَّتْ ... هذا مقابل قوله أولاً: وتزيل الإحصان، وقوله: (وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُبْطِلُ إِحْلالَهَا) يعني: أن ما تقدم هو المشهور، وقيل: لا تزيلها كما لا تزيل حكم الطلاق الثلاث، وبين ذلك بقوله [725/أ]: (إِذْ لا يَتَزَوَّجُ مَبْتُوتَةً قَبْلَ الرِّدَّةِ إِلا بَعْدَ زَوْجٍ)، وأجيب عن هذا القياس بأن أثر الطلاق في الزوجة وهي غير المطلق كالإحصان والإحلال لأنهما قائمان بها خلاف

أثر الطلاق فنه قائم بالزوجة، ولأجل أن أثر الطلاق فيها لو ارتدت المبتوتة ومطلقها معاً ثم رجعا إلى الإسلام لحلت لمطلقها، لأن أثر الطلاق قد بطل بالردة، وما ذكره من عدم إزالة أثر الطلاق الثلاث. عياض: ذهب أكثرهم إلى حمل قول ابن القاسم عليه وذهب ابن زرب إلى أن مذهب ابن القاسم أن الردة تسقط الثلاث، ويجوز للمطلق ثلاثاً قبل ارتداده تزويجها دون زوج، وحكى إسماعيل عن ابن القاسم نحوه. أبو عمران: وهو الأشهر عنه، وحكى الدمياطي عنه خلافه. وَتَبْطُلُ وَصَايَاهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا هكذا قال في النكاح الثالث من المدونة، وقال في أمهات الأولاد: وإن قتل على ردته عتقت أم ولده من رأس ماله وعتق مدبره في الثلث وسقطت وصاياه، ابن يونس: وعلى قول أشهب لا تبطل وصاياه إذا رجع إلى الإسلام إلا أن يرجع عنها، أصبغ: وإن ارتد سقطت وصاياه فإن رجع إلى الإسلام ثم مات فإن كانت هذه الوصايا مكتوبة جازت وإلا لم يجز، ووقع في بعض النسخ زيادة: (يعتق بعد موته قبل الردة وبعدها)، وليس للتقييد بالعتق معنى. وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَإِنْ تَقَدَّمَ لأنه لما ارتد حبط عمله وهذا هو المشهور لقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 35] وقيل: لا تجب عليه إن كان قد حج بناء على أن الردة إنما تبطل العمل بشرط الوفاة على الكفر، لقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِيِنِه، فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] والأول أظهر لأن هذه الآية رتبت شيئان على شيئين، والإحباط مرتب على

الردة، والخلود مرتب على الموت على الكفر، وأيضاً فإن قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 35] نص على البطلان لمجرد الردةن والآية الأخرى نص في الإحباط بالموت على الكفر، وهي إنما تنعي الإحباط بمجرد الردة بطريق المفهوم، والمفهوم إنما يعمل به إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه. وَمَنِ انْتَقَلَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ أُقِرَّ عَلَيْهِ هو المشهور وروي أنه يقتل لخروجه عن العهد الذي عقد إلا أن يسلم، وذكر صاحب البيان في الذمي يتزندق ثلاثة أقوال: الأول: أنه يترك، الثاني: يقتل، الثالث: يقتل إلا أن يسلم. وَيُحْكَمُ بإِسْلامِ الْمُمَيِّزِ عَلَى الأَصَحِّ تكلم على إسلامه وليس من باب الردة ليرتب على ذلك ردته، ولما كان الإسلام تارة يكون بالاستقلال وتارة يكون بالتبعية، تكلم أولاً بالاستقلال والأصح، ذكر ابن شاس في اللقيط أنه ظاهر المذهب، وذكر في البيان في باب الجنائز أنه مشهور وقول ابن القاسم؛ لأن المعرفة بالله تعالى تصح من المميز، ومقابل الأصح لابن القاسم أيضاً وسحنونأنه لا يحكم له بحكم الإسلام وإن عقله وأجاب إليه ما لم يبلغ. وَيُجْبَرُ إِنْ رَجَعَ هذا مفرع على الأصح؛ أي: إذا حكمنا بإسلامه. وَيُحْكَمُ بإِسْلامِهِ تَبَعاً كَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَكَالْمَجْنُونِ للإِسْلامِ الأَبِ دُونَ الأُمِّ، وَقِيلَ: وَالأأُمُّ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقاً كَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَيُتْرَكُ ... يعني: أن الأب إذا أسلم حكم بإسلام ولده مميزاً كان أو غيره تبعاً له، وكذلك يحكم على ولي المجنون بالتبعية، والظاهر أن مراده بالمجنون البالغ، وتقييد ابن عبد السلام له بأن

يكون قبل البلوغ ليس بظاهر؛ لأنه يلزم منه التكرار؛ إذ هو صبي غير مميز ولا تبعية للأم، وقال ابن وهب: يتبع من كان من الأبوين أحسن ديناً وإليه أشار بقوله: والأم فالواو بمعنى أو. ابن عبد السلام: وقيل الأم كالردة. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقاً) هو استثناء من قوله: (وَيُحْكَمُ بإِسْلامِهِ) تبعاً أو أدبه، قول مالك: ومن أسلم وله ولد مراهق من أبناء ثلاثة عشر عاماً وشبه ذلك، ثم مات الأب وقف ماله إلى بلوغ الولد، فإن أسلم ورث وإلا لم يرث وكان المال للمسلمين، ولو أسلم الولد قبل احتلامه لم يتعجل أخذ ذلك حتى يحتلم لأن ذلكليس بإسلام، ألا ترى أنه لو أسلم ثم رجع إلى النصرانية أكره على الإسلام ولم يقتل، ولو قال الولد لا أسلم إذا بلغت لم ينظر إلى ذلك، ولابد من إيقاف المال إلى احتلامه. انتهى. خليل: انظر قوله في المدونة: ولو أسلم الولد قبل احتلامه لم يتعجل ... إلخ. خلافُ ما صححه المصنف من الحكم بإسلام المميز، لكن قد أخذ غير واحد القولين من المدونة، وعلى الحكم بإسلامه له الميراث لأنه لو رجع إلى النصرانية أجبر بالضرب حتى يسلم أو يموت. وَلِذَلِكَ يُوقَفُ مِيرَاثُهُ مِنْهُ، وَلَوْ أَسْلَمَ حَتَّى يَبْلُغَ لأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْتَلْ قد تقدم هذا في نص المدونة. وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ إِسْلامِهِ حَتَّى رَاهَقَ فَقَوْلانِ هما في المدونة ونصها: ومن أسلم وله ولد صغار فأخرهم حتى بلغوا اثنتي عشرة سنة وشبه ذلك فأبوا الإسلام فلا يجبرون وهومسلمون، وهو أكثر مذاهب المدنيين. وَتَبَعاً لِلسَّابِي الْمُسْلِمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَبُوهُ نحوه في الجواهر وهو خلاف المدونة لقوله: ومن اشترىصغيراً من العدو أو وقع في سهمه من المغنم فمات صغيراً لم يُصلَّ عليه، وإن نوى به سيده الإصلاح إلا أن يجيب

الزنى

إلى الإسلام بأمر يعرف أنه عقله، وهذا إذا كان كبيراً [725/ب] يعرف ما أجاب إليه، وفي البيان في باب المرتدين: وأما إن سُبِيَ وقد عقل دينه فلا أذكر نص خلافه أنه لا يجبر، قال: ويدخل فيه الاختلاف بالمعنى على بعد وهو لا يعتبر بكونه ممن يعقل دينهم، على قياس القول بأنه لو أسلم حينئذٍ لم يعتبر إسلامهم، فيكون لسيده أن يجبره على الإسلام، وحصل فيه إذا لم يعقل ستة أقوال: الأول: أن يجبر مطلقاً، الثاني: لا يجبر مطلقاً، الثالث: أنه يخير إن لم يسب معه أحد أبويه، الرابع: إذا لم يكن معه في ملك واحد، الخامس: يجبر إن لم يُسْبَ معه أبوه ولا يلتفت إلى أمه، السادس: أن يسب معه أبوه إّا لم يكن معه في ملك واحد. وَتَبَعاً لِلدَّارِ فَيُحْكَمُ بإِسْلامِ اللَّقِيطِ كَمَا تَقَدَّمَ أي: في باب اللقيط وحاصل كلام المصنف للتبعية ثلاثة أسباب: إسلام الأب وإسلام السَّابِي وإسلام الراد. الزِّنَى: وَهُوَ أَنْ يَطَأَ فَرْجَ آدَمِيٍّ لا مِلْكَ لَهُ فِيهِ باتِّفَاقٍ مُتَعَمِّداً الزنى مقصور عند أهل الحجاز، قال الله العظيم: (وَلا تَقْرَبُوا الزِنَى) [الإسراء: 32] ونقل الجوهري عن أهل الحجاز أنهم يمدونه. عياض: فمن ذهب إلى أنه من فعل اثنين كالمقابلة، ومن قصره جعله اسم الشيء نفسه، ولا خفاء في تحريمه كتاباً وسنة وإجماعاً بل في كل ملة. وعرفه المصنف بقوله: (وَهُوَ أَنْ يَطَأَ ... إلخ)، فـ (أَنْ يَطَأَ) كالجنس، واحترز بالفرج من الوطء في الفخذين ونحوذلك، وبالآدميين من البهيمة كما سيأتي، وسيتكلم المصنف على ما احترز عنه بالتفصيل، وأورد أن قوله: (أَنْ يَطَأَ) لا يصدق إلا على الرجل فلا يناول الزانية، وأجيب بأن (الوطء) مصدر لا يمكن وقوعه إلا بين اثنين فذكر إحداهما

مستلزم للآخر، وأورد أنه غير مانع لأنه لا يدخل تحته شيء من أفراد المحدود؛ إذ قوله: (آدَمِيٍّ) حقيقة في الذكر وذلك إنما يسمى لواطاً، وأجيب بأن المراد بالآدمي الجنس، والزنى يعم اللواط وغيره، ولا يمتنع أن يكون لبعض أنواع الماهية اسم يخصه، وأورد أيضاً أنه لا يناول ما إذا وطء الإنسان مملوكه الذكر؛ لأنه لا يصدق عليه قوله: (لا مِلْكَ لَهُ)؛ لأن له فيه ملكاً، وأجيب بأن الملك لاسليط الشرعي أو شبهه، ولأن قوله (فِيهِ) عائد على الفرج، وفرج الذكر لا ملك له فيه باعتبار هذا الفعل، وأورد أيضاً أنه غير مانع لدخول وطء الأب جارية ابنه؛ إذ لا ملك للأب فيها، وأجيب بالمنع لأن الملك كما ذكرناه هو التسليط أو شبهه، والأب له شبهة الملك ولذلك لا يحد. فَيَتَنَاوَلُ اللِّوَاطَ وَإِتْيَانَ الأَجْنَبيِّةِ فِي دُبُرِهَا، وَفِي كَوْنِهِ زِنّى أَوْ لِوَاطاً قَوْلانِ أي: فيتناول الترعيف اللواط وإتيان الأجنبية في دبرها؛ لأنه وطء فرج آدمي، ويكون إتيان الأجنبية في دبرها زنى فيجلد البكر ويرجم المحصن، وهو مذهب المدونة والموازية والواضحة، أو لواطاً فيرجمان وهو قول ابن القصار، ومنشأ الخلاف النظر إلى كونه دبراً. وَلا يَتَنَاوَلُ الْمُسَاحَقَةَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ الإِمَامِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: خَمْسِينَ خَمْسِينَ .... لأن اللواط عبارة عن إيلاج ولا إيلاج هنا، واختلف في حكمه، والأظهر قول ابن القاسم أن ذلكموكول إلى اتجهاد الإمام لعدم الدليل على التحديد، ووجه قول أصبغ- والله أعلم- أنه فعل كملت به لذتها فكان في منى الزنى الحقيقي، وهو بالنسبة إليها سواء إليها بقيمة المائة بينهما.

وَيَتَنَاوَلُ إِتْيَانَ الْمَيْتَةِ فَيُحَدُّ وَاطِئُهَا ابن عبد السلام: لانطباق رسم الزنى عليه، وقال ابن شعبان: لا حد عليه يريد وعليه الأدب إذ لا يحصل به من اللذة كما يحصل بالحية، وهذا إنما هو في الأجنبي، وأما الزوج ففي التنبيهات: الأكثرون من محققي أصحابنا: لا يحد الزوج لتقدم الإباحة فكان ذلك شبهة. وَالصَّغِيرَةِ يُوطَأُ مِثْلُهَا أي: ويتناول التعريف واطئ الصغيرة التي يوطأ مثلها، وقيدها بأن يوطأ مثلها كما في المدونة. اللخمي: يريد إن عبث بصغيرة لا يوطأ مثلها لا يحد، وفي مدونة أشهب مثل ذلك: أنه لا يحد إذا زنى بصغيرة لا يجامع مثلها. ابن عبد الحكم: لا يكون محصناً حتى يزوج من يطيق الوطء، وإن كان مثلها ممن يطيق الوطء فعليه الرجم، وقال ابن القاسم: يحد وإن كانت بنت خمس سنين. بخِلافِ الْمُرَاهِقِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمَجْنُونِ فَيُحَدُّ الْمُكَلَّفُ مِنْهُمَا ظاهره أن التعريف لا يتناولهم وفيه نظر؛ لأنه يصدق على المراهق والمجنون أنهما وطئا فرج آدمي، لكن هذا الكلام يبين أن فاعل يطأ بالتعري عائد على (الْمُكَلِّفُ)، ما ذكره من عدم المراهق هو المشهور. ابن عبد السلام: وضمير (مِنْهُمَا) راجع إلى كل اثنين تقدم ذكرهام كالكبير مع الصغيرة والعكس والمجنون مع العاقلة والعكس.

خليل: وفيه نظر؛ لأن قوله الصغيرة يطأها الكبير وعكسها ليس بظاهر، لأنه يلزم على كلامه إذا وطء الكبيرة صغير أن الكبيرة تحد وليس كذلك، بل ضمير (مِنْهُمَا) عائد على المجنون والمجنونة؛ أي: يحد المكلف إذا وطء مجنونة والمكلفة إذا مكنت من نفسها مجنوناً. وَلا يَتَنَاوَلُ الْبَهِيمَةَ، فَلا يُحَدُّ عَلَى الأَصَحِّ وَيُعَزَّرُ، وَالْبَهِيمَةُ كَغَيْرِهَا فِي الذَّبْحِ وَالأَكْلِ باتِّفَاقٍ. لأنه لا يصدق عليه أنه وطء فرج آدمي ولا شك في تعزيره، ومقابل الأصح في كتاب ابن شعبان، ورأى [726/أ] أنه أتى فرج مشتهى، وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسالم قال: "من أتى بهيمة فلا حد عليه" وهو أصح من الحديث الأول، والعمل على هذا عند أهل العلم، وأشار بالحديث الأول إلى ما رواه ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة"، فقيل لابن عباس ما شأن البهيمة؟ قال: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً ولكن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن يؤكل من لحمها أو ينتفع بها، فالاتفاق الذي حكاه المصنف على أن البهيمة كغيرها في الذبح والأكل نقله الطرطوشي. "لا مِلْكَ لَهُ فِيهِ" يُخْرِجُ الْحَلالَ وَالْحَائِضَ وَالْمُحْرِمَةَ وَالصَّائِمَةَ وَالْمَمُلُوكَةَ الْمُحَرَّمَةَ بنَسَبٍ لا يُعْتِقُ، أَوْ صِهْرٍ، أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ شِرْكَةٍ، أَوْ عِدَّةٍ، أَوْ تَزْوِيجٍ ... لما تكلم على قوله في التعريف: (أَنْ يَطَأَ فَرْجَ آدَمِيٍّ) أتبعه بالكلام على قوله: (لا مِلْكَ لَهُ فِيهِ)، وذكر أنه خرج بهذا من وطؤها له حلال من زوجة أو أمة، ولكن عارض فيها عارض كالحيض والإحرام والصيام، ويخرج أيضاً من وطئ مملوكته المحرمة عليه وذلك التحريم إما لنسب لا يعتق كالخالة والعمة، وإما بصهر أو رضاع أو شركة فإنه لا حد عليه في ذلك كله ولو كان عالماً بالتحريم، نعم يؤدب وإن حملت وهي محرمة

عليه عتقت عليه، ومن سماع عيسى: لا تعتق عليه وتستخدم بالمعروف، أما إن لم تحمل وروي عن ابن القاسم، أنها تباع خوفاً أن يعاود. قوله: (لا يُعْتِقُ)، وهو بضم الياء وكسر التاء في محل صفة لنسب، واحترز من النسب الذي يوجب العتق فإن فيه الحد كما سيأتي، ورأى ابن راشد: أن قوله: (لا يُعْتِقُ) كالصفة التأكيدية ولو حد فيها لاستغنى عنها؛ لأن البنت مثلاً تعتق بنفس الملك، ولا يصدق على واطئها أنه وطء مملوك، وقد يجاب عنه بأنه إنما يمتنع من دوام الملك لأنه أًله بدليل ثبوت أولاً، لأنها لا تعتق عليه إلا بالحكم على أحد القولين، وسيأتي. وقوله: (بعِدَّةٍ) أي: ملكها وهي في عدة من زوج. وقوله: (أَوْ تَزْويجٍ) يعني: إذا تزوج أمته حرمت عليه؛ لأنه إن وطئها لم يجد. وَالْمُتَزَوَّجَ بهَا هُوَ فِي عِدِّتِهَا عَلَى الأَصَحَّ أي: ويخرج فرج المرأة التي تزوجها، فحذف الموصوف وأبرز الضمير لجريان الصفة على غير من هي له؛ لأنها أجريت على المرأة وهي في المعنى الرجل للرجل والأصح هو المشهور: لا حد على من تزوج معتدة ويلحق به الولد، ومقابل المشهور رواية وجوب الحد ونفي الولد ورآه زنى، وناقض اللخمي المشهور هنا بأن المذهب حد متزوج الخامسة وكل منهما محرمة في وقت دون وقت وربما قيل: إن تحريم المعتدة أشد؛ لأن تمنعها من نكاح كل أحد وتحريم الخامسة مقصور على من في عصمته أربع، وأجيب بأن نكاح المعتدة ينشر التحريم، فلاتحل لآبائه ولا لأبنائه لشبهة النكاح بخلاف المطلقة ثلاثاً والخامسة لا ينشر فيها تحريم. خليل: وفيه نظر؛ لأن نشر التحريم مبني على ثبوت الشبهة المسلطة للحد فلا يحسن التفريق بذلك.

أَوْ عَلَى أُمِّهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا هذا أيضاً معطوف؛ يعني: ويتزوج التي تزوجها على أمها قبل الدخول بالأم، وأما لو دخل بالأم فإنه يحد، وكذلك أيضاً يخرج ما إذا تزوج المرأة على أختها أو عمتها أو خالتها، وما ذكره في الأخت إن أراد به الأخت من الرضاع فصحيح، لكن المبادر إلى الذهن خلافه، وإن أراد به من النسب فهو مذهب أصبغ وخلاف ما في الموازية وما نقله صاحب النكت عن بعض شيوخه، قال في النكاح الثالث: تحريم الأختين من الرضاع بالسنة وتحريمها بالنسب بالقرآن، قال: وأما في تزويجه المرأة على عمتها أو على خالتها فلا يحد؛ لأنه تحريم بالسنة، وهذا أًل كل ما كان من تحريم السنة فلا حد فيه، وما اكن محرماً بالكتاب ففيه الحد إذا لم يعذر بجهل. انتهى، وذهب التونسي إلى ما ذكره المصنف، فقال: لا فرق عندنا بين تزويج أخت على أخت سواء كانت الأخت بالنسب أو الرضاع؛ لأن الآية قد عمت تحريم الأخت بالنسب والرضاع. وَيُخْرِجُ الأَمَةَ يُحَلِّلُهَا سَيِّدُهَا وَتُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَبَيَا ويخرج قولنا في التعريف: (لا مِلْكَ لَهُ فِيهِ) الأمة المحللة فلا يحد واطئها؛ لأن له شبهة ملك بالتحليل عالماً كان أو جاهلاً، وهذا هو المشهرو مراعاة لقول عطاء فإنه التحليل ابتداء، وقال الأبهري: إن كان عالماً حد ولا يلحق به الولد لأن وطئه من ليست له زوجة ولا ملك يمين ولا هو جاهل بتحريم الوطء. وقوله: (وَتُقَوِّمُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَبَيَا) ليس هذا من هذا الباب ولكن ذكره تكميلاً للفائدة، وإنما قومت لتتم له الشبهة، ويعذر لأنه إنما وطئ بملكه، زاد في القذف من المدونة: وتلزم قيمتها حملت أو لم تحمل وليس لربها التمسك بها بعد الوطء. أبو عمران: ويعد القيمة عليها لأنه لا يصدق مع القيمة أنه لم يطأ، قال في المدونة: بخلاف الشريك.

ابن يونس: لأن وطء الشريك وطء عدوان وهذا قد أذن له، فإذا تماسك بها صح ما قصداه من عارية الفروج، وقيل: وحكم الذي ينكح ابنته رجلاً [726/ب] ويدخل عليها أمته على أنها ابنته حكم من أجل جارية لرجل في جميع وجوهها، بخلاف من تزوج أمته رجلاً وقال: هي ابنتي فالولد حر وعليه قيمته يوم الحكم. بخِلافِ تَزْوِيجِهَا عَلَى أُمِّهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوِ الْبِنْتِ مُطْلَقاً هذا مقابل قوله: (أَوْ عَلَى أُمِّهَا قَبْلَ الدُّخُولِ) يعني: وأما لو تزوج البنت بعد الدخول بالأم فإنه يجبر، وكذلك لو تزوج الأم على البنت سواء دخل بالبنت أو لا، وهو معنى قوله: (مُطْلَقاً)؛ لأن العقد على البنت يحرم الأم، وما ذكره من الإطلاق، فهو ظاهر المدونة في النكاح الثالث لأنه نص على الحد وأطلق، وفصل اللخمي في باب القذف فقال: وكذلك إن تزوج أم امرأته فإن كان دخل بالأمة حد، وإن لم يدخل بها لم يحد، لاختلاف الناس في عقد الابنة هل يحرم أم لا؟ بخِلافِ الْمُسْتَاجَرَةِ لِلْوَطْءِ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُحَدُّ يعني: ولا يكون عقد الإجارة شبهة. وقوله: (أَوْ لِغَيْرِه) أي: لو استؤجرت لخدمة وشبهها والأمة المودعة، والرهن عندنا كالمستأجرة. وَفِي ذَاتِ نَصِيبهِ مِنَ الْمَغْنَمِ قَوْلانِ المشهرو وجوب الحد، والشاذ لعبد الملك سقوطه؛ لأن له فيها نصيباً، وقيد ابن يونس هذا الخلاف بالجيش العظيم، وأما السرية فلا يحد واطئها اتفاقاً، وكهذه المسألة سرقته من المغنم، والمشهور القطع خلافاً لعبد الملك في أنه لا يقطع إلا أن يسرق فوق نصيبه بربع دينار.

وَفِي الْحَرْبِيَّةِ قَوْلانِ قيد اللخمي الخلاف بما إذا زنى بها في دار الحرب لأنه قال: وإذا زنا مسلم بحربية في أرض الإسلام حد، واختلف إذا زنا بها في دار الحرب فقال ابن القاسم: يحد، وقال عبد الملك في الموازية: لا حد عليه، وهو أقيس لأن له أن يأخذ الرقبة ويتملكها، فإذا لم يقدر إلا على المنافع فله أخذها. انتهى. قال بعضهم: ولا خلاف أنه لو خرج بها إلى أرض الإسلام ووطئها في سقوط الحد، وهو ظاهر لأنه حينئذ ملكها، وعلى هذا فيكون معنى كلام اللخمي: إذا وطئها في أرض الإسلام حد، معناه إذا دخلت بنفسها. وَفِي الْمُكْرَهِ ثَالِثُهَا: إِنِ انْتَشَرَ حُدَّ، بخِلافِ الْمُكْرَهَةِ فَإِنَّهَا لا تُحَدَّ ذكر عياض أن على القول بحده أكثر أهل المذهب، وأن على القول بسقوطه المحققون كاللخمي وابن رشد وابن العربي؛ لأنه وإن انتشر فذلك أمر تقتضيه الطبيعة، والقول الثاني لابن القصار. وقوله: (بخِلافِ الْمُكْرَهَةِ) يعني: فإنها لا تحد اتفاقاً. وَأَمَّا لَوْ وَطِئَ بالْمِلْكِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، أَوْ نَكَحَ الْمُحَرَّمَةَ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرٍ مُؤَبَّدٍ وَوَطِئَهَا، أَوْ طَلِّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ زَوْجٍ وَوَطِئَهَا، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ وَاحِدَةً ثُمَّ وَطِئَهَا بغَيْرِ تَزُوِيجٍ أَوْ أَعْتَقَ أَمَةً ثُمَّ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ ... قوله: (فإنه يحد) هو جواب (أما) يعني: لو ملك من يعتق عليه وهم الآباء وإن علوا والأبناء وإن سفلوا أو الإخوة والأخوات ووطئها بحد إذا أتى ذلك عالماً. اللخمي: يريد وهو من أهل الاجتهاد ورأيه أنها حرة بنفس الشراء، وإن كان رأيه ألا تعتق، أو كان مقلداً لمن يرى العتق لم يحد.

محمد: ولو وطئ المرأة من تملكه هي حدت، واستشكل شيخنا وجوب الحد هنا وقال: ينبغي سقوطه للاختلاف الذي عندنا في أن العتق إنما يكون بالحكم. وقوله: (أَوْ نَكَحَ الْمُحَرَّمَةَ بنَسَبٍ ... إلخ) كمال ونكح أخته من النسب، قال في المدونة: إذا كان عالماص بالتحريم كذلك قيده في المحرمة بالرضاع. وقوله: (أَوْ صِهْرٍ مُؤَبَّدٍ) كما لو نكح البنت بعد الدخول بالأم. ابن عبد السلام: وليس لوصف تحريم إلى الأب، والكلام إنما هو إذا حصل التحريم. انتهى بمعناه، وقد يقال أنا لا نسلم أن التحريم لا يحصل بالعقد على الأم لأنه لا يجوز له حال عقده على الأم نكاح البنت، نعم التأبيد لم يحصل. وقوله: (وَوَطِئَهَا) زيادة بيان. وقوله: (أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً) ظاهره سواء كان بلفظة البتة أو الثلاث، وسواء كانت الثلاثة مجتمعات أو مفترقات وهو ظاهر المدونة، قوال أصبغ في البتة: لا يحد عالماً كان أو جاهلاً لقوة الخلاف في البتة هل هي واحدة أم لا، وقال في املطلقة ثلاثاً مثل ما في المدونة، إلا أ، هـ قال في الجاهل أنه لا يحد استحساناً، وتأوله صاحب تهذيب الطالب. قوله في الثلاث على أنها مفترقات أو مجتمعات أضعف قول من قال بإلزامه الواحدة بالثلاث، وهذه المسائل كلها مقيدة بما إذا كانعالماً بالتحريم، وأما الجاهل بالحكم فلا كما سيأتي من كلام المصنف. وَكَذَلِكَ الْخَامِسَةُ عَلَى الأَشْهَرِ أي: يحد فيها والأشهر مذهب المدونة بشرط أن يكون عالماً بالتحريم، ومقابل الأشهر لم أره منصوصاً وهو ضعيف لشهرة التحريم الثابت بالكتاب.

"باتِّفَاقٍ" يُخْرِجُ النِّكَاحَ بغَيْرِ وَلِيِّ بغَيْرِ شُهُودٍ، وَمِثْلُهُ الْمُتْعَةُ عَلَى الأَصَحِّ أي: قولنا في التعريف (باتِّفَاقٍ) يخرج النكاح بلا ولي فلا حد فيه؛ لأن أبا حنيفة يجيزه، وبهذا يعلم أن مراده بالاتفاق، العلماء، لا اتفاق [727/أ] المذهب. وقوله: (أَوْ بغَيْرِ شُهُودٍ) يعني: إذا دخل فيه ولم يشهد؛ لأن العقد عندنا صحيح، و (مَمِثْلُهُ) أي: في سقوط الحد، والأصح مذهب المدونة وغيرها، قال في المدونة: ويعاقب، قال في الواضحة: والعالم أعظم عقوبة من الجاهل ومقابله لابن نافع، ولعل منشأ الخلاف في المحرم بالسنة. ابن عبد السلام: وهذا الخلاف- إما وجد الولي والشهود والصداق على نحو ما كذر - معتبر في غير نكاح المتعة، هكذا قال بعض كبار الشيوخ. "مُتَعَمِّداً" يُخْرِجُ الْمَعْذُورَ بجَهْلِ الْعَيْنِ مُطْلَقاً أَوْ بجَهْلِ الْحُكْمِ فِي مِثْلِ مَا ذَكَرَ إِذَا كَانَ يُظَنُّ بهِ ذَلِكَ ... يعني: وقولنا في التعريف: (مُتَعَمِّداً) يخرج المعذور بجهل العين؛ أي: ظن أنها زوجته أو أمته، (مُطْلَقاً) أي: سواء كانت من المحرمات المذكورة فيما تقدم أو من غيرها، وهذا إذا قدم معتقداً لذلك. ابن عبد السلام: وأما إن قدم عليها وهو شاك ثم تبين له بعد الفراغ أنها أجنبية، فظاهر كلامهم وإن لم يكن صريحاً سقوط الحد، ولعل مراد المؤلف مفهوم مطلقاً انتهى. وقوله: (فِيمَا ذَكَرَ) أي: في الصور المتقدمة، يعني أن ما ذكرنا من وجوب الحد إنما ذلك إذا كان عالماً بالتحريم، وأما إذا جهل التحريم فلا حد ويقبل قوله بشرط أن يظن به ذلك الجهل كما قاله أصبغ بعد أن ذكر كثيراً من مسائل هذا الفصل إذا كان مثل الأعمى وشبهه.

فَلَوْ كَانَ زِنَّى وَاضِحاً، فَفِي قَبُولِ عُذْرِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ لو قال في نفي عذره لكان أحسن؛ لأن الذي نقله اللخمي عن ابن القاسم وغيره وجوب الحد، وعن أصبغ ثبوته لأنه قال: واختلف إذا كان أعجمياً أو حديث عهد بالإسالم ولا يعرف تحريم الزنى، فقال في الكتاب: يحد، وقال أصبغ: لا يحد، والأول أشهر والثاني أقيس؛ لأن الحدود إنما تقام على من قصد مخالفة النهي، وقد اختلف فيمن أسلم بدار الحرب ثم خرج إلى أرض الإسلام، فقال سحنون: لا قضاء في ما ترك من الصلاة قبل خروجه إذا كان غير عالم بفرض الصلاة، وإذا سقط عند الخطاب بالصلاة سقط عند الخطاب بموجب الزنى انتهى، ورأى ابن القاسم أن الزنى اشتهر تحريمه في جميع الأديان فلا يعذر بجهل التحريم. وَيُخْرِجُ الْمَبيعَةَ فِي الْغَلاَءِ تُقِرُّ بالرِّقِّ عَلَى الأَصَحِّ أي: ويخرج قيد التعمد الحرة المبيعة في الغلاء في حال كونها مقرة بالرق؛ لأنها معذورة بالجوع، وهذا قول مالك رواه ابن القاسم فيمن باع زوجته للغلاء وبه قال ابن القاسم، ومقابل الأصح لأصبغ ولا تعذر بجوع وغيره. أصبغ: وقد بانت من الزوج بثلاث وطئها المشتري أم لا، وقال أصبغ: لا يكون طلاقاً ولكن إن طاوعته على البيع وأقرت أن مشتريها أصابها طائعة رجمت، وإن قالت: استكرهت فلا حد عليها، والخلاف هنا كالخلاف في حد السارق إذا سرق لجوع. ابن عبد السلام: وذكر هذا الفرغ في الإكراه أحسن. وَيَثْبُتُ الزِّنَى بالإِقْرَارِ وَلَوْ مَرَّةً وَبالْبَيِّنَةِ وَبظُهُورِ الْحَمْلِ شرع رحمه الله فيما يثبت به الزنى، ولثبوته أسباب: الأول: الإقرار ولو مرة خلافاً لأبي حنيفة وأحمد في اشتراطهما أربع مرات لحديث ماعز حيث رده حتى أقر أربع مرات،

وأجيب أنه إنما رده؛ لأنه إنما استنكر عقله، مع أن في بعضها مرتين وفي بعضها ثلاثاً قاله أبو عمران، وعمدتنا حديث العسيف الذي في الصحيح: "اغْدُ يا أنيسُ على امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمها"، ولم يذكر عدداً. والثاني: البينة. والثالث: ظهور الحمل خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، ولما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه: الرجم في كتاب الهل حق على من جنى من الرجال والنساء، إذا أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحمل أو الاعتراف. فَإِنْ رَجَعَ إِلَى مَا يُعْذَرُ بهِ قُبلَ، وَفِي إِكْذَابِ نَفْسِهِ فِي حَدِّهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ... يعني: أنرجوع المقر بالزنى إلى ما يعذر به كما لو قال: أصبت امرأتي أو جاريتي حائضاً فظننت ذلك زنَّى أو جاريتي وهي أختي من الرضاعة. ابن المواز: ولم يختلف فيه أصحاب مالك، وحكى الخطابي عن مالك قولاً بعدم قبول رجوع المقر واستغربه ابن زرقون. قوله: (وَفِي إِكْذَابِ نَفْسِهِ) يعني: لو قال: كذبت ولم يبد عذراً، فقال ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم لا يحد، وروي عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهم، ورأوا أن ذلك شبهة لاحتمال صدقه ثانياً، وقال أشهب: لا يعذر إلا بما يعذر به، وروي عن مالك وبه قال عبد الملك. فرع: اختلف قول مالك في المقر بالزنى وشرب الخمر يقام عليه بعض الحد فيرجع تحت الجلد قبل التمام، فقال مرة، إن أقيم عليه أكثر الحد أتم عليه؛ لأن رجوعه ندم، ومرة قال: لا يقتل ولا يضرب بعد رجوعه، وهو قول ابن القاسم، قيل: وهو قول جماعة العلماء، وقد هرب ماعز لما رجم فاتبعوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه.

وَفِي ثُبُوتِ الإِقْرَارِ باثْنَيْنِ قَوْلانِ هذا الفرع مرتب على قول أشهب الذي لا يقبل رجوع المقر بالزنى إذا كان لغير شبهة، وأما على قول ابن القاسم فإنكاره كتكذيب نفسه، ومنشأ الخلاف هل هو معنى يرتب عليه [727/ب] حد الزنى فلا يكون إلا بأربعة كالشهادة، أو معنى يثبت به سبب الحد، فيثبت باثنين كالإحصان. وَلَوْ أَقَرَّ بالْوَطْءِ وَادَّعَى النِّكَاحَ وَلَيْسَا غَرِيبَيْنِ حُدًّا الصواب تثنية فاعل (أَقَرَّ) لقوله: (حُداًّ) وشرط في الحد ألا يكونا غريبين، يعني وأما الغريبان فلا لأنهما لم يدعيا ما يكذبهما للعرف بخلاف الحضريين. قوله: ولا بينة: في معناها الفشو قاله ابن القاسم، قالوا: ويأتنفان حينئذ نكاحاً جديداً بعد الاستبراء. ابن القاسم: ولا تقبل في البينة شهادة أبيهما وأخيهما وفرض المصن المسألة في إقرارهما بالوطء يريد وكذلك إذا قامت بينة به. وقوله: (حُدَّا) هو مذهب المدونة. ابن القاسم: وسواء وجدا في بيت أو طريق، وأٍقط عبد الملك الحد عنهما وإن كان غريبين، فيقال فيمن قال عند قوم: وطئت فلانة بنكاح، واشتريت أمة فلان ووطئتها، فلا يكلف بينة بالنكاح ولا بالشراء ولا يحد لأنه لم يوجد مع امرأة يطأها، ولو وجد كذلك كلف بالبينة إن لم يكن طارئ، قال: وقاله علماؤنا، وقد غلط فيها بعض من يشار إليه وقاله مطرف وأصبغ وابن الماجشون، ولو شهدت بينة عليه أنهم رأوا فرجه في فرج المرأة غائبة عنا لا ندري من هي، فقال هو: كانت زوجتي وطلقها أو أمتي وقد بعتها وهو معروف وهو غير ذي زوجة أو أمة فهو مصدق لا يكلف ببينة، ولو وجد معها كلف بالبينة إن لم يكن طارئاً.

وَالْبَيِّنَةُ تَقَدَّمَتْ لما تكلم على الإقرار وكان حقه أن يتكلم على السبب الثاني وهو البينة، فبين أن الكلام على ذلك تقدم في كتاب الشهادات. وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ببَكَارَتِهَا لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ هذا فرع من فروع البينة، تكلم عليه هنا لأنه لم يتقدم، ومعناه: إذا شهد أربعة عدول بزناها فقالت هي: أنا عذراء أو رتقاء أو نظر إليها النساء فصدقنها لم ينظر إلى قولهن وحدّت، وهذا مذهب المدونة. ورأى اللخمي سقوط الحد؛ لأن شهادة النساء بذلك شبهة، ولأنه يمكن صدقها بأن ينظر إليها جماعة من النساء ويقع بقولهن العلم، ولو قالت: أنا أكشف لأربع رجال فينظرون إلي ولا أجلد، لكان ذلك لها، وإذا جاز نظر الرجال أولاً لإقامة الحد جاز ... أولاً، وفي العتبية ما يشبه هذا ففيها: فالذي يحلف بالعتق أو بالطلاق أن بفلانة عيب بموضع كذا مما لا يراه إلا النساء وهي حرة أو أمة، فنظرت امرأة فقالت: ليس بها ما قال- إنَّ نَظَر النساء ليس بشيء. يريد ولا حنث عليه. وَأَمَّا الْحَمْلُ فَيُعْتَبَرُ فِي الأمَةِ لا يُعْلَمُ لَهَا زَوْجٌ وَسَيِّدُهَا مُنْكِرٌ لِلْوَطْءِ، وَفِي الْحُرَّةِ لَيْسَتْ غَرِيبَةً ... هذا هو السبب الثاني، يعني: إذا ظهر حمل الأمة وليس لها زوج وسيدها منكر للوطء حدت، ورأى اللخمي سقوط الحد إذا ادعت على سيدها، ويحلف ما أصابها إن أنكر الإصابة أو لقد استبرأتها، إن ادعى ذلك ثم لا حد عليها؛ لأن دعواها على السيد شبهة ويمينه مظنونة، وله أن يجبرها على القول بأن له ذلك بعلمه، ويعتبر في الحرة إذا لم تكن غريبة، يعني ولم يعلم لها زوج، وحذف ذلك للدلالة عليه بذكره في الأمة.

وَلَوْ قَالَتْ: غُصِبْتُ لَمْ يُقْبَلْ إِلا بأَمَارَةٍ مِنْ صُرَاخٍ أَوْ أَثَرِ دَمٍ بمَا يَظْهَرُ بهِ صِدْقُهُا، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ قَبُولَهُ ... يعني: لو قالت الأمة أو الحرة المتقدمتان غصبت لميصدقا إلا أن تظهر أمارة تدل على صدقهما كما لو جاءت إحداهما تدمي أو مستغيثة عند النازلة، واختار بعض الشيوخ قبوله وإن لم تظهر أمارة، لاحتمال أن تكون غصبت وكتمت رجاء ألا يكون عنه حمل، ولعل المصنف يريد ببعضهم اللخمي فإنه قال ذلك، لكن شرط في المرأة أن تكون معروفة الخير ولا يطعن عليها شيء، وكذلك الباجي: سقوط الحد عنها إلزاماً على قول مالك أن الوطء بين الفخذين يكون عنه بسيلان الماء إلى الفرج. وَشَرْطُ مُوجَبِهِ الإِسْلامُ وَالتَّكْلِيفُ لما عرف الزنى وذكر ما يثبت به، شرع فيما يرتب عليه بقوله: (مُوجَبِ) بفتح الجيم اسم مفعول؛ أي: الذي يوجبه الزنى وفي بعض النسخ: وشرط موجب الحد الإسلام بكسر الجيم، وشرط الزنى هو الذي سبب الحد: الإسلام، فلا يقال على الكافر إذا زنى بمسلمة طائعة وهذا هو المشهور. مالك وابن القاسم: ويرد إلى أهل ملته ويعاقب على ذلك العقوبة الشديدة. أشهب: ويجب أن يتجاوز بذلك الحد، وقد أخبرني مالك عن ربيعة أنه يقتل ورآه ناقضاً للعهد، وقال لغيره في المبسوط: يحد حد الكفر وإن كانت ثيباً. اللخمي: والأول أحسن، وإنما تقام الحدود في فروع الإسلام لمن تقدم منهم إسلام، وإنما حكم صلى الله عليه وسلم بين اليهود بما في التوراة لأنهم رضوا بذلك. واعلم أن الجنايات السبع تقام على الكافر إلا الزنى والشرب والردة، أما الزنى فكما ذكرنا، وأما الشرب فإنهم يعتقدون حله، أو لأنا أخذنا منهم الجزية على ذلك، وأما الردة

فهو المشهور أن الكافر إذا انتقل من كفر إلى [728/أ] كفر أنه يعذر ولا يقتل وعلى الشاذ أنه يقتل هو كالمسلم. وقوله: (وَالتَّكْلِيفُ) أي فلا حد على مجنون ولا صبي وإن كان مراهقاً على المشهور. وَهُوَ ثَلاثَةٌ: رَجْمٌ، وَجَلْدٌ مَعَ تَغْرِيبٍ، وَجَلْدٌ مُفْرَدٌ، فَالرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ مِنْهُمَا يعني: والموجَب ثلاثة أنواع والرجم على المحصن، ولا يجمع معه الجلد وهذا مذهب كافة الفقهاء بخلاف الظاهرية لحديث ماعز وحديث العسيف. وقوله: (مِنْهُمَا) أي: الزاني والزانية. وَيَحْصُلُ لِكُلِّ مِنْهُمَا بالتَّزْويجِ الصَّحِيحِ اللَّازِمِ وَالْوَطْءِ الْمُبَاحِ المُحِلِّ الْمَبْتُوتَةِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَالإِسْلامِ وَالْبُلُوغِ، وَفِي التَّكْلِيفِ خِلافٌ ... ويحصل لكل واحد من الزاني والزانية (بالتَّزْوِيجِ) فلا يحصل بالملك. وقوله: (الصَّحِيحِ) يخرج النكاح الفاسد إن كان مما يفسخ قبل البناء وبعده، وإن كان مما يمضي بعده فهو كالإحلال، وقد قدمنا الكلام على ذلك في النكاح. وقوله: (اللازِمِ) فلا يحصل بالنكاح الذي فيه خلاف حكم، كنكاح العبد وذي العيب، واحترز بالوطء المباح من الوطء في حيض أو في عدة فلا يحصل به الإحصان. وقوله: (المُحِلِّ الْمَبْتُوتَةِ) نعت الوطء، ولو استغنى به عن جميع ما تقدم كفى؛ أي: لأنه قال في الإحلال: لا تحلحتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً لازماً ويطأها وطئاً مباحاً على المشهور، والمشهور مذهب ابن القاسم، مقابله لعبد الملك وزاد اللخمي ثالثاً للمغيرة وابن دينار: أن الوطء الفاسد يحصن ولا يحل. اللخمي: وهو ضعيف ولو قيل بعكسه لكان أشبه.

وقوله: (بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ) لقوله: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ) [النساء: 25] وقوله: (وَالإِسْلامِ وَالْبُلُوغِ) ظاهر. وقوله: (وَفِي التَّكْلِيفِ خِلافٌ) سلامة العقل من الجنون؛ لأنه قد ذكر أن البلوغ شرط، وكأنه اعتمدعلى ما قدمه من الخلاف في فصل الإحلال وقد ذكر ثلاثة أقوال، واختلف إن تزوج عبد حرة بغير إذن سيدها ووطئها ثم زنت، فقال ابن القاسم: ليس بإحصان مطلقاً، وقال أشهب: إن أجاز سيده النكاح كان ذلك الوطء إحصاناً ورجمت لا إن رده، ولعل المصنف إنما قال: (وَفِي التَّكْلِيفِ) ولم يقل وفي الجنون ليشمل غير الجنون من موانع العقل، وقد نظم بعضهم شروط الإحصان فقال: شروط الإحصان ستة أتت فخذها على النظر مستفهماً بلوغ وعقل وحرية ورابعها كونه مسلماً وعقد صحيح ووطء مباح متى اختل شرط فلن يرجما فَلِذَلِكَ يُحْصِنُ مَنْ عَتَقَ مِنَ الْعَبيدِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بالْوَطْءِ بَعْدَهُ دُونَ الآخَرِ أي: فلأجل اعتبار الحرية لو أعتق أحد الزوجين ونكاحهما صحيح ثم وطئ بعد العتق منهما دون الآخر. وَوَطْءُ الرَّجُلِ بَعْدَ إِسْلامِهِ الْكِتَابِيَّةَ تُحْصِنُهُ وَلا يُحْصِنُهَا هذا راجع إلى الإسلام وهو ظاهر ولم يشبهه بمن أعتق من العبيد؛ لأنه لا يحصل في الإسلام من الطرد ... والعكس والعتق وإنما يحصل بإسلام الزوجة خاصة. وَوَطْءُ الصَّغِيرِةِ يُحْصِنُ الرَّجُلَ ولا يُحْصِنُهَا هذا راجع إلى البلوغ، ويشترط في الصغيرة أن تطيق الوطء لأنه الذي يحصل من البالغة، فإن كانت الصغيرة لا تطيق الوطء لم تحصن، قاله ابن عبد الحكم، وقال ابن القاسم: إذا وطئها وإن كانت بنت خمس سنين.

وَوَطْءُ الصَّغِيرِ لَغْوٌ وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِ يعني: إذا وطء الكبيرة، ومعنى (لَغْوٌ) أنه لا يثبت الإحصان لواحد منهما، أما هو فلعدم بلوغه، وقد تقدم في الراهن خلاف، وأما هي فلأن وطأه لا يحصل لها كمال اللذة فكان كالأصبع. وَفِي وَطْءِ الْمَجْنُونَةِ خِلافٌ تَقَدَّمَ أشار به والله أعلم إلى ما قدمه في فصل الإحلال حيث قال: ويشترط علم الزوجة خاصةب الوطء، وقال أشهب: علم الزوج، وقال ابن الماجشون: لو كان مجنونين حلت. ابن عبد السلام وغيره: يدل على أنه أراد الخلاف المتقدم في الإحلال قبل هذا. وَكُلُّ وَطْءٍ يُحْصِنُ أَحَدُهمَا يُحِلُّ، وَلَيْسَ كُلُّ وَطْءٍ يُحِلُّ يُحْصِنُ وإلا فأي فائدة في ذكر هذه الكلية، فإن قيل: فكيف يفهم من الكلية أنه أراد الإحلال؟ قيل: لأنها أشعرت بأن الإحصان أخص لكثرة شروطه؛ إذ يشترط فيه الحرية وأن الإحلال أعم، وعلى هذا التقدير فكل ما يمنع من الإحلال يمنع قطعاً من الإحصان لاستلزام نفي الأعم نفي الأخص، ويصدق حينئذٍ: كل ما أحصن أحل؛ لأنه يلزم من وجودالتقدير، فكل ما يمنع من الإحلال يمنع قطعاً من الإحصان لاستلزام نفي الأعم، واختلف الشيوخ في نقل الخلاف في المجنون باعتبار الإحصان، والصواب- والله أعلم- ما نقله اللخمي وغيره أنه إن كان أحدهما مجنوناً كان إحصاناً للعاقل منهما خاصة عند مالك وابن القاسم، وقال أشهب: المراعي الزوج فإن كان عاقلاً كان إحصاناً لها وله، وإن لم يكن عاقلاً لم يكن إحصاناً لها ولا له، وقال عبد الملك: إذا صح العقد منهما أو ممن يلي عليهما كان إحصاناً لهما ولو كانا مجنونين في حين البناء إذا كان الزنى في حين الصحة، وعلى هذه الطريقة في النقل لاتتم الإحالة على الإحلال لمخالفة ما بينهما فتأمله. انتهى.

والمخالفة [728/ب] إنما هي في القول الأول وإلا فقول أشهب وعبد الملك فيهام متحد، وقد يقال إنما اشترط ابن القاسم علم الزوجة لأن الإحلال قائم بها، فها هنا الإحصان قائم بكل منهما، فيلزم عليه أن يشترط في حقها لكن في أخذ هذا من لفظه نظر. فَفِيهَا: وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ بوَطْءِ سَقَطَ يعني: أن الزاني إذا أنكر الإحصان قبل قوله وسقط عنه الرجم؛ لأن الوطء لا يعلم إلا من جهته. وَلَوْ أَنْكَرَتِ الوَطْءَ بَعْدَ أَنْ أَقَامَتْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَالزَّوْجُ مُقِرٍّ بِالْوَطْءِ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ، وَعَنْهُ فِي الرَّجُلِ: يَسْقُطُ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِوَلَدٍ، وَقِيلَ؛ لا مُخَرَّجاً ... جلب مسألتي المدونة لتعارضهما ولينبه على بعض ما فيها، فالأولى: في الزوجة ذكرها في النكاح، فقال: وإن أقامت مع زوجها عشرين سنة فزنت فقالت: لم يكن الزوج جامعني، والزوج مقر بالجماع فهي محصنة والحد واجب ولا يزيله إنكارها، وقال غيره لدفعه حداً قد وجبولم يكن منهما قبل ذلك دعوى. والثانية: في الزوج ذكرها في الرجم، فقال: ومن تزوج امرأة وطال مكثه معها بعد الدخول فشهد عليه بالزنى، فقال: ما جامعتها قد دخلت بها فإن لم يعلم ... يظهر، أو بإقرار بالوطء ولم يرجع درء الحد بالشبهة، وإن علم منه إقرار بالوطء قبل ذلك رجم، واختلف فيهما، فقال يحيى بن مر وسحنون وأبو عمران وغيرهم هما متعارضتان، لكونه قبل قول الزوج دون الزوجة، وذهب جماعة إلى التفريق بينهما، واختلف الأولون هل تقيد مسألة النكاح بما في الرجم ويطرح ما في النكاح وهو قول يحيى بن عمر لقوله أن مسألة الرجم خير مما في النكاح، أو بالعكس وإليه ذهب سحنون، واختلف الآخرون في كيفية الجمع على أوجه:

أحدها: أن الطول الذي قبل فيه قول الزوج لم يبلغ عشرين سنة ونحوها ولو بلغ ذلك لم يقبل قوله كالزوجة. ثانيها: أن الزوج إذا عرض له ما يمنعه من الوطء الغالب عليه إخفاؤه بخلافها، فإن العادة الإظهار من جهتها، ورد بأنه لو لم يكن وطئها لم تسكت. ثالثها: أنه قبل قول الزوج؛ لأن الزوجة لمتدع عليه أنه وطئها ولم يقبل قول الزوجة؛ لأن الزوج مقر بجماعها، ذكر هذه الثلاثة صاحب النكت واختار ابن يونس الثالث، واختار اللخمي وابن يونس حملها على الخلاف، وذكر ابن رشد في مقدماته أن الفروق التي ذكرها عبد الحق وغيره لا تصح لأنه قال: إن تزوج الرجل امرأة فأقر بالوطء قبل الزنى أو بعده فذلك منهما الإحصان، وأما إن أنكراه بعد الزنى ولم يعلم منهما إقرار قبله، فهل يصدقان في إنكاره ثلاثة أقوال: الأول: لا يصدقان وإن كان ذلك بقرب البناء، الثاني: مذهب جمهور أصحاب مالك أنهما يصدقان ولا يرجمان، وذهب بعضهم إلى أن ما في الرجم ليس بخلاف لما في النكاح، وفرق بينهما بتفاريق ذكرها عبد الحق وغيره لا تصح، وأما إن ادعاه أحدهما لى صاحبه وأنكره الآخر قبل الزنى فلا يلزم المنكر الإحصان باتفاق ولا المقر به على سبيل الدعوى بالاتفاق أيضاً، وله أن يرجع عن إقراره قبل أن يؤخذ في زنا أو بعد أن يؤخذ فيه كالرجل والمرأة، وأما إن أقر أحدهما بالوطء في غير سبيل الدعوى والآخر منكر، فأما المنكر فلا يكون محصناً باتفاق، واما المقر فقال ابن القاسم: يكون محصناً لإقراره على نفسه، وقال ابن عبد الحكم: لا يكون محصناً لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأما إن كان اختلافهما في الوطء بعد الزنى، فأما المقر فيلزمه الإحصان بإقراره بالوطء، ويجب عليه الرجم باتفاق، وأما المنكر فاختلف هل يصدق أم لا؟ علىلثلاثة التي تقدمت في إنكارهما جميعاً الوطء بعد الزنى، وذهب بعضهم إلى أن هذا الاختلاف غير داخل في هذه المسألة، وأنه يحد ولا يصدق في إنكاره الوطء بعد الزنى

لإقرار صاحبه عليه، وليس هذا بشيء لأن إقرار أحدهما على صاحبه شهادة منه عليه بالإحصان، ولا تجوز شهادة واحد بالإحصان. انتهى باختصار، ومراده على سبيل الدعوى أي ادعت الوطء ليكمل لها الصداق، وادعى الرجل ذلك استثبت له الرجعة في العدة والله أعلم. وقول المصنف: (وَقِيلَ: لا) أي: لا يخرج مسقط؛ أي: من المسألة السابقة بناء علىقول من حملها على الخالف. وَاللائِطَانِ مُطْلَقاً كَالْمُحْصَنِ فَالرَّجْمُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلا الْعَبْدَيْنِ وَالْكَافِرَيْنِ فَيُجْلَدُ الْعَبْدُ خَمْسِينَ، وَيُؤَدَّبُ الْكَافِرُ ... قوله: (مُطْلَقاً) يعني: ولا يستثنى من استثناء أشهب، وروى أبو داود والترمذي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"، قال مالك: ولم أزل أسمع أنهما يرجمان أحصنا أو لميحصنا، وقول أشهب ضعيف؛ لأنه لو كان من باب الزنى لاعتبر الإحصان ولا يأدب الكافر إلابشرط أن يظهره. وَالْجَلْدُ مَعَ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحُرِّ الذَّكَرِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ هذا هو النوع الاثني، ولا خلاف في الجلد والتغريب ثابت عندنا وعند جمهور أهل العلم لما في الصحيحين من حديث العسيف: "وعلى ابنك مائة وتغريب سنة"، ونفاه أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن الزيادة عنده [729/أ] على الآية نسخ، ولا ينسخ القرآن بخبر الواحد لكون الزيادة على النص متنازع فيها. وقوله: (الْحُرِّ) يعني: ولا تغريب على العبد لما علىسيده من الضرر خلافاً للشافعي في أحد قوليه لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب"، وأجيب بعد تسليم العموم، فإن عطفه عليه الصلاة والسلام الثيب عليه مع دخول الرقيق فيه قرينة دالة على أن المراد بالبكر من هو حر، ولأن العبد إنما يجلد

خمسين لا مائة. وقول المصنف: (الذَّكَرِ) يعني: ولا تغريب على الأنثى لما يخشى عليها في التغريب من الزنى. وَالْجَلْدُ وَحْدَهُ عَلَى الْحُرَّةِ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ وَالْعَبْدِ هذا هو النوع الثالث: وأراد بالعبد الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو أراد بالعبد الذكر والأنثى ليشمل الحرة والأمة وهذا أقرب. وقوله: (غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ) يعني: وأما المحصنة فترجم. وَيُتَشَطَّرُ الْجَلْدُ بالرِّقِّ وَإِنْ كَانَ جُزْءاً أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ قوله: (بالرِّقِّ) علم متناول الذكور والإناث لقوله تعالى: (فَعَليْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء: 25] والعبد مقيس عليها من باب لا فارق وإن كان جزءاً؛ أي: وجزءاً بأن يكون معتق البعض وما في معناه أي في معنى الرق وهو ما فيه شائبة من شوائب الحرية من أم ولد ومكاتب ومدبر ومعتق لأجل. وَالتَّغْرِيبُ: نَفْيُهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ كَفَدَكَ وخَيْبَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ تصوره ظاهر وفدك بالدال المهملة. الجوهري: اسمقرية بخيبر، وقال عياض في المشارق: مدينة بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة مراحل. أبو عمران: وروي أنه عليه الصلاة والسلامنفى إلى خيبر، ونفى عمر إلى فدك، ونفي من المدينة إلى البصرة وإلى خيبر، ونفى علي من الكوفة إلى البصرة، وقال الشافعي: من عمله إلى عمل غيره، وقال مالك في الموازية: من مصر إلى الحجاز، وقال ابن القاسم: من مصر إلى أسوان وأدن منها ولا يبعد كل البعد، وربما ضاع وبعد عن أن تدكره منفعة أهله وماله.

وَكِرَاؤُهُ فِي مَالِهِ، وَإِلا فَبَيْتُ الْمَالِ أي: في مسيره وهكذا قال أصبغ وابن المواز وكذلك المحارب. وَيُسْجَنُ فِيهِ سَنَةً مِنْ حِينِ سَجْنِهِ قال ابن القاسم: يكتب إلى ولي البلد أن يقبضه ويسجنه سنة عنده وتحسب السنة من يوم سجن، وروى نحوه ابن حبيب عن مطرف. فَلَوْ عَادَ أُخْرِجَ ثَانِياً الظاهر أن المراد لو عاد المغرب إلى بلده أخرج ثانياً قبل تمام السنة، وهو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر، وقال: (أُخْرِجَ) ولم يقل أعيد لأن الإعادة تقتضي تغيير الموضع الذي كان به أولاً، و (أخرج) لا يقتضي ذلك وهو أولى إذا قوى الإمام سجنه في غيره أولاً، والظاهر يبنى على ما تقدم أو يستأنف، والظاهر البناء، ويحتمل أن يريد فلو عاد على الزنى، فإنه أيضاً يجلدويغرب وعليه اقتصر ابن راشد، وإنام قلنا الأول أولى لاقتصاره على الإخراج فقط وأنه لا كبير فائدة في الحل الثاني، وانظر لو زنا في المكان الذي نفي فيه أو زنا المغرب بغير بلده، هل يكون سجنه في الكان الذي زنا فيه تقريباً؟ وَلا يُقْتَلُ بصَخْرَةٍ وَلا بِحَصَاةٍ خَفِيفَةٍ بَلْ بمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَيُتِّقَى الْوَجْهُ، وَلا يُؤَخَّرُ لِمَرَضٍ بخِلافِ الْجَلْدِ ... لأن العظام تشوِّه والصغار تعذب وهذا هو المشهور، قال ابن شعبان يرجم بأكبر حجر يقدر الرامي على رفعه ويتقي الوجه، لما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه"، ونص مالك على اتقاء الفرج، والمشهور أنه لا يحفر له، وفي الموازية يحفر له، ووقع في الحديث ما يدل على كلا الأمرين، وقيل: يحفر للمرأة فقط، وقيل: للمشهود عليه دون المقر به؛ لأنه إن رجع ترك.

اللخمي: ولا يضرب رجليه إذا لم يحفر له ولا ساقيه؛ لأنه تعذيب، وليس بقتل ويجرد على الرجل ولا تجرد المرأة، وإنما لم يؤخر لمرض لأن الغرض قتله بخلاف الجلد وهو واضح. ويُنْتَظَرُ بهَا وَضْعُ الْحَمْلِ مُطْلَقاً، وَالاسْتِبْرَاءُ فِي ذَاتِ الزَّوْجِ (مُطْلَقاً) أي: سواء كان رجماً أو جلداً لئلا يقتل ما في بطنها، فإذا وضعت أخرت في الجلد لنفاسها؛ لأنها مريضة، ولا تؤخر في الرجم إلا ألا يوجد من يرضع الطفل كما قدمه المصنف آخر كتاب الجراح، ولا تؤخر بدعواها الحمل بل ينظرها النساء، فإن صدقتها لم يعجل بذلك وإلا حدت، وهذا ظاهر إذا كان بعد الأربعة أشهر ونحوها، وأما في الشهرين فلا، فإن ابن القاسم قد أجاز في المدونة إذا مر لها منذ زنت شهران ترجم إذا قال النساء لا حمل بها. اللخمي: وليس بالبين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يكون نطفة أربعين يوماً وأربعين علقة وأربعين مضغة ثم ينفخ فيه الروح في الشهر الخامس، وأما إذا كان كذلك يمكن أن يكون في الشهور علقة، ولا يجوز أن يعمل حينئذ عملاً يوصل إلى إسقاطه ولا إلى فساد، كما لا يجوز للمرأة أن تشرب ماء يطرح به حينئذ، وأجاز اللخمي العمل على قول مالك. ابن القاسم: بعد ثلاثة أشهر، قال: وإن لم يمض لها أربعين يوماً جاز إقامة الحد عليها الجلد أو الرجم إلا أن تكون ذات زوج، فإنه يسئل الزوج فإن قال: كنت استبرأتها أقيم عليها الحد ورجمت إن كانت ثيباً، [729/ب] وإن قال لم تستبرأ كان بالخيار بين أن يقيم بحقه في الماء الذي له فيها، فتؤخر حتى ينظر هل تحمل منه أم لا؟ أو يسقط حقه فتحد انتهى. وقوله: (وَالاسْتِبْرَاءُ فِي ذَاتِ الزَّوْجِ) قد قدمنا كلام اللخمي الآن فيه. ابن عبد السلام: انظر هل هي حيضة وهو الأقرب أو ثلاثة. خليل: بل القاعدة أن الحرة لا تستبرأ إلا بثلاثة.

وَيُنْتَظَرُ بالْجَلْدِ اعْتِدَالُ الْهَوَاءِ، وَرُوِيَ: لا يُؤَخَّرُ فِي الْحَرِّ أي: يؤخر في الجلد دون الرجم للحر والبرد المفرطين اللذين يخشى فيهما الهلاك، ونص مالك على البرد، وألحق به ابن القاسم في المدونة الحرَّ إذا كان يعرف خوفه، والرواية أنه لا يؤخر في الحَرَّ للموازية ورآه ليس بمتلف، وعلى هذا فالخلاف مبني على تخفيف العلة. وَلا يُقِيمُ الْحَدَّ إِلا الْحَاكِمُ، وَالسَّيِّدُ فِي رَقِيقِهِ فِي حَدِّ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالْقَذْفِ بالإِقْرَاِرِ، وَبالْبَيِّنَةِ، وَبظُهُورِ الْحَمْلِ قوله: (إِلا الْحَاكِمُ) أي: في الأحرار والعبيد، قال في المدونة آخر كتاب الرجم: ولا ينبغي أن يقيم الحد ولاة المياه ليجلب ذلك إلى قضاة الأمصار ومصر كلها لا تقام فيها الحدود إلا بالفسطاط، أو يكتب إلى الفسطاط فيكتب إليه بأمره بإقامة ذلك. وقوله: (ولا ينبغي) الظاهر أنه على المنع، وقد عبر بعضهم بلا يجوز ولاة المياه السعاة لأنهم يسألون عن المياه، ويستثني في ذلك عبد للإنسان فإن لسيده أن يقيم عليه الحد لعدم التهمة في حقه؛ لما في الصحيحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: "إن زنت فاجلدوها ثم إ زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير"، ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثةأوا لرابعة، والضفير الحبل، وروى أبو داود ع علي رضي الله عنه في جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرت، فقال له: "أقم عليها الحد وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، قوله: (فِي حَدِّ الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَالْخَمْرِ) عائد على (السَّيِّدُ)، ويجلده في الخمر والفرية رجلين، وفي الزنى أربعة عدول، واحترز من السرقة وغيرها بألايقيمها إلا الوالي، قال في المدونة: لأن ذلك ذريعة إلى أن يمثل بعبده ويدعي أنه سرق. وقوله: (بالإِقْرَارِ ... إلخ) يعني: أن السيد يقيم على عبده بالطرق المذكروة في الحر. وَفِي حَدِّهِ برُؤْيَةٍ قَوْلانِ وفي حد السيد لعبده والقولان روايتان، مذهب المدونة أنه لا يقيمه بعلمه،

ومنشأ الخلاف هل هو حكم فلا يجوز بعلمه أو لا تهمة هنا، ولا خلاف ان له تأديبه في الجنايات بعلمه. فَإِنْ كَانَ مُتَزَوِّجاً بِمَا لَيْسَ مِلْكاً لَهُ فَالإِمَامُ يعني: فإن كان الرقيق متزوجاً بما ليس لسيده سواء كان متزوجاً بحرة أو بملك غير سيده، فليس حينئذ الإقامة لحق الآخر من الزوجين، وحق لسيده إن كان رقيقاً، ولا فرق بين أمته متزوجة بعبد الغير أو بالعكس، نص على الأولى في المدونة، ونص على الثانية التونسي، وفهم من كلامه أنه لو زوج أمته بعبده لكان له أن يقيم الحدودوهو كذلك. وَيُقْتَلُ الْكَافِرُ يُكْرِهُ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ لِنَقْضِ العَهْدِ، وَفِي الأَمَةِ قَوْلانِ المشهور أنه لا يقتل في الأمة، نعم يؤدب الأدب الشديد لأنه جنى على مال، والشاذ أظهر لأن الأمة تستغيث بالإسلام وهو منتهك لحرمته، ومقتضى تعليل المصنف بنقض العهد أن قتله مباح. ابن عبد السلام: والذي يقول أهل المذهب ظاهره تحتم قتله، وهو ظاهر ما روي عن عمر رضي الله عنه، واختلف قول ابن القاسم هل يثبت هنا بشاهدين كغيره لما ينقض به العهد أو بأربعة؟ وإليه رجع ابن القاسم، قال: لا يقتل حتى يشهد عليه بالفعل أربعة شهود أنهم رأوه كالمرود في المكحلة لأنه لا يستوجب القتل إلا بالوطء وهو إنما يثبت بأربعة. فائدة: لنقض العهد أسباب: أولها إكراه النساء على الزنى. ثانيها: القتل. ثالثها: منع الجزية. رابعها: التمرد على الأحكام. خامسها: التطلع على عورات المسلمين، فإن أسلملم يقتل إذ قتله لنقض العهد لا للجلد، أما قطعهم الطريق أو القتل الموجب للقصاص فحكمهم فيه كالمسلمين. وَأَمَّا فِي الطَّوْعِ فَالْعُقُوبَةُ أي: في طوعها ولا إشكال في حدها وقد تقدم فيه ثلاثة أقوال.

القذف

الْقَذْفُ: وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الزِّنَى وَاللَّوَاطِ وَالنَّفْيِ عَنِ الأَبِ أَوِ الْجَدِّ لِغَيْرِ الْمَجْهُولِ بخِلافِ نَفْيِهِ عَنِ الأُمِّ ... هو بالذال المعجمة وأصله الرمي إلى بعد، فكأنه رماه بما يبعد ولا يصلح، ومنه قيل للمنجنيق القاذف، وقد سماه الله رمياً فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] ويسمى أيضاً فرية؛ لأنه من الافتراء والكذب، وهو من الكبائر بإجماع. ومفهومه في الشرع أخص منه في الفقه، ورسمه المصنف بالرسم المذكور وأتى بما يتناول اللفظ وما يقوم مقامه كالإشارة في حق الأخرس. وقوله: (مَا يَدُلُّ) يحتمل بالصريح وعليه اقتصر ابن عبد السلام، ويحتمل ما يدل مطلقاص فيشمل التعريض ويكون التشبيه لبيان التعريض إن كان دالاً فكالصريح، وعطف اللواط على الزنى من عطف الخاص على العام لأنه نوع منه. وقوله: (وَالنَّفْيِ عَنِ الأَبِ أَوِ الْجَدِّ) احترازاً من الأم كما سيأتي، أو لتنويع لا للشك؛ لأن الجد لا يقبل الشك. وقوله: (لِغَيْرِ [730/أ] الْمَجْهُولِ)، وقع في بعض النسخ بالجيم والهاء، وكذلكقوع في نسخة ابن راشد، واحترز بذلك من المجهول كالمنبوذ، ففي العتبية عن مالك نفي الحد عمن قال لمنبوذ يا ابن الزانيةويؤدب. قال في البيان: لأن أمه لا تعرف، ولا حد على من قذف مجهولاً. قال: وكذلك لو قال له يا ابن الزاني. قال: وكذلك قال في الواضحة: لا حد على من قذف منبوذاً بأمه أو بأبيه، وأام إن قال له ولد زنى، فيجب عليه لاحتمال أن يكون أشده وإن كان قد نبذ. ووقع في بعض النسخ: (المحمول) بالحاء المهملة والميم ليحترز من المستبين، فإنه لا حد على من نفاه من أبيه، وقال: يا ولد زنى. قال أشهب، قال: لأن المجهولين لا يثبت أنسابهم ولا يتوارثون بها، وسئل في العتبية عن الرجل

الغريب يقال له يا ابن الزانية وهو لا يعرف أمه، قال مالك: أرى أن يضرب الحد إذا كان رجلاً مسلماً. وقد يقدم الرجل البلد فيقيم بها سنين من أهل خراسان فيقدمه الرجل ويقال له أقم البينة أن أمك حرة أو مسلمة. مالك: ما أراد ذلك عليه ولكن أراد أن يضرب على قذفه، والظالم هو الذي يحمل عليه. قال في البيان: وهذا بين لأن أم الحر المسلم محمولة على الإسلام والحرية حتى يعلم خلافه، وإنما يحد إذا قال له: يا ابن الزانية إذا كانت أمه قد ماتت أو غائبة بعيد ةالغيبة، فلا حد عليها إلا بعد الإغرار. انتهى. وهذا أظهر مما قاله أشهب لأنا منعناهم التوارث لجهلنا بأنسابهم لا أنهم أولاد زنى، والمشهور أن توءمي المجهولة يتوارثان أشقاء، وزعم ابن عبد السلام أن النسخة الأولى تصحيف وليس بظاهر، لا يقال التعريف غير مانع لصدقه على المخاطب إذا كان غير عفيف أو عبد أو كافر، وليس بقذف لسقوط الحد؛ لأنا نقول كل هذا قذف وانتفاء الحد لانتفاء الشرط لا لانتفاء ماهية القذف. بخِلافِ نَفْيِهِ عَنِ الأُمِّ أي: بخلاف نفي المقذوف عن الأم، نحو لست لأمك، فهذا لا حد عليه، قاله مالك وأصحابه، وعلله بأن الأمومة منتفية فيعلم كذبه في نفيه عنها، فلا غضاضة عليه فيه، والأبوة ثابتة بالحكم وغلبة الظن، فلا يعلم كذبه في نفيه فتلحقه بذلك معرة، وأشار التونسي إلى استشكاله بأن فيه قذف الأب لن معناه أن غيرأمك وإلى ترك محمل أباه على غير أمه. وَالتَّعْرِيضُ بذَلِكَ إِنْ كَانَ مَفْهُوماً كَالتَّصْرِيحِ مِثْلُ: أَمَّا إّذَا فَلَسْتُ بزَانٍ (بِذَلِكَ) أي: زَنَّى أو لواطاً أو نفي عن أب أو جد كالتصريح في وجوب الحد، والمثال الذي ذكره خاص ببعض أنواع التعريض، وترك المصنف غير اختصار لأن ذلك

يفهم منه كقوله: أما أنا فلست بلائط وأنا معروف. واحترز المصنف بقوله: (إِنْ كَانَ مَفْهُوماً) ممن لا يفهم منه القذف. عبد الوهاب: واختلف في اللفظ المحتمل للقذف والشتم إلى أيهما يرد على القولين. وفي اللخمي: إن صرح بالقذف أو عرض به حد، وإن شتم بلفظ القذف أو عرض به عوقب ولم يحد، وإن أِكل الأمر هل يراد بذلك القذف أم لا؟ حلف أنه لم يرد به قذفاً وعوقب، واختلف إذا نكل هل يحد أم لا؟ فأجراه مرة مجرى النكول عن أيمان التهم أنه يغرم ما نكل عنه، فقال هنا يحد، ورأى مرة أنه بخلاف المال ولا يؤخذ منه الحد. قال في المدونة: وإن قال لرجل يا فاسق يا فاجر نكل، وكذلك يا حمار، يا ابن حمار، يا ابن ثور، يا خنزير، فإن قال له يا خبيث، أحلف أنه لم يرد قذفاً ثم ينكل، فإن نكل عن اليمين لم يحد ونكل. اللخمي: يريد ويزاد في نكاله وإن قال يا ابن الفاسقة ويا ابن الفاجرة نكل وإن قال يا ابن الخبيثة أحلف أنه ما أراد قذفاً، فإن نكل عن اليمين حبس حتى يحلف، فإن طال حبسه نكل ولم يره من التعريض. وقال أشهب في الموازية: إن قال: يا فاجر، يا فاسق، يا خبيث، فإن نكل حد. محمد: ويحلف أنه لم يرد نفيه من أبيه ولا قذفاً لأبيه فإن نكل حد. وقال ابن الماجشون: يا ابن الفاسقة، يا ابن الفاجرة، يا ابن الخبيثة، ونكل حد. ومضى في ذلك على أصله أن قول ذلك للنساء أشد، إلا أنه عنده من الأمر المتردد ما يراد به القذف أم لا، وروى ابن القاسم أن قوله: يا ابن الخبيثة أشد من قوله: يا ابن الفاسقة؛ لأن الفسق الخروج عن الطاعة جملة ولا يختص بالفاحشة، والخبث يراد به الفاحشةن قال الله تعالى في قوم لوط {الَّتِي كَانَت تَعْمَلُ الْخَبَئِثَ} [الأنبياء: 37] ولم يحمل القائل على أنه أراد ذلك لأن العامة لا تعرفه، فلذلك استظهر عليه باليمين، قال في البيان: أما إن قال: يا خبيث الفرج فلا إشكال أنه يحد.

فرع: ويستثنى من سقوط الحد بالتعريض الأب فإنه لا حد عليه فيه، نص عليه مالك. وفي المدونة: إذا عرض بزوجته ففيه الحد. واختلف في ذلك، وأما الشاعر أعرض في شعره فلمالك في العتبية: لا حد عليه إلا ان يكون بيناً جدًّا. قال في البيان: ورأيت لأبي بكر بن محمد أنه يعتبر شعره فإن كان فيه تعريض حد. وكأنه تأول ما لمالك في العتبية على سقوط الحد مطلقاً، وليس بتأويل صحيح لأنه نص على أنه الحد إذا كان [730/ب] الشيء إليه، وإنما يشترط ألا يحد إلا أن يكون ذلك قولاً بيناً، فليس قول مالك مخالفاً لأصله في إيجاب الحد بالتعريض، وأسقط أبو حنيفة والشافعي الحد في التعريض مطلقاً لجواز التعريض في النكاح، وفيه نظر؛ لأنه كان يلزم عليه جواز التعريض بالقذف، ودليلنا ما روي في الموطأ أن رجلين تسابَّا في زمان عمر رضي الله عنه، فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان ولا أمي زانية. واستشار في ذلك عمر، فقال قائل: مدح أباه وأمه. وقال آخرون: وقد كان لأمه وأبهي مدح غير هذا، نرىن نجلده الحد. فجلده عمر الحد ثمانين. وروي أن عمر رضي الله عنه جلد في التعريض وقال رحمه الله: لا تداعى جوانبه. وبه قال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز. ولسنا إنا نحن متعبدون بالمعاني، ولو تسابَّ رجلان فقال أحدهما: ابن الفاعلة الصانعة العفيفة التي لم تزن قط. لفهم منه نطقاً فيهما بالزنى، بل هو أ [لغ من قوله: يا ابن الزانية. اللخمي: ويجب الحد إذا قال: ما يطعن في فرجي بشيء وإني لعفيف الفرج أو أنك لعفيف الفرج، وإن لم يذكر الفرج، وقال: إني عفيف أو ما أنت عفيف أو عفيفة، افترق الجواب، فإن قال ذلك لرجل أحلف أنه لم يرد قذفاً ولم يحد. وهو قول مالك وعبد الملك، واختلف إذا قال ذلك لامرأة، فقال مالك: يعاقب ولا يحد. وقال عبد الملك: ولو قال ذلك لرجل إلا أن يدعي أنه عفيف في المكسب والمعظم، فيحلف ولا حد عليه وينكل. قال: لأن المرأة لا يعرض عليها بالعقاب إلا بالفرج، والرجل يعرض له في غيره.

يحيى بن عمر: وإن قال لامرأته يا مخبث فعليه الحد. ابن الماجشون: وإن قال لرجل يا مأبون وهو رجل في كلامه تأنيث ويضرب بالكبر ويلعب في الأعراس ويتهم بما قيل له فيما يخرجه عن الحد، واختلف إذا قال لرجلٍ يا مخنث، قال مالك في المدونة: احلف ما أراد قذفاً وينكل، فإن نكل حد. وفي الموازية: إن كان في المقول له تصنع في يديه أو من عمل النساء شيء أو لين الكلام، أحلف ما أراد غيره إن كان بريئاً من ذلك ولا شيء فيه منه حد القائل. وحمل اللخمي ما في الموازية على الخلاف وحمله غيره على التفسير بما في المدونة. وإن قال: يا ابن منزلة الركبان. ففي الواضحة: يحد. وكذلك إن قال يا ابن ذات الراية، وإن قامت فلانة في أعكانها حد عند ابن القاسم خلافاً لأشهب. وفي الموازية: من قال لرجل: يا ابن زانٍ، جلد لزوجته إن طلبت لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة، وقاله ابن القاسم في غير الموازية، ولم يرمِ فزعم فيه الحد، وقال يجلد عشرين سوطاً. وَالْكِنَايَةُ كَذَلِكَ مِثْلُ: يَا نَبَطِيُّ، أَوْ مَا أَنْتَ بحُرٍّ، أَوْ يَا رُومِيُّ، أَوْ يَا فَارِسِيُّ لِعَرَبِيِّ بخِلافِ الْعَكْسِ ... الجوهري: الكناية أن يتكلم بشيء ويريد به غيره. وفي تلخيص المفتاح: الكناية: لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه. والمصنف رحمه الله لما رأى أن التعيرض خلاف الكناية عند علماء البيان، ورأى أن أهل المذهب لم يفرقوا بينهما لكونهم لم يقسموا القذف إلا إلى صريح وتعريض، تبع في ذلك علماء البيان، وأِعر ذلك بمعرفة هذا الفن وبعدم ارتضائه قول الفقهاء، وليس ذلك بمجرد مخالفتهم أصحاب علم البيان، فإن هذا يرجع إلى الخلاف في الاصطلاح وطائل تحت، ولكن لأن دلالة التعريض أقوى من الكناية، والوارد عن عمر رضي الله عنه إنما هو في التعريض وهو أصل هذا الباب، فلا يصح قياس الكناية عليه. ومثل المصنف بقوله: (أَنْتَ بحُرَّ، أَوْ يَا رُومِيُّ، أَوْ يَا فَارِسِيُّ لِعَرَبِيٍّ)؛

لأنه قطع نسبه بخلاف العكس- أعني: إذا قال للرومي والفارسي يا عربي- فإن العرب في هذا ليس قطع النسب بل الثناء على المغلظ بصفات العرب مثل الشجاعة والسخاء وغير ذلك. فرع: ولو قال يا ابن اليهود أو النصراني، فقال ابن القاسم: يحد إلا أن يكون في آبائه أحد كذلك. وقال أِهب: لا حد عليه إذا حلف أنه لم يرَ نفيه. اللخمي: وحمل قوله أن أباك الذي تنسب إليه الآن يهودي أو نصراني. وكذلك إذا قال: يا ابن الأقطع، يا ابن الأعور، يا ابن الأحمق، يا ابن الأزرق، يا ابن الآدم، وليس أبوه كذلك، فقال ابن القاسم: يحد لأنه حمل أباه على غير أمه. وعلى قول أشهب لا يحد إذا حلف، واختلف إذا قال يا ابن الحجام او يا ابن الخياط أو غير ذلك من الصنائع وليس في آبائه من يعمل ذلك، فلمالك في المدونة من رواية ابن القاسم: إن كان المقول له ذلك من العرب حد، وإن كان من الموالي فلا حد عليه، ويحلف بالله ما أراد قطع نسبه ويعزر. وروى ابن حبيب عنه يحد فيهما. وقال أشهب: لا حد فيهما إذا حلف أنه لم يرد نفيه من آبائه. قال: وإنما ذلك كقوله: أبوك الذي ولدك حجام أو حائك وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مِثْلِ: يَا فَارِسِيُّ وَشِبْهِهِ لِرُومِيِّ وَشِبْهِهِ الضمير في (قَوْلُهُ) عائد على مالك والخلاف في المدونة، لكن إنما حكاه فيمن نسب جنساً من البيض إلى جنس من السودان، واختار ابن القاسم نفي الحد، وزاد: إلا أن يقول يا ابن الأسود وليس في آبائه الأسود. وفي الجواهر: فيمن قال لرومي يا فارسي، ولفارسي يا رومي أن عليه الحد. وفيه نظر؛ فقد حكى في البيان [731/أ] الاتفاق على أنه لا حد على من نسب أحداً من البيض من البربر والفرس والقبط إلى غير جنسه من البيض كلهم، أعني في غير العرب ولذلك إذا نسب جنساً من أجناس السودان إلى غيره

من أجناس السود كالحبس والنوبة باتفاق؛ لأن غير العرب لا يحفظون أنسابهم كالعرب، قال: واختلف إذا نسب أحداً من أجناس البيض إلى جنس من أجناس السودان أو بالعكس على ثلاثة أقوال: الأول: نفي الحد، وهومذهب مالك الذي أخذ به ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن عليه الحد في ذلك كله إلا أن يكون المقول له أسود أو ابن أسود، وإن كان من جنس البيض فيقول له يا ابن النوبي، أو يا ابن الحبشي، وهذا مذهب ابن الماجشون في الواضحة. الثالث: أنه لو قال البربري يا فارسي، أو قبطي يا حبشي أو يا نوبي، فعليه إلا أن يكون أسود أو في أقاربه أسود، وإن قال لحبشي أو نوبي يا بربري أو يا فارسي أو قبطي أو يا نبطي فلا حد عليه، وهذا يأتي على أحد قولي مالك في المدونة في وجوب الحد على الذي يقول لبربري أو رومي يا حبشي، أن عليه الحد، قال وأما العرب فإنها تحفظ أنسابها، فمن نسب أحداً من العرب إلى غير العرب، أو نسب أحداً منهمإلى غير قبيلته فعليه الحد قولاً واحداً، أو قريش من العرب والعرب ليست من قريش، فمن قال لقرشي: يا عربي لم يحد، ومن قال لعربي: يا قرشي حد. وكذلك كل قبيلتين يجمعهما أب واحد يحد من نسب أحداً من القبيلة الأعلى إلى القبيلة الأدنى، ولا يحد من نسب أحداً من القبيلة الأدنى إلى القبيلة الأعلى. انتهى. وَفِي مِثْلِ: زَنَتْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، الحَدُّ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لاَ عِنْدَ أَشْهَبَ فقول ابن القاسم في المدونة وجوب الحد، والخلاف مبني على أنه هل هو من التعريض أم لا؟ واستحسن اللخمي قول ابن القاسم، قال: إلا أن يكون بإثر ما تكلم بباطل أو يظن بذل أو سعى فيه، وادعى أنه إنما أراد ذلكفإنه يحلف ولا يحد. واختار

جماعة قول أشهب لإضافته عليه الصلاةوالسالم الزنى إلى هذه ثم قال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" فأخبر أن زنا هذه الأعضاء كالزنى، لكن الشاتم لم ينفِ الزنى عن الفرج كما في الحديث، واتفق ابن القاسم وأشهب على الحد إذا قال: زنى فرجك. وَفِي مَالِكٍ أَصْلٌ وَلا فَصْلٌ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ حُدَّ لَهُ والحد لأصبغ وهو مقتضى اللفظ؛ لأنه أصله هذا أبوه وقد نفاه عنه ونفيه لمالك، ورأى ان المقصود نفي الشرف فقط، والقول الثالث جنس لأن غير العرب لايحافظ على نسبه. وقال ابن الماجشون: إن قاله في مشاتمة فإن لم يكن من العرب ففيه الأدب الخفيف مع السجن، وإن قال العربي حد إلا أن يعذر بجهالة، فيحلف ما أراد قطع نسبه وعليه ما على من قاله لغير عربي، وإن لم يحلف حد. وَلَوْ قَالَ ابْنُ عَمِّ أَوْ مَوْلَى لِعَرَبِيٍّ: أَنَا خَيْرٌ مِنْكَ - قَوْلانِ أي: ولو قال ابن عم لابن عمه أنا خير منك، أو قال ذلك من العرب فقولان، وقد ذكرهما ابن شعبان واختار الوجوب فيهما والأقرب خلافه؛ لأن الأفضلية قد تكون في الدين والخلق أو الجميع إلى غير ذلك، إلا أن يدل البساط على إرادة النسب، وحكى في البيان ثالثاً: إن قال: خير منك نسباً حد، وإن لم يقل نسباً وقال: حسباً عليه الأدب فقط، وهو مذهب أبي حازم، وفيه نظر. وقال مطرف وابن الماجشون: يحد. قالا: وكأنه قال لست من العرب إلا أن يريد: خير منك عند الله، ومثله يشبه فيحلف ولا يحد. وقاله أصبغ، ولمالك في العتبية في مولى قال لعربي أنا خير منك وأقرب نسباً برسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حد في هذا. وَقَوْلُ: "لا أَبَ لَكَ" مُغْتَفَرٌ إِلا فِي الْمُشَاتَمَةِ فَيَحْلِفُ نحوه لمالك في العتبية والموازية أنه لا شيء عليه. قال: إلا أن يريد النفي وهو مما يقوله الناس في الرضا. قال في الموازية: وأما في المشاتمة والغضب فذلك شديد ويحلف ما أراد نفيه.

وَلَوْ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ فِي الْمُشَاتَمَةِ لَمْ يُحَدَّ إلا ببَيَانِ الْقَذْفِ، بخِلافِ عَمِّهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُحَدُّ فِيهِمَا. وقَالَ أَصْبَغُ: لا يُحَدُّ فِيهِمَا، بخِلافِ خَالِهِ وَزَوْجِ أُمَّهِ (جَدِّهِ) يشمل الجد للأب والأم، ونص في المدونة عليهما. وقوله: (فِي الْمُشَاتَمَةِ) يؤخذ منه أن الحكم في غيرها من باب أولى. وقوله: (إِلا ببَيَانِ الْقَذْفِ) هذا، قال في الموازية: قال مثل أن يتهم الجد بأمه. وقوله: (بخِلافِ عَمِّهِ) أي: فيحد، وهذا في الموازية، والفرق بينهما أن الجد أب، وقال أشهب: يحد في جده وعمه بشرط أن يكون في مشاتمة لا إن لم يكن فيهما. ولا يؤخذ من كلام المصنف تقييد قول أشهب بالمشاتمة، إلا أن يقال هو فرض المسألة في المشاتمة. صاحب النوادر والباجي واللخمي وابن يونس وابن شاس، قاله أصبغ، واحتج بقول الله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَءَابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ} [البقرة: 133] وأظن أن ما نسبه المصنف لأصبغ وهم. وقوله: (بخِلافِ خَالِهِ وَزَوْجِ أُمِّهِ) أي: فإنه يحد اتفاقاً وهذا كله إذا نسبه لغير أبيه لا على وجه الاستفهام، وأما إن كان على وجه الاستفهام فلا إشكال في نفي الحد. فَلَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ. فَقَالَتْ: [731/ب] بكَ زَنَيْتُ. فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى وَالْقَذْفِ دُونَهُ لأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ تَقُولَ: قَصَدْتُ الْمُجَاوَبَةَ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ دُونَهَا. وَقَالَ أَصْبَغُ: يُحَدَّانِ حَدِّ الْقَذْفِ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي ... الأول: مذهب المدونة قال: إلا أن ترجع عن حد الزنى فعليها حد القذف؛ لأنها صدقته. وقال أشهب: عليها حد الزنى وحد القذف إلا أن تقول: قصدت المجاوبة، فيحد الرجل للقذف ولا تحد هي لقذف ولا زنا. وقال أصبغ: يحدان للقذف وليس لأحدهما الرجوع؛ أن قولها ليس بتصديق لكن ذلك رد عليه.

وقوله: (كَمَا لَوْ قَالَتْ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي) هي حجة ظاهرة لأصبغ إن وافقوه على الحكم فيها. وقد نقل في الموازية عن مالك مثل قول أصبغ، وقاله ربيعة وخالفهما ابن شهاب، وقال ذلك قذف وإقرار على نفسه بالزنى كالقول المتقدم. وقول المصنف: (يَا زَانِيَةُ) تقديره قال لامرأة يا زانية وهكذا قال في المدونة، وظاهره أنه لا فرق مع ذلك بين زوجة ولا أجنبية، وفرق بينهما ابن القاسم في رواية يحيى في العتبية، فقال في الأجنبية كما في المدونة، وقال في الزوجة لا أرى عليها شيئاً لأنها تقول أردت إصابته إياي بالنكاح، فيدرأ عنها الحد ولا يد منها إقراراً بالزنى. قال عنه عيسى: أو يجلد الزوج الحد إلا أن يلاعن. ابن رشد: وهو مبني على أحد القولين في اللعان بمجرد القذف. وقال عيسى: لا حد ولا لعان. واختلف فيمن قال لرجل يا ابن الزانية، فقال الآخر: أخزى الله ابن الزانية. فقال ابن القاسم: يحلف المجاوب ما أراد قذفاً وإن لم يحلف سجن حتى يحلف. وقال أصبغ: تعريض، ويحدان جميعاً. وفي المدونة: إذا قال حر لعبد يا زاني، فقال له العبد بل أنت، نكل الحر وجلد العبد جلد الفرية أربعين. ولابن القاسم في غير المدونة: من قال لنصراني: يا ابن الفاعلة، فقال له النصراني: أخزى الله ابن الفاعلة، فيحلف النصراني ما أردت قذفه، فإن نكل سجن حتى يحلف. وقال أصبغ: يحد النصراني لأنه جواب المشاتمة ويعاقب المسلم. قال: ومن قال لجرل يا حمق فقال له: أحمقنا ابن الزانية، فهو قذف من قائله لأنه جواب الشتم واستتاراً عن القذف بذكر الحمق، وسواء كان المقول له أحمق أو حليماً. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ مُسْتَكْرَهَةً حُدَّ، وَلاعَنَ فِي الزَّوْجَةِ فَإِنْ أَتَى ببَيِّنَةٍ عَلَى الإِكْرَاهِ لَمْ يُحَدَّ ... أي: حد في الأجنبية ولاعن في الزوجة، فإن أقام بينة على الإكراه سقط الحد، هذا مذهب المدونة. وفي الموازية: يحد وإن أقامت البينة لأنها ليست بذلك زانية وإنما يقال زنى

بها. ورأى أن ذلك تعريض لها بالزنى طوعاً، والأول أبين لأن ذلك مما لا تميزه العامة، وإن قال لزوجته: زنيت وأنت صبية أو كافرة، أو قال يا زانية، وقال أردت أنها فعلت ذلك قبل البلوغ والإسلام، فقال ابن القاسم في الكتاب: يحد قائل ذلك أثبت ما قاله ببينة أم لا. وقال عبد الملك: إن أثبت ذلك ببينة لم يحد وإلا حد. وقال أشهب مثل ذلك، إذا قال لزوجته يلاعن لأنه قاذف أو معرض. وعلى قول أشهب وعبد الملك كاللعان عليه إذا أثبت ما رماها به وهو أحسن، ولم يذكر ابن القاسم صفة لعانه، ويشبه أن يكون لعانه أن يشهد أربع شهادات أنه لم يرد تعريضاً ولم يرد إلا ما أثبت أنه كان في الصبا أو في الكفر، لا علم لهذه بغير ذلك ثم لا يكون عليها لعان لأنها لم تثبت أنه كان منها وهي في عصمته شيء ولا ادعاه لها إن قال لعبد أو أمة قد عتقا قد زنيتما في حال رقكما، أو قال لهما يا زانيان، ثم أقام بينة أنهما زنيا في الرق لم يحد القاذف، وحدًّا لأن اسم الزنى في الرق لازم لهما ويلزم فاعله الحد، بخلاف قوله زنيت وأنت نصرانية أو صبية. وَلَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ لَمْ يُحَدَّ وَلَوْ قَالَ الْجَمِيعُ هكذا ذكر ابن المواز ولم يعين قائله. بل قال: قيل: واستبعده. ابن رشد: إذا قام عليه الجميع لأنهيعلم أنه قال لأحدهم ولا حج له، قال وجهه على بعد أن المقذوف لما لم يعلم من هو منهم لم يحد؛ لأن الحد إنما هو إسقاط المعرة عن المقذوف، والمعرة لم تلحق واحداًمنهم فيحد له، ولا بجميعهم إذا لم يقذف واحداً. وَلَوْ قَالَ: يَا زَوْجَ الزَّانِيَةِ. وَلَهُ امْرَأَتَانِ فَعَفَتْ إِحْدَاهُمَا وَقَامَتِ الأُخَرَى حَلَفَ مَا أَرَادَهَا، فَإِنْ نَكَلَ حُدَّ، فَقِيلَ: اخْتِلافٌ، وَقِيلَ: بالْفَرْقِ بَيْنَ الاثْنَيْنِ وَمَا قَارَبَهُمَا، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ ... هكذا قال في العتبية والواضحة، قال في البيان: وهكذا لو كانت له امرأة واحدة وقامت لكان القول قوله مع يمينه أنه إنما أراد البينة، وعارض الباجي هذه المسألة بالمسألة

التي قبلها، قال: ويحمل أن تكون الجماعة في المسألة الأولى خرجوا بكثرتهم من ذها التعيين، وأن الاثنين في مسألة العتبية وما قارب من ذلك في حيز العين، ويحتمل أن يكون اختلافاً، وعلى هذا فقول المصنف فقيل ليس بظاهر؛ لأن الباجي إنما ذكر احتمالين، وقد نقل ابن شاس كلام الباجي نقلاً حسناً، والله أعلم. وَلَوْ قَالَ: أَنَا نَدْلٌ أَوْ نَغِلٌ أَوْ وَلَدُ زِنّى لَقَذَفَ أُمَّهُ الجوهري: الندالة: [732/أ] السفالة، وقد ندل - بالضم- فهو ندل، ونديل فهو خسيس، وعلى هذا فيكون ندل من باب التعريض، ونغل- بكسر الغين المعجمة-: الجوهري: وفلان نغل أي فاسد النسب، والعامة تقول نغل. وقال الزبيدي: النغل هو ولد الزانية. وهذهالمسألة نقلها ابن شاس عن القاضي أبي عبد الله بن هارون المالكي البصري وهي ظاهرة. ابن عبد السلام: وطرد التعليل يقتضي أن من قال لرجل ولد زنا وأنت ولد زنا، ثم عفا المقول له ذلك عن القاذف فإن للأم القيام بحقها. وَيُحَدُّ الأَبُ لِوَلَدِهِ، وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ أَصْبَغُ: لا يُحَدُّ، وَعَلَى الْحَدِّ يُفَسَّقُ الأول: نقله الباجي عن مالك وأصحابه، ويقول أصبغ قال ابن حبيب، وهو كقول أشهب أن الأب لا يقتل بابنه. فقال: وقوله: (وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكٌ) ظاهره الكراهة ويحتمل المنع لقوله في تمام الرواية ليس ذلكمن البر، فيكون كقول أصبغ على الحد فيفسق وتسقط عدالته. واستشكل ذلك؛ لأن تفسيقه يقتضي أن يكون معصية، وكيف يحكم له الحاكم بالمعصية. وقيل: بالتحليف أن له أن يحلفه ولا يكون جرحة، فانظر هل يأتي هذا القول هنا.

وَلَوْ قَالَ فِي مُنَازَعَةٍ: لَسْتَ بابْنِي حَلَفَ بخِلافِ غَيْرِهِ هذه المسألة في المدونة وغيرها ففيها: وإن قال أنه ليس بولدي وقبلت الأم أو غيرها الحد، وقد كان فارقها أبوه، فإن حلف أنه لم يرد قذفاً وأنه أراد قلة طاعته لهم لم يحد، وإن نكل حد، وإن كانت الأم حيث كان القيام لها دون بنيها، وأخذ الباجي منها أن الحد ثابت إن لم تحلف. خليل: وقد نص عليه في المدونة كما ذكر الباجي، ولو عفا بعضهم لكان لبقيتهم القيام، والمذهب كذلك بخلاف الدم؛ لأن الدم عوضاً وهو المال فلا يبطل حق من لم يعف مطلقاً؛ لأنه وإن بطل في الدم لم يبطل في عوضه، وأما الحد فلا عوض عنه. قال: وقوله: (بخِلافِ غَيْرِهِ) أي: بخلاف غير الأب إذا قال في منازعة لست بابن فلان سواء كان من الأقارب أم لا كالجد والعم والخال، قال في الموازية: فإنهم يحدون، قال في المدونة والعتبية: وأما إن شتموه فلا شيء عليهم إذا كان على وجه الأدب، وكأنه لم يرى الأخ مثلهم إذا شتمه، قال في البيان: يريد إذا قرب منه في السن، وأما إن كان له عليه من الفضل والسن والعقل والسواد ما يشبه أن يكون شتمه إياه أدباً فهو كالجد والعم والخال. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يعود قوله: (بخِلافِ غَيْرِهِ) على التنازع؛ أي: إنما تقبل منه اليمين وسقط عنه الحد في التنازع لأنه قرينة في عصيان الابن لأبيه، وأما إن لم يكن تنازع فلا يقبل منه ذلك ويحد، وظاهر المدونة سقوط الحد عنه مطلقاً. وَالْمُلاعَنَةُ وَابْنُهَا كَغَيْرِهِا أي: لو قال للملاعنة يا زانية حد كغيرها، ولو قال لولدها يا ابن زنى حد له؛ لأن الملاعنة لم يثبت زناها.

وَمُوجَبُهُ ثَمَانُونَ جَلَدَةً عَلَى الْحُرِّ وَنِصْفُهَا عَلَى الرَّقِيقِ أي: الذي يوجبه القذف ثمانون بنص القرآن ونصفها على الرقيق، يعني كاملة ومبعضة، لقوله تعالى: {فَعلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتٍ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وألحق الذكر بالأنثى بقياس ألا فارق، وفي كتاب ابن شعبان على العبد ثمانون إذا قذف حرَّاً؛ لأن الحد للمفعول له، واختاره اللخمي. وَشَرْطُهُ فِي الْقَاذِفِ التَّكْلِيفُ، وَفِي الْمَقْذُوفِ الإِحْصَانُ؛ وَهُوَ الْبُلُوغُ، وَالإِسْلامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعَفَافُ، وَيُخْتَصُّ الْبُلُوغُ وَالْعَفَافُ بغَيْرِ الْمَنْفِيِّ، وَإِطَاقَةُ الْوَطْءِ فِي الْمَقْذُوفَةِ كَالْبُلُوغِ ... قال في التلقين: يراعى في ذلك تسع خصال؛ اثنان في القاذف وخمسة في المقذوف واثنان في الشيء المقذوف به، فما يراعى في المقذوف فالعقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عما رمي به، ويختلف حكم البلوغ في المقذوف بالذكورة والأنوثة، فيراعى في الذكر بلوغ التكليف، وفي الأنثى إطاقة الوطء، وأما ما يراعى في المقذوف به فشيئان أن يكون القاذف بالوطء يلزمه الحد وهو الزنى واللواط أو نفي نسب للمقذوف عن أبيه فقط. انتهى. فقوله: (وَشَرْطُهُ فِي الْقَاذِفِ التَّكْلِيفُ) أي: أن يكون بالغاً عاقلاً فلذلكيحد الكافر؛ لأنه وإن لم يكن مكلفاً بالفروع على أحد القولين فهو مكلف بالإيمان إجماعاً، وروي أن الكافر ينكل من غير تحديد. ابن عبد البر: والأول أصح. واختلف في الحربي، فقال ابن القاسم: يحد. وقال أشهب: لا حد عليه. (وَفِي الْمَقْذُوفِ الإِحْصَانُ ... إلخ) ظاهر التصور، ومنه تعلم أن الإحصان هنا خلاف الإحصان المشترط في الرجم، إذ لا يشترط العقد الصحيح اللازم والوطء المباح.

وقوله: (وَيُخْتَصُّ الْبُلُوغُ وَالْعَفَافُ بغَيْرِ الْمَنْفِيِّ) إذا رمي بزنّى أو لواطن وأما إذا نفي فلا فرق بين أن يكون بالغاً أو لا، عفيفاً أو لا، والظاهر أنه إنما يشترط البلوغ في اللواط إذا كنا فاعلاً، وأما إذا كن مفعولاً به فلا، وهو أولى من الثيب في ذلك. قاله أبو محمد صالح وغيره، وما ذكره [732/ب] المصنف من إطاقة الوطء في المقذوفة كالبلوغ هو المشهور، وقال محمد بن عبد الحكم وابن الجهم: لا حد. ابن عبد البر: ولا يكلف المقذوف إقامة البينة على حرابة أمه ولا عفافها، فإن أقام القاذف البينة على ما يسقط به الحد من رق المرأة أو كفرها أو أنها زانية وإلا حد حدَّ القذف. ونفي المصنف في المقذوف اشتراط العقل وأن تكون معه آلة الوطء، فلا حد على من قذف مجنوناً إذا كان جنونه من حين بلوغه إلى حين قذفه لا تتخلله إفاقة. اللخمي: لأنه معرة عليه لو صح فإن ذلك منه. وأما إن بلغ صحيحاً ثم جن أو كان يجن ويفيق، فإن قاذفه يحد، وكذلك المجبوب إذا كان جبه قبل بلوغه لأنه مما يعلم كذب قاذفه فلم تلحقه معرة، وإن كان حبه بعد البلوغ حد، وكذلك الخصي الذي ليس معه آلة النساء. وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَنْفِيِّ شَرْطُ مَنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ إِلا فِي أَبَوَيْهِ لأَنَّ الْحَدَّ لَهُ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ فُرِّقَ بَيْنَ يَا ابْنَ الزَّانِي أَوِ الزَّانِيَةِ وَبَيْنَ يَا ابْنَ زَنْيَةٍ ... شرط من يحد قاذفه إنما يشترط فيه الإسلام والحرية، وأما البلوغ والعفاف فقد ذكر أنهم يختصان بغيره، وذكرنا نحن أن العقل مساو لهما، فلذلك إذا قال لحر مسلم وهو ابن كافرين أو رفيقين يا ابن الزاني أو الزانية لا حد عليه لأنه لم ينفه، وإنما قذف عبدين أو كافرين، وحد القائل له يا ابن زنية لأنه نفاه عن نسبه وهو حر مسلم، ويستثنى من هذا الصحابي. قيل: قال ابن شعبان أن من قذف أم أحدهم وهي كافرة حد حد الفرية لأنه سب له، فإن كان أحد من ولد هذا الصحابي حياً قام بما يجب له وإلا ممن قاربه من المسلمين، فعلى الإمام قبول قيامه. قال: لويس هذا لحقوق غير الصحابة لحرمة هؤلاء

بينهم. قال: وإن قال في واحد منهم أنه ابن زانية وأمه مسلمة، حد عند بعض أصحابنا حدين؛ حداً له وحداً لأمه، ولا أجعله كقاذف الجماعة في كلمةٍ لفضل هذا على غيره. اللخمي: وإن كان الأبوان حرين مسلمين والولد كذلك، فقال رجل للولد لست لأبيك، حد للولد لقطع نسبه، وللأم لأنه قذفها، فإن عفا أحدهما فإن الآخر علىحقه، ويجزئ في ذلك حد واحد على قول مالك، وهو بمنزلة من قذف رجلاً وقطع نسب آخر، وإن كان الابن وحده حد القائل لقطع النسب وحده، وإن كان عفا لم يكن لأحد أبويه قيام ونكل لهما، وإن فات قبل أن يقوم، أو قيل ذلك له بعد موته كان الحق لأبيه يقوم بحده، وإن كانت الأم وحدها حرة كان الحق له خاصة لقذفها، وإن كان الأب وحده حراً لم يكن لواحد منهما قيام؛ لأنه قطع نسباً عنه وقذف ابنه، وإن كان الأب وحده حراً لم يكن لواحد منهما قيام؛ لأنه قطع نسباً عنه وقذف ابنه، وإن كان الابن والأم حرين حد لهما، وإن كان الابن والأب حرين حد لقطع النسب خاصة، وإن كان الأبوان حرينحد لقذف الأم خاصة، وإن عفت لم يكن للأب في ذلك مقال. قال: وهذا هو الصحيح من المذهب. وقداختلف في الوجه الذي يقصده القاطع النسب ما هو، فقيل: ذلك لأن الأم زنت به، وألحقته بهذا الأب. وقيل: لأن الأب زنى به مع غيرها التي يقول أنها ولدته وقيل: إن ذلك من غير زنَّى، ويحتمل أن يكون أتى به ولم تلده. ثم تمادى اللخمي في هذا الكلام واقتصرنا على هذا لئلا نبعد عن كلام المصنف. وَالْعَفَافُ أَنْ لا يَكُونَ مَعْرُوفاً بمَوَضِعِ الزِّنَى بخِلافِ السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَشِبْهِهِ هكذا نقل في الجواهر عن الأستاذ، فقال: ومعنى العفاف ألا يكون معروفاً بالعلل ومواضع الفساد والزنى، فلو قذف معروفاً بالظلم والغصب والسرقة وشرب الخمر وأكل الربا والقذف يحد له إذا كان غير معروف بما ذكرنا ولم يثبت عله ما رمي به، فإن ثبت أو كان معروفاً بذلك لم يحد قاذفه. ابن عبد السلام وغيره: ومقتضى مسائل المذهب خلافه، وأنه لا يخرجه من الحد إلا أن يكون ممن حد في الزنى أو ثبت عليه في الزنى وإن لم يحد له. واختلف إذا أقام شاهدين

على إقراره بالزنى بناء على أنه هل يثبت الإقرار بمعنى هذين أم لا، وهذا في ظاهر الحكم، وأما الباطن في المدونة أن المقذوف إذا كان يعلم من نفسه أنه زنّى جاز أن يقوم بحد القذف. وقال ابن عبد الحكم: لا يجوز له القيام به. وقال ابن القاسم: إن كان المقذوف يعلم أن القاذف اطلع على زنّى وتحققه فقذفه لأجل ذلك، لم يكن للمقذوف أن يقوم بحقه. واختار بعضهم قول ابن عبد الحكم. وَيَسْقَطُ الإِحْصَانُ بثُبُوتِ كُلِّ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ الْقَذْفِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَوْ كَانَ عَدْلاً ... قوله: (وَيَسْقُطُ الإِحْصَانُ) أي: المشترط هنا لا في الرجم بثبوت كل وطء يوجب الحد، فيخرج وطء البهيمة ووطء الشبهة، ووطء الشبهة قبل القذف أو بعده، ولا يعود إليه الإحصان. وإمكان الإحصان مركب من أربعة أوصاف، لزم انعدامه بانعدام وصف منها، وإنما خص المصنف- والله أعلم- الكلام بما يضاد. ووصف العفاف لأن ما عداه من الأوصاف وهي الصغر والكبر والرق بفرضية الزوال بخلاف سقوط العفاف بوجود الزنى فإنه لازم، فإنه لا يعود بعده أبداً ولو تاب المقذوف وحسنت حالته، وهو مراد المصنف بقوله: (وَلَوْ كَانَ عَدْلاً) فكان بمعنى صار. ابن عبد السلام: وقوله: (بثُبُوتِ) يقتضي أنه لا يسقط [733/أ] إلا بذلك، وهو خلاف ما فسر به العفاف؛ لقوله: (لا يَكُونَ مَعْرُوفاً) فانظره. وَلِلْوَارِثِ الْقِيامُ بحَدِّ الْقَذْفِ وَلَوْ قَذَفَ بَعْدَ الْمَوْتِ يعني: للوارث القيام بحد القذف سواء تقدم القذف على الموت أو تأخر عنه، وهذا مقيد بألا يعفو عنه بعد موته، ولو أوصى بالقيام بذلك يكون للوصي العفو، وإنما لهم القيام والعفو إذا لم يقل شيئاً.

وقوله: (الْوَّارِثِ) مخصوص بغير الزوج والزوجة فإنه لا قيام لهما، واحترز بالوارث ممن لا يرث كابن البنت. وقوله: (الْوَّارِثِ) يحتمل من يرث في الجملة وإن لم يكن إلا وارثاً، وهو قول ابن القاسم، ويحتمل من يرث في الحال وهو مذهب أشهب، ويتضح لك ذلك بالوقوف على كلام اللخمي، فقال بعضهم: وفي دخول العصبة إذا لم يكن هناك من هو أقرب منهم رجال بنات، كالبنات والأخوات إذا انفردن، فقال ابن القاسم في المدونة: القيام لولده وولد ولده وأبيه وأجداده لأبيه ومن قام منهم أخذه لجده وإن كان ثم من هو أقرب منه لأنه عيب يلزمهم، ولا يقوم عصبة مع هؤلاء ولهم أن يقوموا إذا لم يكن أحد من هؤلاء، وتقوم البنات والأخوات والجدات، ولا يقوم الأخ وثم ولد أو ولد ولد وأب أو جد لأب فهم سواء، من قام لهم فله أن يحده، وإن كان غيره أقرب منه فلها الإخوة أو بنات أو أخوات أو جدات أو غيرهن ممن سميناً، فلا قيام له بحد البنت إلا أن يوصي، فأسقط قيام الإخوة والعصبة وسائر النساء. وقال أشهب: ذلك للأقرب فالأقرب، فلا قيام لابن العم مع الابن، ولا عفو ثم الابن ثم الأب ثم الأخ ثم الجد ثم العم، وكذلك قراباته من النساء الأقرب فالأقرب. وقول ابن القاسم أحسن؛ لأنه عيب يشملهم إلا العصبة فإن قبلهم ضعيف. قال اللخمي: لم يختلف أحد من نسبه يقوم له بذلك ولا أوصى بالقيام لم يقم بذلك. وهذا على القول أنه حق للمقذوف، وعلى القول أنه حق لله سبحانه وتعالى يقوم به الإمام. فرع: وإن قذف غائباً فإن كان قريب الغيبة لم يكن لولده ولا لغيره قيام ويكتب للمقذوف في ذلك. واختلف في بعيد الغيبة، فلابن القاسم في المدونة: لا يقوم بحده ولده ولا غيره.

محمد: وقيل ذلك لولده. ولابن القاسم في الواضحة: ذلك للولد في أبيه وأمه ولس ذلك لغيره من الأقارب. واختلف على نفي الحد هل يسجن حتى يقوم المقذوف، فقال ابن الماجشون: يسجن حتى يأتي من له عفو أو قيام بالحد. اللخمي: وظاهر المدونة أنه لا يعرض له بشيء لا من حد ولا من غيره. وَلَوْ قَذَفَ قَذَفَاتٍ لِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ فَحَدٌّ وَاحِدٌ عَلَى الأَصَحِّ. وَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ بكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ... ظاهره أن الخلاف في الصورتين وليس كذلك، فإن الخلاف إنما هو في الثانية، وأما الأولى إذا قذف واحداً مرات فيكتفي بحد واحد من غير خلاف، والأصح مذهب المدونة، قال: وإن قام بها أحد يضرب له كان ذلك للضرب لكل قذف تقدمه، ولا يحد لمن قام به منهم بعد وسواء كان في مجلس أو مجالس. والقول الثاني حكاه ابن شعبان فقال: ومن أصحابنا من قال: يحد بعده من قذف سواء كان مفترقاً أو بكلمة واحدة. وخرجه الأستاذ أبو بكر على الخلاف في حد القذف هل هو حق لله أو للآدمي، ولم أقف على القول الثاثل، ونقل اللخمي عن المغيرة وابن دينار أنهم إن أقاموا جميعاً فحد واحد لهم، وإن افترقوا فلكل واحد منهم حد، واختاره ابن رشد. وَلَوْ حُدَّ ثُمَّ قَذَفَ ثَانِياً حُدَّ ثَانِياً عَلَى الأَصَحِّ لاتصوره ظاهر. محمد: ولو قال بعد أن حد له ما كذبت عليه ولقد صدقت حد ثانياً، لأنه حد مؤتَنَف ولأن الأصل قد مضى لسبيله. وذكر أبو عمران أنه لا يحد له ثانياً بل يزجر عن ذلك فقط لأنه قد تبين كذبه بالحد ولم تبدو لذلك معرة.

وَلَوْ حُدِّ بَعْضَهُ ثُمَّ قَذَفَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُسْتَانَفُ حِينَئِذٍ إِلا أَنْ يَبْقَى يَسِيرٌ فَيُكَمَّلُ ثُمَّ يُسْتَْنَفُ، وَقَالَ أَشْهَبُ مِثْلُهُ إِلا أَنْ يَمْضِيَ يَسِيرٌ فَيَتَمَادَى وَيُجْزِئُ لَهُمَا ... ما نسب لابن القاسم هو له في الموازية وبه قال ربيعة، وفسر محمد اليسير بمثل العشرة والخمسة عشر. قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ) والباجي هو عندي على ثلاثة أقسام، إن ذهب منه اليسير تمادى وأجزأ الحد لهما، وإن مضى نصفه أو نحوه استأنف فكان ما بقي من الحد الأول لهما، ثم يتم المقذوف الثاني بقية حده، وإن لم يبق من الحد الأول إلا اليسير أتم الأول واستأنف الثاني، وإليه ذهب ابن الماجشون. وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ عَلَى الأَصَحِّ، وَلِذَلِكَ يُوَرّثُ وَيَسْقُطُ بالْعَفْوِ الأصح ومقابله روايتان. القاضي أبو محمد: والصحيح أنه من حقوق الآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف، وحقوق الله تعالى لا تورث لأنه لا يستحق إلا بمطالبة الآدمي، ولم يرتضِ صاحب المقدمات هذه الطريقة بل قال: لا خلاف أن القذف حق للمقذوف، وإنما اختلف هل يتعلق به حق الله تعالى فلا يجوز العفو عنه بلغ الإمام أم لا وهو مذهب أبي حنيفة وعليه قول رواية أشهب، ويأتي على قياس هذا أن حد القذف يقيمه الإمام إذا انتهى إليه، رفعه صاحبه أم لا أو لا [733/ب] يتعلق به حق الله تعالى، ولصاحبه العفو عنه ولو بلغ الإمام، وهو أحد قولي مالك في المدونة، أو هو حق لصاحبه ما لم يبلغ الإمام فيصير حقاً لله تعالى، ولا يكون لصاحبه العفو عنه إلا أن يريد ستراً وهو أحد قولي مالك.

وَعَلَيْهِمَا لُزُومُ الْعَفْوِ قَبْلَ بُلُوغِ الإِمَامِ وَتَحْلِيفِهِ عَلَيْهِ فعلى الأًح يسقط العفو لا على مقابله، وقد تقدم هذا من كلامه في المقدمات، واعتراض ابن عبد السلام هنا عليه ليس بظاهر، ويجري أيضاً على القولين لو ادعى على القاذف أنه عفي عنه، فعلى الأًح يتوجه عليه اليمين على المشهور في توجه دعوى المقذوف كدعوى القاتل على الولي العفو على أنه حق لله لا يحلف لأنه ليس له إسقاطه. وقول ابن عبد السلام أما عدم توجيه الدعوى على أنه حق لله فصحيح، وأما توجيهها بتقدير كونه حقاً لآدمي ففيه نظر، إنما يتم أن لو كان حقاً مالياً، وأما البدني فلا ليس بظاهر. وَأَمَّا بَعْدَهُ فَأَجَازَهُ مَرَّةً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ أَرَادَ سِتْراً عَلَى نَفْسِهِ أي: بعد بلوغ الإمام، فأجاز مالك عفوه مرة، وكلامه ظاهر التصور. والقول الثاني في كلام المصنف أنه ذكره في المدونة تقييد الثاني ففيها: وكان مالك يجيز العفو بعد أن يبلغ الإمام ثم رجع فلم يجزه عند الإمام إلا أن يريد ستراً. لكن نقل أبو عمران ثلاث روايات على نحو كلام المصنف، وقيد ابن المواز إرادة الستر فقال: وهذا إذا قذفه في نفسه، وأما إن قذف أبويه أو أحدهما- وقد مات المقذوف- فلا يجوز العفو عنه بعد بلوغ الإمام. وقاله ابن القاسم وأشهب. محمد: ويجوز عفو الولد عن الأب عند الإمام. قاله مالك وأصحابه- رحمهم الله- إذا قذفه في نفسه، وأما إن قذف أباه وقد مات، أو قذف أمه وقد ماتت، فلا عفو فيه بعد بلوغ الإمام كأبيه، وأما عن جده لأمه فلا. ابن عبد السلام: قال في المقدمات: ويعرف إرادة الستر بأن يسأل الإمام خفية عن حال المقذوف، فإن بلغه عنه أن الذي قيل فيه الآن أمر قد سمع وأنه يخشى أن يثبت عليه أجاز عفوه، هذا معنى كلامه، وقاله أصبغ. وقيل: أن يكون ضرب الحد قديماً، فيخاف أن

يظهر عليه الآن. وفسره ابن الماجشون بأن يكون مثهل يفعل ذلك، فيجوز عفوه ولا يكلف أن يقول أردت ستراً، وأما العفيف الفاضل فلا يجوز عفوه. وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ قَذَفَهُ بغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَمْ يَحْلِفْ إِلا بشَاهِدٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُبسَ أَبَداً اتِّفَاقاً حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ... قوله: (يَحْلِفُ) هو الأصل، وحكى في البيان ثلاثة أقوال: الأول: أنه يحلف. والثاني: ليس له تحليفه، وهما لمالك في العتبية. والثالث لابن القاسم في سماع أصبغ: لا يمين عليه إلا أن يكون مشهورا بذلك. فإن حلف على رواية أصبغ أو على قول ابن القاسم إذا كان مشهوراً بذلك. فإن حلف على رواية أصبغ أو على قول ابن القاسم إذا كان مشهوراً بذلك برئ، وإن نكل سجن حتى يحلف ما لم يطل، فإن طال خلي سبيله ولم يؤدب. وقال أصبغ: يؤدب إذا كان معروفاًبالأذى وإن كان مبرزاً فيه خلد في السجن. وإن قام له شاهد فثلاثة أقوال: الأول: أنه يحلف فإن نكل حبس ما لم يطل، فعلى ما تقدم هل لا يؤدب أو يؤدب إن كان معروفاً بذلك. والثاني: إن كان معروفاً بالشتم والسفه عذر ولم يحلف، وإن لم يكن معروفاً بذلك استحلف. والقولان لملك في سماع أشهب. والثالث: أنه يحلف مع شاهده ويحده له. روي ذلك عن مطرف، وهو شذوذ في المذهب أنه يحد في الفرية باليمين مع الشاهد. ويتخرج في المسألة قول رابع: أنه لا يحلف مع شاهده في الفرية، ويحلف فيما دون الفرية من الشتم الذي يجب فيه الأدب. انتهى بالمعنى. وهذا يعلم قول المصنف فإن نكل حبس أبداً اتفاقاً ليس بظاهر؛ ولذلك اعترض عليه لأن ابن المواز نقل عن ابن القاسم أنه إذا طال حبسه خلي.

السرعة

السَّرِقَةُ الجوهري: سُرق مالٌ يسرق سرقاً بالتحريك، والاسم السرق والسرقة بكسر الراء فيهما، وربما قالوا سرقت مالاً. وحدها اصطلاحاً: أخذ المال خفية من غير أن يؤتمن عليه. ولا خفاء في تحريمها كتاباً وسنة وإجماعاً. الْمَسْرُوقُ مَالٌ وَغَيْرُهُ. فَشَرْطُ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ نِصَاباً بَعْدَ خُرُوجِهِ مَمْلُوكاً لِغَيْرِ السَّارِقِ مِلْكاً مُحْتَرَماً تَامَّاً لا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ مُحْرَزاً مُخْرَجاً مِنْهُ إِلَى مَا لَيْسَ بحِرْزٍ لَهُ اسْتِسْرَاراً ... يعني: للسرقة أركان أولها المسروق، وهو ينقسم إلى مال وغيره، فللمال شروط تسعة: أولها: النصاب، واحترز بما دونه. والثاني: أن يكون نصاباً بعد خروجه، ولا يعتبر ذلك وهو في حرزه إذ يتلف منه شيء قبل خروجه. الثالث: أن يكون مملوكاً لغير السارق، واحترز به من سرقة ما ورثه أو ما هو له وهو رهن أو مستأجر. الرابع: أن يكون محترماً، احترازاً من سرقة ما لا حرمة له كالخمر والخنزير. الخامس: أن يكون ملكاً تامَّاً، احترز به من سرقة ما له فيه شرك. السادس: ألا يكون له في المسروق شبهة، احترز من سرقة الأب مال ابنه، ومن سرقةٍ من غريمه المماطل جنس حقه. السابع: أن يكون محرزاً، اتحرز به من [734/أ] غيره فلا قطع فيه، كالمخلي في السوق على غير وجه العادة.

الثامن: أن يخرجه من حرزه إلى ما ليس بحرزه، وهو ظاهر. التاسع: أن يكون استسراراً، احترز به من الأخذ اختلاساً أو مكابرة أو غصباً. ثم أخذ المصنف يتكلم علها أولاً فأول، فقال: وَالنِّصَابُ ربُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ يُسَاوِي ثَلاثَة دَرَاهِمَ. وقِيلَ: أَوْ يُسَاوِي أَحَدَهُمَا إِنْ كَانَا غَالِيَيْنِ. وَقِيلَ: أَوْ يُسَاوِي مَا يُبَاعُ بهِ غَالِباً مِنْهُمَا ... يعني: إن سرق ربع دينار قطع ولا التفات إلى قيمته، وكذلك إن سرق ثلاثة دراهم خالصة ولا التفات إلى كونها تساوي ربع دينار، وأما إن سرق غيرهما فالمشهور أنه يقوم بالدراهم لأنها أعم؛ إذ قد يقوم بالقليل والكثير. وهكذا صرح الباجي وعياض بمشهورية هذا القول. فإن ساوى المسروق ثلاثة دراهم قطع وإن لم يساوِ ربع دينار، وإن ساوى ربع دينار ولم يساوِ ثلاثة دراهم لم يقطع، وسواء كانت المعاملة بالبلد بالدراهم أو بالدنانير أو بالعروض. هكذا قال معظم شيوخ المذهب، وهو نص ما في الوازية. قال في المقدمات: وما حكاه عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن من سرق عرضاً في بلد لا يتعامل الناس فيه إلا بالعروض أنه يقوم في أقرب البلدان إليه التي يتعامل الناس فيها بالدراهم فخطأ صراح، إذ قد تكون السلعة في البلد المسروق فيه كاسدة وفي البلد الذي فيه الدراهم نافقة. وقوله: (وَقِيلَ: أَوْ يُسَاوِي ... إلخ، غَالِيَيْنِ) وفي الثاني على ما إذا كان أحدهما غالياً، وهو الذي يؤخذ من كلام عياض وغيره؛ لأنه قال: وذهب غير واحد من البغداديين والمغاربة إلى التقويم إنام هو لعامة البلاد من دنانير أو دراهم، وأن معنى قوله في الكتاب: يقوم بالدراهم أنها معاملتهم، وإن كانت المعاملة بهما جميعاً بالتقويم بأكثرهما معاملة به كسائر التقويم في المقومات. وقال ابن عبد الحكم: نصاب السرقة ربع دينار من

الذهب أو قيمته فيما عداه، وأن التقويم بالذهب على كل حال في كل شيء من الفضة والعروض، فإن الثلاثة الدراهم إذا كانت أقل من صرفه ربع دينار لارتفاع الصرف لا قطع فيها. واعلم أنه اختلف العلماء في القطع هل له نصاب أم لا؟ فذهب جماعة إلى عدم اعتباره، وأن السارق يقطع في القليل والكثير لما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: "لعن الله السارق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" لكن تأوله الجمهور كما قال البخاري: قال الأمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه يساوي ثلاثة دراهم. واختلف القائلون بالنصاب، فقال الليثي وغيره: درهم. وقيل: درهما،. وقيل: ثلاثة دراهم. وقال أبو هريرة وأبو سعيد رضي الله عنهما: أربعة. وقال العراقيون: لا قطع في أقل من عشرة. وقيل: لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم. ومذهبنا أنه لا يقطع إلا في ثلاثة دراهم أو ربع دينار لما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً". وفي الموطأ وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم، فجمع أهل المذهب بينهما. ابن المواز: وما اعتبر فيه النصاب من ذهب أو ورق فإنما ينظر إلى وزنه كان رديئاً أو جيداً نقرة أو تبراً. ابن القاسم في العتبية: وإن لم يجز بجواز العين. محمد: ولا ينظر إلى قيمته. الباجي: يريد إلى ما يزيد بصياغته، يعني كالزكاة، وأما إن كانت الدراهم تجوز عدداً فإن نقص كل درهم منهما خروية أو ثلاث حبات وهي تجوز، فلا قطع فيها حتى تكون قائمة الوزن. أصبغ: فأما مثل حبتين من كل درهم فيقطع. واختار اللخمي خلافه. ابن رشد: وإن نقصت يسيراً وجازت بجواز الوازنة قطع بلا إشكال، وإن نقصت كثيراً وجازت كالوازنة فالصواب أن يدرأ الحد للشبهة قياساً على اعتبار النقصان في نصاب الزكاة.

أشهب: إن كانت الدراهم مقطوعة لم يقطع في ثلاثة دراهم منها. محمد: إذا لم يكن معها نقص. وَلا فَرْقَ بَيْنَ الْحَطَبِ وَالْمَاءِ وَالْفَاكِهَةِ وَغَيْرِهَا نبه بذلك على خلاف أبي حنيفة أنه لا قطع فيما أصله مباح كالحطب والماء، ولا في الأشياء الرطبة المأكولة كالفاكهة. فنبه بقوله: (لا فَرْقَ) إلى قياس هذين النوعين على غيرهما بجامع التمول. وَالْمُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ باعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ شَرْعاً فَيُقَوَّمُ حَمَامُ السَّبَقِ وَطَائِرُ الإِجَابَةِ بانْتِفَاعِهِ ... يعني: أن المسروق إنما يقوم باعتبار المنفعة الشرعية، فيقوم العود والطنبور باعتبار حسنه وما فيه لا باعتبار صنعته فيقوم السمان والدرة وأبو زريق والغراب الذي يتكلم باعتبار لحمه، ويقوم حمام السبق وطائر الإجابة- أي يجيب إذا دعي كما في بعض البلابل والعصافير- بانتفاعه، على أنه ليس فيه ذلك لأنه ليس فيه غرض شرعي. وفي بعض النسخ: فنتفاعه وهي على حذف الصفة [734/ب] أي بانتفاعه الشرعي. وقيد اللخمي والتونسي حمام السبق بأن يكون للعب، أما لو كان ليأتي بالأخبار فيقوم على ما علم منه من الموضع الذي يبلغه. وَفِي سِبَاعِ الطَّيْرِ الْمُعَلِّمَةِ قَوْلانِ أي: وفي تقويم، قال ابن القاسم: تقوم باعتبار ما فيها من التعليم، كما أنه يضمن القيمة لمالكها باعتبار التعليم وإن كان التلف محرماً. وقال أشهب: يقوم كله بغير ما فيه كان بازياً أو غيره. قال: وهو نحو قول مالك في قتل المحرم إياه. واختار التونسي وغيره الأول لأن الصيد مباح، إلا أن يكون لقوم يريدون به اللعب.

وَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوساً أَوْ ثَوْباً دُونَ النِّصَابِ فِيهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لا يَشْعُرُ بهَا قُطِعَ بخِلافِ خَشَبَةٍ أَوْ حَجَرٍ فِيهِمَا ذَلِكَ ... بين بهذا أن المعتبر إخراج النصاب إذا كان معتاداً، ومسألة الفلوس ذكرها ابن شاس وبقية كلام المصنف في المدونة. وقيد اللخمي الثوب فقال: إنما هو في المصرور وشبهه، وأما لو كان قميصاً حلف وقال: لم أعلم بما فيه لكانت شبهة. فحلف ويدرأ عنه القطع، أخذه ليلاً أو نهاراً. ونص في العتبية على أن الفراش والمخدة والمرفقة إذا كان فيهن ذهب يقطع، وحكى في البيان الاتفاق على ذلك. اللخمي: وأما العصا فإنما يصدق إذا أخذها ليلاً ولا يصدق إذا كان نهاراً؛ لأنه لا يخفى إلا أن يكون أخرجها من مكان مظلم، ولو كان الذهب قد نقر له في خشبة لصدق أخرجها ليلاً. ولأصبغ فيمن سرق ليلاص عصا ما لا يفضض وفيها فضة ظاهرة ثلاثة دراهم فأكثر، فإن رأى أنه لم ينظر الفضة فلا قطع عليه إلا أن يكون ثمنها ثلاثة دراهم من غير فضة. وأقام صاحب البيان قوله في المدونة مثل قول ابن كنانة فيمن آلى لا يأخذ من فلان درهماً، فأخذ منه قميصاً فيه دراهم مصرورة، وهو لا يعلم به، ثم علم ورده أنه إن كان مما سترجع في مثله الدراهم فهو حانث وإلا فلا. وفي نوازل أصبغ: لا شيء عليه. ولابن القاسم في المبسوط أنه حانث على أصله. تدور المدونة فيمن حلف ما له مال، وله مال ورثه لم يعلم به أنه حانث إلا أن يعلم بعلمه ورده. ابن عبد السلام وغيره: بأن الحنث يقع بأدنى سبب، والحد يدرأ بالشبهة. وَلَوْ تَكَرَّرَ بمِرَارِ مِنْ بَيْتٍ فِي لَيْلَةٍ سَرَقَ مِنْهُ مِرَاراً فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَقَلَّ مِنَ النِّصَابِ، وَفِي الْجَمِيعِ نِصَابٌ لَمْ يُقْطَعْ، وَقَالَ سُحْنُونَّ: إِلا فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ ... أي: النصاب، والأول مذهب ابن القاسم في العتبية وغيرها، قال في السارق عشر مرات وكل ذلك يخرج بقيمة درهم أو درهمين: لا قطع عليه. وقال سحنون: إذا سرق

الطعام في فور واحد فيقطع. وهذا من جهة الحيلة و ... إلى أحد أقوال الناس. ونقل اللخمي عن مالك مثل قول سحنون، ونص على أنه خلاف لقول ابن القاسم، ولم يجعل في البيان قول سحنون خلافاً، وحمله على الطعام والمتاع الذي لا يمكنه إخراجه دفعة، قال: لان ذلك سرقة واحدة، وحمل قول ابن القاسم على أنه إنما عاد عشر مرات لينظر ما يسرقه سوى ما سرق. وَلَوِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي حَمْلِ نِصَابٍ، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ لا يَسْتَقِّلُ أَحَدُهُمَا قُطِعاَ وَلَوْ كَانَ نِصَابَيْنِ قُطِعَا ... اثنان فأكثر في إخراج نصاب من حرزه، ولا خلاف في قطع الجميع إذا ناب كل واحد نصاباً، والقول بقطع الجميع سواء كانت السرقة مما يمكن أحدهم الانفراد أم لا، حكاه ابن القصار وابن الجلاب. والقول الثاني: لا أعلم قائله، نعم أشار التونسي واللخمي إلى أنه القياس لأن القطع فرع عما يغرم. والثالث: مذهب المدونة وهو المشهور. اللخمي: ولو كان المسروق لا يستطيع أن يخرجه اثنان فأخرجه أربعة جرت على الخلاف في الخفيفة، فإن حملوها على أحدهم وهي ثقيلة لا يستطيع أن يحملها جميعهم عليه، قطع الخارج والمعاملون عليه عند ابن القاسم. وقال أبو مصعب: لا يقطع إلا الخارج. ووافق على قطع جميعهم إذا حملوها على دابة، وفي معناها المجنون والصبي. اللخمي: وقد اختلف في هذا الأصل إذا قربوا المتاع إلى النقب فأدخل الخارج يده فأخذه أو ربطوه له فجره الآخر وأخرجه، فقيل: يقطعون لأنهم السبب لخروجه. وقيل: لا يقطعون لأن معونتهم في داخل الحرز وهو أشبه.

تنبيه: الخلاف الذي ذكره المصنف إنما هو إذا كانا أجنبيين، أما لو كان أحدهما أباً لرب المسروق فلا قطع؛ لأن الأجنبي دخل بإذن من له في المال شبهة. وَلَوِ اشْتَرَكَ فِي نِصَابٍ مَعَ صَبيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ قُطِعَ دُونَهُمَا أي: لو اشترك المكلف قطع؛ لأن درأ الحد لمي كن شبهة في المال فليس كالأب، وإنما كان لعدم التكليف. اللخمي: ويختلف لو سرق مع الأجداد أو الزوجة أو الضيف، فمن أسقط الحد عن هؤلاء أسقط عن الأجنبي من لم يسقطه عنهم لم يسقط عن الأجنبي. محمد: وإن سرق مع عبد من موضع أذن له السيد في دخوله لم يقطع الأجنبي، وإن كان في موضع لم يؤذن له فيه قطع الأجنبي. يريد: لأن درأ الحد عن العبد لم يكن لشبهة له في المال، وإنما درأ لأن القطع ذب عن الأموال، فإذا قطع [735/أ] عبده كانت زيادة عليه في المصيبة. وَلَوْ سَرَقَ مِلْكَهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ أَوِ الْمُسْتَاجِرِ، أَوْ مَلَكَهُ بإِرْثٍ قَبْلَ فَصْلِهِ مِنَ الْحِرْزِ فَلا قَطْعَ ... هذا راجع إلى القيد الثاني وهو قوله: (مَمْلُوكاً لِغَيْرِ السَّارِقِ) فلا قطع في ملكه سواء تعلق به حق الغير كالمرتهن والمستأجر أو لا كالموروث قبل إخراجه من الحرز، فإن مات رب المتاع وكان السارق وارثه، أما لو ورثه بعد خروجه أو وهب له فإنه يقطع، ولو دخل على السارق فباعه ثوباً فخرج به المشتري ولم يعلم أنه سارق لم يقطع واحد منهما. قاله اللخمي. محمد: وإن سرق أحدهما ديناراً فقضاه الآخر قبل أن يخرج، أو أودعه إياه كان القطع على الخارج، وكذلك لو باعه ثوباً.

وَلَوْ كَذَّبَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ قُطِعَ بإِقْرَارِهِ يعني: إذا أقر أنه سرق من فلان شيئاً وكذبه فلان فإنه يقطع السارق لإقراره؛ يريد: ويبقى ذلك الشيء للسارق إلا أن يدعيه ربه. قال في المدونة: ومن شهدت عليه البينة أنه سرق هذا المتاع من يد هذا، فقال السارق، حلفوه أنه ليس لي فإنه يقطع، ويحلف له الطالب ويأخذه، فإن نكل حلف السارق وأخذه ويقطع. وفي رواية: فإنه يقطع إن حلف مدعي المتاع. وفي رواية: ولم يقطع إذا صدقه على ما ذكره. الثاني: أن يحلف المسروق منه أنه ليس بمتاعه. ففي المدونة: تحليفه كما ذكرنا. وفي المدونة: لا يمين عليه ولم يلزم المسروق منه الحلف أنه ما باع ولا وهب لما قامت له البينة على أن المتاع مسروق، وإنما يحلف تلك اليمين من شهد له بالملك فقط. الثالث: هل يقطع إذا وجبت عليه اليمين، فنكل وحلف السارق واستحق المسروق. قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ أَخَذَ مَالاً فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ مَنْزِلِ غَيْرِه، وَقَالَ: هُوَ أَرْسَلَنِي وَصَدَّقَهُ فَإِنْ أَشْبَهَ مَا قَالَ، وَإِلا قُطِعَ. وَقَالَ أَصْبَغُ: يُرِيدُ غَيْرَ مُسْتَسِرًّ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ الإِرْسَالُ. وَقِيلَ: مَتَى صَدَّقَهُ لا يُقْطَعُ ... تفسير أصبغ صحيح على أنك إذا تأملته تجده منتزعاً من قوله في المدونة: وأِبه ما قال إذا أشبه مشروط بأن يدخل من مدخل الناس ويخرج من مخرجهم في وقت يشبه. وزاد في المدونة قيداً آخر وهو أن يعرف ممن وجد معه المتاع انقطاع إلى وبه، ونصها: ولو أخذ في جوف الليل ومعه متاع، فقال: فلان أرسلني إلى داره، فأخذت له من هذا المتاع فإن عرف منه انقطاع إليه، وأشبه ما قال لم يقطع وإلا قطع ولم يصدق. فقوله: (وَإِلا قُطِعَ)؛ يعني: وإن لم يدخل من مدخل الناس ولا خرج من مخرجهم ولا أتى في وقت يشبه قطع. عياض: وقيل: معناه أنه سرقه وأخذه خفية، وكذلك قال في الموازية.

أبو عمران: وهو تفسير المدونة. وقال غيره: إنما لم قطعه وإن أخذه على وجه الاستسرار وبالليل لأنه لم تقم على ذلك ببينة، ولو قامت عليه بينة لم يصدق، وإن كان له إليه انقطاع كما قال في السألة التي قبلها ولم يفصل فيها. قوله: (وَقِيلَ ... إلخ)؛ لأن تصديقه شبهة. ونسبه في الجواهر لعيسى. وَلا قَطْعَ فِي خَمْرٍ وَلا خِنْزِيرٍ وَلا طُنْبُورٍ وَشِبْهِهِ إِلا أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْدَ ذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ الْفَاسِدَةٍ نِصَابٌ ... هذا راجع إلى قوله: (مِلْكاً مُحْتَرَماً)؛ لأن هذه لا حرمة له، إذ لا يجوز تملكها ولا بيعها. قال في المدونة: ولا قطع في الخمر ولو سرقه للذمي؛ لأن للذمي قيمته وشبهه، كمزمار وعود وصليب وصور محرمة. واختلف قول ابن القاسم في الدف والكبر، فروى أصبغ عنه في الواضحة: يقوم مكسوراً. وفي العتبية: يقوم صحيحاً. وهو أظهر؛ لأنه لا خلاف في جواز الدف في الصهر وهو الغربال، نعم اختلف في الكبر، لعل القولين فيه هما مبنيان على هذا الخلاف. وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ) عائد على الطنبور وشبهه. والطنبور: بضم الطاء: الجوهري: وهو فارسي معرب، والطنبار لغة. وَفِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ نِصَاباً قُطِعَ يعني: وأما قبله فلا قطع فيه قاله في المدونة وغيرها، على أنه نص في كتاب الغصب من المدونة على إلزام الغاصب قيمته، وفي غير المدونة لا شيء عليه. والقول بالقطع مبني على أنه يطهر بالدباغ طهارة مطلقة، والقول بعدمه بناء على أن بيعه لا يجوز، وأن ما لا يجوز بيعه لا تقطع فيه. والثالث مذهب المدونة، قيل لأبي مران: كيف يقوم جلد الميتة أن لو كنا يباع للانتفاع وما قيمته مدبوغاً، فما زاد إن كان مقدار ثلاثة دراهم قطع؟ وهو خلاف الظاهر من كلام المصنف قيمة الصنعة، لكن حكى الباجي قولاً كما حكاه

المصنف من تقويم نفس الصنعة وهو ظاهر المدونة، وعلى هذا فهمه صاحب البيان، لكن استشكل تقويم الصنعة، قال: لأنها مستهلكة فيه لا يمكن أن تفصل منه. قال: ولو قيل بعدم القطع على القول بجواز بيعه مراعاة الخلاف ما بعد. أبو عمران في تعاليقه: وينظر إلى قيمته يوم دبغ، ولا ينظر إلى ما ذهب منه بمرور الأيام؛ لان الدباغ هو الذي أجاز للناس الانتفاع به. واختار اللخمي النظ رإلى قيمته يوم سرق، وهو أظهر. وَفِي الْكَلْبِ الْمَاذُونِ قَوْلانِ مذهب المدونة لا يقطع خلافاً لأشهب بناء على أنه لا يقطع إلا فيما [735/ب] يملك ويباع أو فيما يملك فقط، وأقيم من قول ابن القاسم عدم القطع في لحم الأضحية، وقول ابن حبيب أجري على قول ابن القاسم في جلد الميتة، إلا أن الصنعة في الجلد يمكن إفرادها على طريق غير أبي عمران بخلاف الكلب، وفي الزيت النجس قولان كالكلب، أما غير المأذون فلا يقطع فيه اتفاقاً. وَفِي الأُضْحِيَّةِ بَعْدَ الذَّبْحِ قَوْلانِ لا خلاف في القطع إن سرقت قبله، وأما إن سرقت بعده أو سرق لحمها، فقال أشهب في الموازية: يقطع. وقال ابن حبيب: لا يقطع لأنها لا تباع في فلس ولا تورث مالاً ولكن تورث لتؤكل، وهو الجاري على مذهب المدونة في الكلب. ابن عبد السلام: والأول أحسن قياساً على حجارة المسجد، وانظر إذا سرق الهدي قبل نحره. بخِلافِ لَحْمِهَا مِمَّنْ تُصُدِّقَ بهِ عَلَيْهِ أي: فيقطع. ابن شاس: قولاً واحداً. ويتخرج فيها قول بعدم القطع على أحد القولين في سرقة ما يملك، ولا يجوز بيعه كالكلب، فإن المشهور عدم جواز البيع للمتصدق عليه.

وَمَنْ سَرَقَ سَبُعاً يُذَكَّى لِجِلْدِهِ قُطِعَ، وَفِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ... لأن مالكاً يجيز ذكاة السباع لأخذ جلودها فلذلك قطع سارقها. وقال ابن حبيب: بيع جلود السباع العادية والصلاة عليها حرام، وعلى هذا لا يقطع سارقها. اللخمي: وعلى الأول فاختلف هل تعتبر قيمة الجلد بعده أو قبله. فقال ابن القاسم: تعتبر قيمته بعده. قال في المدونة: وأما سباع الوحش التي لا تؤكل لحومها إذا سرقها رجل، فإن كان في قيمة جلودها إذا كنات دون أن تدبغ ثلاثة دراهم قطع؛ لأن لصاحبها بيع جلودها ذكى منها والصلاة عليها. وقيده أبو مران بالسباع العادية وهي التي ينتظر إلى جلودها، وأما السباع التي لا تعد كالهر فيقطع سارقها. وقال أصبغ: تعتبر قيمة الجلد قبل الذبح. هذا ظاهر لفظه، وعلى هذا الظاهر مشاه ابن عبد السلام، لكن النص عن أشهب في النوادر وغيرها إنما هو اعتبار قيمة السبع حيَّاً. وَلَوْ سَرِقَ مِنْ مَالِ شَرِكَةٍ لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُ فَلا قَطْعَ، وَلَوْ حُجِبَ عَنْهُ قُطِع إن كَان الزَّائِدُ نِصَاباً ... هذا راجع إلى قوله: (تَامًّاً). وتصور كلامه ظاهر، وفسر في المدونة الحجب بأن يودعاه لرجل، قال في الموازية: أو يكون على يد أحدهما. اللخمي: على وجه الاحتراز لم يكن كذلك فهو كغير المحجوب. قوله: (وَلَوْ حُجِبَ عَنْهُ قُطِعَ إن كَانَ الزَّائِدُ نِصَاباً) ظاهره إذا زاد فوق حقه من جملة المال بثلاثة دراهم، وهو ظاهر المدونة والمنصوص لمالك. وقال ابن الماجشون وأشهب وأصبغ: إذا سرق من جملة المال ستة دراهم قطع.

اللخمي: وهو أبين لأنه إذا أخذ ستة من اثني عشر إنما يأخذها على أن نصيبه باق في الستة الباقية ولم يأخذها على وجه المقاسمة، قال: وهذا إذا كان المسروق مما يكال أو يوزن، فإن كان من ذوات القيم نظر إلى قدر قيمته خاصة؛ لأنه ليس له قسمه اتفاقاً. بخِلافِ بَيْتِ الْمَالِ وَالْغَنَائِمِ الْمَحُوزَةِ فَإِنَّهُ كَالأَجْنَبِيِّ عَلَى الْمَشْهُورِ وقع في بعض النسخ عوض (الْمَحُوزَةِ) (المحجورة) وهما بمعنى، وهما بمعنى، واحترز بذلك من الغنائم قبل الحوز فإنه لا قطع فيها بالاتفاق، ومقابل المشهور خاص بالغنائم، وإن كان ظاهر كلامه أن الخلاف فيها لأنهم لم يذكروا في القطع في حق من سرق من بيت المال خلافاً، ثم الشاذ وهو قول عبد الملك مقيد بألا يسرق فوق نصيبه ربع دينار، وأما إن سرق ذلك فيقطع باتفاق. لكن حكى الحفيد الاتفاق في بيت المال والغنائم، وقيد ابن يونس الخلاف في الجيش العظيم، وأما السرقة فتبقى على قول عبد الملك. وَلا يُقْطَعُ الأَبَوانِ بخِلافِ الابْنِ، وَفِي الْجَدِّ قَوْلانِ هذا راجع إلى قوله لا شبهة له فيه، وجعله ابن شاس راجعاً إلى قيد التمام؛ لأن الأبوين لهما الشبهة في مال الابن بخلاف الابن، ولذلك لو وطئ جارية أبيه حد. ونقل ابن خويز منداد عن أشهب وابن وهب عدم القطع إذا سرق من مال أبيه. وفي سماع ابن القاسم أن العبد إذا سرق من مال سيده يقطع. واعترضه القاضي إسماعيل للحديث: "أنت ومالك لأبيك" قال: وأخاف أن تكون المسألة من مال أبي سيده، وصحح أبو إسحاق المسألة ولم يعترضها. وقال يحيى بن يحيى: إن كان في حضانة أبيه لم يقطع وإن أبان عنه قطع. واختلف في الأجداد من قبل الأب والأم، فقال ابن القاسم: أحب إلي ألا يقطع لأنه أب ولأنه ممن تغلظ عليه الدية، وقد ورد: "ادرؤوا الحدود بالشبهات". وقال أشهب: يقطعون لأنهم لا شبهة لهم في ماله ولا نفقة. وتأول بعضهم قول ابن القاسم: أحب على الوجوب، فلا خلاف في قطع باقي القرابات.

وَلا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمٍ مُمَاطِلٍ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَلا مَنْ سَرَقَ لِجُوعٍ أَصَابَهُ لأنه له شبهة. ومفهوم قوله: (مُمَاطِلٍ) أنه لو لم يكن مماطلاص يقطع، وكذلك يفهم من جنس حقه؛ لو سرق من غير جنسه أنه يقطع وفيه نظر. وقد قدم المصنف في باب الدعوى إذا قدر [736/أ] على غيره ثلاثة أقوال، ثالثها إن كان من جنسه جاز. فإن قلت ينبغي قطعه على القول بأنه ليس له ذلك. قيل: يحتمل ذلك ويحتمل أن يقال بعدم القطع مراعاة للخلاف، والله أعلم. والذي نقله ابن عبد البر عن مالك من رواية ابن القاسم خلاف هذا كله، فقال: وروى ابن القاسم القطع على من سرق من مال غريمه مثل دينه، وخالفه أكثر الفقهاء من أصحاب مالك وغيره، لتجويزهم له أخذ ماله من مال غريمه كيفما أمكنه، وقد روى ذلك ابن وهب وابن دينار عن مالك. وقوله: (وَلا مَنْ سَرَقَ لِجُوعٍ أَصَابَهُ) أي: جوعاً شديداً يخشى معه التلف؛ لأنه حينئذٍ تجب المواساة فكان مأذوناً له في الأخذ. وروى ابن عمر رضي الله عنه: يقطع عام الزيادة. وَالْحِرْزُ، مَا لا يُعَدُّ الْوَاضِعُ فِيهِ فِي الْعُرْفِ مُضَيِّعاً لِلْمَالِ هذا راجع إلى قوله: (مُحْرَزاً). ونسب عدم التضييع لأن التضييع والحفظ أمران سيان لا ينضبطان إلا بالعرف، فقد يكون الشيء محفوظاً في مكان مضيع في غيره، ومحفوظاً بالنسبة إلى شخص دون شخص، وبهذا يندفع إيراد من أورد عليه بعض مسائل الوديعة، كمن أودع دراهم فوضعها في صحن داره فأخذها ولده أو زوجته فإنه يضمن لتضييعها، ولو سرقها سارق من أي موضع كان لقطع. وجواب ما ذكرنا وهو أنه مضيع لها بالنسبة إلى ولده، وممن يدخل عليه بإذن وبغير إذن، وحافظ بالنسبة إلى السارق. فإن قيل: يلزم أن يضمنها إذا أخذها ولده أو خادمه، ولا يضمنها إن سرقها سارق لأنه غير

مضيع بالنسبة إليه. قيل: هذا وإن كان هذا ظاهر إلا أنه عارضه أصل آخر، وهو أن الوديعة تضمن بالتفريط إذا ضاعت بالوجه الذي يتقى عليه منه سواء أخذها من يخشى عليها منه أو غيره، والمشهور على اعتبار الحرز، خلافاً لبعض أهل الحديث وبعض الظاهرية، لمارواه الترمذي وصححه عنه عليه الصلاة والسلام: "وليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" ورواه النسائي عنه عليه الصلاة والسلام:"لا قطع في كثر ولا تمر" والكثر الجمار. فَالدُّورُ وَالْحَوَانِيتُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا وَإِنْ غَابَ أَهْلُهَا، وَأَفْنِيَةُ الْحَوَانِيتِ حِرْزٌ لِمَا يُوضَعُ لِلْبَيْعِ، وَعَرْضَةُ الدَّارِ، وَسَاحَةُ الْخَازِنِ حِرْزٌ لِلأَثْقَالِ وَالأَعْكَامِ مُطْلَقاً، وَحِرْزٌ لِغَيْرِهَا لِلأَجْنَبيِّ .. إذ لا يعد الواضع في جميعها مضيعاً. وقوله: (وَإِنْ غَابَ) نحوه في المدنة، زاد فيها: سرقه في ليل أو نهار. وفي الموازية: في مثل يبيعونها في القفاف ولهم حصير يعطونها بالليل وذلك بأفنية حوانيتهم، فقال صاحبها لحاجةوتركها بحالها، فقال: لا قطع على من سرق منه. اللخمي وغيره: وفرق بين ما ثقل نقله ويخف. ولم يرَ ذلك في تابوت الصيرفي وإن كان مبنياً؛ لأن ما يعمل فيه مما يخف نقله. ونص ابن القاسم على القطع في تابوت الصيرفي يقوم عنه صاحبه لحاجة، وقاله أشهب، قال: ولا فرق بين المبني وغيره إلا أن يكون شانه أن يتصرف به كل ليلة فنسيه فلا قطع على أخذه، ولا إشكال في أن الحوانيت حرز لما فيها إذا كان صاحبها فيها. اللخمي: والسارق من البزاز إذا أطلعه حانوته على ثلاثة أوجه، إن كان دفع إليه شيئاً ليقبله أو ليختار منه وأباح له أن يقلب صنفاص فسرق منه لم يقطع منه، وإن مد يده إلى غيره من المتاع مما هو إلى جانبه لم يقطع عند مالك، وقطع على قول عبد الملك، والأول أشهر لأنه

كالمرتهن عليه، وإن سرق من تابوت المتاع لم يقطع على أحد القولين في الضيف، والقطع أبين. وإن سرق من الحانوت من لم يؤذن له في طلوعه، ولا أن يتناول منه قطع، وإن أذن له أن يقلب منه شيئاً لم يقطع وإن كان لم يطلعه، وإن غاب على حانوته وترك متاعه على حاله ولا أحد مه قطع سارقه. انتهىز ابن عبد البر: ون سرق من حانوت تاجر في سوق كبيرة أو صغيرة في ليل أو نهار ما يقطع في مثله قطع، إلا أن تكون فيه سارية لها أبواب وحيطان محدقة بها، فإنها بالليل خاصة حرز واحد، ولا قطع عليه حتى يخرج منها بسرقته. قوله: (وَعَرْصَةُ الدَّارِ ... إلخ) العرصة لغة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. قاله الجوهري. والمراد هنا قاعة المدار. والأعكام: جمع عكن بالكسر. الجوهري: العدل. وأراد بالإطلاق أنه لا فرق بين الأجنبي والساكن معه. ابن عبد السلام: ويتعين هنا أن يريد المصنف بعرصة الدار المشتركة المأذون فيها لأهلها ولغيرهم؛ لعطف ساحة الخازن عليها، والمعنى على هذا التقدير أن ما وضع في عرصة هذه الدار وساحة الخازن من الأوعية العظيمة أو مما يثقل، قطع سارقه كان من أهل الدور أو من غيرهم، وإن وضع ما يخف ثقله فموضعه حرز على الأجنبي وحده. انتهى. ورد بأن ساحة هذه يستوي فيها الأجانب وغيرهم، ولا يقطع من سرق من ساحتها ما يخف ثقله كان أجنبيَّاً أو غيره، نص عليه في المدونة وغيرها. وعلى هذا فيحمل كلام المصنف على الدار المشتركة بين ساكنيها المحجورة من غيرهم، والحكم فيها كما ذكر المصنف. قال في المقدمات: والدور ستة: الأولى: أن يسكنها وحده ولا يأذن فيها لأحد، فهذه كل من سرق منها فأخرجه من الدار قطع اتفاقاً، [736/ب] وهذه تندرج في قول الشيخ: فالدور والحوانيت حرز.

الثانية: أن يأذن فيها ساكناً أو مالكاً الخاص من الناس كالضيف، أو يبعث رجلاً إلى داره ليأتيه من بعض بيوتها بشيء، فاختلف إذا سرق الضيف أو الرجل المبعوث من بيت مغلق قد حجر عليه دخوله على قولين: أحدهما قوله في المدونة والموازية: أنه لا يقطع وإن خرج بما سرق من جميع الدار؛ لأنه خائن وليس بسارق. الثاني: قول سحنون: أنه يقطع إذا أخرجه إلى الموضع المأذون فيه كالشركاء في الساحة، يخرج به من جميع الدار، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه نص في المدونة والموازية أنه خائن وليس بسارق، ولا يقطع خائن على حال. الثالثة: أن ينفرد الرجل بسكناها مع زوجته عن الناس، واختلف إن سرقت الزوجة أو أمتها من مال الزوج من بيت قد حجر عليهما، أو أخلفه دونها، أو سرق الزوج أو عبده من مال الزوجة من بيت حجرته عليه على قولين: أحدهما: أنه يقطع من سرق منهما إذا أخرجه من البيت المحجور وإن لم يخرج عن جميع الدار، وهو ظاهر المدونة ونص قول سحنون، كالمتجائزين بالسكنى في الدار الواحدة؛ لأنه إذن محكوم به في الموضعين. وحكى عبد الحق أن لمالك في الموازية أنه لا يقطع حتى يخرج به من الدار وليس بصحيح؛ لأنه نص في أول المسألة على أنه لا يقطع وإن خرج به من الدار، فيتأول ما وقع له في آخرها على الأجنبي ولا تناقص. الرابعة: ذات الإذن العام، كالعام والطبيب يأذن للناس في دخولهم إليه، فيقطع من سرق من بيوتها المحجورة إذا خرج بالسرقة عن جميع الدار؛ لأن بقية الدار من تمام الحرز إذ لا يدخل إلا بإذن، وفارق الضيف خص بالإذن فصار له حكم الخائن بائتمانه، ولا يقطع من سرق منقاعتها وما لم يحجر عليه من بيوتها اتفاقاً. الخامسة: المشتركة بين ساكنيها المباحة لجميع الناس كالفناديق وقاعاتها كالمحجة، فمن سرق من بيوتها من الساكنين أو غيرهم وأخذ في قاعتها قطع بالاتفاق.

والسادسة: الدار المشتركة بين ساكنيها المحجورة على الناس، فلا خلاف أن الساكن يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ، وقد خرج بسرقة إلى قاعة الدور، وإن لم يخرج بها عن الداخل ولا يدخلها بيته أو خرج به عن الدار، إلا أن يكون الذي سرق من قاعتها دابة من مربطها المعروف لها أو ما أشبه ذلك من الإعظام، فحكم من سرق ذلك حكم من سرق من بيت من البيوت. واختلف إن سرق الأجنبي من بيت من بيوت الدار وأخذ في قاعتها، أو سرق ما قوع في قاعتها كالثوب، فيؤخذ خارجها على أربعة أقوال: فقيل: يقطع فيها. وهو نص الماوزية، وهو ظاهر ما في المدونة في الوجه الأول دون الثاني. وقيل بعكسه، وعليه حمل عبد الحق المدونة. وَمَوَاقِفُ الْبَيْعِ حِرْزٌ لِمَبيعٍ، وَإِنْ غَابَ أَهْلُهُ مَرْبُوطَةً أَوْ غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ هو ظاهر، ونحوه في المدونة. قال اللخمي: وقال أبو مصعب: من سرق شاة مربوطة من السوق قطع. وحمله اللخمي على الخلاف الأول أحسن؛ إذ لم يذهب صاحبها عنها لأنها حرز لها، وإن لم يكن معها لم يقطع في الشاة الواحدة؛ لأن الغالب أنها لا تثبت في موضعها، وإن كانت كبيرة قطع. وَمَوَاقِفُ الدَّارِ الْمُتَّخَذَةِ لِذَلِكَ كَذَلِكَ كَفِنَائِهِ وَبَابِ دَارِهِ أي: لذلك؛ أي: للبيع كذلك؛ أي: حرز لموافقة الأمتعة. قال في الموازية: وإن سرق منها من أذن له في نقلها لم يقطع. اللخمي: وإن تعامل عليه رجلان فكان أحدهما يسوم ويقلب، والآخر يسرق قطع الذي سرق وحده. وقوله: (كَفِنَائِهِ وَبَابِ دَارِهِ) تشبيه لإفادة الحكم؛ أي: وكذلك يقطع من سرق الدواب التي في فنائه وباب داره. وظاهر كلامه سواء كانت مربوطة أم لا، وهو خلاف

ظاهر المدونة، ففيها ومن حله من مالكه المعروفة لها فأخذها قطع، وخلاف نص الموازية ففيها: وأما الدابة بفنائه المعروف مربوطة أو على مرودها، والبعير المعقول بمعتاد أو موضع معروف يأكل عليه، فمن سرقه من مثل هذا قطع، وأما إن كان ليس بفناء معروف أو كان مخلى سبيله فلا قطع، ولو شاء قال: وجدته ضالاً. بخِلافِ بَابِ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ إِلا أَنْ يَكُونَ مَعَ حَافِظٍ (السُّوقِ) معطوف على باب؛ أي: خلاف باب السوق، والأول هو الذي في الجواهر لقوله: فإن كانت الدابة بباب المسجد أو بالسوق لم تكن محرزة. ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف ظاهر في باب المسجد، وأشار إلى أنه يخرج الخلاف في السوق من مواق ف الدواب للبيع. وَظُهُورُ الدَّوَابِّ حِرْزٌ ظاهره سواء كان معها أهلها أو لا، وهو مقتضى المدونة، يقطع من سرق من الحانوت أو البيوت غاب أهلها أو لا، وكذلك ظهور الدواب. وفي اللخمي: من سرق من المحمل كان فيه صاحبه أو لم يكن قطع، وهو كالخباء الأعلى. قال محمد بن عبد الحكم: لا يقطع إلا أن يكون معه صاحبه. وفي البيان: المحمل الذي على البعير كالسرج الذي على الدابة، فمن سرقه أو سرق شيئاً منه قطع، إلا أن يكون نخلاً في غير حرز ولا حارس، فلا يكون على صاحبه [737/أ] قطع، كما لو سرق الدابةسرجها وهي مخلاة. وَخِبَاءُ الْمُسَافِرِ حِرْزٌ لِنَفْسِهِ وَلِمَا فِيهِ وَخَارِجِهِ وَإِنْ غَابَ صَاحِبُهُ الضمائر في نفسه وفيه وخارجه، كلها عائدة على الخباء.

وقوله: (وَخَارِجِه) الأقرب أنه مجرور بالعطف على ما قبله، ولهذا وقع في بعض النسخ: (وبخارجه)، وجعل ابن عبد السلام خارجه مرفوعاً بالابتداء، والخبر محذوف؛ أي: خارجه حرز لما فيه، ولا حاجة لذلك. قال في البيان: ولا خلاف أنه حرز وإن غاب عنه هله؛ لأنه قد صار الموضع الذي ينزله من الفلاة منزولاً، وحرز المقاعد لا شركة لأحد فيه، وإن كانوا جماعة مسافرين ضربوا أخبيتهم، فسرق بعضهم بعضاً قطع السارق، ويريد ما لم يكونوا من أهل خباء واحد. ونقل اللخمي عن محمد بن عبد الحكم عدم القطع، وإن لم يكونوا من أهل خباء واحد، ويؤخذ من كلام اللخمي في سرقة الخباء قولان، فإنه قال: قال مالك في المدونة: إذا وضع المسافر متاعه في خبائه أو خارجاً عن خبائه، وذهب لاستقاء ماء أو لحاجة وترك متاعه قطع سارقه. قال: ومن ألقى ثوبه في صحراء، وذهب لحاجة وهو يريد الرجعة ليأخذه فسرقه رجل، فإن كان منزلاً نزله قطع سارقه وإلا لم يقطع. وقال أشهب في الموازية: إن طرحه بموضع ضيعةفلاقطع فيه، وإن طرحه بقرب منه أو من خبائه أو خباء أصحابه فإن كان سارقه من أهل الخباء قطع. وقاله يحيى بن جبير. وقال سحنون: إنما الأمر في الخباء، فإن لم يكن في الخباء فلا قطع. وَالْقِطَارُ كَذَلِكَ سَائِرَةً أَوْ وَاقِفَةً القطار: الإبل المربوطة بعضها ببعض. وقوله: (كَذَلِكَ) أن من سرق منها أو ما عليها قطع، وإن غاب أهلها، هذا مقتضى التشبيه، ولا يشترط كذلك مقطورة، فلمالك في الموازية: وإذا سيقت الإبل غير مقطورة فمن سرق منها قطع، والمقطورة أبين، وكذلك الرواحل، قال: وكذلك الإبل إذا سيقت والدواب إلى المرعى.

وَالسَّفِينَةُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا إِذَا أُرْسِيَتْ أَوْ كَانَ مَعَهَا أَحَدٌ حاصله: أن السفينة حرز لأحد أمرين، إما بالإرساء سواء كان معها أحد، سواء كانت مرساة أم لا، وليس بجيد لأن هذا إنما هو في سرقتها نفسها، وأما في سرقة ما فيها فلا، وحكمها حكم صحن الدار مشتركة بين السكان فيها قاله في البيان، فإن سرق بعد الرقاب من بعض وهو على متاعه قطع وإن لم يخرج من السفينة، وإن قام نه لم يقطع وإن خرج به عنها، وإن سرق منها أجنبي وصاحب المتاع على متاعه، فأخذ السارق قبل أن يخرج منها قطع على اختلاف، وإن لم يكن على متاعه لم يقطع اتفاقاً، وأما إن خرج بما سرق منها فإنه يقطع كان صاحب المتاع معه أم لا، وأما سرقة السفينة فكما ذكره المصنف إن أرسيت للمرسى، أو على قرية تصلح للمرسى. اللخمي: واختلف إذا أرسيت في قرية، وقال ابن القاسم: إذا نزلوا منزلاً ربطوها فيها، وذهبوا لحاجتهم ولم يبق منهم أحد قطع، وقال أشهب في الموازية: لم يقطع كالدابة إذا ربطت في موضع لم تعرف فيه. وَالْمَطَامِيرُ فِي الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا ظاهره سواء اكنت بالحضرة أو لا والمنقول عن مالك في العتبية والموازية خلافه، بقوله: أما ما كان في الفلاة قد أسلمه صاحبه، فلا أرى فيه قطعاً، وأما ما كان بحضرة أهله معروف، فعلى من سرق منها ما قيمته ثلاثة دراهم القطع. وَالْقَبْرُ حِرْزٌ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ نحوه في المدونة؛ أي: فيقطع من أخرج منه من الكفن ما قيمته ثلاثة دراهم، وهو قول عائشة رضي الله عنها، قالت: سارق موتانا كسارق أحيائنا، ونقل مالك في الموأ العمل عليه، وبه قال الجمهور خلافاً للحنفيةن وأقام بعضهم من مسألة المطامير قولاً بأنه لا يقطع في القبر إلا أن يكون قريباً من الديار.

وَالْبَحْرُ لِمَنْ رُمِيَ فِيهِ كَالْقَبْرِ لأنه رمي فيه على وجه الحفظ فأشبه القبر. وَالْجَيْبُ وَالْكُمُّ حِرْزٌ لِمَا فِيهِمَا وكذلك الكف وسواء كانت مصرورة أم لا، وهذا مقيد بغير أهل الصنع، فإنه ليس الكم حرزاً مع بعضهم بعضاً، رواه ابن وهب وأشهب عن مالك وقاله ابن الماجشون، ونص على القطع إذا سرق أحد المصلين من كم الآخر؛ لأنه لم يأذن أحدهما للآخر في الكون هنا والأحكام جرت إليه، واختار اللخمي القطع في المنع إذا سرق من كم صاحبه، قال: وإن سرق نعلين من جملة النعال لم يقطع؛ لأنه مأذون له ومؤتمن عليه معها وإن يسيرة من جملتها فيصير خائناً. وَكُلُّ شَيْءٍ مَعَ صَاحِبِهِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهُوَ مُحْرَزٌ هو ظاهر ويقع في بعض النسخ قبل هذه كلية أخرى: (وكل شيء له مكان فمكانه حرز) وهي أيضاً ظاهرة. اللخمي: والأحرازثلاثة: أحدها: ما حده الغلق وشبهه كالدور والحوانيت، والثاني: الإنسان لما عليه أو معه أو كرسيه وهو يقظان أو نائم، فمن سرق من هذين قطع بلا خلاف، والثالث: ما عداهما كالذي يجعل في الأفنية وعلى الحبل ففيه اضطراب. فرع: في المدونة: ومن جر ثوباً منشوراً على حائط بعضه في الدار وبعضه خارج إلى الطريق لم يقطع؛ لدرء الحد بالشبهة، إذ بعضه في موضع الإباحة، وروي عن ابن القاسم وغيره أنه يقطع بمنزلة ما [737/ب] على البعير، واختلف عن مالك فيما على حبل الصباغ

والقصار، وقال في الغاسل: يخرج الثياب إلى البحر يغسلها وينشرها، وهو معها يسرق منها أنه يقطع بمنزلة الغنم في مراحلها. وَالْحَمَّامُ بالْحَارِسِ حِرْزٌ، وَبِغَيْرِهِ حِرْزٌ عَنِ النَّقْبِ وَالتَّسَوُّورِ يعني: أن الحمام إما أن يكون بحارس أم لا، فإن كان فهو حرز. أبو عمران: وسواء أقامه صاحب الثياب أو صاحب الحمام؛ لأنه أقيم للحفظ فيهما، وقيده اللخمي بما إذا لم يأذن له الحارس في تقليب الثياب، فقال: إن سرق من الحارس من ليس له عنده ثياب قطع، إلا أن يوهمه أن له عنده ثياباً فأذن له في النظر في الثياب فلا يقطع، وإن كان له عنده ثياب فناوله إياه الحارس، فمد يده إلى غيرها قطع. ابن رشد: وحيث قلنا بالقطع فذلك ما لم يدع أنه أخطأ، فإن ادعاه صدق إذا أشبه، قال: وإن كان معها من يحرسها فلا قطع حتى يخرج بها إن كان داخلاً يتحمم لأنه أذن له، وإن دخل للسرقة فأخذ قبل أن يخرج فيجري على الاختلاف في سرقة الأجنبي من بعض بيوت الدار المشتركة، وأما إن لم يكن بحارس، ففي المدونة كما قال المصنف: (وَحِرْزٌ عَنِ النِّقْبِ وَالتَّسَوُّرِ) أي: لأنه لا يؤذن له في الدخول على هذا الوجه، وإنما أذن له في الدخول من الباب. عياض: وقد تشكل هذا المسألة على كثير ممن لم يذاكر، فيظن أنه إنما يقطع من نقب الحمام، ولم يدخل من بابه وليس كذلك، بل كل من دخل الحمام وسرق من نقب أو غيره ممن لم يدخل مع الناس داخل الحمام، أو اعترف أنه جاء لقصد السرقة فإنه يقطع؛ لأن العلة في سقوط القطع الإذن العرفي بالتصرف في ثياب بعضهم فتنحيها ليسعون لأنفسهم أو ثيابهم، بخلاف من اعترف أنه لم يدخل الحمام إلا للسرقة فإنه أذن له. انتهى. ولهذا قال اللخمي بالقطع بالثياب التي في الطيقان سواء كان ممن دخل الحمام أم لا؛ لأنه لا إذن له فيها، وإنما هي لمن سبق إلا أن تكون لهم عادة في المشاركة التوسع في ذلك طيقاناً كباراً.

وَالْمَسْجِدُ حِرْزٌ لِبَابِهِ وَسَقْفِهِ لم يذكر في ذلك خلافاً، لكن اختلف في بلاط المسجد هل يقطع سارقه، ويعسر الفرقبينه وبين باب المسجد، وكلامه يقتضي أنه لا يقطع حتى يخرج بذلك من المسجد؛ لجعله المسجد حرزاً، والصواب لو قال: وموضع الباب والسقف حرز؛ لأنه يجب القطع وإن لم يخرج من المسجد، نص عليه صاحب البيان وغيره، ونص عليه مالك في الواضحة في البلاط والحصر والقناديل. وَفِي الْقَنَادِيلِ ثَالِثُهَا: حِرْزٌ إِنْ كَانَ عَلَيْهَا غَلْقٌ القول بالقطع كان عليها غلق أم لا لمالك، وسُوِّي بين الليل والنهار، وقاله ابن الماجشون وأصبغ، ومقابله لأشهب نظراً إلى الإذن، ورأى في الأول أن الإذن لي سمن قبيل المالك حتى يكون كالضيف، وإنما هو شيء أوجبه الحكم، فلا يرفع القطع، والقول الثالث: لم أرَهُ هنا منصوصاً، نعم أشار اللخمي إلى تخريج قول ابن القاسم الذي في الحصير: إن سرقها نهاراً لم يقطع وإن تعدى عليه ليلاً يقطع، ولما أخذ يوجب ذكره على نحو ما ذكره المصنف، فجعل الليل عبارة عن الغلق. وَفِي الْحُصْرِ إِنْ رُبطَ بَعْضُهَا ببَعْضٍ القطع لمالك، ومقابله لأشهب كما ذكرنا، والثالث لابن القاسم، والرابع لسحنون فرق بين ما يخف نقلها وما لا يخف. اللخمي: وعلى قوله: لا يقطع في القناديل ويقطع في بلاطه. وَالْبُسُطُ الْمَتْرُوكَةُ فِيهِ كَالْحُصْرِ بخِلافِ مَا يُحْمَلُ وَيُرَدُّ إِلا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَافِظٌ ظاهره أن الأقوال الأربعة جارية هنا، ولعلها بالتحريم إذ ليست منصوصة هنا، ويحتمل أن يكون مراده بحكايته التشبيه الواقع في رواية ابن الماجشون، قال في الرواية: إذا

كانت الطنافس تترك فيها ليلاً ونهاراً فهو كالحصر، وأما طنافس تحمل ترد وربما نسيها صاحبها فلا يقطع فيها وإن كان على المسجد قفل؛ لأن الغلق لم يكن من أجله ونحوه لابن القاسم. فرع: نقل ابن الماجشون عن مالك: القطع في حلي باب الكعبة، مالك: ولا قطع فيما سرقه من حلي الكعبة، قال الشيوخ: معناه إذا سرق في قوت فتحه، وإن سرق منه في وقت لم يؤذن فيه ولم يفتح قطع، مالك: وإن كان في المسجد بيت لحصره أو لزكاة الفطر أو غير ذلك، فلا قطع من دخله بإذن، ويقطع من لم يدخله بإذن إذا أخرجه إلى المسجد، وإن وضعت زكاة الفطر في المسجد؛ يعني: وليس ببيت لا يقطع إلا أن يكون معها حارس، قاله مالك واختاره ابن حبيب، ونقل في البيان قولاً آخر بأنها كالحصر يقطع فيها وإن لم يكن لها حارس، وأشار اللخمي إلى أنه يدخل على هذا الخلاف الذي في الحصر. ابن القاسم: وإن جعل ثوبه قريباً منه، ثم قام يصلي فسرقه رجل قطع إذا أخذ وقد قبضه قبل أن يتوجه به، قال: ولو قلت لا يقطع حتى يتوجه، لقلت لا يقطع حتى يخرج من المسجد. وَلا يُقْطَعُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلا فِيمَا [738/أ] حُجِرَ عَنْهُ فِي مَسْكَنٍ آخَرَ قد تقدم في هذا خلاف في الدار الثالث من كلام ابن رشد. عياض: ولا خلاف فيما سرقه أحد الزوجين من صاحبه فيما لم يغلقه دونه ولم يحجره عنه، ولا خلاف في القطع في سرقة أحدهما من الآخر ما هو خارج عن مسكنه ما لم يؤذن له في التصرف فيه. وَيُقْطَعُ وَلَدُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَعَبْدُهُ فِيمَا حُجِرَ عَنْهُ إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي دُخُولِهِ هذا الفرع من بعض النسخ وهو الأظهر؛ لأنه إذا قطع أحد الزوجين فيما حجر عنه، فأن يقطع ولد أحدهما أو عبده من باب أولى.

وَلا يُقْطَعُ الْعَبْدُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ يعني: وإن سرق من موضع محجور وهذا هو المشهور، وقال أبو مصعب: يقطع إذا سرق من موضع حجب عنه، وفي مختصر الوقار نحوه، والأول مذهب الجمهور، وقاله عمرو ابن مسعود رضي الله عنهما. ابن عبد البر: ولا أعلم لهما مخالفاً من الصحابة والتابعين، ورجح أيضاً بأن للعبد شبهة في مال سيده بالاتفاق عليه منه، وليس معاوضة كالزوجة، ولأن القطع حفظ المال، فوي القطع هنا زيادة عليه في المال، قال في الموازية: كذلك لا يقطع العبد المشترك إذاسرق من أحد سيديه، والمكاتب كالعبد نص عليه في المدونة. وَلا يُقْطَعُ الضَّيْفُ، وَلا مَنْ دَخَلَ فِي صَنِيعٍ هذه هي الدار الرابعة المتقدمة من كلام ابن رشد، الصنيع: الطعام يعمل سواء كانلقوم مخصوصين أم لا. وَلا قَطْعَ فِي تَمْرٍ مُعَلَّقٍ حَتَّى يُؤْوِيِيهِ الْجَرِينُ قد تقدم هذا في الحديث، وظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن يكون في حائط عليه غلق أم لا، وهو قول ابن الماجشون قال: إذا كان الحائط محصناً مغلقاً على ما فيه، وفيه التمر والودي واللَّقَط، فما سرق من تمر علىلنخل أو دي أو لقط فلا قطع فيه، ويقطع فيما كان من المربد من قبل أن اللَّقط بمنزلة ما في رؤوسها، وقال ابن المواز: إنما يريد بالحديث في التمر الحرز، قال: ولو دخل السارق داراً فسرق من تمرها المعلق في رأس النخلة، أو كان مجدوداً في منزله لقطع، إذا بلغت قيمته على الرجاء والخوف ربع دينار، وألزمه اللخمي إذا كان النخل والكرم وغيرها عليه غلق، وعلم أنه احتيط عليه من السارق أنه يقطع؛ لأنه جعل الوجه وجود الحرز وعدمه، وظاهر قوله: (حَتَّى يُؤْوِيهَا الْجَرِينُ) أنه

لا قطع فيه حتى يؤويه الجرين، واختلف إذا سرق منه بعد حصاده، وهو في موضع لينقل منه إلى الجرين على ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين أن يضم بعضه إلى بعض فيجب القطع أو لا فلا قطع، لا خلاف في القطع إذا كان عليه حارس، وأيضاً لا خلاف في القطع إذا سرق منه في حال نقله من أجل أنه حامله، وهل لا يقطع في الجرين إلا أن يكون قريباً من البيوت أو يقطع مطلقاً قولان. وَلا فِيمَا عَلَى صَبيِّ أَوْ مَعَهُ مِنْ حُلِيِّ أَوْ ثِيَابٍ إِلا بحَافِظٍ هذا مقيد بقيدين: أولهما: ألا يضبط الصبي ما بيده أو معه، وقال في المدونة: وإذا كان مثله يحرز ما عليه، قطع سارقه مستسراً. وثانيهما: ألا يكون في حرز كدار أبويه، فإن كان في دارهما قطع، إلا أن يكون السارق أذن له في الدخول. وقوله: (إِلا بحَافِظٍ) ظاهر، ولا خلاف فيه، ابن القاسم: وإن أخذ ذلك على وجه الخديعة كسرقة الصبي أو كافر، كان فيه الأدب، والمجنون كالصبي، وجعل اللخمي النائم مثله، قال: وليس في حديث صفوان حيث توسد رداءه فسرق أنه كان نائماً. وَلَوْ نَقَلَهُ وَلَمْ يُخْرِجُهُ لَمْ يُقْطَعْ هذا راجع إلى قوله: (مُخْرَجاً)؛ يعني: ولو نقل السارق المتاع في الحرز من مكان إلى مكان، أو عقده ليرفعه ثم أخذ لم يقطع، ولا نعلم في ذلك خلافاً. وَلَوْ نَقَبَ وَأَخْرَجَ غَيْرُهُ فَإِنْ كَاناَ مُتَّفِقَيْنِ قُطِعاَ وَإِلا فَلا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذا تعاونا فإن فعلهما كفعل واحد، ولا يبعد أن يخرج فيها قول بقطع الخارج فقط، كما قيل: إذا ربطها أحدهما وأخرجها الآخر، واما إذا لم يتعاونا فقال ابن شاس وغيره: لا قطع

على واحد منهام كما قال المصنف، ووجهه: أن مجرد النقب لا يوجب القطع، ولما حصل النقب لم تبقَ حرزاً، والظاهر أنه خلاف ما في المدونة، ففيها: ولو قربه أحدهما إلى باب الحرز أو النقب فتناوله الخارج، قطع الخارج وحده؛ إذ هو أخرجه ولا يقطع الداخل. اللخمي: وقال أشهب في الموازية: يقطعان جميعاً، فإن قيل مسألة المصنف؛ لأنه قال في المدونة: ولو قربه قيل: التقريب وصف طردي لا تأثير له بالنسبة إلى الخارج. وَلَوِ اتَّفَقَا فِي النَّقْبِ خَاصَّةً فَالْقَطْعُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ إن تعاونا في النقب خاصة، وإن تولى أحدهما بعد ذلك الإخراج قطع وحده؛ لأن الإخراج لم يحصل منه إلا النقب. فَلَوْ نَاوَلَهُ الآخَرُ خَارِجَهُ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ لا إشكال في قطع الخارج لإخراجه المتاع من حرزه، وفي الداخل قولان، قال ابن القاسم في المدونة وغيرها: لا يقطع لإعانته في الحرز، وقال أشهب: يقطعان، واختلف إذا ناول من هو في أسفل الدار من هو في أعلاها: هل يقطع الأسفل؟ واختار [738/ب] اللخمي: عدم القطع. كَمَا لَوْ رَبَطَهُ بحَبْلٍ فَجَذَبَهُ أي: فجذبه الخارج، ومذهب المدونة أنهما يقطعان، وقال اللخمي عن مالك: إنه يقطع الخارج. اللخمي: والصواب في هذين السؤالين يعني في هذا والذي قبله، والذي حمل على ظهره وما أشبه ذلك من كل معونة كانت داخل الحرز لا قطع عليهن وأن القطع على الخارج وحده.

وَلَوِ الْتَقَيَا وَسَطَ النَّقْبِ قُطِعَا هكذا قال في المدونة: إذا التقت أيديهما في المناولة وسط النقب، أنهما يقطعان، اللخمي: وكان الأصل على قول ابن القاسم، ألا يقطع الداخل؛ لأن معونته في الحرز، والنقب من الحرز ونحوه للتونسي. فَلَوْ أُخِذَ دَاخِلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْمَتَاعِ خَارِجَهُ تَوَقَّفَ فِيهِ مَالِكٌ، وَالْمَشْهُورُ: يُقْطَعُ عبر في المدونة بلفظ الشك لا بلفظ الوقف، ولهذا يقال: إن مالكاً شك في المدونة في مسألتين: الأولى: هذه والثانية: إذا خلف ألا يكلمه الدهر ففيها: وأخذ في الحرز بعد إلقاء المتاع خارجه فقد شك فيه مالك بعد أن قال يقطع، وأنا أرى أن يقطع، وروى عنه أشهب وابن عبد الحكم القطع، وهو الذي في الجلاب، فلذلك شهره المصنف، وهو الأظهر؛ لأنه قد أخرج المال من حرزه. اللخمي: واختلف إذا رمى المسروق فوقع في نار أو كان زجاجاً فتكسر، هل لا يقطع كما لو هلك في الحرز أو يقطع؟ اللخمي: وهو أحسن، ونقل ابن يونس عن عبد الملك أنهإن قصد إتلافه فلا قطع عليه، وما اكن على غير هذا يرى ليخرج فيأخذه، فإنه يقطع هلك أو بقي في الحرز. وَلَوِ ابْتَلَعَ دُرَّةً وَخَرَجَ قُطِعَ وهكذا الدينار ونحوه لأن ابتلاعه ليس استهلاكاً له، بخلاف الطعام يأكله في الحرز قيمته ربع دينار فأكثر، فلاقطع لاستهلاكه في أمرين وكذلك لو دهن رأسه ولحيته بدهن يساوي ربع دينار لا قطع عليه إلا أن يساوي بعد سلته ربع دينار، وكذلك الشاة يذبحها ثم يخرجها مذبوحة.

وَلَوْ أَشَارَ إِلَى شَاةٍ بالْعَلَفِ فَخَرَجتْ مِنَ الْحِرْزِ فَقَوْلانِ القطع لمالك واختاره اللخمي وابن رشد، وبه قال ابن القاسم وأشهب في العتبية، قال عبد الملك: لأنه في معنى من دخل فأخرجها، ونفى القطع لمالك في العتبية، واختاره ابن المواز وأنكر الأول؛ لأنه لا يتحقق أنه المخرج لها، في معنى هذه المسألة من أشار إلى صبي أو أعجمي. وَلَوْ حَمَلَ عَبْداً غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَوْ خَدَعَهُ فَأَخَذَهُ قُطِعَ بخِلافِ الْمُمَيِّزِ قال في البيان: لا خلاف في الصبي الصغير الذي لا يعقل إذا دخل إليه فأخرجه من حرز أنه يقطع إذا كان عبداً. وقوله: (أَوْ خَدَعَهُ) ظاهره أنه عائد على الصغيرِ والأعجميُّ مساوٍ له في ذلك، ففي المدونة أن من سرق عبداً كبيراً فصيحاً لم يقطع وإن كان أعجمياً قطع، وكذلك لو أخدعه؛ أي قال له مثلاً: سيدك أرسلني، وفي الموازية: لا يقطع إذا أخدعه، ابن نافع: وإن راطنه بلسان حتى خرج إليه طوعاً لم يقطع. اللخمي: يريد إذا دعاه ليخرج إليه ويذهب به فأطاعه، ولو غره فقال له: سيدك بعثني لآتيه بك، لقطع، وكذلك قال أبو مران: إذا راطنه فقال: إني اشتريتك، قطع. وَلَوْ أَخَذَ اخْتِلاساً أَوْ مُكَابَرَةً عَلَى غَيْرِ حِرَابَةٍ فَلا يُقْطَعُ هذا راجع إلى القيد الآخر وهو الاستسرار، والمكابرة إذا كانت على غير وجه المحاربة راجعة إلى الغصب والغاصب لا يقطع. وَلَوْ أُخِذَ فِي الْحِرْزِ فَهَرَبَ بمَا مَعَهُ لَمْ يُقْطَعْ وسواء علم أهل البيت بما سرقه أم لا، سواء أمسك السارق، وقد كان اتَّزر بإزار ثم هرب وهو عليه؛ لأنه لم يخرج به على وجه السرقة، وإنما خرج به على وجه الاختلاس.

وَلَوْ تَرَكَهُ وَأَحْضَرَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ لَمَنَعَهُ فَثَالِثُهَا: قَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَعَرَ بهِ فَهَرَبَ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِلا قُطِِعَ ... فقد أخذ المتاع مستسراً لا يعلم أن أحداً أبداه، لكن في نسبته لمالك نظر، ولم أره وإنما نسبه ابن شاس لبعض المتأاخرين لعله ابن يونس، فإنه قال: إن رآهم السارق فهرب فهو مختلس، وإن خرج من الدار وهو لم يرَهم فهو سارق يجب قطعه. ابن عبد السلام: وهو التحقيق. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِ فَسَرِقَةُ الْحُرِّ الصَّغِيرِ إِذَا أَخْرَجَهُ عَنْ حِرْزِ مِثْلِهِ وَقَالَ بهِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةَ .... المشهور ما ذكره بشرط ألا يعقل مثل الصغير ما يراد منه، وروى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل يسرق الصبيان ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، فقال: انفرد به عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وهو كثير الخطأ على هشام ضعيف الحديث، وإذا وجب القطع لحفظ المال فحفظ النسب أولى، ورد الأبهري قول من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب القطع في المال، فوجب ألا يقطع إلا فيما له قيمة؛ لأن الحر له بدل وهي الدية، وقال عبد الملك من أصحابنا: لايقطع لأنه ليس بمال، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهما. الباجي: ومعنى الحرز هنا أن يكون في دار أهله، رواه ابن وهب [739/أ] عن مالك. محمد: وكذلك إذا كان معه من يخدمه، واستشكل اللخمي كون الدار حرزاً؛ لأنه لا يقصد بها حفظاً إلا أن يكون البلد يخشى فيها سرقة الأطفال، ويقصد بمكانه في الدار حفظه.

وَهُمْ: سَعِيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَخَارِجَةُ بنُ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ عُتْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ... هكذا في بعض النسخ. وَشَرْطُ السَّارِقِ: التَّكْلِيفُ فَيُقْطَعُ الْحُرُّ، وَالْعَبْدُ، وَالذَّمِّيُّ، وَالْمُعَاهَدُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ لِمِثْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا ... لما فرغ من الركن الأول وهو المسروق شرع في الثاني وهو السارق، وشرط في مؤاخذته التكليف، والمراد به العقل والبلوغ فلهذا يقطع الحر والعبد والذمي والمعاهد لأنهم مكلفون، وما ذكره في المعاهد هو مذهب ابن القاسم، وقال أشهب: لا قطع عليه إن سرق، ولا على من سرق منه وإن سرق ثم جُنَّ لم يقطع حتى يفيق، وكذلك لو طرأ له سكر، وقال اللخمي: لو قطع في سكره لكان له وجه، وليس القطع كالضرب؛ لأن المقصود في الضرب الألم، والطافح لا يجد الألم بخلاف القطع فإنه يقصد به النكال والعظة لغيره وفيه نظر، فإن الألم أيضاً مقصود فيه. وقوله: (وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ لِمِثْلَهِمْ) يعني: أن العبد يقطع وإن سرق العبد، وكذلك الذمي، وكذلك المعاهد، وفي بعض النسخ: (لمثلهما) فيعود على المعاهد والذمي، وفي بعض النسخ: منهما وهي بمعناها، وأما إن كان قطع السارق من باب دفع الفساد لم يشترط في سرقة بعضهم من بعض المرافعة؛ لأن ذلك إنما يشترط في الأحكام. وَتَثْبُتُ بالإِقْرَارِ وَبالشِّهَادَةِ أعاد الباء مع الشهادة ليعيد استقلال كل واحد منهما بالثبوت.

فَإِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ ثَبَتَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ، وَفِي غَيْرِ شُبْهَةٍ رِوَايَتَانِ هذا كما تقدم في الإقرار بالزنى، واختلف فيمن أقر بتهديد على أقوال: الأول: لا يقطع وهو مذهب المدونة ففيها: ومن أقر بشيء من الحدود بوعيد أو سجن أو قيد أو ضرب، قيل: وذلك كله إكراه، وإن تمادى على إقراره بعد زوال الإكراه حبس حتى يستبرأ أمره، فإن تمادى على إقراره بعد أن أمن أو أتى بما يعرف صدقه، مثل: أن يعين المسروق ونحوه فإنه يحد وإلا لم يحد في قطع ولا غيره كأن الذي كان من إقراره أول مرة قد انقطع، وهذا كأنه إقرار حادث، وإن أخرج السرقة والقتيل في حال التهديد لم أقتله ولم أقطعه حتى يقر بعد ذلك آمناً، زاد اللخمي عن ابنا لقاسم أن يضاف إلى ذلك من أخباره ما يدل على صحة ذلك مثل أن يقول: اشتريت وفعلت كذا على صفة كذا، فيذكر من بساط الأمر كذا وابتدائه كذا وانتهائه ما يعلم أنه خارج عن إقرار المكرَه، وقال مالك في الموازية: يقطع إذا عين السرقة إلا أن يقول دفعها إليَّ فلان، وإنما أقررت لَمِا أصابني من الألم، قال: ولو أخرج دنانير لم يقطع؛ لأنها لا يقر بعينها، وقال أشهب: إذا أخرج السرقة قطع وإن بَعد سجن وقيد ووعيد، وإن نزع لم يقبل نزوعه، وأما إن لم يعين فلا يحد أبداً، وإن ثبت على إقراره؛ لأنه يخاف أن يعاد إلى مثل الأول، وقال سحنون: إذا أقر في السجن أو حبسه السلطان في حق وكان من أهل العدل لزمه إقراره، وقال: وليس من حبس في حق أو باطل سواء، فإن عدد كالزيادة التي زادها. اللخمي: وعن ابن القاسم وفاقاً له لو لم يكن في المسألة إلا أربعة، وإلا فهي خمسة وإليه ذهب اللخمي وغيره. وَلَوْ رُدَّ الْيَمِينُ فَحَلَفَ الطَّالِبُ ثَبَتَ الْغُرْمُ يعني: لو رد المدعى عليه السرقة اليمين التي توجهت عليه بسبب دعوى السرقة، فحلف المدعي لزم المدعى عليه الغرم دون القطع، ولم يبين المصنف الذي تجب فيه اليمين

على المدعى عليه، وفي المدونة: ومن ادعى علىرجل أنه سرقه لم أحلفه إلا أن يكون متهماً متصفاً بذلك، فإنه يحلف ويهدد ويسجن والألم يعرض له، فإن كان من أهل الفضل وممن لا يشار إليه بهذا أدب المدعي، ومتهم معروف بمثل هذا فيحلف ويهدد ويسجن على قدر اجتهاد الحاكم، ومتوسط الحال بين هذين فعليه اليمين فقط، وقال ابن يونس في كتاب الغصب: لا يمين على المتوسط، قيل: وهو أظهر. وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ يُثْبِتُ الْقَطْعَ دُونَ الْغُرْمِ لأن الحد لله ولا يتهم العبد فيه بخلاف المال، فإنه حق للسيد، ومتهم البد في إخراجه عن السيد والمكاتب والمدبر وأم الولد كالعبد إذا عينوا السرقة بعض القرويين، وكذلك إذا لم يعينوه وتمادوا على الإقرار، ولعل المصنف أراد بالعبد ما هو أعم من القن، وإن كذبهم وقال: بل ذلك متاع، فالقول قول السيد مع يمينه، إلا في المكاتب والعبد الأذون له، وما ذكره من إعمال قول العبد في القطع. اللخمي: هو المعروف، ولأشهب في الموازية: إذا أقر العبد بالقتل وعينه، وقال: ها هو ذا وأنا قتلت، أنه لا يقبل قوله، وإن عين إلا أن يكون معه أو يرى يتبعه ونحوه. وَيَثْبُتُ بشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ برَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ بشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ثَبَتَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ ... يحتمل أن تكون تثبت [739/ب] بالتاء السرقة، أو بالياء القطع، ولا تقبل الشهادة مجملة، بل لابد أن يسأل الشهود عن السرقة وما هي ومن أين أخرجها وإلى أين، وكلامه ظاهر؛ لأن المرأتين أوا لرجل واليمين لا يفيدون في الحدود.

وَمُوجَبُهُ: الْقَطْعُ وَالْغُرْمُ مَعَ قِيَامِهِ، فَإِنْ تَلِفَ وَهُوَ مُوسِرٌ مِنْ حِينِ السِّرِقَةِ إِلَى حِينِ الْقَطْعِ غَرِمَهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلَى حِينِ الْقِيَامِ وَإِلا لَمْ يَغْرَمْ. وَقِيلَ؛ يَغْرَمُهُ مُطْلَقاً ... أي: موجب الثبوت، وفي بعض النسخ: (وموجبها)؛ أي: السرقة القطع بنص الآية، ورد المال مع قيامه بالإجماع، نقله صاحب المقدمات. قوله: (فَإِنْ تَلِفَ) أي: المال المسروق، والسارق متصل اليسار من حين السرقة إلى حين القطع غرمه، وإن كان عديماً أو عدم في بعض المدة سقط عنه الغرم؛ لأنه لا تجتمع عليه عقوبتان قطع يده وإتباع ذمته، بخلاف اليسار المتصل فإنها كالقائمة وليس ثم عقوبة ثانية، ورأى أشهب أنه لا غرم عليه إلا أن يتساوى يسره بعد القطع إلى يوم يحكم عليه بالقيمة، فإن كان متصل اليسار إلى القطع ثم أعسر بعده وقبل الحكم لم يغرم؛ يعني: وإن لم يتصل اليسار إلى حين القطع على قول ابن القاسم، ولا إلى حين القيام على قول أشهب لم يقطع، وقيل: يغرم مطلقاً؛ أي: اتصل يساره أم لا؛ لأن القطع حق لله تعالى، والغرم حق للآدمي، فلا يسقط أحدهما الآخر، وهو مذهب الشافعي وأحمد وعبد الوهاب، وقال بعض شيوخنا: والقيمة م لاقيمة استحسان، والقياس لا يلزمه شيء؛ لأنه لو لزمه مع اليسر للزمه مع العسر، وإنما استحسن ذلك لجواز أن يكون أخذ لها ثمناً واختلط بماله وهذا القياس، قال أبو حنيفة: وله ما خرجه النسائي عن عبد اله بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لاَ يَغْرَمُ السَّارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ". أبو عمر: إلا أنه حديث ليس بالقوي. فروع: الأول: اعتبار اتصال اليسر، لو سرق لجماعة واتصل يسره لتحاصَّ الجميع فيما بيده وإن تخلل ذلك عسر، سقط حق من سرق ماله قبل العسر.

الثاني: لو لم يقم للطالب إلا شاهد واحد، وقال: سرقت من حرز، وقال السارق: بل من غيره، أو ذهبت يمين السارق بأمر من الله تعالى، فقال ابن القاسم: يضمن السارق ضمان الغاصب، وقال أشهب: يضمنها على ما تقدم. اللخمي: وكذلك إن اعترف أنه سرق من حرز ثم رجع وسقط عند الحد، فيها القولان أيضاً، إن كانت السرقة من غير حرز أقل من ربع دينار لأتبع بها في الإعسار باتفاق. الثالث: لو باع السارق السرقة فاستهلكها المشتري، فإن أجاز بها البيع لم يتبع السارق بالثمن إلا أن يتصل يسره كما تقدم، وإن لم يجزه وأخذ قيمة المبيع من المشتري وكالاستحقاق، فللمشتري أن يرجع على السارق، فإن كان المشتري عديماً رجع بها على السارق؛ لأنه غريم غريمه، ولو كانت القيمة التي لزمت المشتري أقل من لاثمن الذي باع به السارق وأخذ المسروق منه القيمة، وكان الفاضل للمشتري تبيعه هو به، وإن كانت القيمة أكثر من الثمن؛ لأنه الذي لغريمه عنده واتبع المشتري بفاضل القيمة. وَتُقْطَعُ الْيُمْنَى مِنَ الْكُوعِ وتُحْسَمُ بالنَّارِ ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُغَرَّبُ وَيُحْبَسُ ... الإجماع على قطع اليمنى أولاً وحسمت بالنار خوف الهلاك وكلامه ظاهر، وذكر المصنف أنه في الخامسة يعزر ويحبس وهو المشهور، وقال أبو مصعب: يقتل، وروى النسائي حديثاً كقوله إلا أنه ضعيف، وقال: لا أعلم في ذلك حديثاً. وَلَوْ كَانَتْ شَلاءَ أَوْ نَاقِصَةَ الأَصَابِعِ أَوْ أَكْثَرِهَا فَكَالْعَدَمِ، فَيَنْتَقِلُ، وَقِيلَ: إِنْ سَقَطَ الانْتِفَاعُ ... أي: كانت اليمنى شلاء أو ناقصة، وجمع المصنف مسألتين وأجاب بأنها كالعدم، فلا يقطع وينتقل إلى غيرها، وفهم من قوله: (أَوْ أَكْثَرِ) وهو ثلاثة أصابع أنها لو كانت

ناقصة الأقل لقطعت، وهو صادق على صورتين: إذا نقصت أصبعاً أو أصبعين والمنقول في الأصبع القطع، واختلف قول مالك في الأصبعين. وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ سَقَطَ الانْتِفَاعُ) خاص باليد الشلاء وهو لابن وهب؛ لأنه قال في مختصر ما ليس في المختصر: تقطع اليد الشلاء إن كنات ينتفع بها، وعن أبي مصعب: تقطع اليد الشلاء مطلقاً. وَعَلَى الانْتِقَالِ فَقِيلَ: يَدُهُ الْيُسْرَى، وَقِيلَ: رِجْلُهُ الْيُسْرَى وإذا فرعنا على الانتقال، وفي معنى ذلك إذا سرق ولا يمين له، والقولان في المدونة قال: تقطع رجله اليسرى ثم أمر بمحوه، وقال: اقطع يده اليسرى. ابن القاسم: وأراه تأول قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38] وبالأول أخذ، وعارض اللخمي ما أخذ به ابن القاسم هنا بقوله في الموازية: إذا قطعت اليمنى في قصاص أو غيره أنه يقطع يده اليسرى، والأول أليق؛ لأن اليد الجانية، وهذه إحدى ممحوات الأربع. وَلَوْ قَطَعَ الْجَلادُ أَوِ الإِمَامُ الْيُسْرَى عَمْداً فَلَهُ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ باقٍ، وَخَطَأً يُجْزِئُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَهُ عَقْلُهَا وَالْحَدُّ بَاقٍ ... يعني: إذا كان [740/أ] قطع اليمنى فأمر الإمام بقطع اليسرى متعمداً مع علمه بأن سنة القطع في اليمنى، أو قطعها الجلاد أيضاً متعمداً، لم يرفع القطع عن السرقة وتقطع اليمنى، ويكون له أن يقتص منهما، وإن كان خطأ فقال: تجزئ ولا تقطع يمينه ولا شيء على الإمام والجلاد، وقال ابن الماجشون: لا تجزئ، قال: وليس خطأ الإمام بالذي يزيل القطع عن العضو الذي أوجب الله فيه القطع، ويكون عقل الشمال في مال السلطان خاصة إن كان هو المخطئ، أو في مال القاطع دون عاقلته إن كان هو المخطئ، قال: وإليه

رجع مالك وهو الأقرب؛ لأن تقديم اليمنى على اليسار إن كان واجباً فقد تم المطلوب، وإن كان مستحبًّاً لزم الإجزاء في مسألة العمد، ولو تعمد ذلك السارق ودلس على الإمام والجلاد، ففي الموازية يجزئ. اللخمي: وعلى ما في الواضحة لا يجزئه. وَعَلَى الإِجْزَاءِ لَوْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْيُسْرَى عِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ ... أي: وإذا فرعنا على القول الأول فلو سرق ثانياً، فقال ابن القاسم في المدونة: تقطع رجله اليمنى لطلب المخالفة؛ لأن سنة القطع الخلاف، وقال ابن نافع: تقطع رجله اليسرى؛ لأن قطع اليد اليسرى أولاً كان على وجه الخطأ فلا يتعمد موافقته. وَلَوْ سَقَطَتِ الْيُمْنَى بآفَةٍ سَقَطَ الْحَدُّ إذا ذهبت اليمنى بأمر من الله تعالى، زاد اللخمي: أو تعمد من إنسان، فقال مالك: لا يقطع منه شيء؛ لأن القطع قد كان وجب فيها. اللخمي: وعلىقياس قوله أن الشمال تجزئه ألا يسقط عنه القطع وتقطع شماله أو رجله، وكذلك لو أخطأ الإمام فقطع رجله اليسرى مع وجود اليمنى فإنها لا تجزئه. وَمَا تَكَرَّرَ مِنَ السَّرِقَةِ قَبْلَ الْحَدِّ فَكَمَرَّةٍ، كَتَكَرُّرِ الزِّنَى، وَالشُّرْبِ، وَالْقَذْفِ واحترز بقوله: (قَبْلَ الْحَدِّ) مما لو تكرر بعده فيجب تكرره كما تقدم، وسواء كان من ملك واحد أو متعدد. وقوله: (فَكَمَرَّةٍ) أي: فلا يقطع إلا عضو واحد. أبوعمر: ولا أعلم فيه خلافاً ثم قاس ذلك على تكرار الزنى أو الشرب والقذف، وفهم منه أيضاً الحكم في المسائل.

وَتَتَداخَلُ الْحُدُودُ الْمُتِّحِدَةُ وَإِنْ تَعَدَّدَ مُوجِبُهَا كَحَدِّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، بخِلافِ الزِّنَى وَالْقَذْفِ أَوِ الشُّرْبِ ... وقوله: (وَإِنْ تَعَدَّدَ مُوجِبُهَا) بكسر الجيم أي سببها كحد الشرب والقذف، وحاصله أنه إن اتحد ولا التفات إلى تعدد السبب، وإن اختلف الحد تعدد كحد الزنى م القذف أو مع الشرب، وخرج اللخمي تعدد الحد في القذف والشرب من أحد القولين إذا قذف جماعة. ابن عبد السلام: وهو تخريج صحيح. ابن عبد السلام: وقد يقال إنما قيل بالتعدد بالقذف لما يلحق كل واحد من المعرة بخلافه هنا، ونقل عن عبد الملك أنه إذا زنى وشرب وقذف يحد مائة، ويدخل القذف والشرب في الزنى. وَيَاتِي الْقَتْلُ عَلَى حَدِّ الزِّنَى وَالقَطْعِ وَالشُّرْبِ وَلا يَاتِي عَلَى حَدِّ الْقَذفِ يعني: إذا لزمه قتل وحدود فالقتل يأتي على ذلك كله إلا القذف، فإنه يحد له أولاً ثم يقتل لعار المقذوف إن لم يحد له. وَلا تَسْقُطُ الْحُدُودُ بالتَّوْبَةِ وَلا بالْعَدَالَةِ وَلا بطُولِ الزَّمَانِ مَعَهَا هذا مخصوص بما سيذكره في الحرابة حيث قال: تسقط الحرابة بالتوبة قبل الظفر، لا يقال: الحد لم يثبت في الحرابة حتى يسقط فلا يحتاج إلى استتابة؛ لأنا نقول: الحرابة هي سبب وجود الحد وقد وجد، ويدل على ما ذكره المصنف حديث الغامدية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن توبتها وأقام الحد عليها.

الحرابة

الْحِرَابَةُ: كُلُّ فِعْلِ يُقْصَدُ بهِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَتَعَذَّرُ الاسْتِغَاثَةُ عَادَةً مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ حُرَّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأَمَنٍ ... عبر بالحرابة إشارة إلى أن الأصل هنا الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ..} [المائدة: 32] الآية. وهذا مذهب المحققين أن الآية محمولة على هذه الجناية، وقيل: نزلت في المشركين الحربيين، وقيل: في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه، وال في العربيين ارتدوا في زمانه عليه الصلاة والسلام والصحيح الأول، ولو كان المقصود الكفار ما شرط في توبتهم كونها قبل القدرة عليهم، والمرتد ليس حده القطع والنفي. وقوله: (كُلُّ ... إلخ)، ليس هو حداً ولا رسماً؛ لأن الحد للماهية من حيث هي، ولفظة (كُلُّ) فيها تعرض للأفراد. وقوله: (تَتَعَذَّرُ الاسْتِغَاثَةُ) أي: معه، والكلية يلزم اطرادها ولكن يرد عليه غصب من لا يقدر علىدفعه من سلطان أو غيره أيضاً، فليس شرط المحاربة المال فقد قال ابن القاسم فيمن منع قوماً يخرجون إلى الشام أو مصر أو مكة: إنه محارب، ويجاب عن الأول بأن الغاصب ولو كان سلطاناً لا تتعذر الاستغاثة عليه، فإن العلماء أهل الحل والعقد يأخذون عليه، وعن الثاني أنه تكلم على الغالب، على أنه سيتكلم على ذلك بقوله: (وَمُخِيفِهَا ... إلخ)، والغيلة تدخل تحت هذه الكلية؛ لأن حقيقتها أن يخدع غيره ليدخله موضعاً ويأخذ ما معه، ولا يقبل قوله: (تَتَعَذَرُ مَعَهُ الاسْتِغَاثَةُ) ليس بجيد؛ لأن المسلوب يستغيث [740/ب] سواء وجد مغيثاً أو لم يجد، فكان ينبغي أن يقول: تتعذر معه الإغاثة لأن استغاثة المعدوم ومن لا تنفع إغاثته كالمعدوم. وقوله: (مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ) صفة لفعل؛ أي: فعل كائن من رجل أو امرأة، ونبه بقوله: (أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَامَنٍ) على من قال: إنها لا تكون إلا بين المسلمين، والله أعلم.

وَمُخيفِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَإِنْ لَمْ يَاخُذُ مَالاً، وَالْمَاخُوذُ بحَضْرَةِ الْخُرُوجِ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُخِفِ السَّبيلَ ... أي: ومخيف الطريق؛ لأنها تفهم من السياق، (وَإِنْ) في كلامه في الموضعين للمبالغة في كل واحد منهما على الاستقلال؛ إذ لو قال: وإن لم يقتل ولم يأخذ، لأفاد ترتيب الحكم على المجموع، ولا يلزم منه ترتيبه على كل من الجزأين، ومعنىكلاهم أن مطلق إخافة الطريق موجب لكونه محارباً سواء قتل أم لا، سواء أخذ مالاً أم لا، وكذلك أيضاً المأخوذ بحضرة الخروج وإن لم يخف الطريق، وهذا مذهب المدونة ففيها على اختصار ابن يونس: وكذلك إن لم يخفوأخذ مكانه قبل أن يتقادم أمره، أو أخرج بعضاً وأخذ مكانه فهو مخير فيه وله أن يأخذ في هذا بأيسر الحكم، وكذلك النفي والضرب والسجن. أبو الحسن: وظاهرها أنه مخير فيمن أخذ بالحضرة، ولم يحصل منه الإخافة، وكذلك قال اللخمي: إن أخذ قبل الإخالة لا يجري عليه شيء من أحكام المحارب وإنما يعاقب، وهو بمنزلة من خرج ليسرق أو يزني ولم يفعل، واستدل على ذلك لمالك في الموازية: في رجل خرج بسيفه قاصداً لقتل رجل أنه لا يقتل ولا يقطع، وكلام اللخمي ظاهر في المعنى إلا أن النص على كلامه كما تقدم، وفي بعض النسخ: (وإن لم يخف القتل)؛ يعني: أن المأخوذ بحضرة الخروج محارب وليس للإمام قتله، وهو يأتي على بعض القرويين واللخمي كما تقدم. فَقَاطِعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ مُحَارِبٌ لأن الذمي معصوم المال كالمسلم وعطفه بالفاء ليرتبه على ما قبله. وَمُشْهِرُ السِّلاحِ لِذَلِكَ مُحَارِبٌ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِداً فِي مَدِينَةٍ (لِذَلِكَ) أي لأخذ المال (وَإِنْ كَانَ) أي: المحارب واحداص في مدينة، وهذا قول ابن القاسم، وقال ابن الماجشون: ولا يكون محارباً في القرية إلا أن يريد بذلك القرية كلها، فأما المختفي في القرية لا يؤذي الواحد والمستضعف فلا.

وَالذي يُسْقِي السَّيْكَرَانَ لِذَلِكَ مُحَارِبٌ أي: لأخذ المال، ونحوه في المدونة. عياض: وظاهر الموازية إنما يكون حرابة إذا كان ما سقاه يموت منه، ولعله يريد ما نقله اللخمي عنها في رجل أطعم قوماً سويقاً وأخذ متاعهم فمات بعضهم وليط بعضهم فلم يفيقوا إلى الغد، فقال الفاعل: ما أردت قتلهم، إنما أعطانيه رجل وقال: إنه يسكر، فأردت إخدارهم وأخذ أموالهم، لا يقبل قوله ويقتل، ولو قال: ما أردت إخدارهم ولا أخذ أموالهم وإنما هو سويق في شيء فيه، إلا أنه اخذ أموالهم حين ماتوا، فلا شيء عليه إلا الغرم، وفي العتبية نحوه على قصد الإسكار وأخذ المال لا على قصد الموت. وَالسَّارِقُ فِي اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ فِي دَارٍ أَوْ زُقَاقٍ مُكَابَرَةً تَمْنَعُ الاسْتِغَاثَةَ مُحَارِبٌ لأنه لماكابر على وجه يمنع الاستغاثة كان محارباً؛ لأن السرقة أخذ المال خفية، ولو أخذ السارق المال فلما نوزع فيه قاتل حتى خرج به، فنص اللخمي وغيره على أنه سارق؛ لأن قتاله حينئذٍ ليدفع عن نفسه. اللخمي: وإن علم به قبل أن يأخذ المتاع فقاتل حتى أخذه فهو محارب عند مالك، وليس بمحارب عند عبد الملك، وأما الغاصب فيقتل المغصوب منه بإثر الغصب خشية أن يطلبه، فقال اللخمي: ليست بحرابة وإنما هي غيلة وفي كونها غيلة نظر، فقد قال مالك فيمن لقي رجلاً فسأله طعاماً فأبى وأخذه وعنفه، ونزع منه الطعام وأخذ ثيابه، قال: هذا يشبه المحارب إلا أن حكمه الضرب والنفي، وكذلك الذي توجد معه الدابة فيقر أنه وجد عليها رجلاً فأنزله عنها وأخذها، فإنه يضرب وينفى، وقال في الذي يجد الرجل في الصحراء وعند العتمة فينزع عنه ثيابه: أنه لا يقطع إلا أن يكون لصاً أو محارباً، قال: والذي يلقى الرجل في الليل فيكابره على ثوبه حتى يزيله عنه فإنه لا يقطع أيضاً، قال: وإنما المحارب من حمل على غير ثائرة ولا عداوة فأخاف السبيل وضر بالمسلمين.

وَمُخَادِعُ الصَّبِّي حَتَّى أَدْخَلَهُ مَوْضِعاً فَيَاخُذَ مَا مَعَهُ مُحَارِبٌ لأنه أخذ ما عليه على وجه تتعذر منه الاستغاثة، ومخادعة الصغير كمخادعة الكبير، وقد تقدم أن الغيلة تدخل في الحرابة. وَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ باتِّفَاقٍ، وَفِي دُعَائِهِ إِلَى التَّقْوَى قَبْلَهُ إِنْ أَمْكَنَ قَوْلانِ هذا نقل ابن المواز اتفاق مالك وأصحابه على جواز القتال، وفي المدونة: وجهاد المحاربين جهاد، وفي العتبية: من أعظم الجهاد وأفضل أجراً، ولمالك في أعراب قطعوا الطريق: جهادهم أحب إليَّ من جهاد الروم. ابن عبد السلام: وظاهر قول أهل المذهب أنه لا مزية عل ىجهاد الكفار، وقال ابن شعبان: جهاد المحاربين أفضل من جهاد الكفار. قوله: (وَفِي دُعَائِهِ) المشهور أنهم يعدعون، مالك في الموازية: ويناشده الله ثلاثاً، وقال عبد الملك وسحنون: لا يدعوه وليبادر لقتله، ولاإشكال في سقوط الدعوى إذا عاجلونا، عن ذلك احترز المصنف بقوله: (إِنْ أَمْكَنَ). مالك: وإن طلبوا مثل الطعام أو النوع وما خف [741/أ] فليعطوه ولا يقاتلوا، وقال سحنون: لا يعطون شيئاًوإن قلَّ. ابن عبد السلام: وينبغي قصر هذا الخلاف على ما إذا طلبوه من الرفاق والمارة بهم، ولو طلبوه من الوالي لم يجز أن يجيبهم إليه؛ لأن فيه وهناً على المسلمين. وَمُوجَبُهَا: إِمَّا الْقَتْلُ أَوِ الصَّلْبُ ثُمَّ الْقَتْلُ مَصْلُوباً، أَوْ قَطْعُ الأَيْدِي وَالأَرْجلِ مِنْ خِلافٍ مُوَالاةً، أَوِ النَّفْيُ ... (مُوجَبُهَا) بفتح الجيم؛ أي: الذيتوجبه الحرابة أحد أمور الأربعة للآية الكريمة، والصلب مختص بالرجل نص عليه اللخمي وكذلك النفي. اللخمي: واختلف عن مالك في العقوبات الأربع التي ذكرها هل هي على التخيير في المحارب الواحد يوقع به الإمام أيها شاء، أو على الترتيب، أو على قدر جرم المحارب، فقيل إذا أخذ ولم يخف ولا قتل ولاأخذ مالاً يؤخذ بأيسره.

ابن القاسم: وأيسر أن يضربه وينفيه، وإن كان قد أخاف ولم يأخذ مالاً أو أخذ المال ولم يخف، أو جمع أخذ المال والإخافة كان فيه بالخيار بين القتل والقطع ولا يؤخذ بيسره. وإن كان قد طال زمانه على أمره وأخذ المال إلا أنه لم يقتل فإنه يقتله ولا تخيير له فيه، وروي عن ابن وهب أن الإمام مخير وإن قتل الناس وعظم فساده، وقال عياض: اختلف تأويل الأشياخ على مذهب الكتاب إذا طالت إخافته وعظم شره ولم يقتل، وأكثرهم يرون الإمام يخير فيه فيما شاء لكن يستحبون له النفي، وعليه اختصر أكثرهم، وتأول بعض الأندلسيين أن حكم هذا حكم الذي قتل لابد من قتله، وصحح الأول، وحكى المازري عن مالك خلاف مذهبه وأن العقوبات عنده على الترتيب بحسب اختلاف صفاته، فيقتله لكل حال إذا كان ذا رأي وتدبير، ويقطعه إذا كان ذا بطش، وإن كان على خلاف ذلك عزره وحبسه، فجعل ما استحسن مالك مع إباحة التخيير مستحقاً مرتباً، ولا يقوله مالك ولا أصحابه. انتهى. فانظره مع حكاية اللخمي الخلاف. وقوله: (الصَّلْبُ ثُمَّ الْقَتْلُ)؛ يعني: لا يكفيه الصلب وحده بل لابد بعده من القتل، ووقع لمالك في بعض المواضع أنه قال: يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفى مثل ظاهر القرآن، وفهم من قول المصنف تقديم الصلب على القتل وعلى هذا فقوله: وَيُقَدَّمُ الصَّلْبُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيُؤَخَّرُ عِنْدَ أَشْهَبَ إنما أتى به ليبين قول أشهب، على أن أشهب لم يوجب تقديم الصب، ونصه في النوادر: إنما يصلب ثم يقتل، ولو صلبه ثم قتله مصلوباً فذلك له. اللخمي: ويقتل على الوجه المعتاد والمعروف بالسيف والرمح، ولا يقتل على صفة تعذيب ولابحجارةن ولا يرمى من شيء عالٍ وإن رأى صلْبه صَلَبَه قائماً ولا يصلبه منكوساً، وينبغي أن تطلق يداه؛ لأن فيه بعض الراحة إلى أن يموت فإن لم يطلق فلا بأس.

وهل يصلي عليه أم لا؟ أما على مذهب من يرى الذي يقتل ثم يصلب فيصلي عليه قبل الصلب، واختلف في الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يقتل على الخشبة، فقال ابن الماجشون في الواضحة: لا ينزل من أعلى الخشبة حتى تأكله الكلاب والسباع، ولا يترك لأحد من أهله ولا من غيرهم ينزله ليدفنه ولا يصلي عليه، وقال أصبغ: لا بأس أن يخلَّى بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون علهي ويدفنونه، ولابن الماجشون في الثمانية: يُصَفُّ خلف الخشبة ويصلى عليه وهو مصلوب، خلاف ظاهر قوله في الواضحة، وقال سحنون: إذا قتل على الخشبة أنزل عنها وصلي عليه. واختلف قوله: هل يعاد إليها ليرتدع بذلك أهل الفساد أم لا؟ على قولين، هذا نقل صاحب المقدمات، ونقل ابن عبد السلام: أنه اختلف قوله: إذا مات هل ينزل من ساعته ويدفع إلى أهله للصلاة عليه أو الدفن، أو إذا صلوا عليه يعيده الإمام إلى الخشبتين اليومين والثلاثة ليرتدع به أهل الفساد؟ فانظره. محمد: ولو حبسه الإمام لقتله ثم مات في الحبس لم يصلبه بعد موته، ولو قتله إنسان في الحبس فإن الإمام يصلبه. وَأَمَّا النَّفْيُ فَلِلْحُرِّ لا لِلْعَبْدِ كَمَا ذُكِرَ فِي الزِّنَى إِلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَقِيلَ: يُحْبَسُ ببَلَدِهِ، وَقِيلَ: النَّفْيُ طَلَبُهُمْ إِلَى أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُقَطَّعُوا ... أي: للحر الذكر لا للعبد، وهذا على قول أن النفي إخراجه إلى بلد آخر، وأما على القول بأنه حبسه بمكان فيحبس، وكذلك المرأة وقاله اللخمي، قال: ولو قال سيد العبد: أنا أرضى أن ينفى ولا يقطع وأن يكون على الأحرار بذلك، وكذلك في المرأة إذا قالت: أنا أخرج إلى بلد آخر أسجن فيه حتى تظهر توبتي وردت رفقة ثقة، أن يكون ذلك لها؛ لأنه أهون عليها من القطع من خلاف ومن القتل.

قوله: (كَمَا ذُكِرَ فِي الزِّنَى) في المسافة ولزوم الأجرة، ابن القاسم: ورواه عن مالك، وأقل البلد المنفي إليه ما تقصر فيه الصلاة، ثم بين أن الغاية هنا ليست كالزنى بل يحبس هنا حتى تظهر توبته، اللخمي: ولا يكفي في ظهور توبته مجرد ظاهره؛ لأنه كما ذكره لكونه في السجن فإنه يُظهر التوبة والنسك والخير ليخلص مما هو فيه، قال: ولو علمت منه التوبة حقيقة قبل أن يطول سجنه لم يخرج؛ لأن طول سجنه أحد الحدود الأربعة، فإخراجه قبل أن يطول سجنه بمنزلة من أقيم عليه بعض الحد. قوله: (وَقِيلَ: يُحْبَسُ ببَلَدِهِ) هذا رواه مطرف عن مالك في الواضحة، والقول الثالث لابن الماجشون قال: وليس النفي [741/ب] عندنا الذي ذكر الله تعالى أن ينقل من قرية إلى قرية يسجن بها، ولا يكون هذا مثلاص لما جزاؤه القتل والقطع، وإنما النفي أن تنفيهم من الأرض بطلبكم إياهم لتقيموا عليهم الحد يشردون ويحبسون وأنتم تطلبونهم إلى أن تأخذوهم فتقيموا عليهم الحد. وَالتَّعْيينُ لِلإِمَامِ لا لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ لَهُ، فَيُعَيِّنُ لِذِي الْبَطْشِ وَالتَّدْبيرِ الْقَتْلَ، وَلِذِي الْبَطْشِ الْقَطْعَ، وَلا يَضْرِبُهُمَا، وَلِغَيْرِهِمَا وَلِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ النَّفْيَ وَيَضْرِبُهُمَا إِنْ شَاءَ .... أي: التعيين في العقوبات الأربع للإمام وليس لغيره في ذلك حق، وما يفصل به عوض عن كل ما صدر منه من إخاة طريق وقتل أحد، وهو وإن كان ظاهراً في التفصيل وموافقة الترتيب ونحوه في المقدمات، إلا أنه تأول على استحباب ذلك لما تقدم من كلام عياض، وفي ترتيب المصنف القتل على ابطش والترتيب نظر، بل نص صاحب المقدمات وغيره على التدبير فقط. وقوله: (لِذِي الْبَطْشِ) أي: دون التدبير بين القطع من خلاف، (وَلِغَيْرِهِمَأ)؛ أي لغير من حصل فيه أحد الوصفين وهو من كثرت منه التردد وليس له أحد

الوصفين ولمن وقعت منه فلتة النفي، (وَيَضْرِبُهُمَا) الضمير عائد على غيرهما، ومن وقعت منه فلتة. وقوله: (إِنْ شَاءَ) ظاهر المدونة أنه لابد من ضربه لقوله: الذي يؤخذ بحضرة الخروج ولم يخف السبيل ولم يأخذ المال، فهو لو أخذ بأيسر الحكم لم أرَ به بأساً، وكذلك الضرب والنفي، وما ذكره أشبه بمذهب أشهب، فقال: إن جلده مع النفي ضعيف، وإنما استحسن لماخفف عنه من غيره ولو قاله قائل لم أعبه. وقوله: "وإنما استحسن" أي: زيادة على النص، ابن القاسم في الموازية: وليس لجلده حد إلا الاجتهاد من الإمام. وَيُقْتَلُ الْمُحَارِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَ، وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ إِذَ قَتَلَ وَلَوْ غَيْرَ كُفْءٍ، وَقَتَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُسْلِماً قَتَلَ ذِمِّياً حِرَابَةً، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الدِّمِ عَفْوٌ ... يعني: أن الإمام يخير فيه على ما تقدم إذا لم يكن قد قتل، وأما إن قتل ولو غير كفؤ كما لو قتل كافراً أو عبداص فيتحتم قتله تناهي فساده، وهذا هو المشهور، وقال أبو مصعب: بل له فيه التخيير أيضاً، وقد تقدم أيضاً الخلاف في تحتم قتل من طال زمانه وامتدت إذايته، واستدل المصنف بفعل عثمان رضي الله عنه، وقد يقال: لا حجة فيه؛ إذ لا يدل على التحتم وفعله لأنه أحد الوجوه، ولو سلمفيحتمل أن يكون مذهبه قتل المسلم بالكافر قصاصاً. قوله: (ولَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ عَفْوٌ) يعني: لأن القتل ليس للقصاص وهو كالتأكيد لقوله: (يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ). ابن عبد السلام: فإن قلت: فإذا اختار الإمام قطعه أو نفيه على قول أبي مصعب ففعل ذلك فحل للولي قصاص. قلت: لا. انتهى. وَيُقْتَلُ مَنْ أَعَانَ عَلَى الْقَتْلِ وَمَنْ لَمْ يُعِنْ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ أي: من أعان في القتل بضرب أو إمساك أو لم يُعن بهما لكن أعان بممالأة وهكذا في المدونة وغيرها.

ابن عبد السلام: ولابد من الممالأة الذي ذكرها عمر رضي الله عنه، وهو أن يكون ممن لم يضرب حضوراً بحيث إذا احتيج إلى إعانته أعان، وبذلك يفهم قول ابن القاسم: ولو كانوا مائة ألف. وَيَسْقُطُ حَدُّ الْحِرَابَةِ بالتَّوْبَةِ قَبْلَ الظَّفَرِ لا بَعْدَهُ وَيَكُونُ الْقِصَاصُ لِوَلِيِّ الدَّمِ وَلِلْمَجْرُوحِ كَغَيْرِ الْمُحَارِبِ ... (قَبْلَ الظَّفَرِ) أي: قبل أن يقدر عليه لقوله تعالى: {إِِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34]. اختلف في صفة توبته على ثلاثة أقوال حكاها في المقدمات: الأول: لابن القاسم أن يترك ما هو عليه وإن لم يأتِ الإمام او يأتِ الإمام طائعاً. الثاني: لابن الماجشون أن يترك ما هو عليه ويحبس في موضعه ويظهر لجيرانه، وأما إن ألقى سلاحه وأتى الإمام طائعاً فإنه يقيم عليه حد الحرابة. الثالث: أن توبته إنما تكون بالمجيء إلى الإمام، ول وترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكماً من الأحكام ولا يدل فراره على توبته، فإذا فر في القتال فقال ابن القاسم: إن كان قتل أحداً فليتبع، وإن لم يكن قتل أحداً فلا أحب أن يتبع ولا يقتل. وقال سحنون: يتبعون ولو بلغوا برك الغماد، وروي عنه أنه يتبع منهزمهم ويقتلون مقبلين ومدبرين ومنهزمين، وليس هروبهم توبة، وأما التذفيف على جريحهم فإن لم تتحقق هزيمتهم وخيف لحدتهم دفف عليه وإلا فهو أسير يحكم فيه افمام بماي راه، وفي الموازية: قال ابن القاسم: لا يجهز على جريحهم ولم يره سحنون، ولا يسقط حد الحرابة بتأمينه إذا سأل الإمام بخلاف المشرك؛ لأن المشرك يقر إذا امن على حاله وبيده أموال الناس، ولا يجوز تأمين المحارب على ذلك ولا أمان له قاله عبد الملك.

محمد: وإن امتنع المحارب بنفسه حتى أعطي الأمان فاختلف فيه، فقيل: يتم له ذلك، وقيل: ليس له ذلك وبهذا قال أصبغ. وقوله: (وَيَكُونُ القِصَاصُ ... إلخ) يعني: إذا سقط حد الحرابة بالتوبة لم يسط حق الآدميين وما هو المعروف، وروى الوليد بن مسلم عن مالك: أنه يسقط عنه أيضاً ما أخذ من الأموال إلا ما كان قائماً جنسه، أو يكون قتل [742/أ] فللأولياء الخيار، ونظر ابن عبد السلام قولاً بسقوط حق الله تعالى وحق الآدميين إلا أ، هـ يرد عين المال إن وجد، وقال: وهو الصحيح وظاهره سقوط القصاص عنه. فَيُقْتَلُ الرَّبيئَةُ وَمَنْ أَمْسَكَ لِلْقَتْلِ وَمَنْ تَسَبَّبَ لَهُ عياض: الربيئة بفتح الراء وكسر الباء بواحدة مهموز: الطليعة التي تحرص المحاربين وتنظر لهم من الأماكن العالية. وقوله: (وَمَنْ أَمْسَكَ) ظاهر التصور، فإن قيل: ما تقدم من قوله: (وَيُقْتَلُ مَنْ أَعَانَ عَلَى الْقَتْلِ وَمَنْ لَمْ يُعِنْ) يغني عن هذا، قيل: المتقدم فيمن ظفر به وهذا فيمن جاء تائباً، وقاله ابن عبد السلام وغيره. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَسَبَّبُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْتَلُ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُضْرَبُ مِائَةً ويُحْبَسُ سَنَةً ... أي: لم يتسبب في قتله ولكن التقوي به حاصل، ووافق أشهب ابن القاسم إذا أخذوا قبل التوبة، وأما إنتابوا قبل أن يقدروا عليهم فقط سقط عنهم حكم الحرابة، لا يقتل منهم إلا منولي القتل ومن أعان عليه ومن أمسك له، وهو يعلم أنه يريد قتله ولكن يضرب كل واحد منهم ويحبس عاماً.

وَأَمَّا الْغُرْمُ فَكَالسَّارِقِ، وَقَالَ سُحْنُونُ: إِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْحِرَابَةِ وَإِلا فَفِي ذِمَّتِهِ ظاهر قوله: (كَالسَّارِقِ) جريان قولي ابن القاسم وأشهب، وأما القول الذي قدمه من القوم مطلقاص فلا يحد هنا، نعم وجد عكسه وهو عدم الغرم إلا أن يكون ما أخذه قائماً بعده. وقوله: (وَقَالَ سُحْنُونُ) فيه نظر؛ لأنه يوهم أنه مخالف وليس كذلك هو موافق، ويوهم أن السرقة ليس الحكم فيها كذلك وهو كذلك كما تقدم، فلو أسقط قول سحنون لكان أحسن؛ لأنه هو عين قول ابن القاسم وأشهب. وَيَغْرَمُ الْوَاحِدُ عَنِ الءجَمِيعِ تَائِباً أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ هذا قول مالك وابن القاسم وأشهب؛ لأن كل واحد إنما قوي بهم فكانوا كالحملاء. (تَائِباً أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ) حال من الواحد، وقال ابن عبد الحكم: لا أرى على كل واحد إلا ما أخذه، وكلامه يشعر بأن حمك المحاربين في ذلك مخالف لحكم السراق، وأن الواحد من السراق لا يضمن ما سرقه وأصحابه معه. ابن عبد السلام: وهو ظاهر ما حكاه بعض الشيوخ، وحكى ابن رشد: أن في سماع عيسى أن السراق إذا تعاونوا والغاصب يضمنون ما أخذوه ضمان المحاربين. أبو محمد صالح: معناه حيث يقطعون كلهم بالتعاون، وحكى اللخمي عن ابن الماجشون: إن كانوا لا يقدرون على ذلك إلا بالتعاون والكثرة، فمن أخذ منهم كان عليه جميع ما ذهب، وإن كان موضعاً يقوى عليه الواحد والاثنان فيلزمه ما يلزم جماعتهم. وَمَا بأَيْدِيِهِمْ مِنَ الْمَالِ الَّذِي سَلَبُوهُ إِنْ طَلَبَهُ طَالِبٌ دُفِعَ إِلَيْهِ بَعْدَ الاسْتِينَاءِ وَالْيَمِينِ ظاهره بغير حميل وهو مذهب المدونة، وقال سحنون: بلبحميل، وفي مختصر الوقار: إن كان من أهل البلد فبحميل وإن كان من غره فبغير حميل أي لأنه يجد حميلاً.

وقوله: (بَعْدَ الاسْتِينَاءِ) قال مالك: من غير تطويل. اللخمي: وإنما تدفع إليه إذا وصفه كما في اللقطة، وأما إن تداعاه رجلان قسم بينهما بعد أيمانهما، فإن حلف أحدهما فقط فهو له، وإن نكلا فليس لهما شيء إلا أن يقر المحاربون أنهم أخذوه من هذه الرفقة، أو كان أحدهما منهما والآخر ليس منهما فإنه لمن هو في الرفقة قاله اللخمي. وقوله: (وَالْيَمِينِ) لا إشكال فيه وإذا دفعت لغير بينة ثم أثبت أحد أنها له، فإن على الأول الضمان إذا هلكت عندهم، قاله بعض الأصحاب. ابن يونس: وأما أخذ المتاع ببينة يريد: أو بشاهد ويمين، ثم يثبت ما هو أقطع من ذلك وقد هلك بأمر الله تعالى فإنه لا يضمن شيئاً. وَيَثْبُتُ بشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَوْ مِنَ الرُّفْقَةِ لا لأَنْفُسِهِمَا، وَلَوْ كَانَ مَشْهُوراً بالْحِرَابَةِ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ فُلانٌ الْمَشْهُورُ ثَبَتَتِ الْحِرَابَةُ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنَاهَا .... قال في المدونة: وتجوز على المحاربين شهادة من حاربوه إن كانوا عدولاً؛ إذ لا سبيل إلى غير ذلك شهدوا لقتل وأخذ مال أو غيره، ولا تقبل شهادة واحد منهم لنفسه، وهذه الشهادة خارجة عن الأصل؛ إذ فيها العداوة، ولأن فيها: اشهد لي وأشهد لك، وإنما جازت للضرورة، ولما فيها من حق الله، والأموال تبع لها، وعورضت هذه المسألة بمسألة المتحملين؛ لأنه لم يجز هناك شهادة بعضهم لبعض إلا أن يكونوا نفراً كثيراً عشرين فأكثر، وأباه سحنون في العشرين وعارضوها أيضاً بما في سماع أبي زيد في رجلين شهد كل واحد منهما للىخر فقال: لا تجوز شهادتهما، وفرق ابن سهل بينهما بأن مسألة المتحملين ليس فيها حق الله تعالى فلذلك ردت؛ لأنهم تدركهم حمية البلدية وإن كان فيها الضرورة، ومسألة أبي زيد لا ضرورة فيها ولا حق الله فيها.

قوله: (لا لأَنْفُسِهِمَا) أي: لا تجوز شهادة الشخص لنفسه. اللخمي: ولا لابنه قال: وتقبل شهادته إذا كان معه غيره أنه قتل ابنه أو أباه؛ لأنه إنما يقتل بالحرابة لا بالقصاص لا عفو فيه، ولو شهد بذلك بعد أن تاب المحارب لم تقبل شهادته؛ لأن الحق عاد إليه وله العفو والقصاص. سحنون: فلو قالوا كلهم عند الحاكم: قتل كذا وكذا رجلاً وسلب منا كذا وكذا جارية والأحمال لفلان والثياب لفلان والجواري لفلان، فذلك جائز، ويجب به حد الحرابة، قاله مالك وابن القاسم وأِهب. قوله: [742/ب] (وَلَوْ كَانَ مَشْهُوراً ... إلخ) تصوره ظاهر ونحوه في الجواهر، ابن عبد السلام: وظاهره أن الإمام يكتفي بمجرد علمه بالشهرة وإن لم تقم بها بينة، والذي حكاه الباجي عن سحنون إذا توارت شهرة المحارب باسمه، فأتى من يشهد أن هذا فلان، وقالوا: لم نشاهد قطعه على الناس وما اشتهر به من القتل وأخذ الأموال، قتل بهذه الشهادة، وهذا آكد من شاهدين على العيان. خليل: والظاهر أن كلام المصنف للمخالفة فيه لهذا؛ لأن قوله: (فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ فُلانٌ الْمَشْهُورُ) يقتضي أن الشهادة نصت على المجموع؛ لأنه لا يشتهر عند الإمام إلا بعد شهادة عند غيره غالباً، ونقل اللخمي عن سحنون إذاحبس الإمام المحاربين بشهادة عدل وشهد معه قوم غير عدول، ومن هؤلاء المحاربين من اشتهر اسمه بالفساد لا يعرفه بعينه، فليخرجه الإمام ويرقبه وبشهره حيث ينظر إليه المسافرون ثم يتم ذلك بنحو ما تقدم، وقال محمد: إن استفاض ذلك الذكر عنهم وكثر أدَّبهم الإمام وحبسهم.

الشرب

الشُّرْبُ الْمُوجِبُ: شُرْبُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلِّفِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ مُخْتَاراً مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلا عُذْرٍ ... هذه هي الجناية السابعة. قوله: (الْمُوجِبُ) أي: للحد، واحترز بالمسلم من الكافر وبالمكلف من الصبي والمجنون، وأسند السكر للجنس؛ ليدخل القليل؛ لأنه وإن لم يسكر فجنسه سيسكر، واحترز بالمختار من المكره، ولغير ضرورة من المضطر إلى إساغة، وبلا عذر ممن يشرب خمراً يسقى ماءً ونحو ذلك. فَيَجِبُ بالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ الضمير في (يَجِبُ) يعود على الوجب وهو الحد؛ لأن الموجب المتقدم يدل عليه، ونبه بهذا على قول الحنفية أنه لا يحرم القليل الذي لا يسكر إلا من ماء العنب، ولنا ما رواه مسلم أن عمر رضي الله عنه خطب على منبره عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، والخمر ما خامر العقل. وفي الترمذي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"، وقال: حسن غريب، وفي مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٌ حَرَامٌ، مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ". فإن قيل: المسكر حقيقة ما حصل عنه السكر، قيل: لا نسلم، وما يذكر في أصول الفقه من اشتراط حصول المعنى في كون المشتق حقيقة إنما هو إذا كان المشتق يحكم به، وأما إذا كان متعلق الحكم فلا، ولوسلم فينقض بالخمر، وأما استدلالهم بما رواه البزار

عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها سواء، والمسكر من كل شراب. فهو إن صح إسناده وروي مرفوعاً من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، لكن قال عبد الحق: رواته كلهم ما بين ضعيف ومجهول. وَلا حَدَّ عَلَى مُكْرَهٍ وَلا مُضْطَرٍّ إِلَى الإِسَاغَةِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ حَرَامٌ لما رواه ابن ماجه: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"، وذكر ابن شاس في باب الأطعمة أنه لا تحل الإساغة للغصة بها على خلاف فيها، وإلى القول بالتحريم أشار المصنف بقوله: (وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ حَرَامٌ)، وفي الجلاب عن أبي الفرج: لا بأس أن يشربها ليدفع بها غصة وهو الظاهر ولا يبعد الوجوب. ابن عبد السلام: والظاهر أن الضمير في (إِنَّهُ حَرَامٌ) على الإساغة وحدها دون الإكراه، والخلاف في الصورتين، ولكن التحقيق أنه ليس بحرام فيهما، وربما أنكر بعضهم عدم الخلاف في الغصة، والمنصوص عدم شربها للجوع وللعطش. مالك: ولا يزيده إلا عطشاً، وقيل: بجوازه وهو اختيار ابن العربي وغيره، فإن ذلك تخفيفاً على الجملة ولو لحظة. وَالصَّحِيحُ أَنُّهُ لا يَجُوزُ التَّدَاوِي بمَا فِيهِ الْخَمْرُ وَلا بنَجِسٍ الباجي وغيره: إنما هذا الخلاف في ظاهر الجسد؛ يعني: ويمنع في الباطن اتفاقاً، وما عبر عنه المصنف بالصحيح عبر عنه ابن شاس بالمشهور. ابن عبد السلام: وأجاز مالك لمن عثر أن يبول على عثرته، وفي مسلم: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن جعلها في الدواء، فقال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ"، وكره مالك أن يداوي بها دبر الدواب.

وَفِي الْبَدَوِيَّ يَدَّعِي جَهْلَ التَّحْرِيمِ قَوْلانِ، بخِلافِ مُدَّعِي الْجَهْلِ الْحَدُّ أي: مع كونه يعلم التحريم فإنه يحد اتفاقاً، والقول بالحد لمالك وأصحابه إلا ابن وهب فإنه قال: لا حد عليه. مالك: وقد ظهر الإسلام وفشا فلا يعذر جاهل في شيء من الحدود. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لا حَدَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ يَرَى حِلِّ النَّبيذِ، وَمُقَلِّدِهِ المحكي عن مالك وأصحابه وجوب الحد عليه، وعدم قبول شهادته إلا أن الباجي تأوله، فقال: لعل هذا فيمن ليس من أهل الاجتهاد والعلم، فإن كان من أهل العلم والاجتهاد، فالصواب أنه لا حد إلا أن يسكر منه، قال: وقد جالس مالك سفيان الثوري وغيره من الأئمة، ممن كان يرى شرب النبيذ مباحاً، فما أقام على أحد منهم الحد ولا دعا إليه مع إقراره بشربه، وظاهرهم وناظرهم عليه، وصحح هذا [743/أ] القول غير واحد من المتأخرين؛ لأنا إن قلنا كلمجتهد مصيب فواضح، وإن كان المصيب واحداً فلا أقل من أن يكون هذا شبهة. وقوله: (عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَمُقَلِّدِهِ) فهو بكسر اللام، وأورد على قول مالك بحده أنه قد نفى الحد عن المتزوج بال ولي، وأجيب بأن مفسدة النكاح يمكن تلافيها بالصلاح وردها إلى العقد الصحيح كغير هذه الصورة من النكاح الفاسد، ولا يمكن مثل ذلك في الأشربة من الزجر عنها وهو الحد، وفيه نظر. وَمَنْ ظَنَّ مُسْكِراً شَرَاباً آخَرَ فَلا حَدَّ كما عذر من وطئ الأجنبية يظنها زوجته. وَيَثْبُتُ بشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَبالإِقْرَارِ أي: لا خلاف في ذلكفإن رجع عن الإقرار؛ فإما إلى شبهة، أو لا وهو كالزنى.

وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّمِّ مِمَّنْ يعْرِفُهَا كَالشُّرْبِ، وَحَكَمَ بهِ عُمَرُ ذكر أبو عمر ان هذا قول مالك وجمهور أهل الحجاز، خلافاً للشافعي وجمهور أهل العراق لاحتمال أن يكون يتمضمض بها، ورأى مالك أن هذا مرجوح. وقوله: (مِمَّنْ يعْرِفُهَا) ظاهره سواء تقدم شربه لها كالكافر والعاصي ثم يتوب أولاً، وهو قول الباجي وغيره، واشترط ابن القصار تقدم الشرب. ابن عبد السلام وغيره: الأول هو الصحيح إذ لاتخفى رائحتها على كثير من الناس وإن شهد شاهدان علىرائحة الخمر وخالفهما غيرهما، فقال ابن عبد السلام: قالوا يحد وهومشبه باختلاف القولين في المسروق، ومذهب المدونة إعمال شهادة من شهد بأن قيمته ربع دينار، ورأى بعضهم أن ذلك الاختلاف شبهة، هكذا ينبغي أن يكون هنا وإن شك شهود بالرائحة فالمنصوص أن يسلم إلى حال المشهود عليه، فإن كان من أهل السفه نكل وإن كان من أهل الخير ترك، ثم إن جاء الشهود من غير طالب أو أقام محتسب فلابد أن يكونوا اثنين أو أكثر، وإن أمر القاضي بالاستنكاه فاستحب أصبغ اثنين وأجاز الاكتفاء بواحد وهو بعيد؛ لأنه يئول إلى حكم القاضي بعلمه في الحدود وإن شهد عليه بالعمد وجب الحكم عندنا، وحكم به عمر وعثمان رضي الله عنهما وهو أقوى من الشم. انتهى كلام ابن عبد السلام. اللخمي: ويستدل عند الشك بالرائحة تخليط عقله فإن حصل ذلك حد وإلا فلا. عبد الملك: وقد يختبر بالقراءة التي لا شك في معرفته من الصور القصار فإن ذلك يحسن عند الإشكال.

وَمُوجَبُهُ: ثَمَانُونَ جَلْدَةً بَعْدَ صَحْوِهِ، وَيُتَشَطَّرُ بالرِّقِّ لما في الموطأ أن عمر رضي الله عنه استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال علي رضي الله عنه: نرى أن تجلده ثمانين جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فجلد عمر رضي الله عنه في الخمر ثمانين. أبو عمر: وقد انعقد إجماع الصحابة رضي الله عنهم في حد الخمر على الثمانين ولا مخالف لهم منهم، وعلى ذلك جماعة التابعين وجمهور فقهاء المسلمين، والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بالجمهور. وقوله: (بَعْدَ صَحْوِهِ) هكذا نص عليه ابن القاسم وغيره. اللخمي وصاحب البيان: فإن جلد في حال سكره اعتد بذلك إن كان عنده ميز، فإن كان طافحاً أعيد علهي الحد، وإن لم يحس بالألم في أول الحد ثم حس في أثنائه حسب له من أول ما أحس به. (وَيُتَشَطَّرُ بالرِّقِّ) أي: كله أو بعضه. وَالْحُدُودُ كُلُّهَا بسَوْطٍ وَضَرْبٍ مُعْتَدِلَيْنِ يعني: حد الزنى والقذف والشرب، والأصل في هذا ما في الموطأ: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله علهي وسلم، فأتى بسوط مكسور فقال: "فَوْقَ هَذَا"، وأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: "دُونَ هَذَا"، فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشهور ما ذكره المصنف من تساوي الضرب في الحدود، وقال ابن حبيب: ضرب الخمر أشدها.

قَاعِداً غَيْرَ مَرْبوطٍ مُخَلِّى الْيَدَيْنِ عَلَى الظَّهْرِ وَالْكَتِفَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا أي: ويضرب قاعداً، قال في المدونة: ولا يقام وتخلى له يداه، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال للجلاد في الخمر: اضرب ودع له يديه يتَّقي بهما. وإذا اضطر بأن لا يصل الضرب معه إلى موضعه فإنه يربط. قوله: (عَلَى الظَّهْرِ وَالْكَتِفَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا) هو قول مالك في الموازية، وقال ابن شعبان: يعطى كل عضو حقه من الجلد إلا الوجه والفرج، واستحسن اللخمي الأول لما أخرجه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم لهلا بن أمية فيمن قذف زوجته: "وَإِلاَّ حَدُّ فِي ظَهْرِكَ". وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ، وَيُتْرَكُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا لا يَقِيهَا، وَاسْتُحْسِنَ أَنْ تُجْعَلَ فِي قُفًّةٍ هكذا قال مالك في المدونة: أن يجرد الرجل. قوله: (وَيُتْرَكُ) أي: يترك عليها من الثياب ما يسترها ولا يقيها الضرب، ابن القاسم: ولا بأس بثوبين وينزع ما سوى ذلك. ابن الجلاب: وتنزع الجبة والفرو، وبلغ مالكاً أن بعض الأمراء أقعد المرأة في القفة فأعجبه. اللخمي: ويجعل عليها تراب وماء للستر. وَيُؤَخَّرُ حَيْثُ يُخْشَى الْهَلاكُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزَّانِي أي: حد المحدود وهو ظاهر، فإن كان هرماً أو شبهه ويخشى عليه الهلاك بسبب ولا ترجى له صحة فإنه يفرق عليه الضرب في أوقات، فإذا أقيم الحد على الشارب أطلق، ووقع في بعض الأقوال: المشهور بالفسق فطاف به ويلزم السجن [743/ب]

التعزير

وَمَنْ جَنَى مَعْصِيَةً مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى أَوْ حَقِّ آدَمِيِّ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ باجْتِهَادِهِ بقَدْرِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ وَالْقَوْلِ ... لما فرغ من الجنايات التي رتب الشارع عليها عقوبة معلومة أخذ فيما لم يرتب عليه عقوبة معلومة، ولهذا يقع في بعض النسخ (التعزير) على وجه الترجمة، وبيَّن أنه لا فرق في المعصية بين حق الله تعالى وحق الآدمي، ومعنى حق الله تعالى؛ أي الذي لا يتعلق به للآدمي حق كالأكل في رمضان، وحق الآدمي أن يتعلق به للآدمي كشتمه وضربه، وهو أيضاً لا يخلو عن حق الله تعالى؛ لأن من حقه تعالى على كل مكلف ترك أذاه، ولما كان هذا القسم إنما ينظر فيه باعتبار حق الآدمي جعل قسماً للأول، فإن الحاكم يعزره باجتهاده وإن عزر بجهل فهو أخف، ولا يسمى حق الله تعالى، وقد يعتبر أيضاً ما ينزجر به غيره من أن يقع في مثل ما وقع فيه هذا العاصي. وقوله: (بحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ وَالٌَْوْلِ) فيه قصور؛ لأنه لا يتناول إلا المعصية القولية. فَيُخَفِّفُ وَيُتَجَافَى عَنِ الرَّفِيعِ وَذِي الْفَلْتَةِن وَيُثَقَّلُ عَلَى ذِي الشَّرِّ هذا نظراً إلى جانب القائل، وكذلك ينظر إلى جانب القول، وجانب المقول فيه، فإن كان القول عظيماً من ذي الشرف المخاطب برفيع القدر بالغ في الأدب وخفف في العكس. وقوله: (وَيُتَجَافَى) خاص بحقوق الآدميين، وأما في حق الله تعالى فنقل في البيان عن بعض العلماء: فيه التجافي، قال: ولم يره مالك. وَيَكُونُ بالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَبالإِقَامَةِ وَبنَزْعِ الْعِمَامَةِ وَبغَيْرِ ذَلِكَ لأن القصد الانزجار ولهذا لا يتخصص بسوط ولا يد جنس ولا غيره.

ابن رشد: ومن قال: لرجل يا كلب، إن كانا من ذوي الهيئة عوقب القائل عقوبة خفيفة يهان بها ولا يبلغ به السجن، وإن كانا من غير ذي الهيئة عوقب القائل أشد عقوبة من الأولى يبلغ فيها السجن، وإن كان القائل من ذي الهيئة والمقول له عكسه عوقب بالتوبيخ، ولايبلغ به الإهانة ولا السجن وبالعكس عوقب بالضرب. وَقَدْ يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ وَلا يَنْتَهِي إِلَى الْقَتْلِ هذا هو المشهور عن مالك وابن القاسم. وقوله: (وَلا يَنْتَهِي إِلَى الْقَتْلِ) أي: لا يكون الأدب بالقتل، ويحتمل لا ينتهي في الأدب بالضرب إلى ما يخشى منه القتل، وقد قال مطرف: يضربه وإن أتى على النفس، وروي عن مالك في العتبية: أنه أمر بضرب شخص وجد مع صبي في سطح المسجد وقد جرده وضمه إلى صدره أربعمائة سوط، وانتفخ ومات ولم يستعظم ذلك مالك، وقال ابن مسلمة: لا يتجاوز ثمانين، وقد روى القعنبي عن مالك: لا يجاوز خمسة وسبعين سوطاً، وروى أصبغ: أقصاها ما ينتهي إليه جرم الفساد مائتان، وقال مطرف في الواضحة: أقصاها ما يبلغ به الأدب في الجرم ثلاثمائة، لا يزاد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المؤدب على ثلاثة، وكذا قال سحنون: لا يزيد المدب أزيد من ثلاثة أسواط فإن اد عليها اقتص منه، واستشكله غير واحد، وحجة أشهب ما في الصحيح عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى". وَيُؤَدِّبُ الأَبُ وَالْمُعَلِّمُ بِإِذْنِهِ الصَّغِيرَ لا الْكَبيرَ هكذا قال ابن شاس، وظاهر قول مالك في الذي شتمه خاله أو عمه أو جده: لا أرى عليه في ذلك شيئاً إذا كان على وجه الأدب ونحوه تأديب الكبير، وقد طعن أبو بكر

في خاصرة عائشة رض الله عنهما ورأٍه صلىلله عليه وسلم في حجرها، وكذلك في مخاطبته لعبد الرحمن في حديث الضيفان. وَالسَّيِّدُ رَقِيقَهُ أي: في حقه وحق الله تعالى بشرط ألا يكون مبرحاً. وَالزَّوْجُ بمَا يَتَعَلَّقُ بمَنْعِ حَقِّهِ أي: في النشوز للآية، ووقع لابن رشد أنه يؤدب زوجته في تركها الصلاة. وَالتَّعْزِيرُ جَائِزٌ بشَرْطِ السَّلامَةِ، فَإِنْ سَرَى فَعَلى الْعَاقِلَةِ بخِلافِ الْحَدِّ أي: شرط السلامة غالباً في الذهن، وفي هذا الشرط نظر؛ لأنه مخالف لقول ابن الماجشون وغيره: وإن أتى على النفس. والظاهر الحكاية المنقولة عن مالك، ولكن الحاكم وغيره إذا جازت له العقوبة- يعني- ألا يكون عليه ضمان وتضمينهم مع أمرهم كتكليف ما لا يطاق. وذكر في الإكمال: أنهم اختلفوا فيمن مات من التعزير، فقال الشافعي: عقله على عاقلة الإمام وعليه الكفارة، وقيل: علىبيت المال، وجمهور اللماء: ولا شيء عليه، وفي الموطأ في الرجل يضرب امرأته بالحبل والسوط فيصيبها من ضربه ما لم يرد ولم يتعمد فإنه يعقل ما أصابه منها على هذا الوجه، وفي المجموعة لمالك في معلم الكتَّاب والصنعة إن ضرب صبياً ما يعلم أنه من الأدب فمات فلا يضمن، ظاهره خلاف الموطأ إلا أن يحمل ما في الموطأ أنه خطأ بالزيادة في الأدب، أو يريد بما في المجموعة: لا يضمنه في ماله بخلاف الحد؛ أي: فلا يضمن مما سرى منه ونقل في ذلك الإجماع، فإن علم أن التعزير لا يحصل به زجر فلا يفعل لكن سجن الكبير حتى تحقق توبته ولا يعرض للصغير، هذا أشار إلي ابن عبد السلام والشافعي وهو ظاهر.

موجبات الضمان

مَنْ فَعَلَ فِعْلاً يَجُوزُ لَهُ مِنْ طَبيبٍ وَشِبْهِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ هَلاكٌ أَوْ تَلَفُ مَالٍ فَلا ضَمَانَ عَلَيْهِ ... [744/أ] الضمان ترجمة، وهذه المسألة أجري على القواعد التي قبلها، وشبه الطبيب الخادم والحجام ونحو ذلك، واحترز بقوله: (عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ) لهما لو لم يفعله على وجه الصواب كما سيأتي. (فَتَولَّدَ مِنْهُ هَلاكٌ أَوْ تَلَفُ مَالٍ) يكون في الرقيق، وفي مثل فعل البيطار، ما ذكره من نفي الضمان مفيد بما إذا لم يكن السلطان قد تقدم إلى الأطبة والحجامين ألا يقدموا على شيء مما فيه ضرر إلا بإذنه، ففعلوا ذلك بغير إذنه فعليهم الضمان فيما تلف في أموالهم، رواه أشهب في ابن رشد، وقال ابن دحون: هو على العاقلة إلا فيما دون الثلث، وهو خلاف الراوية. فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً أَوْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ، أَوْ فِي مُجَاوَزَةٍ أَوْ تَقْصيرٍ فَالضَّمَانُ كَالْخَطَأِ ... يعني: إن لم يكن له بذلك علم وفعل ذلك على وجه الجرأة، وتولى الطبيب ذلك من غير أن يؤذن له، فآل إلى التلف أو أخطأ فيه، كما لو أراد قلع سن فقلع غيرها، أو في مجاوزة بأن أخذ من مأخذه، ولكن تجاوز حده، أو قصر فالضمان كالخطأ؛ أي: فتحمل العاقلة الثلث فأكثر، ولا تحمل الأقل، وهكذا قال عيسى ابن دينار، وهو ظاهر ما رواه أصبغ عن ابن القاسم، وقيل: الدية عليه في ماله دون العاقلة. ابن رشد: وهو ظاهر قول مالك في العتبية، وشبه المصنف المسألة بالخطأ؛ لأن بعض وجوه المسألة كالجهل، وعدم الإذن قد يظن أنه من العمدن وينفرد الجاهل بالأدب. ابن رشد: والغرب والسجن، ولا يؤدب المخطئ، وهل يؤدب من لم يؤذن له؟ فيه نظر.

وقيل بعدم ضمانه لكأن له وجه والله أعلم؛ لأنه كالمأذون له بالعرف إذا كان من المشهورين بالطب وخيف الفوات في العلاج، ولو ادعى على الطبيب العمد فيما زاد أو قصر، وادعى هو الخطأ فالقول قوله، واختلف قول سحنون في الزوج والسيد يفقأ عين زوجته، فيقول السيد أو الزوج: فعلت ذلك أدباً، وتقول المرأة أو العبد فعل ذلك عمداً على الخطأ أو على الأدب، وإليه رجع، وفرق في القول الأول بين الطبيب وبين الزوج والسيد؛ لأن فعل الطبيب ابتدأ على الإذن ولم يثبت الإذن في حق الزوج والسيد. ابن رشد: الأظهر في السيد أن يحمل أمره على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل فيباع عليه إن قصد العبد ذلك، وأما الزوج فالذي أراه في ذلك أن يحمل أمره على الخطأ، لا على العمد، ولكن يكون كشبه العمد، وتكون فيه الدية على الجاني، وإن طلبت المرأة فراقه، وقالت: أخافه على نفسي، طلقت عليه طلقة بائنة. وَإِذْنُ الْعَبْدِ لَهُ أَنْ يَحْجِمَهُ أَوْ يَخْتِنَهُ غَيْرُ مُفِيدٍ فيضمن الفاعل ولا يفيده إذن العبد، وهكذا نص عليه في المجموعة، وزاد: وكذلك إذا أذن له ان يقطع عرقه، وهذا ظاهر في الختان، وأما الحجامة والفصد فالعرف مطرد بعدم الاحتياج إلى إذن السيد، لا سيما إذا كان موجب الحجامة ظاهراً. وَمَنْ أَجَّجَ نَاراً عَلَى سَطْحٍ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ضَمِنَ، وَلَوْ بَغَتَتْهُ الرِّيحُ لَمْ يَضْمَنْ ظاهر كلام المصنف أن للسطح تأثيراً في الضمان، والذي في المدونة في حريم الآبار، في من أرسل في أرضه ماء أو ناراً، فوصل إلى أرض جاره، فأفسد زرعه، فإن كان أرض جاره بعيدة يؤمَن أن يصل ذلك إليها، فتحاملت النار بريح أوغيرها، فلا شيء عليه، وإن لم يؤمَن وصول ذلك إليها لقربها فهو ضامن، ما قتلت النار من نفس فعلىعاقلة مرسلها، وكذلك الماء، فالعبرة على هذا إنما هي بالأمن وعدمه، وروى اللخمي: الضمان

في البعيد إذا كانت الريح لتلك الأرض، إلا أن تكون بعيدةجداً، وعدمها إن لم يكن وقت أرسلها ريح، ثم جدثت، أو كانت وتغيره إلى الناحية المحترقة، قال غير واد: يضمن إن كانت الأعشاب متصلة وإن بعدت. وقوله في المدونة: وما قتلت النار من نفس فعلى عاقلة مرسلها؛ أي: إذا كان لا يؤمن أصولها، وأما مع الأمان فلا ضمان في النار، كما لابن كنانة ما ظاهره خلاف مذهب المدونة، قال فيمن أشعل ناراً في حائط رجل فتعدت النار على غيره فتحرقه من زرع أو حائط عليه غرم ما أشعل فيه دون ما عدت عليه. وَسُقُوطُ الْمِيزَابِ هَدَرٌ يعني: إذا اتخذ ميزاباً للمطر فوقع على إنسان أو مال فلا شيء في ذلك؛ لأنه اتخذته حيث يجوز له اتخاذه، وينبغي أن تقيد هذه المسألة بالتي بعدها؛ وهي قوله: وَفِي سُقُوطِ الْجِدَارِ الْمَائِلِ وَأُنْذِرَ صَاحِبُهُ وَأَمْكَنَهُ تَدَارُكُهُ -الضَّمَانُ قوله: (الْمَائِلِ) أي: بعد بنائه مستقيماً، وأما لو بني مائلاً لضمن من غير تفصيل هكذا، قال ابن شاس: ومراده بالإنذار الإشهاد، كما نص عليه في المونة. ابن عبد السلام: ومعناه عند القاضي، أو من له النظر في ذلك، ولا ينفع الإشهاد إذا لم يكن كذلك، إذا كان رب الحائط منكراً لميلانه بحيث يخشى عليه السقوط؛ أنه لو كان مقراً فإنه يكتفى بالإشهاد، وإن لم يكن عند حاكم قاله بعض القرويين، وفي البيان في أدب السلطان الثاني: وقول يحيى- أنه ضامن لما أفسد الحائط إن انهدم بعد التقدم إليه والإشهاد عليه [744/ب] وإن لم يكن ذلك سلطاناً-مفسر لقول ابن القاسم: ومثل ما في المدونة. وقال عبد الملك وابن وهب: لا ضمان عليه إلا ما أفسد بانهدامه بعد أن قضى عليه السلطان بهدمه ففرط في ذلك، وقال أشهب وسحنون: لا يشترط الإشهاد بل يكتفى أن يبلغ إلى حالة لا يكون لصاحبه أن يتركه لشدة ميله.

قوله: (وَأَمْكَنَهُ تَدَارُكُهُ) أي: رب الحائط إزالة الضررن إما بهدم الحائط، وأما بتدعيمه، وتراخى، وأما إذا لم يمكنه فبادر إلى رفع الأذى فسقط؛ فلا ضمان، ولو تقدم إليه في ذلك. وَيَجُوزُ دَفْعُ الصَّائِلِ بَعْدَ الإِنْذَارِ لِلْفَاهِمِ مِنْ مُكَلَّفٍ أَوْ صَبيِّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ بَهِيمَةٍ عَنِ النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالْمَالِ ... قوله: (مِنْ مُكَلَّفٍ) يتعلق بالصائل، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: ويجوز دفع الصائل من مكلف أو صبي أو مجنون أو بهيمة عن النفس والأهل والمال بعد الإنذار للفاهم، وإلا فغير الفاهم لا يمكن إنذاره، وقد تقدم في إنذار المحارب خلاف، فانظر هل يأتي هنا، وروى عيسى عن ابن القاسم: إن قتل الرجل الجمل الصول بعد التقدم إلى صاحبه فذكر أنه أراده وصال عليه، لا غرم عليه، ويقبل قوله في ذلك ابن رشد، يريد مع يمينه إذا كان بموضع لا يحضره الناس، واختلف في التقدم لأرباب البهائم هل لابد من السلطان أم لا، وعلى قول سحنون إذا بلغ الحائط مبلغاً يجب عليه هدمه، يضمن ولا يحتاج إلى التقدم. ابن رشد: وهذا الخلاف إنما هو إذا اتخذ حيث يجوز له، وإلا فهو ضامن اتفاقاً، ومذهب أشهب في الكلب العقور والجمل الصول أنه لا ضمان على صاحبها، وإن تقدم إليه فهو قول رابع، وحيث ضمناه، قال ابن القاسم: في ماله، وقال ابن وهب: على العاقلة، ويثبت بالشاهد واليمين عند ابن القاسم، وقال أصبغ: لا يثبت إلا بشاهدين. ابن رشد: ويأتي على قول ابن وهب في إلزامه العاقلة أنه يحبس بما يستحق به دم الخطأ من قسامة وغير ذلك.

فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لا يَنْدَفِعُ إِلا بالْقَتْلِ جَازَ قَتْلُهُ قَصْداً ابْتِدَاءً وَإِلا فَلا هكذا قال القاضي أبو بكر؛ لأنه قال: لا يقصد قتله، وإنما يقصد الدفع، فإذا أدى إلى القتل فبذلك قال، وإن علم أنه لا يندفع عنه إلا بقتله فجائز له أن يقصد القتل ابتداء، وقد يقال: ينبغي أن يكون القتل هنا واجباً؛ لأنه يتوصل به إلى إحياء نفسه لا سيما إن كان الصائل غير آدمي، اللهم إلا أن يحمل كلام القاضي على أنه يمكنه الهروب، ولا يقبل منه إذا قتله دعوى أنه كان قصد قتله، كمن زعم أنه أراد زوجته إذا لم تتقدم منه شكوى. وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لَمْ يَجُزُ لَهُ الْجَرْحُ إذا قدر المصول إليه على الهروب من الصائل من غير مضرة تلحق المصول إليه لم يجز له جرح الصائل؛ لأنه منباب ارتكاب أخف المفسدتين، وهذا في غير المحاربين، وأما المحاربون فقد تقدم أن قتالهم جهاد. وَلَوْ عَضَّهُ فسَلَّ يَدَهُ ضَمِنَ أَسْنَانَهُ عَلَى الأَصَحِّ عبر المازري وغيره عنه بالمشهور، ونقل مقابله عن بعض الأصحاب: وهو أظهر لما في الصحيحين عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الخُصَيْنِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فسل يَدَهُ مِنْ فَمِهِ فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا بَعَضُّ الْفَحْلُ، لاَ دِيَةَ لَكَ". زاد أبو داود رضي الله عنه: وإن شئت أن تمكنه من يدك فبعضها ثم تنزعها من فيه. وقال ابن المواز: الحديث لم يروه مالك، ولو ثبت عنده لم يخالفه. وتأوله بعض شيوخ المازري على أن المعضود لا يمكنه النزع لها بذلك، وحمل تضمين الأصحاب على أنه يمكنه النزع برفق بحيث لا يقطع أسنان العاض، فصار متعدياص في الزيادة، فلذلك ضمنوه.

وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ ضِبْرِ بَابٍ فَقَصَدَ عَيْنَهُ فَالْقَوَدُ (الصبر) بكسر الصاد: شق الباب، قاله الجوهري وعبر به تبعاً للحديث، والقود نقله المازري عن أكثر الأصحاب، ونقل عن الأقل نفيه لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: "لَوْ أَنَّ امْرَأٌ اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَاتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ"، وحمل الأولون الحديث على دفعه من غير قصد لفقأ عينه أو مع قصد، ولكن الذي نفاه في الحديث إنما جناح، وأما الدية فلا ذكر لها، ودل كلام المصنف على أن القود مشروط بقصد العين؛ لقوله: (فَقَصَدَ عَيْنَهُ). وَمَا أَتْلَفَهُ الْبَهَائِمُ مِنَ الزَّرْعِ نَهَاراً فَلا ضَمَانَ، وَفُسِّرَ: إِنْ اسْتُهْمِلَ بغَيْرِ حَافِظٍ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَالضَّمَانُ ... والأصل في هذا ما رواه مالك مرسلاً، قال في الاستذكار: وهو مراسيل الثقات وتلقاه اهل الحجاز وطائفة من العراق بالقبول: أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَضَمانُهُ عَلَى أَهْلِهَا. قوله: (وَفُسِّرَ) ظاهر، و (إِنْ اسْتُهْمِلَ) الزرع والذي في الجواهر بعد أن ذكر نفي الضمان نهاراً محمد بن حارث، وهذا الكلام محمول على أن أهل المواشي لا يهملون مواشيهم، وعلى أنهم لا يجعلون معها حافظاً وراعياً، وأما إن أهملت الماوشي، أهلها ضامنون. وفي الاستذكار: إنما سقط الضمان عن أرباب [745/أ] الماشية في النهار إذا أطلقت دون راعٍ، وإن كان معها راعٍ فلم يمنعها، وهو قادر على دفعها فهو المسلط لها، وهو حينئذٍ كالقائد والراكب. وقال ابن رشد: إنما يسقط الضمان إذا أخرجها عن جملة مزارع القرية وتركها بالمسرح، وأما إن أطلقها للرعي قبل خروجها عن مزارع القرية، فهو ضامن، وإن كان

معها راعٍ فلا ضمان عليه، والضمان على الراعي إن فرَّط أو ضيع، قال: وعلى هذا حمل أهل العلم الحديث، ولم يأخذ يحيى بن يحيى بهذا الحديث، بل قال: يضمنون ما أفسدت ليلاً ونهاراً. ابن القاسم عن مالك: وهو المشهور وإذا ضمنوا فإنهم يضمنون ما أفسدت وإن كان أكثر من قيمتها، وقال يحيى بن يحيى: إنما عليه الأقل من قيمتها أو قيمة ما أفسدت، ولعله قاسه على العبد الجاني، فإن قلت: فلا فرق على المشهور، قيل: لأن العبد مكلف، فهو الجاني بخلاف هنا، فإن الجاني في الحقيقة رب الماشية، ولمالك في العتبية: وسواء كان محضراً عليه أو غير محضر. قوله: (وَأَمَّا باللَّيْلِ فَالضَّمَانُ) مخصوص بالزرع والحوائط، فقد قال مالك: إذا انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم؛ لم يغرم ربها شيئاً. الباجي: وهذا الحكم يختص عندي بالموضع الذي يكون فيه الزرع والحوائط مع المسارح، فأما لو كان الموضع مختصاً بالمزارع دون المسارح ضمن ربها ما أتلف ليلاً كان أو نهاراً، كما لو كان مختصاً بالمسارح دون المزارع فزرع فيه إنسان، على خلاف العادة من غير إذن الإمام، فلا ضمان على أهل المواشي، كان ليلاً أو نهاراً، وروى مطرف عن مالك: إن كانت المزارع كثيرة معتدة لا يقدر أهلها على حراستها؛ لم يكن على أهل المواشي شيء مطلقاً. ابن عبد السلام: وقال بعضهم: عكس هذا أولى؛ لأنه إذا كان الأمر هكذا، كان على أربابها ألا يخرجوها إلا براعٍ، وهذا كله إذا لم يكن من المواشي التي شأنها الداء على الزرع، فإن كانت كذلك وتقدم إلى أربابها ضمنوه ما أصابته ليلاً أو نهاراً، من غير خلاف، نقله في الاستذكار. مالك: وتباع تلك الماشية في بلد لا زرع فيه، كانت بقراً أو غنماً أو غيرها، ابن القاسم: إلا أن يحبسها أهلها عن الناس.

ابن حبيب عن مالك: ويأمر الإمام ببيعها، وإن كره ربها، واختلف في الحيوان لا تستطاع حراسته إذا أضر بالناس، وقال ابن حبيب: لا يمنع، وعلى أهل القرية حفظ زرعهم وشجرهم، وقاله ابن القاسم وابن كنانة في المجموعة. وَيُضْمَنُ بقِيمَتِهِ عَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ. وَرَوَى مُطَرِّفٌ: لا يُسْتَانَى في الزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ ... هكذا رواه مطرف عن مالك، قال: على أهل المواشي قيمة ما أفسدت على الرجاء والخوف، على أن يتم او لا يتم، قال في المجموعة: وإن لم يبد صلاحه، وقوله: (وَرَوَى مُطَرِّفٌ ... إلخ) لو نسبت الروايةمن أًلها لمطرف لكان أحسن، وكأنه عطفه بالفاء ليفيد أنه مع المعطوف عليه قول واحد، وأنه كالتمام له؛ أي: يضمن على الرجاء والخوف، ولا يستأنى بالزرع، هل ينبت أم لا ينبت بخلاف سن الصغير. ابن رشد وابن زرقون: وعلى قول سحنون: يستأنى في الزرع لأخذه، قال في الذي يقطع شجرة رجل ينتظرها، فإن عادت كما كانت فال شيء على القاطع، فإن نقصت عن حالها غرم ما نقص، ولا يغرم أجر السقي والعلاج، كجرح الخطأ في الدية والدواء. وفي التخريج نظر؛ لأن صاحب البهائم قد انتفع بما أكلت بهائمه، وقاطع الشجرة لم ينتفع بشيء، وعلى الأول فقال مطرف: إن تأخر الحكم حتى عاد الزرع فلا قيمة، ويؤدب المفسد، ونقل ابن يونس عن أصبغ أن عليه قيمة الزرع. مطرف: وإن عاد أقل، وإن كان ما أفسد من ذلك ينتفع به فعليه قيمته كذلك، ليس على الرجاء، وقال أصبغ: بل على الرجاء، وإن عاد الزرع بعد الحكم، فقال مطرف: مضت القيمة لصاحب الزرع، وقيل: ترد كالبصر يعود.

العتق

الْعِتْقُ هو انقطاع الملك عن العبد. الجوهري: العتق: الحرية، وكذلك العتاق بالفتح، والعتاقة، تقول: منه عتق العبد يعتق بالكسر عتقاص وعتاقاً وعتاقة فهو عتيق وعاتق، وأعتقته أنا، وفلان مولى عتاقة. والعتق أفضل الأعمال وأعظم القربات، فقد روى مسلمفي صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عنه عليه الصلاة والسلام قال: "أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلماً كان فكاكه من النار، يجزئ كل عضو عضواً منه من العاتق، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يجزئ كل عضو منها عضواص منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار، يجزئ كل عضو منها". قيل: ولعل هذا لأن دية المرأة على النصف من دية الرجل. ويدل على عظيم ما في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزئ ولدُ والدٍ إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه". وكأن الوالد لما كان سبباً لوجود الولد، وذلك من أعظم النعم، والذي يشبع ذلك إخراج الولد لوالده من عدم الرق إلى وجود الحرية؛ لأن الرقيق كالمعدوم، وربما كان العدم خيراً منه [745/ب]. وفي مسلم: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً". واختلف إذا كان الكافر أغلى ثمناً، فقال مالك: الكافر أفضل للحديث المذكور. وقال أصبغ: بل المسلم أفضل. قيل: وهو الأقرب، فإن الذي يضمن أن السيد لا يعتق من النار إلا بعتق عبدين نصرانيين، فإنه لما كانت ديته نصف دية المسلم كان كالمرأة، أما إن تساويا فالمسلم أفضل بلا خلاف. أَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ هكذا في بعض النسخ وهي ظاهرة، وفي بعضها إسقاط ثلاثة وهي أيضاً ظاهرة، وفي بعضها أربعة. واستشكلت إذا لم يذكر إلا ثلاثة. وأجيب بأنه أراد بالرابع خواص

العتق، ورد بأن الخواص خارجة عن الماهية والأركان داخلة، وقد يجاب بأنه أطلق عليها ركناً مجازاً باعتبار اختصاصها كاختصاص أركانه، وقيل: أراد بالرابع أحد قسمي الصيغة وهو غير الصريح، وكأنه جعل قسمي الصيغة ركنين. الْمُعْتِقُ: كُلُّ مُكَلَّفٍ لا حَجْرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُحِطِ الدَّيْنُ بمَالِهِ احترز بالمكلف من الصبي والمجنون، فلا يمنع السكر منه على المشهور، بخلاف الهبة فإنها لا تلزمه، وقوله: (لا حَجْرَ عَلَيْهِ) أي: لا يجوز بالنسبة إلى ما حجر عليه فيه، فالزوجة والميرض يصح عتقهما في الثلث، بخلاف ما زاد. واعتمد المصنف على ما قدمه في كتاب الحجر، وليس مراده بقوله لا حجر عليه نفي الحجر من كل وجه؛ لئلا يلزم الحشو في قوله: (وَلَمْ يُحِطِ الدَّيْنُ) ولما ذكرناه من أنه أراد بقوله: (لا حَجْرَ) ما تقدم في باب الحجر. قال: ولم يحط الدين بماله؛ لأن الذي قدم المصنف الكلام عليه هو المفلس حقيقة، من فلسه الحاكم وهو متأخر عن إحاطة الدين، فلهذا احتاج إلى قوله ولم يحط الدين بماله لأنه يقدمه. وكما لا يلزم الصغير العتق فكذلك لا يلزمه اليمين به إذا حنث بعد البلوغ، وكذلك من فعل على شيء ثم فعله ثم في حال جنونه لا يلزمه، واختلف إذا حنث السفيه بعد خروجه ولم يرد وليه عتقه، هل يلزمه أم لا؟ أما لو أعتق ولم يرد الولي عتقه حتى يخرج من الولاية؛ فله الرد. فَلَوْ أَعْتََ ثُمَّ قَامَ الْغَرِيمُ رُدَّ عِتْقُهُ أَوْ بَعْضُهُ عطفه بالفاء ليرتبه على الجزء الأخير؛ أي: فلو أعتق من أحاط الدين بماله ثم قام غرماؤه رد عت جميعه إن استغرقته الديون، او بعضه إن لم يستغرقه الدين، كما لو أعتق عبداً يساوي مائتين وللدين مائة، فإنه نصفه، وإن لم يوجد من يشتريه إلا كاملاً بيع جميعه، واختلف فيما بقي، فقال ابن حبيب: يصنع به ما شاء. وقيل: يستحب أن يجعله في عتق،

وإليه ذهب اللخمي. أما لو أعتق عبدين ولا مال له غيرهما وقيمتهما أكثر من الدين، ونحن إن بعنا منهما بالحصص لم يكفِ بالدين. فقال ابن عبد الحكم: يقرع بينهما على أنه يباع الدين، وهو ظاهر، و (أَوْ) من قوله: (أَوْ بَعْضُهُ) للتقسيم. فرعان: الأول: لو سكت الغرماء عن عتق السيد وطال ذلك لم يكن قام، وإن قالوا لم نعلم بإعتاقه، فقال ابن عبد الحكم: لهم ذلك في أربع سنين لا في أكثر، وقاله مالك، وفسر الطول الذي يدل على الرضا أن يشتهر بالحرية، ويثبت له أحكامه بالمواريث وقبول الشهادة، ولم يمنع ذلك الغرماء. أصبغ: وكذلك التطاول الذي على السيد فيه أوقات، فإذا فيها وفاء الدين ولم يتيقن شهادة قاطعة أنه لم يزل عديماً متصل العدم مع غيبة الغرماء وعدم علمهم لرد عتقه، ولو ولد له سبعون ولداً ولو أيسر للعتق، ثم قام عليه الغرماء وقد أعسر، فقال مالك: لا يرد عتقه. الثاني: اختلف إذا رد العتق بحكم، ثم أفاد مالاً قبل البيع أو بعد بيع السلطان وقبل إنفاذه؛ كانوا أحراراً، لأن بيعه بالخيار ثلاثة أيام. وقال ابن نافع: لا أعرف هذا، والذي لم أزل أعرفه أن رد السلطان رد وإن لم يبعه في دين ولا يعتق بعد ذلك، وإن أفاد مالاً بقرب رد الحاكم أعتقوا، وإن طال ذلك الزمان كانوا رقيقاً. وفي الموازية: إن أيسر بعد إنفاذ السلطان البيع بالقرب رد البيع. قال بعض الشيوخ: هكذا نقل اللخمي. والذي في الموازية: إن أيسر بعد بيع السلطان وقبل قسم الثمن رد البيع، وإن قسم الثمن وطال لم يرد البيع. اللخمي: وقول ابن نافع أقيسها؛ لأن العتق رد من أصله لحق تقدمه، فلا يعتق إلا بعتق محدث.

وَالْوَصِيَّةُ بالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ عِدَةٌ، وَيَرْجِعُ إِنْ شَاءَ هكذا في بعض النسخ، وعليها فقوله: (وَيَرْجِعُ إِنْ شَاءَ) زيادة بيان؛ لأن ذلك استفيد من قوله: (وَغَيْرِهِ) إذ سائر الوصايا له فيها الرجوع. وفي بعض النسخ: (والوصية بالعتق عدة، ويرجع فيه إن شاء) وهي كالأولى، ولعله يتبع في ذلك لفظه في المدونة: والوصية بالعتق إن شاء رجع فيها. وفي بعض النسخ: (والوصية بعتق كغيره) وهي أخص. وفي بعضها: (الوصية بالعتق وغيره حق لازم، ويرجع إن شاء) ويؤخذ من قوله في المدونة: والوصية بالعتق عدة. أن العتق لا تلزم كانت على سبب أو لا. وَيَجِبُ بالنَّذْرِ وَلا يُقْضَى إِلا بالْبَيِّنَِةِ وَالْحِنْثِ يعني: ويجب العتق بالنذر، سواء كان معلقاً؛ كقوله [746/أ]: إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة. أو لا؛ كقوله: علي لله عتق رقبة، لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". ولا يقضي إلا بالبت؛ أي: إذا أبت للعتق، وفي بعض النسخ: (وَلا يُقْضَى إِلا بالْبَيِّنَةِ وَالْحِنْثِ) فيقيد كلامه لمعين. وقوله: بقيام البينة؛ أي: في النذر المعلق، لأنه الذي يتصور فيه الحنث. وهذه المسألة في أول عتق المدونة؛ ففيها على اختصار ابن يونس: ومن قال لله علي عتق رقيقي هؤلاء؛ فليوف بما وعده، وإن شاء حبسهم ولا يجبر على عتقهم؛ لأن هذه عدة جعلها الله من عمل البر، فيؤمر بها ولا يجبر عليها، وإنما يعتقهم علهي السلطان أن لو حلف بعتقهم، فحلف أو أبت عتقهم بغير يمين، وأما إن كان نذراً أو موعداً؛ فإنه يؤمر أن يفي ولا يجبر عليه. ابن اللواز: قال أشهب: إذا قال لله علي عتق رقيقي فأمر بعتقهم، فقال: لا أفعل، قضي عليه بعتقهم. وإن قال: أنا أفعل ترك، وإن مات قبل أن يفعل لم يعتقوا عليه في ثلث ولا غيره.

ابن عبد السلام: وهو الأقرب لتعلق حق الآدمي بذلك وهو معين، ولا سيما وذلك الحق عتق والشرع متشوف إليه. وقوله على النسخة الأولى بالبت؛ أي: وقامت عليه بينة أو أقر بذلك. وقوله على الثانية بالبينة، وكذلك الإقرار. الْمُعْتَقُ: كُلُّ رَقِيقٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِهِ حَقٍّ لازِمٌ أطلق الرقيق على القن ومن فيه شائبة، واحترز بقوله: (لَمْ يَتَعَلَّقْ بعَيْنِهِ حَقٌّ) من العبد الجاني، وعبد المديان، والمرهون، والمستأجر، وأحد المكاتبين وإن كان يتوقف صحة عتقه على إذن من له الحق، وبعضهم يلزم فيه العتق، لكن لا يظهر فيه آثارالحرية إلا بعد سقوط الحق، والذي يلزم رقبته بغير السيد؛ لذلك أخرج هؤلاء، لأن العتق لا يتصور فيهم بوجه. وأورد المدبر والمكاتب والمقاطع بأنه تعلق بعينهم حق لازم مع أن عتقهم يصح وجوابه: أن المعنى حق لازم؛ أي: لآدمي غيره. وأورد أن العبد المرهون لم يتعلق الحق بعينه؛ لأن الدين متعلق بالذمة، ألا ترى أنه لو مات تعلق الدين بالذمة، فينبغي أن يصح عتقه على هذه الكلية مع أنه لا يصح، قيل: لا نسلم أولاً أن الحق لميتعلق بعينه، وإنما الدين لم ينحصر فيه سلمنا، ولا نسلم عدم صحة عتقه، فإنه يصح ويتوقف على الإتيان برهن مكانه كما تقدم. الصِّيغَةُ: الصَّرِيحُ: كَالتَّحْرِيرِ، وَالإِعْتَاقِ، وَفَكِّ الرَّقَبَةِ هذا هو الركن الثالث، وقسم الصيغة قسمين، صريح، وغيره. ومثل الصريح بالتحرير والإعتاق وفك الرقبة. وأشار بقوله: (كَالتَّحْرِيرِ) إلى أن كل مشتق من هذه هو كالمصادر، وكذلك هو منصوص عليه؛ ففي المدونة: ومن قال لعبده ابتداء ولا سبيل لي عليك عتق، وأن على هذا الكلام جواب الكلام قبله؛ صدق في أنه لم يرد عتقه ولم

يلزمه، فإن قال: أنت حرة، وقال: لم أرد الإعتاق وإنما أردت الكذب؛ ففي المدونة: لا يقبل ذلك ظاهره ولا فيما بينه وبين الله عز وجل. وقال أشهب: يقبل. اللخمي: وقوله أحسن إن صدقته الأمة وإلا لزمه. فرع: وعلى هذا ما لم تكن هناك قرينة تصرف اللفظ عن إرادة العتق؛ ففي المدونة: ومن عجب من عمل عبده أو من شيء رآه منه، فقال: ما أنت إلا حر. أو قال له: تعالَ يا حر، ولم يرد شيئاً من هذه الحرية، وإنما أراد أنك تعصيني فأنت في معصيتك إياي كالحر؛ فلا شيء عليه في الفتيا ولا في القضاء. وفي المدونة: في عبد طبخ لسيده طبخاً فأعجبه طبخه، فقال: أنت حر. فقامت عليه بذلك بينة أنه لا شيء عليه، لأن معنى قوله: أنت حر الأفعال، ولو مر به على عاشر، فقال: إنه حر ولم يرد بذلك الحرية؛ فلا عتق له فيما بينه وبين الله عز وجل، وإن قامت بينة لم يعتق أيضاً إذا علم أن السيد دفع بذلك القول عن نفسه ظلماً. اللخمي: ولو قال العاشر: لا أدعك إلا أن تقول إن كانت أمة فهي حرة، فإن كان ذلك بغير نية العتق لم يلزمه شيء، وإن نوى العتق وهو ذاكر أن له أن ينويه؛ كانت حرة، لأنه لم يكره على النية. قال في المدونة: وإن قال له أنت حر اليوم عتق للأبد، وإن قال: أنت حر اليوم من هذا العمل، وقال: إنما أردت عتقه من العمل ولم أرد الحرية؛ صدق في ذلك مع يمينه، ويلزمه ألا يستعمله في ذلك اليوم. سحنون، وإن قال له: تصدقت عليك بعملك، أو خراجك، أو خدمتك حياتك؛ كان حراً. وخرج اللخمي خلافاً في مسألة سحنون هذه من الخلاف في أم الوليد إذا حرم وطؤها، هل يلزمه بتعجيل عتق، أو الولد لبقاء أرش الجناية عليها لسيدها، وفيه نظر؛ لأن موبجها العتق في مسألة سحنون إنما جاء من لفظه الظاهر في إخراج الملك، فادعاؤه بعد ذلك أنه أراد بقاء الأرش وشبهه مخالف لما دل

عليه، بخلاف أم الولد إذا حرم وطؤها فإن السيد لم يلزم فيها حرية، وإنما التزم ذلك بفعله، والفعل لا يدل بنفسه كما هو مقرر في محله فكان أضعف. سحنون: ولو قال تصدقت عليك بخراجك وأنت حر بعد موتي فهو كأم الولد. اللخمي: يريد يعتق من رأس ماله. قال: وقد اختلف في هذا الأصل هل يكون من الثلث؟ ابن القاسم في الموازية: وإن قيل له في عبده من رب هذا العبد؟ [746/ب] فقال: لا رب له إلا الله. أو قي لله: أمملوكك هو؟ قال: لا. أو قيل له: ألك هو؟ فقال: ما هو لي. فلا شيء عليه، فذلك كمن قيل له: ألك امرأة، أو هذه امرأتك؟ فقال: لا. فلا شيء عليه إن لم يرد طلاقاً ولا يمين عليه. وقال عيسى: يحلف فيه وفي العتق. وفي الموازية: فيمن سئل عن أم ولده، فقال: ما هي إلا حرة. فلا شيء عليه إن لم يرد العتق. ابن القاسم: وإن شتم عبداً حراً فاستعدى عليه الحر سيده، فقال: هو حر مثلك. قال: أراه حراً. وفي المدونة: وإن قال لأمته هي أختي او لعبده هو أخي، فإن لم يرد به الحرية فلا عتق عليه. ولنقتصر على هذا لئلا نبعد عن كلام المصنف. وَالْكِنَايَةُ: كَوَهَبْتُ لَكَ نَفْسَكَ، وَاذْهَبْ، وَاغْرُبْ وَنَحْوِهِ، وَشَرْطُ الْكِنَايَةِ: النِّيَّةُ أما ما ذكره في (اذْهَبْ وَاغْرُبْ) فظاهر. وأما (وَهَبْتُ لَكَ نَفْسَكَ) فبعيد، ولا يكاد يوجد ما ذكره المصنف فيه من اشتراط النية. قال في المدونة: ومن قال لعبدك قد وهبت لك نفسك، أو عتقتك، أو تصدقت عليك بعتقك؛ فهو حر، قبل ذلك العبد أو لم يقبل. قال غيره: إذا وهب فقد وجب العتق ولا ينظر في هذا منه قبول، مثل الطلاق إذا وهبها إياه فظاهره عدم الاحتياج إليه. وقال الغير: تفسير لا خلاف. مالك: فإن وهب لعبده نصفه فهو حر كله. ابن القاسم: وولاؤه كله لسيده، وكذلك إذا أخذ منه دنانير على عتق نصفه أو على بيع نصفه.

وَأَلْحَقَ ابْنُ الْقَاسِمِ نَحْوَ: اسْقِنِي الْمَاءَ بالنِّيَّةِ هذا كالطلاق سواء، ولإلحاقهم هذا بالطلاق قالوا: ولو قال يدك حرة ونحو ذلك لزمه عتق جميعها، فلذلك ألحقوا تمليك المملوك بتملكي الزوجة باشتراط جوابه في المجلس وغير ذلك من أحكام التمليك. اللخمي: والطلاق ما اجتمع فيه نية ولفظ، وأن يكون اللفظ لفظ الطلاق. واختلف إذا انفرد أحد هذه الأوجه الثلاثة، وفي كل وجه قولان وهي أربعة أوجه، وفي كلام المصنف حذف تقديره: وألحق ابن القاسم بالكناية نحو اسقني، والباء في (الكناية) للإلصاق، والباء في (بالنِّيَّةِ) للمصاحبة؛ أي: مصحوباً مع النية، أو للسببية أو للاثنين مجازاً. وَلَوْ قَالَ فِي الْمُسَاوَمَةِ: عَبْدِي حُرٌّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يعني: أن ما قدمه من صريح ألفاظ العتق قد يقترن به ما يخرجه عن ألفاظ العتق، كمن قال في حال المبايعة: عبدي حر يمدحه، أي: حر الأفعال. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: إِنْ بعْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: إِنِ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ؛ فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَى الْبَائِعِ وَيُرَدُّ ثَمَنُهُ ... استغنى المصنف ببيان الحكم في هذه المسألةعن باين حمك ما لو قال البائع: إن بعته فهو حر. أو قال المشتري: فهو حر فقط. لأن معرفة المركب تستدعي معرفة أجزائه، وقد تقدم في باب الطلاق الكلام على هذه المسألة. وقد اختلف إن قال البائع: إن بعتك فأنت حر، فمذهب المدونة كما ذكره المصنف أنه يعتق على البائع، ونقل عن عبد الملك: أنه لا يعتق وهو القياس، لأن العتق إنما يقع بتمام البيع وهو حينئذ قد انتقل إلى ملك المشتري، فيكون البائع قد أعتق ملك غيره، للمشهور ثلاثة اعتذارات:

الأول سحنون: أنه يعتق على البائع بنفس قوله: بعت، قبل أن يقول المشتري، اشتريت؛ لأنه إنما علق علىفعل نفسه. قال: كما أجمعوا في الوصي يعتق بعد موته، وإن كان الميت إنما أوصى أنه يعتق بعد خروجه عن ملكه فكذلك هنا، ويمثل هذا احتج ابن شبرمة في المدونة، وضعف بأن حقيقة البيع عرفاً الإيجاب والقبول. والاعتذار الثاني لابن المواز: البي والعتق وقعا معاً فلزم أقواهما وهو العتق، واستدل على قوته بتبديته في الوصية واستكماله على الشريك، وضعف لأن البيع علة العتق إنما هو بالحمل، وذلك إنما يكون إذا لم يناف قاعدة شرعية. القاعدة الشرعية: هو أن البيع علة لنقل الملك بالشروع بحيث لا ينفك أحدهما عن صاحبه. والاعتذار الثالث للقاضي إسماعيل: إن بعتك فأنت حر قبل بيعي إياك، وفيه نظر. ابن عبد السلام: ورأيت في بعض تآليف المتأخرين قولاً في مسألة المصنف أن العتق يلزم المتري، ولو انفرد المشتري بالعتق لعتق عليه، ويجري فيه الخلاف الذي في التزام الطلاق، ويحمل في مسألة المصنف بالتحريم ثلاثة أقوال، واختلف إذا عتق على البائع هل يفتقر إلى علم أم لا؟ وإذا انتقض البيع وعتق عليه نفى المال للبائع إن انتزعه، أو وقع البيع وأتبع منهما قبل العتق، وإن استثناه المشتري كان للعبد لانتقاض بيعه، ولو أهلك البائع الثمن قبل نقض البيع لم يرد عتق البائع وأتبع السيد بالثمن. وأما على قول ابن الماجشون وإسماعيل، فالمال للسيد لأن العتق يتبع البيع، وفيه نظر. وفي العتبية عن ابن القاسم، من قال: أول عبد أبتاعه فهو حر، واشترى رقيقاً صفقة واحدة؛ فإنه يحنث في جميعهم، بمنزلة الذي يقول أول عبد أبتاعه فابتاع شقصاً من عبد؛ فإنه يقوم عليه باقي العبد، ونظير هذه المسألة إذا قال: إن خالعتك فأنت طالق ألبتة فخالعها؛ أنها ترجع عليه بالمال وتلزمه ألبتة. ويعارضها قوله في كتاب الأيمان [747/أ] بالطلاق من المدونة: إذا مت أنا أو مت أنت فأنت طالق؛ فإنه قال: لا شيء عليه.

وَإِنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٍّ؛ عَتَقَ كُلُّ مَنْ فِي مِلْكِهُ، وَالْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَأَوْلادُ عَبيدِهِ مِنْ إِمَائِهِمْ وَإِنْ وُلِدُوا بَعْدَ يَمِينِهِ، بخِلافِ عَبيدِ عَبيدِهِ؛ فَإِنَّهُمْ تَبَعٌ كَمَالِهِمْ، وَبخِلافِ "كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا" ... حذف المصنف (فحنث) لدلالة قوله (عتق) وفرضها المصنف في العتق المعلق، واستغنى بها عن غير المعلق وجمعهما في المدونة. وقوله: (مَنْ فِي مِلْكَهُ) أي: حين اليمين لا في المستقبل، وأطلق على الذكور والإناث، وقد نص المصنف في الأصول على أنه مذهب الأكثر، واختلف قول سحنون في (مماليكي) والذي رجع إليه وهو مذهب المدونة أنه يشمل الإناث أيضاً. سحنون: ولو قال رقيقي؛ عتق عليه الذكور والإناث. وحكى عياض الاتفاق على ذلك، ولو قال: عبيدي، لم يعتق إلا الذكور. وذهب فضل إلى دخول الإناث في لفظ العبيد، وكذلك قال اللخمي: الصواب دخولهن في عبيده؛ لقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّمٍ لَلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] لأنه من الجمع المكسر. قال في الباين: ونقل ابن سحنون عن أبيه أنه رجع إلى دخولهن، وكلام المصنف ككلامه في المدونة؛ ففيها: وإن قال كل مملوك لي حر في غير يمين حنث بها؛ عتق عليه عبيده ومدبروه ومكاتبوه وأمهات الأولاد وكل شقصفي مملوك ويقوم عليه بقيته إن كان ملياً، ويعتق عليه بقيمته إن كان ملياً، ويعتق عليه أولاد عبيده من إيمائهم ولدوا بعد يمينه أو قبل؛ لأن الأولاد ليسوابملك لآبائهم، إنما هم ملك للسيد، وأما عبيد عبيده وأمهات أولادهم فلا يعتقون ويكون لهم تبعاً. وقول المصنف: (وَأَوْلادُ عَبيدِهِ) مع كونه فرض السألة في صيغة بر يقتضي أن يكون ذلك في الحنث لا في البر، وإلى هذا رجع ابن القاسم. وعلى هذا فلا خلاف في دخول الأولاد في الحنث كن حوامل يوم اليمين أو لا؛ لأن الأمهات مرتهنات باليمين لا

يستطيع وَطْأَهُنَّ وَلا بَيْعَهُنَّ. واختلف في دخولهم في البر؛ أعني: إذا حملن بعد اليمين، وأما إن كن حوامل يوم اليمين فدخول الأولاد اتفاقاً. ابن القاسم: وعدم دخولهم أصوب. وقوله: (بخِلافِ عَبيدِ عَبيدِهِ؛ فَإِنَّهُمْ تَبَعٌ) أي: للعبيد المعتقين، وعورضت هذه المسألة في نذور المدونة فيمن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبده أنه حانث. ورأى بعضهم أن ذلك اختلاف قول، وفرق اللخمي بأن الأعمال تراعى فيها النيات، والقصد في هذا اليمين عرفاً رفع المنة، والمؤنة تحصل بركوب دابة العبد، ولأن الحنث يقع بأدنى سبب. اللخمي وغيره: وظاهر المدون ةأنه يعتق علىلخلاف إذا حنث جميع العبيد الذين له فيهم شرك. وذهب ابن المواز وابن القابس إلى أن معنى ما فيها ان يكون له شريك في كل عبد، وأما لو كانوا عبيداً بينه وبين رجل؛ فإنهم يقسمون، فما صار للحالف عتق. وقوله: (بخِلافِ "كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا") أي: فلا يلزمه به طلاق من هي في عصتمه، ولا فيمن يتزوجها في المستقبل؛ لأن قوله: (كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي) مخصص، بخلاف قوله: (أتزوجها) فإنه مستقبل، فهو عام، فاللزوم فيه خرج، ولهذا ما كان يحتاج المصنف إلى ذكر هذه المخالفة. وَإِنْ قَالَ: فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَكَذَلِكَ، بخِلافِ "كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَداً" فَإِنَّهُ لا يَعْتِقُ مَنْ فِي مِلْكِهِ ... يعني: أن المضارع يتنزل منزلة قوله: كل مملوك لي. وأِار بذلك إلى لزوم العتق فيمن ملكه، وهذا ظاهر؛ بناءً علىلقول بأن المضارع ظاهر في الحال. وذكر اللخمي ي هذا خلافاً، هل يحمل على الماضي، أوعلى الاستقبال؟ لكنه قال: المعروف عند الناس ما ذكره المصنف أنه يحمل على الحال، قال: ولولا العادة لرأيت أن يسأل الناس هل أراد ما في ملكه أو ما يملكه.

وأما قوله: (بخِلافِ "كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَداً") فهو محمول على الاستقبال بلا شك؛ لما صحبه من لفظ الأبد الدالة على الاستقبال، فلذلك لم يلزمه من في ملكه لتعميمه، فهو كقوله: كل امرأة أتزوجها طالق: ولهذا لو قال: أملكه إلى عشرين سنة أو ثلاثين للزمه اليمين. ووقع في المدونة في هذه المسألة اضطراب في الرواية، والمدونة أولى بذلك، فلذلك تركته. خَوَاصٌّ الْعِتْقِ: السِّرَايَةُ، وَالْعِتْقُ بالْقَرَابَةِ وَبالْمُثْلَةِ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ، وَالْقُرْعَةُ وَالْوَلاءُ ... الخاصة: الوصف المختص بالماهية، فالسراية إلى ملك الغير لا توجد إلا في العتق، وقد يعترض على إتيانه بالسراية والعتق بالقرابة، فإن عدمهما هنا إنما يحسن لو كان يتوهم دخولهما في غير العتق، وقد يقال لا نسلم أن من شرط الخاصة أن يتوهم وجودها في غير تلك الماهية. وهذا الكلام أيضاً يأتي في العتق بالثثلث، ثم إنه يعترض على مذهب سحنون أن المرأة تطلق بالمثلة، إلا أن يقال بناء على المشهور، وليس الحجر على المريض في الزائد على الثلث خاصاً بالعتق بل فيه وفي غيره، وكذلك القرعة تأتي في قسمة المشترك والقسمة بين الزوجات. السَّرَايَةُ: وَمَنْ أَعْتَقَ جثزْءاً أَوْ عُضْواً مِنْ عَبْدِهِ سَرَى، وَفِي وُقُوفِ الْعِتْقِ عَلَى الْحُكْمِ رِوَايَتَانِ ... [747/ب] هذا شروع منه في الكلام على الخاصة الأولى. قوله: (جُزْءاً) أي: كالثلث والربع والسدس. (أَوْ عُضْواً) كاليد والرجل. (سَرَى) أي: عتق عليه جميعه. والرواية: بوقف السراية على الحكم. اللخمي: وهو المعروف من المذهب في كتاب الجنايات.

والرواية الأخرى نقلها عبد الوهاب وهو ظاهر ما في عتق المدونة. ومن قال لعبده: يدك حرة، أو رجلك حرة؛ عتق عليه جميعه. وحكى اللخمي في هذه المسألة وفيها إذا كانت البية لغيره ثلاثة أقوال؛ فقال: واختلف قول مالك هل تكون بقية العبد عتقاص كله بنفس العتق الأول أو بعد الحكم؟ فقالمرة: بعد الحكم، وفرق مرة فقال: إن كان ميعه له فأعتقَ بعضَه؛ كان عتيقاً كله بنفس العتق، وإن كان له شرك؛ فحتى يحكم، واختاره اللخمي. وقوله: (عَلَى الْحُكْمِ) فكيف جعل المصنف السراية من خواص العتق قبل السراية حاصلة على قول، أو يقال السراية حاصلة وإنما اختلف في كونها مشروطة بالحكم أم لا، وفي هذا الثاني نظر؛ لأنهم جعلوا الرواية بالسراية قسيمة للحكم. وَمَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي بشُرُوطٍ: الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِراً لما في الموطأ، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شِرْكَاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد؛ قوم عليه قيمة عدل وأعطى شركاءه حصصهم وأعتق عليه العبد". وإلا فق دعتق منه ما عتق، يدل على أن العبد لا يستسعى في بقيته، وهو مذهبنا خلافاً للحنفية. وقوله: (الأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُوسِراً) دل على اعتبار هذا الشرط؛ لقوله: (قُوِّمَ). ويعلم عسره بأن لا يكون له مال ظاهر، وسأل عنه جيرانه ومن يعرفه، فإن لم يعلموا له مالاً حلف ولم يسجن، قاله عبد الملك. سحنون: وقاله جميع أصحابنا، إلا اليمين فلا يستحلف. اللخمي: وهذه المسألة أصل في كل ما لم يكن أصله معاوضة أنه لا يضيق فيه كالمداينة. ثم فسر المصنف اليسار بقوله:

بأَنْ يَفْضُلَ عَنْ قُوتِهِ الأَيَّامَ وَكِسْوَةِ ظَهْرِهِ كَالدَّيْنِ، وَيُبَاعُ مَنْزِلُهُ وَشَوَارُ بَيْتِهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: بأَنْ يَفْضُلَ عَنْ مَا يَوَارِيهِ لِصَلاتِهِ ... هكذا في المدونة في العتق: أنه يباع عليه شوار بيته والكسوة ذات المال، فلا يترك له إلا كسوته التي لابد منها وعيشه الأيام اليسيرة. وفسر في الواضحة الأيام بالشهر ونحوه، ولم يذكر في المدونة هنا الزوجة. وفي سماع ابن القاسم: وشك في كسوة زوجته ل تسلم. وقال سحنون: لا تترك له كسوة زوجته. عياض: والشوار- بفتح الشين - المتاع، واما بضمها فالجمال، قاله في النكاح. وفي قول أشهب بعد. وقال ابن الماجشون: لا يترك له إلا مثل الثوب والشيء الخفيف، وما لا يباع على المفلس، وهو قريب من قول ابن القاسم. قال في كتاب ابن سحنون: وإن كان له بعير شارد أو عبد آبق أو ثمرة موصوفة ما لم تطب، فإن كان قريباً انتظر، وإن كان بعيداص لم ينتظر. قال: وهو قول أصحابنا. الباجي: وإن كان له مدبرون أو معتقون إلى أجل؛ فلا حكم للقيمة في مثل هذا. وأما ديونه، فقال ابن الماجشون: إن كانت على أملياء حضور وأحدها قريب؛ قوم ذلك وتتبع ذمته، وإن كان نسيئة أو أهلها غيب؛ فليس عليه أن يخرج عبده. وفي الموازية: ينتظر دينه ويمنع شريكه من البيع ويتلوم له تلوماً لا ضرر فيه. وَالْمَرِيضُ فَقِيرلإ إِلا فِي الثُّلُثِ يعني: أن المريض إذا عتق شقصاً له في عبد فهو كالفقير إلا أن يحمله الثلث؛ لأن له أن يتصرف فيه، وظاهر قوله: (إِلا فِي الثُّلُثِ) أنه فيه كالصحيح يقوم فيه ويعجل عتقه، وهذا القول حكاه هكذا في المقدمات، ورجع مالك في المدونة إلى أنه لا يقوم عليه إلا إذا كان له مال مأمون؛ ففيها: وإذا أعتق المريض شقصاً له أو نصف عبد، فإن كان ماله

مأموناً؛ عتق عليه الآن جميعه وغرم قيمة نصيبه، وإن كان ماله غير مأمون؛ لم يعتق نصيبه ولا نصيب شريكه، إلا بعد موته فيعتق جميعه في ثلثه. وحمل غير واحد كلامه في المدونة على أنه إذا كان له مال مأمون أنه يقوم عليه الآن ولا يعتق عليه إلا بعد الموت، وكذلك نص عليه في الموازية، وقيل: لا يقوم إلا بعد الموت، كان له مال مأمون أم لا. عياض: وفيها قول رابع: أنه لا يقوم في نصيب الشريك في مرضه، وإنما يعتق عليه في الثلث شقصه فقط، إلا أن يصح فيقوم عليه، إلا أن تكون له أموال مأمونة فيقوم عليه، وهو قول عبد الملك وابن حبيب. وفيها قول خامس حكاه ابن سحنون: يخير الشريك بين التقويم وقبض الثمن ويبقى كله للمعتق موقوفاً، فإن قلت: عتق عليه أو ما حمل الثلث وما بي رقيق لورثته، وإن شاء تماسك بنصيبه إلى أن يموت شريكه فيقوم في ثلثه. وَالْمَيِّتُ مُعْسِرٌ لا كَالْمَرِيضِ، فَلَوْ قَالَ: إِذَا مِتُّ فَنَصِيبِي حُرٌّ لَمْ يَسْرِ عَلَيْهِ الميت لا يقوم عليه كالمعسر، ولو كان أعتق في صحته ولم يعلم بذلك حتى مات، نص عليه في المدونة وإن معسر؛ لأن المال قد انتقل إلى ورثته، ولا تقويم على الورثة لأنهم لم يعتقوا، وشبه المصنف المريض بالفقير والميت بالمعسر، إما لأنه غاير بينهما باللفظ، وإما لأن المريض [748/أ] لما كان له تصرف في ماله فالنفقة والمبايعة حسن تشبيه بالفقير الذي له تمكن في الغالب من المعاملات، والميت لما لم يكن له تصرف أصلاً شبه بالمعسر. مالك وغيره: وإن لم يعلم الشركاء بعتق الشريك إلا بعد موت المعتق أو فلسه؛ لم يعتق من العبد إلا ما كان أعتق. أشهب عن مالك: وإن أعتق حصته ولم يقم عليه حتى مات، فإن مات بحدثان ذلك قوم عليه في رأس ماله؛ لأنه حق ثبت لشريكه لم يفرط فيه، فإن فرط في ذلك لم يعتق في رأس مال ولا ثلث. سحنون: وأنا أقول في المعسر لا تقوم عليه وإن مات بحدثانه.

أشهب عن مالك: ولو أعتق بعض عبده في صحته فلم يقم عليه حتى مات مكانه أو فلَّس؛ لم يعتق عليه إلا ما أعتق. سحنون: وهذا قول أصحابنا جميعاً. وذكر ابن حبيب عن مطرف عن مالك: إن غاصبه الموت عتق عليه باقيه، وإلا لم يعتق عليه إلا ما عتق. وقوله: (فَلَوْ قَالَ) عطفه بالفاء ليرتب عل ىما قبله، ولو قال عوض قوله: (لَمْ يَسْرِ) (لم يعتق) لكان أحسن؛ لأن السراية لا تلزم نفي الحكم. ومقابل الأصح حكاه ابن الجلاب، فقال: وقد قيل أنه لم يكمل علهي في ثلثه. ثم في قول المصنف: لم يسرِ على الأصح نظر من وجه آخر؛ لأن مقتضاه أنه يسري على مقابله، وظاهر الجلاب خلافه. أما لو أوصى بالتكميل لكان وصية تكمل عليه في ثلثه، قاله في الموازية والعتبية، وقاله أصبغ. فَلَوْ كَانَ مُوسِراً بالْبَعْضِ سَرَى فِيهِ أي: لو كان المعتق موسراً ببعض نصيب شريكه سرى في ذلك البعض. وقوله: (سَرَى) أي: يريد بالحكم على أصح الروايتين. وعبارته في المدونة: قوم عليه بقدر ما معه، وهي أحسن. وَلَوْ رَضِيَ الشَّرِيكُ باتِّبَاعِ ذِمَّةِ الْمُعْسِرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الأَصَحِّ لأن الموجب للتقويم اليسر، فليس للشريك أن يرتب ديناً في ذمته، ولأن الأصل ألا يلزمه إلا ما تقرضه، خالفنا ذلك في الموسر لنص الحديث، يبقى ما عداه على الأصل، ومقابل الأصح لابن المواز، وجعل الحديث في ترك الاستكمال لحق الشريك خاصة، والأصح لابن القاسم في الواضحة وهو قول ابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد. ابن يونس: وهو ظاهر قول مالك، وابن القاسم في المدونة، وهو أشبه بالحديث.

وَلا يَلْزَمُ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ، وَلا أَنْ يَقْبَلَ مَالَ الْغَيْرِ وَيُعْتَقُ بهِ تقدم أن مذهبنا عدم استسعاء العبد، ونقل لمالك في الواضحة إلا أن العمل عليه، ودليله الحديث المتقدمن وإلا فقد عتق منه ما عتق، وإن كان اختلف في هذه الزيادة هل من كلامه عليه الصلاة والسلام أو من قول نافع. والأصل التمسك بأنها من قوله عليه الصلاة اوسلام. وأما قوله عليه الصلاة والسلام من حديث قتادة:"من أعتق شقصاً له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال استسعى العبد". غير متفق عليه. فقال أبو عمر: روى هذا الحديث شعبة بن الحجاج وهشام الدستوائي وهمام بن يحيى عن قتادة بسنده، ولم يذكروا فيه السعاية وهي أثبت من الذين ذكروها. وقوله: (وَلا أَنْ يَقْبَل مَالَ الْغَيْرِ) أي: ولا يلزم المعتق قبول مال الغير ليكمل العتق، ويحتمل: ولا يلزم العبد أن يقبل مال الغير ليعتق به، قاله ابن راشد. واقتصر ابن عبد السلام على الأول، وفي بعض النسخ: العبد بالدال وهي ظاهرة. وَإِذَا حُكِمَ بسُقُوطِ التَّقْوِيمِ لإِعْسَارِهِ فَلا تَقْوِيمَ بَعْدُ أي: لإعسار المعتق. (فَلا تَقْوِيمَ بَعْدُ) أي: إذا أيسر لأنه حكم مضى، ويدخل في قوله: (لإِعْسَارِهِ) ما إذا أنشأ العتق في حال العسر، وأما إذا أنشأ في حال اليسر ولم يرفع إلى الحاكم إلا بعد العسر على القول بأن العتق يتوقف على الحكم. وَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ فَأَيْسَرَ فَفِي إِثْبَاتِهِ رِوَايَتَانِ ولو لم يحكم بسقوط التقويم للإعسار، وكلامه يعم إذا كان حال العتق معسراً أو موسراً ثم أعسر، لكنَّ الروايتين إنما وقعتا في المدونة وغيرها فيما إذا أعتق وهو معسر. والضمير في قوله: (ابتاعه) عائد على التقويم وهو موسر. فقال شريكه: أنا أقوم عليه ولا

أعتق. فلما قوم عليه وجده معدماً فإن العبد عتق على الأول، وأتبعوه هذا بالقيمة في ذمته؛ لأنه ضمنه في وقت له تضمينه فيه، كمن أعتق وعليه دين وعنده وفاء به. وقال ابن القاسم: له أن يجرع إلى نصف العبد فيأخذه. والرواية الأولى لمالك في المدونة، والرواية الأخرى وهي التي رجع إليها لكنها مقيدة بقيدين أهملهما المصنف: الأول: أن يكون عسره بيناً. والثاني: أن يكون العبد حاضراً. قال فيها، ثم قال: إن كان يوم عتق يعلم الناس والعبد. والتمسك بالرواية إنما ترك القيام، لأنه إن خوصم لم يقوم عليه لعدمه، فلا يعتق عليه وإن أيسر بعد ذلك، وأما إن كان العبد غائباً ولم يعلم حتى أيسر المعتق لقوم بخلاف الحاضر. ابن الكاتب: ولا يجوز أن يقوم العبد الغائب وإن علم موضعه وصفته؛ لأنه لابد من انتقاد قيمته، والنقد في بيع الغائب لا يجوز. قال: وكذا العبد المفقود لا يقوم. ابن القاسم: وإن كان العبد قريب الغيبة مما يجوز في مثله اشتراط النقد في بيعه لزم تقويمه إذا عرف موضعه وصفته، وتنتقد القيمة لجواز بيعه. مالك في الموازية: وإن أعتق في يسره ثم قيم عليه في عسره، فلا شك أنه [748/ب] لا يقوم. الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ عِتْقُ الْجُزْءِ باخْتِيَارِه أَوْ بسَبَبِهِ، فَلَوْ وَرِثَ جُزْءاً مِنْ قَرِيبهِ لَمْ يَسْرِ، وَلَوْ اتَّهَبَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ سَرَى ... الشرط الثاني في التكميل: حصولعتق الجزء باختياره أو بسببه، احترازاً من الميراث لأنه جبري، فلذلك لا يعتق عليه إلا ما ورث ولو كان ملياً؛ لأنه لم يعتق وإنما أعتق عليه، فلم يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق". وقوله: (وَلَوِ اتَّهَبَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ) بياناً لما ذكره من التسبب. ومعنى (اتَّهَبَهُ): طاوع على قبوله من الهبة، وخالف عبد الملك في الهبة والوصية، فقال: لا يقوم عليه وإن اتهبه؛ أي:

قبله: لأن ما وهب له منه أو أوصى لم يعتق عليه على كل حال قبله أو لا، وولاؤه للموهوب له، وهذا مبني على أن الموهوب ونحوه إذا لم يقبل الهبة يعتق ذلك الشقص وحده وهو مذهب الموازية. قال فيها: وولاؤه للميت؛ أي: في الوصية، ثم رجع فقال: للموصى له. ومذهب المدونة خلافه؛ لأنه قال في كتاب الولاء: إذا أوصى له ببعض أبيه فإن قبله قوم عليه باقيه، وإن رده فروي عن مالك أن الوصية تبطل. ابن يونس: وقاله أشهب وابن دينار: ووافق أصبغ ما في الموازية في الوصية: أنه إذا لم يقبل يعتق عليه ذلك ويكون ولاؤه للموصى له، قال: وأما في الصدقة عليه كله وإن لم يقبله فهو حر كله على سيده. وقال ابن الماجشون: الوصية والهبة سواء قبلهما أو ردهما لا تقويم عليه لباقيه؛ لأن ذلك الشقص يعتق عليه بكل حال وولاؤه للموصى؛ لأنه عتق. وتحصيل هذا الفصل: أنه لا خلاف في التكميل إذا اشترط بعضه، ولا في عدمه إن ورثه. اللخمي: واختلف في الهبة والصدقة والوصية في ثلاثة مواضع في الاستكمال إذا قبل ذلك النصيب، وفي عتق النصيب إذا لم يقبل الهبة والصدقة والوصية، وفي ولاء ذلك النصيب على القول بعتقه. وقال سحنون عن مالك وجميع أصحابه إلا ابن نافع في مسألة الميراث: إذا اشترى بعضه بعد ذلك أو وهب له لم يعتق عليه. وقال ابن نافع: يقوم عليه. سحنون: ولا أعلم من يقول غيره. قال في المدونة: وإن وهب الصغير أباه أو من يعتق عليه أو ورثه فقبل ذلك أبوه أو وصيه؛ فإنه يعتق عليه ذلك الشقص فقط، ولا يقوم على الصبي ولا على أبيه أو وصيه، فإن لم يقبل ذلك الأب أو الوصي فهو حر على الصبي لا على أبيه أو وصيه، وهذا الذي يؤخذ من قوله: (اتَّهَبَهُ) فإن مفهومه لو اتهبه عنه غيره أنه لا يكون كذلك.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبْتَدِئَ لِتَبْعِيضِ الْعِتْقِ، فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ حُرّاً لَمْ يُقَوَّمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً فَالتَّقْوِيمُ عَلَى الأَوَّلِ ... الشرط الثالث للتقويم: أن يكون المعتق هو المبتدئ لتبعيض العتق، فلو كان لإفساد الرقبة فأحدث العتق فيهما؛ كما لو كان ثلثه حرّاً، أو ثلثاه لرجلين فأعتق أحدهما نصيبه فلا تقويم عليه، وكذلك لو كانوا جماعة فالتقويم على الأول؛ أي: ولأجل اشتراطنا في التقويم أن يبتدئ بالعتق لو كان الشركاء في العبد جماعة فأعتق أحدهم نصيبه ثم أعتق الثاني بعده وهما مليان؛ قوم نصيب الثالث على الأول فقط لأنه المبتدئ. اللخمي: إلا أن يرضى الثالث أن يقوم عليه، فإن رضي بذلك قوم على الثاني، ولا مقال للأول في ذلك لئلا يستحق الاستكمال، وإنما الاستكمال حق صعب، فإن كان الأول معسراً والثاني موسراً فلا تقويم على الثاني. قال ابن نافع: يقوم عليه. سحنون: وبالأول قال جميع أصحابنا. فَلَوْ أُعْتِقَ اثْنَانِ مَعاً قُوِّمَ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا، وَقِيلَ: عَلَى عَدَدِهِمَا فلو كان لأحدهم نصف وللآخر ثلثه وللآخر سدسه فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس؛ لقوِّم على المشهور على كل واحد على قدر نصيبه، والربع على قول عبد الملك، ووجهه ظاهر؛ لأن التقويم يترتب على فضل الأجزاء لو انفرد، وقد تقدمت نظائر هذه المسألة. فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِراً فَفِي تَقْوِيمِ الْبَاقِي عَلَى الْمُوسِرِ قَوْلانِ يعني: ولو كان أحد المعتقين معسراً، فهل يقوم الجميع على الموسر، أو إلا ما كان يلزمه في ملاء صاحبه وهو قول عبد الملك، ونقله ابن حبيب عن المصريين، وروي أيضاً عن مالك.

وَلا يُعْتَقُ إِلا بَعْدَ التَّقْوِيمِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ عَلَى أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ مقابل الأظهر القول بالسراية، ومقتضى كلامه - رحمه الله- أنه لا يعتق على الأظهر إلا بعد شيئين؛ التقويم، ودفع القيمة. واستغنى المصنف بالتقويم عن الحكم؛ لأنه غالباً لا يكون إلا بعد الحكم، وكانت أظهر- والله تعالى أعلم- لظاهر الحديث؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "قوم عليهما قيمة عدل وأعطى شركاءه حصصهم وأعتق عليه العبد". فذكر صلى الله عليه وسلم العتق بعد إعطائه القيمة. فإن قيل: إن الواو لا ترتب؛ قيل: جاء في بعض رواية النسائي بثم عن سفيان عن عمر عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسراً فإنه يقوم عليه ولا شطط ثم يعتق". وجاء في رواية بالفاء، ويدل على اعتبار الحكم ما رواه النسائي [749/أ] من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق نصيباً له في اثنين كلف عتق ما بقي". وقوله: (وَالثَّالِثُ) أي: وفي السألة قول ثالث إن عم المعتق بأن قال: نصيبي ونصيب غيري حر ونحوه، فالسراية وإن لم يعم فكالثاني. وجعل المصنف هذا القول في المسألة ابتداء، وإنما جعله ابن شاس مفرعاً، فقال، قال القاضي أبو محمد: أظهر الروايتين أن السراية تحصل بالتقويم ودفع القيمة للشريك. ويتفرع على الروايتين مسائل؛ إحداها: زمان اعتبار القيمة، فعلى أظهر الروايتين يوم الحكم إذا نص المعتق على نصيبه، وإن عمم في جملة العبد فيوم العتق، وقال مطرف وعبد الملك: بل يوم الحكم كالمقتصر على نصيبه. وروي عن أشهب وأصبغ وابن عبد الحكم: وأما على الرواية الأخرى فيوم العتق على كل حال. لكن قال ابن عبد السلام: والقول الثاثل تقييد. وفي المدونة دليل عليه؛ ففي كتاب العتق: إذا أعتق أحد الشريكين في الأمة حصته وهو ملي ثم وطئها المتمسك بالرق قبل التقويم لم يحد؛ لأن حصته في ضمانه قبل التقويم. ثم قال: وإن أعتق أحدهما جميعها وهو ملي لزم ذلك شريكه.

ابن القاسم: ثم ليس لشريكه عتق حصته، ولو وطئها الآخر بعد علمه بعتق الملي لجميعها لَحُدَّ إن لم يعذر بجهالة، انتهى بمعناه. الثَّالِثُ: إِنْ عَمَّمَ فَقَبْلَهُمَا إذا أعتق حصته، وأما إن عمم فيوم الحكم كما ذكرناه من كلامه في الجواهر. وَعَلَى الأَظْهَرِ يُقَوَّمُ يَوْمَ الْحُكْمِ لا يَوْمَ الْعِتْقِ هذا تفريع على الأظهر، وعلى الثاني فالقيمة قد وجبت على المعتق فلا يضر موته. فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ التَّقْوِيمِ لَمْ يُقَوَّمْ تفريع أيضاً على الأشهر، ولا ينفذ على القول بالسراية. وَلَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ نَفَذَ، وَقَالَ الأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: وَمُقْتَضَاهُ إِذَا بَاعَهُ قَبْلَ التَّقْوِيمِ أَنْ يُقَوَّمَ لِلْمُشْتَرِي. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: يُرَدُّ الْبَيْعُ لِلتَّقْوِيمِ ... يعني: أن الأستاذ أبا بكر الطرطوشي رأى أن مقتضى أظهر الروايتين يمضي بيع الشريك الذي لم يعتق نصيبه ويقوم للمشتري كما يقوم للبائع. وفي المدونة: إذا أعتق أحدهما ثم باع الآخر يرد بيعه للتقويم على المعتق. ابن حبيب: ورواه المصريون والمدنيون من أصحاب مالك عنه. وأورد على الأستاذ: أنه لا يلزم من بقائه على ملك الشريك نفوذ البيع؛ لأن البيع يرد لعلة أخرى وهي هنا الغرر؛ لأن التقويم قد وجب قبل البيع فدخل المشتري على قيمة مجهولة وعلى شراء ما فيه خصومة. ويجاب عن ذلك: بأن مذهب ابن القاسم جواز شراء ما فيه خصومة. وينتقض ما قلتم من التعليل بالغرر بقوله في المدونة آخر كتاب العتق الأول: وإن بعت أنت. وأجاب بعض شيوخ صاحب النكت: بأن المشتري في المسألة

الأولى دخل على الفساد بوجوب القيمة قبل الشراء، بخلاف المشتري هو وأجنبي إياه فلم يجب التقويم قبل الشراء، ولا يثبتفي ذلك عتق إلا بعد حصول الشراء، على أن سحنوناً جَوَّزَ مسألة شراء الأب، وقال: لم يجوِّز هذا الشراء والأجنبي لا يدري مااشترى. وقيد أشهب ما في المدونة من نقض البيع، فقال: إلا أن يكون المعتِقُ موسراً فلا يرد بيعه؛ إذ لا يرد إلى تقويم. قال: ولو لم يرد حتى أعسر ثم أيسر؛ فلا يرد إلا أن يكون عدمه الذي كان ليس بالمنكشف، ولا يرفع إلى الإمام يرد بيعه ويقوم عليه بقيمته. لكن قال ابن المواز: لا يعجبنا قوله في إجازة البيع إذا عدم المعتق بعد البيع؛ لأن المبتاع اشترى نصفاً وجب فيه التقويم، فكأنه أعطى عيناً أو عرضاً في قيمة مجهول إذا اشترى وهو يعلم بوجوب القيمة. ابن المواز: وإن دخل العبدَ عيبٌ أو نقص في بدن أو سوق أو زيادة في مال أو ولد من أمة؛ فقد فات فسخ البيع ولزم مشتريه قيمة النصف المبيع يوم قبضه. وأطال ابن المواز الكلام على هذه المسألة وانظر كلامه في ابن يونس على هذه المسألة، وانظر كلامه في ابن يونس. قَالَ: وَكَذَلِكَ حُكْمُ شَهَادَتِهِ وَجِنَايَتِهِ وَحدِّهِ وَغَلَّتِهِ الضمير في (قَالَ) يعود على الأستاذ؛ يعني أن الأستاذ قال: يجب أن يكون سائر أحكامه في شهادته وجنايته وحدوده إلى غير ذلك على هاتين الروايتين، فعلى المشهور عليه في ذلك أحكام العبيد، وعلى الأخرى أحكامه في ذلك أحكام الحر من يوم العتق، (وَجِنَايَتِهِ) مصدر يحتمل أن يكون مضافاً إلى فاعل أو إلى مفعول، كقولهم: ذكاء العلماء، ويحتمل أن يريد به الحدوث، وحينئذٍ يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل وإلى المفعول، والله سبحانه أعلم.

قَالَ مَالِكٌ: لا يُقَوَّمُ إِلا بَعْدَ تَخْييرِ الشَّرِيكِ فِي الْعِتْقِ وَالتَّقْوِيمِ ويتفرع على أظهر الروايتين ما قال مالك في الواضحة: لا يقوم نصيب الشريك على المعتق إلا بعد تخيير ربه بين العتق والتقويم، فإن أعتق فذلك له، وإن أبى قوِّم، وقد يقال في هذا البناء نظر؛ لأنا إن قلنا: إن العبد باق على ملك غير المعتق؛ فلا يلزم عليه تخيير الشريك، بل يكون الواجب حينئذ التقويم على المعتق كما ذهب إليه بعضهم، وعلى مقابله لا تخيير لنفوذ عتقه، وعلى هذا يأتي ما في قذف المدونة في الأمة: يعتق الشريك جميعها وهو موسر أن الشريك ليس له أن يعتق نصيبه، ولهذا قال مالك في النكت: إن مسألة القذف خلاف أصلهم أن من أعتق [749/ب] شقصاً أن للشريك أن يعتق أو يقوم، ولا يفترق ذلك في القياس يعتق الشريك جميعها؛ لأن عتقه إنما هو مسلط على ما يملك منها. فَلَوِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَفِي قَبُولِ رُجُوعِهِ قَوْلانِ إذا خيرناه فاختار العتق ثم أراد التقويم أو بالعكس، فهل له الرجوع أم لا؟ والخلاف إنما هو منصوص فيما إذا أ {اد التقويم؛ فمذهب ابن القاسم في المدونة والعتبية: أنه ليس له بعد ذلك أن يعتق؛ لأنه لما ترك حقه في العبد وجب التقويم على الأول، فصار حقاً له لا يخرج عن يده إلا برضاه، والقول الآخر لابن الماجشون وأصبغ، ورواه ابن وهب عن مالك؛ لأن قوله: أنا أقوم على شريكي عِدَةٌ لم تجب، وأما الصورة الأخرى وهي اختيار العتق فلميذكر اللخمي فيها إلا انه ليس له الرجوع إلى التقويم، وأجرى صاحب البيا فيها القولين اسابقين. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بني أن يكون الشريك اختار ذلك من نفسه، أو بتخيير المعتق، أو بتخيير الحاكم، وليس فيما وقفت عليه من كلامهم في ذلك بيان، ولكن قوة كلامهم أن المسألة مفروضة فيما إذا اختار الشريك من غير تخيير القاضي له.

أشهب: وإن أعتق الشريك وهو موسر، فقال شريكه: أنا أقوم عليه ولا أعتق، فلما قوم عليه وجده معدماً؛ فإن العبد عتيق على الأول ويتبعه هذا بالقيمة في ذمته، لأنه ضمنه في وقت له تضمينه فيه؛ كمن أعتق وعليه دين وعنده وفاء به. وقال ابن القاسم: له أن يرجع إلى نصف العبد فيأخذه. وَلَوِ اشْتَرَى الْحِصَّةَ شِرَاءً فَاسِداً عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَرَدُّ ثَمَنٍ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ فَاسْتُحِقَّ الثَّمَنُ ... يعني: لو كان المعتق اشترى الحصة التي أعتقها شراء فاسداً؛ فإن العبد يكمل عتقه عليه وتلزمه قيمته، أما النصف المشترى فلأنه قد أفاته بعتقه فلزمته قيمته، وإذا انتقل هذا النصف إلى ملكه لزمته قيمة النصف الآرخ على ما تقدم. وشبه ذلك بما لو اشترى عبداً شراء صحيحاً فأعتقه ثم استحق الثمن؛ فإن العتق ينفذ وعليه مثل الثمن المستحق أو قيمته. ووجه التشبيه: أن رد الثمن سبب الاستحقاق لا يبطل العتق، فكذا رده للفساد ليأخذ القيمة. وحمله ابن راشد على ما إذا قال الرجل لعبد غيره: إن اشتريتك فأنت حر، ثم اشترى حصة منه شراء فاسداً. وحمله غيره على ما إذا اشترى الشريك حصته شراء فاسداً، والتشبيه الأول أقرب إلى لفظه، ولم أرَ نقلاً يوافقها ولا الثالثة، وتمشية ابن راشد هي التي في المدونة، قال في أول العتق: ومن قال لعبد إن اشتريتك أو ملكتك فأنت حر، فاشتراه أو بعضه؛ أعتق عليه جميعه وقوم عليه نصيب شريكه، وإن اشتراه بيعاً فاسداً؛ أعتق عليه ولزمته يمتها ورد الثمن، كمن ابتاع عبداً بثوب فأعتقه ثم استحق الثوب فعليه قيمة العبد. هذا لفظه. وأقام بعض الشيوخ منه: أن البيع الفاسد ينقل الملك بنفس الشراء؛ لأن الحرية تفتقر إلى محل وهو الملك، فلو لم يصادف الحرية العبد في ملك المشتري ما عتق عليه.

وَمَتَى كَانَ السَّيِّدَانِ مُسْلِمَيْنِ فَالتَّقْوِيمُ هذا شروع فيما يتعلق بالسيدين والعبدين باختلاف الدين. وقوله: (السَّيِّدَانِ مُسْلِمَيْنِ) يعني: والعبد ليس بمسلم، وحذفه لدلالة المفهوم (فالتقويم) أي: على المعتقِ منهما بلا خلاف؛ للحديث. وَالذِّمِّيَّانِ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ ذِمِّيَّا فَلا تَقْوِيمَ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِماً فَرِوَايَتَانِ أما إذا كان الثلاثة كفاراً؛ فإنا لا نعرض لهم، اللهم إلا أن يعتق الكافرَ كافرٌ أو يبينه عنه. ابن المواز: إلا أن يرضوا بحكمنا. والأصح من الروايتين: إذا كان العبد مسلماً؛ التقويم تغليباً للإسلام، وهو مذهب الموازية. فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُسْلِماً دُونَ شَرِيكِهِ فَالتَّقْوِيمُ، وَبالْعَكْسِ ثَالِثُهَا لابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِماً قُوِّمَ ... يعني: ولو كان المعتق ذميَّاً وشريكه مسلماً، ولا فرق بين أن يكون العبد مسلماً أو لا، فثلاثة أقوال؛ الأول: التقويم على الذمي، سواء كان العبد مسلماً أو ذمياً، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة. مطرف، وابن الماجشون: وأحد قولي ابن المواز، وحكاه عن أشهب وهو الجاري على المختار في المسألة السابقة؛ لأنه حكم بين مسلم غيره، ومقابله لمالك في المختصر، واستحسنه اللخمي وبناه على عدم الخلاف. والثالث لابن القاسم في المدونة: الفرق؛ فإن كان العبد مسلماً قوم على الذمي لأنه حكم بين مسلم وذمي، وإن كان العبد كافراً فلا تقويم عليه؛ لأنه لو كان جميعه للكافر فأعتق بعضه لم يحمك عليه بعتقه. ولبعض القرويين قول رابع: إن أبان النصراني العبد عن نفسه حتى لو أراد رده في الرق لم يكن له ذلك، فيجبر المسلم على أن يقومه عليه ولو لم يبن

العبد عن نفسه، ولو أراد رَدَّهُ في الرق كان له فلا تقويم عليه إلا أن يشاء المسلم. أشهب ولو اشترى نصراني ابنه المسلم عتق عليه. قال: فإن كان نصرانياً لم يعتق. اللخمي: وعلى قول مالك - يعني في المختصر-: لا يعتق وإن كان مسلماً؛ لأنه غير مخاطب بالشرع. وعورض قوله في المدونة: من عدم [750/أ] التقويم في المسألة إذا كان العبد كافراً بماله، بما له في كتاب الشفعة: ووجه المعارضة أن هذه المسألة اجتمع ذميان وبينهما مسلم، ولم يقل يحكم فيها بحكم الإسلام في التقويم، ومسألة الشفعة اجتمع فيها ذميان وبينهما مسلم، وقال: يحكم بحكم الإسلام لإيجابه الشفعة للذمي. وَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ أَوْ أَجَازَ عِتْقَ عَبْدٍ جُزْءاً قُوِّمَ فِي مَالِ السَّيِّدِ وَإِنِ احْتِيجَ إِلَى بَيْعِ الْمُعْتِقِ يعني: إذا كان العبد مشتركاً بين حرٍّ وعبد، فإن أعتق الحر نصيبه فواضح، وإن أعتق العبد نصيبه بغير إذن سيده فأجازه أو أذن له في ذلك ابتداء؛ فيقوم عليه حينئذٍ على السيد الأعلى حتى لو لم يكن ما يكمل به إلا العبد المعتق بيع؛ لأن المعتق في الحقيقة هو السيد الأعلى، ألا ترى أن الولاء له، وهذا معنى قوله: (قُوِّمَ فِي مَالِ السَّيِّدِ) أي: الأعلى، وإن احتيج إلى بيع المعتِق بكسر التاء، وهكذا قال سحنون، ويمكن أن تلقن هذه المسألة بأن يقال: متى يباع السيد في قيمة عبده. ابن القاسم وسحنون: ولو قال السيد قدموه على العبد فيما بيده من مال لم يقوم عليه. وَمَنْ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ إِلَى أَجَلٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقَوِّمُ الآنَ وَيُعْتَقُ إِلَى الأَجَلِ. وَقَالَ سُحْنُونٌ: لِلشَّرِيكِ أَنْ يَتَمَاسَكَ إِلَى الأَجَلِ فَيُقَوَّمُ حِينَئِذٍ وَلا يَبيعُهُ قَبْلَهُ إِلا مِنَ الْمُعْتِقِ ... يعني: وإن أعتق أحد الشريكين نصيبه إلى أجل. وما نسبه المصنف لمالك هو مذهب المدونة، وبه قال المغيرة وابن القاسم. سحنون: وبه أقول.

ابن القاسم في العتبية: إلا أن يعتق شريكه نصيبه إلى ذلك الأجل ويقوم عليه الآن. أي: لأن المقصود تساوي الشقصين. أصبغ عن ابن القاسم وأشهب: إلا أن يكون الأجل بعيداً فيؤخر التقويم إلى حلوله. ولو قال قائل: يؤخر التقويم في الوجهين لم أعبه، وقاله أصبغ. فيحتمل ما في المدونة التقييد بما نقله أصبغ عن ابن القاسم وأشهب، ويحتمل الإطلاق. وقوله: (وَقَالَ سُحْنُونٌ) عن غيره، وفسره ابنه بأنه عبد الملك. وقوله: (لِلشَّرِيكِ) دلت الواو على أن هذا القائل يخيره، فإن شاء التمسك؛ قوم عليه الآن وكان جميعه حرًّا إلى الأجل، وإن شاء تماسك، ثم ليس له بيعه قبل السنة مثلاً إلا من شريكه؛ لدخول المشترى منه علىقيتمه مجهولة، فإذا تمت السنة قومت عليه بقيته يوم تمت إن كان ملياً أو فيما هو ملي به منهما ما لم يكن تافهاً. وفي البيان قول ثالث: أنه لا يقوم عليه حتى يحل الأجل، وهو قول مالك في رواية مطرف عند العدم أخذت منه القيمة وواقفت إلى الأجل؛ لأنه إذا قلنا بالتقويم الآن يؤدي إلى أن من أراد الاستبداد بمنفعة عبد يعتقه إلى أجل لا سيما إن كان الأجل بعيداً. عبد الملك: ولو شاء التقويم عليه يوم العتق فألفاه عديماً؛ فلايكون ذلك قاطعاً للتقويم عليه عند الأجل إن كان يومئذ ملياً، ولا مبيحاً للشريك بيع حصته من غيره قبل تمامها. وقال المغيرة وسحنون: إن عدمه اليوم قاطع للتقويم عليه إن أيسر ومبيح للشريك بيع حصته. فَلَوْ عَجَّلَ الثَّانِي الْعِتْقَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تُقَوّمُ خِدْمَتُهُ إِلَى أَجَلٍ فَيَاخُذُهَا الأَوَّلُ. ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يُعْتَقُ بَعْضُهُ مُعَجَّلاً وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً. أي: لو أعتق الأول نصيبه إلى الأجل ثم أعتق الآخر نصيبه بتلاً، فقال ابن القاسم أولاً: تقوم الخدمة إلى ذلك الأجل ويؤخذ من المبتل ويدفع إلى الآخر ويعتق كله الآن. ثم

رجع فقال: يعتق نصفه الآن ونصفه إلى سنة ولا تؤخذ قيمة خدمته وولاؤه لغيره، وإليه ذهب أشهب، وحكاه سحنون وجميع الأصحاب، ويعرض على الأول بأن قيمة الخدمة قد تكون مساوية لقيمة نصيبه من الرقبة، وفي ذلك إتلاف المال المعجل، إلا أن يقال: إن ذلك كالممتنع عادة، والبحث هنا قريب مما إذا رجع من يشهد بتنجيز عتق معتق إلى أجل ثم رجع الشهود. مطرف: ولو أعتقاه معاً إلى أجل واحد بعد واحد ثم بتل أحدهما؛ فلا يقوم عليه لأنه وضع خدمته. زاد مطرف: وإن مات العبد قبل السنة فماله فيمن بقيت له فيه الخدمة. سحنون: وإن أعتق الأول إلى سنة ثم الثاني لنصفها؛ فلا تقويم، فإذا مضى نصفها عتق نصفه، ولا تقويم للمعتق إلى سنة، وهو عندها حر كله. ابن حبيب: وهو كما لو نجز الأول وأعتق الثاني إلى سنة. ابن القاسم: ولو كان كله لرجل فأعتقه إلى سنة فخدمه بعضها، ثم قال: نصفك حر الساعة عتق عليه جميعه. ابن المواز: وإن أعتق أحدهما لسنة ثم الثاني بعد موت فلان، فإن مات فلان قبل السنة عتق نصيب الثاني ولا تقويم عليه، وإن أبت قبل موته عتق عليه مصابه وقوم عليه نصيب شريكه، وإن كان الأول صحيحاً فمن رأس المال، أو مريضاً فمن الثلث، وأما نصيبه فمن رأس المال. فَلَوْ بَتَلَ الأَوَّلُ وَهُوَ مُوسِرٌ وَأَجَّلَ الثَّانِي أَوْ دَبَّرَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُفْسَخُ وَيُقَوَّمُ وَيُعَجَّلُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَقَعُ مُنَجَّزاً ... هذه عكس التي قبلها وهو موسر في محل الحال، واحترز مما إذا كان الأول معسراً، [750/ب] ولا اعتراض على الثاني، وفي معنى تأجيل الثاني وتدبيره كتابته، نص على ذلك في المدونة وغيرها.

وقوله: (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي الْمُدَوَّنَةِ يُفْسَخُ) فعلى الثاني ويقوم ويؤجل عتقه لحق العبد في العتق. ويقول عبد الملك قال المغيرة وابن نافع، ووجهه: أنه قد ترك التقويم فيعجل عليه العتق الذي ألزمه نفسه، واستثنى من الرق ما ليس له. ابن عبد السلام: والظاهر في حق الجاهل قول ابن القاسم، وفي حق العالم قول عبد الملك. وَمَنْ دَبَّرَ حِصَّتَهُ لَمْ يَسْرِ وَيَتَقَاوَيَانِهِ فَيَكُونُ رَقِيقاً كُلُّهُ أَوْ مُدَبِّراً كُلُّهُ. وَرُوِيَ: إِنْ شَاءَ الشَّرِيكُ قَوِّمَ أَوْ قَاوَى أَوْ تَرَكَ الْجُزْءَ مُدَبَّراً .. اعلم أن من دبر بعض عبده لزمه تدبيره كله، ولم يتكلم المصنف على هذه، وإنما تكلم على ما إذا دبر أحد الشريكين؛ لقوله: (حِصَّتَهُ). وقوله: (لَمْ يَسْرِ) أي: لم يكمل عليه التدبير. ولو قال المصنف لم يكمل لكان أحسن؛ إذ لا يلزم من نفي السريان نفي الحكم، وهذا هو المشهور. وروي عن مالك: أنه يقوم على المدبر، فيكون تنزيلاً - لا تدبيراً- منزلة العتق، وعلى المشهور فيتقاوى المدبر وشريكه العبد. وفسر مطرف المقاواة: بأن يقوم قيمته عدل، ثم يقال للمتمسك: أتسلمه بهذا القيمة أم تزيد، فإن زاد قيل للمدبر: أتسلمه بهذا القيمة أم تزيد، هكذا حتى يقفا، فإن أخذه المدبر؛ بقي كله مدبراً، وإن أخذه غيره؛ بقي كله رقيقاً. قال في المدونة: وكانت المقاوة عند مالك ضعيفة، ولكنه شيء جرى في كتابه. اللخمي: وفيه جنوح لمذهب من أجاز بيع المدبر، وفيه نظر. وروي: إن شاء الشريك قوم أو قاوى، وهذه رواية مطرف وابن الماجشون، وروي: إنه بالخيار في هذين وفي تركه الجزء المدبر. فهذا كله مقيد بقيدين؛ أولهما: أن يدبر بغير إذن شريكه؛ فإنه جائز.

الثاني: هذه الأقاويل إنما هي إذا كان المدبر موسراً، فإن كان معسراً؛ فحكى في البيان أربعة أقوال: الأول لابن الماجشون وسحنون: أن الشريك بالخيار إن شاء أجاز له ما صنع وإن شاء فسخ تدبيره. الثاني: أنه بالخيار إن شاء أجاز وتمسك بنصيبه، وإن شاء أتبعه بقيمة نصيبه، وإن شاء مقاواة على أن وقع عن المدبر أتبعه بما وقع به، وهو أحد قولي ابن القاسم. الثالث لمطرف: إن شاء تمسك بنصيبه وإن شاء قاواه، فإن صار للمدبر بيع منه بنصف ما وقع به عليه-أقل من نصيبه أو أكثر- وبقي الباقي مدبراً، وإن صار لغير المدبر كان رقيقاً كله. أصبغ: وهو القياس، والاستحسان إن صار للمدبر لم يبع منه إلا نصفه فأقل، فإن لم يفِ نصفه بما وقع في المقاواة أتبعه بالباقي في ذمته، وهو القول الرابع. وَيُقَوِّمُ الْعَبْدُ كَامِلاً بغَيْرِ عِتْقٍ عَلَى الأَصَحِّ لا مَا بَقِيَ أي: إذا قلناأن العبد يقوم على المعتق؛ فإنه يقوم جميعه على أنه رقيق كله، وأكد ذلك بقوله: (بغَيْرِ عِتْقٍ) وحكى أبو عمران اتفاق الأصحاب، وحكى عن أحمد بن خالد أنه يقوم نصفه الآخر، وهو ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام؛ فكان يبلغ له ثمن العبد. وفصِّلَ؛ فإن أعتق بإذن شريكه فكقول أحمد، وإن لم يعتق بإذن شريكه فكالمشهور، وينبغي على الأول أن يكون للشريك الرجوع على العتق بقيمة عيب نقص العتق إذا منع الإعسار من التقويم، وقاله بعضهم. وَيُقَوَّمُ بمَالِهِ لأن المال يتبعه ولا يقدر على نزعه من يده لعتق بعضه، وسواء كان ذلك المال قبل العتق أوبعده. وقال في الموازية: ويقوم بقدر ما يساوي في مخبرته وصنعته وبماله وبما

حدث له بعد العتق من ولد، وكذلك الأمة تقوم بمالها وبما ولدت، وكذلك إن دخله عيب فإنما عليه قيمته يوم الحكم. ورواه ابن القاسم وابن وهب وأشهب عن مالك. وفي الموازية والواضحة اولعتبية: في العبد الزارع إن قوم بالفسطاط كان أقل لقيمته؛ فليقوم بموضعه ولا يجلب للفسطاط. وَلَوِ ادَّعَى الْمُعْتِقُ عَيْبَهُ وَلا بَيِّنَةَ تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ أي: لو ادعى من أعتق حصته عيب العبد، أي: عبداً خفيفاً كالسرقة والإباق، وقال: شريكي يعلم ذلك، وأنكر شريكه ولا بينة؛ ففي الواضحة عن ابن القاسم: أنه يقوم سالماً ولا يحلف له لدعواه إلا أن يقيم شاهداً، ثم رجع فقال: بل يحلف له. واختاره أصبغ وابن حبيب، وهو الظاهر؛ لأنه دعوى بمال. أشهب وابن عبد الحكم: ويحلف إذا شهد به غير عدل. وقال محمد: لا يمين عليه. وَيَعْتِقُ عَلَى مَنْ مَلَكَ بإِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ أَحَدُ عَمُودَيْهِ، الآبَاءُ وَإِنْ عَلَوْا وَأُمَّهَاتُهُمْ، وَالأُمَّهَاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ وَآبَاؤُهُنَّ، وَالأَوْلادُ وَإِنْ سَفَلُوا، وَوَلَدُ الأُنْثَى وَالذَّكَرِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانُوا عَلَى الأَصَحِّ، وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ الْعَمِّ. وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وهُوَ: كُلُّ مَنْ لَوْ كَانَ امْرَأَةً لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا هذه هي الخاصية الثانية، ونص على الإرث لئلا يقال انه ملك جبري فلا يعتق عليه. وعم بقوله: (أَوْ غَيْرِهِ) [751/أ] أنواعَ الملك الاختياري، واستدل على هذا بآيات الوصية بالوالدين، وبمنافاة الملك للولد في قوله: (أَن دَعَوْا لِلرَّحَمَنِ وَلَداً) [مريم: 91] قال: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَتِ وَالأَرْضِ إِلاءَأتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم: 93]. وقوله: (وَإِنْ عَلَوْا) يتناول الأم دنية وجميع الجدات من قبل الأم. وقوله: (وَآبَاؤُهُنَّ) أي: آباء الأمهات، ويمكن أن يستغنى عن هذا بقوله: الآباء وإن علوا. ولفظة الجلاب هنا أحسن، فإنه قال: ويعتق على الإنسان من أقاربه إذا ملكهم

الوالدان وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا، والإخوة والأخوات من جميع الجهات، ولا يعتق الأعمام والعمات، ولا الخالات والأخوال، ولاولد الإخوة، ولا ولد الأخوات، ولا أحد سوى من ذكرنا من القرابات. وهذا هوالذي قاله المصنف أنه الأصح هو المشهور؟ ومقابل الأصح رواه ابن خويز منداد عن مالك: لا تعتق الإخوة ولا يعتق عليه إلا والده وولده. وتبع في قوله: (وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ) ابن شاس فإنه قال: وزاد ابن وهب العم خاصة. والذي نقله صاحب النوادر واللخمي وصاحب البيان عنه مثل الرواية الأخيرة: أنه يعتق عليه كل ذي رحم محرم. نعم نقل أبو الحسن أنه تعتق العمة والخالة. وقوله: (وَهُوَ ... إلخ). تفسير لذي رحم، وهو ظاهر، ودليله ما رواه النسائي عن ضمرة عن سفيان ن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَلَكَ ذا رحمٍ مَحَرَم عَتَقَ". إلا النسائي قال: لا نعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان عن ضمرة، وهو حديث منكر رواه أيضاً عن الحسن عن سمرة مرفوعاً، إلا أن سماع الحسن عن سمرة لا يصح إلا في العقيقة. وَالْمَرِيضُ يَشْتَرِي قَرِيبَهُ يَعْتِقُ إِنْ وَفَّى بهِ الثُّلُثُ لأن عتقه إنما هو في الثلث. فإَنْ أَوْصَى بقَرِيبٍ عَتَقَ قَبلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ. وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَفِي وَلائِهِ إِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ قَوْلانِ ... (وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ) أي: يعتق فيهما وإن لم يقبل. وهذا قول ابن القاسم في العتبية، وقد تقدم الكلام على هذه والتي بعدها، وإن أصبغ فرق بين الوصية والصدقة بجعله في الوصية عتيقاً وإن لم يقبله، بخلاف الصدقة لا يعتق حتى يقبله. والقولان في ولائه إن لم يقبله لابن القاسم، والذي رجع إليه أنه للموهوب له.

وَلَوْ كَانَ جُزْءاً وَلَمْ يَقْبَلْ فَقِيلَ: يَعْتِقُ الْجُزْءُ وَلا يُقَوِّمُ. وَقِيلَ: لا يَعْتِقُ أي: لو كان الموصى به أو الموهوبأو المتصدق به جزءاً من قريبه، فإن قبل كمل عليه، وإلا فقولان وقد تقدما. خليل: وينبغي على القول بأنه لا يعتق الجزء هنا ألا يعتق عليه العبد إذا لم يقبله في المسألة السابقة. وَلَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ، بخِلافِ الْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا وُهِبَ لِيَعْتِقَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يَعْتِقُ فِي الْجَمِيعِ حاصله: أنه اتفق على العتق في الهبة والوصية واختلف في الإرث، فقال ابن القاسم: لا يعتق. وقال أشهب: بل يعتق. وقد تقدمت هذه المسألة من كلام المصنف في باب الفلس وتقدم عليه الكلام. وقوله: (لأَنَّهُ إِنَّمَا وُهِبَ لِيَعْتِقَ) فكأن الواهب إنما قصد عتقه عنه، فكذلك لا سبيل لأهل دينه عليه، والوصية تشارك الهبة في هذا. وكان ينبغي أن يقال: لأنه وهبه وأوصى به ليعتق، ولكنه نقل في الرواية، فإنه إنام وقع التعليل فيها للهبة. وأخذ بعض القرويين وابن يونس من قوله: وهب له ليعتق، أن الواهب لو لم يعلم أنه قريبه أنه يباع. وتردد ابن رشد وقد تقدم ذلك. ومفهوم قوله: أن الهبة لو كنات لثواب لم يعتق وهو ظاهر لأنها كالبيع، فيكون كمن اشترى قريبه وعليه دين. وفي المدونة: ومن ابتاع أباه أو عليه دين يقترفه لم يعتق عليه ويباع في دينه، وإن اشتراه وليس عنده إلا بعض ثمنه، فقال مالك: يرد البيع. وقال ابن القاسم: بل يباع منه ببقية الثمن ويعتق ما بقي. وقال غيره: لا يجوز في السنة أن يملك أباه إلا إلى عتق ناجز. ابن المواز: وقول ابن القاسم هو القياس على أصل مذهب مالك. واختلف الشيوخ هل الحكم عند مالك مساو وهو نقض البيع وهو طريق القابسي، أو ينقض في الثانية، وعليه

فالأولى على ما هو ظاهر الكلام وهي طريقة الشيخ أبي محمد. واختار عياض طريق القابسي؛ لأن المسألة مبنية كذلك في المبسوط، واختار ابن يونس طريق الشيخ أبي محمد، وذكر أن المسألة وقعت لمالك كذلك، وفرق بين المسألتين بأن الأولى اشتراط ودفع جميع ثمنه، فلا حجة للبائع إذا قبض جميع ثمنه بخلاف الأخرى. فرع: المشهور أنه يعتق بالقرابة بنفس الملك، وقيل: يتوقف على الحكم، وفرق اللخمي وقال في الأب والأولاد كالأول، وفي غيرهم كالثاني. الْمُثْلَةُ: وَمَنْ مَثَّلَ برَقِيقِهِ عَمْداً مُثْلَةَ شَيْنٍ عَتَقَ عَلَيْهِ وَعُزِّرَ (برَقِيقِهِ) أي: القِنَّ ومن فيه شائبة حرية، لكن ظاهره إخراج عبد عبيده وعبد أولاده الصغار وليس بجيد، وقد نص في المدونة على أنهما كرقيقه، ويقوم عليه رقيق ولده الصغار إن كان موسراً، وإلا لم يقوم عليه. ابن القاسم: وهو كما لو أعتقه، ولم يرتضه [751/ب] اللخمي. وأما عبد ولده الكبير فكعبد الأجنبي لا يعتق عليه إلا أن يبطل منافعه. وقوله: (عَمْداً) ابن عبد السلام: ظاهره أنه يكتفي في العمد قصده إلى الضرب، وهو ظاهر كلام غيره. وقال عيسى في شرح ابن مزين: لاتكون مثلة بضربة أو رمية وإن كان عاماً لذلك، إلا أن يكون عامداً للمثلة يضجعه فيمثل به في مثل ما يستفاد للابن من أبيه. وفي اللخمي: الوجه الذي تكون عنه المثلة أربعة يعتق بوجه واحد وهو أن يكون عمده على وجه العتق، ولا يعتق في ثلاث وهو أن يكون خطأ أو عمداً على وجه المداواة والعلاج، أو تشبيهاً للعمد وليس بصريحه؛ مثل أن يخذفه بسيف أو سكين فيبين منه عند ذلك عضو. وقال عيسى: يذكر عنه ما تقدم. ثم قال: وهو صحيح؛ لأن الغالب شفقة الإنسان على ماله، وقد يريد تبديره بالرمي ولا يريد خروجه عن ملكه بالعتق، وقد يريد المثلة حقيقة، وإن احتمل فِعْلُها الوجهين؛ يحلف أنه لم يقصد ذلك وترك.

سحنون: وإن ضرب برأسه فنزل الماء في عينه لم يعتق عليه؛ لأنه يحتمل أن يكون قصد ضرب الرأس دون ما حدث عن الضرب. عياض: والمثلة- بضم الميم وسكون الثاء، وفتح الميم ضم الثاء، وقيل: بضمهما معاً - هي العقوبة. وقوله: (مُثْلَةَ شَيْنٍ) سيأتي تفسير ذلك (عَتَقَ عَلَيْهِ) الأصل فيه ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: جاء رجل مستصرخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال جارية له يا رسول الله، فقال: "ويحك مالك". قال شراً أبصر لسيده جاريةله فغار فجب مذاكيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل". فطلب فلم يقدر عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأنت حر". فقال: يا رسول الله على من نصرتي؟ قال: "على كل مؤمن، أو قال كل مسلم". قال أبو داود: والذي أعتق اسمه روح بن دينار والذي جباه زنباع. ورواه ابن ماجه وذكر أن اسم العبد سندرا أو ابن سند. وزاد: وقطع أذنيه. قيل: وزنباع يومئذ كافر. وَفِي مُثْلَةِ السَّفِيهِ قَوْلانِ قال في الجواهر: عتق عليه عند ابن وهب وأشهب وأصبغ ولم يعتق عليه عند ابن القاسم، ووقع في بعض وعنه في مثلة العبد، وضمير عنه عائدع لى ابن القاسم؛ لأنه أشهر أًحاب مالك عند المغاربة وعند المتأخرين. ولم يرد مالك وإن كان الغالب إنما هو إضماره، وإلا لقال روايتان بدل القولان، ولعله إنما ألجأه إلى هذا عدم وجود الروايتين لمالك. والقولان لابن القاسم في الموازية، والذي رجع إليه عدم العفو. ابن عبد السلام: والعتق أصح؛ لأن العتق بها شبيه بالحدود والعقوبات. وعلى هذا القول فنص ابن القاسم على أنه لا يتبع ماله، واستقرأ أشهب أنه يتبعه، على أنه

اختلف في الرشيد يمثل بعبده مثل ذلك، ولا يعتق على الصغير والمجنون بالمثلة، ولم يكن في ذلك خلاف. وَفِي مُثْلَةِ الذِّمِّيِّ بعَبْدِه الذِّمِّيِّ قَوْلانِ، بخِلافِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ احترز بالذمي من المعاهد، فإنه لا يعتق عليه، قاله أشهب. قال: ويعتق على الذمي إلا أن يمثل به بعد إسلام، واختاره أصبغ. واختار الأول ابن حبيب واللخمي، ولعل منشأ الخلاف هل هو من أحكام المسلمين أو من باب التظالم؟ وَفِي مُثْلَةِ الزَّوْجَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِذَا كَرِهَ الزَّوْجُ قَوْلانِ قال فيما زاد؛ لأنه لا خلاف أنها إن مثلت بعبد قيمته الثلث أنه يعتق عليها من غير توقف على رضى الزوج، وإنما الخلاف إذا رده. والقول بأنه يتوقف على رضاه لسحنون وابن القاسم ومقابله لأشهب، ومنشأ الخلاف هل العتق حد من الحدود يوجب العتق مطلقاً، أو ليس كذلك؟ وينظر إلى من يجوز عتقه ابتداء فيعتق عليه، ولهذا اختلف في العبد والمديان وقد نبه المصنف على ذلك بقوله: وَفِي مُثْلَةِ الْعَبْدِ بعَبْدِهِ وَالْمِدْيَانِ قَوْلانِ القول بعدم العتق عليهما لابن القاسم والآخر لأشهب، ولو جمع المصنف هذه الفروع وذكر فيها قولين لكان أخصر، لا سيما والقائل متحد؛ لأن ابن القاسم يرى أنه لا يعتق إلا على من يجوز له عتقه ابتداء، وأشهب يعتق عليهم، اللهم إلا أن يقال: إنما فرقها لاختلاف مداركها، إلا العبد والمديان؛ فإن مدركهما متقارب وهوا لحجر عليهام لحق غيرهما، ولا يقال: كان ينبغي على هذا أيضاً جمع الزوجة معهما؛ لأن المنع في حقها يتعلق ببعض مالها بخلافهما. ابن القاسم: وإن مثل المريض عتق في ثلثه، وإن صح ففي رأس ماله.

وَقَطْعُ الأُنْمُلَةِ والظُّفُرِ وَشَقُّ الأّذُنِ شَيْنٌ حكى عياض الاتفاق على العتق عليه بإزالة الظفر، وعورض بأنه جعل قطع الأنملة في كتاب العيوب عيباً خفيفاً إذا كان في الوخش، يريد المشتري ولا شيء عليه. وفي قوله: (وَشَقٌّ الأُذُنِ) وإن كان تبع فيه الجواهر نظر؛ لأن الذي في الموازية: إن قطع طرف أذنه أو بعض جسده عتق عليه. وكذلك قالمطرف: إن خرم أنفه أو قطع أشراف أذنيه عتق عليه. اللخمي: يريد إذا قطع ما يقع فيه شين بيِّن فليس طرف الأنف كطرف الأذن وبضعة من جسده، فالقليل في الوجه شين، وليس كذلك إذا كان تحت الثياب. فلعل ابن شاس والمصنف قاسا الشق على القطع وأطلقاه على القطع [752/أ]. سحنون في كتاب ابنه: وليس شيء من الجوارح التي تعود لهيئتها مثلة، وإنما المثلة ما زال من الأعضاء، وظاهر هذا يخالف كلام المصنف. وَوَسْمُ وَجْهِهِ بالنَّارِ شَيْنٌ، وَفِي ذِرَاعِهِ وَشِبْهِهِ لَيْسَ بشَيْنٍ ظاهر كلامه: أنه يكفي في كونه شيئاً مجرد العلامة بالنار في الوجه ولو كان غير كتابة، والذي قال ابن وهب وأصبغ: إذا وسم جبهته وكتب فيها آبق يعتق. ومعلوم أن كتابة هذه الكلمة شنيعة. أصبغ: وإن كتب ذلك في ذراه لم يعتق، وكذا روى عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب في العبد يعرف بالإباق يسم سيده على وجهه عبد فلان. وَفِي وَسْمِ وَجْهِهِ بغَيْرِ النَّارِ قَوْلانِ ظاهر كلامه: أن مجرد الوسم يختلف فيه، والذي في اللخمي: اختلف إذا وسم جبهته بمداد وإبرة وكتب فيه آبق، فقال ابن وهب: يعتق. وقال أشهب: لا يعتق، ورآه خفيفاً، وذكر ربما عمل له ما يزيله.

وَقَلْعُ الأَسْنَانِ وَسَحْلُهَا شَيْنٌ هذا مما لا خلاف فيه، وسحلها بردها بالمبرد حتى تدفع منفعتها. وَفِي السِّنِّ الْوَاحِدَةِ قَوْلانِ ليس تخصيصه السن بالبين. فقد قال اللخمي: واختلف إذا قلع سناً أو سنين، فقال مالك في الموازية، وقال أصبغ: لا يعتق إلا في جل الأسنان. واختار اللخمي: إن قلع سنين من الثنايا أو الرباعيات شين بخلاف الأَرْحَاءِ. قال: وإن زال ما أفسد عليه استعجال الأكل وطحنه عتق. وقال عياض: يختلف فيما إذا أزال عضواً وإن قل، وإن كان ظفراً أو سنّاً كما نص عليه في الواضحة أنه يعتق عليه، إلا ما ذهب إليه أصبغ في السن الواحدة أنه لا يعتق. وَحَلْقُ رَاسِ الأَمَةِ وَلِحْيَةِ الْعَبْدِ لَيْسَ بشَيْنٍ، إِلا فِي التَّاجِرِ الْمُحْتَرَمِ وَالأَمَةِ الرَّفِيعَةِ أما غير التاجر والرفيعة؛ فليس بشين بالاتفاق، واختلف فيهما، فقال ابن الماجشون: يعتقان. وقال مطرف: لا يعتقان. ونقله في التنبيهات عن مالك، فقال: استخف مالك حلق الرأس واللحية؛ لأنه يعود سريعاً لهيئته ويستر الرأس بالعمامة والوكاية، وفي الوجه بالتلتم إلى أن يعود سريعاً. ونقل الأول عن المدنيين واختاره اللخمي إذا كان لا يعود لهيئة، والثاني إن عاد، قال: ويمنع السيد من إخراج يتصرف حتى يعود حاله. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَعْتَقُ بالْمُثْلَةِ إِلا بالْحُكْمِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: بالْمُثْلَةِ. وَفَرَّقَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بَيْنَ الْوَاضِحِ وَغَيْرِهِ .. تصور الأقوال من كلامه ظاهر، وهذه إحدى الطريقتين في نقل المذهب، وذهب اللخمي وغيره إلى أنه لا يعتق بغير البينة إلا بالحكم، وبالبينة قولان، واختار اللخمي أن العبد يخير إذا مثل في العتق؛ إذ قد يضره العتق إذا أزمنته المثلة ونحو ذلك.

وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ عَمْدٌ: فَقَوْلُ السِّيِّدِ عَلَى الأَصَحِّ أي: قال السيد هو خطأ. وقال العبد: بل هو عمد والقولان هنا، وفي تمثيل الزوج لسحنون، والذي رجع إليه ما صححه المصنف واستحسنه اللخمي، قال: لأنه مأذون له في الأدب، فيكون القول قول السيد إذا حلف، ولو كان قطع يد ونحو ذلكم ما يكون بالحديد ومما يقوم الدليل أنه عمد لم يصدق واقتص للزوجة وأعتق العبد، ورأى في القول الآخر أن السيد معترف بموجب العتق مدع للخطأ؛ فلذلك لا يصدق. سحنون: في هذا القول بعد قوله: فالقول قول المرأة والعبد، بخلاف الطبيب يتجاوز ويقول: اخطأت، ويدعي المفعول العمد؛ لأنه مأذون له في الفعل. وَرَوَى سَحْنُونٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُطَلَّقُ بمُثْلَةِ الْعِتْقِ هذه الرواية ذكرها سحنون في العتبية أنها تطلق عليه مخافة أن يعود، قال في المبسوط: بطلقة بائنة. وساوى ابن رشد بين مثلة الزوج بزوجته وبيعه لها وإنكاحه إياها. وخرج الخلاف من بعضها في بعض، وحصل في كل منها ثلاثة أقوال: الأول: تطلق عليه ثلاثاً. والثاني: طلقة بائنة. والثالث: عدم الطلاق. فذكر المصنف هذه المسألة هنا وإن كانت ليست من مسائل العتق، إما استطراداً في أحكام المثلة، وإما تنبيهاً على أنها لا ترد نقضاً ي عدة المثلة من خواص العتق للخلاف فيها. الْقُرْعَةُ: وَهِيَ فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ عَبيداً دَفْعَةً فِي مَرَضِهِ، أَوْ أَوْصَى بعِتْقِهِمْ وَلَمْ يَحْمِلْهُمُ الثُّلُثُ، أَوْ أَوْصَى بعِتْقِ ثُلُثِهِمْ، أَوْ أَوْصَى بعِتْقِ عَدَدٍ مُسَمَّاهُ وَعَبيدُهُ أَكْثَرُ هذه هي الخاصة الخامسة، وأسقط الكلام على الرابعة وهي الحجر على المريض لأنه قدم الكلام عليها. والأصل في القرعة ما رواه مسلم من حديث عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق ستة مملوكين لم يكن له غيرهم، فدعاهم رسول الله صلى الله

عليه وسلم فجزأهم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، قوال له قولاً شديداً. وفي رواية: أنه أوصى بعتقهم. عبد الحق: والقول الشديد -والله أعلم- ما ذكره النسائي من حديث عمران بن حصين أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال فيه وفي هذه القصة: "لقد هممت ألا أصلي عليه". ويحتمل أن يريد ما رواه أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو شَهِدْتُ قبل أن تدفن في مقابر المسلمين". ويحتمل أن يحتمل مجموع الأمرين. وقوله يعني أنها تكون في أربعة أوجه: الأول: أن يشمل في مرضه عتقهم ولم يحملهم الثلث. الثاني: إذا أوصى [752/ب] بعتقهم ولم يحملهم الثلث. وقوله: (وَلَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ) راجع إلى الوجهين. الثالث: أن يوصي بعتق ثلثهم، وكذلك لو بتل عتق الثلث. الرابع: أن يذكر عدداً ماه وعبيده اكثر، كما لو قال: عشرة من عبيدي أحرار وعبيده خمسون. وما ذكره من جريان القرعة في الوجوه الأربعة نص عليه ابن القاسم في الموازية، وقال أشهب وأصبغ وأبو زيد والحارث: إنما يسهم في الوصية، وأما في المبتلين في المرض فيعتق من كل واحد بغير سهم. قال في الاستذكار: وهو خلاف السنة. وقال المغيرة: إنما القرعة فيمن أعتق عبيده بعد موته ولا مال له غيرهم للحديث، وليس فيما يقاس عليه عكس مذهب أبي زيد. وروى عن ابن نافع: أنه لا يسهم في الرقيق إلا في العتق إذا كان للمالك شيء من المال، وإنما السهمان إذا لم يكن للمالك شيء من المال إلا اولئك الرقيق فقط. ونقله ابن مزين عن مطرف، ومطرف عن مالك، وابن المواز عن ابن القاسم، والمشهور خلافه، وأنه لو كان

له مالٌ غيرهم إذا لم يحملهم الثلث، وإليه أشار المصنف بقوله: (وَلَمْ يَحْمِلْهُمُ الثُّلُثُ) فإنه يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون له مال غيرهم أم لا. واتفقت هذه الأقوال على أنه لا يدخل السهم في عتق الصحة. سحنون: وقال بعض أصحابنا عن مالك أنه يكون السهم فيمن أعتق في صحته رأساً من رقيقه فلم يبينه حتى مات وهم أربعة؛ أنه يعتق ربعهم بالسهم. وقيل: يكون الخيار للورثة كما كان له. وحكى اللخمي في الوجه الرابع- أعني إذا أوصى بعدد سماه وعبيده أكثر- خمسة أقوال. فقال: إن قال في صحته عشرة من عبيدي أحرار وهم خمسون؛ هو بالخيار في عتق عشرة أيهم شاءوا. واختلف إذا أوصى بذلك في مرضه على خمسة أقوال: الأول لمالك في المدونة: يعتق خمسهم بالسهم، خرج في ذلك خمسة أو خمسة عشر. الثاني لمالك أيضاً في المدونة والواضحة: إن خرج في الخمس أظهر من عشرة عتقوا، وإن خرج أقل ضرب سهم على الباقي حتى يستكمل عشرة ما لم يجاوز ثلث الميت. الثالث لأشهب في كتاب محمد قال: واسع أن يعتق نمهم بالسهم أو بالحصص. الرابع للمغيرة: ويعتق جميعهم بالحصص إذا كان العتق من الميت، وإن أوصى ورثته أن يعتقوا كانوا بالخيار يعتقون من شاءوا. والخامس: يأتي على قول مالك في الواضحة؛ لأنه قال فيمن قال: رأس من رقيقي حرٌّ وهم ثلاثة؛ يعتق ثلثهم بالسهم. ثم رجع وقال: ما هذا الذي أراد الميت وإنما أراد أن يُعتق واحد؛ فأرى أن يسهم بينهم فإن خرج واحد وهو أدنى من ثلث قيمتهم أعتق كله إذا حمله الثلث. مطرف: وبه أقول. فعلى هذا إذا قال: عشرة وهم خمسون؛ أعتق منهم تلك التسمية، وسواء كانت قيمتهم أقل من الخمس أو أكثر إذا حملهم الثلث، هذا معنى كلامه.

وَلَوْ نَصَّ عَلَى أَسْمَائِهِمْ فَكَذَلِكَ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: يَعْتِقُ مِنْهُمْ بالْحِصَصِ أي: لو قال في مرضه فلان وفلان أحرار وأوصى بعتقهم فكذلك؛ أي: يسهم بينهم. ورأى سحنون أن التسمية قرينة في إرادة العتق من واحد بالحصص لو قال ثلث كل رأس. وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى التَّرْتِيبِ قُدِّمَ السَّابقُ. الترتيب بأحد وجهين: إما في الزمان، وإما بذات من ذوات الترتيب، قدم السابق. وَلَوْ قَالَ: الثُّلُثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ؛ اتُّبِعَ وَلا قُرْعَةَ وكذلك لو قال أيضاً: سهم من كل واحد منهم، ما ذكر إن حمل ذلك ثلثه، ولا يبدي بعضهم على بعض، أو ما حمل ثلثه مما سمي بالحصص من كل واحد بغير سهم، وقد تقدم أن المبتلين في المرض يعتق منهم مجمل الثلث بالسهم على المشهرو لا بالحصص، ولو حلف بيمين هو فيها على بر ثم حنث فيها في المرض وانعقدت اليمين في الصحة فكذلك، وإن كان فيا على حنث فمات؛ عتق عنهم محمل الثلث بالحصص، هذا معنى ما في المدونة. واختلف القرويون: إنهم كالمدبرين يعتق بالحصص. وقال الصقليون: هم كالمبتلين يعتقون بالسهم. وَطَرِيقُ الْقُرْعَةِ: أَنْ يُقَوَّمَ الْعَبيدُ وَتُكْتَبَ أَسْمَاؤُهُمْ كَالْقِسْمَةِ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ عُتِقَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى كَمَالِ الثُّلُثِ بوَاحِدٍ أَوْ ببَعْضِهِ ... تصوره لا يخفى عليكن لا سيما إذا عرفت ما تقدمت في القسمة.

الْوَلاءُ: سَبَبُهُ زَوَالُ المِلْكِ بحُرِّيَّةٍ بعِوَضٍ أَوْ بغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ تَدْبيرٌ، أَوِ اسْتِيلادٌ، أَوْ كِتَابَةٌ، أَوْ بَيْعٌ مِنْ نَفسِهِ، أَوْ تَدْبيرُ الْغَيْرِ عَنْهُ، أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ بإِذْنِهِ أَوْ بغَيْرِ إِذْنِهِ ... الولاء بفتح الواو ممدود من الولاية وهو من السب وأصله من الولي وهو القرب، وأما من الولاية والتقديم فبالكسر، وقيل: يقال فيهما بالوجهين، والأصل حديث بريرة الذي في الصحيحين، وفيه: "إنما الولاء لمن أعتق". وسببه: زوال الملك بالحرية، واحترز بـ (زَوَالُ) بالبيع والهبة ونحو ذلكن ثم بين أنه لا فرق في ذلك بين أن تكون الحرية بعوض أو لا بين المعلق وغيرهن ولا بين أن يكون عن كتابة أو تدبير أو استيلاد أو بيع من نفسه؛ أي: من نفس العبد، كقوله: إن أعطيتني كذا فأنت حر. وعلى هذا فالمراد بقوله: (أو) لا أن يكون بعوض من غير العبد؛ لئلا يلزم التكرار. وقوله: (أَوْ تَدْبيرُ الْغَيْرِ عَنْهُ) هو معطوف على (زَوَالُ المِلْكِ) [753/أ] أو تدبير غيره، وفي إدخال المصنف (أل) على لفظة (غير) بالنسبة إلى العربية، وقوله: (أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ بإِذْنِهِ) لا إِكال في ذلك إذا كان بإذنه، وأما بغير إذنه فهو المشهور، ونقل ابن عبد البر عن أشهب أن ولاءه للمعتق، وخرج اللخمي فيه الخلاف الذي في السائبة، وتقدم للمصنف ثلاثة أقوال إذا أعتق عن غيره وبلغه ورضي، ثالثها: إن أذن له أجزأه. فَإِنْ كَانَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَقَوْلانِ، وجَعْلُهُ سَائِبَةً كَذَلِكَ ظاهره أن الخلاف فيهما وهو مقتضى كلام اللخمي. وفي المقدمات: إن قال لعبده أنت حر عن المسلمين ولاؤك لي؛ لم يختلف في المذهب أن ذلك جائز، وأن الولاء يكون للمسلمين، ولا إشكال في وجود القولين في السائبة، والمشهور أنه للمسلمين. ولم يذكر المصنف حكم عتق السائبة ابتداء، وفيه ثلاثة أقوال: أجازه أصبغ، وكرهه مالك وابن

القاسم ابتداء، وإن وقع كان الولاء للمسلمين. وقال عبد الملك وابن نافع: ذلك ممنوع وإن وقع فالولاء للمعتق. وقال عياض: لا خلاف في جواز العتق عن المسلمين ولزومه وإن اختلف لمن ولاؤه، وإنما كره لفظ السائبة في الأولى؛ لاستعمال الجاهلية لها في الأنعام وتحريم الله ذلك، ولأنه كما قاله مالك أمر تركه الناس وتركوا العمل به. وإِعْتَاقُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ لَيْسَ بسَبَبٍ أَبَداً وَوَلاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ هذا كالتخصيص لقوله أولاً: (سَبَبُهُ زَوَالُ المِلْكِ) وقوله: (أبداً) يعني: لو أسلم، وهذا هو المعروف. المتيطي: وحكى ابن حارث عن ابن عبد الحكم أن الولاء يرجع إليه إن أسلم، وعلى الأول فلا يجرِ ولاء ولده، وقاله مالك. اللخمي: والقياس أن يرجع إليه ولاؤه بإسلامه، ذكر الولاء لأن العتق كالنسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق" وهو معتق. وقال ابن المواز في مسلم له نصراني، وللعبد عبد مسلم لو أعتقه بغير علم من سيده ولم يعلم حتى أعتق العبد المسلم عبده النصراني ثم مات العبد المسلم عن مال فقال: ميراثه للمسلم الأعلى، وإذا صح أن يجر به إلى السيد الأعلى دون جميع أن يجر إلى ولده المسلم ويرجع إليه إذا أسلم. فَلَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ عَادَ الْوَلاءُ بإِسْلامِ السَّيِّدِ يعني: إذا أعتق الكافر عبده الكافر ثم أسلم العبد فلا يرثه سيده؛ إذ لا يرث الكافر المسلم، فإن أسلم السيد عاد ولاؤه، وتجوز المصنف في قوله: (عَادَ) كما في المدونة والموطأ؛ لقوله: رجع؛ لأن كلا اللفظين يقتضي انتقال الولاء حتى تأوله سحنون، فقال: رجوع الولاء في هذا الباب إنما هو في الميراث، وأما الولاء فهو قائم ولا ينتقل.

وإِعْتَاقُ الْعَبْدِ فِي حَالٍ يَجُوزُ انْتِزَاعُ مَالِهِ؛ ولَوْ بإِذْنِ سَيِّدِهِ لَيْسَ بسَبَبِ أَبَداً بخِلافِ الْمُكَاتَبِ ولَمْ يَرُدَّهُ السَّيِّدُ .. وهذا أيضاً مخصص لقوله أولاً: (سَبَبُهُ زَوَالُ المِلْكِ) وقوله: (أَبَداً) أي: ولو أعتق فالولاء لسيده، ومراده بـ (الْعَبْدِ) مقابل الحر، فيدخل من فيه عقد حرية، ومن ليس يه عقد البتة؛ فلذلك حسن تقييدهم بقوله: (حَالٍ يَجُوزُ انْتِزَاعُ مَالِهِ) ويدخل القن والمدبر وأم الولد ما لم يمرض السيد، والمعتق إلى أجل ما لم يقرب الأجل، وأتى بقوله: (ولَوْ بإِذْنِ سَيِّدِهِ) دفعاً لتوهم أنه بلا إذن أعتقه عنه، أما لو علم السيد؛ أي: فإن الولاء له، وهذا مأخوذ من مفهوم قوله: (يَجُوزُ انْتِزَاعُ مَالِهِ) ولهذا استغنى المصنف بالمكاتب عما يشاركه في المعنى، والمدبر وأم الولد إذا مرض السيد من المعتق إلى أجل إذا قرب الأجل، والمعتق بعضه، وهو الذي أشار إليه المصنف من التفرقة بين من ينزع ماله ومن لا ينزع. ابن المواز: هو أصل مالك وابن القاسم، وفي بعضهاخلاف، فقد قال ابن المواز فيما إذا أعتق المدبر وأم الولد في مرض السيد بإذنه، فقال أصبغ: الولاء لهما وإن صح السيد؛ لأنه يوم أعتق لم يكن للسيد نزع ماله، وإنما ينظر إلى ساعة وقع العتق، وليس كذلك المكاتب إذا عجز بعد أن عتق عبده؛ فالولاء في هذا للسيد، ولايرجع إن أعتق، وذكر أيضاً عن عبد الله بن عبد الحكم هذا الخلاف، قال: أحب إليَّ أن يكون للسيد وإن مات في مرضه، ولا يرجع إليهما وإن أعتقا؛ لأنه كان له أخذ مالهما لو صح، وكذلك المعتق بعضه يعتق بإذن سيده، قيل: له، ولا تراه مثل المكاتب؛ لأنه ممن لا ينتزع ماله فقال: لا، للمكاتب سنة وللعبد سنة وهو الصواب، وما روي عن ابن القاسم غير هذا فغلط عليه وإنما هو عن أشهب. ابن المواز: والمدبر وأم الولد لا ينتزع أموالهما ي مرض السيد، فإن انتزعهما ثم مات؛ فذلك رد له، وإن عاش بقي ذلك له، فالولاء لهما، وإن صح علمنا ممن له أن ينتزع مالهما فصار له الولاء، ثم يرجع إليهما وإن عتقا.

وَبخِلافِ مَا لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بهِ حَتَّى عَتَقَ هو معطوف على قوله: (بخِلافِ الْمُكَاتَبِ) أي: وبخلاف ما لو أعتق العبد فلم يعلم سيده بعتقه حتى أعتقه، فإن الولاء للعبد؛ لأنه لما أعتقه سيده تبعه ماله فجاز عتقه وأن له الولاء، إلا أن يكون السيد استثنى ماله حين أعتقه فيرد عتق العبد ويكون العبد الأسفل رقاً، نقله ابن يونس وغيره، وعلى هذا فيقيد كلام المصنف بما إذا لم يستثن السيد مال العبد. اللخمي: وقيل في هذا الأصل أنه يكون عتيقاً من يوم كان أعتق فيكون الولاء للسيد الأعلى. وَلَوْ شَرَطَ [753/ب] نَفْيَ الْوَلاءِ أَوْ ثُبُوتَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ أَلْغَى وفي بعض النسخ: (لغا) أي: الشرط؛ أي: لأن الولاء لا يقبل النقلن لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق". ولما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته. وَيَسْتَرْسِلُ عَلَى أَوْلادِ مَنْ أَعْتَقَ مُطْلَقاً أي: يسترسل الولاء على أولاد العبد المعتق وأولاد أولاده الذكور ما لم يكن ولد الولد قد مسه رق في بطن أمه؛ لأن القاعدة: أن الولاء لا حجر مع وجود عتق أو رق لغيره، وأن المباشر أولى، ومراده بالإطلاق: عدم ما استثناه في المسألة المعطوفة، فلا فرق هنا بين أن يكون للولد نسب من حرة أم لا، ويحتمل كون المعتِق بكسر التاء رجلاً أو امرأة، ثم الحر مقيد بما إذا لم يكن العبد في الأصل، ففي المدونة في الذمي يعتق عبيداً له نصارىثم أسلموا، ثم هرب السيد ناقضاً للعهد فسبي ثم أسلم؛ رجع إليه ولاؤهم، ولا يرثهم لما فيهم من الرق ويكون ميراثهم للمسلمين، إلا أن يعتق، ولا يرثهم سيده

الذي استرقه مادام هو في الرق، ولا يشبه هذا المكاتب الأسفل يؤدي قبل الأعلى ثم يموت على مال؛ هذا يرثه السيد الأعلى أنه أعتقه مكاتب هو في ملكه بعد، وهذا إذا أعتق مولى فهوى حر قبل أن يملكه هذا السيد، فإن أعتق كان ولاؤهم لمولى يجره إلى معتقه الآن، وإنام يجر إليه ولاء ما يعتق أو يولد له من ذي قبل، فأما ما تقدم من عتق أو ولد فأسلموا قبل أن يوسر؛ لا يجر ولاءهم إلى معتقه؛ لأن ولاءهم قد ثبت للمسلمين. وفي الموازية: إذا أعتق النصراني عبيد النصراى ثم هرب السيد إلى دار الحرب ناقضاً للعهد ثم سبي فبيع وأعتق؛ أنه يجر إلى من أعتقه ولاء ما كان أعتق قبل لحوقه بدار الحرب، وهو خلاف مذهب المدونة، ورجح لأنه نص فيها على أن الحربية إذا قدمت بأمان فأسلمت وكان لها أولاد مسلمون ثم سبي أبوها بعد ذلك وعتق أنه يجر ولاؤها لمعتقه، وفرق بينهما بأن تسلط الرق على أبي الحربية أقوى فلذلك جر بالاتفاق على رقه، بخلاف الذمي الناقض للعهد، فإن أشهب يرى أنه لا يرق بذلك. وَعَلَى أَوْلادِ مَنْ أَعْتَقَتْ وَلَيْسَ لهُمْ نَسَبٌ مِنْ حُرِّ يعني: أن من أعتق أمة فحملت بعد العتق؛ فإن ولاء ولدها لمعتق أمهم إذا لم يكن لهم نسب من حر، ويتبين لك ذلك بكلامه في الحربية، فإنه قال: ولا يكون ولاء ولد المرأة لمواليها إلا في أربعة مواضع: أن يكون أبوهم عبداً، ويكونون من زنى، أو من أب لاعن فيهم ونفاهم عن نفسه، أو يكون الأب حربياً بدار الحرب. وقال المصنف: (وَلِيْسَ لهُمْ نَسَبٌ مِنْ حُرِّ) ولم يقل: وليس لهم أب حر؛ لأنه يلزم على العبارة الثانية أنه لو كان أبوهم عبداً وجدُّهم حراً؛ أن يكون الولاء لموالي الأم، وليس كذلك بل موالي جدهم أولى، وذلك يؤخذ من العبارة الأولى، وهي قولهم: (وَلَيْسَ لهُمْ نَسَبٌ مِنْ حُرِّ) فلذلك عدل إليها.

مَا لَمْ يَكُنْ رِقٌّ أَوْ عِتْقٌ لآخَرَ هذا شرط في استرسال الولاء على أولاد المعتق والمعتقة؛ أي: أنها يسترسل الولاء على أولادهما ما لم تكن أولادهما أرقاء أو معتقين لآخر، كمن زُوِّج أمة ثم أعتقها سيدها وولدت لأقل من ستة أشهر، فإن الأب لا يجر ولاء الولد؛ لأنه قد مسه في بطن أمه رق لآخر، وكذلك إذاأعتق رجل رجلاً فأعتق آخر ابنه، فإن الأب لا يجر ولاء ولده؛ لأنه قد مسه عتق لآخر. وَعَلَى مَنْ أَعْتقُوا جمع الضمير يتناول المعتَق والمعتقة وأولادهم. وحُكْمُهُ كَالْعًصُوبَةِ، فَيُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِهَا الْمِيرَاثَ، ووِلايَةَ النِّكَاحِ وحَمْلَ الْعَقْلِ أي: لما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب". وقصر المصنف فائدة الولاء على الإرث، والولاية في النكاح وحمل العقل ليس بظاهر، وقد نص المصنف على أن للمولى الأعلى الحضانة، وكذلك الأسفل على المشهور، وظاهر كل منهم أنه يفيد كل ما تفيده العصبة من الصلاة على الجنازة وغسل الميت، فلو قال المصنف: فيفيد عند عدمها حكمها لأجزأ. ومُعْتِقُ الأَبِ أَوْلَى مِنْ مُعْتِقِ الأُمِّ وَالْجَدِّ الولاية بمعنى التقدم، وفي الموطأ: أن الزبير بن العوام رضي الله عنه اشترى عبداً فأعتقه. ولذلك بنون من امرأة، فلما أعتقه الزبير، قال: هم موالي أمهم بل هو موالينا، فاختصمه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فقضى للزبير بولائهم.

وكان ينبغي للمصنف أن يعين أن معتق الجد أولى من معتق الأم، إلا أن يقال: إنه اكتفى عن ذلك بقوله: (وَلَيْسَ لهُمْ نَسَبٌ مِنْ حُرِّ). فَلَوْ كَانَ الأَبُ رَقِيقاً فَعَتَقَ رَجَعَ عَنْهُمَا إِلَى مُعْتِقِهِ أي: إذا كانت الأم معتقة والجد والأب رقيقين فالولاء لمعتق الأم، فإن أعتق الجد رجع الولاء لمعتقه، فإن أعتق الأب رجع إلى مواليه. وَلَوْ لاعَنَ الزَّوْجُ؛ فَوَلاءُ الْوَلَدِ لِمُعْتِقِ الأُمِّ، فَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ رَجَعَ إِلَى مُعْتِقِ أَبيهِ لأنه إذا لاعن انقطع نسبه من أبيه، فلذلك كان ولاء الولد لمعتق الأم، فإذا استلحقه عاد الولاء لمعتق الأب، لما تقدم أن معتق الأب أولى من معتق الأم. وَلَوِ اخْتَلَفَ مُعْتِقُ الأَبِ وَمُعْتِقُ الأَمِّ فِي الْحَمْلِ وَلا [754/أ] بَيِّنَةَ؛ فَالْقُوْلُ قَوْلُ مُعْتِقِ الأَبِ، إِلا أَنْ تَضَعَهُ لأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ عِتْقِهَا ... يعني: إذا ادعى معتق الأب أنها حملت به بعد العتق ليكون الولاء بالجر، وادعى معتق الأم أنها كانت حاملاً به يوم العتق ليكون الولاء له لأنه قد مس الولد رق في بطن أمه؛ فالقول قول معتق الأب، لأن الأصل عدم الحمل يوم العتق، إلا أن تضعه لأقل من ستة أشهر من يوم العتق فيكون ولاؤه لمعتق الأم؛ لأن عتقه قد باشره في بطن أمه، وأما إن ولدته لستة أشهر فأكثر؛ فإنه لمعتق الأب لما ذكرنا. وقيد الشيخ أبو محمد ذلكبما إذا لم تكن ظاهرة الحمل؛ يعني: وأما الظاهرة فكما لو ولدته لأقل من ستة أشهر، وبنوا هنا على الستة على قاعدتهم، ولو بني الأمر على التسعة لكونها الغالب لكان حسناً. اللخمي: واختلف هل يوقف الزوج عنها عندما تعتق حتى يعرف أنها حامل، أم لا؟ فقال في الموازية: لايوقف عنها. وقال في المختصر: يكف عنها حتى يتبين هل فيها حمل أم لا؛

لمكان الولاء. وقال أيضاً في التي لها ولد من غير زوجها فهلك هذا الولد، يوقف عنها الزوج لمكان الميراث. اللخمي: وعلى القول الأول لا يوقف ويعمل على ما تبين من الأصل، وهو ظاهر ما في كتاب العتق الثاني. اللخمي: والوقف فيه أحسن. وَإِذَا شَهِدَ وَاحِدٌ بالْوَلاءِ لَمْ يَثْبُتْ، لَكِنْ يُسْتَانَى بالْمَالِ وَيَحْلِفُ وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يُدْفَعُ ... أي: لم يثبت الولاء، واستؤني بالمال خوف أن يأتي لهطالب، وخلاف ابن القاسم وأشهب مبني على القاعدة المختلف فيها بينهما؛ وهي الشهادة على ما ليس بمال إذا أدى إليه، كما لو أقامت بعد الموت شاهداً على الزوجية، واحتج أشهب بقول مالك في أخوين يقر أحدهما بأخ وينكر الأخ؛ لا يحلف ويثبت إرثه من جميع المال بل يعطيه ثلث ما في يده. فرع: سئل أبو بكر بن عبد الرحمن عن الذي أقام شاهداً أنه أعتق هذا الميت فحلف واستحق ماله- على قول ابن القاسم- ثم مات لهذا الميت مولى، فقال: الرواية إن أتى بشاهد آخر استوفى الحكم وحلف أنه مولى موليه وأخذ المال خاصة. ابن يونس: وأن ينبغي أن الشاهد يشهد أن الثاني مولى للأول، ولو شهد شاهد بما شهد به الشاهد الأول فلفق إليه وتمت الشهادة ولا يحلف، قال: ورأيت في بعض التعاليق أن في كتاب ابن المواز لأصبغ إذا شهد له شاهد انه وارث فلان الميت فحلف واستحق، ثم طرأ له مال آخر لا يستحقه إلا بيمين أخرى، فجعله يكرر اليمين مع الشاهد وانظر هذا، ابن الكاتب: وقال: لا يمين عليه، والمال الثاني كالأول، ولو حلف له فهو يستحق مال الميت.

وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا لَمْ يَزَالا يَسْمَعَانِ أَنَّ فُلاناً ابْنُ عَمِّهِ أَوْ مَوْلاهُ؛ كَانَا كَشَاهِدٍ وَاحِدٍ. وَرَوَى أَشْهَبُ: يَثْبُتُ بهِ الْوَلاءُ، وَلَكِنْ لا يُعْجَلُ وَلَعَلَّ غَيْرَهُ أَوْلَى تصوره ظاهر (كَانَا) أي ما تشهد به من السماع كشهادة شاهد بالعتق، فيعطى له بعد الاستيناء بيمين ولا يجر بذلك الولاء؛ لاحتمال أن يكون الأصل واحداً والولاء لا يثبت بواحد، وهذا مذهب المدونة وبه أخذ أصبغ. ابن المواز: ولا يعجبني، وأكثر قول مالك وابن القاسم وأشهب: أنه يقضى له بالسماع بالولاء والنسب، وكذلك في الأحباس والصدقات. ابن القاسم: إن مات في غير بلده وشهد هناك على السماع، فإن الولاء لا يثبت، وإن مات ببلده وشهد فيه على السماع، فإن الولاء لا يثبت؛ لأنه إن كان ببلده فالغالب أن الأصل السماع. بعض القرويين: ينبغي أن يكون تفسيراً لقول ابن القاسم هنا في المدونة: ولو شهد شاهد على السماع لم يحلف معه، فإن قيل: ما ذكره في الشهادة، والمشهور: جريها في النكاح والولاء والنسب؛ لأن قوله جريها يقتضي أن الولاء يثبت بها، وتشبيهه هنا بالشاهد يدل على أنه لا يثبت بهما، ألا ترى أنه قد نص أنه لا يثبت الشاهد إلا أن يقال أنه لا يلزم من الجري الثبوت، بل يصدق وأخذ المال ويكون ما قدمه ليس هو المشهور؛ لقول ابن المواز: أكثر قول مالك وابن القاسم وأشهب أنه يقضى له بالسماع في الولاء والنسب، أو يقيد قوله جريها في النكاح والولاء بما إذا مات في غير بلده، كما أشار إليه بعض القرويين، أو يقال: قوله في الشهادات المشهور جريها في النسب، معناه إذا كان السماع فاشياً، وليس هو هنا كذلك؛ لأنه إنما هو عن الولاء أو ابن العم. فرع: ولا خلاف في ثبوت الولاء بالشاهدين، وكذلك أيضاً يثبت بالإقرار، ففي المدونة: ومن أقر أن فلاناً أعتقه وفلاناً يصدقه؛ فإنه يستحق بذلك ولاءه وإن كذبه قومه،

إلا أن تقوم بينة بخلاف ذلك فيؤخذ بها، وكذلك إن أقر بذلك عند الموت؛ فإنه يصدق. واختلف إذا قال: فلان أعتقني، فكذبه فلان، فقال ابن القاسم: لا يثبت له الولاء إلا أن تقوم بينة. اللخمي: وهو المعروف. وقال أصبغ في الواضحة: يكون مولاه وإن أنكره. ونقل سحنون إجماع العلماء على أن الإقرار بالولاء ثابت. وقال أيوب: لا يثبت الولاء [754/ب] بالإقرار إلا عند البصريين. وذكر ابن رشد أن في المذهب ما يدل على خلاف ذلك. وَعَصَبَةُ الْمُعْتِقِ أَوْلَى مِنْ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ لأن عصبة المعتق تدلي بالنسب، ومعتق المعتق بالولاء، والنسب مقدم على الولاء. فَيُقَدَّرُ مَوْتُ الْمُعْتِقِ حِيْنَئذٍ، فَمَنْ أَخَذَ مِيرَاثَهُ بالْعُصُوبَةِ أَخَذَ مِيرَاثَ الْعَتِيقِ، فَلا شَيْءَ لِلأَبِ مَعَ الابْنِ وَلا لِلْبِنْتِ وَلَوْ مَعَ الابْنِ ... هذا بيان لما هو الأحق-العصبة-وضابط ذلك إن تقدر موت المعتق، وحذف المصنف ظرفاً تقديره: يوم موت المعتق، فمن كان أحق بميراثه بالعصوبة فالولاء له، فإذا ترك رجلأخا شقيقاً وأخاً لأب؛ فالولاء للشقيق، فإن مات الشقيق وترك ولداً ثم مات المولى؛ فميراثه للأخ لأب، لأنه لو قدر موت المعتق الآن لكان أولى من ابن الشقيق، فلذلك لا شيء للأب مع الابن فأحرى الجد، ويحتمل أني ريد المصنف بالأب الجنس فيتناول الجد وغيه، ولا شيء للبنت لأنها لا ترث بالعصوبة، وبالغ بقوله: (وَلَوْ مَعَ الابْنِ) لأنها لا ترث مع الابن بالعصوبة، فإذا كانت مع كونها ترث بالعصوبة ليس لها شيء من الولاء، فأحرى إذا لم يرث بها.

وَالأَخُ وَابْنُ الأَخِ أَوْلَى مِنْ الْجَدِّ فِي بَابِ الْوَلاءِ عمم الأخ وابنه ليتناول الأخ للأب وابنه، وكان الأولى؛ لأن القاعدة: أن كل من شارك الميت في أدنى فهو أقرب. فالأخ وابنه يلتقيان مع الميت في أبيه، والجد إنام يلتقي معه في أب الجد، ولهذا قال ابن اللباد: الفارض العلم أولى من باب الجد. وقوله: في الأم يريد: في الناكح وما في معناه مما يستحق بالعصوبة، ولعل المصنف اعتمد على ما قدمه في باب النكاح. وَلَوِ اجْتَمَعَ أَبُ الْمُعْتِقِ ومُعْتِقُ الأَبِ فَلا وَلاءَ لِمُعْتِقِ الأَبِ إنما كان أبو المعتق أولى لأن العصوبة مقدمة، ولا يجر الأب الولاء إلا إذا لم يكن المعتق المباشر ولا عصبة. وفي بعض النسخ: (ولو اجتمع ابن المعتِق وابن المعتَق) وهي كالأولى، وهذه المسألة جزء من قوله: (وَعَصَبَةُ الْمُعْتِقِ أَوْلَى مِنْ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ) ولا يقال الكلام السابق أفاد الأولوية لأحد الجانبين على الآخر، وهذا أفاد بيانها لأحد الجانبين ونفاها عن الثاني كما قال ابن عبد السلام؛ لأن الأولوية في الأصل المَعْنِي وجوب التقدم فلا فرق. وَلَوِ اجْتَمَعَ مُعْتِقُ أَبِ الْمُعْتِقِ وَمُعْتِقُ الْمُعْتِقِ كَانَ مُعْتِقُ الْمُعْتِقِ أَوْلَى لأن معتق المعتق يدلي بنفسه، ومعتق أبيه يدلي بواسطة. وَلا وَلاءَ لِلأُنْثَى أَصْلاً إِلا عَلَى مَنْ بَاشَرَتْ عِتْقَهُ، أَوْ عَلَى مَنْ جَرَّهُ وَلاؤُهُ لَهَا بوِلادَةٍ أَوْ عِتْقٍ ... حكى سحنون على هذا الإجماع أنه لا ولاء للمرأة إلا على من باشرت عتقه، أو يكون ولداً لمن أعتقته وإن سفل من ولد الذكور خاصة، ولم يبين

المصنف هنا أنه لا يجر إلا أولاد الذكور؛ لأنه قال: أو على من جره ولاؤه لها، وقد بين أولاً أن المرأة إنما تجر ولاء أولادها إذا لم يكن لهم نسب من حر. وَلَوِ اشْتَرَى ابْنٌ وَبنْتٌ أَبَاهُمَا، ثُمَّ اشْتَرَى الأَبُ عَبْداً فَأَعْتَقَهُ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الأَبِ وَرِثَهُ الابْنُ دُونَ الْبنْتِ لأَنَّهُ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ ... أي: إذا اشترياه فقد عتق عليهما. إذا أعتق الأب عبداً ثم مات الأب؛ ورثه ابنه وابنته للذكر مثل حظ الأنثيين. ثم إذا مات المعتِقُ فالابن عاصب الأب بالنسب والبنت معتقة الأب، وقد تقدم أن العاصب المعتق أولى من معتق المعتق. وَلَوْ مَاتَ الابْنُ قَبْلَ الْعَبْدِ كَانَ لِلْبِنْتِ مِنَ الْعَبْدِ النِّصْفُ لأَنَّهَا مُعْتِقَةُ نِصْفِ الْمُعْتِقِ، والرُّبُعُ لأَنَّهَا مُعْتِقَةُ نِصْفِ أَبي مُعْتِقِ النِّصْفِ ... يعني: ولو مات الأب، ثم الابن بعده، ثم العبد؛ فلها نصف ميراث العبد المعتق لأنها معتقة نصف المعتق، ونصف النصف الباقي وهو الربع؛ لأن النصف الباقي لموالي أبيها، وموالي أبيها هو أخوها فله نصفه، فيصير لها ثلاثة أرباع المال. ابن يونس: ويكون لموالي أخيها الربع إن كانت أمة معتقة، وإن كانت عربية فلبيت المال. وَلَوْ مَاتَ الابْنُ ثُمَّ الأَبُ؛ كَانَ لِلْبنْتِ النِّصْفُ بالرَّحِمِ، والرُّبُعُ بالْوَلاءِ، والثُّمُنُ بمَا جَرَّ الْوَلاءُ ... يعني: لو مات الابن ثم الأب؛ كان للبنت سبعة أثمان المال، لأن لها النصف بالرحم، والربع بالولاء الذي لها في أبيها؛ لأنها أعتقت نصفها، ونصف الربع الباقي؛ لأن الربع الباقي لأخيها فيكون لموالي أبيه، وموالي ابنه هي أخته فلها نصف ذلك الربع، والنصف الباقي لموالي الأم إن كانت معتقة، أو لبيت المال إن كانت حرة.

التدبير

التَّدْبيرُ: وَهُوَ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْوَصِيَّةِ قال الجوهري: وهو عتق العبد عن دبر. عياض: وهو مأخوذ من العتق بعد موت المعتق وإدبار الحياة عنه، ودبر كل شيء ما وراءه بسكون الباء وضمها. والجارحة بالضم لا غير، وأنكر بعضهم الضم في غيرها، ورسمه المصنف بالرسم المذكور، فقوله: (عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَوْتِ) يشمل الوصية والتدبير. وقوله: (عَلَى غَيْرِ الْوَصِيَّةِ) فصل أخرج به الوصية. وأورد عليه أنه غير مانع؛ لأنه يصدق على المعلق علىموت أجنبي، وليس بتدبير بل هو عتق إلى أجل، وأجيب بأن قوله: (عَلَى غَيْرِ الْوَصِيَّةِ) قرينة تدل على أنه أراد [755/أ] التعليق على موت المعتق كي لا تكون الوصية معلقة إلا على موت الموصي، أو بأن (أل) في (الْوَصِيَّةِ) نائبة مناب الضمير؛ أي: على موته. الصِّيغَةُ: نَحْوَ دَبَّرْتُكَ، وَأَنْتَ مُدَبَّرٌ، وَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي يعني: أن هذا الباب له ثلاثة أركان؛ صيغة، ومدبر، والصيغ التي ذكرها المصنف صريحة في التدبير، نعم قد يخرج عن هذه الصيغة إلى الوصية بالقرينة؛ كقوله: أنت حر عن دبر مني ما لم أغير ذلك أو أرجع عنه أو أفسخه، كما أن صريح الوصية إذا صحبه قرينة تدل على إرادة التدبير انتقل حكمه؛ كقوله: إذا مت فعبدي فلان حر لا يغير ن حاله أو لا مرجع له فيه، فهذا كله حكم التدبير، حكاه عياض. وحكى بعضهم في الوصية إذا التزم الموصي عدم الرجوع عنها هل يلزمه ذلك؟ قولان. أَوْ بَعْدَ مَوْتِي وَشِبْهُهُ هذا مذهب أشهب؛ لأن مذهب ابن القاسم قال في المدونة، قيل: ومن قال لعبده أنت حر يوم أموت. قال، قال مالك فيمن قال في صحته لعبده: أنت حر بعد موتي فأراد بيعه أنه يسأل، فإن أراد وجه الوصية صدق، وإن أراد التدبير صدق ومنع من بيعه.

ابن القاسم: وهي وصية أبداً حتى يتبين أنه أراد التدبير. وقال أشهب: إذا قال هذا في إحداث وصية لسفر؛ لما جاء "إنه لا ينبغي لأحد أن يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة". فهو تدبير إذا قال ذلك في صحته. ابن القاسم بعد الكلام المتقدم: وإن قال: إن كلمت فلاناً فأنت حر بعد موتي فكلمه؛ لزمه عتقه بعد موته، كما لو حلف بالعتق ولم يقل بعد موتي فحنث؛ فإنه يلزمه. قال: فكذلك هذا يلزمه ويعتق من ثلثه وصار حنثه بالعتق بعد الموت شبيهاً بالتدبير، وفرق في قوله: أنت حر بعد موتي بين غير المعلق فجعله وصية، وبين المعلق فجعله تدبيراً. أبو عمران: ولا خلاف إذا قال ذلك في مرضه وسفره إن كان وصية. قال في المدونة، وإن قال: أنت حر بعد موتي بيوم أو شهر أو أكثر؛ فهو من الثلث ويلحقه الدين. قالوا: وهذا وصية؛ لأن مخالفة التدبير بكونه ليس معلقاً على الموت قرينة في إرادة الوصية. وَأَمَّا إِنْ مِتُّ مَرَضِي هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِي هَذَا فَوَصِيَّةٌ لا تَدْبيرٌ لما ذكر أولاً قوله على الوصية أخذ يبين ما هو وصية، وإنما كان وصية لأن قوله هذا يقتضي أن له الرجوع إن لم يمت في ذلك المرض أو السفر، فكان ذلك قرينة صارفة عن التدبير؛ إذ التدبير لا رجوع فيه، وما ذكره المصنف هو قول ابن القاسم في العتبية، وله في الموازية أن ذلك تدبير، حكاه اللخمي وعياض وغيرهما. عياض: واختلف إذا قيد تدبيره بشرط، فقوله: إن مت في مرضي، أو سفري، أو في هذا الباب، وإذا قدم فلان فأنت مدبر، هل هي وصية له الرجوع فيها، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ، إلا أن يكون قصد التدبيرن وله في الموازية وكتاب ابن سحنون: هو تدبير لازم، وقاله ابن كنانة.

وَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوتِي بسَنَةٍ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مَلِيئاً لَمْ يُوقَفْ، فَإِذَا مَاتَ فَإِنْ كَانَ صَحِيحاً وَقْتَ الأَجَلِ فَمِنْ رَاسِ الْمَالِ، وَيَرْجِعُ بكِرَاءِ خِدْمَتِهِ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ مَرِيضاً فَمِنْ ثُلْثِهِ وَلا رُجُوعَ لَهُ بخِدْمَتِهِ، وِإنْ كَانَ غَيْرَ مَلِيءِ وُقِفَ خَرَاجُهُ سَنَةٌ، ثُمَّ يُعْطَى السِّيَّدَ بَعْدَ كُلِّ شَهْرٍ بَعْدَهَا خَرَاجُ شَهْرٍ قَبْلَهَا ... قوله: (بسَنَةٍ) يريد أو شهراً، أو سنتين، أو نحو ذلك، فإن كان السيد مليئاً لم يوقف؛ أي: خراج خدمة العبد وترك لسيده يستخدمه، فإذا مات السيد فلا يخلو أني كون قبل الموت بسنة مريضاً أو صحيحاً، فإن كان مريضاً فقد تبين أنه أعتقه في المرض فيخرج من ثثه بغلة على تركة سيده؛ لأن كل من خرج من ثلثه فغلته لسيده، لأنها لا ينظر فيه إلا بعد الموت، وإن كان عند السنة صحيحاً فقد تبين أنه أعتقه في الصحة؛ فيعتق من رأس المال ويرجع بكراء خدمته في السنة؛ لأنه قد تبين انه كان مالكها في نفس الأمر، ولهذا لا يضرهما استئذان السيد بعد السنة أو غيرها، وإن كان السيد حين التعليق معسراً وقف خراج العبد سنة، ثم يعطى السيد بعد كل شهر بعد السنة خراج شهر قبلها؛ أي: السنة المحفوظة للسنة المتقدمة، وهذا قول ابن القاسم في العتبية، والأقرب أنه يدفع كل يوم من السنة خراج يوم قبلها، وقاله ابن القاسم أيضاً، ونقله سحنون عن بعض الأصحاب، ولم يفصل سحنون فيما حكاه بين أن يكون السيد معسراً أو موسراً، وحكى في البيان ثلاثة أقوال: الأول: يعجل عتقه من الآن ولا ينتظر به موت سيده؛ لاحتمال أن يكون لم يبق بينه وبين موته إلا مثل الأجل الذي سمى أو أقل؛ فلا يسترقه بالشك وهو أحد قولي ابن القاسم. الثاني: أن يكون يعتق بعد موته من الثلث، وله أن يطأ إن كانت أمة؛ لأنه عتق لا يكسبه إلا الموت، وهو قول أشهب. الثالث: لا يعتق من رأس المال ولا من الثلث للشك، وهو لأشهب أيضاً وهو أَعف الأقوال، وأظهرها قول ابن القاسم؛ يعني: ما ذكره المصنف.

وعورضت هذه المسألة بما إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر؛ فإنه يعجل الطلاق، وقد يجاب بأن الطلاق أضيق؛ لأنه لا يقبل التأجيل والتبعيض، ألا ترى [755/ب] أنه لو قال: أحد من نسائي طالق؛ أنه يلزمه طلاق الجميع. المشهور: ولو قال أحد عبيدي حر اختار عتق واحد. الْمُدَبِّرُ شَرْطُهُ: التَّمْييزُ لا الْبُلُوغُ؛ فَيَنْفُذُ مِنَ الْمُمَيِّزِ وَلا يَنْفُذُ مِنَ السَّفِيهِ لما فرغ من الصيغة شرع في المدبِّر-بكسر الباء- وشرط فيه التمييز، فيخرج المجنون والصغير الذي لا يميز، والأقرب أن التدبير يلزم السكران كما يلزمه العتق على المشهور، وما ذكره من نفوذه من المميز هو مفهوم كلام ابن شاس. ابن راشد وابن عبد السلام وغيرهما: وهو كذلك. ففي البيان: أما الصغير فلا خلاف أنه لا يجوز طلاقه ولا عتقه ولا شيء من أفعاله. وفي النوادر: أن تدبير من لم يبلغ الحلم لا يجوز بخلاف وصيته. والفرق بين التدبير والوصية: أن الوصية إنما تخرج بعد موته وله الرجوع، والتدبير ليس له الرجوع فيه. وقوله: (لا يَنْفُذُ مِنَ السَّفِيهِ) يريد المولى عليه، وسواء كنا ماله واسعاً أم لا. وقال ابن كنانة: إن لم يكن له غير العبد الي دبر لم يجز تدبيره، وإن كان ماله واسعاً لا يجحف العبد به- فإن ذلك له- جاز، وإن دبر عبداً من وَجْهِ رقيقه، أو لكثرتهم ثمناً، أو جارية مرتفعة هي جُلُّ ماله؛ فلا يجوز. ابن رشد: وهو استحسان. ابن عبد السلام: ولا ينفذ من السفيه هو قول أشهب، وقال ابن القاسم: له أن يدبر في المرض، فإن صح بطل. وقال ابن كنانة: يجوز تدبيره ولا يقع إلا بعد موت، وإنما يمنع من ماله في حياته. انتهى. فانظر نقله مع نقل ابن رشد. أما السفيه غير المولى عليه؛ فالمشهور عن ابن القاسم أن أفعاله جائزة، والمشهرو عن مالك أن أفعاله مردودة.

وَفِي نُفُوذِهِ مِنْ ذَاتِ الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَكُن لَهَا مَالٌ سِوَاهُ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ احترز بذات الزوج من الأيم فإن تدبيرها ينفذ. وروى ابن القاسم نحو قوله عن مالك؛ لأن التدبير لم يخرجه من يدها ولها فيه الخدمة والتحمل، ويقول سحنون قال مطرف وابن الماجشون. وروى أيضاً عن مالك قد ألزمته إلزاماً لا رجوع لها فيه فصار ذلك كالتفويت، وينبغي أن يقيد بما إذا أنقصهالتدبير أكثر من ثلث مالها، والله أعلم. وَإِذَا دَبَّرَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ صَحَّ، وَفِي مُؤَاجَرَتِهِ أَوْ تَنْجِيزِ عِتْقِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٍ ... احترز بـ (الْمُسْلِمَ) مما لو دبر عبده الكافر؛ فإنه لا يلزمه وله الرجوع فيه، نص عليه ابن القاسم. وقوله: (الْمُسْلِمَ) يشمل صورتين؛ الأولى: أن يسلم في ملكه ثم يدبره. الثانية: أن يشتريه مسلم ثم يدبره. وفي كل منهما ما ذكره المصنف، وما قاله ابن القاسم هو له في المدونة يؤاجر عليه ويحال بينه وبينه، ويقول مطرف قال ابن الماجشون، وهو ظاهر؛ لأنه يحتمل في استدامة ملك الكافر. وزاد اللخمي في الصورة الثانية قولاً ثالثاً: أن الشراء فيه معتقد وكأنه دبر عبد غيره. ابن القاسم: وإن آجر مدبر النصراني إذا أسلم وقبض المستاجر أجرته فأتلفها، ثم مات قبل أن يخدم العبد شيئاً، فإن رضي العبد أن يخدم مدة الإجارة رغبته في عتق جميع ثلثه؛ فذلك له، ثم يباع باقيه على ورثة سيده النصراني ولا كلام لمن استأجره، وإن أبى العبد أن يخدم في حصة ما أعتق، فإن رضي الذي استأجره أن يخدم ما رق منه لاستحقاق بعض ما استؤجر؛ بيع من جميعه بقدر الإجارة وعتق ثلث ما بقي وبيع على الورثة ما بقي بعد ذلك، وإن رضي المستأجر أن يخدم ما رق منه للورثة؛ فليبع من ثلثه بقدر ثلث الإجارة ويعتق ما بقي من ثلثه ويخدم المستأجر ثلثه حصة ما رق منه، وإذا تمت الإجارة بيع على الورثة ما رق لهم منه، إلا أن يسلموا قبل ذلك فيبقى لهم.

ابن الجلاب: وإن دبر الحربي عبده ثم أسلم العبد أوجر عليه من مسلم ودفعت له إجارته، فأما إن مات عتق من ثلثه، ويخرج فيها وجه آخر؛ وهو أن يباع عليه ويدفع إليه الثمن اعتباراً بأم الولد إذا أسلمت قبله. وَيَرْتَفِعُ بقَتْلِ سَيِّدِهِ عَمْداً، أَوْ باسْتِغْرَاقِ الدَّيْنِ لَهُ ولِلتَّرِكَةِ أي: يرتفع التدبير بقتل سيده عمداً، كما أن القاتل عمداً لا يرث؛ لأنهما لما استعجلا الشيء قبل أوانه عوقبا بحرمانه، واحترز بالعمد من الخطأ، فإنه يعتق في ماله لا ديته، ويرتفع أيضاً باستغراق الدين له وللتركة؛ لأن الدين إنما يخرج من الثلث والدين مقدم، كما لو كان المدبر يساوي مائة والتركة مائتان وعيه ثلاثمائة. وَيَرْتَفِعُ بَعْضُهُ بمُجَاوَزَةِ الثُّلُثِ ويبطل بعض المدبر بسبب مجاوزة ذلك البعض الثلث؛ لأنه إنما يخرج من الثلث، وفي الدارقطني عن ابن عمر- رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث". وضعفه أبو عمر، وقال: الصحيح أنه موقوف على ابن عمر. وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ وَكَانَ لِلسَّيِّدِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى حَاضرٍ مُوسِرٍ بيعَ بالنَّقْدِ، وَإِنْ كَانَ حَالاًّ عَلَى قَرِيبِ الْغَيْبَةِ اسْتُؤْنِيَ بالْعِتْقِ قَبْضُهُ، وَإِلا بيعَ لِلْغُرَمَاءِ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ أَوْ أَيْسَرَ الْمُعْدَمُ بَعْدَ بَيْعِهِ؛ فَفِيهَا: يَعْتِقُ مِنْهُ حَيْثُ كَانَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِلْوَرَثَةِ الْفِدْيَة دُونَهُ ... أي: لو ضاق ثلث السيد عن خروج المدبر منه وكان للسيد دين مؤجل على حاضر مليء؛ بيع بالنقد ليخرج المدبر، فإن كان الدين يساوي مائة وترك السيد مائة والمدبر يساوي مائة أعتق، ولا يريد المصنف بيع بالنقد؛ أي: بالعين، بل المراد المعجل؛ [756/أ]

لأن الدين إذا كان عيناً إنما يباع بالعرض، وإن كان الدين حالاًّ على قريب الغيبة؛ فلايباع واستؤني العِتْقُ قبضَ ذلك الدينِ ممن هو عليه ويعتق فيه المدبر، وقرب الحلول كالحال، هكذا أشار إليه صاحب البيان. قوله: (وَإِلا) أي: وإن لم يكن على حاضر موسر، بل على غائب ولو كان مليًّا أو على معسر، ولو كان حاضراً بيع المدبر للغرماء، أو بيع منه ما جاوز الثلث، وإن حضر الغائب بعد بيعه أو أيسر المعدم؛ فقولان أوجههما في المدونة، هكذا ذكر المصنف، وإنما ظاهرهما على ما قاله اللخمي- نعم هو مذهب عيسى وأصبغ-: يعتق منه حيث كان، سواء كان في يد وارث أو مشتر. الشيخ أبو محمد: وهذا المعروف عن مالك وأصحابه، والثاني لابن القاسم في العتبية، والنفس إليه أميل، وليس كمالٍ طرأ للورثة ولم يتقدم علمهم به؛ لأن هذا قد علموا بهن وأبطل الشرع حق المدبر منه، ثم إن ابن القاسم إنام أبطل حق المدبر في هذا القول إذا أخرج عن يد الورثة ببيع، أو هبة، أو صدقة، أو وجه من الوجوه. قال: وأما إن كان بيد الورثة؛ فإنه يعتق في ثلثه ما اقتضى، وعلى هذا فالاتفاق على أنه يعتق منه إن كان المدبر بيد الورثة، وإنما اختلف إذا لم يكن بأيديهم، وهكذا أشار إليه اللخمي. وَلا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ، وَلا هِبَتُهُ، وَلا الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلا إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلا بالْحُرِّيَّةِ منع بيعه هو المشهور، ونقل في الموطأ: أنه الأمر المجمع عليه عندهم. ابن عبد البر: كان بعض أصحابنا يفتي ببيعه إذا تخلق على مولاه وأحدث إحداثاً قبيحاً، وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز بيعه؛ لما في الصحيحين: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أصحابه أعتق غلاماً عن دبر لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل ثمنه إليه. والجواب أنه قد روى النسائي في بعض طرقه أن الرجل كان عليه دين،

ونحن نقول بموجبه، وأيضاً فقد ذكر عبد الحق عن ابي مريم عن عبد الغفار ابن القاسم الكوفي الأنصاري: أنه روى عن أبي جعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في قصة هذا المدبر، قال: إنما أذن ببيع خدمته. ويشهد للثاني ما رواه مالك: أن عائشة رضي الله عنها باعت جارية لها سحرتها. أرادت بذلك تعجيل العتق بقتلها. مالك وسحنون: وكانت مدبرة، وإذا فرعنا على المذهب، فلو بيع المدبر فسخ بيعه ما لم يتصل به عتق، واختلف حينئذ قول مالك، فقال مرة: بإمضاء البيع ويجوز وولاؤه للمشتري، وقال مرة: يفسخ لأن الأول لما دبره فقد انعقد ولاؤه له، فلو أمضاه للمشتري لزم نقل الولاء، والأول أشهر والثاني أقيس، وعلى الأشهر فقال مالك: لا شيء على البائع والثمن سيغ له حلال، وقاله ابن القاسم، وقال ابن كنانة: يؤمر أن يتضح من ثمنه، وقال ابن القاسم: إذا باع مدبره وجعل أمره وما صار إليه فليجعل ثمنه كله في مدبر، وجمع بعض الشيوخ مسألة: إذا مات هذا المدبر عند مشتريه أو أعتقه، وذكر أربعة أقوال: الأول: أنه لا يجب عليه أن يتنجز من ثمنه في الوجهين، والثاني: مقابله. والثاثل: يجب عليه أن يتنجز بما زاد على قيمته على الرجاء والخوف فيها. الرابع: الفرق فيجب عليه التنجز من الزيادة في الموت دون العتق. وَلَوْ جَنَى لَمْ يُبَعْ، فَفِيهَا: وإِنْ شَاءَ السَّيِّدُ أَسْلَمَ خِدْمَتَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِي أَرْشَهَا أَوْ فِدَاهُ، فَإِنْ أَسْلَمَهُ فَمَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِمْ فَإِنْ عَتَقَ فَفِي اتِّبَاعِهِمْ ذِمَّتَهُ قَوْلانِ، فَإِنْ رُقَّ بَعْضُهُ تَعَلَّقِ بهِ حِصَّتُهُ مِمَّا بَقِيَ وَخُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ إِسْلامِ الْبَعْضِ وَافْتِكَاكِهِ ... إذا جنى المدبر جناية لم يبع في تلك الجناية. وقوله: (حَتَّى يَسْتَوْفِي أَرْشَهَا) يعني: أن المجني عليه لا يملك جميع الخدمة، بل إنما له من الخدمة بمقدار أرش جنايته، وهذا هو المشهور، وقيل: إنه يملك الجميع، وعلى المشهور فللسيد أن يقاص أهل الجناية بما أخذوا من الجناية ويدفع لهم بقية الأرش وقاله التونسي، هذا التخيير الذي ذكره المصنف مقيد

بما إذا لم يكن للمدبر مال، فإن كان له مال لم يكن للسيد إسلامه من مجني عليه بخدمته، بل يدفع أرش الجناية من ماله، نص عليه في المدونة وغيرها، وإن أسلمه السيد فمات السيد قبل أن يستوفي ذو الجناية أرشها، فإن حمله الثلث نفذ عتقه، ثم في اتباع ذي الجناية للمدبر قولان. مذهب المدونة: أنه يتبع. والقول بأنه لا يتبع حكاه ابن الجلاب. وسبب الخلاف: هل تدفع الخدمة للمجني عليه على سبيل التقاضي أو على سبيل المعاوضة والتمليك، فعلى الأول يرجع إلى السيد إذا استوفى المجني عليه أرش الجناية ويتبع المدبر إذا مات السيد قبل استيفاء الجناية، وعلى الثاني العكس فيهما؛ بناء على أن الجناية إنما تعلقت بالخدمة والخدمة سقطت بالعتق أو تعلقت برقبته، ولما منع الشرع من بيعه لأجل التدبير وزوال التدبير بقيت الجناية متعلقة برقبتها، وأما تعذر بيعها لأجل الحرية؛ تعلقت بالذمة، وإن لم يحمل الثثل رقبته؛ عتق منه محمل الثلث حتى لو لم يترك السيد غيره عتق ثلثه ورق ثلثاه وكان ثلثاه بقي من رأس الجناية متعلقاً بما رق من الرقبة، ويختلف في اتباع ثلث الحر، وهذا قول المصنف: (تعَلَّقَ بهِ حِصَّتُهُ مِمَّا بَقِيَ) يعني: من أرش الجناية، وهكذا الفقهاء السبعة [756/ب]: أن الورثة مخيرون في إسلام ما بقي. محمد: وإنام يخير الورثة في الباقي، وقد كان السيد أسلمه؛ لأنه إنما أسلم خدمته فيما صار بعضه رقاً خروا لأنه غير ما أسلمه السيد. وَلَوْ جَرَحَ الْمُدَبَّرُ ثَانِياً بَعْدَ إِسْلامِهِ تَحَاصَّا ببَقِيَّةِ الأُولَى وجُمْلَةِ الثَّانِيةِ بخِلافِ الْقِنِّ يَجْرَحُ فَيُخَيَّرُ الأَوَّلُ بَيْنَ إِسْلامِهِ وَافْتِكَاكِهِ ... يعني: جرح المدبر واحدا وأسلم إليه ثم جرح ثانياً؛ ففي المدونة: يتحاص هو والأول في خدمة الثاني لجميع أرش جرحه، والأول بما بقي له إن كان استخدمه شيئاً، بخلاف العبد القن؛ فإنه إذا أسلم ملك للمسلم إليه، فإذا جرح ثانياً كان المجروح أولاً من سيده فيخير بين أن يسلمه أو يفديه، والتخريج لابن الجلاب وهو مبني على القول أنه

يدفع الخدمة تمليكاً، والقن في اللغة أخص منه عند الفقهاء العبد الذي لا شائبة فيه من شوائب الحرية. وقال في المحكم: القن هو الذي ملك أبوه وكذلك الاثنان، والجمع هذا الأعرف، وحكىجمعه أقنان وأقن، والأقناء قن بغير هاء، وقال اللحياني: العبد القن الذي ولد عندك ولا يستطيع أن يخرج عنك. تنبيه: لم يتكلم المصنف على الركن الثالث وهو المدبَّر بفتح الباء؛ لدلالة كلامه عليه، وهو كل من فيه شائبة رق من عبد أو أمة، صغيراً وكبيراً وجميلاً. وَوَلَدُ الْمُدَبَّرِ مِنْ أَمَتِهِ بَعْدَ التَّدْبيرِ بِمَنْزِلَتِهِ احترز بـ (أَمَتِهِ) من زوجته؛ لأن الزوجة إذا كانت حرة فالولد حر، وإن كانت أمة فهو رقيق لسيدها. واحترز بـ (بَعْدَ التَّدْبيرِ) مما لو حملت به قبله؛ فإنه لا يكون مدبراً ولو ولد بعده، فإذا ولدته لستة أشهر فأكثر من يوم التدبير كان مدبراً مع أبيه، ويحمل على أنها حملت به بعد التدبير، وإن ولدته لأقل كان رقاً لسيده ولم يكن مدبراً مع أبيه. ابن حبيب: وإن أحدث السيد ديناً؛ فلا يباع الولد وهو صغير ويوقف إلى حد التفرقة فيباع، وكذلك لو كان الصغير هو المدبر دونها، وإذا كان ولد المدبر بمنزلة أبيه، فهل يحاص أباه عند ضيق الثلث على المشهور في المدبرين في كلمة واحدة خلافاً لابن نافع الذي يقول: منهم محمل الثلث بالقرعة، أو يكون الأب مقدماً في الثلث؛ لأنه تقدم تدبيره على تدبير ولده؛ كالمدبر من أحدهما بعد الآخر، والثاني هو الظاهر، والأول هو المنقول في المدونة وغيرها. وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ كَذَلِكَ أي: ما ولد للمدبرة من زوجها بمنزلتها؛ يعتق بعتقها، أما لو أعتقها السيد في حياته لم يعتق إلا بموت سيدهم.

وَالْحَمْلُ عِنْدَ التَّدْبيرِ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بهِ أي: إذا دبرها وهي حامل، فإن الولد يتبعها ولا يشترط ي حملها أن يكون كائناً بعد التدبير كما اشترط في حمل المدبر من أمته؛ لأن ما في بطن المدبرة عضو من أعضائها ولا يصح استثناؤه، أو لأن أمة المدبر ليس فيها عقد تدبير وإنما عقد التدبير في سيدها، بخلاف المدبرة فيما إذا صادف الولد التدبير وهو في بطنها فقد شمله ذلك. وَفِي صَيْرُورَةِ أَمَةِ مُدَبَّرٍ تَحْمِلُ بَعْدَ التَّدْبيرِ، ثُمَّ يَعْتِقُ أَمَّ وَلَدٍ قَوْلانِ يعني: أن أمة المدبر إذا حملت بعد عقد التدبير ثم يعتق سيدها بموت سيده وخروجه من الثلث، فهل تكون بذلك الحمل أمَّ ولد؟ في ذلك قولان وهما لمالك في كتاب أمهات الأولاد من المدونة؛ ففيها، قال ابن القاسم: وكل ما ولد لمدبر أو مكاتب من أمته فما حملت به بعد عقد التدبير أو الكتابة فهو بمنزلته يعتق مع المكاتب بالأداء ومع المدبر في الثلث، وإذا أعتقا كانت الأمة أم ولد بذلك لهما؛ كان الولد حياً أو ميتاً، وقاله مالك. وقال ابن القاسم: لأن ولدها بمنزلة أبيه فوجب أن يجري فيها ما جرى في ولدها. سحنون: ولمالك قول أنها لا تكون أم ولد بذلك، وقاله الرواة في املدبر خاصة أن لسيدها انتزاعها إن لم تكن حاملاً، وأن المدبر لا يتبعها إلا بإذن السيد، قالوا: وأما المكاتب فهي له أم ولد إذا أعتق إذا كان السيد ممنوعاً من ماله، وليس للمكاتب بيعها وإن أذن له سيده حتى يخاف العجز، والقياس كما قاله ابن المواز: أنها لا تكون به أم ولد، وهو قول أشهب وعبد الملك، واستحسن ابن أن تكون به أم ولد. وَلِلسَّيِّدِ انْتَِاعُ مَالِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ الْوَفَاةُ أَوْ يُفْلِسْ في كلامه نظر؛ لأن أهل المذهب نصوا على أن السيد إذا مرض مرضاً مخوفاً لا يجوز له الانتزاع، فإذا مراده بقوله (مَا لَمْ يَحْضُرْهُ الْوَفَاةُ) ما لم يمرض مرضاً مخوفاً؛ لأنه

حينئذ إنما ينزع لغيره وهذا هو المشهور، وقيل: له أن ينتزع، وفي بعض النسخ أو يفلس، وقد يحمل قوله: (أَوْ يُفْلِسْ) على المريض؛ أي: ما لم يفلس الميرض. قال في المدونة: وإن أفلس الميرض لم يكن له أن يأخذ مال مدبره للغرماء. وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَخْذُ مَالِهِ أي: لو أفلس السيد لم يكن للغرماء أخذ مال المدبر ولا لهم أن يجبروا السيد على انتزاعه؛ لأنهم لم يعاملوه على ذلك، كما لا يجبرونه على قبول الهبة ولا على السلف، وخرج قول بأن يكون لهم جبره على الانتزاع مما قيل في المذهب فيمن حبس عليه حبس؛ يعني: وشرط عليه المحبس أن يبيع إذا احتاج إلى البيع أن لهم إجباره عليه. وَيُقَوَّمُ بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدِهِ بمَالِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ عَتَقَ، وَإِلا أُعْتِقَ بَعْضُهُ، وَأُقِرَّ مَالُهُ بيَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبِ: أَمَّا إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْمُدَبَّرِ بمَالِه ضُمَّ مَالُهُ مَعَ التَّرِكَةِ، فَإِذَا عَتَقَ أُعْطِيَ بَقِيَّةَ [757/أ] الثُّلُثِ ... قوله: (بمَالِهِ) مثاله: قيمته بماله مائتان والتركة أربعمائة (وَإِلا) أي: وإن لم يحمله الثلث عتق ما يحمله الثلث، كما لو كانت المسألة بحالها والتركة مائة فقط؛ فيعتق منه نصفه فقط ويقر بيده نصف ماله وهو خمسون. وقول ابن القاسم منقول عن مالك، وعلى قول ابن وهب: يعتق كله؛ لأنه إذا ضممت المائة التي بيده إلى المائة التي للميت خرج جميعه منه. وقوله: (أُعْطِيَ بَقِيَّةَ الثُّلُثِ) يريد: إن بقي شيء من الثلث. ابن وهب: فإذا كانت قيمة المدبر مائة دينار وله ثمانمائة دينار؛ كان له من ماله مائتا درهم. قال: وكذلك يفعل بالذي أوصى بعتقه وللعبد مال، ورواه ابن وهب عن الليث وربيعة ويحيى بن سعيد.

اللخمي: وعلى قول ابن القاسم يعتق ثلثه هنا ويقر المال بيده. وقال في الموازية: وإن دبر عبده في صحته واستثنى ماله فذلك جائز. ابن القاسم: ويستثنى ماله بعد الموت ويقوم في ثلث سيده بغير ماله، ويأخذ ما في يديه فيحسب من مال سيده، بمنزلة من قال: إذا مت فعبدي حرٌّ أو مدبَّرٌ وخذوا ماله. * * *

الكتابة

الْكِتَابَةُ: وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى السَّيِّدِ، فَلا يُجْبَرُ الْعَبْدُ أَيْضاً عَلَى الأَصَحِّ الكتابة: عتقُ الرجلِ عبدَهُ على مال يؤديه منجماً، وسميت كتابة-مصدر كتب- لأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب له مولاه العتق، ويحتمل أن يكون من الإيجاب واللزوم؛ لالتزام العبد والسيد، وما ذكرناه، قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفسِهِ الرَّحَمَةَ} [الأنعام: 54] ويقال فيها: كتابة، ومكاتبة، وكتاباً، قال الله العظيم: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] وخص العبد باسم المفعول؛ لأن الأصل الكتابة من السيد، وهو الذي يكاتب عبده. ونبه بقوله: (غَيْرُ وَاجِبَةٍ) على قول الظاهرية لإيجابها للأمر؛ لقوله تعالى: {فكَاتِبُوهُم}. وروى الجمعي أن الكتابة دائرة بين العبد نفسه وعتقه، وكل منهما غير واجب، واختلف هل هي مستحبة وهو مذهب المدونة، وحكاه ابن القصار عن مالك، وقاله ابن شعبان، أو مباحة وهو الذي حكاه ابن الجلاب عن مالك، وبه قال القاضي إسماعيل والقاضي عبد الوهاب؟ واختلف في الخير المذكور في الآية هل هو المال، أو القدرة على الكسب، أو الصلاح، أو الدين والمال، أو الأمانة إلى غير ذلك من الأقاويل. والمنقول عن مالك في الموازية: أنه القوة على الأداء. قوله: (فَلا يُجْبَرُ) هو المشهور، وهو قول ابن القاسم وأِهب وعبد الملك، ومقابله روي عن مالك وأصبغ. واختار اللخمي الإجبار إذا رضي السيد بمثل خراجه وأزيد يسيراً والأقل، لأنها منفعة للعبد خالية عن مضرة. أَرْكَانُهَا: الصِّيغَةُ، مِثْلَ: كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا فِي نَجْمٍ أَوْ نَجْمَيْنِ فَصَاعِداً يعني: أركان الكتابة أربعة؛ الصيغة، والعوض، والسيد، والعبد المكاتب. وتكلم عليها أولاً فأول. وقوله: (مِثْلَ كَاتَبْتُكَ) يعني: وأنت مكاتب أو معتق على نجم أو نجمين. وظاهر كلامه اشتراط التنجيم.

عياض وغيره: وهو ظاهر المدونة؛ لقوله فيها: وإن كاتبته علىلأف درهم ولم يضرب له أجلاً نجمت عليه- وإن كره السيد- على قدر ما يرى من كتابة مثله وقدر قوته، ولا تكون له حالَّة. والكتابة عند الناس منجمة، وكذلك قال ابن القصار والأستاذ أبو بكر الطرطوشي: إن ظاهر قول مالك لابد من تنجيمها. عياض: وكذلك ظاهر كلام أبي محمد في رسالته: إن التنجيم من شرطها. وحكى عبد الوهاب عن متأخري شيوخنا أنها تكون حالة، وهوالذي ارتضاه هو وغيره من أئمتنا. وقد يحمل قوله: والكتابة عند الناس منجمة على أنه الغالب والعرف، فكذلك حكم به في الهبة. انتهى. وأِشار في المقدمات إلى أن الصحيح في المذهب جوازها حالة. وظاهر قول المصنف: (فِي نَجْمِ أَوْ نَجْمَيْنِ) أنه لا فرق بين ما قل من النجوم أو كثر، وهكذا ذكر ابن شعبان. قال: ومن أصحابنا من يختار جعلها في نجم أو نجمين. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٍّ عَلَى أَلْفِ عَتَقَ فِي الْحَالِ وَالأَلْفُ فِي ذِمَّتِهِ ذكر هذه هنا وإن لم تكن من الكتابة؛ لبيان لفظ الكتابة، إذ لو قال: كاتبتك بألف لنجمت. وقوله: (عَتَقَ) يريد إذا قبل العبد، وهذا الكلام راجع إلى قوله: أنت حر على أن عليك كذا. وعلى هذه الصورة حمل كلام المصنف، وقد ذكروا هنا صيغاً؛ الأولى: أنت حر على أن عليك ألفاً، أو على أن تدفع إلي ألفاً، أو على أن تؤدي إلي، أو إن أديت إلي، أو إن أعطيتني، أو جئتني، أو إذا أوتي. واختلف في المسألة الأولى، وهي: أنت حر على أن عليك ألفاً على أربعة أقوال: الأول لمالك: بإلزامه العتق وإلزام العبد المال، سواء قال: أنت حر الساعة، او لم يقل، وهو الذي اقتصر عليه المصنف. والثاني لابن القاسم: يخبر العبد، فإن رضي كان حُرّاً، وإن كره كان رقيقاً. الثالث لابن القاسم أيضاً على رأي بعضهم: أنه يخير بين القبول ولا يعتق إلا

بأداء، أو رد ويبقى رقيقاً. الرابع لأصبغ: لا خيار للعبد ولا عتق حتى يدفع المال، وأما المسألة الثانية، وهي قوله: [757/ب] أنت حر وعليك الف. ففيها ثلاثة أقوال؛ الأول لمالك وأشهب: أنه حر إلا أن عليه ألفاً معجلة إن كان موسراً، أو إلى اليسار إن كان معسراً. والثاني مشهور قول ابن القاسم وقول ابن وهب: هو حر ولا شيء عليه من المال. والثاثل لابن الماجشون وابن نافع: يخير العبد، فإن رضي كان حرّاً وأتبع بالمال، وإن كره كان رقيقاً كقول ابن القاسم في التي قبلها. وأما المسألة الثالثة، وهي قوله: أنت حر على أن تدفع إلي، فحكى اللخمي الاتفاق على أن العبد بالخيار بين القبول، أو الرد فيكون رقيقاً، وأنه لم يعتق إلا بعد دفع المال، وحكى عياض وغيره ثلاثة أقوال: الأول من الثاني لابن القاسم في العتبية تخيير العبد في الرضا كالعتق معجلاً ويلزمه المال، أو يرد فيبقى رقيقاً. الثالث تخريج صاحب المقدمات: أن العبد يكون حرّاً إذا دفع المال، وأن للسيد إجباره على أخذ المال. وأما المسألة الرابعة، وهي: أنت حر على أن تؤدي إلي. فالاتفاق على أن العبد لا يعتق إلا بالأداء. قوله: أن يرد ولا يقبل هكذا حكى غير واحد. قال في المقدمات: وقد فرق ابن القاسم بين قوله: أنت حر على أن عليك كذا، وبين على أن تدفع كذا، وللتفرقة بينهام وجه؛ وهو أنه إذا قال: على أن تدفع فوض الدفع إليه، وإذا قال: على أن عليك، فقد ألزمه ذلكولم يكله إليه، وقد قيل: إن هذين اللفظين سواء، بخلاف قوله: على أن تؤدي إلي كذا وكذا. والصواب: ألا فرق بين أن يقول: على أن تدفع أو تؤدي. عياض: وقول ابن رشد هو الصحيح للعبد؛ لقوله تدفع وتؤدي. وأما المسألة الخامسة؛ وهي: إن أديت إلي أو أعطيتني أو متى وشبه ذلك؛ فلا يلزم العتق إلا برضا العبد ودفع المال، كقوله: على أن تؤدي أو تدفع، ويدخله من تخريج الإجبار على الأداء ما تقدم، والله أعلم.

وَيَجُوزُ عَلَى مَا جَازَ صَدَاقاً، وَتُكُرَهُ عَلَى آبقٍ أَوْ شَارِدٍ أَوْ جَنِينٍ أَوْ دَيْنٍ عَلَى غَائِبٍ لا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ، وَلا يُعْتَقُ حَتَّى يَقْبِضَ السَّيِّدُ مَا شَرِطَ ... هذا هو الركن الثاني، وذكر أنه يجوز فيه ما جاز في الصداق من الوصف، كعبد وشورة، ثم ذكر أن هذا الباب أوسع من باب الصداق، فلهذا يجوز هنا الآبق والشارد والجنين، وما ذكره المصنف من الكراهة هو مذهب أشهب على ما نقله اللخمي، والذي نقله ابن يونس عن ابن القاسم جواز التكابة بالغرر، ولهذا قال في المدونة: ولو كاتبه على عبد فلانجاز، بخلاف النكاح. سحنون ومحمد: فإن لم يصل إليه فعليه قيمته. وقال ابن ميسر: لا يعتق إلا به. ولم يجزه أشهب، وقال: تفسخ الكتابة، إلا أن يشتريه قبل الفسخ، والتحقيق أن ابن القاسم لا يجوز الغرر مطلقاً، ففي المدونة: وإن كاتبه على لؤلؤ غير موصوف لم يجز، لتفاوت الإحاطة بصفته. وفي الموازية عن غير ابن القاسم جواز ذلك وله الوسط، ثم إن ما ذكره المصنف من الجواز في الآبق والشارد مقيد بأن يكون ذلك في ملك العبد، وأما إن كان في غيره فلا يجوز اتفاقاً، نقله في المقدمات. وقوله: (وَلا يُعْتَقُ حَتَّى يَقْبََ السَّيِّدُ مَا شَرَطَ) شرط ظاهر. وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ تَمَلُّكُهُ كَالْخَمْرِ رَجَعَ بالْقِيمَةِ، وَلا تَفْسُدُ لِفَسَادِ الْعِوَضِ يعني: إذا كاتبه على عوض لا يصح تملكه كالخمر، فإن الكتابة تمضي، وظاهره سواء فات ذلك بالأداء أم لا، وقد صرح ابن عبد السلام بذلك فقال: وعقد الكتابة هنا فوت، كما لو اشترى العبد شراء فاسداً وكاتبه مشتريه؛ فإنه يحكم بقيمته، ولا يبعد تخريج قول بالفسخ قبل الأداء. وفي العتبية عن سحنون: في النصراني يكاتب نصرانياً بمائة قسط من خمر، فأسلم المكاتب بعدما أدى النصف، على المكاتب نصف قيمته عبداً قناً وعليه نصف كتابة مثله.

قال في البيان: وليس على التخيير بل هما قولان. قال مرة: يكون عليه نصف كتابة مثله وهو قول ابن الماجشون. ومرة قال: عليه قيمة رقبته. والأول أظهر. وأجمل المصنف في قوله: (رَجَعَ بالْقِيمَةِ) تبعاً لابن شاس، إذ يحتمل بقيمة الحر لو جاز بيعه، لكن النقل يفع هذا؛ لأنه إذا لم يقل به في مسألة النصراني فأولى إذا كان أولاً مسلماً، ويحتمل بقيمة العبد، وهو أحد القولين في مسألة النصراني، والله أعلم. وَلَوِ اشْتَرَطَ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئاً مَضَتْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ يحتمل لو شرط السيد في الكتابة على المكاتب، ويحتمل لو شرط المكاتب على السيد أن يشتري منه، وعلى الثاني اقتصر ابن عبد السلام. وقوله: (مَضَتْ) أي: الكتابة وبطل الشراء، وينبغي ألا يبطل؛ لأنه تعلق به حق لمشترطه، ولو تمما الكتابة على ما شرطناه من شراء من المكاتب أو بيع؛ مضت ولا كراهة. وفي الجلاب: لا بأس أن يشترط على مكاتبه سفراً أو خدمة مع كتابته، فإن أدى الكتابة معجلة؛ سقط عنه السفر والخدمة. وقد قيل: لا يسقط ذلك عنه، وهو لازم لا يعتق إلا بإذنه. وقد قيل: له أن يعطي قيمة ذلك مع تابته ويتعجل عتقه ولا ينتظر به ما اشترط عليه من السفر أو الخدمة. المتيطي: والأول [758/أ] المشهور المعمول به. وقيده في النكت بالخدمة اليسيرة؛ لأنها في عين البيعن وأما إن كان معظم الكتابة خدمة وأقلها مالاً؛ فلا يستقيم أن توضع الخدمة عنه. رأى ابن يونس ألا يأتي على ما احتج به ابن المواز؛ لأنه جعله كمن أعتق بعض عبد، فينبغي أن يعجل العتق، ولو كانت الكتابة عشر قيمة الخدمة، والله أعلم.

وَالتَّاجِيلُ فِيهِ حَقٍّ لِلْعَبْدِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَجَلاً نُجِّمَتْ بقَدْرِ سِعَايَتِهِ، وَقِيلَ: تجُوزُ حَالاًّ ... يعني: إذا جعل في الكتابة أجل فذلك من حق العبد، كديون النقد المؤجلة، أجل فيهما من حق المدين، فلذلك لو عجل المكاتب ما عليه من عين أو عرض لزم السيد. قوله: (فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَجَلاً ... إلخ). وقد تقدم ما في المدونة، وهو وإن كاتبه على ألف درهم ولم يضرب لها أجلاً نجمت عليه وإن كره السيد، على قدر ما يرى من كتابة مثله وقدر قوته. وفي بعض النسخ: نجمها الحاكم على السيد، ولأجل أن الغالب على الكتابة التأجيل، ولأن الأصل فيها ذلك. قال أهل المذهب: إذا أوصى السيد بالكتابة مجملة نجمت قدراً وتأجيلاً على حسب ما يراه أهل المعرفة. قوله: (وَقِيلَ: تجُوزُ حَالاً) فيه بعض اللبس؛ لأنه يوهم أن الكلام السابق مبني على أن الكتابة لا يجوز أن تكون حالة، وإنما قدم أن التأجيل حق للعبد، وإذا كان حقاص له صح أن يسقطه فلا منافاة، ويحتمل أن يكون أشار هذا إلى ابتداء مثله. وأشار بقوله: (وَقِيلَ) إلى القول الآخر بعدم جوازها حالة، وقد تقدما. وَلا يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلا بالْجَمِيعِ لا خلاف في هذا عندنا، وهو مذهب الجمهور، وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن جده عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم". وَلَوْ وَجَدَ الْعِوَضَ مَعِيباً أَتْبَعَهُ بمِثْلِهِ يعني: إذا قبض السيد الكتابة أو بعضها، فوجد ما قبض أو بعضه معيباً؛ فله رده والرجوع بمثله، لأن الكتابة إنما تكون بغير معين، والأعواض غير المعينة إذا اطلع فيها على عيب قضي بمثلها.

وَلَوِ اسْتُحِقَّ وَلا مَالَ لَهُ، فَفِي رَدِّ عِتْقِهِ وَعَوْدِهِ مُكَاتَباً قَوْلانِ ظاهره أن ضمير (وَلَوِ اسْتُحِقَّ) يعود على العوض في الكتابة، وإنما فرضها في المدونة وغيرها؛ ففيها، قال أشهب وابن نافع عن مالك: في مكاتب قاطع سيده فيما بقي عليه على عبد دفعه إليه، فاعترف أنه مسروق فأخذ منه، فليرجع السيد على المكاتب بقيمة العبد. ابن نافع: وهذا إذا ان له مال، فإن لم يكن له مال؛ رد مكاتباً كما كان قبل القطاعة، وهذا رأيي والذي كنت أسمع. وقال أشهب: لا يرد عتقه؛ لأن حريته قد تمت وجازت شهادته ووارث الأحرار، ولكن يتبع بذلك. لكن يجاب عن المصنف بأنه لا فرق بين الكتابة والقطاعة في هذا المعنى، وقيد في البيان هذا الخلاف بما إذا لم يكن العبد موصوفاً، قال: ولا خلاف إذا قطع سيده على عبد موصوف، فاستحق من يده انه يرجع موصوفاً، قال: ولا خلاف إذا قطع سيده على عبد موصوف، فاستحق من يده أن يرجع عليه بقيمته، ولا يرد في الكتابة، ومفهوم قول المصنف: ولا مال له، أنه لو كان له مال لم يرد عتقه. وذكر ابن رشد فيه الخلاف، وحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ الأول: أنه يرجع في الكتابة حتى يؤدي إلى سيده قيمة ذلك، ملياً كان أو معدماً، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في المدونة في الذي يؤدي كتابته إلى سيده من أموال غرمائه. الثاني: أنه لا يرجع في الكتابة إلا أن يكون معدماً، وهو قول ابن نافع في المدونة. والثالث: أنه لا يرجع في الكتابة ملياً كان أو معدماً، ويتبع بذلك إن كان معدماً في ذمته، وهو حر بالقطاعة، وهو قول أشهب في المدونة. بمَا لا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ رُدَّ عِتْقُهُ حكى في البيان على هذا الاتفاق، أما إذا قاطع سيده على شيء بعينه لا شبهة له فيه غرَّ به موليه؛ كالثياب يستودعها وشبهها، فلا خلاف أن ذلك لا يجوز، ويرجع

في الكتابة على ما كان عليه حتى يؤدي قيمة ما قاطع به. فقول المصنف: (رُدَّ عِتْقُهُ) يعني: ويرجع مكاتباً. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى مَالَ الْغُرَمَاءِ أي: ومثل ما إذا غر بما لا شبهة له في رد عتقه ورجوعه مكاتباً، ما إذا دفع مال الغرماء. قال في المدونة: إن ودى كتابته وعليه دين، فأراد غرماؤه أن يأخذوا من السيد ما قبض منه، فإن علم أن ما دفع إليه من أموالهم؛ فلهم أخذه ويرجع رقاً. ابن يونس وغيره: يريد مكاتباً. واختلف في معنى قوله: فإن علم أن ما دفع من أموالهم، أي: يريد من أموالهم بعينها، أو يريد أنه استغرق الدين ما بيده، ورجحه ابن يونس، فإنه إذا كان مستغرقاً بما دفع وإن لم يكن أموالهم فهو متولد عنها، فلهم منعه من أن يعتق بها، كما لهم منع الحر من الصدقة والهبة إذا كان مسترقاً. واحتج بقول مالك في المدونة: إن المكاتب إذا كان مدياناً فليس له أن يقاطع سيده، ويبقى لا شيء له؛ لأن غرماءه أخذوا ماله من سيده. وحمل قوله في الرواية: فإن لم يعلم أن ما دفع من أموالهم، لم يرجعوا على السيد بشيء على ما أباده بعمل يده أو أرش لجرحه؛ لأن عمل يده كأجرته وأرش جرحه كرقبته، فلما كان الحر لا يؤاجر ولا يباع في الدين، فكذلك هذا لا تسليط لهم على مل يده وأرش جرحه. قيل: فإن أشكل ما دفعه المكاتب، هل هو من أعيان أموالهم وما توالد منها، أو من أجرته وخراج يده، أو ما وهب له ليعتق به؟ قال بعض علمائنا: يصح عتقه ولا يكون لهم نقضه، ولو اعترف بذلك السيد لكان القياس [758/ب] أن ينفذ العتق ويرجع الغرماء على السيد بما قبض، لإقراره أنهم أولى به منه، إلا على قول سحنون، فإنه زعم أن كل ما كسب المكاتب من عمل يده قبل عجزه فإنه للغرماء؛ لأنه أحرزه عن سيده، إلا أن يوهب له مال بشرط أن يؤديه إلى

سيده، وإنما النظر لو قامت الغرماء اولسيد فيه وقد عجز، أو لم يعجز وأشرف على العجز، والقياس أن يحتاط للغرماء؛ لأن السيد قد عرضه للمداينات كالأحرار، ولا سيما على قول سحنون. قال غيره: وإن كان على المكاتب ما يفترق ما في يديه؛ فهو أموال غرمائه حتى يعلم أن الذي دفع من عمل يده. ابن يونس: وهذا موافق لظاهر المدونة. وَيُنْدَبُ إِلَى الإِيتَاءِ بحَطِّ جُزْءٍ آخَرَ حمل مالك وأبو حنيفة وغيرهما الأمر في قوله تعالى: {وَءَاتُوهُم مِن مَّالِ اللهِ الَّذِيءَاتَكُمْ} [النور: 33] على ندب سيد المكاتب أن يحط عن مكاتبه شيئاً آخر الكتابة، وكان مندوباً لأنه هبة وهي لا تجب، على أن ابن الجهم قال: أما الوضيعة من آخر الكتابة فأكثر أصحابنا يأمرون بذلك من غير قضاء. انتهى. وقال الشافعي بوجوبه لظاهر الأمر، لكنه وافق على أنه غير محدود، وألزمه أبو عمر وغيره: الكتابة بالمجهول لأنه يوجب إخراج المجهول من المعلوم، وحدده بسدسها وبعضهم بربعها، وقيل: المخاطب بأمر الناس، وقيل: الولاة. وقيل: السادات. ولكن يعطون من غير الكتابة إلى غير ذلك من الأقاويل المذكورة للعلماء خارج المذهب. أَوْ مَتَى عَجَّلَةُ قَبْلَ الْمَحَلِّ لَزِمَ، وَلَوْ كَانَ غَائِباً قَبَضَهُ الْحَاكِمُ وَنفَّذَهُ قد تقدم أن الأجل في العوض في الكتابة من حق المكاتب، فلذلك إذا عجله قبل أجله يلزم السيد قبوله، ولو كان عوضاً فن كان السيد غائباً قبضه، يريد إذا لم يكن له وكيل ونفذ الحاكم عتقه، وهذا لأن المكاتب يتضرر ببقائه في الرق، وإلا فالأصل أن القاضي لا يقتضي ديون الغائب، ولأن الكتابة ليست من الديون حقيقة، وأما النظر فيها من النظر في رقيق الغائب ومصالحه، فينظر القاضي اقتضاء الكتابة، ولم يطلب المكاتب

ذلك؛ كي ينظر مخارجة عبيد الغائب، أو لتشوف الشرع إلى الحرية، فإن كانت الكتابة على كسوة أو ضحايا؛ فإنه يقوم ذلك بعض الشيوخ، ولو قال قائل أن عليه تعجيل تلك العين لما ثبت لها من الصفة بوصف أو إطلاق لما بعد. فرع: واختلف إذا كانت على خدمة خاصة ولا مال معها فأراد تعجيل قيمتها، فقال أشهب: له ذلك ولزم السيد أخذ القيمة ويعتق مكانه. وقال ابن القاسم: أنه ليس له تعجيل الخدمة، وكأنه رآه معتقاً إلى أجل. فاختار الأول بعض القرويين؛ لأنهم اجتمعوا على أنه كتابة، فيمضي على ما اجتمعا عليه، وهو اختيار ابن يونس وغيره. ابن يونس: وإذا كان له حكم المكاتب فينبغي أن يكون له تعجيل قيمة الخدمة. وقد قال ابن القاسم فيما يشبه هذا: إن له تعجل قيمة الخدمة كقول أشهب، ولم يذكر فيه خلافاً. وَيَجُوزُ أَنْ يُفْسَخَ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ دَنَانِيرَ فِي دَرَاهِمَ إِلَى أَجَلٍ، وَأَنْ يُبْرِئَهُ عَلَى التَّعْجِيلِ بالْبَعْضِ وَشِبْهِه؛ لأَنَّهَا لَيْستْ كَالْبَيْعِ وَلا كَالدَّيْنِ؛ وَلِذَلِكَ لا يُحَاصُّ السَّيِّدُ الْغُرَمَاءَ بهَا فِي مَوْتٍ وَلا فَلَسٍ ... مثل اذكره المصنف من فسخ الدنانير في الدراهم المؤخرة، وبالعكس ضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، والسلف يجر منفعة، وظاهر كلام المصنف؛ أنه لا فرق في جواز هذه الوجوه بين أن يتعجل العتق أو لا، وهو مذهب مالك وابن القاسم، ووجهه: ما ذكره المصنف أنه ليس كالديون الثابتة. ومنعه ابن مر رضي الله عنهما، وإن تعجل العتق كسائر الديون الثابتة. ومنه سحنون إلا أن يتعجل العتق، واحتج سحنون بمنع ذلك في الربا بين العبد وسيده، واعترضه بعض القرويين بإجازة سحنون غيره قطاعة أحد الشريكين بإذن شركيه أن يأخذ أقل من نصيبه قبل الأجل، وليس في ذلك تعجيل عتق.

وقوله: (لأَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْبَيْعِ وَلا كَالدَّيْنِ) تعليل للجواز، فإن قيل: البيع أعم من الدين، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، فلا حاجة إلى ني الدين. قيل: البيع ليس أعم مطلقاً؛ لأن الدين قد يكون من قرض. قوله: (وَلِذَلِكَ لا يُحَاصُّ) أي: ولأجل أنها ليست كالدين لا يحاص بالغرماء في الموت والفلس. وَإِذَا عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ رُقَّ وَيَتَلَوَّمُ الْحَاكِمُ لِمَنْ يَرْجُوهُ يعني: وإذا عجز المكاتب عن شيء من العوض رجع إلى ما كان عليه قبل الكتابة، فلو كان مدبراً ثم كاتبه وعجز رجع مدبراً، وقد يقال: هذا كاتبه وعجز رجع مدبراً، وقد يقال: هذا تكرار مع قوله أولاً: ولا يعتق منه شيء إلا بالجميع. ويجاب عنه بأن المتقدم فيما يخرج به المكاتب من الكتابة إلى الحرية لا، أي: لا يخرج من حال الكتابة إلى الحرية إلا بأداء الجميع، وكلامه هنا فيما ينتقل بسببه من حال الكتابة إلى الحال التي كان عليها قبل الكتابة. قوله: (وَيَتَلَوَّمُ الْحَاكِمُ لِمَنْ يَرْجُوهُ) ظاهره أنه لا يعجزه إلا الحاكم، سواء اختلفا في التعجيز أو اتفقا فيه، وأما إن اختلفا فطلبه السيد للتعجيز وامتنع العبد أو بالعكس فلابد من الحاكم، وأما إن اتفقا عليه، فالمشهور وهو قول مالك في المدونة: إن كان له مال ظاهر لم يكن له ذلك، وإن لم يكن له مال ظاهر فذلك له، وروي عنه أن ذلك له وإن كان عنده مال ظاهر. وقال سحنون: ليس له ذلك، وإن لم يكن له مال ظاهر إلا عند السلطان. وقال محمد: إن كان صانعاً ولا مال له كان له أن يعجز [759/أ] نفسه. ابن يونس: والأول أصوبها. المتيطي: وبه الحكم وعليه العمل. وإذا فرعنا عليه فلو أعجز نفسه لعدم ظهور المال، ثم ظهر له مال أخفاه أو طرأ له؛ ففي المدونة: هو رقيق ولا يرجع عما رضي به أولاً. وإذا فرعنا على المنع من التعجيز، فلو رضي بذلك ولم ينظر فيه حتى فاتت بالبيع أو بإعتاق المشتري، فقيل: البيع فوت. وقيل: ليس يفوت إلا أن يفوت بعتق. وقد قيل: يرد ولو أعتق.

ابن القاسم: ففي الدمياطية: وإن باع السيد رقيقه برضاه جاز. وقال في المدونة: يفسخ إلا أن يفوت بالعتق. وقال غيره: وإن دخله العتق. ابن المواز: وإنما له تعجيز نفسه إذا كان وحده، وأما إذا نا معه ولد فلا تعجيز له، ويؤخذ بالسعي عليهم صانعاً، ولو تبين منه لرد رأيت عقوبته، وإن كان له مال ظاهر فيؤخذ ماله ويعطى لسيده شاء أو أبى. أبو محمد: يريد بعد محله ويعتق هو وولده. محمد: إذا كان صانعاً ولا مال له فله أن يعجز نفسه. اللخمي: وعلى أصل سحنون ليس له ذلك إلا عند السلطان. قوله: (وَيَتَلَوَّمُ الْحَاكِمُ لِمَنْ يَرْجُوهُ) مفهومه أنه لا يتلوم لمن لا يرجوه. وفي المدونة: لا يعجزه إلا السلطان بعد أن يجتهد له في التلوم بعد الأجل، فمن العبيد من يرجى حاله في التلوم، ومنهم من لا يرجى له، فإن رأى له وجهاً إذا تركه وإلا عجزه. أبو الحسن: ويحتمل من يرجى له يفسح له في الأجل، ومن لا يرجى له يضيق له في التأجيل، ويحتمل أن من لا يرجى له لا يتلوم له ألبتة، وهذان التأويلان هما اللذان في كتاب النكاح الثاني في المعسر بالنفقة، حيث قال: ويختلف التلوم فيمن يرجى له وفيمن لا يرجى له. وَلَوْ غَابَ وَقْتَ الْمَحَلِّ بغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَسَخَ الْحَاكِمُ أي: لو غاب المكاتب، و (المَحَلَّ) اسم المصدر؛ أي: وقت الحلول فسخ الحاكم، وليس للسيد فسخه، ولو فعل فهو على كتابته.

وَلَيْسَ لَهُ تَعْجِيزُ نَفْسِهِ وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ عَلَى الأَصَحِّ، وَلا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ إِلا بالْحَاكِمِ قد تقدم أن هذا هو المشهور. وقوله: لا تنفسخ إلا بالحاكم، من تمام قوله: (وَلَيْسَ لَهُ تَعْجِيزُ نَفْسِهِ وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ) ولا تنفسخ الكتابة إذا كان له مال ظاهر إلا بالحاكم. وَتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَلَوْ خَلَّفَ وَفَاءً إِلا أَنْ يَقُومَ بهَا وَلَدٌ أَوْ غَيْرُهُ، دَخَلَ مَعَهُ بالشَّرْطِ أَوْ غَيْرِهِ بمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيُؤَدِّيهَا حَالَّةً ... يعني: وتنفسخ الكتابة بسبب موت المكاتب، ولو خلف وفاء؛ لأنه مات قبل حلول الحرية له، فلذلك يرثه سيده بالرق، ثم استثنى من ذلك ما إذا كان معه ولد وغيره. وقوله: (دَخَلَ مَعَهُ بالشَّرْطِ) عائد على الولد و (غَيْرِهِ) -بخفض الراء- عطفها على الشرط، وهو خاص بالولد؛ أي: لا فرق بين أن يدخل الولد معه بالشرط أو بغير الشرط، بل بمقتضى العقد؛ لكونه حدث بعد عقدها، وأما لو كانت أمة حاملاً يوم الكتابة، فلا يدخل إلا بالشرط، قاله في المدونة. ابن القاسم في العتبية: وأما إن كانت أمته وبها حمل علم به أو لا، فإنه يدخل معها. وقوله: (بمُقْتَضَى الْعَقْدِ) بدل من غير، وما قدمنا هوكذلك في نسخ عديدة، ووقع في بعض النسخ: (إلا أن يقوم بها ولو دخل معه بإسقاط أو غيره) وليست بجيدة؛ لأن غير الولد كالولد فلا يكون لتخصيص الولد معنى. فإن قيل: يُقَرَّا على هذا أو غيره، نعم رأى غير ليدخل غير الولد. قيل، قوله: (بمُقْتَضَى الْعَقْدِ) ينافيه. وقال في المدونة: وإذا هلك المكاتب ومعه في الكتابة أجنبي وترك مالاً فيه وفاء بكتابته، فإن كتابته تحل بموته، ويتعجلها السيد من حاله ويعتق بذلك من معه في الكتابة، وليس لمن معه في الكتابة من ولد أو أجنبي أخذ المال، وأداؤه على النجم إذا كان فيه وفاء يعتقون به؛ لما فيه من الغرر. فإن قلت، قوله: (دَخَلَ مَعَهُ بالشَّرْطِ أَوْ غَيْرِهِ) يقتضي أن غير الولد يدخل بغير الشرط،

وذلك لا يعلم. قيل: قد يدخل غير الولد بغير الشرط، وهو من يشتريه بعد الكتابة إذا كان ممن يعتق عليه. ففي المدونة: ولا ينبغي للكاتب أن يشتري ولده أو أباه إلا بإذن سيده. فمن ابتاعه بإذن سيده ممن يعتق على الحر بالملك؛ دخل معه في الكتابة. وقوله: (فَيُؤَدِّيهَا حَالَّةً) أي: الولد، ولا يقتضي هذا الكلام أن الولد يخير ي ذلك كما قيل، بل المراد أن ذلك لازم للولد. وَلا يَرِثُ الْبَاقِيَ إِلا قَرِيبٌ يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنَ الآبَاءِ وَالأَوْلادِ وَالإِخُوَةِ مِمَّنْ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: لاَ يَرِثُهُ إِلا وَلَدٌ مَعَهُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: يَرِثُهُ إِلا وَلَدٌ مَعَهُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الأَحْرَارُ مِمَّنْ مَعَهُ إِلا الزَّوْجَةَ. وَقِيلَ؛ وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ خَاصَّةً ... فقوله: (مِنَ الآبَاءِ وَالأَوْلادِ وَالإِخُوَةِ) للبيان والإيضاح، ولو ترك لفهم، وهذا هو المشهور، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وروايته عن مالك، والثلاثة الأقوال لمالك أيضاً، وعلى القول باستثناء الزوجة فالزوج مثلها، والرابع أقرب، ولا يظْهَرُ لتخصيص بعض الورثة بالإرث دون بعضٍ وجهٌ. وَلا يَرِثُهُ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْداً ولا أولادهم المكاتبون كتابة أخرى؛ لأن من شأن الوارثين أن يتساويا حال الوت، فلذلك لم يرث المكاتب ولده ولا غيرهم الأحرار، ولا المكاتبون كتابة أخرى، إذ لا يتحقق مساواتهم؛ لاحتمال أن يكون أصحاب إحدى الكتابتين أقوى على الأدنى من أصحاب كتابة أخرى، ولا إشكال في [759/ب] عدم إرث ولد الأرقاء. فإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَقَوِيَ وَلَدُهُ عَلَى السَّعْي سَعَوْا قوله: (فإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً) أعم من أن لا يترك شيئاً، لنه لا يفيء بالكتابة، ففي المدونة: يدفع لولده الذين معه في الكتابة، فإن كان لهم أمانة وقوة على السعاية؛ يؤدون

نجوماً، وإن لم تكن لهم قوة على السعي ولم يكن في المال ما يبلغهم السعي؛ فإن كان مع الولد أم ولد ولها قوة وأمانة دفع لها إن رجي لها قوة على سعي بقية الكتابة، وإن لم تكن في أم الولد قوة بيعت وضم ثمنها إلى التركة، فيؤدي إلى بلوغ السعي، فإن لم يكن شيء من ذلك رقوا كلهم. وقال أشهب: إلى من معه في الكتابة وإن كان أجنبياً، وحيث آل الحال إلى بيع أم الولد هنا، فقال مالك: للولد بي من فيه نجاتهم من أمهات الأولاد، أمهم كانت أو غيرها. وقال ابن القاسم: أرى ألا يبيع أمه إذا أن في بيع سواها ما يُغنيه. وقال سحنون: إذا كان له أمهات الأولاد يقرع بينهن. وقال سحنون أيضاً: يباع من كل واحدة بقدرها. قالوا: يريد غير أم الولد الموجود، إلا أن يكون لكل واحدة ولد فيباع من كل واحدة بقدرها. السَّيِّدُ شَرْطُهُ: التَّكْلِيفُ، وَأَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ هذا هو الركن الثالث. وقوله: (شَرْطُهُ التَّكْلِيفُ) يخرج الصبي والمجنون. وقوله: (وَأَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ) يخرج المحجور علهيم. ولو استغنى المصنف بأهلية التصرف لكان أحسن؛ إذ غير المكلف ليس أهلاً للتصرف. فيُكَاتِبُ الْوَلِيُّ رَقِيقَ الطِّفْلِ (الْوَلِيُّ) يشمل الأب ووصيه ومقدم القاضي. ولو قال: رقيق المحجور عليهم لكان أحسن؛ لأن السفيه البالغ كالطفل، له أن يكاتب رقيقه بالمصلحة. وَفِي مُكَاتَبِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ قَوْلانِ أي: وفي إمضائها بعد وقوعها قولان، وإلا فلو عثر على ذلك قبل الكتابة لبيع عليه، والقولان لمالك؛ أحدهما: بطلان الكتابة ويباع عليه. والثاني وهو مذهب المدونة: أنه يصح ويباع عليه من مسلم.

وَتُبَاعُ كِتَابَةُ مَنْ أَسْلَمَ لِمُسْلِمٍ يعني: أن القولني إنما هما إذا كان العبد وقت إنشاء الكتابة مسلماً، وأما إن كاتب الكافر عبده الكافر ثم أسلم العبد؛ فإنه لا تبطل كتابته اتفاقاص، بل تباع لمسلم إن بقي السيد على إلزام نفسه حكم الكتابة، ولو طلب الرجوع عنها، فظاهر المدونة منعه من ذلك، واستقرأ من العتبية تمكينه منها. واختلف أيضاً في النصراني يكاتب عبده النصراني ثم يريد السيد فسخ الكتابة، هل له ذلك ويكون كالعتق، أو لا كعقود المعاوضات؟ وَمُكَاتَبَةُ الْمَرِيضِ، وقِيلَ: كَالْبَيْعِ، وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْوَرَثَةُ فِي إِمْضَائِهَا، أَوْ عِتْقِ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهُ. وَقِيل: إِنْ كَانَتْ مُحَابَاةٌ ... معنى كونها كالبيع أنها إن لم تكن فيها محاباة مضت كالبيع، وإن كانت فيها محاباة؛ فالمحاباة في الثلث، وهذا قول ابن القاسم في المدونة؛ ففيها: وإن كاتب عبده في مرضه وقبض الكتابة ثم مات السيد؛ فإن لم يحابه جاز ذلك كبيعه، ومحاباته في البيع في ثلثه. وظاهر قوله: إن لم تكن فيها محاباة إمضاء الكتابة وإن لم يحملها الثلث، وهو ظاهر. وقول اللخمي: وقيد ذلك في الموازية بأن يحمله الثلث. قوله: (وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْوَرَثَةُ) ذا القول عزاه اللخمي لابن القاسم، قال: وقال أيضاً أنه كالعتق، فإن كانت قيمته أكثر من الثلث خير الورثة بين أن يمضوا الكتابة أو يعتقوا منه ما حمله الثلث بتلاً. اللخمي: وواقق الغير على هذا القول، وقال: الكتابة بالمحاباة أو غير محاباة من ناحية العتق وليست من ناحية البيع، وهو موقوف بنجومه، فإن لم يحمله الثلث ولم يجز الورثة؛ أعتق منه ما حمل الثلث لما في يده. وقوله: (إِنْ كَانَتْ مُحَابَاةٌ) أي: فيكون كذلك يخير الورثة. ابن شاس في تمام هذا القول: وإن لم يحابِ سعى، فإن أدى وهو في المرض اعتبرنا خروج الأول من الثلث، فإن كانت قيمة الرقبة أقل اعتبر خروجها من الثلث، وإن كانت النجوم أول فليس لهم اعتبار سواها، وكذلك لو أوصى بإعتاقه أو وضع النجوم.

تنبيهان: ذكر في النكت عن بعض شيوخه: أنه إذا كاتب عبده في المرض وحابى وقبض الكتابة؛ تجعل في الثلث قيمة الرقبة كلها، بخلاف محاباة المريض في بيعه هاهنا، إنما يجعل في الثلث في المحاباة خاصة؛ لأن الكتابة في المرض عتاقة. قال: وإذا حاباه فكان الثلث يحمل رقبته؛ جاز ذلك ولم يقوم ي النجوم المقبوضة، ولا يضاف إلى مال الميت، فإن كان الثلث لا يحملها؛ ردت النجوم المقبوضة إلى يد العبد، ثم أعتق محمل الثلث من رقبته بماله، لأن الثلث إن كان حاملاً أخذ المال الورثة، فلا يكثر مال الميت به، ولا يدخل فيه العبد إذا لم يحمل الثلث، ووجه رد المال إلى يد العبد فيعتق منه بماله محمل الثلث. ابن يونس: إنما يفترق الحكم عند ابن القاسم في المحاباة وعدمها، فإن لم يحاب وحمله الثلث؛ عجل عتق العبد في حياة السيد، كما لو لم يحاب في بيعه، وإن حابى وحمله الثلث لم يكن بُدٌّ من وقفه حتىيموت؛ لأن المحاباة وصية، وإن لم يحمله الثلث في الوجهين خير الورثة بين إجازة ما فعل المريض أو يردوا إلى المكاتب [760/أ] ما قبض منه ويعتقوا محمل الثلث بتلاً. الثاني: اختلف أيضاً في كتابة المديان، هل هي من باب العتق، أو من باب البيع؟ ويتحصل في كتاب المديان والمريض ثلاثة أقوال؛ أن كتابتهما من ناحية العتق، وهو قول سحنون. الثاني أن كتابة المديان من ناحية البيع وكتابة المريض من ناحية العتق، وهو قول أشهب. والثالث أن كتابة المريض من ناحية البيع وكتابة المديان من ناحية العتق، وهو قول ابن القاسم. وَلَوْ أَقَرَّ فِي الْمَرَضِ بقَبْضِ مِنْ مُكَاتَبِهِ قُبلَ إِنْ كَانَ غَيْرَ كَلالَةٍ، وَإِلا لَمْ يُقْبَلْ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِلا أنْ يَحْمِلَهُ الثُّلُثُ ... هكذا جلب في المدونة هذه المسألة إثر التي قبلها، ومعناها: أن المريض أقر بكتابة المكاتب في الصحة، ونصها في المدونة: قال ابن القاسم: وإن كاتب في صحته وأقر في

مرضه بقبض الكتابة جاز ذلك، ولم يتهم إن ترك ولداً، وإن كان ورثته كلالة والثلث لا يحمله؛ لم يصدق إلا ببينة، وإن حمله الثلث صدق؛ لأنه لو أعتقه جاز عتقه. وقال غيره: إذا اتهم بالميل معه والمحاباة له؛ لم يجز إقراره، حمله الثلث أو لا، ولا يكون في الثلث إلا ما أريد به الثلث، وقاله ابن القاسم أيضاً غير مرة، ولعل المصنف لم ينسب الأول لابن القاسم لأنه لم يختص به، بل قاله هو وغيره كما صرح به في المدونة، وفي كلام المصنف نظر؛ لأن قوله: وقال ابن القاسم: إلا أن يحمله الثلث؛ يقتضي أن ابن القاسم يقول في هذا القول: لا يقبل إقراره إذا كان يورث كلالة، إلا أن يحمله الثلث، وهو في المدونة إنما اعتبر في هذا القول الميل بالمحاباة. وقيد بعض شيوخ عبد الحق القول الثاني في كلام المصنف بما إذا كان الثلث فارغاً لم يوص فيه بشيء، فأما إن كان قد اشتغل بوصايا فهو أحب أن يستغرق وصاياه ويخرج العبد الذي أقر أنه قبض كتابته من رأس ماله، فهو كالقائل: أعتقت عبدي في صحتي فلا يعتق، والوصايا خارجة من ثلثه. ووافقه بعض القرويين، وقال: لا فرق بين أن يشغل الثلث بوصايا أو لم يشغله، لجواز إقراره إذا كانت الوصايا مما يبدى عليها عتق هذا العب. الْمُكَاتَبُ؛ وَلا يُكَاتَبُ جُزْءٌ إِلا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي حُرّاً أي: العبد المكاتب، وهذا هوالركن الرابع، وله شرطان؛ الأول: أن يكاتب العبد كله، فلا يكاتب جزء. قال: سواء كان الباقي له أو لغيره، وأما إن كان العبد حرّاً صحت الكتابة لحصول الحرية في الجميع، وعلل في المدونة امتناع كتابة الجزء إذا كان الباقي لشريكه مؤدٍ إلى عتق النصيب من غير تقويم. وابن الماجشون: فإن ذلك مخاطرة، لأن هذا يأخذه بخراج والآخر يأخذه بنجوم. قال في المدونة: ويفسخ إن فعل ويرد ما أخذ، فيكون بينه وبين شريكه مع رقبة العبد، سواء قبض الكتابة كلها أو بعضها. قال غيره: إنما يكون ذلك بينهما إذا اجتمعا على قسمه، ومن دعا إلى رده إلى العبد فذلك له؛ إذ لا ينتزع ماله حتى يجتمعا.

ابن رشد وغيره: وقول الغير خلاف، فنزل ابن القاسم هذا المثال منزلة الخراج، ونزله الغير منزلة مال كان بيد العبد بين الشريكين موقوفاً بيده حتى يجتمعا على انتزاعه، ويحتمل أيضاً أن يكون وفاقاً، ويكون معنى قول ابن القاسم: فيكون بينه وبين شريكه إذا اجتمعا على قسمه. ونقل اللخمي عن المبسوط: أنه إذا كاتب أحد الشريكين يحلف السيد ما كان يعلم أنه يعتق عليه إذا، فإن حلف لم يقوم عليه، وإن نكل قوم بقيمته. اللخمي: وظاهر قوله أنه لا يرد عتق ذلك النصيب؛ لأنه لم يقل: إذا حلف يرد عتق النصيب الذي أدى، وإنما قال: يقوم عليه، وأما إذا كان العبد كله وكاتب بعضه، ففي المدونة لم يجز ذلك ولم يكن شيء منه مكاتباً، وإن أدى لم يعتق منه شيء، وعلله ابن يونس بأنه يؤدي إلىعتق نصيبه من غير استتمام؛ إذ ليس كتابة بصريح العتق، فيمنع من ذلك لئلا يكنو خلاف السنة. اللخمي: وعلى ما في المبسوط يحلف السيد، فإن نكل عتق جميعه، إلا أن يكون عليه دين يغترق ما يكاتبه منه، فتمضي كتابته بنصفه ولا يرد، والكتابة مختلف فيها هل هي من ناحية العتق أو البيع، فعلى أنها من ناحية العتق يمضي القدر الذي كاتب منه مع اليسر، وعلى القول أنها من ناحية البيع يمضي ذلك النصيب موسراً كان أو معسراً ولا يقوم عليه. وَفِي مُكَاتَبَةِ الصَّغِيرِ وَالأَمَةِ اللَّذَيْنِ لا مَالَ لَهُمَا وَلا يَسْعَيَانِ قَوْلانِ هذا هو الشرط الثاني، وهو أن يكون قوياً على الأداء، فلذلك اختلف في الصغير الضعيف عن الأداء إذا لم يكن له مال، وفي الأمة كذلك، والقول بالجواز لابن القاسم، والقول بالمنع لأشهب، وهما منصوصان على أنه هو الذي اقتصر عليه مالك في المدونة، وعلى القول بأن كتابة الصغير ممنوعة؛ فروى الدمياطي عن أشهب: أن ابن عشر سنين لا تجوز كتابته، ووجه ذلك: أن العشر سنين حدٌّ بين كثير من أحكام الصغير والكبير، ولذلك

كانت حدّاً في الضرب على الصلاة [760/ب] لقوته على العمل، والتفريق في المضاجع لقوته على الانفراد وغير ذلك من المعاني، فمن زاد على العشر سنين زيادة بينة يحتمل أن يريد أشهب كفايته لقوته على السعاية التي هي أكثر عملاً من الصلاة وماجرى مجراها. ابن عبد السلام: وانظر هل جواز كتابة الصغير مبني على القول بجبر السيد عبده على الكتابة، وجزم أبو الحسن بأن ذلك مبني على الجبر، والله أعلم. وَلَوْ كَاتَبَ الشَّرِيكَانِ مَعاً عَلَى مَالٍ وَاحِدٍ جَازَ بخِلافِ أَحَدِهِمَا، وَبخِلافِ مَالَيْنِ (مَعاً) أي: في عقد واحد، واحترز من أن يكون في عقدين. وقوله: (عَلَى مَالٍ وَاحِدٍ) في العقد والأجل، واحترز مما لو اختلف القدر أو الأجل، فإن الكتابة فاسدةن نص عليه اللخمي. وقوله: (بخِلافِ أَحَدِهِمَا) أي: بخلاف مكاتبة أحد الشيركين فإنها لا تجوز، وقد تقدم ذلك، ونص في المدونة وغيرها على عدم الجواز، ولو أذن له الشريك، ونقل أبو حامد الإسفرائيني عن مالك الجواز بإذن الشريك، واختلف إذا نزل؛ فالمشهور: أنه يكون مقتضاه للسيد المكاتب منهما ولا يعتق من العبد شيء، حتى قال في عبد بين ثلاثة إخوة: كاتب اثنان بإذن الثلث، ثم قاطعه اللذان كاتباه بإذن أخيهما؛ فيعتق نصيبهما، ثم مات المتمسك وله ورثة فخدمهم في نصيب وليهم سنة، ثم قام العبد يطلب القيام على اللذين قاطعاه، قال مالك: العبد رقيق كله ويرد اللذان كاتباه ما أخذاه منه فيكون بينهما وبين ورثة الميت. وقوله: (وَبخِلافِ مَالَيْنِ) أي: فإنهما أيضاً لا يجوز؛ والعلة في الوجهين: أن يؤدي إلى تق البعض دون تقويم.

ابن يونس: وقيل إن كاتباه هذا بمائة إلى سنتين، وهذا بمائتين إلى سنة، فإن حط صاحب المائتين مائة وأخره بالباقية جازت، فإن أبى قيل للمكاتب: إما أن يزيد صاحب المائة مائة ويجعلها إلى سنة ليتفق الأجل، فإن فعل جاز أيضاً وإلا فسخت الكتابة. ابن اللباد: لم يرَوْهُ يحيى: وهو لابن الماجشون. فَإِنْ عَقَدَا مُفْتَرَقَيْنِ بمَالٍ وَاحِدٍ؛ فَابْنُ الْقَاسِمِ يَفْسَخُهَا، وَغَيْرُهُ يُسْقِطُ الشَّرْطَ القولان في المدونة، ونص ابن القاسم فيها على السخ، وإن لم يعلم كل واحد منهما بفعل الآخر، وأطلق غيره الجواز. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَنْ شَرَطَ وَطْءَ مُكَاتَبَتِهِ، أَوِ اسْتَثْنَى حَمْلَهَا سَقَطَ، الشَّرْطُ قوله: (أَوِ اسْتَثْنَى حَمْلَهَا) يريد بأن قال: ما تلديه فهو رقيق لي، فالشرط باطل والكتابة ماضية على سنتها، من أنه ليس له أن يطأها وما ولدته داخل، وهذا مذهب المدونة. قال في البيان: وفرق بين الشرط الحرام كشرط الوطء فيبطل الشرط وتصح الكتابة، وبين غيره فتبطل الكتابة. وقال أشهب: الكتابة باطلة فيهما للشرط وتفسخ ولو لم يبق منها إلا درهم واحد، إلا أن يسقط السيد شرطه أو يفوته بأداء الجميع، ورواه عن مالك. وقيل: يفسخ ما لم ترد صدراً من كتابتها. وقال محمد: تفسخ ما لم تؤدِّ نجماً، إلا أن يسقط السيد شرطه أو يتراضيا على شيء. وقال عبد الملك: تبطل الكتابة، ولعل المصنف أتى بهذه المسألة ترجيحاً لقول غير ابن القاسم في المسألة السابقة، أشار اللخمي إلى هذا المعنى. والفرق لابن القاسم: أن الفساد في الأولى راجع إلى نفس العقدة؛ لأنه مودٍّ إلى عتق أحد الشريكين من غير تقويم، والفساد في هذه خارج عن عقد الكتابة؛ لأن الأمة باقية على كتابتها وحالها في الأداء واحد بهذا الشرط، ودونه بعض فقهائنا، وإن شرط على مكاتبه أنك إن شربت خمراً أو نحوه فأنت مردود في الرق ففعل العبد ذلك؛ ليس لسيده

رده في الرق للشرط، كالمعتقة إلى أجل يشترط عليها إن أبِقْتِ فلا حرية لكِ؛ هذا لمشترطه. والفرق بينهما: أن ما يفعله العبد من الإباق ضرر على سيده؛ لأنه يخل بمنافعه، وما أحدث العبد من شرب الخمر لا يخل بنجومه، فإذا لم يعجز عنها لم يقدح شرب الخمر فيها. وَلَيْسَ لأَحَدِهِمَا قَبْضُ نَصِيبهِ دُونَ الآخَرِ أي: إذا كاتب الشريكان عبداً في عقد على مال فليس لأحدهما أن ينفرد بقبض نصيبه دون نصيبه؛ لأن كل ما في يد العبد مشترك بينهما، وظاهر قوله ولو شرطه أن العقد يصح اولشرط يبطل، وهو مذهب ابن القاسم في الموازية. وقال أشهب: يفس إلا أن يرضي مشترط التبدئة، وجري فيه الخلاف السابق. نَعَمْ لَوْ رَضِيَ بتَقْدِيمِهِ جَازَ، ثُمَّ إِنْ عَجَزَ الْعَبْدُ رَجَعَ بحِصَّتِهِ هو جواب لسؤال مقدر؛ كأنه قيل له لما ذكر أنه ليس لأحدهما القبض دون الآر، فهل يجوز أن يرضى أحدهما بالتبدئة؟ فقال: نعمن وهذه مسألة المدونة، وهي إذا حل نجم، فقال أحدهما للآخر: بدئني به وخذ أنت النجم المستقبل ففعل، ثم عجز العبد عند النجم الثاني. ابن القاسم: فليرد المقتضي نصف ما قبض على شريكه؛ لأن ذلك سلف، ويبقى العبد بينهما، ولا خيار للمقتضي بخلاف المقاطعة، قالوا: هذا كقول مالك في الدين يكون لهما منجم على رجل، فيبدأ أحدهما صحابه بنجم على أن يأخذ النجم الثاني، ثم فلس الغريم في النجم الثاني؛ أنه يرجع على صاحبه لأنه تسلف منه له. قال في المدونة: إلا أن يعجز المكاتب أو يموت قبل محل النجم، فليس له أخذ حتى يحل النجم الثاني.

ابن المواز: ولو حل النجم الثاني قبل عجزه فتعذر على المكاتب [761/أ] وانتظر بما يرجى حاله؛ كان على الشريك أن يعجل لشريكه سلفه، ثم يتبعان المكاتب جميعاً بالنجم الثاني. وقال ابن القاسم في العتبية: إذا قدمه بنجم ثم حل نجم بعده، فقال له: تقاضى أنت وأنا أقضي ما أٍلفتك، فليس ذلك عليه ولا له قبله شيء، إلا أن يعجز المكاتب. ابن يونس: وكذلك لو حل المكاتب قبل أن يستوفي، ولو قال الشريك: آثرني به وانظر أنت المكاتب، فرضي على هذا الشرط، أو كان إنما سأله المكاتب أن يدفع ذلك لشريكه وينظر هو بحقه، لكان ذلك منه إنظاراً للمكاتب في الوجهين، ولا يرجع به على الشريك إن مات المكاتب، ولا شيء له وإن عجز ويكون العبد بينهما. وَكَذَلِكَ لَوْ قَاطَعَهُ بإِذْنِهِ مِنْ عِشْرِينَ عَلَى عَشْرَةٍ (مِنْ) في قوله: (مِنْ عِشْرِينَ) للبدل؛ أي: لو قاطعه بإذنه على عشرة بدل عشرين، والتشبيه والإشارة راجعان إلى الرضا بتقديمه؛ أي: إذا قاطع أحد الشريكين المكاتب على نصيب من الكتابة كما لو كان نصيبه عشرين فقاطعه منها على عشرة بإذن شريكه جاز، وأما إذا لم يأذن شريكه في المقاطعة فإنها لا تجوز، صرح بذلك في المدونة، فإن قلت: هل يجوز أن يريد المصنف بالتشبيه الحكم في العجز، قيل: لا؛ لأن حكم العجز فيهما مختلف، وقد بيَّن ذلك بقوله: فَلَوْ عَجَزَ خُيِّرَ الْمُقَاطِعَ بَيْنَ رَدَّ مَا فَضَلَ بهِ شَرِيكُهُ وَبَيْنَ إِسْلامِ حِصَّتِهِ رِقَاً، وَلا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الآخَرِ وَلَوْ كَانَ قَبَضَ تِسْعَةَ عَشَرَ ... يعني: فإن عجز العبد المكاتب بعد أخذ الماطع العشرة كما ذكرنا، ولم يكن المتمسك قبض شيئاً، أو قبض دون العشرة؛ خيِّر المقاطع بين رد ما فضل به شريكه ويكون العبد بينهما على ما كان قبل الكتابة، وبين أن يسلم حصته للمتمسك، فيكون العبد له.

قوله: (مَا فَضَلَ) أي: نصف ما فضل به شريكه إن كان العبد بينهما نصفين؛ لأن العشرة إذا قبضها المقاطع ولم يقبض المشترك شيئاً؛ فقد ضله بعشرة، فإذا رد عليه خمسة فقد استويا، ويمكن بقاء كلام المصنف على ظاهره بأن العشرة التي قبضها المقاطع منه خمسة له، والخمسة الباقيةهي التي فضل بها شريكه. وقوله: (وَلا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الآخَرِ) الذي لم يقاطع، وهكذا قال ابن المواز. وقوله: (وَلَوْ كَانَ قَبَضَ تِسْعَةَ عَشَرَ) مبالغة؛ أي: ولو كان الذي لم يقاطع قبض تسعة عشر، فإن المقاطع لا يرجع عليه بشيء. ابن المواز: ولو كان إنما قاطعه من العشرين على عرض أو حيوان نظر إلى قيمة ذلك نقداً يوم قبضه، ثم رد فضلاً إن كان عنده وأخذ حصته من العبد إن شاء، وإن كان قاطعه على شيء له مِثْلٌ من مكيلٍ أو موزونٍ رَدَّ الآخر كل ما قبض، وكان بينهام نصفين مع رقبة العبد، إلا أن يشاءأن يتماسك بما قاطعه به وسلم حصته من العبد لشريكه فذلك له. اللخمي: وقوله في العرض رد نصف قيمته، يريد إذا فات، ولو كان قديماً كالطعام. فرع: ولو لم يقبض المقاطع شيئاً مما قاطعه عليه وقبض المتمسك شيئاً ثم عجز، فقال بعض القرويين: إن كان الذي لم يقاطع إنما قبض عند حلول كل نجم فلا رجوع للمقاطع عليه بشيء؛ لأنه رضي بتأخير المكاتب ورضي صاحبه بما أخذ، وإن كان المكاتب عجل له قبل أجله؛ فله فيه متكلم بعض أصحابنا، فيكون للمقاطع أن يأخذ من صاحبه نصف المقتضىز ابن يونس: والذي رأى أن اقتضاء المتمسك نجماً بما حل له عليه، فقام عليه المقاطع، فليتحاص فيه المقاطع بقدر ما قطعه عليه المتمسك بقدر النجم الحالِّ؛ لأن ذلك قد حل لهما جميعاً عليه، وأما إن عجل المتمسك قبل أجله؛ فللمقاطع القيام عليه، فيأخذ منه قدر ما قاطعه عليه، فإن فضل شيء كان للمتمسك؛ لأن حق المقاطع حلَّ، وحق الآخر لم

يحل، فتعجيله قبل أجله هبة منه، فللمقاطع رد هبته وأخذ ما في حقه، ولو قبض المقاطع نصف العشرة ثم جز العبد؛ فالمشهور: أنه يخيَّر بين أن يرد نصف ما قبض ويكون العبد بينهما نصفين، أو لا يرد وله من العبد ربعه وثلاثة أرباعه لمن لم يقاطع. وقال الداودي: يكون الربع بينهما أثلاثاً مفضوضاً على ما بقي لكل واحد منهما فيه. اللخمي: وهو أقيس. وفروع هذا الفصل كثيرة وتركناها تبعاً للمصنف. وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتِبُ وَلَهُ مَالٌ أَخَذَ الآذِنُ مَا بَقِيَ لَهُ بغَيْرِ حَطِيطَةٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَمْ يَرْجِعْ بشَيْءٍ ... أي: إذا قاطعه أحد الشريكين من عشرين على عشرة بإذن شريكه وقبض منه العشرة ثم مات المكاتب ولم يأخذ منه المكاتب شيئاً، أو أخذ منه وبقي له شيء وترك المكاتب مالاً، فإن الآخر وهو الذي لم يقاطع يأخذ من مال المكاتب جميع الكتابة، أو ما بقي منها بغير حطيطة، وسواء حلت الكتابة أم لا؛ لأنها تحل بالموت، ثم يكون ما بقي بين الذي قاطعه وبين شريكه على قدر حصصهما في الكاتب، ولو مات المكاتب وليس له مال- والتقدير: أن المقاطع قبض قطاعاته ولم يستوفِ الآخر- فإنه لا يرجع على المقاطع بشيء، وإن لم يقبض المقاطِعُ ولا المكاتِبُ شيئاً واكن المتروك لا يفي بما لهما على المكاتَبِ؛ تحاصا في المتروك، المقاطع بما قاطع والمتمسك بجميع نصيبه. ورأى اللخمي أن القياس أن يحاص المقاطع بأقل حقه؛ لأنه لم يرضَ بالإسقاط [761/ب] إلا علىن يبدأ، فإذا لم يتم له مراده بقي على أصل حقه. وَلَوْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ وَضَعَ الْمَالَ عَنْهُ، إِلا أَنْ يُفْهَمَ قَصْدُ الْعِتْقِ إذا كان مكاتب بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه حمل على أنه وضع عنه المال، وأنه أسقط عنه حق نصف كل نجم، إلا أن يصرح أنه قصد العتق، أو يفهم ذلك عنه فيكون إعتاقاً ويقوم عليه.

اللخمي: إن عجز؛ يعني: أنَّا إذا قومناه، إلا أن يكون فيه نقل الولاء. قال: لو كان له كله وأراد العتق؛ لنجز عليه عتقه، وهذا قول مالك وابن القاسم. وقال المغيرة: إنَّ وضع أحد الشريكين نصيبه من الكتابة كعتقه ويقوَّم عليه، وهو أظهر؛ لأن حقيقة العتق غير وضع المال، ورأى في الأول أن الإعتاق الإخراج من الملك والمملوك، إلا أن المكاتب إنما هو المال لا الرقبة. ابن يونس عن بعض شيوخه: ولو أعتق عضواً من مكاتبه؛ كقوله: يدك حرة. لعتق جميعه عليه؛ لأنه قاصد للعتق بها لا لوضع المال، بخلاف إذا أعتق منه جزءاً كالنصف والثلث، ولعل المصنف احترز بهذا بقوله: (نَصِيبَهُ) ثم إن ما ذكره المصنف مقيد بما إذا كان في الصحة، فقد قال في المدونة: لو أعتق قسطاً من مكاتب له عند الموت، أو أوصى بذلك، أووضع له من كتابته؛ فذلك عتاقة، لأنه ينفذ من ثلثه على كل حال؛ أي: يريد أنه لوجعل ذلك وضع مال ثم عجز فَرَقَّ للورثة؛ صاروا لم ينفذواوصية الميت، والميت أراد إبتالها وألا يعود إليهم شيء منها، وما الصحيح فإنما أراد التخفيف على المكاتب وأنه إن عجز كان رِقًّا. فرع: ابن سحنون: ومن قال لعبده اخدم فلاناً سنة وأنت حرٌّ، فوضع عنه المخدَمِ نصف الخدمة، فإن أراد أنه يترك له خدمته ستة أشهر؛ فهو كذلك، وإن أراد أنها ملك لك تشاركني في الخدمة ويصير لك ملكاً، كان حرّاً مكانه كله، كمن وهب لعبده نصف خدمته. قلت لسحنون: فلم قلت في هذا المخدم إذا وهب نصف خدمته أنه يعتق عليه، وإن أعتق نصف مكاتب لم يعتق عليه وكان وضع مال؟ قال: هو مفترق ولا أقول فيه شيئاً. ابن سحنون: الخدمة مقام الرقبة. ابن يونس: فهبة بعضها كهبة بعض الرقبة؛ لأن من عجل عتق عبده على خدمة سنة تعجل عتقه ولا خدمة عليه؛ لأن ذلك بقيةرقبته، فهو كمن أعتق بعض عبده، والمكاتب إنما يملك منه مالاً فعتقه نصفه وضع لنصفها عليه، إلا أن يقصد عتق الرقبةكما ذكرنا.

فَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتَ فُلاناً فَنِصْفُكَ حُرٌّ، فَكَاتَبَهُ ثُمَّ كَلَّمَ فُلاناً وُضِعَ النِّصْفُ، فَلَوْ عَجَزَ رُقَّ كُلُّهُ ... هكذا في المدونة، وشبهه أشهب بمن أعتق نصف مكاتبه، ولو حنث أحد الشريكين بعد أن كاتبهما وضعت عنه حصته، قال: ولو كان عتقاً لقوم عليه. اللخمي: وأجراه على مثل المسألة الأولى، لما كانت يمينه على بر، فقال: إن كلمتك، ولو كان على حنث، فقال: لأفعلن؛ لكان عتقاً. وعلى قول المغيرة في المسألة السابقة يكون بها عتقاً، وهو الظاهر هنا، وما في الموازية مشكل، وكذلك قول أشهب، فإن اللزوم في الحنث في اليمين إنما هو ما ألزمه الحالف حين الحلف، والفرض أن اليمين سبقت الكتابة، فإذاً الحالف لم يقصد المال وإنما قصد العتق، فينبغي أن يلزمه ذلك، وقد تقدم في المسألة السابقة أنه يلزمه العتق متى صرح به وفهم أنه أراد. وَإِذَا كُوتِبَتْ جَمَاعَةٌ لِوَاحِدٍ وُزِّعَتْ عَلَى قُدْرَتِهِمْ عَلَى الأَدَاءِ وَكَانُوا كُفَلاءَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ بخِلافِ حَمَالَةِ الدِّيُونِ، وَلا يُعْتَقُ أَحَدُ إِلا بالْجَميعِ، وَيُؤْخَذُ الْمَلِيءُ بالْجَمِيعِ، وَلا يُوضَعُ شَيْءٌ لِمَوْتِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَرْجِعُ مَنْ أَدَّى عَلَى غَيْرِهِ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ التَّوْزِيعِ مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِمْ ... (لِوَاحِدٍ) أي: لمالك واحد، واحترز مما لو تعدد المالك؛ فإنه لا يجوز عقد الكتابة حينئذٍ كما سيأتي. (وُزِّعَتْ) أي: الكتابة على قدرة قوة المكاتبين على الأداء يوم عقدها، هذا مذهب المدونة ونحوه في الموازية. قال: يقضي عليهم على قدر عنائهم كذا يوم عقدت، فقد يكون من لا يملك اليوم شيئاً أرجى بعد اليوم ممن عنده اليوم، فليجعل على كل واحد منهم بقدرما يكون يطيق. ابن القاسم: على قدر قوته وخدمته واجتهاده يوم عقدت الكتابة.

اللخمي: وفي الموازية قول آخر؛ أنها تقسم على العدد، وذكره ابن يونس وغيره عن عبد الملك، ونقل اللخمي عنه غير هذا، وهو أنها تقسم على قدر القوة وقيمة الرقاب، واختار هو أن تقسم على قدر القوة، وقيم الرقاب على حسب ما يرى أنه يكاتب به كل واحد منهم بانفراده، فقد يتساوون في القوة على الأداء وثمن أحدهم عشرة دنانير والآخر مائة، فمعلوم أن السيد لو كاتبهم على الانفراد لم يسوِّ بينهم؛ لأن الغالب منا لسيد أنه يطلب الفضل. وحكى عن أشهب أنه تقسم بينهم على قدر قيمة رقابهم يوم الكتابة. ابن عبد السلام: وهكذا كان ينبغي أن يكون حكم الصغير الموجود يوم الكتابة وهو قادر على السعي، وإن كان اللخمي اعتبر ذلك مع النظر إلى تجرد حاله، ولم يحك فيه خلاف، كما أنه لم يختلف في الصغير الذي لا يقدر على الكسب حتى أدى الكتابة أنه لا شيء عليه، واختلف إذا قوي على السعي بعد مضي بعض النجوم، فقال أشهب: يكون بقدر ما يطيق يوم وقعت الكتابة؛ لأنه حينئذٍ وقعت عليه حمالة الكتابة. قوله: (وَكَانُوا كُفَلاءَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ) أي: كونهم كفلاء. مالك: وهي سنة الكتابة، وذكر [762/أ] في الموطأ أنه الأمر المجتمع عليه. وقوله: (بخِلافِ حَمَالَةِ الدِّيُونِ) فلا تلزم الكفالة فيها إلا بالشرط. وقوله: (َلا يُعْتَقُ أَحَدُ) أي: أحد منهم إلا بالجميع، وهو من ثمرة كونهم حملاء وقوله: (وَيُؤْخَذُ الْمَلِيءُ بالْجَمِيعِ) مفهومه: أنه لو كانوا أملياء لا يؤخذ منهم واحد بالجميع، وهو المشهور في حمالة الديون، وهو أيضاً منصوص عليه هنا، إلا أن في الموازية: ليس للسيد أخذ أحد المكاتبين بجميع ما على جملتهم مع قوتهم على الأداء. الباجي: فإن تعذر القبض من أحدهم فإن عجز، قال في الموازية: أو تغيب فله الأخذ من غيره.

قوله: (وَلا يُوضَعُ شَيْءٌ لِمَوْتِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) ذكر في الموطأ أنه مجمع عليه. اللخمي: والقياس أنه يحط عنه ما ينوبه؛ لأن كل واحد منهم اشترى نفسه بما ينوبه من تلك الكتابة، فمن مات مات في الرق وسقطت الحمالة عنه. قوله: (وَيَرْجِعُ مَنْ أَدَّى عَلَى غَيْرِهِ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ التَّوْزِيعِ) هو مذهب المدونة، ونسب فيها: وإن أدى أحدهم عن بقيتهم؛ رجع من أدى علىبقيتهم بحصتهم من الكتابة بعد أن تقسم الكتابة عليهم بقدر قوة كل واحد منهم على الأداء يوم الكتابة لا على قيمة رقبته. وقول ابن عبد السلام: أن ما ذكره المصنف ما ذكره أحد، إلا أن اللخمي قال: إنه القياس، ليس بظاهر. وقال أشهب: يرجع عليهم على قدر قيمتهم يوم كوتبوا. وقال مطرف وابن الماجشون: على قدر قيمتهم يوم عتقوا لا يوم كوتبوا. وقال أصبغ: يرجع على قدر قيمتهم يوم كوتبوا أو حالهم يوم عتقوا، أن لو كانت حالهم يوم كوتبوا. وقيل: يرجع على قدر عددهم. وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِمْ) هذا شرط في الرجوع؛ يعني: إذا أدى أحد المكاتبين عن بعض فإن المؤدي يرجع على من أدى عنه، إلا أن يكون ممن يعتق عليه فلا يرجع حينئذٍ عليه، وهذا خلاف مذهب المدونة، فإن الزوجة لا يرجع عليها وهوي صح ملكه لها، وإنما الذي ذكره المصنف مذهب ابن القاسم وعبد الملك وابن عبد الحكم خارج المدونة، وروى ابن وهب عن مالك: أنه لا يتبع إخوانه وكل ذي رحم منه. ابن المواز: ثم سئل بعد ذلك، فقال: كل من كانت لهم رحم يتوارثون بها، فإنه لا يرجع بعضهم على بعض. ثم سئل أيضاً، فقال: أما الإخوة والولد؛ فإنه لا يرجع بعضهم على بعض، وأما الباعد فنعم. وقال أشهب: لا يرجع كل ذي رحم منه وإن كان ممن لا يعتق عليه بالملك ولا بينه وبينه ميراث، لا خالته ولا عمته ولا أحد بينهم رحم، وقد دار الفقه فيها الفروع بين أصلين؛ العتق على القريب، وهبة الثواب له، فيرد إلى أيِّ الأصلين هو أقوى به شبهاً.

وَلَوْ أَعَتَقَ السَّيِّدُ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ؛ لَمْ يَتِمَّ إِلا بإِجَازَةِ الْبَاقِينَ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى السَّعْيِ، فَتُوضَعُ حِينَئِذٍ حِصَّتُهُ عَنِ الْبَاقِي .. احترز بقوله: (لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ) ممن أعتق صغيراً لا أداء فيه، أو صغيراً لا يبلغ السعي في الكتابة، فإن عتقه يتم ولايتوقف على إجازة الباقين؛ إذ لا منفعة لهم فيهما، ورد عتقهما من الضرر. وقوله: (لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ) ظاهره سواء اكنت قوته مساوية للباقين أو أقوى أو أضعف، وهو مذهب ابن القاسم. اللخمي: وقيل لا يجوز إذا كان المعتق أقواهام وكانا متساويين؛ لأنا لا ندري ما يصير إليه حال الباقين من الضعف. وحكى ابن الجلاب قولاً: بأنه لا يجوز له عتق من له قوة على السعي، ولو أذن لهما لبقيت، وظاهره لو كان أضعف من الباقين في السعي. ابن يونس: وينبغي أن ينظر في أي ذلك أنفع لهم؛ من إجازة عتقه لضعفه عن السعي؛ أو رده لقوته فيه. وقوله: (لَمْ يَتِمَّ إِلا بإِجَازَةِ الْبَاقِينَ) وقوله: (عَلَى السَّعْيِ) يعني: أنه إنما يوز عتق من له قوة على السعي بشرطين؛ الأول: أن يجيزه الباقون؛ لأن كل واحد منهم حميل بما على الآخر، فلو أجزنا عتق السيد أحدهم بغير رضا الباقين كان فيه إسقاط حقهم في الحمالة. والثاني: أن يكون في الباقين قوة على الكسب؛ لأن الباقين إذالم يكونوا قويين على الكسب كان ذلك مؤدياً إلى إرقاقهم، فأجرى اللخمي قولاً في المسألة آخر بإمضاء إجازتهم من أحد القولين، فإن رضي المكاتب بالتعجيز- وحيث أجزنا من له قوة على السعي- فإنه يسقط عنه قدر نصيبه من الكتابة.

وَأَمَّا عَبْدٌ لَكَ وَعَبْدٌ لِغَيْرِكَ فَلا يجْتَمِعَانِ هذا هو الذي احترز منه بقوله لواحد، وعلته أنه لو هلك أو عجز أحدهما؛ أخذ سيد الهالك مال الآخر باطلاً. سحنون: فإن نزلت فالكتابة صحيحة؛ لأن الحمالة لا تبطل الكتابة، ولم يتكلم في المدونة على حكم النزول، فيحتمل أن يكون قول سحنون خلافاً ووفاقاً. وأشار اللخمي إلى تخريج الخلاف فيها: هل يفسد، أو يبطل الشرط فقط؟ وعلى البطلان هل يفوت بالاقتضاء، أو باقتضاء نجم أوصدر منها لى ما تقدم في الشرط؟ وهذا كله إن دخلا على الحمالة، وإن كان السيدان عقداً الكتابة على الحمالة، فقال الباجي: إنها جائزة، ويجعل على كل واحد من العبدين ما ينوبه من جملة الكتابة، وأشار إلى أنه لا يختلف فيه كما اختلف في جمع الرجلين سلعتيهما في البيع. فرع: واختلف إذا كان العبدان شركة بين رجلين؛ فلم يجز أشهب جمعهما في كتابة واحدة، قال: لأن كل عبد تحمل لغير سيده، إلا أن يسقط حمالة [762/ب] بعضهم عن بعض فيجوز. وقال ابن ميسر: ليس كما احتج؛ لأن كل واحد نصف عبد، فإنما يقبض كل واحد عن نصفه نصف الكتابة، فلم يقبض أحدهما عن غير ملكه شيئاً. وَلا يُبَاعُ مُكَاتَبٌ، وَلا يُنْزَعُ مَالُهُ هذا مذهبنا، لا يجوز بيع المكاتب. قال في المدونة: ولو رضي؛ لأن الولاء قد ثبت لعاقد الكتابة، والولاء لا يجوز نقله، ويتخرج على قول من قال من أصحابنا إن للمكاتب أن يعجز نفسه جواز البيع إذا رضي، قاله ابن القاسم في الدمياطية، فقال: إذا باع السيد رقبته برضاه جاز، فإن بيع على المشهور فسخ، إلا أن يفوت بإعتاق المشتري له؛ فيمضي

العتق ويكون ولاؤه للمشتري على المشهور، وقيل: ينتقض العتق ولا ينتزع ماله؛ أي: سواء اكتسبه قبل الكتابة أو بعدها، ونص في المدونة على أن ماله يتبعه، وإن كتب: إلا أن يشترطه سيده حين كتابته؛ فذلك المال للسيد، وهو أحسن إذا كان يرى أنه لو علم به السيد لا ينتزعه ويكاتبه، وإن كان يرى أنه يقره ويزيده في الكتابة؛ كان للسيد ألا يزيد ذلك القدر في الكتابة. نَعَمْ تُبَاعُ الْكِتَابَةُ لا نَجْمٌ مِنْهَا، وَفِي بَيْعِ جُزْءٍ مِنْهَا قَوْلانِ لما ذكر أنه لا يجوز بيع المكاتب ذكر أنه يجوز بيع الكتابة، ومنع من بيعها وبيعه عبد العزيز بن أبي سلمة. اللخمي: وهو أقيس للغرر؛ لأنه إذا كان للمشتري الكتابة فقط، وإن عجز عند أول نجم كان له الرقبة فقط، وإن عجز عند آخر نجم كانت له الكتابة والرقبة. اللخمي: وأصل سحنون في مثل هذا أنه يمنع البيع مع الاختيار، ويجوز عند الضرورة لفقر أو فلس، كما قال في بيع العبد بعد الإحرام، والأمة يعتق ولدها وهو رضيع، فيباع ويشترط على المشتري كونه معها ومؤنته. ابن عبد السلام: وظاهر كلام سحنون أنه يجوز بيع الكتابة اختياراً، ولا يجوز بيع نجم منها لأنه غرر؛ إن عجز بعد اقتضاء ذلك النجم أخذ ما ينوبه من الرقبة إلى غير ذلك، وهذا إذا كان النجم معيناً، وأما غير المعين كنجم من ثلاثة أو أربعة؛ فالمنصوص الجواز، وهو يرجع إلى بيع جزء منها، وقد حكى المصنف في الجزء قولين، وكذلك اختلف في الكاتب بين الشريكين يبيع أحدهما حصته من الكتابة، وحصل ابن رشد في هذا الفرع والذي قبله ثلاثة أقوال؛ الأول لابن القاسم: لا يجوز فيهما. الثاني: مقابله لأصبغ وسحنون. والثالث لمالك في الموطأ: يجوز لأحد الشريكين بيع نصيبه منها، ولا يجوز إذا كان العبد لواحد بيع

جزء منها، واخترا جماعة الجواز فيهما؛ إذ لا فرق بين الكل والجزء، وهو أيضاً منقول عن ابن القاسم وأشهب، وإنما يجوز لأحد الشريكين بيع حصته منها على مذهب من أجازه، وإذا باعها من أجنبي دون المكاتب؛ لأن ذلك كقطاعة، ولا يجوز مقاطعته على نصيب دون إذن شريكه. فَإِنْ وَفَّى فَالْوَلاءُ لِلأَوَّلِ، وَإِنْ عَجَزَ اسْتَرَقَّهُ مُشْتَرِيهَا أي: إذا بيعت كتابة المكاتب، فإن أدى عتق والولاء للبائع؛ لأن الولاء قد انعقد له، وإن عجز، زاد في الموطأ: أو هلك قبل أن يؤدي الكتابة ملكه المشتري. وكذلك الحكم في بيع الجزء، اختلف فيمن وهب كتابة مكاتب لرجل فعجز المكاتب، هل تكون رقبته للواهب أو للموهوب، واختلف إذا اطلع مشتري الكتابة على عيب بالمكاتب، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ينظر، فإن أدى كتابته فلا رجوع للمشتري بشيء؛ لأنه قد حصل له ما اشترى، وإن عجز فله رده ويرد معه جميع ما أخذ من كتابته، ولم يكن ذلك كالغلة؛ لأنه إنما اشترى الكتابة. وقال غيره: ليس عليه أن يرد شيئاً مما قبض من الكتابة؛ لأن ذلك كالغلة، قال: وله رده وإن لم يعجز، فحجته أنه بالعجز يرق، ثم لا يرد معه ما قبض من كتابته؛ لأن الأمر كان فيه مترقباً ما يدري ما يحصل له الرقبة بالعجز أو الكتابة، فلما عجز فكأنه إنما اشترى الكتابة، فكان ما قبض غلة. وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ يعني: يشترط في بيع الكتابة من أجنبي ما يشترط في بيع الدين، فتشترط السلامة من الربا وبيع الدين بالدين، ومن بيع الطعام قبل قبضه، فلو كاتبه بطعام إلى أجل؛ لم يجز أن يباع بعرض أو غيره، لبيع الطعام قبل قبضه ونحو ذلك، ولا يريد المصنف- والله أعلم- أنه مثل الدين من أجنبي في كل الوجوه حتى يشترط حضور المكاتب وإقراره كما يشترط في المديان، فإن الغرر من هذا الوجه ومن غير وجه مغتفر في بيع الكتابة.

بخِلافِ بَيْعِ السَّيِّدِ لهَا مِنَ الْعَبْدِ قد تقدم ذلك. وَتَصَرُّفَاتُ الْمُكَاتَبِ كَالْحُرِّ إِلا فِي التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ ويُرَدُّ عِتْقُهُ، وَلا يُعْتَقُ قَرِيبُهُ عطف (الْمُحَابَاةِ) على (التَّبَرُّعِ) لتباينهما في العرف. فالتبرع: ما خرج من غير معاوضة. والمحاباة: ما كان من زيادة في البيع أو الثمن، وأخر المحاباة لأنه قد يتوهم من خروجه لتشوش الشرع له، وأيضاً: فإن الكلام الأول في المنع ابتداء، وهذا في الرد، وإذا رد العتق مع حرمته فأحرى غيره، وإذا رد السيد عتقه فلا يلزم ذلك المكاتب إن أعتق، نص عليه في المدونة، واستحسن اللخمي أن يوقف فلا يمضي ولا يرد ولا يباع، فإن أدى المكاتب ما عليه مضى عتقه، وإن عجز رد عتقه، إلا أن يكون المكاتب قليل المال، ويرى أنه يضر به إيقافه فيرد، إلا إن قال: وعتقه بإذن سيده جائز إذا [763/أ] كان كثير المال لا يخاف عليه أن يؤدي إلى عجزه، ويختلف فيه إذا خيف عليه لأجل العجز قياساً على قوله: إذا رضي بالعجز وله مال ظاهر. قوله: (وَلا يُعْتَقُ قَرِيبُهُ) ظاهر؛ لأنه من جملة التبرعات. وَيُكَاتَبُ بالنَّظَرِ أي: على وجه ابتغاء الفضل، ففي المدونة: وكتابة المكاتب عبده على ابتغاء الفضل جائزة، وإلا لم يجز، وكذلك قوله للعبد: إن جئتني بكذا فأنت حر، ويشترط في المال ألا يكون مملوكاً للعبد حين عقد ذلك؛ إذ لا نظر في ذلك لهم، وجاز هذا للمكاتب؛ لأنه عقد معاوضة، والله أعلم.

وَيَتَسَرَّى مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ لأن ذلك لا يعيبه إذا عجز بخلاف النكاح، وينبغي أن يقيد هذا بالتسري الذي لا يؤدي لعجزه غالباً، وإلا ففي السراري من العلي من يقارب الأحرار في النفقة وغيرها وتزيد، لكن النكاح عندهم عيب عجزه، ويرجع إلى السيد معيباً بخلاف التسري. وَلا يَتَزَوَّجُ إِلا بإِذْنِهِ أي: لا يجوز له بغير إذنه؛ لأن ذلك يعيبه إذا عجز. وقوله: (إِلا بإِذْنِهِ) ظاهره أنه لا يفتقر إلى إذن غيره، وهو مقيد بما إذا لم يكن معه غيره. أشهب: وإن كان معه في الكتابة غيره؛ فليس لسيده إجازة نكاحه إلا بإجازة من معه، إلا أن يكونوا صغاراً فيفسخ على كل حال، ويترك لها إن دخل ثلاثة دراهم، ولا يتبع إن عتق بما بقي. وَلا يُكَفَّرُ إِلا بالصِّيَامِ يعني: لا يكفر بعتق ولا إطعام، أما العتق فلعدم الولاية، وأما الإطعام فقد تقدم الخلاف فيه في باب الظهار. وَلا يُسَافِرُ سَفَراً بَعِيداً بغَيْرِ إِذْنِهِ احترز بالبعيد من القريب؛ فإنه جائز، قاله ابن القاسم. ونقل اللخمي أنه منع السفر مطلقاً، ورأى اللخمي المنع إذا كان صانعاً ونحوه؛ لأن القصد سعايته في الحاضرة، والجواز إن كان شأنه السفر قبل ذلك. وَإِذَا اشْتَرى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِه صَحَّ، فَإِنْ عَجَزَ عَتَقَ (صَحَّ) أي: الشراء، ولم يعتق على السيد؛ لأن المكاتب قد أحرز نفسه وماله، وإذا صح الشراء فللمكاتب بيعه ووطؤها إن كانت أمة، وقاله ابن القاسم في الموازية، فإن

عجز المكاتب عتق العبد على السيد، فإن قيل: لا يعتق على سيد مأذون له إلا ما اشتراه المأذون له غير عالم، وها هنا المكاتب قد يشتري وهو غير عالم بأن ذلك العبد يعتق على سيده. قيل: لما أبيح للمكاتب اشتراؤهم أولاً صار أقل أموره كالمأذون يشتري وهو عالم. وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فِي حُكْمِهَا، بخِلافِ مَا قَبْلَهَا إِلا أَنْ يَشْتَرِطَهُمْ ... أي: ما ولد للمكاتبة بعد عقد الكتابة، سواء حملت به بعد العقد أو قبله، وكذلك ولد المكاتب من أمته يشترط أن يحدث بعد الكتابة، وأما لو حملت به قبلها فلا يدخل؛ لأنه ملك للسيد. وقوله: (فِي حُكْمِهَا) أي: في حكم الكتابة. واحترز بقوله: (مِنْ أَمَتِهِ) مما لو كان من زوجته فإنه لا يتبع؛ لأنها إن كانت حرة فالولد حر، وإن كانت أمة فالولد رقيق لسيدها. وقوله: (بخِلافِ مَا قَبْلَهَا) أي: فلا يدخل إلا أن يشترطاهم؛ أي: المكاتب والمكاتبة. وَلَوْ وَطِئَ السَّيِّدُ مُكَاتَبَتَهُ أُدِّبَ وَلا مَهْرَ، فَإِنْ نَقَصَهَا فَعَلَيْهِ الأَرْشُ إِنْ أَكْرَهَهَا يعني: ولا حد للشبهة. قال في المدونة: ويعاقب، إلا ان يعذر بجهل، والمذهب سقوط المهر خلافاً للحسن، نعم إن نقصها فعليه الأرش، هكذا في المدونة، وقيده ابن يونس، فقال: يريد إذا كانت بكراً. وقال اللخمي: لا شيء لها إن كانت ثيباً؛ لأن ذلك لا ينقص من ثمنها، وعلى هذا فالتقييد مأخوذ من المدونة، واحترز المصنف بالإكراه لو طاوعته فإنه لا شيء عليه، لا صداق ولا ما نقصها، قاله في المدونة. ابن يونس: ولو كانت بكراً.

وَلَوْ حَمَلَتْ خُيِّرَتْ فِي بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَأُمَومَةِ الْوَلَدِ مَا لَمْ يَكُنْ ضُعَفَاءُ أَوْ أَقْوِيَاءُ إِنْ لَمْ يَرْضَوْا، فَإِنِ اخْتَارَتِ الأُمُومَةَ وَرَضَوْا؛ حُطَّتَ حِصَّتُهَا ... ظاهره: أنها تخير في التعجيز ولو كانت قوية على السعي، وقاله محمد وسحنون، وعلله ابن يونس بمراعاة الخلاف، فابن القاسم قال: إذا حملت بطلت كتابته وصارت أم ولد، فلذلك كان لها تعجيز نفسها. اللخمي: تعجيزها نفسها ليس بالبين؛ لأنه انتقل عن عتق ناجز إلى عتق بعد موت، وقد تموت قبله رقيقاً، واختلف إذا مضت على كتابتها في نفقتها، فقال سحنون وابن حبيب، ونقله عن أصحاب مالك: لها النفقة ما دامت حاملاً قياساً على المبتوتة الحامل. وقال أصبغ: لا نفقة لاختيارها حكم الكتابة، أما إن عجزت بعد اختيارها الكتابة فهي على حكم أمومة الولد. وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ) هو شرط في التخيير، وقد تقدم معناه إذا أعتق السيد بعض المكاتبين، وكذلك تقدم أنه يحط عنهم حصة المعتق، ولو اختارت الكتابة ثم عجزت؛ فإنها لا ترق، بل ترجع إلى حكم أمومة الولد، وتعتق بموت سيدها، قاله في الجلاب. وَإِذَا جَنَى وَلَوْ عَلَى سَيِّدِهِ فَالأَرْشُن فَإِنْ عَجَزَ رُقَّ، ثُمَّ يُخَيَّرُ سَيِّدُهُ بَيْنَ إِسْلامِهِ وَفِكَاكِهِ يعني: إذا جنى المكاتب على غيره، وجنايته على سيده كجنايته على الأجنبي؛ لأنه أحرز نفسه وماله، ووجب عليه الأرش، فإن أدى بقي على كتابته، وإن عجز فهو عجز عن الكتابة ويرجع رقيقاً، فيخير سيده في إسلامه فيكون رقيقاً للمجني عليه، وفي فكاكه فيكون رقيقاً له. مالك: ولا ينجم على المكاتب الأرش [763/ب] كما ينجم على العاقلة. ابن وهب: قال عطاء وابن شهاب: بذلك مضت السنة.

محمد: وإذا قال المكاتب لما طولب بالأرش: ما عندي شيء، فقد عجز ويخير سيده، وإن قال: عندي ولكن أؤدي إلى أيام، فلا يرد، ويقول له السلطان: إن تؤديه وشبهه وإلا فأنت رقيق، فإن أداه وإلا عُجِّزَ. اللخمي: وإن أدى عنه سيده الأرش على أن يرجع عليه بما أدى؛ بقي على حاله مكاتباً؛ لأن الجناية سقطت، وإن أدى عنه ليتبعه؛ فعلى مذهب من يرى أنه يجبره على الكتابة، يجوز ذلك وتكون كتابة من السيد مبتدأة، وعلى مذهب من يرى أنه لا يجبره على الكتابة يرجع؛ لأنه من عجز الأرش فيجب إرقاقه، وقد دفع السيد ذلك عنه فداء له. وَلَوْ جَنَى عَبْدٌ مِنْ عَبيدِ الْمُكَاتِبِ فَدَاهُ بالنَّظَرِ في كلامه حذف معطوف تقديره: فداه أو أسلمه بانلظر. وَلَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ مُكَاتَباً بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَزِمَهُ الْفِدَاءُ نحوه في الجواهر، وظاهره أنه لا يقبل قول السيد: لم يرد حملها، وينبغي أن يقيد بذلك كما نص عليه في المدونة في المدبر إذا أعتقه سيد، فإن أراد حمل الجناية فذلك له، وإن قال: ظننت أنها تلزم ذمته وإن كان حرّاً يتبع؛ حلف على ذلك ثم رد عتقه، فإن كان للعبد مالٌ قدر الجناية، أو وجد معيناً على أدائها مضى عتقه، ولعل ما ذكره المصنف وابن شاس إنما يجري على مذهب المغيرة: أنه إذا أعتق عالماً بالجناية أنه ضامن، كما لو أولد أمته. وَلَوْ قُتِلَ فَلِلسَّيِّدِ الْقِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ مُكَاتَبٌ هذه إحدى الروايتين عن مالك، وهو مذهب المدونة عند أبي عمران وغيره، قال فيها: وعلى قاتل المكاتب قيمته عبداً مكاتباً في قوة مثله على الأداء وضعفه. قيل لأبي عمران: لِمَ قال: يقوم مكاتباً على قدر أدائه، ولم يقل: يقوم عبداً؟ قال: من أجل أن للمكاتب زيادة فيه؛ لأنه يراد فيه من أجل اجتهاده في خروجه من الرق. وروي عن

مالك، وهو مذهب المدونة عند جماعة: أنه يقوم عبداً؛ لأن الكتابة بطلت بقتله، بخلاف الجناية عليه فيما دون النفس، فإنه يلزمه فيه الأرش على أنه مكاتب؛ لأن حكم الكتابة باقٍ لم يبطل لبقاء ذاته. وَإِذَا تَنَازَعَا فِي الْكِتَابَةِ أَوِ الأَدَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ يعني: إن ادعى العبد أن السيد كاتبه وأنكر السيد، أو ادعى المكاتب دفع الكتابة وأنكر السيد، فالقول قول السيد فيهما؛ لأنه مدعىعليه، إذ الأصل عدم الكتابة والأداء، ولا يمين على السيد في الأولى، وينبغي أن يحلف في الثانية، فإن نكل حلف المكاتب وعتق. وَيَثْبُتُ الأَدَاءُ بشَاهِدٍ وَيَمِينٍ بخِلافِ الْكِتَابَةِ هذا نحو ما قدمه المصنف في باب الشهادات، حيث قال: ونجوم الكتابة وإن عتق بها فتجوز برجل وامرأتين، بخلاف الكتابة فإنها لا تثبت إلا بعدلين. فرع: واختلف هل يرد العتق بدين ثبت بشاهد ويمين، أو بامرأتين ويمين، أو شاهد وامرأتين، فظاهر المذهب أنه لا يرد بذلك، وقال القاضي إسماعيل: لا يرد العتق بذلك، وإنما يرد بذلك ماي ثبت من العتق بعد الحكم بالمال، إلا أن يثبت أن شهادة الرجل والمرأتين وشهادة الشهاد الذي حلف معه كانت قبل العتق، وكذلك فسره عبد الملك ومحمد بن سلمة، إلا أن يكون معتقاً ي وصيته فيشهد على الميت رجل وامرأتان، فقد علمنا بغير شهادتهما أن الحق كان قبل العتق. وقال مالك في الموطأ: يرد العتق بنكول السيد عن اليمين ويكون صاحب الحق، ومثله في العتبية والمجموعة. وَإِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِهَا أَوْ جِنْسِهَا أَوْ جِنْسِهَا أَوْ أَجَلِهَا فَفِي قَبُولِ قَوْلِ الْمُكَاتَبِ وَالسَّيِّدِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. تصوره ظاهر، وهو يقتضي بصريحه أن الخلاف في الثلاث مسائل:

أما الأولى: وهي اختلافهما في المقدار. كما لو قال السيد: بألف، وقال المكاتب: بل تسعمائة. وقال ابن القاسم في المدونة: القول قول المكاتب إن كان قوله يشبه؛ لأن المكاتب فوت، كما لو اشترى عبداً فكاتبه ثم اختلفا في الثمن أن المبتاع مصدق، وشبه ذلك بما رجع إليه مالك إذا اختلف البائع والمبتاع أنهما يتحالفان ما لم تفت السلعة في يد المشتري، فيكون القول قوله. وقال أشهب: ما ذكر عنه المصنف القول قول السيد. محمد: وحجته أن يقول للمكاتب: أنت مملوكي، فلا تخرج الكتابة إلا بما أقر لك به. واعلم أن أشهب إنما قال هنا: القول قول السيد، فقال اللخمي: الرواية ناقصة. وإنما معنى ذلك أن يحلف السيد، ثم يقال للعبد: ترضى بما عليه السيد وإلا فاحلف وتفسخ الكتابة، كما في البيع سواء. المازري: وقد لا يحتاج إلى هذا التأويل، ويكون أِهب رأى أن القول قول السيد مطلقاً، بناء على القول أن للسيد أن يجبر عبده على الكتابة؛ لأن السيد يقول: لا فائدة في يمين العبد، لأنه بعد أن يحلف تفسخ الكتابة؛ أجبره عليها بذلك. وخرج اللخمي على قول أشهب: تفسخ الكتابة. اشتراط السيد وطء مكاتبته أو على أن ولدها له ما لم يؤدِّ نجماً، أنهما هنا يتحالفان ويتفاسخان ما لم يؤدِّ نجماً، فإن أداه تحالفاً ورجع إلى كتابة المثل ما لم يكن أكثر مما ادعاه السيد فلا يزاد، أو أقل مما قاله المشتري، وكل هذا إذا أتيا جميعاً بما يشبه، وإن أتى أحدهما [764/أ] بما لا يشبه؛ فالقول قول الآخر مع يمينه، سواء اختلفا قبل أداء نجم أو بعده. وفي تخريج اللخمي نظر؛ لأن شرط الكتابة لا يحل اتفاقاً، وإنما رأى من ال ببطلان الكتابة أنها فاسدة، فكانت كالبيع الفاسد، بخلاف اختلاف السيد ومكاتبه، فإن ذلك لا يوجب فساداً كاختلاف المتبايعين.

وأما الثانية: فهي اختلافهما في الجنس. كما لو قال أحدهما بثياب، وقال الآخر بخلافها، فلم أر قول ابن القاسم وأشهب فيها كما يوهم كلام المصنف، ولهذا أجرى اللخمي على قول ابن القاسم: أن الكتابة فوت ويتحالفان ويكون على كتابة مثله من العين، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر؛ فالقول قول الحالف، وإن قال أحدهما عيناً والآخر عرضاً؛ فالقول لمدعي العين، إلا أن يأتي بما لا يشبه. وسكت عن قول أشهب فيه. وقال المازري: إذا اختلفا في الجنس؛ جرى على اختلاف المتبايعين في الجنس يتحالفان ويتفاسخان، ولا خلاف منصوص في البيع فيهما. وتذاكرت مع ابن عبد الصمد بسفاقص في هذه المسألة، فقال لي: فيها قول آخر؛ أن القول للبائع فاستغربته، فقال لي: هو منصصو لمالك في كتاب أبي إسحاق، فأخرج لي الكتاب فوجدته فيه. وأما الثالثة: وهي اختلافهما في الأجل. فكلامه محتمل لأن يكون اختلافهام في وجوده وعدمه، أو في قدره، أو في حلوله. فأما الأول، فقال اللخمي: القول قول المكاتب أنها منجمة ما لم يأت من كثرة النجوم ما لا يشبه. قيل: المذهب كله عليه. وأخرج بعضهم فيها خلافاً من اختلاف قول مالك: إذا باع من رجل سلعة، فقال المشتري: بعتها مني إلى أجل، وقال هو: بل نقداً. ورده المازري: بأن العادة في الكتابة لا تكون إلا على التنجيم بخلاف البيع وافترقا، وأما الاختلاف في قدره. وفي المدونة: إن قال المكاتب منجمة على عشرة أنجم، وقال السيد على خمسة؛ صدق المكاتب مع يمينه، وإن أتى ببينة قضى بأعدلهما، وإن تكافآ صدق المكاتب وكان كمن لا بينة له. قال غيره: يقضي ببينة السيد لأنها زادت، ونقل ابن يونس عن أِهب مثل قول ابن القاسم، وبه لا يتم أن يريد المصنف هذا الوجه؛ لأن أشهب لا يقول قول السيد، وإنما اختلافهما بحلول الأجل، ففي المدونة: القول قول المكاتب، قال: كمن أكرى داره سنة أو باع سلعة بدينار إلى سنة وادعى حلولها؛ فالمكتري أو المبتاع مصدق، ولم ينقلوا هنا قول أشهب، وبالجملة في كلام المصنف نظر، والله أعلم.

أمهات الأولاد

اُمَّهَاتُ الأَوْلادِ الأم في اللغة: أصل الشيء، والجمع أمات. وأصل أم: أمهة، ولذلك يجمع على أمهات. وقيل: الأمهات للناس، والأمات للنعم، وأم الولد عبارة في اللغة عن كل من ولد لها ولد، وهي خاصة في استعمال الفقهاء بالأمة التي ولدت من سيدها، وجرت عادة الفقهاء بترجمة هذا الباب بالجمع، ولعل سبب ذلك تنويع الولد الذي تحصل به الحرية للأم، فقد يكون تام الخلقة، وقد لا يكون كذلك من مضغة وعلقة وغيرهما. عياض: ولأم الولد حكم الحرائر في ستة أوجه وحكم العبد في أربعة. أما الستة: فلا خلاف عندنا أنهن لا يبعن في دين ولا غيره، ولا يرهن، ولا يؤجرن، ولا يسلمن في جناية، ولا يستسعين. وأما الأربعة: فانتزاع أموالهن ما لم يمرض السيد، وإجبارهن على النكاح على أحد القولين واستخدامهن، لكن في خفيف الخدمة فيما لا يلزم الحرة، وكونهن لسيدهن له فيهن من الاستمتاع ما في الإماء. وَتَصِيرُ الأَمَةُ أُمِّ وَلَدٍ بثُبُوتِ إِقْرَارِ السَّيِّدِ بالْوَطْءِ، وَثُبُوتِ الإِتْيَانِ بوَلَدٍ حَيِّ أَوْ مَيِّتٍ عَلَقَةٌ فَمَا فَوْقَهَا مِمَّا يَقُولُ النِّسَاءُ: إِنَّهُ مُنْتَقِلٌ ... أي: وتصير الأمة أم ولد بمجموع شيئين؛ الأول: أن يقر السيد بوطئها. والثاني: أن يثبت الإتيان بولد، واحترز بالأول مما لو أنكر السيد الوطء، فإن الولد لا يلحقه، والمذهب أن اليمين لا تتوجه عليه؛ لأن ذلك من دعوى العتق. وقال عبد الملك: إذا ادعى الاستبراء يحلف وهو خلاف قول مالك، فعلى قوله ينبغي أن يحلف هنا، واختار اللخمي توجهها في العليا مطلقاً، وفي الوخش إن علم منه ميل لذلك الجنس. قال: وقد قيل: إنه لا يصدق في العليا إذا طال مقامها لكان له وجه، واحترز بالثاني مما لو أقر بالوطء وأنكر الولادة، فإن لم يكن مع الأمة ولد؛ فإن اليمين تتوجه عليه إذا ادعت عليه العلم،

وإن كان غائباً في الوقت الذي يقول أنها ولدت فيه ولم يحلف. واختلف إذا أتت بامرأتين على الولادة كلٌّ تكون أم ولد؟ فقال ابن القاسم: تكون بذلك أم ولد. وقال سحنون: إذا لم يكن معها ولد فلا تكون بذلك أم ولد. واختلف إذا كان معها ولد؛ ففي المدونة: يقبل قولها. وقيل: لابد من امرأتين على الولادة. وقال محمد: يقبل قولها إذا صدقها جيرانها لواحد حضرها، وليس يحضر هذا الثقات. واختار اللخمي الرجوع إلى دلائل الأحوال في ذلك، وظاهر قول المصنف: وثبوت الإتيان بولد أنه لابد من امرأتين. وقوله: (عَلَقَةٌ فَمَا فَوْقَهَا) ظاهره أنها لا تكون بما دون ذلك وهو مذهب أشهب، ومذهب ابن القاسم: أنها لا تكون بالدم المجتمع. قيل: وعلامة [764/ب] كونه ولداً إذا كب عليه الماء الساخن لا يذوب. وقوله: (مُنْتَقِلٌ) أي: يبين حملاً بعد ذلك. وَلَوِ ادَّعَتْ سَقْطاً مِنْ ذَلِكَ وَرَأَى النِّسَاءُ أَثَرَ ذَلِكَ اعْتُبِرَ يعني: إذا أقر بالوطء وادعت سقطاً بولد حي أو ميت علقة فما فوقها، وهو قوله: (مِنْ ذَلِكَ وَرَأَى النِّسَاءُ أَثَرَ ذَلِكَ اعْتُبِرَ) هذا معنى ما في أمهات أولاد. المدونة، قيل: فإن أقرت بولد فأنكر السيد أن تكون ولدته: قال: سئل مالك عن المطلقة تدعي أنها قد أسقطت وانقضت عدتها ولا يعلم ذلك إلا من قولها؟ قال: لا يكاد يخفى عن الجيران الولادة والسقط وأنها لوجوه تصدق النساء فيها وهو الشأن، ولكن لا يكاد يخفى عن الجيران، فكذا مسألتك في ولادة الأمة، فظاهر هذا مثل ما ذكره المصنف في السقوط، وصرح في المدونة في كتاب القذف بما لم يصرح به في كتاب أمهات الأولاد في مسألة إنكار السيد الولادة، فقال: ومن أقر بوطء أمته فأتت بولد، فقال لها: لم تلديه ولم يدع الاستبراء، وقالت الأمة: بل لقد ولدته منك؛ فهي مصدقة والولد لاحق، فإذا قبل قولها في الولد مع احتمال بعد الزمان، فأحرى في السقط التي آثاره ظاهرة.

وَلَوِ ادَّعَى اسْتِبْرَاءً لَمْ يَطَا بَعْدَهُ لَمْ يَلْحَقْهُ وَلا يَحْلِفُ هذا ظاهر المدونة كما ذكر سقوط اليمين، وهو قول مالك ونص الموازية، وألزمه عبد الملك ومطرف وعيسى اليمين، ورواه أشهب عن مالك. وقال ابن مسلمة: يحلف إن اتهم، وإن نكل لحق به الولد ولم ترد اليمين. وقال المغيرة في أول قوله: لا ينبغي بالاستبراء جملة ولا يبرأ منه إلى خمس سنين، ومال إليه اللخمي مستدلاً بأن النفي بالاستبراء ضعيف؛ لأن الحامل تحيض عندنا، إلا أن تكون الأمة ممن يظن بها الفساد فيترجح القول بالفساد بالاستقراء، وإن كانت معروفة بالعفاف والصيانة لم ينتف به. وَاسْتِبْرَاؤُهَا حَيْضَةٌ وَانْفَرَدَ الْمُغِيرَةُ بثَلاثِ حِيَضٍ وَيَحَلِفُ يعني: إذا قلنا أن له أن ينفي الولد بالاستبراء، فهل يكتفي بحيضة وهو المشهور، أو لابد من ثلاث؟ ولم ينفرد المغيرة كما قال المصنف، فقد نقل ابن يونس عن مالك من رواية عبد الملك مثل قول المغيرة: أنه لا ينبغي إلا بثلاث حيض مع اليمين. قال سحنون: والذي ثبت عليهمالك حيضة ولا يمين عليه. وعن المغيرة أيضاً: أنها حيضة، ثم رجع لثلاث. بعض الشيوخ: وإذا أوجبنا عليه اليمين فنكل عنها؛ كان ذلك كدعوى العتق مع شاهد، وَجَبَتْ اليمينُ على السيد فنكل عنها، فعلى القول أنه يعتق بالنكول لزمه هنا الولد، وعلى القول الثاني سجن أبداً. وَلا يَنْدَفِعُ بدَعْوَى الْعَزْلِ، وَلا بالإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ، وَلا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ مَعَ الإِنْزَالِ يعني: لا يندفع الولد عنه بقوله كنت أعزل؛ لأن الماء قد يسبقه ولو اليسير منه.

اللخمي: إلا أن يكون العزل البين، ولا بالإتيان في الدبر أو بين الفخذين، نحوه في المدونة، ونقل اللخمي قولاً آخر: أنه لا يلحقه الولد؛ لأن الماء إذا باشر الهوى فسد، واستحسن اللخمي القول الأول؛ لأن فساد الماء مظنون فلا يسقط به النسب، واستبعد الباجي حصول الولد عن الوطء في غير الفرج، قال: ولو صح لما حدت المرأة إذا ظهر بها حمل ولا زوج لها، لجواز أن تكون إنما وطئت في غير فرج. اللخمي: وإن كان الإنزال بين شفري الفرج لحق الولد اتفاقاً. قال ابن القاسم: ولو قال وطئت ولم أنزل؛ لزمه الولد. وَلَوْ أُنكحَ أَمَةً أَوْ وَطِئَهَا بشُبْهَةٍ فَوَلَدَتْ ثُمَّ اشْتَراهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ يعني: لو تزوج أمة ووطئها بشبهة فولدت منه، ثم بعد ذلك اشتراها؛ فإنها لا تكون بذلك الولد المتقدم على الشراء أم ولد، وهذا متفق عليه عندنا. وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ حَامِلاً مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ عَلَى الْمَشْهُورِ هما روايتان، وبالمشهور قال ابن القاسم وأكثر الأصحاب، وبالشاذ قال أشهب؛ لأن الولد قد مسه الرق وإنما عتق بالملك، ورأى في المشهور أنه لما عتق عليه بالشراء صار كما لو حملت ابتداء وهي في ملك أبيه، ولهذا لو لم يعتق عليه بالشراء لم تكن أم ولد عند الجميع، كما لو كانت الأمة لأبيه واشتراها منه؛ لأنه قد عتق على جده ولم يملكه أبوه، أما لو اشتراها من أعتق ما في بطنها؛ ففي المدونة: شراؤه جائز وتكون بما وضعت أم ولد؛ لأنه على الذي عتق بالشراء ولم يصبه عتق السيد؛ إذ لا يتم تقه إلا بالوضع، لأنه يباع عليه في فلسه ويبيعها ورثته قبل الوضع إن شاءوا، وإن لم يكن عليه دين والثلث يحملها، ولو ضربها رجل فألقته؛ فإن فيه ما في جنين الأمة، ولو كان بعدما اشتراها الزوج؛ ففيه ما في جنين الحرة. قال: وقد تزوج أمة والده فمات الأب فورثها وهي حامل، فإن كان حملاً

ظاهراً أو لم يكن ظاهراً ولكنها وضعته لأقل من ستة أشهر؛ لم تكن أم ولد، لأنه قد عتق على جده في بطنها قبل أن يرثه أبوه فلم يملكه أبوه، ولا تكون أم ولد أبداً إلا عن ملك رقبتها بماف ي بطنها حتى يعتق الجنين عليه لا على غيره، قال: وإن وضعته لستة أشهر فأكثر فهي له أم ولد، ونحوه لابن الماجشون في كتاب ابن سحنون. وَمَنْ قَالَ فِي مَرَضِهِ: هَذِهِ وَلَدَتْ مِنِّي وَلا وَلَدَ مَعَهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَلَوْ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى الأَصَحِّ صُدِّقَ وَعتَقَتْ مِنْ رَأَسِ مَالِهِ، وَإِلا لَمْ يُصَدَّقْ وَرَقَّتْ ... قد يقال في كلامه تناقض [765/أ] لأن قوله: (وَلَوْ مِنْ غَيْرِهَا) يقتضي تسوية الحكم منها ومن غيرها وهو ناف لقوله: (وَلا وَلَدَ مَعَهَا) ووقع في بعض النسخ إسقاط (لو) وهي أحسن، والقولان في المدونة؛ ففيها: وأما إن قال: هذه ولدت مني. ولا يعلم ذلك إلا بقوله: (وَلا وَلَدَ مَعَهَا) فإن كان ورثته ولده؛ صدق وعتقت من رأس المال، وإن لم يترك ولداً؛ لم يصدق ولا تعتق الأمة في الثلث وتبقى رِقّاً، إلا أن يكون معها ولد السيد أو بينة تثبت فتعتق من رأس المال. وقد قال مالك أيضاً: لا تعتق إذا لم يكن معها ولد من ثلث ولا من رأٍ مال كان ورثته ولده أو كلالة؛ كقوله: أعتقت عبدي في صحتي. فلا يعتق في ثلث ولا في رأس مال، وقاله أكثر الرواة. اللخمي: وعلى قوله في المريض يقر بقبض كتابة مكاتبه؛ ورثته كلالة إذا كان الثلث يحملها ولم يشغل الثلث بوصية. ويجري فيها قول رابع: إن كان اعترف بوطئها قبل قوله الآن وإن لم يحملها الثلث، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة: إذا باعها، ثم قال: ولدت مني، نعم اختار اللخمي أنه يصدق في قوله وتكون على حكم أم الولد، وإن كان إقراره في مرضه ورثته كلالة من لم يحملها الثلث، أو في صحته وعليه دين؛ لما جرى من كثير من الناس كتمان مثل هذا، ثم يعترف به عند الموت ويكون معها الولد ولا سيما إن كانت دنية أو سوداء فيكتمه لمعرة ذلك، فإذا كان عند الموت أقر به لخوف الإثم.

فَإِنْ قَالَ: أَعْتَقْتُهَا فِي صِحَّتِي؛ لَمْ تُعْتَقْ مِنْ رَاسِ مَالٍ وَلا ثُلُثِ عَلَى الأَكْثَرِ فِيهِمَا يحتمل أن يعود فيهما على هذه المسألة والتي قبلها، لكن يبقى فيه نظر؛ لأنه قد تقدم من كلامه في المدونة أن الأكثر على مقابل الأصح، وعلى هذا فيعود الضمير على رأٍ المال والثلث، ويكون مقابل الأصح أنها تعتق من رأس المال على قول، ومن الثلث على قول، وقد سوىبن زرقون بين العتق والاستيلاد، فقال: اختلف فيمن أقر في مرضه أنه كان فعل شيئاً في صحته مثل عتق أوإيلاد على ستة أقوال؛ أحدها من كتاب أمهات الأولاد أيضاً: إن ورث بولد فمن رأس المال، وإن ورث بكلالة لم ينفذ من الثلث ولا من رأس المال. والرابع ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الكتابة، ونص ما في المدونة: إن ورث بولد نفذ من رأس المال، فإن ورث بكلالة نفذ من الثلث. والخامس في الموازية: ينفذ من الثلث ورث بولد أو كلالة. والسادس حكاه التونسي: إن حمله الثلث جاز، وإن لم يحمله بطل جميعه، ونحوه لابن رشد وحكاه قولاً سابعاً: إن ورث بولد هذا من الثلث، وإن ورث بكلالة لم ينفذ من رأس مال ولا ثلث. ويأتي في أم الولد قول ثامن وهو ما خرجه اللخمي: إن كان اعترف بوطئها قبل قوله الآن، وإلا فلا كما تقدم. وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ فِيهَا إِجَارَةٌ وَلا غَيْرِهَا سِوَىَ الاسْتِمْتَاعِ وَما قَرُبَ مِنَ الْخِدْمَةِ في المختصر: لا تؤاجر إلا برضاها؛ لأن الحر لو رضي أن يؤاجر نفسه جاز. ابن الجلاب: وإن أجرها فسخت الإجارة، فإن لم تفسخ حتى انقضت لم يرجع المستأجر على سيدها بشيء. وقوله: (وَلا غَيْرِهَا) أي: من البيع، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور: أنها لا تباع في دين ولا غيره ونقل سحنون على ذلك، ويعضده ما رواه الدارقطني وغيره من منع بيعهن، لكن الأحاديث فيها ضعف، ومنع في املدونة كتابتها، لكن ذلك محمول عند

الشيوخ على ما إذا لم ترض بذلك، وأما لو رضيت فتجوز الإجارة، ثم استثنى من ذلك الاستمتاع منها وما قرب من الخدمة، وهو قريب مما لعبد الوهاب في المعونة، فإنه قال: وله استخدامها فيما قرب ولا يشق، لكنه مخالف لما في الموازية عن ابن القاسم من التفصيل بين الرفيعة والدنية؛ لأنه قال: ليس له أن يعنت أم الولد في الخدمة، وإن كانت دنية وتبتذل في الحوائج الخفيفة ما لا تبتذل في الرفيعة. وقال الباجي: للسيد استخدام المدبرة دون أم الولد على المشهور من قول مالك، وظاهره أن مقابل المشهور له فيها الخدم ةالكثيرة، والأظهر عنده أن له فيها الخدمة؛ أي: الكثيرة، لأنها فيه على حكم الملك، وإنما منع من تملكها غيره، وقياساً على استخدام أم ولده؛ لأن حرمتهما واحدة، إذ كل ذات رحم فولدها بمنزلتها. وَلَوْ بيعَتْ وَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي فَسَخَ وَمُصيبَتُهَا مِنَ الْبَائِعِ (فَسخَ) أي: البيع والعتق وعادت أم الولد، وإذا فسخ العتق فأحرى الكتابة والتدبير، وكذلك أيضاً لا يفيتها إياه المشتري عالماً أنها أم ولد للبائع غرم قيمة الولد، اختلف إذا غره وكتمه أنها أم ولد، فقال ابن الماجشون: عليه قيمة الولد. وقال مطرف: لا شيء عليه لأنه أباحه إياها. اللخمي: وهو أحسن. قوله: (وَمُصيبَتُهَا مِنَ الْبَائِعِ) يعني: أن هذا مخالف للبيع الفاسد؛ لأن الملك لا ينتقل هنا، وإذا فسخ البيع؛ ظاهر المذهب لا شيء على البائع مما أنفقه المشتري عليها ولا من قيمة خدمتها. وقال سحنون: يرجع بالنفقة، يريد ويرجع هو بالخدمة، قاله اللخمي، قال: وإذا انقضى البيع تحفظ من البائع لئلا يعود إلى بيعها ولا يؤمن من السفر بها، وإن خيف عليها ولم يمكن التحفظ منه عتقت عليه قياساً على قول مالك في المبسوط في الذي يبيع زوجته أنه لا يكون بيعها طلاق، قال: وتطلق عليه إذا خيف أن يعود، وإن غاب المشتري ولم يعلم مكانه تصدق بالثمن. انتهى.

وهذا [765/ب] إذا باعها لا شرط الحرية والعتق، وإن باعها على أنها حرة ساعتئذ، فهذه ترد ما لم تفت للعتق، فيمضي عتقها والولاء للبائع ويسوغ له الثمن، لأن المبتاع علم أنها أم ولد وشرط فيها العتق فكأنه فكاك، ولو لم يعلم أنها أم ولد لرجع بالثمن. وَإِذَا جَنَتْ وَجَبَ فِدَاؤُهَا بالأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لأن الشرع لما منع من إسلامها نزلت قيمتها منزلتها، فلذلك كان عليه في الجناية الأقل من قيمتها أمة وأرش الجناية، وأطلق في قوله: (قِيمَتِهَا) والمشهور: اعتبار القيمة يوم الحكم. وقال المغيرة: يوم جنت. قال محمد بن عبد الحكم: لا شيء على سيدها من جنايتها وذلك في ذمتها. وقال ابن الجهم: السيد بالخيار إن شاء أسلم أرش الجناية أو أسلم ما بقي له فيها من الخدمة فيستخدمها أو يؤاجرها، قال: ولا يلحقه من الجناية أكثر مما يملك منها، فإن وفت رجعت إلى سيدها، وإن لم توف حتى مات عتقت وأتبعت بالباقي ذمتها. خليل: وانظر هل يتخرج فيها قول ثالث بعدم الرجوع عليها بما بقي من الدين، وإذا تعددت الجنايات وقام أهلها في وقت واحد اسلمت القيمة إليهم وتحاصوا فيها علىقدر أرش تلك الجناية، قيل: إلا أن تكون قيمتها مثل أقل الجناية؛ فيتحاصوا على السواء، واختلف إذا لزمت السيد قيمتها وبقي أقل من الأرش هل تقوم بمالها. وَلَوْ سُبِيَتْ وَغُنِمَتْ وَقُسِمَتِ افْتَكَّهَا بجَمِيعِ مَا قُسِمَتْ بهِ وَيُتَّبَعُ بهِه إِنْ كَانَ مُعْسِراً. وَقِيلَ: بالأَقَلِّ مِنْهُ وَمِنْ قِيمَتِهَا ... قد تقدمت هذه المسألة في الجهاد، وتقدم الخلاف فيها أكثر من هذا. وَتُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ رَاسِ مَالِهِ وَلا يَرُدُّهَا دَيْنٌ هذا مذهبنا، ولا يردها الدين سابقاً أو لاحقاً.

وَوَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ الاسْتِيلادِ يُعْتَقُونَ بمَوْتِهِ وَلَهُ خِدْمَتُهُمْ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِمْ كَأُمِّهِمْ ... قوله: (وَوَلَدُهَا) أي: أولاد أم الولد الكائنين قبل الإيلاد أرقاء، للسيد بيعهم وغيرذلك من حكم الأرقاء، ولا إشكال أن ولدها من سيدها أحرار، وأن أولادها بعد الولادة من سيدها وهم الذين تكلم عليهم المصنف الآن فحكمهم كأمهم، لأن كل ذات رحم فولدها بمنلزتها، ومعنى كلامهم أنهم يعتقون بموت سيد أمهم من رأس ماله. قوله: (وَلَهُ خِدْمَتُهُمْ) أي: يؤاجرهم صاحب الخدمات وغيره وهم في ذلك بخلاف أمهم، وينبغي على قاعدة المذهب أن يستوي حكمهم وحكم أمهم؛ لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها. قوله: (وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِمْ كَأُمِّهِمْ) التشبيه في الجناية فقط؛ لأنهم في الخدمة يخالفونها كما ذكر، وعلى هذا فـ (الْجِنَايَةُ) مبتدأ وخبره (كَأُمِّهِمْ) يعني: أن أرش جنايتهم تكون لسيدهم لا لهم، وذلك هو الحكم في الجناية على أمهم، ولم يقدم المصنف الكلام على الجناية على أمهم، يفهم من قوله إثر هذا. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ أَخْذِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا؛ فَفِي كَمَالِهَا فَيَتَّبِعُهَا قَوْلانِ لأنه يلزم منه أن السيد يأخذ أرش الجناية عليها في حياته والقولان لمالك. ابن المواز: والقياس قوله الأول أنه لورثته، واستحسن ما رجع إليه مالك من أن ذلك يتبعها، وكذلك لو أعتقها قبل أن تؤخذ دية الجناية فإنها لها، وقال أشهب: للسيد. وَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى التَّزْويجِ قَوْلانِ، وَكَرِهَهُ وَلَوْ برِضَاهَا أما القولان في الإجبار قد تقدما في النكاح (وَكَرِهَهُ وَلَوْ برِضَاهَا) أي: في تزويجها وهو ظاهر المدونة؛ ففيها: وكره مالك أن يزوج الرجل أم ولده، وعلى هذا حملها أكثر

المفسرين، وقيدها فضل بغير رضاها، وعللت الكراهة بأنه ليس من مكارم الأخلاق، ونحوه في العتبية، وبأن ذلك لا يخلو غالباً من إكراه. وَلَوْ وَطِئََ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَمَةً فَحَمَلَتْ غَرُمَ قِيمَةَ نَصِيبِ الآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِراً خُيِّرَ الآخَرُ فِي اتِّبَاعِهِ، أَوْ بَيْعِ الْجُزْءِ الْمُقَوِّمِ وَيَتَّبِعُهُ بمَا بَقِيَ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ ... لا شك أن أحد الشريكين لا يجوز له الوطء ابتداء، وأنه إن وطئ لا حد عليه للشبهة ويؤدب، إلا أن يعذر بجهالة على المشهور. وقال ابن حبيب: لا يعذر هنا بجهل، غير أن عقوبته أخف من العالم. وقوله: (فَحَمَلَتْ) احترز به مما لو لم تحمل؛ فلا يجبران على التقويم، بل يخير الشريك بين التقويم على شريكه أو المتمسك. وقيل: لا شيء له. وقيل: لابد من التقويم لتتم له الشبهة. وفي الموازية: لا تقوم عليه ويلزمه نصف ما نقصها الوطء، وهو ظاهر؛ لأنه نقص يسيرٌ في الغالب. وقوله: (غَرُمَ قِيمَةَ نَصِيبِ الآخَرِ) يعني: إذا كان موسراً؛ لمقابلته له بما إذا كان معسراً ولاتخيير لواحد منهما، واختلف في وقت التقويم؛ ففي المدونة: يوم الوطء وهي له أم ولد. وقيل: يوم الحكم. وقيل: إن شاء يوم الوطء وإن شاء يوم الحكم، واختاره محمد. وقوله: (وَإِنْ كَانَ مُعْسِراً خُيِّرَ) أي: الشريك في اتِّباع الواطئ بنصف قيمة الأمة ونصف قيمة الولد، وفي بيع ذلك النصف المقوم عليه بعد الوضع، فإن نقص ثمن ذلك الجزء عما لزمه من القيمة أتبعه بما بقي، وهذا هو المشهور. وكان مالك يقول: الأمة أم ولد للواطئ ويتبع بالقيمة ديناً كالموسر. وقيل: الشريك مخير أن يتماسك بنصفه ويتبع الواطئ بنصف قيمة الولد ديناً، أو يضمنه ويتبعه ديناً في ذمته. وفي المسألة قول رابع لابن القاسم في الموازية أن الشريك إذا تمسك بنصيبه ولم [766/أ] تقوم اتبع بنصف قيمة الولد ونصف ما نقصها الولادة.

وخامسها لمطرف وابن الماجشون: إن أحب تمسك، وإن أحب قومها عليه في الذمة، وإن أحب بيع له نصفها ولا شيء له من نصف قيمة الولد قوِّمَ أو أمسك. وسادس لأشهب: أنها تباع عليه بما يوفي من الدين وإن كان أكثر من النصف؛ لأنه يقول: لا تكون بعض أم الولد، وللواطئ أن يتبع الباقي إن أحب. وَلَوْ وَطِأَهَا فَحَمَلَتْ؛ فَالْقَافَةُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيَّاً أَوْ عَبْداً يعني: وإن وطئ الشريكان معاً في طهر واحد فأتت بولد لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني فإنه تدعى له القافة، وإن كان أحد الشريكين ذميا أو عبداً فإن ألحقوه بالذمي بقي على دين أبيه، وإن مات أحدهما قبل دعاء القافة فإن كانت القافة تعرف الميت فالحكم كما لو كان حياً، وإن كانت لا تعرفه إن قالت: هو للحي؛ يلحق به، واختلف إذا قالت: لا شيء له فيه، أو ماتا جميعاً قبل أن تدعى القافة، فقال أصبغ: إذا قالت: لا شيء فيه لهذا الحي لحق بالميت، إن مات قبل النظر فهو ابن لهما. وقال ابن الماجشون: يبقى لا أب له في الوجهين. فَلَوْ أَشْرَكَتْهُمَا الْقَافَةُ حُكِمَ بإِسْلامِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم: يُوَالِي مَنْ شَاءَ إِذَا كَبُرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُلْحَقُ بأَقْوَى شَبَهٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمُةَ؛ بالْوَاطِئِ الأَوَّلِ، وَإِلا فَبأَقْوَى شَبَهٍ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: يَكُونُ ابْناً لَهُمَا ... يعني: لو قالت القافة هو ابن لهما؛ فالولد محكوم له بالإسلام ولو كان أحد الواطئين كافراً، ثم اختلف في المشهور وهو قول ابن القاسم، وروايته أن الاشتراك ي الولد لا يصح خلافاً لسحنون، وعلى قول سحنون: يكون على كل واحد نصف نفقته، ونصف من كل واحد نصف ميراث، وعلى الأول فثلاثة أقوال: الأول لمالك وابن القاسم: أنه يوالي إذا كبر من شاء منهما، فيكون له أباً فقط، واختلف في حد الموالاة، فروى ابن القاسم: إذا بلغ. قال أصبغ: إذا أثغر.

والقول الثاني لابن الماجشون، وبه قال مطرف وابن نافع: لايترك يوالي من شاء، ويقال للقافة: ألحقوه بأقواهما شبهاً. والثاثل لابن مسلمة: إن عرف الأول لحق به؛ لإمكان أن تكون حاملاً قبل أن يصيبها الآخر، وإن جهل الأول لحق بأكثرهما شبهاً فيما يرى من الرأس والصدر؛ لأنه الغالبن هكذا نقل اللخمي، وعلى قول ابن القاسم فاختلف في نفقته وكسوته قبل الولادة، فقال ابن القاسم وعيسى ومحمد بن عبد الحكم: ينفقان عليه جميعاً؛ إذ لا قرابة لأحدهما، وإن مات أحدهما أنفق على الصبي مما وقف له منميراثه منه نصف نفقته. ابن راشد: وقال أصبغ: النفقة على الآخر منهما إلى أن يبلغ حد الموالاة، ثم لا رجوع إذا والى على رواية علي. وقال أصبغ: يرجع من انفق على من والاه. فروع: الأول: لو لم توجد القافة، فإن الولد يترك إلى أن يكبر فيوالي من شاء منهما. قيل: وهذا هو المشهور. وقيل: يصبر إلى أن يوجد قائفٌ. الثاني: لو مات الولد عن مال قبل الموالاة. فقال ابن القاسم: هو بين الأبوين نصفينن حرين كانا أو عبدين، أو مختلفين، أو أحدهما مسلم والآخر ذمي، كمال تنازعه اثنان. الثالث: إن ولدت توءمين فإن ألحقتهما القافة بأحدهما صح اتفاقاً، وإن أشركتهما فيهما فكما لواحد، وإن قالت: هذا ابن لهذا وهذا لهذا، فقال عبد الملك: لا يقبل قولهما ولا يلحقان إلا بأحدهما. وقال سحنون: يقبل قولهما، فإن كان أولهما مليّاً موسراً كانت أم ولد له وعليه نصف قيمتها لو حملت، وله على الثاني مثل ذلك، وقيل: لا شيء عليه وعتقت الأمة عليهما جميعاً. وفروع القافة كثيرة ولنقتصر على هذا المطلب محاذاة لكلام المصنف.

الوصايا

الْوَصَايَا أَرْكَانُ والوصايا جمع وصية. الجوهري: أوصيت له بشيء وأوصيت إليه: إذا جعلته وصيك، والاسم الوِصَاية والوَصَاية بالكسر والفتح، وأوصيته ووصيته إيصاءً وتوصية بمعنى. انتهى. والوصية مشتقة فيما ذكر الأزهري من قولهم: وصَى الشيء بكذا يصيه، إذا وصله به. وَحَدَّهَا بعض الحنفية بأنها: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع. المازري: وهي مندوبة عندنا إلا أن يكون عليه حق يخشى تلفه على أصحابه إن لم يوص له فتجب. ونحوه لبعض القرويين أنه إذا كان عليه حق أو له حق فهي واجبة، وإلا فهي مستحبة. وإنما تجب عليه الوصية في ذلك فيما له بال، وجرت العادة فيه بالإشهاد من حقوق الناس، وأما اليسير من ذلك مما يجري بين الناس من المعاملات فلا تجب عليه؛ إذ لا يكلف بذلك كل يوم وليلة للمشقة. وأوجبها الظاهرية. ولنا في مسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين - وفي رواية: يبيت ثلاث ليال- إلا ووصيته عنده مكتوبة". ولو كانت واجبة لماوكلها إلى إرادته، وحمل بعض شيوخ عبد الحق هذا الحديث على أن قوله عليه الصلاة والسلام: "يبيت ليلتين" محمول على ما إذا كان موعوكاً. وقال صاحب المقامات: الصواب حمله على إطلاقه في الموعوك والصحيح؛ لان الصحيح قد يفجأه الموت. وقوله: (أَرْكَانُ) أي: لها أركان أربعة، فحذف الخبر والصفة. الْمُوصِي حُرٌّ مُسْلِمٌ مُمَيِّزٌ مَالِكٌ هذا هو الركن الأول، وذكر له ثلاثة شروط، أو شرط مركب من ثلاثة أجزاء. واحترز بكُلِّ مِنْ مقابله: فاحترز بالحر من العبد؛ لأنه وإن كان يملك فلا تنفذ وصيته؛ لحق السيد.

وبالمميز [767/ب] من المجنون والصغير غير المميز، أما لو كان المجنون يفيق أحياناً وأوصى في حال إفاقته لصحت. وبالمالك من غيره، والمراد بالمالك: من يملك ملكاً تامَّاً؛ ليحترز من المستغرق الذمة. فَتَصِحُّ مِنْ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ، وَالصَّبيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا عَقَلَ الْقُرْبَةَ وَلَمْ يَخْلِطْ لأن الحجر عليهما إنما كان لأجلهما، فلو حجر عليهما في الوصية لكان الحجر لغيرهما. وقيد اللخمي إمضاء وصية السيه بأن يصيب فيه وجه الوصية. مالك في الموازية: وإذا أدان المولى عليه ثم مات لم يلزمه ذلك، إلا أن يوصي به فتجوز في ثلثه. ابن كنانة: وإن سمي ذلك ليقضي من رأس ماله ولم يجعله في ثلثه لم يجز ذلك على ورثته. وإن أوصى به على وجه الوصايا فهو مبدأ على وصاياه. ولابن القاسم: إذا باع المولى عليه فلم يُرَدُّ بيعه حتى مات أنه ينفذ بيعه. ابن زرقون: فعلى هذا يلزمه الدين بعد موته، فتأمله. وذكرا لمصنف لإمضاء وصية الصغير ثلاثة شروط: الأول: التمييز؛ لأن غير المميز لاتصح وصيته بالاتفاق. والثاني: أن يعقل القربة، وهذا قد يستغنى عنه بالتمييزز والثالث: ألا يخلط، وهذا قد ذكره في المدونة فقال: إذا أصاب وجه الوصية، وذلك إذا لم يكن فيه اختلاط. وفسر اللخمي عدم الاختلاط بأن يوصي بما فيه قربة لله تعالى أو صلة رحم، فأما إن جعلها فيما لايحل من شرب خمر أو غيره فلا يُمْضَى.

وقال أبو عمران: يريد إذالم يخلط في كلامه، مثل أن يذكر في كلامه ما يبين أنه لم يعرف ما ابتدأ به. اللخمي: واختلف في السن الذي تجوز وصيته فيه؛ فقال مالك في المدونة: عشر سنين أو أقل بيسير. وقال في الموازية: سبع سنين. وقال أصبغ وابن شهاب في الواضحة: تجوز وصيته إذا عقل الصلاة. وقال مالك في العتبية: إذا أَثْغَرَ وأُمِرَ بالصلاة وأُدِّبَ عليها. وهذا أقل ما قيل. وقال ابن الماجشون: إذا كان يافعاً مراهقاً، وهذا أكثر ما قيل، وأشار اللخمي إلى أن النظر غلى حال كل صبي بانفراده. أشهب: وقد أوصى بوصيته وجعل إنفاذها إلى غير الوصي فذلك إلى وصيه. ابن عبد السلام: وهذا مما ينظر فيه، فَإِنَّ نَظَرَ الوصي ينقضي بموت الصبي، ألاترى أن جراح الصبي ينظر فيها وليه، وديته إذا قتل ليس للوصي فيها نظر، وإنما هو للورثة، إلا أن يقال: ملك الصبي للدية متعذر بعد وته، وإنفاذ الوصية بعد موته إنما يكون على تقدير ملكه، والوصي هو الناظر في أملاك الصبي، وهذا منها. وقال أشهب أيضاً: من أوصى لبِكْرٍ بمائة دينار ولا ولي لها فدفع الورثة ذلك إليها بغير أمر الإمام فقد برئوا. واختار اللخمي إن كان لها وصي ألا يدفع إلا إليه، إلا أن يكون ما يعلم أن الميت أراد دفع ذلك إليها؛ لتتسع به في مطعم أو ملبس فيدفع إليها. وَمِنَ الْكَافِرِ إِلا بِمِثْلِ خَمْرٍ لِمُسْلِمٍ أي: وتصح الوصية من الكافر؛ لأنه حر مميز مالك، إلا أن يوصي لمسلم بما لا يصح تملكه من خمر ونحوه. ومفهوم قوله: (لِمُسْلِمٍ) - وهو مفهوم كلام ابن شاس- أنه لو أوصى لكافر لصحت، وهو ظاهر؛ لأنه أوصى بها لمن يصح تملكه لها، ولم أر ذلك نصاً، وقد يؤخذ

ذلك مما لابن القاسم في العتبية في نصراني أوصى بجميع ماله لكنيسته ولا وارث له، قال: يدفع إلى أساقفتهم ثلث ماله، وثلثاه للمسلمين. وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ قال: (وَإِنْ تَقَدَّمَتْ) ليفيد أنه لا فرق في البطلان بين ما أوصى به في حال رِدَّتِهِ أو قبلها، وهذا مقيد بأن يموت على رِدَّتِهِ، سواء قتل أو مات عليها. وأما إن رجع للإسلام فقال أصبغ: إن كانت مكتوبة جازت، وإلا فلا. وكذلك لو أوصى بها وهو مرتد وهو كالمريض إذا صح ثم مات. وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ بمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْصَى فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ حكى غير واحد الإجماع على أن الوصية عقد جائز، وللموصي أن يرجع عنها، سواء كانت بعتق أو غيره، وسواء كان أوصى في سفر أو مرض. الباجي وغيره: وإنما له أن يرجع ما لم يمت. وقوله: (مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) بيان لما يدل على الرجوع. وأضرب عن بيان الرجوع بالقول لوضوحه. قال في الوثائق المجموعة: إذا قال: اشهدوا أني قد أبطلت كل وصية تقدمت فإنها تبطل، إلا وصية قال فيها: لا رجعة لي فيها، فلا تبطل إلا أن ينص عليهاز وَالْفِعْلُ كَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالاسْتِيلادِ أتى بحرف العطف ليدل على معمطوف عليه محذوف؛ أي: فالقول ظاهر، (وَالْفِعْلُ) كذا؛ يعني: إن باع الثوب الموصى به مثلاً، أو أعتق العبد او كاتبه، أو استولد الأمة فذلك رجوع؛ لخروج الموصى به عن ملك الموصي.

وينبغي إذا عجز المكاتب في حياة السيد أن تعود الوصية فيه كما تعود في المبيع الموصى به على أحد القولين، وههنا أولى: لأن الكتابة لا تنقل الملك. بخِلافِ الرَّهْنِ وَتَزْوِيجِ الرَّقِيقِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْوَطْءِ مَعَ الْعَزْلِ أي: فإن هذ لا تكون رجوعاً في الوصية؛ لأنها لم تنقل الملك ولم تغير الاسم، وعلى الورثة خلاص الرهن. وفي العتبية لأصبغ: إذا علمه الكتابة لا يكون ذلك رجوعاً، ويكون الورثة شركاء بقدرها. وتبع في قوله: (وَالْوَطْءِ مَعَ الْعَزْلِ) ابن شاس، ومقتضاهما: أن الوطء من غير العزل يكون موجباً للرجوع، ومقتضى المذهب خلافه. فقد قال ابن القاسم في الموازية: من أوصى لرجل بجارية فله وطؤها، وليس ذلك برجوع. وكذلك رواه عنه أصبغ وأبو زيد في العتبية. وفي البيان: لا اختلاف أن الوطء والاستخدام ليس برجوع. أبو زيد عن ابن القاسم: وإن وقفت [768/أ] الأمة بعد موته؛ خيفة أن تكونحاملاً فقتلها رجل فقيمتها للميت؛ إذ قد تكون حاملاً، ولا شيء للموصى له. وخالفه ابن عبدوس ورأى أن القيمة للموصى له وهذا كله يدل على أن الوطء مطلقاً لا يكون رجوعاً، ولم يعدوا نقل هذه الأشياء دليلاً على الرجوع في الوصية. وعدوها دليلاً على الرضا في بيع الخيار وفي العيب؛ لأن الموصى به على ملك الموصي قبل الموت؛ فله التصرف فيه. وإنما يتعلق حق الموصى له بالموت، بخلاف الخيار والعيب. والله أعلم. وَبخِلافِ مَا لَوْ أَوْصَى بثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ بَاعَ جَمِيعَهُ هذا معطوف على (خِلافِ) الأول؛ يعني: فلا يكون هذا رجوعاً؛ لأن ثلث المال لا يختص بما عنده حال الوصية، بل المعتبر ما يملكه حال الموت سواء زاد أو نقص.

قال في النوادر: وإذا أوصى برقيقه ثم بدلهم، أو زاد أو نقص فإنما للموصى له مَنْ يكون عنده يوم مات، لا يوم أوصى. وفي الجلاب: ومن أوصى لرجل بثيابه- وله ثياب يوم الوصية - فباعها واستخلف غيرها ثم مات، فللموصى له ثيابه التي استخلفها، إلا أن يبين تلك الثياب الأولى بأعيانها فلا يكون للموصى له شيء مما استخلفه. فَلَوْ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَفِي رُجُوعِ الْوَصِيَّةِ قَوْلانِ أي: إذا أوصى بمعين "كقوله: هذا العبد لفلان" ثم باعه واشتراه ففي رجوع الوصية قولان؛ بناءً على أن بالبيع حصل الرجوع؛ فلا تعود الوصية إبا بإيصاء جديد، أو لأن الفوت قد انتفى. ابن عبد السلام: والذي نص عليه ابن القاسم وأشهب، ولا أعلم فيه خلافاً أنه يعود إلى الوصية، كما أنه لا خلاف إذا عين الموصى به فباعه واشترى مثله أن الوصية لا تعود فيه. واختلف إذا لم يعين ولكن وصفه بصفة ثم هلك أو باعه واستحدث مثله في صفته؛ فقال ابن القاسم: تسقط الوصية. وروى هو وأشهب عن مالك فيمن قالت: ثوبي الخز لفلانة، فذهب ثوبها واخلفت مثله- أنه لا شيء للموصى لها. وقال أشهب فيمن أوصى برقيقه وسماهم، أو وصف سلاحه وثيابه بصفة ذلك بعينه ثم استهلكت، واستفاد مثله ثم هلك، قال: فلا يكون ذلك للموصى له، إلا أن يوافقه في الاسم والصفة، مثل أن يقول: "عبدي نجيح النوبي وقميصي المروزي لزيد، وسيفي الهندي في السبيل" أن الوصية تقع في الثاني، الذي هو مثل الأول في الاسم والصفة. أشهب: وإذا أوصى فقال: "غلامي نجيح الصقلي حر" فباعه واشترى مَنْ اسمه نجيح، وهو نوبي- فلا وصية له فيه حتى يوافقه في الاسم والجنس. ولو قال: "حر" ولم يصفه

واشترى من اسمه مبارك، فسماه نجيحاً لعتق. ولو قال: "غلامي نجيح حر" فسمي مباركاً لم تزل الوصية عنه؛ لأنه عبد بعينه، وقال أشهب: فهذا الخلاف الذي وقفت عليه في هذه المسألة. انتهى. صاحب البيان: وإن عين الموصى به بالإشارة مثل أن يقول: "إن مت فهذا العبد لفلان" ثم هلك العبد واستبدل غيره- فلا خلاف أنه يتعين، ولا تنقل الوصية إلى بدله. وأما إن تعين بالإضافة كقوله:"عبدي لفلان" ولا عبد له غيره، أو "درعي أو سيفي" فثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتعين، ولا تنتقل الوصية إلى غيره إن استبدل غيره. والثاني: عكسه، وأجراها على الخلاف فيمن حلف الا يستخدم عبد فلان فاستخدمه بعد أن عتق، أو بعد أن خرج عن ملكه. والثالث: رواه أشهب بالفرق؛ فتعود الوصية في بدل السيف والدرع، ولا تعود في العبد، قال: ولا فرق في القياس. خليل: وفي فرائض الحوفي: إذا أوصى معين ثم باعه ثم اشتراه ثم مات وهو في ملكه فإن الوصية تبطل فيه. فهذا قول ثان ببطلان الوصية، وبه يصح القولان اللذان ذكرهما المصنف. وَلَوْ دَرَسَ الْقَمْحَ وَكَالَهُ وَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ فَرُجُوعٌ، بخِلافِ الْحَصَادِ وَجَزِّ الصُّوفِ وَجُذَاذِ الثَّمَرَةِ ... يعني: أن من أوصى بزرع فحصده ودرسه وكاله وأدخله بيته فذلك رجوع؛ لأنه يبطل اسم الموصى به؛ لأنه أ [طل اسم الزرع ونقله إلى اسم القمح، بخلاف جز الصوف وجذاذ الثمرة، فإنه لم ينقل الملك ولم يبطل الاسم، فلا يعد رجوعاً ولو أدخلها بيته. ومسألة درس القمح هو نص قول ابن القاسم في المجموعة، وقال الباجي: وهو ينتقل بالحصاد والدراس. قال: وقوله: (وَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ) تأكيد لمقصده. قال: وكذلك قوله: (وَكَالَهُ) وإنما يريد بلغ حد الاكتيال.

وَلَوْ جَصَّصَ الدَّارَ، وَصَبَغَ الثَّوْبَ، وَلَتِّ السِّوِيقَ فَلِلْمُوصَى لَهُ بزِيَادَتِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: الْوَرَثَةُ شُرَكَاءُ بمَا زَادَ ... الجوهري: الجص: ما يبني به، وهو معروف. (وَلَتِّ) بالتاء المثناة، والقول بأن ذلك جميعه للموصى له لابن القاسم وأشهب، ورأياً أنه لما اتفق على أن تلك الصنعة ليست برجوع؛ لبقاء الاسم وما أضيف إليه تابع- وجب أن يكون الجميع للموصى له. ورأى أصبغ أن الأصل بقاء الزيادة على ملك الموصي، فلا تخرج إلا بدليل. وظاهر قول المصنف: (بمَا زَادَ) أنه لو لم يكن للصنعة زيادةلا يكون للورثة شيء، وهو خلاف ما نقله الباجي وابن يونس عن أصبغ أنه يكون شريكاً بقيمة تلك الصنعة، إلا أن يقال: إن مراد المصنف أنه شريك بما زاد الموصي، لا بما زاد الصبغ. وَلَوْ أَوْصَى بشَيْءٍ فِي مَرَضِهِ أَوْ عِنْدَ سَفَرِهِ وَقَالَ: إِنْ مِتُّ فِي مَرضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي وَأَشْهَدَ، فَبَرِئَ أَوْ قَدِمَ بَطَلَتْ ... ذَكَرَ هذه في مسائل الرجوع لمناسبتها لذلك؛ لأن كلامه يفهم منه الرجوع إن لم يمت من ذلك المرض أو السفر. قوله: (وَأَشْهَدَ) أي: من غير كتاب؛ لأنه يذكر الكتاب- فلا خلاف انها تبطل إن برئ من مرضه ذلك أو قدم من سفره ذلك، ولا خلاف أنها تصح إن حصل الموت فيهما. واحترز [768/ب] بقوله: (فِي مَرَضِهِ) مما لو أوصى في صحته فقال: "متى مت" وأشهد على ذلك بغير كتاب أو بكتاب، أقره عند نفسه أو وضعه عند غيره- فإن وصيته تنفذ على كل حال. قاله في البيان.

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بكَتَابٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَوْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ بَعْدَ بُرْئِهِ أَوْ قُدُومِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ لَمْ تَبْطُلْ ... الإشارة عائدة إلى مسألة الإشهاد بدون كتاب؛ أي: وكذلك تبطل وصيته إذا قال: إن مت من مرضي أو سفري، وكتب وصيته في كتاب ولم يخرجه، ومات من غير ذلك المرض والسفر، فظاهره أشهد في الكتاب أم لا. وأما إن أشهد ولم يخرجها فحكى الباجي وغيره إن قول مالك اختلف فيه؛ فمرة قال مثل ما ذكره المصنف: لا تنفذ إلا ان يموت من ذلك المرض أو السفر، وهو اختيار ابن القاسم وابن عبد الحكم وسحنون، وهو القياس عند أشهب، لما يقتضيه ظاهر اللفظ من التقييد. ومرة قال: ينفذ وإن مات في غير ذلك المرض أو السفر، وهذا هو الاستحسان عند أشهب؛ لِمَا علم أنه ليس من قصده تخصيص ذلك بالمرض والسفر، ألا ترى أنه لو بغته الموت قبل أن يسافر أن وصيته نافذة. وذكر الباجي أن هذا الثاني هو مشهور قول مالك من رواية ابن القاسم وغيره، وقال غير واحد: والقولان قائمان من المدونة. ولأشهب قول ثالث بالفرق؛ إن مات في مرض آخر أو في سفر آخر صحت، وإن مات في غير مرض ولا سفر لم تصح، ورواه أشهب وابن القاسم وابن نافع عن مالك، واستبعده ابن رشد. وأما إن كتب ولم يشهد ولم يخرجها من يده ففي العتبية والمجموعة في الميت توجد وصيته في بيته بخطه، ويشهد عدلان أنه خطه- فلا يجوز ذلك حتى يشهدهم عليها، وقد يكتب ولا يعزم. وتأولها عياض وقال: معناه إذا كتبها ليشهد عليها، وأما إذا كتبها بخطه وقال: إذا مت فلينفذ ما كتبته بخطي فلينفذ ذلك إذا عرف أنه خطه، كما لو أشهد. وأما إن أخرجه فصورتان:

الأولى: ألا يسترده بعد قدومه أو برئه فلا تبطل بالاتفاق. والثانية: أن يسترده فتبطل بالاتفاق، نقلها عياض. وَتَصِحُّ أَيْضاً إِذَا قَالَ: مَتَى حَدَثَ الْمَوْتُ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ مَرَضِي أَوْ سَفَرِ] لما كانت الوصية على ضربين؛ مقيدة ومطلقة، وقدم الكلام على المقيدة، تكلم على المطلقة؛ يعني: وإذا أطلق الوصية فقال: متى حدث بي الموت، أو إن مت، أو إذا مت، أو متى ما مت - فإنها ماضية. وظاهره سواء كتبها في كتاب أم لا، استرجعها أم لا. أما إن لم يكتبها فقال غير واحد: إنها نافذة أبداً لا ينقضها إلا بتغييرها، قالها في صحته أو في مرضه. وإن كانت في كتاب وأشهد فيه فهي ماضية بالاتفاق، سواء أقرها عنده إلى الموت أو جعلها على يد غيره حتى مات. وأما إن قبضها من يد من جعلها على يده- سواء قبضها في الصحة أو المرض- فحكى صاحب المقدمات الاتفاق على بطلانها. وذكر عياض أن ابن شبلون وغيره تأول الكتاب على ذلك، وأن ظاهر تأويل أبي محمد أنه إنما يضر استرجاع المقيدة لا المبهمة، وأنا أبا عمران تردد في ذلك، فيكون كلام المصنف باقياً على إطلاقه على تأويل أبي محمد، ويقيد بما إذا لم يسترجعها على قول ابن شبلون. وَأَمَّا مَا يُبْطِلُ اسْمَ الْمُوصَى بهِ كَنَسْجِ الثَّوْبِ، وَصِيَاغَةِ الْفِضَّةِ، وَحَشْوِ الْقُطْنِ، وَتَفْصِيلِ الثَّوْبِ، وَذَبْحِ الشَّاةِ فَرُجُوعٌ ... هذا إشارة منه إلى أن الرجوع يكون بأحد الوجهين: أحدهما: ما ينقل الملك أو يمنع من نقله، كالبيع والعتق والاستيلاد. ثانيهما: أن يفعل فعلاً يبطل اسم الموصى به. وكان ينبغي أن يذكر مسألة درس القمح في هذا القسم. ولما فرغ من الأول تكلم على الثاني. ونص ابن القاسم وأشهب على مسألة الغزل.

أشهب: لأنه لم يقع عليه الاسم الذي أوصى به. خليل: وينبغي أن يقيد حشو القطن بما إذا حشي في الثياب. وأما إذا حشي في المخدة ونحوها فلا. ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف صحيح إلا في مسألة الثوب؛ فإن لفظ (الثوب) لا يتغير بالتفصيل. ابن القاسم: إذا قال: ثوبي لزيد، ثم قطعه قميصاً أو لبسه ي مرضه فليس برجوع، وهو للموصى له. قال: ولو أوصى له بشقة، ثم قطعها قميصاً أو سراويل كان رجوعاً. الباجي: فاتفق ابن القاسم وأشهب على مراعاة الاسم الذي أوصى به. وكذلك نص أشهب على البطلان إذا أوصى له بقميص، ثم قطعه قباً أو جبة، أو ببطانة ثم بطن بها ثوباً، أو بظهارة ثم ظهر بها ثوباً. وقد يجاب عما أورده ابن عبد السلام بأن ما ذكره المصنف أحد الأقوال، فقد قال صاحب البيان: وأما الثوب يوصي به ثم يقطعه ويخيطه فيتحصل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الوصية تبطل. الثاني: أنها لا تبطل. الثالث: أنه إن قال: "شقتي أو ملحفتي لفلان" فيقطع ذلك قميصاً، أو سراويل - بطلت الوصية، وإن قال: "ثوبي" ثم يقطعه كذلك فلا تبطل؛ لأن الشقة والملحفة قد انتقل اسمهما بما أحدث فيهما؛ إذ لا يسمى القميص ولا السراويل شقة ولا ملحفة، بخلاف الثوب؛ لأن القميص والسراويل يسمى كل منهما ثوباً. قال: وإذا لم تبطل فاختلف هل يكون له الثوب مخيطاً، أو يكون مع الورثة شريكاً؟

وَفِي بنَاءِ الْعَرْصَةِ قَوْلانِ؛ الرُّجُوعُ، وَالشَّرِكَةُ أي: إذا أوصى له بعرصة ثم بناها داراً أو نحوها فقال أشهب [769/أ] في المجموعة: ذلك رجوع. وقال ابن القاسم في العتبية: ليس برجوع ويكونان شريكين بقمية البناء من العرصة. الباجي: والأول أظهر؛ لانتقال الاسم. وَِفي نَقْضِ الْعَرْصَةِ قَوْلانِ يعني: إذا أوصى له بدار ثم نقضها وصارت عرصة فهل يعد ذلك رجوعاً أو لا؟ قولان. وعلى هذا فـ (نَقْضِ) مصدر بفتح النون. والقول بأن ذلك ليس برجوع لأشهب؛ لأنه أوصى له بعرصة وبناء، فأزال البناء وأبقى العرصة. الباجي: وهذا من أشهب رجوع في تعلقه بالأسماء. وفي العتبية قول آخر أنه رجوع. ويحتمل أن يكون النون من قوله: (نُقْض) مضموم؛ أي: ما ينقض، ويكون إنما ذكر الخلاف في النقض، وأما العرصة فهي للموصى له، والمعنى صحيح؛ فإن أشهب قال: لا وصية له في النقض، وأما العرصة فهي للموصى له، والمعنى صحيح؛ فإن أشهب قال: لا وصية له في النقض، وروى ابن عبدوس أن النقض للموصى له. وحصل ابن رشد في هذه المسألة والتي قبلها ثلاثة أقوال: الأول لسحنون: تنفذ الوصية فيهما. الثاني لغيره في العتبية: تبطل فيهما. الثالث لأشهب بالتفرقة. قال: ويختلف على القول بأن الوصية بالعرصة لا تبطل ببنائها هل تكون للموصى له أو يكون شريكاً مع الورثة؟ فإذا قلنا: الهدم ليس برجوع، فقالأشهب: لا وصية في النقض. وقال ابن القاسم: النقض للموصى له.

وَلَوْ أَوْصَى بشَيْءٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بهِ لِعَمْروٍ، فَلَيْسَ برُجُوعٍ وَيَشْتَرِكَانِ نحوه في المدونة وغيرها. ابن المواز: ذلك في كتاب أو كتابين، إلا أن يقوم دليل على رجوعه بلفظ أو بمعنى. قال في المدونة: ولو قال: "العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان" كان رجوعاً، وكان جميعه للآخر. محمد: ولو قال: بيعوه من فلان كان رجوعاً، اشتراه أو لم يشتره، قال: وكذلك لو قال: "بيعوه" ولم يقل: "مِنْ فلان"، سمي ثمناً أو لم يسمه. ولو أوصى بعبده لفلان والعتق في كتاب أو كتابين عمل بالأخيرة: عتقاً أو غيره، قاله في المدونة. وقال أشهب: العتق أولى، تقدم أو تأخر. سحنون: وإن أوصى أن تباع داره من فلان بمائة، ثم أوصى أن تباع من آخر بخمسين، فإن حملها الثلث بيع نصفها لهذا بخمسين، ومن هذا بخمسة وعشرين، وإلا خير الورثة فإما أجازوا أوتبرأوا من ثلث الميت في الدار، فتكون بينهما نصفين. وَلَوْ أَوْصَى لِوَاحِدٍ بوَصِيَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ؛ فَاكَثَرُ الْوَصِيَّتَيْنِ، وَقِيلَ: الْوَصِيَّتَانِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتِ الثَّانِيةُ أَكْثَرَهُمَا أَخَذَهَا فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَخَذَهُمَا، أَوْ مِنْ صِنْفَيْنِ فَالْوَصِيَّتَانِ ... يعني: إذا أوصى لرجل واحد بوصية بعد أخرى؛ فإما أن يكونا من صنف أو من صنفين، فإن كانا من صفين فله الوصيتان، سواء كانا من جنسين أو من جنس واحد، فقد نص ابن القاسم على أنه لوأوصى له بصحياني وبرني: أن له الوصيتين. محمد: وكذلك القمح والشعير والدراهم والسبائك. الباجي: ولا خلاف أن الدراهم من سكة واحدة متماثلة، وكذلك الأفراس والإبل والعبيدن وأما الدنانير مع الدراهم فروى ابن الماجشون عن مالك انهما صنف كالزكاة.

وقال ابن القاسم وأصبغ: بل هما صنفان، ويلحق بالصنفين ما إذا كانا معينين كقوله: "عبدي مرزوق لفلان" ثم قال في تلك الوصية أو غيرها: "وعبدي ناصح له" قال أشهب: إن كان معيناً وغيره فقال له: "عبدي فلان" ثم قال: "عبد من عبيدي" فله الوصيتان جميعاً. اللخمي: وهو أصوب إذا كان بكتاب. ونسقهما من كلامه بغير كتاب. فإن لم يكن نسقاً ففيها نظر. وإن هو قدم النكرة ثم عين أيضاً ففيه إشكال؛ هل أراد تعيين ما أبهم أو وصية ثانية؟ وإن كان من صنف واحد فحكى اللخمي وغيره ثلاثة أقوال: الأول لمالك وابن القاسم في المدونة: أن له أكثر الوصيتين، تقدمت أو تأخرت. والثاني رواه علي بن زياد عن مالك: إن تأخر الأكثر فهو له فقط، وإن تقدم فله الوصيتان. ونقله ابن زرقون عن مطرف. والثالث: إن كانا في كتابين فله الأكثر تقدم أو تأخر، وإن كانا في كتاب فقدم الأكثر فهما له، وإن أخره فهو له فقط. وعزاه اللخمي لمطرف. والقول الثالث في كلام المصنف، هو رواية علي بن زياد. ونقل ابن زرقون عن ابن الماجشون أنه له الأكثر إذا كانا في كتابين، وإن كانا في كتاب واحد فله الوصيتان جميعاً، وإن كانت الثانية أكثر بمنزلة ما إذا عطف فقال: "لفلان عشرة، ولفلان عشرون". ولو قال: "لفلان عشرة، ولفلان عشرون" كان له الأكثر. قال: وإن كانتا في كتاب واحد بينهما وصايا فكرواية علي من الفرق بين أن يبدأ بالأقل أو بالأكثر. وتبع المصنف في القول الثاني أن له الوصيتين جميعاً ابن شاس، وعزاه ابن شاس لمالك من رواية مطرف وابن الماجشون وعلي بن زياد، وفيه نظر؛ لأن الذي نقله اللخمي عن علي بن زياد بالفرق. والذي نقله ابن أبي زيد وغيره من رواية مطرف وابن الماجشون بالفرق بين الكتاب

الواحد والكتابين، كما ذكر اللخمي عن مطرف. ولم أقف على القول بأن له الوصيتين مطلقاً، ولكل قولوجه لا يخفى عليك. الباجي: وعلى حسب هذا تجري الوصيتان في الذهب والفضة والحيوان والعروض والثياب وغير ذلك، ما لم يكن في شيء معين. قاله أشهب في المجموعة وابن القاسم عن مالك. وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أن ذلك في المكيل والموزون، وأما العروض فله الوصيتان، تفاضل ذلك أو تساوى، كانا في كتاب أو كتابين [769/ب]. ابن زرقون: وقال ابن الماجشون: إن أوصى بعرضين مختلفين فإن كانا في وصية واحدة كانا له. وإن كانا في وصيتين كان له الأكثر من قيمتها. وقول المصنف: (وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ) يخرج ما إذا كانا متساويين، وذكر الباجي في المتساويين قولين، مثل أن يوصي له بعشرة ثم يوصي له بعشرة. الأول لمالك وأصحابه: له العددان جميعاً. وحكى في المعونة أن له أحدهما؛ لجواز تأكيد الأول بالثاني. وهذا ينحو إلى قول أشهب فيمن أوصى لرجل بثلاثة، ثم أوصى له بثلثه. ابن زرقون: انظر قوله: "هذا قول مالك وأصحابه" وفي الموازية عن مالك من رواية ابن القاسم: أن له أحدهما، مثل قول عبد الوهاب. فرع: واختلف إذا أوصى له بجزء وعدد، كما لو أوصى له بالثلث ثم بدنانير، على ثلاثة أقوال: الأول: أن له الأكثر، وبه يحاص، كان ماله عيناً أو عرضاً، وهو ظاهرمذهب ابن القاسم. والثاني: أنهما له ويحاص بهما من غير تفصيل، وهو مذهب أشهب.

والثالث: إن كان ماله عيناً، وأوصى له بعين ضرب بالأكثر، وإن كان ماله عرضاً وأوصى له بعرض ضرب بهما، وهو قول سحنون وأصبغ، قاله المازري. الْمُوصَى لَهُ مَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ، فَتَصِحُّ لِلْحَمْلِ الثَّابِتِ، وَلِحَمْلٍ سَيَكُونُ الركن الثاني: الموصى له، من يتصور منه قبول أن يملك، فلذلك صحت الوصية لحمل سيكون؛ لأنه يقبل أن يملك. فَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ بَطَلَتْ يعني: أن استحقاق الحمل الموصى له مشروط باستهلاله صارخاً، وهكذا قال في المدونة. وَلَوْ تَعَدَّدَ وُزِّعَ عَلَيْهِ أي: فإن تعدد الحمل بأن وضعت توءمين فأكثر وزع الموصى به عليهما؛ بسبب صدق الحمل عليهما. ابن رشد: والذكر والأنثى في ذلك سواء. وَتَصِحُّ لِلْعَبْدِ، وَلا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ فِي الْقَبُولِ قد قدم المصنف هذا في الحَجْرِ حيث قال: وله أن يتصرف في الوصية له والهبة ونحوها، ويقبلهما بإذن سيده، ويغير إذنه، وكذلك غير المأذون. وللسيد أن ينتزع ما أخذه العبد، إلا أن يعلم أن الموصي قصد بذلك التوسعة على العبد، وألا يتصرف فيهما سيده فينبغي أن يعلم قصد الوصي كما تقدم في الوصية للمحجور. وإليه أشار اللخمي.

وَلَوْ كَانَ عَبْدَ وَارِثٍ؛ لَمْ يَصِحَّ إِلا بالتَّافِهِ كَالدِّينَارِ أي: فإن كان الموصى له عبد وارث لم تصح له إلا بالتافه. وبقي عليه قيد آخر، وهو أن يريد ناحية العبد. ففيها: ولا تجوز وصية رجل لعبد وارثه إلا بالتافه كالثوب ونحوه مما يريد به ناحية العبد لا نفع سيده، كعبد كان خدمه ونحوه. وَمَثَّلَ ابن القاسم وأشهب اليسير بالدينار كما ذكر المصنف. قالا: وأما الشيء الكثير فهو مردود، إلا أن يكون على العبد دين يغترق وصيته، أو يبقى منها ما لا يتهم فيه فذلك جائز. بعض القرويين: وفيه نظر؛ لأن زوال الدين يزيد في قيمته، فيكون الوارث قد انتفع، إلا أن يكون بقاء الدين عليه وهو مأذون له لا ينقص من ثمنه كثيراً، وزواله عنه لا يزيد في ثمنه كثيراً فتصح ويصير كأنه أوصى له بشيء يسير. أشهب: وتجوز الوصية لمكاتب الوارث بالتافه، وأما الكثير فتجوز بشرط ملاء العبد وقدرته على أداء الكتابة. وقال اللخمي: أرى أن يجوز، وإن كان الأداء أفضل؛ لأن القصد بهذه الوصية خروج المكاتب من الرق. قال: وقد اختلف فيمن زوج ابنته في مرضه وضمن الصداق، فقيل: هي وصية للزوج، وإن كانت المنفعة تصير للابنة. وقيل: لا يجوز الضمان. والأول أحسن. وقول المصنف: (عَبْدَ وَارِثٍ) مقيد بما إذا تعدد الوارث، ولو كان واحداً لصح. قال في المدونة: وإن أوصى لعبد ابنه ولاوارث له غيره جاز. اللخمي: وحيث أجزنا الوصية لعبد الموصي أو لعبد وارثه لم يكن لسيد العبد أن ينتزعها. ابن القاسم: ولو انتزعها لكانت وصية الميت غير نافذة. وإن باعه الورثة باعوه بماله، وكان للمشتري انتزاعه. وقال أشهب: يقر ذلك بيد العبد حتى ينتفع به ويطول زمن ذلك، ولا ينتزعونه إن باعوه قبل أن يطول.

وَمَنْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بثُلُثِ مَالِهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ يَحْمِلُ رَقَبَتَهُ عَتَقَ كُلَّهُ وَأَخَذ الْبَاقِي، وَإِلا قُوِّمَ بَقِيَّتُهُ فِي مَالِهِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ؛ لا يُقَوَّمُ فِي مَالِهِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَعْتِقُ ثُلُثَهُ فِيهِمَا وَيَاخُذُ الْبَاقِيَ ... يعني: وإن أوصى لعبده بجزء من ماله- وذكر الثلث على جهة المثال- فاتفق أولاً على أنه يعتق ثلثه؛ لكونه ملكه من نفسه، ثم اختلف: فقال المغيرة: لا يزاد على الثلث فيهما؛ أي: في الصورتين، وهما: إذا حمل ثلث المال بقيته أو لم يحمله، وهو ظاهر. ووجهه: أنه لما ملك ثلثه عتق عليه جبراً، فلذلك لم يكمل في ماله، كما لو ورث بعض رقبته، ول يكمل في مال الميت، إذ لا تكميل على ميت وقوله: (وَيَاخُذُ الْبَاقِي) أي: باقي الثلث. وقال ابن القاسم وابن وهب: بل يكمل العتق، ثم اختلفا فيما يكمل به، ولنذكر مثالاً ليتضح لك ما قالاه؛ فإذا كان العبد يساوي مائة وله مال مائة أيضاً وخلف السيد مائة فاتفق ابن القاسم وابن وهب على أنه يعتق منه الثلثان، ثم اختلفا: فابن القاسم يعتقه كله؛ لأنه يُقَوِّمُهُ في ماله. وابن وهب لايقول بذلك، فلا يعتق منه إلا الثلثان. وعلى قول المغيرة يعتق ثلثه فقط، ويأخذ من ماله ستة وستين وثلثينز وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ وَالْقَنْطَرَةِ وَشِبْهِهِمَا؛ لأَنَّهُ بمَعْنَى الصَّرْفِ فِي مَصَالِحِهِمَا لَمَّا قَدَّمَ أن الموصى له من يصح تملكه، وكانت القنطرة وشبهها لا يصح تملكها، أشار إلى الاعتذار عنها فقال إن الوصية لها ليست على معنى التملك، وإنما هي على معنى الصرف [570/أ] في مصالحها فاللام الداخلة على (الْمَسْجِدِ) هي التي يقول الفقهاء: إنها لبيان المصرف وليست لام الملك، والمال الموصى به لم يزل على ملك ربه.

وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ عَلِمَ الْمُوصِي بمَوْتِهِ؛ فَيُصْرَفُ فِي دَيْنِهِ أوَ كَفَّارَاتِهِ أَوْ زَكَاتِهِ، وَإِلاَّ فَلِوَرَثَتِهِ .. هذا أيضاً من معنى ما قبله؛ لأن الميت لا يصح تملكه. واحترز بقوله: (عَلِمَ الْمُوصِي بمَوْتِهِ) مما لو لم يعلم، فإن الوصية تبطل؛ لأن الميت لا يصح تملكه. صرح بذلك في المدونة، وإن علم بموته، فإن لمشهور نفوذ الوصية. وفي مختصر ابن عبد الحكم: بطلانها. ولا يبعد أن يتخرج هذا القول في التي قبلها، وعلى المشهور فتكون لورثته وتصرف في دينه. وتبع المصنف في قوله: (أوَ كََّارَاتِهِ أَوْ زَكَاتِهِ) ابن شاس. واعترض ابن عبد السلام عليهما بأن المذهب أن الكفارة والزكاة المفرط فيهما لا يجب إخراجهما من ثلثه، إلا أن يوصي بهما والموصى له لم يذكر أنه أوصى بهما. ويمكن أن يجاب بأنهما أطلقا إحالةً على ما عرف في المذهب أنها لا تكون في الثلث إلا إذا أوصى بها، وفيه بُعْدٌ. وقوله: (وَإِلاَّ فَلِوَرَثَتِهِ) أي: وإن لم يكن عليه دين فلورثته. ولا يصح أن يريد: وإن لم يعلم؛ لأن الوصية هناك تبطل. وَتَصِحُّ لِلذَّمِّيِّ لأنه ممن يصح تملكه، واختلف قول مالك في كراهة الإيصاء له، والذي أخذ به ابن القاسم الجواز إذا كان على وجه الصلة كما لو كان أبوه نصرانياً. قال في البيان: وأجاز أشهب ذلك في القرابة والأجنبيين من غير كراهة، قال: ومعنى ذلك في الأجنبيين إذا كان لهم حق من جوار، أو يد سلفت لهم، وأما إن لم يكن لذلك سبب فالوصية لهم محظورة؛ إذ لا يوصي للكافر من غير سبب ويترك المسلم إلا مسلم

سوءٍ مريض الإيمان. وتقييده بالذمي محتمل أن يكون له مفهوم؛ ليخرج الحربي فلا تصح الوصية له، وهذا قول أصبغ أنها تجوز للذمي ولا تجوز للحربي؛ لأن ذلك قوة لهم على حربهم، ويرجع ذلك ميراثاً، وكذلك من أوصى بما لا يحل. ونحوه في المجموعة فيمن أوصى لبعض أهل الحرب، وقال: فإن أجيز ذلك، وإلا فهو في السبيل لم يجز في سبيل ولا غيره، ويورث. الباجي: وهو يدل على عدم الجواز. ويحتمل ألا يكون له مفهوم؛ لمساواة المسكوت عنه للمنطوق، وهو قول عبد الوهاب في "الإشراف" قال: تجوز الوصية للمشركين؛ أهل حرب أو أهل ذمة. وقال القاضي أبو الحسن: تكره للحربي، فإن كانت الكراهة على بابها ففي المسألة ثلاثة أقوال. وَلِلْقَاتِلِ إِنْ عَلِمَ الْمُوصَى بالسَّبَبِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَوْلانِ يعني: وتصح للقاتل إذا علم الموصي بسبب القتل، كما لو ضربه ضرباً أدى إلى قتله وعلم أنه هو الذي ضربه - جازت وصيته له. وقوله: (بالسَّبَبِ) هو على حذف مضاف؛ أي: بذي السبب، أو على حذف معطوف؛ أي: بالسبب وصاحبه، وليس المراد تعلق العلم بنفس السبب. ثم إن كان الضرب خطأً فالوصية في المال والدية، وإن كان عمداً فهي في المال دون الدية؛ لعدم العلم بها، والوصية إنما تكون فيما علمه الميت. ابن القاسم: ولو أنه أوصى فقال: إن قبل أولادي الدية فوصيتي فيها، أو أوصي بثلثها لم يجز، ولا يدخل منها في ثلثه شيء؛ لأن ذلك عند الميت مال مجهول. ابن يونس: ولو أنفذ مقاتله، مثل أن يقطع نخاعه أو مصرانه، وبقي حياً يتكلم، فَقبِلَ أولاده الدية وعلمها لدخلت فيها وصاياه؛ لعلمه به.

وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَوْلانِ) مفهوم المدونة البطلان. وقال محمد: تصح؛ لأن له إنشاء الوصية بعد الضرب فلا يتهم على الاستعجال. وحمل اللخمي وغيره قوله على الخلاف، وعليه يتمشى كلام المصنف. وحمله ابن أبي زيد وغيره على الوفاق. وَإِنْ قَتَلَهَ عَمْداً بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بَطَلَتْ لأنه يتهم بالاستعجال فيمنع كالميراث، ولمراعاة التهمة. قال أشهب: لو أوصى لمعتوه فقتلا الموصي- أن الوصية لهما نافذة؛ لعدم تهمتهما. فَإِنْ قَتَلَهُ خَطأً فَمِنْ مَالِهِ لا مِنْ دِيَتِهِ أي: فالوصية من المال دون الدية. مالك: كالميراث. محمد: لأن الدية أُدَّيَتْ عنه، وهو أيضاً يودي فيها، فلا يودي عن نفسه لنفسه. وقيد هذا بعض القرويين فقال: هذا إذا مات بالفور، وإن حيي وعرف ما هو فيه دخلت الوصايا في ديته. وقاله بعض الصقليين. وقال بعضهم: بل الحكم على إطلاقه. واختلف أيضاً إذا لم يعلم؛ ففي الموازية: سواء علم أو لم يعلم يأخذ القاتل خطأً وصيته فيهما. وحمله أكثرهم على الوفاق للمدونة؛ لأن الدية قد علم أنها من حقه قبل الوصية فصارت كمال له. وظاهر كلام آخرين حمله على الخلاف. واختلف إذا كان الموصى له عبد القاتل خطأً؛ فقيل: تكون الوصية له في المال والدية؛ لأن الموصى له ليست الدية عليه. وقيل: هو كالأول. واعترض اللخمي تشبيه هذا بالإرث؛ وإن منع الميراث من الدية شرع، حتى لو أوصى بأن يرث القاتل منها ما جاز، ولو أوصى للقاتل غير الوارث أن يعطي ثلث الدية

جاز. ونقض أيضاً تعليل محمد بأنه يأخذ مما يؤدي بما لو أوصى لغريمه بثلث ماله- فإن للغريم من الدين الذي عليه ثلثه. وَلَوْ عَلِمَ فَلَمْ يُغَيِّرْهَا فَكَمَا لَوْ أَنْشَأَهَا يعني: وإن كانت الوصية قبل القتل وتراخى الموت عن القتل وعلم الميت بقاتله ولم يغير الوصية- فذلك كما لو أنشأها بعد القتل. وقد تقدم هذا قول محمد، ورأى أن سكوته عنها كالإجازة لها. وظاهره سواء كانت [770/بي الوصية بكتاب أو لا، وهو ظاهر كلام ابن يونس. وحكى قولاً أنها بطلت بالقتل، كما قال في المدبر إذا قتل سيده وحيي بعد ضربه ثم مات: إن تدبيره يبطل حتى يجدد له التدبير. ابن عبد السلام: وهذا القول أظهر؛ لِمَا عُلِمَ أن التدبير أقوى من الوصية، فإذا بطل ولم يكن السكوت موجباص للتجديد فأحرى الوصية التي هي أضعف. ابن يونس: وعلى الأول يكون سكوته كالمجيز لما تقدم من التدبير. وفَصَّلَ اللخمي في هذا؛ فذكر أنها تبطل إذا لم تكن بكتاب كما لو مات بالفور، وذكر الخلاف إذا كانت بكتاب. وإذا أوصى لمكاتب فقتله سيد المكاتب، فإن كان ضعيفاً وأداؤه خير لسيده بطلت الوصية للتهمة، وإن كان قوياً على الأداء وعجزه خير لسيده فالوصية جائزة. ولو كان القتل خطأً جازت له من الثلث مطلقاً واستحسن أشهب هنا أن تكون من ثلث عقله. قال: فإن أوصى لعبد رجل أو مدبره أو معتقه لأجَلٍ أو معتق بعضه فقتل سيده الموصي عمداً- فتلك الوصية باطلة، إلا أن يكون شيئاً تافهاً لا يتهم بالقتل على مثله فتنفذ. ولو كان له الانتزاع يوماً ما أو أتبعه بذلك؛ فإن كان تافهاً فذلك نافذ في العمد والخطأ، وإن كان له بال بطلت في العمد وجازت في الخطأ في ثلث المال. وأستحسن هنا أن تكون في ثلث العقل.

ومن أوصى لرجل فقتله ابن الموصى له أو أبوه أو أمه أو زوجته أو بد أحدهما أو أم ولد الموصى له -فالوصية جائزة، قتله عمداً أو خطأً. ولو وهب لرجل في مرضه فقتله الموهوب له جازت من الثلث، قتله عمداً أو خطأً، قبضها أو لا، عاش أو مات، ولم تكن وصية؛ لأن قتله أضر به؛ لأنه لو عاش كانت من رأس ماله. ولو أقر له بدين في مرضه فقتله ثبت الدين؛ لأن أم الولد إذا قتلت سيدها عمداً اعتقت إن عفا عنها. ولو أقر لوارثه بدين أو وهب له هبة بتلاً فقتله الوارث فلا شيء له من ذلك، بخلاف الأجنبي. وَتَصِحُّ لِلْوَارِثِ، وَتَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَزَائِدٍ الثُّلُثِ لِغَيْرِهِ يعني: أن الوصية للأجنبي بالثلث فما دونه جائزة ولا خيار للورثة، وإنما لهم الخيار فيما زاد بَيْنَ أن يجيزوا الزائد أو يردوه، وكذلك لهم الخيار في الوصية للوارث. فالتشبيه ي قوله: (كَزَائِدٍ الثُّلُثِ) لإفادة الحكم فيهما. وإن قلت: لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث". فروى الدارقطني عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الوصية للوارث، إلا أن يشاء الورثة". لكن عطاء الخرساني لم يدرك ابن عباس، وقد وَصَلَهُ يونس بن راشد فرواه عن عكرمة عن ابن عباس. عبد الحق: والمقطوع هو المشهور. وقال أبو عمر: لا يصح عندهم مسنداً، وإنما هو من قول ابن عباس.

على أنه اختلف إذا زاد الموصي على الثلث يسيراً؛ فقيل فيمن أوصى بعتق عبده: إن حمله الثلث فزادت قيمته على الثلث شيئاً يسيراً أنه يعتق ولا يتبع بشيء. وقيل: يتبع بذلك القدر. وقيل: يكون ذلك القدر رقيقاً. وقيل: يرق جميعه؛ لقول الميت: إن وسعه الثلث. وَفِي كَوْنِهَا بالإِجَازَةِ تَنْفِيذاً أَوِ ابْتَدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ - قَوْلانِ الضمير في (كَوْنِهَا) يحتمل أن يود على الوصية للوارث، ويحتمل أن يود على الوصية للوارث وغيره؛ لأن هذا الخلاف فيهما، ويبعد أن يعود على الوصية بزائد الثلث للأجنبي؛ لأن المصنف لم يذكر هذه إلا بطريق التشبيه. ومذهب المدونة في الوصية للوارث أنها ابتداء عطية، ففيها: إذا أوصى الأب بأكثر من ثلثه، فأجاز الابن وعليه دين، فقال ابن القاسم: للغرماء أن يردوا ذلك. واستحسنه اللخمي. والقول الثاني لابن القصار وابن العطار، وهو الذي نقله القاضي أبو محمد والباجي عن المذهب. وعلى الأول فيكون فعل الميت على الرد حتى يجاز، وعلى الثاني عكسه، وعلى الأول فلا يحسن أن يقال: إن الوصية تصح للوارث. واختلف إذا أجاز الوارث ولا دين عليه فلم يقبل ذلك الموصى له حتى استدان الوارث أو مات؛ فقيل: إنَّ غرماء الابن أو ورثته أحق بها؛ لأنها هبة منه ولم تحز. وقال أشهب: يبدأ بوصية الأب قبل دين الابن، وبالجملة فعلى الأول تجري على أحكام الهبة؛ من اشتراط الحوز وغيره.

فَإِنْ قَالَ: إِن لَمْ يُجِيزُوا فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ وَشِبْهِهِ - فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا كَانَ مِيرَثاً، وَإِنْ أَجَازَوا - فَقَوْلانِ ... أي: إذا أوصى لوارثه بعبد- مثلاً- أو بثلثه وقال: "إن لم يجيزوه لولدي فهو للمساكين"، أو بعتق العبد، فإن لم يجيزوا الوصية للوارث رجعت ميراثاً، ولا تنفذ للمساكين؛ لأنه قصد بالوصية الضرر فتبطل لقوله تعالى في الموصي: {غَيْرَ مُضَراٍ} [النساء: 12]، وقال محمد بن عبد الحكم: تنفذ، ويعتق العبد. اللخمي: وهو أحسن؛ لأن العتق مما يراد به البر، وإنما أراد أن يُؤثِرَ به ولده، فإن لم يكن قَدَّمَهُ لآخرته فأدنى منازله أنه مشكوك هل أراد الضرر أم لا؟ فلا تبطل بالشك. وإن أجازها الورثة لوارثه فذكر المصنف وابن شاس قولين: ابن شاس: جاز في رواية ابن أبي أويس. وروى ابن القاسم أنها مردودة على كل حال وإن أجازوها. خليل: وما نسبه لرواية ابن القاسم مشكل، ولا وجه لردها بعد الإجازة؛ لأن الحق لورثته وقد أسقطوه. فإن قيل: بل هو لله تعالى، قيل: يلزم ذلك في الوصية المطلقة للوارث، ولم يحك المصنف ولا غيره خلافاً في إمضائها بالإجازة، ثم إن مفهوم المدونة خلاف ما ذكر؛ لأن فيها: إذا أوصى بعبده لوارثه وقال: إن لم [771/أ] يجيزوا فمفهوم قوله: (إِنْ لَمْ يُجِيزُوا) أنه لا يورث إن أجازوا. والله أعلم. وهذا الفرع مقصور على الوصية للوارث، ولا يتناول الزيادة على الثلث.

فَإِنْ قَالَ: لِلْمَسَاكِينِ إِلا أَنْ يُجِيزُوهُ لابْنِي، فَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: تَجُوزُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: هِيَ كَالأُوَلى ... هذه عكس التي قبلها؛ لأنه في الأولى قدم الوارث، وفي هذه قدم المساكين، فلهذا قال المدنيون بإجازةهذه، وهو المشهور. وتخصيص المدنيين به ليس بظاهر، بل قال به كبراء المصريين؛ ابن القاسم وابن وهب وأصبغ استحساناً. قال: وفيه مغمز، والقياس البطلان. وذكر أبو الحسن ي هذه المسألة والتي قبلها ثلاثة أقوال: الإجازة فيهما، سواء بدأ بالوارث أو بغيره. وهو قول ابن عبد الحكم. والثاني-مقابله- لأشهب؛ لأن ذلك تحيلعلى الإيصاء للوارث فيهما. والثالث لابن القاسم: لا تجوز إن بدأ بالوارث، وتجوز في العكس. وَإَجَازَةُ الْوَرَثَةُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَصِيَّةٌ غَيْرُ لازِمَةٍ أي: إذا أوصى الوارث بأكثر من الثلث فأجاز الورثة فلهم ثلاثة أحوال: الأول: أن تكون في الصحة من غير سبب، وهو الذي بدأ به المصنف وذكر أن إجازتهم غير لازمة؛ لأنه كمن أعطى شيئاً قبل ملكه أو جريان سبب ملكه. هذكا أشار إليه مالك في الموطأ. وروي عن مالك أن ذلك لازم، ومثله في الموازية فيمن قال: ما أرث من فلان صدقة عليك، وفلان صحيح، قال: يلزمه ذلك، إذا كان في غير هزل. اللخمي: والأول أشهر، وهذا أقيس؛ لأنه التزم ذلك بشرط حصول الملك فأِبه من أوجب الصدقة بما يملك إلى أجل وفي بلد سماه أن يعتق ذلك، أو بطلاق ما يتزوج فيه. قال ابن الحاج: انظر على ما في الموطأ: لو أوصى رجل لرجل بمال فلم يقبل ذلك الموصى له في صحة الموصي ورده، ثم مات الموصي ورجع الموصى له إلى قبول المال فذلك له؛ لأنه لم تجب له الوصية إلا بعد موت الموصي.

فَإِنْ كَانَ لِسَبَبِ كَسَفَرٍ وَغَزْوٍ فَقَوْلانِ هذا هو الوجه الثاني يعني: وإن أجاز الورثة في الصحة لسبب كالسفر والغزو فروى ابن القاسم في العتبية أن ذلك يلزمهم كالمريض. وقاله ابن القاسم. وقال ابن وهب في العتبية: كنت أقول هذا ثم رجعت إلى أن ذلك لا يلزمهم؛ لأنه صحيح. وقاله محمد. أصبغ: وهو الصواب. فَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ وَلَمْ تَتَخَلَّلُهُ صِحَّةٌ فَكَالْمَوْتِ عَلَى الأَشْهَرِ هذا هو الوجه الثالث. وقوله: (وَلَمْ تَتَخَلَّلُهُ صِحَّةٌ) أي: بين الوصية والموت- لزمت الورثة، كما لو أجازوا بعد الموت على الأشهر، وهذا مذهب المدونة والموطأ وغيرهما. وقيده عبد الوهاب بالمرض المخوف، وأما غيره فكالصحيح. ومقابله لعبد الملك. ومفهوم قوله أنه لو تخللت الصحة لما لزمت. وكذلك نص عليه ابن القاسم، قال: لأنه صح واستغنى عن إذنهم؛ فلا يلزمهم حتى يأذنوا له في المرض الثاني. ابن كنانة: ولكن يحلفون أنهم ما سكتوا رضّي بذلك. إَلا أَنْ يَتَبَيَّنَ عُذْرُهُ؛ مِنْ كَوْنِهِ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ دَيْنُهُ أَوْ سُلْطَانُهُ هذا استثناء من اللزوم المفهوم من قوله: (فَكَالْمَوْتِ) أي: يلزم الوارث إذنه لموروثه، إلا أن يتبين عذر الوارث في الإذن؛ من كون الوارث عليه نفقة المريض أو عليه دينه، وقال: إنما أجزت خيفة أن يقطع عني نفقته، أو يطالبني بدينه. فـ (مِنْ) من قوله: (مِنْ كَوْنِهِ) سببية.

ونص في المدونة على أ، لمن في عياله من ولد قد احتلم وبناته وزوجاته- الرجوع. وكذلك قال ابن القاسم في المجموعة: إنما يلزم إّن الوارث للمريض إذا كان بائناً عنه. وأما بناته الأبكار وزوجاته وَمَنْ في عياله فلهم الرجوع بعد موته. ابن القاسم في المدونة: وليس للسفيه ولا للبكر إذن، وظاهره ولو كانت معنسة. وقال ابن كنانة: إلا المعنسة فيلزمها. واختلف في الزوجة؛ فقال مالك وابن القاسم: لها أن ترجع. وقال أشهب في المجموعة: ليس كل زوجة لها أن ترجع، رُبَّ زوجة لا تهابه ولا تخافمنه فهذه لا ترجع، وكذلك الابن الكبير. وهو في عيال أبيه إذا كان ممن لا يخدع. وقال غيره: لا يلزمه إذا كان في رفق الأب، ويحلف أنه إنما أجزت خيفة أن يصح فيقطع عني معروفه. اللخمي: وقول أشهب في الزوجة حسن، فأما الولد فقول غيره أصوب. اللخمي: وإن كان الولد رشيداً وليس في نفقة الميت لزمه ذلك، ولم يكن له أن يرجع، سواء كانت إجازته ابتداءً أو بعد السؤال. ولم يذكر هو وغيره في ذلك خلافاً إن لم يكونوا في عياله. وظاهر كلام المصنف أن لمن في العيال والمديان ونحوهما الرجوع سواء تبرعوا بالإذن ابتداءً، أو طلب الموروث ذلك منهم. ذكره صاحب النكت عن غير واحد من شيوخه؛ لأن الورثة تقول بادرناه بالإجازة لتطييب نفسه، وخشينا إن لم نفعل أن يمنعنا رفده. وذهب التونسي واللخمي إلى أنهم إذا تبرعوا بالإذن ابتداءً فليس لهم الرجوع. وفي المجموعة عن مالك: إن سأل بعض ورثته أن يهب له ميراثه حين تحضره الوفاة ففعل ثم لم يقض فيه شيئاً فإنه يرد إلى واهبه.

قال عنه ابن وهب: إلا أن يكون سمي له من يهبه له من ورثته فذلك ماض، ولو وهب له ميراثه فأنفذ بعضه فما بقي فيرد إلى معطيه، ويمضي ما أنفذ. وهو معنى ما في الموطأ. وَلَوْ قَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ لِي رَدِّهَا، وَمِثْلُهُ يَجْهَلُ؛ حُلِّفَ أي: لو قال الوارث بعد أن أجاز الوصية [771/ب] في حال تلزمه إجازتها: "لم أعلم أن لي رد الوصية" فإن كان مثله يجهل حلف ولم يلزمه. وهذا مبني على أن من دفع شيئاً يظن أنه يلزمه فتبين أنه لا يلزمه. وذكر في البيان في كتاب الصدقات: أنه اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال، قال: واختصار ذلك أن تقول: اختلف هل يعذر بالجهل أو لا؟ وعلى أنه يعذر ففي تصديقه قولان. وإذا صدقناه فقيل: بيمين، وقيل: بغير يمين. انتهى. ومن هذه القاعدة ما إذا أنفق لحمل ثم تبين أنه لا حمل، وفيها أربعة أقوال تقدمت من كلام المصنف في باب النفقات. وَلَوْ كَانَ وَارِثاً فَصَارَ غَيْرَ وَارِثٍ أَوْ بالْعَكْسِ، وَالْمُوصِي عَالِمٌ -اعْتُبرَ الْمَالُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَولانِ .... كما لو أوصى لأخيه ولد ولد له، ثم ولد له ولد، أو أوصت لزوجها ثم أبانها- اعتبر ما آل الأمر إليه فتصح الوصية في الأولى، وتبطل في الثانية. وقوله: (فَقوْلانِ) مذهب ابن القاسم أن الوصية تبطل، وهو مفهوم المدونة، لقوله: ومن أوصى لأخيه بوصية في مرض أو صة وهو وارثه لم يجز، فإن وُلِدَ له وَلَدٌ يحجبه جازت الوصية وإن مات إذا علم بالولد؛ لأنه قد تركها بعد ما وُلِدَ له فيصير مجيزاً لها. ومفهومه إن لم يعلم بالولد لم تجز.

ولابن القاسم في العتبية والمجموعة في امرأة أوصت لزوجها ثم طلقها ألبتة ثم ماتت: فإن علمت بطلاقه فالوصية له جائزة، وإن لمتعلم فلا شيء له؛ لأنها كانت تظن أنه وارث. والقول بعدم البطلان لأشهب والمخزومي. وابن نافع وابن كنانة أن الوصية له جائزة؛ سواء علم الموصي بأنه صار غير وارث أم لا. وروي عن ابن القاسم أيضاً مثل قولهم. واستظهر ابن رشد قول ابن القاسم في مسألة الزوجة، وهودم جواز الوصية إلا أن تكون علمت بطلاقه؛ لأنها إنما أوصت له لِمَا بينهما من مودة الزوجية، ولعلها لو علمت بالطلاق لم توص له بشيء. واستظهر في مسألة الأخ وشببها قول غير ابن القاسم. وَإِذَا أَوْصَى لأَقَارِبَ فُلانٍ دَخَلَ الْوَارِثِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْجَهَتَيْنِ، بخِلافِ أَقَارِبهِ؛ لِلْقَرِينَةِ الشَّرْعِيَّةِ ... مراده بالجهتين: جهة الأب وجهة الأم. وقوله: (بخِلافِ أَقَارِبهِ) فإنه لا تدخل إلا القرابة التي لا ترثه؛ للقرينة الشرعية في منع الإيصاء للوارث. ولاخلاف أنه إذا أوصى لقرابته وليس له قرابة من قبل أبيه أن الوصية تكون لأقاربه من جهة أمه. واختلف إذا كان له قرابة يوم الوصية من جهة أبيه- على ثلاثة أقوال؛ قال ابن القاسم: لا تدخل قرابته من قبل الأم بحال. وروى مطرف وابن الماجشون دخولهم مطلقاً. وقال عيسى: إن لم يكن من قبل أبيه إلا القليل- كالواحد والاثنين - دخلوا. واختلف في دخول ولد البنات على قولين.

وما ذكره المصنف من عدم دخول الوارث إذاأوصى لأقاربه هو منصوص لمالك في الموازية. وقال ابن حبيب: إذا أوصى لقرابته أو رحمه أو أهله أو أهل بيته - فقال مالك وأصحابه: إنه لجميع قرابته من قبل أبيه وأمه ومن يرثه ومن لا يرثه. وفائدة دخول الوارث علىهذه المحاصة بنصيبه ثم يرجع ميراثاً. ونقل الشيخ أبو محمد عن أبي بكر بن محمد أنه قال لهم: "إن قال: على قرابتي" نُظِرَ إلى المال فإن كان قليلاً كان لأهل حرمه دون غيرهم، وإن كان كثيراً دخل فيه الخؤولة وغيرهم. وَيُؤُثَرُ فِي الْجَميِعِ ذُو الْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ يعني زاد ذو الحاجة، ولا يطي الجميع. مالك: ويعطي فقراء بني الورثة، وهو لمن حضر القسم، ولا شيء لمن غاب. ابن القاسم: والرجالوالنساء في ذلك سواء. الباجي: ولعل هذا على مذهب من يرى أن المؤنث يدخل في جمع المذكر. أشهب: ومن أوصى لقرابته وله قرابة مسلمون ونصارى- فهم في ذلك سواء، ولا يؤثر الأحوج. ابن كنانة: في الموصي لأقاربه، وسماها صدقة، ولم يسم أهل الحاجة ولا غيرهم- فلا يعطى إلا الفقراء خاصة. فإن لم يذكر صدقة فأغنياء قرابته وفقراؤهم سواء، إلا أن يريد الفقراء دون الأغنياء.

وَلأَقَارِبهِ وَلأَرْحَامِهِ سَوَاءٌ يعني: إذا أوصى لأرحامه فهو كما أوصى لأقاربه- فيدخل القريب من الجهتين؛ يريد: ويؤثر الأحوج وإن كان أبعد. وإلى ذلك أشار بقوله: (سَوَاءٌ). وفي كلام ابن الماجشون ما يقتضي خلافه؛ لقوله: يقسم بينهم على الاجتهاد ويؤثر الأقرب فالأقرب، والأحوج فالأحوج إن اتسع المال. ولابد من عمومهم كلهم، فإن ضاق المال سوي بينهم فيه؛ لأنهم كلهم قرابة؛ إذ مقتضاه عدم الإيثار في الضيق. ودخل الوارث في قرابة فلان دون قرابته؛ للقرينة الشرعية وَلَوْ أَوْصَى لِلأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ؛ فُضِّلَ وَإِنْ كَانَ أَكُثَرَ يَسَاراً (الأَقْرَبُ) فعل تفضيل يفيد التقديم بحسب القرب، والفاء تفيد الترتيب في منازل القرب، وكلامه صريح في إعطاء الأقرب الأكثر، وإن كان من دونه أفقر منه. ثم فرع على ذلك فقال: فَيُفضَّلُ الأَخُ عَلَى الْجَدِّ، وَالأَخُ للأَبِ عَلَى الأَخِ لِلأُمِّ لأن الأخ وابنه يدليان بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة، والبنوة أقرب. ويقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب. وَلا يُعْطَى الأَقْرَبُ الْجَمِيعَ بخِلافِ الْوَقْفِ هكذا نص عليه ابن القاسم في العتبية في الجد والأخ: أنالأخ لا يعطى الجميع، قال: ولو كان الذي أوصى به حبساً فالأخ أولى، فإذا هلك صارت لجده، ثم من بعده للعم. وقيده ابن رشد بالسكنى، قال: وأما الغلة فإن الأبعد يدخل مع الأقرب بالاجتهاد كالوصية.

قال في العتبية: وإن كانوا ثلاثة إخوة مفترقين فالأخ الشقيق [772/أ] أولى، ثم الذي للأب. فإن كان الأقرب موسراً والأبعد معدماً-فليعط الأبعد على وجه ما أوصى، ولا يكثر له وإنما لم يعط الأقرب هنا الجميع بخلاف الوقف؛ لأنه لو أعطى الأقرب الجميع حرم الأبعد الكلية، بخلاف الوقف فإنه وإن حرم الآن فسيتحصل له في المستقبل. وَإِذَا أَوْصَى بثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ؛ أُعْطِيَ باجْتِهَادٍ بحَسَبِ فَقْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ لَهُ فَلا شَيْءَ لِوَرَثَتِهِ، وَالثُّلُثُ لِلْمَسَاكِينِ ... أعطي بالاجتهاد؛ أي: لا نصف المال، وهكذا في المدونة. ورأى أن ضم المعلوم إلى المجهول قرينة تدل على إرادة الموصي لِسَدِّ خَلَّةِ الموصى له؛ لأن القسمة على المجهول بالاجتهاد، فكذا نصيب المعلوم الذي ضم إليه. وإذا صح كون ذلك قرينة لم تصح معارضة هذه المسألة بمذهب ابن القاسم فيمن صالح بشيء عن موضحة عمد أو موضحة خطأ أن للعمد النصف. قوله: (فَإِنْ مَاتَ) أي: المعين فلا شيء لورثته. هكذا قال محمد، ووجهه أن القسمة لما كانت بالاجتهاد وصار زيد كواحد منهم، وكان المعتبر من الفقراء إنما هو من حضر القسمة- لم يكن لورثته شيء. وهذا يحسن إذا كان زيد فقيراً، وأما إن كان غنياً فينبغي أن يكون سهمه لورثته، بل لو قال بذلك ولو كان فقيراً لكان حسناً. وقد ذهب بعض الأئمة خارج المذهب إلى أن له النصف. وَإِذَا أَوْصَى لِجيرَانِهِ فَفِي إِعْطَاءِ الأَوْلادِ الأَصَاغِرِ وَالْبَنَاتِ الأَبْكَارِ قَوْلانِ، وَتُعْطَى الزَّوْجَةُ وَلا يُعْطَى الْعَبْدُ سَاكِناً مَعَهُ ... القول بإعطاء ولده الأصاغر وبناته الأبكار لسحنون. ومقابله لعبد الملك، قال: إذا أوصى لجيرانه أعطي الجار الذي له اسم المسكين ولا يعطى أتباعه، ولا ابنته البكر، ولا

ضيف ولا نزيل. ويعطى الولد الكبير البائن عنه بنفقته. واتفقا على إعطاء الزوجة. وقال ابن شعبان: لاتعطى. قوله: (وَلا يُعْطَى الْعَبْدُ سَاكِناً مَعَهُ) أي: مع سيده، ويعطى منفرداً، كان سيده جاراً أو لا. هكذا نص عليه عبد الملك. فرعان: الأول: قال عبد الملك: ومن أوصى لجيرانه فهو مِنْ المجهول؛ فمن وجد يوم القسم جاراً دخل في ذلك؛ لأنه لم يقصد المعينين، فلو انتقل بعضهم أو كلهم، وَحَدَثَ غيرهم، وبلغ صغير- فذلك لمن حضر القسمة. وكذلك لو كان ذا جيران قليل فكثروا. الثاني: لم يفسر المصنف الجوار، وفسره عبد الملك فقال: حد الجوار الذي لا شك فيه: ما كان يواجهه، وما لصق بالمنزل من ورائه وجانبيه، فإن تباعد ما بين العدوتين حتى يكون بينهما السوق المتسع فليس كذلك. قال: وقد تكون دار عظمى ذات مساكن كثيرة، كدار معاوية، فإذا أوصى بعضهم لجيرانه قاتصر على أهل الدار. وإن سكن هذه الدار ربها- وهو الموصي - وشغل أكثرها، وسكن معه غيره فالوصية لمن كان خارجها، لا لمن كان فيها. وإن سكن أقلها- كالمكتري- فالوصية لمن كان في الدار خاصة. ولو شغلها كلها بالكراء فالوصية للخارجين عنها من جيرانه. وقال مثله كله سحنون في كتاب ابنه. عبد الملك: وجوار البادية أوسع من هذا وأشد تراخياً إذا لم يكن مَنْ دُونَهُ أقرب منه، وَرُبَّ جَارٍ وهو على أميال إذا لم يكن دونه جيران إذا جمعهم الماء في المورد، والمسرح للماشية. وبِقَدرِ ما يَنزِلُ يُجتَهَدُ فيه.

سحنون: والجوار في القرى أن كل قرية صغرة ليس لها اتصال في البنيان والحارات- فهم جيران، وإن كانت كبيرة كثيرة البنيان كقشتالة فهي كالمدينة في الجوار. وذكر ابن شعبان حديثاً مرسلاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أربعون داراً جار" ونقل عن علي رضي الله عنه أن الجا مَنْ سَمِعَ النداء. وَلَوْ أَوْصَى لِتَمِيمٍ أَوْ بَنِي تَمِيمٍ فَثَالِثُهَا: قَالَ أَشْهَبُ: يَدْخُلُ الْمَوَلِي فِي الأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَعَابَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ... يعني: إذا أوصى لقبيلة، فقال ابن الماجشون: يدخل مواليها، سواء قال: لتميم- مثلاً-أو لبني تميم، لما في الحديث: "مولى القوم منهم". وقال مالك وابن القاسم في المدونة: لا يدخلون. وهو أظهر من حيث العرف. وفرق أشهب؛ فإن قال: لتميم دخلوا، وإن قال: لبني تميم لم يدخلوا. وعاب ابن الماجشون قول أشهب، وقال: قد تكون قبائل لا يحسن أن يقال فيها: بنو فلان، منها: قيس وربيعة وجهينة ومزينة، وغيرهم. والأمر واحد حتى يقول: للصلبية دون الموالي. ولأشهب أن يقول: إنما قلت هذا في القبيلة التي يقال فيها: بنو تميم، ولو رد قول أِهب بأنَّ المراد عرفاً بتميم: بنو تميم - فكان لا فرق- لكان حسناً. وَلا يَلْزَمُ تَعْمِيمُ الْقَبيلَةِ الْكَبيرَةِ كَالْمَسَاكِينِ وَالْغُزَاةِ وَنَحْوِهِمْ لتعذر التعميم عادة. وقوله: (كَالْمَسَاكِينِ وَالْغُزَاةِ) تشبيه لإفادة الحكم، وإلا فإن المساكين ونحوهم ليسوا قبيلة حقيقية؛ إذ القبيلة بنو أب واحد. ووصف القبيلة بالكبيرة يُفْهَمُ منه ولو كانت صغيرة يمكن حصرها؛ للزوم تعميمها.

وَيَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ فِي الْمَسَاكِينِ وَبالْعَكْسِ نحوه في الجواهر، هذا والله أعلم لأنهما كالمترادفين عرفاً. وينبغي على ما تقدم في الزكاة- من ان المشهور تباينهما - أنه إذا أوصى مَنْ هو عالم بذلك ألا يدخل أحدهما على الآخر، ولا إشكال فيهذا متى نَصَ على ذلك فقال: للمساكين لا للفقراء أو بالعكس. الْمُوصَى بهِ كُلُّ مَا يُمْلَكُ، فَلا يَصِحُّ بخَمْرٍ وَشِبْهِهِ الركن الثاثل: الموصى به، فتصح بكل شيء يملكه الموصى له؛ فلذلك لم تصح بخمر وشبهه ولو أوصى به كافر لمسلم؛ لأن المسلم لا يصح تملكه لذلك. وَتَصِحُّ بالْحَمْلِ وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ [772/ب] وَالْمَنَافِعِ إذ لا يشترط أن يكون معلوماً، بل تصح الوصية بالغرر والمجهول كالحمل الثمرة التي لم يبد صلاحها؛ لأنها هبة، بل هي أخف لعدم لزومها. وَيَدْخُلُ الْحَمْلُ فِي الْجَارِيَةِ مَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ إذا أوصى لرجل بجاريةوهي حامل فإن الحمل يندرج في الوصية؛ لأنه كالجزء منها، وهذا بشرط أن تضعه بعد موت السيد، وأما إن وضعته في حياته فإن الوصية لا تتضمنه على المنصوص. ابن عبد السلام: ومقتضى النظر دخوله. ولا يصح تمكين السيد من الرجوع في الوصية؛ فإن هذا المعنى ملغي في حق الأم. وقوله: (مَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ) هذا الاستثناء لا يجري في العتق عند أهل المذهب. قال في الموازية: صح. أبو محمد: وأراه لأشهب إذا أوصى بولد أمته لرجل وبرقبتها لآخر فهو كذلك، فلهذا ما تلد ما دام حياً وعليه نفقتها. فإذا مات فرقبتها للموصى له بالرقبة.

ابن المواز: هذا إذا لم تكن يوم أوصى حاملاً، فإن كانت يومئذ حاملاً فليس له إلا حملها فقط. وفي العتبية عن ابن وهب فيمن قال: أوصيت لفلان بما ولدت جاريتي هذه أبداً، فإن كانت يوم أوصى حاملاً فهو له، وإن لم تكن يومئذٍ حاملاً فلا شيء له. وَإِذَا أَوْصَى بتَرْتِيبِ اتُّبِعَ الترتيب إما بصريح اللفظ كقدموا كذا على كذا، وإما بحرف كقوله: ثم. وأما التقديم في اللفظ فلا عبرة به عندنا خلافاً للحنفية، ففي المدونة: ولايقدم ما قدم الميت في لفظ أو كتاب، ولا يؤخر ما أخر، وليقدم الأوكد، إلا أن ينص على تبدئة غير الأوكد. وقيده ابن الماجشون بما له الرجوع عنه، وإما ما لا رجوع له عنه مِنْ عتق بتل وعطية بتل فلا يُبَدَّى، ولا يلزم جواز الرجوع عما ليس للموصي الرجوع عنه. ورأى الباجي أن تقييده مخالف لأكثر فروعهم أو لكثير منها كما سيأتي. فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَجْهُولٌ كَوَقُودِ مِصْبَاحٍ عَلَى الدَّوَامِ، وَتَفْرِقَةِ خُبْزٍ وَنَحْوَهُ -ضُرِبَ لَهُ بالثُّلُثِ وَوُقِفَتْ حِصَّتُهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: بالْمَالِ كُلِّهِ ... يعني: فإن كان في وصايا الميت مجهول كوقود مصباح على الدوام أو تفرقة خبز؛ أي: على الداوم، وحذفه لدلالة ما قبله؛ فإن المشهور أنه يضرب له مع الوصايا بالثلث؛ لأنه لو سلط على الثلث لأفناه، فكان ذلك بمنزلة ما لو أوصى بالثلث. وقال أشهب: بل يضرب له بجميع المال؛ فإنه بالوجه الذي قدر أن الموصي أوصى له بالثلث يكون الموصي موصياً له بالجميع؛ لأن الوصى به يستغرق الجميع كما يستغرق الثلث. اللخمي: والأول أَبْيَن، وليس قصد الميت أن يخرج ولده وأهله من جميع المال.

فَإِنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَجْنَاسٌ ضُرِبَ لَهَا كَالُوَاحِدِ وَقُسِمَ عَلَى عَدَدِهَا أي: فإن اجتمعت من المجهولات أجناس كوقود مصباح على الدوام، وتفرقة خبز على الدوام، وسيبقى راويةماء كل يوم- فإنه يضرب لها كما يضرب للواحد؛ فيضرب لها بالثلث. وهذا قول ابن الماجشون، قال: وكأنها صنف واحد. وقيل: يضرب لكُلِّ مجهول بالثلث. ويجري فيها قولاً آخر: أنه يضرب لكُلِّ بجميع المال. قوله: (وَقُسِمَ عَلَى عَدَدِهَا) نحوه لابن الماجشون في المجموعة. وفي الموازية قول آخر أنه يفاضل بين هذه المجهولات على قدرها كما لو كان للوقيد كل يوم نصف درهم، وللسقي كذلك، وللخبز درهم، فنهم يتحاصون أ {باعاً، وإليه ذهب التونسي. وَمَنْ أَوْصَى بمُعَيَّنٍ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ، أَوْ بمَا لَيْسَ فِيهَا مُطْلَقاً، وَلا يَخْرُجُ مِمَّا حَضَرَ؛ خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ أَنْ يَجِيزُوا الْمُعَيَّنَ وْيُحَصِّلُوا الآخَرَ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوا ثُلُثَ الْجَمِيعِ عَلَى اخْتِلافِهِ وَإِنْ كَانَ أضْعَافَهُ أَوْ دُونَهُ ... يعني: إذا أوصى بمعين كدين ونحوه، سواء كان ذلك المعين في التركة من المال الحاضر أو الغائب، أو ليس فيها؛ بأن قال: اشتروا له كذا. (مُطْلَقاً) أي: سواء حمله ثلث الحاضر أم لا. وقوله: (وَلا يَخْرُجُ مِمَّا حَضَرَ) هو مقيد فيما هو في التركة؛ أي: ولا يخرج المعين منث لث ما حضر، ولكن يخرج من ثلث الحاضر والغائب. واحترز بذلك مما لو كان يخرج من ثلث الحاضر فإن الوصية تنفذ. وإنما لم تنفذ إذا كان لا يخرج من ثلث الحاضر؛ لأن الورثة يقولون: لا نأمن أن يتلف رأس المال قبل قبضه وتحصيله؛ فيفوز هذا الموصى له بهذا المعين دوننا. وقوله: (خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ أَنْ يَجِيزُوا الْمُعَيَّنَ) أي: الذي أوصى به، وهو في التركة، ويحصلوا الآخر؛ أي: الذي ليس فيها، وبين أن يعطوا ثلث جميع التركة من حاضر وغائب، وَعَيْنٍ وغيرها، وإن كان الثلث أضعاف الموصى به.

وهذه المسألة تعرف بمسألة خلع الثلث، وخالفنا فيها أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، ومال إليه بعض شيوخنا. ووجه مذهبنا أنه يقال للورثة: كما لَمْ تُمكَّنُوا الميت من بخس حقوقكم فلا تبخسوا أنتم حقه؛ فإما أجزتم فعله وإلا فأعطوه جميع ما له، وهو الثلث. ويشمل قوله: (الْمُعَيَّنَ) الين وغيرها، ونص عليه في المدونة. ولا خلاف فيه إذا كانت العين لا تخرج إلا من مال غائب أو دين. قاله الباجي. وإنما اختلف إذا كانت التركة عروضاً حاضرة، وذكر ابن زرقون وغيره في ذلك أربعة أقوال: قال أشهب فيمن أوصى بعشر ة دنانير معينة أو غير معينة، ولم يخلف عيناً غيرها، وله عروض- أبو محمد: يريد حاضرة-: تدفع إليه العشرة، ولا يخير الورثة. [773/أ] ولو لم يخلف من العين إلا خمسة لأخذها، وبيع له بخمسة. وقال مالك وابن القاسم: يخير الورثة بين الإجازة أو القطع بالثلث. وقال ابن الماجشون: إن كان في بيع العروض بطء خير الورثة، وإلا لم يخيروا. وقال أصبغ: إن عين الدنانير خير الورثة وإلا لم يخيروا. وقوله: (بمُعَيَّنٍ) يشمل الذات والمنفعة. وقال ابن عبدالسلام: المشهور اختصاصه بالمنفعة كما لو أوصى له بخدمة عَبدٍ سِنِينَ، أو بسكنى دار. والفرق على أصل المذهب أنا لو أعطينا الموصى له محمل الثلث في منافعالعبد أو الدار خاصة فنحن بين أمرين؛ ألا نعطيه شيئاً من رقبة الدار والعبد، أو نعطيه ما قابل المنفعة من الرقبة، والأول يلزم عليه ألا يستوعب الموصى له جميع ثلث الميت؛ وذلك أن الدار والعبد يجعل في الثلث، فإذا وسع الثلث- مثلاً-نصف رقبة الدار، وأعطينا الموصى

له نصف المنفعة خاصة- كان قد أخذ أقل من ثلث الميت، وإن أعطيناه نصف رقبة الدار بمنفعتها كنا قد أعطيناه خلاف ما جعل له الموصي؛ لأنه إنما أعطاه المنفعة. انتهى. وعلى هذا فتكون المنفعة خاصة بما إذا أوصى بدين أو منفعة. وأما لو أوصى بعبد ونحوه فلا يأتي هذا الحكم. وهذا إشارة إلى ما في المدونة؛ لأن فيها بعد أن فرض المسألة في الدين: وذكر أن الورثة يخيرون إلا في خصلة واحدة، فإن مالكاً اختلف فيها قوله؛ فقال مرة: إذا أوصى له بعبد بعينه أو بدابة بعينها وضاق الثلث- فإن لم يجيزوا قطعوا له بالثلث من كل شيء. وقال مرة: بمبلغ ثلث التركة في ذلك الشيء بعينه، وهذا أحب إليَّ. وَلَوْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدٍ لايَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْحَاضِرِ؛ وُقِفَ الْعَبْدُ كُلُّهُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْمَالُ إِنْ كَانَ فِي أَشْهُرٍ يَسِيرَةٍ وَإِلا عُجِّلَ عِتْقُ ثُلُثِ مَا حَضَرَ ثُمَّ يُتِمُّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَشْهَبُ؛ لا يُوقَفُ، بَلْ يُعَجِّلُ مَا حَضَرَ وَلَوْ ثُلُثَهُ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يُتِمُّ ... أي: إذا أوصى بعتق عبده وله مال حاضر وغائب، ولا يخرج العبد من ثلث الحاضر، ولكن يخرج من ثلث الجميع- فقال مالك في رواية ابن القاسم وأِهب: يوقف العبد حتى يحضر الغائب، وأطلق. وقال ابن القاسم: إن كان يرجى اجتماع المال لأشهر يسيرة انتظر ليعتق جميع العبد. قال في المدونة: وليس له أن يقول: اعتقوا مني ثلث الحاضر الساعة. وإن كان لا يجتمع إلا لأشهر كثيرة، أو لسنة - هكذا حده ابن المواز- فإنه يعتق منه ثلث الحاضر، ثم مهما حضر من المال الغائب شيء عتق من العبد مقدار ثلثه. وَحَدَّ اللخمي الغيبة التي لا ينتظر فيها الغائب من خراسان أو من مصر إلى الأندلس. ابن عبد السلام: والأكثرون على أن قول أشهب مخالف للقول الأول، وإن كان أبو عمران ترجح في كونه تفسيراً لقول مالك، وهو بعيد، ولعل مراده أن القولين يتفقان ويكون

قول ابن القاسم تفسيراً لقول مالك وأشهب، وأن معنى قول مالك الانتظار في قريب الغيبة، ومعنى قول أشهب التعجيل في البعيد الغيبة. والذين ذهبوا إلى أن قول أشهب مخالف اختلفوا في أي القولين أرجح: فقال يحيى: قول أشهب هو القياس؛ لأن وقف عتق العبد مضرة عليه من غير منفعة للورثة. وقال سحنون وغيره: لو كان ما قال أشهب صحيحاً لأخذ الميت أكثر من الثلث؛ لأنه أعتق ثلث الحاضر، وباقي العبد موقوف لا تصرف فيه للورثة. وَلَوْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بشَهْرٍ وَلَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ؛ خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزُوا أَوْ يَعْتِقُوا مَحْمَلَ الثُّلُثِ بَتْلاً، فَإِنْ أَجَازُوا خَدَمهُمْ شَهْراً ... تصوره ظاهر، وهو جار على ما تقدم من خلع الثلث. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدَ فُلانٍ لِلْعِتْقِ زِيدَ ثُلُثَ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَبَى اسْتُؤْنِيَ بالْثَمَنِ، فَإِنِ بيْعَ وَإِلا رَجَعَ ثَمَنُهُ مِيرَاثاً ... ما ذكره من زيادة ثلث ثمن العبد هو المشهور. وقال ابن وهب: يزاد إلى ثلث الميت. وقال أصبغ: لو قال: اشتروه بالغاً ما بلغ، فإني استحسن أن يزاد في هذا إلى مبلغ ثلث الميت. ابن عبد السلام: والأقرب عندي ألا يزاد في ثمن العبد إلا ما جرت العادة بالتغابن فيه. وَوَجَّهَ بعض شيوخ عبد الحق المشهور بأن الناس لما كانوا يتغابنون في البيوع، والميت لم يَحُدَّ ما يُقتَصَرُ عليه- وجب أن يقتصر على ثلث ذلك؛ لأن الثلث حد بين القليل والكثير.

واختلف هل لا يعلم ربه بالوصية وهو قول ابن القاسم، أو يعلم بذلك وهو قول أشهب؟ وكذلك اختلف في الإعلام إذا قال: "بيعوا عبدي فلاناً من فلان" بخلاف ما إذا لم يعين العبد ولا بائعه ولا مشتريه فإنه لا يعلم بالوصية. وقوله: (فَإِنْ أَبَى) أي: سيد العبد من بيعه. وقوله: (اسْتُؤْنِيَ) أي: بثمن العبد وبالزيادة عليه، وهذا هو المشهور. وقال أشهب: لا يستأنى إذا أبى ربه البيع. وعلى المشهور فقال في الوصايا الأول مثل ما قال المصنف: إنه يستأني بثمنه. قالوا: معناه: وثلث ثمنه، ويبدى على الوصايا، فإن لم يبعه ربه رجع ميراثاً. وقال في الوصايا الثاني: بعد الاستيناء والإياس من العبد. وروى ابن وهب عن مالك أن الثمن يوقف ما رجي بيع العبد، إلا أن يفوت بعتق أو موت. سحنون: وعليه أكثر الرواة. وجعل ابن يونس ما في الوصايا الثاني موافقاً لما في الوصايا الأول موافقاً [773/ب] لابن وهب. وجعل اللخمي قول ابن وهب خلافاً. عياض: وفي حاشية ابن عتاب: سحنون: بعد الإياس من العبد ليس من لفظ ابن القاسم. فعلى هذا ليس بخلاف من قوله وإنما أتى به سحنون من كلام غيره. وذهب ابن كنانة إلى أنه إذا امتنع سيده من البيع أن يجعل ثمنه وثلث ثمنه في رقاب. فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى لِفُلانٍ زِيدَ كَذَلِكَ، فَإِنْ أَبى الزِّيَاَدَةَ دُفِعَ الْمَبْذُولُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِنْ أَبَى بَطَلَتْ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يُوقَفُ فِيهِمَأ، فَإِنْ أَيسَ رَجَعَ الْمَالُ مِيرَاثاً. كلامه ظاهر التصور، وخلاف أصبغ السابق منصوص هنا. فإن أبى مالك العبد من بيعه فإبايته إما أن تكونطلباً للزيادة في الثمن أو اغتباطاً بعبده؛ والأول يدفع الثمن

مع الزيادة للموصى له؛ لأن قصد الموصي منفعته بالعبد مباشرة، وجعل الثمن وسيلة إلى ذلك، فإن تعذر نفعه بالعبد أعطي الثمن الذي هو وسيلة إليه. فإن قيل: يلزم مثله إذا امتنع سيد العبد به ضناً-أي: بخلاً، وهو بالضاد- قيل: الوصية في الأول بعرضية الثبوت؛ لأن يد العبد لم يمتنع من بيعه، وإنما طلب زيادة في الثمن، منع من دفعها له حق الورثة، بخلاف القسم الثاني فإن الوصية باطلة لبخل سيد العبد بهن ولعل هذا هو الذي لاحظه أشهب في قوله: (يُوقَفُ فِيهِمَا) أي: في الوجه الأول، وهو طلب السيد للزيادة وفي الثاني، وهو بخله، حتى يتحقق بطلان الوصية بالإياس من بيع العبد فحينئذ يرجع ثمنه ميراثاً. وتردد بعض الشيوخ هل تدخل الوصايا في الثمن هنا إذا لم يتم البيع أو لا؟ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ لِعِتْقٍ نَقَصَ ثُلُثُ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَبَى خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ بَيْعِهِ بأَقَلَّ أَوْ عِتْقِ ثُلُثِهِ مِنْهُ ... اتفق هنا على مقدار النقص، وهو أنه ينقص ثلث ثمنه، وبه يترجح قول ابن القاسم على قول ابن وهب وأصبغ فيما تقدم. وقوله: (فَإِنْ أَبَى) أي: فإن لم يوجد من يشتريه للعتق إلا بأكثر من نقص الثلث- خير الورثة بين بيعه بما طلب المشتري وبين عتق ثلثه؛ لأن ثثل العبد هو الذي أوصى به الميت في العتق. ابن القاسم في المدونة والموازية: وهو مما لم يختلف فيه قول مالك. محمد إثر ذلك: بل اختلف قوله بما هو أصوب، وبه أخذ أكثر رواة أصحابه؛ فروى عنه أشهب في المبيع للعتق أو ممن أحب: أنه إن حمله الثلث فإنهم إن لم يجدوا من يأخذه بوضيعة ثلث الثمن واستؤني به فلم يوجد- فلا شيء عليهم فيه، وإن لم يحمله الثلث

خيروا بين بيعه بوضيعة ثلث ثمنه وإلا اعتقوا منه مبلغ ثلث الميت كله؛ لأنه يصير عتقاً مبدي على وصية فلان. هذا في المبيع للعتق. وأما ممن أحب فإن بذلوه بوضيعة ثلث الثمن ولم يجدوا من يبتاه واستؤني به- فلا شيء عليهم فيه. كذلك عن أشهب في المجموعة. ووجهه ظاهر؛ لأنه إذا حمله الثلث لم يلزمهم إلا عرضه على من يشتريه، فإن لم يوجد بعد الاستيناء فقد بطلت الوصية من غير سببهم؛ فلا شيء عليهم. وكذلك إن لم يحمله الثلث فإنهم إن لم يجيزوا الوصية أعتقوا منه محمل ثلث الميت على أصل المذهب في خلع الثلث. وإن بذلوه لمن يشتريه فقد أجازوا الوصية؛ فيكون كما لو وسعه الثلث. وَإِنْ أَوْصَى ببَيْعِهِ مِمَّنْ أَحَب نَقَصَ كَذَلِكَ أي: ثلث ثمنه. ابن عبد السلام: هذا أيضاً متفق عليه. انتهىز وفيه نظر؛ لأن في الواضحة عن أصبغ أنه قال: خالف ابن وهب مالكاً رحمه الله في القائل: "بيعوا عبدي ممن أحب، واشتروا عبد فلان فَأَعْتِقُوهُ" فقال: يزاد في المشترى، وينقص ي المبيع ما بينه وبين ثلث الميت، لا ثلث الثمن. والظاهر أنه يتخرج في الموصى ببيعه لعتق، وقد تقدم أن ابن عبد السلام حكى فيها الاتفاق. فَإِنْ أََبَى رَجَعَ مِيرَاثاً، وَقِيلَ: كَالَّتِي قَبْلَهَا يعني: فإن لم يوجد من يشتريه بنقص ثلث ثمنه، فروى غير واحد عن مالك: أنه يرجع ثمنه ميراثاً؛ لأنه لما أبى رَدَّ الوصية؛ إذ الميت إنما أوصى له بالحطيطة بشرط شرائه.

وقوله: (وَقِيلَ: كَالَّتِي قَبْلَهَا) أي: فيخير الورثة بين بيعه بأقل أو يعتقون ثلث العبد. وهو قول ابن القاسم في المدونة، وروي أيضاً عن مالك. ونقل ابن وهب عن مالك أن العمل عندهم على الأول. فرعان: الأول: قال ابن أبي زمنين: ولو باعوه ممن أحب ولم يعلموا المشتري بالوصية ثم علم فقام عليهم- فلا شيء له. ورواه أشهب عن مالك. الثاني: إنما يتأتى القولان السابقان إذا لم يوجد من يشتريه بالكلية، وأما لو أحب العبد شخصاً وأبى فله أن ينتقل إلى ثان وإلى ثالث ما لم يطل ذلك حتى يضر بالورثة. قاله أشهب. فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ فُلانٍ نَقَصَ كَذَلِكَ أي: ثلث ثمنه، ويلزمهم ذلك. واختلف أولاً هل عليهم أن يخبروا لاناً بما أوصى به الميت وهو قول أشهب، أو لا وهو قول ابن القاسم؟ وعلى الأول فإن لم يعلم رجع بما زاد على ثلثي قيمته. فَإِنْ أَبَى خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ بَيْعِهِ بِمَا أَعْطَى أَوِ الْقَطْعِ لَهُ بِثُلُثِ الْعَبْدِ، وَقِيلَ: كَالَّتِي قَبْلَهَأ ... أي: فإن أبى فلان من شرائه فقولان: الأول: مذهب المدونة. والثاني لأشهب في الموازية: أنه يرج ميراثاً. وهو معنى قوله: (وَقِيلَ كَالَّتِي قَبْلَهَأ) واستحسنه اللخمي؛ لأن الموصى له لم يقبل الوصية، وهذا كله مقيد بما إذا حمله الثلث، فإن لم يحمل خيروا بين بيعه منه بوضيعة الثلث أو خلع ثلث الميت.

وَمَنْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدٍ يُشْتَرَى لِتَطَوُّعٍ أَوْ ظِهَارٍ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَناً أُخْرِجَ بالاجْتِهَادِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ ... هو المشهور، وهو مذهب المدونة، قال فيها: وليس من ترك مائة ديناراً كمن ترك ألفاً [774/أ]. ابن القاسم في الموازية: وبذلك يحاص في الوصايا. وقال أشهب في الموازية: لا ينظر إلى قلة المال وكثرته، ولنك يشترى وسطٌ من الرقاب. ولا يُنْظَرُ لقدر المال، وبه يحاصُّ، والقياس أن يحاصَّ بأدنى الرقاب مما يجزئ في الظهار والقتل، والأول أحب إلي. كما قيل فيمن تزوج على خادم، فلأشهب رحمه الله تعالى قياس واستحسان. واختيار اللخمي قريب منه؛ لأنه قال: الوسط حسن مع عدم الوصايا، فأما إذا كانت وصايا وضاق الثلث فإنه يرجع إلى أدنى الرقاب؛ لأن المعلوم من الميت أن يقصد إنفاذ وصاياه جملة، فإذا علم أن المال لا يتسع إلى الأعلى ولا إلى الأوسط رجع إلى الأدنى، ما خلا الرضيع والمعيب؛ لأنهما لا يقصدهما الميت. فَإِنْ سَمَّى يَسِيراً أَوْ كَانَ الثُّلُثُ يَسِيراً شُورِكَ بهِ فِي عَبْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ أُعْتِقَ بهِ مُكَاتَبِّ فِي آخِرِ نُجُومِهِ ... أي: إن سمي ثمناً يسيراً أكان الثلث يسيراً لايبلغ ثمن رقبة - شورك به في عبد، وإن لم يبلغ أعين به مكاتب ي آخر نجومه. وهكذا في المدونة، وهو خاص برقبة التطوع. كذلك ذكر ابن يونس وغيره، وهو ظاهر. ولعل المصنف رحمه الله اعتمد على ما قدمه في الظهار من منع الشركة. اللخمي: ويطعم به في الظهار، فإن فضل منه على الإطعام فضلة فالفاضل لهم.

وَلَوِ اشْتَرَى فَأَعْتَقَ فَلَحِقَ دَيْنٌ يَغْتَرِقُ الْمَالَ رَجَعَ الْعَبْدُ رِقَّاً، فَإِنْ لَمْ يَغْتَرِقْ فَبحِسَابهِ، وَلا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ مَا لَمْ يَعْلَمْ ... يعني: ولو اشترى الموصَى رقبة فأعتقها عن الميت ثم لحق الميت دين يستغرق المال ففي المدونة: يرجع العبد رقاً كما ذكر المصنف، وإن لم يغترقه أعطي صاحب الدين دينه، ثم عتق من العبد بقدر ما بقي من ثلث الميت. وهذا معنى قوله: (فَإِنْ لَمْ يَغْتَرِقْ فَبحِسَابهِ). ولا يضمن الموصى إذا لم يعلم بالدين؛ لأنه قد اجتهد، ولم يكن عليه سوى ما صنع. وفي الموازية: يمضي العتق ويغرم الموصى. وهو مقتضى قول غير ابن القاسم في الوصايا الثاني من المدونة؛ لأن فيه في الموصِي أن يُحَجَّ عنه بعوض: لا يجزئ أن يحج عنه عبد أو صبي أو من فيه علقة رق؛ إذ لا حج عليهم؛ فيضمن الدافع، إلا أن يظن أن العبد جر-وقد اجتهد ولم يعلم- فإنه لا يضمن، وقال غيره: لا يزول عنه الضمانب جهله. ابن عبد السلام: وهذا الذي قاله غيره هو الجاري على ما في كتاب الحج الثاني، وفي كتاب النذور، ولولا الإطالة لجلبناه. وقال في الواضحة في مسألة المصنف: إذا علم الموصى وكان له مال ضمن، وإن لم يعلم أو علم إلا أنه عديم فلا ضمان، إلا أنه يَرُدُّ العتق حتى يقضي الدين. فرع: ولو اشترى الوصي يهودياً أو نصرانياً كان ضامناً، وإن اشترى معيباً لا يجزئ في الواجب، والعتق واجب؛ فإن علم الموصى أنه للكفارة ضمن عمداً كان أو خطأ، وإلا فلا. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْعِتْقِ اشْتُرِيَ آخَرُ إِلَى مَبْلَغِ الثُّلُثِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قُتِلَ وَجَبتْ قِيمَتُهُ ... يعني: أن المشترى لا يكون حراً بنفس الشراء؛ فلذلك إذا مات بعد الشراء لزمهم شراءٌ آخر إلى مبلغ الثلث وهذا مذهب المدونة، والمشهور، وبه قال أصبغ. ولابن القاسم

في الموازية: يشترونه من ثلث ما بقي أبداً، كأنه لم يكن مال إلا ما بقي. وقال ابن حبيب: القياس ألا يرجع في بقية الثث بشيء، واستحسن أن يشترى من بقية الثلث. وقال ابن المواز: إن عزل ثلثه للوصية، وقسم الورثة الثلثين كان عليهم بقية الثلث. اللخمي: ولا وجه لهذا؛ لأن الميت لم يوص بجزء فيكون عليهم أن يقسموه، وإنما أوصى بشراء رقبة لا غير ذلك، وقولابن حبيب في هذا أحسن. وقوله: (وَلِذَلِكَ) أي: ولأجل أن العبد لا يكون حراصبنفس الشراء، بل حتى يعتقه الورثة- لمتجب على قاتله الدية؛ لأن أحكامه أحكام العبيد حتى يعتق. ووقع في بعض النسخ (وكذلك) والأولى أحسن. محمد: ولو أخرج ثمن العبد فسقط فعليهم أن يشتروا عبداً من ثلث ما بقي ما لم يتلف بعد القسم، وإنما يشترى إن بقي من الثلث الأول شيء. وهذا الكلام قريب مما في المدونة، مخالف لما تقدم عنه. ولو جنى العبد قبل عتقه خير الورثة؛ فإمَّا أسلموه واشتروا غيره من ثلث ما بقي، أو فدوه فأعتقوه هو أو غيره. فإن أسلموه فكأنه لم يكن، أو مات فيعتقون غيره من ثلث ما بقي. وإن فدوه فمن ثلث ما بقي لا أكثر منه كأنهم ابتدءوا شراءه، وذلك إن لم يكن قسم الثلث. وقال أصبغ: يرجع في هذا إلى باقي الثلث الأول. محمد: يريد: إذا كان قد قسم به، وقسم للورثة بالثلثين ينفذ لهم- لا يرجع عليهم بشيء في موت الرقبة ولا إسلامها؛ لأنه صار ضمان كل قسم من أهله. محمد: وذلك بعد اقتسام المال والفراغ منه.

وَإِذَا أَوْصَى بشَاةٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ ببَعِيرٍ أَوْ أَوْ بعَبْدٍ كَانَ شَرِيكَاً بجُزْئِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبيرِهَا، ضَانِهَا وَمَعَزِهَا، ذَكَرِهَا وَأُنْثَاهَا ... أي: إذا أوصى له بشاة من امله أو ببعير أو بعبد أو نحو ذلك، وفي ماله غنم أو إبل أو عبيد. ويدل على أن مراد المصنف أن في ماله ذلك قوله: (كَانَ شَرِيكَاً بجُزْئِهَا) وَلِذِكْرِهِ مُقَابِلَّهُ بعد ذلك: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ). ومعنى: (بجُزْئِهَا) أنه يكون شريكاً بنسبة الشاة من سائر الغنم، فإن توفى عن خمس كان له الخمس، وعن عشر كان له العشر، وعن مائة فله عشر العشر. خليل: وفي هذه المسألة نظر؛ لأنه يبقى تحجير على الورثة، لا سيما إذا كانت الشياة كثيرة، والأقرب أنه لا يكون شريكاً بل تكون له شاة. وَلَوْ لَمْ يَبْقَ إِلا شَاةٌ أَوْ عَبْدٌ يَعْدِلُ الْجَمِيعَ؛ فَهْوَ لَهُ إِنْ حَمَلَهُ الثُّلُُثُ، أَوْ مَا حَمَلَ مِنْهُ ... يعني: ولو لم يبق في المسألة المتقدمة إلا العدد الذي سما الموصي فإنه للموصى له، ولو كان الباقي يعدل جميع المال، بشرط أن يحمل الثلث ما بقي. وخالف ابن الماجشون في هذا ولم يوجب له إلا الجزء الموصى به من الباقي. والحاصل أن ابن القاسم اعتبر الشركة بالجزء مع الالتفات إلى العدد على الوجه الذي ذكره المصنف، وابن الماجشون اعتبر الجزئية وألغى العدد. بخِلافِ: "ثُلُثِ غَنَمِي" فَتَمُوتُ أَوْ تُسْتَحَقُّ كُلَّهَا أَوْ بَعْضُهَا أي: فلا يكون للموصى له إلا ثلث ما بقي، وهذه المخالفة إنما هي على قول ابن القاسم، وأما على قول ابن الماجشون فلا.

فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فَلَهُ شَاةٌ وَسَطٌ يعني: فإن لم تكن له غنم في المسألة المفروضة، وهي ما إذا أوصى له بشاة من ماله ففي الموازية ما ذكره المصنف، لكن إنما قال في الموازية: له قيمة شاة وسط، وظاهر كلام المصنف أنه تشتري له شاة وسط. فَلَوْ قَالَ: شَاةٌ مِنْ غَنَمِي فَكَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فَلا شَيْءَ لَهُ يعني: فإن أوصى له بشاة من غنمه فكذلك، ولا يريد المصنف رحمه الله تعالى بالتشبيه أخذ شاة وسط، بل هو راجع إلى أصل المسألة؛ أي: فيكون شريكاً بجزئها، وإن لم تكن له غنم فلاشيء له. كَمَا لَوْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدٍ مِنْ عَبيدِهِ فَمَاتُوا أَوِ اسْتَحَقُّ بَطَلَتْ كَالْعِتْقِ شَبَّهَ الوصية بشاة من غنمه فتموت في أنه لا شيء عليه وتبطل الوصية، بما إذا أوصى بعتق عبد من عبيده فماتوا أوا ستحقوا أن الوصية تبطل. ويفهم من هذا التشبيه أنه لو استحقت الغنم فيما إذا أوصى له بشاة أن الوصية تبطل أيضاً. وقوله: (كَالْعِتٌِْ) أي: كالعتق المعين إذا قال: "إذا مت فأعتقوا عبدي فلاناً" ثم مات فلان أو استحق، ويحتمل أن يريد بقوله: (كَالْعِتْقِ) إذا أوصى بعتق عبد من عبيده، وليس له عبيد. وَلَوْ أَوْصَى بعَدَدٍ سَمَّاهُ فَشَرِيكٌ بالْعَدَدِ الْمُسَمَّى كَشَرِكَةِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمَشْهُورِ لا كَشَرِكَةِ الثُّلُثِ ... أي: إذا أوصى بعشرة-مثلاً من عبيده، وعبيده خمسون - فإنه يكون شريكاً بالعدد المسمى، كشركة الواحد؛ بمعنى أنه يكون شريكاً بالجزء، وإن لم يبق إلا العدد المسمى

فهو له. وهذا هو المشهور. وقال عبد الملك: يكون كشركة الثلث؛ أي: لا يكون له إلا نسبة العدد الموصى به لغنمه، كما لو أوصى له بالثلث. ولكن قَصْرُ المصنف الخلاف على العدد يوهم نفيه عن الواحد، وقد تقدم أن عبد الملك خالف في الواحد. وَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ قُدِّمَ الْمُدَبَّرُ فِي الصِّحَةِ هذه المسألة متسعة وقد أفرد لها عبد الحق تأليفاً. ومعنى كلام المصنف أنه إذا ضاق الثلث عما يجب إخراجه منه- سواء كان وصية أو غيرها- فلا يَرِدُ إذن قول من قال: إن المدبر في الصحة ليس من جنس الوصايا لا يذكر معها، ولا قول من قال: لم يذكر مؤنة الدفن وشبهها؛ لأن ذلك من رأس المال. ولم يتعرض المصنف لصداق المنكوحة في المرض. والمشهور تقديم المدبر عليه؛ نظراً إلى كونه من تصرف الصحة. وقاله ابن القاسم. ولابن القاسم قولان آران أحدهما تقديم الصداق؛ نظراً إلى كونه معاوضة، ونظراً إلى أن بعضهم يجيزه ويقول: إن الصداق من رأس المال. ويقول: إنهما يتحاصانز ثم المدبرون في الصحة إن تعاقبوا قُدِّمَ الأول، وإلا فالمشهور أنه يعتق منهم بالحصص، وقيل: يقرع بينهم. ثُمَّ الزَّكَاةُ الْمُوصَى بهَا، إِلا أَنْ يَعْتَرِفَ بحُلُولِهَا حِينَئِذٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا؛ فَمِنْ رَاسِ مَالِهِ ... يعني: ويخرج بعد تقديم الزكاة الموصى بها، والزكاة تعم زكاة العين والحرث والماشية وزكاة الفطر، وهو مذهب ابن الماجشون، والمشهور خلافه؛ وهو أن زكاة المال مقدمة على زكاة الفطر.

وَقَدَّمَ المدبر والمنكوحة على الزكاة؛ لأنهما معلومان والزكاة لا يدري أَصَدَقَ في بقائها أم لا؟ ولأنهما لمعين بخلافها. وقدمت زكاة الأموال على زكاة الفطر على المشهور؛ لأن زكاة الفطر قد قيل بسنيتها. وقوله: (الْمُوصَى بهَا) يعني: وإن لم يوصِ فلا تخرج ولو قال في مرضه: سأخرجها. قوله: (إِلا أَنْ يَعْتَرِفَ) استثناء من قوله: (ثُمَّ الزَّكَاةُ) أي: إلا أن يعترف بحلول الزكاة وأنه لم يخرجها؛ يريد: ويوصي بها فتكون من رأس ماله. هكذا قال ابن القاسم. ورأى أشهب: أنها حينئذٍ من رأس المال وإن لم يوصِ بها. ابن عبد السلام: وهو أقرب إلى كلام المصنف. انتهى. وقد يقال: الأقرب إلى كلامه قول ابن القاسم؛ لأنه استثناء من الزكاة الموصى بها. ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أيضاً أنه يكفي في هذا اعتراف الموصي، سواء عرف ذلك من غيره أو لا. وفي موافقته للرواية نظر؛ أي: لأن في المدونة: فما عرف من هذه فأخرجها في مرضه أو أمر بإخراجها ثم مات فإنها من رأس ماله. وهذا الذي ذكرنا فيه قول ابن القاسم وأشهب إنما هو في زكاة العين، وأما زكاة الحرث والماشية فإنها تخرج من رأس المال إذا لم يفرط فيها، إلا أن تيبس الثمرة وتطيب أو يجذها ويخلفها في الجرين ببلد لا ساعي فيها، والظاهر على قول ابن القاسم أنه لا يلزم الورثة إخراجها؛ لأنه لو أخرجها لأجزأته، فكان ذلك كزكاة العين المفرط فيها. وأما إن لم تيبس فيجب على الورثة إخراجها؛ لأنه لو أخرج الزكاة قبل الجذاذ لم يجزأه. ذكره عبد الحق عن ابن مسلمة في المبسوط، قال: وما رأيت خلافه. ثُمَّ الْمُبَتَّلُ فِي الْمَرَضِ وَالْمُدَبَّرُ فِيْهِ ظاهر كلامه أن هذ المرتبة بعد ما تقدم، وفيه نظر؛ بل الذي بعدها زكاة الفطر على ما ذكره عبد الحق وصاحب المقدمات.

ثم العتق في الظهار وقتل النفس؛ لأن الزكاة لا عوض عنها، بخلاف عتق الظهار والنفس فَإِنَّ عنه عوضاً [775/أ] عند العدم. فإن لم يحمل الثلث إلا رقبة واحدة عبد الحق: فرأيت لأبي العباس الإبياني أنه يقرع بينهما. وهو معنى المدونة. وذهب بعض القرويين إلى أن يحاصص، فما وقع للظهار أطعم به، وما وقع للقتل شورك به في رقبة. وقيل: يخير الورثة، فإن اختلفوا رجع إلى القرعة. وقيل: يبدأ بكفارة النفس. وذلك إذا لم يكن في الثلث إلا رقبة واحدة. فإن كان فيه رقبة وإطعام ستين مسكيناً أعتقت الرقبة في القتل وأطعم عن الظهار اتفاقاً. وقيل: إذا لم يكن فيه إلا رقبة واحدة، وما لم يبلغ الإطعام فإنه يبدأ بالظهار ويشرك فيما بقي في كفارة قتل النفس، ثم بعدهما كفارة اليمين؛ لأنها مخير فيها، بخلاف كفارة الظهار والقتل. ثم كفارة الفطر في رمضان متعمداً؛ لأن كفارة اليمين واجبة بكتاب الله عز وجل. ثم كفارة التفريط في قضاء رمضان. قال في المقدمات: وهذا دليل ما في كتاب الصيام من المدونة. وقيل: إن الإطعام لقضاء رمضان يُبَدَّى على كفارة اليمين عند ابن القاسم. والأول أظهر. ثم النذر؛ لأن إطعام رمضان واجب بنص السنة، والنذر أدخله على نفسه. (ثُمَّ الْمُبَتَّلُ فِي الْمَرَضِ وَالْمُدَبَّرُ فِيْهِ) وفي بعض النسخ: (ثم المدبر فيه معاً) وليست بظاهرة؛ لأن (ثم) منافية للمعية، والنسخة الأولى أصح، وتسويتهما هو ظاهر المذهب. وقيل: يُبدَأُ بالمبتل؛ لأنه لو صح خرج من رأس المال. وقيل: يُبدَأُ بالمدبر. وهذا الخلاف مقيد بما إذا كان في فور واحد. ابن القاسم: ولو بدأ بأحدهما ثم ذكر الآخر بدئ بالأول؛ لأنه يثبت له ما لا يرجع فيه. أشهب: والكلام المتصل لا صمات فيه كاللفظ الواحد.

وقال ابن القاسم: ما كان في كلمة واحدة وفور واحد فهما معاً، وما كان في فور بعد فور فالأول مُبَدَّى. عبد الملك: وإن بتل المريض عتق عبده، وأعتق من آخر نصفه فالمعتق جميعه يُبَدَّى، ويبدى استتمام ذلك النصف على الموصى بعتقه الذي له أن يرجع فيه، وهذا شيء يلزمه. ثُمَّ الْمُوصَى بعِتْقِهِ مُعَيَّناً عِنْدَهُ أَوْ يُشْتَرَى ألحق بهذين عبد الحق وصاحب المقدمات الموصى بعتقه إلى أجل قريب، كالشهر ونحوه، أو على مال فعجله على مذهب ابن القاسم. وزاد ابن رشد: والموصى بكتابته إذا عجل الكتابة. وقال أشهب: الموصى بعتقه أو بشرائه للعتق يُبَدَّى على العتق إلى أجل قريب، وعلى الموصى بعتقه على مال وإن عجل المال، وعلى الموصى بكتابته وإن عجل الكتابة. وقيل: الموصى بعتقه معيناً يُبَدَّى على الموصى بشرائه للعتق. وحكى عبد الوهاب في المعونة أن الوصية بالعتق المعين تُبَدَّى على الزكاة. قال في المقدمات: وهو بعيد في القياس، ووجهه إتباع ظاهر الحديث؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بتبدية العتق على الوصايا، فعم صلى الله عليه وسلم ولم يخص. ثُمَّ الْمُكَاتَبُ بعَيْنِهِ يعني: أن الموصى بكتابته يلي من تقدم ذكره، وهذا مذهب المدونة، وقدم عبد الملك عليه المعتق إلى أجل، وإن بعد الأجل. محمد: لأنه لا يخاف عليه العجز. وقال في الموازية: يتحاصان إذا كان الأجل سنة ونحوها.

وقام عبد الحق المعتق إلى سنة عليه وجعله يتحاص عم المعتق إلى أجل بعيد كالعشر سنين، ومع المعتق على مال فلم يعجله. وقال في المقدمات: ويقدم الموصى بعتقه إلى سنة على الموصى بعتقه إلى سنتين. وقيل: إن الموصى بعتقه إلى سنتين يُبَدَّى على الموصى بعتقه إلى سنة. ثُمَّ الْمُوصَى بعِتْقِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَالْحَجُّ مَعَاً، وَقِيلَ: ثُمَّ الْحَجُّ وقوله: (وَالْحَجُّ) أي: للصرورة، وأما غير الصرورة فيبدأ بالعتق باتفاق، إلا على ما نقله عياض عن أصبغ من التساوي. والقول الأول مذهب المدونة، والقول الثاني أظهر؛ لتشوف الشرع إلى العتق، وكراهة الوصية بالحج عندنا. عبد الحق: وعليه فإذا كان هناك وصايا تَحَاصَّ الثلاثة، فما ناب الحج كانت القربة به. وزاد ابن رشد قولين آخرين؛ أحدهما: أن الحج يُبَدَّى، ثم يتحاص المال والعتق. وقيل: يُبَدَّى العتق، ويتحاص المال والحج. ابن عبد السلام: وانفرد ابن وهب فقدم وصية الصرورة على الرقبة المعينة. انتهى. وحكى ابن زرب أن الشيوخ أجمعوا على أن الوصية بالحج تُبَدَّى على كل شيء؛ المدبر وغيره. حكاه في المقدمات. وَأَخِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ الزَّكَاةَ الْمُوصَى بهَا عِنِ الْمُدَبَّرِ فِي الْمَرَضِ وجهه أن للموصى بالزكاة أن يرجع، بخلاف المبتل والمدبر في المرض. وفي المجموعة: أن الزكاة تُبَدَّى على المدبر في الصحة. وقيل: إنها بعد العتق المعين وقبل الوصايا. وقيل: إنها مع الوصايا.

وَيُقَدِّمُ الْوَاجِبُ عَلَى التَّطَوُّعِ لما رأى أن ما ذكره المصنف من الفروع لا يعم جميع ما ذكره الشيوخ أراد أن يذكر ما يجري مجرى الكليات. ابن عبد السلام: وهذا ظاهر إن كان الواجب والتطوع من جنس واحد، كالعتق في رقبتين إحداهما وجبة، والأخرى تطوع. وإن كانا من جنسين فهو خلاف النقل في كثير من المسائل، وقد قدم الأكثرون المدبر في الصحة على الزكاة، وقدم عبد الملك عليها المدبر في المرض. انتهى. وأجيب بأنا لا نسلم أن المدبر تطوع؛ لأنه وجب بالتدبير. وَالْعِتْقُ الْمُعَيَّنُ عَلَى الْمُطْلَقِ هذا مستفاد من قوله: (ثم الموصى بعتقه معيناً عنده، أو يشترى، ثم المكاتب بعينه، ثم الموصى بعتقه غير معين). ولعله ذكره ليرتب عليه [775/ب] ما بعده، وهو قوله: وَفِي الْعِتْقِ الْمُطْلَقِ مَعَ مُعَيَّنٍ غَيْرِ عِتْقٍ قَوْلانِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَاصَّانِ يعني: إذا أوصى بعتق غير معين، وبمال لرجل معين فقال ابن القاسم: يتحاصان. ابن يونس: ولم يختلف قوله في ذلك. وقال غيره: يقدم العتق لتشوف الشرع إليه. وَفِي مُعَيِّنِ غَيْرِهِ مَعَ جُزْءٍ شَائِعٍ ثَالِثُهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَاصَّانِ المراد بـ (المعين): العدد المسمى كعشرة دنانير ونحوها. (مَعَ جُزْءٍ) أي: كثلث أو ربع. والثلاثة الأقوال روايات حكاها عبد الوهاب وغيره. وقول ابن القاسم هو مذهب المدونة، هكذا مشَّى هذا المحمل ابن راشد وابن عبد السلام وغيرهما، ويحتمل من حيث اللفظ "مع جزء عتق" ويكون الكلام السابق في العتق الكامل، لكن يحتاج إلى نقل يعضده.

قال في المقدمات: وكان أبو عمرو الإشبيلي رحمه الله تعالى يرى تبدية مال أوصى به في فك أسير على جميع الوصايا؛ المدبر في الصحة وغيره، ويحتج لذلك برواية أشهب عن مالك في كتاب الجهاد. وحكى ذلك عنه ابن عتاب وقال: إن الشيوخ أجمعوا على ذلك، وهو صحيح. وهذا الفصل متسع جداً، ولذلك احتمل التواليف، وتعرض الشعراء لنظمه، فمن ذلك قول بعضهم: صداق المريض في الوصايا مقدم ... ويتلوه ذو التدبير ي صحة الجسم وقيل: هما سيان حكمهما معاً ... وقيل: بذي التدبير يُبَدَّى في الحكم وإن ضيع الموصي زكاة فإنها ... تُبَدَّى على ما بد هذين في النظم وكفارتان بعدها لظهاره ... وللقتل هما لا لعمد ولا جرم ويتلوهما كفارة الحلف توبعت ... بكفارة الموصى عن الصوم ذي ونذر الفتى تالٍ لما قد قصصته ... وما بتل الموصى ودَبَّر في السقم هما تلوان النذر ثم وصية ... بعتق الذي ي ملكه يا أخا الفهم مع المشترى من ملك زيد معيناً ... ليعتق عنه للنجاة من الإثم وما أعتَّق الموصي لتوقيت حينه ... كشهر ونحو الشهر من أجل حتم وإن كان عتق بعد مال مؤجل ... فعجله ذو العتق قبل انقضاء القسم يساوي بهم عند الحصاص حقيقة ... كذا حكمهم يا صاح في موجب العلم وبعده ما كان عتقاً مؤجلاً ... ببعد من التأجيل في مقتضى الرسم فذاك مع الموصى له بكتابة ... ومن كان بعد المال يعتق بالغرم يُبْدَّون قبل المشترى لعتاقة ... بلا نص تعيين عليه ولا حسم ومن بعده الحج وموصى بفعله ... وقيل: هما سيان في مقتضى الحكم وهذه المبادئ نظمها نظم لؤلؤ ... فدونكها نظماً صحيحاً بلا وهم

ونص ابن زرقون رحمه الله تعالى عل أن زكاة الفطر مبداة على الظهار وقتل الخطأ؛ لأنه قد قيل بفرضيتها، والظهار والخطأ هو الذي أدخله على نفسه. قال: والمشهور أن عتق المريض وتدبيره بعد كفارة فطر الصيام. وَلَوِ اشْتَرَى ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ جَازَ وَعَتَقَ وَوَرِثَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ بُدِّيَ الابْنُ، وَقِيْلَ: يُعْتَقُ الابْنُ مِنْ رَأسِ الْمَالِ ... خص الابن تبعاً للمدونة على سبيل المثال لا الاختصاص؛ فإن مذهب مالك وابن القاسم أن للمريض أن يشتري في مرضه من يعتق عليه بثلث ماله؛ كان ابناً أو أباً أو أخاً. وقال أشهب مرة في الولد والأب والأم والإخوة والأجداد: يعتقون من رأس المال، وقال مرة: ذلك إذا لم يكن معهم وارث، فإذا كان له وارث فليس له أن يشتري الولد وغيره إلا بثلث ماله. ولابن الماجشون قولان آخران: أولهما في الواضحة: أنه يجوز له اشتراء ابنه خاصة، ولو بجميع ماله ويرثه؛ لأن له استلحاقه، ولا يجوز له أن يشتري غيره لا أباً ولا أماً ولا أخاً؛ لأنه لا يستلحقهم. ابن رشد: يريد: إلا بثلث ماله، ولا يرثه. وثانيهما في الثمانية: يشترى الولد وولد الولد خاصة بجميع المال؛ كان له ولد آخر أو لم يكن، ويلحقهم بولده. وقال ابن وهب في العتبية: إن كان المشترى يَحْجِبُ من كان يرث حتى يصير جميع الميراث له كان أحق أن يشتريه بجميع المال، ويرث إن كان بقي شيء، وإن كان ثَمَّ من يشركه في الميراث لم يشتره إلا بالثلث، ولم يرث؛ لأنه إنما يعتق بعد موت المشتري وقد صار الملك لغيره.

وقال ابن القاسم: إن اشترى أخاه في المرض ورثه إن حمله الثلث، وإلا عتق منه محمل الثلث معجلاً. وقال أصبغ: لا يرثه إلا أن يكون له أموال مأمونة. وقوله: (جَازَ) أي: الشراء. ومذهب ابن القاسم أنه من الثثل، خلافاً لابن الماجشون في كونه من رأس المال كما تقدم. وقوله: (وَعَتَقَ وَوَرِثَ) أي: من الثلث، وورث. وهذا مذهب ابن القاسم. وقد يقال: إرثه مشكل؛ لأن ما يخرج من الثلث إنما ينظر فيه بعد الموت، فإذن لا يتم العتق إلا بعد الموت، فكيف يرث وهو إنما حدث له شرط الميراث بعد الموت؟! ويجاب عنه بأنا لا نسلم أنه إنما يعتق بعد الوت، بل يعتق ناجزاً إذا كان له مال مأمون، أو يكون موته كشف أن العتق كان وجب له قبل موته؛ لحمل الثلث له، فلذلكورث. ابن القاسم: وإن لم يحمله الثلث عتق منه محمل الثلث، ولم يرث. وقال أصبغ: لا يرثه وإن حمله الثلث؛ لأنه لا تتم حريته إلا بعد موت الميت، إلا أن يكون للميت أموال مأمونة من عقار وغيرها فيرث ويورث. واخترا اللخمي عدم إرثه مطلقاً؛ لأنه إن لم يكن له مال مأمون لم يتم العتق إلا بعد الموت، وإن كان له مال مأمون كان ذلك إخراجاً للأول عن الميراث، أو عن بعضه إن كان ثَمَّ من يشركه. قال: وقد يستخف إرثه إذا كان ماله مأموناً؛ للاختلاف في تزويج المريض، وهو إدخال وارث. وللإشكال المتقدم استثقل ابن عبد الحكم في الموازية، قال: وكيف يرثه وهو لو أعتق عبداً لم تتم حريته حتى يقوم في الثلث بعد موت السيد، إلا أن يكون له مال مأمون؟! إلا أنه استسلم لقول مالك.

فإن قيل: فما الفرق [576/أ] على قول ابن القاسم بين هذا ونكاح المريض، والجامع بينهما إدخال وارث؟ قيل: سبب الولد مقدم، والزوجة طارئة. وقوله: (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ بُدِّيَ الابْنُ) يحتمل أن يريد: فإن اشترى مع الابن غيره ممن يعتق عليه- بُدِّي الابن. وعلى هذا مشَّاه ابن عبد السلام رحمه الله تعالى. ويحتمل أن يكون يريد: فإن كان مع الابن معتق غيره، كما لو أعتق عبداً له في مرضه، واشترى ابنه فأعتقه وقيتمه الثلث. قال في المدونة: فالابن مُبَدّى ويرثه، كما لو اشتراه صحيحاً. وهذا الثاني أرجح؛ لأن المسألة كذلك في المدونة والجواهر، قال في المدونة في تعليل بداية الابن: لأن مالكاً لما جعله وارثاً كان كمن اشتراه صحيحاً. ابن يونس: وفي هذا الاحتجاج نظر؛ لأنه إذا كان كعتق في الصحة فيجب أَنْ لو بتل عتق عبده واشترى ابنه أن الابن يُبدَّى، وفي ذلك رجوع عن التبتيل، وهو لا يقدر أن يرجع، وإنما الحجة فيه أنه لو بتل عتقه في مرضه؛ لأنه لو صح لم يكن له الرجوع فيه، وإنما ورثه استحساناً؛ لأنه لم يزل حراً من يوم اشترائه، ألا ترى أن المبتل في أحد القولين إذا اغتل غلة بعد التبتيل أنه يقوم وحده في الثثل، وكأن الغلة لم تكن ملكاً له من يوم التبتيل. انتهى. وتمشية ابن عبد السلام رحمه الله تعالى أظهر من جهة اللفظ، إلا أن النقل لا يساعدها على إطلاقها؛ لأنه إن كان واحداً بعد واحد، فإنه يبدى بالأول. وإن كان صقة فقال أشهب: على قياس قول مالك يتحاصان. وفي قوله: (بُدّيَ الابْنُ) فأعتقه وإن كان أكثر من الثلث، وورثه. ابن يونس: يريد على مذهب الذي يرى أنه يشتريه بجميع المال، إن لم يكن معه وارث. محمد: بل إن حمله الثلث بدئ به وعتق، وإن بقي من الثلث شيء عتق فيه الأخ أو ما حمل منه. وإن اشترى أخاه أولاً؛ فإن لم يحمله الثلث عتق منه محمل الثلث وعتق الابن في بقية

ماله، وورثه إن خرج كله، وإن لم يخرج كله لم يعتق منه إلا بقية الثلث بعد الأخ. وقاله أيضاً أشهب. وقال في رواية البرقي: إذا كانا في صفقة واحدة تحاصا. وقال ابن القاسم: إذا اشترى أخاه في مرضه عتق منه محل الثلث معجلاً ورق ما بقي، وإن صار إلى من يعتق عليه عتق بقيته. انتهى. وَلَوْ أَوْصَى بشِرَاءِ أَبيْهِ بَعْدَ مَوْتِه اشْتَرِيَ وَعُتِقَ مِنْ ثُلُثِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: وَأَعْتَقُوهُ لأن هذا هو مدلول الوصية عرفاً، ولا خلاف أنه لا يرث هنا شيئاً، وقوله: (بشراء أبيه) يريد: وكذلك كل من يعتق عليه، وفرضها في المدونة في الأب، وفي الموازية في الأخ. وَلَوْ أَوْصَى بعِتْقِ كُلِّ عَبْدٍ لَهُ مُسْلِمٍ لَمْ يُعْتَقْ إِلا مَنْ كَانَ مُسْلِماً يَوْمَ الْوَصِيَّةِ هذه مسألة المدونة، وأغفل المصنف رحمه الله تعالى منها: "وله عبيد مسلمون ونصارى" ولابد منه؛ إذ لو لم يكن في عبيده يوم الوصية مسلم، لدخل فيها من أسلم من عبيده أو اشتراه مسلماً. قاله محمد، ونصه في المدونة: وإن قال في وصيته: "إن مت فكل مملوك لي مسلم حر" وله عبيد مسلمون ونصارى، ثم أسلم بعضهم قبل موته لم يعتق منهم إلا من كان مسلماص يوم الوصية. واستشكلت المسألة لمخالفتها لما علم من أصلهم أن المعتبر في الوصية يوم تنفيذها، فيما يطلق عليه الاسم من الخروج من الثلث، ولهذا قال التونسي: لعله فهم منه إرادة عتق هؤلاء بأعيانهم، قال: وإن لم يكن له قصد في ذلك فالأشبه دخول من أسلم في الوصية على الأصل. واختلف فيمن اشترى من المسلمين بعد الوصية؛ فقال ابن القاسم: يدخلون، وقال أصبغ: لا يدخلون.

وَإِذَا أَوْصَى بنَصِيبِ ابْنِه أَوْ بمِثْلِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَالْوَصِيَّةُ بالْجَمِيعِ أَوْ بقَدْرِ مَا يَبْقَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ اثْنَانِ فَالنَّصْفُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلاثَةٌ فَالثُّلُثُ، وَعَلَى هَذَا. وَقِيلَ: يُقَدَّرُ زَائِداً ... يعني: إذا أوصى بنصيب ابنه أو بمثله فهما سواء. وهكذا ذكر ابن شاس. وفيه نظر. والخلاف إنما هو منقول إذا قال: "بمثل نصيب ابني" فقال مالك وابن القاسم وأشهب وأصبغ: إذا أوصى له بمال ابنه؛ فإن كان واحداً فقد أوصى له بجميع المال، إن لم يكن معه وارث، وإن كان مع الابن وارث فقد اوصى له بما يبقى للابن. وهذا معنى قوله: (فَالْوَصِيَّةُ بالْجَمِيعِ أَوْ بقَدْرِ مَا يَبْقَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ) وإن كان له ابنان فالوصية بالنصف، وإن كان له ثلاثة أولاد فالوصية بالثلث. (وَعَلَى هَذَا) أي: فإن كانوا أربعة فالوصية بالربع، أو خمسة فالوصية بالخمس. وأهل الفرائض يقدرونه زائداً؛ فإذا لم يكن له إلا ولد واحد فتكون الوصية له بالنصف، وإن كان له ابنان فالوصية بالثلث. والمشهور أقرب إلى لفظ الموصي، والشاذ أقرب إلى قصد الموصي عرفاً؛ إذ القصد من ذلك عرفاً إنما هو التشبيه لا إحرام الوارث. أما إذا قال: "له نصيب ولدي" فنص أبو الحسن على أن الفرضيين يوافقون مالكاً، وعلى هذا فلا يقدر زائداً باتفاق، ونحوه لابن عبد السلام. وقال اللخمي: وإذا خلف الميت ثلاثة من الولد وأوصى لرجل بمثل نصيب أحد بنيه كان له الثلث، وإن كانوا أربعة فالربع، أوخمسة فالخمس، وهذا قول مالك. وقال ابن أبي أويس في ثمانية أبي زيد: له السدس إذا كانوا خمسة. وإن قال: "أنزلوه منزلة أحد ولدي، أو اجعلوه كأحدهم" كان له السدس قولاً واحداً. وكذلك إذا قال: "له نصيب أحد ولدي" ولم يقل: مثله. انتهى.

فانظر قوله: (وكذلك) هل أراد التشبهي بالجملة الأخيرة المتفق عليها فيكون عكس كلام أبي الحسن، أو أراد التشبيه بالخلاف فيكون موافقاً لكلام المصنف، ويكون ناقضاً لكلام أبي الحسن، أو يكون تشبيهاً لقول مالك [776/ب] الأول فقط؟ ولا إشكال على القولين أن للورثة ألا يجيزوا ما زاد على الثلث. وَفِي: "أَلْحِقُوهُ بوَلَدِي، أَوِ اجْعَلُوهُ وَارِثاً مَعَ وَلَدِي" وَشِبْهِهِ-يُقَدَّرُ زَائِداً باتِّفَاقٍ يريد بـ (شِبْهِهِ) فلان من عدد ولدي، أو وارث مع ولدي، أو ألحقوه بميراثي، أو ورثوه من مالي نص عليه محمد. فرع: واختلف إذا أوصى بمثل أحد نصيب بنيه، وترك رجالاً ونساء على أربعة أقوال: الأول قول مالك: يقسم المال على عدد رؤوسهم، الذكر والأنثى سواء، ويعطي حظ واحد منهم ثم يقسما بقي على فرائض الله عز وجل. لكن إنما فرض المسألة في المدونة إذا قال: له نصيب أحد ورثتي. الثاني: أنه كرجل من ولده. الثالث: أنه يزاد سهم على السهام ويكون له. وقال ابن زياد: يكون له نصف نصيب رجل، ونصف نصيب أنثى. هكذا حكى ابن زرقون هذه الأقوال. والمعتبر هنا في عدد الأولاد من كان موجوداً يوم موت الوصي، ولا ينظر إلى من زاد فيهم بعد الوصية ولا من مات. رواه أشهب عن مالك. ابن القاسم: وإن أوصى بمثل نصيب أحد ولده ولا ولد له، وجعل يطلب الولد فمات ولم يولد له فلا شيء للموصى له.

الولاء

وَلَوْ أَوْصَى بمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ فَلَهُ جُزْءٌ مُسَمّى بعَدَدِ رُؤُسِهِمْ تصوره ظاهر؛ فإن كان عدد ورثته عشرة فله العُشْرُ، أو تسعة فله التُسْعُ، ولا التفات إلى اختلاف ما يستحقه كل واحد. وَإِذَا أَوْصَى بجُزْءٍ أَوْ بسَهْمٍ فَقِيلَ: سَهْمٌ مِنْ فَرِيضَتِهِ، وَقِيلَ: الثُّمُنُ، وَقِيلَ: السُّدُسُ، وَقِيلَ: الأَكْثَرُ مِنْهُمَا ... يعني: أنه اختلف إذا أوصى بجزء أوسهم على أربعة أقوال: الأول لأصبغ: أن له سهامً مما تنقسم عليه الفريضة من غير وصية، قَلَّت السهام أو كثرت. واختاره ابن عدب الحكم ومحمد، وذكر أن عليه جل أصحاب مالك. والثاني لأشهب: له الثمن؛ لأنه أقل سهم ذكره الله تعالى من الفرائض. والقول الثالث: أنه يعطى السدس، ورأى أنه أقل السهام، والثمن إنما يستحق بالحجب. والقول الرابع: أنه له الأكثر منهما؛ أي: من السدس أو الثمن، وسهم من سهام الفريضة. وَنَقَّصَ المصنف من هذا القول؛ لأن الذي نقله صاحب النوادر وغيره أن في المسألة قولاً بأنه يعطى سهماً من سهام الفريضة ما لم يَزِد على الثلث فَيَرُدُّهُ الورثة إلى الثلث، أو يَنقُصُ عن السدس فلا يُنقَصُ من السدس؛ لأنه أصل ما تقوم منه الفرائض. وعلى القول بأنه يعطى سهماً من سهام الفريضة فلو كان أصل المسألة من ستة وهي تعول إلى عشرة- فله سهم من عشرة، وقيل: يعطى سهماً ما لم يزد على الثلث، وما لم ينقص عن السدس.

ابن القاسم: يعطى سهماً من الفريضة، فإن لم يكن له وارث أعطي الثلث. ومثله لأشهب إلا أنه قال: إذا لم يكن له وارث أعطي الثمن. وَلَوْ أَوْصَى بضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِه فَلا نَصَّ، فَقِيلَ: مِثْلُهُ، وَقِيلَ: مِثْلاهُ أي: لا نص عن مالك وأصحابه المتقدمين، وهكذا قال القاضي أبو الحسن: لست أعرف حكمها منصوصاً، غير أني وجدت لبعض شيوخنا: أنه مثل نصيب ولده مرة واحدة، فإن قال: ضعفين، فمثل نصيبه مرتين. ثم حكى عن أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما أنهما يقولان ضعف النصيب: مثله مرتين، قال: وهو أقوى من جهة اللغة. انتهى. وفيه نظر؛ ففي الجوهري: ضِعف الشيء: مثله، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله. نعم هو أقوى من جهة العرف، وانظر كيف عده المصنف قولاً، وإنما أشار ابن القصار رحمه الله تعالى إلى قوته فقط من جهة اللغة. وَلَوْ أَوْصَى بمَنَافِعَ عَبْدٍ وُرِثَ عَنِ الْمُوصَى لَهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، أَمَّا إِذَا بَيَّنَ الْمُوصِي أَحَدَهُمَا أُتْبِعَ ... أي: إذا أوصى بمنافع عبد لفلان، وأطلق ولم يقيدها بِأَجَلِ ولا بحياة الموصى له ولا بحياة العبد فحمله ابن القاسم في المدونة على ظاهره من حياة العبد؛ فلذلك إذا مات الموصى له يكون لورثته ما بقي من خدمته. قال في المدونة: إلا أن يستدل من قوله أنه إنما أراد حياة المُخدَمِ. وحمله أشهب على مدة حياة الموصى له، ورأى ان الموصي لو أراد ما قاله ابن القاسم لكانت عطية للرقبة، والفرض عدمه.

واختار اللخمي وغيره الأول؛ لأن الأصل حمل الكلام على حقيقته، وما اعتقد أنه مانع فليس بمانع؛ لأنه يصح بقاء الرقبة على ملك ربها للجناية وانتزاع المال، أو ليرى صنيعه فيه، أو ببقيه في يده كالحبس لئلا يتلفه. أما لو بين الموصي أحدهما-أي: حياة العبد أو حياة فلان- فإنه يتبع، ولا خلاف فيه. ابن المواز: ولو قال في وصيته: يخدم عبدي لاناً، ثم مات ولم يكن وقَّتَ وقتاً فليس بين أصحابنا اختلاف عَلِمْتُهُ أن ذلك حياة الْمخدَمِ، قال: وهو إن شاء الله قول ابن القاسم وأشهب. وَلَوْ وَقَّتَهُ بزَمَانٍ مَحْدُودٍ كَانَ لِلْوَارِثِ فِي بَيْعِهِ مَا فِي الْمُسْتَاجَرِ يعني: ولو وقت الموصي الانتفاع. وأعاد رحمه الله تعالى الضمير على ما فهم من قوله: (بمنافع عبد) (بزمان محدود) فأراد وارث الموصي بيعه واستثناء المدة الموصى بها فإن لهم في بيعة ما للمالك في العبد المؤجر. فإن كانت المدة قريبة، او ما بقي منها قريب كاليومين جاز، وإن كانت بعيدة فليس لهم ذلك. وقوله: (الْمُسْتَاجَرِ) هو بفتح الجيم اسم مفعول. واحترز بالزمان المحدود مما لو أوصى بخدمته أبداً، أو إلىمر أحدهما فإن الوارث حينئذٍ لا يملك بيعه. ويحتمل أن يريد المصنف رحمه الله تعالى: كان لورثة الموصى له ما كان للمستأجر - بكسر الجيم- ويكون على هذاشبه بالمستأجر؛ تنبيهاً على الجواز في مسألة الوصية؛ لأن كثيراً من المخالفين منعوا البيع في الوصية ووافقوا عليه في مسألة الاستئجار. ثم هذه المسألأة على هذا الوجه مقيدة بغير عبد الحضانة، ففي المدونة: وإن أخدمت عبدك رجلاً أجلاً مسمى فمات السيد قبل انقضاء الأجل-خدم العبد ورثته [777/أ] بقية الأجل إذا لم يكن من عبيد الحضانة والكفالة، وإنما هو من عبيد الخدمة.

واحترز (بزَمَانٍ مَحْدُدٍ) مما لو وَقَّتَهُ بزمان غير محدود، كما لو أخدم رجلاً حياته عبداً. قال في المدونة: فليس له أن يبيع من خدمته إلا مدة قريبة كسنة أو سنتين قال: أو أمداً مأموناً، ثم فرق بينه وبين ما أجازه مالك رحمه الله تعالى من كراء العبد عشر سنين بأن السيد إذا مات لزم وارثه بقية المدة في الكراء، بخلاف المخدم يموت فإنه يرجع لورثة المالك. فإن قلت: الحمل الثاني أقرب لموافقته للمدونة. قيل: لا نسلم ذلك، ب ل الأول أقرب لكلامه؛ أما أولاً: فلأن المسألة في الجواهر عليه، ويغلب على الظن اتباع المصنف له. وأما ثانياً: فلقول المصنف رحمه الله: (بَيْعِهِ) وظاهره: بيعه بنفسه لا بيع منافعه. وأما ثالثاً: فلأنه يكون أخل بتقييده المسألة كما تقدم. وأما رابعاً: فلأن الورثة في المسألة التي بعد هذه ورثة الموصي، فالمناسبة تقتضي حمل الوارث في المسألتين على شيء واحد وهو قوله: فَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ عَمْداً فَلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ أَوْ الْقِيمَةُ، وَلا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ يعني: لو قُتِلَ العبد الموصَى بخدمته عمداً فلوارث الموصي القصاص أو أخذ القيمة؛ لأنه المالك للرقبة، ولا كلام للموصَى له؛ لأن حقه إنما كان في المنفعة وقد ذهبت. وقيده بالعمد وإن كان الخطأ مساوياص له في وجوب القيمة؛ لقوله: (الْقِصَاصُ) والخطأ إنما فيه القيمة فقط، والقصاص مخصوص بما إذا كان قاتل العبد مكافئاً له، وأما لو كان قاتله حراص فتتعين القيمة كالخطأ. سحنون: ولم يختلف في هذا قول مالك، واختلف فيه قول أصحابه. وقال محمد: لميختلف فيه قول مالك ولا أصحابه، وإنما اختلف قول مالك وأصحابه في الذي أخدم رجلاً سنة، ثم رجع لفلان بتلاً فقبضه المخدم، ثم قُتِلَ في الخدمة، هل لصاحب البتل أو للسيد؟

وصحح الأكثرون كلام سحنون؛ لأنه عدل حافظ فيقدم، ولأن المغيرة خالف في ذلك نصاً وأوجب أن يُستَاجَر من قيمة العبد من يخدم الموصى له إلى تلك المدة، إن كان في القيمة وفاء بذلك، حتى أجرى بعضهم من هذا الخلاف خلافاً فيمن أعار رجلاً ثوباً مدة فاستهلكه أجنبي قبل الأجل، وهو مما ينقصه اللبس. وخرج الخلاف إذا استهلكه ربه من الخلاف إذا أخدم السيد أمته رجلاً ثم وطئها سيدها فحملت. وهي في آخر كتاب أمهات الأولاد من المدونة. وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى الْعَبْدُ فَأَسْلَمَهُ الْوَرَثَةُ، أَمَّا لَوْ فَدَوْهُ اسْتَمَرَّ يعني: فإن جنى العبد الموصى بخدمته على غيره خير وارث الموصي بين أن يفديه أو يسلمه. فإن فداه بأرش الجناية استمر على خدمة الموصى له إلى انقضاء الأجل، وإن أسلموه في الجناية بطل حق الموصى له في الخدمة. هذا ظاهر كلام المصنف وابن شاس، وهو خلاف النقل؛ لأنه لا يبطل حق الموصى له بمجرد إسلام الورثة، ب ل يخير الموصى له بعد ذلك في فدائه أو إسلامه. وما ذكرناه من البداية بتخيير الورثة هو الذي رجع إليه مالك، وكأن أولاً يقول: يبتدأ بتخيير المخدم؛ إذ لا تخيير لصاحب الرقبة إلا بتمامها، فإن فداه خدمة بقية الأجل ثم لا يكون لصاحب الرقبة إليه سبيل حتى يعطيه ماافتكه به، وإلا كان للذي فداه رقاً. وإن أسلمه المخدم سقط حقه، وقيل لصاحب الرقبة: أسلمه أو أفتكه! فإن أٍلمه استرقه المجني عليه. وإن فداه صار له وبطلت الخدمة، واختاره سحنون. واختار أشهب قولاً ثالثاً؛ وهو أن يكون فيه كالشريكين؛ يقوم ربع رقبته، فإن قيل: عشرة دنانير قومت خدمته أيضاً، فإن كانت أيضاً عشرة دنانير صار حقهما فيه سواء النصف والنصف.

فإن فدياه جميعاً دفع كل احد منهما نصف دية الجرح، وكان العبد على حاله. وإن أسلماه رق للمجني عليه. وإن افتكه أحدهما بنصف دية الجرح وأسلم الآخر، فإن أسلم المخدم لم يكن للمجني عليه غير بقية الخدمة، وإن أسلمه صاحب الرقبة كان للمجني عليه بعد الخدمة. واختار أصبغ قول مالك الذي رجع إليه. فإن قيل: هذا الخلاف إنما هو في الموهوب خدمته مدة، والمصنف رحمه الله إنما كلامه في الموصى بخدمته. قيل: هما سواء؛ لأن الوصية بعد الموت لازمة لزوم الهبة في الحياة، ويدلك على ذلك أن سحنون سأل ابن القاسم في المدونة عن مسألة الموصى بخدمته فأجابه بمسألة العبد الموهوب خدمته. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مَاشِيَةً أَوْصَى بنِتَاجِهَا لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ أي: يجوز بيع الوارث ماشية قد أوصى الميت بنتاجها لرجل معين أو غيره، ويستثنى النتاج الموصى به. وعلل الجواز ببقاء بعض المنافع؛ يعني: من الصوف واللبن، وهكذا في الجواهر. ابن عبد السلام وغيره: وهو خلاف المذهب؛ إذ لا يجوزبيع الأمهات واستثناء الأجنة، فكيف بما لم يخلق؟ ّ ففي العتق الثاني من المدونة: والذي يعتق مافي بطنها في صحة السيد لا تباع وهي حامل، إلا في قيام دين استحدثه قبل عتقه أو بعده، فتباع إذا لم يكن مال غيرها، ويرق جنينها؛ إذ لا يجوز استثناؤه. ونقل اللخمي عن ابن حبيب جواز بيعها واستثناء جنينها؛ فيكون حراً. ولعل ما ذكره المصنف هنا يتمشى على قول ابن حبيب.

وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَالِ الْمَوْجُودِ يَوْمَ الْمَوْتِ وَلَوْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ أي: كون الموصى به؛ لأنه يتكلم فيه. ولما كانت الوصية إنما تخرج من الثلث بَيَّنَ المصنف أن المعتبر أن يكون ثلث المال [777/ب] يوم مات، ولا يعتبر ثلث المال يوم الوصية؛ سواءٌ كانت الوصية في المرض أو في الصحة؛ لأن الوصية عطية بعد الموت يجوز الرجوع عنها في الحياة، فلا يصح الالتفات فيها إلى يوم الوصية. ابن عبد السلام: وهذا خلاف المهذب، فإن المعتبر على المذهب في الوصية أن تخرج من الثلث يوم تنفيذ الوصية لا يوم الموت؛ حتى لو كانت الوصية يسعها الثلث يوم الموت فطرأت على المال جائحة أذهبت بعضه فصارت لا يسعها ثلث ما بقي كان حكمها يوم القسمة حكم من أوصى بأكثر من الثلث، ولا أعلم في ذلك خلافاً في المذهب إلا في فروع يسيرة لا يتأتى منها إطلاق الخلاف في أصل المسألة. خليل: وقد يجاب عن المصنف بأن قوله: (يَوْمَ الْمَوْتِ) بمعنى: يوم التنفيذ؛ لأنه إذا هلك شيء من التركة بسماوي فهو من الموصى له والورثة، فكان لا فرق بين كون الموصى له الثلث يوم الموت أو يوم التنفيذ، ولو أتلف الورثة بعض المال قبل تنفيذ الوصية لكان الإتلاف منهم، وكان للموصى له الثلث كاملاً، فكان قول المصنف: (يَوْمَ الْمَوْتِ) أحسن. وأعاد ابن راشد رحمه الله تعالى الضمير في: (كونه) على العبد المخدم، وهو بعيد. وَلا مَدْخَلَ لِلْوَصِيَّةِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ إِرْثِ، وَلا فِيمَا أَقَرَّ بهِ- وَلَوْ فِي مَرَضِهِ- مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَوْصَى بهِ لِوَارِثٍ وَلَوْ رُدَّ، بخِلافِ الْمُدَبَّرِ فِي الْمَرَضِ وَمَا يَرْجَعُ إِلَيْهِ مِنْ تَعْمِيرٍ وَحَبْسٍ. وَفِي الْعَبْدِ الآبقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ إِنْ اشْتَهَرَ مَوْتُهُمَا ثُمَّ ظَهَرَتِ السَّلامَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ قَوْلانِ، كَغَرَقِ السَّفِينَةِ، بخِلافِ الْمُدَّبَرِ فِي الْمَرَضِ ... يعني: أن وصايا الميت لا تدخل إلا فيما علم به الميت؛ لأن الميت لم يرد ما لم يعلم به، وهذا هو المعروف. وقال اللخمي والمتيطي: اختلف في ذلك، واختار اللخمي التفصيل؛

فلا يدخل الموصى لهم فيا لم يعلم به، بخلاف الكفارات والزكوات؛ لأن قصده فيهن براءة الذمة. قوله: (وَلا فِيمَا أَقَرَّ بهِ) أي: ولا دخول للوصايا فيما أقر به الموصي لغيره وهو يظن أن إقراره عامل، وحكم الشرع بإلغائه، كما لو أقر بدين لمن يتهم عليه، أو أقر أنه كان أعتقه في صحته أو تصدق به. وبالغ بقوله: (وَلَوْ فِي مَرَضِهِ) لأنه إذا لم يعد فيالمرض الذي يتوهم فيه الرد، فأولى إذا كان في الصحة لكن رد لسبب. وقوله: (أَوْ أَوْصَى بهِ) أي: ولا مدخل للوصايا فيما أوصى به للوارث ولو رَدَّ الوارث- الموصى له-الوصية؛ لاعتقاد الميت أن الموصى به ليس من ماله، بخلاف المدبر في المرض فإنه يدخل فيما لم يعلم به، وفيما أقر به ورد، وفيما أوصى به لوارث ورد، وهو أحد القولين. لكن الذي ثبت عليه ابن القاسم أنه لا يدخل المدبر في المرض فيما لم يعلم به. وهذان القولان أيضاً في المبتل في المرض. عياض: والذي حَمَلَ عليه المدونة محققو الشيوخ أنهما لا يدخلان فيما لم يعلم. وحُكِيَ في المقدمات ثالثاً بدخول المدبر في المرض فيما لم يعلم دون المبتل، وهو بعيد. وعكسه أظهر. أما مدبر الصحة فالذي رجع إليه مالك وثبت عليه أنه يدخل فيما علم به وما لم يعلم. ويستفاد من كلامه دخول المدبر في الصحة من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا دخل المدبر في المرض فيما لم يعلم به، فأحرى مدبر الصحة. والفرق على ظاهر المذهب بين المدبر في المرض في كونه لا يدخل فيما لم يعلم به، بخلاف المدبر في الصحة-أن الصحيح قصد عتقه من مجهول؛ إذ قد يكون بين تدبره ومته السنون الكثيرةن بخلاف المريض فإنه يتوقع الموت من مرضه وهو عالم بماله، فإنما يقصد أن تجري أفعاله فيما علمه.

أما لو صح المريض ثم مات فهو كالمدبر في الصحة. وصداق المنكوحة في المرض كالمدبر في الصحة. وحيث حكمنا للمدبر بدخوله فيما لم يعلم به الميت فاختلف: هل يدخل فيما علم به الميت وما لم يعلم به دخولاً واحداً، أو يبدأ بما علم به؟ فإن بقيت من المدبر بقية لم يسعها ثلث ما علم به تممت من ثلث ما لم يعلم به. وتظهر ثمرة هذين القولين عند ضيق الثلث عن الوصايا. وما تقدم من حَمْلِ قوله: (بخِلافِ الْمُدَبَّرِ) على ما ذكرناه هو حَمْلِ ابن عبد السلام وغيره. خليل: والأقرب أن يحمل على أن المدبر في المرض تدخل الوصايا فيه إذا بطل بعضه، ويدل على ذلك قوله (وَمَا يَرْجَعُ إِلَيْهِ مِنْ تَعْمِيرٍ وَحَبْسٍ). وهذا الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر؛ لأنه قال في كتاب محمد- وفي المجموعة نحوه-: قال مالك وأصحابه: لا تدخل وصايا الميت لا في ثلث ما علم به من ماله، ولا تدخل في كل ما بطل فيه إقراره في المرض لوارث، وما أقر به في مرضه أنه كان أعتقه في صحته أو تصدق به أو أوصى به لوارث فرده الورثة. وأما ما كان يعلمه مثل المدبر في المرض، وكل دار ترجع بعد موته من تعمير أو حبس فهو من ناحية التعمير- فالوصايا تدخل فيه؛ فيرجع فيه ما ينقص من وصيته ولو بعد عشرين سنة، وكذلك ما رجع بعد موته نم عبد آبق أو بعير شارد، وإن كان أيس منه. وأما إن اشتهر عنده وعند الناس غرق السفينة وموت عبده، ثم ظهرت سلامة ذلك بعد موته فروى أشهب فيه عن مالك قولين: فمرة قال: لاتدخل فيه الوصايا. ومرة قال: تدخل، وقد ينعى إليه العبد وهو يرجوه.

هذا كله فيما عدا المدبر في الصحة، فإنه يخرج مما علم به ما لم يعلم به. انتهى. وبه ظهر بقية كلام المصنف، وظهر أن معنى قوله: (وَحبْسٍ) الحبس الذي بمعنى الْعُمْرَى، وأما الحبس المطلق فلا يرجع إليه أصلاً. وقوله: (كَغَرَقِ السَّفِينَةِ) تشبيه لإفادة الحكم؛ لأنه قد تبين أنه منصوص في الجميع. الصِّيغَةُ [778/أ] كُلُّ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ يُفْهَمُ مِنْهَا قَصْدٌ الْوَصِيَّةِ هذا هو الركن الرابع، ومعناه: أنه لا تتوقف صيغة الوصية على لفظ خاص، بل هو كل ماي فهم منه قصد الوصية، وكذلك الإشارة. قال في الموازية: وإذا قرأ الشهود الوصية على الموصي، وقالوا: أتشهد أنها وصيتك؟ فقال: نعم، أو قال برأسه: "نعم" ولم يتكلم فذلك جائز. ابن شعبان: وإذا مُنِعَ المريض من الكلام وأشار إشارة مفهومة جاز أن يشهدوا بها عليه بمنزلة الأخرس. وتُعُقِّبَ عليه تفسير الصيغة بالإشارة. وأجيب بأن المراد بالصيغة: مايدل على مراد المتكلم، ويكون استعمال الصيغة في هذا المعنى مجازاً، أو حقيقة عرفية. وَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ التَّشَهُّدِ أي: يستحب لمن كتب وصية أن يقدم ذكر التشهُّد قبل الوصية. قال في المدونة: كذلك فعل الصالحون، وما زال ذلك من عمل الناس بالمدينة، وأنه ليعجبني وأراه حسناً. وروى أشهب في المجموعة: كل ذلك لا بأس به، تشهَّد او لم يتشهَّد، وقد تشهَّد ناس فقهاء صالحون، وترك ذلك بعض الناس رضي الله عنهم، وذلك قليل. ابن القاسم: ولم يذكر لنا مالك كيفيته. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كانوا يوصون أنه يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم إن كانوا مسلمين، وأوصى بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب (يَبَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الْدِينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132]. وروى أشهب: أن رجلاً كتب في وصيته: أو من بالقدر خيره وشره حلوه ومره. فقال: ما أرى هذا إلا من الصفريةوالإباضية! قد كتب من مضى وصاياهم فلم يكتبوا مثل هذا. وَلَوْ ثَبُتَ أَنَّهَا خَطُّهُ، بَلْ لَوْ أَقْرَأَهَا لَمْ تُفِدْ مَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا أي: لو وجدت وصية مكتوبة وشهد عدلان أنها خطه، فقال مالك في العتبية والمجموعة: لا تجوز حتى يشهدهم عليها، وقد يكتب ولا يعزم. قال في الموازية: بل لو قرأها لم يفد حتى يُشهِدَ عليها. نقله صاحب النوادر. ابن يونس عن الموازية: وإذا أتى الشهود بوصية وقرأها عليهم لم يفد. وقيد عياض ما تقدم من أنها إذا وجدت بخطه لا تنفذ بما إذا كتبها ليُشهد فيها، قال: وأما إذا كتبها بخطه وقال: إذا مت فلينفذ ما كتبت بخطي فلينفذ ذلك إذا عرف أنها خطه كما لو أشهد. انتهى. وانظر قوله: "وقال: إذا مِتُّ" هل المراد: شهد على قوله من غير خطه، أو المراد أنه وجد ذلك بخطه وشهد عليه؟ والأول أقرب إلى حقيقة اللفظ؛ إذ القول حقيقة إنما هو في الملفوظ به. وَلَوْ أَشْهَدَ وَلَمْ يَقْرَاهَا فَلْيَشْهَدُوا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ إِذَا عَرَفُوا الْكِتَابَ بعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَخْتُوماً ... قال في المدونة: وإن كتبها بغير محضر البينة ولا قرأها عليهم فدفعها إليهم وأشهدهم على ما فيها، فإن عرفوا الكتاب بعينه فليشهدوا بما فيه.

قال عنه ابن وهب: ولو طبع عليها ودفعها إليهم وأشهدهم على أن ما فيها منه، وأمرهم ألا يفضوا خاتمه حتى يموت- جاز أن يشهدوا بما فيه بعد موته. قال في البيان: وعلى رواية ابن وهب ليس للشهود أن يشهدوا إلا أن تكون الوصية عندهم. قال غير واحد: ورواية ابن القاسم يحتمل أن تكون كذلك، فتكون وفاقاً لرواية ابن وهب، ويحتمل أن يجيز عليها الشهادة ولو رجعت إليه، فيكون خلافاً. قاله عياض وغيره. وقال أشهب: لا يشهد إذا لم يكن الكتاب عنده وشك في طابعها، إلا ألا يشك في الطابع. وقال عبد الملك: ذلك إذا كانت بطابع الشاهد، وأما بطابع الميت فلا؛ لأنه قد يزيد فيها ثم يعيد طبعه. وذهب بعض الشيوخ إلى تصويب هذا كله وجواز الشهادة به ولو زاد فيه؛ لأنه إنما أشهدهم على ما فيها وعَيَّنَها، فكأنه أشهدهم على ما يزيد فيها ويستقر عليه أمرها. وإليه نحا اللخمي. وقال غيره: متى كان فيها بياض قبل الطبع فلا يشهد؛ إذ لا يصح أن يشهد بما لميكتب بعد. وإليه أشار أبو عمران، صاحب البيان: والذي استحسنه الشيوخ ومضى عليه عمل الناس انه إذا طوى الكتاب من أوله إلى موضع الإشهاد على نفسه وطبعه، وقد أبقى الإشهاد على نفسه خارج الطبع، وكتب الشهود شهادتهم على ذلك، وأمسك الموصي الوصية عند نفسه، فوجدت بد موته خطأ واحداً وعملاً على صفة التقييد الذي كان خارج الطبع، ولم تظهر في

الكتاب ريبة- جاز للشهود أن يشهدوا عليه، بخلاف ما إذا لم يبقَ من الكتاب خارج الطبع ما يستدل به على أن الوصية كانت مكتوبة على بياض. وذكر عن الحسن وأبي قلابة أنهما كرها الشهادة في الوصية، حتى يُعلم ما فيها؛ لأنه لا يدري لعل يها جوراً، قال: ولذلك يستحب للعالم إذا أشهده المتعاملان على أنفسهما في ذكر الحق بما تعاملا فيه ألا يكتب شهادته فيه، إذا أشهداه على أنفسهما بما تضمنه حتى يقرأه؛ لئلا تكون المعاملة فاسدة. ابن عبد السلام: ولعل ما استحبه للعالم لا يخالف ما ذكره الباجي في وثائقه: أن للشاهد أن يضع شهادته، وليس عليه أن يقرأ الكتاب كله، إلا في عقود الاسترعاء، فإنه يلزمه فيها قراءة جميعها؛ لأنه يخبر عن جميعها أنها في علمه. وقال اللخمي: لا يخلو أن يقر وصيته عنده، أو يودعها أو يسلمها إلى البينة لتكون عندهم، وهي في كل ذلك مختومة أو غير مختومة؛ فإن كانت عنده فأخرجت بعد موته وكانت غير مختومة، وعلمت البينة أنه الكتاب [778/ب] بعينه وليس فيه محو ولا لحق- قبلت شهادتهم، وإن كان فيها محو أو لحق لا يغير ما قبله ولا ما بعده لم يثبت ذلك المحو ولا اللحق ويثبت ما قبله. وإن شك هل يغير ما قبله أو يغير موضعاً منها؟ لم ينفذ منها ذلك الموضع خاصة وأنفذ ما سواه. وأما إن أودعها وجعلها بيد أمين فإنها تنفذ ولم تبطل لما فيها من محو أو لَحْقٍ؛ لأن الميت جعله أميناً عليها، وهو بمنزلة من قال: صدقوا فلاناً فيما يقول: أنه أوصى به. وإن أسلمها للبينة فجعلاها في موضع وأغلقا عليها فكذلك. وقال أشهب في الموازية: إن غاب عليها أحدهما، فأجوزهم شهادة من كانت عنده. مالك: ولا أدري كيف يشهد الآخرون.

وقال أشهب: يشهدون بمبلغ علمهم، ويحملون على ما تحملوا. اللخمي: ولا أدري أن تجوز إلا أن يعلموا أنه الكتاب بعينه؛ بعلامة أو بغير ذلك مما يتيقن أنه كان مختوماً. فرع: أصبغ: سألت ابن وهب عن امرأة أوصت وَدَعَتْ شهوداً فقالت: "هذه وصيتي، وهي مطبوعة، اشهدوا عليَّ بما فيها لي وعلي، وقد أسندتها إلى عمتي، وما بقي من ثلثي فلعمتي" ثم ماتت ففتح الكتاب فإذا فيه: "ومابقي من ثلثي فلليتامى والمساكين والأرامل" قال: أرى أن يقسم بقية الثث بين العمة وبين الصنوف الآخرين نصفين بالسواء كما لو كانت لرجلين. قال: وسألت نها ابن القاسم فقال مثله سواء. وَلَوْ قَالَ: "كَتَبْتُ وَصِيَّتِي وَجَعَلْتُهَا عِنْدَ فُلانٍ فَصَدِّقُوهُ" صُدِّقَ هكذا في المدونة، ولكنه زاد قبل قوله: (فَصَدِّقُوهُ) "فأنفذوها". ورأى المصنف رحمه الله تعالى أن قوله: (صدقوه) يغني عن قوله: (أَنْفِذُوهَا) وهو ظاهر، ونحوه لأبي الحسن رحمه الله تعالى. وقال فضل: لو لم يقل: "أنفذوها" وإنما قال: "وصيتي عند فلان" فلا يمضي منها شيء حتى يقول: أنفذوها. وقوله: (صُدِّقَ) قال ابن القاسم: بشرط أن يكون عدلاً. وعنه أيضاً: يقبل وإن كان غير عدل، وهو قول سحنون وقول مالك في الواضحة. قيل: وهو ظاهر المدونة، واختاره التونسي واللخمي؛ لأن الميت ائتمنه وأمر أن يقبل قوله، ولأنا لو لم نقبل قوله أدى إلى إبطال الوصية مع علمنا أن الميت مات عن وصيته.

وَلَوْ قَالَ: "أَوْصَيْتُ فُلاناً بثُلُثِي فَصَدِّقُوهُ" صُدِّقَ هكذا في المدونة، وهو يدل على أن قوله في المسألة السابقة: (وأنفذوها) ليس بشرط، ومعنى (أوصيت له بثلثي) أجزته بما صنع. فَلَوْ قَالَ الْوَصِيُّ: "لابْنِي" لَمْ يُصَدَّقْ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُصَدَّقُ الأول لابن القاسم في المدونة، واستشهد عليه بقول مالك فيمن أوصى أن يَجْعَلَ فلان ثلثه حيث يراه، فإنه إن أعطاه لولد نفسه أو لوارثه فلا يجوز إلا أن يظهر لذلك وجه يظهر صوابه. واستحسن بعضهم قول أشهب، وفرق بين المسألة وما قاس عليه ابن القاسم بأن مسألة مالك أحال الموصي فيها على نظر الوصي، وصواب ذلك النظر، وخطؤه يظهر للناس. فإذا أعطى لولد نفسه وشبهه ظهر خطؤه وتهمته فيرد، بخلاف مسألة النزاع بين ابن القاسم وأشهب؛ أحال الميت فيها على اختيار الوصي، وذلك أمر لا يعلم إلا من جهة الوصي، ولا يظهر فيه صواب ولا خطأ. أشهب: في الموازيةوالمجموعة بإثر الكلام الذي ذكره المصنف عنه: وليس هو مثل الذي يشهد لابنه، ولا مثل الذي يوصي إلى فلان أن يجعل ثلثه حيث يراه- فيجعله لنفسه أو لابنه، وهذا ليس له ذلك؛ لأنه فوض إليه ليجتهد، ولو أعطاه لابنه أو أقاربه كما يعطي الناس حسبما يستحق لجاز، وأكره أن يأخذ منه شيئاً، فإن فعل حسب استحقاقه لم آخذه منه. وقاله ابن القاسم وقال: فإن قال: "لولدي أوصي به" جَعَلْتُهُ كشاهد له، وكمسألة مالك إذا قال: فلان يجعل ثلثي حيث يراه. محمد: قال مالك في هذه: إنه لا يأخذ هو منه، وإن كان محتاجاً، وإن أعطى منه ولده وكان موضعاً جاز.

وقال مالك في المجموعة في الذي أوصى أن يجعل ثلثه حيث يراه: أرى أنه لا يجوز أن يعطي ذلك أقارب الميت، ولكن يعطيهم كما يعطي الناس. مالك: وإن كان قد علم حين أوصاه أن يجعل ثلثه حيث يراه الله تعالى أنه أراد أن يرده على بعض الورثة- فلا يجوز، وليرجع كله ميراثاً. وَلَوْ قَالَ: "اشْهَدُوا أَنَّ فُلاناً وَصِيِّ" وَلَمْ يَزِدْ كَانَ وَصِيّاً فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ وَفِي إِنْكَاحِ صِغَارِ الذُّكُورِ وَبَوالِغِ الإِنَاثِ بإِذْنِهِنَّ ... هكذا في المدونة. وفي الموازية: وإن قال: فلان وصيي قد بالغ في الإيصاء، ويكون وصياً على كل شيء. وفي المجموعة مثله ولا أعلم فيه خلافاً. ابن رشد: الإيصاء والوكالة إذا قصرا طالا، وإذا طالا قصرا؛ أي: إذا طول بالتنصيص على أشياء اقتصر عليها. وقوله: (صغار بنيه) يدخل فيه الحفدة. وفي دخولهم خلاف إذا كان الأب محجوراً عليه. محمد: وإن قال وصيت وصيي على مالي دخل فيه الولد. وإن قال: "على ولدي" دخل المال. ويدخل في قوله: "على ولدي" الذكران والإناث إلا أن يخص فيقول: الذكران، أو بناتي. وقد تقدم الكلام في الناكح على جبر الوصي الصغارَ والإناث. وَلَوْ قَالَ: "وَصِيِّي عَلَى كَذَا" خُصِّصَ، وَرُوِيَ: كَالطَّلاقِ الأول: مذهب المدونة والمشهور، وهو الظاهر؛ لأن الوصي يتصرف [779/أ] بالنيابة فلا يتعدى نظره الوجه الذي أذن له فيه كالوكيل. والرواية بأن ذلك كالإطلاق ذكر ابن شاس أن ابن عبد الحكم رواه، ونقله صاحب المعونة.

لَوْ قَالَ: "وَصِيِّي حَتَّى يَقْدِمَ فُلانٌ" عُمِلَ بهِ أي: عمل بالإيصاء إلى هذه الغاية، فإذا قدم فلان فهو الوصي. ومفهوم الغاية أن فلاناً لو مات قبل قدومه لاستمرت الوصية، وقاله ابن يونس. ومفهومها أيضاً أنه لو قدم ولم يقبل أن الوصي الأول ينعزل؛ لأنه علق نظره بإتيان فلان، وقاله بعض علمائنا، قال: إلا أن يفهم عن الموصي: إذا جاء فقبل، فإذا لم يقبل وجب أن يبقى الأول على ما جعل له. ابن عبد السلام: وفي النوادر في الحالف ألا يفعل كذا حتى يقدم فلان فمات قبل قدومه، ما يؤخذ منه؟ قولان؛ هل يحمل على أجل قدومه وينوي في ذلك، أو لا يفعله أصلاً؟ فانظر هل يتخرج منه في الفرع الأول شيء أم لا؟ وَلَوْ قَالَ: "وَصِيِّي عَلَى قَبْضِ دُيُونِي وَبَيْعِ تَرِكَتِي" وَلَمْ يَزِدْ، فَزَوَّجَ بَنَاتِهِ؛ رَجَوْتُ أَنْ يَجُوزَ ... قوله: (فَزَوَّجَ) أي: الوصي. وقوله: (رَجَوْتُ) هو عائد على مالك، وهذه مسألة المدونة، قال فيها: وأحب إليَّ أن يرفع إلى السلطان فينظر السلطان في ذلك هلفيه ضرر أو بخس في صداق؟ وقال أشهب: له أن يزوِّج ولا يرفع إلى السلطان. محمد: وقاله ابن القاسم إن شاء الله. اللخمي: والأول أحسن. ابن القاسم: وقاله مالك فيمن أوصى بميراث بنت له صغيرة تدفع إلى فلان، أترى أن يلي بضعها؟ قال: نعم، وأراه حسناً لو رفع ذلك إلى الإمام فينظر. وإن جعل وصيته لثلاثة؛ جلع لأحدهم اقتضاء الدين، وللآخر النظر في الفاضل والتصرف فيه بالبيع والشراء، وللآخر بضع بناته جاز.

وليس لأحدهم أن يلي غير ما جُعِل له، فإن تعدى من له النظر في الفاضل والتصرف فيه فاقتضى أو قضى مضى ما فعله ولم يُرَدُّ قضاؤه واقتضاؤه، وإن باع أو اشترى من جعل له النكاح رُدَّ فعله، وإن زوَّج من جعل له النظر في المال رد فعله؛ لأنه معزول عن ذلك وقد أقيم له غيره. وليس هو بمنزلة قوله: فلان وصيي على قضاء ديني، وذكر مسألة المصنف. وَقَبُولُ الْمُعَيَّنِ شَرْطٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لا قَبْلَهُ، فَإِنْ قَبلَ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِلْكُهُ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ-عَلَى الأَصَحِّ-لا مِلْكَ الْمُوصِي. أي: وقبول الموصى له- المعين للوصية- شرط في وجوبها له؛ لأنها أحد أنواع العطايا؛ فاشترط فيها القبول كالهبة وغيرها. وبَيَّنَ المصنف أن ذلك القبول لابد أن يكون بعد الموت، وأما قبله فلا؛ لأن للموصي أن يرجع ما دام حياً. واحترز بـ (الْمُعَيَّنِ) مما لو أوصى لمثل الفقراء والغزاة، فإنه لا يشترط في حقهم القبول. واختلف إذا قبل بعد الموت، وقد كان تأخر القبول عن الموت؛ فالأصح أن القبول كاشف أن الموصى به مِلْكٌ للموصى له من حين الموت. وقيل: إنما حصل له الملك حين القبول، فيكون الملك قبل القبول لورثة الموصي. والقولان هنا كالقولين في بيع الخيار، هل هو نحل أم لا؟ فإن قيل: الأصح هنا مبني على أنه منبرم، بلاف المشهور في بيع الخيار، فما الفرق؟ قيل: الملك يَثُبتُ للبائع في الخيار فاستصحب حتى يتحقق الانتقال، والملك هنا قد تحقق زواله بزوال ملك الموصي بموته، والله أعلم.

وَعَلَيْهِمَا مَا يَحْدُثُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ مِنْ وَلَدٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أي: فعلى الأصح يكون للموصى له، وعلى مقابله يكون للورثة، ويتخرج أيضاً على هذين القولين ووب زكاة الفطر وما أفادته الأمة والعبد بعد الموت من المال وغير ذلك، كما لو أوصَى له بزوجته الأمة فأولدها ثم علم فقبل: هل تصير بهذا الولد أم ولد أم لا؟ وحكى المصنف الخلاف في الولد تبعاً لابن شاس، وحكى بعضهم الاتفاق على أنه للموصى له، ويقرب منه كلام التونسي الذي ذكره المصنف في قوله رحمه الله: وَعَلَى الْمَشْهُورِ فِي تَقْوِيمِ الأُصُولِ بغَلاَّتِهَا أَوْ دُونَ غَلاَّتِهَا ثُمَّ يَتْبَعُهَا-قَوْلانِ. قَالَ التُّونُسِيُّ: وَبغَلاِّتِهَا أَشْبَهُ، كَنَمَاءِ الْعَبْدِ وَوَلَدِ الأَمَةِ ... أفاد قوله: (وَعَلَى الْمَشْهُورِ) أن الأصح المتقدم مشهور؛ يعني: أنه اختلف إذا قلنا: إن الغلات الحادثة بعد موت الموصي للموصى له، فهل تُقَوَّم الأصول بغلاتها، أو بدون غلاتها ثم تتبعها؟ قولان. فلو أوصى له بحائط يساوي ألفاً وهو ثلث الموصي، لكن زاد لأَجْلِ ثمرته مائتين؛ فعلى الأول- وهو الذي قال التونسي: إنه أشبه - لا يكون للموصى له إلا خمسة أسداس الحائط، وعلى الثاني يكون جميع الحائط للموصى له. وقوله: (كَنَمَاءِ الْعَبْدِ وَوَلَدِ الأَمَةِ) ظاهره أنه يتفق على ذلك وإلا لما حسن به استشهاد. وقد يفرق بأن نماء العبد منفصل، وولد الأمة كالجزء منها. سحنون: وتقويم الأصول بالغلات أعدل أقوال الأصحاب، وهو قول أكثر الرواة، وهو لابن القاسم. وقال أيضاً في المدونة: إنه تُقَوَّم الأصول دون الغلات. ابن القاسم في المدونة: وإن أوصى لرجل برقبة جنانه فأثمر الجنان قبل موت الموصي بسنة أو سنتين، ومات الموصي، والثلث يحمل الجنان وما أثمر- فالثمرة للورثة دون الموصى

له، وذلك إذا أُبْرَتِ النخل وأُلقِحَتِ الشجر قبل موت الموصي. ثم ذكر عن مالك: إذا مات الموصي قبل الإِبَارِ أن الغلة للموصى له كالبيع. ابن يونس: [779/ب] وحيث قَوَّمْنَا الأصول وحدها فخرجت من الثلث، وكنات الغلات تبعاً لها، وقد كنا أنفق على الجنان نفقة من مال الميت إلى أن تمت ثمرته- فيجب أن تكون تلك النفقة على الموصى له؛ لأنه لما حمله الثلث كأنه لم يزل ملكاً للموصى له، ولأن الميت لم ينتفع بالغلة ولا كثَّر بها ماله؛ فلذلك تكون النفقة على الموصى له. وَلا يُفْتَقَرُ إِلَى قَبُولِ الرَّقِيقِ إِذَا أَوصَى بعِتْقِهِ كان الموصى بعتقه معيناً أم لا؛ لأنه وإن كان معيناً ففيه حق لله تعالى فلا يتوقف على قبوله، كما لو أعتقه في حال الحياة فإنه لا يتوقف على خياره. ابن عبد السلام: نعم لو خر في عتق نفسه أو ملكه ذلك كان له القبول أو الرد. وَفِيهَا: إِذَا أَوْصَى ببَيْعِ جَارِيَةٍ لِلْعِتْقِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جَوَارِي الْوَطْءِ فَذَلِكَ لَهَا نسبها للمدونة؛ لأن ظاهرها معارض لما قبلها، ولكن لا معارضة في الحقيقة؛ لما يحصل لجوار الوءط من الضياع غالباً بالعتق. وقيل: لا خيار لها كانت رائعة أم لا، وتباع للعتق، إلا ألا يوجد من يشتريها بوضيعة ثلث الثمن. وقال أصبغ: يكون لها الخيار في هذه المسألة وفي المسألة السابقة؛ أعني: إذا أوصى الميت بعتقها فقال: أعتقوها. اللخمي: وهو أبين؛ لأن العتق لم ينفذ في الموضعين، والضرر في الموضعين سواء. قال أصبغ: وهذا إذا قال: افعلوا، ولم يقل: هي حرة، وأما إذا قال هذا فلا ينظر إلى قولها وتنفذ لها الوصية.

وإذا فرعنا على مذهب المدونة فاختارت أحد الأمرين ثم أحبت الانتقال إلى الآخر، فقال ابن القاسم: ذلك لها ما لم ينفذ فيها الذي اختارته أولاً، أو يكون ذلك بتوقيف من سلطان. وقال أصبغ: إذا شهد على اختيارها أحد الوجهين لم يكن لها الرجوع إلى الآخر. مالك: وإن أعتقها الورثةقبل أن تختار لم يكن ذلك لهم إن أحبت البيع. وكذلك إن قال: بيعوها ممن أحبت، فأعتقوها وأحبت البيع رُدَّ عتقها. ابن القاسم: وإن أحبت أن تباع بغير شرط العتق فللورثة حبسها أو بيعها. محمد: فإن بيعت بغير شرط العتق لم يوضع من ثمنها شيء، وإن بيعت بشرط العتق وضع ثلث ثمنها. الْوَصِيَّةُ أَرْكَانٌ أي لها أركان. ومراده الوصية على النظر، والمتقدم ف الوصية بالمال، ولهذا لما كان هذا نوعاً واحداً أفرده. وقوله: (أَرْكَانٌ) أي: ثلاثة؛ الموصي، والموصى له، والموصى فيه. فإن قلت: هو لم يذكر الموصى فيه. قيل: لما ذكر الموصي اقتضى ذكر موصى فيه. وترك الصيغة لتقدم الكلام عليها في الوصايا. الْمُوصَى إِنْ كَانَ عَلَى مَحْجُورٍ عَلَيْهِمْ فَيَخْتَصُّ بالأَبِ وَالْوَصِيِّ قوله: (الْمُوصَى) المراد: الجنس؛ فيدخل وصي الأب، وووصي وصيه وإن بعد، ولا يلحق به مقدم القاضي على المنصوص. نص عليه ابن الهندي وابن أبي زمنين وغير واحد. ابن راشد: وقال بعض الأندلسيين: إن الذي مضى به الحمك أَنَّ حكم مقدم القاضي حكم الوصي في جميع أموره؛ لأن القاضي أقامه مقام الوصي.

بعض الشيوخ: وعلى هذا فيكون له أن يوكل في حياته من يقوم مقامه، ويوصي بذلك بعد مماته. انتهى كلام ابن راشد رحمه الله. ولا خفاء أن مراد المصنف إذا كان الأب رشيداً، ولو كان محجوراً عليه لم يكن له نظر على ولده، ولا أن يوصي عليهم. وَلا وَصِيَّةَ لِجَدِّ وَلا لأُمٍّ لا خلاف أن الجد لا إيصاء له، ومنع في المدونة إيصاء الأخ على أخيه، قال: ولا يقاسم عليه. وأجاز أشهب المقاسمة عليه. اللخم: فعلي قوله- تجوز وصيته بما يورث عنه، إذا لم يكن له وصي. وأجاز ابن القاسم في اللقيط المقاسمة عليه، فإجازته في الأخ أولى. وَفِيهَا: تَصِحُّ مِنَ الأُمِّ فِي اليْسِيرِ كَسِتِّينَ دِينَاراً، وَقِيلَ: لا إجازة ذلك استحسان بثلاثة شروط؛ يسارة المال، وأن يكون موروثاً عنها، وألا يكون لهم أب ولا وصي. سحنون: وقول غيره: إنها لا تجوز أعدل. تنبيه: كل هذا في الوصية بما صار له من مال الميراث، وأما ما تطوع الميت بالوصية به فتجوز الوصية، ويقبض له من وصايا الميت، فلو قال: "لفلان الصغير، ويكون على يد فلان حتى يرشد" لم يكن لأبيه ولا وصيه أن يقبض ذلك، ولا يحجر عليه فيه؛ لأنها هبة من الموصي علىصفة فلا تُغَيَّر. نص عليه اللخمي وغيره.

وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَفْرِيقِ الثُّلُثِ، فَلا يَخْتَصُّ الْمُوصَى أي: وإن كان الموصي أوصى على غير محجور عليهم، وهذا مقابل قوله أولاً: (إذا كان على محجور عليهم). وقوله: (مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَفْرِيقِ الثُّلُثِ) هو بيان لغير المحجور عليهم، فلا يختص الموصي على هذا بأن يكون أباً أو وصياً، بل يصح من كل من عليه حق أو له. وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِمُسْلِمٍ فَلا بَاسَ بذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ خَمْراً أَو الْتِزَامَ جِزْيَةٍ وقع في نسخة ابن عبد السلام هنا قبل قوله: (وَلَوْ أَوْصَى) (الموصي) ولم يقع ذلك عندنا إلا فيما يأتي. والضمير في قوله: (يَكُنْ) عائد على الموصى به المفهوم من أوصى، وهكذا في المدونة وغيرها، ففيها: وإن أوصى ذمي إلى مسلم فإن لم يكن في تركته خمر ولا خنزير، ولم يَخَفْ أن يُلْزَمَ بالجزية فلا بأس. وقال أشهب في الموازية: أنا أكرهه؛ خوفاً أن يلزم بجزية. وليس بَيِّناً في الكراهة. ولو قَبِلَ لجاز ولزمته، وإن كان غيرذلك فلا بأس به وإن كان فيها خمر وخنازير، وتكون الوصية فيما سوى الخمر والخنازير. وأما وصية الذمي إلى الذمي، فلا يمنعون منها، إذا كان فيها الخمر ونحو ذلك مما يستحلونه، قاله ابن الماجشون. قوله: (وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِمُسْلِمٍ) نص أشهب أيضاً على جواز وصية الحربي للمسلم. أشهب: ولو أوصى ذمي إلىحربي لم يجز، وإن كان مستأمناً. قال: ولو أوصى الحربي المستأمن إلى ذمي جاز.

الْمُوصَى شَرْطُهُ: التَّكْلِيفُ، وَالإِسْلامُ، وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفَاءَةُ أسقط ابن عبد السلام هنا (الْمُوصَى) لتقدمه في نسخته، وذكر أربعة شروط: الأول: التكليف، فلا تجوز الوصية إلى صبي أو إلى معتوه. الثاني: الإسلام، فلا تجوز الوصية لذمي ولا حربي؛ لعدم العدالة. الثالث: العدالة، فلا تجوز لفاسق. قال في المدونة: ولا تجوز الوصيةلذمي أو مسخوط أو من ليس بعدل، ويعزل إن أوصى إليه. ولو اكتفى بالدالة عن الإسلام لكان أخصر. ونقل بعضهم عن ابن المواز أنه قال: لم أرد هنا بالدالة عدالة الشاهد؛ حتى لا يجوز غيره، ولكن العدالة هيالأمانة والرضا فيما يصير إليه، والقوة عليه. الرابع: الكفاءة؛ أي: في التصرف، فلا تجوز الوصية إلى عاجز عن التصرف. محمد وابن عبدوس: ولا مأبون. وَكَانَ أَجَازَهَا قَبْلُ لِلْكَافِرِ، قَالَ مَرَّةً: وَإِذَا كَانَ قَرِيْباً كَالأَبِ وَالأَخِ وَالْخَالِ وَالزَّوْجَةِ فَيُوْصِيْهِ عَلَى الْصِّلَةِ فَلا بَاسَ بِذَلِكَ ... حاصله أن في الوصية للكافر ثلاثة أقوال: المشهور: عدم الصحة مطلقاً، وهو قول مالك الذي رجع إليه. والثاني: أنها تصح إليه. والثالث: التفصيل بين القريب وغيره، لكن لم ينسب ابن أبي زيد وابن رشد وغيرهما الثالث إلا لابن القاسم.

فإن قلت: في حكاية الثاني والثالث نظر؛ لأن نص الرواية في العتبية: وكره مالك الوصية لليهود والنصارى، ثم ذكرقول ابن القاسم، وهذا يمكن حمله على الوصية لهما بالمال لا بالنظر، وقد فهمها ابن رشد على ذلك، قيل: هو معارض بفهم غيره، فإن الذي فَهِمَ منها ابن أبي زيد وابنيونس هو ما ذكره ابن شاس والمصنف. وَلا تَصِحُّ لِمَسْخُوطٍ، وَلَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عُزِلَ هذا هو الذي احترز عنه بالعدالة، ونبه بقوله: (وَلَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عُزِلَ) على أن هذا الشرط تعتبر استدامته كابتدائه؛ لأن بعض الشروط يُشْتَرَطُ ابتداءً لا دواماً. وما ذكره من العزل بطروء الفسق هو المشهور. وقال المخزومي: لا يعزل، ولكن يجعل معه وصي آخر عدل. وهذا الذي ذكره المصنف خاص بالوصي على أموال اليتامى، أو على اقتضاء دين أو قضائه؛ خيفة أن يدعي غير العدل الضياع. وأما فيما يختص بالميت كالوصية بالثلث أو بالعتق فتجوز إلى غير العدل. ابن المواز: عن ابن القاسم وأشهب: ومن أوصى إلى محدود في قذف فذلك جائز إذا كانت منه فلتة، وكان ممن ترضي حالته، وإن لم يتزيد حسن حال إذا كان يوم قذهف غير مسخوط. وأما من حُدَّ في زنى أو سرقة أوخمر- فلا يقع في مثل هذا من له ورع- فلا تجوز الوصية إليه إلا أن تحدث له توبة، أو تورع يعرف فضله فيه فتجوز الوصية إليه. مالك في الموازية: وإن كانت الوصية بعتق او بشيء في السبيل ولم يكن وارثاً- لم يكشف عن شيء إلا عما يبقى للورثة منفعته، مثل: العتق؛ لهم الولاء، إلا أن يكون الوصي سفيهاً سارافاً فيكشف عن ذلك كله، فرب وصي لا ينفذ من الوصية شيئاً، وهذا صحيح؛ لأن الميت وإن أوصى لغير عدل، فلم يُرِدْ إلا إنفاذ الوصية فلا يمنع الورثة من الاطلاع على ذلك؛ حتى يعلموا أنه أنفذها. مالك: وإن كان الوصي وارثاً فلباقي الورثة أن ينظروا في ذلك، ويكشف عنه الوصي.

وَلا تَصِحُّ لِعَاجِزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ هذا هو الذي احترز عنه بـ (الكفاءة). وَتَصِحُّ لِلْعَبْدِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَيَتَصَرَّفُ بإِذْنِ السَّيِّدِ لما تكلم على شروط الوصي وموانعه، أتبعه بالكلام على ما يُظَنُّ مانعاً، وليس بمانع. قال في المدونة: ومن أسند وصيته إلى عبده، أو مكاتبه جاز، قال في المدونة: وكذلك مدبره وأم ولده والمعتق إلى أجل والمعتق بعضه. وقال سحنون: إنما يكونالعبد المملوك وصياً للصغار إذا كان بينهم بالسواء فيما يتكلف لهم العبد، أو يكون تكلفه لهم على قدر مواريثهم، وصححه ابن رشد. سحنون: وإن كان فيهم كبير، وكان عبداً قَنَّاً أو معتقاً إلى أجل فهي وصية لوارث، فإن أجازها الكبار، وإلا بطلت، وهو قول عبد الملك. ابن رشد: وقول مالك أصح إذا قلنا: إنما ينظر للأصاغر في الأيام التي لهم. مالك في الموازية: والمكاتب مثل العبد. أشهب: وليس فيه تقويم، إلا أن يعجز. وقوله: (وَيَتَصَرَّفُ بإِذْنِ السَّيِّدِ) هو خاص بعبد غيره. اللخمي: وتجوز الوصية لعبد الأجنبي إذا رضي سيده، وكان سيده ممن لايخاف أن يغلب على ما في يد عبده. وأخل المصنف بهذا الشرط. ابن القاسم وأشهب في الموازية والمجموعة: وإذا جاز السيد الوصية للعبد فليس له بعد ذلك رجوع إلا لعذر مِنْ بيع أو سفر أو نقلة منه أو من العبد إلى غير الموضع الذي الورثة به، فيقيم لهم الإمام غيره.

اللخمي: وهذا بخلاف المعروف منقوله، والمعروف في هذا الأصل أن للعبد أن يقيم غيره مقامه عند سره، او غيره من غير حاجة إلىلسلطان. ولا فرق في ذلك بين حر وعبد، وإن رضي المشتري أن يبقيه على الوصية جاز. وَتَصِحُّ للأَعْمَى وَالْمَرْأَةِ لا أعلم في ذلك خلافاً. وَإِذَا أَوْصَى لِعَبْدِهِ فَأَرَادَ الأَكَابرُ بَيْعَ الْجَمِيعِ اشْتُرِي لِلأَصَاغِرِ نحوه في المدونة، وظاهرها أنه لا يؤخذ نصيب الأكابر إلا إذا شاءوا البيع. قيل: ويشترى بالقيمة كاخذ ما يجاور المسجد إذا احتيج إلى توسعته، وفيه مخالفة للأصول. وأشار بعضهم إلى أنه يشترى نصيب الأكابر بالقيمة إن لم يريدوا البيع. ولعل ذلك إذا منع الأكابر العبد من النظر للأصاغر. ولو قيل: إنه يعرض للبيع فإذا وقف على ثمن اشترى حينئذٍ للأصاغر نصيب الأكابر لكان أخف، وفيه مع ذلك مخالفة للأصول؛ لأن الأصل أنه لا يأخذه أحد الشريكين بالثمن الذي بلغ إلا برضا الآخر، أو يزيد عليه الآخر. ولعلهم إنما قالوا هنا بهذا؛ ارتكاباً لأخف الضررين بالتقويم، كما في الدار تجاور الجامع تؤخذ بالقيمة إذا احتيج إلى توسعته بها. وأصل هذا من السنة التقويم في عتق الشريك. ثم إن الشراء للأصاغر مقيد بما إذا كان في أموالهم ما يحمل. قال في المدونة: وإن لم يحمل ذلك نصيبهم، وأَر بهم بيعه باع الأكابر حصتهم منه خاصة إلا أن يضر ذلك بالأكابر ويأبوا فيقضي على الأصاغر بالبي معهم. قال في الواضحة: ويفسخ الإيصاء حينئذٍ، ونحوه في الموازية. وفي مختصر حمديس: إن لمشتريه فسخ وصيته إذا كان يضر به ويشغله، واعترضه عبد الحق، وقال: لا يكاد يصح عندي.

وَلا يَبيعُ الْوَصِيُّ عَبْداً يُحْسِنُ الْقِيَامَ بهِمْ نحوه في المدونة، ووجهه أن في بقائه مصلحة لهم، والوصي إنما ينظر بالأصلح. وَلا يَبيعُ عَقَارَهُمْ إِلا لِحَاجَةٍ أَوْ غِبْطَةٍ قد تقدم هذا وما فيه في الحَجْرِ. وَلا يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ شَيْئاً، فَإِنْ فَعَلَ تُعُقَّبَ بالنَّظَرِ أي: لا يشتري لنفسه، ولا يدس من يشتري له، صرح به في المدونة. فإن اشترى تعقب بالنظر؛ أي: بنظر الحاكم، وقال في كتاب كراء الدور والأرضين: يعاد إلى السوق، قال في المدونة: فإن كان فضل كان لليتامى وإلا ترك. عياض: ظاهره أنه ينظر فيه الآن، وإن لم يكن فيه فضل فلابد من النظر فيه يوم البيع بالقيمة والسداد. وكذا قال عبد الملك: ينظر فيه الحاكم يوم يرفع إليه، فإن كان سداداً أمضاه. وقال ابن كنانة: ينظر فيه الحاكم يوم الشراء. وانظر قوله في كراء الدور: أنه يعاد إلى السوق- ونحوه في المجموعة- فإن ظاهره أنه يفسخن ويحتمل أن يعاد ليعطوا الفضل. وَفِيهَا: سَأَلَهُ وَصِيٌّ عَنْ حِمَارَيْنِ أَرَادَ أَخْذَهُمَا لِنَفْسِهِ بمَا أُعْطِيَهُ؛ فَاسْتَخَفَّهُ لِقِلَّةِ الثَّمَنِ .. هذا تخصيص لعموم قوله: (لا يَشْتَرِي) واستغنى بقلة الثمن عن تعيينه. ونقصه من التعليل: "الاجتهاد في تسويقهما" كان ينبغي ذكره؛ لأن له أثراً في الاستخفاف.

قال فيها: وأرخص مالك لوصي سأله عن حمارين من حمر الأعراب في تركة الميت ثمنهما ثلاثة دنانير، تسوق بهما الوصي في المدينة والبادية، فأراد أخذهما لنفسه بما أعطي- فأجاز ذلك، واستخفه. وَلا يَبيْعُ الْوَصِيُّ التَّرِكَةَ عَلَى الأَصَاغِرِ إِلا بحَضْرَةِ الأَكَابرِ، وَإِلا رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ ... لأنه لا نظر على الأكابر. وقوله: (وَإِلا رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ) أي: وإن لم يكن الأكابر حضوراً رفع الوصي للحاكم. قال في المدونة: فيأمر من يلي معه البيع للغائب إذا كانت التركة عروضاً أو حيواناً. وَإِذَا أَوْصَى لاثْنَيْنِ مُطْلَقاً نُزِّلَ عَلَى التَّعَاوُنِ، فَلا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا إِلا بتَقْييدٍ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا اسْتَقلَّ ... قوله: (مُطْلَقاً) أي: من غير تقييد، فلم ينص على الاجتماع، ولا على الانفراد؛ لأنه لا إشكال إذا نص على شيء أنه يتبع. وكلامه ظاهر التصور، ووجه عدم استقلال أحدهما أن لكل واحد منهما من التصرف ما لصاحبه؛ فكانا في فعلهما كفعل رجل واحد. ولعدم استقلال أحدهما قال في المدونة: ليس لأحدهما أن يزوج دون صاحبه إلا أن يوكله صاحبه، وإن اختلفا نظر السلطان. ابن القاسم: ولا يجوز لأحدهما بيع ولا شراء ولا أمر دون الآخر. اللخمي: فإن فات ما باعه أحدهما فعلى الذي انفرد بالبيع الأكثر من الثمن أو القيمة، فإن اشترى وفات البائع بالثمن كانت السلعة المشتراة له وغرم الثمن. أشهب: إلا في الشيء التافه الذي لابد لليتيم منه مثل أن يغيب أحدهما، فيشتري الآخر الطعام والكسوة، وما يضر باليتيم استئجاره.

وإن ادعى رجل بدعوى على الميت لم يخاصم أحدهما دون الآخرن إلا أن يكون الآخر غائباً، فإن انحصر الحاضر، وقضي على الميت - وَقَفَ الغائب على حجته، وَنَظَرَ ما عنده بعد قدومه. وكذلك إذا كان للميت دعوى فلا يخاصم أحدهما دون الآخر إلا أن يكون ذلك بوكالة، أو يكون الآخر غائباً. وقوله: (فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا اسْتَقلَّ) أي: الآخر بالنظر، وهذا خلاف ما قاله اللخمي، فإنه قال: إن مات عن غير وصية لم يكن للحي أن يلي النظر وحده، وينظر السلطان في ذلك؛ فإما أقره وحده إن رأى لذلكوجهاً، أو يشرك معه غيره. وكذلك قال ابن راشد: إِنَّ ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى مشكل؛ لأن الموصي لم يجعله مستقلاً، فكيف يستقل؟! والذي جرى عليه عمل القضاة في عصرنا ببلدنا أن يجعل معه آخر. وإذا شهد عندهم أنه أهل لذلك الاستقلال جعلوا له ذلك. انتهىز وفي النوادر عن علي بن زياد: أنه يجعل معه غيره، لكن ذكر في النوادر عن ابن القاسم: إذا مات أحدهما ولم يوصِ فن كان الباقي بيِّن العدالة والكاءة لم أرَ أن يَجْعَلَ معه القاضي غيره، وإن لم يكن بيِّن الدالة، أو كان مبرزاً ويحتاج إلى معرفة فليجعل معه غيره، فيكون كالميت. وعلى هذا فيحمل كلام المصنف على ما إذا كان الباقي بيِّنَ العدالة والكفاءة، ويكون اعتمد على ما قدمه من اشتراط الكفاءة والعدالة، والله سبحانه أعلم. وَفِي انْتِقَالِهَا لِمَنْ يُوْصَى إِلَيْهِ قَوْلانِ، بخِلافِ مَا لَوْ أَوْصَيَا مَعَاً أي: لو مات أحدهما وأوصى بما له ففي انتقال الإيصاء لمن يوصي إليه قولان؛ الإمضاء ليحيى بن سعيد في المدونة وأشهب، والمنع لسحنون. اللخمي: وهو أصل ابن القاسم؛ لأنه لا يجوز لأحدهما أن ينفرد بالنظر دون غيره، ولا أن يقيم غيره في التصرف ي الحياة في شيء دون مؤامرة صاحبه فكذلك عند الموت.

ونقل ابن شاس الثاني عن مالك وابن القاسم نصاً، وهو ظاهر المذهب، ورأى في الأول أن الميت مستقل بذلك القدر الذي أوصى به. وقوله: (بخِلافِ مَا لَوْ أَوْصَيَا مَعَاً) أي: فإنها تنفذ على القولين؛ لاجتماعهما عليها، فكان ذلك كاجتماعهما على شيء في حياتهما. اللخمي: وإن جعل الميت منهما النظر للحي، ورضي الحي بذلك جاز. وكذلك إن أقام آخر معه، وواقه عليه الحي جاز من غير مؤامرة حاكم. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي أَمْرِ تَوَلِّي الْحَاكِمُ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ ذكر (أمراً) ليعم البيع والشراء وترشيد المحجور عليه وتزويجه وغير ذلك. وقوله: (تَوَلَّى) أي: نظر، فإن كان الصواب مع أحدهما أمر الآخر بموافقته، وإن كان في غير ما قالاه أمرهما به ومنعهما مما عداه. ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنهما معزولان عما اختلفا فيه، وأن القاضي حينئذٍ يتولى النظر في ذلك الشيء الذي اختلفا فيه، وإن كان الصواب مع أحدهما. وليس كذلك، وعلى ما فسرنا به كلامه يندفع هذا. فَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ وَضَعَهُ عِنْدَ أَوْلاهُمَا أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ قوله: (فَإِنْ كَانَ) أي: المختلف فيه في حفظ مال. (وَضَعَهُ) أي: الحاكم (عِنْدَ أَوْلاهُمَا) أي: لكونه أعدل. مالك: فيكون المال عند أعدلهما، ولا يقسم. قال ابن القاسم: وإن كانا في العدالة سواء فأحرزهما أو أكفاهام، وفي كلام بعضهم: الترجيح بكثرة المال عند استوائهما في العدالة.

اللخمي: وكل هذا استحسان ولو جعلاه عند أدناهما في العدالة لم يضمنا؛ لأن كليهام عدل، وقد يكون أحدهما آمن، والآخر أكفى. مالك في المدونة: وإن اختلفا حينئذٍ طبع عليه وجعل عند غيرهما. ابن كنانة: وكذلك إذا جعله السلطان عند أحدهما يجتمعان عليه وقوله: (وَيَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ) ابن عبد السلام: ولا يظهر له كبير معنى؛ لأنهما إن أخرجاه من أيديهما باختيارهما مع وجود الصفات المعتبرة فيهما كانا مخطئين، وينبغي أن يضمنا. وإن كان القاضي هو الذي أخرج المال من أيديهما لعدم الصفات المعتبرة فيهما فلا ينبغي أن يلتفت إلى اجتماعهام، ولا إلى اختلافهما. خليل: والأحسن أن يكون معنى قوله: (ويجتمعان عليه) أي: يجتمعان ي التصرف فيه؛ لأنه وإن جعل عند أحدهما أو غيرهما، فلا يتصرف فيه إلا الاثنان. وَفِي جَوَازِ قَسْمِهِمَا الْمَالَ قَوْلانِ القول بجواز القسم لعلي بن زياد، والقول بعدمه لمالك وابن القاسم وأشهب، وعلله ابن كنانة بأن الموصي قد يريد اجتماعهما؛ فيريد أحدهما لأمانته، والآخر لرأيه. وَعَلَى الْمَنْعِ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هَلَكَ بيَدِ صَاحِبِهِ أي: إذا فرعنا على قول مالك بمنع القسم، وظاهر كلامه: أنه لا يضمن ما هلك بيده، وهو ظاهر قول ابن الماجشون على ما في النوادر وابن يونس؛ لأنهما حكيا عنه: إذا اقتسماهضمناه، وإن هلك ما بيد أحدهما ضمنه صاحبه حين أسلمه إليه. ونقل اللخمي عنه ضمان الجميع، فيضمن ما عنده؛ لاستبداده بالنظر فيه وما عند صاحبه؛ لأنه رفع يده عنه. وقال أشهب: لا يقتسمانه، فإن اقتسماه لم يضمنا.

وَلِلْوَصِيِّ عَزْلُ نَفْسِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي وَلَوْ بَعْدَ الْقَبُولِ عَلَى الأَصَحِّ يعني: للوصي عزل نفسه في حياة الموصي بعد القبول على الأصح، وأما قبله فلا شك أن له ألا يقبل، والأًح ظاهر المدونة وصريح قول أشهب؛ لأنه لم يغره، وهو قادر على أن يستبدل غيره ومقابله لعبد الوهاب في المعونة قال: فإذا قبل الوصي الوصية ثم أراد تركها لم يجز له ذلك، إلا أن يعجز عنها، أو يظهر له عذر في الامتناع من المقام عليها. ابن عبد السلام: وهو ظاهر قول غيره من العراقيين وبعض المغاربة؛ لأن ذلك كهبة بعض منافعه. والمبالغة في قوله: (وَلَوْ بَعْدَ الْقَبُولِ) ليست بظاهرة؛ لأنه قَبْلَ القبول ليس بوصي. وَلا رُجُوعَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ عَلَى الأَصَحِّ يعني: لا رجوع للوصي بعد الموت إذا قَبِلَ الوصية، وظاهره سواء قَبِلَهَا في حياة الموصي أو بعد موته. ونص في المدونة على الأول، وأشهب على الثاني. قال: وسواء قَبِلَ لفظاً، أو جاء منه ما يدل على ذلك من البيع والشراء لهم مما يصلحهم، والاقتضاء والقضاء عنهم أو غير ذلك ابن عبد السلام: وقال بعضهم: لا فرق بين قبوله بعد الموت أو قبله أن له الرجوع، وَأُخِذَ من تعليل أشهب لرجوعه في الحياة: بأنه لم يَغُرَّهُ، فألزمه اللخمي أن يكون له الرجوع إذا قَبِلَ بعد الموت؛ لكونه لم يَغُرَّهُ. وَلَوْ أَبَى الْقَبُولَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ بَعْدُ هكذا نص عليه أِهب وابن عبدوس، فإن رأى القاضي تقديمه صار كمقدم القاضي.

ثُمَّ الْوَصِيُّ يَقْتَضِي دُيُونَ الصَّبيَّ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ بالْمَعْرُوفِ، وَيُزَكِّي مَالَهُ وَيَدْفَعُه قِرَاضاً وَبضَاعَةً ... لأن الوصي وكيل على مصلحة اليتيم وحفظ ماله، فلذلك يقتضي ديونه، وينفق عليه بالمعروف، وفسره اللخمي بأن يكون على حسب المال في قلته وكثرته، فلا يضيق على من له المال الكثير فينفق عليه دون نفقة مثله، ولا يسرف. ويوس عليه في الأعياد حسب المعتاد، ويضحي عنه من ماله، إلا أن يكون قليل المال ويضر به ذلك. وينفق على المولى عليه في ختانه، وفي عرسه. ولا حرج على من دعي فأكل، ولا يدعو اللاعبين. وهو ضامن لما أنفق في ذلك أو في غيره من الباطل. ووسع ربيعة أن يشتري له اللعب، قال: لأن ذلك مما يشبه. ويجوز أن يدفع إليه من النفقة ما يرى أنه ينفقه الشهر ونحوه، فإن خيف أن يتلفه قبل تمام الشهر، أو علم ذلك منه فنصف شهر أو جمعة على قدر ما يعلم منه، وإن كان يتلفه قبل ذلك فيوم بيوم. (وَيُزَكِّي مَالَهُ) قال في المدونة: ويخرج عنه وعن ولده الفطرة، ويضحي عنه وهذا إذا أمن أن يتعقب بأمر من اختلاف الناس. وفيه إشارة إلى ما قاله غير واحد: أنه لا يزكي ماله حتى يرفع إلى السلطان. كما قال مالك رحمه الله: إذا وجد في التركة خمراً لا يريقها إلا بعد الرفع له؛ لئلا يكون حنفياً يرى جواز التخليل، فيضمنه إن أراقها بغير إذنه، وكذلك الحنفي يرى سقوط الزكاة. قيل: وإنما هذا في البلاد التي يخشى فيها ولاية الحنفي، وأما البلاد التي لا يكون فيها او قل ما يكون فيها فلا معنى للرفع.

ابن عبد السلام: وأيضاً فأبو حنيفة رحمه الله، إنما يخالف في بعض المحاجير؛ وهم: الصغار، وفي بعض المال؛ وهو: العين؛ أي: فلا يحتاج في غيرهما إلى الرفع. (وَيَدْفَعُهُ) أيضاً (قِرَاضاً وَبضاعَةً) لأن ذلك من التنمية. وَلا يَعْمَلُ فِيهِ هُوَ قِرَاضاً عِنْدَ أَشْهَبَ لأنه كمؤاجر نفسه، وهو لا يجوز له ذلك كما لا يبيع له سلعة لنفسه. بعض أصحابنا: فإن أخذه على جزء من الربح يشبه قراض مثله أُمْضِيَ كشرائه شيئاً لليتيم. وَلا يَبيعُ عَلَى الْكِبَارِ إِلا بحَضْرَتِهِمْ قد تقدم هذا. وَلا يَقْسِمُ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا اغنِيَاءَ حَتَّى يَاتِيَ السُّلْطَانُ خِلافاً لأَشْهَبَ قال في المدونة: ولو غاب أحد الأكابر لم يجز قسم الوصي عليه، ولا يَقْسِمُ للغائب إلا الإمام، ويوكل بذلك، ويجعل ما صار له بيد أمين. وقوله: (وَلا يَقْسِمُ عَلَيْهِمْ) أي: لتمييز حق الصغار، وأما قسمته عليهم فيما بينهم بانفرادهم فلا تجو اتفاقاً. وقوله: (خِلافاً لأَشْهَبَ) خلاف أشهب خاص بالطعام والعين إذا كان صنفاً واحداً على ما نقله اللخمي وغيره، وأما غير العين والطعام فلا يقسمه إن كان فيهم كبار غُيَّب إلا بوكالة منهم أو من الإمام، فإن فعل فهو إذا قدم مخير. ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنه لو كان الكبار حضوراً لما احتاج الوصي إلى الرفع إلى الحاكم، فإن أراد بذلك تمييز نصيب الصغار على الكبار فلا يبعد، وإن أراد مع ذلك تمييز نصيب الكبار فيما بقي فهو خلاف ما استحسنه في المدونة.

وَمَهْمَا نَازَعَهُ الصَّبيُّ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لأَنَّهُ أَمِينٌ يعني: إن نازع الصبي الوصي في قدر النفقة فالقول قول الوصي، وعلله بأنه أمين. وهو مقيد بقيدين في المدونة قال فيها: وَيُصَدَّقُ في الإنفاق عليهم إذا كانوا في حجره، ولم يأتِ بسرف. وظاهر ما في زكاة الفطر من المدونة أنه ال يشترط كونهم في حضانته، لكن الأكثر على اختيار هذا الشرط إلا ما استحسنه اللخمي من أن الأم إذا كانت فقيرة محتاجة ويظهر على الولد أثر النعمة والخير أن الوصي يصدق، وإن لم يكونوا في حِجْرِهِ. ولعل المصنف ترك القيد الأول؛ لأنه رض النزاع مع الصبي، ولو كان في غير حجره لكان نزاعه إنما هو مع مَنْ هو في حجره، وترك القيد الثاني للإحالة على القواعد؛ إذ كل من قبل قوله فإنما ذلك إذا ادعى ما يشبه، وإذا قلنا: القول قوله فلابد مِنْ حَلِفِهِ. نص عليه مالك وابن القاسم وغيرهما. واختلف إذا أراد أن يحسب أقل ما يمكن ويسقط الزائد؛ فقال أبو عمران: لا يمين عليه. وقال عياض: لابد منها؛ إذ قد يمكن أقل منه. بخِلافِ مَا لَوْ نَازَعَهُ فِي تَارِيخِ مَوْتِ الأَبِ، أَوْ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ فَقَوْلُ الْصَبيِ ... أي: فإن القول للصبي، وهذا وإن كان يرجع إلى تكثير النفقةإلا أن الأمانة لم تتناول الزمان المتنازع فيه. وقوله: (أَوْ فِي دَفْعِ الْمَال) أي: فيكون القول للصبي؛ لأنه قد ادعى الدفع لغير من ائتمنه، خلافاً لابن عبد الحكم. ومنشأ الخلاف هو قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] هل لئلا تغرموا، أو لئلا تحلفوا؟

وعلى المشهور إذا قلنا لا يقبل قول الوصي، فقال مالك في الوازية: إلا أن يطول زمان ذلك كالثلاثين سنة والعشرين- يقيمون معه، ولا يطلبونه، ولا يسألونه عن شيء، ثم يطلبونه، فإنما عليه اليمين. ابن رشد: وهو ظاهر قسمة العتبية، ووجهه ظاهر؛ لأن العرف يكذبهم. وقال ابن زرب: إذا قام بعد عشر سنين، أو ثمانٍ، لم يكن له قبله إلا اليمين. ابن عبد السلام: ومال ابن رشد إلى القول الأول. خليل: وينبغي أن ينظر إلى قرائن الأحوال، وذلك يختلف، والله سبحانه أعلم. * * *

الفرائض

الْفَرَائِضُ قوله: (الْفَرَائِضُ) هو جمع فريضة؛ وهي منقوله تعالى: (فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237] أي: قَدَّرْتُم وَأوْجَبْتُم. وعلم الفرائض علم شريف، وهو وإن كان جزءاً من علم الفقه، لكنه لامتزاج نَظَرِ الناظر فيه من الفقه والحساب صار كأنه عِلْمٌ مُسْتَقِلٌّ، فلذلك أفرد له العلماء التوالي، ولم يُخْلِ الفقهاء تواليفهم منه. وروى الترمي عنه عليه الصلاة والسلام قال: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإني مقبوض". وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سن ةماضية، أو فريضة عادلة". وروي من حديث أبي هريرة قال: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، فإنها نصف العلم، وإنها تنسى، وإنها أول ما يرفع". ومعنى "تنسى" أي: تترك. الْوَارِثُ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ: الابْنُ، وَابْنُ الابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالأَبُ، وَالْجَدُّ لِلأَبِ وَإِنْ عَلا، وَالأَخُ مُطْلَقاً، وَابْنُ الأَخِ الشَّقِيقِ أَوْ لأَبٍ وَإِنْ سَفَل، وَالْعَمُّ لَهُمَا وَإِنْ عَلا، وَابْنُ الْعَمِّ لَهُمَا وَإِنْ سَفَل، وَالزَّوْجُ وَمَوْلَى النِّعْمَةِ ... مِنْ الْفُرَّاضِ من لم يتعرض لِعَدِّ الوارث، وإنما يقول: الفروض ستة، ثم يقول: وأصحاب النصف كذا إلى آخره، ومنهم مَنْ يَعُدُّهُم كالمصنف. ثم إِنَّ أكثر هؤلاء يحصرهم في عشرة، وزاد بعضهم نوعاً حادي عشر فقال: ومولى النعمة، وكذلك ذَكَرَ في النساء. ومنهم من جعل الوارثين خمسة عشر، وهي كطريقة المصنف سواء؛ لأن قوله: (مُطْلَقاً) يشمل ثلاثة: الأخ الشقيق، والأخ للأب، والأخ للأم، وقوله: (وَابْنُ الأَخِ الشَّقِيقِ أَوْ لأَبٍ) يدخل فيه اثنان، وكذلك: (الْعَمُّ لَهُمَا) وكذلك (ابْنُ الْعَمِّ).

وقوله: (سَفَلَ) بضم الفاء وفتحها، حكاهما صاحب المحكم وغيره. النووي: والفتح أشهر. واحترز بابن الأخ الشقيق أو للأب من ابن الأخ للأم، فإنه من ذوي الأرحام، وكذلك احترز بالعم لهما من العم للأم، فإنه أيضاً من ذوي الأرحام. وَمِنَ النِّسَاءِ سَبْعٌ؛ الْبِنْتُ، وَبِنْتُ الابْنِ وَإِنْ سَفَلَتْ، وَالأُمُّ، وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ- غَيْرَ أُمِّ جَدِّ-وَالأُخْتُ مُطْلَقاً، وَالزَّوْجَةُ، وَمَوْلاةُ النِّعْمَةِ .. هذا أيضاً على طريق الاختصار، وأما على طريق البسط فتعد النساء عشرة. والاختصار وقع في الجدة؛ لأنها تشمل الجدة للأم والجدة للأب، وفي الأخت؛ لأنها تشمل الشقيقة والأخت للأب والأخت للأم. وَهُوَ: بتَعْصِيبٍ، وَفَرْضٍ، وَوَلاءٍ أي: والإرث، وقوله: (بتَعْصِيبٍ) أي: بنسب، ولا يلزمه التداخل؛ لأن الميراث بالولاء أحد قسمي التعصيب، وكأنه قال: بِتَعْصِيْبِ نَسَبٍ وَتَعْصِيْبِ وَلاءٍ. فَالتَّعْصِيبُ فِيمَنْ يَسْتَغْرِقُ الْمَالَ إِذَا انْفَرَدَ، وَالْبَاقِي عَنِ الْفُرُوضِ بقَرَابَةٍ، وَلا يَكُونُ إِلا فِي ذَكَرٍ يُدْلِي بنَفْسِهِ أَوْ بذَكَرٍ ... عَرَّفَ التعصيب بمحله؛ وهو أنه يكون فيمن يأخذ المال إذا انفرد، والباقي عن ذوي الفروض. وبهذا يعلم أن حَدَّ العاصب هو: من يرث المال إذا انفرد، والباقي عن ذوي الفروض. ابن راشد: احترز بقوله: (بقَرَابَةٍ) من الولاء. فإن قيل: فقد قالوا: إن الأخوات عصبة البنات، قيل: التحقيق أنهن لسن عصبة، وإنما هن كالعصبة بدليل أن الأخوات لا يَحُزْنَ جميع الميراث في حالة الانفراد، ولئن سُلِّم

أنهن عصبة فيجعل قوله: (أَوْ بذَكَرٍ) معطوفاً على: (فِي ذَكَرٍ) أي: إلا في ذكر، أو بسبب ذكر، والأخوات بسبب ذكر، لكن رد هذا أن المصنف قد ذكر أولاً أن العاصب من يحوز المال إذا انفرد، والأخت ليست كذلك. وَالْفَرْضُ فِيمَنْ يَرِثُ بالتَّقْدِيرِ عَرَّفَ أيضاً الفرض بمحله، ومنه يعلم أن الفرض: التقدير. والوارثون بالفرض ثلاثة أصناف: - صنف لايرث إلا بالفرض؛ وهو: الأم، والجدة، والزوج والزوجة، والواحد من ولد الأم. - وصنف يرث بالفرض والتعصيب، وقد يَجْمَعُ بينهما؛ وهو: الأب، والجد يفرض له السدس مع الولد وولد الولد، ثم إن فضل شيء أخذه بالتعصيب. - وصنف يرث تارة بالفرض وتارة بالتعصيب، ولا يجمع بينهما؛ وهو: البنات، وبنات الابن، والأخوات الشقائق أو لأب. وَهُوَ النِّصْفُ، وَنِصْفُهُ، وَرُبُعُهُ، وَالثُّلُثَانِ، وَنِصْفُهُمَا، وَرُبُعُهُمَا يعني: أن الفروض ستة: النصف، ونصفه؛ وهو الربع، ونصفه؛ وهو الثمن، والثثلان، ونصفهما؛ وهو الثلث، ونصفه؛ وهو السدس. فالنصف لخمسة: للبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والزوج مع عدم الولد وولد الابن. والربع لاثنين: للزوج مع الولد أو ولد الابن، وللزوجة مع عدم الولد ولد الابن أيضاً. والثنم لصنف واحد؛ وهو الزوجة، أو الزوجات مع الولد أو ولد الابن.

والثلثان لأربعة: وضابطه أنه: إذا تعدد من له النصف وأمكن تعدده فله الثلثان. واحترزنا بقولنا: "وأمكن تعدده" من الزوج؛ فإنه لا يمكن شرعاً. والثلث لثلاثة: للأم مع عدم الحاجب، وللاثنين فصاعداً من ولد الأم، وأحد فروض الجد. والسدس لسبعة: للأب مع الولد أو ولد الابن، والأم كذلك، أو مع اثنين من الإخوة، والجد مع الولد أولد الابن، وللجدة، ولابنة الابن مع البنت، وللأخت للأب مع الشقيقة، ولواحد من الإخوة للأم- ذكراً كان أو أنثى- وأحد فروض الجد. تنبيه: زاد بعضهم في الفروض ثلث ماب قي، وذلك في ثلاثة مسائل؛ وهي: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان، وفي مسائل الجد مع الإخوة، إذا كان ثلث ما بقي أحظى له. وَالْوَلاءُ فِيمَنْ يُدْلِي بعِتْقٍ أي: وتعصيب الولاء. وقوله: (فِيمَنْ يُدْلِي) يشمل الرجل والمرأة، والمراد بمن يدلي: المعتق، لا معتق المعتق؛ لقوله بعد: (ثم معتق المعتق). وَيَخْلُفُهُ أَولَى عِصَابَتِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْعَتِيقِ، فَيُقَدَّرُ مَوْتُ الْمُعْتِقِ حِينَئِذٍ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ مِيرَاثَهُ بأَوْلَى عُصُوبَةٍ وَرِثَ عَتِيقَهُ ... أي: ويخلف المعتق أولى عصباته يوم موت العتيق؛ فلذلك لو مات رجل وترك ولدين وولاء موالي، ثم مات أحدهما وترك ولداً، فأخذ ولد الولد مال أبيه، ثم مات أحد المعتقين، فأراد ابن الابن ان يأخذ نصف ولائه، وقال: كما أخذت مال أبي فكذلك آخذ نصف الولاء فإن عمه أولى؛ لأنه يقول: أنا وأبوك لم نعتق، وإنما أعتق أبونا، ولو مات أبونا الآن من كان يرثه، أنا أو أنت؟

ثُمَّ مُعْتِقُ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ عَصَبَتُهُ، وَيُتَعَرَّفُ الأَقْرَبُ عِنْدَ تَعَدُّدِ مَنْ يُدْلِي بالاشْتِرَاكِ فِي الأَبِ الأَدْنَى؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الأَخُ فِي بَابِ الْوَلاءِ أَوْلَى مِنَ الْجَدِّ، وَكَانَ ابْنُ الْعَمِّ مُطْلَقاً أَوْلَى مِنْ عَمِّ الأَبِ مُطْلَقاً ... يعني: ثم من بعد المعتق وعصباته معتق المعتق وعصباته، فلذلك كان الأخ وابنه أولى من الجد؛ أي لأن الأخ وابنه يجتمعان مع الميت في أبيه، والجد إنما يجتمع معه في أب الجد، وكان ابن العم مطلقاً-أي: سواء كان شقيقاً أو لأب- أولى من عم الأب؛ لأن ابن الم يجتمع مع الميت في جده، وعم الأب إنما يجتمع مع الميت في جد الجد. أَمَّا الابْنُ فَعَصَبَةٌ لما انقضى كلام المصنف على أسباب التوارث ابتدأ بالكلام على الوارثين بطريق التفصيل. وقوله: (عَصَبَةٌ) أي: يأخذ المال إذا انفرد، والباقي بعد ذوي الفروض، ولا إشكال في تعصيب الابن. وإخباره عن الابن بالعصبة؛ إما بناءً على أن العصبة تطلق على المفرد، وإما على أن المراد بالابن الجنس. الجوهري: وعصبة الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، وإنما سموا عصبة؛ لأنهم عصبوا به؛ أي: أحاطوا به. وَأَمَّا ابْنُ الابْنِ فَيَحْجُبُهُ الابْنُ، وَالأَقْرَبُ يَحْجِبُ الأَبْعَدَ، وَإِلا فَعَصَبَةٌ أي: ابن الابن؛ واحداً كان أو جماعة فيحجبه الابن، والأقرب من ولد الابن يحجب الأبعد، فالابن يحجب ابن الابن، وهكذا.

وَأَمَّا الأَبِ فَالسُّدُسُ مَعَ الابْنِ وَابْنِهِ، وَمَعَ الْفَرْضِ الْمُسْتَغْرِقِ أَوِ الْعَائِلِ كَزَوْجٍ وَابْنَتَيْنِ وَأُمٍّ وَأَبٍ، وَإِلا فَمَا بَقِيَ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ فَرْضاً ... للأب ثلاث حالات: الأولى: أن يرث بالفرض فقط، والثانية: بالتعصيب فقط، والثالثة: أن يرث بهما: أما الحالة الأولى: فإذا كان مع الابن، أو ابنه، أو الفرض المستغرق كابنتين وأبوين، أو العائل، ومثاله ما ذكره المصنف: زوج وابنتان وأم وأب، أصل الفريضة من اثني عشر؛ لحصول الربع والسدس: للزوج ثلاثة، ولكل واحد من البنتين أربعة، ولكل من الأب والأم سهمان؛ فتعول إلى خمسة عشر. الحالة الثانية: أن يرث بالتعصيب فقط، وذلك إذا لم يكن في المسألة ولد؛ لا ذكر ولا أنثى، فإن انفرد أخذ جميع المال، وإلا أخذ الباقي بعد ذوي الفروض، وإليه أشار بقوله: (وَإِلا فَمَا بَقِيَ). والثالثة: وإليها أشار بقوله: (وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ فَرْضاً) وذلك مع البنت، أو بنت الابن، أو الاثنين من ذلك فصاعداً، فيفرض له أولاً السدس، ثم يأخذ الباقي بالتعصيب إن بقي شيء. وَأَمَّا الْجَدُّ فَكَالأَبِ، وَيَحْجُبُهُ الأَبُ أي: في الأحوال الثلاثة، ولا خلاف أن الأب يحجب الجد، ولا أن الأقرب من الأجداد يحجب من فوقه.

وَيَاخُذُ مَعَ الإِخْوَةِ الذُّكُورِ أَوْ الإِنَاثِ الأَشِقَّاءِ أَوْ لأَبٍ الأَفْضَلُ مِنَ الثُّلُثِ أَو الْمُقَاسَمَةِ، فَيُقَدَّرُ أَخاً ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّقِيقُ أَوِ الشَّقِيقَةُ عَلَى غَيْرِهِمَا بمَا كَانَ لَهُمَا لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ ... هذا مما يفترق فيه الأب والجد، فإن الأب يُسْقِطُ الإخوة مطلقاً، والجد لا يُسْقِطُهُم، وله معهم حالتان: الأولى: ألا يكون معهم ذو فرض، والثانية: أن يكون معهم ذو فرض. فإن لم يكن معهم ذو فرض فللجد مع الإخوة والأخوات- سواء اكنوا شقائق أو لأب، وسواء اجتمع الذكور والإناث، أو انفرد أحدهما- أَخْذُ الأفضل مِنْ ثلث جميع المال أو المقاسمة؛ فيقاسم أخاً واحداً أو أختين أو ثلاث أخوات. وإن كان أخوان أو أربع أخوات، استوت المقاسمة والثلث، فإن زاد الإخوة على اثنين، أو الأخوات على أربع، لم ينقص من الثلث. وقوله: (فَيُقَدَّرُ أَخاً) أي: في مقاسمة الإخوة. وقوله: (ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّقِيقُ أَوِ الشَّقِيقَةُ) يعني: إذا اجتمع مع الجد الأشقاء وللأب عَادَّ الأشقاء الجد بالإخوة للأب؛ ليمنعوه بذلك كثرة الميراث، فإذا أخذ الجد حصته رجع الأشقاء على الذين للأب بماكان لهم لو لم يكن جدن فإن كان شقيق أو أكثر، فلا شيء للأخوة للأب. وإن لم يكن في الأشقاء ذكر أخذت الواحدة النصف، والاثنتان الثلثين، ثم إذا فضل شيء فهو للإخوة للأب. وما ذهب إليه مالك من المْعَادَّة هو قول زيد بن ثابت، قالوا: وانفرد بها من غير الصحابة، لكن تبعه غير واحد. ووجهها: أن من حجة الشقيق أن يقول للجد: (أنا لو لم أكن لم تَمْنَع أنت الأخ للأب، فأستحق أنا ما يستحقه؛ لأني أنا الذي منعته) ولأن الجد يحجبه الأخ للأب عن كثرة الميراث؛ فيحجبه وارثاً، وغير وارث كالأم والإخوة للأم.

وقوله: (ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّقِيقُ) فيه استعارة؛ إذ ليس هنا دفع حتى يتعقبه استرجاع، وإنما هو تقدير؛ أي: على ما جعل للإخوة للأب يحوَّل للأشقاء. فَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتْ شَقِيقَةٌ، وَإِخْوَةٌ لأَبٍ، وَجَدٍّ؛ أَخَذَتِ الشَّقِيقَةُ النِّصْفَ أي: فلأجل رجوع الشقيقة بما لها لو توفي وترك أختاً شقيقة وجداً وثلاثة إخوة لأب-لأن أقل الجمع ثلاثة- فللجد الثلث، وهو خير له من المقاسمة، وللشقيقة النصف، والباقي للإخوة للأب؛ فتصح من ثمانية عشر. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُو سَهْمٍ فَلِلْجَدِّ الأَفْضَلُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ أَوْ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ السُّدُسِ هذه هي الحالة الثانية؛ أي: فإن كان مع الجد والإخوة ذو فرض، فإن له بعد أخذ صاحب الفرض فرضه-الأفضل من ثلاثة أشياء؛ ثلث ما بقي، أو المقاسمة فيكون كأحد الإخوة، أو السدس من رأس المال. فإذا توفي وترك جدة، وجداً، وأختاً، أو أختين أو ثلاثاً أو أربعاً، أو أخاً، أو أخوين، أو أخاً مع أخت، أو أخاً مع أختين- كانت المقاسمة خيراً للجد. وفي مسائل غير هذه؛ وهي: إذا خرج الربع، أو الربع مع السدس، فإن زاد الإخوة على أخوين، أو أربع أخوات- كان ثلث ما بقي خيراً له من المقاسمة، ومن السدس. فإن كان مع الزوج، ومثله البنت، وقد زاد الإخوة على اثنين او عِدلهما، وذلك أربع أخوات أو أخ وأختان- استوى ثلث ما بقي والسدس من رأس المال. فإن كان الجد مع البنت والزوجة- قاسم أخاً وأختين. فإن زاد عدد الإخوة - كان السدس خيراً. أما لو ترك أماً وجداً وأختاً فأخذت الأم ثلثها لكانت المقاسمة خيراص للجد، فيكون له ثلثا ما بقي وللأخت ثلثه؛ فتصح المسألة من تسعة.

وتسمى هذه المسألة الخرقاء؛ لأنه اختلف فيها خمسة من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك تسمى الخمسة؛ وهم: أبو بكر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بنثابت وبيان مذاهبهم في المطولات، وذكرناها للتنبيه على المعمول به من الخلاف. ثُمَّ يَتَرَاجَعُ الإِخُوَةُ أي: الأشقاء على الإخوة للأب بعد معادتهم بهم كما تقدم. إِلا فِي مَسْأَلَةٍ تُسَمَّى الأَكْدَرِيَّةَ وَالْغَرَّاءَ؛ وَهِيَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَجَدُّ، وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ لأَبٍ، فَيُفْرَضُ لِلأُخْتِ وَلَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ مَعَهَا إِلَى الْمُقَاسَمَةِ لِمَا لَزِمَ مِنْ نُقْصَانِهِ، أَوْ حِرْمَانِهَا مَعَ إِمْكَانِ الْفَرْضِ ... هذا راج إلى قوله: (فيقدر أخاً) أي: أنه يقدر أخاً، إلا في هذه المسألة، فإنه لا يقاسم الأخت، ولا يقدر أخاً، بل يفرض له ولها، ثم يرجع معها إلى المقاسمة. واختلف في سبب تسميتها الأكدرية: فقيل: لتكدر أصل زيد فيها؛ لأن من أصله عدم الفرض للأخت مع الجد، وعدم العول لها معه. وقيل: لأن رجلاً فرضياً يقال له الأكدر. ويقال: إنه من بني الأكدر سأل عنها عبد الملك بن مروان وهو يومئذٍ خليفة، فأخطأ فيها، ثم استدرك خطأه وقال: إليك عني يا أكدر. وقيل: إن عبد الملك هو الذي سأله عنها. وقيل: لتكدر أقوال الصحابة، وكثرة أقوالهم فيها. وقيل: لأن امرأة من الأكدر ماتت وخلفتهم؛ فنسبت إليها. وسماها مالك رحمه الله الغراء، واختلف في سبب تلك التسمية؛ فقيل: إنها من غرة الفرس؛ لأنها لاشبيه لها في مسائل الجد؛ فهي كغرة الفرس. وقيل: من الغرور؛ لأن الجد غَرَّ الأخت بسكوته عنها حتى فرض لها النصف، ثم عاد فقاسمها. وهي من ستة: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، ثم أعيل للأخت بالنصف فصارت من تسعة؛ لأنه لو لم يفرض لها لكانت إما أن تشارك الجد في السدس

فيلزم نقصه منه، وهو لا ينقص منه، أو لا تشاركه فيلزم حرمانها مع عدم الحاجب؛ فلذلك فرض لها، هذا معنى قوله: (لِمَا لَزِمَ مِنْ نُقْصَانِهِ، أَوْ حِرْمَانِهَا مَعَ إِمْكَانِ الْفَرْضِ) أي: لو لم يفرض لها لزم أحد الأمرين، كل منهما لا يجوز. ثم يقول الجد للأخت: (لا ينبغي لك أن تزيدي عَليَّ في الميراث؛ لأني معك كالأخ فردي ما بيدك وبيدي ليقسم بيننا للذكر مثل حظ الأنثيين) والذي بيده سهم، والذي بيدها ثلاثة، فأربعة لا تصح على ثلاثة، فنضرب ثلاثة- عدد الرءوس المنكسرة- في الفريضة بعولها؛ تكون سبعة وعشرين، فيأخذ الزوج ثلثها؛ وهو تسعة، ثم تأخذ الأم ثلث الباقي؛ وهو ستة، ثم تأخذ الأخت ثلث الباقي؛ وهو أربعة، ثم يأخذ الجد ما بقي؛ وهو ثمانية. وربما ألفيت في المعايات، فيقال: أربعة ورثوا هالكاً، فأخذ أحدهم ثلث المال وانصرف، وأخذ الثاني ثلث ما بقي وانصرف، وأخذ الثالث ثلث ما بقي، وأخذ الرابع ما بقي. فَلَوْ كَانَتْ مَعَ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ أَوْ بنْتٍ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ فَلَيْسَتْ بالأَكْدَرِيَّةِ لأنها إن كانت مع أخ لا يمكن أن يفرض لها، وإن كنات مع أخت لا يلزم حرمانها؛ لأن الأم ترجع إلى السدس، وإن كانت مع ابنة تصير المسألة من اثني عشر؛ لأن للزوج حينئذٍ الربع وللأم السدس- وذلك خمسة- وللبنت النصف- وهو ستة- وللجد سهمان؛ فتعول إلى ثلاثة عشر، ولا يمكن أن يفرض للأخت مع البنت فتسقط. واستشكل بعض الفرضيين ما قلناه، إذا كان الأخوات اثنتين فأكثر، ورأى أن قياس قولهم في الأكدرية يوجب أن يفرض لهن؛ لأن نص الكتاب العزيز يوجب الفرض إذا لم يكن للميت ولد. وقوله: (أَوْ مَعَ غَيْرهِمْ) أي: كما لو كانت مع زوجة بدل الزوج، والله أعلم.

فَلَوْ كَانَ مَوْضِعُهَا أَخٌ لأَبٍ وَمَعَهُ إِخْوَةٌ لأُمٌ فَقِيلَ: لِلأَخِ السُّدُسُ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ أي: موضع الأخت، والمعروف من المذهب هو القول الثاني؛ ولهذا تسمى هذه الفريضة بالمالكية؛ قالوا: لأن مالكاً يوافق زيد بن ثابت في الفرائض إلا في هذه المسألة فإنه خالفه فيها فنسبت إليه، ووجه قول مالك رحمه الله تعالى أن الجد يقول للأخ للأب أو للإخوة للأب: أرأيت لو لم أكن معكم، أكان يكون لكم شيء؟ فيقولون: لا، فيقولك فليس حضوري بالذي يوجب لكم شيئاً لم يكن. والقول الأول قول زيد رضي الله نه، ووجهه أن للإخوة للأب أن يقولوا للجد: أنت لا تستحق شيئاً من الميراث إلا شاركناك فيه، فلا تحاسبنا بأنك لو لم تكن؛ لأنك كائن، ولو لزم ما قلته للزم في ابنتين وبنت ابن وابن ابن ألا ترث بنت الابن مابن الابن شيئاً، ولم يذهب إلى هذا إلا ابن مسعود رضي الله عنه. وَأَمَّا الأَخُ الشَّقِيقُ فَيَحْجُبُهُ الابْنُ وَابْنُ الابْنِ وَإِنْ سَفَلَ وَالأَبُ، وَإِلا فَعَصَبَةٌ، إِلا فِي الْحِمَارِيَّةِ، وَتُسَمَّى الْمُشْتَرَكَةَ؛ وَهِيَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ أَوْ جُدَّةٌ، وَأَخَوَانِ فَصَاعِداً لأُمٍّ، وَأَخٌ شَقِيقٌ ذَكَرٌ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ فَيُشَرِكُونَ الإِخْوَةَ لِلأُمِّ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ... لا لاف أن الأخ الشقيقي حجبه الابن، وابنه، والأب، وإن لم يكن أحدهم فهو عصبة، إن لم يفضل له شيء فلا شيء له؛ لأن العاصب كذلك، إلا في الحمارية؛ وهي التي ذكر المصنف صورتها. وسميت الحمارية؛ لأنها نزلت بعمر رضي الله عنه فقضي فيها بإسقاط الأشقاء، ثم نزلت به مرة أخرى، فأراد إسقاطهم أيضاً، فقال له الأخ الشقيق: هؤلاء استحقوا الثلث بأمهم، وأمهم هي أمنا، فهب أبانا كان حماراً أليس الأم تجمعنا؟ فقضى رضي الله عنه

بالاشتراك بينهم، فقيل له: يا أمير الممنين إنك قضيت فيها عَامَ أَوَّلٍ بخلاف هذا، فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا. ولتشريكهم تسمى أيضاً المشتركة، وإنما شارك الأشقاء الإخوة للأم إذا كان في الأخوة الأشقاء ذكر، سواء كنا معه إناث أو لم يكن. وإذا لم يكن فهين ذكر لم تكن مشتركة وتصير من مسائل العول، فإن كانت الأخوات واحدة فقد عالت بنصفها، وإن كن أكثر أعيل لهن بالثلثين. قال ابن يونس: فتصح من عشرة، وتسمى البلخاء. ولو كان موضع الأشقاء إخوة لأب لسقطوا؛ لعدم احتجاجهم بمثل ما احتجت به الأشقاء، فإن كان فيها جد: ابن عبد السلام: فلا نص عن مالك رحمه الله تعالى فيها، ومذهب زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أن للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، وللإخوة الأشقاء كذلك. واختلف أصحاب مالك فيها: فمنهم من قال بقول زيد وقال: إن للأشقاء قرابتين، فإذا حجب الجد بني الأم بقي للأشقاء سهمهم من قبل الأب؛ فيرثون مع الجد. ومنهم من جعل الثلث كله للجد، وحجتهم ما تقدم. انتهى. الجعدي: وذكر أبو النجا الفارض عن مالك السقوط؛ لأنالجد يقول للإخوة للأب: أرأيتم لو لم أكن أنا، أكان يجب لكم شيء ترثونه بأبيكم؟ فيقولون: لا، فيقول: فليس حضوري بالذي يوجب لك شيئاً لم يكن. الجعدي: وتأول مسألة الموطأ على ذلك، وتأول ذلك غيره أيضاً، وهو قول مالك رحمه الله. وقول المصنف: (الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) لأنهم إنما ورثوا بأمهم. وَأمَّا الأَخُ لِلأََبِ فَيَحْجُبُهُ الشَّقِيقُ وَمَنْ حَجَبَهُ، وَالشَّقِيقَةُ الْعَصَبَةُ، وَإِلا فَعَصَبَةٌ يعني: يحجب الأخ للأب الأخ الشقيق، والابن، وابنه، والأب، والشقيقة العصبة؛ كبنت، وأخت شقيقة، وأخ لأب، وإذا عدم الحاجب كان الأخ للأب عصبة.

وَأَمَّا الأَخُ لِلأُمِّ فَالسُّدُسُ ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلِلإثْنَيْنِ فَصَاعِداً الثُّلُثُ، وَيَحْجُبُهُمْ مَنْ حَجَبَ الشَّقِيقَ، وَالْبنْتُ وَإِنْ سَفَلَتْ، وَالْجَدُّ ... لا خلاف في ذلك، ولا يرث الإخوة للأم مع الأب مع الأب والجد وإن علا، ولا مع الولد- ذكراً كان أو أنثى- ولا مع بنت الابن، وإلى ذلك أشار بقوله: (وَإِنْ سَفَلَتْ). وهذا لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَلَة أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِ وَحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. والمراد: أخ أو أخت من الأم إجماعاً، وصرح بذلك في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه. والكلالة: الفريضة التي لا ولد فيها ولا والد، قاله الأزهري وغيره. وَأَمَّا ابْنُ الأَخِ فَيَحْجُبُهُ الأَخُ الْعَصَبَةُ مُطْلَقاً وَمَنْ حَجَبَهُ، وَالْجَدُّ، وَإِلا فَعَصَبَةٌ (مُطْلَقاً) أي: شقيقاً أو لا، فاحترز بـ (العصبة) من الأخ للأم فإنه لا يحجبها، وإنما حجبه الجد لأنه كأخ. ويدخل في قوله: (الأخ ومن حجبه) الأخت الشقيقة. (الْعَصَبَةُ) يريد: وكذلك التي للأب؛ لأنها في عدمها بمنزلتها، والله أعلم. وَالأَقْرَبُ يَحْجُبُ الأَبْعَدَ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فَالشَّقِيقُ يَحْجُبُ غَيْرَ الشَّقِيقِ هذا ضابط كلي في العصبات؛ وهو أن الأقرب يحجب الأبعد، فإن استووا في القرب وأحدهما يدلي بالشقاقة قدم، فلذلك قدم الأخ للأب على ابن الأخ الشقيق، والأخ الشقيق على الأخ للأب، وابن العم على عم الأب، والله أعلم. وَالْبَاقِي كَمَا فِي الْوَلاءِ هو ظاهر.

فَالْعَمُّ يَحْجُبُهُ ابْنُ الأخِ وَمَنْ حَجَبَهُ، وَابْنُ الْعَمِّ يَحْجُبُهُ الْعَمُّ الأَدْنَى وَمَنْ حَجَبَهُ، وَعَمُّ الأَبِ يَحْجُبُهُ ابْنُ الْعَمِّ مُطْلَقاً وَمَنْ حَجَبَهُ ... هذا مبني على الضابط المتقدم؛ لأن ابن الأخ أقرب منا لعم إذ هو يدلي بالبنوة، فإنه يجتمع مع الميت في أبيه، والعم إنما يجتمع معه في جده، وكلامه ظاهر. وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَإِنْ سَفَلَ فَالرُّبُعُ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12] ولا خلاف أن ولد الابن وإن سفل كالابن. وَالْمَوْلَى الْمُعْتَقُ يَحْجُبُهُ عَصَبَةُ النَّسَبِ، وَإِلا فَمَا بَقِيَ احترز بالمعتق من المولى الأسفل فإنه لا يرث، ثم بَيَّنَ أن عاصب النسب يحجب المولى الأعلى، وإن لم يكن عاصب من النسب فهو كعصبة. وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلاثْنَتَيْنِ فَصَاعِداً الثُّلُثَانِ مَا لَمْ يَكُنِ ابْنٌ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظُ الأُنْثَيَيْنِ ... لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وللابنتين الثلثان، وهو مذهب الجمهور. وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أن لهما النصف، وتمسك بمفهوم الشرط في قوله تعالى: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ). بعض المحدثين: وهي رواية ضعيفة، والصحيح مثل قول الجمهور. واحتج الجمهور بوجوه: أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم وَرَّثَ البنت وبنت الابن الثلثين على ما رواه البخاري؛ فالبنتان أولى.

وثانيها: أن للبنت مع الابن الثلث؛ فيكون لها مع البنت. ثالثها: أن مفهوم قوله تعالى: (وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا الْنِصْفُ) [النساء: 11] يعارضه. ورابعها: أنه عليه الصلاة والسلام أعطى البنتين الثلثين. قال الترمذي: وهو حديث صحيح. وَلِبنْتِ الابْنِ النِّصْفُ، وَللإثْنَتَيْنِ فَصَاعِداً الثُّلُثَانِ للإجماع على قيام ولد الابن مقام الولد. مَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ فَوْقَهَا أَوْ فَوْقَهُمَا أَوْ فَوْقَهُنَّ- فَالسُّدُسُ هذا شرط في استحقاق بنت الابن النصف وبنتي الابن الثلثين؛ أي: أن بنت الابن أو بنت ابن الابن إنما تأخذ النصف، والاثنتين فصاعداً إنما تأخذان الثلثين إذا لم تكن واحدة فوقها. وعمم بقوله: (وَاحِدَةً) البنت وبنت الابن؛ لأن بنت الابن فوق بنت ابن الابن، (أَوْ فَوْقَهُمَا) إن كانت بنات الابن اثنتين، (أَوْ فَوْقَهُنَّ) إن كن ثلاثاً، فحينئذٍ إنما للسفلى-سواء كانت واحدة أو أكثر- السدس. والأصل في هذا ما في البخاري عن هزيل- بالزاي- بن شرحبيل قال: ٍئل أبو موسى رضي الله عنه عن بنت وبنت ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فَسُئِلَ ابن مسعود وَأُخْبِرَ بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، أقضي يها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم؛ للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه، فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم.

وَيَحْجُبُهَا الابْنُ فَوْقَهَا، وَالْبِنْتَانِ فَوْقَهَا قوله: (وَالْبِنْتَانِ) يريد: أو بنتي الابن فوقها، إلا أن يكون في درجتها أو أسفل منها ذكر فيعصبها، ويرث الباقي؛ للذكر مثل حظ الأنثيين. وإلى ذلك أشار بقوله: فَإِنْ كَانَ ابْنٌ فِي دَرَجَتِهَا- مُطْلَقاً-أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا مَحْجُوبَةً لَوْلا هُوَ بالْبنْتَيْنِ فَوْقَهَا؛ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ مَعَه وَفَوْقَهُ ... قوله: (مُطْلَقاً) أي: سواء كان أخاها أو ابن عمها، ويحتمل أن يريد بقوله: (مُطْلَقاً) أن ابن الابن إذا كان في درجتها فسواء حجبت بالبنتين أو لم تحجب؛ لأن فوقها بنتاً واحدة، فإنه يعصبها كما يعصب الابن البنات، والأخ والأخوات. وقوله: (أَوْ أَسْفَلَ) يعني: أنه يعصبها سواء كان في درجتها أو أسفل منها. وقوله: (مَحْجُوبَةٌ) حال من ضمير (مِنْهَا) يعني: أنه إنما يعصبها حالة كونها محجوبة عن الدخول في الثلثين، وإذا عصبها فللذكر مثل حظ الأنثيين سواء كان الذكر في درجتها أو أسفل منها. ولا تكرار في كلام المصنف؛ لأنه ذكر قوله أولاً: (في درجتها أو أسفل) لأجل أنه يعصبها مطلقاً، وذكره ثانياً، لبيان قدر الإرث. وَلِلأُمِّ الثُّلُثُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَإِنْ سَفَلَ، أَوْ أَخَوَانِ، أَوْ أُخْتَانِ مُطْلَقاً-فَالسُّدُسُ لقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]. وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ) ظاهر، وقال المصنف رحمه الله: (وَإِنْ سَفَلَ) ليدخل ولد الابن. وكذلك يحجبها إلى السدس الأخوان، أو الأختان، يريد: أو الأخ والأخت، واستغنى عن ذلك بالأختين، وهذا مذهب الجمهور.

وأخذ عن ابن عباس رضي الله عنه بظاهر الآية الكريمة؛ أعني: قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فلم يحجبها الاثنين، وقد احتج رضي الله تعالى عنه على عثمان رضي الله عنه بأن الأخوين ليسا إخوة، فقال عثمان رضي الله عنه: حجبها قومك يا غلام. وأراد بقوله: (مُطْلَقاً) سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم أو مختلفين، حتى قال في العتبية في مجوسي تزوج ابنته فولد له منها ولدان، فأسلمت الأم والولدان، ثم مات أحد الولدين: أن للأم السدس؛ لأنالميت ترك أمه- وهي أخته - وترك أخاه؛ فتحجب الأم نفسها بنفسها من الثثل إلى السدس. ووافق ابن عباس رضي الله عنهما في زوج وأم وأخ وأخت لأم: أن للزوج النصف، وللأم السدس، وَلِكُلِّ من الأخ والأخت للأم السدس، ولو كان للأم الثلث لعالت المسألة. قيل: والإجماع على أن هذه الفريضة لا تعول. وفي الاحتجاج عليه بهذه المسألة نظر؛ لاحتمال أن يقول ابن عباس بسقوط الأخوين للأم على أصله في العول إذا أدى الأمر إليه. وَلَهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ ثُلُثُ مَا بَقِي زَوْجٍ وَأَبَوَانِ، وَزَوْجَةٍ وَأَبَوَانِ تسميان الغراوين لشهرتهما، وهذا مذهب الجمهور. ورأى بان عباس أن لها الثلث من رأس المال؛ لعموم قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلإُمِهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]. وحملها الجمهور على ما إذا انفردا بميراثه، وإلا فإذا أعطيت في هاتين المسألتين الثلث يؤدي إلى مخالفة القواعد؛ لأنها إذا أعطيت في مسألة الزوج الثثل تكون قد أعطيت ضعفي الذكر، وليس لذلك نظير؛ أعني: أن ذكراً وأنثى يدليان بجهة واحدة، ولها مثلاً ما للذكر.

وَلِلْجَدَّةِ فَصَاعِداً السُّدُسُ (أل) في (الجدة) للعهد، والمعهود ما قدمه أول الباب، حيث قال: (والجدة وإن علت غير أم جد). واعترض عليه قوله: (فَصَاعِداً) لأن هذه اللفظة إنما تستعمل غالباً إذا كان الزائد غير مغيًّي بغاية، أو مغيًّى ولكن ما بين المبدأ وتلك الغاية يتجزأ، وليس هنا كذلك؛ لأنه لا يرث عند مالك رحمه الله إلا جدتان. ولهذا اعترض على من ألف الفرائض على مذهب مالك وذكر عدداً كثيراً من الجدات. وإن كان قد أجيب عن ذلك بأن ذلك يتصور إذا كانت الأَمّةُ مشتركة بين رجال كثيرين ووطئها كل منهم في طهر واحد، وألحقت القَافَّة الولد بكل واحد منهم. لكن هذا الجواب إنما يتأتى على قول شاذ؛ وهو أنه يصح الاشتراك في الولد، لا على المشهور، أنه لا يصح الاشتراك فيه، وأنه يصير إلى أن يكبر، فيوالي من شاء. وأجيب عن قوله: (فَصَاعِداً) هنا بأنه لم يرد بقوله: (فَصَاعِداً) الجدتين: أم الأم وأم الأب فقط حتى يرد عليه السؤال، وإنما أراد: فصاعداً في أمهاتهما، وهو معنى قوله أول الباب: (وإن علت) وهذا لا يتغيًّي. وكون الجدة لها السدس هو مذهب الجمهور، وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن لها الثلث عند عدم الأم. ودليل الجمهور ما رواه مالك وأبو داود، والسند له عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب الهل من شيء، ولا علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله

صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله فقال: مالك في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً، لكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها. عب الحق: وهذا الحديث مشهور، إلا أنه غير متصل السماع. وَتَحْجُبُهَا الأُمُّ مُطْلَقاً، وَيَحْجُبُ الأَبُ الْجَدَّةَ مِنْ جِهَتِهِ قوله: (مُطْلَقاً) أي: سواء كانت الجدة للأب أو للأم، قريبة أو بعيدة، ويحجب الأب الجدة من جهته؛ لأن كل من توصل بشخص لا يرث معه، إلا الإخوة للأم. وَتَحْجُبُ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأُمِّ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأَبِ يعني: وأما إن كانتا متساويتين، أو كانت التي للأب أقرب، فلا حجحب، والسدس بينهما. وإنما حجبت القربى من جهة الأم؛ لأنها التي ورد فيها النص، وهي التي وَرَّثَهَا أبو بكر رضي الله عنه، والجدة للأب إنما ألحقها عمر رضي الله عنه، فصارت الجدة للأم أولى بشيئين: لقربها، ولورد النص فيها. وَالْقُرْبَى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ تَحْجُبُ بُعْدَاهَا هو ظاهر. وَالأُخْتُ الشَّقِيقَةُ فَمَا فَوْقَهَا كَالْبَنْتِ فَمَا فَوْقَهَا مَا لَمْ تَكُنْ بنْتٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَإِنْ سَفَلَتْ فَعَصَبَةٌ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرٌ مِثْلُهَا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ... (كاَلْبنْتِ) أي: فللواحدة النصف، وللاثنتين فأكثر الثلثان، ما لم تكن بنت واحدة أو أكثر.

وبالغ بقوله: (وَإِنْ سَفَلَتْ) لتدخل بنت الابن وإن سفلت؛ فحينئذٍ لا يفرض لها، وإنما تكون عصبة تأخذ ما فضل. وقوله: (فَإِنْ كَانَ ذَكَرٌ) إلى آخره؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وَيَحْجُبُهَا مَنْ حَجَبَ الشَّقِيقَ أي: الابن وابنه والأب. وَالأُخْتُ لِلأَبِ كَالشَّقِيقَةِ فِيمَا ذُكِرَ، مَا لَمْ تَكُنْ شَقِيقَةٌ غَيْرَ عَصَبَةٍ فَلَهَا وَلما زَادَ عَلَيْهَا السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ ... أي: فللواحدة النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان، وكذلك الأخت للأب فصاعداً عصبة البنات في عدم الشقيقة، فإن كان ذكر فللذكر مثل حظ الأنثيين. قوله: (مَا لَمْ تَكُنْ ...) إلخ. هو شرط في كون الأخت للأب كالشقيقة؛ أي: وإن كانت شقيقة واحدة غير عصبة فللأخت للأب فصاعداً السدس تكملة الثلثين كحكم بنت الابن مع البنت. واعترض ابن عبد السلام عليه بأن في قوله: (فما زاد) عموم يتناول الذكر، فيكون للأخت للأب مع الأخ للأب السدس، وهذا لا يقوله أحد. وأجيب بأن المتبادر للذهن في الزيادة أن تكون من جنس المزيد، فإن المراد بـ (ما زَادَ) أنثى فما فوقها، وأما إذا كان ذكراً فإنه يعصب الإناث، ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين كما يعصب ابن الابن بنات الابن إذا كانوا مع بنت الصلب، إلا أن بنات الابن يعصبن من في درجتهن ومن هو أسفل منهن، والأخت للأب لا يعصبها إلا من في درجتها، ولا يعصبها ابن أخيها؛ لأن ابن الأخ لا يعصب من في درجته، فلا يعصب من فوقه.

ويَحْجُبُهَا أَيْضاً الشَّقِيقُ وَمَنْ حَجَبَهُ، وَالشَّقِيقَةُ الْعَصَبَةُ، وَالشَّقِيقَتَانِ مُطْلَقاً أي: ويحجب الأخت للأب أيضاً الشقيق ومن حجبه، والشقيقة العصبة، كما لو خلف بنتاً فأكثر وأختاً شقيقة وأختاً لأب. وقوله: (وَالشَّقِيقَتَانِ مُطْلَقاً) أي: سواء كانتا عصبة أم لا. وَلِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ- وَإِنْ سَفَلَ - فَالثُّمُنُ هكذا قال الله في كتابه العزيز. وقوله: (وَلَدٌ) سواء كان منها أو من غيرها، وسواء كان ولد أو ولد ابن وإن سفل. ولا يحجبها ولد الزنى؛ لعدم لحاقه بالأب؛ نعم ولد الزنى يحجب الزوج من النصف إلى الربع للحاقه بأمه، والله تعالى أعلم. وَالْمَوْلاةُ كَالْمَوْلَى إِلا أَنَّهَا لا تَرِثُ إِلا مَنْ بَاشَرَتْ عِتْقَهَا أَوْ جَرَّةُ وَلاؤُهُ أَوْ عِتْقُهُ أي: والمولاة كالمولى؛ فترث من أعتقته كالمولى، وقد تقدم ما ذكره المصنف في باب الولاء. وَإِذَا اجْتَمَعَ سَبَبَا فَرْضٍ مُقَدَّرٍ وَرِثَ بأقْوَاهُمَا اتَّفَقَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي الْمَجُوسِ كَالأُمِّ، أَوِ الْبِنْتِ تَكُونُ أُخْتاً ... أي: إذا اجتمع في شخص واحد قرابتنا، يرث بكل منهما فرضاً. وقوله: (مُقَدَّرٍ) تأكيد، وإلا فكل فرض مقدر. (وَرِثَ بأقْوَاهُمَا) وهذا يتفق في المسلمين خَطَأً، وفي المجوس عمداً وخطأً. مِثَلُ كون الأم أختاً: أن يتزوج المجوسي أو المسلم جهلاً منه بعين المتزوجة بنتهن فتلد منه بنتاً، فهذه البنت اخت أمها لأبيها، وهي أيضاً بنت لها، فإذا ماتت الكبرى بعد موت

الرجل ورثتها الصغرى بأقوى السببين وهو البنوة: لأن البنوة لا تسقط، والأخوة قد تسقط. وأما ميراثها من هذا الرجل فليس من هذا الفصل، فهو أب لهما، فيرثان منه الثلثين، ولا أثر للزوجية؛ لأن النكاح مفسوخ، وسواء كان النكاح بين مسلمين، أو مجوسيين ثم أسلما. وأما إذا ماتت الصغرى فالكبرى أموأخت لأب، فترث بالأمومة لتوجه الذي ذكر في إرث البنوة. ولو تزوج أُمَّهُ فولدت منه بنتاً، فإذا مات ورثت الأم السدس بالأمومة؛ لأنه توفي عن ابنة، وورثت البنت النصف بالبنوة، ولا ترث بالأخوة للأم؛ لأن البنوة لا تسقط، والأخوة للأم قد تسقط. ولو تزوج أخته لأمه فولدت منه بنتاً وتوفي؛ فللبنت النصف، وللعاصب ما بقي، وليس للأخت للأم وهي الزوجة شيء؛ لأنها محجوبة بالبنت. وَأَمَّا نَحْوُ ابْنِ الْعَمَّ يَكُونُ أَخاً لأُمَّ فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فصلها بـ (أَمَّا) لأنها ليست مما تقدم، وعنها احترز بقوله أولاً: (سبباً فرض) يعني: وأما لو اجتمع في شخص واحد سببان أحدهما الفرض والآخر التعصيب فإنه يرث بهما كابن العم يكون أخاً لأم فيأخذ السدس بالأخوة، والباقي بالعصوبة، وكذلك إذا كان ابن العم زوجاً، فكذلك إذا كان المولى زوجاً. ولا خلاف في هذا؛ أعني: أنه يأخذ فرضه والباقي بالتعصيب إذا لم يكن معه من يشاركه في التعصيب، فأما إن كان معه من يشاركه في التعصيب وفي منزلته كابني عم يكون أحدهما أخاً لأم فقال ابن القاسم: يرث الأخ للأم السدس، ويقسم مع ابن عمه ما بقي بالسواء.

وقال أشهب: يترجح الأخ للأم؛ لأنه زاد بولادة أم كالأخ الشقيق مع الأخ للأب. وأجيب للأول بأن زيادة ولد الأم ليست في محل التعارض فلا توجب الترجيح، بخلاف مسألة الأخ الشقيق والأخ للأب ونحوهما. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ فَبَيْتُ الْمَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: لِذَوي الأَرْحَامِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ يُتَصَدَّق بهِ، إِلا أََنْ يَكُونَ الْوَالِي كَعُمَرَ بَنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ أي: وإن لم يكن وارث عاصب بنسب ولا ولاء فبيت المال وارث على المشهور، وهو عاصب؛ فيتسغرق المال إن لم يكن غيره، ويرث الباقي بعد ذوي الفروض. والقولان المتأخران مقابلان للمشهور، والأول مقيد بما إذا لم يكن عدلاً. قال في الجواهر: ولا يرث ذوو الأرحام، ولا يُرَدُّ على ذوي السهام. قال الأستاذ أبو بكر: قال أصحابنا: هذا في زمان يكون الإمام عدلاً، فأما إن كان غير عدل فينبغي أن يُوَرِّثَ ذوو الأرحام، وأن يَرُدَّ ما فضل عن ذوي السهام عليهم. وقال أيضاً: رأيت لابن القاسم في كتاب محمد قال: من مات ولاوارث له، قال: يتصدق بما ترك، إلا أن يكون الوالي يخرجه في جهته مثل عمر بن عبد العزيز مستحيل في زماننا عادة. وَمَالُ الْكِتَابيِّ الْحُرِّ الْمُؤَدِّي لِلْجِزْيَةِ-لأَهْلِ دِينِهِ مِنْ كَوْرَتِهِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ ... احترز بـ (الْحُرِّ) من العبد؛ فماله لسيده ولو كان السيد مسلماً. واحترز بـ (الْمُؤَدِّي لِلْجِزْيَةِ) مِنْ المُصَالَحِ. وقوله: (لأَهْلِ دِينِهِ) أي: إذا لم يكن له وارث حائز لجميع ماله.

قوله: (مِنْ كَوْرَتِهِ) لبيان الجنس؛ أي: يختص به أهل كورته. ابن شعبان: فإن كان مُصَالَحَاً فماله لمن جمعه وإياهم ذلك الصلح. وقوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ) بهذا قال محمد بن مسلمة وغيره، والأول أيضاً لابن القاسم. ونقل في البيان في باب العتق: والأول عن مالك في المبسوط والمخزومي، والثاني عن ابن حبيب. ونقل ثالثاً بالفرق بين أن تكون الجزية مجملة عليهم؛ يريد: فكالقول الأول، أو على جماجمهم؛ يريد: فكقول ابن حبيب، قال: وهو قول ابن القاسم. وَأُصُولُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ سَبْعَةٌ: اثْنَانِ، وَضِعْفُهُ؛ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَضِعْفُهُمَا؛ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، وَثَلاثَةٌ، وَضِعْفُهَا؛ وَهُوَ سِتَّةٌ، وَضِعْفُهَا؛ وَهُوَ اثْنَا عَشْرَةَ، وَضِعْفُهَا؛ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ... (أُصُولُ): جمع أصل، وأصل المسألة هو العدد الذي يخرج منه سهامها. و (أل) في (الْفَرَائِضِ) للعهد، وهي الستة المتقدمة، كان ينبغي على هذا أن تكون الأصول خمسة؛ لأن الستة راجعة إلى خمسة؛ إذ مخرج الثلث والثلثين واحد، لكن قد يتركب فرض مع آخر لا يتحد مخرجهما فيحتاج إلى أن يقام لهما عدد يوجدان فيه، كما لو اجتمع الثلث والربع، أو السدس والربع- فيحتاج إلى اثني عشر؛ لأن الثلث من ثلاثة، والربع من أربعة، فلا يجتمع الجزءان إلا بضرب أحدهما في الآخر. وكذلك السدس والربع يتوافقان بالأنصاف، ولا يجتمعان إلا بضرب نصف أحدهما في كامل الآخر. وكذلك أيضاً قد يجتمع الثلث والثمن، أو السدس والثمن، فيحتاج إلى أربعة وعشرين.

وَمَا لَيْسَ فِيهَا فَرْضٌ فَأَصْلُهَا عَدَدُ عَصَبَتِهَا، وَيُضَعَّفُ الذُّكُورُ إِنْ كَانَ إِنَاثٌ يَرِثْنَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ ... يعني: أن الفريضة إن كان فيها فرض، فمخرجها من الأصول السبعة كما تقدم، وإن لم يكن فيها فرض بل كان الورثة كلهم عصبة ذكوراً كانوا أو إناثاً كما لو أعتق جماعةُ نسوة واحداً - فأصل المسألة من عدد الوارثين. وإن كان في المسألة ذكوراً وإناثاً كبنين وبنات (وَيُضَعَّفُ الذُّكُورُ) أي: فَيُقّدَّرُ كل ذكر بابنتين؛ فتصح المسألة من عدد الإناث وضعف الذكور. وَالْغَرَضُ أَنْ تَكُونَ السِّهَامُ صَحِيحَةً أي: الغرض بوضع الأًول السبعة أن تكون سهام المسألة صحيحة. فَالنِّصْفُ مِنِ اثْنَيْنِ وَالرُّبُعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ والثُّمُنُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ أي: كل مسألة فيها نصف وما بقي كزوج وأخ، أو نصفان كزوج وأخت- فهي من اثنين. قوله: (وَالرُّبُعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ) أي: وكل مسألة فيها ربع وما بقي كزوج وابن، أو زوجة وأب، أو فيها ربع نونصف وما بقي كزوج وبنت وأخ فهي من أربعة، أو فيها ربع وثلث وما بقي كزوجة وأب وأم. قوله: (والثُّمُنُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ) أي: كل مسألة فيها ثمن وما بقي كزوجة وابن، أو ثمن ونصف كزوجة وبنت، أو ثمن ونصف وما بقي كزوجة وبنت وعاصب- فهي من ثمانية. وَالثُّلُثُ مِنْ ثَلاثَةٍ أي: وكل مسألة فيها ثلث وما بقي كأم وعم، أو ثلثان وما بقي كأختين وعاصب، أو ثلثان وثلث كأختين شقيقتين وأختين لأم- فهي من ثلاثة.

وَالسُّدُسُ مِنْ سِتَّةٍ أي: وكل مسألة فيها سدس وما بقي كأم وابن، أو سدس ونصف وما بقي كأم وبنت وعم، أو سدس وثلث وما بقي كأم وولدي أم وعم، أو نصف وثلثان كزوج وأختين، أو نصف وثلث وما بقي كأم وزوج وعم- فهي من ستة. وَالرُّبُعُ وَالثُّلُثُ أَوِ السُّدُسُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ يعني: أن الاثني عشر مَخْرَجُ فريضتين وهما: إما الربع مع الثلث، أو الربع مع السدس كزوجة وأم وأخ، أو زوج وأم وابن. أو ربع وثلثان وما بقي كزوج وبنتين وعم. أو ربع وثلثان وسدس وما بقي كزوجة وأخوين لأم وأم وأخ. أو ربع وثلثان وسدس كزوج وبنتين وأم. أو ربع وثلثان وثلث وسدس كزوجة وأختين شقيقتين أو لأب وأخوين لأم وأم. وَالثُّلُثُ أَوْ السُّدُسُ وَالثُّمُنُ مِنْ أَرْبَعَةِ وَعِشْرِينَ يعني: والأربعة والعشرون تكون إذا اجتمع الثمن والثلث، أو السدس والثمن. إلا أن ما ذكره رحمه الله من اجتماع الثلث مع الثمن لا يصح؛ لأن الثمن لا يكون إلا للزوجة أو الزوجات عند وجود الولد، فإذا وجد الولد لا يكون ثلث؛ لأن الثلث إنما هو للإخوة للأم أو للأم. والإخوة للأم لا يرثون مع الولد، والأم إنما لها مع الولد السدس. إلا أن يقال: إنما تكلم على اجتماعهما على طريق الفرضوالتقدير، ولئن سُلِّمَ نفي فرضها في الفرائض فقد يجتمعان في الوصية.

وقد يريد بالثلث جنس الثلث، لا بقيد الوحدة؛ لأن الثلثين يجتمعان مع الثمن كزوجة وابنتين وأخ. ولا خفاء في اجتماع السدس مع الثمن كزوجة وأم وابن. وَهِيَ عَائِلَةٌ وَغَيْرُ عَائِلَةٍ؛ فَالْعَائِلَةُ السَّتِّةُ وَأُخْتَاهَا، فَالسِّتَّةُ إِلَى سَبْعَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَتِسْعَةٍ وَعَشَرَةٍ ... يعني: أن المسائل منها عائل وغير عائل. والعول في الاصطلاح: زيادة سهام الورثة على سهام المسألة؛ لذلك لا يتوصل وارث إلى حقه إلا بنقص يلحقه. ابن يونس: وأول من نزل به العول عمر بن الخطاب رضي الله نه فقال: لا أدري مَنْ قَدَّمَهُ الكتاب فأقدمه، ولا مَنْ أَخَّرَهُ فأؤخره، ولكن قد رأيت رأياً، فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأً فمن عمر؛ وهو أن يدخل الضرر على جميعهم، وينقصكل واحد من سهمه. ويقال: إن الذي أشار عليه بذلك العباس رضي الله عنه، ولم يخالفه أحد من الصحابة إلا ابن عباس، لكنه لم يظهر الخلاف إلا بعد موته، وعلل ذلك بأن عمر رضي الله عنه كان رجلاً مهيباً، وقال: لو أن مر نظر فيمن قَدَّمَهُ الكتاب فقدمه، ومن أخر فأخره، ما عالت مسألة، قيل له: وكيف يصنع؟! قال: ينظر أسوأ الورثة حالاً وأكثرهم تغييراً فيدخل عليه الضرر؛ يريد: فيسقط حظه أو من حظه ما زاد على المسألة. ابن يونس: وهو على قوله البنات والأخوات. والصواب ما ذهب إليه الجماعة كالمحاصة في الديون. انتهى. ثم ذكر أن العائل: (السِّتَّةُ وَأُخْتَاهَا) أي: الاثنا عشر، والأربعة والعشرون، فالستة تعول إلى سبعة وثمانية وتسعة وعشرة، مثال عولها إلى سبعة: زوج وأختان، فينقص كل واحد سبع ماله.

ومثال عولها إلى ثمانية: زوج وأختان وأم، فينقص كل واحد ربع ما بيده. ومثال عولها إلى تسعة: زوج وأختان شقيقتان أو لأب وأخت لأم وأم، فينقص كل واحد ثلث ما بيده. ومثال عولها إلى عشرة: زوج وأختان شقيقتان أو لأب وأختان لأم وأم، فينقص كل واحد خمسا ماله. وتسمى هذه المسألة: أم الفروج؛ لكثرة السهام العائلة فيها، والشريحية؛ لوقوعها في زمن شريح وقضائه فيها. ولا يمكن عولها إلى ثمانية أو تسعة أوعشرة إلا والميت امرأة. وَالاثْنَا عَشَرَ إِلَى ثَلاثَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يعني: أن الاثنا عشر تعول بالإفراد فقط، ومثال عولها إلى ثلاثة عشر: زوجة وأم وأختان لأب. عالت بمثل نصف سدسها. ومثال عولها إلى خمسة عشر: زوجة وأختان شقيقتان أو لأب وأختان لأم، عالت بمثل ربعها. ومثال عولها إلى سبعة عشر: زوجة وأختان شقيقتان أو لأب وأختان لأم وأم أو جدة، عالت بمثل ربعها وسدسها. ومنه مسألة أم الأرامل؛ وهي: ثلاث زوجات، وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثماني أخوات شقائق أو لأب، فذلك سبع عشرة امرأة. فلذلك تلقى في المعاياة، فيقال: سبع عشرة امرأة ورثن سبعة عشر ديناراً، لكل واحدة ديناراً بفروض مختلفة.

وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهِي زَوْجَةً وَابْنَتَانِ وَأَبَوَانِ، وَتُسَمَّى الْمِنْبَرِيَّةَ؛ لِقَوْلِ عَلِي رَضيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا عَلَى الْمِنْبَرِ: صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعَاً ... لعله إنما مثلها لإفادة تسميتها، والفُرَّاض يعتنون بذلك، وعلل تسميتها بالنمبرية؛ لجواب عليِّ فيها على النمبر بأن ثمنها صار تسعاً، ثم مضى في خطبته بلا توقف، ولهذا قال الشعبي: ما رأيت أحسب من عليِّ رضي الله عنه. وَإِذَا انكَسَرَتِ السِّهَامُ عَلَى صِنْفٍ فَوَفَّقْ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اضْرِبْ وَفْقَ الصَّنْفِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَولِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً فَإِنْ لَمْ يَتَوافَقَا فَاضْرِبْ عَدَدَهُمْ ... لما قَدَّمَ الكلام على أصول مسائل الفرائض انتقل إلى بيان الكيفية بها. ولا إشكال في المسألة إذا انقسمت على الورثة كزوج وثلاثة بنين، ولهذا لم يتعرض المصنف رحمه الله له. وإن لم تنقسم فانظر بين السهام وعدد الرءوس؛ فإما أن يتوافقا، وإما أن يتباينا: فإن توافقا فاضرب وفق الصنف؛ أي: الجزء الذي وافق به الصنف سهامه في أصل المسألة وعولها إن كانت عائلة، ولو ضربنا عدد رءوسهم في أصل المسألة لحصل المقصود، لكن المطلوب الاختصار؛ فلهذا كان إخراج المسألة من العدد الكثير مع إمكان إخراجها مع العدد اليسير ليس بجيد عند الفُرَّاضَ، وإن كان عبد الغافر ربما خالف في هذا، وفعله ابن الجلاب في كتاب الزكاة في تراجع الخلطاء. وإن تباين السهام وعدد الرءوس فاضرب عدد رءوسهم في أصل المسألة، ثم تقول: من كان له شيء أخذه مضروباً فيما ضربت فيه المسألة: مثال انكسارها على صنف والمسألة غير عائلة: أربع بنات وأخت، المسألة من ثلاثة؛ للبنات سهمان لا ينقسمان على أربعة- عدد رءوس البنات- لكنهما يتوافقان بالنصف،

فاضرب وفق الرءوس-وهو اثنان- في الفريضة؛ وهي ثلاثة- تخرج لك ستة، ثم تقول: من كان له شيء من ثلاثة أخذه مضروباً في اثنين. ومثال انكسارها وهي عائلة: أربع أخوات شقائق وأختان لأم وأم، المسألة من ستة وتعول إلى سبعة؛ فانكسرت على عدد الشقائق ووافقتها؛ فاضرب وفق رءوس الأخوات- وهو اثنان- في الفريضة بعولها تكون أربعة عشر، وتقول: من له شيء من سبعة أخذه مضروباً في اثنين. ومثال انكسارها على صنف مع تباين الرءوس والسهام وهي غير عائلة: بنت وثلاث أخوات شقائق: المسألة من اثنين؛ للبنت النصف، والنصف الآخر للأخوات، مباين لهن، فتضرب ثلاثة في اثنين. ومثال التباين وهي عائلة: زوج وثلاث أخوات شقائق أو لأب: أصلها من ستة وتعول إلى سبعة؛ للأخوات أ {بع منكسرة على ثلاثة مباينة، فتضرب ثلاثة في سبعة بإحدى وعشرين، ثم تقول: من له شيء من سبعة أخذه مضروباً في ثلاثة. وَإِنِ انْكَسَرَتْ عَلَى صِنْفَيْنِ فَوَفَّقْ بَيْنَ كُلِّ صِنْفٍ وَبَيْنَ سَهِامِهِ فَقَدْ يَتَوَافَقَانِ، وَقَدْ يَتَبَايَنَانِ، وَقَدْ يُوَافِقُ أَحَدُهُمَا وَيُبَايِنُ الآخَرُ، ثُمَّ كُلُّ قِسْمٍ مِنَ الأَقْسَامِ الثَّلاثَةِ يَدْخُلُ صِنْفَيْهِ التَّمَاثُلُ وَالتَّدَاخُلُ، وَالتَّوَافُقُ وَالتَّبَايُنُ ... لما قَدَّمَ الكلام على كيفية العمل إذا انكسرت السهام على صنف شرع فيما إذا انكسرت على صنفين، وضمير (انْكَسَرَتْ) عائد على السهام، وذكر رحمه الله أنه يُوَفَّقُ بين كل صنف وسهامه، ولذلك ثلاث حالات: الأولى: أن يوافق كل صنف سهامه فَيُرَدُّ عدد كل صنف إلى وفقه. الثانية: أن يباين كل صنف سهامه. الثالثة: أن يوافق أحدهما ويباين الآخر.

ثم ما حصل بعد الموافقة فيهما، أو المباينة فيهما، أو الموافقة في أحدهما والمباينة في الآخر يُنْظَرُ فيه نظراً ثانياً؛ إما أن يتماثل ما حصل من كل واحد من الصنفين، أو يدخل أحدهما في الآخر، أو يوافقه، أو يباينه. فإذا ضربت ما يمكن إنتاجه بالنظر الأول في ما يمكن إنتاجه بالنظر الثاني كان الخارج اثنتي عشرة صورة، وسيذكر المصنف هذا. فَالتَّدَاخُلُ أَنْ يُفْنِيَ أَحَدُهُمَا الآخَر أَوَّلاً المراد بالإفناء: أن يخرج الأقل من الكثير مرتين أو ثلاثاً أو أكثر إلى ألا يبقى من الأكثر شيء؛ فيكون آخر ما يخرج من الأكثر مساوياً للباقي من الأكثر، مثاله الاثنان مع الأربعة أو الستة أو الثمانية، ولا يشترط ألا يكون الأقل أصغر من العشر بل يصح أن يكون نصف عشر كالاثنين معاً مع العشرين، وربما عرف بالتداخل بأن يكون الكثير كضعفي القليل، أو أضعافه، أو يكون القليل جزءاً من الكثير. وَالتَّوَافُقُ أَنْ يُفْنِيَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ غَيْرَ الأَوَّلِ كالثمانية مع العشرة، فإنك بعد إسقاط الأربعة من العشرة مرتين لا تبقى أربعة حتى يسقط، بل تبقى منها اثنان تعود بهما على الثمانية فتفنيها في أربع مرات، فقد حصل الإنفاء باثنين، ونسبة المفرد إليهما النصف، فتكون الموافقة بينهما بالنصف، وهكذا على عدد وقع به الإفناء، فإنك تنظر النسبة إلى العدد المفني فيكون جزء الموافقة، فإذا سئلنا عن التسعة والخمسة عشر أسقطنا التسعة منها فتبقى ستة لا يمكن إسقاط التسعة منها، فتعود على التسعة بستة تبقى ثلاثة، فتعود بها على الستة فتفنيها فتعلم أن الموافقة بين التسعة والخمسة عشر بنسبة واحد إلى ثلاثة، وهو الثلث. ولا فرق في ما وقع به الإفناء بين أن يكون الواحد بالنسبة إليه جزءاً أصم، أو لا. وإلى هذا أشار بقوله:

فَيُوَافِقُهُ بنِسْبَةِ الْمُفْرَدِ إِلَى الْعَدَدِ الْمُفْنِي، وَتَكُونُ الْمُوَافَقَةُ بجْزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ وَغَيْرِه حَسَبَ مَا يَقَعُ بهِ الإِفْنَاءُ .. أما لو وقع الإفناء ثانياً بمفرد، فإن ذلك تباين؛ كالأربعة مع الخمسة، والستة مع السبعة، والله أعلم. فَإِنَّ تَمَاثَلا ضَرَبْتَ أَحَدَهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ كَامِّ وَأَرْبَعُ أَخَوَاتٍ لأُمِّ وَسِتَّةِ أَخَوَاتٍ لأَبٍ يعني: فإن تماثل الصنفان المنكسر عليهما سهماهما فتستغني بأحدهما عن الآخر، وتضربه في أًل المسألة، وتصير المسألة كأنها انكسرت على صنف واحد. كالمسألة التي ذكرها المصنف، وهي من ستة؛ للأم السدس؛ سهم، وللأخوات للأم الثلث سهمان غير منقسمين عليهم، لكن يوافقان عددهم بالنصف، وللأخوات للأب ما بقي، وذلك ثلاثة أسهم غير منقسمة عليهم، لكن توافق عددهم بالثلث؛ فنصف الأخوات للأم اثنان، وثلث الإخوات للأب اثنان، فتستغني بأحدهما، وتضرب اثنين في أصل المسألة باثني عشر. من كان له شيء من ستة أخذه مضروباً في اثنين؛ للأم سهم في اثنين باثنين، وللأخوات للأم سهمان في اثنين بأربعة، لكل واحد منهم سهم، وللأخوات للأب ثلاثة في اثنين بستة، لكل واحد سهم. وَإِنْ تَدَاخَلا ضَرَبْتَ الأَكْثَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ كَأمَّ وَثَمانِيَةِ إِخْوَةٍ لأُمَّ وَسِتَّةٍ لأَبٍ وهذا أيضاً من ستة؛ للأم سهم، وللثمانية للأم الثلث سهمان لا ينقسم عليهم، لكن يوافق عدتهم بالنصف وهو أربعة، وللإخوة للأب ثلاثة أسهم لا ينقسم عليهم، ولكن يوافق عدتهم بالثلث، وثلثهم اثنان، وهما داخلان في أربعة؛ فتستغني بالأكثر عن الأصغر، وتضرب المسألة في أربعة بأربعة وعشين؛ للأم أربعة، وللإخوة للأم ثمانية، لكل واحد سهم، وللإخوة للأب اثنا عشر، لكل واحد سهمان.

فَإِنْ تَوَافَقَ ضَرَبْتَ وَفْقَ أحَدِهِمَا فِي كَامِلِ الآخَرِ، ثُمَّ في الْمَسْأَلَةٍ؛ كَامَّ، وَثَمَانِيَةٍ لأُمِّ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَخاً لأَبٍ ... هي أيضاً من ستة؛ فللإخوة للأم سهمان غير منقسمين عليهم، وهما موافقان لعدتهم بالنصف، وللإلخوة للأب ما بقي ثلاثة، وهي لا تنقسم عليهم، وتوافق عدتهم بالثلث، وثلثهم ستة، وهي مواققة للأربعة وفق الإخوة للأم بالنصف؛ فتضرب وفق أحدهما في كامل الآخر- اثنان في ستة، أو ثلاثة في أربعة-باثني عشر، ثم تضرب الاثني عشر في ستة التي هي المسألة باثنين وسبعين. من كان له شيء من أصل المسألة أخذه مضروباً في اثني عشر. وَإِنْ تَبَايَناً ضَرَبْتَ كَامِلَ أَحْدِهِمَا في كَامِلِ الآخَرِ، ثُمَّ فِي الْمَسأَلَةِ كَأُمِّ وَأَرْبَعَةٍ لأُمِّ وَسِتَّةِ أَخَوَاتٍ شَقَائِقَ ... أصل المسألة من ستة، وتعول إلى سبعة؛ للأم سهم، وللإخوة للأم سهمان يوافقان عدد الإخوة بالنصف، وللأخوات الست أربعة، يتفق مع رءوسهن بالنصف. ووفق الإخوة للأم اثنان، ووفق الأخوات ثلاثة، والوفقان متباينان؛ فتضرب كامل أحدهما في كامل الآخر، فالخارج ستة تضربها في أصل المسألة بعولها، فتبلغ اثنين وأربعين. من له شيء من سبعة أخذه مضروباً في ستة. وَبَقِيَة الاثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةَ أَوْضَحَ قد تقدم من كلامنا كيفية بلوغ هذه المسائل اثنتي عشرة صورة، ولما ذكر المصنف رحمه الله منها أربعة، قال: بقيتها أوضح؛ لقلة العمل وذلك لأن المصنف رحمه الله تكلم على ما إذا وافق كل صنف سهامه، والنظر فيه من وجهين: الأول النظر بين السهام والصنف، والثاني فيما بين الصنفين.

أما إذا باين كل صنف سهامه، فلا عمل إلا بين الصنفين، لا بين السهام والصنفين. وكذلك إذا وافقت السهام أحد الصنفين وباينت الآخر أسهل مما إذا وافق كل صنف سهامه. وأما إذا باين كل صنف سهامه فأربع صور: إن تباين الصنفان كثلاث زوجات وشقيقتين ضربت ثلاثة في اثنين بستة، ثم في أصلها بأربعة وعشرين، وتسمى مباينة المباينة. وإن توافقا كتسع بنات وستة أشقاء ضربت وفق أحدهما في الآخر بستة، ثم في ثلاثة الأصل بثمانية عشر، فهذه موافقة المباينة. وإن تداخلا كزوجتين وبنت وأربعة أشقاء، ضربت الأكثر- وهو أربعة- في ثمانية الأصل باثنين وثلاثين، فهذه مداخلة المباينة. وإن تماثلا كزوجتين وشقيقتين، ضربت أحدهما في ثمانية الأصل بستة عشر، فهذه مماثلة المباينة. وإن وافق أحد الصنفين سهامه وباين الآخر، فأربع صور أيضاً، وانظرها في الجواهر. وَإِنِ انْكَسَرَتْ عَلَى ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ فَاعْمَلْ فِيهَا كَالصِّنْفَيْنِ، فَإِنْ حَصَلَ تَمَاثُلٌ أَوْ تَدَاخُلٌ رَجَعْتَ إِلَى صِنْفٍ أَوْ صِنْفَيْنِ ... يعني: فإن انكسرت الفريضة على ثلاثة أصناف- وهذا غاية ما تنكسر فيه الفرائض على المذهب- فاعمل فيها كالصنفين؛ بأن تنظر بين كل صنف وسهامه بالموافقة والمباينة، فما حصل بيدك من تلك الأصناف فانظر فيها بالوجوه الأربعة؛ وهي: المماثلة، والمداخلة، والموافقة، والمباينة، فإن تماثلت كلها رجعت إلىصنف واحد، وكذلك إن دخل اثنان في واحد. وإن تماثلا اثنان، أو دخل أحدهما في الآخر رجعت إلى صنفين.

وَإِلا فَالْكُوفِيُّونَ يَقِفُونَ عَدَداً ثُمَّ يَضْرِبُونَ وَفْقَ أَحَدِ الْبَاقِينَ فِي كَامِلِ الآخَرِ، ثُمَّ يُوَفَّقُونَ بَيْنَ مَا حَصَلَ وَبَيْنَ الْمَوْقُوفِ، ثُمَّ يَضْرِبُونَ الْوَفْقَ فِي الْكَامِلِ-مَا لَمْ يَكُنْ تَدَاخُلٌ فَيَسْقُطُ-ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ .. قوله: (وَإِلا) أي: وإن توافقت الأعداد. وترك التباين لوضوحه؛ إذ حكمه ضرب أحدهما في الآخر، ثم ضرب الحاصل في الآخر، ثم في أصل المسألة؛ يعني: واختلف طرق الفرضيين في كيفية العمل حتى تصير الأعداد الثلاثة إلى عدد واحد. والخلاف راجع إلى كيفية العمل، وإلا فالجميع موصل إلى معنى واحد، وطريق الكوفيين أسهل، وطريق البصريين أكثر تعنتاً. فالكوفيون- كما قال المصنف- ينظرون إلى عددين من الثلاثة- أَيَّ عددين كانا - فيضربون وفق أحدهما في كامل الآخر، فما خرج من الضرب وفقوا بينه وبين الثالث، إلا أن يكون بين الحاصل والثاثل تداخل فيسقط القليل، ثم ما حصل مع الضرب أو التداخل ضربوه في أصل المسألأة. وَالْبَصْرِيُّونَ يُوقِفُونَ عَدَداً وَيُوَفَّقُونَ بَيْنَة وَبَيْنَ كُلِّ مِنَ الْعَدَدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ تَدَاخُلٌ سَقَطَ، ثُمَّ يُوفَّقُونَ بَيْنَ وَفْقِهِ، ثُمَّ يَضْرِبُونَ الْوَفْقَ فِي الْوَفْقِ، ثُمَّ فِي كَامِلِ الْمَوْقُوفِ، ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ... الأحسن عند البصريين وقف العدد الأكبر، ويصح وقف كل منها، فإذا وقف عدد يوفقون بينه وبين كل واحد من العددين، وينظرون فيما بين وفقي كل واحد من هذين العددين؛ فقد يكون بينهما تداخل، أو تماثل، أو تباين، أو توافق، فيفعلون كما تقدم في الصنفين، فما حصل من ذلك ضربوه في الموقوف، ثم في أصل المسألة، وسيتضح لك هذا بالمثال إن شاء الله تعالى.

مِثْلَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ بنْتاً وَثَمَانٍ وَعِشْرِينَ أُخْتاً وَثَلاثِينَ جَدَّةً، فَعَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ إِنْ وَقَفْتَ الإِحْدَى وَالعِشْرِينَ سَقَطَ؛ لِدُخُولِهَا فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنْ وَقَفْتَ الثَّمَانِيَةَ وَالْعِشْرِينَ كَانَ الْحَاصِلُ مِنَ الْبَاقِيَيْنِ مِئَاتَيْنِ وَعَشَرَةً فَتُوَافِقُ الْمَوْقُوفَ بجُزْءٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَهُوَ اثْنَانِ فَتَكُونُ أَرْبَعَمِائِةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنْ وَقَفْتَ الثَّلاثِينَ فَوَاضِحٌ .. أصل المسألة من ستة؛ للبنات أربعة مباينة لعددهن، وللجدات سهم مباين أيضاً، وللأخوات أيضاً سهم مباين، فيحتاج إلى أن ينظر في الموافقة فيما بينها. فإن وقفت الإحدى والعشرين نظرت فيما بين الثمانية والعشرين، والثلاثين فتجدهما متفقين بالنصف؛ فتضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، فيخرج لك أربعامئة وعشرون، فتسقط الإحدى والعشرين لدخولها في أربعمائة وعشين؛ لأنها نصف عشر. وإن وقفت الثمانية والعشرين نظرت فيما بين الإحدى والعشرين، والثلاثين فتجدهما متفقين بالثلث؛ فتضرب ثلث أحدهما في كامل الآخر، يكون الخارج مائتين وعشرة، ثم تنظر ما بين هذا الخارج وبين الثمانية والعشرين فتجدهما متفقين بنصف السبع، وهو معنى قوله: (بجُزْءٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ) فوفق الثمانية والعشرين اثنان، فتضربهما في المائتين والعشرة، يكون الخارج أربعمائة وعشرين. قوله: (وَإِنْ وَقَفْتَ الثَّلاثِينَ فَوَاضِحٌ) يعني: أنك تنظر بين الإحدى والعشرين والثمانية والعشيرن فتجدهما متفقين بالسبع؛ فتضرب سبع الثمانية والعشرين- وهو أربعة- في الإحدى والعشرين يكون الخارج أربعة وثمانين، فتنظر فيما بينها وبين الثلاثين فتجدهما متفقين بالسدس، فتضرب الأربعة والثمانين في خمسة- سدس الثلاثين- يكون الحاصل أربعمائة وعشرين. وإنما كان هذا واضحاً؛ لأنه أتى بعد عمل الوجهين المتقدمين.

وَعَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ إِنْ وَقَفْتَ الإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَافَقَتْهَا الثَّمَانِيَةَ وَالْعِشْرُونَ بالأَسْبَاعِ-وَهُوَ أَرْبَعَةٌ- وَوَافَقَتْهَا الثَّلاثُونَ بالأَثْلاثِ-وَهُوَ عَشَرَةٌ-فَتَضْرِبُهُمَا فَتَكُونُ أَرْبَعَمِائِةٍ وَعِشْرِينَ ... قوله: (وَهُوَ أَرْبَعَةٌ) راجع إلى سبع الثمانية والعشرين، وهو وفقها. وكذلك الضمير في قوله: (وَهُوَ عَشَرَةٌ) يرجع إلى وفق الثلاثين، ولا شك أن هذين الوفقين يتفقان بالنصف؛ فتضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، فيكون الخارج عشرين تضربها في الإحدى والعشرين تحصل أربعمائة وعشرون. وقوله: (فَتَضْرِبُهُمَا) راجع إلى ما يخرج من ضرب أحد الوفقين في الآخر. فَإِنْ وَقَفْتَ الثَّمَانِيَةَ وَالْعِشْرِينَ وَافَقَتْهَا الثَّلاثُونَ بالأَنْصَافِ- وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ-وَوَافَقَتْهَا الإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بالأَسْبَاعِ-وَهُوَ ثَلاثَةٌ-فَتَسْقُطُ الثَّلاثَةُ لِدُخُولِهَا؛ فَتَضْرِبُ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ بأَرْبَعِمِائَةِ وَعِشْرِينَ ... تصوره واضح. وَإِنْ وَقَفْتَ الثَّلاثِينَ وَافَقَتْهَا الثَّمَانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ بالأَنْصَافِ-وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ- وَوَافَقَتْهَا الإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بالأَثْلاثِ-وَهُوَ سَبْعَةٌ-فَتَسْقُطُ السَّبْعَةُ لِدُخُولِهَا؛ فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِي ثَلاثِينَ بأَرْبَعِمِائِةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ جُزْءُ السَّهْمِ ... هو أيضاً ظاهر، ومراده بـ (جُزْءُ السَّهْمِ) السهم الذي تضرب فيه الفريضة، وأصلها من ستة، فتضرب ستة في أربعمائة وعشرين بألفين وخمسمائة وعشرين. فتقول: من كان له شيء من أصل المسألة أخذه مضروباً في أربعمائة وعشرين.

تنبيه: تبع المصنف غيره في كثرة الجدات، وقد قدمنا ما فيه. مِثْلُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بنْتاً، وَسِتَّ وَثَلاثِينَ جَدَّةً، وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ أُخْتَاً سقط واو العطف من قوله: (مِثْلُ) والأحسن أن يعرب بدلاً مما قبله، لا على حذف حرف العطف كما قاله ابن راشد رحمه الله تعالى: لقلة حذف الحرف. ولم يستوفِ المصنف العمل في هذا المثال؛ اكتفاء بالعمل في المسألة السابقة؛ لا سيما والمسألة أيضاً من ستة، والاتفاق بين الأعداد الثلاثة بالتسع. فعلى طريقة الكوفيين إذا وفقت بين السبع والعشرين، والست والثلاثين وجدتهما يتفقان بالأتساع؛ فتضرب تسع أحدهما في كامل الآخر تبلغ مائة وثمانية، فتوفق بينها وبين الخمسة والأربعين، فتجدهما متفقين بالأتساع، فتضرب تسع أحدهما في كامل الآخر يبلغ خمسمائة وأربعين، وهو جزء السهم، ثم في أصل المسألة تحصل ثلاثة آلا ومائتان وأربعون، ولا يخفى عليك بقية العمل. وَالأَرْبَعَةُ كَذَلِكَ إِلا أَنَّكَ تُوقِفُ عَدَدَيْنِ، ثُمَّ تُوَفِّقُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلا زِيَادَةَ إِلا وَالزَّائِدُ يَصِحُّ ... يعني: وإن انكسرت الفريضة على أربعة أصناف فإنك توفق بين عددين. ابن عبد السلام: وانكسارها على أربعة أصناف لا يتصور إلا على غير مذهب مالك، ولم يختر أحد من الشيوخ مذهب المخالف: فلذلك ترك المصنف بيان العمل، وكذلك نفعل نحن. خليل: إن أراد رحمه الله أنها لا تنكسر على أربعة أصناف بشرط أن تكون الأعداد متوافقة فقريب، وإن أراد أنها لا تنكسر على أربعة أصناف مطلقاً فليس بظاهر. ومثاله: زوجتان وجدتان وخمس لأم وسبع شقائق أو لأب؛ أصلها من اثني عشر، وتعول إلى سبعة عشر.

قوله: (وَلا زِيَادَةَ) أي: ولا تمكن زيادة الأحياز المنكسر عليها على أربعة، إلا والزائد على أربعة يصح. وحاصله أنه لا يمكن انكسارها على خمسة أحياز فأكثر. الْمُنَاسَخَاتُ، وَمَعْنَاهَا: أَنْ يَمُوتَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أي: جنس المناسخات؛ لأن هذه اللفظة يستعملونها في الفريضة التي فيها ميتان فأكثر. ألا ترى إلى قوله: (وَمَعْنَاهَا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ). فَقَصَدَ الْفَرْضِيُّونَ تَصْحِيحَ مَسْأَلَةِ الأَوَّلِ مِنْ عَدَدٍ تَصِحُّ مِنْهُ مَسْأَلَةُ مَنْ بَعْدَهُ يعني: أنهم قصدوا تصحيح مسألة الميت الأول من عدد تصح منه فريضة مَنْ بعده من ثانٍ وثالث وأكثر؛ حتى تكون كأنها مسألة واحدة، ووقع فيها انكسار؛ تقليلاً للعمل. فَانْظُرْ أَوَّلاً فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ ثَانِياً- بَقِيَّةُ الأَوَّلِينَ-عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَقَدِّرِ الْمَيِّتَ الثَّانِيَ عَدَماً، كَثَلاثَةِ بَنِينَ مَاتَ أَحَدُهُمْ ... قدم هذا النوع من المناسخات لقرب عمله. وقوله: (عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ) أي: ورثوا الثاني على وجه ما ورثوا به الأول. وقوله: (كَثَلاثَةِ بَنِينَ) ظاهر التصور. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ وَارِثٌ مِنَ الأَوَّلِ خَاصَّةً كَزَوْجٍ مَعَهُمْ لَيْسَ بأَبيهِمْ هذا الوجه مشارك للذي قبله؛ لأنه إذا أخذ هذا الوارث الذي يختص بالمشاركة في الميت نصيبه كان الباقي لبقية الورثة على الوجه الأول، كما لو ماتت امرأة عن ثلاثة بنين وزوج فمات أحد البنين فإنه يعد كالعدم؛ لأن الزوج يأخذ الربع كما كان يأخذه لو كان الثالث حياً.

وَإِلا فَصَحِّحِ الأَوَّلَ ثُمَّ الثَّانِيَةَ، فَإِنِ انْقَسَمَ نَصِيبُ الثَّانِي عَلَى وَرَثَتِهِ صَحَّتَا مَعاً كَابْنٍ وَبنْتٍ مَاتَ وَتَرَكَ أُخْتَهُ وَعَاصِباً ... يعني: وإن لم يكن شيء من الوجهين فصحح المسألة الأولى ثم الثانية؛ فإن كان ما حصل للميت الثاني من المسألة الأولى منقسماً على فريضته فقد تم العمل، وصحت الفريضتان، كمن توفي وترك ابناً وبنتاً، ثم توفي الابن وترك أختاً وعاصباً فإن المسألة الأولى من ثلاثة؛ للابن سهمان مات عنهما، وهما منقسمان على فيرضته. وَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمْ نَصِيبُهُ وَفَّقْتَ بَيْنَ نَصِيبهِ وَمَا صَحَّتْ مِنْهُ مَسْأَلَتُهُ، وَضَرَبْتَ وَفْقَهُ- لا وَفْقَ نَصِيبهِ-فِيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الأُولَى كَابْنَيْنِ وَابْنَتَيْنِ مَاتَ أَحَدُ الابْنَيْنِ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَبنْتاً وَثَلاثَةُ بَنِي ابْنٍ فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الأُولَى يَاخُذُهُ مَضْرُوباً فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ يَاخُذُهُ مَضْرُوباً فِي وَفْقِ سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي ... يعني: وإن لم ينقسم نصيب الميت الثاني على فريضته؛ فإما أن توافق سهامه من الفريضة الأولى ما صحت منه المسألة الثانية، وإما أن تباينه. ومراده بالموافقة هنا: مايذكرونه في موافقة السهام للصنف الذي انكسرت عليه؛ لأن الفيرضة الثانية كصنف انكسرت عليه سهامه، وذلك أعم من الموافقة المذكورة فيما بين الصنفين، ولذلك تصدق الوافقة هنا على المداخلة فيما بين الصنفين فإذا كانت بين سهام الميت الثاني وفريضته موافقة أَخَذْتَ وفق الفريضة الثانية وضربته في الفريضة الأولى، ومن الخارج تصح. فقوله: (وَضَرَبْتَ وَفْقَهُ) أي: وفق الذي صحت منه مسألته (لا وَفْقَ نَصِيبه) فيما صحت منه الأولى.

مثاله المسألة التي ذكرها المصنف: رجل توفي وترك ابنين وابنتين، المسألة من ستة، لِكُلِّ ذَكَرٍ سهمان، ثم مات أحد الابنين وترك امرأة وابنة وثلاثة بني ابن، ففريضته من ثمانية، ومنها تصح؛ للزوج سهم، وللابنة أربعة، ولكل ابن ابن سهم، وسهام الميت الثاني اثنان يوافقان فريضته بالنصف، ووفقها أربعة تضربها في الفريضة الأولى بأربعة وعشرين، ومنها تصح، فمن له شيء من الأولى أخذه مضروباً في أربعة وفق الثانية، ومن له شيء من الثانية أخذه مضروباً في وفق سهام الميت الثاني، وهو واحد؛ لأن نصف السهمين اللذين له واحد. فَإنْ لَمْ يَتَوَافَقَا ضَرَبْتَ مَا صَحَّتْ مِنْهُ مَسْأَلَتُهُ فِيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الأُولَى، كَابْنَيْنِ وَابْنَتَيْنِ مَاتَ أَحَدُ الابْنَيْنِ وَتَرَكَ ابْنَاً وَبنْتاً ... يعني: وإن لم يوافق سهام الميت الثاني فريضته، ضربت جميع سهام الفريضة الثانية في الأولى، مثاله ما ذكره المصنف، فالفريضة الأولى من ستة؛ لكل ابن سهمان، وفريضته من ثلاثة، فتضرب ثلاثة في ستة بثمانية عشر، ومنها تصح، فمن له من الأولى شيء أخذه مضروباً في الثانية، وهو ثلاثة، ومن له شيء من الثانية أخذه مضروباً في سهام الميت الثاني، وهو اثنان. تنبيه: وهذا كله إنما هو إذا كانت التركة عقاراً، أو عرضاً مقوماً، وأما إن كانت عيناً أو عرضاً مثلاً فلا عمل، ويقسم ما حصل للميت الثاني على فريضته. وَكَذَلِكَ ثَالِثٌ وَرَابِعٌ وَخَامِسٌ يعني: وأكثر من ذلك، والأمثلة كثيرة في المطولات.

وَفِي قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عَلَى السِّهَامِ طُرُقٌ أَقْرَبُهَا أَنْ تَنْظُرَ نِسْبَةَ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ تَاخُذَ نِسْبَتَهَا مِنَ التَّرِكَةِ ... قيد القسمة على السهام؛ لأن القسمة قد تكون على الأجزاء كإعطاء الربع لصاحب الربع والنصف لصاحبه. وذكر المصنف أن أقرب الطرق أن تنظر سهام كل وارث، ثم تأخذ تلك النسبة من التركة، وإنما تكون الأقرب إذا قلت سهام الفريضة، وأما إذا كثرت فهي أصعب الطرق؛ لأنها مبنية على النسب التي هي قسمة القليل على الكثير. وأسهل الطرق أن تقسم عدد التركة إن كانت مثلياً أو قيمتها إن كانت مقومة على العدد الذي صحت منه الفريضة، فتعلم نسبة ما يخرج لكل سهم، ثم تضرب هذا الخارج فيما بيد كل وارث. كَزَوْجٍ وَأُمِّ وَأُخْتٍ لأَبيهِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِلزَّوْجِ ثَلاثَةٌ، وَالتَّرِكَةُ عِشْرُونَ، فَنِسْبَةُ الثَّلاثَةِ مِنَ الثَّمَانِيَةِ رُبُعٌ وَثُمُنٌ، فَتَاخُذُ رُبُعَ وَثُمُنَ الْعِشْرِينَ وَهُوَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ ... أصل المسألة من ستة وعالت لثمانية، وكلامه ظاهر التصور، والأخت كالزوج. فَإِنْ كَانَ مَعَ التَّرِكَةِ عَرْضٌ فَأَخَذَهُ وَارِثٌ بحِصَّتِهِ - فَاجْعَلِ الْمَسْأَلَةَ سِهَامَ غَيْرِ الآخِذِ، ثُمَّ اجْعَلْ لِسِهَامِهِ مِنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ، فَمَا حَصَلَ فَهُوَ ثَمَنُ الْعَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ الْعَرْضَ بحِصَّتِهِ فَاجْعَلِ الْمَسْأَلَةَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ لِكُلِّ سَهْمٍ أَرْبَعَةً ثُمَّ اجْعَلْ لِلزَّوْجِ أَرْبَعَةً فِي ثَلاثَةٍ تَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَهُوَ ثُمُنُهُ؛ فَتَكُونُ التَّرِكَةُ اثْنَيْنِ وَثَلاثِينَ ... يعني: فإن كان في التركة عرض وتسامح بلفظ (مَعَ) ومراده بـ (ثَمَنِ الْعَرْضِ) ما أنفق عليه الورثة، لا ما يساويه في السوق، وكلامه ظاهر.

فَإِنْ زَادَ مَعَ الْعَرْضِ خَمْسَةٌ فَزِدْهَا عَلَى الْعِشْرِينَ، ثُمَّ اقْسِمْهَا كَذَلِكَ؛ فَيَكُونُ لِكُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةٌ، ثُمَّ اجْعَلْ لِلزَّوْجِ خَمْسَةً فِي ثَلاثَةٍ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا خَمْسَةً؛ فَتَكُونُ عِشْرِينَ، فَيَكُونُ ثُمُنَ الْعَرْضِ ... قوله: (اقْسِمَهَا) أي: الخمسة الزائدة، والعشرين كذلك؛ أي: على خمسة وهو ظاهر. فَإِذَا أخَذَ الزَّوْجُ مَعَ الْعَرْضِ خَمْسَةً فَأَنْقِصْهَا، ثُمَّ اقْسِمْ كَذَلِكَ؛ فَتَكُونَ لَكَ سَهْمُ ثَلاثَةٍ، ثُمَّ اجْعَلْ لِلزَّوْجِ ثَلاثَةً فِي ثَلاثَةٍ بتِسْعَةٍ، وَهُوَ نَصِيبُهُ، ثُمَّ انْقُصْ مِنْهَا خَمْسَةً تَبْقَى أَرْبَعَةٌ، وَهُوَا ثَمَنُ الْعَرْضِ ... يعني: فإن أخذ الزوج من التركة مع العروض خمسة، بقيت خمسة عشر، تنقسم على خمسة؛ لكل سهم ثلاثة، وكلامه ظاهر. وَإِذَا أَقَرَّ وَارِثٌ بوَارِثٍ وَأَنْكَرَهُ آخَرُ وَلَمْ يَثْبُتْ لَمْ يُعْطَ الْمُقَرُّ بهِ إِلا مَا أَوْجَبَهُ الإِقْرَارُ مِنَ النَّقْصِ عَلَى حِصَّتِهِ ... يعني: أن الوارث إذا كان أكثر من واحد، فأقر بعض الورثة بواحد، ولم يثبت ما أقر به؛ لعدم العدالة، أو لعدم بلوغ النصاب- لم يُعْطَ المقر به إلا من المُقِرِّ، على ما أوجبه الإقرار. وَطَرِيقُهُ أَنْ تُعْمَلَ فَرِيضَةَ الإِنْكَارِوَفَرِيضَةَ الإِقْرَارِ ثُمَّ تَنْظُرَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّمَاثُلِ وَالتَّدَاخُلِ وَالتَّوَافُقِ وَالتَّبَايُنِ، ثُمَّ اقْسِمْ عَلَى الإِنْكَارِ، فَمَا زَادَ عَلَى فَرِيضَةِ الإِقْرَارِ فَهُوَ لِلْمُقَرِّ بهِ ... ضمير (طَرِيقُهُ) عائد على العمل، فتعمل فريضة الإنكار وفريضة الإقرار؛ فإن تماثلت الفريضتان أجزأتك واحدة، وإن دخلت إحداهما في الأخرى أجزأتك الأخرى. وإن اتفقتا ضربت الوفق في الوفق. وإن تباينتا ضربت الكامل في الكامل. ثم مثل المصنف للأقسام فقال:

التَّمَاثُلُ أُمٍّ وَأُخْتٌ لأَبٍ وَعَمٍّ، أَقَرَّتِ الأُخْتُ بأُخْتٍ شَقِيقَةٍ الإنكار من ستة؛ للأم الثثل، وللأخت النصف، والباقي للعم. وكذلك فريضة الإقرار؛ للأم سهم، وللأخت الشقيقة ثلاثة، وللأخت للأب سهم، وللعم سهم، فينقص نصيب المقر على الإنكار بسبب الإقرار سهمان، فتدفعهما للشقيقة. التَّدَاخُلُ: أُخْتَانِ شَقِيقَتَانِ وَعَاصِبٌ، أَقَرَّتْ إِحْدَاهُمَا بأُخْتٍ شَقِيقَةٍ فَتَسْتَغْنِي بالتِّسْعَةِ ... لأن فريضة الإنكار من ثلاثة، وتصح منها. وفريضة الإقرار من ثلاثة، وتصح من تسعة؛ لانكسارها على الأخوات، والثلاثة داخلة في التسعة؛ لأنها ثلثها، فتستغني بها، وتقسم على الإنكار يكون لكل أخت ثلاثة، وعلى الإقرار لكل أخت سهمان، فتدفع المقرة سهماً للمقر بها. التَّوَافُقُ: ابْنٌ وَابْنَتَانِ، أَقَرَّ الابْنُ بابْنٍ آخَرَ- فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي سِتَّةٍ لأن الإنكار من أربعة والإقرار من ستة؛ فيتوافقان بالأنصاف، فتضرب نصف أحدهما في الآخر باثني عشر، ثم تقسم على الإنكار؛ فللابن ستة، ولكل بنت ثلاثة، وعلى الإقرار؛ للابن أربعة، فيدفع السهمين للمقر به. التَّبَايُنُ: أُخْتَانِ شَقِقَتَانِ وَعَاصِبٌ، أَقَرَّتْ إِحْدَاهُمَا بأَخٍ شَقِيقٍ؛ فَتَضْرِبُ ثَلاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ؛ لِلْمُقِرَّةِ فِي الإِنْكَارِ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الإِقْرَارِ ثَلاثَةٌ فَالزَّائِدُ سَهْمٌ لِلْمُقَرِّ بهِ. لأن فريضة الإنكار من ثلاثة، ومنها تصح. وفريضة الإقرار من أربعة وهما متباينان فتضرب إحداهما في الأخرى باثني عشر، وتقسم على الإنكار، لكل أخت أربعة. وعلى الإقرار للمقرة ثلاثة، فتدفع السهم للمقر به.

وَكِذَلِكَ لَوْ تَعَدَّدَ الْمُقِرُّ أَوِ الْمُقَرُّ بهِ أَوِ الْقَبيلانِ كَابْنٍ وَبنْتٍ أَقَرَّ الابْنُ ببنْتٍ وَأَقَرَّتِ الْبنْتُ بابْنٍ فالإِنْكَارِ مِنْ ثَلاثَةٍ، وَإِقْرَارُ الابْنِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَإِقْرَارُ الْبنْتِ مِنْ خَمْسَةٍ تُضْرَبُ أَرْبَعَةٌ فِي خَمْسَةٍ بعِشْرِينَ، ثُمَّ فِي ثَلاثَةٍ بسِتِّينَ؛ فَيَرُدُّ الابْنُ عَشَرَةً لِلْمُقَرَّةِ بهَا، وَالْبنْتُ ثَمَانِيَةٌ لِلْمُقَرِّ بهِ ... تصوره ظاهر؛ لأنا إذا قسمنا الستين على الإنكار، يكون للابن أربعون، ولها عشرون، ثم على إقرار الابن يكون له ثلاثون، فيعطي عشرة للمقر بها، ثم على إقرارها يكون لها اثنا عشر، فتعطي ثمانية للمقر به. وَسُئِلَ أَصْبَغُ عَنْ أَخَوَيْنِ وامْرَأَةٍ حَامِلٍ، أَقَرَّتْ هِي وَأَحَدُهُمَا أَنَّهَا وَلَدَتِ ابْناً حَيّاً -فَقَالَ: مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. الإِنْكَارُ يَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالإِقْرَارُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَتَسْتَغْنِي بأَحَدِهِمَا وَفَرِيضَةُ الابْنِ عَلَى الإِقْرَارِ مِنْ ثَلاثِةٍ فَتَضْرِبُهَا فِي ثَمَانِيَةٍ؛ لِلْمُنْكِرِ تِسْعَةٌ، وَلِلْمُقِرِّ فِي الإِنْكَارِ تِسْعَةٌ، وَفِي الإِقْرَارِ سَبْعَةٌ، فَيَرُدُّ اثْنَيْنِ، وَلِلأُمِّ ثَمَانِيَةٌ .. لأن فريضة الإنكار تصح من ثمانية، وأصلها من أربعة؛ للزوجة الربع وللأخيون ما بقي، وهو لا ينقسم عليهما؛ فتضرب اثنين في أربعة، وفريضة الإقرار من ثمانية، ومنها تصح. ثم توفي الابن وترك أمه وعميه؛ للأم الثلث، وللعمين ما بقي، المسألة من ثلاثة، وسهام الميت لا تنقسم عليها ولا توافقها؛ فتضرب ثلاثة في ثمانية بأربعة وعشرين، فتقسمها على الإنكار؛ للزوجة ستة، ولكل من الأخوين تسعة، وعلى الإقرار؛ للزوجة من الأولى ثلاثة، ولا شيء للأخوين، وللابن أحد وعشرون توفي عنها؛ للأم سبعة، ولكل عم سبعة، فقد نقص المقر من الأخوين سهمان، فيدفعهما للأم مع الستة الواجبة لها في الإنكار.

وَإِذَا أَوْصَى بجُزْءٍ شَائِعٍ كَنِصْفٍ أو ثُلُثٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ أَحْدَ عَشَرَ-فَصَحِّحْ الْمِيرَاثِ ثُمَّ خُذْ عَدَدَ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ وَأَخْرِجِ الْوَصِيَّةَ، فَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ مُنْقَسِماً وَإِلا فَوَفَّقْ بَيْنَ مَا بَقِيَ وَبَيْنَ مَا صَحَّ مِنْهُ، ثُمَّ اضْرِبِ الْوَفْقَ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ كَابْنَيْنِ وَأَوْصِي بالثُّلُثِ؛ فَيَصِحّ فِي الْمِيرَاثِ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ مِنْ ثَلاثَةٍ فَتَسْتَغْنِي ... احترز بالشائع مما لو أوصى بمعين؛ فإنه لا عمل حينئذٍ، وقال: (أَوْ جُزْءٍ مِنْ أَحْدَ عَشَرَ) لينبه على أنه لا فرق بين الأجزاء الصم وغيرها، فتُعْمِل الفريضة ثم تنظر مقام جزء الوصية؛ الثلث من ثلاثة، والربع من أربعة كذلك فتخرج الوصية. وانظر ما بقي، فإن انقسم على المسألة فقد خرجت الفريضة والوصية من مخرج الوصية كالمثال الذي ذكره المصنف. وإن لم تنقسم بقية الأجزاء على المسألة كانت كسهام انكسرت على صنف فإن وافقتها ضربت وفق المسألة في مخرج الوصية، وإن لم توافقها ضربت المسألة في مخرج الوصية ومن الخارج تصح، ثم تقول: من كان له شيء من الوصية أخذه مضروباً في وفقها إن وافقت وفي كاملها إن لم توافق، ومن له شيء من الفريضة أخذه مضروباً في وفق السهام إن وافقت، وفي كاملها إن لم توافق. فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً ضَرَبْتَ اثْنَيْنِ فِي ثَلاثَةٍ هذا مثال لقوله: (وإلا فَوَفِّقْ) أي: إذا أوصى بالثلث وخلف أربعة فمخرج الوصية من ثلاثة؛ للموصى له سهم، والباقي سهمان لا ينقسمان على الورثة، لكن يتوافقان بالنصف، فتضرب وفق المسألة؛ وهو اثنان، في مخرج الوصية بستة، ومن له شيء من الوصية أخذه مضروباً في وفق المسألة، ومن له شيء من الفريضة أخذه مضروباً في وفقها.

فَإِنْ أَوْصَى بسُدُسٍ وَسُبُعٍ فَاضْرِبْ سِتَّةً فِي سَبْعَةٍ باثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ؛ فَالْبَاقِي تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لا تَصِحُّ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَلا تُوَافِقُ؛ فَتَضْرِبِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فِي أَرْبَعَةٍ بمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ ... يعني: فلو كانت المسألة؛ وهي أن الأولاد أربعة، فأوصى بالسدس والسبع ضربت مقام السدس في مقام السبع لتباينها، باثنين وأربعين فتأخذ سدسها وسبعها، وذلك ثلاثة عشر، تبقى تسعة وعشرون وهي لاتنقسم على أربعة؛ سهام الفريضة، ولا توافقها؛ فتضرب أربعة في اثنين وأربعين بمائة وثمانية وستين، من له شيء من اثنين وأربعين أخذه مضروباً في أربعة، ومن له شيء من أربعة أخذه مضروباً في تسعة وعشرين. واقتصرنا على حل كلام المصنف هنا؛ لأنه الأهم هنا، وغيره يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِ هذا الفن. الْمَوَانِعُ مِنْهَا اخْتِلافُ الدِّينِ كَالْمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ، وَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا ... للحديث: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". وفي الصحيح: "لا يتوارث أهل ملتين". وقوله: (كَالْمُسْلِمِ) على حذف مضاف؛ أي: كدين المسلم؛ ليوافق قوله: (اخْتِلافُ الدِّينِ). وقوله: (وَالْيَهُودِيِّ ...) إلى آخره. يعني: وكذلك اختلافا لدين بين اليهودي والنصراني مانع من الإرث إن تحاكموا إلينا، وإن لم يتحاكموا فلا نعرض لهم، وهكذا قال مالك: إن اليهودية ملة، والنصرانية ملة، وما عداهما من الكفر ملة.

وَأَمَّا مَنْ يُظْهِرُ الإِسْلامَ ثُمَّ اطَّلِعَ عَلَى إِسْرَارِهِ زَنْدَقَةً أَوْ كُفْراً أَوْ غَيْرَهُمَا فَقُتِلَ بهَا أَوْ مَاتَ-فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَرَوَى ابْنُ نَافِع أنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ، وَعَلَيْهِ الأَكْثَرُونَ .. في كلامه نظر؛ لأن قوله: (إِسْرَارِهِ زَنْدَقَةً أَوْ كُفْراً) يقتضي أن الزندقة إسرار غير الكفر، وليس كذلك. ومراده بـ (غَيْرِهِمَا) السحر. والأظهر رواية ابن نافع؛ لأنا نقتله لأجل الكفر، واختار رواية ابن القاسم أصبغ، والشيخ أبو إسحاق؛ اعتبار بما كان يظهره. قال القاضي أبو الوليد: ورواية ابن القاسم تقتضي أنه يقتلحداً، ورواية ابن نافع تقتضي: أنه يقتل كفراً. وَإِذَا تَحَاكَمَ إِلَيْنَا وَرَثَةُ كَافِرٍ وَتَرَاضَوْا كُلُّهُمْ- حَكَمْنَا بحُكْمِ الإِسْلامِ، فَإِنْ أَبَى بَعْضُهُمْ لَمْ يُعْرَضْ لَهُمْ إِلا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ يُحْكَمُ لَهُمْ بحْكْمِهِمْ عَلَى مَوَارِيثِهِمْ إِذَا كَانُوا كِتَابيِّينَ، وَإِلا فَبحُكْمِ الإِسْلامِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: بحُكْمِ الإِسْلامِ ... يعني: أنَّ ورثة الكافر إما أن يبقوا على دينهم، أو يسلم بعضهم بعد موت موروثهم؛ والأول يحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا بحكم الإسلام بشرط رضا جميعهم. وهل يشترط رضا أساقفتهم؟ قولان. وأما الثاني فيحكم بينهم؛ لأجل وجود المسلم. ثم هل يقسم بينهم على حكم الإسلام مطلقاص، وهو قول سحنون، أو بشرط أن يكونوا غير كتابيين، وأما الكتابيون فعلى مواريثهم؟

وَالتَّظَالُمُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَحْكُمُ السُّلْطَانُ بَيْنَهُمْ فِيهِ أي: وإن لم يتراضوا، وكما يجب عليه منع المسلمين من ظلمهم كذلك بعضهم من بعض. وَمِنْهَا الرِّقُّ؛ فَلا يَرِثُ رَقِيقٌ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ كَالْقِنِّ لا يَرِثُ وَلا يُورَثَ، وَمَالُهُ لِمَنْ يَمْلِكُ الرِّقَّ مِنْهُ .. لا خلاف في هذه الجملة عندنا. وَمِنْهَا الْقَتْلُ؛ فَلا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ مِنْ مَالٍ وَلا دِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ خَطَأَ وَرِثَ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ ... يريد: إلا الولاء فإن المذهب أن قاتل العمد وقاتل الخطأ يرثان الولاء، ويرثه عنهما من يرثهما، وحيث لا يرث فلا يحجحب، وإن ورث من المال حجب فيه. وهكذا روى الدارقطني؛ لكنه حديث ضعيف؛ وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة فقال: "لا يتوارث أهل ملتين، وترث المرأة من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها، ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمداً؛ فلا يرث من ماله ومن ديته شيئاً، وإن قتل صاحبه خطأً ورث من ماله، ولم يرث من ديته" رواه محمد بن سعيد عن عمرو بن شعيب، قال: أخبرني أبي عن جدي: قال عبد الحق: ومحمد بن سعيد أظنه المصلوب، وهو متروك عند الجميع. وفي مراسيل أبي داود: "ولا يرث قاتل عمد ولا خطأ شيئاً من الدية". وَمِنْهَا اللِّعَانُ؛ فَيَبْقَى الإِرْثُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ أُمِّهِ، وَالتَّوْءَمَانِ شَقِيقَانِ بخِلافِ تَوْءَمَي الزِّنَى فَإِنَّهُمَا لأُمِّ، وَفِي تَوْءَمَي الْمُغْتَصَبَةِ قَوْلانِ ... لعله ذكر اللعان ليرتب عليه ما بعده؛ لأن المانع إنما يكون إذا كان السبب موجوداً، وأما مع عدمه فلا.

والأظهر في توءمي المغتصبة أنهما كالزنى؛ إذ لا أب لهما شرعاً، ولا يترقب ثبوت نسبتهما منه في المستقبل كما يترقب في توءمي الملاعنة، وكذلك اختلف في توءمي المسبية والمستأمنة. وَمِنْهَا اسْتِبْهَامُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ كَالْمَوْتَى فِي سَفَرٍ أَوْ هَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ؛ فَيُقَدَّرُ كُلُّ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ، وَلَوْ عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ وَجُهِلَ التَّعْييْنُ كَانَ كَذَلِكَ يعني: إذا مات قرائب ولم يعلم المتقدم من المتأخر، فذلك يمنع الميراث، وكذلك لو علم المتقدم ولكن جهل تعيينه؛ لأن الميراث لا يكون بالشك. وهكذا نقل مالك عن غير واحد من علماء المدينة أنه لم يتوارث مَنْ قُتِلَ يوم الجمل ويوم صفين ويوم الحرة ويوم قديد إلا مَنْ عُلِمَ أنه مات قبل الآخر. وقد تقدم في الجنائز أن أم كلثوم رضي الله عنها مات وابنها زيد في فور واحد، وأنهما لم يتوارثا. وَمِنْهَا مَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ عَاجِلاً؛ وَهُوَ الإِشْكَالُ فِي الْوُجُودِ أَوْ فِي الذُّكُورِيَّةِ أَوْ فِيهِمَا. الأَوَّلُ: الْمُنْقَطِعُ خَبَرُهُ؛ فَيُعَمَّرُ مُدَّةً لا يَعِيشُ إِلَيْهَا غَالِباً، قِيلَ؛ سَبْعُونَ، وَثَمَانُونَ، وَتِسْعُونَ، وَمِائَةً وَيُقَدَّرُ حِينَئِذٍ مَيَّتاً ... في إدخاله الإشكال في الذكورية هنا نظر؛ لأن مراده بذلك: الخنثى المشكل، وهو لا يمنع من الصرف عاجلاً، بل يوجب نقص الميراث، إلا أن يريد: أنه يتأخر النظر فيه لينظر في أمره. قوله: (الأوَّلُ) قد تقدم ما في هذه المسألة من الخلاف بأوسع مما ذكره المصنف في باب العِدَّد.

فَلَوْ مَاتَ مَوْرُوثٌ لَهُ-قُدِّرَ حَيّاً وَمَيِّتَاً، وَوُقِفَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ التَّعْمِيرِ وَلَمْ يَسْتَبنْ فَكَالْمَوْتَى فِي الْهَدْمِ، فَإِذَا تَرَكَتْ زَوْجاً وَأَمّاً وَأُخْتاً وَأَباً مَفْقُوداً فعَلَى أَنَّهُ حَيٍّ مِنْ سِتَّةٍ، وَعَلَى أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَتَضْرِبُ الْوَفْقَ فِي الْكَامِلِ بأَرْبعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِلأُمِّ أَرْبَعَةٌ، وَتُوْقِفُ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنْ ثَبَتَ حَيَاتُهُ أَخَذَ الزَّوْجُ ثَلاثَةٌ، وَالأَبُ ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ تَبَيَّنَ مَوْتُهُ أَوْ مَضَى التَّعْمِيرُ أَخَذَتِ الأُخْتُ تِسْعَةً، وَالأُمُّ اثْنَيْنِ ... قوله: (فَكَالْمَوْتَى فِي الْهَدْم) أي: فيرث الميت أحياء ورثته، وبَيَّنَ المصنف العمل بقوله: (فَإِذَا تَرَكَتْ ...) إلى آخره. يريد: أن بتقدير حياة الأب تكون الفريضة إحدى الغراوين؛ للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي. وبتقدير موت الأب؛ يكون للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم الثلث، الفريضة من ستة وتعول إلى ثمانية، والثمانية موافقة للستة بالنصف؛ فتضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، بأربعة وعشرين. فبالضرورة للزوج في حياة الأب أكثر من موته؛ لأن له في الحياة النصف من فريضة غير عائلة؛ فيعطى الحق، وهو ثلاثة أثمان الأربعة والعشرين، وهو تسعة. والأم لها في الفريضة غير العائلة أقل، وذلك سدس؛ وهو أربعة فتبقى أحد عشر، ولا يخفى عليك ما ذكره المصنف. الثَّانِي: الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ. فَإِنْ بَالَ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ كَانَ أَكْثَرَ أَوْ أَسْبَقَ، أَوْ نَبَتَتْ لِحْيَةٌ، أَوْ خَرَجَ ثَدْيٌ، أَوْ حَيْضٌ، أَوْ مَنِيٍّ-فَلَيْسَ بمُشْكِلٍ إِلا أَنْ يَجْتَمِعَ هذا هو القسم الثاني من أقسام النوع الأخير، ومذهبنا وهو مذهب الأكثر ثبوت خنثى مشكل، وكلام المصنف ظاهر التصور. وأنكر بعضهم سبقية البول وكثرته. قيل: ولم يصح عن مالك فيه شيء. وروي عنه أنه قال: ذَكَرٌ زاده الله فرجاً. وروي عن قاسم بن أصبغ عن أبيه: أنه رأى بالعراق خنثى ولد له من صلبه وبطنه.

أبو عبد الله بن قاسم: ورأيت لمالك في بعض التعاليق: إن مثل هذين لا يتوارثان؛ لأنهما لم يجتمعا في ظهر ولا بطن؛ فليسا أخوين لأب ولا لأم. ابن القاسم: ويمنع النكاح من الجهتين، واختلف في جواز النظر للفرج وعدمه. وَحَيْثُ حُكِمَ بالإِشْكَالِ فَمِيرَاثُهُ نِصْفُ نَصِيبَيْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فَتُصَحِّحُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَاتِ، ثُمَّ اضْربِ الْوَفْقَ أَوِ الْكُلِّ إِنْ تَبَايَنَتْ، ثُمَّ فِي حَالَتَي الْخُنْثَى، ثُمَّ خُذْ مِنْ كُلِّ نَصِيبٍ جْزْءاً يُسَمَّى مُفْرَدُ التَّقْدِيرَاتِ ... وقوله: (عَلَى التَّقْدِيرَاتِ) أي: تقدير كونه ذكراً ثم كونه أنثى، ثم خذ جزءاً (يُسَمَّى مُفْرَدُ التَّقْدِيرَاتِ) من الاثنين النصف، ومن الأربعة الربع فما اجتمع فهو نصيب كل وارث، وطريقه أن تعمل المسألة على أنه ذكر، ثم تعملها على أنه أنثى، ثم تنظر بين المسألتين بالتوافق والتباين كما تقدم، ثم ما حصل تضربه في حال الخنثى، ثم تقسم لى حال التذكير، ثم التأنيث، ثم تجمع ما حصل لكل وارث، وتنسب واحداً إلى الأحوال الحاصلة، فتعطى لكل وارث. فلو ترك خنثى وذكراً عاصباً فعلى التذكير من اثنين، وعلى التأنيث من ثلاثة، فتضرب ثلاثة في اثنين بستة، فللخنثى في التذكير ثلاثة، وفي التأنيث اثنان، فيعطى نصفها وهو اثنان ونصف، وكذلك الآخر. فَلَوْ تَرَكَ خُنْثَيَيينِ وَعَاصِباً فَأَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ تَنْتَهِي إِلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَحَدَ عَشَرَ وَلِلْعَاصِبِ سَهْمَانِ ... فريضة التذكير من اثنين، وفريضة التأنيث من ثلاثة؛ لهما الثلثان وللعاصب سهم، وكذا إذا قُدِّرَ أحدهما ذكراً والآخر أنثى وبالعكس فتتماثل ثلاث فرائض، فتستغني بأحدها فتضربها في الأخرى بستة، ثم في الأحوال؛ وهي أربعة، بأربعة وعشرين، ثم تقسم؛ فلكل خنثى في التذكير اثني عشر، ولكل منهما في التأنيث ثمانية. وله في تذكيره دون صاحبه ستة.

عشر، وفي العكس ثمانية، تحصل له في الأربعة أربعة وأربعون، فيأخذ ربعها؛ وهو أحد عشر، وكذلك العاصب إنما يصح له في حال واحدة ثمانية، فيأخذ ربعها؛ وهو اثنان. الثَّالِثُ؛ فِي حَمْلِ الزَّوْجَةِ، فَقِيلَ: يُوقَفُ الْجَمِيعُ وَوَصَايَاهُ حَتَّى تَضَعَ، وَقِيلَ؛ يُتَعَجَّلُ بتَعْجِيلِ الْمُتَحَقَّقِ. قَالَ أَشْهَبُ؛ وَهُوَ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ، وَعَلَيْهِ يُوقَفُ مِيرَاثُ أَرْبَعَةِ ذُكُورٍ؛ لأَنَّهُ غَايَةُ مَا وَقَعَ وَلَدَتْ أُمُّ وَلَدِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ مُحْمَّداً، وَعَمْرَ، وَعَلِيّاً، وَإِسْمَاعِيلَ، بَلَغَ الأَوَّلُونَ الثَّمَانِينَ ... هذا هو النوع الثالث؛ وهو الشك في الوجود والذكورية، والقول الأول هو المشهور، والثاني أظهر كما قال أشهب. وليس لقوله: (حَمْلِ الزَّوْجَةِ) مفهوم، بل وكذلك الأمة، وعلى ما اختاره أشهب "يوقف لأربعة ذكور" كما ذكرها المصنف؛ لأنه أكثر ما وقع، والقصة التي ذكرها المصنف هي في الزاهي. الخاتمة: وهذا آخر ما قصدنا والله أعلم، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، أعوذ بك من شر هؤلاء الأربع. اللهم تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي. أسألك بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عيشة سوية، وميتة نقية، وأن تذهب عني الشكوك والاعتراضات، وتعافي قلبي من الوساوس والنزغات، وأن تسلك بنا مناهج أهل السنة. أسألك التأييد بروح من عندك فيما نريد، كما أيدت أنبيائك ورسلك، واكسنا جلابيب العصمة في الأنفاس واللحظات، واقلع من قلبي حب الدنيا، وأمتني على الإسلام والشهادة، وكذلك كل من كتبه، أو قرأه، أو شيئاً منه، أو سعى فيه. آمين آمين آمين يا رب العالمين. والله أسأل أن ينفع به، وهو حسبي ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

§1/1