التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

خلدون نغوي

التَّوْضِيْحُ الرَّشِيْدُ فِي شَرْحِ التَّوْحِيْدِ المُذَيَّلُ بِالتَّفْنِيْدِ لِشُبُهَاتِ العَنِيْدِ

مقدمة

مُقَدِّمَةٌ مُقَدِّمَةُ المُؤَلِّفِ إِنِّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْر أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّيْ كُنْتُ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيْلٍ - وَإِلَى الآنَ - أَتَطَلَّعُ إِلَى خِدْمَةِ دِيْنِ اللهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنْ يَكُوْنَ لِي سَبَبٌ إِلَى رِضَاه تَعَالِى فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي (¬1)، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَكُوْنَ أَحَدَ جُنُوْدِ الإِسْلَامِ المُدَافِعِيْنَ عَنْهُ بِاليَدِ وَاللِّسَانِ. وَلَمْ أَرَ أَنْفَعَ لِدِيْنِ الإِسْلَامِ - عِنْدَ أَزْمِنَةِ انْتِشَارِ الجَهْلِ وَالشِّرْكِ وَالبُعْدِ عَنِ السُّنَّةِ وَفُشُوِّ البِدَعِ - مِنْ جِهَادٍ بِاللِّسَانِ وَفَرْيٍ بِالقَلَمِ (¬2)، وَذَلِكَ بِنَشْرِ السُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ وَبَيَانِ أُصُوْلِ أَهْلِ الإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِ الدِّيْنِ وَمَنْهَجِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَهْمِ دِيْنِ الإِسْلَامِ وَالعَمَلِ بِهِ. وَقَدْ رَأَيْتُ الاعْتِنَاءَ بِكِتَابِ (التَّوْحِيْدِ) لِلشَّيْخِ الإِمَامِ المُجَدِّدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ لِمَا فِيْهِ مِنْ ذِكْرِ أَصْلِ الدِّيْنِ وَالتَّوْحِيْدِ وَبَيَانِ العَقِيْدَةِ السَّلِيْمَةِ عَلَى وُفْقِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ سَلَفِ الأُمَّةِ. وَنَظَرًا لِسَعَةِ وَتَنَوُّعِ أَدِلَّةِ هَذَا الكِتَابِ؛ وَلِمَا وَقَعَتْ فِيْهِ الأُمَّةُ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ - مِنَ الغَفْلَةِ عَنْ أَصْلِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَتَرْوِيْجِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَأَهْلِ الزَّنْدَقَةِ لِبِدَعِهِم فِي عَقَائِدِ المُسْلِمِيْنَ، والبُعْدِ عَنِ التَّوْحِيْدِ - وَالَّذِيْ لَا نَجَاةَ لِلعَبْدِ مُطْلَقًا إِلَّا بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ - وَلِمَا عُلِمَ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَإِشَارَتِهِم إِلَى أَهَمِّيَّتِهِ وَجُوْدَةِ جَمْعِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ؛ وَلِكَثْرَةِ مَنِ اعْتَنَى بِشَرْحِهِ، فَقَدْ قُمْتُ - مُسْتَعِيْنًا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ - وَمُسْتَنِيْرًا بِشُرُوْحِ العُلَمَاءِ؛ بِتَصْنِيْفِ شَرْحٍ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ يَكُوْنَ وَجِيْزًا فِي عِبَارَتِهِ؛ وَاسِعًا فِي فَوَائِدِهِ (¬3)، مَعَ الاعْتِنَاءِ الشَّدِيْدِ بِتَحْقِيْقِ الآثَارِ المَرْفُوْعَةِ وَالمَوْقُوْفَةِ - مَوْضِعِ الاسْتِدْلَالِ (¬4) -؛ وَالعَزْوِ الصَّحِيْحِ مَا أَمْكَنَ فِي مَوَاطِنِ الاسْتِشْهَادِ وَالاسْتِئْنَاسِ؛ وَذِكْرِ المُفِيْدِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيْهِ العُلَمَاءُ مِمَّا يَمَسُّ مَادَّةَ هَذَا الكِتَابِ؛ وَبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْهَا قَدْرَ الإِمْكَانِ. وَلَا أَدَّعِي لِنَفْسِي التَّفرُّدَ فِي شَرْحِ الكِتَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ الاعْتِمَادُ عَلَى شُرُوْحِ العُلَمَاءِ الأَفَاضِلِ - قَدِيْمًا وَحَدِيْثًا - المَعْرُوْفِيْنَ بِسَلَامَةِ المَنْهَجِ وَرُسُوْخِ العِلْمِ وَبُعْدِ النَّظَرِ. (¬5) عَلَى أَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّنِي - إِنْ شَاءَ اللهُ - قَدْ وُفِّقْتُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي اسْتِيْعَابِ فَوَائِدَ وَمَسَائِلَ تَمَسُّ الحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي كُلِّ بَابٍ؛ لَعَلَّهَا لَمْ تُجْمَعْ فِي شَرْحٍ وَاحِدٍ مِنْ شُرُوْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ. وَقَدْ أَضَفْتُ إِلَى شَرْحِ الكِتَابِ - فِي مَوَاضِعَ مُنَاسِبَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ - بَعْضَ المُلْحَقَاتِ المُفِيْدَةِ؛ التَي يَعِزُّ الوُصُوْلُ إِلَى مِثْلَ فَائِدَتِهَا - بِفَضْلِ اللهِ - تَتْمِيْمًا لِلمَنْفَعَةِ لِمِثْلِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَهَذِهِ المُلْحَقَاتُ هِيَ: المُلْحَقُ الأَوَّلُ) مَقَدِّمَةٌ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ. المُلْحَقُ الثَّانِي) قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ والبَرَكَةُ. المُلْحَقُ الثَّالِثُ) مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ. المُلْحَقُ الرَّابِعُ) مُخْتَصَرُ تَحْذِيْرِ السَّاجِدِ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِد. المُلْحَقُ الخَامِسُ) فَوَائِدُ وَمَسَائِلُ عَلَى بَابِ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ. المُلْحَقُ السَّادِسُ) مَسَائِلُ عِلْمِ الغَيْبِ. المُلْحَقُ السَّابِعُ) مُخْتَصَرُ القَوَاعِدِ المُثْلَى. المُلْحَقُ الثَّامِنُ) مُخْتَصَرُ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ؛ أَحْكَامُهُ). المُلْحَقُ التَّاسِعُ) مَسَائِلُ الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ. المُلْحَقُ العَاشِرُ) لَمْحَةٌ عَنِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ فِي العَقِيْدَةِ. المُلْحَقُ الحَادِي عَشَرَ) مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ الصُّوَرِ وَالتَّصْوِيْرِ. المُلْحَقُ الثَّانِي عَشَرَ) مُخْتَصَرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ لِلبُوْصِيْرِيِّ. المُلْحَقُ الثَّالِثَ عَشَرَ) رَدُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِيْنَ. وَأَخِيْرًا أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى إِجَابَتِي دَعْوَةً كَدَعْوَةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيْمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ يَقُوْمُ الحِسَابُ} (إِبْرَاهِيْم:41). وَكَتَبَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُوْنُ بْنُ مَحْمُوْدِ بْنِ نَغَوِي الحَقَوِيُّ. (¬6) ¬

_ (¬1) كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (1631) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ). وَأَنَا أَرْجُو اللهَ تَعَالَى الكَرِيْمَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْ أَهْلِ العِلْمِ العَامِلِيْنَ المُنْتَفَعِ بِهِم، فَإِنَّ الدَّالَ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيْثِ. (¬2) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (جَاهِدُوا المُشْرِكِيْنَ بِأمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2504) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3090). (¬3) وَهَذِهِ المَسَائِلُ هِيَ غَيْرُ مَسَائِلِ المُصَنِّفِ المُخْتَصَرَةِ الَّتِيْ اتْبَعَهَا المُصَنِّفُ لِمُتُوْنِ البَابِ، أَمَّا مَسَائِلِي الخَاصَّةُ فِي هَذَا الكِتَابِ فَقَدْ جَعَلْتُهَا قِسْمَيْنِ: القِسْمُ الأَوَّلُ) المَسَائِلُ الَّتِيْ أَجْعَلُهَا فِي أَوَاخِرِ شُرُوْحِ الأَبْوَابِ. القِسْمُ الثَّانِي) المَلَاحِقُ المُسْتَقِلَّةُ عَنِ الأَبْوَابِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ مُلَخَّصَاتِ لِبَعْضِ الكُتُبِ، وَمِنْهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُوْنَ جُزْءًا يَسِيْرًا فِي بَابِهِ، وَسَأَذْكُرُ هَذِهِ المَلَاحِقَ قَرِيْبًا. (¬4) مُعْظَمُ تَحْقِيْقِ الحَدِيْثِ فِي هَذَا الشَّرْحِ هُوَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ الإِمَامِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬5) وَأَخُصُّ بِالذِّكْرِ الشَّيْخَ الفَاضِلَ الإِمَامَ العَلَّامَةَ ابْنَ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ، فَقَدْ نَفَعَنِي اللهُ بِهِ كَثِيْرًا. (¬6) العُنْوَانُ الإِلِكتْرُونيّ لِلتَّوَاصُلِ: [email protected] .

التعريف بمصنف كتاب التوحيد

التَّعْرِيْفُ بِمُصَنِّفِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ (¬1): هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّمِيْمِيُّ؛ النَّجْدِيُّ، زَعِيْمُ النَّهْضَةِ الدِّيْنِيَّةِ الإِصْلَاحِيَّةِ الحَدِيْثَةِ فِي جَزِيْرَةِ العَرَبِ وُلِدَ عَامَ (1115هـ)، وَتُوُفِّيَ عَامَ (1206هـ). وُلِدَ وَنَشَأَ فِي العُيَيْنَةِ (بِنَجْدٍ) وَرَحَلَ مَرَّتَيْنِ إِلَى الحِجَازِ، فَمَكَثَ فِي المَدِيْنَةِ مُدَّةً قَرَأَ بِهَا عَلَى بَعْضِ أَعْلَامِهَا، وَزَارَ الشَّامَ، وَدَخَلَ البَصْرَةَ فَأُوْذِيَ فِيْهَا، وَعَادَ إِلَى نَجْدٍ؛ فَسَكَنَ (حُرَيْمِلَاءَ) وَكَانَ أَبُوْهُ قَاضِيَهَا بَعْدَ العُيَيْنَةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى العُيَيْنَةِ؛ نَاهِجًا مَنْهَجَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، دَاعِيًا إِلَى التَّوْحِيْدِ الخَالِصِ وَنَبْذِ البِدَعِ وَتَحْطِيْمِ مَا عَلَقَ بِالإِسْلَامِ مِنْ أَوْهَامٍ. (¬2) وَارْتَاحَ أَمِيْرُ العُيَيْنَةِ عُثْمَانُ بْنُ حَمَدِ بْنِ مَعْمَرِ إِلَى دَعْوَتِهِ فَنَاصَرَهُ، ثُمَّ خَذَلَهُ (¬3)، فَقَصَدَ الدَّرْعِيَّةَ (بِنَجْدٍ) سَنَةَ (1157 هـ)، فَتَلَقَّاهُ أَمِيْرُهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُعُوْدٍ بِالإِكْرَامِ، وَقَبِلَ دَعْوَتَهُ وَآزَرَهُ، كَمَا آزَرَهُ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ عَبْدُ العَزِيْزِ، ثُمَّ سُعُوْدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، وَقَاتَلُوا مِنْ خَلْفِهِ، وكَانَتْ دَعْوَتُهُ الشُّعْلَةَ الأُوْلَى لِليَقَظَةِ الحَدِيْثَةِ فِي العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، تَأَثَّرَ بِهَا رِجَالُ الإِصْلَاحِ فِي الهِنْدِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا، وَعُرِفَ مَنْ وَالَاهُ وَشَدَّ أَزْرَهُ فِي قَلْبِ الجَزِيْرَةِ بِـ (أَهْلِ التَّوْحِيْدِ) وَ (إِخْوَانِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ) وَسَمَّاهُمْ خُصُوْمُهُم بِالوَهَّابِيِّيْنَ، وَشَاعَتِ التَّسْمِيَةُ الأَخِيْرَةُ عِنْدَ الأَوْرُبِّيِّيْنَ فَدَخَلَتْ مُعْجَمَاتِهِم الحَدِيْثَةَ، وَأَخْطَأَ بَعْضُهُم فَجَعَلَهَا مَذْهَبًا جَدِيْدًا فِي الإِسْلَامِ تَبَعًا لِمَا افْتَرَاهُ خُصُوْمُهُ؛ وَلَا سِيَّمَا دُعَاةُ مَنْ كَانُوا يَتَلَقَّبُوْنَ بِالخُلَفَاءِ مِنَ التُّرْكِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الدَّرْعِيَّةِ، وَحُفَدَاؤُهُ (¬4) اليَوْمَ يُعْرَفُوْنَ بِبَيْتِ (الشَّيْخِ)، وَلَهُمْ مَقَامٌ رَفِيْعُ عِنْدَ آلِ سُعُوْدٍ. وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ أَكْثَرُهَا رَسَائِلُ مَطْبُوْعَةٌ، مِنْهَا (كِتَابُ التَّوْحِيْدِ) (¬5) وَرِسَالَةُ (كَشْفُ الشُّبُهَاتِ) وَ (تَفْسِيْرُ الفَاتِحَةِ) وَ (أُصُوْلُ الإِيْمَانِ) وَ (تَفْسِيْرُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَغَيْرُهَا. ¬

_ (¬1) مُسْتَفَادٌ مِنْ كِتَابِ (الأَعْلَامُ) لِلزِّرِكْلِيِّ (257/ 6). (¬2) وَفِي (مُعْجَمُ المُؤَلِّفِيْنَ) (269/ 10) لِعُمَر كَحَّالَة: (وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى العَقِيْدَةِ السَّلَفِيَّةِ وَالعَمَلِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ). (¬3) أَيْضًا مِمَّنْ خَذَلَهُ أَخُوْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، ثُمَّ تَابَ وَرَجَعَ. قَالَ الزِّرِكْلِيِّ فِي الأَعْلَامِ (130/ 3): (سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّمِيْمِيُّ النَجْدِيُّ: أَخُو الشَّيْخِ زَعِيْمِ النَّهْضَةِ الإِصْلَاحِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، عَارَضَ أَخَاهُ فِي الدَّعْوَةِ، وَكَتَبَ رَسَائِلَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا (الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَفَّرَ المُسْلِمِيْنَ بِسَبَبِ النَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ) مَخْطُوْطٌ فِي أَوْقَافِ بَغْدَادَ (6805)، ثُمَّ عَادَ وَأَظْهَرَ النَّدَمَ، قَالَ عَلِيّ جَوَاد الطَّاهِر: (وَلَهُ فِي ذَلِكَ رِسَالَةٌ مَطْبُوْعَةٌ). (¬4) الحَفِيْدُ: وَلَدُ الوَلَدِ، وَالجَمْعُ حُفَدَاءُ، اُنْظُرْ كِتَابَ (لِسَانُ العَرَبِ) (153/ 3). (¬5) وَمِنْ أَبْرَزِ مَنْ شَرَحَهُ حَفِيْدُهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنِ بْنِ مَحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ المَجِيْدُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ)، (ت 1285 هـ).

الملحق الأول على كتاب التوحيد) مقدمة على كتاب التوحيد

المُلْحَقُ الأَوَّلُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) مَقَدِّمَةٌ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ - التَّوْحِيْدُ: هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ وَاحِدًا. (¬1) - التَّوْحِيْدُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ مَجْمُوْعَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مَرْيَم:65). (¬2) وَهَذِهِ الأَنْوَاعُ هِيَ: 1) تَوْحِيْدُ الرُّبُوْبِيَّةِ: وَمَعْنَاهُ تَوْحِيْدُ اللهِ بِأَفْعَالِهِ, وَأُصُوْلُهَا: الخَلْقُ وَالمُلْكُ وَالتَّدْبِيْرُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُوْلُوْنَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُوْنَ، فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ} (يُوْنُس:32). (¬3) 2) تَوْحِيْدُ الأُلُوْهِيَّةِ (¬4) (أَوْ تَوْحِيْدُ العِبَادَةِ) (¬5): وَمَعْنَاهُ جَعْلُ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} (لُقْمَان:30). وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوْمًا مَخْذُوْلًا} (الإِسْرَاء:22). وَإِنَّ تَحْقِيْقَ الإِيْمَانِ بِاللهِ تَعَالَى يَكُوْنُ بِإِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةً وَدُعَاءً وَذَبْحٍ وَنَذْرٍ وَتَوَكُّلٍ وَرَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَ .... ، فَمَنْ صَرَفَ شَيْئًا مِنْهَا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّ المُشْرِكِيْنَ الأَوَائِلَ لَمْ يَكُنْ شِرْكُهُم هُوَ بِاعْتِقَادِ خَالِقٍ أَوْ رَازِقٍ أَوْ نَافِعٍ أَوْ ضَارٍّ مَعَ اللهِ تَعَالَى - كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ بِالقُرْآنِ - (¬6)، وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُم هُوَ بِاتِّخَاذِ الوَسَائِطِ وَالشُّفَعَاءِ بَيْنَهُم وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى (¬7)؛ حَيْثُ تَعَلَّقُوا بِهِم فَدَعَوْهُم وَاسْتَغَاثُوا بِهِم. 3) تَوْحِيْدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْتَقِدَ العَبْدُ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ وَاحِدٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ لَا مُمَاثِلَ لَهُ فِيْهِمَا، قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الشُّوْرَى:11). (¬8) وَهَذَا النَّوْعُ الأَخِيْرُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْن: أ) الإِثْبَاتُ، وَذَلِكَ بِأَنْ نُثْبِتَ للهِ تَعَالَى جَمَيْعَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِيْ أَثْبتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ب) نَفْيُ المُمَاثَلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا نَجْعَلَ للهِ مَثِيْلًا فِي تِلْكَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. ¬

_ (¬1) قَالَ الزُّبَيْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت 1205 هـ) فِي كِتَابِهِ (تَاجُ العَرُوْسِ) (276/ 9): (التَّوْحِيْدُ تَوْحِيْدَانِ، تَوْحِيْدُ الرُّبُوْبِيَّةِ وَتَوْحِيْدُ الأِلَهِيَّةِ. فَصَاحِبُ تَوْحِيْدِ الرَّبَّانِيَّةِ يَشْهَدُ قَيُّومِيَّةَ الرَّبِ فَوْقَ عَرْشِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِهِ وَحْدَهُ، فَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا مُحْيي وَلَا مُمِيْتَ وَلَا مُدَبِّرَ لِأَمْرِ المَمْلَكَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا غَيْرُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوْزُ حَادِثٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَاهَا عِلْمُهُ وَأَحَاطَتْ بِهَا قُدْرَتُهُ وَنَفَذَتْ فِيْهَا مَشِيْئَتُهُ وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ. وَأَمَّا تَوْحِيْدُ الإِلَهِيَّةِ فَهُوَ أَنٍ يجْمِعَ هِمَّتَهُ وَقَلْبَهُ وَعَزْمَهُ وَإِرَادَتَهُ وَحَرَكاتِهِ عَلَى أَدَاءِ حَقِّهِ وَالقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِهِ). (¬2) مُلَاحَظَةٌ: إِذَا كَانَ الاسْتِدْلَالُ بِأَكْثَرَ مِنْ آيَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنِّيْ أَذْكُرُ رَقَمَ آخِرِ آيَةٍ مِنْهَا. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (267/ 4): ({فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُوْنَ} أَيْ: أَفَلَا تَخَافُوْنَ مِنْهُ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ بِآرَائِكُم وَجَهْلِكُم؟! وَقَوْلُهُ {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ} أَيْ: فَهَذَا الَّذِي اعْتَرَفْتُم بِأَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ رَبُّكُم وَإِلَهُكُم الحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالعِبَادَةِ، {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} أَيْ: فَكُلُّ مَعْبُوْدٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَاحِدٌ لَا شَرِيْكَ لَهُ). (¬4) قَالَ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص1242): (أَلَهَ إِلَاهَةً وَأُلُوْهَةً وَأُلُوْهِيَّةً: عَبَدَ عِبَادَةً، وَمِنْهُ لَفْظُ الجَلَالَةِ). وَقَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (467/ 13): ((ألَهَ) الإلَهُ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وكُلُّ مَا اتُخِذَ مِنْ دُوْنِهِ مَعْبُوْدًا؛ إلَهٌ عِنْدَ مُتَّخِذِهِ، وَالجَمْعُ آلِهَةٌ، وَالآلِهَةُ: الأَصْنَامُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِم أَنَّ العِبَادَةَ تَحُقُّ لَهَا، وَأَسْمَاؤُهُم تَتْبَعُ اعْتِقَادَاتِهِم لَا مَا عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ). (¬5) هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيْدِ يَكُوْنُ اسْمُهُ بِاعْتِبَارَيْنِ: فَبِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُسمَّى تَوْحِيْدَ الأُلُوْهِيَّةِ، فَلَا إلَهَ حَقٌّ إِلَّا هُوَ، وَبِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى العِبَادِ يُسمَّى تَوْحِيْدَ العِبَادَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا تَعْبُدَ غَيْرَهُ. قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص503): (فَالأُلُوْهِيَّةُ وَصْفُهُ تَعَالَى، وَالعُبُوْدِيَّةُ وَصْفُ عَبْدِهِ). (¬6) قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:61). وقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُوْلُوْنَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُوْنَ، فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ} (يُوْنُس:32). (¬7) قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُوْنَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (يُوْنُس:18). (¬8) فَائِدَةٌ: اشْتِرَاكُ اسْمَاءِ بَعْضِ الصِّفَاتِ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ بَعْضِ خَلْقِهِ إِنَّمَا هُوَ اشْتِرَاكٌ فِي أَصْلِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ فِي حَقِيْقَتِهَا، فَالكَمَالُ فِيْهَا للهِ وَحْدَهُ دُوْنَ مَنْ سِوَاهُ؛ فَمَثَلًا المَخْلُوْقُ قَدْ يَكُوْنُ عَزِيْزًا؛ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ العَزِيْزُ، فَلِلْمَخْلُوْقِ مِنْ صِفَةِ العِزَّةِ مَا يُنَاسِبُ ذَاتَهُ الحَقِيْرَةَ الوَضِيْعَةَ الفَقِيْرَةَ، وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا لَهُ مِنْ كَمَالِ هَذِهِ الصِّفَةِ مُنْتَهَى ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ فِيْهَا مَثِيْلٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِيْهَا مُشَابِهٌ عَلَى الوَجْهِ التَّامِّ. وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ شَرْحِ الكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

- تُطْلَقُ العِبَادَةُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ (فِعْلٌ - وَصْفٌ): أ) العِبَادَةُ بِمَعْنَى التَّعَبُّدِ: أَي التَّذَلُّلُ للهِ تَعَالَى وَالخُضُوْعُ لَهُ؛ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيْهِ؛ مَحَبَّةً وَتَعْظِيْمًا. (¬1) ب) العِبَادَةُ بِمَعْنَى مَا يُتعبَّدُ بِهِ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ (¬2)؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الطَّاعَاتِ، فَيَكُوْنُ بِذَلِكَ دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ هُوَ كَالصَّلَاةِ لِغَيْرِ اللهِ؛ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا عِبَادَةً يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى. - إِنَّ نِزَاعَ أَكْثَرِ الطَّوَائِفَ الكَافِرَةِ المُخَالِفَةِ لِلإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ فِي النَّوْعِ الأَوَّلِ مِنَ التَّوْحِيْدِ وَهُوَ تَوْحِيْدُ الرُّبُوْبِيَّةِ، وَلَكِنْ فِي تَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتِ الكُتُبُ، فَأَكْثَرُ الأُمَمِ الكَافِرَةِ كَانَتْ تُقِرُّ للهِ تَعَالَى بِالخَلْقِ وَالمُلْكِ وَالتَّدْبِيْرِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُخْلِصُ للهِ تَعَالَى فِي العِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، لِذَلِكَ فَإِنَّ الأَمْرَ القُرْآنِيَّ لِلمُشْرِكِيْنَ بِالعِبَادَةِ يُقْصَدُ بِهِ إِفْرَادُهُ تَعَالَى بِالعِبَادَةِ (¬3)، لِأَنَّهُم كَانُوا يَعْبُدُوْنُ اللهَ تَعَالَى وَلَكِنْ يَعْبُدُوْنَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَحْتَجُّ عَلَى المُشْرِكِيْنَ بِمَا يُقِرُّوْنَهُ مِنْ رُبُوْبِيَّتِهِ وَحْدَهُ عَلَى مَا يُنْكِرُوْنَهُ مِنْ أُلُوْهِيَّتِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:61). (¬4) - أَنْوَاعُ الشِّرْكِ: يُقْسَمُ إِلَى شِرْكٍ أَكْبَرٍ، وَشِرْكٍ أَصْغَرٍ: 1) الشِّرْكُ الأَكْبَرُ: هُوَ أَنْ يَصْرِفَ العَبْدُ نَوْعًا أَوْ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ العِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ. فَكُلُّ اعْتِقَادٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُوْرٌ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ للهِ؛ فَصَرْفُهُ للهِ وَحْدَهُ تَوْحِيْدٌ وَإِيْمَانٌ وَإِخْلَاصٌ، وَصَرْفُهُ لِغَيْرِهِ شِرْكٌ وَكُفْرٌ. 2) الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: هُوَ كُلُّ وَسِيْلَةٍ وَذَرِيْعَةٍ يُتَوَصَّلُ مِنْهَا إِلَى الشِّرْكِ الأَكْبَرِ مِنَ الإِرَادَاتِ وَالأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ الَّتِيْ لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ العِبَادَةِ؛ وَجَاءَ وَصْفُهَا بِكَوْنِهَا شِرْكًا. ¬

_ (¬1) قَالَ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت 671 هـ) فِي التَّفْسِيْرِ (225/ 1): (وَأَصْلُ العِبَادَةِ الخُضُوْعُ وَالتَّذَلُّلُ، يُقَالُ: طَرِيْقٌ مُعَبَّدَةٌ إِذَا كَانَتْ مَوْطُوْءَةً بِالأَقْدَامِ). وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت 656 هـ) فِي كِتَابِهِ (المُفْهِمُ عَلَى مُسْلِمٍ) (181/ 1): (سُمِّيَتْ وَظَائِفُ الشَّرْعِ عَلَى المُكَلَّفِيْنَ عِبَادَاتٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُوْنَهَا وَيَفْعَلُوْنَهَا خَاضِعِيْنَ مُتَذَلِّلِيْنَ للهِ تَعَالَى). (¬2) قَالَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (149/ 10). (¬3) قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (362/ 1): (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسَ - فِيْمَا رُوِيَ لَنَا عَنْهُ - يَقُوْلُ فِي ذَلِكَ نَظِيْرَ مَا قُلْنَا فِيْهِ، غَيْرَ أنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ فِي مَعْنَى (اعْبُدُوا رَبَّكَم): وَحِّدُوا رَبَّكُم. وَقَدْ دَلَلْنَا فِيْمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى العِبَادَةِ: الخُضُوْعُ للهِ بِالطَّاعَةِ). (¬4) قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (58/ 20): (يَقُوْلُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِيْنَ بِاللهِ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَسَوّاهُنَّ؟ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لِعِبَادِهِ؛ يَجْرِيَانِ دَائِبِيْنِ لِمَصَالِحِ خَلْقِ اللهِ؟ لَيَقُوْلُنَّ: الَّذِيْ خَلَقَ ذَلِكَ وَفَعَلَه اللهُ، (فَأنَّى يُؤْفَكُوْنَ) يَقُوْلُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَنَّى يُصْرَفُوْنَ عَمَّنَ صَنَعَ ذَلِكَ، فَيَعْدِلُوْنَ عَنْ إِخْلَاصِ العِبَادَةِ لَهُ).

- أَنْوَاعُ النِّفَاقِ: 1) النِّفَاقُ الاعْتِقَادِيُّ: وَهُوَ النِّفَاقُ الأَكْبَرُ الَّذِي يُظْهِرُ فِيْهِ صَاحِبُهُ الإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الكُفْرَ، وَهَذَا النَّوْعُ مُخْرِجٌ مِنَ الدِّيْنِ بِالكُلِّيَّةِ. (¬1) 2) النِّفَاقُ العَمَلِيُّ: وَهُوَ عَمَلُ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ المُنَافِقِيْنَ مَعَ بَقَاءِ الإِيْمَانِ فِي القَلْبِ، وَهَذَا لَا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، لَكِنَّهُ وَسِيْلَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَصَاحِبُهُ يَكُوْنُ فِيْهِ إِيْمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَإِذَا كَثُرَ صَارَ بِسَبَبِهِ مُنَافِقًا خَالِصًا (¬2)، وَالدَّلِيْلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيْهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ؛ كَانَتْ فِيْهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬3) - أَنْوَاعُ الكُفْرِ: قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ (¬4): (أَنْوَاعُ الكُفْرِ: كُفْرٌ أَكْبَرٌ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ، وَكُفْرٌ أَصْغَرٌ، وَهُوَ الكُفْرُ العَمَلِيُّ. وَالكُفْرُ الأَكْبَرُ أَنْوَاعُهُ: 1) كُفْرُ التَّكْذِيْبِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِيْنَ} (العَنْكَبُوْت:68). 2) كُفْرُ الإبَاءِ وَالاسْتِكْبَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيْسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِيْنَ} (البَقَرَة:34). 3) كُفْرُ الظَّنِّ (الشَّكِّ)، قَالَ تَعَالَى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيْدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِيْ خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (الكَهْف:38). 4) كُفْرُ الإِعْرَاضِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِيْنَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُوْنَ} (الأَحْقَاف:3). 5) كفرُ النِّفاقِ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوْبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُوْنَ} (المُنَافِقُوْن:3). وَالكُفْرُ الأَصْغَرُ: هُوَ كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ، وَهُوَ الكُفْرُ العَمَلِيُّ، وَهُوَ فِعْلُ الذُّنُوْبِ الَّتِيْ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كُفْرًا وَلَا تَصِلُ إِلَى حَدِّ الكُفْرِ الأَكْبَرِ (¬5)، مِثْلُ كُفْرِ النِّعْمَةِ المَذْكُوْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيْهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ} (النَّحْل:112)). ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا النِّفَاقُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ: تَكْذِيْبُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تَكْذِيْبُ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ بُغْضُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بُغْضُ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوِ المَسَرَّةُ بِانْخِفَاضِ دِيْنِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الكَرَاهِيَةُ لِانْتِصَارِ دِيْنِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). مَجْمُوْعَةُ التَّوْحِيْدِ النَّجْدِيَّةِ (ص11). (¬2) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّلَاةُ وَحُكْمُ تَارِكِهَا) (ص60): (وَلَكِنْ إِذَا اسْتَحْكَمَ وكَمُلَ فَقَدْ يَنْسَلِخُ صَاحِبُهُ عَنِ الإِسْلَامِ بِالكُلِّيَّةِ - وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ -، فَإِنَّ الإِيْمَانَ يَنْهَى المُؤْمِنَ عَنْ هَذِهِ الخِلَالِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِي العَبْدِ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا؛ فَهَذَا لَا يَكُوْنُ إِلَّا مُنَافِقًا خَالِصًا). وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (47/ 2): (فَالَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ - وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ - أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ خِصَالُ نِفَاقٍ وَصَاحِبُهَا شَبِيهٌ بالمنافقين فِي هَذِهِ الْخِصَالِ وَمُتَخَلِّقٌ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ النِّفَاقَ هُوَ إِظْهَارُ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي صَاحِبِ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيَكُونُ نِفَاقُهُ فِي حَقِّ مَنْ حَدَّثَهُ وَوَعَدَهُ وَائْتَمَنَهُ وَخَاصَمَهُ وَعَاهَدَهُ مِنَ النَّاسِ؛ لَا أَنَّهُ مُنَافِقٌ فِي الْإِسْلَامِ فَيُظْهِرُهُ وَهُوَ يُبْطِنُ الْكُفْرَ! وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا أَنَّهُ مُنَافِقٌ نِفَاقَ الْكُفَّارِ الْمُخَلَّدِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا) مَعْنَاهُ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالْمُنَافِقِينَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخِصَالِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهَذَا فِيمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ غَالِبَةً عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ يَنْدُرُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا فَقَالَ إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ نِفَاقُ الْعَمَلِ). قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ القَيِّمِ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جُمْلَةِ العُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ قَيَّدَهُ بِـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا)، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فَهُوَ لَمْ يَنْقَدْ لِلإسلَامِ أَصْلًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَوْجِيْهِ ابْنِ القَيِّمِ هَذَا وَلَا بُدَّ؛ وَذَلِكَ لِصَرَاحَةِ الحَدِيْثِ فِي قَوْلِهِ ((مُنَافِقًا خَالِصًا))، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الخُلُوْصِ هُنَا؟؟ (¬3) البُخَارِيُّ (34)، وَمُسْلِمٌ (58) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا. (¬4) مَجْمُوْعَةُ التَّوْحِيْدِ (ص10) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬5) كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقُ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (48)، وَمُسْلِمٌ (64).

- طَرِيْقَةُ اسْتِدْلَالِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ تَجْرِي وَفْقَ ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ: 1) الاسْتِدْلَالُ بِالنَّصِّ العَامِّ عَلَى مَنْعِ الشِّرْك فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِيْرَادُ الدَّلِيْلِ الشَّرْعِيِّ الخَاصِّ عَلَى أَنَّ عَمَلًا مَا هُوَ عِبَادَةٌ للهِ تَعَالَى. كَمِثْلِ بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ)؛ فَقَدْ أَوْرَدَ فِيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى {يُوْفُوْنَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُوْنَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيْرًا} (الإِنْسَان:7)، ثُمَّ قَالَ فِي مَسَائِلِ البَابِ (إِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِبَادَةً للَّهِ؛ فَصَرْفُهُ إِلَى غَيْرِهِ شِرْكٌ)، فَالاسْتِدْلَالُ حَصَلَ بِبَيَانِ أَنَّ النَّذْرَ عِبَادَةٌ للهِ تَعَالَى؛ وَقَدْ أَسْلَفَ فِي البَابِ الأَوَّلِ مَجْمُوْعَةً مِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوْبِ إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالعِبَادَةِ وَمَنْعِ الشِّرْكِ فِيْهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النِّسَاء:36). فَيَكُوْنُ الدَّلِيْلُ مُرَكَّبًا مِنْ دَلِيْلَيْنِ. 2) الاسْتِدْلَالُ بِالنَّصِّ الخَاصِّ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ الفُلَانِيَّ شِرْكٌ أَوْ مِنَ الكَبَائِرِ، كَمَا فِي بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَةِ وَالخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِرَفْعِ البَلَاءِ أَوْ دَفْعِهِ)، وَقَدْ أَوْرَدَ فِيْهِ حَدِيْثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيْمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ). (¬1) 3) الاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ العَمَلَ المَذْكُوْرَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ المُشْرِكِيْنَ، فَصَارَ اجْتِنَابُهُ مِنَ التَّوْحِيْدِ، كَمَا فِي بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ الاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللهِ) فَقَدْ أَوْرَدَ فِيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوْذُوْنَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوْهُمْ رَهَقًا} (الجِنّ:6)، وَمَوْضِعُ الاسْتِدْلَالِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ مِنَ الإِنْسِ كَانُوا يَعُوْذُوْنَ بِالجِنِّ؛ وَأَنَّ الجِنَّ المُسْلِمَ ذَكَرَ مَا كَانَ يَحْصُلُ عِنْدَهُم فِي الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ أَنَّ يَسْمَعُوا القُرْآنَ. - قُلْتُ: إِنَّ أَبْوَابَ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ تَنْقَسِمُ إِلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ - إِجْمَالًا - (¬2)، وَذَلِكَ تَسْهِيْلًا لِلتَّعْلِيْمِ. وَهِيَ: القِسْمُ الأَوَّلُ) مِنَ البَابِ (رَقَم 1) إِلَى البَابِ (رَقَم 6): مُقَدِمَةٌ فِي التَّوْحِيْدِ عَلَى التَّرْتِيْبِ التَّالِي: البَابُ (رَقَم 1) فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ للهِ تَعَالَى حَقًّا عَلَيْكَ. البَابُ (رَقَم 2) فِيْهِ التَّرْغِيْبُ فِي التَّوْحِيْدِ بِكَوْنِ هَذَا الحَقِّ المَذْكُوْرِ فِيْهِ لَيْسَ مُجَرَّدًا، بَلْ فِيْهِ فَضْلٌ يَعُوْدُ عَلَيْكَ. البَابُ (رَقَم 3) فِيْهِ تَمَامُ التَّرْغِيْبِ فِي التَّوْحِيْدِ؛ بِأَنَّ مِنْ جَاءَ بِهِ كَامِلًا نَجَا مِنَ الحِسَابِ وَالعَذَابِ. البَابُ (رَقَم 4) فِيْهِ التَّرْهِيْبُ مِنْ تَرْكِ التَّوْحِيْدِ؛ بِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ. البَابُ (رَقَم 5) أَنَّكَ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا الخَيْرَ فَلَا تَقْتَصِرْ فِيْهِ عَلَى نَفْسِكَ؛ بَلِ ادْعُ النَّاسَ إِلَيْهِ. البَابُ (رَقَم 6) أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَدْعُوَ إِلَيْهِ فَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي آخِرِ هَذَا البَابِ (وَشَرْحُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الأَبْوَابِ). القِسْمُ الثَّانِي) مِنَ البَابِ (رَقَم 7) إِلَى البَابِ (رَقَم 18): أَبْوَابُ الشِّرْكِ الجَلِيِّ. القِسْمُ الثَّالِثُ) مِنَ البَابِ (رَقَم 19) إِلَى (رَقَم 23): أَبْوَابُ شِرْكِ القُبُوْرِ وَذَرَائِعِهَا. القِسْمُ الرَّابِعُ) مِنَ البَابِ (رَقَم 24) إِلَى بَابِ (رَقَم 30): أَبْوَابُ السَّحْرِ. القِسْمُ الخَامِسُ) مِنَ البَابِ (رَقَم 31) إِلَى (رَقَم 39): أَبْوَابُ أَعْمَالِ القُلُوْبِ. القِسْمُ السَّادِسُ) البَابِ (رَقَم 40) وَ (رَقَم 51) وَ (رَقَم 67): فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. القِسْمُ السَّابِعُ) الأَبْوَابُ البَاقِيَةُ مِنَ البَابِ (رَقَم 41) إِلَى بَابِ (رَقَم 66) عَدَا بَابِ (رَقَم 51): فِي بَيَانِ مُكَمِّلَاتِ التَّوْحِيْدِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (17422). الصَّحِيْحَةُ (492). (¬2) وُفْقَ مَا ظَهَرَ لِي، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

باب حق الله على العبيد

بَابُ حَقِّ اللهِ عَلَى العَبِيْدِ كِتَابُ التَّوْحِيْدِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ} (الذَّارِيَات:56). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُوْلًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوْتَ} (النَّحْل:36) الآيَة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الإِسْرَاء:23) الآيَة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النِّسَاء:36) الآيَات. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الأَنْعَام:151) الآيَات. قَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِيْ عَلَيْهَا خَاتَمُهُ؛ فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إِلَى قَوْلِهِ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيْمًا} (الأَنْعَام:153) الآيَة. (¬1) وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كُنْتُ رَدِيْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ؛ فَقَالَ لِي: (يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟) قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوْهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا). قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: (لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا). أَخْرَجَاهُ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: الحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الجِنِّ وَالإِنْسِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ العِبَادَةَ هِيَ التَّوْحِيْدُ، لِأَنَّ الخُصُوْمَةَ فِيْهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَعْبُدِ اللهَ، فَفِيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُوْنَ مَا أَعْبُدُ} (الكَافِرُوْن:3). الرَّابِعَةُ: الحِكْمَةُ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ. الخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ كُلَّ أُمَّةٍ. السَّادِسَةُ: أَنَّ دِيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ. السَّابِعَةُ: المَسْأَلَةُ الكَبِيْرَةُ؛ أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالكُفْرِ بِالطَّاغُوْتِ، فَفِيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوْتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} (البَقَرَة:256). الثَّامِنَةُ: أَنَّ الطَّاغُوْتَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُوْنِ اللهِ. التَّاسِعَةُ: عِظَمُ شَأْنِ الثَّلَاثِ آيَاتٍ المُحْكَمَاتِ فِي سُوْرَةِ الأَنْعَامِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَفِيْهَا عَشْرُ مَسَائِلَ أَوَّلُهَا النَّهْيُ عَنْ الشِّرْكِ. العَاشِرَةُ: الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ فِي سُوْرَةِ الإِسْرَاءِ وَفِيْهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، بَدَأَهَا اللهُ بِقَوْلِهِ {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوْمًا مَخْذُوْلًا} (الإِسْرَاء:22) وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} (الإِسْرَاء:39)، وَنَبَّهَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ المَسَائِلِ بِقَوْلِهِ {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ} (الإِسْرَاء:39). الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: آيَةُ سُوْرَةِ النِّسَاءِ الَّتِيْ تُسَمَّى آيَةَ الحُقُوقِ العَشْرَةِ، بَدَأَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النِّسَاء:36). الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيْهُ عَلَى وَصِيَّةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ اللهِ عَلَيْنَا. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ العِبَادِ عَلَيْهِ إِذَا أَدَّوْا حَقَّهُ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ المَسْأَلَةَ لَا يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ كِتْمَانِ العِلْمِ لِلْمَصْلَحَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِحْبَابُ بِشَارَةِ المُسْلِمِ بِمَا يَسُرُّهُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الخَوْفُ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُ المَسْئُولِ عَمَّا لَا يَعْلَمُ (اَللَّهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ). العِشْرُوْنَ: جَوَازُ تَخْصِيْصِ بَعْضِ النَّاسِ بِالعِلْمِ دُوْنَ بَعْضٍ. الحَادِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: تَوَاضُعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكُوبِ الحِمَارِ مَعَ الإِرْدَافِ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ. الثَّالِثَةُ وَالعِشْرُوْنَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ. الرَّابِعَةُ وَالعِشْرُوْنَ: فَضِيْلَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. ¬

_ (¬1) ضَعِيْفٌ. التِّرْمِذِيُّ (3070). ضَعِيْفُ التِّرْمِذِيِّ (3070). (¬2) البُخَارِيُّ (2856)، وَمُسْلِمٌ (30).

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ}: اللَّامُ هُنَا لِلتَّعْلِيْلِ، فَفِيْهَا بَيَانُ سَبَبِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى لِلجِنِّ وَالإِنْسِ. - مَعْنَى (يَعْبُدُوْنَ) هُنَا أَيْ: يُوَحِّدُوَن (¬1)، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ المُشْرِكِيْنَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ اللهَ تَعَالَى وَكَانُوا يَعْبُدُوْنَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَلَمَّا أُمِروا بِالعِبَادَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُم لَمْ يَكُوْنُوا عَلَى عِبَادَةٍ مَرْضِيَّةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى. فَكُلُّ عِبَادَةٍ فِيْهَا شِرْكٌ لَا تَكُوْنُ مَقْبُوْلَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا؛ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيْهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ). (¬2) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ}: فِيْهِ أُسْلُوْبُ الحَصْرِ، فَإِنَّ الاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ النَّفْي يُفِيْدُ الحَصْرَ، وَالمَعْنَى: خُلِقَتْ الجِنُّ وَالإِنْسُ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ العِبَادَةُ للهِ وَحْدَهُ دُوْنَ مَا سِوَاهُ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُوْلًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوْتَ}: أَوْرَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ لِبَيَانِ مَعْنَى العِبَادَةِ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ؛ وَأَنَّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ التَّوْحِيْدُ، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَعْنَاهَا نَفْيُ الأُلُوْهِيَّةِ الحَقِّ عَنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِثْبَاتُهَا للهِ وَحْدَهُ، وَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الآيَةِ مُضمَّنٌ فِي الأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الطَّاغُوْتِ، وَالإِثْبَاتُ مُضمَّنٌ فِي الأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى. - الطَّاغُوْتُ مَأْخُوْذٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُوْدٍ أَوْ مَتْبُوْعٍ أَوْ مُطَاعٍ. (¬3) - الطَّوَاغِيْتُ كَثِيْرَةٌ وَرُؤُوْسُهَا خَمْسَةٌ: (¬4) 1) الشَّيْطَانُ الدَّاعِي إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِيْنٌ} (يَس:60)، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِيْ زَيَّنَ مَعْصِيَةَ اللهِ تَعَالَى، وَزَيَّنَ طَاعَةَ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. (¬5) 2) الحَاكِمُ الجَائِرُ المُغيِّرُ لِأَحْكَامِ اللهِ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النِّسَاء:60). 3) الَّذِيْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُوْنَ} (المَائِدَة:44). (¬6) 4) الَّذِيْ يَدَّعِي عِلْمَ الغَيْبِ مِنْ دُوْنِ اللهِ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجِنّ:26). (¬7) 5) الَّذِيْ يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ وَهُوَ رَاضٍ بِهَذِهِ العِبَادَةِ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُوْنِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِيْنَ} (الأَنْبِيَاء:29). ¬

_ (¬1) وَقَدْ سَلَفَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّفْسِيْرِ. وَفِي البُخَارِيِّ (139/ 6) - كِتَابُ التَّفْسِيْرِ - سُوْرَةُ الذَّارِيَاتِ - {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ}: مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الفَرِيْقَيْنِ إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ. وَالفَرِيْقَانِ هُمُ الجِنُّ وَالإِنْسُ. (¬2) مُسْلِمٌ (2985). (¬3) (إِعْلَامُ المُوَقِّعِيْنَ) (40/ 1) لِابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬4) قَالَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ، اُنْظُرْ مَجْمُوْعَةَ التَّوْحِيْدِ النَّجْدِيَّةِ (ص160). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (509/ 1): (وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ المُرَادَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْحِيْدِ؛ إِنَّمَا أَرَادَ التَّوْحِيْدَ الكَامِلَ الَّذِيْ يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّ الإِلَهَ هُوَ المَعْبُودُ الَّذِيْ يُطَاعُ؛ فَلَا يُعْصَى خَشْيَةً وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً وَمَحَبَّةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا وَدُعَاءً، وَالمَعَاصِي كُلُّهَا قَادِحَةٌ فِي هَذَا التَّوْحِيْدِ لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ لِدَاعِي الهَوَى وَهُوَ الشَّيْطَانُ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الجَاثِيَة:23) قَالَ الحَسَنُ وَغَيْرُهُ: هُوَ الَّذِيْ لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ، فَهَذَا يُنَافِي الِاسْتِقَامَةَ عَلَى التَّوْحِيْدِ). (¬6) وَهُوَ بِقَيدِ الاسْتِحْلَالِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ). تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (357/ 10). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2552): (جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ). (¬7) (قَالَ جَابِرٌ: كَانَتِ الطَّوَاغِيْتُ الَّتِيْ يَتَحَاكَمُوْنَ إِلَيْهَا؛ فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ؛ كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (45/ 6) تَعْلِيْقًا، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيْقِ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّه. انْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (252/ 8) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ.

- قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}: هَذَا مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) بِالمُطَابَقَةِ؛ يَعْنِي أُحْصُرُوا العِبَادَةَ فِيْهِ وَحْدَهُ دُوْنَ مَا سِوَاهُ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}: هَذِهِ أَيْضًا فِيْهَا إِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ، فَالأَمْرُ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ دُوْنَ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي قَوَاعِدِ اللُّغَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْي تُفِيْدُ العُمُوْمَ، أَيْ أَنَّ كَلِمَةَ (شَيْئًا) جَاءَتْ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْي (لَا تُشْرِكُوا) فَصَارَ المَعْنَى: النَّهْيُ عَنْ أَيِّ شِرْكٍ مَهْمَا كَانَ صَغِيْرًا أَوْ كَبِيْرًا. - قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}: فِيْهِ بَيَانُ أَوَّلِ المُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى، ثُمَّ اخْتَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ} فَصَارَ فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الوَصِيَّةَ بِأَمْرٍ مَا تَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ. - فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ آخِرَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَيَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّى بِهَذِهِ الأُمُوْرِ، وَأَوَّلُهَا وَأَهَمُّهَا التَّوْحِيْدُ. (¬1) وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ البَابِ بَيَانُ أَنَّ أَوَّلَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ كَانَ الإِرْشَادُ إِلَى التَّوْحِيْدِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّوْحِيْدَ هُوَ أَصْلُ الشَّرَائِعِ وَأَعْظَمُهَا. (¬2) - فِي حَدِيْثِ مُعَاذٍ بَيَانُ أَنَّ للهِ تَعَالَى حَقًّا عَلَى العِبَادِ وَهُوَ التَّوْحِيْدُ، مِمَّا يَسْتَدْعِي الوَفَاءَ بِهِ للهِ تَعَالَى؛ وَأَنْ يُنْشَرَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُرْشَدُوا إِلَيْهِ. - فِي حَدِيْثِ مُعَاذٍ بَيَانُ أَنَّ لِلعِبَادِ حَقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُم الجَنَّةَ وَلَا يُعَذِّبَهُم إِذَا لَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ مَقْرُوْنٌ بِعَدَمِ الشِّرْكِ لَا الأَكْبَرِ وَلَا الأَصْغَرِ، وَإِنَّ الإِصْرَارَ عَلَى المَعَاصِي قَادِحٌ فِي كَمَالِ التَّوْحِيْدِ وَتَمَامِ النَّجَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ كُلِّ صَغِيْرَةٍ وَكَبِيْرَةٍ. - قَوْلُهُ (فَيَتَّكِلُوا): أَيْ: يَتَّكِلوا عَلَى مُجَرَّدِ التَّوْحِيْدِ؛ فَلَا يَتَنَافَسُوْنَ فِي الأَعْمَالِ؛ فَيَخْسَرُوْنَ بِذَلِكَ الدَّرَجَاتِ الرَّفِيْعَةَ فِي الجَنَّةِ - جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا -. ¬

_ (¬1) وَكَمَا فِي وَصِيَّةِ يَعْقُوْبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوْبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُوْنَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البَقَرَة:133). (¬2) وَيَزِيْدُ ذَلِكَ بَيَانًا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأَعْرَاف:59)، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأَعْرَاف:65)، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأَعْرَاف:73)، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأَعْرَاف:85).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) كَيْفَ يَكُوْنُ لِلْعِبَادِ حَقٌّ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ وَهُوَ الَّذِيْ أَوْجَدَهُم؟ الجَوَابُ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الحَقَّ وَلَمْ يُوْجِبْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. (¬1) 2) أَنَّ هَذَا الحَقَّ هُوَ حَقُّ تَفَضُّلٍ، وَلَيْسَ حَقَّ مُقَابَلَةٍ (¬2)، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (النَّبَأ:36)، فَجَزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى الأَجْرَ الكَثِيْرَ عَلَى العَمَلِ القَلِيْلِ. (¬3) ¬

_ (¬1) وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (7404) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ - وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ - إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي). وَمِثْلُهُ حَدِيْثُ أَبِي ذَرٍّ المَرْفُوْعُ القُدُسِيُّ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي). مُسْلِمٌ (2577). وكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيْهِ الَّذِيْنَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُوْنَ) (الأَنْعَام:12). (¬2) وَاسْتِحْقَاقُ المُقَابَلَةِ هُوَ كَإِعْطَاءِ أُجْرَةِ الأَجِيْرِ المُسَاوِيَةِ لِقِيْمَةِ عَمَلِهِ، أَمَّا لَوْ جُعِلَ لِلأَجِيْرِ أَلْفُ ضِعْفٍ - مَثَلًا - مِنْ أُجْرَةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِقَاءَ عَمَلِ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَهُوَ اسْتِحْقَاقُ تَفَضُّلٍ. (¬3) وَفِي البُخَارِيِّ (6463)، وَمُسْلِمٍ (2816) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا ((لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ)، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ)).

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

بَابُ فَضْلِ التَّوْحِيْدِ وَمَا يُكَفَّرُ مِنَ الذُّنُوْبِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُوْنَ} (الأَنْعَام:82). عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ شِهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ, وَأَنَّ عِيْسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ؛ وَالجَنَّةَ حَقٌّ؛ وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ) أَخْرَجَاهُ. (¬1) وَلَهُمَا فِي حَدِيْثِ عِتْبَان: (فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ -). (¬2) وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (قَالَ مُوْسَى: يَا رَبِّ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوْكَ بِهِ. قَالَ: (قُلْ يَا مُوْسَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، قَالَ: كُلُّ عِبَادِكَ يَقُوْلُوْنَ هَذَا؟ قَالَ: (يَا مُوْسَى! لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي؛ وَالأَرَضِيْنَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ؛ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ؛ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَه. (¬3) وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (قالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا؛ ثُمَّ لَقِيْتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً). (¬4) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: سَعَةُ فَضْلِ اللهِ. الثَّانِيَةُ: كَثْرَةُ ثَوَابِ التَّوْحِيْدِ عِنْدَ اللهِ. الثَّالِثَةُ: تَكْفِيْرُهُ مَعَ ذَلِكَ لِلذُّنُوبِ. الرَّابِعَةُ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ الأَنْعَامِ. الخَامِسَةُ: تَأَمَّلِ الخَمْسَ اللَّوَاتِي فِي حَدِيْثِ عُبَادَةَ. السَّادِسَةُ: أَنَّكَ إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيْثِ عِتْبَانَ وَمَا بَعْدَهُ تَبَيَّنَ لَكَ مَعْنَى قَوْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَتَبَيَّنَ لَكَ خَطَأَ المَغْرُوْرِيْنَ. السَّابِعَةُ: التَّنْبِيْهُ لِلشَّرْطِ الَّذِيْ فِي حَدِيْثِ عِتْبَانَ. الثَّامِنَةُ: كَوْنُ الأَنْبِيَاءِ يَحْتَاجُوْنَ لِلتَّنْبِيْهِ عَلَى فَضْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ). التَّاسِعَةُ: التَّنْبِيْهُ لِرُجْحَانِهَا بِجَمِيعِ المَخْلُوْقَاتِ؛ مَعَ أَنَّ كَثِيْرًا مِمَّنْ يَقُوْلُهَا يَخِفُّ مِيْزَانُهُ. العَاشِرَةُ: النَّصُّ عَلَى أَنَّ الأَرَضِيْنَ سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ لَهُنَّ عُمَّارًا. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِثْبَاتُ الصَّفَاتِ - خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ -. الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ: أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ حَدِيْثَ أَنَسٍ، عَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيْثِ عِتْبَانَ (فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ -) أَنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ، لَيْسَ قَوْلًا بِاللِّسَانِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَأَمَّلِ الجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِ عِيْسَى وَمُحَمَّدٍ عَبْدَيِ اللِه وَرَسُوْلَيْهِ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ اخْتِصَاصِ عِيْسَى بِكَوْنِهِ كَلِمَةَ اللهِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ كَوْنِهِ رُوْحًا مِنْهُ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ فَضْلِ الإِيْمَانِ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ قَوْلِهِ (عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ). التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ أَنَّ المِيْزَانَ لَهُ كِفَّتَانِ. العِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ ذِكْرِ الوَجْهِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (3435)، وَمُسْلِمٌ (28). (¬2) البُخَارِيُّ (425)، وَمُسْلِمٌ (33). (¬3) ضَعِيْفٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الهَيْثَمِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ مُتَكَلَّمٌ فِيْهَا. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (6218)، وَالحَاكِمُ (1936). ضَعِيْفُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (923). (¬4) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3540). الصَّحِيْحَةُ (127).

الشرح

الشَّرْحُ - عَقَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هَذَا البَابَ لِبَيَانِ أَنَّ الحَقَّ الوَارِدَ فِي البَابِ السَّابِقِ لَيْسَ حَقًّا مُجَرَّدًا بَلْ فِيْهِ فَضْلٌ يَعُوْدُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَهُوَ أَعْظَمُ الحَسَنَاتِ وَأَعْظَمُ الوَاجِبَاتِ، لِذَلِكَ فَهُوَ أَعْظَمُ الأَعْمَالِ تَكْفِيْرًا لِلذُّنُوْبِ، وَهُوَ رَأْسُ الأَعْمَالِ وَأَهَمُّهَا وَأَوْجَبُهَا. وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَوْصِنِي؟ قَالَ: (إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً؛ فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا)، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَمِنَ الحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ: (هِيَ أَفْضَلُ الحَسَنَاتِ). (¬1) - إِنَّ مِنْ فَضْلِ التَّوْحِيْدِ عَلَى العَبْدِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَحْفَظُهُ بِهِ مِنْ سُوْءِ العَمَلِ وَيُوَفِّقُهُ بِسَبَبِهِ لِتَرْكِ المَعَاصِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوْءَ وَالفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِيْنَ} (يُوْسُف:24)، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ إِبْلِيْسُ الرَّجِيْمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِيْنَ} (ص:83). (¬2) وَهَذَا الحِفْظُ أَيْضًا مَشْمُوْلٌ بِعُمُوْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوْعَظُوْنَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيْتًا} (النِّسَاء:66). - وَإِنَّ مِنْ فَضْلِ التَّوْحِيْدِ أَيْضًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ التَّهْلِيْلَ وَالتَّكْبِيْرَ سِلَاحًا لِلنَّصْرِ، كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (سَمِعْتُمْ بِمَدِيْنَةٍ؛ جَانِبٌ مِنْهَا فِي البَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي البَحْرِ؟) قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: (لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُوْنَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوْهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا - قَالَ ثَوْرٌ (بْنُ يَزِيْدَ؛ الرَّاوِي): لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ - الَّذِيْ فِي البَحْرِ، ثُمَّ يَقُوْلُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الآخَرُ، ثُمَّ يَقُوْلُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا (¬3)، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُوْنَ المَغَانِمَ؛ إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيْخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُوْنَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُوْنَ). (¬4) - قَوْلُهُ (وَمَا يُكفِّرُ مِنَ الذُّنُوْبِ): أَيْ: وَتَكْفِيْرُهُ الذُّنُوْبَ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُوْنَ} (¬5): الظُّلْمُ هُنَا هُوَ الشِّرْكُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ كَمَا تَظُنُّوْنَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيْمٌ} (لُقْمَان:13)). (¬6) وَالظُّلْمُ هُنَا فِي الحَدِيْثِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي فَتَعُمُّ كُلَّ ظُلْمٍ، وَلَكِنَّ الحَدِيْثَ قَيَّدَهَا بِالشِّرْكِ، فَيَكُوْنُ العُمُوْمُ مَقْصُوْدًا بِهِ هُنَا عُمُوْمُ الشِّرْكُ. وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَتْرُكُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ يُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِيْ لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ؛ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِيْ يُغْفَرُ؛ فَظُلْمُ العَبْدِ فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَأَمَّا الَّذِيْ لَا يُتْرَكُ؛ فَقَصُّ اللهِ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ). (¬7) - قَوْلُهُ {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُوْنَ}: أَيْ: أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ فِي الآخِرَةِ، وَهُمْ مُهْتَدُوْنَ فِي الدُّنْيَا. (¬8) - قَوْلُ (أَشْهَدُ): أَيْ: أُقِرُّ نَاطِقًا بِلِسَانِي. (¬9) - قَوْلُهُ (عَبْدُ اللهِ): رَدٌ عَلَى النَّصَارَى؛ حَيْثُ عَبَدُوا عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَوْلُهُ (وَرَسُوْلُهُ): رَدٌ عَلَى اليَهُوْدِ، حَيْثُ كَذَّبُوا بِنُبُوَّةِ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. - قَوْلُهُ (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا): أَيْ: خُلِقَ بِكَلِمَةِ (كُنْ)، وَالإِضَافَةُ هُنَا لِلتَّشْرِيْفِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (21487). الصَّحِيْحَةُ (1373). (¬2) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيْرًا} (النِّسَاء:115) بَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص202): (وَيَدُلُّ مَفْهُوْمُهَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُشَاقِقِ الرَّسُوْلَ وَيَتَّبِعْ سَبِيْلَ المُؤْمِنِيْنَ؛ بِأَنْ كَانَ قَصْدُهُ وَجْهَ اللهِ وَاتِّبَاعَ رَسُوْلِهِ وَلُزُوْمَ جَمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ، ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الذُّنُوْبِ أَوِ الهَمِّ بِهَا مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ النُّفُوْسِ وَغَلَبَاتِ الطِّبَاعِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُوَلِّيْهِ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ، بَلْ يَتَدَارَكُهُ بِلُطْفِهِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِ بِحِفْظِهِ، وَيَعْصِمُهُ مِنَ السُّوْءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوْسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوْءَ وَالفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِيْنَ} أَيْ: بِسَبَبِ إِخْلَاصِهِ صَرَفْنَا عَنْهُ السُّوْءَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُخْلِصٍ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُوْمُ التَّعْلِيْلِ). (¬3) وَرَجَّحَ كَثِيْرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهَا القُسْطَنْطِيْنِيَةَ؛ وَأَنَّ فَتْحَهَا هَذَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬4) مُسْلِمٌ (2920). (¬5) قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَمْ يَلْبِسُوا}: أَيْ: لَمْ يَخْلِطُوا. (¬6) البُخَارِيُّ (6937)، وَمُسْلِمٌ (124). (¬7) حَسَنٌ. البَزَّارُ (115/ 13)، وَالطَّيَالِسِيُّ (2223). الصَّحِيْحَةُ (1927). (¬8) وَأَيْضًا هُمْ مُهْتَدُوْنَ إِلَى الجَنَّةِ فِي الآخِرَةِ. (¬9) قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص90): (وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي (شَهِدَ) - تَدُوْرُ عَلَى الحُكْمِ وَالقَضَاءِ وَالإِعْلَامِ وَالبَيَانِ وَالإِخْبَارِ، وَهَذِهِ الأَقْوَالُ كُلُّهَا حَقٌّ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَخَبَرَهُ، وَتَتَضَمَّنُ إِعْلَامَهُ وَإِخْبَارَهُ وَبَيَانَهُ. فَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: فَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا: عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ المَشْهُودِ بِهِ وَثُبُوْتِهِ. وَثَانِيْهَا: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ - وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيْرَهُ - بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعَ نَفْسِهِ وَيَتَذَكَّرُهَا وَيَنْطِقُ بِهَا أَوْ يَكْتُبُهَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ، وَيُخْبِرَهُ بِهِ، وَيُبَيِّنَهُ لَهُ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِهَا وَيَأْمُرَهُ بِهَا).

- قَوْلُهُ (وَرُوْحٌ مِنْهُ): أَيْ أنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَغَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ جَسَدٍ وَرُوْحٍ، لَكِنَّهُ أَضَافَ رُوْحَهُ إِلَيْهِ تَشْرِيْفًا لَهُ وَتَكْرِيْمًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آدَمَ {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِيْنَ} (الحِجْر:29)، فَـ (مِنْ) هُنَا هِيَ لِلابْتِدَاءِ وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيْضِ. وَمَفَادُ الإِضَافَةِ هُنَا التَّشْرِيْفُ وَالتَّكْرِيْمُ وَرَدُّ عَلَى اليَهُوْدِ الَّذِيْنَ زَعَمُوا أَنَّهُ ابْنُ زِنَى، فَالتَّشْرِيْفُ فِي هَذَا المَقَامِ هُوَ تَطْهِيْرٌ لَهُ مِنْ زَعْمِهِم ذَلِكَ (¬1)، فَلَيْسَ فِيْهَا مُتَمَسَّكٌ لِلنَّصَارَى - الضَّالِّيْنَ - فِي زَعْمِهِم أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى - وَالعِيَاذُ بِاللهِ -، بَلْ نَزِيْدُهُم إِفْحَامًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} (آل عِمْرَان:59). (¬2) - قَوْلُهُ (أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ): يَعْنِي عَلَى الَّذِيْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ العَمَلِ - وَلَوْ كَانَ مقصِّرًا فِيْهِ وَعِنْدَهُ ذُنُوْبٌ وَعِصْيَانٌ -. وَقَرِيْبٌ مِنْهُ حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - عِنْدَ المَوْتِ - دَخَلَ الجَنَّة يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ؛ وَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ). (¬3) - قَوْلُهُ (حَرَّمَ عَلَى النَّارِ): إِنَّ التَحْرِيْمَ عَلَى النَّارِ فِي نُصُوْصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَأْتِي عَلَى دَرَجَتَيْنِ: 1) تَحْرِيْمٌ مُؤَبَّدٌ (مُطْلَقٌ): فَهُوَ لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ. 2) تَحْرِيْمٌ بَعْدَ أَمَدٍ: أَيْ رُبَّمَا يَدْخُلُهَا ثُمَّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ البَقَاءُ فِيْهَا. وَالحَدِيْثُ هُنَا يَحْتَمِلُ الدَّرَجَتِيْنِ وَلَكِنْ بِتَوْجِيْهِ كَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ مِنْ جِهَةِ كَمَالِهَا، وَمِنْ جِهَةِ آخَرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شَأْنِهَا. فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مُخْلِصًا بِهَا مِنْ قَلْبِهِ؛ مُنَزِّهًا قَلْبَهُ عَنِ الإِصْرَارِ عَلَى المَعَاصِي فَهُوَ الَّذِيْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكْمُلْ تَوْحِيْدُ قَلْبِهِ، وَلَمْ يُنَزِّهْهُ عَنْ مَحَبَّةِ المَعَاصِي، وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا. - حَدِيْثُ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ هُنَا ضَعِيْفُ الإِسْنَادِ (¬4)، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيْثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا أَنَّ نُوْحًا أَوْصَى ابْنَهُ؛ فَقَالَ: (آمُرُكَ بلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِيْنَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَنَ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ أُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ). (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (479/ 2): (فَقَوْلُهُ فِي الآيَةِ وَالحَدِيْثِ {وَرُوْحٌ مِنْهُ} كَقَوْلِهِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيْعًا مِنْهُ} (الجَاثِيَة:13) أَيْ: مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، وَلَيْسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ - كَمَا تَقُوْلُهُ النَّصَارَى؛ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللهِ المُتَتَابِعَةُ - بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ، كَمَا فِي الآيَةِ الأُخْرَى. وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ {وَرُوْحٌ مِنْهُ} أَيْ: وَرَسُوْلٌ مِنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَمَحَبَّةٌ مِنْهُ. وَالأَظْهَرُ الأَوَّلُ؛ أنَّه مَخْلُوْقٌ مِنْ رُوحٍ مَخْلُوْقَةٍ، وَأُضِيفَتِ الرُّوْحُ إِلَى اللهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيْفِ، كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالبَيْتُ إِلَى اللهِ فِي قَوْلِهِ {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ} (هُود:64)، وَفِي قَوْلِهِ {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (الحَجِّ:26)). (¬2) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُوْرَة مَرْيَمَ عَنْ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُوْنِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوْذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُوْلُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (مَرْيَم:19)، فَانْظُرْ كَيْفَ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {رُوَحَنَا} - مُضَافًا إِلَى جَنَابِهِ تَعَالَى- ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ قَالَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنَّمَا أَنَا رَسُوْلُ رَبِّكِ}. (¬3) صَحِيْحُ مُسْلِمِ (916)، وَاللَّفْظُ بِتَمَامِهِ لِابْنِ حِبَّانَ (3004). وَبِنَحْوِهَا أَحَادِيْثُ الشَّفَاعَةِ الَّتِيْ فِيْهَا خُرُوْجُ كَثِيْرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيْدِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوْهَا بِذُنُوْبِهِم. (¬4) سَبَقَ ذِكْرُ ضَعْفِهِ. (¬5) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (548). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (426).

- إِنَّ هَذَا الفَضْلَ العَظِيْمَ لِكَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ قَوِيَتْ فِي قَلْبِهِ وَأَتَى بِكَمَالِهَا (¬1)، وَهَذِهِ القُوَّةُ هِيَ الَّتِيْ تَحْرِقُ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الذُّنُوْبِ (¬2)، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ؛ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوْسِ الخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُوْلُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُوْنَ؟ فَيَقُوْلُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُوْلُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُوْلُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُوْلُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، فَيَقُوْلُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُوْلُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ). (¬3) - قَوْلُهُ (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ): تَشْمَلُ أَنْوَاعَ التَّوْحِيْدِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ: تَوْحِيْدُ الرُّبُوْبِيَّةِ، وَتَوْحِيْدُ الأُلُوْهِيَّةِ وَتَوْحِيْدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. - شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ تَسْتَلْزِمُ أُمُوْرًا؛ مِنْهَا: 1) تَصْدِيْقُهُ فِيْمَا أَخْبَرَ - إِذَا ثَبَتَتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ -. 2) امْتِثَالُ أَمْرِهِ دُوْنَ تَرَدُّدٍ. وَمِنَ التَّرَدُّدِ المَذْمُوْمِ التَّوَقُّفُ عَنِ الامْتِثَالِ وَالتَّطْبِيْقِ إِلَى أَنْ يُعْلَمَ هَلِ الأَمْرُ لِلوُجُوْبِ أَمْ لِلاسْتِحْبَابِ! وَأَيْضًا التَّوَقُّفُ عَنِ الامْتِثَالِ حَتَّى يُعْلَمَ مَا مَوْقِفُ المَذْهَبِ الفُلَانِيِّ مِنْهُ! 3) اجْتِنَابُ نَهْيِهِ دُوْنَ تَرَدُّدٍ، وَالحَذَرُ مِنْ قَوْلِ (هَذَا لَيْسَ فِي القُرْآنِ)! لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيْكَتِهِ؛ يَأْتِيْهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي - مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ وَنَهَيْتُ عَنْهُ - فَيَقُوْلُ: لَا نَدْرِي، وَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ). (¬4) 4) أَنْ لَا يُقدِّمَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ البَشَرِ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مِنْ هَهُنَا تَرِدُوْنَ، نَجِيئُكُمْ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجِيئُوْنَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ). (¬5) 5) أَنْ لَا يَبْتَدِعَ فِي شَرْعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ) عَنْ مَالِكٍ قَوْلَهُ: (مَنِ ابْتَدَعَ فِي الإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُوْلُ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ} (المَائِدَة:3)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِيْنًا، فَلَا يَكُوْنُ اليَوْمَ دِيْنًا). (¬6) 6) أَنْ لَا يَغْلَوَ فِيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْطِيَهُ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوْبِيَّة شَيْءٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} (الأَعْرَاف:188). (¬7) - قَوْلُهُ (لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا): (شَيْئًا) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي تُفِيْدُ العُمُوْمَ؛ أَيْ: لَا شِرْكًا أَصْغَرًا وَلَا أَكْبَرًا. ¬

_ (¬1) قُلْتُ: وَهُوَ الكَمَالُ الوَاجِبُ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (417/ 2) - عِنْدَ شَرْحِ الحَدِيْثِ الثَّانِي وَالأَرْبَعِيْنَ -: (مَنْ جَاءَ مَعَ التَّوْحِيْدِ بِقُرَابِ الأَرْضِ - وَهُوَ مِلْؤُهَا أَوْ مَا يُقَارِبُ مِلْأَهَا - خَطَايَا، لَقِيَهُ اللهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، لَكِنْ هَذَا مَعَ مَشِيْئَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِذُنُوْبِهِ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُ أَنْ لَا يُخَلَّدَ فِي النَّارِ، بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا، ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: المُوَحِّدُ لَا يُلْقَى فِي النَّارِ كَمَا يُلْقَى الكُفَّارُ، وَلَا يَلْقَى فِيْهَا مَا يَلْقَى الكُفَّارُ، وَلَا يَبْقَى فِيْهَا كَمَا يَبْقَى الكُفَّارُ، فَإِنْ كَمُلَ تَوْحِيْدُ العَبْدِ وَإِخْلَاصُهُ لِلَّهِ فِيْهِ، وَقَامَ بِشُرُوْطِهِ كُلِّهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، أَوْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ المَوْتِ؛ أَوْجَبَ ذَلِكَ مَغْفِرَةَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوْبِ كُلِّهَا، وَمَنَعَهُ مِنْ دُخُوْلِ النَّارِ بِالكُلِّيَّةِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ قَلْبُهُ؛ أَخْرَجَتْ مِنْهُ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً وَخَشْيَةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَحِيْنَئِذٍ تُحْرَقُ ذُنُوْبُهُ وَخَطَايَاهُ كُلُّهَا - وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ -، وَرُبَّمَا قَلَبَتْهَا حَسَنَاتٍ - كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ -، فَإِنَّ هَذَا التَّوْحِيْدَ هُوَ الإِكْسِيْرُ الأَعْظَمُ، فَلَوْ وُضِعَتْ مِنْهُ ذَرَّةٌ عَلَى جِبَالِ الذُّنُوْبِ وَالخَطَايَا، لَقَلَبَهَا حَسَنَاتٍ). (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2639). الصَّحِيْحَةُ (135). (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (23876) عَنِ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7172). (¬5) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (3121)، وَلَفْظُهُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُوْلُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ: يَقُوْلُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُوْنَ؛ أَقُوْلُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَيَقُوْلُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ). قَالَ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص417): (بِإِسْنَادٍ صَحَيْحٍ). وَأَوْرَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَطَالِبُ العَالِيَةُ) (96/ 7) وَقَالَ: ((قَالَ إِسْحَاقُ: نَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوْبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيحَكَ أَضَلَلْتَ! تَأْمُرُنَا بِالعُمْرَةِ فِي العَشْرِ وَلَيْسَ فِيْهِنَّ عُمْرَةٌ!) فَقَالَ: (يَا عُرَيُّ فَسَلْ أُمَّكَ). قَالَ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَقُوْلَا ذَلِكَ؛ وَكَانَا أَعْلَمَ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَعَ لَهُ مِنْكَ). فَقَالَ: (مِنْ هَهُنَا تَرِدُوْنَ؛ نَجِيْئُكُمْ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجِيْئُوْنَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ). سَنَدُهُ صَحِيْحٌ، وَبَعْضُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالعُمْرَةِ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ). قُلْتُ: وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهَوِيْه فِي مُسْنَدِهِ. (¬6) الاعْتِصَامُ (64/ 1). (¬7) لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمَا تَسْتَلْزِمُهُ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) بِخُصُوْصِهَا؛ لِأَنَّ كِتَابَ التَّوْحِيْدِ هَذَا - إِجْمَالًا - قَائِمٌ عَلَى بَيَانِهَا وَتَوْضِيْحِهَا.

- فَائِدَة 1) إنَّ الحَدِيْثَ فِيْهِ بَيَانُ مَغْفِرَةِ اللهِ تَعَالَى لِلذُّنُوْبِ وَلَوْ كَانَتْ بِمِقْدَارِ الأَرْضِ، ولَكِنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِأُمُوْرٍ: 1) أَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللهِ تَعَالَى شَيْئًا. (¬1) 2) أَنْ يَمُوْتَ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ (لَقِيْتَنِيْ). 3) أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالمَشِيْئَةِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النِّسَاء:48). - فَائِدَة 2) اعْلَمْ أَنَّ مَا أَضَافَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: (¬2) 1) مَا كَانَ عَيْنًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ؛ فَهُوَ مَخْلُوْقٌ، وَالإِضَافَةُ فِيْهَا لَهَا حَالَتَانِ: أ) عَامَّةٌ: مِنْ بَابِ إِضَافَةِ المَخْلُوْقِ إِلَى خَالِقِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُوْنَ} (الجَاثِيَة:13)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا عِبَادِيَ الَّذِيْنَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُوْنِ} (العَنْكَبُوْت:56). ب) خَاصَّةٌ: لِلتَّشْرِيْفِ - رُغْمَ كَوْنِهِ مَشْمُوْلًا بِعُمُوْمِ الإِضَافَةِ السَّابِقَةِ ذِكْرُهَا -؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيْمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِيْنَ وَالرُّكَّعِ السُّجُوْدِ} (الحَجّ:26)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَرُوْحٌ مِنْهُ} (النِّسَاء:171)، فَهَذِهِ الإِضَافَةُ أَيْضًا لِلتَّشْرِيْفِ وَالتَّزْكِيَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَالَ لَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا} (الشَّمْس:13). 2) مَا كَانَ وَصْفًا (أَوْ مَعْنَىً) لِعَيْنٍ مَخْلُوْقَةٍ يَقُوْمُ بِهَا ذَلِكَ المَعْنَى، وَهَذَا القِسْمُ مَخْلُوْقٌ أَيْضًا. (¬3) 3) مَا كَانَ وَصْفًا (أَوْ مَعْنَىً) لَا يَقُوْمُ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، كَالمَحَبَّةِ وَالكَلَامِ وَالرِّضَى وَالغَضَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ يَا مُوْسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِيْنَ} (الأَعْرَاف:144)، فَالرِّسَالَةُ وَالكَلَامُ أُضِيْفَتَا إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى المَوْصُوْفِ، فَهِيَ لَيْسَتْ عَيْنًا، وَلَا صِفَةً قَائِمَةً بِمَخْلُوْقٍ، فَتَكُوْنُ هَذِهِ الصِّفَةُ غَيْرَ مَخْلُوْقَةٍ، لِأَنَّهَا صِفَةُ الخَالِقِ تَعَالَى. (¬4) ¬

_ (¬1) وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْحِيْدَ هُوَ سَبَبُ الشَّفَاعَاتِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيْدُ كُلَّمَا زَادَتِ الشَّفَاعَةُ فِي حَقَّهِ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (99) مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ). (¬2) بِتَصَرُّفٍ مِنْ كِتَابِ (الجَوَابُ الصَّحِيْحُ لِمَنْ بَدَّلَ دِيْنَ المَسِيْحِ) (71/ 4) لِشَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَسَبَبُ الاشْتِبَاهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ المَسَائِلِ هُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّعْبِيْرُ لُغَةً عَنِ المَفْعُوْلِ بِالصِّفَةِ. فَالمَطَرُ مَفْعُوْلٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَرْحَمُ بِهِ عِبَادَهُ، وَيَصِحُّ بِذَلِكَ وَصْفُ المَطَرِ بِأَنَّهُ رَحْمَةُ اللهِ، فَهُوَ مَخْلُوْقٌ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، وكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُوْنِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ بَلِ الظَّالِمُوْنَ فِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ} (لُقْمَان:11). وَقَدْ أَشَارَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى ذَلِكَ في صَحِيْحِهِ (134/ 9) فَقَالَ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنَ الخَلَائِقِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَهُوَ الخَالِقُ المُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيْقِهِ وَتَكْوِيْنِهِ فَهُوَ مَفْعُوْلٌ مَخْلُوْقٌ مُكَوَّنٌ). (¬3) قُلْتُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (طَه:39)، فَهَذِهِ المَحَبَّةُ الَّتِيْ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قُلُوْبِ النَّاسِ لِمُوْسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضَافَهَا اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ فَهِي لِلتَّشْرِيْفِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَهِيَ مَعْنىً قَائِمٌ فِي قُلُوْبِ النَّاسِ. (¬4) وَانْظُرْ كِتَابَ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (75/ 1) للشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفِيْهِ أَيْضًا: (فَالأَعْيَانُ القَائِمَةُ بِنَفْسِهَا وَالمتَّصِلُ بِهَا (مِنَ الصِّفَاتِ) مَخْلُوْقَةٌ، وَالوَصْفُ الَّذِيْ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ عَيْنٌ تَقُوْمُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُوْنُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ، وَصِفَاتُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقَةٍ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) تَوَاتَرَتِ الأَحَادِيْثُ بِأَنَّ كَثِيْرًا مِمَّنْ يَقُوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا، فكَيْفَ الجَمْعُ مَعَ حَدِيْثِ عِتْبَانَ الَّذِيْ فِيْهِ بأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؟ وَالجَوَابُ: بِأَنَّ الَّذِيْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ هُوَ مَنْ قَالَهَا بِإِخْلَاصٍ وَيَقِيْنٍ تَامٍّ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالِ لَيْسَ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا. (فِإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا بِإِخْلَاصٍ وَيَقِيْنٍ تَامٍّ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الحَالِ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا، فَإِنَّ كَمَالَ إِخْلَاصِهِ وَيَقِيْنِهِ يُوْجِبُ أَنْ يَكُوْنَ اللهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذًا لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ إِرَادَةٌ لِمَا حَرَّمَ اللهُ، وَلَا كَرَاهَةٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِيْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ - وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ذُنُوْبٌ قَبْلَ ذَلِكَ -، فَإِنَّ هَذَا الإِيْمَانَ وَهَذَا الإِخْلَاصَ وَهَذِهِ التَّوْبَةَ وَهَذِهِ المَحَبَّةَ وَهَذَا اليَقِيْنَ؛ لَا تَتْرُكُ لَهُ ذَنْبًا إِلَّا مُحِيَ عَنْهُ كَمَا يَمْحُو اللَّيْلُ النَّهَارَ، فَإِذَا قَالَهَا عَلَى وَجْهِ الكَمَالِ المَانِعِ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ؛ فَهَذَا غَيْرُ مُصِرٍّ عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا، فَيُغْفَرُ لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَى النَّارِ). (¬1) (¬2) ¬

_ (¬1) نَقَلَهُ مُلَخَّصًا صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ (ص47) رَحِمَهُ اللهُ مِنْ مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى. (¬2) وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (524/ 1) - عِنْدَ شَرْحِ الحَدِيْثِ الخَامِسِ وَالعِشْرِيْنَ -: (فَإِنَّ تَحَقُّقَ القَلْبِ بِمَعْنَى - لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - وَصِدْقَهُ فِيْهَا، وَإِخْلَاصَهُ بِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْسَخَ فِيْهِ تَأَلُّهَ اللهِ وَحْدَهُ إِجْلَالًا؛ وَهَيْبَةً؛ وَمَخَافَةً؛ وَمَحَبَّةً؛ وَرَجَاءً؛ وَتَعْظِيْمًا؛ وَتَوَكُّلًا؛ وَيَمْتَلِئَ بِذَلِكَ، وَيَنْتَفِيَ عَنْهُ تَأْلُّهُ مَا سِوَاهُ مِنَ المَخْلُوْقِيْنَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَبْقَ فِيْهِ مَحَبَّةٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا طَلَبٌ لِغَيْرِ مَا يُرِيْدُ اللهُ وَيُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ، وَيَنْتَفِي بِذَلِكَ مِنَ القَلْبِ جَمِيْعُ أَهْوَاءِ النُّفُوْسِ وَإِرَادَاتِهَا، وَوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَأَطَاعَهُ، وَأَحَبَّ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ إِلَهُهُ، فَمَنْ كَانَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُبْغِضُ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي إِلَّا لَهُ؛ فَاللَّهُ إِلَهُهُ حَقًّا، وَمَنْ أَحَبَّ لِهَوَاهُ، وَأَبْغَضَ لَهُ، وَوَالَى عَلَيْهِ، وَعَادَى عَلَيْهِ، فَإِلَهُهُ هَوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الجَاثِيَة:23) قَالَ الحَسَنُ: هُوَ الَّذِيْ لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِيْ كُلَّمَا هَوَى شَيْئًا رَكِبَهُ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا أَتَاهُ، لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ وَلَا تَقْوَىً. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيْثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوْعًا (مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ)، وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ؛ فَقَدْ عَبَدَهُ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِيْنٌ} (يَس:60). فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحْقِيْقُ مَعْنَى قَوْلِ - لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ إِصْرَارٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ، وَلَا عَلَى إِرَادَةِ مَا لَا يُرِيْدُهُ اللهُ، وَمَتَى كَانَ فِي القَلْبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي التَّوْحِيْدِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (الأَنْعَامِ:151) قَالَ: لَا تُحِبُّوا غَيْرِي. وَفِي صَحِيْحِ الحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الجَوْرِ، وَتُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ العَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الحُبُّ وَالبُغْضُ؟ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آلِ عِمْرَانَ:31) وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ؛ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى، وَالمُوَالَاةُ عَلَى ذَلِكَ وَالمُعَادَاةُ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (لَا تَزَالُ - لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - تَمْنَعُ العِبَادَ مِنْ سُخْطِ اللهِ؛ مَا لَمْ يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى صَفْقَةِ دِيْنِهِمْ، فَإِذَا آثَرُوا صَفْقَةَ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِيْنِهِمْ؛ ثُمَّ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ اللهُ: كَذَبْتُمْ). فَتَبَيَّنَ بِهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ؛ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ)، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ، فَلِقِلَّةِ صِدْقِهِ فِي قَوْلِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ إِذَا صَدَقَتْ طَهَّرَتْ مِنَ القَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ، فَمَنْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ - لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - لَمْ يُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَمْ يَرْجُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ إِلَّا عَلَى اللهِ، وَلَمْ تَبْقَ لَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ إِيثَارِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَمَتَى بَقِيَ فِي القَلْبِ أَثَرٌ لِسِوَى اللهِ، فَمِنْ قِلَّةِ الصِّدْقِ فِي قَوْلِهَا). قُلْتُ: وحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ السَّابِقِ مَوْضُوْعٌ، رَوَاهُ الطَّبَرَاِنُّي فِي الكَبِيْرِ (103/ 8). ضَعِيْفُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (39). وَحَدِيْثُ (الشِّرْكُ أَخْفَى ...) صَحِيْحٌ مِنْهُ الشَّطْرُ الأَوَّلُ فَقَط. الحَاكِمُ (3148) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. انْظُرْ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (3755). وَأَمَّا حَدِيْثُ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا السَّابِقِ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ جِدًّا. مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى (4034) بِتَحْقِيْقُ الشَّيْخِ حُسَيْنِ أَسَد حَفِظَهُ اللهُ.

باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

بَابُ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيْدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيْفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِيْنَ} (النَّحْل:120). وَقَوْلُهُ {وَالَّذِيْنَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُوْنَ} (المُؤْمِنُوْن:59). وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ؛ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الكَوْكَبَ الَّذِيْ انْقَضَّ البَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ؛ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ. قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اَرْتقَيْتُ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيْثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ. قَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحُصَيْبِ؛ أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ. وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيْمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيْلَ لِي: هَذَا مُوْسَىَ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ؛ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيْمٌ، فَقِيْلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ؛ وَمَعَهُمْ سَبْعُوْنَ أَلْفًا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ). فنَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِيْنَ صَحِبُوا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِيْنَ وُلِدُوا فِي الإِسْلَامِ؛ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوْهُ. فَقَالَ: (هُمُ الَّذِيْنَ لَا يَسْتَرْقُوْنَ وَلَا يَكْتَوُوْنَ وَلَا يَتَطَيَّرُوْنَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُوْنَ)، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: (أَنْتَ مِنْهُمْ)، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: مَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي التَّوْحِيْدِ. الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى تَحْقِيْقِهِ. الثَّالِثَةُ: ثَنَاؤُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ بِكَوْنِهِ لَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِيْنَ. الرَّابِعَةُ: ثَنَاؤُهُ عَلَى سَادَاتِ الأَوْلِيَاءِ بِسَلَامَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ. الخَامِسَةُ: كَوْنُ تَرْكِ الرُّقْيَةِ وَالكَيِّ مِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيْدِ. السَّادِسَةُ: كَوْنُ الجَامِعِ لِتِلْكَ الخِصَالِ هُوَ التَّوَكُّلَ. السَّابِعَةُ: عُمْقُ عِلْمِ الصَّحَابَةِ بِمَعْرِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَنَالُوا ذَلِكَ إِلَّا بِعَمَلٍ. الثَّامِنَةُ: حِرْصُهُمْ عَلَى الخَيْرِ. التَّاسِعَةُ: فَضِيْلَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالكَمِّيَّةِ وَالكَيْفِيَّةِ. العَاشِرَةُ: فَضِيْلَةُ أَصْحَابِ مُوْسَى. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: عَرْضُ الأُمَمُ عَلَيْهِ؛ عَلَيْهِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُحْشَرُ وَحْدَهَا مَعَ نَبِيِّهَا. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قِلَّةُ مَنِ اسْتَجَابَ لِلْأَنْبِيَاءِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ يَأْتِي وَحْدَهُ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: ثَمَرَةُ هَذَا العِلْمِ، وَهُوَ عَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِالكَثْرَةِ، وَعَدَمُ الزُّهْدِ فِي القِلَّةِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الرُّخْصَةُ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ العَيْنِ وَالحُمَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: عُمْقُ عِلْمِ السَّلَفِ; لِقَوْلِهِ (قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا)؛ فَعُلِمَ أَنَّ الحَدِيْثَ الأَوَّلَ لَا يُخَالِفُ الثَّانِي. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: بُعْدُ السَّلَفِ عَنْ مَدْحِ الإِنْسَانِ بِمَا لَيْسَ فِيْهِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: (أَنْتَ مِنْهُمْ) عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ. العِشْرُوْنَ: فَضِيْلَةُ عُكَّاشَةَ. الحَادِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: اسْتِعْمَالُ المَعَارِيْضِ. الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: حُسْنُ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5705)، وَمُسْلِمٌ (220). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (519/ 7): (ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ سَبْعِيْنَ أَلْفًا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ البَابِ السَّابِقِ، فَإِنَّ فِيْهِ (مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيْدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ)، وَتَحْقِيْقُ التَّوْحِيْدِ هُوَ تَصْفِيَةُ التَّوْحِيْدِ وَالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَالبِدَعِ وَالمَعَاصِيْ. فَلَا يُكْتَفَى فِيْهِ بِتَرْكِ شِرْكِ العُبُوْدِيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يُشْرِكَ هَوَاهُ فِي الطَّاعَةِ، وَإِذَا أَشْرَكَ المَرْءُ هَوَاهُ أَتَى بِالبِدَعِ وَأَتَى بِالمَعْصِيَةِ، فَصَارَ نَفْيُ الشِّرْكِ هُنَا نَفْيًا لِلشِّرْكِ بِأَنْوَاعِهِ، وَنَفْيًا لِلبِدْعَةِ، وَنَفْيًا لِلمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ تَحْقِيْقُ التَّوْحِيْد للهِ تَعَالَى. (¬1) - قَوْلُهُ (لَا يَسْتَرْقُوْنَ): أَيْ: لَا يَطْلُبُوْنَ الرُّقْيَةَ، وَالطَّالِبُ لِلرُّقْيَةِ فِي قَلْبِهِ مَيْلٌ وَتَعَلُّقٌ بِالرَّاقِي حَتَّى يُرْفَعَ مَا بِهِ - أَيْ: مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ -، وَهَذَا يُنَافِي كَمَالَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ. (¬2) وِإِنَّ مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الرُّقْيَةِ - الَّتِيْ هِيَ فِي أَصْلِهَا جَائِزَةٌ - مِنْ رَجُلٍ حَيٍّ حَاضِرٍ قَادِرٍ عَلَيْهَا؛ أَفَلَا يَكُوْنُ أَبْعَدَ عَنْ أَنْ يَطْلُبَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ مِنْ غَيْرِ اللهِ مِنْ مَقْبُوْرٍ أَوْ غَائِبٍ؟! فَظَهَرَ بِذَلِكَ سِرُّ اسْتِحْبَابِ تَرْكِ الرُّقْيَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيْدِ المُسْتَحَبِّ. - ذَكَرَ المُؤَلِّفُ فِي هَذَا البَابِ آيَتِيْنِ، وَمُنَاسَبَتُهُمَا لِلبَابِ الإِشَارَةُ إِلَى تَحْقِيْقِ التَّوْحِيْدِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِانْتِفَاءِ الشِّرْكِ كُلِّهِ. - فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانُ أَرْبَعِ صِفَاتٍ لَهُ، وَهِيَ: 1 - أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا، فَهُوَ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ فِي التَّوْحِيْدِ، فَقَدْ أَتَى بِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيْمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (البَقَرَة:124)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيْمَ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ} (المُمْتَحَنَة:4). 2 - أَنَّهُ كَانَ قَانِتًا للهِ، أَيْ: دَائِمَ الطَّاعَةِ للهِ. 3 - أَنَّهُ كَانَ حَنِيْفًا (¬3)؛ أَيْ: مَائِلًا عَنْ سَبِيْلِ المُشْرِكِيْنَ؛ وَالَّذِيْ هُوَ الابْتِدَاعُ وَالقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ. 4 - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكِيْنَ، فَهُوَ لَمْ يَجْعَلْ مَعَ اللهِ مَعْبُوْدًا آخَرَ. (¬4) - لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ ثَنَاءَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ مُجَرَّدُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُقْصَدُ بِهِ أَيْضًا مَحَبَّتُهُ، وَالاقْتِدَاءُ بِهِ. - الحُمَةُ: بِضَمِّ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وَتَخْفِيْفِ المِيْمِ: هِيَ سُمُّ العَقْرَبِ وَشَبَهُهَا. - فِي عَرْضِ الأُمَمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُ فَضِيْلَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَأَيْضًا تَسْلِيَتُهُ فِي أَنَّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَنْ لَمْ يَأْتِ مَعَهُ أَحَدٌ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيْضًا نَاصِرُهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَخَذَلَهُ. - حَدِيْثُ البَابَ جَاءَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِلَفْظِ (فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي عَزَّوَجَلَّ فَزادَنِي مَعَ كلِّ واحِدٍ سَبْعِيْنَ ألْفًا). (¬5) ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ كِتَابِ (التَّمْهِيْدُ) (ص38) لِلشَّيْخِ صَالِحِ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ. وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (397/ 2) - شَرْحُ حَدِيْثِ رَقَم (41) -: (فَجَمِيْعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ هَوَى النُّفُوْسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِيْنَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} (القَصَص:64). وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي؛ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ). (¬2) أَيْ: الكَمَالَ المُسْتَحَبَّ، وَهَذَا لَا يَأْثَمُ بِهِ صَاحِبُهُ؛ لَكِنَّهُ خِلَافُ الأَكْمَلِ. (¬3) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (57/ 9): (مَعْنَى الحَنِيْفِيَّةِ فِي اللُّغَةِ: المَيْلُ، وَالمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيْمَ حَنَفَ إِلَى دِيْنِ اللَّهِ وَدِيْنِ الإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ الحَنَفُ مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ أَحْنَفُ وَرِجْلٌ حَنْفاءُ، وَهُوَ الَّذِيْ تَمِيْلُ قَدَمَاهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْتِهَا بِأَصَابِعِهَا). (¬4) فَفِي الآيَةِ التَّنْبِيْهُ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ دَائِمَ الطَّاعَةِ للهِ تَعَالَى؛ مُوَافِقًا لِشِرْعَةِ رَبِّهِ؛ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِهِ، وَإِنَّ التَّنْبِيْهَ عَلَى إِمَامَتِهِ هُوَ إِرْشَادٌ إِلَى تَمَامِ الدِّيْنِ بِذَلِكَ. (¬5) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (203/ 1). الصَّحِيْحَةُ (1484)، وَأَيْضًا عِنْدَ أَحْمَدَ (22303) وَغَيْرِهِ بِلَفْظٍ صَحِيْحٍ (مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُوْنَ أَلْفًا وَثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِن حَثَيَاتِ رَبِّي). الصَّحِيْحَةُ (1909).

- مَرَاتِبُ النَّاسِ عِنْدَ الرُّقْيَةِ: 1) مَنْ يَطْلُبُهَا، وَهَذَا قَدْ فَاتَهُ الكَمَالُ. 2) أَنْ لَا يَمْنَعْ مَنْ يَرْقِيْهِ، وَهَذَا لَمْ يَفُتْهُ الكَمَالُ. 3) أَنْ يَمْنَعْ مَنْ يَرْقِيْهِ، وَهَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنْ تَرْقِيَهُ. (¬1) - فِي الحَدِيْثِ جَوَازُ اسْتِعْمَالُ المَعَارِيْضِ (¬2)، وَذَلِكَ لِقَوْل الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)؛ فَإِنَّ هَذَا فِي الحَقِيْقَةِ لَيْسَ هُوَ المَانِعَ الحَقِيْقِيَّ، بَلِ المَانِعُ هُوَ: إِمَّا أَنْ يَكُوْنَ هَذَا الرَّجُلُ مُنَافِقًا فَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَعَ الَّذِيْنَ يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَإِمَّا خَوْفًا مِنِ فَتْحِ هَذَا البَابِ؛ فَيَسْتَرْسِلُ النَّاسُ بِذَلِكَ؛ فَيَسْأَلُ هَذِهِ المَرْتَبَةَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. - (الأُمَّةُ): تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهُم أَمْرٌ مِنَ الأُمُوْرِ؛ إِمَّا دِيْنٌ، أَوْ زَمَانٌ، أَوْ مَكَانٌ، وَأَيْضًا يُطْلَقُ عَلَى الإِمَامِ القُدْوَةِ، وَأَدِلَّتُهَا كَمَا يَلِي: 1) الجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ فِي المَكَانِ الوَاحِدِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (القَصَص:23). 2) المِلَّةُ وَالدِّيْنُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} (الزُّخْرُف:23). 3) الفَتْرَةُ مِنَ الزَّمَنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِيْ نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيْلِهِ فَأَرْسِلُوْنِ} (يُوْسُف:45). 4) الإِمَامُ القُدْوَةُ المُتَّبَعُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيْفًا} (النَّحْل:120). (¬3) - قَوْلُهُ (عُكَّاشَةُ): بِالتَّشْدِيْدِ وَالتَّخْفِيْفِ؛ لُغَتَانِ. ¬

_ (¬1) فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2192) - بَابُ رُقيَةِ المَرِيْضِ بِالمُعَوِّذَاتِ وَالنَّفْثِ - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ قَالَتْ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالمُعوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَه الَّذِيْ مَاتَ فِيْهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أعَظْمَ بَرَكةً مِنْ يَدِي. (¬2) كَمَا فِي الأَثَرِ (إِنَّ فِي المَعَارِيْضِ لَمَنْدُوْحَةً عَنِ الكَذِبِ). صَحِيْحٌ. البَيْهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (20842) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَوْقُوْفًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (1094). (¬3) مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (16)، شَرْحُ البَابِ.

فَوَائِدُ عَلَى الحَدِيْثِ: - فَائِدَة 1) فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيْثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ لَفْظُ (مُتَمَاسِكِيْنَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمُ الجَنَّةَ، وَوُجُوْهُهُمْ عَلَى ضَوْءِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ). (¬1) - فَائِدَة 2) فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ سِيَاقٌ آخَرُ وَهُوَ (رَخَّصَ مِنَ النَّمْلَةِ) (¬2) (¬3)، وَفِي هَذَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالسُّمِّ كُلُّ مَا عَرَضَ لِلبَدَنِ مِنْ قَرْحِ وَنَحْوِهِ مِنَ المَوَادِ السُّمِّيَّةِ. (¬4) - فَائِدَة 3) إِنَّ طَلَبَ عُكَّاشَةَ الدُّعَاءَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفِي عَنْهُ كَوْنَهُ مِنَ السَّبْعِيْنَ أَلْفًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ دُعَاءَ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ يُدْرَجُ تَحْتَ قَاعِدَةِ مَا مُنِعَ سَدًّا لِلذَّرِيْعَةِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. (¬5) (¬6) وَنَقَلَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ) مِنْ كِتَابِ (التَّهْذِيْب) لِلطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كَثِيْرًا مِنَ الآثَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِيْنَ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم - كَانُوا يَكْرَهُوْنَ تَقَصُّدَ النَّاسِ لَهُم لِلدُّعَاءِ، وَيَقُوْلُوْنَ لَهُم: (لَسْنَا بِأَنْبِيَاءٍ، أَنَحْنُ أَنْبِيَاءُ؟!). (¬7) - فَائِدَة 4) فِي مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي: قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (¬8): (فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي التَّدَاوِي هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ؟ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوْهٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ يَكُوْنُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ: مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ النَّفْسِ لَا بِغَيْرِهِ؛ كَمَا يَجِبُ أَكْلُ المَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُوْرَةِ؛ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْد الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَجُمْهُوْرِ العُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ المَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فقَدْ يَحْصُلُ أَحْيَانًا لِلْإِنْسَانِ إذَا اسْتَحَرَّ المَرَضُ مَا إنْ لَمْ يَتَعَالَجْ مَعَهُ مَاتَ، وَالعِلَاجُ المُعْتَادُ تَحْصُلُ مَعَهُ الحَيَاةُ كَالتَّغْذِيَةِ لِلضَّعِيْفِ وَكَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ أَحْيَانًا). (¬9) - فَائِدَة 5) حَدِيْثُ دُخُوْلِ السَّبْعِيْنَ أَلْفًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَتَهُم أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ غَيْرِهِم مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ رِفَاعَةَ الجُهَنِيِّ قَالَ: صَدَرْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤْمِنُ ثُمَّ يُسَدِّدُ إِلَّا سُلِكَ بِهِ فِي الجَنَّةِ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبَوَّؤُوا أَنْتُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ذُرِّيَاتِكُمْ مَسَاكِنَ فِي الجَنَّةِ، وَلَقَدْ وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِيْنَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (¬10)، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ هُوَ فِي قَوْلِهِ (أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبَوَّؤُوا أَنْتُمْ)، فَفِيْهِ بَيَانُ أَنَّ مَنْزِلَةَ الصَّحَابَةِ فَوْقَ مَنْزِلَةِ أُوْلَئِكَ مُطْلَقًا. - فَائِدَة 6) مَعْنَى (لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ): أَيْ: لَا رُقْيَةَ أَشْفَى وَأَوْلَى مِنْ رُقْيَةِ العَيْنِ وَالحُمَةِ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الخَطَّابِيِّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى، وَكَذَا قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ). (¬11) - فَائِدَة 7) قَوْلِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ العَاشِرَةِ فِي قَوْلِهِ (فَضِيْلَةُ أَصْحَابِ مُوْسَى) صَوَابُهُ (كَثْرَةُ) كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ). (¬12) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6543). (¬2) مُسْلِمٌ (2196). (¬3) وَالنَّمْلَةُ: هِيَ قُرُوْحٌ تَخْرُجُ فِي الجَنْبِ. (¬4) مُسْتَفَادٌ مِنْ رِسَالَةِ (التَّبَرُّكُ) (ص223) لِلشَّيْخِ نَاصِرِ الجديْع. (¬5) وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ابْنُ القيَّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعْلَامُ المُوَقِّعِيْنَ) (108/ 2). (¬6) وَذَلِكَ لِأَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ. وَمِثْلُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2542) عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِيْنَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ - وَلَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ - لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبرَّهُ وَ- كَانَ بِهِ بَيَاضٌ - فُمُرُوْهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ)، فَلَمَّا لَقِيَهُ عُمَرُ قَالَ الحَدِيْثَ، ثُمَّ قَالَ (فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ). وَعِنْدِيْ أَيْضًا وَجْهٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ: وَهُوَ أَنَّ المَنْعَ هُوَ بِاعْتِبَارِ الدَّيْدَنِ وَكَثْرَةِ الطَّلَبِ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا كَانَ عَارِضًا كَمَصْلَحَةٍ أَوْ نَادِرًا، وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ فِي جَعْلِهِ دَيْدَنًا مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِم: (اُدْعُ لَنَا) كُلَّمَا رَآكَ أَوْ فَارَقَكَ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬7) الاعْتِصَامُ (501/ 1)، وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي فَقَالَ: غَفَرَ لَكَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللهُ لَكَ وَلَا لِذَاكَ أَنَبِيٌّ أَنَا؟ فَهَذَا أَوْضَحَ فِي أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَمْرًا زَائِدًا؛ وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيْهِ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ، أَوْ أَنَّهُ وَسِيْلَةٌ إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ ذَلِكَ، أَوْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ تَلْزَمُ، أَوْ يَجْرِي فِي النَّاسِ مَجْرَى السُّنَنِ المُلْتَزَمَةِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُ المَشْرُوْعَ عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوْعًا، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّشيُّعِ وَاعْتِقَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَبيَّنَ هَذَا المَعْنَى بِحَدِيْثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى إِبْرَاهِيْمَ؛ فَقَالَ: يَا أَبَا عِمْرَانَ! اُدْعُ اللهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فَكَرِهَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيْمُ وَقَطَبَ وَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: اُدْعُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللهُ لَكَ. فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: فَأَدْخَلَكَ اللهُ مُدْخَلَ حُذَيْفَةَ، أَقَدْ رَضِيْتَ؟! .... وَهَذِهِ الآثَارُ مِنْ تَخْرِيْجِ الطَّبَرِيِّ فِي تَهْذِيْبِهِ). (¬8) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (12/ 18). (¬9) وَ (التَّدَاوِي عَلَى أَقْسَامٍ: فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ نَفْعُ الدَّوَاءِ - مَعَ احْتِمَالِ الهَلَاكِ بِتَرْكِهِ - فَالتَّدَاوِي وَاجِبٌ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ نَفْعُ الدَّوَاءِ - وَلكِنْ لَيْسَ هُنَاكَ احْتِمَالٌ لِلْهَلَاكِ بِتَرْكِ الدَّوَاءِ - فَالتَّدَاوِي أَفْضَلُ. وَإِنْ تَسَاوَى الأَمْرَانِ؛ فَتَرْكُ التَّدَاوِي أَفْضَلُ). اُنْظُرْ مَجْمُوْعَ فَتَاوَى الشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ (17/ 13). (¬10) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (4285). الصَّحِيْحَةُ (2405). وَقَوْلُهُ (صَدَرْنَا)؛ أَيْ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوٍ أَوْ سَفَرٍ. (¬11) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (93/ 3)، شَرْحُ السُّنَّةِ لِلبَغَوِيِّ (162/ 12). (¬12) القَوْلُ المُفِيْدُ (108/ 1).

- فَائِدَة 8) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ زِيَادَةُ لَفْظِ (وَلَا يَرْقُوْنَ) وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ سَنَدًا وَمَتْنًا. (¬1) - فَائِدَة 9) لَا كَرَاهَةَ مُطْلَقًا فِي طَلَبِ الرُّقْيَةِ لِلغَيْرِ - وَلِيْسَ للنَّفْسِ- وَذَلِكَ لِحَدِيْثِ أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ؛ فَقَالَ: (اسْتَرْقُوا لَهَا؛ فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ)). (¬2) - فَائِدَة 10) الرُّقيةُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الشِّفَاءِ - وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً - وَلَكِنَّهَا تَزيْدُ عَنْ غَيرِهَا بِأنَّهَا عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهَا (¬3)، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ). (¬4) (¬5) - فَائِدَة 11) فِي بَيَانِ سَبَبِ كَرَاهَةِ طَلَبِ الرُّقيَةِ والاكْتِوَاءِ: قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ حَدِيْثِ (مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِىءَ مِنَ التَّوَكُّلِ) (¬6): (قُلْتُ: وَفِيْهِ كَرَاهَةُ الاكْتِوَاءِ وَالاسْتِرْقَاءِ. أَمَّا الأَوَّلُ؛ فَلِمَا فِيْهِ مِنَ التَّعْذِيْبِ بِالنَّارِ، وَأمَّا الآخَرُ؛ فَلِمَا فِيْهِ مِنَ الاحْتِيَاجِ إِلَى الغَيْرِ فِيْمَا الفَائِدَةُ فِيْهِ مَظْنُوْنَةٌ غَيْرُ رَاجِحَةٍ). (¬7) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (220). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ الله فِي الضَّعِيْفَةِ (3690): (وَلَا يَخْدُجُ فِيْمَا ذَكَرْتُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمْسْلِمٍ فِي حَدِيْثِ ابْنِ عبَّاسٍ المُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ (لَا يَرْقُوْنَ) وَ (لَا يَسْتَرْقُوْنَ)؛ فَإِنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، أَخْطَأَ فِيْهَا أَحَدُ رُوَاتِهِ عِنْدَهُ، فَغيَّرَ الحَدِيْثَ فَزَادَ وَأَنْقَصَ؛ زَادَ (لَا يَرْقُوْنَ)، وَأَسْقَطَ (لَا يَكْتَوُوْنَ)!! خِلَافًا لِرِوَايَةِ الجَمَاعَةِ لِحَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِيْنَ رَوُوهُ بِلَفْظِ (لَا يَسْتَرْقُوْنَ، وَلَا يَكْتَوُوْنَ). وَإِنَّ مِمَّا يُؤَكِّدُ الشُّذُوْذَ المَذْكُوْرَ مُخَالَفَتُهُ لِسَائِرِ الأَحَادِيْثِ الوَارِدَةِ فِي البَابِ، مِثْلَ حَدِيْثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي عَوَانَةَ وَغَيْرِهِمَا؛ وَحَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ عِنْدَ البُخَارِيِّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ وَغَيْرِهِ، فَلَيْسَ فِيْهِمَا الجَمْعُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ المَذْكُوْرَيْنِ، بَلْ إِنَّهُمَا وُفْقَ حَدِيْثِ ابْنِ عبَّاسٍ عِنْدَ الجَمَاعَةِ. فَذَلِكَ كُلُّهُ يُؤَكِّدُ شُذُوْذَ لَفْظِ (لَا يَرْقُوْنَ)، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ العَمَلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِ الجَامِعِ (3999): (قَوْلُهُ (لَا يَرْقُوْنَ): هُوَ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ دُوْنَ البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ, ثُمَّ هُوَ شَاذٌّ سَنَدًا وَمَتْنًا - كَمَا بيَّنْتُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ - وَحَسْبُكَ دَلِيْلًا عَلَى شُذُوْذِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَقَى غَيْرَهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ!). قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَعَادِ) (476/ 1): (وَرُبَّمَا كَانَ يَقُوْلُ (كَفَّارَةٌ وَطَهُوْرٌ) وَكَانَ يَرْقِي مَنْ بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ أَوْ شَكْوَى؛ فَيَضَعُ سَبَّابَتَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ يَرْفَعُهَا وَيَقُوْلُ (بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيْمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا) هَذَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ، وَهُوَ يُبْطِلُ اللَّفْظَةَ الَّتِيْ جَاءَتْ فِي حَدِيْثِ السَّبْعِيْنَ أَلْفًا الَّذِيْنَ يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَنَّهُمْ لَا يَرْقُوْنَ وَلَا يَسْتَرْقُوْنَ. فَقَوْلُهُ فِي الحَدِيْثِ (لَا يَرْقَوْنَ) غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي، سَمِعْت شَيْخَ الإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُوْلُ ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنَّمَا الحَدِيْثُ (هُمُ الَّذِيْنَ لَا يَسْتَرْقُوْنَ). قُلْتُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ دَخَلُوا الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالَ: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُوْنَ) فَلِكَمَالِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَسُكُوْنِهِمْ إلَيْهِ وَثِقَتِهِمْ بِهِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ وَإِنْزَالِ حَوَائِجِهِمْ بِهِ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا؛ لَا رُقْيَةً وَلَا غَيْرَهَا، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ طِيَرَةٌ تَصُدُّهُمْ عَمَّا يَقْصِدُوْنَهُ، فَإِنَّ الطِّيَرَةَ تُنْقِصُ التَّوْحِيْدَ وَتُضْعِفُهُ. قَالَ: وَالرَّاقِي مُتَصَدِّقٌ مُحْسِنٌ، وَالمُسْتَرْقِي سَائِلٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى وَلَمْ يَسْتَرْقِ، وَقَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ)). وَحَدِيْثُ (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ) هُوَ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2199) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. قُلْتُ: إِنَّ زِيَادَةَ (لَا يَرْقُوْنَ) - إِنْ صَحَّتْ - فَيُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الرُّقَى الشِّرْكيَّةِ كَمَا وجَّهَ بِذَلِكَ الحَدِيْثَ النَّوَوِيُّ وَالعَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. وَالأَرْجَحُ مَا أَثْبَتْنَاهُ - كَمَا سَتَرَى فِي المَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬2) البُخَارِيُّ (5739) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (شَرِيْط 628) مِنْ فَتَاوَى الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬3) انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (شَرِيْط 628) مِنْ فَتَاوَى الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3407). (¬5) أَمَّا قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (الرُّخْصَةُ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ العَيْنِ وَالحُمَةِ)؛ فَالوَاقِعُ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنَ الرُّقْيَةِ عَامَّةٌ وَلَيْسَتْ مِنَ العَيْنِ وَالحُمَةِ فَقَط. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (18)، شَرْحُ البَابِ. (¬6) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2055) عَنِ المُغِيْرةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (244). (¬7) السِّلْسِلَةُ الصَّحِيْحَةِ (244)، وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ فِي بَابِ التَّوَكُّلِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) قَوْلُهُ (لا يَسْتَرْقُوْنَ) لِمَاذَا لَا يُحْمَلُ عَلَى النَّهْي عَنِ الرُّقَى الشِّرْكِيَّةِ المَنْهِيِّ عَنْهَا أَصْلًا (¬1)، فَتَكُوْنُ بِذَلِكَ الرُّقَى المَشْرُوْعَةُ غَيْرَ مَقْصُوْدَةٍ بِالحَدِيْثِ؟ وَعَلَيْهِ فَيَجُوْزُ طَلَبُ الرُّقْيَةِ مُطْلَقًا مِنَ الغَيْرِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ شِرْكِيَّةٍ؟! الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ عُمُوْمَ النَّفْي فِي قَوْلِهِ (لَا يَسْتَرْقُوْنَ) شَامِلٌ لِلوَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الشِّرْكيُّ مِنْهُ فَمُحَرَّمٌ لِمَا هُوَ مَعْرُوْفٌ مِنَ النُّصُوْصِ الكَثِيْرَةِ (¬2)، وَأَمَّا المَشْرُوْعُ فَيَكُوْنُ خِلَافَ الأَوْلَى لِمَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ جَوَازِهِ. 2) أَنَّهُ لَوْ كَانَ المَقْصُوْدُ النَّهْيَ عَنْهَا لِكَوْنِهَا شِرْكًا، لَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هُمُ الَّذِيْنَ لَا يُشْرِكُوْنَ) وَلَمْ يَجْعَلْهُ لَفْظًا مُوْهِمًا مُخَالِفًا المَشْهُوْرَ عِنْدَ النَّاسِ. فَلَفْظُ الحَدِيْثِ أَخَصُّ مِنَ الدَّعْوَى، لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالطَّلَبِ؛ بِخِلَافِ عُمُوْمِ الرُّقْيَةِ الشِّرْكِيَّةِ؛ فَيُنْهَى فِيْهَا عَنِ الطَّلَبِ وَعَنِ الرُّقْيَةِ نَفْسِهَا أَيْضًا. 3) أَنَّ الاسْتِرْقَاءَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الطَّلَبِ مِنَّ النَّاسِ (¬3)، وَهَذَا قَدْ دَلَّتِ الشَّرِيْعَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَه أَوْلَى (¬4)، وَهَذَا وَحْدَهُ يُحَصِّلُ المَقْصُوْدَ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الحَدِيْث نَفْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا جُمِعَ مَعَهُ. 4) أَنَّ فِي آخِرِ الحَدِيْثِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ أَنَّهُ العِلَّةُ الَّتِيْ عَلَيْهَا مَدَارُ الحَدِيْثِ، وَهِيَ حَصْرُ التَّوكُّلِ عَلَى الله تَعَالَى، حَيْثُ غَالِبًا مَا تَتَعَلَّقُ النُّفُوْسُ بِمَنْ يَرْقِيْهَا فَيَغْفَلُوْنَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَالتَّعلُّقُ بِهِم أَكْبَرُ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالأَطِبَّاءِ المَادِيِّينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُم يُعَالِجُوْنَ بِدُوْنِ أَسْبَابٍ مَادِّيَّةٍ ظَاهِرَةٍ، بَلِ الأَمْرُ مُرْتَبِطٌ بِصَلَاحِهِم وَحُسْنِ نِيَّتِهِم وَقُوَّةِ تَوْحِيْدِهِم، مَعَ ذِكْرِهِم وَاسْتِعَانَتِهِم بِرَبِّهِم (¬5)، لِذَلِكَ فَالفِتْنَةُ فِيْهِم أَكْبَرُ، فَيَكُوْنُ الأَمْرُ هُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. 5) تَفْسِيْرُ رَاوِي الحَدِيْثِ - وَالرَّاوِي أَدْرَى بَمَرْوِيِّهِ - فَإِنَّ سَبَبِ إِيْرَادِ الحَدِيْثِ مِنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْر هُوَ إِشَارَتُهُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى أَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الرُّقْيَةِ مِنَ اللَّدْغَةِ كَانَ أَوْلَى لِحُصَيْنٍ رَحِمَهُ اللهُ؛ وَلَيْسَ بِسَبَبِ شِرْكٍ مَا ذُكِرَ، فَتَنَبَّهْ. ¬

_ (¬1) وَهُوَ الَّذِيْ رجَّحَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ (168/ 14)، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. (¬2) كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (إنَّ الرُّقَى والتَّمَائِمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ). رَوَاهُ أَحْمَدُ (3615). صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (331). (¬3) وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْكِيْبَ اللَّفْظِيَّ فِي (الأَلِفِ وَالسِّيْنِ وَالتَّاءِ) يَكْثُرُ اسْتِخْدَامُهُ فِي مَعْنَى الطَّلَبِ. (¬4) كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوْعًا ((أَلَا تُبَايِعُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ؟ - وَكُنَّا حَدِيْثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ - قُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ! - حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا -، فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ؛ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ وَتَسْمَعُوا وَتُطِيْعُوا) - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً - قَالَ: (وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا). قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُوْلَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُهُ؛ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ). مُسْلِمٌ (1043). (¬5) فَالرُّقْيَةُ بِالأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ قِبَلِ العَبْدِ الصَّالِحِ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ الصَّارِمِ فِي اليَدِ القَوِيَّةِ.

باب الخوف من الشرك

بَابُ الخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ وَقَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النِّسَاء:48). وَقَالَ الخَلِيْلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} (إِبْرَاهِيْم:35). وَفِي الحَدِيْثِ (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم الشِّرْكُ الأَصْغَرُ)، فَسُئِلَ عَنْهُ؛ فَقَالَ: (الرِّيَاءُ). (¬1) وَعَنِ ابْن مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ مَاتَ وَهوَ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ نِدًّا؛ دَخَلَ النَّارَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (¬2) وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ, وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ). (¬3) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: الخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ أَخْوَفُ مَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى الصَّالِحِيْنَ. الخَامِسَةُ: قُرْبُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ. السَّادِسَةُ: الجَمْعُ بَيْنَ قُرْبِهِمَا فِي حَدِيْثٍ وَاحِدٍ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ مَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ. الثَّامِنَةُ: المَسْأَلَةُ العَظِيْمَةُ؛ سُؤَالُ الخَلِيْلِ لَهُ وَلِبَنِيِهِ وِقَايَةَ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ. التَّاسِعَةُ: اعْتِبَارُهُ بِحَالِ الأَكْثَرِ لِقَوْلِهِ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيْرًا مِنَ النَّاسِ} (إِبْرَاهِيْم:36). العَاشِرَةُ: فِيْهِ تَفْسِيْرُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) كَمَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فَضِيْلَةُ مَنْ سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (23630) عَنْ مَحْمُوْدِ بْنِ لَبِيْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (951). وَتَمَامُهُ فِي المُسْنَدِ، وَفِيْهِ (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: الرِّياءُ، يَقُوْلُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ - إِذَا جَزَى النَّاسَ بأَعْمالِهِمْ -: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِيْنَ كُنْتُمْ تُرَاؤُوْنَ فِي الدُّنْيا؛ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُوْنَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!). (¬2) البُخَارِيُّ (4497). (¬3) مُسْلِمٌ (93).

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ وَلِمَا قَبْلَهُ مِنَ الأَبْوَابِ؛ هُوَ التَّخْوِيْفُ مِنْ تَرْكِ التَّوْحِيْدِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّرْغِيْبِ فِي التَّوْحِيْدِ، فَيَكُوْنُ الأَمْرُ بِالتَّوْحِيْدِ قَدْ جَاءَ مِنْ جِهَةِ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ. - أَوْرَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي البَابِ وَجْهَانِ لِلخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ؛ هُمَا: 1) أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ أَبَدًا. 2) أَنَّ الشِّرْكَ مِنْهُ شِرْكٌ أَصْغَرٌ يَعْرِضُ لِلمُسْلِمِ فِي عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ؛ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}: أَيْ: لَا يَغْفِرُ لِعَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ {وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أَيْ: مِنَ الذُّنُوْبِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. (¬1) وَلَكِنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُوْدُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِيْنَ} (الأَنْفَال:38). - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}: بَيَانُ أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ أَبَدًا، وَيَدْخُلُ فِيْهِ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ وَالأَصْغَرُ، وَلَكِنَّ الأَكْبَرَ يَتَمَيَّزُ عَنْهُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ يَبْقَى يُعذَّبُ بِهِ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِيْنَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيْحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيْحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيْلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِيْنَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المَائِدَة:72). أَمَّا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ فَهُوَ - وَإِنْ كَانَ لَا يُغْفَرُ - فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُعَذَّبُ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّوْحِيْدِ مَعَهُ، فَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ - وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيْبًا -، وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ دَهْرِهِ، يُصِيْبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ). (¬2) - فِي الآيَةِ رَدٌّ عَلَى الخَوَارِجِ المُكَفِّرِيْنَ بِالذُّنُوْبِ، وَعَلَى المُعْتَزِلَةِ القَائِلِيْنَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الكَبَائِرِ يُخَلَّدُوْنَ فِي النَّارِ؛ وَلَيْسُوا عِنْدَهُم بِمُؤْمِنِيْنَ وَلَا كُفَّارَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا سِوَى الشِّرْكِ تَحْتَ المَشِيْئَةِ فَهُوَ قَابِلٌ لِلمَغْفِرَةِ؛ خِلَافًا لِمَذْهَبِهِم. - الصَّنَمُ: هُوَ مَا كَانَ عَلَى صُوْرَةِ حَيَوَانٍ - أَيْ: ذِيْ رُوْحٍ -، أَمَّا مَا عُبِدَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ صُوْرَةِ حَيَوَانٍ كَالشَّجَرِ وَالحَجَرِ وَالقَبْرِ فَهَذَا يُسَمَّى وَثَنًا، فَالوَثَنُ أَعَمُّ مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّ الصَّنَمَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى التِّمْثَالِ، وَأَمَّا الوَثَنُ فَيُطْلَقُ عَلَى التِّمْثَالِ وَغَيْرِهِ، فَالقَبْرُ يَكُوْنُ وَثَنًا إِذَا عُبِدَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَاءِهِم مَسَاجِدَ) (¬3)، فَالوَثَنُ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُوْنِ اللهِ عَلَى أَيِّ شَكْلٍ كَانَ. (¬4) - فِي دُعَاءِ الخَلِيْلِ رَبَّهُ أَنْ يُجَنِّبَهُ وَبَنِيْهِ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ بَيَانُ عِظَمِ الشِّرْكِ - وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا لِلنَّاسِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَمَا قَالَ إِبْرَاهِيْمُ التَّيْمِيُّ (¬5): (مَنْ يَأْمَنُ البَلَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيْمَ). وَأَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ) (¬6) وَالكَافُ فِيْهِ لِلخِطَابِ، فَيَدْخُلُ فِيْهِ أَوَّلِيًّا الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُم. وَأَيْضًا فِي الحَدِيْثِ ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنَ المَسِيْحِ عِنْدِي؟) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (الشِّرْكُ الخَفِيُّ: أَنْ يَقُوْمَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ رَجُلٍ)). (¬7) فَفِي هَذِهِ الأَدِلَّةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ هَوَّنَ أَمْرَ الشِّرْكِ - فِي هَذَا الزَّمَنِ - وَاسْتَبْعَدَ وُقُوْعَهُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، فَلَا يَأْمَنُ مِنَ الوُقُوْعِ فِي الشِّرْكِ إِلَّا مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِهِ، وَقَدْ عَقَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بَابًا خَاصًّا لِدَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ وَسَمَّاهُ (بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعْبُدُ الأَوْثَانَ - رَقَم 23). ¬

_ (¬1) قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْر رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (325/ 2). (¬2) صَحِيْحٌ. البَزَّارُ (66/ 15) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْح الجَامِعِ (6434). (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (7358) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص216). (¬4) فَالصَّنَمُ مَا كَانَ مَنْحُوْتًا عَلَى صُوْرَةٍ، وَالوَثَنُ مَا كَانَ مَوْضُوْعًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. اُنْظُرْ تَفْسِيْرَ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (17/ 17). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (530/ 3) - فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَنْ آلِهَةِ المُشْرِكِيْنَ -: (وَقَوْلُهُ {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُوْنَ} إِنَّمَا قَالَ: {يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ} أَيْ: يُقَابِلُوْنَكَ بِعُيُوْنٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ - وَهِيَ جَمَادٌ -، وَلِهَذَا عَامَلَهُم مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصَوَّرَةٍ كَالإِنْسَانِ، فَقَالَ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ} فَعبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيْرِ مَنْ يَعْقِلُ). (¬5) مِنَ الطَّبَقَةِ الوُسْطَى مِنَ التَّابِعِيْنَ، (ت110 هـ). (¬6) وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ (937) عَنْ مَحْمُوْدِ بْنِ لَبِيْدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ). قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ مَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: (يَقُوْمُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي؛ فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ). حَسَنٌ. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ (31). (¬7) حَسَنٌ. أَحْمَدُ (11252) عَنْ أَبِي سَعِيْد الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2607)، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهِ بِتَفْصِيْلٍ أَكْثَرَ إِنْ شَاءَ اللهُ فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِي الرِّيَاءِ).

- الرِّيَاءُ نَوْعَانِ: رِيَاءُ المُنَافِقِ وَرِيَاءُ المُسْلِمِ (أَي الَّذِيْ قَدْ يَصْدُرُ مِنَ المُسْلِمِ): 1) رِيَاءُ المُنَافِقِ: هُوَ رِيَاءٌ فِي أَصْلِ الدِّيْنِ، يَعْنِيْ أَظْهَرَ الإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الكُفْرَ, قَالَ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِيْنَ: {يُرَاءُوْنَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُوْنَ اللهَ إِلَّا قَلِيْلًا} (النِّسَاء:142). 2) رِيَاءُ المُسْلِمِ: لَا يَكُوْنُ فِي أَصْلِ تَدَيُّنِهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ حَسَّنَ الرَّجُلُ صَلَاتِهِ أَمَامَ النَّاسِ لِطَلَبِ جَاهٍ أَوْ ذِكْرٍ حَسَنٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ مِثْلَ يَسِيْرِ الرِّيَاءِ، أَمَّا الرِّيَاءُ الكَامِلُ فَهُوَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ المُنَافِقِ. (¬1) - الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: هُوَ جَمِيْعُ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ الَّتِيْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشِّرْكِ، كَالغُلُوِّ فِي المَخْلُوْقِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ هَذَا الغُلُوُّ إِلَى رُتْبَةِ العِبَادَةِ (¬2)، وَكَالحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ وَيَسِيْرِ الرِّيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَكِنَّهُ بِقَيْدِ أَنْ يَكُوْنَ الشَّرْعُ قَدْ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا شِرْكٌ، فَلَيْسَ كُلُّ ذَرِيْعَةٍ إِلَى الشَّرْكِ تَكُوْنُ شِرْكًا؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَكُوْنُ كَبِيْرَةً مِنَ الكَبَائِرِ فِي نَفْسِهَا. - الرِّيَاءُ فِي الحَدِيْثِ جَاءَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيْلِ لَا الحَصْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الغَالِبُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّصَنُّعُ لِيُسْمَعَ عَنْهُ فَهُوَ سُمْعَةٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الرِّيَاءِ أَيْضًا، كَمَا فِي حَدِيْثِ جُنْدَبٍ مَرْفُوْعًا (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬3) - قَوْلُهُ (وَهُوَ يَدْعُوْ مِنْ دُوْنِ اللهِ نِدًّا) (¬4): الدُّعَاءُ نَوْعَانِ: 1) دُعَاءُ عِبَادَةٍ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العِبَادَاتِ. وَسُمِّيَ دُعَاءً لِأَنَّهُ دَاعٍ بِلِسَانِ حَالِهِ، فَمَعْلُوْمٌ أَنَّ مَنْ يُرِيْدُ الجَنَّةَ وَالبُعْدَ عَنِ النَّارِ فَإِنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَةِ للهِ، فَهُوَ دَاعٍ فِي الجُمْلَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} (الجِنّ:18)، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِيْنَ يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُوْنَ جَهَنَّمَ دَاخِرِيْنَ} (غَافِر:60)، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الدُّعَاءَ عِبَادَةً، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَجُوْزُ صَرْفُهُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ المَقْصُوْدُ بِالحَدِيْثِ هُنَا. 2) دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ: أَيْ: يَدْعُوْ سَائِلًا بِلِسَانِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ فِيْهِ تَفْصِيْلٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِ المُسْتَغَاثِ بِهِ حَيًّا حَاضِرًا قَادِرًا (¬5)، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيْبُوْهُ). (¬6) ¬

_ (¬1) مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ (352/ 1). (¬2) أَفَادَهُ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ السَّدِيْدُ فِي مَقَاصِدِ التَّوْحِيْدِ) (ص54). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6499)، وَمُسْلِمٌ (2986). (¬4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4497)، وَتَمَامُهُ (عَنْ عَبْدِ اللهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً؛ وَقُلْتُ أُخْرَى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ)، وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ وَهْوَ لَا يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الجَنَّةَ). (¬5) قُلْتُ: مَعَ التَّأْكِيْدِ عَلَى كَوْنِ دُعَاءِ المَدْعُوِّ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ؛ وَأَنَّ النَّفْعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ تَعَالَى. (¬6) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1672) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (254).

- فَائِدَة 1) قَدْ أَوْرَدَ بَعْضُهُم هُنَا حَدِيْثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنِّيْ وَاللهِ مَا أَخَافُ علَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِيْ، وَلَكِنِّيْ أَخَافُ علَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيْهَا) (¬1)، فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الخَوْفِ مِنَ الوُقُوْعِ فِي الشِّرْكِ، وَإِنَّمَا فَقَط مِنَ التَّنَافُسِ فِي الدُّنْيَا!! وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْجِيْهُ، وَالجَوَابُ عَلَيْهِ هُوَ فِي قَوْلِ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِيْ) (¬2): (قَوْلُهُ (وَإِنِّيْ وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِيِ): أَيْ: عَلَى مَجْمُوْعِكُم، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنَ البَعْضِ أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى). (¬3) - فَائِدَة 2) فِي التَّخلُّصِ مِنَ الشِّرْكِ بِنَوْعَيْهِ الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ: عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيْكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيْلُهُ وَكَثِيْرُهُ؟) قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ). (¬4) - فَائِدَة 3) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عِنْدَ حَدِيْثِ جَابِرٍ (¬5): - بَابُ الدَّلِيْلِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ -: (فَأَمَّا دُخُوْلُ المُشْرِكِ النَّارَ فَهُوَ عَلَى عُمُوْمِهِ، فَيَدْخُلُهَا وَيَخْلُدُ فِيْهَا، وَلَا فَرْقَ فِيْهِ بَيْنَ (الكِتَابِيِّ اليَهُوْدِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ)، وَبَيْنَ (عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَسَائِرِ الكَفَرَةِ)، وَلَا فَرْق عِنْدَ أَهْلِ الحَقِّ بَيْنَ (الكَافِر عِنَادًا وَغَيْرهِ)؛ وَلَا بَيْن (مَنْ خَالَفَ مِلَّة الإِسْلَامِ) وَبَيْنَ (مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهَا؛ ثُمَّ حُكِمَ بِكُفْرِهِ بِجَحْدِهِ مَا يَكْفُر بِجَحْدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ). وَأَمَّا دُخُوْلُ مَنْ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ الجَنَّةَ؛ فَهُوَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِهِ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ (صَاحِبَ كَبِيْرَةٍ مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا) دَخَلَ الجَنَّةَ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ (صَاحِبَ كَبِيْرَةٍ مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا) فَهُوَ تَحْتَ المَشِيْئَةِ، فَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ دَخَلَ أَوَّلًا وَإِلَّا عُذِّبَ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنَ النَّارِ، وَخُلِّدَ فِي الجَنَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). (¬6) - فَائِدَة 4) قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ العَاشِرَةِ: (فِيْهِ تَفْسِيْرُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) كَمَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ)؛ يَقْصُدُ بِهِ أَنَّ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ بَوَّبَ عَلَى حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ السَّابِقِ فِي الصَّحِيْحِ (بَابُ قَوْلِهِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذْ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّوْنَهُم كَحُبِّ اللهِ} (البَقَرَة:165)، فَكَانَ هَذَا الحَدِيْثُ عِنْدَهُ مُفَسِّرًا لِلتَّرْجَمَةِ فِي مَعْنَى اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ، وَأَنَّ المَحَبَّةَ مَعَ اللهِ هِيَ مِنَ الشِّرْكِ. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1344)، وَمُسْلِمٌ (2296) مِنْ حَدِيْثِ عُقْبَة بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) فَتْحُ البَارِيْ (211/ 3). (¬3) قُلْتُ: وَيَدُلُّ أَيْضًا لِذَلِكَ حَدِيْثُ مُسْلِمٍ (2907) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى). فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِيْنَ أَنْزَلَ اللهُ {هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِالهُدَى وَدِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْنَ} (التَّوْبَة:33) أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا. قَالَ: (إنَّهُ سَيَكُوْنُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيْحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيْمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فيهِ فَيَرْجِعُوْنَ إِلَى دِيْنِ آبَائِهِم). وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فِي بَابِ (مَا جَاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعْبُدُ الأَوثَانَ، رقم 23). (¬4) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (716). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (554). (¬5) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (97/ 2). (¬6) هَذِهِ الأَقْوَاسُ الدَّاخِلِيَّةُ وَضَعْتُهَا لِسُهُوْلَةِ تَمْيِيْزِ سِيَاقِ الكَلَامِ، وَلَيْسَ فِيْ النَّصِّ أَيُّ إِدْرَاجٍ خَارِجٍ عَنْهُ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) هَلِ الكُفْرُ هُوَ نَفْسُهُ الشِّرْكُ، أَمْ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا؟ الجَوَابُ: الكُفْرُ يَخْتَلِفُ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، فَالكُفْرُ هُوَ التَّغْطِيَةُ، وَأَمَّا الشِّرْكُ فَهُوَ مِنَ الإِشْرَاكِ فِي الشَّيْءِ خِلَافًا لِلتَّوْحِيْدِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ فَقَدْ كَفَرَ بِتَوْحِيْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِتَوْحِيْدِهِ سُبْحَانَهُ فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَهُ سُبْحَانَهُ شَيْئًا؛ إِمَّا إِلَهًا مَعْبُوْدًا، وَإِمَّا هَوَىً مُتَّبَعًا وَلَا بُدَّ، أَوْ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا للهِ لِغَيْرِ اللهِ. (¬1) فَالكُفْرُ وَالشِّرْكُ مُتَرَادِفَانِ فِي الشَّرْعِ (¬2)، وَالأَكْثَرُ فِي الشِّرْكِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى إِشْرَاكِ شَيْءٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي الرُّبُوْبِيَّةِ أَوِ الأُلَوْهِيَّةِ أَوِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالأَكْثَرُ فِي الكُفْرِ أَنْ يَكُوْنَ فِي الجُحُوْدِ، وَلَكِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَافِرٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُشْرِكٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذِهِ حَقِيْقَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَرَدُّهَا إِلَى الشَّرْعِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا: أ) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صَاحِبِ الجَنَّةِ {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيْدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِيْ خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} (الكَهْف:37)، فَفِيْهِ إِثْبَاتُ كُفْرِهِ وَذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ البَعْثَ وَالمَعَادَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الأَوَّلِ أَيْضًا {وَأُحِيْطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيْهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوْشِهَا وَيَقُوْلُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} حَيْثُ سَمَّى اللهُ تَعَالَى كُفْرَ ذَلِكَ الرَّجُلِ شِرْكًا. ب) قَوْلُهُ تَعَالَى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُوْنُ عَلَيْهِ وَكِيْلًا) (الفُرْقَان:43): فَفِيْهِ بَيَانُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَتْبُوْعٍ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (¬3): (قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الجَاثِيَة:23) قَالَ الحَسَنُ وَغَيْرُهُ: هُوَ الَّذِيْ لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ، فَهَذَا يُنَافِي الِاسْتِقَامَةَ عَلَى التَّوْحِيْدِ). ج) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ تَارِكَ الصَّلَاةِ بِالشِّرْكِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَيْسَ بَيْنَ العَبْدِ وَالشِّرْكِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ) (¬4)؛ رُغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذَ نِدًّا فِي العِبَادَةِ - ظَاهِرًا - مَعَ اللهِ تَعَالَى. (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (البَحْرُ المُحِيْطُ) (281/ 3): (قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ كَافِرٍ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ مَثَلًا بِنَبِيٍّ؛ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِيْ أَتَى بِهَا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ فَيَجْعَلُ مَا لَا يَكُوْنُ إِلَّا للهِ لِغَيْرِ اللهِ، فَيَصِيْرُ مُشْرِكًا بِهَذَا المَعْنَى). (¬2) قَالَ العَسْكَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (الوُجُوْهُ وَالنَّظَائِرُ) (ص266): (فَائِدَةٌ: وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ مَا دُوْنَ الشِّرْكِ لَا يَكُوْنُ كُفْرًا؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ وَالكُفْرَ فِي أَسْمَاءِ الدِّيْنِ وَاحِدٌ، وَكُلُّ كَافِرٍ مُشْرِكٌ). (¬3) جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ (509/ 1). (¬4) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (1080) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5388). (¬5) انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (شَرِيْط 341) مِنْ فَتَاوَى الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

بَابُ الدُّعَاءِ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيْرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِيْنَ} (يُوْسُف:108). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ؛ قَالَ لَهُ: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوْهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ -، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُوْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ). أَخْرَجَاهُ. (¬1) وَلَهُمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ، وَيُحبُّهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ؛ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدِيْهِ). فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوْكُوْنَ لَيْلَتَهُم أّيُّهُم يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُم يَرْجُوْ أَنْ يُعْطَاهَا, فَقَالَ: (أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟) فَقِيْلَ: هُوَ يَشْتَكِي عَيْنَيهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ، فَأُتِي بِهِ فبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ, ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ, فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ, فَقَالَ: (أُنْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِم, ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ, وَأَخْبِرْهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِم مِنْ حَقِّ اللهِ فِيْهِ؛ فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ). (¬2) (يَدُوْكُوْنَ) أَيْ: يَخُوْضُوْنَ. فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ طَرِيْقُ مَنِ اتَّبَعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِيَةُ: التَّنْبِيْهُ عَلَى الإِخْلَاصِ، لِأَنَّ كَثِيْرًا مِنَ النَّاسِ لَوْ دَعَا إِلَى الحَقِّ؛ فَهُوَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ البَصِيْرَةَ مِنَ الفَرَائِضِ. الرَّابِعَةُ: مِنْ دَلَائِلِ حُسْنِ التَّوْحِيْدِ كَوْنُهُ تَنْزِيْهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ المَسَبَّةِ. الخَامِسَةُ: أَنَّ مِنْ قُبْحِ الشِّرْكِ كَوْنَهُ مَسَبَّةً لِلَّهِ. السَّادِسَةُ: وَهِيَ مِنْ أَهَمِّهَا؛ إِبْعَادُ المُسْلِمِ عَنْ المُشْرِكِيْنَ لِئَلَّا يَصِيْرَ مِنْهُمْ؛ وَلَوْ لَمْ يُشْرِكْ. السَّابِعَةُ: كَوْنُ التَّوْحِيْدِ أَوَّلَ وَاجِبٍ. الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ؛ حَتَّى الصَّلَاةِ. التَّاسِعَةُ: أَنَّ مَعْنَى: (أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ) مَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. اَلعَاشِرَةُ: أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَكُوْنُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا، أَوْ يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيْهُ عَلَى التَّعْلِيمِ بِالتَّدْرِيْجِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: البُدَاءَةُ بِالأَهَمِّ فَالأَهَمِّ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَشْفُ العَالِمِ الشُّبْهَةَ عَنْ المُتَعَلِّمِ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: النَّهْيُ عَنْ كَرَائِمِ الأَمْوَالِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: اتِّقَاءُ دَعْوَةِ المَظْلُومِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الإِخْبَارُ بِأَنَّهَا لَا تُحْجَبُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيْدِ مَا جَرَى عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وِسَادَاتِ الأَوْلِيَاءِ مِنَ المَشَقَّةِ وَالجُوْعِ وَالوَبَاءِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ) إِلَخْ؛ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ. العِشْرُوْنَ: تَفْلُهُ فِي عَيْنَيْهِ؛ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِهَا أَيْضًا. الحَادِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: فَضِيْلَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: فَضْلُ الصَّحَابَةِ فِي دَوْكِهِمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَشُغْلِهِمْ عَنْ بِشَارَةِ الفَتْحِ. الثَّالِثَةُ وَالعِشْرُوْنَ: الإِيْمَانُ بِالقَدَرِ لِحُصُوْلِهَا لِمَنْ لَمْ يَسْعَ لَهَا وَمَنْعِهَا عَمَّنْ سَعَى. الرَّابِعَةُ وَالعِشْرُوْنَ: الأَدَبُ فِي قَوْلِهِ (عَلَى رِسْلِكَ). الخَامِسَةُ وَالعِشْرُوْنَ: الدَّعْوَةُ إِلَى الإِسْلَامِ قَبْلَ القِتَالِ. السَّادِسَةُ وَالعِشْرُوْنَ: أَنَّهُ مَشْرُوْعٌ لِمَنْ دُعُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَقُوتِلُوا. السَّابِعَةُ وَالعِشْرُوْنَ: الدَّعْوَةُ بِالحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ (أَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ). الثَّامِنَةُ وَالعِشْرُوْنَ: المَعْرِفَةُ بِحَقِّ اللهِ فِي الإِسْلَامِ. التَّاسِعَةُ وَالعِشْرُوْنَ: ثَوَابُ مَنِ اهْتَدَى عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ. اَلثَّلَاثُوْنَ: الحَلِفُ عَلَى الفُتْيَا. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (1496)، وَمُسْلِمٌ (19). (¬2) البُخَارِيُّ (3701)، وَمُسْلِمٌ (2406).

الشرح

الشَّرْحُ - فِي الأَبْوَابِ السَّابِقَةِ بَيَانُ أَنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَلِمَ أَهَمِيَّةَ التَّوْحِيْدِ وَفَضْلَهُ وَضَرُوْرَةَ الخَوْفِ مِنْ تَرْكِهِ لَزِمَ أَنَّ يَعْمَلَ بِهِ، وَفِي هَذَا البَابِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ فَلَا يَقْتَصِرَنَّ فِي الخَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ؛ بَلْ يَدْعُوْ النَّاسَ إِلَيْهِ. - وَفِي هَذَا البَابِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِيْمَانُ العَبْدِ إِلَّا إِذَا دَعَا إِلَى التَّوْحِيْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العَصْر:3). - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَسُبْحَانَ اللهِ}: تَنْزِيْهٌ للهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوْصَفَ بِهِ. (¬1) - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ}: تَنْبِيْهٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: 1) ضَرُوْرَةُ الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيْدِ؛ وَأَنَّهَا سَبِيْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهَا أَصْلُ الإِسْلَامِ؛ حَيْثُ جُعِلَ الإِسْلَامُ مُفَسَّرًا بِهَا فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وَالتَّعْبِيْرُ بِالشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى رُكْنيَّتِهِ وَأَنَّهُ أَصْلُهُ الأَصِيْلُ. (¬2) 2) التَّنْبِيْهُ عَلَى الإِخْلَاصِ؛ وَذَلِكَ فِي أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى اللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُوْنَ عَمَلُهُ فِي دَعْوَتِهِ هُوَ لِابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُخَالِفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ. (¬3) - قَوْلُهُ (عَلَى بَصِيْرَةٍ): البَصِيْرَةُ هِيَ العِلْمُ، فَالبَصِيْرَةُ لِلقَلْبِ كَالبَصَرِ لِلعَيْنِ يُبْصِرُ بِهَا الحَقَائِقَ. - قَوْلُهُ {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}: دَلَّ عَلَى أَنَّ سَبِيْلَ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيْدِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى بَيِّنَةٍ فِي دِيْنِهِم، وَلِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيْهِ، وَفِي هَذَا دَلِيْلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّاعِيَةِ أَنْ يَكُوْنَ عَلَى بَصِيْرَةٍ، أَيْ: عَلَى عِلْمٍ بِمَا يَدْعُوْ إِلَيْهِ، أَمَّا الجَاهِلُ فَلَا يَصْلُحُ لِلدَّعْوَةِ. (¬4) - فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بَيَانُ أَنَّ عَلَى الدَّاعِيَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ثَلَاثَةَ أُمُوْرٍ فِي دَعْوَتِهِ: 1) حَالَ المَدْعُوِّ: فَالَّذِيْنَ قُصِدُوا هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ؛ وَمَا عِنْدَهُم لَيْسَ كَمَا عِنْدَ الوَثَنَيينَ، فلَزِمَ تَهَيُّؤُ النَّفْسِ لِشُبَهِهِم وَمَقَالَاتِهِم. 2) طَرِيْقَةَ الدَّعْوَةِ: وَهِيَ التَدَرُّجَ فِي الدَّعْوَةِ بِحَسْبِ الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ، وَأَنْ لَا يُنْتَقَلَ مِنْ أَمْرٍ إِلَى آخَرَ إِلَّا بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنَ الأَوَّلِ. 3) مَادَّةَ الدَّعْوَةِ: وَهِيَ التَّوْحِيْدَ فِي الأَوَّلِ، ثُمَّ الصَّلَاةَ، ثُمَّ الزَّكَاةَ. - قَوْلُهُ (بَاتَ): البَيْتُوْتَةُ: هِيَ المُكْثُ فِي اللَّيْلِ؛ سَوَاءً كَانَ مَعَهُ نَوْمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نَوْمٌ. - قَوْلُهُ (أُنْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ): (الرِسْلُ) - بِالكَسْرِ - الرِّفْقُ وَالتُّؤَدَةُ (¬5)، وَالمَعْنَى هُنَا: امْشِ هُوَيْنًا هُوَيْنًا لِأَنَّ المَقَامَ خَطِيْرٌ وَيُخْشَى مِنْ مَكْرِ العَدُوِ، فَاليَهُوْدُ خُبَثَاءٌ أَهْلُ غَدْرٍ. (¬6) - قَوْلُهُ (لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا): لَمْ يقل: لَأنْ تَهْدِي، لِأَنَّ الَّذِيْ يَهْدِي هُوَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (¬7)، وَالمُرَادُ بِالهِدَايَةِ هُنَا هِدَايَةُ التَّوْفِيْقِ وَالقَبُوْلِ. - قَوْلُهُ (فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنٍ حُمْرِ النَّعَمِ): يُشِيْرُ فِيْهِ إِلَى عَدَمِ اليَأْسِ مِنْ قِلَّةِ المُسْتَجِيْبِيْنَ، وَكَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ (فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ). - قَوْلُهُ (حُمْرِ النَّعَمِ): بِتَسْكِيْنِ المِيْمِ: جَمْعُ أَحْمَرَ، وَبِالضَّمِّ: جَمْعُ حِمَارٍ، وَالمُرَادُ الأَوَّلُ، وَهِيَ الإِبِلُ الحَمْرَاءُ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَنْفَسُ أَمْوَالِ العَرَبِ. ¬

_ (¬1) وَإِعْرَابُ (سُبْحَانَ): مَفْعُوْلٌ مُطْلَقٌ عَامِلُهُ مَحْذُوْفٌ تَقْدِيْرُهُ: أُسَبِّحُ. (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الحَجُّ عَرَفَة). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (18774) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ يَعْمُرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3172). وَحَدِيْثِ (الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ). صَحِيْحُ مُسْلِمٍ (55) عَنْ تَمِيْمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوْعًا. وَحَدِيْثِ (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3407). (¬3) وَلِهَذَا قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَسَائِلِ هَذَا البَابِ: فِي قَوْلِهِ (إِلَى اللهِ): تَنْبِيْهٌ عَلَى الإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّ كَثِيْرِيْنَ - وَإِنْ دَعَوا إِلَى الحَقِّ - فَإِنَّمَا يَدْعُوْنَ إِلَى أَنْفُسِهِم: أَيْ مِنْ جِهَةِ الرِّيَاءِ. (¬4) وَلَا يَخْفَى أَنَّ المُتَصَدِّرَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرُوْطٍ أُخَرَ؛ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنَ الحَقِّ أَنَّهُ لَا يُبَلِّغُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3461) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا، وَلَكِنَّ الكَلَامَ فِي الدُّعَاةِ الَّذِيْنَ جَعَلُوا الدَّعْوَةَ مَيْدَانَهُم وَهَمَّهُم وَتَصَدَّرُوا لَهَا. (¬5) القَامُوْسُ المُحِيْطِ (ص1005). (¬6) وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ الهُدُوْءِ فِي الجِهَادِ، وَتَرْكِ العَجَلَةِ وَرَفْعِ الأَصْوَاتِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الثَّبَاتِ وَالشَّجَاعَةِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الأَمْرِ، بِخِلَافِ الطَّيْشِ وَالرَّكْضِ وَرَفْعِ الأَصْوَاتِ، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الجُبْنِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ. (¬7) وَأَمَّا الهِدَايَةُ الَّتِيْ تَصِحُّ نِسْبَتُها إِلَى البَشَرِ فَهِيَ هِدَايَةُ الدِّلَالَةِ وَالإِرْشَادِ، وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الهِدَايَةِ سَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنْ هَذَا الكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

- قَوْلُهُ (يُحِبُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ، وَيُحبُّهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ): فِيْهِ إِثْبَاتُ المَحَبَّةِ للهِ مِنَ الجَانِبَيْنِ، أَيْ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُ ويُحَبُ، وَقَدْ أنكرَ هَذَا أَهْلُ التَّعْطِيْلِ، وَقَالُوا: المُرَادُ بِمَحَبَّةِ اللهِ لِلعَبْدِ إِثَابَتُهُ أَوْ إِرَادَةُ إِثَابَتِهِ! وَأَنَّ المُرَادَ بِمَحَبَّةِ العَبْدِ للهِ مَحَبَّةُ ثَوَابِهِ! وَهَذَا تَحْرِيْفٌ لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ عَدَا عَنْ مُخَالَفَةِ إِجْمَاعِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَأَئِمَّةِ الهُدَى مِنْ بَعْدِهِم (¬1)، فَمَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيْقَةً وَهِيَ مِنْ صِفَاتِهِ الفِعْلِيَّةِ. (¬2) ¬

_ (¬1) قُلْتُ: وَسَبَبُ كَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِلإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَمْ يُنقلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلفِ أَبَدًا تَأْوِيْلُ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى بِالثَّوَابِ أَوْ بِإِرَادَةِ الثَّوَابِ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ طَالَبْنَاهُ بِالدَّلِيْلِ. (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ وَغَفَرَ لَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (95/ 6): (قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِيْ قَالَ فِي {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد}: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا: (أَخْبِرُوْهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ)، قَالَ المَازِرِيُّ: مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ؛ إِرَادَةُ ثَوَابِهِم وَتَنْعِيْمِهِم، وَقِيْلَ: مَحَبَّتُهُ لَهُم نَفْسُ الإِثَابَةِ وَالتَّنْعِيْمِ لَا الإِرَادَةُ. قَالَ القَاضِي: وَأَمَّا مَحَبَّتُهُم لَهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يَبْعُدُ فِيْهَا المَيْلُ مِنْهُم إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ مُتَقَدِّسٌ عَنِ المَيْلِ. قَالَ: وَقِيْلَ مَحَبَّتُهُم لَهُ اسْتِقَامَتُهُم عَلَى طَاعَتِهِ، وَقِيْلَ: الاسْتِقَامَةُ ثَمَرَةُ المَحَبَّةِ. وَحَقِيْقَةُ المَحَبَّةِ لَهُ: مَيْلُهُم إِلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المَحَبَّةَ مِنْ جَمِيْعِ وُجُوْهِهَا). قُلْتُ: قَالَ ابنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص294): (قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلًا} (النِّسَاء:125) وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوْسَى تَكْلِيْمًا} (النِّسَاء:164). الخِلَّةُ: كَمَالُ المَحَبَّةِ. وَأَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ حَقِيْقَةَ المَحَبَّةِ مِنَ الجَانِبَيْنِ زَعْمًا مِنْهُم أَنَّ المَحَبَّةَ لَا تَكُوْنُ إِلَّا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ المُحِبِّ وَالمَحْبُوْبِ؛ وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ القَدِيْمِ وَالمُحْدَثِ تُوْجِبُ المَحَبَّةَ! وَكَذَلِكَ أَنْكَرُوا حَقِيْقَةَ التَّكْلِيْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ أوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ هَذَا فِي الإِسْلَامِ هُوَ الجَعِدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي أَوَائِلِ المَائَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ القَسْرِيُّ أَمِيْرُ العِرَاقِ وَالمَشْرِقِ بِوَاسِطٍ، خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الأَضْحَى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ ضَحَايَاكُم فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعِدِ بْنِ دِرْهَم؛ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوْسَى تَكْلِيْمًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِفَتْوَى أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؛ فَجَزَاهُ اللهُ عَنِ الدِّيْنِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا. وَأَخَذَ هَذَا المَذْهَبَ عَنِ الجَعِدِ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَظْهَرَهُ وَنَاظَرَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أُضِيْفَ قَوْلُ الجَهْمِيَّةِ، فَقَتَلَهُ سَلَمُ بْنُ أَحْوَز - أَمِيْرُ خُرَاسَانَ بِهَا -، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى المُعْتَزِلَةِ أَتْبَاعِ عَمْرُو بْنِ عُبَيْدٍ، وَظَهَرَ قَوْلُهُم فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ المَأْمُوْنِ حَتَّى امْتُحِنَ أَئِمَّةُ الإِسْلَامِ، وَدَعَوْهُم إِلَى المُوَافَقَةِ لَهُم عَلَى ذَلِكَ. وَأَصْلُ هَذَا مَأْخُوْذٌ عَنِ المُشْرِكِيْنَ وَالصَّابِئَةِ، وَهُمْ يُنْكِرُوْنَ أَنْ يَكُوْنَ إِبْرَاهِيْمُ خَلِيْلًا وَمُوْسَى كَلِيْمًا؛ لِأَنَّ الخِلَّةَ هِيَ كَمَالُ المَحَبَّةِ المُسْتَغْرِقَةِ لِلمُحِبِّ كَمَا قِيْلَ: (قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوْحِ مِنِّي .. وَلِذَا سُمِّيَ الخَلِيْلُ خَلِيْلًا)، وَلَكِنْ مَحَبَّتَهُ وَخِلَّتَهُ كَمَا يَلِيْقُ بِهِ تَعَالَى كَسَائِرِ صِفَاتِهِ ...).

- فِي حَدِيْثِ إِرْسَالِ مُعَاذٍ إِلَى اليَمَنِ بَيَانُ صِحَّةِ العَمَلِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ مُعَاذًا وَحْدَهُ مُبَلِّغًا لِلإِسْلَامِ؛ بَلْ وَلِأَصْلِ الإِسْلَامِ، وَهَذَا الأَصْلُ هُوَ عَقِيْدَةُ التَّوْحِيْدِ، ثُمَّ مَا يَأْتِي بَعْدَهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَمَدُ خَبَرُ الوَاحِدِ فِي العَقَائِدِ؛ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ التَّوَاتُرُ كَمَا تَقُوْلُهُ المُبْتَدِعَةُ. (¬1) - فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ (أَنَّ مِنْ دَلَائِلِ حُسْنِ التَّوْحِيْدِ كَوْنُهُ تَنْزِيْهًا للهِ عَنِ المَسَبَّةِ): وَذَلِكَ بِكَوْنِ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مَعَ اللهِ تَعَالَى هُوَ تَنَقُّصٌ للهِ تَعَالَى فِي رُبُوْبِيَّتِهِ وَأُلُوْهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. - فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ العَاشِرَةِ (أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَكُوْنُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُها أَوْ يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا): مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ (لَا يَعْرِفُها أَوْ يَعْرِفُها): شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَتُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهُ (فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْرِفُوْنَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَيَعْمَلُوْنَ بِهَا مَا احْتَاجُوا إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا رُغْمَ أَنَّهُم أَهْلُ كِتَابٍ وَكَانَ عِنْدَهُم إِيَّاهَا فِيْمَا جَاءَ عَنْ رُسُلِهِم. - فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ (كَشْفُ العَالِمِ الشُّبْهَةَ عَنِ المُتَعَلِّمِ): المُرَادُ بِالشُّبْهَةِ هُنَا: شُبْهَةُ العِلْمِ، وَهِيَ هُنَا الجَهْلُ بِمَصْرِفِ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِهِ (صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ)، فَبيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الأَغْنِيَاءِ، وَأَنَّ مَصْرِفَهَا الفُقَرَاءُ. - فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ (مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيْدِ مَا جَرَى عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِيْنَ وَسَادَةِ الأَوْلِيَاءِ مِنَ المَشَقَّةِ وَالجُوْعِ وَالوَبَاءِ): قَدْ يَكُوْنَ مُرَادُ المُصَنِّفِ بَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ - وَهُم سَادَةُ الأَوْلِيَاءِ - قَدْ أَصَابَهُم مِنَ الشِّدَّةِ مَا أَصَابَهُم؛ الأَمْرُ الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى سَفَهِ وَضَلَالِ مَنِ اسْتَغَاثَ بِهِم فِي الشَّدَائِدِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الضُّرَّ فكَيْفَ يَدْفَعُ عَنْ غَيْرِهِ. (¬2) وَسَيَمُرُّ هَذَا البَيَانُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ وَأَوْسَعَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي بَابِ (قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {أَيُشْرِكُوْنَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ} (الأَعْرَاف:191)، رقم 15) مِنْ هَذَا الكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللهُ. - فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الثَّلَاثُوْنَ (الحَلِفُ عَلَى الفُتْيَا): الفَائِدَةُ مِنَ الحَلِفِ هِيَ تَوْكِيْدُ الكَلَامِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي الحَلِفُ عَلَى الفُتْيَا إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَفَائِدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (المَائِدَة:89). ¬

_ (¬1) هُمْ مُبْتدِعَةٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُم أَصَّلُوا أَصْلًا فِي عَقِيْدَتِهِم لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيْلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ وَالعَجَبُ مِنْهُم أَنَّهُم يَشْتَرِطُوْنَ فِي عَقِيْدَتِهِم أَنْ تَكُوْنَ مَبْنِيَّةً عَلَى القُرْآنِ وَالحَدِيْثِ المُتَوَاتِرِ فَقَط، وَهُمْ فِي ذَلِكَ قَدْ أَصَّلُوا أَصْلَهُم هَذَا - الَّذِيْ جَعَلُوْهُ قَاعِدَةَ التَّمْيِيْزِ بَيْنَ مَا يُقْبَلُ وَمَا يُرَدُّ - بِمَا لَمْ يَأْتِ أَصْلًا لَا فِي الكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ المُتَوَاتِرَةِ أَوِ الآحَادِ، وَلَا حَتَّى فِي حَدِيْثٍ ضَعِيْفٍ! وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَقَدَ فِي كِتَابِهِ الجَلِيْلِ (الرِّسَالَةُ) (ص401) بَابًا هُوَ (حُجِّيَّةُ تَثْبِيْتِ خَبَرِ الوَاحِدِ) وَاحْتَجَّ فِيْهِ بِحَدِيْثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ فِي البَابِ. (¬2) وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (142/ 1): (الظَّاهِرُ أَنَّ المُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ يُرِيْدُ الإِشَارَةَ إِلَى قِصَّةِ خَيْبَر، إِذْ وَقَعَ فِيْهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوْعٌ عَظِيْمٌ، حَتَّى أَنَّهُم أَكَلُوا لَحْمَ الحَمِيْرِ وَالثُّوْمِ، وَأَمَّا الوَبَاءُ، فَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ رَمَدِ عَيْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَمَّا المَشَقَّةُ، فَظَاهِرَةٌ. وَوَجْهُ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيْدِ: أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّحَمُّلَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأُمُوْرِ يَدُلُّ عَلَى إِخْلَاصِ الإِنْسَانِ فِي تَوْحِيْدِهِ وَأَنَّ قَصْدَه اللهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ صَبَرَ عَلَى البَلَاءِ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) مَا سَبَبُ تَخْصِيْصِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالذِّكْرِ دُوْنَ ذِكْرِ الصِّيَامِ وَالحَجِّ؟ الجَوَابُ: أَنَّهُ أَحَدُ أُمُوْرٍ: 1) أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَسْبِ نُزُوْلِ الفَرَائِضِ وَالأَمْرِ بِهَا. 2) أَنَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى الأَرْكَانِ العَظِيْمَةِ الأَسَاسِيَّةِ الَّتِيْ يُقَاتَلُ مَنْ تَرَكَهَا. 3) أَنَّ هَذِهِ هِيَ الأَرْكَانُ الظَّاهِرَةُ الَّتِيْ يَرَاهَا النَّاسُ عُمُوْمًا، أَمَّا الصِّيَامُ فَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ. 4) أَنَّ هَذِهِ الأًعْمَالَ هِيَ أُصُوْلُ الأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَنِ التَزَمَ بِهَا التَزَمَ مَا كَانَ مِثْلَهَا؛ وَهِيَ أَهْوَنُ مِنْهَا. (¬1) ¬

_ (¬1) فَالصَّلَاةُ أَصْلُ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ وَأَعْظَمُهَا، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ أَصْلُ العِبَادَاتِ المَالِيَّةِ وَأَعْظَمُهَا.

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

بَابُ تَفْسِيْرِ التَّوْحِيْدِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوْرًا} (الإِسْرَاء:57). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيْمُ لِأَبِيْهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُوْنَ، إِلَّا الَّذِيْ فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِيْنِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ} (الزُّخْرُف:28). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ} (التَّوْبَة:31). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (البَقَرَة:165). وَفِي الصَّحِيْحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّه قَالَ: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). (¬1) وَشَرْحُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الأَبْوَابِ. فِيْهِ أَكْبَرُ المَسَائِلِ وَأَهَمُّهَا: وَهِيَ تَفْسِيْرُ التَّوْحِيْدِ، وَتَفْسِيْرُ الشَّهَادَةِ، وَبيَّنَهَا بِأُمُوْرٍ وَاضِحَةٍ. مِنْهَا: آيَةُ الإِسْرَاءِ، بَيَّنَ فِيْهَا الرَّدَّ عَلَى المُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ الصَّالِحِيْنَ، فَفِيْهَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ. وَمِنْهَا: آيَةُ بَرَاءَة، بَيَّنَ فِيْهَا أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُم لَمْ يُؤْمَرُوا إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، مَعَ أَنَّ تَفْسِيْرَهَا الَّذِيْ لَا إِشْكَالَ فِيْهِ: طَاعَةُ العُلَمَاءِ وَالعُبَّادِ فِي المَعْصِيَةِ، لَا دُعَائُهُم إِيَّاهُم. وَمِنْهَا قَوْلُ الخَلِيْلِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِلكُفَّارِ {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُوْنَ، إِلَّا الَّذِيْ فَطَرَنِي} فَاسْتَثْنَى مِنَ المَعْبُوْدِيْنَ رَبَّهُ، وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ البَرَاءَةَ وَهَذِهِ المُوَالَاةَ: هِيَ تَفْسِيْرُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللهُ. فَقَالَ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ}. وَمِنْهَا: آيَةُ البَقَرَةِ: فِي الكُفَّارِ الَّذِيْنَ قَالَ اللهُ فِيْهِم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِيْنَ مِنَ النَّارِ} ذَكَرَ أَنَّهُم يُحِبُّوْنَ أَنْدَادَهُم كَحُبِّ اللهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم يُحِبُّوْنَ اللهَ حُبًّا عَظِيْمًا، وَلَمْ يُدْخِلْهُم فِي الإِسْلَامِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَحَبَّ النِّدَّ أَكْبَرَ مِنْ حُبِّ اللهِ؟! فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يُحِبَّ إِلَّا النِّدَّ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحِبَّ اللهَ؟!. وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا لِلدَّمِ وَالمَالِ، بَلْ وَلَا مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا، بَلْ وَلَا الإِقْرَارَ بِذَلِكَ، بَلْ وَلَا كَوْنَهُ لَا يَدْعُوْ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، بَلْ لَا يَحْرُمُ مَالُهُ وَدَمُهُ حَتَّى يُضِيْفَ إِلَى ذَلِكَ الكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ، فَإِنْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ. فَيَالَهَا مِنْ مَسْأَلَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَأَجَلَّهَا، وَيَالَهُ مِنْ بَيَانٍ مَا أَوْضَحَهُ، وَحُجَّةٍ مَا أَقْطَعَهَا لِلمُنَازِعِ. ¬

_ (¬1) الحَدِيْث رَوَاهُ مُسْلِمٌ (23) دُوْنَ البُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيْثِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ الأَشْجَعِيِّ مَرْفُوْعًا.

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ): (أَلَهَ إِلَاهَةً وَأُلُوْهَةً وَأُلُوْهِيَّةً: عَبَدَ عِبَادَةً، وَمِنْهُ لَفْظُ الجَلَالَةِ). (¬1) وَقَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (¬2): ((أَلَهَ) الإلَهُ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وكُلُّ مَا اتُخِذَ مِنْ دُوْنِهِ مَعْبُوْدًا إلَهٌ عِنْدَ مُتَّخِذِهِ، وَالجَمْعُ آلِهَةٌ، وَالآلِهَةُ: الأَصْنَامُ سُمُّوا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِم أَنَّ العِبَادَةَ تَحُقُّ لَهَا، وَأَسْمَاؤُهُم تَتْبَعُ اعْتِقَادَاتِهِم لَا مَا عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ). - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِيْنَ زَعَمْتُم مِنْ دُوْنِهِ فَلَا يَمْلِكُوْنَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوْرًا} بَيَانُ ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ لِلعُبُوْدِيَّةِ: 1) الحُبُّ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}. (¬3) 2) الرَّجَاءُ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ}. 3) الخَوْفُ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ}. وَفِي الآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تِلْكَ العِبَادَاتِ هِيَ مِمَّا تَلَبَّسَ بِهَا المُشْرِكُوْنَ تُجَاهَ مَعْبُوْدِيْهِم، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا للهِ؛ وَأَنَّ مَعْبُوْدَاتِهِم أَنْفُسَهُم هُمْ مُتَلَبِّسُوْنَ بِهَا للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَفِي الآيَةِ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ تَخْصِيْصَ تِلْكَ المَقَامَاتِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا أَرْكَانًا لِلعُبُوْدِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ أَنَّ التَّعْبِيْرَ بِالشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رُكْنًا فِيْهِ. - أَوْرَدَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ (¬4) فِي كِتَابِ تَفْسِيْرِ القُرْآنِ - بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ} - عَنْ عَبْدِ اللهِ (¬5) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ}. قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنَ الجِنِّ يُعْبَدُوْنَ فَأَسْلَمُوا. (¬6) (¬7) - قَوْلُهُ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ}: يَدْعُوْنَ أَيْ: يَعْبُدُوْنَ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعَانِ: دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ، وَدُعَاءُ عِبَادَةٍ. (¬8) - قَوْلُهُ {إِلَّا الَّذِيْ فَطَرَنِي}: ذَكَرَ الفَطْرَ دُوْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ التَّذْكِيْرُ بِأَنَّه إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ مَنْ فَطَرَ (¬9)، أَمَّا مَنْ لَمْ يَفْطِرْ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ العِبَادَةِ، وَفِيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى الاسْتِدْلَالِ بِالرُّبُوْبِيَّةِ عَلَى تَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ. - قَوْلُهُ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ}: الرَّبُّ هُنَا هُوَ المَعْبُوْدُ، وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ المُتَرَادِفَاتِ فِي اللُّغَةِ وَالَّتِيْ إِذَا اجْتَمَعَت افْتَرَقَتْ، وَإِذَا افْتَرَقَت اجْتَمَعَتْ. (¬10) وَدَلَّ لِذَلِكَ أَيْضًا حَدِيْثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ عِنْدَمَا قَالَ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُم! وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ هُنَا هُوَ شِرْكُ الطَّاعَةِ، وَسَيَأْتِي فِيْهِ تَفْصِيْلٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬11) وَحَدِيْثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ بِتَمَامِهِ هُوَ: أَتِيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي عُنُقِي صَلِيْبٌ مِنْ ذَهَبٍ - فَقَالَ: (يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ)، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُوْرَةِ بَرَاءَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ} قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنَّهُم لَمْ يَعْبُدُوْهُم! فَقَالَ: (بَلَى، إِنَّهُم حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الحَرَامَ فَاتَّبَعُوْهُم، فَذَلِكَ عِبَادَتُهُم إِيَّاهُم). (¬12) ¬

_ (¬1) قَالَهُ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص1242). (¬2) لِسَانُ العَرَبِ (467/ 13). (¬3) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (724/ 11): (الوَسِيْلةُ: المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالوَسِيْلةُ الدَّرَجَةُ، وَالوَسِيْلَةُ القُرْبَةُ، وَوَسَّلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيْلَةً: إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإِسْرَاء:57)، وَفِي حَدِيْثِ الأَذَانِ (اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيْلَةَ) هيَ فِي الأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَالمُرَادُ بِهِ فِي الحَدِيْثِ: القُرْبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقِيْلَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَقِيْلَ: هِيَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الجَنَّةِ - كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ -). (¬4) البُخَارِيُّ (86/ 6). (¬5) إِذَا أُطْلِقَ اسْمُ الرَّاوِي بِـ (عَبْدِ اللهِ) فِي الأَحَادِيْثِ دُوْنَ تَحْدِيْدٍ؛ فَالمَقْصُوْدُ بِهِ عِنْدَ العُلَمَاءِ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (¬6) وَفِي رِوَايَةٍ لِلبُخَارِيِّ (4714) أَيْضًا (كَانَ نَاسٌ مِنَ الإِنْسِ يَعْبُدُوْنَ نَاسًا مِنَ الجِنِّ؛ فَأَسْلَمَ الجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِدِيْنِهِم). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (397/ 8): (اسْتَمَرَّ الإِنْسُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ الجِنَّ عَلَى عِبَادَةِ الجِنِّ - وَالجِنُّ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ أَسْلَمُوا - وَهُمُ الَّذِيْنَ صَارُوا يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ فَزَادَ فِيْهِ (وَالإِنْسُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَهُمْ لَا يَشْعُرُوْنَ بِإِسْلَامِهِمْ) وَهَذَا هُوَ المُعْتَمَدُ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ الآيَةِ). (¬7) وَفِي تَفْسِيْرِ الطَّبَرِيِّ (474/ 17) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآيَةِ (أَنَّهَا فِي عِيْسَى وَمَرْيَمَ وَالعُزَيْر وَالمَلَائِكَةِ)، وَهَذَا مِنِ ابْن عَبَّاسٍ وَمَا سَبَقَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ هُوَ مِنْ بَابِ تَفْسِيْرِ التَّنَوُّعِ. (¬8) هُنَا وَإِنْ كَانَ المَعْنَى العَامُّ أَنَّهُ دُعَاءُ عِبَادَةٍ؛ فَهُوَ أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِدُعَاءِ المَسْأَلَةِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3407). (¬9) (فَطَرَ اللهُ الخَلْقَ يَفْطُرُهُم: خَلَقَهُمْ وَبَدَأَهُم). لِسَانُ العَرَبِ (56/ 5). (¬10) كَالإِسْلَامِ وَالإِيْمَانِ، وَالفَقِيْرِ وَالمِسْكِيْنِ. (¬11) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (160/ 1): (وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ جَعَلَ شِرْكَ الطَّاعَةِ مِنَ الأَكْبَرِ، وَهَذَا فِيْهِ تَفْصِيْلٌ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ فِي بَابِ (مَنْ أَطَاعَ الأُمَرَاءَ وَالعُلَمَاءَ فِي تَحْلِيْلِ مَا حَرَّمَ اللهُ أَوْ تَحْرِيْمِ مَا أَحَلَّ اللهُ فَقَد اتَّخَذَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ الله)). (¬12) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (92/ 17) وَالتِّرْمِذِيُّ (3095) وَحَسَّنَهُ. الصَّحِيْحَةُ (3293).

- قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْموعِ الفَتَاوى (¬1): (وَهَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا - حَيْثُ أَطَاعُوْهُمْ فِي تَحْلِيْلِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيْمِ مَا أَحَلَّ اللهُ - يَكُوْنُوْنَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِيْنَ اللهِ؛ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيْلِ؛ فَيَعْتَقِدُوْنَ تَحْلِيْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيْمَ مَا أَحَلَّ اللهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ - مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِيْنَ الرُّسُلِ - فَهَذَا كُفْرٌ وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ شِرْكًا - وَإِنْ لَمْ يَكُوْنُوا يُصَلُّوْنَ لَهُمْ وَيَسْجُدُوْنَ لَهُمْ - فَكَانَ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي خِلَافِ الدِّيْنِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّيْنِ، وَاعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُوْنَ مَا قَالَهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ؛ مُشْرِكًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُوْنَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيْمَانُهُمْ بِتَحْرِيْمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيْلِ الحَرَامِ ثَابِتًا (¬2)، لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوْهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ - كَمَا يَفْعَلُ المُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ المَعَاصِي الَّتِيْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ - فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوْبِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوْفِ)). (¬3) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}: يَعْنِي (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَقُوْلُهَا. (¬4) - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ} بَيَانُ ضَلَالِ ثَلَاثِ طَوَائِفَ: (¬5) 1) الطَّائِفَةُ الأُوْلَى: بَعْضُ المُتَصَوِّفَةِ الَّذِيْنَ يُطِيْعُوْنَ شُيُوْخَهُم وَلَوْ أَمَرُوْهُم بِمَعْصِيَةٍ ظَاهِرَةٍ بِحُجَّةِ أَنَّهَا فِي الحَقِيْقَةِ لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ، وَأَنَّ الشَّيْخَ يَرَى مَا لَا يَرَى المُرِيْدُ. (¬6) 2) الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: هُمُ المُقَلِّدَةُ الَّذِيْنَ يُؤْثِرُوْنَ اتِّبَاعَ كَلَامِ المَذْهَبِ عَلَى كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مَعَ وُضُوْحِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ. (¬7) 3) الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: هُمُ الَّذِيْنَ يُطِيْعُوْنَ وُلَاةَ الأُمُوْرِ فِيْمَا يُشَرِّعُوْنَهُ لِلنَّاسِ مِنْ نُظُمٍ وَقَرَارَاتٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ؛ كَالشُّيُوْعِيَّةِ وَمَا شَابَهَهَا، وَشَرُّهُم مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ. ¬

_ (¬1) مَجْموعُ الفَتَاوى (70/ 7). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ نَاصِرُ بْنُ حَمَدٍ الفَهْدُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صِيَانَةُ مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى مِنَ السَّقْطِ وَالتَّصْحِيْفِ) (ص 59): (وَقَوْلُهُ هُنَا (بِتَحْرِيْمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيْلِ الحَرَامِ) قَدْ أَشَارَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُوْنُ تَصْحِيْفًا مِنَ النُّسَّاخِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ العِبَارَةَ هِيَ (بِتَحْرِيْمِ الحَرَامِ وَتَحْلِيْلِ الحَلَالِ)). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7145)، وَمُسْلِمٌ (1840) مِنْ حَدِيْثِ عَليٍّ مَرْفُوْعًا. (¬4) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ (225/ 7). (¬5) أَفَادَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّعْلِيْقِ عَلَى حَدِيْثِ (لَا طَاعَةَ لِبَشَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوْفِ). الصَّحِيْحَةُ (181). (¬6) قُلْتُ: هُوَ مَا يُسَمُّوْنَهُ بِالشَّرِيْعَةِ وَالحَقِيْقَةِ، أَوْ عِلْمِ الظَّاهِرِ وَعِلْمِ البَاطِنِ. (¬7) قَالَ الفَخْرُ الرَّازِي (صَاحِبُ التَّفْسِيْرِ الكَبِيْرِ- أَبُو عَبْدِ اللهِ) رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (31/ 16) عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ}: (قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ المُحَقِّقِيْنَ وَالمُجْتَهِدِيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الفُقَهَاءِ؛ قَرَأْتُ عَلَيْهِم آيَاتٍ كَثِيْرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ المَسَائِلِ، وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُم بِخِلَافِ تِلْكَ الآيَاتِ؛ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقَوا يَنْظُرُوْنَ إِلَيِّ كَالمُتَعَجِّبِ - يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ العَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَ -، وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوْقِ الأَكْثَرِيْنَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا)).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) هَلْ يُقْبَلُ إِسْلَامُ أَيِّ كَافِرٍ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الشَّهَادَتَيْنِ؟ الجَوَابُ: الأَصْلُ فِي قَبُوْلِ إِسْلَامِ الكَافِرِ هُوَ قَوْلُ الشَّهَادَتِيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ الكَافِرُ لَهُ اعْتِقَادٌ خَاصٌّ سَابِقٌ؛ فَلَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ مُطْلَقًا حَتَّى يُضِيْفَ إِلَى الشَّهَادَتِيْنِ إِبْطَالَ عَقِيْدَتِهِ الخَاصَّةِ السَّابِقَةِ، كَمَا فِي لَفْظِ الحَدِيْثِ (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). (¬1) فَالبَاطِنِيُّ الَّذِيْ يُؤَلِّهُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَا أَقُوْلُ إِذَا صَلَّى فَقَطْ، - بَلْ وَإِذَا نَطَقَ الشَّهَادَتَيْنِ أَيْضًا - أَنَّهُ يَكُوْنُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا! بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلِنَ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَابِقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيْقَةَ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَولِهَا، بَلْ وَلَا مُجَرَّدَ إِقَامَةِ مَظَاهِرِ تَوْحِيْدِ اللهِ تَعَالَى؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الكُفْرِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنَ المَعْبُوْدَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوْتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} (البَقَرَة:256). (¬2) قَالَ الإِمَامُ المُجدِّدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ - فِي مَسَائِلِ البَابِ - مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ: (وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا لِلدَّمِ وَالمَالِ، بَلْ وَلَا مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا، بَلْ وَلَا الإِقْرَارَ بِذَلِكَ، بَلْ وَلَا كَوْنَهُ لَا يَدْعُوْ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، بَلْ لَا يَحْرُمُ مَالُهُ وَدَمُهُ حَتَّى يُضِيْفَ إِلَى ذَلِكَ الكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ، فَإِنْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ). ¬

_ (¬1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (23) مِنْ حَدِيْثِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ مَرْفُوْعًا. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (157/ 1): (وَفِي قَوْلِهِ (وكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ) دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكْفُرَ بِعِبَادَةِ مَنْ يُعَبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ، بَلْ وَتَكْفُرَ أَيْضًا بِكُلِّ كُفْرٍ. فَمَنْ يَقوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَيَرَى أَنَّ النَّصَارَى وَاليَهُوْدَ اليَوْمَ عَلَى دِيْنٍ صَحِيْحٍ، فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ). وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (رَوْضَةُ الطَّالِبِيْنَ) (301/ 7) - كِتَابُ الرِّدَّةِ، فَصْلٌ فِيْمَا تَحْصُلُ بِهِ تَوْبَةُ المُرْتَدِّ وَفِي مَعْنَاهَا إِسْلَامُ الكُفَّارِ الأَصْلِيِّ -: (وَقَدْ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَوْبَتَهُ فَقَالَ: أَنْ يَشْهَدَ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ؛ ويَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِيْنٍ خَالَفَ الإِسْلَامَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ - أَيْ: الشَّافِعِيُّ -: إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتينِ صَارَ مُسْلِمًا وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ قَوْلٍ عِنْدَ جُمْهُوْرِ الأَصْحَابِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ بَلْ يَخْتَلِفُ الحَالُ بِاخْتِلَافِ الكُفَّارِ وَعَقَائِدِهِم). وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ (رَوْضَةُ الطَّالِبِيْنَ) (302/ 7): (وَأَنَّ الثَّنَوِيَّ إِذَا قَالَ (لَا إِلَهَ إلِّا اللهَ) لَمْ يَكُنْ مُؤمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ القَوْلِ بِقِدَمِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ (وَأَنْ يَقُوْلَ) أَنْ لَا قَدِيْمَ إِلَّا اللهُ؛ كَانَ مُؤمِنًا). قُلْتُ: وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ شِهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ, وَأَنَّ عِيْسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةَ حَقٌّ, وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3435)، وَمُسْلِمٌ (28) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوْعًا.

باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

بَابُ مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَة وَالخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِرَفْعِ البَلَاءِ أَوْ دَفْعِهِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُوْنَ} (الزُّمَر:38). وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَىَ رَجُلًا فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ. فَقَالَ: (مَا هَذِهِ؟) قَالَ: مِنَ الوَاهِنَةِ. فَقَالَ: (انْزِعْهَا, فَإِنَّهَا لَا تَزِيْدُكَ إِلَّا وَهْنًا، فإنَّكَ لوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ؛ مَا أَفْلَحَتَ أَبَدًا). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ. (¬1) وَلَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوْعًا: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيْمَةً؛ فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، ومَنْ تَعلَّقَ وَدَعَةً؛ فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ). (¬2) وَفِيْ رِوَايَةٍ: (مَنْ تَعلَّقَ تَمِيْمَةً، فَقَدْ أَشْرَكَ). (¬3) وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الحُمَّى؛ فَقَطَعَهُ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُوْنَ} (يُوْسُف: 106). (¬4) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: التَّغْلِيْظُ فِي لُبْسِ الحَلْقَةِ وَالخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِمِثْلِ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَوْ مَاتَ وَهِيَ عَلَيْهِ؛ مَا أَفْلَحَ، فِيْهِ شَاهِدٌ لِكَلَامِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُعْذَرْ بِالجَهَالَةِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي العَاجِلَةِ؛ بَلْ تَضُرُّ، لِقَوْلِهِ (لَا تَزِيْدُكَ إِلَّا وَهْنًا). الخَامِسَةُ: الإِنْكَارُ بِالتَّغْلِيْظِ عَلَى مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا؛ وُكِلَ إِلَيْهِ. السَّابِعَةُ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيْمَةً؛ فَقَدْ أَشْرَكَ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ تَعْلِيْقَ الخَيْطِ مِنَ الحُمَّى مِنْ ذَلِكَ. التَّاسِعَةُ: تِلَاوَةُ حُذَيْفَةَ الآيَةَ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ يَسْتَدِلُّوْنَ بِالآيَاتِ الَّتِيْ فِي الشِّرْكِ الأَكْبَرِ عَلَى الأَصْغَرِ؛ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي آيَةِ البَقَرَةِ. العَاشِرَةُ: أَنَّ تَعْلِيْقَ الوَدَعَ مِنَ العَيْنِ مِنْ ذَلِكَ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيْمَةً أَنَّ اللهَ لَا يُتِمُّ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ؛ أَيْ: تَرَكَ اللهُ لَهُ. ¬

_ (¬1) أَحْمَدُ (20000)، وَالحَدِيْثُ ضَعَّفَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (1029) بِسَبَبِ الانْقِطَاعِ بَيْنَ الحَسَنِ وَعِمْرَانَ، وَأَيْضًا بِسَبَبِ عَنْعَنَةِ المُبَارَكِ - وَهُوَ ابْنُ فَضَالَةَ - فَقَدْ كَانَ مُدَلِّسًا. قُلْتُ: لَكِنْ صَحَّ مَوْقُوْفًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي عَضُدِهِ حَلْقَةٌ مِنَ صُفَرٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: نُعِتَتْ لِي مِنَ الوَاهِنَةِ، قَالَ: أَمَا إِنْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَو تُطُيِّرَ لَهُ، وَلَا تَكَهَّنَ أَو تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ). صَحِيْحٌ. البَزَّارُ (52/ 9). الصَّحِيْحَةُ (2195). (¬2) ضَعِيْفٌ. أَحْمَدُ (17404). ضَعِيْفُ الجَامِعِ (5703). وَيُغْنِي عَنْهُ الحَدِيْثُ الَّذِيْ بَعْدَهُ. (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (17422). الصَّحِيْحَةُ (492). (¬4) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيْرِ (12040).

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ (بَابُ مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَةِ): اللُّبْسُ بِالضَّمِّ: مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ، وَبِالفَتْحِ مِنَ التَّخْلِيْطَ، وَبِالكَسْرِ هُوَ مَا يُلْبَسُ. وَالحَلْقَةُ بِسُكُوْنِ اللَّامِ: مِنَ الاسْتِدَارَةِ - وَهِيَ المَقْصُوْدَةُ فِي البَابِ -، وَبِالفَتْحِ: مِنْ حِلَاقَةِ الشَّعْرِ. - قَوْلُهُ (لِدَفْعِ البَلَاءِ) هُوَ قَبْلَ وُقُوْعِهِ، (وَرَفْعُ البَلَاءِ) هُوَ بَعْدَ وُقُوْعِهِ، وَفِي هَذَا التَّنْوِيْعِ تَفْصِيْلٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي البَابِ التَّالِي. - الآيَةُ الكَرِيْمَةُ هُنَا سِيَاقُهَا فِيْمَنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُوْنَ} (الزُّمَر:38). - القَاعِدَةُ فِي هَذَا البَابِ: أَنَّ اعْتِقَادَ الأَسْبَابِ المُؤَثِّرَةِ لَا يَجُوْزُ إِلَّا مَا ثَبَتَ شَرْعًا أَوْ قَدَرًا، فَالتَّعَلُّقُ بِشَيْءٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّرْعُ يَكُوْن نَوْعًا مِنَ الشِّرْكِ؛ إِذَا كَانَ لِدَفْعِ البَلَاءِ أَوْ لِرَفْعِهِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ}: (بِضُرٍّ) هَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيْعَ أَنْوَاعِ الضُّرِّ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {تَدْعُوْنَ}: هَذَا الدُّعَاءُ يَشْمَلُ دُعَاءَ المَسْأَلَةِ وَدُعَاءَ العِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الإِشْرَاكِ بِاللهِ تَعَالَى. - فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ بَيَانُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الخَالِقَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؛ فَالَّذِيْ يَرْحَمُ وَيَضُرُّ أَيْضًا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، لِذَلِكَ لَا يُدْعَى وَلَا يُتَعَلَّقُ بِسِوَى اللهِ تَعَالَى، فَصَارَ فِيْهِ الاسْتِدْلَالُ بِتَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ عَلَى تَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ. - الوَاهِنَةُ: عِرْقٌ يَأْخُذُ فِي المَنْكِبِ وَاليَدِ كُلِّهَا. - التَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيْمَةٍ، وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ العَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى أَوْلَادِهِم يَتَّقُوْنَ بِهَا العَيْنَ فِي زَعْمِهِم، فَأَبْطَلَهَا الإِسْلَامُ. (¬1) - الوَدْعَةُ (بِسُكُوْنِ الدَّالِ، وَيُحَرَّكُ): جَمْعُهَا وَدَعَاتٌ؛ خَرَزٌ بِيْضٌ تُخْرَجُ مِنَ البَحْرِ، تُعَلَّقُ لِدَفْعِ العَيْنِ. (¬2) - حَدِيْثُ البَابِ الأَوَّلُ لَمْ يَصِحَّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا صَحَّ مَوْقُوْفًا عَنْ عِمْرَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِنَحْوِهِ. (¬3) - قَوْلُهُ (فَإِنَّهَا لَا تَزِيْدُكَ إِلَّا وَهْنًا): أَيْ: ضَعْفًا، وَذَلِكَ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيْضِ قَصْدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى رَجَاءَ كَشْفِ الضُّرِّ. - قَوْلُهُ (ومَنْ تَعلَّقَ وَدَعَةً، فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ): أَيْ: لَا تَرَكَ لَهُ مَا يُحِبُّ، أَوْ لَا جَعَلَهُ فِي دَعَةٍ - أَيْ رَاحَةٍ - وَسُكُوْنٍ. - قَوْلُهُ (مَنْ تَعلَّقَ): أَيْ: علَّقَهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا قَلْبُهُ. (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَهُ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (536/ 1). (¬2) قَالَهُ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص769). (¬3) سَبَقَ تَخْرِيْجُهُ. (¬4) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي المُسْنَدِ (17422) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا؟ قَالَ: (إنَّ عَلَيْهِ تَميْمَةً)، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا فبَايَعَهُ. وَقَالَ: (مَنْ عَلَّقَ تَميْمَةً فَقد أَشْرَكَ). حَسَنٌ. غَايَةُ المَرَامِ (492).

- قَوْلُهُ (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيْمَةً فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ): قَدْ تَكُوْنُ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً، أَيْ: مَعْنَاهَا الإِخْبَارُ بِأَنَّ اللهَ لَا يُتِمُّ لَهُ أَمْرَهُ، وَقَدْ يَكُوْنُ مَعْنَاهَا إِنْشَائِيًّا، أَيْ: مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يُتِمَّ اللهُ لَهُ أمْرَهُ. - تَعْلِيْقُ التَّمَائِمِ فِيْهِ خَلَلٌ مِنْ جَانِبِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ حَيْثُ جَعَلَ نَصِيْبًا لِغَيْرِهِ تَعَالَى مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ عِيْسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ أَبِي مَعْبَدِ الجُهَنِيِّ أَعُوْدُهُ - وَبِهِ حُمْرَةٌ -، فَقُلْنَا: أَلَا تُعَلِّقُ شَيْئًا؟ قَالَ: المَوْتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ). (¬1) - إِنَّ مَنْ لَبِسَ الحَلْقَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ التَّمَائِمَ - لِدَفْعِ العَيْنِ - لَهُ حَالَانِ: 1) إِنِ اعْتَقَدَ لَابِسُهَا أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ بِنَفْسِهَا دُوْنَ اللهِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ فِي الرُّبُوْبِيَّةِ، حَيْثُ اعْتَقَدَ شَرِيْكًا مَعَ اللهِ فِي الخَلْقِ وَالتَّدْبِيْرِ، وَهُوَ أَيْضًا شِرْكٌ فِي العُبُوْدِيَّةِ حَيْثُ عَلَّقَ بِهَا قَلْبَهُ طَمَعًا وَرَجَاءً لِلنَّفْعِ. 2) إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا سَبَبٌ فَقَط، فَهُوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أَصْغَرًا - وَعَلَيْهِ حَدِيْثُ البَابِ (¬2) - وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا وَتَعَلَّقَ بِهِ؛ فَقَدْ شَابَهَ المُشْرِكِيْنَ مِنْ جِهَةِ الهَيْئَةِ (¬3)، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ ذِكْرُ القَاعِدَةِ هُنَاكَ. (¬4) - إِنَّ جَعْلَ أَيِّ شَيْءٍ سَبَبًا إِنَّمَا يَكُوْنُ بِطَرِيْقَيْنِ فَقَط: 1) عَنْ طَرِيْقِ الشَّرْعِ: بِأَنْ يَثْبُتَ فِي الشَّرْعِ كَوْنُهُ سَبَبًا لِأَمْرٍ مَا، وَذَلِكَ كَالعَسَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيْهِ: {فِيْهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (النَّحْل:69)، وَكَقِرَاءَةِ القُرْآنِ فَفِيْهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلَا يَزِيْدُ الظَّالِمِيْنَ إِلَّا خَسَارًا} (الإِسْرَاء:82)، وَكَالحَبَّةِ السَّوْدَاءُ وَ ..... 2) عَنْ طَرِيْقِ القَدَرِ: أَيْ: مَا قَدَّرَهُ اللهُ كَوْنًا أَنَّهُ سَبَبٌ، وَهُوَ مَا عُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالحِسِّ، كَمَا إِذَا جَرَّبْنَا هَذَا الشَّيْءَ فَوَجَدْنَاهُ نَافِعًا فِي هَذَا الأَلَمِ أَوِ المَرَضِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُوْنَ أَثَرُهُ ظَاهِرًا مُبَاشِرًا. (¬5) ¬

_ (¬1) حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. التِّرْمِذِيُّ (2072) - بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّعْلِيْقِ -. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ (3456). (¬2) كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ المُصَنِّفُ فِي المَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ. (¬3) وَأَيْضًا قَدْ شَارَكَ اللهَ تَعَالَى فِي الحُكْمِ لِهَذَا الشَّيْءِ بِأَنَّهُ سَبَبٌ، وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْهُ سَبَبًا. (¬4) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (1/ 491): (وَلَمْ يَقِفِ الأَمْرُ بِبَعْضِهِم عِنْدَ مُجَرَّدِ المُخَالَفَةِ، بَلْ تَعَدَّاهُ إِلَى التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى! فَهَذَا الشَّيْخُ الجَزُوْلِيُّ - صَاحِبُ (دَلَائِلِ الخَيْرَاتِ) - يَقُوْلُ فِي الحِزْبِ السَّابِعِ فِي يَوْمِ الأَحَدِ (ص111 طَبْعُ بُوْلَاق): (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، مَا سَجَعَتِ الحَمَائِمُ، وَحَمَتِ الحَوَائِمُ، وَسَرَحَتِ البَهَائِمُ، وَنَفَعَتِ التَّمَائِمُ)! وَتَأْوِيْلُ الشَّارِحِ لِـ (الدَّلَائِلِ) بِأَنَّ (التَّمَائِمَ) جَمْعُ تَمِيْمَةٍ؛ وَهِيَ الوَرَقَةُ الَّتِيْ يُكْتَبُ فِيْهَا شَيْءٌ مِنَ الأَسْمَاءِ أَوِ الآيَاتِ، وَتُعَلَّقُ عَلَى الرَّأْسِ مَثَلًا لِلتَّبَرُّكِ). (¬5) وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِئَلَّا يَقُوْلَ قَائِلٌ: أَنَا جَرَّبْتُ هَذَا وَانْتَفَعْتُ بِهِ - وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا - كَالحَلْقَةِ، فَقَدْ يَلْبَسُهَا إِنْسَانٌ - وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا نَافِعَةٌ - فَيَنْتَفِعُ! لِأَنَّ الانْفِعَالَ النَّفْسِيَّ لِلشَّيْءِ لَهُ أَثَرٌ بَيِّنٌ.

- قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬1): وَهَذَا البَابُ يَتَوَقَّفُ فَهْمُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الأَسْبَابِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أُمُوْرٍ: 1) أَنْ لَا يَجْعَلَ مِنْهَا سَبَبًا إِلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّه سَبَبٌ شَرْعًا أَوْ قَدَرًا. 2) أَنْ لَا يَعْتَمِدَ العَبْدُ عَلَيْهَا، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى مُسَبِبِهَا وَمُقَدِّرِهَا، مَعَ قِيَامِهِ بِالمَشْرُوْعِ مِنْهَا، وَحِرْصِهِ عَلَى النَّافِعِ مِنْهَا. 3) أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الأَسْبَابَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِيْهَا كَيْفَ يَشَاءُ؛ إِنْ شَاءَ أَبْقَى سَبَبِيَّتَهَا جَارِيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيَّرَهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ عَظِيْمَةٌ لِلعِبَادِ فِي أَنْ لَا يَعْتَمِدوا عَلَيْهَا، وَلِيَعْلَمُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ. - فِي المَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ قَوْلُهُ (أَنَّهُ لَمْ يُعْذَرْ بِالجَهَالَةِ): هَذَا فِيْهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ؛ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا) لَيْسَ بِصَرِيْحٍ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ العِلْمِ، بَلْ ظَاهِرُهُ: بَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ وَأُمِرْتَ بِنَزْعِهَا. (¬2) - يُشْرَعُ عِنْدَ الإِصَابَةِ بِالعَيْنِ فِعْلُ الرُّقْيَةِ بَدَلًا مِنْ تَعْلِيْقِ التَّمَائِمِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنَ العَيْنِ) (¬3)، وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا حَدِيْثُ (لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةِ). وَالرُّقيَةُ هِيَ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ وَهُوَ مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِرَدِّ البَلَاءِ قَبْلَ وُقُوْعِهِ أَصْلًا، كَمَا فِي حَدِيْثِ ثَوْبَان مَرْفُوْعًا (لَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيْدُ فِي العُمُرِ إِلَّا البِرُّ) (¬4)، فَتأمَّلْ قَوْلَهُ (لَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاُء) حَيْثُ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ النَّفْي يُفِيْدُ الحَصْرَ. وَفِي الحَدِيْثِ (الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزَلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللهِ بِالدُّعَاءِ) (¬5)، فَهُوَ صَرِيْحٌ فِي دَفْعِ البَلَاءِ وَرَفْعِهِ. - فِي قَوْلِهِ (فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ؛ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا): أَيْ: لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا مَا أَفْلَحَ أَبَدًا، فَهُوَ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ حَتَّى وَلَوْ كَانَ شِرْكًا أَصْغَرًا، فَهُوَ يُعذَّبُ بِهِ - وَإِنْ كَانَ لَا يعذَّبُ تَعْذِيْبَ المُشْرِكِ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ - فَهُوَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، لَكِنْ يُعَذَّبُ بِهِ بِقَدَرِهِ (¬6)، فَفِيْهِ شَاهِدٌ لِكَلَامِ الصَّحَابَةِ: أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ. (¬7) ¬

_ (¬1) القَوْلُ السَّدِيْدُ (ص42). (¬2) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (173/ 1). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5738)، وَمُسْلِمٌ (2195). (¬4) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (4022). وَالحَدِيْثُ بِهَذَا القَدْرِ صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (154). (¬5) حَسَنٌ. الحَاكِمُ (1815) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحٌ الجَامِعِ (3409). (¬6) قَالَهُ الشَّيْخُ الفَوْزَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (191/ 1). قُلْتُ: وَفِي القَوْلِ بِعَدَمِ مَغْفِرَةِ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ - إِلَّا بِالتَّوْبَةِ - خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَلْخِيْصُ كِتَابِ الاسْتِغَاثَةِ) المَعْرُوْفِ بِاسْمِ (الرَّدُ عَلَى البَكْرِيِّ) (ص301): (وَقَدْ يُقَالُ: الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ مِنْهُ شَيْءٌ لَا أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ؛ عَلَى مُقْتَضَى عُمُوْمِ القُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ يَمُوْتُ مُسْلِمًا؛ لَكِنَّ شِرْكَهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ؛ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الجَنَّةَ). (¬7) وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:22).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) ظَهَرَ فِي الأَسْوَاقِ - فِي الآوِنَةِ الأَخِيْرَةِ - حَلْقَةٌ مِنَ المَعْدِنِ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّهَا تَنْفَعُ فِي عِلَاجِ المَرَضِ المُسَمَّى بِـ (الرُّوْمَاتِيْزِمِ)، فَمَا حُكْمُ تَعْلِيْقِهَا؟ الجَوَابُ: الأَصْلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيْحٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا دَلِيْلٌ شَرْعِيٌّ وَلَا مَادِيٌّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ لَا تُؤَثِّرُ عَلَى الجِسْمِ؛ فَلَيْسَ فِيْهَا مَادَّةٌ ذَوَّابَةٌ حَتَّى نَقُوْلَ: إِنَّ الجِسْمَ يَشْرَبُ هَذِهِ المَادَّةِ وَيَنْتَفِعُ بِهَا. فَالأَصْلُ أَنَّهَا مَمْنُوْعَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ لَنَا بِدَلِيْلٍ مَادِّيٍّ صَحِيْحٍ صَرِيْحٍ ظَاهِرٍ أَنَّ لَهَا اتِّصَالًا مُبَاشِرًا بِهَذَا (الرُّوْمَاتِيْزِم) حَتَّى يُنْتَفَعَ بِهَا، أَوْ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ أَطِبَّاءٌ مُسْلِمُوْنَ؛ مُؤْتَمَنُوْنَ فِي دِيْنِهِم؛ حَرِيْصُوْنَ عَلَى أَمْرِ شَرِيْعَتِهِم؛ حَاذِقُوْنَ فِي مِهْنَتِهِم، فَيَشْهَدُوْنَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الأَمْرِ الغَائِبِ عَنِ العِيَانِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

باب ما جاء في الرقى والتمائم

بَابُ مَا جَاءَ فِي الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ فِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبي بَشِيْرٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ؛ فَأَرْسَلَ رَسُوْلًا أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيْرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ, أَوْ قِلَادَةٌ, إِلَّا قُطعَتْ. (¬1) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. (¬2) (التَّمَائِمُ): شَيْءٌ يُعَلَّقُ عَلَى الأَوْلَادِ مِنَ العَيْنِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ المُعلَّقُ مِنَ القُرْآنِ؛ فَرَخَّصَ فِيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ، وَبَعْضُهُم لَمْ يُرَخِّصْ فِيْهِ وَيَجْعَلُهُ مِنَ المَنْهيِّ عَنْهُ؛ مِنْهُم ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَ (الرُّقَى): هِيَ الَّتِيْ تُسَمَّى العَزَائِمَ، وَخَصَّ مِنْهَا الدَّلِيْلُ مَا خَلَا مِنَ الشِّرْكِ؛ فَقَدْ رَخَّصَ فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ العَيْنِ وَالحُمَةِ. وَ (التِّوَلَة): شَيْءٌ يَصْنَعُوْنَهُ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ المَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَالرَّجُلَ إِلَى امْرَأَتِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ مَرْفُوْعًا (مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. (¬3) وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ رُوَيْفِع؛ قَالَ: قَالَ لِيْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا رُوَيْفعُ! لَعَلَّ الحَيَاةَ تَطُوْلُ بِكَ، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيْعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ). (¬4) وَعَنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ قَالَ: مَنْ قَطَعَ تَمِيْمَةً مِنْ إِنْسَانٍ، كَانَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ. رَوَاهُ وَكِيْعٌ. (¬5) وَلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُوْنَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنَ القُرْآنِ وَغَيْرِ القُرْآنِ. (¬6) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ التِّوَلَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذِهِ الثَّلِاثَةَ كُلَّهَا مِنَ الشِّرْكِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الرُّقْيَةَ بِالكَلَامِ الحَقِّ مِنَ العَيْنِ وَالحُمَةُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ. الخَامِسَةُ: أَنَّ التَّمِيْمَةَ إِذَا كَانَتْ مِنَ القُرْآنِ؛ فَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ؛ هَلْ هِيَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ السَّادِسَةُ: أَنَّ تَعْلِيْقَ الأَوْتَارِ عَلَى الدَّوَابِ مِنَ العَيْنِ مِنْ ذَلِكَ. السَّابِعَةُ: الوَعِيْدُ الشَّدِيْدُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ وَتَرًا. الثَّامِنَةُ: فَضْلُ ثَوَابِ مَنْ قَطَعَ تَمِيْمَةً مِنْ إِنْسَانٍ. التَّاسِعَةُ: أَنَّ كَلَامَ إِبْرَاهِيْمَ لَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (3005)، وَمُسْلِمٌ (2115). (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (3615)، وَأَبُو دَاوُدَ (3883). الصَّحِيْحَةُ (331). (¬3) حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. أَحْمَدُ (18786)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2072). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3456). (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (17000). صَحِيْحُ الجَامِعِ (7910). (¬5) مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (23473). (¬6) مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (36/ 5)، ورَوَاهُ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي فَضَائِلِ القُرْآنِ (704)، وَتَمَامُهُ عِنْدَهُ (حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ؛ أَخْبَرَنَا مُغِيْرَةُ؛ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ؛ قَالَ: كَانُوْا يَكْرَهُوْنَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنَ القُرْآنِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: وَسَأَلْتُ إِبْرَاهِيْمَ فَقُلْتُ: أُعَلِّقُ فِي عَضُدِيْ هَذِهِ الآيَةَ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيْمَ} (الأَنْبِيَاء:69) مِنْ حُمَّىً كَانَتْ بِيْ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ). وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ. اُنْظُرْ تَحْقِيْقَ كِتَابِ (الكَلِمُ الطَّيِّبُ) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ص85).

الشرح

الشَّرْحُ - لَمْ يَجْزِمِ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِأَنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ شِرْكٌ - كَمَا ذَكَرَ عَنِ التَّمِيْمَةِ فِي البَابِ السَّابِقِ - لِأَنَّ الرُّقَى مِنْهَا مَا هُوَ جَائِزٌ مَشْرُوْعٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ شِرْكٌ، وَالتَّمَائِمُ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلِيْهِ أَنَّهُ شِرْكٌ وَمِنْهَا مَا قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيْهِ هَلْ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ أَمْ لَا. - (الرُّقْيَةُ): بِالضَّمِّ: العُوْذَةُ. (¬1) - قَوْلُهُ (إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ): (أَلُّ) التَّعْرِيْفِ هُنَا لِلاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيْعِ الأَنْوَاعِ، وَخَصَّ الدَّلِيْلُ مِنَ الرُّقَى مَا خَلَا مِنَ الشِّرْكِ كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيْهِ شِرْكٌ). (¬2) - شُرُوْطُ الرُّقَى: أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى بِثَلَاثَةِ شُرُوْطٍ: (¬3) 1) أَنْ تَكُوْنَ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. 2) أَنْ تَكُوْنَ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. 3) أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَلْ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. - كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ إِذَا اخْلَوْلَقَ (بَليَ) الوَتَرُ أَبْدَلُوْهُ بِغَيْرِهِ وَقَلَّدُوا بِالقَدِيْمِ الدَّوَابَ اعْتِقَادًا مِنْهُم أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنِ الدَّابَّةِ العَيْنَ. (¬4) - قَوْلُهُ (فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيْءٌ مِنْهُ): هَذَا مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِيْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الفِعْلَ مِنَ الكَبَائِرِ. - النَّهْيُ عَنْ عَقْدِ اللِحْيَةِ يُفَسَّرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّهُ مِنْ زِيِّ العَجَمِ عِنْدَ الحَرْبِ لِلتَّكَبُّرِ. 2) أَنَّ مَعْنَاهُ مُعَالَجَةُ الشَّعْرِ لِيَتَعَقَّدَ وَيَتَجَعَّدَ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ التَّأْنِيْثِ. (¬5) - النَّهْيُ عَنِ الاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ وَالعِظَامِ سَبَبُهُ: 1) أَنَّهُ زَادُ الجِنِّ المُسْلِمِ. (¬6) 2) أَنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ. (¬7) - قَوْلُهُ (مَنْ قَطَعَ تَمِيْمَةً مِنْ إِنْسَانٍ؛ كَانَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ) هُوَ لِسَبَبِيْنِ: 1) أَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنْ عُبُوْدِيَّةِ غَيْرِ اللهِ. 2) أَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، لِكَوْنِ الشِّرْكِ لَا يُغْفَرُ. ¬

_ (¬1) قَالَهُ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص1289). (¬2) مُسْلِمٌ (2200) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (195/ 10). (¬4) قُلْتُ: فَمَا أَشْبَهَهُ بِتَمِيْمَةِ النَّعْلِ البَالِيْ الَّذِيْ يُوْضَعُ خَلْفَ السَّيَّارَاتِ اليَوْمَ. (¬5) قَالَهُ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ (351/ 10). (¬6) فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (450) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا (لَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ) أَيْ: الجِنِّ، كَمَا هُوَ سِيَاقُ الحَدِيْثِ. (¬7) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (152) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ بِعَظْمٍ وَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَا تُطَهِّرَان). وَقَالَ: (إِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلْ يَجُوْزُ أَنْ يُلبِسَ المُسْلِمُ أَبْنَاءَهُ مَلَابِسَ رَثَّةً وَبَالِيَةً خَوْفًا مِنَ العَيْنِ؟ الجَوَابُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا؛ وَإِنَّمَا تَرَكَ شَيْئًا - وَهُوَ التَّحْسِيْنُ وَالتَّجْمِيْلُ - وَكَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا صَغِيْرًا حَسَنَ الصُّوْرَةِ فَخَافَ عَلِيْهِ العَيْنَ؛ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: دَسِّمُوا نُوْنَتَهُ (وَهِيُ النُّقْرَةُ فِي الذَّقْنِ الَّتِيْ تَظْهَرُ عِنْدَ الضَّحِكِ). (¬1) فَهُوَ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنْ تَدْفَعَ تِلْكَ النُّقْطَةُ العَيْنَ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنْ يَظْهَرَ بِمَظْهَرٍ لَيْسَ بِحَسَنٍ؛ فَلَا تَتَعَلَّقُ النُّفُوْسُ الشِّرِّيْرَةُ بِهِ. (¬2) وَكَمَا فِي أَمْرِ يَعْقُوْبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبْنَائِهِ بِالدُّخُوْلَ مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَشْيَةُ العَيْنٍ. (¬3) ¬

_ (¬1) أَوْرَدَهُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ (166/ 12)، وَابْنُ الأَثِيْرِ فِي النِّهَايَةِ (268/ 2) رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. (¬2) أَمَّا إِذَا وَضَعَ هَذِهِ النُّقْطَةَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا تَدْفَعُ العَيْنَ فَهَذَا مِنِ اتِّخَاذِ الأَسْبابِ الشِّرْكيَّةِ الَّتِيْ لَا تَجُوْزُ. (¬3) قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (164/ 16): (القَوْلُ فِي تَأْوِيْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُوْنَ} (يُوْسُف:67): يَقُوْلُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ يَعْقُوْبُ لِبَنِيْهِ لَمَّا أَرَادُوا الخُرُوْجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مِصْرَ لِيَمْتَارُوا الطَّعَامَ: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِصْرَ مِنْ طَرِيْقٍ وَاحِدٍ، وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَذُكِرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَهُم؛ لِأَنَّهُم كَانُوا رِجَالًا لَهُم جَمَالٌ وَهَيْأَةٌ؛ فَخَافَ عَلَيْهِم العَيْنَ إِذَا دَخَلُوا جَمَاعَةً مِنْ طَرِيْقٍ وَاحِدٍ - وَهُم وَلَدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ - فَأَمَرَهُم أَنْ يَفْتَرِقُوا فِي الدُّخُوْلِ إِلَيْهَا). قُلْتُ: (المِيْرَةُ): جَلَبُ الطَّعَامِ لِلبَيْعِ وَلِلعِيَالِ.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) بَعْضُ النَّاسِ يَقُوْلُ أُعَلِّقُ شَيْئًا (كَخَرَزَةٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ كَفٍّ أَوْ حَدْوَةِ فَرَسٍ) وَلَا أَسْتَحْضِرُ هَذِهِ المَعَانِي (الشِّرْكِيَّةِ)؛ فَقَطْ أُعَلِّقُهَا لِلزِّيْنَةِ (فِي السَّيَّارَةِ أَوْ فِي البَيْتِ)، فَهَلْ هُوَ جَائِزٌ؟ وَالجَوَابُ: إِنْ عَلَّقَ التَّمَائِمَ لِلدَّفْعِ أَوِ الرَّفْعِ فَإِنَّهُ شِرْكٌ أَصْغرٌ إِنِ اعْتَقَدِ أَنَّهَا سَبَبٌ, وَإِنْ عَلَّقَهَا لِلزِّيْنَةِ فَهُوَ مُحرَّمٌ لِأَجْلِ مُشَابَهَتِهِ مَنْ يُشْرِكُ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ. وَقَدْ قَالَ عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ). (¬1) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4031) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2831).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) مَا حُكْمُ مَنْ يَضَعُ وَرَقَةً كُتِبَتْ عَلَيْهَا آيَةُ الكُرْسِيِّ فِي السِّيَّارَةِ، أَوْ يَضَعُ مُجَسَّمًا فِيْهِ أَدْعِيَةٌ؛ كَأَدْعِيَةِ رُكُوْبِ السَّيَّارَةِ أَوْ أَدْعِيَةِ السَّفَرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَدْعِيَةِ؟ الجَوَابُ: هَذَا فِيْهِ تَفْصِيْلٌ: 1) إِنْ كَانَ وَضَعَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لِيَحْفَظَهَا وَيَتَذَكَّرَ قِرَاءَتَهَا فَهَذَا جَائِزٌ، كَمَنْ يَضَعُ المُصْحَفَ فِي مُقَدِّمِ السَّيَّارَةِ أَوْ يَضَعُهُ مَعَهُ لِأَجْلِ أَنَّ يَقْرَأَ فِيْهِ إِذَا أُتِيْحَتْ فُرْصَةٌ لَهُ أَوْ لِمَنْ مَعَهُ، فَهَذَا جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ. 2) أَمَّا إِذَا وَضَعَهَا تَعَلُّقًا بِهَا لِأَجْلِ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُ الأَذَى، فَهَذَا هُوَ الكَلَامُ فِي مَسْأَلَة تَعْلِيْقِ التَّمَائِمِ مِنَ القُرْآنِ، فَلَا يَجُوْزُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيْحِ وَيَحْرُمُ. 3) إِنْ وَضَعَهَا لِأَجْلِ الزِّيْنَةِ، فَلَا يَجُوْزُ لِأَنَّ القُرْآنَ لَمْ يُجْعَلْ لِمِثْلِ هَذَا، وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬1) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ): (فَصْلٌ: لَا تَجُوْزُ كِتَابَةُ القُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ، وَتُكْرَهُ كِتَابَتُهُ عَلَى الجُدْرَانِ عِنْدَنَا). (¬2) وَقَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ): (وَيُكْرَهُ تَنْقِيْشُ الجُدُرِ وَالخَشَبِ وَالثِّيَابِ بِالقُرْآنِ وَبِذِكْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى). (¬3) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (1718). (¬2) التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ (ص190). (¬3) شَرْحُ السُّنَّةِ (529/ 4).

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) بَعْضُ الأَوَانِيْ الَّتِيْ تُبَاعُ يُكْتَبُ عَلَيْهَا آيَاتٌ مِنَ القُرْآنِ، فَهَلْ يَجُوْزُ اسْتِخْدَامُهَا أَوْ شِرَاؤُهَا؟ الجَوَابُ: 1) إِنْ كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَتَبَرَّكَ بِمَا كُتِبَ فِيْهَا مِنَ الآيَاتِ فَيَجْعَلَ فِيْهَا مَاءًا وَيَشْرَبَهُ؛ لِأَجْلِ أَنَّ المَاءَ يُلَامِسُ هَذِهِ الآيَاتِ، فَهَذَا مِنَ الرُّقْيَةِ غَيْرِ المَشْرُوْعَةِ. (¬1) 2) أَمَّا إِذَا أَخَذَهَا لِلزِّيْنَةِ أَوْ لِجَعْلِهَا فِي البَيْتِ أَوْ لِتَعْلِيْقِهَا فَهَذَا كَرِهَهُ كَثِيْرٌ مَنْ أَهْلِ العِلْمِ؛ لِأَنَّ القُرْآنَ مَا نَزَلَ لِتُزَيَّنَ بِهِ الأَوَانِيْ أَوْ تُزَيَّنَ بِهِ الحِيْطَانُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ للهِدَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإِسْرَاء:9). وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ كَلَامِ العُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ فِي المَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ. ¬

_ (¬1) وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الآيَاتُ تَنْحَلُ بِالمَاءِ، كَأَنْ تَكُوْنَ قَدْ كُتِبَتْ بِالزَّعْفَرَانِ عَلَى الإِنَاءِ - وَأَنَّ لَهَا حُكْمَ النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ -، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيْثِ (أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ - وَهُوَ مَرِيضٌ - فَقَالَ: (اكْشِفِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ) ثُمَّ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ بَطْحَانَ فَجَعَلَهُ فِي قَدَحٍ ثُمَّ نَفَثَ عَلَيْهِ بِمَاءٍ وَصَبَّهُ عَلَيْهِ). وَهُوَ حَدِيْثٌ ضَعِيْفٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (8385). الضَّعِيْفَة (1005). قُلْتُ: الاسْتِدْلَالُ لَا يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ الإِسْنَادِ، وَأَيْضًا هُوَ بَعِيْدٌ مِنْ حَيْثُ الدِّلَالَةِ عَلَى المَطْلُوْبِ، وَأَيْضًا النَّفْثُ لَهُ مَا يَشْهَدُ لَهُ فِي الجُمْلَةِ بِخِلَافِ الكِتَابَةِ. وَأَمَّا القِرَاءَةُ عَلَى المَاءِ فَلَا بَأْسَ بِهَا كَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ (أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَوَّذَ فِي المَاءِ، ثُمَّ يُصَبَّ عَلَى المَرِيْضِ). مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (23509). قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ - شَرِيْط (438): (أَثَرٌ صَحِيْحٌ).

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) هَلْ يَجُوْزُ تَعْلِيْقُ التَّمَائِمِ مِنَ القُرْآنِ؟ الجَوَابُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ - وَهُوَ قَوْلُ الجُمْهُوْرِ - وَهُوَ مَرْوُيٌّ عَنْ عَبْد اللهِ بْن عَمْرو بْنِ العَاصِ (¬1)، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ (¬2) (¬3)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ المُسِيِّبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم (¬4)، وَبِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَحَمَلُوا الحَدِيْثَ عَلَى التَّمَائِمِ الَّتِيْ فِيْهَا شِرْكٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجُوْزُ ذَلِكَ؛ وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ (¬5) وَالحَسَنُ (¬6) وَالنَّخَعِيُّ (¬7)؛ هُوَ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُم مِنَ السَّلَفِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بِنْ عَامِرٍ وَابْنِ عُكَيْمٍ (¬8)، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ مِنْهُم أَصْحَابُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا كَثِيْرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَزَمَ بِهَا المُتَأَخِّرُوْنَ، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيْثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَهُوَ الصَّحِيْحُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ: 1) عُمُوْمُ النَّهْي فِي الحَدِيْثِ، وَلَا مُخَصِّصَ لِهَذَا العُمُوْمِ. 2) سَدًّا لِلذَّرِيْعَةِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْلِيْقِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَيَكْفِي فِيْهِ ذَمًّا أَنَّهُ يُبْطِلُ النَّهْيَ عَنْ تَعْلِيْقِ جُمْلَةِ التَّمَائِمِ الشِّرْكِيَّةِ بِحُجَّةِ أَنَّهَا قَدْ تَكُوْنُ مِنَ القُرْآنِ! (¬9) 3) أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَخْفَ عَلِيْهِ خَيْرُهُ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ أَيْسَرُ وَأَدْوَمُ أَثَرًا مِنَ القِرَاءَةِ عَلَى المَرِيْضِ، وَأَهْوَنُ مِنْ تَكْرَارِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالأَدْعِيَةِ! (¬10) 4) أَنَّ الاسْتِشْفَاءَ بِالقُرْآنِ وَرَدَ عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ - وَهِيَ القِرَاءَةُ بِهِ عَلَى المَرِيْضِ - فَلَا تُتَجَاوَزُ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الدَّلِيْلُ، وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). (¬11) 5) أنَّهُ يُفْضِي إِلَى امْتِهَانِ المُصْحَفِ وَوُصُوْلِ النَّجَاسَاتِ إِلَيْهِ. (¬12) 6) أَنَّ وَاقِعَ التَّمِيْمَةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُدْرِكُهُ البَصَرُ عَلَى شَيْءٍ مُغَلَّفٍ مِنْ جُلُوْدٍ وَرِقَاعٍ وَنَحْوِهِمَا لَا مَا كُتِبَ فِيْهَا، وَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا تَمِيْمَةً مِنَ القُرْآنِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ لِلعَيَانِ فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا. (¬13) ¬

_ (¬1) فِي التِّرْمِذِيِّ (3528) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا فَزِعَ أحَدُكُم فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِيْنِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ). وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو يُلَقِّنُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُم كَتَبَها فِي صَكٍ ثُمَّ عَلَّقَها فِي عُنُقِهِ. حَسَّنَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ دُوْنَ زِيَادَةِ (فَكَانَ ابْنُ عَمْرو ...). اُنْظُرِ الصَّحِيْحَةَ (246). (¬2) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (لَيْسَ التَّمِيْمَةُ مَا تُعُلِّقَ بِهِ بَعْدَ البَلَاءِ، إِنَّمَا التَّمِيْمَةُ مَا تُعُلِّقَ بِهِ قَبْلَ البَلَاءِ). رَوَاهُ الحَاكِمُ (7507)، وَقَالَ: صَحِيْح الإِسْنَادِ. وَهُوَ صَحِيْحٌ مَوْقُوْفٌ، كَمَا فِي صَحِيْحِ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3458). وَعِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (19606) بِلَفْظ (إِنَّمَا التَّمِيْمَةُ مَا يُعَلَّقُ بَعْدَ البَلَاءِ لِيُدْفَعَ بِهِ المَقَادِيْرُ). قُلْتُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أَنَّ التَّعْلِيْقَ يَجُوْزُ بَعْدَ البَلَاءِ مِنْ بَابِ التَّبَرُّكِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَهُوَ تَمِيْمَةٌ لِرَدِّ العَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي النَّهْي لِمَنْ يَسْتَدِلُ بِالأَثَرِ مُطْلَقًا، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَفِي الاسْتِذْكَارِ (397/ 8) لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ مَالِكٌ: (لَا بَأْسَ بِتَعْلِيْقِ الكُتُبِ الَّتِيْ فِيْهَا أَسْمَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَعْنَاقِ المَرْضَى عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ بِهَا إِذَا لَمْ يُرِدْ مُعَلِّقُها بِتَعْلِيْقِهَا مُدَافَعَةَ العَيْنِ)، وَهَذَا مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ العَيْنِ، وَلَوْ نَزَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ العَيْنِ جَازَ الرُّقِيُ عِنْدَ مَالِكٍ وَتَعْلِيْقِ الكُتُبِ). قُلْتُ: وَكَذَا أَيْضًا تَعْلِيْقُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو لِلصَّكِّ الذَيْ فِيْهِ ذِكْرُ الفَزَعِ فِي النَّوْمِ - عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ - فِي عُنُقِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ وَلَدِهِ - دُوْنَ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَلَقَّنَهَا مِنْ وَلَدِهِ -، فَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ لِغَايَةِ الحِفْظِ وَلَيْسَ بِغَرَضِ التَّعْلِيْقِ كَهَيْئَةِ التَّمِيْمَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬3) فَائِدَةٌ: قَالَ الَحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النُّكَتُ عَلَى كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ) (ص533): (تَنْبِيْهٌ: إِذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ؛ فَشَرَحَهُ الصَّحَابِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَوَاءً كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَوْ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ؛ هَلْ يَكُوْنُ ذَلِكَ مَرْفُوْعًا أَمْ لَا؟ ذَهَبَ الحَاكِمُ إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوْعٌ، فَقَالَ عَقِبَ حَدِيْثٍ أَوْرَدَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي تَفْسِيْرِ التَّمِيْمَةِ: (هَذَا لَيْسَ بِمَوْقُوْفٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَ التَّمِيْمَةَ فِي أَحَادِيْثَ كَثِيْرَةٍ، فَإِذَا فَسَّرَتْهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ حَدِيْثًا مُسْنَدًا). وَالتَّحْقِيْقُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ بِكَوْنِ جَمِيْعِ ذَلِكَ يُحْكَمُ بِرَفْعِهِ؛ بَلِ الاحْتِمَالُ فِيْهِ وَاقِعٌ، فَيُحْكَمُ بِرَفْعِ مَا قَامَتِ القَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى رَفْعِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَاللهُ أَعْلَمُ). وَقَالَ مُحَقِّقُ الكِتَابِ الشَّيْخُ الفَاضِلُ رَبِيْعُ بْنُ هَادِي حَفِظَهُ اللهُ - تَعْلِيْقًا عَلَى كَلَامِ الحَاكِمِ -: (وَلَكِنَّ تَفْسِيْرَ ابْنِ مَسْعُوْدٍ يُعَارِضُ تَفْسِيْرَ عَائِشَةَ، فَإِنَّ الحَاكِمَ رَوَى مِنْ طَرِيْقِ عَمْرو بْنِ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ الأَسَدِيِّ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللهُ بْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى امْرَأَةٍ فَرَأَى عَلَيْهَا حِرْزًا مِنَ الحُمْرَةِ؛ فَقَطَعَهُ قَطْعًا عَنِيْفًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللهِ عَنِ الشِّرْكِ أَغْنِيَاءٌ، وَقَالَ: كَانَ مِمَّا حَفِظْنَا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ مِنَ الشِّرْكِ)، ثُمَّ قَالَ الحَاكِمُ: (هَذَا صَحِيْحٌ وَلَم يُخَرِّجَاهُ) وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ (المُسْتَدْرَكُ:4/ 217). فَنَرَى ابْنَ مَسْعُوْدٍ يُنْكِرُ التَّعَلُّقَ بَعْدَ نُزُوْلِ البَلَاءِ، لِأَنَّهُ يَرَى شُمُوْلَ الحَدِيْثِ لِلحَالَيْنِ قَبْلَ البَلَاءِ وَبَعْدَهُ). قُلْتُ: وَكَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُكَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ أَنْكَرَ التَّعْلِيْقَ بَعْدَ البَلَاءِ، وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى حَدِيْثَ النَّهْي عَنِ التَّعَلُّقِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (2072) - بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّعْلِيْقِ: عَنْ عِيْسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ أَبِي لَيْلَى؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ؛ أَبِي مَعْبَدِ الجُهَنِيِّ أَعُودُهُ - وَبِهِ حُمْرَةٌ -، فَقُلْنَا: أَلَا تُعَلِّقُ شَيْئًا؟ قَالَ: المَوْتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ). حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3456). (¬4) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَجْمُوْعُ) (67/ 9): (وَرَوَى البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ عَنْ سَعِيْدِ بْنِ المُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِتَعْلِيْقِ القُرْآنِ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ). (¬5) قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الآدَابُ الشَّرْعِيَّةِ) (81/ 3): (رَوَى وَكِيْعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: اُتْفُلْ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ وَلَا تُعلِّقْ). (¬6) رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ - فِي كِتَابِهِ (فَضَائِلُ القُرْآنِ) (ص382) عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُغْسَلَ القُرْآنُ وَيُسْقَاهُ المَرِيْضُ، أَوْ يُعلَّقَ القُرْآنُ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ. اُنْظُرْ تَحْقِيْقَ كِتَابِ (الكَلِمُ الطَّيِّبُ) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ص85). (¬7) مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (36/ 5)، ورَوَاهُ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي فَضَائِلِ القُرْآنِ (704)، وَتَمَامُهُ عِنْدَهُ (حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مُغِيْرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ؛ قَالَ: كَانُوْا يَكْرَهُوْنَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنَ القُرْآنِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: وَسَأَلْتُ إِبْرَاهِيْمَ فَقُلْتُ: أُعَلِّقُ فِي عَضُدِيْ هَذِهِ الآيَةَ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيْمَ} (الأَنْبِيَاء:69) مِنْ حُمَّىً كَانَتْ بِيْ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ). وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ. اُنْظُرْ تَحْقِيْقَ كِتَابِ (الكَلِمُ الطَّيِّبُ) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ص85). (¬8) سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (2072) - بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّعْلِيْقِ -: فِي الحَدِيْثِ عَنْ عِيْسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ أَبِي لَيْلَى؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ؛ أَبِي مَعْبَدِ الجُهَنِيِّ أَعُودُهُ - وَبِهِ حُمْرَةٌ -، فَقُلْنَا: أَلَا تُعَلِّقُ شَيْئًا؟ قَالَ: المَوْتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ). حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3456). (¬9) وَهِيَ مُغ

باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

بَابُ مَنْ تَبَرَّكَ بِشَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِمَا وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النَّجْم:22). وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ؛ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ - وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ -، وَللِمُشْرِكِيْنَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُوْنَ عِنْدَهَا وَيَنُوْطُوْنَ بِهَا أَسْلِحَتَهُم، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُوْلَ اللهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ! قُلْتُم - وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ - كَمَا قَالَتْ بَنو إِسْرَائِيْلَ لِمُوْسَى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأَعْرَاف:138)، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ النَّجْمِ. الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ صُوْرَةِ الأَمْرِ الَّذِيْ طَلَبُوا. الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا. الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ قَصَدُوا التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ بِذَلِكَ; لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُحِبُّهُ. الخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ إِذَا جَهِلُوا هَذَا; فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى بِالجَهْلِ. السَّادِسَةُ: أَنَّ لَهُمْ مِنَ الحَسَنَاتِ وَالوَعْدِ بِالمَغْفِرَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ. السَّابِعَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْذِرْهُمْ بَلْ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (اَللَّهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ! لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)؛ فَغَلَّظَ الأَمْرَ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ. الثَّامِنَةُ: الأَمْرُ الكَبِيْرُ - وَهُوَ المَقْصُوْدُ - أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ طَلَبَهُمْ كَطَلَب بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَالُوا لِمُوْسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}. التَّاسِعَةُ: أَنَّ نَفْيَ هَذَا مِنْ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) مَعَ دِقَّتِهِ وَخَفَائِهِ عَلَى أُولَئِكَ. العَاشِرَةُ: أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الفُتْيَا، وَهُوَ لَا يَحْلِفُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الشِّرْكَ فِيْهِ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَدُّوا بِهَذَا. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُمْ (وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ) ; فِيْهِ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَجْهَلُ ذَلِكَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: التَّكْبِيرُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ - خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهُ -. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: سَدُّ الذَّرَائِعِ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: النَّهْيُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الغَضَبُ عِنْدَ التَّعْلِيمِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: القَاعِدَةُ الكُلِّيَّةُ لِقَوْلِهِ (إِنَّهَا السُّنَنُ). اَلثَّامِنَةِ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِكَوْنِهِ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَمَّ اللهُ بِهِ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى فِي القُرْآنِ; أَنَّهُ لَنَا. العِشْرُوْنَ: أَنَّهُ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ أَنَّ العِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى الأَمْرِ، فَصَارَ فِيْهِ التَّنْبِيْهُ عَلَى مَسَائِلِ القَبْرِ أَمَّا (مَنْ رَبُّكَ?) فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا (مَنْ نَبِيِّكَ?) ; فَمِنْ إِخْبَارِهِ بِأَنْبَاءِ الغَيْبِ، وَأَمَّا (مَا دِينُكَ) فَمِنْ قَوْلِهِمْ (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا الخَ) إِلَى آخِرِهِ. الحَادِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: أَنَّ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ مَذْمُومَةٌ كَسُنَّةِ المُشْرِكِيْنَ. الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: أَنَّ المُنْتَقِلَ مِنَ البَاطِلِ الَّذِيْ اعْتَادَهُ قَلْبُهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُوْنَ فِي قَلْبِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ تِلْكَ العَادَةِ; لِقَوْلِهِ (وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ). ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (21900)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2180). ظِلَالُ الجَنَّةِ (76).

الشرح

الشَّرْحُ - التَّبَرُّكُ: طَلَبُ البَرَكَةِ. وَأَصْلُ البَرَكَةِ: الزِّيَاَدُةُ وَالنَّمَاءُ. (¬1) - التَّبَرُّكُ لُغَةً مُشْتَقٌّ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: 1) مِنْ بُرُوْكِ البَعِيْرِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُلَازَمَتِهِ وَثُبُوْتِهِ فِي ذَلِكَ المَكَانِ. 2) مِنَ البِرْكَةِ (مَجْمَعِ المَاءِ): وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ المَاءِ فِي هَذَا المَوْضِعِ وَعَلَى لُزُوْمِهِ لَهُ وَزِيَادَتِهِ. - حُكْمُ التَّبَرُّكِ غَيْرِ المَشْرُوْعِ: 1) شِرْكٌ أَكْبَرٌ: وَيَشْمَلُ حَالَتَيْنِ: 1 - 1) إِذَا اعْتَقَدَ فِي المُتَبَرَّكِ بِهِ الاسْتِقْلَالَ فِي النَّفْعِ أَوِ الضَّرِّ، وَهَذَا شِرْكٌ مِنْ جِهَةِ الرُّبُوْبِيَّةِ. 2 - 1) إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ وَسِيْلَةٌ إِلَى اللهِ مِنِ بَابِ اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ وَالشُّفَعَاءِ، فَهَذَا شِرْكٌ مِنْ جِهَةِ الأُلُوْهِيَّةِ. (¬2) 2) شِرْكٌ أَصْغَرٌ: إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِحُصُوْلِ البَرَكَةِ (¬3) حَيْثُ لَمْ يَرِدْ كَوْنُهُ سَبَبًا. ¬

_ (¬1) قَالَهُ أَبُو مَنْصُوْرٍ الأَزْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ (تَهْذِيْبُ اللُّغَةِ) (131/ 10). (¬2) وَهَذَا هُوَ الَّذِيْ كَانَ يزعُمُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ فِي الأَحْجَارِ وَالأَشْجَارِ الَّتِيْ يَعْبُدُوْنَهَا، وَأَيْضًا بِالقُبُوْرِ الَّتِيْ يَتَبَرَّكُوْنَ بِهَا، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ {وَالَّذِيْنَ اتَّخَذُوا مِنْ دُوْنِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} (الزُّمَر:3). (¬3) وَفِيْهِ مُشَابَهَةٌ لِلمُشْرِكِيْنَ فِي أَفْعَالِهِم، وَهُوَ أَيْضًا ذَرِيْعَةٌ لِلاعْتِقَادِ فِيْهَا مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى.

- فِي تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى، أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى، ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى، أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الآَخِرَةُ وَالأُوْلَى} (النَّجْم:25). قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): ({لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُوْرِ الَّتِيْ رَآهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الهُدَى وَدِيْنِ الحَقِّ، وَالأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَتَوْحِيْدِهِ، ذَكَرَ بُطْلَانَ مَا عَلَيْهِ المُشْرِكُوْنَ مِنْ عِبَادَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَوْصَافِ الكَمَالِ شَيْءٌ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ فَارِغَةٌ عَنِ المَعْنَى، سَمَّاهَا المُشْرِكُوْنَ هُمْ وَآبَاؤُهُم الجُهَّالُ الضُّلَالُ، ابْتَدَعُوا لَهَا مِنَ الأَسْمَاءِ البَاطِلَةِ الَّتِيْ لَا تَسْتَحِقُّهَا، فَخَدَعُوا بِهَا أَنْفُسَهُم وَغَيْرَهُم مِنَ الضُّلَّالِ، فَالآلِهَةُ الَّتِيْ بِهَذِهِ الحَالِ؛ لَا تَسْتَحِقُّ مِثْقَالَ ذَرَةٍ مِنَ العِبَادَةِ، وَهَذِهِ الأَنْدَادُ الَّتِيْ سَمَّوهَا بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ؛ زَعَمُوا أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَوْصَافٍ هِيَ مُتَّصِفَةٌ بِهَا، فَسَمَّوا (اللَاتَ) مِنَ (الإِلَهِ) المُسْتَحِقِّ لِلعِبَادَةِ، وَ (العُزَّى) مِنَ (العَزِيْزِ) وَ (مَنَاةَ) مِنَ (المَنَّانِ) إِلْحَادًا فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَتَجَرِّيًا عَلَى الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذِهِ أَسْمَاءٌ مُتَجَرِّدَةٌ عَنِ المَعَانِي، فَكُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ؛ يَعْلَمُ بُطْلَانَ هَذِهِ الأَوْصَافِ فِيْهَا. (¬2) {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى} أَيْ: أَتَجْعَلُوْنَ للهِ البَنَاتِ بِزَعْمِكُم، وَلَكُمُ البَنُوْنَ؟ {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى} أَيْ: ظَالِمَةٌ جَائِرَةٌ. (¬3) وَقَوْلُهُ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ: مِنْ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِكُم (¬4)، وَكُلُّ أَمْرٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ فَاسِدٌ، لَا يُتَّخَذُ دِيْنًا، وَهُمْ - فِي أَنْفُسِهِم - لَيْسُوا مُتَّبِعِيْنَ بُرْهَانًا يَتَيَقَّنُوْنَ بِهِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا دَلَّهُم عَلَى قَوْلِهِم الظَّنُّ الفَاسِدُ وَمَا تَهْوَاهُ أنْفُسُهُم مِنَ الشِّرْكِ وَالبِدَعِ المُوَافِقَةِ لِأَهْوِيَتِهِم. (¬5) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى} أَيْ: الَّذِيْ يُرْشِدُهُم فِي بَابِ التَّوْحِيْدِ وَالنُّبُوَّةِ وَجَمِيْعِ المَطَالِبِ الَّتِيْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا العِبَادُ، فَكُلُّهَا قَدْ بيَّنَهَا اللهُ أَكْمَلَ بَيَانٍ وَأَوْضَحَهُ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ مِنَ الأَدِلَّةِ وَالبَرَاهِيْنَ مَا يُوْجِبُ لَهُم وَلِغَيْرِهِم اتِّبَاعَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ مِنْ بَعْدِ البَيَانِ وَالبُرْهَانِ، وَإِذَا كَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ غَايَتُهُ اتِّبَاعُ الظَّنِّ، وَنِهَايَتُهُ الشَّقَاءُ الأَبَدِيُّ وَالعَذَابُ السَّرْمَدِيُّ، فَالبَقَاءُ عَلَى هَذِهِ الحَالِ مِنْ أَسْفَهِ السَّفَهِ وأَظْلَمِ الظُّلْمِ، وَمَعْ ذَلِكَ يَتَمَنَّوْنَ الأَمَانِيَ، وَيَغْتَرُّوْنَ بِأَنْفُسِهِم، وَلِهَذَا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَا تَمَنَّى، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ! فقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى} فَيُعْطِي مِنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، فَلَيْسَ الأَمْرُ تَابِعًا لِأَمَانِيِّهِم، وَلَا مُوَافِقًا لِأَهْوَائِهِم). ¬

_ (¬1) (ص818). (¬2) مَعْنَى الآيَةِ كَمَا قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيرِ (102/ 17): (أَيْ: أَفَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الآلِهَةَ، هَلْ نَفَعَتْ أَوْ ضَرَّتْ حَتَّى تَكُوْنَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ). (¬3) قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (409/ 7): (قَالَ الكَلْبِيُّ - مِنْ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ -: كَانَ المُشْرِكُوْنَ بِمَكَّةَ يَقُوْلُوْنَ: الأَصْنَامُ وَالمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُم إِذَا بُشِّرَ بِالأُنْثَى كَرِهَ ذَلِكَ). (¬4) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (467/ 13): (وَالآلِهَةُ الأَصْنَامُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِم أَنَّ العِبَادَةَ تَحُقُّ لَهَا, وَأَسْمَاؤُهُم تَتْبَعُ اعْتِقَادَاتِهِم لَا مَا عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيرِ (458/ 7) - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} -: (أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ إِلَّا حُسْنَ ظَنِّهِمْ بِآبَائِهِمُ الَّذِيْنَ سَلَكُوا هَذَا المَسْلَكَ البَاطِلَ قَبْلَهُمْ؛ وَإِلَّا حَظَّ نُفُوسِهِمْ فِي رِيَاسَتِهِمْ وَتَعْظِيمِ آبَائِهِمُ الأَقْدَمِينَ).

- اللَاتُ (¬1): كَانَتْ صَخْرَةً بَيْضَاءَ مَنْقُوْشَةً، عَلَيْهَا بَيْتٌ وَأَسْتَارٌ (¬2) وَسَدَنَةٌ وَحَوْلَهُ فِنَاءٌ مُعظَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَهُمْ ثَقِيْفٌ وَمَنْ تَبِعَهَا، بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا المُغِيْرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَهَدَمَهَا وَحَرَّقَها بِالنَّارِ. وَالعُزَّى (¬3): كَانَتْ شَجَرَةً عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَأَسْتَارٌ بِنَخْلَةَ (مَكَانٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ) كَانَتْ قُرَيْشُ يُعَظِّمُونَها، وَلَمَّا فَتَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيْدِ إِلَيْهَا فَهَدَمَهَا. وَأَمَّا مَنَاةُ (¬4): فَصَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَالأَوْسُ وَالخَزْرَجُ يُعَظِّمُونَهَا وَيُهِلُّوْنَ مِنْهَا لِلحَجِّ، بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَهَدَمَهَا عَامَ الفَتْحِ. (¬5) وَسُمِّيَتْ بِـ (مَنَاة) لِكَثْرَةِ مَا يُمْنَى (يُرَاقُ) عَلَيْهَا مِنَ الدِّمَاءِ. - وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ اللَاتَ صَخْرَةٌ، وَمَنَاةَ صَخْرَةٌ، وَالعُزَّى شَجَرَةٌ؛ وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ المُشْرِكُوْنَ عِنْدَ هَذِهِ الثَّلَاثِ هُوَ عَيْنُ مَا يَفْعَلُهُ المُشْرِكُوْنَ فِي هَذِهِ الأَزْمِنَةِ المُتَأخِّرَةِ عِنْدَ الأَشْجَارِ وَالأَحْجَارِ وَالغِيْرَانِ (جَمْعُ غَارٍ) وَالقُبُوْرِ. - فِي حَدِيْثِ أَبِي واقدٍ اللَّيْثِيِّ (¬6) بَيَانُ ثَلَاثَةِ أُمُوْرٍ هِيَ مِنْ أَفْعَالِ المُشْرِكِيْنَ: 1) أَنَّهُم كَانُوا يُعَظِّمُوْنَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. 2) أَنَّهُم كَانُوا يَعْكُفُوْنَ عِنْدَهَا. وَالعُكُوْفُ: هُوَ مُلَازَمَةُ الشَّيْءِ. 3) أَنَّهُم كَانُوا يَنُوْطُوْنَ بِهَا الأَسْلِحَةَ رَجَاءَ حُلُوْلِ البَرَكَةِ فِي السِّلَاحِ، حَتَّى يَكُوْنَ أَمْضَى، وَحَتَّى يَكُوْنَ خَيْرُهُ لِحَامِلِهِ أَكْثَرَ. (¬7) ¬

_ (¬1) هَذِهِ الأَوْثَانُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ لِأَهْلِ الحِجَازِ، وَلِهَذَا نُصَّ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا، وَإِلَّا فَفِي الحِجَازِ أَوْثَانٌ غَيْرُهَا كَثِيْرَةٌ، وَلَكِنَّ الفِتْنَةَ بِهَذِهِ أَشَدُّ. وَهَذِهِ الصَّخْرَةُ تَرْمُزُ لِرَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ يَجْلِسُ عِنْدَهَا. قَالَ القُرْطُبُيُّ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيرِ (100/ 17): (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كَانَ (اللَاتُ) يَبِيعُ السَّوِيْقَ وَالسَّمْنَ عِنْدَ صَخْرَةٍ وَيَصُبُّهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَبَدَتْ ثَقِيْفُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ إِعْظَامًا لِصَاحِبِ السَّوِيْقِ). (¬2) إِنَّ وُجُوْدَ البَيْتَ وَالأَسْتَارَ عَلَى الصَّنَمِ هُوَ لِتُضَاهَى بِهِ الكَعْبَةُ؛ فَيُعْتَكَفُ عِنْدَهَا وَيُطَافُ بِهَا؛ كَالكَعْبَةِ اليَمَانِيَّةِ عَلَى صَنَمِ دَوْسٍ (ذِي الخَلَصَةِ). (¬3) (العُزَّى): لُغَةً؛ مُؤَنَّثُ أَعَزّ. وَقَدْ جَعَلَ المُشْرِكُوْنَ الإِنَاثَ للهِ؛ كَالمَلَائِكَةِ وَاللَاتِ وَالعُزَّى وَمَنَاة. (¬4) وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُم اشْتَقُّوا اللَاتَ مِنَ الإِلَهِ، وَالعُزَّى مِنَ العَزِيْزِ، وَمَنَاةَ مِنَ المَنَّانِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ في (بَابِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} - بَابِ 40 -). (¬5) قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيرِ (456/ 7) بِاخْتِصَارٍ. (¬6) هُوَ الحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ؛ صَحَابِيٌّ مَشْهُوْرٌ، أَسْلَمَ قَبْلَ الفَتْحِ، وَقِيْلَ هُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الفَتْحِ، (ت 68 هـ). (¬7) وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الكَبِيْرِ (244/ 3) بِلَفْظٍ آخَرَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - وَقَدْ كَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ العَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيْمَةٌ يُقَالُ لَهَا: ذَاتَ أَنْوَاطٍ، يَأْتُوْنَهَا كُلَّ عَامٍ، فَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، وَيُرِيْحُونَ تَحْتَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيْرُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيْمَةً، فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوْسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأَعْرَاف:138)، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)).

- قَوْلُهُم (اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ): إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَتَبَرَّكُوا بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ لَا أَنْ يَعْبُدُوْها - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُم تَرَكُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ وَأَسْلَمُوا - فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مَمْنُوْعٌ، وَأَنَّهُ كُفْرٌ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ (وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ). - قَوْلُهُ (اللهُ أَكْبَرُ) (¬1): فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الكَلَامِ فِيْهِ تَنَقُّصٌ للهِ تَعَالَى، وَهُوَ جَعْلُ نِدٍّ مَعَهُ. - قَوْلُهُ (كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيْلَ لِمُوْسَى): فِيْهِ تَشْبِيْهُ القَوْلِ بِالقَوْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِرْكٌ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}: فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ الجَهْلَ سَبَبٌ لِلشِّرْكِ، وَفِيْهِ أَهَمِيِّةُ تَعَلُّمِ التَّوْحِيْدِ وَضَرُوْرَةُ تَعْلِيْمِهِ. هَذَا وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ حَدِيْثًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ التَّوْحِيْدَ إِلَّا مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ يَقُوْلُهَا بِلِسَانِهِ. وَاللهُ المُسْتَعَانُ. - فِي الحَدِيْثِ بَيَانُ أَدَبِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أَنَّهُم سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَفْعَلُوا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ العِبَادَاتِ تَوْقِيْفِيَّةٌ. - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ (بِشَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ): يَدْخُلُ فِيْهِ الحَجَرُ الأَسْوَدُ فَلَا يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُتعبَّدُ اللهُ تَعَالَى بِمَسْحِهِ وَتَقْبِيْلِهِ - اتِّبَاعًا لِلرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ بَرَكَةُ الثَّوَابِ. وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ؛ قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلرُّكْنِ اليَمَانِيِّ: (أَمَا وَاللهِ إِنِّيْ لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَللرَّمَلِ؟ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِيْنَ - وَقَدْ أهلَكَهُمُ اللهُ -، ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ). (¬2) (¬3) - إِنَّ سَبَبَ انْتِشَارِ المُخَالَفَاتِ الشِّرْكيَّةِ بِالتَّبَرُّكِ بِالصَّالِحِيْنَ وَالآثَارِ هُوَ نَتِيْجَةُ صُعُوْبَةِ التَّكَالِيْفِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى أُوْلَئِكَ المُتَبَرِّكِيْنَ، فَأَرَادُوا غُفْرَانَ الذُّنُوْبِ وَزِيَادَةَ الحَسَنَاتِ بِأَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَعَمَدُوا إِلَى التَّبَرُّكِ المُبْتَدَعِ بِالآثَارِ المَكَانِيَّةِ وَآثَارِ الصَّالِحِيْنَ. ¬

_ (¬1) وَهُوَ لَفْظُ أَحْمَدَ (21900) فِي المُسْنَدِ، وَفِي لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ (2180) (سُبْحَانَ اللهُ). (¬2) البُخَارِيُّ (1605). (¬3) قُلْتُ: وَفِي البُخَارِيِّ (1597) أَيْضًا قَوْلُهُ ذَلِكَ عَنِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ، وَفِيْهِ (وَلَوْلَا أَنِّيْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) مَا الجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رَدًّا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ السَّابِقِ عَنِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ - وَفِيْهِ: (قَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ قَبَّلَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بَلَى يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْن، إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ). رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ؟ (¬1) وَالجَوَابُ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَصَرَيْنِ: 1 - أَنَّ الحَدِيْثَ ضَعِيْفٌ لَا تَقُوْمُ بِهِ حُجَّةٌ. (¬2) 2 - أَنَّ مَعْنَاهُ مَحْمُوْلٌ عَلَى أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ حَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ، وَأَنَّ الحَجَرَ شَاهِدٌ لِمَنْ تَابَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِلَامِهِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي سِيَاقِ نَفْسِ اللَّفْظِ الضَّعِيْفِ، وَيُغْنِي عَنْهُ مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَجَرِ: (لَيَأْتِيَنَّ هذَا الحَجَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ). (¬3) ¬

_ (¬1) الحَاكِمُ (1682)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (3749). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (462/ 3): (فِي إِسْنَادِهِ أَبُو هَارُوْنَ العَبْدِيُّ؛ وَهُوَ ضَعِيْفٌ جِدًّا). (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (961). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1144).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا حُكْمُ التَّبَرُّكِ بِالصَّالِحِيْنَ وَبِمَاءِ زَمْزَمَ وَالتَّعَلُّقِ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ؟ 1) أَمَّا التَّبَرُّكُ بِالصَّالِحِيْنَ فَقِسْمَانِ: أ) تَبَرُّكٌ بِذَوَاتِهِم؛ بِعَرَقِهِم؛ بِسُؤْرِهِم؛ بِشَعْرِهِم؛ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا لَا يَجُوْزُ وَهُوَ مِنَ البِدَعِ المُحْدَثَة. وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ عَمْلُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - وَهُم سَادَةُ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ - (¬1)، فَهَذَا التَّبَرُّكُ بِالذَّوَاتِ خَاصٌّ بِالأَنْبِيَاءِ فَقَط. (¬2) ب) تَبرُّكٌ بِعِلْمِهِم وَعَمَلِهِم: وَهُوَ الاقْتِدَاءُ بِالصَّالِحِيْنَ فِي صَلَاحِهِم، وَالاسْتِفَادَةُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ فِي عِلْمِهِم وَهَدْيهِم وَسِيْرَتِهِم. 2) أَمَّا التَّبَرُّكُ بِمَاءِ زَمْزَمَ فَهُوَ عَلَى قَاعِدَةِ: (أَنَّ التَّبَرُّكَ يَجْرِي كَمَا وَرَدَ) أَيْ: أَنَّ التَّبَرُّكَ تَوْقِيْفِيُّ الكَيْفِيَّةِ، فَإِنَّ التَّبَرُّكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ جَاءَ بِهَيْئَةِ الشُّرْبِ وَالصَّبِّ؛ فَمَنْ تَبَرَّكَ بِهِ بِأَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ بِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ. (¬3) (¬4) 3) أَمَّا التَّعَلُّقَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ رَجَاءَ البَرَكَة؛ فَلَهُ حَالَانِ: أ) شِرْكٌ أَصْغَرٌ: إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّكَ سَبَبٌ لِلخَيْرِ أَوِ الشِّفَاءِ مِنَ الله تَعَالَى، وَقَدْ عُلِمَ أنَّ الشَّرِيْعَةَ لَمْ تُرْشِدْ لِهَذَا النَّوعِ مِنَ الأَسْبَابِ. ب) شِرْكٌ أَكْبَرٌ: إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الكَعْبَةَ تَرْفَعُ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ، أَوْ أَنَّ الكَعْبَةَ لَهَا شَفَاعَةٌ عِنْدَ اللهِ فَتُقْضَى حَاجَتُهُ بِهَا. ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ) (482/ 1): (إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَنَا فِي ذَلِكَ أَصْلٌ مَقْطُوْعٌ بِهِ فِي مَتْنِهِ، مُشْكِلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَلْفِهِ، إِذْ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ فِي الأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ كَانَ خَلِيْفَتُهُ، وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ شِيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ كَانَ أَفْضَلَ الأُمَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ سَائِرَ الصَّحَابَةِ - الَّذِيْنَ لَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنْهُم فِي الأُمَّةِ - ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُم مِنْ طَرِيْقٍ صَحِيْحٍ مَعْرُوْفٍ أَنَّ مُتَبَرِّكًا تَبَرَّكَ بِهِم عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الوُجُوْهِ أَوْ نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيْهِم عَلَى الاقْتِدَاءِ بِالأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ وَالسِّيَرِ الَّتِيْ اتَّبَعُوا فِيْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ إِذًا إِجْمَاعٌ مِنْهُم عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الأَشْيَاءِ). قُلْتُ: وَكَذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ التَّبَرُّكَ مَعَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ وَلَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْنَ، فَالبَرَكَةُ الذَّاتيَّةُ لَا تَنْتَقِلُ بِالنُّطْفَةِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الرَّافِضَةِ وَمُقَلِّدِيْهِم، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيْمَ وَابْنِهِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ} (الصَّافَّات:113) فَفِي ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ، رَغُمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَارَكَ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص706): (اقْتَضَى ذَلِكَ البَرَكَةَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ البَرَكةِ أَنْ تَكُوْنَ الذُّريَّةُ كُلُّهُم مُحْسِنِيْنَ، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُم مُحْسِنًا وَظَالِمًا، وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬2) وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْشِدُ إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ هَذَا التَّبَرُّكِ، كَمَا فِي حَدِيْثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نَزَلَ بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْيَافٌ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَدَعَا النَّبِيُّ بِوَضُوْئِهِ، فَتَوَضَّأَ، فَبَادَرُوا إِلَى وُضُوْئِهِ فَشَرِبُوا مَا أَدْرَكُوْهُ مِنْهُ، وَمَا انْصَبَّ مِنْهُ فِي الأَرْضِ فَمَسَحُوا بِهِ وُجُوْهَهُم وَرُؤُوْسَهُم وَصُدُوْرَهُم، فَقَالَ لَهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا دَعَاكُم إِلَى ذَلِكَ؟) قَالُوا: حُبًّا لَكَ، لَعَلَّ اللهَ يُحِبُّنَا يَا رَسُوْلَ اللهِ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ أَنْ يُحِبَّكُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ فَحَافِظُوا عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: صِدْقِ الحَدِيْثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَحُسْنِ الجِوَارِ). رَوَاهُ الخِلَعِيُّ فِي الفَوَائِدِ. الصَّحِيْحَةُ (2998). (¬3) قُلْتُ: وَمِثْلُهُ بَرَكَةُ المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ هِيَ بِالصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ بِالتَّمَسُّحِ. (¬4) وَلَا يَصِحُّ الاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا غَسَلَ قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا لَنَا؛ فَلَمْ يُرْشِدْ إِلَيْهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدِيْثُ جِبْرِيْلَ هَذَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7517)، وَمُسْلِمٌ (164).

الملحق الثاني على كتاب التوحيد) قواعد ومسائل في التبرك والبركة

المُلْحَقُ الثَّانِي عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ والبَرَكَةُ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ مَسَائِلُ مُوْجَزَةٌ فِي مَوْضُوْعِ التَّبَرُّكِ؛ اقْتَطَفْتُهَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ العِلْمِ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى، أَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُوْنَ مُفِيْدَةً فِي بَابِهَا. (¬1) - قَوَاعِدُ فِي التَّبَرُّكِ: 1) الخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدِ اللهِ تَعَالَى؛ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عِمْرَان:26). (¬2) وَفِي البُخَارِيِّ (¬3) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا (البَرَكَة مِنَ اللهِ). 2) مَعْنَى البَرَكَةِ: ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الثَّبَاتُ وَاللُّزُوْمُ (¬4) - النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ - السَّعَادَةُ. (¬5) وَالتَّبَرُّك هُوَ طَلَبُ البَرَكَةِ، أَيْ: طَلَبُ حُصُوْلِ الخَيْرِ بِمُقَارَبَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَمُلَابَسَتِهِ. وَيَشْرحُ مَعْنَى البَرَكَةِ مَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مالِهِ أَوْ مِنْ أَخِيْهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لهُ بِالبَرَكَةِ فَإِنَّ العَيْنَ حَقٌّ) (¬6)، فَالمَقْصُوْدُ بِالبَرَكَةِ هُنَا - مَثَلًا - هُوَ عَكْسُ مَا يُخْشَى مِنْهُ مِنَ العَيْنِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْها - لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الحَارِثِ - قَالَتْ: (فَمَا رَأَيْنَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا؛ أُعْتِقَ فِي سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي المُصْطَلِقِ) (¬7)، فالبَرَكَةُ هُنَا هِيَ حُصُوْلُ الخَيْرِ بِسَبَبِهَا. وَكَمَا قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي قِصَّةِ شَرْعِيَّةِ التَّيَمُّمِ (مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ) (¬8)، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ خَيْرٍ يَحْصُلُ بِسَبَبِكُم. 3) أَنَّ اللهَ تَعَالَى اخْتَصَّ بَعْضَ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الفَضْلِ وَالبَرَكَةِ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ قَدْ تَكُوْنُ فِي أَمْكِنَةٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي ذَوَاتٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي أَزْمِنَةٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي صِفَاتٍ. ومِنَ الأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا} (فُصِّلَت:10). ومِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ} (الصَّافَّات:113)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} (مَرْيَم:131). ومِنَ الثَّالِثِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القَدْر:3)، وَمِثْلُهُ حَدِيْثُ (تَسَحَّرُوا فإنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً). (¬9) وَمِنَ الرَّابِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (النُّوْر:61)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (الأَنْبِيَاء:50). 4) أَنَّ التَّبَرُّكَ مِنْهُ المَشْرُوْعُ وَمِنْهُ المَمْنُوْعُ. 5) أَنَّ التَّبَرُّكَ بِشَيْءٍ يَجْرِي عَلَى النَّحْوِ الَّذِيْ وَرَدَ فِيْهِ. فَالتَّبَرُّكُ بِالمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَكُوْنُ بِالصَّلَاةِ فِيْهَا؛ وَلَيْسَ بالتَّمَسُّحِ بِجُدْرَانِهَا وَأَرْضِهَا، وَالتَّبَرُّكُ بِالقُرْآنِ يكَوْنُ بِتِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالعَمَلِ بِهِ؛ لَا بِجَعْلِهِ تَمِيْمَةً، أَوْ غَسْلِ أَوْرَاقِ المُصْحَفِ وَشُرْبِهَا، وَهَكَذَا وُفْقَ مَا وَرَدَ. ¬

_ (¬1) مِثْلَ كِتَابِ (التَّمْهِيْدُ) لِلشَّيْخِ صَالِحِ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ، وَكِتَابِ (هَذِهِ مَفَاهِيْمُنَا) لَهُ أَيْضًا رَدَّ عَلَى كِتَابِ (مَفَاهِيْمٌ يَجِبُ أَنْ تُصَحَّحَ) لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلَوِي المَالِكِيِّ، وَكِتَابِ (التَّبَرُّكُ) لِلشَّيْخِ نَاصِر الجُدَيْع (رِسَالَةُ دُكْتُوْرَاه قَدَّمَ لَهَا الشَّيْخُ ابْنُ جِبْرِيْن رَحِمَهُ اللهُ)، وَغَيْرِهَا مِنَ الكُتُبِ المُفِيْدَةِ فِي هَذَا البَابِ. (¬2) قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (299/ 6): (يَعْنِي بِذَلِكَ: يَا مَالِكَ المُلْكِ، يَا مَنْ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ خَالِصًا دُوْنَ غَيْرِهِ، {بِيَدِكَ الخَيْرُ}، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِكِ وَإِلَيْكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، لِأَنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ دُوْنَ سَائِرِ خَلْقِكَ، وَدُوْنَ مَنِ اتَّخَذَهُ المُشْرِكُوْنَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالأُمِّيينَ مِنَ العَرَبِ إِلَهًا وَرَبًّا يَعْبُدُوْنَهُ مِنْ دُوْنِكَ؛ كَالمَسِيْحِ وَالأَنْدَادِ الَّتِيْ اتَّخَذَهَا الأُمِّيُّوْنَ رَبًّا). (¬3) البُخَارِيُّ (5639). (¬4) قَالَ أَبُو مَنْصُوْرٍ الأَزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيْبِ اللُّغَةِ (131/ 10): (وَأَصْلُ البَرَكَةِ: الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ). (¬5) قَالَ الفَرَّاءُ فِي كِتَابِهِ (مَعَانِي القُرْآنِ) (23/ 2) - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} (هُوْد:73) -: (البَرَكَاتُ: السَّعَادَةُ). (¬6) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (7500) عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيْعَة مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2572). (¬7) حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (3931). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (3931). (¬8) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ - كَمَا فِي البُخَارِيِّ (334) - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَتْ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ؛ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؛ أَقَامَتْ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسِ؛ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ! فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ - وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ - فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ؛ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُوْلَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِيْ كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ). (¬9) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1923)، وَمُسْلِمٌ (1095) عَنْ أَنَس مَرْفُوْعًا. وَهَذَا الأَخِيْرُ فِيْهِ بَرَكَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ إِتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُخَالَفَةِ أَهْلِ الكِتَابِ، وَأَيْضًا فِيْهِ بَرَكَةٌ مَادِّيَّةٌ مِنْ جِهَةِ التَّقْوِيَةِ عَلَى الصِّيَامِ.

- مَعْنَى (تَبَارَكَ): قَالَ فِيْهِ أَهْلُ العِلْمِ مَعْنَيَيْنِ: 1) تَبَارَكَ: تَعَاظَمَ، فَقَدْ جَاءَتْ عَلَى بِنَاءِ السَّعَةِ وَالمُبَالَغَةِ كَـ (تَعَالَى) وَهُوَ الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى كَمَال العُلُوِّ، فَكَذَلِكَ (تَبَارَكَ) دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ بَرَكَتِهِ وَعِظَمِهَا وَسِعَتِهَا. (¬1) 2) تَبَارَكَ: أَيْ: جَاءَ بِكُلِّ برَكَةَ. ولِمَا سَبَقَ مِنَ المَعْنَى فَهِيَ لَا تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى كَمَا أَطْلَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ {تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِيْنَ} (الأَعْرَاف:54). أَلَا تَرَاهَا كَيْفَ أُطْرِدَتْ فِي القُرْآنِ جَارِيَةً عَلَيْهِ مُخْتَصَّةً بِهِ لَا تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ. (¬2) - أَسْبَابُ التَّبَرُّكِ المَمْنُوْعِ: 1) الجَهْلُ بِالدِّيْنِ: وَتأمَّلْ قَوْلَ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ قَوْمِهِ {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائِيْلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُوْنَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوْسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأَعْرَاف:138). وَهَذَا الجَهْلُ نَاشِئٌ عَنْ سُكُوْتِ أَهْلِ العِلْمِ، وَتَشْجِيْعِ أَهْلِ البِدَعِ (¬3)، وَالتَّقْلِيْدِ الأَعْمَى. 2) الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِيْنَ: كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوْعًا (لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ). (¬4) 3) التَّشَبُّهُ بِالكُفَّارِ: كَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا (لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬5) (¬6) 4) تَعْظِيْمُ الآثَارِ: وَهُوَ نَاتِجٌ عَنْ تَسَاهُلِ كَثِيْرٍ مِنَ العُلَمَاءِ فِي رِوَايَةِ أَحَادِيْثِ فَضَائِلِ الآثَارِ المَكَانِيَّةِ الضَّعْيِفَةِ وَالمَوْضُوْعَةِ. عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ عُمَرَ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يَأْتُوْنَ الشَّجَرَةَ فَيُصَلُّوْنَ عِنْدَهَا فَتَوَعَّدَهُم ثُمَّ أُمِرَ بِقَطْعِهَا؛ فَقُطِعَتْ. (¬7) - وَسَائِلُ مُقَاوَمَةِ التَّبَرُّكِ المَمْنُوْعِ: 1) نَشْرُ التَّوْحِيْدِ، وَبَيَانُ حَقِيْقَتِهِ، وَتَعْلِيْمُهُ لِلنَّاسِ، وَكَمَا يُقَالُ: (وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ). (¬8) 2) نَشْرُ العِلْمِ الصَّحِيْحِ، وَالتَّحَرِّيْ فِيْمَا يُنْقَلُ وَيُذكَرُ مِنَ الأَحَادِيْثِ وَالآثَارِ، وَتَوْجِيْهِ مَا صَحَّ مِنْهَا. 3) الدَّعْوَةُ إِلَى المَنْهَجِ الحَقِّ؛ بَالرُّجُوْعِ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. 4) إِزَالَةُ وَسَائِلِ الغُلوِّ وَمَظَاهِرِ التَّبَرُّكِ المَمْنُوْعِ - وَكُلٌّ بِحَسْبِ وِلَايَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - كَمَا فِي كَسْرِ النَّبِيِّ مَحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيْمَ لِلأَصْنَامِ، وَتَحْرِيْقِ مُوْسَى لِلعِجْلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (¬9) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ - شَرِيْط رَقَم (11) -: (ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: (تَبَارَكَ): تَعَاظَمَ. قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُحَقَّقِيْنَ: لَا يُرِيْدُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ (تَبَارَكَ: تَعَاظَمَ) أَنَّهُ تَفْسِيْرٌ لِلَّفْظِ وَلَكِنْ يَقُوْلُ: هِيَ عَلَى وَزْنِها مِنْ جِهِةِ كَوْنِهَا مَقْصُوْرَةً، لِأَنَّ الأَصْلَ فِي (تَفَاعَلَ) أَنْ يَكُوْنَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَا يَكُوْنُ لَازِمًا، تَقُوْلُ: تَقَاتَلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَتَشَاجَرَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَهَكَذَا. فَـ (تَفَاعَلَ) فِي الأَصْلِ أَنَّهَا تَكُوْنُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. فَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَسَّرَهَا بِمَعْنَى (تَعَاظَمَ)، يُرِيْدُ أَنَّهَا لَازِمةٌ، لَا يُرِيْدُ مَعْنَى كَلِمَةَ (تَبَارَكَ)، وَإِلَّا فَإِنَّ البَرَكَةَ مَعْنَاهَا دَوَامُ الخَيْرِ وَثَبَاتُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ، وَهَذَا مُشْتَقٌّ عِنْدَ العَرَبِ مِنَ البُرُوْكِ وَالبِرْكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالبُرُوكُ بِهِ يَسْتَقِرُ البَعِيْرُ وَيَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ، وَالبِرْكَةُ هِيَ الَّتِيْ فِيْهَا يَدُوْمُ المَاءُ وَيَسْتَقِرُ وَيَثْبُتُ بَعْدَ المَطَرِ). وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬2) وَتَفْسِيْرُ السَّلَفِ يَدُوْرُ عَلَى هَذِيْنِ المَعْنَيَيْنِ. تَمَّ بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ كِتَابِ (بَدَائِعُ الفَوَائِدِ) (ص680) لِابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ. (¬3) وَرُؤُوْسُهُم هُم مِنَ الرَّافِضَةِ وَالمُتَصَوِّفَةِ. (¬4) البُخَارِيُّ (3345). (¬5) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7320)، وَمُسْلِمٌ (2669). (¬6) وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا التَّشَبُّهِ: إِقَامَةُ المَوْلِدِ النَّبَوِيِّ وَالأَعْيَادِ المُبْتَدَعَةِ، وَبِنَاءُ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ. (¬7) أَوْرَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (448/ 7)، وَقَالَ (وَجَدْتُ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ أَنَّ ...). وَلَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الأَثَرَ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص116): (ثُمَّ اسْتَدْرَكْتُ فَقُلْتُ: يُبْعِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ مَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ فِي كِتَابِ الجِهَادِ مِنْ طَرِيْقٍ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ؛ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (رَجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِيْ بَايَعْنَا تَحْتَهَا؛ كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللهِ). (يَعْنِي: خَفَاءَهَا عَلَيْهِم)، فَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ لَمْ تَبْقَ مَعْرُوْفَةَ المَكَانِ يُمْكِنُ قَطْعُهَا مِنْ عُمَرَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ القَطْعِ الدَّالُّ عَلَيْهِ الانْقِطَاعُ الظَّاهِرُ فِيْهَا نَفْسِهَا، وَمِمَّا يَزِيْدُهَا ضَعْفًا مَا رَوَى البُخَارِيُّ فِي المَغَازِي مِنْ صَحِيْحِهِ عَنْ سَعِيْد بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ أَبِيْهِ؛ قَالَ: (لَقَدْ رَأَيْتُ الشَّجَرَةَ ثُمَّ أَتَيْتُهَا بَعْدُ فَلَمْ أَعْرِفْهَا). وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي كِتَابِهِ (الاسْتِذْكَارُ) (360/ 2): (وَقَدْ كَرِهَ مَالِكُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ طَلَبَ مَوْضِعَ الشَّجَرَةِ الَّتِيْ بُوْيِعَ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ. وَذَلِكَ - وَاللهُ أَعْلَمُ - مُخَالَفَةً لِمَا سَلَكَهُ اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ). (¬8) وَيَكُوْنُ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ المُحَاضَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ فِي مَوْضُوْعِ التَّبَرُّكِ، وَأَيْضًا بِغَزْوِ القُبُوْرِيينَ عِنْدَ أَضْرِحَتِهِم، وَبَيَانِ ضَلَالِهِم بِالحُجَّةِ وَالبُرْهَانِ، وَإِقَامَةِ المُنَاظَرَاتِ مَعَهُم كَمَا فِي مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيْمَ لِقَوْمِهِ؛ وَهُوْد مَعَ قَوْمِهِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ يَجِبُ عَلَى الشَّبَابِ المُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ دَوْرَهُ فِي ذَلِكَ - وَلَكِنْ مُتَسَلِّحًا بِالعِلْمِ - وَهَذَا يَحْتَاجُ لِسَعْيٍ وَصَبْرٍ وَمَنْهَجٍ قَوِيْمٍ وَرُجُوْعٍ لِلعُلَمَاءِ الرَّاسِخِيْنَ، فَالإِسْلامُ لَا يَقُوْمُ عَلَى الشَّبَابِ الهَزِيْلِ، قَالَ تَعَالَى: {مِنَ المُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأَحْزَاب:23). (¬9) وَلَا تَخْفَى هُنَا مُرَاعَاةُ المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ وَمَصْلَحَةُ الدَّعْوَةِ.

- التَّبَرُّكُ بِالأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ: مِنْهُ المَشْرُوْعُ وَمِنْهُ المَمْنُوْعُ: 1) التَّبَرُّكُ المَشْرُوْعُ بِالأَنْبِيَاءِ: إِنَّ بَرَكَةَ الأَنْبِيَاءِ جَارِيَّةٌ وُفْقَ نَوْعِيْنِ: أ) بَرَكَةٌ حِسِّيَّةٌ - وَهِيَ بَرَكَةُ ذَاتٍ وَآثَارٍ وَأَفْعَالٍ -: وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (¬1) ب) بَرَكَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ - وَهِيَ بَرَكَةُ الإِسْلَامِ وَالخَيْرِ الَّذِيْ جَاءَ بِهِ -: وَهَذِهِ يَشْتَرِكُ فِيْهَا العُلَمَاءُ وَالصَّالِحُوْنَ مَعَ الأَنْبِيَاءِ. (¬2) وَلِهَذا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ الَّذِيْ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ (¬3) مِنْ حَدِيْث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ)، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ؛ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُوْلَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُوْلَ اللهِ، ثُمَّ التَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هِيَ النَّخْلَةُ) (¬4). فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ بَرَكَةٌ بِقَدْرِ إِسْلَامِهِ، وَلَيْسَتْ هِيَ بَرَكَةُ ذَاتٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ بَرَكَةُ عَمَلٍ بِالشَّرْعِ. ¬

_ (¬1) وَهَاكَ أَمْثِلَةً: - أَمَّا بَرَكَةُ الذَّاتِ: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كَانَ - أَي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى الغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ أَهْلِ المَدِيْنَةِ بِآنِيَتِهِمْ فِيْهَا المَاءُ فَمَا يُؤْتَى بِإِنَاءِ إِلَّا غَمَسَ يَدَهَ فِيْهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2324). - وَأَمَّا بَرَكَةُ الآثَارِ - كَالرِّيْقِ وَالشَّعْرِ وَالعَرَقِ -: فَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَة؛ أَنَّهُ قَالَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ؛ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2731). وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2069) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ تُخْبِرُ عَنْ جُبَّةٍ كَانَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَتْ: (هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا - وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا - فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى). وَفِي الحَدِيْثِ دِلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ المُنْفَصِلَةِ عَنْ جَسَدِهِ الشَّرِيْفِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا التَّبَرُّكُ بِالذَّاتِ وَبِالآثَارِ قَدِ انْقَطَعَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ آثَارِهِ بَاقِيًا بِيَقِيْنٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ المُتَيَقَّنُ مَعَ انْقِرَاضِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. - وَأَمَّا بَرَكَةُ الأَفْعَالِ: فَهُوَ كَمَا فِي حَدِيْثِ تَكْثِيْرِ المَاءِ بَيْنَ يَدِيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَكْثِيْرِ الطَّعَامِ فِي قِصَّةِ وَلِيْمَةِ جَابِرٍ. وَالأَحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ، وَهِيَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. (¬2) وَهَذِهِ البَرَكَةُ الحَاصِلَةُ مِنْ صُوَرِهَا: الهِدَايَةُ وَالنَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالجَنَّةُ وَالنَّجَاةُ مِنَ العَذَابِ فِي الآخِرَةِ. وَكَمَا فِي حَدِيْثِ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخَيْرِ؛ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ - مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي -، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيْرِ ....). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3606). (¬3) البُخَارِيُّ (5444). (¬4) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (155/ 17): وَالجُمَّارُ: (- بِضَمِّ الجِيْمِ وَتَشْدِيْدِ المِيْمِ - وَهُوَ الَّذِيْ يُؤْكَلُ مِنْ قَلْبِ النَّخْلِ، يَكُوْنُ لَيِّنًا). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (146/ 1): (وَبَرَكَةُ النَّخْلَةِ فِي جَمِيْعِ أَجْزَائِهَا مُسْتَمِرَّةٌ فِي جَمِيْعِ أَحْوَالِهَا، فَمِنْ حِيْنِ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ تُؤْكَلُ أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْتَفَعُ بِجَمِيْعِ أَجْزَائِهَا حَتَّى النَّوَى فِي عَلَفِ الدَّوَابِ وَاللِّيْفِ فِي الحِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ بَرَكَةُ المُسْلِمِ عَامَّةٌ فِي جَمِيْعِ الأَحْوَالِ وَنَفْعُهُ مُسْتَمِرٌّ لَهُ وَلِغَيِرْهِ حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ).

2) التَّبَرُّكُ المَمْنُوْعُ بِالأَنْبِيَاءِ؛ مِنْ صُوَرِهِ: (¬1) أ) طَلَبُ الدُّعَاءِ أَوِ الشَّفَاعَةِ مِنَ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ: وَهَذَا مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ} (يُوْنُس:106). قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيْرِ (¬2): ({فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ}، يَقُوْلُ: مِنَ المُشْرِكِيْنَ بِاللهِ؛ الظَّالِمِيْ أَنْفُسِهِم). ب) أَدَاءُ بَعْضِ العِبَادَاتِ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كالدُّعاءِ والصَّلاةِ. كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِيْ عِيْدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ). (¬3) ج) التَّمَسُّحُ بِالقَبْرِ وَتَقْبِيْلُهُ وَنَحْو ذَلِكَ: هُوَ مِنَ البِدَعِ المُحْدَثَةِ فِي دِيْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ الله تَعَالَى عَلَيْهِم. وَقَدْ عُلِمَ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - حَدِيْثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ فِي التَّبَرُّكِ بِالشَّجَرَةِ، حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْتُم وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُوْ إِسْرَائِيْلَ لِمُوْسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأَعْرَاف: 138)، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ). (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) وَهِيَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيْلِ لَا الحَصْرِ، وَلَعَلَّ فِيْهَا الكِفَايَةَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬2) (219/ 15). (¬3) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2042) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7226). (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (21900)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2180). ظِلَالُ الجَنَّةِ (76). (¬5) قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (55/ 5) - عِنْدَ حَدِيْثِ (فَزُوْرُوا القُبُوْرَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ) -: (أَيْ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ تَمَسُّحٌ بِالقَبْرِ أَوْ تَقْبِيْلٌ أَوْ سُجُوْدٌ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ السُّبكْيُّ: بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ إِنَّمَا يَفْعَلُهَا الجُهَّالُ).

د) التَّبَرُّكُ بِالمَوَاضِعِ الَّتِيْ جَلَسَ عَلَيْهَا أَوْ صَلَّى فِيْهَا. وَهَذِهِ الفَقَرَةُ يُبْنَى فَهْمُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ حَالَيْنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ هَذِهِ المَوَاضِعِ: الأَوَّلُ) مَا قَصَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ العِبَادَاتِ فِي مَكَانٍ مَا (¬1)؛ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ قَصْدُهُ - اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبًا لِلأَجْرِ. (¬2) الثَّانِي) مَا حَصَلَ اتِّفَاقًا، أَيْ: لَمْ يَتَقَصَّدْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ تَقَصُّدُه. (¬3) قَالَ المَعْرُوْرُ بْنُ سُوَيْدٍ الأَسَدِيُّ؛ خَرَجْتُ مَعَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِيْنَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا صَلَّى بِنَا الغَدَاةَ، ثُمَّ رَأَى النَّاسَ يَذْهَبُوْنَ مَذْهَبًا، فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ هَؤلَاءِ؟ قَيْلَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! مَسْجِدٌ صَلَّى فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ يَأْتُوْنَهُ يُصَلُّوْنَ فِيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِمِثْلِ هَذَا - يَتَّبِعُوْنَ آثَارَ أَنْبِيَائِهِم، فَيَتَّخِذُوْنَهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا -، مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ المَسَاجِدِ فَلْيُصَلِّ؛ وَمَنْ لَا فَلْيَمْضِ، وَلَا يَتَعَمَّدْهَا. (¬4) وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ السَّالِفِ فِي النَّهْي عَنْ تَتَبُّعِ الآثَارِ هُوَ مِنَ الحَقِّ الَّذِيْ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬5): (وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ المَدِيْنَةِ يَكْرَهُوْنَ إِتْيَانَ تِلْكَ المَسَاجِدِ وَتِلْكَ الآثَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مَا عَدَا قُبَاءَ وَحْدَهُ). (¬6) ¬

_ (¬1) كَالصَّلَاةِ خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ فِي صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، أَوْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، أَوْ .... (¬2) هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيْهِ شَدُّ رَحِلٍ (أَيْ: سَفَرٌ)، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ. وَفِي الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ (1430) - وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الإِرْوَاءِ (141/ 4) - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيْتُ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ الغِفَارِيَّ فَقَالَ: منْ أَيْنَ جِئْتَ. قُلْتُ: مِنَ الطُّوْرِ. قَالَ: لَوْ لَقِيْتُكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ لَمْ تَأْتِهِ. قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنِّيْ سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (لَا تُعْمَلُ المَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: إِلَى المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي هذَا، وَإِلَى مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ). وَالحَدِيْثُ أَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (1189) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ) (ص226): (عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: (أَرَدْتُ الخُرُوْجَ إِلَى الطُّوْرِ فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إَلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى)، وَدَعْ عَنْكَ الطُّوْرَ فَلَا تَأْتِهِ). أَخْرَجَهُ الأَزْرَقِيُّ فِي (أَخْبَارِ مَكَّةَ) (ص 304) بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيْحِ، وَأَوْرَدَ المَرْفُوْعَ مِنْهُ الهَيْثَمِيُّ فِي (المَجْمَعِ) (4/ 4) وَقَالَ: (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ وَالأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ)). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (428/ 3): (وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مَشْهُوْرًا بِتَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ ذَلِكَ صَلَاتُهُ فِي المَوَاضِعِ الَّتِيْ كَانَ يُصَلِّي فِيْهَا. وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصُدُهُ لِلصَّلَاةِ فِيْهِ، كَمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَيَأْتِيْ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الكِتَابِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا صَلَّى فِيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّفَاقًا لِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ لَهُ عِنْدَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِيْ اخْتَصَّ ابْنُ عُمَرَ بِإِتِّبَاعِهِ). قُلْتُ: وَقَوْلُ الحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ (اخْتَصَّ) فِيْهِ بَيَانُ تَفَرُّدِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دُوْنَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ بِهَذَا الفِعْلِ - خَاصَّةً أَبُوْهُ الفَارُوْقُ -. (¬4) صَحِيْحٌ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي المُصَنِّفِ (7550). اُنْظُرْ تَخْرِيْجَ أَحَادِيْثِ فَضَائِلِ الشَّامِ وَدِمَشْقَ (ص50) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬5) هُوَ مُحَدِّثُ الأَنْدَلُسِ مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاح القُرْطُبِيُّ (ت 280 هـ) تَقْرِيْبًا؛ فِي كِتَابِهِ (البِدَعُ وَالنَّهْيُ عَنْهَا) (ص41). (¬6) فِي الأَصْلِ (قُبَاءَ وَأُحُدًا)، وَالمَقْصُوْدُ بِـ (أُحُد) زِيَارَةُ قُبُوْرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَالسَّلَامُ عَلَى أَهْلِهَا، وَالَّذِيْ أَثْبَتُّهُ هُوَ مِنْ نَقْلِ الِاعْتِصَامِ (449/ 1) (قُبَاءَ وَحْدَهُ).

مسائل والجواب عليها

مَسَائِلُ وَالجَوَابُ عَلَيْهَا: - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) إِذَا صَحَّ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِطَلَبِهَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ، كَمَا ثَبَتَتِ الحَيَاةُ لِلشُّهَدَاءِ، وَرُتْبَةُ الأَنْبِيَاءِ أَعْلَى مِنْ رُتْبَةِ الشُّهَدَاءِ! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ كَمَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُوْرِهِم لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُم اتِّصَالًا بِالدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُوْنَ} (البَقَرَة:154)، وَكَمَا قَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ} (آل عِمْرَان:169). فَصِفَةُ الحَيَاةِ لَهُم هِيَ فِي البَرْزَخِ وَلَيْسَتْ فِي الدُّنْيَا. وَتأَمَّلْ حَدِيْثَ (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، وَلأُنازعَنَّ أقْوَامًا ثمَّ لَأُغْلَبَنَّ عَلَيْهِمْ فأَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيَقُوْلُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬1) 2) كَوْنُهُم أَحْيَاءَ فِي قُبُوْرِهِم لَا يَعْنِي سَمَاعَهُم لِمَنْ يَسْتَغِيْثُ بِهِم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} (النَّمْل:80). (¬2) 3) أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ وَالتَّعَلُّقَ بِهِم فِي تَفْرِيْجِ الكُرُبَاتِ شِرْكٌ، بَلْ أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِيْنَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِيْنَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ} (الأَحْقَاف:5). 4) أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، بَلْ وَرَدَ عَنْهُم النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيْءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَيَدْخُلُ فِيْهَا فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيْدًا، وَلَا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا؛ فَإِنَّ تَسْلِيْمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ). (¬3) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6576)، وَمُسْلِمٌ (2297) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) وَسَيَأْتِي مُلْحَقٌ وَافٍ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى -، وَهُوَ مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ. (¬3) صَحِيْحٌ لِغَيْرِهِ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (49/ 2). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَخْرِيْجُ أَحَادِيْثِ فَضَائِلِ الشَّامِ) (ص52): (صَحِيْحٌ بِطُرُقِهِ وشَوَاهِدِهِ).

المسألة الثانية) قصة العتبي

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قِصَّةُ العُتْبِيِّ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ (¬1) قِصَّةً اغْتَرَّ بِهَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ أَنَّ العُتْبيَّ (¬2) قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فقالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ، سَمِعْتُ اللهَ يَقُوْلُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا} (النِّسَاء:64). وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُوْلُ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفنَتْ بِالقَاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَمُ نَفْسِيْ الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيْهِ العَفَافُ وَفِيْهِ الجُوْدُ وَالكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ الأَعْرَابِيُّ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّومِ فَقَالَ: يَا عُتْبيُّ، اِلْحَقِ الأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ). فَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى أُمُوْرٍ؛ أَهَمُّهَا جَوَازُ شَدِّ الرَّحَالِ إِلَى قُبُوْرِ الصَّالِحِيْنَ لِطَلَبِ الاسْتِغْفَارِ وَالشَّفَاعَةِ مِنْهُم. وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ سَاقِطَةُ الصِّحَّةِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي (¬3) فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكيُّ): (وَفِي الجُمْلَةِ لَيْسَتِ الحِكَايَةُ المَذْكُوْرَةُ عَنِ الأَعْرَابيِّ مِمَّا تَقُوْمُ بِهِ الحُجَّةُ، وَإِسْنَادُهَا مُظْلِمٌ وَلَفْظُهَا مُخْتَلَفٌ (فِيْهِ) أَيْضًا، وَلَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَكُنْ فِيْهَا حُجَّةٌ عَلَى مَطْلُوْبِ المُعْتَرِضِ، وَلَا يَصْلُحُ الاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذِهِ الحِكَايَةِ، وَلَا الاعْتِمَادُ عَلَى مِثْلِهَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيْقُ). 2) أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ فَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ أَعْرَابيٍّ مَجْهُوْلٍ، وَأنَّى يَكُوْنُ الاسْتِدْلَالُ بِمِثْلِهَا فِي أُمُوْرِ العَقِيْدَةِ. (¬4) 3) أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ أَيْضًا وَذُكِرَ فِيْهَا إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَهِيَ مَا تَزَالُ مَنَامًا، وَلَيْسَ مِنْ مَصَادِرِ التَّشْرِيْعِ الإِسْلَامِيِّ المَنَامَاتُ. (¬5) 4) مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ ظَلَمُوا) ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ الفِعْلِ دَوْمًا كَالظَّرْفِ (إِذَا). (¬6) 5) أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ أَيْضًا فَهِيَ مَقْرُوْنَةٌ بِحَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ فِيْهَا {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ}. 6) أَنَّ السَّلَفَ كُلَّهُم لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُم أَبَدًا - وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ المَعْرُوْفَةِ - أَنَّهُم فَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ المَتْبُوعَةِ. فَكَيفَ يُتْرَكُ (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) وَيُذهَبُ إِلَى أَضْغَاثِ أَحْلَامٍ فِي أَسَاطِيْرِ الأَوَّلِيْنَ. 7) أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا لِحَديْثِ (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدٍ)، وَلِحَدِيْثِ (لَا تَجْعَلوا قَبْرِيْ عِيْدًا). (¬7) 8) أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ فِي الصَّحِيْحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (إنَّ خَيْرَ التَّابِعِيْنَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ - وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ (¬8) -، فَمُرُوْهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُم). وَفِي رِوَايَةٍ (لَو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)، فَلَمَّا لَقيَهُ عُمَرُ قَالَ الحَدِيْثَ، ثُمَّ قَالَ: (فَاسْتَغْفِرْ لِيْ) فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. (¬9) وَدِلَالَةُ هَذَا الحَدِيْثِ هُنَا أَنَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَ عُمَرَ إِلَى أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنْ أُوَيْسٍ - وَهُوَ تَابِعِيٌّ -، وَأَيْنَ مَنْزِلَتُهُ مِنْ مَنْزِلَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ أَرْشَدَهُ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُ المَفْضُوْلُ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنْ خَيْرِ الخَلْقِ فِي قَبْرِهِ، وَهَذَا دَلِيْلٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الفَرْقَ هُوَ تَغَيُّرُ نَوْعِ الحَيَاةِ؛ وَقُدْرَةُ الحَيِّ عَلَى الدُّعَاءِ لِلمُعَيَّنِ، بِخِلَافِ مَنْ حَيَاتُهُ بَرْزَخِيَّةٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتَأَمَّلْ. ¬

_ (¬1) أَوْرَدَهَا الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (347/ 2) عَنِ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ بْنِ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ (الشَّامِلُ)، وَذَكَرَ هَذِهِ الحِكَايةَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَجْمُوْعِ (8/ 274) وَفِي الإِيْضَاحِ (ص 498)، وَزَادَ البَيْتَيْنِ التَّالِيَيْنِ: أَنْتَ الشَّفِيْعُ الَّذِيْ تُرْجَى شَفَاعَتُهُ عَلَى الصِّرَاطِ إِذَا مَا زَلَّتِ القَدَمُ وَصَاحِبَاكَ فَلَا أَنْسَاهُمَا أَبَدًا مِنِّي السَّلَامُ عَلَيْكُمُ مَا جَرَى القَلَمُ وَسَاقَهَا النَّوَوِيُّ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُوْلُ: مَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنِ العُتْبِيِّ - مُسْتَحْسِنِيْنَ لَهُ - ثُمَّ ذَكَرَهَا بِتَمَامِهَا)، وَابْنُ كَثِيْرٍ هُنَا لَمْ يَرْوِهَا وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهَا، بَلْ نَقَلَهَا كَمَا نَقَلَ بَعْضَ الإِسْرَائِيْلِيَّاتِ فِي تَفْسِيْرِهِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكيُّ) (ص253): (وَهَذِهِ الحِكَايَةُ الَّتِيْ ذَكَرَهَا - المُعْتَرِضُ - بَعْضُهُم يَرْوِيْهَا عَنِ العُتْبِيِّ بِلَا إِسْنَادٍ، وَبَعْضُهُم يَرْوِيْهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الهِلَالِيِّ، وَبَعْضُهُم يَرْوِيْهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي الحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنِ الأَعْرَابِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَهَا البَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ شُعَبِ الإِيْمَانِ بِإِسْنَادٍ مُظْلِمٍ عِنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَوْحِ بْنِ يَزِيْدَ البَصْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو حَرْبٍ الهِلَالِيِّ ...). (¬3) قَالَ الحَافِظُ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ) (ص524): (الإِمَامُ الأَوْحَدُ المُحَدِّثُ الحَافِظُ الحَاذِقُ الفَقِيْهُ البَارِعُ المُقْرِئُ النَّحَوِيُّ اللُّغَوِيُّ ذُوْ الفُنُونِ؛ شَمْسُ الدِّيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الهَادِي المَقْدِسِيُّ الحَنْبَلِيُّ؛ أَحَدُ الأَذْكِيَاءِ، (ت 744 هـ)). (¬4) وَأَقُوْلُ: عَجَبًا لِمَنْ يَرُدُّ أَحَادِيْثَ السُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ فِي العَقِيْدَةِ مِمَّا أَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ بِحُجَّةِ أَنَّهَا أَحَادِيْثُ آحَادٍ فِي العَقَائِدِ؛ وَيَأْخُذُ بِمَنَامٍ رَآهُ رَجُلٌ مَجْهُوْلُ الحَالِ عَنْ أَعْرَابيٍّ فِي قِصَّةٍ وَاهِيَةٍ، وَلَكِنْ {مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النُّوْر:40). وَيَلْزَمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الاسْتِدْلَالِ بِعَمَلِ الأَعْرَابِيِّ؛ أَنْ يَبُوْلَ أَحَدُهُم فِي المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيْفِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحَيْحَيْنِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ!! فَمُجَرَّدُ حُدُوثِ فِعْلٍ لَا يَعني مَشْرُوْعِيَّتَهُ؛ وَمِنْ ثُمَّ غَضُّ الطَّرْفِ عَمَّا جَاءَ فِي حَقِّهِ مِنَ السُّنَّةِ! (¬5) اللَّهُمَّ إِلَّا عِنْدَ غُلَاةِ المُتَصَوِّفَةِ. وَصَحِيْحٌ أَنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَنَامِ حَقٌّ - كَمَا فِي الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ - وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَرَاهُ عَلَى صُوْرَتِهِ المَعْرُوْفَةِ، وَأَيْضًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُحْدِثَ فِي دِيْنِ اللهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ} (المَائِدَة:3). (¬6) وَتُفِيْدُ أَيْضًا التَّعْلِيْلَ - زِيَادَةً عَلَى كَوْنِهَا تَخْتَصُّ بِالزَّمَنِ المَاضِي -، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُوْنَ} (الزُّخْرُف:39). (¬7) الأَوَّلُ فِي البُخَارِيِّ (1189) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَالتَّالِيْ لَهُ هُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (2042). وَقَدْ مَرَّ سَابِقًا. (¬8) هُوَ مَرَضٌ فِي الجِلْدِ يَجْعَلُ الجِلْدَ أَبْيَضًا. (¬9) مُسْلِمٌ (2542).

المسألة الثالثة) حديث الكوة فوق القبر

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) حَدِيْثُ الكُوَّةِ فَوْقَ القَبْرِ: رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ؛ حَدَّثَنَا سَعِيْدُ بْنُ زَيدٍ؛ حَدَّثَنَا عَمْرو بْنُ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ؛ حَدَّثَنَا أَبُو الجَوزَاءِ - أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ - قَالَ: قَحَطَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ قَحْطًا شَدِيْدًا فَشَكَوا إِلَى عَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْعَلُوا مِنْهُ كُوًّا إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُوْنَ بَينَهُ وَبَينَ السَّمَاءِ سَقْفٌ، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمُطِرْنَا مَطَرًا حَتَّى نَبَتَ العُشْبُ وَسَمِنَتِ الإِبِلُ حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّيَ عَامَ الفَتْقِ. (¬1) وَالجَوَابُ من أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الحَدِيْثَ ضَعِيْفٌ لَا تَقُوْمُ بِهِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، بِسَبَبِ أُمُوْرٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ سَعِيْدًا بْنَ زَيدٍ فِيْهِ ضَعْفٌ، قَالَ فِيْهِ الحَافِظُ فِي كِتَابِهِ (التَّقرِيْبُ): (صَدُوْقٌ لَهُ أَوْهَامٌ). (¬2) وَثَانِيْهَا: أَنَّ أبَا النُّعْمَانِ هَذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ؛ يُعْرَفُ بِعَارِمٍ وَهوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَد اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. (¬3) 2) أَنَّهُ مَوْقُوْفٌ عَلَى عَائِشَةَ وَلَيْسَ بِمَرْفُوْعٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَو صَحَّ لَمْ تَكُنْ فِيْهِ حُجَّةٌ لِأَنَّه يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُوْنَ مِنْ قَبِيْلِ الآرَاءِ الاجْتِهَادِيَّةِ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُخْطِئُوْنَ فِيْهِ وَيُصِيْبُوْنَ، وَلَسْنَا مُلْزَمِيْنَ بِالعَمَلِ بِهَا إِذَا لَمْ تُوَافِقِ السُّنَّةَ. 3) مِمَّا يُبَيّنُ كَذِبَ هَذهِ الرِّوَايَةِ أَنَّه فِي مُدَّةِ حَيَاةِ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ لِلبَيْتِ كُوَّةٌ، بَلْ كَانَ بَاقِيًا كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بَعْضُهُ مَسْقُوفٌ وَبَعْضُهُ مَكْشُوفٌ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تَنْزِلُ فِيْهِ (¬4)، وَلَم تَزَلْ الحُجْرَةُ كَذَلِكَ حَتَّى زَادَ الوَلِيْدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ فِي المَسْجِدِ فِي إِمَارَتِهِ لَمَّا أَدْخَلَ الحُجَرَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ حِيْنِئِذٍ دَخَلَتْ الحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّه بَنَى حَوْلَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِيْ فِيْهَا القَبْرُ جِدَارًا عَالِيًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتِ الكُوَّةُ لِيَنْزِلَ مِنْهَا مَنْ يَنْزِلُ إِذَا احْتِيْجَ إِلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ كَنْسٍ أَوْ تَنْظِيْفٍ. (¬5) ¬

_ (¬1) الدَّارِمِيُّ (93). (¬2) (التَّقرِيْبُ) (ص236). (¬3) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَجْرُوْحِيْنَ) (345/ 1): (يَرْوِي المَوْضُوْعَاتِ عَنِ الأَثْبَاتِ). (¬4) كَمَا ثَبَتَ فِي البُخَارِيِّ (545)، وَمُسْلِمٍ (611) عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلي العَصْرَ - وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا - لَمْ يَظْهَرِ الفَيءُ بَعْدُ. (¬5) أَفَادَهُ شَيْخُ الإِسْلَام رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَلْخِيْصُ كِتَابِ الاسْتِغَاثَةِ) (93/ 1)، وَاُنْظُرْ كِتَابَ (التَّوَسُّلُ) (ص127) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

المسألة الرابعة) بعض الآثار التي فيها شبهة التبرك بالأماكن

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) بَعْضُ الآثَارِ الَّتِيْ فِيْهَا شُبْهَةُ التَّبَرُّكِ بِالأَمَاكِنِ، كَمِثْلِ: - مَا فِيْ البُخَارِيِّ (¬1) عَنْ مُوْسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيْهَا وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيْهَا؛ وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ. - مَا فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ (أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى؛ وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنَّهَا تَكُوْنُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيْرُ البَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُوْلَ اللهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى. فَجَاءَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟) فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ البَيْتِ فَصَلَّى فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬2) وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ فِيْهِ التَّبَرُّكُ بِالمَكَانِ وَإِنَّمَا فِيْهِ دِلَالَةٌ عَلَى شِدَّةِ الاقْتِدَاءِ وَالمُتَابَعَةِ وَالتَّشَبُّهِ، فَهُوَ حَرِيْصٌ عَلَى بَرَكَةِ الاقْتِدَاءِ، لَا عَلَى بَرَكَةِ المَكَانِ. (¬3) فَفَرْقٌ بَيْنَ النيَّتِيْنِ، نِيَّةِ التَّبرُّكِ بِالمَكَانِ وَالتِمَاسِ الخَيْرِ فِي البُقْعَةِ، وَبَيْنَ نيَّةِ الاقْتِدَاءِ بِالأَفْعَالِ، فَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى المَكَانِ، وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الفِعْلِ الَّذِيْ جَرَى عِنْدَهُ. وَمَعَ هَذَا فَمَا يُؤْمَنُ مِنَ الفِتْنَةِ عَلَى مِثْلِ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى مِثْلِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُم مِمَّنْ لَا يَعْرِفُوْنَ الجَاهِلِيَّةَ وَالشِّرْكَ، كَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً؛ إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الجَاهِلِيَّةَ). (¬4) (¬5) 2) أَنَّ هَذَا الفِعْلَ هُوَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ بِاقِي الصَّحَابَةِ، بَلْ خَالَفَهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ - أَبُوْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَمَا مرَّ مَعَنَا قَبْلَ قَلِيْلٍ - وَقَوْلُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى رَأْي ابْنِهِ عِنْدَ الخِلَافِ بِاتِّفَاقٍ (¬6)، كَمَا فِي حَدِيْثِ العِرْبَاضِ (فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِيْ وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ المّهْدِيِّينَ). (¬7) (¬8) 3) وَأَمَّا حَدِيْثُ عِتْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ فَالمَقْصُوْدُ مِنْهُ أَنَّ عِتْبَانَ أَرَادَ بِنَاءَ مَسْجِدٍ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُوْنَ مَوْضِعًا - يُصَلِّي لِهُ فِيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْتِهِ، لِيَكُوْنَ النَّبِيُّ هُوَ الَّذِيْ رَسَمَ ذَلِكَ المَسْجِدَ، كَمَا أنَّه بَنَى مَسْجِدَ قُبَاء وَمَسْجِدَهُ هُوَ. فَالمَقْصُوْدُ إِذًا هُوَ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ المَكَانُ مَشْرُوْعِيَّةَ كَوْنِهِ مَسْجِدًا. (¬9) 4) أَنَّ كُلَّ خِيْرٍ فِي إِتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ، وَكُلَّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ؛ فِإِنَّ طُرُقَ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَة كُلَّهَا كَانَتْ مَمْشَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَبَرَّكُوا بِالطُّرُقِ وَغَيْرِهَا، فَالمَقْصُوْدُ مِنْ هَذَا أَنَّ السَّلَفَ - سَلَفَ الأُمَّةِ - كَانُوا يُنْكِرُوْنَ التَّبَرُّكَ بِالآثَارِ المَكَانِيَّةِ، وَيُنْكِرُوْنَ تَحَرِّيْهَا وَالتَّعَلُّقَ بِهَا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ كَانَ يَتَتَبَّعُ الأَمَاكِنَ الَّتِيْ صَلَّى فِيْهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي حَيْثُ صَلَّى وَنَحْو ذَلِكَ. وَمَا نُقِلَ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ فِي الآثَارِ المَكَانِيَّةِ. (¬10) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (483). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (667)، وَمُسْلِمٌ (455/ 1). (¬3) وَفِي سُنَنِ البَيْهَقِيِّ الكُبْرَى (10301) عَنْ نَافِعٍ؛ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبُوْرِ الشُّهَدَاءِ عَلَى نَاقَتِهِ رَدَّهَا هَكَذَا وَهَكَذَا، فَقِيْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَاقَتِهِ. فَقُلْتُ: لَعَلَّ خُفِّي يَقَعُ عَلَى خُفِّهِ. وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ العُكْبرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الإِبَانَةِ الكُبْرَى (262/ 1) عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ؛ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَوْسَعَ، وَالبُرُّ أَفْضَلُ مِنَ التَّمْرِ. قَالَ: (إِنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيْقًا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْلُكَهُ). (¬4) أَوْرَدَهُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الفَوَائِدُ) (ص109). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (427/ 3): (وَقَدْ رَخَّصَ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وكَرِهَ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الغُلُوِّ وَالإِفْرَاطِ وَالأَشْيَاءِ المُحْدَثَةِ الَّتِيْ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرِيْعَةِ). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ نَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ القَاسِمِ وَسِنْدِيُّ الخَوَاتِيْمِيُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ إِتْيَانِ هَذِهِ المَسَاجِدِ؟ فَقَالَ: (أَمَّا عَلَى حَدِيْث ابْنِ أُمِّ مَكْتُوْم: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَيَتَّخِذَهُ مُصَلَّىً، وَعَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ - يَتَّبُعُ مَوَاضِعَ النَّبِيِّ وأثَرَهُ؟ - فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتيَ الرَّجُلُ المَشَاهِدَ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَفْرَطُوا فِي هَذَا، وَأَكْثَرُوا فِيْهِ). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ: أَنَّ أَحْمَدَ ذَكَرَ قَبْرَ الحُسَيْنِ - وَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ عِنْدَهُ - يَعْنِي: مِنَ الأُمُوْرِ المَكْرُوْهَةِ المُحْدَثَةِ. وَهَذَا فِيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الإِفْرَاطَ فِي تَتَبُّعِ مِثْلِ هَذِهِ الآثَارِ يُخْشَى مِنْهُ الفِتْنَةُ، كَمَا كُرِهَ اتِّخَاذُ قُبُوْرِ الأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ، وَقَدْ زَادَ الأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى وَقَفُوا عِنْدَهُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ كَافٍّ لَهُم، وَاطَّرَحُوا مَا لَا يُنْجِيْهِم غَيْرُهُ، وَهُوَ طَاعَةُ اللهِ وَرَسُوْلِهِ). (¬6) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (180/ 3) - نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ فِي كِتَابِهِ (الاسْتِذْكَارُ) (361/ 2): (وَقَالَ: ذَكَرَ مَالِكُ بِإِثْرِ هَذَا الحَدِيْثِ (أَيْ: حَدِيْثِ المَعْرُورِ عَنْ عُمَرَ فِي النَّهْي عَنْ تتبُّعِ الآثَارِ) حَدِيْثَ عِتْبَان بْنِ مَالِكٍ؛ لِيُبَيِّنَ لَكَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الحَدِيْثَ مُخَالِفٌ لِلذِيْ قَبْلَهُ). (¬7) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2549). (¬8) قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ) (207/ 1) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْث العِرْبَاضِ -: (وَفِيْهِ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الوَاحِدَ مِنَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ إِذَا قَالَ قَوْلًا - وَخالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ -؛ كَانَ المَصِيْرُ إِلَى قَوْلِهِ أَوْلَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي القَدِيْمِ). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (125/ 2) - فِي شَرْحِ نَفْسِ الحَدِيْثِ -: (وَبِكُلِّ حَالٍ، فَمَا جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةَ - فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فِي عَصْرِهِ - فَلَا شَكَّ أَنَّه الحَقُّ، وَلَوْ خَالَفَ فِيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ). (¬9) كَمَا فِي قِصَّةِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِيْ بَنَاهُ المُنَافِقُوْنَ، وَأَرَادُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيْهِ لِيَكُوْنَ مَشْرُوْعًا لَهُم وَلِغَيْرِهِم الاجْتِمَاعُ فِيْهِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (211/ 4) - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَقُمْ فِيْهِ أَبَدًا} (التَّوْبَة:108) -: (فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاء، فَبَنَوْهُ وَأَحْكَمُوْهُ، وَفَرَغُوا مِنْهُ قَبْلَ خُرُوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوْكٍ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِم فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِم - لِيَحْتَجُّوا بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيْهِ عَلَى تَقْرِيْرِهِ وَإِثْبَاتِهِ - وَذَكَرُوا أَنَّهُم إِنَّمَا بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُم وَأَهْلِ العِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فعَصَمَهُ اللهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيْهِ؛ فَقَالَ: (إنَّا عَلَى سَفَرٍ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ).وَأَمَرَ بِهَدْمِهِ). (¬10) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (428/ 3): (وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مَشْهُوْرًا بِتَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ ذَلِكَ صَلَاتُهُ فِي المَوَاضِعِ الَّتِيْ كَانَ يُصَلِّي فِيْهَا. وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصُدُهُ لِلصَّلَاةِ فِيْهِ، كَمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَيَأْتِيْ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ (الكِتَابِ) إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا صَلَّى فِيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّفَاقًا لِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ لَهُ عِنْدَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِيْ اخْتَصَّ ابْنُ عُمَرَ بِإِتِّبَاعِهِ).

المسألة الخامسة) قياس الصالحين على الأنبياء في التبرك

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) قِيَاسُ الصَّالِحِيْنَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ فِي التَّبَرُّكِ: الجَوَابُ: إِنَّ بَرَكَةَ الذَّوَاتِ لَا تَكُوْنُ إِلَّا لِمَنْ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى إِعْطَائِهِ البَرَكَةَ كَالأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِيْنَ، وَأَمَّا غَيْرُهُم مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ فَبَرَكَتُهُم بَرَكَةُ عَمَلٍ، أَيْ: نَاشِئَةٌ عَنْ عِلْمِهِم وَعَمَلِهِم وَإِتِّبَاعِهِم لَا عَنْ ذَوَاتِهِم. وَمِنْ هَذِهِ البَرَكَاتِ: دُعَاؤُهُم النَّاسَ إِلَى الخَيْرِ، وَدُعَاؤُهُم لَهُم، وَنَفْعُهُم الخَلْقَ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِم بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَنَحْو هَذَا. وَمِنْ آثَارِ بَرَكَاتِ أَعْمَالِهِم مَا يَجْلِبُ اللهُ مِنَ الخَيْرِ عَلَى الأُمَّةِ بِسَبَبِهِم، وَيَدْفَعُ مِنَ النِّقمَةِ وَالعَذَابِ العَامِّ بِبَرَكَةِ إِصْلَاحِهِم (¬1)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هُوْد: 117). وَأَمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ ذَوَاتَهُم مُبَارَكَةٌ؛ فَيُتَمَسَّحَ بِهِم، وَيُشْرَبَ سُؤْرُهُم، وَتُقبَّلَ أَيْدِيْهِم لِلبَرَكَةِ دَائِمًا وَنَحْوَ ذَلِك؛ فَهُوَ مَمْنُوْعٌ فِي غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ لِأَوْجُهٍ: 1) عَدَمُ مُقَارَبَةِ أَحَدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الفَضْلِ؛ فكَيْفَ بِالمُسَاوَاةِ فِي البَرَكَةِ الذَّاتِيَّةِ؟! 2) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ دَلِيْلٌ شَرِعِيٌّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ فِي التَّبَرُّكِ بِأَجْزَاءِ ذَاتِهِ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ كَغِيْرِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ. 3) إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ. قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ): (إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَنَا فِي ذَلِكَ أَصْلٌ مَقْطُوْعٌ بِهِ فِي مَتْنِهِ، مُشْكِلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَلْفِهِ، إِذْ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ فِي الأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ كَانَ خَلِيْفَتُهُ، وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ شِيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ كَانَ أَفْضَلَ الأُمَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ سَائِرَ الصَّحَابَةِ - الَّذِيْنَ لَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنْهُم فِي الأُمَّةِ - ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُم مِنْ طَرِيْقٍ صَحِيْحٍ مَعْرُوْفٍ أَنَّ مُتَبَرِّكًا تَبَرَّكَ بِهِم عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الوُجُوْهِ أَوْ نَحْوِهَا (¬2)، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيْهِم عَلَى الاقْتِدَاءِ بِالأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ وَالسِّيَرِ الَّتِيْ اتَّبَعُوا فِيْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ إِذًا إِجْمَاعٌ مِنْهُم عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الأَشْيَاءِ). (¬3) (¬4) قُلْتُ: وَكَذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ التَّبَرُّكَ مَعَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، وَلَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْنَ، فَالبَرَكَةُ الذَّاتيَّةُ لَا تَنْتَقِلُ بِالنُّطْفَةِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الرَّافِضَةِ وَمُقَلِّدِيْهِم. (¬5) 4) أنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيْعَةِ العَظِيْمَةِ - قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا القُرْآنُ العَظِيْمُ فِي مَوَاضِعَ -، وَفِي السُّنَّةِ شَيْءٌ كَثِيْرٌ يُقَارِبُ صَحِيْحُهُ المِئَةَ، وَلَعَلَّهُ لِهَذَا لَمْ يُسَلْسَلِ التَّبَرُّكُ بِذَوَاتِ الصَّالِحِيْنَ، إِنَّمَا اخْتَصَّ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، فالتَّبَرُّكُ بِالصَّالِحِيْنَ يُفْضِي إِلَى الغُلُوِّ. 5) أَنَّ فِعْلَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّبَرُّكِ مَعَ غَيْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُؤمَنُ أنْ يَفْتِنَهُ وَتُعْجِبُهُ نَفْسُهُ فَيُوْرِثُهُ ذَلِكَ العُجْبَ وَالكِبْرَ وَالرِّيَاءَ وَتَزْكِيَةَ نَفْسِهِ، وَكُلُّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. ¬

_ (¬1) وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ خَبَرُ الأَبْدَالِ إِنْ قِيْلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِيْهِ حَدِيْثٌ مَرْفُوْعٌ يَصِحُّ، وَسَتَأْتِي مَعَنَا - إِنْ شَاءَ اللهُ - مَسْأَلَةٌ فِي خَبَرِ الأَبْدَالِ. (¬2) يَعْنِي: التَّبَرُّكَ بِالعَرَقِ وَالشَّعْرِ وَفَضْلِ الوُضُوْءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ القَرْعَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الجَدِيْدُ شَرْحُ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) (ص103): (مُلَاحَظَةٌ: كَثُرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيْرَةِ التَّبَرُّكُ بِعَرَقِ الصَّالِحِيْنَ، وَالتَّمَسُّحُ بِهِم وَبِثِيَابِهِم وَبِتَحْنِيْكِهِم لِلأَطْفَالِ - قِيَاسًا عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُوْنَ غَيْرِهِ؛ بِدَلِيْلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَفْعَلُوْهُ مَعَ غَيْرِهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالصَّحَابَةُ أَحْرَصُ مِنَّا عَلَى إِتِّبَاعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالاهْتِدَاءِ بِسُنَّتِهِ). (¬3) الاعْتِصَامُ (482/ 1). (¬4) وَأَمَّا حَدِيْثُ الطَّبَرَانِيِّ الَّذِي فِي الأَوْسَطِ (794) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا (كَانَ يَبْعَثُ إِلَى المَطَاهِرِ فَيُؤْتَى بِالمَاءِ فَيَشْرَبُهُ؛ يَرْجُو بَرَكَةَ أَيْدِي المُسْلِمِينَ) فَهُوَ حَدِيْثٌ مُنْكَرٌ كَمَا فِي الضَّعِيْفَةِ (6479)، وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ حَسَّنَهُ سَابِقًا فِي الصَّحِيْحَةِ (2118) ثُمَّ تَبَيَّنَتْ لَهُ نَكَارَتُهُ. وَ (المَطَاهِرُ): جَمْعُ (المِطْهَرَةِ): كُلُّ إِنَاءٍ يُتَطَهَّرُ مِنْهُ كَالإِبْرِيْقِ وَالسَّطْلِ وَالرَّكْوَةِ وَغَيْرِهَا. (¬5) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيْمَ وَابْنِهِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ} (الصَّافَّات:113) فَفِي ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ، رَغُمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَارَكَ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص706): (اقْتَضَى ذَلِكَ البَرَكَةَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ البَرَكةِ أَنْ تَكُوْنَ الذُّريَّةُ كُلُّهُم مُحْسِنِيْنَ، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُم مُحْسِنًا وَظَالِمًا، وَاللهُ أَعْلَمُ).

المسألة السادسة) ما الجواب عن شبهة تبرك الشافعي بقميص أحمد رحمهما الله

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) مَا الجَوَابُ عَنْ شُبْهَةُ تَبَرُّكِ الشَّافِعِيِّ بِقَمِيْصِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ: أَوْرَدَ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّارِيْخِ (قَالَ الرَّبِيْعُ: إِنَّ الشَّافِعِيَ خَرَجَ إِلَى مِصْرَ - وَأَنَا مَعَهُ - فَقَالَ لِي: يَا رَبِيْعُ، خُذْ كِتَابِي هَذَا وَامْضِ بِهِ وَسَلِّمْهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَائْتِنِي بِالجَوَابِ. قَالَ الرَّبِيْعُ: فَدَخَلْتُ بَغْدَادَ، وَمَعِيَ الكِتَابُ، فَلَقِيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الفَجْرَ. فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنَ المِحْرَابِ سَلَّمْتُ إِلَيْهِ الكِتَابَ؛ وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا كِتَابُ أَخِيْكَ الشَّافِعِيِّ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: نَظَرْتَ فِيْهِ؟ قُلْتُ: لَا، فَكَسَرَ أَبْو عَبْدِ اللهِ الخَتْمَ، وَقَرَأَ الكِتَابَ، فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوْعِ، فَقُلْتُ: إيش فِيْهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ قَالَ: يَذْكُرُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنَّي السَّلَامَ وَقُلْ: إِنَّكَ سَتُمْتَحَنُ وَتُدْعَى إِلَى خَلْقِ القُرْآنِ فَلَا تُجِبْهُم؛ فَسَيَرْفَعُ اللهُ لَكَ عَلَمًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. قَالَ الرَّبِيْعُ: فَقُلْتُ: البِشَارَة. فَخَلَعَ أَحَدَ قَمِيْصَيْهِ الَّذِيْ يَلِي جِلْدَهُ وَدَفَعَهُ إليَّ فَأَخَذْتُهُ، وَخَرَجْتُ إِلَى مِصْرَ، وَأَخَذْتُ جَوَابَ الكِتَابِ، فَسَلَّمْتُهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ لِيَ الشَّافِعِيُّ: يَا رَبِيْعُ، إيش الَّذِيْ دَفَعَ إِلَيْكَ؟ قُلْتُ: القَمِيْصَ الَّذِيْ يَلِيْ جِلْدَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ نَفْجَعُكَ بِهِ وَلَكِنْ بُلَّهُ وَادْفَعْ إِلَيَّ المَاءَ لِأَتبَرَّكَ بِهِ) - وَفِي رِوَايَةٍ (حَتَّى أَشْركَكَ فِيْهِ) -. (¬1) وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ القِصَّةَ غَيْرُ صَحِيْحَةٍ، فَقَدْ قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَرْجَمَةِ - الرَّبِيْعِ بْنِ سُلَيْمَانِ المُرَادِيِّ- (¬2): (وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبَ رِحلَةٍ، فَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ بَعَثَهُ إِلَى بَغْدَادَ بِكِتَابِهِ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَغَيْرُ صَحِيْحٍ). (¬3) 2) أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللهُ لَقِيَ مَنْ هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ مِثْلَ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِم، وَمَعْ ذَلِكَ لَمْ يُنقَلْ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ. 3) أَنَّ مَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُ - وَهُمُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم - لَمْ يَرِدْ عَنْهُم مِثْلَ هَذَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ وَمِنْ ثُمَّ عُمَرُ وَ .... ، فَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَفَعَلُوْهُ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُوْنَ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِيْنَ اتَّبَعُوْهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيْمُ} (التَّوْبَة:100) بَيَانُ الأَمْرِ بِإِتِّبَاعِهِم. (¬4) ¬

_ (¬1) تَارِيْخُ دِمْشَقَ (311/ 5). (¬2) سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (587/ 12). (¬3) وَأَيْضًا فِي أَحَدِ أَسَانِيْدِهَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ. قَالَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: (وَكَانَ يَضَعُ لِلصُّوْفِيَّةِ الأَحَادِيْثَ). انْظُرْ كِتَابَ (طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ) (ص412) لِلسُّيُوْطِيِّ. وَأَمَّا الأَسَانِيْدُ الأُخْرَى فَفِيْهَا انْقِطَاعٌ، وَبَعْضُ رُوَاتِهَا لَا يُعْرَفُ. (¬4) وَلَا يَصِحُّ الاحْتِجَاجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّبَرُّكِ بِقِصَّةِ يَعْقُوْبَ وَيُوْسُفَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ حَيْثُ بَعَثَ يُوْسُفُ بِقَمِيْصِهِ إِلَى أَبِيْهِ فَارْتَدَّ بَصِيْرًا بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ هُوَ مِمَّا أَثْبَتْنَاه سَابِقًا مِنَ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الأَنْبِيَاءِ المُنْفَصِلَةِ عَنْ جَسَدِهِم - مُمَثَّلًا هُنَا بِعَرَقِ الجَسَدِ -، فَلَيْسَ فِيْهِ دِلَالَةٌ عَلَى المَقْصُوْدِ؛ لِأَنَّ المَطْلُوْبَ هُنَا - فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ - إِيْرَادُ الدَّلِيْلِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّبَرُّكِ فِي غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ.

باب ما جاء في الذبح لغير الله

بَابُ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، لَا شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِيْنَ} (الأَنْعَام:163). وَقَوْلِهِ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكَوْثَر:2). عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: حَدّثَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعٍ كَلِمَاتٍ (لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَىَ مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ المَنَارَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (دَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ) , قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: (مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا, فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ. فَقَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا, فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيْلَهُ. قَالَ: فَدَخَلَ النَّارَ, وَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا. قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُوْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَضَرَبُوا عُنُقَهُ قَالَ فَدَخَلَ الجَنَّةَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي}. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. الثَّالِثَةُ: البَدَاءَةُ بِلَعْنَةِ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ. الرَّابِعَةُ: لَعْنُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَمِنْهُ أَنْ تَلْعَنَ وَالِدَيِ الرَّجُلِ فَيَلْعَنَ وَالِدَيْكَ. الخَامِسَةُ: لَعْنُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَهُوَ الرَّجُلُ يُحْدِثُ شَيْئًا يَجِبُ فِيْهِ حَقُّ اللهِ; فَيَلْتَجِئُ إِلَى مَنْ يُجِيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ: لَعْنُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ، وَهِيَ المَرَاسِيْمُ الَّتِيْ تُفَرِّقُ بَيْنَ حَقِّكَ وَحَقِّ جَارِكَ مِنَ الأَرْضِ، فَتُغَيِّرُهَا بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ. السَّابِعَةُ: الفَرَقُ بَيْنَ لَعْنِ المُعَيَّنِ وَلَعْنِ أَهْلِ المَعَاصِي عَلَى سَبِيْلِ العُمُوْمِ. الثَّامِنَةُ: هَذِهِ القِصَّةُ العَظِيْمَةُ، وَهِيَ قِصَّةُ الذُّبَابِ. التَّاسِعَةُ: كَوْنُهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابِ الَّذِيْ لَمْ يَقْصِدْهُ، بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ. العَاشِرَةُ: مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوْبِ المُؤْمِنِيْنَ; كَيْفَ صَبَرَ ذَلِكَ عَلَى القَتْلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طَلَبِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إِلَّا العَمَلَ الظَّاهِرَ?! الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الَّذِيْ دَخَلَ النَّارَ مُسْلِمٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا; لَمْ يَقُلْ: (دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ). الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِيْهِ شَاهِدٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ). الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ أَنَّ عَمَلَ القَلْبِ هُوَ المَقْصُوْدُ الأَعْظَمُ، حَتَّى عِنْدَ عَبَدَةِ الأَصْنَامِ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (1978). (¬2) صَحِيْحٌ مَوْقُوْفًا عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ سَلْمَانَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ (84). اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (5829). قُلْتُ: وَهُوَ خَبَرٌ غَيْبِيٌّ لَا يُدْرَكُ بِالعَقْلِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: إِنَّ حُكْمَهُ الرَّفْعُ؛ لِأَنَّ سَلْمَانَ كَانَ - قَبْلَ إِسْلَامِهِ - مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَيَحْتَمِلُ الخَبَرُ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ تَلَقَّاهُ عَنْهُم، لِذَلِكَ يَبْقَى الخَبَرُ مَوْقُوْفًا عَلَيْهِ؛ وَلَا يَأْخُذُ حُكْمَ الرَّفْعِ.

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ (لِغَيْرِ اللهِ): اللَّامُ لِلتَّعْلِيْلِ، أَيْ: الذَّبْحُ مِنْ أَجْلِ غَيْرِ اللهِ. - يُشْتَرَطُ فِي حِلِّ الذَّبِيْحَةِ أُمُوْرٌ: (¬1) 1) أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهَا؛ فَيَقُوْلَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا: (بِسْمِ اللهِ)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُم بِآيَتِهِ مُؤْمِنِيْنَ} (الأَنْعَام:118). (¬2) 2) أنْ لَا يَنْوِي بِهَا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى (أَيْ: مِنْ جِهَةِ التَّعْظِيْمِ). قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيْحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (المَائِدَة:3). وَالذَّبْحُ عَلَى النُّصُبِ هُوَ ذَبْحٌ لِغَيْرِ اللهِ. (¬3) 3) أنْ لَا يُذْكَرَ عَلَيْهَا اسْمُ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} (المَائِدَة:3). وَالإِهْلَالُ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ - وَهِي هُنَا تَسْمِيَةُ الذَّابِحِ -. - هَذَا الذَّبْحُ المُحَرَّمُ - مِنْ جِهَةِ النِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ - لَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ، أَبْرَزُهَا: 1) مَا ذُبِحَ مِنْ أَجْلِ اللَّحْمِ، وَذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللهِ. 2) مَا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ تَقَرُّبًا إِلَيْهَا. 3) مَا ذُبِحَ تَعْظِيْمًا لِمَخْلُوْقٍ وَتَحِيَّةً لَهُ عِنْدَ نُزُوْلِهِ وَوُصُوْلِهِ إِلَى المَكَانِ الَّذِيْ يُسْتَقْبَلُ فِيْهِ. 4) مَا ذُبِحَ عِنْدَ انْحِبَاسِ المَطَرِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ عِنْدَ قَبْرٍ لِأَجْلِ نُزُوْلِ المَطَرِ. 5) مَا ذُبِحَ عِنْدَ نُزُوْلِ البُيُوْتِ خَوْفًا مِنَ الجِنِّ أَنْ تُصِيْبَهُ. (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) مِنْ جِهَةِ التَّسْمِيَةِ وَالقَصْدِ. (¬2) وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَهَا هُوَ مِنَ بَابِ الاسْتِعَانَةِ بِاللهِ وَالتَّبَرُّكِ بِذِكْرِهِ تَعَالَى. (¬3) النُّصُبُ: حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ؛ فَيُعْبَدُ وَتُصَبُّ عَلَيْهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ. (¬4) أَوْ عِنْدَ أَوَّلِ تَشْغِيْلٍ لِآلَاتِ المَعَامِلِ. (¬5) اُنْظُرْ كِتَابَ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (233/ 1) لِلشَّيْخِ الفَوْزَانِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى.

- النُّسُكُ: لُغَةً العِبَادَةُ: وَيَأْتِي بِمَعْنَى ذَبْحِ القُرْبَانِ. - اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (للهِ): تُفِيْدُ الاسْتِحْقَاقَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} فَهِيَ تُفِيْدُ المُلْكَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ. وَمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِبَادَةً للهِ تَعَالَى فَصَرْفُهُ لِغَيْرِهِ شِرْكٌ بِهِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِيْنَ}، المُرَادُ بِهِ أَحَدُ مَعْنَيَيْن: 1) أَوَّلِيَّةٌ زَمَنِيَّةٌ: أَيْ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ. 2) أَوَّلِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ: وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ أَتَمُّ النَّاسِ انْقِيَادًا وَاتِّبَاعًا لِهَذَا الأَمْرِ القُرْآنِيِّ. - الصَّلَاةُ أَجَلُّ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ، وَالنَّحْرُ أَجَلُّ العِبَادَاتِ المَالِيَّةِ الظَّاهِرَةِ. - الكَوْثَرُ: الخَيْرُ الكَثِيْرُ، وَهُوَ اسْمُ نَهْرٍ فِي الجِنَّةِ. - قَوْلُهُ (بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ): الكَلِمَةُ فِي اصْطِلَاحِ النَّحَوِيِّيْنَ هِيَ اللَّفْظُ المُفْرَدُ، أَمَّا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ فَهِيَ كُلُّ قَوْلٍ مُفِيْدٍ، كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ). (¬1) وَلَهُمَا عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوْعًا (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ؛ ثَقِيْلَتَانِ فِي المِيْزَانِ؛ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ؛ سُبْحَانَ اللهِ العَظِيْمِ). (¬2) - اللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبْعَادُ. قَالَ أَبُو السَّعَادَاتِ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ: أَصْلُ اللَّعْنِ: الطَّرْدُ والإبْعَادُ مِنَ اللهِ، وَمِنَ الخَلْقِ السَّبُّ وَالدُّعَاءُ. (¬3) - قَوْلُهُ (لَعَنَ اللهُ): يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأُمُوْرَ مِنَ الكَبَائِرِ. وَفِي الحَدِيْثِ قَدْ تَكُوْنُ هَذِهِ الجُمْلَةُ: 1) خَبَريَّةً؛ أَيْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْهُم أَنَّهُم مَلْعُوْنُوْنَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الفِعْلِ. 2) إنْشَائِيَّةً؛ أَيْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَليْهِم. - قَوْلُهُ (لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ): يَعْنِي أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَإِنْ عَلَيَا. (¬4) - قَوْلُهُ (لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدثًا): بِالفَتْحِ: أَيْ: نَفْسَ البِدْعَةِ، وَالمَعْنَى مَنْ نَصَرَهَا. وَبِالكَسْرِ: أَيْ: نَفْسَ الجَانِي (المُجْرِمِ) أَيْ: مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الحَقُّ الَّذِيْ وَجَبَ عَلَيْهِ. (¬5) - قَوْلُهُ (لَعَنَ اللهُ مَنْ غيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ): أَيْ: حُدُوْدَهَا. (¬6) - قَوْلُهُ (فِي ذُبَابٍ): فِي سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذُبَابٍ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا (دَخَلَتِ امْرَأةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْها؛ فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْها تأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ). (¬7) ¬

_ (¬1) البُخَارِيِّ (3842)، وَمُسْلِمٍ (2256). (¬2) البُخَارِيِّ (6682)، وَمُسْلِمٍ (2594). (¬3) النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ (511/ 4). (¬4) وَفِي البُخَارِيِّ (5973)، وَمُسْلِمٍ (90) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ). قِيْلَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: (يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ وأُمَّهُ؛ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ). (¬5) وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُوْنَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ فَقَدْ ضَادَّ اللهَ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3597) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (437). (¬6) وَفِي الحَدِيْثِ (أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ كَلَّفَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرَضِيْنَ، ثُمَّ يُطَوَّقَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (17571) عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّة مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (240). (¬7) البُخَارِيُّ (3318).

- فَائِدَةٌ (1): ذَبَائِحُ أَهْلِ الكِتَابِ جَائِزَةٌ لِلمُسْلِمِيْنَ رُغْمَ كَوْنِهِم مُشْرِكِيْنَ (¬1)؛ لَكِنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ: 1) أَنْ يَكُوْنُوا حَقًّا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ مِنْهُمُ الآنَ مَنْ لَا يَدِيْنُ بِدِيَانَةٍ وَلَا يَعْتَرِفُ بِدِيْنِهِ أَصْلًا، فَمِثْلُ هَذَا هُوَ وَثَنِيٌّ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ. 2) أَنْ لَا يَذْكُرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. (¬2) - فَائِدَةٌ (2): التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي حِلِّ الذّبِيْحَةِ إِلَّا لِنِسْيَانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَوْقُوْفًا (المُسْلِمُ يَكْفِيْهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لِيَأْكُل). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي بُلُوْغِ المَرَامِ: (وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, مَوْقُوفًا عَلَيْهِ). (¬3) (¬4) وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في صَحِيْحِهِ: بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيْحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأَنْعَام:121)؛ وَالنَّاسِي لَا يُسَمَّى فَاسِقًا! وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ الشَّيَاطِيْنَ لَيُوحُوْنَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُوْنَ} (الأَنْعَام:121). (¬5) (¬6) وأَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البَقَرَة:286). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رجب رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيْحَةِ نِسْيَانًا؛ فِيْهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ (عَنْ أَحْمَدَ)، وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ عَلَى أنَّها تُؤْكَلُ). (¬7) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (40/ 3): (وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ العُلَمَاءِ؛ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُوْنَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ؛ وَإِنِ اعْتَقَدُوا فِيهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ قَوْلِهِمْ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ -). (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (141/ 13): (وَأَمَّا الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْبَحَ بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَنْ ذَبَحَ لِلصَّنَمِ أَوِ الصَّلِيْبِ أَوْ لِمُوْسَى أَوْ لِعِيْسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَوْ لِلْكَعْبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ ولَا تَحِلُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةُ - سَوَاءٌ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا - نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، فَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَعْظِيْمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ - غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى - وَالْعِبَادَةَ لَهُ؛ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا، فَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ صَارَ بِالذَّبْحِ مُرْتَدًّا). (¬3) (ص412). (¬4) مُلَاحَظَةٌ: لَفْظُ الحَدِيْثِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (3538): (المُسْلِمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبِيحَةَ فَلْيُسَمِّ وَلَيْأَكُلْ)، وَلَكِنْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ (4806)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الصَّغِيْرِ (3012) بِلَفْظِ (فَإِنَّ المُسْلِمَ فِيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ)، وَلَعَلَّ الحَافِظَ مِنْ أَجْلِ هَذَا رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ - تَرْجِيْحًا مِنْهُ -. وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬5) البُخَارِيُّ (90/ 7). (¬6) قُلْتُ: وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أَنَّ المَقْصُوْدَ بِهَا هُمُ المُشْرِكُوْنَ؛ لِأَنَّهُم هُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِيْنِ وَلَيْسَ المُسْلِمُوْنَ - وَإِنْ أَخْطَئُوا -. (¬7) جَامِعِ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ (367/ 2).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ: (كَوْنُهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابِ الَّذِيْ لَمْ يَقْصِدْهُ، بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِم!) فِيْهِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ القَصْدِ، وَمِنْ جِهَةِ العُذْرِ وَالإِكْرَاهِ، وَمِنْ جِهَةِ الجَزَاءِ (¬1)، فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ فِيْهِ تَوْجِيْهَاتٌ عِدَّةٌ: 1) إِمَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ قَاصِدًا لِهَذَا الذَّبْحِ غَيْرَ مُبَالٍ بِحُرْمَتِهِ - فَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ - كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الأَوَّلِ (لَيْسَ عِنْدِيْ شَيْءٌ أُقَرِّبُ) فَامْتِنَاعُهُ عَنِ الذَّبْحِ أَوَّلًا كَانَ سَبَبُهُ عَدَمُ المُلْكِ وَلَيْسَ كَوْنَهُ شِرْكًا؛ وَلَكَانَ أَوْلَى بِهِ أَنْ يَرْجِعَ أَدْرَاجَهُ لِأَنَّهُم إِنَّمَا مَنَعُوا مُجَاوَزَةَ الصَّنَمِ لِمَنْ لَمْ يَذْبَحْ، وَلَمْ يُخيِّرُوْهُ بَيْنَ قَتْلِهِ وَبَيْنَ ذَبْحِهِ لِلقُرْبَانِ. (¬2) 2) وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ مُكْرَهًا وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ النَّارَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرِيْعَتِهِم قَبُوْلُ العُذْرِ بِالإِكْرَاهِ. وَتَشْهَدُ لِذَلِكَ أُمُوْرٌ: أ) قَوْلُهُ تَعَالَى {الَّذِيْنَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُوْلَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِيْ يَجِدُوْنَهُ مَكْتُوْبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوْفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِيْ كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِيْنَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيْ أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأَعْرَاف:157). وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِيْ كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وَمِنْهَا التَّجَاوزُ عَنِ الإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَالخَطَإِ. (¬3) ب) قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ). (¬4) وَهُوَ صَرِيْحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْضُوْعًا عَنِ الأُمَّةِ سَابِقًا. (¬5) 3) وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّ الحَدِيْثَ مِنَ الإِسْرَائِيْلِيَّاتِ وَلَيْسَ بِمَرْفُوْعٍ؛ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي هَذَا الاسْتِدْلَالِ لِمُخَالَفَتِهِ النُّصُوْصَ الكَثِيْرَةَ المُصَرِّحَةَ بِالعُذْرِ بِالإِكْرَاهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ} (النَّحْل:106). (¬6) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (271/ 1): (هَذِهِ المِسْأَلَةُ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ (قرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا) يَقْتَضِيْ أنَّهُ فَعَلَهُ قَاصِدًا التَّقَرُّبَ (وَلَيْسَ كَقَوْلِ المُصَنِّفِ لَمْ يَقْصِدْهُ)، أَمَّا لَو فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِم؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ لِعَدَمِ قَصْدِ التَّقَرُّبِ). (¬2) قُلْتُ: وَلَا أَظُنُّ أَنَّ الشَّيْخَ المُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللهُ قَصَدَ ظَاهِرَ الكَلَامِ - مِنْ جِهَةِ تَكْفِيْرِ مَنْ فَعَلَ الكُفْرَ دُوْنَ قَصْدٍ مُطْلَقًا - وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1 - أَنَّ المُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ فِي المَسْأَلِةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ نَفْسِ البَابِ: (مَعْرِفَةُ أَنَّ عَمَلَ القَلْبِ هُوَ المَقْصُوْدُ الأَعْظَمُ؛ حَتَّى عِنْدَ عَبَدَةِ الأَصْنَامِ). 2 - قَوْلِ شُرَّاحِ الكِتَابِ الأَئِمَّةِ المَعْرُوْفِيْنَ بِمَعْرِفَةِ مَنْهَجِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ (كَصَاحِبِ فَتْحِ المَجِيدِ، وَابْنِ قَاسِمٍ فِي حَاشِيَتِهِ): (أَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّ أَهْلِ الصَّنَمِ)، حَيثُ أَضَافُوا لَفْظَةَ - ابْتِدَاءً - لِبَيَانِ أَنَّهُ انْتِهَاءً قَد قَصَدَ الكُفْرَ بِنَفْسِهِ؛ وَأَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِهِ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا وَجَّهْتُهُ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِ آيَةِ سُوْرَةِ النَّحْلِ {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ} (النَّحْل:106): (أَنَّ الرُّخْصَةَ لِمَنْ جَمَعَ بَينَهُمَا، خِلَافَ المُكْرَهِ فَقَط) حَيْثُ جَعَلَ رَحِمَهُ اللهُ مُجَرَّدَ الإِكْرَاهِ لَيْسِ بِعُذْرٍ حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ الاطْمِئْنَانُ بِالإيْمَانِ. انْظُرْ كِتَابَ (تَفْسِيْرِ آيَاتٍ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ (مَطْبُوعٌ ضِمْنَ مُؤَلَّفَاتِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ، الجُزْءُ الخَامِسُ)). وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (489/ 3): (وَقَدْ كَانَتِ الأُمَمُ الَّذِيْنَ كَانُوا قَبْلَنَا؛ فِي شَرَائِعِهِم ضِيْقٌ عَلَيْهِم، فَوَسَّعَ اللهُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أُمُوْرَهَا، وَسَهَّلَهَا لَهُمْ). (¬4) صَحِيْحٌ. البَيْهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (11454) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7110). (¬5) قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الأَمِيْنُ الشَّنْقِيْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَضْوَاءُ البَيَانِ فِي إِيْضَاحِ القُرْآنِ بِالقُرْآنِ) (251/ 3) - عِنْدَ تَفْسِيْرِ سُوْرَةِ الكَهْفِ -: (أَخَذَ بَعْضُ العُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أَنَّ العُذْرَ بِالإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ أَصْحَابِ الكَهْفِ {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} ظَاهِرٌ فِي إِكْرَاهِهِم عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ طَواعيَّتِهِم، وَمَعْ هَذَا قَالَ عَنْهُم: {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الإِكْرَاهَ لَيْسَ بِعُذْرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا المَعْنَى حَدِيْثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فِي الَّذِيْ دَخَلَ النَّار فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ الإِكْرَاهِ بِالخَوْفِ مِنَ القَتْلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِيْ امتنعَ أنْ يُقَرِّبَ - وَلَوْ ذُبَابًا - قَتَلُوْهُ. وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا دَلِيْلُ الخِطَابِ، أَيْ: مَفْهُوْمُ المُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِيْ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)، فَإِنَّهُ يُفهَمُ مِنْ قَوْلِهِ (تَجَاوَزَ لِيْ عَنْ أُمَّتِي) أَنَّ غَيْرَ أُمَّتِهِ مِنَ الأُمَمِ لَمْ يُتَجَاوَزْ لَهُم عَنْ ذَلِكَ). (¬6) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (5829): (وَبِالجُمْلَةِ؛ فَالحَدِيْثُ صَحِيْحٌ مَوْقُوْفًا عَلَى سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَظْهَرُ لِيْ أَنَّهُ مِنَ الإِسْرَائِيْلِيَّاتِ الَّتِيْ كَانَ تَلَقَّاهَا عَنْ أَسْيِادِهِ حِيْنَمَا كَانَ نَصْرَانِيًّا. هَذَا؛ وَإِنِّيْ لَأَسْتَنْكِرُ مِنْ هَذَا الحَدِيْثِ: دُخُوْلَ الرَّجُلِ النَّارَ فِي ذُبَابٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ القَتْلِ الَّذِيْ وَقَعَ لِصَاحِبِهِ، كَمَا أَنَّنِي اسْتَنْكَرْتُ قَوْلَ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ فِي المَسْأَلَةِ الحَادِيَةَ عَشَرةَ (أَنَّ الَّذِيْ دَخَلَ النَّارَ مًسْلِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا؛ لَمْ يَقُلْ: دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ)! فَأَقُوْلُ: وَجْهُ الاسْتِنْكَارِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَا يَخْلُوْ حَالُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ: الأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الذُّبَابَ لِلصَّنَمِ؛ إِنَّمَا قَدَّمَهُ عِبَادَةً لَهُ وَتَعْظِيْمًا، فَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ لَا يَكُوْن مُسْلِمًا؛ بَلْ هُوَ مُشْرِكٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّارِحِ الشَّيْخِ سُلَيْمَان رَحِمَهُ اللهُ (ص 161) ........ وَالآخَرُ: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ القَتْلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنِّيْ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ لَا تَجِبُ لَهُ النَّارُ، فَالحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ؛ يَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ} (النَّحْل:106)، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِيْنَ عَذَّبَهُ المُشْرِكُوْنَ حَتَّى يَكْفُرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَافَقَهُم عَلَى ذَلِكَ مُكْرَهًا، وَجَاءَ مُعْتَذِرًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا فِي تَفْسِيْرِ ابْنِ كَثِيْرٍ وَغَيْرِهِ ..). قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ - فِي الحَوَاشِيْ السَّابِقَةِ - تَوْجِيْهُ كَلَامِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ وَبَيَانُ عَدَمِ نَكَارَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ البَابِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) هَلِ الأَوْلَى لِلإِنْسَانِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الكُفْرِ أَنْ يَصْبِرَ وَلَوْ قُتِلَ! أَوْ يُوَافِقَ ظَاهِرًا؟ وَالجَوَابُ عَلَى حَالَاتٍ: 1) إِنْ كَانَ كُفْرًا ظَاهِرًا وبَاطِنًا فَهَذِهِ رِدَّةٌ، لَا تَجُوْزُ مُطْلَقًا. 2) إِنْ كَانَ ظَاهِرًا وَلَيْسَ بَاطِنًا لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الإِكْرَاهِ جَازَ. وَدَلَّ لَهُ حَدِيْثُ عَمَّارِ مَرْفُوْعًا وَفِيْهِ (إِنْ عَادُوا فَعُدْ). (¬1) وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُوْنَ الكَافِرِيْنَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِيْنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيْرُ} (آل عِمْرَان:28). (¬2) 3) لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا. فَهَذَا جَائِزٌ وَهُوَ مِنَ الصَّبْرِ. وَالأَوْلَى مِنْهُمَا بِحَسْبِ حَالِهِ: أ) فَإِنْ كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الدِّيْنِ لِلعَامَّةِ؛ أَوْ أَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِيْهِ نَفْعٌ وَزِيَادَةُ خَيْرٍ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلنَّاسِ، فَالتَّقِيَّةُ أَوْلَى. ب) وَإِنْ كَانَ فِي مُوَافَقَتِهِ ظَاهِرًا عَلَى الكُفْرِ (أَوِ الضَّلَالِ) ضَرَرٌ عَلَى الإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ - وَقَدْ يَكُوْنُ وَاجِبًا -، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الصَّبْرِ عَلَى الجِهَادِ فِي سَبِيْلِ اللهِ؛ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ. ¬

_ (¬1) وَفِي مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ (3362) (أَخَذَ المُشْرِكُوْنَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ تَرَكُوهُ فَلَمَّا أَتَى رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَا وَرَاءَكَ؟). قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُوْلَ اللهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ. قَالَ: (كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟) قَالَ: مُطْمَئِنًا بِالإِيْمَانِ. قَالَ: (إِنْ عَادُوا فَعُدْ). وَقَالَ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ). (¬2) قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (313/ 6): (إِلَّا أَنْ تَكُوْنُوا فِي سُلْطَانِهِم فَتَخَافُوْهُم عَلَى أَنْفُسِكُم؛ فَتُظْهِرُوا لَهُم الوَلَايَةَ بِأَلْسِنَتِكُم، وَتُضْمِرُوا لَهُمُ العَدَاوَةَ، وَلَا تُشَايعُوْهُم عَلَى مَا هُم عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وَلَا تُعِيْنُوهُم عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) مَا يُذْبَحُ عِنْدَ قُدُوْمِ الضَّيْفِ؛ هَلْ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ أَمْ مِنْ بَابِ الفَرَحِ بِقُدُوْمِهِ وَالاحْتِفَالِ بِذَلِكَ وَالتَّوْسِعَةِ فِي المَأْكَلِ بِسَبَبِهِ؟ وَالجَوَابُ: إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ إِظْهَارِ التَّعْظِيْمِ لَهُ فَهُوَ شِرْكٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الاحْتِفَالِ فَقَط بِقُدُوْمِهِ وَالتَّوْسِعَةِ فِي المَأْكَلِ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَقَدْ يَكُوْنُ مُسْتَحَبًّا مِنْ بَابِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ. وَعَلَامَةُ كَوْنِهِ تَعْظِيْمًا لَهُ أَمْرَانِ: 1) أَنَّهُ يَذْبَحُ عِنْدَ قُدُوْمِهِ أَمَامَهُ، فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ التَّعْظِيْمُ؛ وَأَنَّ مَا أُرِيْقَ مِنَ الدَّمِ فَهُوَ لَهُ. (¬1) (¬2) 2) أَنَّهُ يُذْبَحُ عِنْدَ قُدُوْمِهِ عَدَدٌ كَبِيْرٌ مِنَ المَوَاشِي أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ لِإِطْعَامِهِ وَإِطْعَامِ المَوْجُوْدِيْنَ وَالضُّيُوْفِ مَعَهُ، لِذَلِكَ فَبَعْدَ الذَّبْحِ يُرْمَى أَكْثَرُهَا وَلَا يُؤْكَلُ. (¬3) ¬

_ (¬1) وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَاقِلًا لَا يُرِيْقُ الدَّمَ أَمَامَ دَارِهِ وَبَيْنَ النَّاسِ وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ وَمَنْ حَوْلَهُ لِلتَّلَطُّخِ بِالدِّمَاءِ وَالدَّوْسِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ شَأْنُ الذَّبَائِحِ هُوَ فِي المَطَابِخِ المُجَهَّزَةِ لِذَلِكَ أَوِ الأَحْوَاشِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الزُّحَيْلِيُّ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّفْسِيْرُ المُنِيْرُ) (25/ 8): (لَكِنْ لَوْ كَانَ الذَّبْحُ بَيْنَ رِجْلَي القَادِمِ أَوْ مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ؛ فَلَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ ذَبْحٌ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، أَيْ ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (214/ 1): (فَلَوْ قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى بَلَدٍ؛ فَذَبَحْنَا لَهُ؛ فَإِنْ كَانَ تَقَرُّبًا وَتَعْظِيْمًا؛ فَإِنَّهُ شِرْكٌ أَكْبَرُ، وَتَحْرُمُ هَذِهِ الذَّبَائِحُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ: أَنَّنَا نَذْبَحُهَا فِي وَجْهِهِ ثُمَّ نَدَعُهَا).

باب لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله

بَابُ لَا يُذبَحُ للهِ فِي مَكَانٍ يُذبَحُ فِيْهِ لِغَيْرِ اللهِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {لَا تَقُمْ فِيْهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُوْمَ فِيْهِ فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِيْنَ} (التَّوْبَة:108). وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (هَلْ كَانَ فِيْهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ الجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟). قَالُوا: لَا. قَالَ: (فَهَلْ كَانَ فِيْهَا عِيْدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟) قَالُوا: لَا. قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنِذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِيْمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ {لَا تَقُمْ فِيْهِ أَبَدًا}. الثَّانِيَةُ: أَنَّ المَعْصِيَةِ قَدْ تُؤَثِّرُ فِي الأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الطَّاعَةُ. الثَّالِثَةُ: رَدُّ المَسْأَلَةِ المُشْكِلَةِ إِلَى المَسْأَلَةِ البَيِّنَةِ; لِيَزُوْلَ الإِشْكَالُ. الرَّابِعَةُ: اسْتِفْصَالُ المُفْتِي إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ. الخَامِسَةُ: أَنَّ تَخْصِيْصَ البُقْعَةِ بِالنَّذْرِ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا خَلَا مِنَ المَوَانِعِ. السَّادِسَةُ: المَنْعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيْهِ وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ؛ وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِهِ. السَّابِعَةُ: المَنْعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيْهِ عِيْدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؛ وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِهِ. الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ لَا يَجُوْزُ الوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ فِي تِلْكَ البُقْعَةِ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ. التَّاسِعَةُ: الحَذَرُ مِنْ مُشَابَهَةِ المُشْرِكِيْنَ فِي أَعْيَادِهِمْ؛ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ. العَاشِرَةُ: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيْمَا لَا يَمْلِكُ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3313). وَالحَدِيْثُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (3792) بِزِيَادَةِ (ولَا قَطِيْعَةِ رَحِمِ) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2872).

الشرح

الشَّرْحُ - سِيَاقُ الآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ {وَالَّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيْقًا بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَا تَقُمْ فِيْهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُوْمَ فِيْهِ فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِيْنَ} (التّوبة:108). (¬1) - قَوْلُهُ (لَا يُذْبَحُ للهِ): هَذَا مِنَ النَّفْي المُشْتَمِلِ عَلَى النَّهْي؛ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ مُجَرَّدِ النَّهْي، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ أَصْلًا. - الحِكْمَةُ فِي النَّهْي عَنِ الذَّبْحِ فِي مَكَانٍ يُذْبَحُ فِيْهِ لِغَيْرِ اللهِ هِيَ: 1) أَنَّهَا وَسِيْلَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى الشِّرْكِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ سَدِّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ. (¬2) 2) تَشَبُّهٌ بِالكُفَّارِ الَّذِيْنَ يَذْبَحُوْنَ فِيْهِ لِغَيْرِ اللهِ. 3) يُؤَدِّي لِلاغْتِرَارِ بِالفِعْلِ، فَمَنْ رَآه يَظُنُّ أَنَّ فِعْلَ المُشْرِكِيْنَ جَائِزٌ. 4) تَكْثِيْرٌ لِسَوَادِهِم، فَالمُشْرِكُوْنَ يَقْوَوْنَ عَلَى فِعْلِهِم إِذَا رَأَوا مَنْ يَفْعَلُ مِثْلَهُم. ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص351): (كَانَ أُنَاسٌ مِنَ المُنَافِقِيْنَ مِنْ أَهْلِ قُبَاء اتَّخَذُوا مَسْجِدًا إِلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، يُرِيْدُوْنَ بِهِ المَضَارَّةَ وَالمُشَاقَّةَ بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ، وَيُعِدُّوْنَهُ لِمَنْ يَرْجُوْنَهُ مِنَ المُحَارِبِيْنَ للهِ وَرَسُوْلِهِ - يَكُوْن لَهُم حِصْنًا عِنْدَ الاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ - فَبَيَّنَ تَعَالَى خِزْيَهُم؛ وَأَظْهَرَ سِرَّهُم فَقَالَ: {وَالَّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} أَيْ: مُضَارَّةً لِلمُؤْمِنِيْن وَلِمَسْجِدِهِم الَّذِيْ يَجْتَمِعُوْنَ فِيْهِ {وَكُفْرًا} أَيْ: قَصْدُهُم فِيْهِ الكُفْرُ؛ إِذْ قَصَدَ غَيْرُهُم الإِيْمَانَ. {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ} أَيْ: لِيَتَشَعَّبُوا وَيَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا، {وَإِرْصَادًا} أَيْ: إِعْدَادًا {لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: إِعَانَةً لِلمُحَارِبِيْنَ للهِ وَرَسُوْلِهِ الَّذِيْنَ تَقَدَّمَ حِرَابُهُم وَاشْتَدَّتْ عَدَاوَتُهُم، وَذَلِكَ كَأَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ الَّذِيْ كَانَ مِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَ إِلَى المَدِيْنَةِ؛ كَفَرَ بِهِ، وَكَانَ مُتَعَبِّدًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَذَهَبَ إِلَى المُشْرِكِيْنَ يَسْتَعِيْنُ بِهِم عَلَى حَرْبِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوْبَهُ عِنْدَهُم ذَهَبَ إِلَى قَيْصَرَ - بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ -؛ فَهَلَكَ اللَعِيْنُ فِي الطَّرِيْقِ، وَكَانَ عَلَى وَعْدٍ وَمُمَالَأَةٍ هُوَ وَالمُنَافِقُوْنَ، فَكَانَ مِمَّا أَعَدُّوا لَهُ مَسْجِدَ الضِّرَارِ، فَنَزَلَ الوَحْيُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَهْدِمُهُ وَيَحْرِقُهُ، فَهُدِمَ وحُرِقَ، وَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مَزْبَلَةً. قَالَ تَعَالَى - بَعْدَمَا بَيَّنَ مِنْ مَقَاصِدِهِم الفَاسِدَةِ فِي ذَلِكَ المَسْجِدِ -: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} فِي بِنَائِنَا إِيَّاهُ {إِلَّا الحُسْنَى} أَيْ: الإِحْسَانَ إِلَى الضَّعِيْفِ وَالعَاجِزِ وَالضَّرِيْرِ {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فَشَهَادَةُ اللهِ عَلَيْهِم أَصْدَقُ مِنْ حَلِفِهِم. {لَا تَقُمْ فِيْهِ أَبَدًا} أَيْ: لَا تُصَلِّ فِي ذَلِكَ المَسْجِدِ الَّذِيْ بُنِيَ ضِرَارًا أَبَدًا، فَاللهُ يُغْنِيْكَ عَنْهُ، وَلَسْتَ بِمُضْطَرٍّ إِلَيْهِ. {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ظَهَرَ فِيْهِ الإِسْلَامُ فِيْهِ - وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ - أُسِّسَ عَلَى إِخْلَاصِ الدِّيْنِ للهِ، وَإِقَامَةِ ذِكْرِهِ وَشَعَائِرِ دِيْنِهِ، وَكَانَ قَدِيْمًا فِي هَذَا عَرِيْقًا فِيْهِ، فَهَذَا المَسْجِدُ الفَاضِلُ {أَحَقُّ أَنْ تَقُوْمَ فِيْهِ} وَتَتَعَبَّدَ وَتَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى، فَهُوَ فَاضِلٌ، وَأَهْلُهُ فُضَلَاءُ، وَلِهَذَا مَدَحَهُم اللهُ بِقَوْلِهِ {فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} مِنَ الذُّنُوْبِ وَيَتَطَهَّرُوا مِنَ الأَوْسَاخِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالأَحْدَاثِ. (¬2) وَكَمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ لِعِلَّةِ مَنْعِ التَّشَبِّهِ بِالمُشْرِكِيْنَ - وَهِيَ مُشَابَهَةٌ زَمَنِيَّةٌ -؛ فَمَوْضُوْعُ البَابِ فِي المُشَابَهَةِ المَكَانِيَّةِ.

- النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ عُمُوْمًا لَهُ عِدَّةُ أَسْبَابٍ: 1) مُضَارَّةُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ بِمَسْجِدِ الضِّرَارِ. (¬1) 2) الكُفْرُ بِاللهِ حَيْثُ اتَّخَذَهُ المُنَافِقُوْنَ. 3) التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاء صَفٌّ أَوْ صَفَّانِ؛ يُصَلِّيْ فِيْهِ نِصْفُ صَفٍّ وَالبَاقِيْ فِي المَسْجِدِ الآخَرِ، وَالشَّرْعُ لَهُ نَظَرٌ فِي اجْتِمَاعِ المُصَلِّيْنَ. 4) الإِرْصَادُ (الإِعْدَادُ) لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ. - التَّقْوَى أَصْلُهَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ (وَقْوَى) فَالتَّاءُ فِيْهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَهِيَ مِنَ الوِقَايَةِ، وَقَاهُ يَقِيْهِ وِقَايَةً. (¬2) - المُتَّقِي لُغَةً: هُوَ مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُ وِقَايَةً، وَشَرْعًا: مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ وِقَايَةً. - التَّقْوَى لَا تَكُوْنُ إِلَّا عَنْ بَصِيْرَةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُوْنَ} (البَقَرَة:187) (¬3)، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (كَمْ مِنْ مُرِيْدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيْبَهُ). (¬4) - التَّقْوَى فِي القُرْآنِ تَكُوْنُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: 1) تَقْوَى بِمَعْنَى التَّوْحِيْدِ، وَقَدْ أُمرَ بِهَا النَّاسُ جَمِيْعًا. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيْرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِيْ تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا} (النِّسَاء:1). (¬5) 2) تَقْوَى أُمِرَ بِهَا المُؤْمِنُوْنَ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (البَقَرَة:278)، فَهِيَ لِلمُؤْمِنِ بَعْدَ تَحْصِيْلِهِ التَّوْحِيْدَ، وَمَعْنَاهَا أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُوْرٍ مِنَ اللهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ عَلَى نُوْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى. 3) تَقْوَى بِمَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَيْهَا وَعَلَى الطَّاعَةِ، فَهِيَ مُوَجَّهَةٌ لِمَنْ هُوَ آتٍ بِهَا. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِيْنَ وَالمُنَافِقِيْنَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيْمًا حَكِيْمًا} (الأَحْزَاب:1). ¬

_ (¬1) رُغْمَ أَنَّهُم عَلَّلُوا سَبَبَ بِنَائِهِ أَنَّهُ يَكُوْنُ لِلمَرِيْضِ أَوْ مِنْ أَجْلِ الليْلَةِ المَطِيْرَةِ أَوِ البَارِدَةِ لِئَلَّا يَشِقَّ عَلَيْهِم الذَّهَابُ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ. (¬2) كَمَا فِي لَفْظَةِ (تُجَاهَكَ) أَصْلُهَا (وُجَاهَكَ). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (520/ 1): (أَيْ: كَمَا بَيَّنَ اللهُ الصِّيَامَ وَأَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ وَتَفَاصِيْلَهُ؛ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ الأَحْكَامِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُوْلِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُوْنَ} أَيْ: يَعْرِفُوْنَ كَيْفَ يَهْتَدُوْنَ، وكَيْفَ يُطِيْعُوْنَ). (¬4) صَحِيْحٌ. الدَّارِمِيُّ (210) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَوْقُوْفًا. الصَّحِيْحَةُ (2005). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيْرِ (206/ 2): (يَقُوْلُ تَعَالَى آمِرًا خَلْقَهُ بِتَقْوَاهُ - وَهِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ - وَمُنَبِّهًا لَهُم عَلَى قُدْرَتِهِ الَّتِيْ خَلَقَهُم بِهَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {أَحَقُّ أَنْ تَقُوْمَ فِيْهِ} هَذَا فِيْهِ اسْتِعْمَالُ أَفْعُلِ التَّفْضِيْلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا، فَلَيْسَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ حَقٌّ أَصْلًا لِلصَّلَاةِ فِيْهِ؛ وَقَدْ أُسِّسَ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ المَعْصِيَةِ. - وَجْهُ المُنَاسَبَةِ مِنَ الآيَةِ: أَنَّ هَذَا المَسْجِدَ لَمَّا أُعِدَّ لِمَعْصِيَةِ اللهِ صَارَ مَحَلَّ غَضَبٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَا تَجُوْزُ الصَّلَاةُ فِيْهِ وَلَوْ للهِ، وَعَلَاقَةُ هَذَا مَعَ البَابِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ القِيَاسِ؛ حَيْثُ صَارَ فِيْهِ النَّهْيُ عَنْ مُشَابَهَةِ المُشْرِكِيْنَ فِي مَكَانِ العِبَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ للهِ، أَمَّا الحَدِيْثُ الآتِيْ فِي البَابِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّنْصِيْصِ عَلَى النَّهْي. - المَسْجِدُ المَذْكُوْرُ فِي الآيَةِ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَدْ وَرَدَتِ الفَضِيْلَةُ فِيْهِ وَفِي أَهْلِهِ، وَهِيَ: 1) أَنَّ الصَّلَاةَ فِيْهِ تَعْدِلُ عُمْرَةً، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ هذَا المَسْجِدَ - مَسْجِدَ قُبَاءٍ - فَيُصَلِّي فِيْهِ؛ كانَ لَهُ عَدْلَ عُمْرَةٍ). (¬1) 2) فَضِيْلَةُ أَهْلِهِ مِنْ جِهَةِ الطَّهَارَةِ - البَدَنِيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ -: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِيْنَ} (التَّوْبَة:108). (¬2) - قَوْلُهُ (بُوَانَة): قَالَ البَغَوِيُّ: مَوْضِعٌ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ دُوْنَ يَلَمْلَم (¬3)، وَقَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: هَضَبَةٌ مِنْ وَرَاءِ يَنْبُع (أَيْ: مِنْ جِهَةِ المَدِيْنَةِ). (¬4) - النَّذْرُ لُغَةً: الإِلْزَامُ وَالعَهْدُ، وَاصْطِلَاحًا: إِلْزَامُ المُكَلَّفِ نَفْسَهُ للهِ شَيْئًا غَيْرَ وَاجِبٍ، وَالنَّذْرُ مِنْهُ المَكْرُوْهُ (¬5) وَمِنْهُ المَمْدُوْحُ. - قَوْلُهُ (هَلْ كَانَ فِيْهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ الجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟): (يُعْبَدُ) صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ - كَاشِفَةٌ - ولَيْسَتْ مُقَيِّدَةٌ، وَالمَعْنَى هَلْ كَانَ فِيْهَا شَيْءٌ يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ؟، وَلَيْسَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَثَنٌ - وَلَكِنَّهُ لَا يُعْبَدُ - فَجَائِزٌ. (¬6) - فِي الحَدِيْثِ نَهْيٌ عَنِ الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ (هَلْ كَانَ فِيْهَا وَثَنٌ؟)، وَنَهْيٌ عَنْ وَسَائِلِهِ فِي قَوْلِهِ (عِيْدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟). ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (15981) عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (3446). (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ ((يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إِنَّ اللهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطُّهُوْرِ، فَمَا طُهُورُكُمْ؟) قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَنَغْتَسِلُ مِنَ الجَنَابَةِ، وَنَسْتَنْجِي بِالمَاءِ. قَالَ: (فَهُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوْهُ)). صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (355) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوْعًا. اُنْظُرْ تَحْقِيْقَ مِشْكَاةِ المَصَابِيْحِ (369). (¬3) شَرْحُ السُّنَّةِ (31/ 10). (¬4) النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ (430/ 1). (¬5) بَلْ إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ العِلْمِ يَمِيْلُ لِحُرْمَتِهِ؛ وَفِي البُخَارِيِّ (6693) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ؛ وَقَالَ: (إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا؛ وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيْلِ). (¬6) وَالصِّفَةُ المُوَضِّحَةُ يُفِيْدُ وَضْعُهَا بَيَانَ العِلَّةِ فِي النَّهْي. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَافِرُوْنَ} (المُؤْمِنُوْن:117). فَلَيْسَ مَعْنَى (لَا بُرْهَانَ لَهُ) أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ بُرْهَانٌ بِهِ فَجَائِزٌ! وَلَكِنِ المَعْنَى: أَنَّ أيَّ شَيْءٍ غَيْرَ اللهِ لَيْسَ لَهُ بُرْهَانٌ لِلعِبَادَةِ، فَهِيَ عِلَّةُ التَّوْحِيْدِ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ} (البَقَرَة:21) فَلَيْسَ المَعْنَى أَنَّهُ هُنَاكَ رَبٌّ خَالِقٌ وَهُنَاكَ رَبٌّ لَا يَخْلُقُ، وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الخَالِقُ وَحْدَهُ. وَمِثْلُهُ أَيْضًا حَدِيْثُ التِّرْمِذِيِّ (2677) مَرْفُوْعًا عَنْ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ - وَالحَدِيْثُ ضَعِيْفٌ؛ كَمَا فِي ضَعِيْفِ الجَامِعِ (965) -: (مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضلالَةٍ - لَا تُرْضِي اللهَ وَرَسُوْلَهُ - كانَ علَيْهِ مِثْلُ آثامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا). فَقَوْلُهُ (لَا يَرْضَاهَا) صِفَةٌ شَارِحَةٌ لِلضَّلَالَةِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ مِنَ البِدَعِ الضَّلَالَاتِ مَا تُرْضِي اللهَ وَرَسُوْلَهُ.

- العِيْدُ: لُغَةً مِنَ العَوْدِ، أَيْ: مَا يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ عَائِدٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: 1) عِيْدٌ زَمَنِيٌّ: كَيَوْمِ الفِطْرِ وَالأَضْحَى وَيَوْمِ الجُمُعَةِ. 2) عِيْدٌ مَكَانِيٌّ: أَيْ: مَا تُعَادُ زِيَارَتُهُ (¬1) - كَالحَدِيْثِ هُنَا - وَمِثْلِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى، هَذِهِ أَعْيَادٌ لِلمُسْلِمِيْنَ مَكَانِيَّةٌ. 3) الاجْتِمَاعُ وَالأَعْمَالُ المُعَيَّنَةِ: كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (شَهِدْتُ العِيْدَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (¬2) (¬3) - فِي الحَدِيْثِ دَلِيْلٌ وَاضِحٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ قَصْدِ وَنيَّةِ التَّشَبُّهِ كَيْ يَكُوْنَ ذَلِكَ الأَمْرُ لِلتَّحْرِيْمِ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَصْدِهِ - لَا سِيَّمَا وَأَنَّ السَّائِلَ مُسْلِمٌ -. (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا, وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيْدًا). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2042). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (2042). وَسَيَأْتِي قَرِيْبًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬2) البُخَارِيُّ (962). (¬3) وَأَعْيَادُ المُشْرِكِيْنَ مِنْ نَاحِيَةِ الأَمْكِنَةِ أَوِ الأَزْمِنَةِ مَعْلُوْمٌ أَنَّهَا رَاجِعَةٌ فِي نَشْأَتِهَا إِلَى عَقَائِدِهِم وَدِيَانَاتِهِم الشِّرْكيَّةِ، فَإِذًا يَكُوْنُ المَعْنَى أَنَّهُم يَتَعَبَّدُوْنَ فِي تِلْكَ الأَعْيَادِ عِبَادَاتِهِم الشِّرْكِيَّةَ، وَأَعْظَمُ مَا يُفْعَلُ عِنْدَهُم هُنَاكَ التَّقَرُّبُ بِالذَّبْحِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ. (¬4) وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2872) عِنْدَ حَدِيْثِ البَابِ: (وَفِيْهِ مِنَ الفِقْهِ تَحْرِيْمُ الوَفَاءِ بِنَذْرِ المَعْصِيَةِ، وَأَنَّ مِنْ ذَلِكَ الوَفَاءُ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ فِي مَكَانٍ كَانَ يُشْرَكُ فِيْهِ بِاللهِ، أَوْ كَانَ عِيْدًا لِلكُفَّارِ، فَضْلًا عَنْ مَكَانٍ يَتَعَاطَى النَّاسُ الشِّرْكَ فِيْهِ، أَوْ مَعَاصِيَ). قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى عَدَمُ جَوَازِ المُكْثِ فِي مَكَانٍ يُعْصَى فِيْهِ اللهُ تَعَالَى إِلَّا عَلَى جِهَةِ الإِنْكَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِيْنَ يَخُوضُوْنَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوْضُوا فِي حَدِيْثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِيْنَ} (الأَنْعَام:68). وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا (أَوْ أَنْكَرَهَا) كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا). حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (4345) عَنْ العُرْسِ بْنِ عَمِيْرَةَ الكِنْدِيِّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (689). (¬5) وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (إَنَّ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبِغُوْنَ؛ فَخَالِفُوهُمْ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3462)، وَمُسْلِمٌ (2103) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. وَالشَّاهِدُ مِنْهُ أَنَّ الشَّيْبَ لَا يَحْصُلُ بِالقَصْدِ - حَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيْهِ المُسْلِمُ وَالكَافِرُ - وَمَعْ ذَلِكَ أُمِرَ المُسْلِمُ بِتَغْيِيْرِهِ مُخَالَفَةً لِلنَّصَارَى.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) ثَبَتَتْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ فِي كَنِيْسَةٍ! فَمَا الجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ؟ (¬1) الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ صِفَةَ صَلَاةِ المُسْلِمِ فِي الكَنِيْسَةِ تُخَالِفُ صِفَةَ صَلَاةِ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِم، فَلَا يَكُوْنُ المُسْلِمُ مُتَشَبِّهًا بِهَذَا العَمَلِ؛ بِخِلَافِ الذَّبْحِ فِي مَكَانٍ يُذْبَحُ فِيْهِ لِغَيْرِ اللهِ فَإِنَّ الفِعْلَ وَاحِدٌ؛ أَيْ: مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ عِبَادَةً، وَكَوْنِهِ ذَبْحًا. (¬2) 2) أَنَّ الكَنَائِسَ بُنِيَتْ أَصْلًا لِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الشِّرْكُ، فَهِيَ تُخَالِفُ الأَمَاكِنَ الَّتِيْ اتُّخِذَتْ لِلشِّرْكِ المَحْضِ فِي الأَصْلِ، لِذَلِكَ إِذَا كَانَ الشِّرْكُ فِيْهَا ظَاهِرًا - كَمَا هُوَ الآنَ - فَلَا يُصَلَّى فِيْهَا (¬3)، كَمَا فِي البُخَارِيِّ (وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُم مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيْلِ الَّتِيْ فِيْهَا الصُّوَرُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي البِيْعَةِ إِلَّا بِيْعَةً فِيْهَا تَمَاثِيْلٌ). (¬4) (¬5) وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِذَا خَلَا المَكَانُ مِنَ المَوَانِعِ جَازَتِ الصَّلَاةُ، وَمِنْ هَذِهِ المَوَانِعِ: حُدُوْثُ المُشَابَهَةِ، وُوُجُوْدُ التَّصَاوِيْرِ وَمَظَاهِرِ الشِّرْكِ. (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) صَحِيْحُ البُخَارِيِّ (94/ 1) - بَابُ الصَّلَاةِ فِي البِيْعَةِ -: وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيْلِ الَّتِيْ فِيْهَا الصُّوَرُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي البِيعَةِ إِلَّا بِيعَةً فِيْهَا تَمَاثِيْلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيدُ) (229/ 5): (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي كَنِيْسَةٍ أَوْ بِيعَةٍ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ أَنَّ صَلَاتَهُ مَاضِيَةٌ جَائِزَةٌ). (¬2) وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ هَيئَتُهَا وَاحِدَةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِ وَالمُنَافِقِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ هُنَاكَ، عَدَا عَمَّا فِيْهِ مِنْ سَائِرِ المُخَالَفَاتِ الَّتِيْ سَبَقَ ذِكْرُهَا. (¬3) مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (42)، شَرْحُ البَابِ. بِتَصَرُّفٍ يِسِيْرٍ. قُلْتُ: وَمَفْهُوْمُ كَلَامِهِ - هُنَاكَ - أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِمِثْلِ الكَنَائِسِ وَالبِيَعِ، وَدُوْنَ وُجُوْدِ الصُّوَرِ فِيْهَا. (¬4) البُخَارِيُّ (94/ 1). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ البُخَارِيِّ (89/ 2): (اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ فِي البِيَعِ وَالكَنَائِسِ؛ فَكَرِهَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ الصَّلَاةَ فِيْهَا مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَالَ: انْضَحُوْهَا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَصَلُّوا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. ذَكَرَ إِسْمَاعِيْلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مَالِكٍ؛ قَالَ: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي الكَنَائِسِ لِمَا يُصِيْبُ فِيْهَا أَهْلُهَا مِنْ لَحْمِ الخَنَازِيْرِ وَالخُمُورِ وَقِلَّةِ احْتِيَاطِهِم مِنَ النَّجَسِ؛ إِلَّا أَنْ يَضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ طِيْنٍ أَوْ مَطَرٍ، إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ أنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا نَجَسٌ). (¬5) وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الجَعْدِيَّاتِ بِزِيَادَةِ (إِنْ كَانَ فِيْهَا تَمَاثِيْلُ؛ خَرَجَ فَصَلَّى فِي المَطَرِ). وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (1611). اُنْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (532/ 1) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬6) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الثَّمَرُ المُسْتَطَابُ) (395/ 1): (ثُمَّ حَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضِ العُلَمَاءِ التَّرْخِيْصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الكَنِيْسَةِ وَالبِيْعَةِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِيْمَا إِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيْلِ كَمَا يُفِيْدُهُ أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَعِيْدٌ عَنِ الصَّوَابِ، لِأَنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ صُوْرَةٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلِ الكَعْبَةَ حَتَّى مَحَا مَا فِيْهَا مِنَ الصُّوَرِ، ثُمَّ هِيَ بِمَنْزِلَةِ المَسْجِدِ المَبْنِيِّ عَلَى القَبْرِ كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ (فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى) (462/ 17): ((أُوْلَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيْهِ تِلْكَ التَّصَاوِيْرَ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيْهَا صُوَرٌ فَقَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ فِي الكَنِيْسَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). وَقَالَ فِي (الاخْتِيَارَاتِ): (وَالمَذْهَبُ الَّذِيْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الأَصْحَابِ كَرَاهَةُ دُخُوْلِ الكَنِيْسَةِ المُصَوَّرَةِ؛ فَالصَّلَاةُ فِيْهَا وَفِي كُلِّ مَكَانٍ فِيْهِ تَصَاوِيْرُ أَشَدُّ كَرَاهَةً. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِيْ لَا رَيْبَ فِيْهِ وَلَا شَكَّ)). (¬7) قُلْتُ: وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ صَلَاةَ المُسْلِمِ فِي كَنِيْسَةٍ - وَلَوْ خَلَتْ مِنَ الصُّوَرِ - فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ؛ تَخْتَلِفُ عَنْ صَلَاةِ المُسْلِمِ فِي هَذَا الزَّمَنِ؛ وَذَلِكَ لِقُوَّةِ الإِسْلَامِ وَظُهُوْرِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، بِخِلَافِ هَذَا الزَّمَنِ الَّذِيْ ظَهَرَتْ فِيْهِ العِلْمَانِيَّةُ وَدَعْوَى (وَحْدَةِ الأَدْيَانِ) وَغَيْرِهَا مِنَ الدَّعَاوَى المُمَيِّعَةِ لِلإِسْلَامِ؛ مِمَّا تَكُوْنُ فِيْهِ صَلَاةُ المُسْلِمِ اليَوْمَ فِي كَنِيْسَةٍ - وَلَوْ خَلَتْ مِنَ الصُّوَرِ؛ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ - أَشَدَّ حَظْرًا لِدِلَالَتِهَا عَلَى وَحْدَةِ المَضْمُوْنِ بَيْنَ المُسْلِمِ وَالنَّصْرَانِيِّ؛ بِخِلَافِ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيْلِ الَّتِيْ فِيْهَا الصُّوَرُ) فَهُوَ صَرِيْحٌ فِي ظُهُوْرِ عِزَّةِ المُسْلِمِ وَمُبَايَنَتِهِ لِلكُفَّارِ فِي طُقُوْسِهِم وَمَظَاهِرِهِم وَإِنْكَارِهِ لِشِرْكِهِم المُتَمَثِّلِ فِي الصُّوَرِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا حُكْمُ مَا يَحْصُلُ - وَخَاصَّةً فِي بِلَادِ الغَرْبِ - مِنْ شِرَاءِ كَثِيْرٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ لِكَنَائِسَ قَدِيْمَةٍ ثُمَّ تَعْدِيْلِهَا لِتَكُوْنَ مَسَاجِدَ، أَوْ هَدْمِ الكَنِيْسَةِ وَبِنَاءِ مَسْجِدٍ مَكَانَهَا؟ الجَوَابُ: هُوَ جَائِزٌ؛ وَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْي؛ لِأُمُوْرٍ: 1) أَنَّ تَغَيُّرَ الوَصْفِ مِنْ كَنِيْسَةٍ إِلَى مَسْجِدٍ لِلمُسْلِمِيْنَ؛ هُوَ تَغَيُّرٌ فِي أَصْلِ الاعْتِقَادِ فِي المَكَانِ، فَتَنْتَفِي عِلَّةُ النَّهْي - وَهِيَ المُشَابَهَةُ -. 2) أَنَّ هَيْئَةَ صَلَاةِ المُسْلِمِيْنَ مُغَايِرَةٌ بِشَكْلٍ تَامٍّ لِهَيْئَةِ صَلَاةِ النَّصَارَى وَاليَهُوْدِ، فَتَنْتَفِي عِلَّةُ النَّهْي أَيْضًا. 3) أَنَّ الكَعْبَةَ وَالمَسْجِدَ الحَرَامَ كَانَا مَلِيْئَيْنِ بِالأَصْنَامِ، وَلَكِنْ بَعْدَمَا أُزِيْلَتْ وَظَهَرَ الإِسْلَامُ عَلَى المَكَانِ لَمْ يَعُدْ لَهَا الطَّابَعُ الشِّرْكيُّ القَدِيْمُ. وَمِثْلُهُ أَيْضًا المَسْجِدُ النَّبَوِيُّ فَقَدْ أُقِيْمَ عَلَى قُبُوْرِ المُشْرِكِيْنَ بَعْدَمَا نُبِشَتْ. (¬1) ¬

_ (¬1) وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْر رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيرِ (457/ 7) - عَنِ اللَاتِ -: (وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُغِيْرَةَ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبَا سُفْيَان صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ، فَهَدَمَاهَا وَجَعَلَا مَكَانَهَا مَسْجِدَ الطَّائِفِ). قُلْتُ: وَهُوَ المَعْرُوْفُ بِمَسْجِدِ ابْنِ عَبَّاس، وَمَحَلُّ الوَثَنِ هُوَ فِي مَوْضِعِ المَنَارَةِ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (42)، شَرْحُ البَابِ.

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّ المَسْجِدَيْنِ الَّذِيْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: (هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا) لِمَسْجِدِ المَدِيْنَةِ). (¬1) فَمَا الجَوَابُ مَعَ مَا ذُكرَ أَنَّ الآيَةَ قَصَدَتْ مَسْجِدَ قُبَاءٍ؟ الجَوَابُ: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الآيَةِ وَالحَدِيْثِ، لِأَنَّ الآيَةَ ذَكَرَتْ أَنَّ المَسْجِدَ المُؤَسَّسَ مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ - بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَتِهِ مَعَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ -، أَمَّا الحَدِيْثُ فَهُوَ عَامٌّ بَيْنَ كُلِّ المَسَاجِدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ المُقَارَنَةُ بَيْنَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَبَيْنَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (1398).

باب من الشرك النذر لغير الله

بَابُ مِنَ الشِّرْكِ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {يُوفُوْنَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُوْنَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيْرًا} (الإِنْسَان:7). وَقَوْلُهُ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (البَقَرَة:270). وَفِيْ الصَّحِيْحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهِ فَلَا يَعْصِهِ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: وُجُوْبُ الوَفَاءِ بِالنَّذْرِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِبَادَةً للَّهِ؛ فَصَرْفُهُ إِلَى غَيْرِهِ شِرْكٌ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ نَذْرَ المَعْصِيَةِ لَا يَجُوْزُ الوَفَاءُ بِهِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6696).

الشرح

الشَّرْحُ - النَّذْرُ لُغَةً: الإِلْزَامُ وَالعَهْدُ. وَاصْطِلَاحًا: إِلْزَامُ المُكَلَّفِ نَفْسَهُ للهِ شَيْئًا غَيْرَ وَاجِبٍ. (¬1) - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ} يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً، وَوَجْهُ الاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَتِيْنِ: 1) أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّقَ النَّذْرَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى بهِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ جَزَاءٍ. 2) أَنَّ سِيَاقَهُ سِيَاقُ مَدْحٍ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى النَّفَقَةِ. - وَجْهُ اسْتِدْلَالِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ بِالآيَةِ هُنَا: هُوَ بَيَانُ أَنَّ النَّذْرَ عِبَادَةٌ للهِ، فَيَكُوْنُ جَعْلُهُ لِغَيْرِ اللهِ شِرْكًا، وَهُوَ اتِّخَاذُ الأَنْدَادِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَصْلٌ ذَكَرَ أَدِلَّتَهُ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي البابِ الأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإِسْرَاء:23)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ} (الذَّارِيَات:56)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النِّسَاء:36)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (الأنْعَام: 151). - الفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ وَبَيْنَ نَذْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ: (¬2) 1) النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ: هُوَ شِرْكٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ إِطْلَاقًا، وَلَا تَجِبُ فِيْهِ كَفَّارَةٌ؛ وإنّما تَجِبُ فِيْهِ التَّوْبَةُ، وَمِنَ التَّوْبَةِ قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ). (¬3) (¬4) 2) نَذْرُ المَعْصِيَةِ: لَيْسَ مِنَ الشِّرْكِ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ المَعَاصِي، وَهُوَ مُنْعَقِدٌ، وَلَا يَجُوْزُ الوَفَاءُ بِهِ، وَفِيْهِ الكَفَّارَةُ. - كَفَّارَةُ النَّذْرِ هِيَ كَفَّارَةُ اليَمِيْنِ، فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوْعًا (كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِيْنِ) صَحِيْحِ مُسْلِمٍ. (¬5) - كَفَّارَةُ اليَمِيْنِ بيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِيْنَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المَائِدَة:89). ¬

_ (¬1) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (/1235). (¬2) وَكِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ أَصْلًا. (¬3) قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ (ص 158): (قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ: وَأَمَّا مَا نُذِرَ لِغَيْرِ اللهِ كَالنَّذْرِ لِلأَصْنَامِ وَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالقُبُوْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللهِ مِنَ المَخْلُوْقَاتِ. وَالحَالِفُ بِالمَخْلُوْقَاتِ لَا وَفَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّاذِرُ لِلمَخْلُوْقَاتِ، فَإِنَّ كِلَاهُمَا شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ مِنْ هَذَا وَيَقُوْلَ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ وَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى؛ فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ)). (¬4) كَالحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ لَا يَنْعَقِدُ وَلَيْسَ فِيْهِ كَفَّارَةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (مَنْ حَلَفَ بِالكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَخْلُوْقَةٌ). اُنْظُرْ كِتَابَ (العُلُوُّ لِلعَلِيِّ الغَفَّارِ) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ص116). وَقَالَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَعَالِمُ السُّنَنِ) (45/ 4) - تَعْلِيْقًا عَلَى حَدِيْثِ الحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى -: (فِيْهِ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الحَلِفَ بِاللَّاتِ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ اليَمِيْنِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الإِنَابَةُ وَالاسْتِغْفَارُ). (¬5) مُسْلِمٌ (1645).

- أَنْوَاعُ النَّذْرِ - مِنْ جِهَةِ الابْتِدَاءِ -: 1) نَذْرُ الشَّرْطِ (¬1): وَيَكُوْنُ بِاشْتِرَاطِ فِعْلِ أَمْرٍ للهِ تَعَالَى فِي مُقَابِلِ قَضَاءِ اللهِ تَعَالَى لِأَمْرٍ مَا، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ (¬2)، كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا؛ (أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ وَقَالَ: (إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيْلِ)). (¬3) وَلَكِنَّ الوَفَاءَ بِهِ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ طَاعَةً للهِ تَعَالَى. (¬4) 2) نَذْرٌ مُطْلَقٌ: وَيَكُوْنُ ابْتِدَاءً مِنْ بَابِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، أَوِ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَلَيْسَتْ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرٍ مَا عَلَى سَبِيْلِ أَدَاءِ الشَّرْطِ - كَقَوْلِ القَائِلِ: (يَا رَبِّ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا، فَعَلْتُ أَنَا كَذَا) -. وَهَذَا النَّذْرُ المُطْلَقُ هُوَ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (البَقَرَة:270). (¬5) - وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الوَفَاءِ بِهِ: 1) مَا يَجِبُ الوَفَاءُ بِهِ؛ وَهُوَ نَذْرُ الطَّاعَةِ، وَفِي البُخَارِيِّ (¬6) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ). (¬7) 2) مَا يَحْرُمُ؛ وَهُوَ نَذْرُ المَعْصِيَةِ لِمَا سَلَفَ، وَلِقَوْلِهِ فِي حَدِيْثِ البَابِ السَّابِقِ (فَإنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنِذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ)، وَفِيْهِ الكفَّارةُ. 3) مَا يُكْرَهُ؛ وَهُوَ نَذْرُ المَكْرُوْهِ. 4) مَا يُبَاحُ؛ وَهُوَ نَذْرُ المُبَاحِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَكَفَّارَةِ اليَمِيْنِ. 5) نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالغَضَبِ، وَهَذَا المَقْصُوْدُ مِنْهُ الحَثُّ أَوِ المَنْعُ أَوِ التَّصْدِيْقُ أَوِ التَّكْذِيْبُ، كَقَوْلِ القَائِلِ: (للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيْحًا)، فَهُوَ كَالسَّابِقِ مُخَيَّرٌ فِيْهِ. (¬8) ¬

_ (¬1) أَوْ نَذْرُ المُجَازَاةِ. (¬2) وَحُكْمُ أَهْلِ العِلْمِ فِيْهِ بَيْنَ الكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيْمِ. (¬3) مُسْلِمٌ (1639)، وَفِي الحَدِيْثِ أَيْضًا (لَا تَنْذِرُوا؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ شَيْئًا؛ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيْلِ). صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (1640) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬4) قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في الجَامِعِ (164/ 3) عَقِبَ الحَدِيْثِ: (وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، كَرِهُوا النَّذْرَ، وقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ: (مَعْنَى الكَرَاهِيَةِ فِي النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ وَالمَعْصِيَةِ، وَإِنْ نَذَرَ الرَّجُلُ بِالطَّاعَةِ فَوَفَّى بِهِ؛ فَلَهُ فِيْهِ أَجْرٌ وَيُكْرَهُ لَهُ النَّذْرُ)). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (579/ 11): (وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يُوْفُوْنَ بِالنَّذْر} قَالَ: (كَانُوا يَنْذِرُونَ طَاعَةَ اللهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالحَجِّ وَالعُمْرَةِ وَمِمَّا افْتُرِضَ عَلَيْهِم فَسَمَّاهُمُ اللهُ أَبْرَارًا). وَهَذَا صَرِيْحٌ فِي أَنَّ الثَّنَاءَ وَقَعَ فِي غَيْرِ نَذْرِ المُجَازَاةِ). (¬6) البُخَارِيُّ (6696). (¬7) وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّ النّذْرَ نَذْرَانِ؛ فَمَا كَانَ للهِ فَكَفَّارَتُهُ الوَفَاءُ بِهِ؛ وما كَانَ لِلشَّيْطانِ فَلَا وَفَاءَ لَهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِيْنٍ). صَحِيْحٌ. البَيِهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (20078) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (479). (¬8) وَأَضَافَ إِلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ قِسْمًا سَادِسًا وَهُوَ النَّذْرُ المُطْلَقُ - وَهُوَ الَّذِيْ لَمْ يُسَمَّ نَذْرُهُ (كَقَوْلِ القَائِلِ: للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ) - فَهَذَا كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ لِحَدِيْثِ (كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةُ يَمِينِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (1528) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوْعًا. وَالحَدِيْثُ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ دُوْنَ زِيَادَةِ (وَلَمْ يُسَمِّ) وَهِيَ مَوْضِعُ الشَّاهِدِ. اُنْظُرْ ضَعِيْفَ الجَامِعِ (5862).

- أَنْوَاعُ اليَمِيْنِ: 1) يَمِيْنُ اللَّغُوِ: وَهُوَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى شَيْءٍ أَنَّهُ كَذَا - وَيَكُوْنُ مُخْطِئًا - فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. 2) اليَمِيْنُ الغَمُوْسُ: وَهُوَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى شَيْءٍ أَنَّهُ كَذَا - وَهُوَ كَاذِبٌ فِيْهِ -، فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ كَفَّارَةٌ (¬1)، وَفِي البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوْقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِيْنُ الغَمُوْسُ). (¬2) 3) اليَمِيْنُ المُنْعَقِدُ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ (¬3) أَوْ تَرْكِهِ: وَهُوَ الَّذِيْ فِيْهِ الكفَّارَةُ المَوْصُوْفَةُ بِالآيَةِ. - قَالَ الإِمَامُ مَالِكُ رَحِمَهُ اللهُ فِي المُوَطَّأِ - بَابُ اللَّغْوِ فِي اليَمِيْنِ -: (أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّغْوَ: حَلِفُ الإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُوْجَدُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ اللَّغْوُ. (¬4) وَعَقْدُ اليَمِيْنِ: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَبِيْعَ ثَوْبَهُ بَعَشَرَةِ دَنَانِيْرَ؛ ثُمَّ يَبِيْعَهُ بِذَلِكَ، أَوْ يَحْلِفَ لَيَضْرِبَنَّ غُلَامَهُ؛ ثُمَّ لَا يَضْرِبُهُ، وَنَحْوَ هَذَا، فَهَذَا الَّذِيْ يُكَفِّرُ صَاحِبُهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ فِي اللَّغْوِ كَفَّارَةٌ. فَأَمَّا الَّذِيْ يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ آثِمٌ -، وَيَحْلِفُ عَلَى الكَذِبِ - وَهُوَ يَعْلَمُ - لِيُرْضِيَ بِهِ أَحَدًا، أَوْ لِيَعْتَذِرَ بِهِ إِلَى مُعْتَذَرٍ إِلَيْهِ، أَوْ لِيَقْطَعَ بِهِ مَالًا؛ فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُوْنَ فِيْهِ كَفَّارَةٌ). (¬5) ¬

_ (¬1) وَذَلِكَ لِعِظَمِ الذَّنْبِ؛ فَلَا تَصْلُحُ فِيْهِ إِلَّا التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ. (¬2) البُخَارِيُّ (6870). (¬3) وَهُوَ المُشَابِهُ لِلنَّذْرِ، وَهُوَ الَّذِيْ وَرَدَتْ فِيْهِ الكَفَّارَةُ كَمَا سَلَفَ فِي الحَدِيْثِ (كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِيْن). (¬4) وَفِي البُخَارِيِّ (6663) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم} (البَقَرَة:225)؛ قَالَتْ: (أُنْزِلَتْ فِي قَوْلِهِ: لَا وَاللهِ، بَلَى وَاللهِ). (¬5) المُوَطَّأُ (477/ 2) مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ عَنْهُ بِحَذْفٍ يَسِيْرٍ.

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

بَابُ مِنَ الشِّرْكِ الِاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللهِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوْذُوْنَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوْهُمْ رَهَقًا} (الجِنّ: 6) وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فقَالَ: أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ, حَتّىَ يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ الجِنِّ. الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مِنَ الشِّرْكِ. الثَّالِثَةُ: الِاسْتِدْلالُ عَلَى ذَلِكَ بِالحَدِيْثِ; لِأَنَّ العُلَمَاءَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقَةٍ، لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِالمَخْلُوْقِ شِرْكٌ. الرَّابِعَةُ: فَضِيْلَةُ هَذَا الدُّعَاءِ مَعَ اخْتِصَارِهِ. الخَامِسَةُ: أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ يَحْصُلُ بِهِ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَةٌ - مِنْ كَفِّ شَرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ -؛ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشِّرْكِ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2708).

الشرح

الشَّرْحُ - قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (وَقَوْلُهُ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوْذُوْنَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوْهُمْ رَهَقًا} أَيْ: كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فَضْلًا عَلَى الإِنْسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُوْذُوْنَ بِنَا إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا أَوْ مَكَانًا مُوحِشًا مِنَ البَرَارِي وَغَيْرهَا - كَمَا كَانَتْ عَادَةُ العَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتهَا - يَعُوْذُوْنَ بِعَظِيْمِ ذَلِكَ المَكَانِ مِنَ الجَانِّ أَنْ يُصِيْبَهُمْ بِشَيْءٍ يَسُوْءُهُمْ؛ كَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بِلَادَ أَعْدَائِهِ فِي جِوَارِ رَجُل كَبِيْرٍ وَذِمَامِهِ وَخِفَارَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الجِنُّ أَنَّ الإِنْسَ يَعُوْذُوْنَ بِهِمْ - مِنْ خَوْفهمْ مِنْهُمْ - زَادُوْهُمْ رَهَقًا أَيْ: خَوْفًا وَإِرْهَابًا وَذُعْرًا حَتَّى بَقُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ مَخَافَةً، وَأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: {فَزَادُوْهُمْ رَهَقًا} أَيْ: إِثْمًا وَازْدَادَتِ الجِنُّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ جَرَاءَةً). - قَوْلُهُ (اسْتَعَاذَ) هُوَ عَلَى وَزْنِ (اسْتَفْعَلَ)، وَهَذَا البِنَاءُ (الأَلِفُ وَالسِّيْنُ وَالتَّاءُ) يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ لُغَةً: 1) الطَّلَبُ: كَحَدِيْثِ مُسْلِمٍ القُدْسِيِّ (يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي) (¬2)، وَأَيْضًا حَدِيْثِ مُسْلِمٍ القُدْسِيِّ الآخَرِ (يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُمْ). (¬3) 2) كَثْرَةُ الوَصْفِ فِي الفِعْلِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيْسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِيْنَ} (البَقَرَة:34). وَالمَعْنَى أَنَّ إِبْلِيْسَ زَادَ فِي كِبْرِهِ وَتَعَاظَمَ، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيْدٌ} (التَّغَابُن:6). - الاسْتِعَاذَةُ: طَلَبُ العَوْذِ؛ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬4): (وَالِاسْتِعَاذَة: هِيَ الِالْتِجَاءُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالِالْتِصَاقُ بِجَنَابِهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَالعِيَاذَةُ تَكُوْنُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَاللِّيَاذُ يَكُوْنُ لِطَلَبِ جَلْبِ الخَيْرِ، كَمَا قَالَ المُتَنَبِّي - مَادِحًا لِرَجُلٍ؛ وَلَا يَصْلُحُ مَا قَالَ إِلَّا للهِ تَعَالَى -: (يَا مَنْ أَلُوذ بِهِ فِيْمَا أُؤَمِّلهُ ... وَمَنْ أَعُوذ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرهُ لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِره ... وَلَا يَهِيْضُوْنَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ) - الاسْتِعَاذَةُ تَتَضَمَّنُ عَمَلَيْنِ: 1) عَمَلٌ بَاطِنٌ: وَهُوَ تَوَجُّهُ القَلْبِ وَسَكَنُهُ وَاضْطِرَارُهُ وَحَاجَتُهُ إِلَى هَذَا المُسْتَعَاذِ بِهِ، وَاعْتِصَامُهُ بِهِ، وَتَفْوِيْضُ أَمْرِ نَجَاتِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَجُوْزُ لِغَيْرِ اللهِ وَحْدَهُ سَوَاءً كَانَ المَطْلُوْبُ فِي طَاقَةِ المَخْلُوْقِ أَمْ لَا. 2) عَمَلٌ ظَاهِرٌ: وَهُوَ الطَّلَبُ، وَهَذَا القَدْرُ وَحْدَهُ يَجُوْزُ مِنَ المَخْلُوْقِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيْهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: حَيٌّ، حَاضِرٌ، قَادِرٌ (¬5). وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ فَإِنَّ طَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ اللهِ شِرْكٌ. ¬

_ (¬1) (239/ 8). (¬2) مُسْلِمٌ (2569) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) مُسْلِمٌ (2577) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوْعًا. (¬4) (114/ 1). (¬5) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3601)، وَمُسْلِمٍ (2886) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (سَتَكُوْنُ فِتَنٌ؛ القَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ).

- الجَانُّ جَمْعُ جِنِّي، وَسُمُّوا بِالجِنِّ لِاجْتِنَانِهِم أَيْ: اسْتِتَارِهِم عَنِ الأنْظارِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الجَنِيْنُ جَنِيْنًا لِأَنَّهُ لَا يُرَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمِنْهُ المِجَنُّ الَّذِيْ يُتَّخَذُ فِي الحَرْبِ يَتَوَقَّى بِهِ المُقَاتِلُ سِهَامَ العَدُوِّ؛ فَهُوَ يُجِنُّهُ مِنَ السِّهَامِ، وَمِنْهُ الصَّوْمُ جُنَّةٌ أَيْ: سَاتِرٌ بَيْنَ العَبْدِ وَالمَعَاصِي وَالنَّارِ. (¬1) - الاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهَا مِنْ أَوْجُهٍ: (¬2) 1) أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالاسْتِعَاذَةِ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوْذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} (الفَلَقْ:1)، وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ، فَجَعْلُهَا لِغَيْرِهِ شِرْكٌ. (¬3) 2) أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ بِغَيْرِ اللهِ هِيَ مِنْ أَعْمَالِ المُشْرِكِيْنَ، لِأَنَّ الجِنَّ ذَكَرُوْهَا عَنِ الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ سَمَاعِهِم لِلقُرْآنِ. 3) أَنَّ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ كَشْفَ الضُّرِّ، وَلَا جَلْبَ النَّفْعِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُوْنَ} (الزُّمَر:38). فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ مَعَ اللهِ تَعَالَى. 4) أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ هِيَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَدُعَاءُ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ (¬4)، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ} (يُوْنُس:106). قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬5): ({فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ} يَقُوْلُ: مِنَ المُشْرِكِيْنَ بِاللهِ، الظَّالِمِيْ أَنْفُسِهِم). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (460/ 6): (قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: (الجِنُّ عَلَى مَرَاتِبَ؛ فَالأَصْلُ جِنِّيٌّ، فَإِنْ خَالَطَ الإِنْسَ قِيْلَ: عَامِرٌ، وَمَنْ تَعَرَّضَ مِنْهُمْ لِلصِّبْيَانِ قِيْلَ: أَرْوَاحٌ، وَمَنْ زَادَ فِي الخُبْثِ قِيْلَ: شَيْطَانٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ: مَارِدٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيْلَ: عِفْرِيْتٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: العِفْرِيْتُ مِنَ الجِنِّ هُوَ العَارِمُ الخَبِيْثُ، وَإِذَا بُولِغَ فِيْهِ قِيْلَ: عِفْرِيْتٌ نِفْرِيْتٌ)). (¬2) مُسْتَفَادٌ مِنْ كِتَابِ (إِعَانَةِ المُسْتَفِيْدِ) (257/ 1) لِلشَّيْخِ الفَوْزَانِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - وَبِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ -. (¬3) وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ رَبِّ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِيْنِ، وَأَعُوْذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (المُؤْمِنُوْن:98). قُلْتُ: وَفِي الآيَةِ أُسْلُوْبُ الحَصْرِ فِي أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ مِنَ الشَّيَاطِيْنِ تَكُوْنُ بِاللهِ وَحْدَهُ. (¬4) وَكَمَا فِي نَفْسِ سُوْرَةِ الجِنِّ {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (الجِنّ:20). (¬5) (219/ 15).

- فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ عِدَّةُ فَوَائِدَ؛ مِنْهَا: تَحْرِيْمُ الاسْتِعَاذَةِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنِ التَجَأَ إِلَى غَيْرِ اللهِ خَذَلَهُ اللهُ، وَإِثْبَاتُ وُجُوْدِ الجِنِّ؛ وَأَنَّ فِيْهِم رِجَالًا وَنِسَاءً. - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَزَادُوْهُم رَهَقًا}: يَعْنِي خَوْفًا وَاضْطِرَابًا فِي القَلْبِ أَوْجَبَ لَهُم الإِرْهَاقَ، وَ (الرَّهَقُ) يَكُوْنُ فِي الأَبْدَانِ وَالأَرْوَاحِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ تَعَاظَمَتِ الجِنُّ وَزَادَ شَرُّهَا. - قَوْلُهُ (بِكَلِمَاتِ اللهِ): المُرَادُ بِالكَلِمَاتِ هُنَا: الكَلِمَاتُ الشَّرْعِيَّةُ وَالكَوْنِيَّةُ. فَكَلِمَاتُهُ الكَوْنِيَّةُ (القَدَرِيَّةُ): وَهِيَ الَّتِيْ يُكَوِّنُ اللهُ بِهَا الأَشْيَاءَ وَيُقَدِّرُهَا، فَهِيَ الَّتِيْ لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، فَقَضَاءُ اللهِ تَعَالَى وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لَا يَتَجَاوَزُهُ لَا البَرُّ وَلَا الفَاجِرُ. (¬1) أَمَّا كَلِمَاتُهُ الدِّيْنِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ شَرْعُهُ تَعَالَى الَّذِيْ أَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ. - قَوْلُهُ (التَّامَّات): أَيْ: الَّتِيْ لَيْسَ فِيْهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ، وَتَمَامُ الكَلَامِ هُوَ بِأَمْرِيْنِ: 1) الصِّدْقُ فِي الأَخْبَارِ. 2) العَدْلُ فِي الأَحْكَامِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ} (الأَنْعَام:115). - قَوْلُهُ (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ): أَيْ: مِنْ شَرِّ كُلِّ خَلْقٍ فِيْهِ شَرٌّ، لِأَنَّ هُنَاكَ خَلْقًا لَيْسَ فِيْهِم شَرٌّ؛ كَالأَنْبِيَاءِ وَالمَلَائِكَةِ وَ ..... - مِنْ فِقْهِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي إِيْرَادِ الحَدِيْثِ بَعْدَ الآيَةِ هُوَ الدِّلَالَةُ عَلَى أُمُوْرٍ؛ مِنْهَا: 1) لأَنَّ الاسْتِعَاذَةَ تَجُوْزُ بِصِفَاتِهِ تَعَالَى أَيْضًا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (أَعُوْذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ). مُسْلِمٌ. (¬2) 2) الإِرْشَادُ إِلَى الأُسْلُوْبِ النَّبَوِيِّ فِي الدَّعْوَةِ: أَنَّكَ إِذَا أَغْلَقْتَ بَابًا مِنَ الشَّرِّ فَافْتَحْ عِوَضًا عَنْهُ بَابًا مِنَ الخَيْرِ. مِثَالُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لَا تَقُوْلُوا رَاعِنَا وَقُوْلُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِيْنَ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} (البَقَرَة:104). - فَائِدَةٌ) كَلَامُ اللهِ تَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيْثُ - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ لَا تَجُوْزُ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ -. قَالَ أَبُو دَاوُد رَحِمَهُ اللهُ (¬3) عَقِبَ حَدِيْثِ (أُعِيْذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ): (هَذَا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ). (¬4) ¬

_ (¬1) وَفِي الحَدِيْثِ (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحمَّدُ قُلْ، قُلْتُ: وَمَا أَقُوْلُ؟ قَالَ: قُلْ أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِيْ لَا يُجاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وذَرَأ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيْهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأ فِي الأَرْضِ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ ما يَخْرُجُ مِنْها وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ يَطْرُقُ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمنُ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (15460) عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ خُنْبُش مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (840). (¬2) مُسْلِمٌ (2202). وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (486) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا، وبَوَّبَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (134/ 8) فِي كِتَابِ الأَيْمَانِ وَالنُّذُوْرِ: (بَابُ الحَلِفِ بِعِزَّةِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ). (¬3) صَاحِبُ السُّنَنِ، (ت 275 هـ). (¬4) وَالحَدِيْثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4737).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُ القَائِلِ: أَعُوْذُ بِاللهِ وَبِكَ، مَا حُكْمُهُ؟ الجَوَابُ: حُكْمُهُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: 1) شِرْكٌ أَكْبَرٌ: إِنْ كَانَ مَا يَعُوْذُ مِنْهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. 2) شِرْكٌ أَصْغَرٌ: إِنْ كَانَ مَا يَعُوْذُ مِنْهُ هُوَ مِمَّا يَقْدِرُ العَبْدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِالوَاوِ، وَهُوَ مِنِ اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ لَفْظًا، وَلَيْسَ بِأَكْبَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَا كَانَ للهِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى. وَعَلَيْهِ يَجُوْزُ قَوْلُ: أَعُوْذُ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ فِيْمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ العَبْدُ. وَجَاءَ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيِّ؛ (أَنَّهُ يَكْرَهُ: أَعُوْذُ بِاللَّهِ وَبِكَ، وَيُجَوِّزُ أَنْ يَقُوْلَ: بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، قَالَ: وَيَقُوْلُ: لَوْلَا اللهُ ثُمَّ فُلَانٌ، وَلَا تَقُوْلُوا: لَوْلَا اللهُ وَفُلَانٌ). (¬1) ¬

_ (¬1) مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (19811).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) التَّعَامُلُ مَعَ الجنِّ لَا يَجُوْزُ - وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا (¬1) -، وَدَلَّتْ لِذَلِكَ أُمُوْرٌ: 1) أَنَّ اسْتِمْتَاعَ الجِنِّيِّ بِالإِنْسِيِّ؛ وَالإِنْسِيِّ بِالجِنِّيِّ مُحَرَّمٌ فِي نُصُوْصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيْعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيْ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِيْنَ فِيْهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيْمٌ عَلِيْمٌ} (الأَنْعَام:128)، وَلَمْ يَأْتِ مَا يُخَصِّصُ هَذِهِ الآيَةَ، وَالاسْتِعَاذَةُ بِهِم هِيَ مِنْ جِنْسِ الاسْتِمْتَاعِ بِهِم. 2) أَنَّ تَسْخِيْرَ الجِنِّ هُوَ مِمَّا خُصَّ بِهِ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَجُوْزُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ. كَمَا ورَدَ فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ البَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي؛ فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ؛ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (ص:35) فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا). (¬2) (¬3) 3) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ دَعَا الجِنَّ إِلَى الإِسْلَامِ نَهَى ابْنَ مَسْعُوْدٍ عَنْ تَكْلِيْمِهِم، وَنَهَاهُ أَنْ يَبْرَحَ مَكَانَهُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ التَّعَامُلِ مَعَهُم، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِشَاءَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ حَتَّى خَرَجَ بِهِ إِلَى بَطْحَاءِ مَكّةَ فَأَجْلَسَهُ ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: (لَا تَبْرَحَنَّ خَطَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيَنْتَهِي إِلَيْكَ رِجَالٌ؛ فَلَا تُكَلّمْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَلّمُوْكَ)). (¬4) (¬5) وَفِي الأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَصْلِحُوا عَلَيْكُمْ مَثَاوِيْكُمْ، وَأَخِيْفُوا هَذِهِ الجِنَّانَ قَبْلَ أَنْ تُخِيْفَكُمْ، فَإِنَّهُ لَنْ يَبْدُوَ لَكُمْ مُسْلِمُوْهَا، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ عَادَيْنَاهُنَّ) (¬6)، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ (فَإِنَّهُ لَنْ يَبْدُوَ لَكُمْ مُسْلِمُوْهَا). ¬

_ (¬1) وَلَوْ كَانَ المَقْصُوْدُ هُوَ اسْتِخْدَامَ الجِنِّ المُسْلِمِ بِغَرَضِ العِلَاجِ مِنَ المَسِّ، أَوْ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِ المُسْلِمِيْنَ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ العَمَلِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ الكِرَامِ. اُنْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش455) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، وَاُنْظُرْ أَيْضًا أَشْرِطَةَ شَرْحِ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ (ش28) لِلشَّيْخِ صَالِحِ الفَوْزَانِ حَفِظَهُ اللهُ، وَاُنْظُرْ أَيْضًا أَشْرِطَةَ شَرْحِ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ (ش4) لِلشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ بْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ، خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ شَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ - أَوْ مَا قَدْ يُفْهَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ - كَمَا هُوَ مَذْكُوْرٌ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (87/ 13) حَيْثُ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُوْلِهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِنْسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُوْلُهُ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَمَا يَأْمُرُ الْإِنْسَ وَيَنْهَاهُمْ، وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالُ مَنْ اتَّبَعَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ؛ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ). وَرَاجِعْ لِزَامًا كَلَامَ الشَّيْخِ صَالِحِ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي أَشْرِطَةِ شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ش49) فِي بَيَانِ تَوْجِيْهِ كَلَامِ شَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) البُخَارِيُّ (3423). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (459/ 6): (وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ رِعَايَةً لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ). (¬4) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2861). صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ (2861). (¬5) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (389) عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ (أَرْسَلَنِي أَبِي إلَى بَنِي حَارِثَةَ - وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا أَوْ صَاحِبٌ لَنَا - فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ، قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِيْ مَعِي عَلَى الحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي فَقَالَ: لَوْ شَعَرْتُ أَنَّك تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنْ إذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَلَّى وَلَهُ حِصَاصٌ)). وَالحِصَاصُ هُوَ الضُّرَاطُ. وَأَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ هُوَ ذَكْوَانُ: تَابِعِيٌّ مِنَ الوُسْطَى، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَالشَّاهِدُ هُنَا قَوْلُ ذَكْوَان (لَوْ شَعَرْتُ أَنَّك تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ). (¬6) حَسَنٌ. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (347).

4) أَنَّ الجِنِّ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ كَانَ مِنْهُم مَنْ لَقِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ (¬1)، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ عِنْدَهُم مِنَ القُدُرَاتِ وَالإِمْكَانَاتِ الَّتِيْ أَعْطَاهُم إِيَّاهَا اللهُ تَعَالَى مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِم؛ وَقَدْ مَضَى زَمَنُ النُّبُوَّةِ وَزَمَنُ الصَّحَابَةِ (¬2) وَلَمْ يَجْرِ فِيْهِ الاسْتِعَانَةُ بِالجِنِّ - حَتَّى المُسْلِمِ مِنْهَا -، فَكَانَ هَذَا الأَمْرُ بِمَثَابَةِ إِجْمَاعٍ مِنْهُم عَلَى عَدَمِ مَشْرُوْعيَّتِهِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬3) 5) سَدًّا لِذَرِيْعَةِ الافْتِتَانِ بِهِم: وَالفِتْنَةُ هِيَ مِنْ وُجُوْهٍ: أ) أَنَّ الشَّيَاطِيْنَ الأَصْلُ فِيْهِمُ الكَذِبُ، فَلَا يُؤْمَنُ كَذِبُ مَنْ يَزْعُمُ مِنْهُم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ صَالِحٌ؛ فَهُم يُوْقِعُوْنَ العَدَاوَةَ بَيْنَ النَّاسِ فِي كَذِبِهِم. ب) أَنَّ الشَّيَاطِيْنَ لَهُم اسْتِدْرَاجٌ فَيَتَدَرَّجُوْنَ مِنْ مُبَاحٍ إِلَى مَكْرُوْهٍ إِلَى مُحَرَّمٍ إِلَى شِرْكٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِيْنٌ} (البَقَرَة:168). ج) أَنَّ الاسْتِعَانَةَ بِهِم - وَهُمْ غَيْرُ مُشَاهَدُوْنَ لَنَا - يَعْنِي الاسْتِغَاثَةَ بِهِم فِي جَمِيْعِ الأَحْوَالِ، وَهَذَا يُمَاثِلُ فِعْلَ المُشْرِكِيْنَ مَعَ آلِهَتِهِم وَمَعَ الجِنِّ، فَقَوْلُ أَحَدِهِم: (أَغِثْنِي يَا فُلَانُ - بِاسْمِ الجِنِّيِّ -) أَوْ (أُعُوْذُ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ - مِنَ الجِنِّ -) وَبِزَعْمِ أَنَّهُ حَيٌّ حَاضِرٌ قَادِرٌ؛ هَذَا ذَرِيْعَةٌ لِلشِّرْكِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الشِّرْكُ. فَاللهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُوْرَةِ الجِنِّ ضَلَالَ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ كَانُوا يَسْتَعِيْذُوْنَ بِمَرَدَةِ الجِنِّ مِنْ سَائِرِ الجِنِّ، وَالاسْتِعَاذَةُ طَلَبٌ وَاسْتِعَانَةٌ، وَلَمْ يَكُوْنُوا يَقُوْلُوْن هَذَا إِلَّا إِذَا نَزَلُوا فِي الأَوْدِيَةِ! فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُوْنَ كَبِيْرُ الجِنِّ يَسْمَعَ كَلَامَهُم؛ وَهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا مِنْهُ مَا لَا يَسْتَطِيْعُهُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ضَلَالَهُم. (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُم فِي سُوْرَةِ الجِنِّ {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} (الجِنّ:13). (¬2) رَوَى أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ (فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ) (ص304) عَنْ أَبِي مُوْسَى الأشعريِّ؛ أَنَّهُ أبطأَ عَلَيْهِ خَبَرُ عُمَرَ؛ وَكَانَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ لَهَا قَرِيْنٌ مِنَ الجِنِّ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَرَكَ عُمَرَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ. وَفِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ جَيْشًا فَقَدِمَ شَخْصٌ إِلَى المَدِيْنَةِ فَأَخْبرَ أَنَّهُم انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِم وَشَاعَ الخَبَرُ، فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ فذُكِرَ لَهُ، فَقَالَ: (هَذَا أَبُو الهَيْثَمِ بَرِيْدُ المُسْلِمِيْنَ مِنَ الجِنِّ، وَسَيَأْتِي بَرِيْدُ الإِنْسِ بَعْدَ ذَلِكَ)، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَيَّامٍ. أَوْرَدَهُ بَدْرُ الدِّيْنِ الشُّبليِّ فِي كِتَابِ (آكَامِ المَرْجَان فِي أَحْكَامِ الجَانِّ) (ص 139) بِدُوْنِ سَنَدٍ. اُنْظُرْ كِتَابَ (المُنْتَخَبُ مِنْ كُتُبِ شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة) (ص99) لِلشَّيْخِ عَلَوِيّ السَّقَّافِ حَفِظَهُ اللهُ. (¬3) قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي كِتَابِهِ (الآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ) (198/ 1): (قَالَ أَحْمدُ رَحِمَهُ اللهُ فِي الرَّجُلِ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُعَالِجُ المَجْنُوْنَ مِنَ الصَّرَعِ بِالرُّقَى وَالعَزَائِمِ، أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الجِنَّ وَيُكَلِّمُهُم، وَمْنُهم مَنْ يَخْدُمُهُ؛ قَالَ: مَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، تَرْكُهُ أَحَبُّ إليَّ)، وَهَذَا يُرَادُ بِهِ التَّحْرِيْمُ، كَمَا هُوَ المَعْلُوْمُ مِنْ نُصُوْصِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَلْفَاظِهِ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا: (أَكْرَهُ ذَبَائِحَ الجِنِّ) وَمُرَادُهُ التَّحْرِيْمُ. (¬4) وَإِذَا كَانَتِ الاسْتِعَانَةُ بِالجِنِّ هِيَ فِيْمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى؛ كَانَتْ حَيْنَئِذٍ شِرْكًا أَكْبَرًا، قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا وَهُمْ فِيْهَا يَخْتَصِمُوْنَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ، إِذْ نُسَوِّيْكُمْ بِرَبِّ العَالَمِيْنَ} (الشُّعَرَاء:98). (¬5) فَائِدَةٌ: وَأَمَّا زَعْمُ بَعْضِهِم - عِنْدَمَا يَصْطَدِمُ بِنُصُوْصِ المَنْعِ السَّابِقَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الجِنِّ إِطْلَاقًا - أَنَّهُ يَتَعَامَلُ مَعَ المَلَائِكَةِ؛ وَأَنَّهُ يَسْتَعِيْنُ بِهِم عَلَى قَضَاءِ حَاجَاتِ النَّاسِ؛ فَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ المَلَائِكَةَ خَلْقٌ مُطِيْعٌ لَهُ سُبْحَانَهُ يَعْمَلُوْنَ بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُوْنَ، لَا يَسْبِقُوْنَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُوْنَ} (الأنبياء:27)، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَقْدِيْمَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيْرُ يُفِيْدُ الحَصْرَ، فَالمَلَائِكَةُ لَا تَعْمَلُ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا أَصْلًا إِلَّا أَنْ يَأْمُرَهَا اللهُ تَعَالَى بِهِ.

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) إِذَا كَانَتِ الاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنِ الأَحَادِيْثِ الَّتِيْ فِيْهَا الاسْتِعَاذَةُ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِحُضُوْرِهِ أَيْضًا - دُوْنَ إِنْكَارٍ مِنْهُ عَلَى المُسْتَعِيْذِ بِهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيْثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُوْدٍ البَدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ (أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلَامَهُ، فَجَعَلَ يَقُوْلُ: أَعُوْذُ بِاللهِ، قَالَ: فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَقَالَ: أَعُوْذُ بِرَسُوْلِ اللهِ، فَتَرَكَهُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللهِ؛ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ)، قَالَ: فَأَعْتَقَهُ). (¬1) الجَوَابُ: قَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ تَجُوْزُ إِذَا تَحَقَّقَتْ ثَلَاثَةُ شُرُوْطٍ، وَهِيَ كَوْنُ المَدْعُوِّ أَوِ المُسْتَعَاذِ بِهِ حَيًّا؛ حَاضِرًا أَمَامَهُ؛ قَادِرًا عَلَى مَا أُعِيْذَ بِهِ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ فَلَا مَحْذُوْرُ فِي ذَلِكَ، وَيَكُوْنُ الأَخْذُ بِهَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ المَأْذُوْنِ بِهَا. (¬2) وَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَحَادِيْثِ أَنَّ أَحَدًا: أ- اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ. ب- اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ. ج- اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَرُ. وَأَمَّا بِخُصُوْصِ نَفْسِ الحَدِيْثِ؛ فَالغُلَامُ اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا رَآهُ - لِيَنْجُوَ مِنَ العَذَابِ؛ وَلَيْسَ حَالَ غِيَابِهِ - لِاعْتِقَادِهِ قُوْةً ذَاتِيَّةً فِي النَّفْعِ أَوِ كَشْفِ الضُّرِّ فِيْهِ! -، وَدَلَّ لِذَلِكَ لَفْظُ الحَدِيْثِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (¬3)؛ وَفِيْهِ (بَيْنَا رَجُلٌ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ - وَهُوَ يَقُوْلُ: أَعُوْذُ بِاللَّهُ -؛ إِذْ بَصُرَ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَعُوْذُ بِرَسُوْلِ اللهِ). - فَائِدَةٌ) أَمَّا وَجْهُ تَرْكِ أَبِي مَسْعُوْدٍ لِضَرْبِ الغُلَامِ عِنْدَ الاسْتِعَاذَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَرَكَهُ عِنْدَ الاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى - هُوَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْقِلْ مَا حَوْلَهُ مِنَ الكَلَامِ لِشِدَّةِ الغَضَبِ؛ فَلَمَّا رَآى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ السَّوْطُ مِنْ هَيْبَتِهِ - كَمَا فِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ -؛ وَفِيْهِ قَالَ أَبُو مَسْعُوْدٍ البَدْرِيُّ: (كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ؛ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُوْدٍ). فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُوْلُ: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُوْدٍ؛ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُوْدٍ). قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا (فَسَقَطَ مِنْ يَدِي السَّوْطُ مِنْ هَيْبَتِهِ)، فَقَالَ: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُوْدٍ؛ أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلَامِ). فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا). قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ): (فَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْمَعْ إِسْتِعَاذَتَهُ الأُوْلَى لِشِدَّةِ غَضَبِهِ؛ كَمَا لَمْ يَسْمَعْ نِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ، أَوْ يَكُوْنُ لَمَّا اسْتَعَاذَ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَبَّهَ لِمَكَانِهِ). (¬4) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (1659). وَمِثْلُهُ أَيْضًا الحَدِيْثُ الَّذِيْ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (15954)؛ أَنَّ الحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ البَكْرِيَّ قَالَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعُوْذُ بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ أَنْ أَكُوْنَ كَوَافِدِ عَادٍ) - عَلَى القَوْلِ بِعَدَمِ شُذُوْذِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الفَاضِلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيَّةُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَوْسُوْعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَقْدِ أُصُوْلِ فِرْقَةِ الأَحْبَاشِ وَمَنْ وَافَقَهُم فِي أُصُوْلِهِم) (74/ 1) - حَيْثُ حَسَّنَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ. اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (1228). وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الحَدِيْثِ (كَوَافِدِ عَادٍ) فَهُوَ مَثَلٌ مَعْنَاهُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِيُّ فِي كِتَابِهِ (مُحَاضَرَاتُ الأُدَبَاءِ) (388/ 1) -: (وَوَافِدُ عَادٍ: هُوَ الَّذِيْ بَعَثُوْهُ إِلَى الحَرَمِ لِيَسْتَسْقِي لَهُم؛ فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ؛ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُ الخَمْرَ وَتُغَنِّي لَهُ الجَرَادَتَانِ، ثُمَّ أَتَى جِبَالَ مَهْرَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَجِئْ لِفَائِتٍ فَأُوْدِيْهِ، وَلَا لِأَسِيْرٍ فَأَفْادِيْهِ، وَلَا لِمَرِيْضٍ فَأُدَاوِيْهِ، اللُّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيْهِ! فَعَرَضَتْ لَهُم سَحَابَةٌ أَهْلَكَتْهُم). وَ (الجَرَادَتَانِ): مُغَنِّيَتَانِ مَعْرُوْفَتَانِ عِنْدَ العَرَبِ. وَلَكِنْ هُنَا يَبْقَى إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ جَوَازِ العَطْفِ فِي قَوْلِهِ (أَعُوْذُ بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ) حَيْثُ قَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: (أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا? بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ). صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10759). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (783). وَالجَوَابُ عَلَيْهِ - عِنْدِي - هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أ) أَنْ يَكُوْنَ هَذَا قَبْلَ النَّهْي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ فِي الأَلْفَاظِ لَمْ يَكُنْ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ أَوْلًا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا؛ فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُوْلُوْنَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، - قَالَ -: لَا تَقُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (20694) عَنْ طُفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (138). ب) أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةِ (وَرَسُوْلِهِ) قَدْ تَكُوْنُ وَهْمًا وَتَصَرُّفًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ - وَاللهُ أَعْلَمُ -، وَوَجْهُ ذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ: الأُوْلَى: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الحَدِيْثِ النَّهْيُ عَنِ العَطْفِ بِالوَاوِ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَالرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ - لَا سِيَّمَا وَأَنَّ إِعَاذَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَايِنَةٌ لِإِعَاذَةِ اللهِ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَكْثَرَ أَلْفَاظِ الحَدِيْثِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى قَوْلِهِ (أَعُوْذُ بِاللهِ) فَقَط، دُوْنَ زِيَادَةِ (وَرَسُوْلِهِ)، كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي: - تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (512/ 14). - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (3273). - الاسْتِيْعَابُ لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ (286/ 1). - العَظَمَةُ لِأَبِي الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيِّ (1320/ 4)، وَهِيَ عِنْدَهُ بِلَفْظِ (فَأَعُوْذُ بِاللهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَنْ أَكُوْنَ كَوَافِدِ عَادٍ)، وَهَذَا أَقْرَبُ لِكَوْنِ لَفْظَةِ (وَرَسُوْلِهِ) بِالعَطْفِ وَهْمٌ أَوْ تَصْحِيْفٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ. - الأحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الكُبْرَى لِلإِشْبِيْلِيِّ (212/ 4). (¬2) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ تَتَضَمَّنُ عَمَلَيْنِ: أ) عَمَلٌ بَاطِنٌ؛ وَهُوَ تَوَجُّهُ القَلْبِ وَسَكَنُهُ وَاضْطِرَارُهُ وَحَاجَتُهُ إِلَى هَذَا المُسْتَعَاذِ بِهِ وَاعْتِصَامُهُ بِهِ، وَتَفْوِيْضُ أَمْرِ نَجَاتِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَجُوْزُ لِغَيْرِ اللهِ وَحْدَهُ سَوَاءً كَانَ المَطْلُوْبُ فِي طَاقَةِ المَخْلُوْقِ أَمْ لَا. ب) عَمَلٌ ظَاهِرٌ؛ وَهُوَ الطَّلَبُ، وَهَذَا القَدْرُ وَحْدَهُ يَجُوْزُ مِنَ المَخْلُوْقِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيْهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: حَيٌّ، حَاضِرٌ، قَادِرٌ. (1) وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ فَإِنَّ طَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ اللهِ شِرْكٌ. كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3601)، وَمُسْلِمٌ (2887) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (سَتَكُوْنُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي. مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ. فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ). (¬3) (17957). (¬4) إِكْمَالُ المُعْلِمِ (223/ 5).

باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

بَابُ مِنَ الشِّرْكِ أَنَّ يَسْتَغِيْثَ بِغَيْرِ اللهِ أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {وَلا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ، وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيْبُ بِهِ مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ} (يُوْنُس:107). وَقَوْلُهُ {إِنَّ الَّذِيْنَ تَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَمْلِكُوْنَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:17). وَقَوْلُهُ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُوْنِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَاَدِتِهمْ كَافِرِيْنَ} (الأَحْقَاف:6). وَقَوْلُهُ {أَمَّن يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوْءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ} (النَّمْل:62). وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ؛ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيْثُ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: أَنَّ عَطْفَ الدُّعَاءِ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ مِنْ عَطْفِ العَامِّ عَلَى الخَاصِّ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}. الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَصْلَحَ النَّاسِ لَوْ فَعَلَهُ إِرْضَاءً لِغَيْرِهِ، صَارَ مِنَ الظَّالِمِيْنَ. الخَامِسَةُ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ الَّتِيْ بَعْدَهَا. السَّادِسَةُ: كَوْنُ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِ كُفْرًا. السَّابِعَةُ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ لَا يَنْبَغِي إِلَّا مِنَ اللهِ؛ كَمَا أَنَّ الجَنَّةَ لَا تُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ. التَّاسِعَةُ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ. العَاشِرَةُ: أَنَّهُ لَا أَضَلُّ مِمَّنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي لَا يَدْرِي عَنْهُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ سَبَبٌ لِبُغْضِ المَدْعُوِّ لِلدَّاعِي وَعَدَاوَتِهِ لَهُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تَسْمِيَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ عِبَادَةً لِلْمَدْعُوِّ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كُفْرُ المَدْعُوِّ بِتِلْكَ العِبَادَةِ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الأُمُوْرَ هِيَ سَبَبُ كَوْنِهِ أَضَلَّ النَّاسِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ الخَامِسَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الأَمْرُ العَجِيبُ؛ وَهُوَ إِقْرَارُ عَبْدَةِ الأَوْثَانِ أَنَّهُ لَا يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِلَّا اللهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا يَدَعُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّينَ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: حِمَايَةُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَى التَّوْحِيْدِ، وَالتَّأَدُّبُ مَعَ اللهِ. ¬

_ (¬1) ضَعِيْفٌ. أَحْمَدُ (22706) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ (387/ 1)، وَلَمْ أَعْثُرْ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ - رُغْمَ أَنَّ الهَيْثَمِيَّ عَزَاهُ إِلَيْهِ فِي المَجْمَعِ -، وَلَمْ يَعْزُهُ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ - عَلَى سِعَةِ اطِّلَاعِهِ - لِغيرِهِمَا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الشَّيْخُ رَبِيْعُ بْنُ هَادِيْ المَدْخَلِيُّ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَحْقِيْقِهِ لِكِتَابِ (قَاعِدَةٌ جَلِيْلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالوَسِيْلَةِ، تَأْلِيْفُ شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ): (اُنْظُرْ مَجْمَعَ الزَّوَائِدِ (10/ 159)، قَالَ الهيثميُّ عَقِبَهُ: (وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيْحِ غَيْرُ ابْنِ لَهِيْعَة، وَهُوَ حَسَنُ الحَدِيْثِ). وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (5/ 317): ثَنَا مُوْسَى بْنُ دَاوُد، ثَنَا ابْنُ لَهِيْعَة، عَنِ الحَارِثِ بْنِ يَزِيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُوْلُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قُوْمُوا نَسْتَغِيْثُ برَسُوْلِ اللهِ مِنْ هَذَا المُنَافِقِ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ: (لَا يُقامُ لِي، إِنَّمَا يُقَامُ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى). وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ (1/ 387) بِهَذَا الإِسْنَادِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ. وَمُوْسَى بْنُ دَاوُد؛ هُوَ الضَّبِيُّ أَبْوُ عَبْدِ اللهِ الطَرْطُوْسِيُّ، صَدُوْقٌ فَقِيْهٌ زَاهِدٌ لَهُ أَوْهَامٌ، مِنْ صِغَارِ التَّاسِعَةِ، فَيَبْدُو أَنَّه مِمَّنْ رَوَى عَنِ ابْنِ لَهِيْعَةَ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، وَفِيْهِ الرَّجُلُ المَجْهُوْلُ الرَّاوِي عَنْ عُبَادَةَ؛ فَالحَدِيْثُ عَلَى هَذَا ضَعِيْفٌ).

الشرح

الشَّرْحُ - كَلَامُ المُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ يُقيَّدُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ المُسْتَغَاثُ بِهِ مِمَّا يَخْتَصُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ، فَمَا كَانَ للهِ تَعَالَى لَا يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِهِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {قَالُوا وَهُمْ فِيْهَا يَخْتَصِمُوْنَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ، إِذْ نُسَوِّيْكُمْ بِرَبِّ العَالَمِيْنَ} (الشُّعَرَاء:98). فَتَسْوِيَتُهُم بَيْنَ مَعْبُوْدَاتِهِم وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى هُوَ سَبَبُ دُخُوْلِهِم النَّارَ، عِلْمًا أَنَّهُم لَمْ يَعْتَقِدُوا فِيْهِم الرُّبوبيّةَ! فَصَارَ فِي ذَلِكَ التَّدْلِيْلُ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ فِيْمَا كَانَ للهِ هُوَ الكُفْرُ الأَكْبَرُ الَّذِيْ لَا يُغْفَرُ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى أَيْضًا {إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوْهُمْ فَلْيَسْتَجِيْبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ} (الأَعْرَاف:194). - الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ: وَدَلَّ لِذَلِكَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَفِي الحَدِيْثِ (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ) ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِيْنَ يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُوْنَ جَهَنَّمَ دَاخِرِيْنَ} (غَافِر:60). (¬1) - الدُّعَاءُ نَوْعَانِ: 1) دُعَاءُ عِبَادَةٍ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العِبَادَاتِ. وَسُمِّيَ دُعَاءً لِأَنَّهُ دَاعٍ بِلِسَانِ حَالِهِ، فَمَعْلُوْمٌ أَنَّ مَنْ يُرِيْدُ الجَنَّةَ وَالبُعْدَ عَنِ النَّارِ؛ فَإِنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَةِ للهِ، فَهُوَ دَاعٍ فِي الجُمْلَةِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِيْنَ يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُوْنَ جَهَنَّمَ دَاخِرِيْنَ} (غَافِر:60)، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الدُّعَاءَ عِبَادَةً، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} (الجِنّ:18)، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَجُوْزُ صَرْفُهُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ المَقْصُوْدُ بِالحَدِيْثِ هُنَا. 2) دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ: أَيْ: يَدْعُوْ سَائِلًا بِلِسَانِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ فِيْهِ تَفْصِيْلٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِ المُسْتَغَاثِ بِهِ حَيًّا حَاضِرًا قَادِرًا (¬2)، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيْبُوهُ). (¬3) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2969) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3407). (¬2) قُلْتُ: مَعَ التَّأْكِيْدِ عَلَى كَوْنِ دُعَاءِ المَدْعُوِّ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ؛ وَأَنَّ النَّفْعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ تَعَالَى. (¬3) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاود (1672) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (254).

- يَدُلُّ لِهَذَا التَّفْصِيْلِ (الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ) نُصُوْصٌ عَدِيْدَةٌ مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُوْنَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُوْنَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُوْنَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُوْنَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيْدُوْنِ فَلَا تُنْظِرُوْنِ} (الأَعْرَاف:195). (¬1) قُلْتُ: إِنَّ ذِكْرَ الاسْتِفْهَامِ فِي هَذِهِ الأَوْجُهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَهَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِّ (¬2). وَأَوْجُهُ الدِّلَالَةِ هِيَ: أ - إِنَّ ذِكْرَ صِفَاتِ المَشْي وَالبَطْشِ؛ يَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ. ب - إِنَّ ذِكْرَ صِفَاتِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ؛ يَدُلُّ عَلَى الحُضُوْرِ. (¬3) ج - إِنَّ مَجْمُوْعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى الحَيَاةِ. (¬4) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}: هَذَا لِبَيَانِ الوَاقِعِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ (¬5) (¬6)، فَصَارَ فِيْهِ التَّنْبِيْهُ عَلَى العِلَّةِ الَّتِيْ مِنْ أَجْلِهَا مُنِعَ دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَفِي الآيَةِ أَيْضًا الاسْتِدْلَالُ بِالرُّبُوْبِيَّةِ عَلَى تَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ. - فِي بَيَانِ وَجْهِ النَّهْي عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ؛ سَبَبَانِ: 1) أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. 2) أَنَّهَا لَا تَنْفَعُكَ إِذَا عَبَدْتَهَا، وَلَا تَضُرُّكَ إِذَا تَرَكْتَهَا. ¬

_ (¬1) وَالسِّيَاقُ بِتَمَامِهِ {إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوْهُمْ فَلْيَسْتَجِيْبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُوْنَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُوْنَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُوْنَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُوْنَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيْدُوْنِ فَلَا تُنْظِرُوْنِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِيْ نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِيْنَ، وَالَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُوْنَ، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُوْنَ} (الأَعْرَاف:198). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (530/ 3) - فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَنْ آلِهَةِ المُشْرِكِيْنَ -: (وَقَوْلُهُ {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُوْنَ} إِنَّمَا قَالَ: {يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ} أَيْ: يُقَابِلُوْنَكَ بِعُيُوْنٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ - وَهِيَ جَمَادٌ -، وَلِهَذَا عَامَلَهُم مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصَوَّرَةٍ كَالإِنْسَانِ، فَقَالَ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ} فَعبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيْرِ مَنْ يَعْقِلُ). (¬2) قُلْتُ: وَالسِّيَاقُ هُوَ فِي دُعَاءِ المَسْأَلَةِ. (¬3) وفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِيْ قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} (الزُّمَر:42) بَيَانُ أَنَّ أَرْوَاحَ الأَمْوَاتِ مُمْسَكَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِالأَمْوَاتِ - مِنْ ضُّلَّالِ الأَحْيَاءِ - فَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّ الأَرْوَاحَ مُطْلَقَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} (البَقَرَة:140). (¬4) قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الأُلُوْهيَّةِ وَالرُّبُوْبِيَّةِ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي القُرْآنِ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّوْمُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيْطُوْنَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُوْدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيْمُ} (البَقَرَة:255)، فَاللهُ حَيٌّ سُبْحَانَهُ لَا يَمُوْتُ، وَهُوَ قَيُّوْمٌ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَلَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (وَالسِّنَةُ هِيَ: أَوَّلُ النَّوْمِ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ المَعِيَّةِ وَالحُضُوْرِ وَالإِحَاطَةِ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوْسَى يُطَمْئِنُهُ مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طَه:46). وَقَدْ صَارَ عِنْدَ المُشْرِكِيْنَ فِي هَذِهِ الأّيَّامِ (لَا تَخَافَا إِنَّ الوَلِيَّ مَعَكُمَا يَسْمَعُ وَيَرَى)، كَمَا قَالَ قَائِلُهُم - عَنْ شَيْخِهِ -: (أَنَا لَا أَتْرُكُكَ؛ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ) وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. (¬5) أَيْ: اسْتِقْلَالًا؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. (¬6) وَقَدْ سَبَقَ مَعَنَا أَنَّ القَيْدَ قَدْ يَكُوْنُ شَرْطًا وَقَدْ لَا يَكُوْنُ، فَقَدْ يَأْتِي كَاشِفًا مُوَضِّحًا لِبَيَانِ العِلَّةِ.

- قَوْلُهُ تَعَالَى {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ}: فِيْهِ تَقْدِيْمُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيْرُ لِإِفَادَةِ الحَصْرِ، وَخَصَّ الرِّزْقَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الحَيَاةِ. (¬1) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ}: إِشَارَةٌ إِلَى الإِخْلَاصِ فِي هَذَا الشُّكْرِ؛ وَأَنْ يَكُوْنَ للهِ وَحْدَهُ، كَمَا أَنَّ الحِسَابَ وَالجَزَاءَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ. (¬2) وَفِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أُسْلُوْبُ التَّضْميْنِ؛ أَيْ: وَاشْكُرُوا مُخْلِصِيْنَ لَهُ. - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَضَلُّ}: اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْي، أَيْ: لَا أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو غَيْرَ اللهِ تَعَالَى. - سَبَبُ كَوْنِهِ أَكْثَرَ النَّاسِ ضَلَالًا أُمُوْرٌ: 1) أَنَّهُ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ. 2) أَنَّ المَدْعُوِّيْنَ غَافِلُوْنَ عَنْ دُعَائِهِم. 3) أَنَّهُ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُ أَعْدَاءً. 4) أَنَّهُم كَافِرُوْنَ بِعِبَادَتِهِم. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (251/ 6): ({فَابْتَغُوا} أَيْ: فَاطْلُبُوا {عِنْد اللهِ الرِّزْقَ} أَيْ: لَا عِنْد غَيْره، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} أَيْ: كُلُوا مِنْ رِزْقه وَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ {إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} أَيْ: يَوْم القِيَامَة؛ فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ). (¬2) وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أَيْضًا: أَنَّ الرِزْقَ الَّذِيْ يُنْعِمُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا بِهِ عَلَى عِبَادِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُوْنَ عَوْنًا عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِذَلِكَ فَإِنَّ الإِنْسَانَ مُسْتَحِقٌ لِعَذَابِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا.

- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ لاَّ يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ}: هَذِهِ فِي الأَمْوَاتِ مِنَ الصَّالِحِيْنَ؛ لِأَنَّ المَيِّتَ إِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ نُشِرَ وَصَارَ يَسْمَعُ وَرُبَّمَا أَجَابَ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ؛ إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ المَقَامِ حَيٌّ. (¬1) فَفِيْهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِيْنَ كَانَ أَيْضًا فِي البَشْرِ، بِخِلَافِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ شِرْكَهُم كَانَ فِي الأَحْجَارِ الصُمِّ فَقَط، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّحْل:21). - قَوْلُهُ تَعَالَى {أَمَّن يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ المُشْرِكَ يُخْلِصُ للهِ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُجِيْبُهُ - رُغْمَ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فِي الأَصْلِ -، وَفِيْهِ بَيَانُ سِرِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ). (¬2) وَهَذِهِ الإِجَابَةُ - أَيْ: الإِجَابَةُ عِنْدَ الكَرْبِ - سَبَبُهَا أَمْرَانِ: 1) أَنَّ الكَرْبَ إِذَا اشْتَدَّ وَعَظُمَ وَتَنَاهَى، وَحَصَلَ لِلْعَبْدِ الإِيَاسُ مِنْ كَشْفِهِ مِنْ جِهَةِ المَخْلُوْقِيْنَ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ حَقِيْقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الَّتِيْ تُطْلَبُ بِهَا الحَوَائِجُ، فَإِنَّ اللهَ يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطَّلَاق:3). 2) أَنَّ المُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الفَرَجَ وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ - وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ اسْتِجَابَةٌ - رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ، وَهَذَا اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ كَثِيْرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوْجِبُ انْكِسَارَ العَبْدِ لِمَوْلَاهُ، وَاعْتِرَافَهَ لَهُ بِأَنَّه أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تَسْرعُ إِلَيْهِ حِيْنَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيْجُ الكُرَبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوْبُهُم مِنْ أَجْلِهِ. (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) وَمِثْلُهَا سُؤَالُ النَّاسِ لِلأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي مَوْقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى، لِأَنَّهُم أَحْيَاءٌ حِيْنَهَا وَقَادِرُوْنَ عَلَى الإِجَابَةِ, أَمَّا الآنَ فِي الدُّنْيَا فَهُم أَمْوَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُوْنَ} (الزُّمَر:30). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (459/ 5) - فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى حَدِيْثِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى: (وَلَيْسَ فِيْهِ جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بِالأَمْوَاتِ - كَمَا يَتَوَهَّمُ كَثِيْرٌ مِنَ المُبْتَدِعَةِ الأَمْوَاتِ! - بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِالحَيِّ فِيْمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ). وَفِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (202/ 1) ذَكَرَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ أَنْوَاعَ التَّوَسُّلِ وَذَكَرَ فِي النَّوْعِ الثَّانِيْ مَا نَصُّهُ: (التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُوْنُ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ يَتَوَسَّلُوْنَ بِشَفَاعَتِهِ). وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ القِيَامَةِ, فَقَالَ: (أَنَا فَاعِلٌ) , قَالَ: قُلْتْ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: (اُطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ) , قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيْزَانِ) , قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْد المِيْزَانِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ, فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنِ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيِّ (2433). الصَّحِيْحَةُ (2630). (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (2803) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2382). (¬3) وَأَيْضًا هُمْ يُخْلِصُوْنَ للهِ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ لِزَوَالِ مَا يُنَازِعُ الفِطْرَةَ مِنَ الهَوَى وَالتَّقْلِيْدِ بِمَا دَهَاهُم مِنَ الخَوْفِ الشَّدِيْدِ. قَالَهُ البَيْضَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (352/ 4). (¬4) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ كِتَابِ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ) (494/ 1).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ}: أَيْ: يَخْلُفُ بَعْضُكُم بَعْضًا فِي الأَرْضِ. - قَوْلُهُ (إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي) (¬1): هُوَ مِنْ بَابِ التَّأَدُّبِ فِي الأَلْفَاظِ وَالبُعْدِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُوْنَ تَعَلُّقَ الإِنْسَانِ دَائِمًا بِاللهِ وَحْدَهُ. (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ مَا يَشْهَدُ لِعُمُوْمِهِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ اسْتَعَنتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ) (¬3) - وَقَدْ سَبَقَ -، وَهُوَ أَيْضًا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفَاتِحَة:5). فَفِيْهِ بَيَانُ إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالسُّؤَالِ وَالاسْتِعَانَةِ. - وَلَكِنَّ هَذَا الإِفْرَادَ بِالسُّؤَالِ وَالاسْتِعَانَةِ يَكُوْنُ عَلَى مَرْتَبَتِيْنِ: 1) مَرْتَبَةٌ وَاجِبَةٌ: وَهِيَ التَّوْحِيْدُ؛ بِأَنْ يَسْتَعِيْنَ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُوْنَ مَا سِوَاهُ فِيْمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّ صَرْفَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى شِرْكٌ بِهِ. 2) مَرْتَبَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ أنْ يَقُوْمَ بِالمَطْلُوْبِ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا. (¬4) وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ قَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البَيْعَةَ عَلَيْهَا مِنْ عَدَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَمرَهُم أَلَّا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً - فَقَالَ: ((أَلَا تُبَايِعُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ؟ - وَكُنَّا حَدِيْثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ - قُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ! - حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا -، فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ؛ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ وَتَسْمَعُوا وَتُطِيْعُوا) - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً - قَالَ: (وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا). قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُوْلَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُهُ؛ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬5) - فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (¬6): (وَالعَجَبُ أَنَّهُم فِي العِرَاقِ يَقُوْلُوْنَ: عِنْدَنَا الحُسَيْنُ؛ فَيَطُوْفُوْنَ قَبْرَهُ وَيَسْأَلُوْنَهُ، وَفِي مِصْرَ كَذَلِكَ، وَفِي سُوْرِيَّا كَذَلِكَ، وَهَذَا سَفَهٌ فِي العُقُوْلِ، وَضَلَالٌ فِي الدِّيْنِ. وَالعَامَّةُ لَا يُلَامُوْنَ فِي الوَاقِعِ، لَكِنْ الَّذِيْ يُلَامُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ العُلَمَاءِ وَمِنْ غَيْرِ العُلَمَاءِ). (¬7) ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيْفًا؛ فَيَصِحُّ إِيْرَادُهُ عَلَى سَبِيْلِ التَّأْيِيدِ لِمَا كَانَ ثَابِتًا مِنَ الأُصُوْلِ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (25/ 4): (وَأَهْلُ الحَدِيْثِ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيْثٍ ضَعِيْفٍ فِي نَقْضِ أَصْلٍ عَظِيْمٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيْعَةِ؛ بَلْ إمَّا فِي تَأْيِيدِهِ؛ وَإِمَّا فِي فَرْعٍ مِنَ الفُرُوعِ). (¬2) وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ المُنَافِقَ - بِسَبَبِ كَوْنِ كُفْرِهِ غَيْرَ ظَاهِرٍ - فَإِنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِشَيْءٍ لِكَوْنِهِ يَسْتَتِرُ بِكُفْرِهِ ولا يُظْهِرُهُ، فَصَارَ فِيْهِ الدِّلَالَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيْدُ الأُمُوْرِ وَالإِطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي الصُّدُوْرِ. (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (2803)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2516). صَحِيْحُ التِّرْمِذِيُّ (2516). (¬4) يَعْنِي بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا مِنَّةٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ أَمْرُكَ لِزَوْجِكَ وَعَامِلِكَ وَ .. (¬5) مُسْلِمٌ (1043). (¬6) القَوْلُ المُفِيْدُ (271/ 1). (¬7) وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (فَالذِيْ يَأْتِي لِلبَدَوِيِّ أَوْ لِلدُّسُوْقِيِّ فِي مِصْرَ؛ فَيَقُوْلُ: المَدَدَ! المَدَدَ! أَوْ: أَغِثْنِي؛ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ قَدْ يُبْتَلى فَيِأْتِيْهِ المَدَدُ عِنْدَ حُصُوْلِ هَذَا الشَّيْءِ لَا بِهَذَا الشَّيْءِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَأْتِي بِالشَّيْءِ وَمَا يَأْتِيْ عِنْدَ الشَّيْءِ. مِثَالُ ذَلِكَ: امْرَأَةٌ دَعَتِ البَدَوِيَّ أَنْ تَحْمِلَ، فلمَّا جَامَعَهَا زُوْجُهَا حَمَلَتْ - وَكَانَتْ سَابِقًا لَا تَحْمِلُ - فَنَقُوْلُ هُنَا: إِنَّ الحَمْلَ لَمْ يَحْصُلْ بِدُعَاءِ البَدَوِيِّ، وَإنِّمَا حَصَلَ عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُوْنِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ}).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) زَعَمَ بَعْضُ المُبْتَدِعَةِ أَنَّ دُعَاءَ الأَوْلِيَاءِ الأَمْوَاتِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ سُؤَالِ العَبْدِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُم بِذَلِكَ - وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُثْبِتُوْنَ الكَرَامَاتِ -!! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ عَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ المُشْرِكِيْنَ، قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَالَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَخْلُقُوْنَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّحْل:21). 2) أَنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِيْنَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِيْنَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ أَصْنَامَ قَوْمِ نُوْحٍ (وَدَّ - سُوَاعَ - يَغُوْثَ - يَعُوْقَ - نَسْرَ) هُمْ رِجَالٌ صَالِحُوْنَ. كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوْفًا - يُخْبِرُ عَنْهَا -، فَقَالَ: (أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِيْنَ مِنْ قَوْمِ نُوْحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِيْ كَانُوا يَجْلِسُوْنَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُوْلَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ). (¬1) (¬2) 3) دَعُوَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْدَرَهُم عَلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ، وَحُمْقٌ فِي العَقْلِ. فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ قَضَاءَ الحَاجَاتِ لَهُم، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُم أَمْوَاتٌ لَا يَسْمَعُوْنَ، وَأَنَّهُم لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُوْنِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَاَدِتِهمْ كَافِرِيْنَ} (الأَحْقَاف:6). (¬3) 4) الاحْتِجَاجُ بِأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يُثْبِتُوْنَ الكَرَامَاتِ لَا دِلَالَةَ لَهُ هُنَا، لِأَنَّ مَا يَزْعُمُوْنَهُ هُوَ تَكْذِيْبٌ لِلشَّرِيْعَةِ، وَلَيْسَ إِثْبَاتًا لِلكَرَامَةِ، وَفِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ اللهَ لَا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ). (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (4920). (¬2) قَالَ الإِمَامُ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي رِسَالَةِ (الوَاسِطَةُ) (ص5): (وَمَنْ أَثْبَتَ الأَنْبِيَاءَ وَسِوَاهُم مِنَ مَشَايخِ العِلْمِ وَالدِّيْنِ وَسَائِطَ بَينَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ كَالحُجَّابِ الَّذِيْنَ بَيْنَ المَلِكِ وَرَعِيَّتِهِ؛ بِحَيثُ يَكُوْنُوْنُ هُم يَرْفَعُوْنَ إِلَى اللهِ تَعَالَى حَوَائِجَ خَلْقِهِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ وَيَرْزُقَهُم وَيَنْصُرَهُم بِتَوَسُّطِهِم؛ بِمَعْنَى أَنَّ الخَلْقَ يَسْأَلُونَهُم؛ وَهُم يَسْأَلُوْنَ اللهَ؛ كَمَا أَنَّ الوَسَائِطَ عِنْدَ المُلُوكِ يَسْأَلوْنَ المَلِكَ حَوَائِجَ النَّاسِ لِقُرْبِهِم مِنْهُم؛ وَالنَّاسُ يَسْأَلونَهُم أَدَبًا مِنْهُم أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ المَلِكِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَهُم مِنَ الوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُم مِنْ طَلَبِهِم مِنَ المَلِكِ لِكَوْنِهِم أَقْرَبَ إِلَى المَلِكِ مِنَ الطَّلَبِ! فَمَنْ أَثْبَتَهُم وَسَائِطَ عَلَى هَذِهِ الوُجُوْهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَهَؤُلَاءِ مُشَبَّهُوْنَ للهِ، شَبَّهُوا الخَالِقَ بِالمَخْلُوْقِ، وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا). مُسْتَفَادٌ مِنْ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ) (ص133) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬3) وَهُوَ حُمْقٌ فِي العَقْلِ؛ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ مُغَسِّلًا - يُغَسِّلُ مَيِّتًا - فَذَهَبَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ حَارٍّ؛ أَلَا يَكُوْنُ عِنْدَ جَمِيْعِ النَّاسِ أَحْمَقًا؟! فَكَيْفَ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ؛ وَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالِ مَيِّتٌ بَيْنَ يَدِي مُغَسِّلٍ!! (¬4) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (2136). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1700). (¬5) فَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {وَمَنْ أَضَلُّ} وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (وَمَنْ أَفْضَلُ)! وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} (النَّحْل:21) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (أَحْيَاءٌ غَيْرُ أَمْوَاتٍ)! وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيْعًا} (الزُّمَرْ:44) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (يَمْلِكُوْنَ شَفَاعَةٌ)! وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ عَنْ دُعَائِهِم: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِيْنَ} (الأَحْقَاف:6) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (الدُّعَاءُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ)! وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} (الأَنْفَال:9) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (مَدَدٌ يَا رَسُوْلَ اللهِ)! وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عِمْرَان:128) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (إنْ لَمْ تكنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِيْ فَضْلًا وإلاّ فَقُلْ يَا زلَّةَ القَدَمِ)! وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ عَنْ نَبِيِّهِ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ} (الأَعْرَاف:188) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (ومِنْ عُلومِكَ عِلْمُ اللوْحِ وَالقَلَمِ)! وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (بِالوَلِيِّ؛ وَهُوَ تَوَسُّلٌ مُسْتَحَبٌّ)! وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ لِابْنَتِهِ عَلَيْهَا السَّلَامُ: (لَا أُغْنِيْ عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ: (فَإِنَّ مِنْ جُوْدِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتُهَا - يَعْنِي الآخِرَةَ -)! قُلْتُ: وَخِتَامًا أَقُوْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقُوْلُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأَحْزَاب:4)، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النُّوْر:40).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا سِرُّ اقْتِرَانِ كَثِيْرٍ مِنَ نُصُوْصِ القُرْآنِ الَّتِي فِيْهَا ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ؛ أَوْ ذِكْرُ الآيَاتِ الَّتِي أَتَتْ بِهَا الرُّسُلُ؛ أَوْ ذِكْرُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيْئَتِهِ؟ (¬1) الجَوَابُ: إِنَّ هَذَا فِيْهِ إِرْشَادٌ مُهِمٌ إِلَى أَمْرَيْنِ: 1 - أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لَا يَمْلِكُهَا مَنْ أُجْرِيَتْ عَلَى يَدَيْهِ اسْتِقْلَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُوْلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (غَافِر:79)، فَيَظْهَرُ بِهَذَا تَوْحِيْدُ الرُّبُوْبِيَّةِ. (¬2) 2 - بَيَانُ ضَرُوْرَةِ جَعْلِ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغَاثَةِ وَسَائِرِ أَشْكَالِ التَّعَلُّقِ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ دُوْنَ مَنْ أُجْرِيَتْ عَلَى يَدَيْهِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَبْطَلَهَا؛ فَيَظْهَرُ بِهَذَا تَوْحِيْدُ الأُلُوْهِيَّةِ؛ فَلَا يُدْعَى مَعَ اللهِ أَحَدٌ؛ لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا وَلِيٌّ صَالِحٌ. ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيَاتِ؛ تَجِدُ بُرْهَانَ ذَلِكَ: - {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البَقَرَة:102). - {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البَقَرَة:249). - {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عِمْرَان:49). - {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عِمْرَان:145). - {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأَعْرَاف:188). - {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (الأَنْفَال:66). - {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (الرَّعْد:38)، (غَافِر:79). - {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (إِبْرَاهِيْم:11). - {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النَّجْم:26). - {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (المُجَادِلَة:10). - {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (التَّغَابُن:11). (¬2) وَتَأَمَّلْ كَوْنَ (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) مِنْ كَنْزِ تَحْتِ العَرْشِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (21415). الصَّحِيْحَةُ (2166).

الملحق الثالث على كتاب التوحيد) مختصر الآيات البينات في عدم سماع الأموات

المُلْحَقُ الثَّالِثُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ الحَمْدُ للهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مُفِيْدٌ لِكِتَابِ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ السَّادَاتِ لِلعَلاَّمَةِ الآلُوْسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (¬1)، وَقَدْ أَضَفْتُ إِلَيْهِ بَعْضَ النُّقُولِ المُفِيْدَةِ إِلَى مَتْنِهِ وَإِلى حَاشِيَتِهِ تَتْمِيْمًا لِلفَائِدَةِ. - مُقَدِّمَةٌ: اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ المَوْتَى يَسْمَعُوْنَ أَوْ لَا يَسْمَعُوْنَ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ مَحْضٌ مِنْ أُمُوْرِ البَرْزَخِ الَّتِيْ لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيْعَةِ حَصْرًا، فَلَا يَجُوْزُ الخَوْضُ فِيْهِ بِالأَقْيِسَةِ وَالآرَاءِ وَإِنَّمَا يُوقَفُ فِيْهِ مَعَ النَّصِّ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا. (¬2) وَأَهَمِّيَّةُ هَذَا البَحْثِ هُوَ صِلَتُهُ الوَطِيْدَةُ بِمَسْأَلَةِ الاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الأَمْوَاتِ مِنَ الصَّالِحِيْنَ أَوِ الأَنْبِيَاءِ أَوِ الشُّيُوْخِ العَارِفِيْنَ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى عِدَّةِ مُقَدِّمَاتٍ؛ مِنْ أَهَمِّهَا أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ (¬3)، لِذَلِكَ إِذَا قَامَ الدَّلِيْلُ الوَاضِحُ عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللهِ يُهْدَمُ. (¬4) ¬

_ (¬1) وَهِيَ بِتَحْقِيْقِ وَتَعْلِيْقِ المُحَدِّثِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمُعْظَمُ مَادَّةِ هَذَا المُخْتَصَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُقدِّمَةِ الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى الكِتَابِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (172/ 2) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ (وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا) مِنَ الأَرْبَعِيْن النَّوَوِيَّةِ: (وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالبَحْثِ عَنْهُ أُمُوْرُ الغَيْبِ الخَبَرِيَّةِ الَّتِيْ أُمِرَ بِالإِيْمَانِ بِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهَا، وَبَعْضُهَا قَدْ لَا يَكُوْنُ لَهُ شَاهِدٌ فِي هَذَا العَالَمِ المَحْسُوسِ، فَالبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَهُوَ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، وَقَدْ يُوْجِبُ الحَيْرَةَ وَالشَّكَّ، وَيَرْتَقِي إِلَى التَّكْذِيْبِ). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ السَّابِقُ ضَعِيْفٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (4196)، اُنْظُرْ تَحْقِيْقَ رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ لِلأَلْبَانِيِّ (1841). (¬3) وَغَيْرِهَا؛ كَقَوْلِهِم أَنَّ كَرَامَتَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ فِي الحَيَاةِ وَبَعْدَ الوَفَاةِ؛ وَأَنَّ لِلصَّالِحِيْنَ شَفَاعَةٌ ثَابِتَةٌ، وَأَنَّهُم أُكْرِمُوا مِنَ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهُم أَبْوَابًا إِلَيْهِ. قُلْتُ: إنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ فِيْهِ حَقٌّ وَفِيْهِ بَاطِلٌ، أَوْ هُوَ حَقٌّ أُرِيْدَ بِهِ بَاطِلٌ. (¬4) هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ سَمَاعَ الأَمْوَاتِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ لَا يُجِيْزُ أَبَدًا الاسْتِغَاثَةَ بِهِم.

الأدلة التفصيلية

- الأَدِلَّةُ التَّفْصِيْلِيَّةُ: الدَّلِيْلُ الأَوَّلُ) قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ} (فَاطِر:22). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ} (النَّمْل:80) وَ (الرُّوْم:52). (¬1) وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيْعُ إِسْمَاعَ مَنْ فِي القُبُوْرِ، وَفِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيْعُ إِسْمَاعَ المَوْتَى، فَغَيْرُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. شُبْهَةٌ وجَوَابُهَا: اعْتَرَضَ المُثْبِتُوْنَ لِلسَّمَاعِ بِأَنَّ الآيَتَيْنِ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ المَقْصُوْدُ - في الآيَتَيِنْ - بِـ (المَوْتَى) وَبِـ (مَنْ فِي القُبُوْرِ) المَوْتَى حَقِيْقَةً الَّذِيْنَ فِي قُبُوْرِهِم، وَإِنَّمَا المُرَادُ بِهِم الكُفَّارُ الأَحْيَاءُ حَيْثَ شُبِّهُوا بِالمَوْتَى. (¬2) وَالجَوَابُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ تَدَبَّرَ الآيَتَيْنِ وَسِياَقَهُمَا أَنَّ المَقْصُوْدَ بِالأَمْوَاتِ هُنَا هُمُ الكُفَّارُ فِعْلًا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى عُلَمَاءُ التَّفْسِيْرِ لَا خِلافَ بَيْنَهُم فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الاسْتِدْلَالِ بِالآيَتَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ، لِأَنَّ المَوْتَى لَمَّا كَانُوا لَا يَسْمَعُوْنَ حَقِيْقَةً - وَكَاَنَ ذَلِكَ مَعْرُوْفًا عِنْدَ المُخَاطَبِيْنَ - شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى بِهِمُ الكُفَّارَ الأَحْيَاءَ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ، فَدَلَّ هَذَا التَّشْبِيْهُ عَلَى أَنَّ المُشَبَّهَ بِهِم - وَهُمُ المَوْتَى فِي قُبُوْرِهِم - لَا يَسْمَعُوْنَ. كَمَا يَدُلُّ مَثَلًا تَشْبِيْهُ زَيْدٍ فِي الشَّجَاعَةِ بِالأَسَدِ عَلَى أَنَّ الأَسَدَ شُجَاعٌ؛ بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ أَشْجَعُ مِنْ زَيْدٍ نَفْسِهِ؛ وَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهِ - وَإِنْ كَانَ الكَلَامُ لَمْ يُسَقْ لِلتَّحَدُّثِ عَنْ شَجَاعَةِ الأَسَدِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا عَنْ زَيْدٍ - وَكَذَلِكَ الآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا تَحَدَّثَتَا عَنِ الكُفَّارِ الأَحْيَاءِ؛ وشُبِّهُوا بِمَوْتَى القُبُوْرِ، فَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنَّ مَوْتَى القُبُوْرِ لَا يَسْمَعُوْنَ، بَلْ إِنَّ كُلَّ عَرَبِيٍّ - سَلِيْمَ السَّلِيقَةِ - لَا يَفْهَمُ مِنْ تَشْبِيْهِ مَوْتَى الأَحْيَاءِ بَهَؤُلَاءِ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءَ أَشَدُّ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ مِنْهُم كَمَا فِي المِثَالِ السَّابِقِ. (¬3) قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ فِي تَفْسِيْرِهِ لِهَذِهِ الآيَةِ (¬4): (هَذَا مَثَلٌ مَعْنَاهُ: فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُفْهِمَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ قَدْ خَتَمَ اللهُ عَلَى أَسْمَاعِهِم - فَسَلَبَهُم فَهْمَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِم مِنْ مَوَاعِظِ تَنْزِيلِهِ - كَمَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تُفْهِمَ المَوْتَى الَّذِيْنَ سَلَبَهُمُ اللهُ أَسْمَاعَهُم بِأَنْ تَجْعَلَ لَهُم أَسْمَاعًا. وَقَوْلُهُ {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} يَقُوْلُ: كَمَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تُسْمِعَ الصُّمَّ الَّذِيْنَ قَدْ سُلِبُوا السَّمْعَ إِذَا وَلَّوا عَنْكَ مُدْبِرِيْنَ (¬5)، كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُوَفِّقَ هَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ قَدْ سَلَبَهُم اللهُ فَهْمَ آيَاتِ كِتَابِهِ لِسَمَاعِ ذَلِكَ وَفَهْمِهِ). (¬6) ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيْحِ عَنْ قَتَادَةَ؛ قَالَ: (هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلكَافِرِ، فَكَمَا لَا يَسْمَعُ المَيِّتُ الدُّعَاءَ؛ كَذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الكَافِرُ، {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} يَقُوْلُ: لَوْ أَنَّ أَصَمًّا وَلَّى مُدْبِرًا ثُمَّ نَادَيْتَهُ لَمْ يَسْمَعْ، كَذَلِكَ الكَافِرُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِمَا سَمِعَ)). (¬7) (¬8) ¬

_ (¬1) جُعِلَتِ الآيَتَانِ هُنَا دَلِيْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ المَعْنَى فِيْهِمَا وَاحِدٌ؛ وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ الكَافِرَ بِالمَيِّتِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ. (¬2) أَيْ: أَنَّ المَنْفِيَّ عَنْهُم هُوَ سَمَاعُ الانْتِفَاعِ، وَأَنَّ الكُفَّارَ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ الانْتِفَاعِ مِثْلَهُم، كَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيْهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} (الأَنْفَال:23). (¬3) أَقُوْلُ: لَا بُدَّ مِنْ لَفْتِ النَّظَرِ إِلَى أَنَّ الأَمْرَ إِذَا زَادَ وُضُوْحُهُ صَعُبَ إِيْجَادُ مَنْ يَنُصُّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ، فَمَثَلًا يَصْعُبُ أَنْ تَجِدَ مَنْ يَنُصُّ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَاضِحَةٌ، وَعَلَى أَنَّ البَشَرَ يَنْطِقُوْنَ، وَعَلَى أَنَّ الأَنْعَامَ بَهَائِمٌ لَا تَعْقِلُ، وَعَلَى أَنَّ اللبَنَ أَبْيَضٌ؛ رُغْمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا تَجِدُ لَهُ نَصٌّ شَرْعيٌّ فِي التَّشْبِيْهِ بِهِ، فَكَذَا الأَمْرُ هُنَا. فَمِنَ العَجَبِ أَنْ يُذكَرَ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ، وَقَدْ عُلِمَ بِالحِسِّ التَّامِ أَنَّ المَيِّتَ عِنْدَ جَمِيْعِ النَّاسِ لَا يَسْتَجِيْبُ، فَهُم لِذَلِكَ يُسَفِّهُوْنَ مَنْ يُخَاطِبُ المَيِّتَ فِي بَعْضِ شُؤُوْنِهِ، كَمِثْلِ مُغَسِّلٍ يَعْتَذِرُ مِنَ المَيِّتِ إِذَا اسْتَخْدَمَ لَهُ مَاءًا حَارًّا أَوْ بَارِدًا! وَاللهُ المُسْتَعَانُ. (¬4) (117/ 20). (¬5) قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ} قُيِّدَ الحُكْمُ بِهِ لِيَكُوْنَ أَشَدَّ اسْتِحَالَةٍ، فَإِنَّ الأَصَمَّ المُقْبِلَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الكَلَامَ فَإِنَّهُ يَفْطَنُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الحَرَكَاتِ شَيْئًا. اُنْظُرْ تَفْسِيْرَ البَيْضَاوِيِّ (341/ 4). (¬6) وَمِنْ نَفْسِ البَابِ؛ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ الكُفَّارَ بِالصُمِّ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ فِي نَفْسِ الآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَهَلْ يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ الآيَةَ قَصَدَتِ الكُفَّارَ؛ وَلَيْسَ فِيْهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصُمَّ لَا يَسْمَعُوْنَ! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (¬7) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (324/ 6) (الآيَةُ (52) مِنْ سُوْرَةِ الرُّوْمِ): (يَقُوْلُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ كَلَامَكَ الصُمَّ الَّذِيْنَ لَا يَسْمَعُوْنَ - وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُدْبِرُوْنَ عَنْكَ - كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ العُمْيَانِ عَنِ الحَقِّ، وَرَدِّهِم عَنْ ضَلَالَتِهِم، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بِقُدْرَتِهِ يُسْمِعُ الأَمْوَاتَ أَصْوَاتَ الأَحْيَاءِ إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ). وَعِنْدَ تَفْسِيْرِهِ لِآيَةِ سُوْرَةِ فَاطِرٍ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ({وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ} أَيْ: كَمَا لَا يَسْمَعُ وَيَنْتَفِعُ الأَمْوَاتُ بَعْدَ مَوْتِهِم وَصَيْرُوْرَتِهِم إِلَى قُبُوْرِهِم - وَهُمْ كُفَّارٌ - بِالهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُوْنَ الَّذِيْنَ كُتِبَتْ عَلَيْهِم الشَّقَاوةُ لَا حِيْلَةَ لَكَ فِيْهِم، وَلَا تَسْتَطِيْعُ هِدَايَتَهُم). قُلْتُ: وَالمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى طَمَسَ عَلَى قُلُوْبِهِم، فَهُمْ يَسْمَعُوْنَ وَلَا يَنْتَفِعُوْنَ بِمَا سَمِعُوا، فَصَارُوا كَأَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِم بِسَمْعِهِم. (¬8) وَإِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} (فَاطِر:22)؛ وَهُوَ سياقُ الآيَةِ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ فَاطِرٍ؛ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ أَدِلَّةً أُخْرَى عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ، مِنْهَا: أ- أَنَّ الحَيَّ وَالمَيِّتَ لَا يَسْتَوِيَانِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلكَافِرِ وَالمُؤْمِنِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ؛ حَيْثُ جُعِل مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ كَمَنْ لَا سَمْعَ لَهُ؛ لِعَدَمِ حُصُوْلِ الغَايَةِ مِنْهُ. ب- أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَلَبَ المَيِّتَ سَمْعَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَوْنِهِ مِثَالًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ خِلَافُ الأَصْلِ. ج - أَخِيْرًا وَهِيَ قَاصِمَةُ ظُهُوْرِ القُبُوْرِيينَ؛ نَقُوْلُ: هَبْ أَنَّ المَيِّتَ هُوَ كَالكَافِرِ فِي كَوْنِهِ - فَقَط - لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ انْتِفَاعٍ وَاسْتِجَابَةٍ؛ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ سَمَاعَ إِدْرَاكٍ، فَنَقُوْلُ: هَذَا القَدْرُ يَكْفِيْنَا فِي أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُكَ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَجِيْبُ لَكَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْفَعَكَ! فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ غَايَتُهُم مِنْ إِثْبَاتِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ. وَالحَمْدُ للهِ الَّذِيْ بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ.

الدَّلِيْلُ الثَّانِي) قَوْلُهُ تَعَالَى {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمَّىً ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ مَا يَمْلِكُوْنَ مِنْ قِطْمِيْرٍ، إِنْ تَدْعُوْهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُوْنَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيْرٍ} (فَاطِر:14). (¬1) فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيْحَةٌ فِي نَفْي السَّمْعِ عَنْ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ كَانَ المُشْرِكونَ يَدْعُوْنَهُم مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ مَوْتَى الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ الَّذِيْنَ كَانَ المُشْرِكُوْنَ يُمَثِّلُونَهُم فِي التَّمَاثِيْلِ وَالأَصْنَامِ. (¬2) ¬

_ (¬1) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ} (الأَحْقَاف:5). (¬2) وَهُمْ يَعْبُدُوْنَهَا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَلَيْسَ لِذَاتِهَا؛ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ سُوْرَةِ نُوْحٍ؛ فقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاَعًا وَلَا يَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنَسْرًا} (نُوْح:23)، فَفِي التَّفْسِيْرِ المَأْثُوْرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ: (أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِيْنَ مِنْ قَوْمِ نُوْحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِيْ كَانُوا يَجْلِسُوْنَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُوْلَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4920) وَغَيْرُهُ. وَمَعْنَى (وَتَنَسَّخَ العِلْمُ): أَيْ: عِلْمُ تِلْكَ الصُّوَرِ بِخُصُوصِهَا.

الدَّلِيْلُ الثَّالِثُ) حَدِيْثُ قَلِيْبِ بَدْرٍ؛ وَأَقْتَصِرُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فِيْهِ: 1) حَدِيْثُ ابْنِ عُمَرَ فِي البُخَارِيِّ؛ قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَلِيْبِ بَدْرٍ؛ فَقَالَ: (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهُمُ الآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُوْلُ)، فَذُكِرَ لِعَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُمُ الآنَ لَيَعْلَمُوْنَ أَنَّ الَّذِيْ كُنْتُ أَقُوْلُ لَهُمْ هُوَ الحَقُّ) ثُمَّ قَرَأَتْ {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} حَتَّى قَرَأَتِ الآيَةَ. (¬1) (¬2) 2) حَدِيْثُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ (¬3) أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِيْنَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيْدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيْثٍ (وَسِخٍ) مُخْبِثٍ - وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ -، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ؛ وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: (يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ؛ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُوْلَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟؟) قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا! فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُوْلُ مِنْهُمْ). قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيْخًا وَتَصْغِيْرًا وَنَقمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا. وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أُمُوْرٌ: أ- مَا فِي الرِّوَايَةِ الأُوْلَى مِنْ تَقْيِيْدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاعَ مَوتَى القَلِيْبِ بِقَوْلِهِ (الآنَ)، فَإِنَّ مَفْهومَهُ أَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ فِي غَيْرِ هَذَا الوَقْتِ، وَهُوَ المَطْلُوْبُ. فَفِيْهَا تَنْبِيْهٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي المَوْتَى أَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ القَلِيْبِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ قَدْ سَمِعُوا نِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بِإِسْمَاعِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُم خَرْقًا لِلعَادَةِ وَمُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُ الخَطِيْبُ التَّبْرِيْزِيُّ فِي بَابِ المُعْجِزَاتِ مِنْ مِشْكَاةِ المَصَابِيْحِ. (¬4) ب - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوْسِهِم وَاعْتِقَادِهِم أَنَّ المَوْتَى لَا يَسْمَعُوْنَ (¬5)، حَيْثُ بَادَرَ الصَّحَابَةُ (¬6) لَمَّا سَمِعُوا نِدَاءَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْتَى القَلِيْبِ بِقَوْلِهِم: (مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ؛ لَا أَرْوَاحَ فِيْهَا؟) فَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُم كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ سَابِقٍ تَلَقَّوهُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا لَمْ يُبَادِرُوا لِذَلِكَ الإِنْكَارِ. (¬7) فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَطِّأ فَهْمَهُم وَإِنَّمَا أَرْشَدَ إِلَى تَخْصِيْصِ هَذَا السَّمَاعِ بِأَمْرَيْنِ وَهُمَا: (الآنَ) بِاعْتِبَارِ الزَّمَنِ، وَ (إنَّهُم) أَيْ: أَهْلَ القَليْبِ؛ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ جَمْيِعِ المَوْتَى. ج - قَوْلُ رَاوِي الحَدِيْثِ قَتَادَةَ؛ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَحْيَاهُم لِيَسْمَعُوا التَّوْبِيْخَ وَلِيَزْدَادُوا حَسْرَةً وَنَدَمًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمْوَاتَ لَا يَسْمَعُوْنَ أَصْلًا. - فَائِدَةٌ) يَظْهَرُ أَنَّ مُنَادَاةَ الكُفَّارِ بَعْدَ هَلَاكِهِم سُنَّةٌ قَدِيْمَةٌ مِنْ سُنَنِ الأَنْبِيَاءِ؛ فَقَد قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِيْنَ، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّوْنَ النَّاصِحِيْنَ} (الأَعْرَاف:79). قَالَ ابْنُ كَثِيْر رَحِمَهُ اللهُ (¬8): (هَذَا تَقْرِيْعٌ مِنْ صَالِح عَلَيْهِ السَّلَام لِقَوْمِهِ - لَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللهِ وَإِبَائِهِمْ عَنْ قَبُوْلِ الحَقِّ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الهُدَى إِلَى العَمَى -، قَالَ لَهُمْ صَالِحُ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ تَقْرِيْعًا وَتَوْبِيْخًا - وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ - كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ) ... فذَكَرَ حَدِيْثَ القَلِيْبِ. (¬9) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (3980). (¬2) هُنَا لَا يُقْبَلُ تَقْدِيْمُ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى كَلَامِ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بِدَعْوَى أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَشْهَدْ ذَلِكَ؛ وَهَذَا بِسَبَبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَيْضًا، حَيْثَ جَاءَ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (1868) أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ لِلقِتَالِ، وَلَكِنْ يُقَدَّمُ حَدِيْثُهُ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ مَا رُويَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي تَأْيِيْدِ مَا رَوَاهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ (السِّيْرَةُ النَّبَوِيَّةُ) (450/ 2): (الصَّوَابُ: قَوْلُ الجُمْهُوْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُم؛ لِلأَحَادِيْثِ الدَّالَّةِ نَصًّا عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا وَأَرْضَاهَا). (¬3) البُخَارِيُّ (3976)، وَمُسْلِمٌ (2875). (¬4) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (232/ 13): (وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا أَنْتُم بِأَسْمَعَ مِنْهُم)، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (فيُشْبِهُ أَنَّ قِصَّةَ بَدْرٍ خَرْقُ عَادَةٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ رَدَّ اللهُ إِلَيْهِم إِدْرَاكًا سَمِعُوا بِهِ مَقَالَهُ، وَلَوْلَا إِخْبَارُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَمَاعِهِم لَحَمَلْنَا نِدَاءَهُ إِيَّاهُم عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيْخِ لِمَنْ بَقيَ مِنَ الكَفَرةِ، وَعَلَى مَعْنَى شِفَاءِ صُدُوْرٍ المُؤْمِنِيْنَ). (¬5) وَكَذَا كَانَ فَهْمُ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُا حِيْنَ أنْكَرَتْ قَوْلَ (يَسْمَعُونَ) وَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ: (يَعْلَمُوْنَ). (¬6) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَه بِلَفْظِ (قَالُوا) بَدَلَ (قَالَ عُمَرُ). مُسْنَدُ أَحْمَد (12012). (¬7) وَهَذَا العِلْمُ السَّابِقُ إِمَّا مِنْ جِهَةِ البَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ فِي أَعْرَافِ النَّاسِ وَمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوْسِهِم، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيْعَةِ. وَهَذَا الأَخِيْرُ أَرْجَحُ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (14064) عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَيَّفُوا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ: (يَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا)، قَالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: (يَا رَسُوْلَ اللهِ أَتُنَادِيْهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟! وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُوْلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى}، فَقَالَ: (وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ أَنْ يُجِيبُوا). صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. (¬8) فِي التَّفْسِيْرِ (443/ 3). (¬9) لَكِنَّ قَوْلَهُ (وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ) لَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

الدَّلِيْلُ الرَّابِعُ) حَدِيْثُ النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ للهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّاحِيْنَ فِي الأَرْضِ يُبَلِّغُوْنِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ). (¬1) وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّهُ صَرِيْحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْمَعُ سَلَامَ مَنْ يُسلِّمُ عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ يَسْمَعُهُ بِنَفْسِهِ لَمَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُبَلِّغُهُ إِيَّاهُ، فَالاسْتِدْلَالُ هُنَا هُوَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الأَوْلَى بِالنِّسْبَةِ لِعُمُوْمِ الأَمْوَاتِ؛ وَلِعُمُوْمِ الكَلَامِ. (¬2) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (1282). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2174). (¬2) قُلْتُ: وَيُمْكِنُ إِيْرَادُ أَدِلَّةٍ أُخَرَ فِي مَسْأَلَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ أَنّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَىَ بَل للهِ الأمْرُ جَمِيْعًا} (الرَّعْد:31)، حَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَكْلِيْمَ المَوْتَى بِحَيْثُ يَسْمَعُوْنَ وَيُجِيْبُوْنَ وَيَهْتَدُوْنَ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الأَصْلِ، بَلْ إِنْ كَانَ فَهُوَ لَا يَكُوْنُ لِغَيْرِ القُرْآنِ الكَرِيْمِ. قَالَ البَيْضَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (330/ 3): ({أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَىَ} فَتَسْمَعُ فَتَقْرَؤُهُ، أَوْ فَتَسْمَعُ وَتُجِيْبُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ؛ لَكَانَ هَذَا القُرْآنُ، لِأَنَّهُ الغَايَةُ فِي الإِعْجَازِ وَالنِّهَايَةُ فِي التَّذْكِيْرِ وَالإِنْذَارِ).

أدلة المخالفين

أَدِلَّةُ المُخَالِفِيْنَ: إِنَّ أَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ هُوَ: الدَّلِيْلُ الأَوَّلُ) حَدِيْثُ قَلِيْبِ بَدْرٍ المُتَقَدِّمِ؛ وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ القَلِيْبِ مِنْ جِهَةٍ، وَأَنَّهُ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي المَوْتَى أَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ سَمَاعَهُم كَانَ خَرْقًا لِلعَادَةِ فَلَا دَاعِيَ لِلإِعَادَةِ.

الدَّلِيْلُ الثَّانِي) حَدِيْثُ خَفْقِ النِّعَالِ؛ فَفِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ المَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ؛ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا، يَأْتِيْهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُوْلَان: ....). (¬1) وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِوَقْتِ وَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ وَمَجِيْءِ المَلَكَيْنِ إِلَيْهِ لِسُؤَالِهِ؛ فَلَا عُمُوْمَ فيهِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَبْوِيْبِهِ عَلَى الحَدِيْثِ حَيْثُ قَالَ: - بَابُ المَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ -. (¬2) (¬3) وَمِثْلُهُ أَيْضًا حَدِيْثُ عَمْرو بْنُ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (إِذَا دَفَنْتُمُونِي، فَأقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُوْرٌ وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُمْ، وَأعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬4). فَهُوَ مِنْ نفْسِ البَابِ أَيْضًا. (¬5) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (1338)، وَمُسْلِمٌ (2870). (¬2) البُخَارِيُّ (90/ 2). (¬3) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ البُخَارِيِّ (320/ 3): (قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَيِّتِ: (إِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِم)؛ وَكَلَامُهُ مَعَ المَلَكَيْنِ يُبَيِّنُ قَوْلَهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ} (فَاطِر:22) أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ العُمُوْمِ. قَالَ المُهَلَّبُ: وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الآيَةِ وَالحَدِيْثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نُسِبَ إِلَى المَوْتَى مِنْ اسْتِمَاعِ النِّدَاءِ وَالنَّوْحِ؛ فَهِيَ فِي هَذَا الوَقْتِ عِنْدَ الفِتْنَةِ أَوَّلَ مَا يُوضَعُ المَيِّتُ فِي قَبْرِهِ، أَوْ مَتَى شَاءَ اللهُ أَنْ يَرُدَّ أَرْوَاحَ المَوتَى رَدَّهَا إِلَيْهِم {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأَنْبِيَاء:23)). قُلْتُ: وَتَأْيِيدُ كَلَامِهِ هُوَ فِي نَفْسِ سِيَاقِ الآيَةِ {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ} (فَاطِر:22). (¬4) مُسْلِمٌ (121). (¬5) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (139/ 2): (وَفِيْهِ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ حِيْنَئِذٍ مَنْ حَوْلَ القَبْرِ). وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيْثِ الصَّحِيْحَيْن) (111/ 4): (وَقَوْلُهُ (حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُم) - وَقَدْ سَبَقَ فِي مُسْنَدِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ إِذَا وَلَّوا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَسُنَ أَنْ يَقُوْلَ (حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُم)، وَالمُرَادُ بِالرُّسُلِ هُنَا مُنْكَرٌ وَنَكِيْرٌ).

الدَّلِيْلُ الثَّالِثُ) مَا وَرَدَ عِنْدَ زِيَارَةِ القُبُوْرِ مِنَ الدُّعَاءِ لِلأَمْوَاتِ بِصِيْغَةِ الخِطَابِ (السَّلَامُ عَلَيْكُم)، وَأَيْضًا تَسْمِيَتُهَا بِـ (زِيَارةِ القُبُوْرِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم يَعْلَمُوْنَ مَنْ يَزورُهُم. (¬1) وَالجَوَابُ: أ) أَنَّ لَفْظَ الخِطَابِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَبَدًا أَنْ يَكُوْنَ المُخَاطَبُ سَامِعًا لِلنِّدَاءِ (¬2)، كَمَا فِي مُخَاطَبَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلحَجَرِ الأَسْوَدِ فِي قَوْلِهِ (إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (¬3) (¬4) وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا هَاجَرَ، فَخَاطَبَ مَكَّةَ قَائِلًا: (وَاللهِ؛ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ). (¬5) وَكَمُخَاطَبَةِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِم: (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ) - وَهُم فِي جَمِيْعِ المَسَاجِدِ - وَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهُم وَيَرُدُّ عَلَيْهِم السَّلَامَ (¬6)، وَلَكِنَّهَا عِبَادَةٌ يُتعَبَّدُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - أَيْ: دُعَاءُ دُخُوْلِ المَقَابِرِ، وَالتَّشَهُّدُ -. (¬7) ب) أَمَّا الاسْتِدْلَالُ بِتَسْمِيَةِ (زِيَارَةِ القُبُوْرِ)؛ وَأَنَّ مَفَادَهَا عِلْمُ أَهْلِ القُبُوْرِ بِمَنْ زَارَهُم كَمَا يُزَارُ الأَحْيَاءُ! فَهُوَ قِيَاسٌ غَيْرُ صَحِيْحٍ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ يُقَاسُ المَيِّتُ عَلَى الحَيِّ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا أَبْعَدُ القِيَاسِ، بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا قَدْ سَمَّاهَا (زِيَارَةَ القُبُوْرِ وَلَيْسَ زِيَارَةَ المَوْتَى)؛ لِأَنَّ المَزُوْرَ هُنَا هُوَ القَبْرُ وَلَيْسَ المَيِّتَ. وَنَقُوْلُ أَيْضًا أَنَّ الجَمَادَ أَيْضًا تَصِحُّ تَسْمِيَةُ إِتْيَانِهِ زِيَارَةً، كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيْثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُوْرُ البَيْتَ فِي الحَجِّ (¬8)، وَمِنَ المَعْلُوْمِ تَسْمِيَةُ طَوَافِ الإِفَاضَةِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَهُوَ فِي المَدِيْنَةِ يَزُوْرُ قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا (¬9)، فَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يَقُوْلُ: بِأَنَّ البَيْتَ وَقُبَاءَ هُمَا مِنَ الأَحْيَاءِ - أَيْ: لَيْسَا بِجَمَادَيْنِ - وَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِزِيَارَةِ الزَّائِرِ أَوْ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِزِيَارَتِهِ؟! ¬

_ (¬1) وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَنْقُوْلَةٌ عَنِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الرُّوْح) (ص8). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّعْلِيْقِ عَلَى (الآيَاتُ البَيِّنَاتُ) (ص39): (إِنِّيْ فِي شَكٍّ كَبِيْرٍ مِنْ صِحَّةِ نِسْبَةِ (الرُّوْحِ) إِلَيْهِ، أَوْ لَعَلَّهُ ألَّفَهُ فِي أَوَّلِ طَلَبِهِ لِلعِلْمِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬2) وَإِنْ فُرِضَ سَمَاعُهُم فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالزِّيَارَةِ وَبِلَفْظِ السَّلَامِ فَقَط. مُسْتَفَادٌ مِنْ تَفْسِيْرِ رُوْحِ المَعَانِي (57/ 11) لِلشَّيْخِ مَحْمُوْد الآلُوْسِيِّ (وَالِدِ مُؤَلِّفِ الكِتَابِ الأَصْلِ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى). وَإِلى هَذَا ذَهَبَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (327/ 6)، فَقَدْ أَثْبَتَ سَمَاعَ الأَمْوَاتِ عِنْدَ قُبُوْرِهِم، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالسَّلَفِيَّةِ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى المَوْتَى، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُرْ وَلَا يَعْلَمُ بِالمُسَلِّمِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِذَا رَأَوا القُبُوْرَ أَنْ يَقُوْلُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُم أَهْلَ الدِّيَارِ). قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ فِي الحَاشِيَةِ قَوْلُهُ بِعَدَمِ السَّمَاعِ، وَلكِنَّهُ عِنْدَهُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيْلِ (السَّلَامُ - عِنْدَ القَبْرِ). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُ شَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوِعِ الفَتَاوَى (364/ 24): (فَهَذِهِ النُّصُوْصُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الجُمْلَةِ كَلَامَ الحَيِّ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُوْنَ السَّمْعُ لَهُ دائِمًا بَلْ قَدْ يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُوْنَ حَالٍ). (¬3) البُخَارِيُّ (1597). (¬4) قُلْتُ: وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا فِي التِّرْمِذِيِّ (961) - وَهُوَ صَحِيْحٌ، كَمَا فِي صَحِيْحِ الجَامِعِ (5346) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا فِي الحَجَرِ الأَسْوَدِ (وَاللهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ؛ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ) وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ جَمَادٌ، وَإِذَا شَاءَ اللهُ أَنْطَقَهُ، وَذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَثَانِيَهُمَا: أَنَّهُ لَمْ تَأْتِ فِي صِفَتِهِ السَّمَاعُ بَلِ البَصَرُ وَالنُّطْقُ. وَالحَمْدُ للهِ. (¬5) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3925) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الحَمْرَاءِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7089). (¬6) وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ كَمَا لَا يَخْفَى. وَمِنْ نَفْسِ البَابِ يُجَابُ عَنْ حَدِيْثِ الضَّرِيْرِ الَّذِيْ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (3578) - وَهُوَ صَحِيْحٌ - وَسَيَأْتِي إِنْ شاءَ اللهُ فِي المُلْحَقِ الثَّامِنِ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ وهو (مُخْتَصَرُ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ؛ أَحْكَامُهُ)). (¬7) وِمِثْلُهُ حَدِيْثُ (مَنْ رَأَى مُبْتَلى، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيْلًا؛ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ البَلَاءُ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3432) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (602). قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (130/ 6): (قَالَ العُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُوْلَ هَذَا الذِّكْرَ سِرًّا بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعْهُ المُبْتَلَى؛ إِلَّا أَنْ تَكُوْنَ بَلِيَّتُهُ مَعْصِيَةً فَيُسْمِعُهُ - إِنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً -). (¬8) البُخَارِيُّ (174/ 2) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. (¬9) مُسْلِمٌ (1399) عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

الدَّلِيْلُ الرَّابِعُ) بَعْضُ الأَحَادِيْثِ الَّتِيْ يُسْتَدَلُّ بِهَا: 1) (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْتُهُ). مَوْضُوْعٌ. (¬1) 2) (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) (¬2). وَلَكِنْ مَعْنَاهُ مَنْ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، لِذَلِكَ بَوَّبَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (¬3): - بَابُ مَا جَاءَ فِي تَلْقِيْنِ المَرِيْضِ عِنْدَ المَوْتِ وَالدُّعَاءِ لَهُ - فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (مَعْنَاهُ مَنْ حَضَرَهُ المَوْتُ؛ ذَكِّرُوهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ لِيَكُوْنَ آخِرَ كَلَامِهِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَنْ كانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا الله؛ دَخَلَ الجَنَّةَ). (¬4) 3) حَدِيْثُ (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ) ضَعِيْفٌ. (¬5) 4) حَدِيْثُ (كَانَتِ امْرَأَةٌ بِالمَدِيْنَةِ تَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَتْ؛ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى قَبْرِهَا فَقَالَ: (مَا هَذَا القَبْرُ؟) فَقَالُوا: أُمُّ مِحْجَنٍ، قَالَ: (الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، فَصَفَّ النَّاسَ؛ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: (أَيَّ العَمَلِ وَجَدْتِ أَفْضَلَ؟) قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَتَسْمَعُ؟ قَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهَا)، فَذَكَرَ أَنَّهَا أَجَابَتْهُ: قَمَّ المَسْجِدِ). ضَعِيْفٌ مَعْضَلٌ. (¬6) 5) حَدِيْثُ (مَرَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ حِيْنَ رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ؛ فَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (أَشْهَدُ أنَّكُم أَحْيَاءُ عِنْدَ الله، فَزُورُوهُم وَسَلِّمُوا عَلَيْهِم، فَوَ الَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِم أَحَدٌ إِلَّا رَدَّوا عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ). (¬7) ¬

_ (¬1) المَوْضُوْعَاتُ لِابْنِ الجَوْزِيِّ (303/ 1). قُلْتُ: وَبَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بَنَى عَلَيْهِ جَوَازَ سَمَاعِ المَيِّتِ، وَلَكِنَّهُ بَقِيَ مُقَيَّدًا عِنْدَهُ بِأَمْرَيْنِ: الأَوَّلُ: أَنَّ الأَصْلَ أَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ - لِعُمُوْمِ الآيَاتِ مَوْضُوْعِ البَحْثِ -، وَهَذَا السَّمَاعُ هُوَ مِمَّا جُعِلَ تَحْتَ المَشِيْئَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ}. الثَّانِي: السَّمَاعُ لِمَنْ كَانَ عِنْدَ القَبْرِ، وَلَيْسَ مُطلقًا نَائِيًا عَنْهُ كَمَا فِي الأَثَرِ، وَقَدْ عَلِمْتَ كَوْنَهُ مَوْضُوْعًا. (¬2) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (916) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) (219/ 6). (¬4) وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (3004) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِتَمَامِهِ مَرْفُوْعًا (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عِنْدَ المَوْتِ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ - وَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ -). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5150). (¬5) العِلَلُ المُتَنَاهِيَةُ (229/ 2) لِابْنِ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، وَقَالَ: (هَذَا حَدِيْثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَضْعِيْفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (وَهُوَ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)). (¬6) أَوْرَدَهُ الحَافِظُ المُنْذِريُّ فِي التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (122/ 1) عَنْ أَبِي الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مَرْزُوْقٍ، وَقَالَ: (هَذَا مُرْسَلٌ). ضَعِيْفُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (182). (¬7) رَوَاهُ الحَاكِمُ (2977)، وَقَالَ: (حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ)! وَرَدَّهُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (كَذَا قَالَ! وَأَنَا أَحْسِبُهُ مَوْضُوْعًا).

باب قول الله تعالى {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون} (الأعراف:192).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {أَيُشْرِكُوْنَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ، وَلَا يَسْتَطِيْعُوْنَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُوْنَ} (الأَعْرَاف:192). وَقَوْلِهِ {وَالَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ مَا يَمْلِكُوْنَ مِنْ قِطْمِيْرٍ، إِنْ تَدْعُوْهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُوْنَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيْرٍ} (فَاطِر:13). وَفِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: شُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟)، فَنَزَلَتْ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عِمْرَان:128). (¬1) وَفِيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرّكُوْعِ مِنَ الرّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنَ الفَجْرِ - يَقُوْلُ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلانًا وَفُلَانًا - بَعدَمَا يَقُوْلُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ -). فَأَنْزَلَ اللهُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عِمْرَان:128). (¬2) وَفِي رِوَايَةٍ يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرو وَالحَارِثِ بْنِ هِشَام، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عِمْرَان: 128). (¬3) وَفِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَامَ فِيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِيْنَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ} (الشُّعَرَاء:214) -، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا. يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا. يَا صَفِيَّةُ عَمّةَ رَسُوْلِ اللهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ سَلِيْنِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا). (¬4) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ الآيَتَيْنِ. الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أُحُدٍ. الثَّالِثَةُ: قُنُوْتُ سَيِّدُ المُرْسَلِيْنَ، وَخَلْفَهُ سَادَاتُ الأَوْلِيَاءِ يُؤَمِّنُوْنَ فِي الصَّلَاةِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ المَدْعُوَّ عَلَيْهِمْ كُفَّارٌ. الخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا أَشْيَاءَ مَا فَعَلَهَا غَالِبُ الكُفَّارِ، مِنْهَا شَجُّهُمْ نَبِيَّهِمْ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، وَمِنْهَا التَّمْثِيْلُ بِالقَتْلَى - مَعَ أَنَّهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ -. السَّادِسَةُ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}. السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ {أَوْ يَتُوْبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُوْنَ} فَتَابَ عَلَيْهِمْ فَآمَنُوا. الثَّامِنَةُ: القُنُوْتُ فِي النَّوَازِلِ. التَّاسِعَةُ: تَسْمِيَةُ المَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ. العَاشِرَةُ: لَعْنُ المُعَيَّنِ فِي القُنُوْتِ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قِصَّتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ {وَأَنذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ}. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: جَدُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ؛ بِحَيْثُ فَعَلَ مَا نُسِبَ بِسَبَبِهِ إِلَى الجُنُوْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ يَفْعَلُهُ مُسْلِمٌ الآنَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ لِلْأَبْعَدِ وَالأَقْرَبِ (لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا) حَتَّى قَالَ: (يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا) فَإِذَا صَرَّحَ - وَهُوَ سَيِّدُ المُرْسَلِينَ - بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي شَيْئًا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِيْنَ، وَآمَنَ الإِنْسَانُ بِأَنَّهُ لَا يَقُوْلُ إِلَّا الحَقَّ، ثُمَّ نَظَرَ فِيْمَا وَقَعَ فِي قُلُوْبِ خَوَاصِّ النَّاسِ اليَوْمَ، تَبَيَّنَ لَهُ تَرْكُ التَّوْحِيْدِ وَغُرْبَةُ الدِّيْنِ. ¬

_ (¬1) عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ (99/ 5)، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ (1791). (¬2) البُخَارِيُّ (4559). (¬3) البُخَارِيُّ (4070). (¬4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بِـ (بَابِ مَنْ تَعَلَّقَ بِالصَّالِحِيْنَ)، وَأَدِلَّتُهُ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الأَوْلَى، وَقَدْ جَعَلَهُ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ البَابَيْنِ السَّابِقَيْنِ لِبَيَانِ العِلَّةِ فِي النَّهْي عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ مِنْ بَابِ الاسْتِدْلَالِ بِتَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ عَلَى تَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ. - وَجْهُ اسْتِدْلَالِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي هَذَا البَابِ هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) جِهَةٌ عَامَّةٌ وَهِيَ مِنَ الآيَتَيْنِ: وَفِيْهِمَا أَنَّ الخَالِقَ الَّذِيْ بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِيْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُدْعَى وَحْدَهُ. (¬1) 2) جِهَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ مِنَ الأَحَادِيْثِ: وَفِيْهَا الاسْتِدْلَالُ بِقِيَاسِ الأَوْلَى، حَيْثُ أَوْرَدَ النُّصُوْصَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتِيْ تُبَيِّنُ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْلِكُ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَصَارَ غَيْرُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. - قَوْلُهُ {أَيُشْرِكُوْنَ}: الاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيْخِ. وَالمَقْصُوْدُ هُنَا بِـ {أَيُشْرِكُوْنَ} أَيْ: فِي العِبَادَةِ. - الاسْتِدْلَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَيُشْرِكُوْنَ} هُوَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ؛ هِيَ: 1) أَنَّ آلِهَةَ المُشْرِكِيْنَ لَا تَخْلُقُ؛ وَمَنْ لَا يَخْلُقُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ. (¬2) 2) أَنَّهُم مَخْلُوْقُوْنَ مِنَ العَدَمِ فَهُم مُفْتَقِرُوْنَ إِلَى غَيْرِهِم ابْتِدَاءً. 3) أَنَّهُم لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ نَصْرَ مَنْ دَعَاهُم. 4) أَنَّهُم لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ نَصْرَ أَنْفُسَهُم. (¬3) ¬

_ (¬1) وَهَذِهِ مِنَ الأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ الَّتِيْ دَلَّ الشَّرْعُ إِلَى الاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وَحْدَانيَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أُلُوهِيَّتِهِ. (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُوْنَ} (النَّحْل:17)، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِن السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُوْلُوْنَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُوْنَ، فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ} (يُوْنُس:32)، يَعْنِي: أَتُقِرُّوْنَ بِذَلِكَ فَلَا تَتَّقُوْنَ الشِّرْكَ بِهِ. (¬3) قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ صَنِيْعَ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَجِدُهُ مِنْ هَذَا القَبِيْلِ، قَالَ تَعَالَى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيْرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:58).

- قَوْلُهُ (شُجَّ): الشُّجَّةُ: الجُرْحُ فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً. - قَوْلُهُ (وكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ): الرَّبَاعِيَّةُ مَا بَيْنَ الثّنيَّةِ وَالنَّابِ. - قَوْلُهُ (شُجَّ النَّبِيُّ): إِذَا كَانَ هَذَا أَفْضَلُ الخَلْقِ وَأَقْرَبُ النَّاسِ مَنْزِلَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى وَأَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ؛ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الضُّرَّ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ - وَهُمْ خَيْرُ القُرُوْنِ - فَصَارَ فِي الحَدِيْثِ الدَّلَالةُ عَلَى أَنَّهُ - وَمَنْ هُوَ دُوْنَهُ مِنْ سَادَةِ الأَوْلِيَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى - لَا يَسْتَحِقُّوْنَ أَنْ يُعْبَدُوا، وَيُتَعَلَّقَ بِهِم فِي كَشْفِ الضُّرِّ. (¬1) - قَوْلُهُ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}: نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي فَتَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ، فَصَارَ فِيْهَا الدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ - وَمَنْ هُوَ دُوْنَهُ مِنْ سَادَةِ الأَوْلِيَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى - فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَلْبِ النَّفْعِ، وَهُوَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوْءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيْرٌ وَبَشِيْرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ} (الأَعْرَاف:188). وَأَيْضًا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَلِيْنِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ لِغَيْرِهِ، وَهِيَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فكَيْفَ بِغَيْرِهَا؟ - قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ العَنْ فُلَانًا وَفُلانًا وَفُلَانًا)؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (¬2): فِيْهِ دِلَالَةٌ عَلَى أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ لِأَحَدٍ، حَيْثُ نُهِيَ عَنِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِم وَعَنْ لَعْنِهِم، فَصَارَ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِهِ - وَمَنْ هُوَ دُوْنَهُ مِنْ سَادَةِ الأَوْلِيَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى - فِي الضُّرِّ وَالنَّفْعِ. (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (148/ 12): (وَفِي هَذَا وُقُوْعُ الأَسْقَامِ وَالابْتِلَاءِ بِالأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم - لِيَنَالُوا بِذَلِكَ جَزِيْلَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَلِتَعْرِفَ الأُمَمُ مَا أَصَابَهُم وَيأْتَسُوا بِهِم. وَقَالَ القَاضِي رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُم مِنَ البَشَرِ تُصِيْبُهُم مِحَنُ الدُّنْيَا، وَيَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِهِم مَا يَطْرَأُ عَلَى البَشَرِ)). (¬2) قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (195/ 7): (وَذُكِرَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَهُ بِأُحُدٍ مَا أَصَابَهُ مِنَ المُشْرِكِيْنَ، قَالَ - كَالآيِسِ لَهُم مِنَ الهُدَى أَوْ مِنَ الإِنَابَةِ إِلَى الحَقِّ -: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِم!!)). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (366/ 7): (وَالثَّلَاثَةُ الَّذِيْنَ سَمَّاهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا يَوْمَ الفَتْحِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي نُزُوْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَو يَتُوْبَ عَلَيْهِم}). قُلْتُ: فَفِيْهِ فَائِدَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتِ إِنْسَانًا غَارِقًا بِالمَعَاصِي؛ فَلَا تَسْتَبْعِدْ رَحْمَةَ اللهِ لَهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ يَتُوْبُ عَلَيْهِ، لِذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أَنَّ لَا يَشْهَدُوا لِأَحَدٍ بِجَنَّةٍ وَلَا بِنَارٍ إِلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّصُّ، كَمَا فِي العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ: (وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُم جَنَّةً ولَا نَارًا).

- قَوْلُهُ (لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (¬1): فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ المَرْءَ لَا يَنْفَعُهُ إِلَّا عَمَلُهُ الصَّالِحُ، وَفِيْهِ بُطْلَانُ الاعْتِمَادِ عَلَى النَّسَبِ فِي دَفْعِ العَذَابِ دُوْنَ العَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا أَنَّ نُوْحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْفَعْ وَلَدَهُ، وَلَا إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاهُ، وَلَا نُوْحًا وَلُوْطًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ زَوْجَتَيْهِمَا (¬2) (¬3)، وَفِيْهِ جَوَازُ سُؤَالِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ. - فِي قَوْلِهِ (سَلِيْنِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا): بَيَانُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ فِي التَّوْحِيْدِ، وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَ للهِ لَا يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِ اللهِ، فَلَا يَخْفَى الفَرْقُ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - بَيْنَ قَوْلِهِ (مِنْ مَالِي) وَبَيْنَ (مِنَ اللهِ شَيْئًا). (¬4) - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ}: إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الدَّاعِيَةَ وَالآمِرَ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ المُنْكَرِ يَبْدَأُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَخَاصَّتِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِجِيْرَانِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ، ثُمَّ يَتَوَسَّعُ بِالخَيْرِ إِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنَ البِلَادِ، أَمَّا العَكْسُ فَهَذَا خِلَافُ مَنْهَجِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ. (¬5) - فَائِدَة 1) فِي الحَدِيْثِ التَّصْرِيْحُ بِأَنَّ الإِمَامَ - فِي الصَّلَاةِ - يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيْعِ وَالتَّحْمِيْدِ. - فَائِدَة 2) الفَرْقُ بَيْنَ الحَمْدِ وَالمَدْحِ: أَنَّ الحَمْدَ إِخْبَارٌ عَنْ مَحَاسِنِ المَحْمودِ مَعَ حُبِّهِ وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيْمِهِ، أَمَّا المَدْحُ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ. ¬

_ (¬1) وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ (204) (أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ). (¬2) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِيْنَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوْحٍ وَامْرَأَتَ لُوْطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيْلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِيْنَ} (التَّحْرِيْم:10)، فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مَثَلًا لِلاعْتِبَارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ الحِكْمَةِ مِنْهُ. (¬3) وَإِذَا كَانَ القُرْبُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ لَا يُغْنِي عَنِ القَرِيْبِ شَيْئًا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ جَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَي أَهْلِ العِلْمِ تَحْرِيْمُ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬4) وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (3185) بِلَفْظِ (أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ ضَرًّا أَوْ نَفْعًا). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7983). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (503/ 8): (وَالسِّرُّ فِي الأَمْرِ بِإِنْذَارِ الأَقْرَبِيْنَ أَوَّلًا أَنَّ الحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِم تَعدَّتْ إِلَى غَيْرِهِم؛ وَإِلَّا فَكَانُوا عِلَّةٍ لِلأَبْعَدِيْنَ فِي الامْتِنَاعِ). قُلْتُ: وَأَيْضًا مِنْ جِهَةِ حَقِّ الرَّحِمِ؛ فَإِنّ الأَقْرَبَ هُوَ الأَوْلَى بِالنَّفْعِ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُهُ تَعَالَى {مِنْ قِطْمِيْرٍ} (مِنْ) هُنَا جَاءَ فِي إِعْرَابِهَا أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ زَائِدٍ، فكَيْفَ يَسْتَقِيْمُ هَذَا القَوْلُ مَعَ مَا هُوَ مَعْلُوْمٌ فِي الشَّرِيْعَةِ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى مُحْكَمٌ وَكَامِلٌ لَيْسَ فِيْهِ زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ؟ وَالجَوَابُ: أَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِهَةِ الإِعْرَابِ؛ لَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَاهَا التَّوكيْدَ. (¬1) ¬

_ (¬1) ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ الزَّرْكَشيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (البُرْهَانُ) (72/ 3).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا فَائِدَةُ التَّخْصِيْصِ بِالحَمْدِ فِي قَوْلِ المُصَلِّيْ (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمِيْعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؟ وَالجَوَابُ: أَنَّ السَّمَاعَ هُنَا هُوَ بِمَعْنَى الاسْتِجَابَةِ، وَلَيْسَ مُطْلَقَ السَّمَاعِ، وَهَذَا يُسَمَّى عِنْدَ العَرَبِ بِالتَّضْمِيْنِ، لِذَلِكَ يُلْحَقُ بِالفِعْلِ الأَوَّلِ مَا يَدُلُّ عَلَى المَعْنَى المُضَمَّنِ فِي الفِعْلِ الثَّانِي، وَهُوَ اللَّامُ هُنَا. (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ الصَّنْعَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (سُبُلُ السَّلَامِ) (267/ 1): (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ: أَيْ: أَجَابَ اللهُ مَنْ حَمِدَهُ، فَإِنَّ مَنْ حَمِدَ اللهَ تَعَالَى مُتَعَرِّضًا لِثَوَابِهِ؛ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، فَنَاسَبَ بَعْدَهُ أَنْ يَقُوْلَ: رَبَّنَا وَلَك الحَمْدُ).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) مَا صِحَّةُ زَعْمِ بَعْضِهِم فِي أَنَّ مَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ مِنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ لَا يَمْلِكُ لِأَهْلِهِ وَلِلنَّاسِ شَيْئًا؛ أَنَّهُ لَا يَعْنِي عَدَمَ نَفْعِهِ لَهُم فِي الآخِرَةِ، لِأَنَّ مَنْ نُفِيَ عَنْهُم النَّفْعُ هُمُ الَّذِيْنَ لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ أَصْلًا، فَالمَقْصُوْدُ بِالحَدِيْثِ هُوَ (لَا أُغْنِي عَنْكُم مِنَ اللهِ شَيْئًا إِذَا لَمْ تُؤمِنُوا، أَمَّا إِذَا آمَنْتُم فَإِنِّي أُغْنِي عَنْكُم)! الجَوَابُ: هَذَا الزَّعْمُ لَيْسَ بِصَحِيْحٍ، فَهُنَا نَفِيٌ مُطْلَقٌ؛ وَلَا يَخْتَصُّ بِالكُفَّارِ فَقَطْ - كَمَا يَزْعُمُهُ أَرْبَابُ التَّعَلُّقِ بِالصَّالِحِيْنَ -؛ بَلْ أَيْضًا أَهْلُ الإِيْمَانِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ لَا يُغْنِي عَنْهُم شَيْئًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أ) أَنَّ هَذَا نَفْيٌ مُطْلَقٌ؛ فَيَشْمَلُ الجَمِيْعَ، وَلَا دَلِيْلَ هُنَا عَلَى التَّخْصِيْصِ. ب) أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِعُمُوْمِيَّاتِ الشَّرِيْعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوْبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُوْنَ} (آل عِمْرَان:128). وقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} (آل عِمْرَان:129). وقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيْرٌ وَبَشِيْرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ} (الأَعْرَاف:188). جـ) أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ (لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً؛ فَإِنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مُؤْمِنَةٌ (¬1)؛ وَمَعْ ذَلِكَ خُوطِبَتْ بِهَذَا الخِطَابِ. د) أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانْفِطَار:19)، وَتَأَمَّلْ كَونَ النَّفْسِ فِي الآيَةِ جَاءَتْ نَكِرَةً فِي المَوْضِعَيْنِ! الأَمْرُ الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَيًّا كَانَ الشَّافِعُ؛ وَأَيًّا كَانَ المَشْفُوعُ فِيْهِ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. هـ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ قَدْ بيَّنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيْثِهِ الشَّرِيْفَةِ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ أُمَّتِهِ نَفْسِهَا شَيْئًا إِذَا جَاءُوْهُ بِالمَعَاصِي - وَلَيْسَ بِالكُفْرِ فَقَط -، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ أَوْلِيَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ المُتَّقُوْنَ - وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ - فَلَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، فَتَقُوْلُوْنَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُوْلُ: هَكَذَا وَهَكَذَا؛ لَا) وَأَعْرَضَ فِي كِلَا عِطْفَيْهِ). (¬2) وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فَهِيَ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ، وَلَكِنَّهَا مِلْكٌ للهِ تَعَالَى، لِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ وَفِيْمَنْ شَاءَ أَنْ يُشْفَعَ فِيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النَّجْم:26). وَسَيَأْتِي قَرِيْبًا - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ. ¬

_ (¬1) وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا بِأَنَّهَا (سَيِّدَةُ نِسَاءِ المُؤْمِنِيْنَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6285)، وَمُسْلِمٌ (2450) عِنْ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ. (¬2) حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (897) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الصَّحِيْحَةُ (765).

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِعِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ آيَاتٍ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ إِحْيَاءِ المَوْتَى، وَمِنْ عِلْمِ الغَيْبِ، وَمِنْ إِبْرَاءِ المَرْضَى، فَهَلْ يَجُوْزُ دُعَاءُهُ لِتَحْصِيْلِ ذَلِكَ الخَيْرِ؟ الجَوَابُ: لَا يَجُوْزُ أَنْ يُدْعَى عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ؛ مِنْهَا: 1) أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ الَّتِيْ جَاءَ بِهَا عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هِي مَقْرُوْنَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى كَمَا فِي نَفْسِ سِيَاقِ الآيَاتِ الكَرِيْمَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَسُوْلًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُوْنُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِي بُيُوْتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (آلِ عِمْرَان:49). فَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا اسْتِقْلَالًا، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ إِظْهَارِ الآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى تَأْيِيْدِ رَبِّهِ لَهُ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُوْلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (غَافِر:79)، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْعُوْهُ أَحَدٌ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَدْعُو اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَذِنَ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا تُطْلَبُ هَذِهِ الأَشْيَاءُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ الأَوْلِيَاءُ الصَّالِحُوْنَ - إِنْ أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْهُم مَا يُسَمَّى بِالكَرَامَةِ - فَلَا يَعْنِي ذَلِكَ جَوَازَ دُعَائِهِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيْهَا كَمَا يَشَاءُ. 2) أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ وَالتَّعَلُّقَ بِهِم فِي تَفْرِيْجِ الكُرُبَاتِ شِرْكٌ، بَلْ أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِيْنَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِيْنَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ} (الأَحْقَاف:5). وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ - فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الآيَاتِ التِيْ أَتَى بِهَا - {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (آلِ عِمْرَان:51} الأَمْرُ الَّذِيْ يُفِيْدُ أَنَّهُ وَإِيَّاهُم سَوَاءٌ فِي العُبُوْدِيَّةِ للهِ وَالخُضُوْعِ لَهُ تَعَالَى، وَقَدْ عُلْمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ). (¬1) 3) أَنَّ كَوْنَ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيًا - قَدْ رَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى - لَا يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا هُوَ حَالُ النَّاسِ فِي الأَرْضِ وَأَنَّهُ يَسْمَعُهُم، وَدَلِيْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيْدًا مَا دُمْتُ فِيْهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيْبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} (المَائِدَة:117)، فَهُوَ غَائِبٌ وَلَيْسَ بِحَاضِرٍ. (¬2) 4) أَنَّ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَمْلِكْ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا عِنْدَمَا أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا، بَلْ حَتَّى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} (الأَعْرَاف:188). وَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ فَقَالَ: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ، وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيْبُ بِهِ مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ} (يُوْنُس:107). 5) أَنَّ الكُفَّارَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ المَسِيْحَ؛ وَوَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُم كُفَّارٌ - رُغْمَ مَا هُوَ مَعْلُوْمٌ مِنَ الآيَاتِ الَّتِيْ أَتَى بِهَا -، قَالَ تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوْرًا} (الإِسْرَاء:57). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الآيَةِ: (أَنَّهَا فِي عِيْسَى وَمَرْيَمَ وَالعُزَيْر وَالمَلَائِكَةِ). (¬3) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3407). (¬2) وَتأَمَّلْ حَدِيْثَ (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ وَلأُنازعَنَّ أقْوَامًا ثمَّ لَأُغْلَبَنَّ عَلَيْهِمْ فأَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيَقُوْلُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6576)، وَمُسْلِمٌ (2297) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (474/ 17).

باب قول الله تعالى {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} (سبأ:23)

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} (سَبَأ:23) وَفِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُم ذَلِكَ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} (سَبَأ:23)، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ، فَيُلْقِيْهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيْهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ. فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِيْ سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ). (¬1) وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ بِالأَمْرِ; تَكَلَّمَ بِالوَحْيِ; أَخَذَتِ السَّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ - أَوْ قَالَ رِعْدَةٌ شَدِيْدَةٌ - خَوْفًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ; صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُوْنُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيْلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللهُ مِنْ وَحَيِّهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيْلُ عَلَى المَلَائِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ؛ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيْلُ؟ فَيَقُوْلُ: {قَالَ الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} فَيَقُوْلُوْنَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيْلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيْلُ بِالوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ الآيَةِ. الثَّانِيَةُ: مَا فِيْهَا مِنَ الحُجَّةِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ، خُصُوصًا مَا تَعَلَّقَ عَلَى الصَّالِحِيْنَ، وَهِيَ الآيَةُ الَّتِيْ قِيْلَ إِنَّهَا تَقْطَعُ عُرُوقَ شَجَرَةِ الشِّرْكِ مِنَ القَلْبِ. الثَّالِثَةُ: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ}. الرَّابِعَةُ: سَبَبُ سُؤَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ. الخَامِسَةُ: أَنَّ جِبْرِيْلَ يُجِيْبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (قَالَ: كَذَا وَكَذَا). السَّادِسَةُ: ذِكْرُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيْلُ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَقُوْلُ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ الغَشْيَ يَعُمُّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ كُلَّهُمْ. التَّاسِعَةُ: ارْتِجَافُ السَّمَوَاتِ لِكَلَامِ اللهِ. العَاشِرَةُ: أَنَّ جِبْرِيْلَ هُوَ الَّذِيْ يَنْتَهِي بِالوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ذِكْرُ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِيْنِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: صِفَةُ رُكُوْبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إِرْسَالُ الشِّهَابِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ تَارَةً يُدْرِكُهُ الشِّهَابُ قَبْلِ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَتَارَةً يُلْقِيْهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ مِنَ الإِنْسِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: كَوْنُ الكَاهِنِ يَصْدُقُ بَعْضَ الأَحْيَانِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: كَوْنُهُ يَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ كَذِبَهُ إِلَّا بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِيْ سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَبُوْلُ النُّفُوسُ لِلْبَاطِلِ؛ كَيْفَ يَتَعَلَّقُونَ بِوَاحِدَةٍ وَلَا يُعْتَبَرُونَ بِمِائَةٍ!! التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: كَوْنُهُمْ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمُ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الكَلِمَةَ وَيَحْفَظُونَهَا وَيَسْتَدِلُّوْنَ بِهَا. العِشْرُوْنَ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ المُعَطِّلَةِ. الحَادِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّ تِلْكَ الرَّجْفَةَ وَالغَشْيَ خَوْفًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ: أَنَّهُمْ يَخِرُّونَ لِلَّهِ سُجَّدًا. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (4800). (¬2) لَهُ شَوَاهِدُ. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (ظِلَالُ الجَنَّةِ): (ضَعِيْفٌ)، بِرَقَم (515). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ فِي تَحْقِيْقِ كِتَابِ (التَّنْكِيْلُ) (735/ 2) لِلشَّيْخِ المُعَلِّميِّ اليَمَانِيِّ (ت 1386هـ) رَحِمَهُمَا اللهُ: (المَتْنُ غَيْرُ مُنْكَرٍ، فلَهُ شَوَاهِد؛ .. فَالنَّكَارَةُ فِي السَّنَدِ فَقَط). وَقَالَ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الدُّرُّ المَنْثُوْرُ) (698/ 6): (وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيْرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ وَابْنُ مَرْدَوِيْه وَالبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفاتِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ ....).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى (بَابَ مَنْ تَعَلَّقَ بِالمَلَائِكَةِ)، حَيْثُ تَعَلَّقَ المُشْرِكُوْنَ بِهِم لِحُصُوْلِ الشَّفَاعَةِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ}: فِي قِرَاءَةٍ {فُرِغَ عَنْ} (¬1) وَمَعْنَاهُ ذَهَبَ عَنْ قُلُوْبِ المَلَائِكَةِ مَا حَلَّ فِيْهَا مِنَ الفَزَعِ. (¬2) - سِيَاقُ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ هُوَ {قُلِ ادْعُوا الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَمْلِكُوْنَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيْهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيْرٍ، وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} (سَبَأ:22). - فِي البَابِ بَيَانُ حَالِ المَلَائِكَةِ عِنْدَ رَبِّهَا وَإشْفَاقِهَا مِنْ خَشيَتِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِم دُوْنَ اللهِ تَعَالَى بِحُجَّةِ الشَّفَاعَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُوْنَ، لَا يَسْبِقُوْنَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُوْنَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُوْنِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِيْنَ} (الأَنْبِيَاء:26). (¬3) - مُنَاسَبَةُ الآيَةِ لِلتَّوْحِيْدِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى مُنْفَرِدًا فِي العَظَمَةِ وَالكِبْرِيَاءِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالعِبَادَةِ. - السِّيَاقُ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَفَاعَةَ إلّا بإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَتِ المَلَائِكَةُ عِنْدَ المُشْرِكِيْنَ هُم بَنَاتُ اللهِ - تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ - وَكَانُوا يَطْلُبُوْنَ مِنْهَا الشَّفَاعَةَ؛ حَسُنَ إِيْرَادُ حَالِ المَلَائِكَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَصَارَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ حَالِ مَنْ لَا يَخْلُقُ مَعَ مَنْ يَخْلُقُ. (¬4) - قَوْلُهُ تَعَالَى {فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ}: أَيْ: جَاوَزَ الفَزَعُ قُلُوْبَهُم، وَالفَزَعُ هُوَ الخَوْفُ المُفَاجِئُ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (4701). (¬2) قَالَ الجَوْهَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصِّحَاحِ (1258/ 3): (الإِفْزَاعُ: الإِخَافَةُ، وَفُزِّعَ عَنْهُ: أَيْ: كُشِفَ عَنْهُ الخَوْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ} أَيْ: كُشِفَ عَنْهَا الفَزَعُ). (¬3) قُلْتُ: وَتَأَمَّلِ الاقْتِرَانَ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَالخَشْيَةِ تَرَى المُطَابقَةَ مَعَ الآيَةِ وَالحَدِيْثِ اللَّذَيْنِ فِي البَابِ، وَتَعْلَم بِذَلِكَ مَقْصُوْدَ المُصَنِّفِ مِنْ إِيْرَادِهِمَا. (¬4) قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ (458/ 7) - عِنْدَ تَفْسِيْرِ سُوْرَةِ النَّجْمِ -: (وَقَوْلُهُ {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النَّجْم:26) كَقَوْلِهِ {مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البَقَرَة: 255)، {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سَبَأ:23)، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ المَلَائِكَةِ المُقَرَّبِيْنَ، فكَيْفَ تَرْجُوْنَ أَيُّهَا الجَاهِلُوْنَ شَفَاعَةَ هَذِهِ الأَصْنَامِ وَالأنْدَادِ عِنْدَ اللهِ؛ وَهُوَ لَمْ يَشْرَعْ عِبَادَتَهَا وَلَا أَذِنَ فِيْهَا، بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهَا عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيْعِ رُسُلِهِ، وَأنْزَلَ بِالنَّهْي عَنْ ذَلِكَ جَمِيْعَ كُتُبِهِ؟!).

- إِنَّ الصَّعْقَ الحَاصِلَ عَلَى المَلَائِكَةِ عِنْدَمَا يُوْحِي اللهُ تَعَالَى بِالأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِم بِاللهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْرَفَ؛ كَانَ مِنْهُ أَخْوَفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيْزٌ غَفُوْرٌ} (فَاطِر:28). - قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالُوا الحَقَّ}: الحَقُّ هُنَا: هُوَ صِفَةُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ قِسْمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ} (الأَنْعَام:115). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ: (أَيْ: صِدْقًا فِي الأخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي). (¬1) - قَوْلُهُ (كَسِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ): (¬2) المُرَادُ تَشْبِيْهُ مَا يَحْصُلُ مِنَ الفَزَعِ فِي القُلُوْبِ, وَلَيْسَ المُرَادُ تَشْبِيْهَ الصَّوْتِ بَالصَّوْتِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الشُّوْرَى:11). (¬3) - الكَاهِنُ: هُوَ الَّذِيْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ المُغَيَّبَاتِ فِي المُسْتَقْبَلِ وَمَا فِي الضَّمِيْرِ. وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُسْتَقِلٍ إِنْ شَاءَ اللهُ. - قَوْلُهُ (وَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ): أَيْ: وَصَفَ رُكُوْبَ بَعْضِهِم فَوْقَ بَعْضٍ. وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ الهِلَالِيُّ الكُوْفِيُّ (ت 198هـ). ¬

_ (¬1) (27/ 8). (¬2) (الصَّفْوَانُ): هُوَ الحَجَرُ الأَمْلَسُ الصُّلْبُ، وَالسِّلْسِلَةُ عَلَيْهِ يَكُوْنُ لَهَا صَوْتٌ عَظِيْمٌ. (¬3) وَلِذَلِكَ قَالَ (يَنْفُذُهُم ذَلِكَ) فَالنُّفُوذُ هُوَ الدُّخُوْلُ فِي الشَّيْءِ، وَمِنْهُ نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ أَيْ: دَخَلَ فِيْهَا، وَالمَعْنَى أنَّ هَذَا الصَّوْتَ يَبْلُغُ مِنْهُم كُلَّ مَبْلَغٍ. وَمِنْ أَهْلِ العِلْمِ مَنْ جَعَلَ الصَّوْتَ هُنَا هُوَ صَوْتَ رِعْدَةِ السَّمَاءِ. وَالأَوَّلُ أَوْلَى، كَمَا قَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ) (ص98): (وَأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِيْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، فَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُهُ. وَفِي هَذَا دَلِيْلٌ أَنَّ صَوْتَ اللهِ لَا يُشْبِهُ أَصْوَاتَ الخَلْقِ، لِأَنَّ صَوْتَ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ يُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ قُرْبِ، وَأَنَّ المَلائِكَةَ يُصْعَقُوْنَ مِنْ صَوْتِهِ). وَبَوَّبَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى الحَدِيْثِ فِي صَحِيْحِهِ (141/ 9) بِـ (بَابِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} وَلَمْ يَقُلْ: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ؟ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُوْدٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالوَحْيِ؛ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الحَقُّ وَنَادَوْا {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ}. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ؛ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ؛ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ)). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (456/ 13) - عَنْ أَثَرُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ السَّابِقِ -: (وَقَدْ وَصَلَهُ البَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيْقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ - وَهُوَ أَبُو الضُّحَى - عَنْ مَسْرُوقٍ). وَالحَدِيْثُ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَه رَحِمَهُ اللهُ فِي المُقَدِّمَةِ مِنَ السُّنَنِ (62/ 1)؛ وَقَالَ: (بَابٌ فِي مَا أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ). قُلْتُ: وَمُرَادُهُم إِثْبَاتُ صِفَةِ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى حَقِيْقَةً.

- فِي الآيَةِ وَالحَدِيْثِ بَيَانُ عِدَّةِ فَوَائِدَ: 1) أَنَّ المَلَائِكَةَ يَخَافُوْنَ اللهَ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {يَخَافُوْنَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُوْنَ مَا يُؤْمَرُوْنَ} (النَّحْل:50). 2) إِثْبَاتُ القُلُوْبِ لِلمَلَائِكَةِ، وَبِهَا تَعْقِلُ. (¬1) 3) إِثْبَاتُ أَنَّهَا أَجْسَامٌ. (¬2) 4) إِثْبَاتُ صِفَةِ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَتَى شَاءَ. (¬3) 5) أَنَّ قَضَاءَ اللهِ تَعَالَى يَكُوْنُ بِالقَوْلِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُوْلُ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} (آل عِمْرَان:47). 6) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَه يُمَكِّنُ هَؤُلَاءِ الجِنَّ مِنَ الوُصُوْلِ إِلَى السَّمَاءِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءًا لَهُم، وَهِيَ مَا يُلقونَهُ عَلَى الكُهَّانِ، وَقَدْ أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِذَلِكَ كَيْ لَا يَحْصُلَ عِنْدَهُم الاشْتِبَاهُ بِذَلِكَ، وَللهِ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ (¬4)، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِيْنَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيْمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِيْنٌ} (الحِجْر:18)، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي كَثِيْرٍ مِنَ الأَحَادِيْثِ، وَمِثَالُهُ حَدِيْثُ البَابِ (فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِيْ سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ). 7) إِثْبَاتُ صِفَةِ العُلُوِّ للهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِهِ (إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ). 8) بَيَانُ تَحَمُّلِ الشَّيَاطِيْنِ لِلمَخَاطِرِ مِنْ أَجْلِ إِضْلَالِ النَّاسِ. ¬

_ (¬1) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِيْنَ إِلَى أَنَّ المَعْنِيَّ بِالكَلَامِ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ هُمُ الكفَّارُ وَلَيْسَ المَلَائِكَةُ؛ وَهُوَ مَرْدُوْدٌ عَلَيْهِم لِمُخَالَفَتِهِم الحَدِيْثَ الصَّحيحَ السَّابِقَ ذِكْرُهُ. اُنْظُرِ الفَتْحِ (459/ 13) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ - مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِيْنَ - أَنَّ المَلَائِكَةَ هِيَ قِوَى الخَيْرِ فِي النُّفُوْسِ، أَوْ هِيَ أَرْوَاحٌ فَقَط. (¬3) بِخِلَافِ المُعَطِّلَةِ الَّذِيْنَ يَجْعَلُوْنَ الكَلَامَ عَلَى غَيْرِ حَقِيْقَتِهِ. (¬4) قَالَ الآلُوْسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (رُوْحُ المَعَانِي) (73/ 12): (وَمِنْهَا أَنَّهُ يُغْنِي عَنِ الحِفْظِ مِنِ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِيْنِ عَدَمُ تَمْكِيْنِهِم مِنَ الصُّعُودِ إِلَى حَيْثُ يُسْتَرَقُ السَّمْعُ، أَوْ أَمْرُ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِم السَّلامُ بِإِخْفَاءِ كَلَامِهِم بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُوْنَهُ، أَوْ جَعْلُ لُغَتِهِم مُخَالِفَةً لِلُغَتِهِم بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُوْنَ كَلَامَهُم؛ وَأُجِيْبَ بِأَنَّ وُقُوْعَ الأَمْرِ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ بَابِ الابْتِلَاءِ).

- فِي الحَدِيْثِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الإِرَادَةِ للهِ تَعَالَى، وَهِيَ قِسْمَانِ: شَرعيَّةٌ وكَونيَّةٌ؛ وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أ) مِنْ حَيْثُ المَحَبَّةِ؛ فَالشَّرْعِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَأَمَّا الكَوْنيَّةُ فَقَدْ يُحِبُّهَا اللهُ وَقَدْ لَا يُحِبُّهَا. ب) مِنْ حَيْثُ الوُقُوْعِ؛ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، بِخِلَافِ الكَوْنِيَّةِ فَهِيَ وَاقِعَةٌ (¬1) لَا مَحَالَةَ. وَكِلَا النَّوْعِيْنِ مَقْرُوْنٌ بِالحِكْمَةِ. - النُّجُوْمُ رُجُوْمٌ لِلشَّيَاطِيْنِ، وَعِنْدَ البَعْثَةِ زَادَ الرَّجْمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَرُمِيَ بِنَجْمٍ عَظِيْمٍ فَاسْتَنَارَ، قَالَ: (مَا كُنْتُمْ تَقُوْلُوْنَ إِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟) قَالَ: كُنَّا نَقُوْلُ: يُوْلَدُ عَظِيْمٌ أَوْ يَمُوْتُ عَظِيْمٌ. قُلْتُ (¬2) لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ غُلِّظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا ....) الحَدِيْث. (¬3) - الوَحْيُ: هُوَ الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ. وَهُوَ نَوْعَانِ: وَحِيُ إِلْهَامٍ، وَوَحْيُ إِرْسَالٍ. فَوَحْيُ الإِلْهَامِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوْتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُوْنَ} (النَّحْل:68)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوْسَى أَنْ أَرْضِعِيْهِ} (القَصَص:7). وَأَمَّا وَحْيُ الإِرْسَالِ: فَهُوَ الَّذِيْ يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيْلُ إِلَى الرُّسُلِ. ¬

_ (¬1) وَمِثَالُ الكَوْنِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيْدُ} (البُرُوْج:16)، وَالإِرَادَةُ الكَوْنِيَّةُ هِيَ نَفْسُهَا المَشِيْئَةُ، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشأْ لَمْ يَكُنْ. وَمِثَالُ الشَّرْعِيَّةِ {وَاللَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يَتُوْبَ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاء:27). (¬2) القَائِلُ هُوَ مَعْمَرٌ بْنُ رَاشِدٍ الأَزْدِيُّ. (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (1882). صَحِيْحُ السِّيْرَةِ لِلأَلْبَانِيِّ (ص103).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) قَالَتِ المُعَطِّلَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يُسْمَعُ، وِإِنَّمَا هُوَ يَخْلُقُ كَلَامًا، وَمِنْهُم مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ؛ وَأَمَّا أَلْفَاظُهُ وَحُرُوْفُهُ فَهِيَ مَخْلُوْقَةٌ. وَدَارَتْ شُبَهُهُم حَوْلَ أُمُوْرٍ هِيَ: - الشُّبْهَةُ الأُوْلَى) أَنَّ القُرآنَ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيْلَ وَلَيْسَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى؟! كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُوْلٍ كَرِيْمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِيْنٍ} (التَّكْوِيْر:20)، أَوْ أَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُوْلٍ كَرِيْمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيْلًا مَا تُؤْمِنُوْنَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيْلًا مَا تَذَكَّرُوْنَ} (الحَاقَّة:42)؟ وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) مَا نُسِبَ فِي الآيَةِ مِنْ أَنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَمَفَادُهُ أَنَّ جِبْرِيْلَ يُبلِّغُهُ، فَنِسْبَةُ القَوْلِ إِلَى جِبْرِيْلَ هِيَ نِسْبَةُ تَبْلِيْغٍ؛ وَأَنَّهُ أَدَّاهَا بِأَمَانَةٍ دُوْنَ تَحْرِيْفٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفُهُ بِالرِّسَالَةِ وَلَمْ يَرِدْ بِاسْمِهِ المُجَرَّدِ، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ الرَّسُوْلَ يُؤَدِّي رِسَالَةَ مَنْ أَرْسَلَهُ بِهَا؛ وَلَا يَكُوْنُ القَوْلُ قَوْلَهُ. وَأَيْضًا فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ تَجِدُ الأَمْرَ نَفْسَهُ حَيْثُ جَاءَ وَصْفُهُ بِالرَّسُوْلِ - أَيِّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ القَوْلُ عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ أَدَّى الرِّسَالَةَ بِأَمَانَةٍ دُوْنَ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ تَحْرِيْفٍ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا جَاءَ وَصْفُهُ بِالرِّسَالَةِ وَلَمْ يَرِدْ بِاسْمِهِ المُجَرَّدِ، وَتَأَمَّلْ تَمَامَ الآيَاتِ لِتَجِدَ بُرْهَانَ ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِيْنِ} (الحَاقَّة:45)؛ مِمَّا يَدُلُّ صَرَاحَةً أَنَّهُ مُبَلِّغٌ قَوْلَ رَبِّهِ بِدُوْنِ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ تَحْرِيْفٍ. 2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَلَامُهُ تَعَالَى وَلَيْسَ كَلَامَ البَشَرِ، وَهَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ مَنِ القَائِلِ بِهِ. قَالَ تَعَالَى عَنْ قولِ المُشْرِكِيْنَ: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ البَشَرِ} (المُدّثّر:25)، فَعُلِمَ إِذًا أَنَّ هَذَا القُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ البَشَرِ. 3) أَنَّهُ لَوْ كَانَ القُرْآنُ كَلَامَ البَشَرِ لَمْ يَحَسُنِ التَّحَدِّيْ بِهِ؛ بِخِلَافِ كَلَامِ البَشَرِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُوْنَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيْرًا} (الإِسْرَاء:88). 4) أَنَّ الكَلَامَ لَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَّا لِمَنْ قَالَهُ ابْتِدَاءً. 5) أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ العَزِيْزِ بَيْنَ القُرْآنِ وَالخَلْقِ، فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الأِنْسَانَ} (الرَّحْمَن:3) فَخَصَّ القُرْآنَ بِالتَّعْلِيْمِ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ، وَخَصَّ الإِنْسَانِ بِالتَّخْلِيْقِ لِأَنَّهُ خَلْقُهُ ومَصْنُوعُهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: خَلَقَ القُرْآنَ وَالإِنْسَانَ. - الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) إِنَّ العَرَبَ فِي كَلَامِهَا تَسْتَخْدِمُ لَفْظَ القَوْلِ لِغَيْرِ الكَلَامِ كَمَا يَقُوْلُ الرَّجُلُ بِيَدِهِ هَكَذَا (أَيْ: إِشَارَةً عَلَى صِفَةِ مَا)، وَكَمَا يُقَالُ: قَالَتِ السَّمَاءُ هَكَذَا (لِوَصْفِ نُزُوْلِ المَطَرِ)، أَوْ قَوْلِهِم: قُلْتُ فِي نَفْسِيْ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيْهِ حَقِيْقَةُ الكَلَامِ؟! وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مَعْرُوْفٌ فِي لُغَةِ العَرَبِ وَلَكِنْ لَا يَأْتِي عَلَى سَبِيْلِ الإِطْلَاقِ بَلْ مُقَيَّدًا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِ (هَكَذَا)، أَوْ قَوْلِ الصَّخْرةِ (طِق) مَثَلًا، فَلَا يَجُوْزُ صَرْفُ النَّصِّ عَنْ ظَاهِرِهِ دُوْنَ قَرِيْنَةٍ. بَلْ إِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ بَعْضُ النُّصُوْصِ عَلَى حَقِيْقَةِ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى بِلَفْظِ المَفْعُوْلِ المُطْلَقِ الَّذِيْ يَنْفِي المَجَازَ. (¬1) وَأَمَّا حَدِيْثُ النَّفْسِ فَلَا يُسَمَّى كَلَامًا إِلَّا بِقَيْدِ النَّفْسِ، أَمَّا إِذَا أُطْلِقَ فَلَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الكَلَامِ المَسْمُوعِ. (¬2) قَالَ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬3) فِي رسالَتِهِ (الرَّدُّ عَلَى مَنْ أنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوْتَ) (¬4): (لَمَّا وَجَدْنَا أَحْكَامَ الشَّرِيْعَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالكَلَامِ مَنُوْطَةً بِالنُّطْقِ الَّذِيْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ دُوْنَ مَا فِي النَّفْسِ؛ عَلِمْنَا أَنَّ حَقِيْقَةَ الكَلَامِ هُوَ الحَرْفُ وَالصَّوْتُ، فَلَوْ حَلَفَ امْرُؤٌ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ؛ فَأَقَامَ فِي تِلْكَ السَّاعةِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِأَشْيَاءَ وَلَا يَنْطِقُ بِهَا، كَانَ بَارًّا غَيْرَ حَانِثٍ). - الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) إِنَّ إِثْبَاتَ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى هُوَ تَشْبِيْهٌ لَهُ تَعَالَى بِخَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الكَلَامَ يَحْتَاجُ لِآلَاتٍ؛ وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهَا! وَالجَوَابُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الكَلَامَ لِنَفْسِهِ، وَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ المُمَاثَلَةَ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الشُّوْرَى:11). وَمِنْ نَفْسِ البَابِ يُقَالُ: السَّمْعُ وَالبَصَرُ لِلمَخْلُوْقِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِآلَةٍ فَهَلْ نَنْفِي عَنِ اللهِ تَعَالَى صِفَاتِهِ لِمُجَرَّدِ اشْتِرَاكِ الوَصْفِ! وَأَمَّا دَعُوَى أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ آلَالَاتٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ مَقَالَاتُ الفَلَاسِفَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ السَّلَفِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا القَبِيْلِ. عَنْ نُوْحٍ الجَامِع، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي حَنِيْفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: مَا تَقُوْلُ فِيْمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الكَلَامِ فِي الأَعْرَاضِ وَالأَجْسَامِ؛ فَقَالَ: (مَقَالَاتُ الفَلَاسِفَةِ، عَلَيْكَ بِالأَثَرِ وَطَرِيْقَةِ السَّلَفِ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ). (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ تَعَالَى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوْسَى تَكْلِيْمًا} (النِّسَاء:164). قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (311/ 2) - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوْسَى تَكْلِيْمًا} (النِّسَاء:164) -: (قَالَ الفَرَّاءُ: العَرَبُ تُسَمِّيْ مَا يُوصَلُ إِلَى الإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ طَرِيْقٍ وَصَلَ، وَلَكِنْ لَا تُحقِّقُهُ بِالمَصْدَرِ، فَإِذَا حُقِّقَ بِالمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيْقَةَ الكَلَامِ). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (233/ 2): (القَوْلُ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى مَا لَا يَعْقِلُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقيَّدَ بِالفِعْلِ الَّذِيْ يَصْدُرُ مِنْ ذَلِكَ المُسْنَدِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ القَوْلَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ). (¬3) قَالَ الحَافِظُ الذَّهبيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السِّيَرِ (654/ 17): (أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ؛ عُبَيْدُ اللهِ بنُ سَعِيْدِ بْنِ حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، شَيْخُ السُّنَّةِ، شَيْخُ الحَرَمِ، وَمُصَنِّفُ (الإِبَانَةِ الكُبْرَى فِي أَنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ)، وَهُوَ مُجَلَّدٌ كَبِيْرٌ، دَالٌّ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ الرَّجُلِ بِفَنِّ الأَثَرِ. (ت 444 هـ)). بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬4) (ص219). (¬5) اُنْظُرْ كِتَابَ (الحُجَّةُ فِي بَيَانِ المَحَجَّةِ) لِلأَصْبَهَانِيِّ (1/ 105).

باب الشفاعة

بَابُ الشَّفَاعَةِ وَقَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِيْنَ يَخَافُوْنَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُوْنِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيْعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُوْنَ} (الأَنْعَام:51). وَقَوْلُهُ {قُلِ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيْعًا} (الزُّمَر:44). وَقَوْلُهُ {مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البَقَرَة:255). وَقَوْلُهُ {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النَّجْم:26). وَقَوْلُهُ {قُلْ ادْعُوا الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَمْلِكُوْنَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيْهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيْرٍ، وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَة عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سَبَأ:23). قَالَ أَبُو العَبَّاسِ: (نَفَى اللهُ عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ المُشْرِكُوْنَ، فَنَفَى أَنْ يَكُوْنَ لِغَيْرِهِ مِلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْهُ، أَوْ يَكُوْنَ عَوْنًا لِلَّهِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّفَاعَةُ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأَنْبِيَاء:28) , فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِيْ يَظُنُّهَا المُشْرِكُوْنَ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ - كَمَا نَفَاهَا القُرْآنُ - وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ - لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلًا - ثُمَّ يُقَالُ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ). (¬1) وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قَالَ: (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ -) (¬2) فَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ لِأَهْلِ الإِخْلَاصِ بِإِذْنِ اللهِ، وَلَا تَكُوْنُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ. وَحَقِيْقَتُهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِيْ يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الإِخْلَاصِ؛ فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ مَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ; لِيُكْرِمَهُ وَيَنَالَ المَقَامَ المَحْمُوْدَ. فَالشَّفَاعَةُ الَّتِيْ نَفَاهَا القُرْآنُ مَا كَانَ فِيْهَا شِرْكٌ، وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَكُوْنُ إِلَّا لِأَهْلِ الإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيْدِ). انْتَهَى كَلَامُهُ. (¬3) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ الآيَاتِ. الثَّانِيَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ المَنْفِيَّةِ. الثَّالِثَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ المُثْبَتَةِ. الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى، وَهِيَ المَقَامُ المَحْمُوْدُ. الخَامِسَةُ: صِفَةُ مَا يَفْعَلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ، بَلْ يَسْجُدُ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُ شَفَعَ. السَّادِسَةُ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا؟ السَّابِعَةُ: أَنَّهَا لَا تَكُوْنُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ. الثَّامِنَةُ: بَيَانُ حَقِيْقَتِهَا. ¬

_ (¬1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيْثٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4476)، وَمُسْلِمٌ (193) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (99). (¬3) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (77/ 7)، وَفِيْهِ اخْتِصَارٌ يَسِيْرٌ.

الشرح

الشَّرْحُ - الشَّفَاعَةُ لُغَةً مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ الزَّوْجُ، أَيْ: خِلَافُ الوَتْرِ (¬1)، وَاصْطِلَاحًا: التَّوَسُّطُ لِلغَيْرِ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْذِرْ بِهِ}: الإنْذارُ: هُوَ الإِعْلَامُ المُتَضَمِّنُ لِلتَّخْوِيْفِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {للهِ الشَّفَاعَةُ}: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقُدِّمَ الخَبَرُ لِلحَصْرِ، وَالمَعْنَى: للهِ وَحْدَهُ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا، وَلَا يُوْجَدُ شِيْءٌ مِنْهَا خَارِجٌ عَنْ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَأَفَادَتِ الآيَةُ فِي قَوْلِهِ {جَمِيْعًا} أَنَّ هُنَاكَ أَنْوَاعًا لِلشَّفَاعَةِ. (¬2) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ}: كَمْ هُنَا لِلتَّكْثِيْرِ وَلَيْسَ مَعْنَاهَا الاسْتِفْهَامُ، وَذَلِكَ لِبَيَانِ أنَّهُ حَتَّى المَلَائِكَةَ المُقَرَّبُوْنَ حَمَلَةَ العَرْشِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى. - سِيَاقُ الآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَمْلِكُوْنَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيْهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيْرٍ، وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَة عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} (سَبَأ:24). - إِنَّ مَسْأَلةَ الشَّفَاعَةِ هِيَ الشُّبْهَةُ الَّتِيْ فُتنَ بِهَا المُشْرِكُوْنَ قَدِيْمًا وَحَدِيْثًا، حَيْثُ ظَنَّوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُ شُفَعَاءُ يُقرِّبُونَهُم إِلَيْهِ إِذَا تَعَلَّقُوا بِهِم، فَأَحَبُّوْهُم (¬3) وَنَذَرُوا لَهُم وَدَعَوْهُم وَذَبَحُوا لَهُم وَطَافُوا بِقُبُوْرِهِم وَعَكَفُوا عِنْدَهَا، فَقَطَعَ اللهُ تَعَالَى حِبَالَهُم وَأَبْطَلَ أَمَانِيَّهُم، حَيْثُ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَهَا شُرُوْطٌ؛ وَأَنَّ المُشْرِكِيْنَ مَحْرُوْمُوْنَ مِنْهَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِيْنَ} (المُدَّثِّر:48)، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {مَا لِلظَّالِمِيْنَ مِنْ حَمِيْمٍ وَلَا شَفِيْعٍ يُطَاعُ} (غَافِر:18). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِيْنَ} (الأَنْعَام:76): (وَالحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي هَذَا المَقَام مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَة الهَيَاكِلِ وَالأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ مَعَ أَبِيْهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الأَصْنَامِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِيْ هِيَ عَلَى صُوَرِ المَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الخَالِقِ العَظِيْمِ - الَّذِيْنَ هُمْ عِنْد أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوْهُ -؛ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُوْنَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَه فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ). (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (184/ 8): (وَالشَّفَاعَةُ: كَلَامُ الشَّفِيْعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يَسْأَلُهَا لِغَيْرِهِ، وَشَفَعَ إِلَيْهِ: فِي مَعْنَى طَلَبَ إِلَيْهِ، وَالشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ يَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى المَطْلُوْبِ). (¬2) أَيْ: لِلشَّفَاعَةِ المُثْبَتَةِ. (¬3) مَحَبَّةَ العُبُوْدِيَّةِ. (¬4) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْر (292/ 3).

- أَنْوَاعُ الشَّفَاعَةِ (مِنْ حَيْثُ الإِثْبَاتِ وَالنَّفِي): 1) شَفَاعَةٌ مَنْفِيَّةٌ: وَهِيَ عَيْنُ مَا ظَنَّهُ المُشْرِكُوْنَ، وَهِيَ شَفَاعَةُ آلِهَتِهِم عِنْدَ اللهِ ابْتِدَاءً، وَشَفَاعَتُهَا فِي مَنْ شَاءَتْ. 2) شَفَاعَةٌ مُثْبَتَةٌ: وَهِيَ مَا قَيَّدَهَا اللهُ تَعَالَى بِشَرْطَيْنِ، وَهُمَا: الإِذْنُ لِلشَّافِعِ بِأنْ يَشْفَعَ، وَالرِّضَى عَنِ المَشْفُوْعِ. (¬1) - شُرُوْطُ الشَّفَاعَةِ: 1) إِذْنُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّافِعِ بِأَنْ يَشْفَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البَقَرَة:255). (¬2) 2) رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُوْنَ، لَا يَسْبِقُوْنَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُوْنَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:28)، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَ العَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ؛ مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ. (¬3) ¬

_ (¬1) فِي آيَةِ الكُرْسِيِّ وَمَا قَبْلَهَا بَيَانُ نَوْعَيِّ الشَّفَاعَةِ؛ المَنْفِيَّةِ وَالمُثْبَتَةِ، فَالمَنْفِيَّةِ هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيْهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُوْنَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ}، وَالمُثْبَتَةِ هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البَقَرَة:255). (¬2) وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَة جَمِيْعًا} قَالَ مُجَاهِدُ: (لَا يَشْفعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ). تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (300/ 21). وكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُوْنِ} (يَس:23). (¬3) وَالنَّوْعَانِ مَجْمُوْعَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النَّجْم:26).

- فِي عِبَارَةِ شَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ بَيَانُ شَرْطَيِّ الشَّفَاعَةِ، فَالأَوَّلُ: أَنَّ المَلَائِكَةَ لَا تشفعُ إلّا لِمَنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَاحِبُ المَقَامِ المَحْمُوْدِ الَّذِيْ ثَبَتَتِ الشَّفَاعَةُ فِي حَقِّهِ - هُوَ نَفْسُهُ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ؛ فَيُقَالُ: (يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ). (¬1) - إِنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ شِرْكٌ أَكْبَرٌ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنَ الحَيِّ فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ سُؤَالِ الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ (¬2)، كَسُؤَالِ النَّاسِ لِلأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي مَوْقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى، فَهُمْ أَحْيَاءٌ قَادِرُوْنَ عَلَى الإِجَابَةِ، أَمَّا الآنَ - فِي الدُّنْيَا - فَهُمُ أَمْوَاتٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُوْنَ} (الزُّمَر:30). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (5/ 459) فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى حَدِيْثِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى: (وَلَيْسَ فِيْهِ جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بِالأَمْوَاتِ - كَمَا يَتَوَهَّمُ كَثِيْرٌ مِنَ المُبْتَدِعَةِ الأَمْوَاتِ! - بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِالحَيِّ فِيْمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ). وَفِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى ذَكَرَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ أَنْوَاعَ التَّوَسُّلِ، وَذَكَرَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مَا نَصُّهُ: (التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَكُوْنُ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ يَتَوَسَّلُوْنَ بِشَفَاعَتِهِ). (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُدْخِلُ مَنْ شَاءَ إِلَى الجَنَّةِ؛ بَلِ اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ يَحُدُّهُمُ لَهُ كَمَا فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا فِي حَدِيْثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيْلِ؛ وَفِيْهِ (فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي؛ فَيُؤْذَنَ لِي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ, ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ, وَسَلْ تُعْطَهْ, وَقُلْ يُسْمَعْ, وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيْدٍ يُعَلِّمُنِيْهِ ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا؛ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4476)، وَمُسْلِمٌ (193). (¬2) وَقَدْ تقرَّرَ فِي الشَّرِيْعَةِ أَنَّ الكُفَّارَ كَانُوا يَدْعُوْنَ آلهَتَهُم مِنْ بَابِ الشَّفَاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُوْنَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ) (يُوْنُس:18). وَأَمَّا سُؤَالُ الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ أَنَّ يَشْفَعَ لَهُ (يَطْلُبَ لَهُ) فَهُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فِي أَحَادِيْثَ كَثِيْرْةٍ مِثْلَ حَدِيْثِ الضَّرِيْرِ فِي طَلَبِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُهُ، وَفِيْهِ (اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (17240). صَحِيْحُ الجَامِعِ (1279). وَسَيَأْتِيْ إِنْ شَاءَ اللهُ فِي الحَدِيْثِ عَنِ التَّوَسُّلِ. وَكَمَا فِي حَدِيْثِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أُدْعُ اللهَ لِيَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6541)، وَمُسْلِمٌ (220). فَالأَوَّلُ بِصَرِيْحِ لَفْظِ الشَّفَاعَةِ، وَالثَّانِيْ بِمَعْنَاهُ. (¬3) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (202/ 1). (¬4) وَفِي التِّرْمِذِيِّ (2433) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ القِيَامَةِ, فَقَالَ: (أَنَا فَاعِلٌ) , قَالَ: قُلْتْ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: (اُطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ) , قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيْزَانِ) , قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْد المِيْزَانِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ, فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنِ). صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ. الصَّحِيْحَةُ (2630).

- المُشْرِكونَ جَعَلُوا وَسِيْلَةَ شَفَاعَتِهِم عِنْدَ اللهِ تَعَالَى هُوَ عَيْنَ مَا يَحْرِمُهُم مِنْهَا، لِذَلِكَ كَانُوا مِمَّنْ قَالَ تَعَالَى فِيْهِم: {الَّذِيْنَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُوْنَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُوْنَ صُنْعًا} (الكَهْف:104). فَشِرْكُهُم فِي الدُّعَاءِ وَالذَّبْحِ وَالتَّعَلُّقِ هُوَ سَبَبُ حِرْمَانِهِم مِنَ الشَّفَاعَةِ. كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيْثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيْثِ. أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ -). (¬1) - السِّرُّ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بإذْنِهِ هُوَ: كَمَالُ مُلْكِهِ، وَكَمَالُ عِلْمِهِ: (¬2) 1) فَمَنْ كَانَ مُلْكُهُ نَاقِصًا لَزِمَتْهُ الاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ كَيْ يَقْضِيَ حَوَائِجَهُ، لِذَا فَهُوَ لَا يَرْفُضُ طَلَبَهُ بِسَبَبِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ ابْتِدَاءً لِمَا لَهُ مِنْ مِنَّةٍ عَلَيْهِ. لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لِكَمَالِ مُلْكِهِ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُم؛ فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدًا مِنْهُم سُبْحَانَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُوْنِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُوْنَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُوْنَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَة جَمِيْعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} (الزُّمَر:44). 2) وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ قَاصِرًا أَيْضًا لَزِمَهُ مَنْ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا فَاتَ عَنْهُ، كَحَالِ الوُزَرَاءِ وَالحُجَّابِ مَعَ المُلُوْكِ، لِذَا فَهُوَ لَا يَرُدُّ طَلَبَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:28). (¬3) قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الشَّافِعِيْنَ مَعَ المَشْفُوْعِ عِنْدَهُم تَجِدُهَا مِنْ هَذَا القَبِيْلِ. وَبِمَعْرِفَةِ مَا سَبَقَ يُفْتَحُ لَكَ بَابٌ فِي مَعْرِفَةِ سَبَبِ كَوْنِ آيَةِ الكُرسيِّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى (¬4)، حَيْثُ ذُكِرَ فِيْهَا كَمَالُ مُلْكِ وَعِلْمِ اللهِ تَعَالَى مَعًا، وَذُكِرَ فِيْهَا أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّوْمُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيْطُوْنَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُوْدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيْمُ} (البَقَرَة:255). ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (99). (¬2) (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (327/ 1) لِلشَّيْخِ الفَوْزَانِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى، بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬3) وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ ثَالِثٌ، وَهُوَ كَمَالُ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ لِمَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ كَيْ يُوَدِّدَ إِلَيْهِ فُلَانًا مِنَ النَّاسِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ -، فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْمُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى - كَمَا سَيَأْتِيْ فِي كَلَامِ شَيْخِ الإِسْلَامِ - هُوَ الَّذِيْ يَجْعَلُ شَفَاعَةَ الشَّافِعِ سَبَبًا لِحُصُوْلِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالمَشْفُوْعِ فِيْهِ. (¬4) عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟). قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (يَا أَبَا المُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟). قَالَ: قُلْتُ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحيُّ القَيُّومُ. قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: (وَاللَّهِ؛ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أَبَا المُنْذِرِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (810).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَدْ شَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةٍ، وَبِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. فَحَتَّى إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ تَنْفَعْ شَفَاعَتُهُ لِأَبِيْهِ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا (يَلْقَى إِبْرَاهِيْمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ - وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ - فَيَقُوْلُ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُوْلُ أَبُوْهُ: فَاليَوْمَ لَا أَعْصِيْكَ. فَيَقُوْلُ إِبْرَاهِيْمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِيَ يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟ فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِيْنَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيْمُ؛ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيْخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ). (¬1) 2) أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ لَيْسَتْ هِيَ المَقْصُوْدَةُ فِي عَامَّةِ النُّصُوْصِ فِي كَوْنِ المَشْفُوْعِ فِيْهِ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ - كَمَا سَبَقَ فِي طَلَبِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الشَّفَاعَةَ لِأَبِيْهِ - بَلْ هِيَ فِي تَخْفِيْفِ العَذَابِ عَنْهُ فَقَط، كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوْطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: (هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). (¬2) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (3350). وَالذّيْخُ: ذَكَرُ الضَّبْعِ الكَثِيْرُ الشَّعْرِ؛ حَيْثُ أُرِيَ إِبْرَاهِيْمُ أَبَاهُ عَلَى غَيْرِ هَيْئَتِهِ وَمَنْظَرِهِ لِيَسْرُعْ إِلَى التَّبَرُّءِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ (مُلْتَطِخٌ): أَيْ: مُتَلَوّثٌ بِالدَّمِ وَنَحْوِهِ. (¬2) البُخَارِيُّ (3883).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) هَلِ الاسْتِشْفَاعُ إِلَى اللهِ بِالمَخْلُوْقِ هُوَ نَفْسُهُ التَّوَسُّلُ بِالمَخْلُوْقِ عِنْدَ اللهِ؟ الجَوَابُ: لَا، فَالأوَّلُ هُوَ سُؤَالٌ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ شِرْكٌ أَكْبَرٌ؛ وَعَلَيْهِ نُصُوْصُ البَابِ. أَمَّا الثَّانِي فَهُوَ سُؤَالٌ للهِ تَعَالَى بِطَرِيْقَةٍ بِدْعِيَّةٍ، وَهُوَ مِنَ الاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ مِنْ وَسَائِلِ الشِّرْكِ - أَيْ: يُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ - وَالدُّعَاءُ بِهَيْئَةٍ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرِيْعَةِ يَكُوْنُ اعْتِدَاءًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِيْنَ} (الأَعْرَاف:55). (¬1) وَفِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: (سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَنَعِيْمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وكَذَا، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا وَكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: يَا بُنيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (سَيَكُوْنُ قَوْمٌ يَعْتَدُوْنَ فِي الدُّعَاءِ)، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُوْنَ مِنْهُمْ. إِنْ أُعْطِيْتَ الجَنَّةَ أُعْطِيْتَهَا وَمَا فِيْهَا مِنَ الخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيْهَا مِنَ الشَّرِّ). (¬2) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّوَسُّلُ) (ص133): (إِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِيْ يَحْمِلُ بَعْضَ العُلَمَاءِ وَالمُحَقِّقِينَ عَلَى المُبَالَغَةِ فِي إِنْكَارِ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ وَاعْتِبَارِهِ شِرْكًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ لَيْسَ شِرْكًا عِنْدَنَا، بَلْ يُخْشَى أَنْ يُؤَديَ إِلَى الشِّرْكِ). قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ بَابِ (مَا جَاءَ فِي المُصَوِّرِيْن) مِنْ شَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ) شَرِيْطُ رَقَم (128): (أَمَّا دَعْوَةُ اللهِ بِهِمْ كَأَنْ يَقُوْلَ: يَا رَبِّ! أَسْأَلُكَ بِوَلِيِّكَ الفُلَانِيِّ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِجِبْرِيْلَ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ؛ فَهَذَا - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا - إِلَّا أَنَّهُ مِنَ البِدَعِ الَّتِيْ تَكُوْنُ طَرِيْقًا إِلَى الشِّرْكِ). قُلْتُ: وَكَذَا فِي مَجْمُوْعِ فَتَاوَى الشَّيْخِ ابْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ (7/ 129). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1480). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2397).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) إِنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُوْنُ إِلَّا بِإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ، فكَيْفَ صَحَّ تَشَفُّعُ الإِنْسَانِ لِأَخِيْهِ إِلَى رَبَّهِ - فِيْ صَلَاةِ الجَنَازَةِ وَغَيْرِهَا - وَهُوَ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مِنْ رَبِّهِ فِيْ ذَلِكَ؟ وَالجَوَابُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أذْنَ لِلمُسْلِمِ بِأَنْ يَدْعُوَ لِأَخِيْهِ الحَيِّ وَالمَيِّتِ فِي كَثِيْرٍ مِنَ النُّصُوْصِ، وَمِنْهَا الأَحَادِيْثُ الَّتِيْ فِيْهَا الحَضُّ عَلَى صَلَاةِ الجَنَازَةِ، وَغَيْرُهَا كَثِيْرٌ. وَلَكِنْ يُقَالُ أَيْضًا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي الشَّفَاعَةِ مِنَ المُسْلِمِ لِلمُشْرِكِ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيْنَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيْمِ} (التَّوْبَة:113).

باب قول الله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص:56).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} (القَصَص:56) وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ; قَالَ: (لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ; جَاءَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمِّيَّةَ وَأَبُو جَهْلٍ -، فَقَالَ لَهُ: (يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)، فَقَالَا لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَعَادَا، فَكَانَ آخَرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ وَأَبَى أَنْ يَقُوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ). فَأَنْزَلَ اللهُ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيْنَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} (التَّوْبَة:113)، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} (القَصَص:56). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} الآيَةَ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِيْنَ} الآيَةَ. الثَّالِثَةُ: وَهِيَ المَسْأَلَةُ الكَبِيْرَةُ، تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ: (قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ مَنْ يَدَّعِي العِلْمَ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ يَعْرِفُوْنَ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَ قَالَ لِلرَّجُلِ قُلْ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؛ فَقَبَّحَ اللهُ مَنْ أَبُو جَهْلٍ أَعْلَمُ مِنْهُ بِأَصْلِ الإِسْلَامِ. الخَامِسَةُ: جَدُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُبَالَغَتُهُ فِي إِسْلَامِ عَمِّهِ. السَّادِسَةُ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ إِسْلَامَ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَأَسْلَافِهِ. السَّابِعَةُ: كَوْنُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمْ يَغْفِرْ لَهُ؛ بَلْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. الثَّامِنَةُ: مَضَرَّةُ أَصْحَابِ السُّوءِ عَلَى الإِنْسَانِ. التَّاسِعَةُ: مَضَرَّةُ تَعْظِيمِ الأَسْلَافِ وَالأَكَابِرِ. العَاشِرَةُ: الشُّبْهَةُ لِلْمُبْطِلِيْنَ فِي ذَلِكَ; لِاسْتِدْلَالِ أَبِي جَهْلٍ بِذَلِكَ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الشَّاهِدُ لِكَوْنِ الأَعْمَالِ بِالخَوَاتِيْمِ; لِأَنَّهُ لَوْ قَالَهَا لَنَفَعَتْهُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّأَمُّلُ فِي كِبَرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي قُلُوْبِ الضَّالِّينَ; لِأَنَّ فِي القِصَّةِ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَادِلُوْهُ إِلَّا بِهَا - مَعَ مُبَالَغَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيرِهِ - فَلِأَجْلِ عَظَمَتِهَا وَوُضُوحِهَا؛ عِنْدَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَيْهَا. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4772)، وَمُسْلِمٌ (24).

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ تَظْهَرُ مِنْ وَجْهَيْن: 1) أَنَّ الهِدَايَةَ - وَهِيَ أشْرَفُ المَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ - قَدْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الرُّسُلِ لَا يَمْلِكُهَا، وَأَنَّهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ (¬1)، فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِالأَنْبِيَاءِ دُوْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا أنَّ مَسْأَلَةَ الشَّفَاعَةِ هِيَ سَبَبُ تَعَلُّقِ المُشْرِكِيْنَ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِتَحْصِيْلِ خَيْرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. 2) أَنَّ هَذَا البَابَ هُوَ كَالمِثَالِ لِلبَابِ المَاضِيْ فِي أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنَالُ المُشْرِكَ. - قَوْلُهُ (مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ): فِيْهِ تَلْمِيْحٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنَ القَلَقِ حِيَالَ الاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ المُشْرِكِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ}: مَا هُنَا نَافِيَةٌ، وَمَعْنَاهَا النَّهْيُ؛ وَالمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ غَايَةَ الامْتِنَاعِ. - المُسَيِّبُ (¬2) وَابْنُ أَبِي أُمَيَّة أَسْلَمَا، وَأَبُوْ جَهْلٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. - فِي الحَدِيْثِ دِلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ عِيَادَةِ المَرِيْضِ المُشْرِكِ مِنْ أَجْلِ دَعْوَتِهِ إِلَى الإِسْلَامِ. - فِي لَفْظٍ لِلْحَدِيْثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بَيَانُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬3)، وَلَكِنْ مَنَعَهُ عَنِ الإِيْمَانِ تَعَصُّبُه لِمِلَّةِ الآبَاءِ، وَخْوفُهُ مِنْ مَسَبَّةِ النَّاسِ لَهُ وَتَعْيِيْرُهُ. وَاللَّفُظُ هُوَ ((قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ)، قَالَ (أَبُوْ طَالِبٍ): لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ؛ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الجَزَعُ! لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ}). (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلْ قَوْلَ الخَلِيْلِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ رَبِّهِ {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُوْنَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُوْنَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العَالَمِيْنَ، الَّذِيْ خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِيْنِ} (الشُّعَرَاء:78)، فَجَعَلَ الهِدَايَةَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الخَلْقِ الَّتِيْ يَتَفرَّدَ بِهَا الرَّبُّ الخَالِقُ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَهَ تَعَالَى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِيْنَ} (يُوْسُف:103). وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَهَ تَعَالَى {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (الجِنّ:21). وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَهَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لَا يَعْقِلُوْنَ} (يُوْنُس:100). (¬2) (المُسَيَّب): بِالفَتْحِ وَالكَسْرِ. وَسَعِيْدُ بْنُ المُسَيَّب بْنِ حَزْنٍ: تَابِعِيٌّ جَلِيْلٌ تُوُفِّيَ بَعْدَ التَّسْعِيْن، وَأَبُوْه وَجَدُّهُ صَحَابِيَّانِ. (¬3) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُوْنَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِيْنَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُوْنَ} (الأَنْعَام:33). (¬4) مُسْلِمٌ (25). (¬5) وَاُنْظُرْ فِي سِيْرَةِ ابْنِ إِسْحَاق (ص155) أنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَقُوْلُ: وَاَللهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْك بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِيْنًا فَاصْدَعْ بِأَمْرِك مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَأَبْشِرْ وَقَرّ بِذَاكَ مِنْك عُيُوْنًا وَدَعَوْتنِي؛ وَعَرَفْت أَنّك نَاصِحِي ... وَلَقَدْ صَدَقْتْ؛ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِيْنًا وَعَرَضْت دِيْنًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِيْنًا لَوْلَا المَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبَيِّنًا

- قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ} هَذِهِ المَحَبَّةُ لَهَا مَحْمَلَانِ: 1) إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ {وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} أَنْ يَهْدِيَهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ بِتَوْفِيْقِهِ لِلإِيْمَانِ بِهِ وَبِرَسُوْلِهِ. 2) إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أحبَبْتَهُ - أَيْ: الشَّخْصَ - لِقَرَابَتِهِ مِنْكَ، وَهِيَ مَحَبَّةٌ طَبِيْعِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ دِيْنِيَّةً. (¬1) - فِي الحَدِيْثِ بَيَانُ عَدَمِ جَوَازِ الاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا. (¬2) - فِي الحَدِيْثِ بَيَانُ أَنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ مَاتَ عَلَى الكُفْرِ. وَأَنَّ مَا يُنْقَلُ عَنْهُ فِي السِّيْرَةِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَبْرَهَةَ - حِيْنَ جَاءَ لِهَدْمِ الكَعْبَةِ -: (أَنَا رَبُّ الإِبِلِ؛ وَلِلبَيْتِ رَبٌّ سَيَحْمِيْهِ) (¬3) لَا يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرُّبُوْبِيَّةِ فَقَط، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَوْحِيْدِ العِبَادَةِ (الأُلُوْهِيَّةِ) قَوْلُ ابْنِهِ عَنْهُ (هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ) أَيْ: غَيْرِ مِلَّةِ - لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ - فَتَنَبَّهْ. - قَوْلُهُ (هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ): الظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ: (أَنَا) فَغيَّرَهُ الرَّاوِيُ اسْتِقْبَاحًا لِلَّفَظِ المَذْكُوْرِ، وَهُوَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الحَسَنَةِ. قَالَهُ الحَافِظُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي). (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَهُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (598/ 19). بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ) (ص93): (وَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ وَالاسْتِغْفَارُ وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ لِقَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُوْنَ} (التَّوْبَة:84)، .... قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي المَجْمُوْعِ: (الصَّلَاةُ عَلَى الكَافِرِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالمَغْفِرَةِ حَرَامٌ بِنَصِّ القُرْآنِ وَالإِجْمَاعِ)). قُلْتُ: وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (517/ 14) عَنْ عِصْمَةَ بْنِ زَامِلٍ عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُوْلُ: رَحِمَ اللهُ رَجُلًا اسْتَغْفَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَلِأُمِّهِ، قُلْتُ: وَلِأَبِيْهِ؟ قَالَ: لَا؛ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَهُوَ مُشْرِكٌ. (¬3) السِّيْرَةُ لِابْنِ كَثِيْرٍ (34/ 1) رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) فَتْحُ البَارِي (507/ 8).

- فَائِدَة 1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (وَأَغْرَبُ مِنْهُ وَأَشَدُّ نَكَارَةً مَا رَوَاهُ الخَطِيْبُ البَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ (السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ) بِسَنَدٍ مَجْهُوْلٍ؛ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيْثٍ فِيْهِ قِصَّةُ أَنَّ اللهَ أَحْيَا أُمَّهُ فَآمَنَتْ ثُمَّ عَادَتْ. وَكَذَلِكَ (¬2) مَا رَوَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي (الرَّوْضِ) بِسَنَدٍ فِيْهِ جَمَاعَةٌ مَجْهُوْلُوْنَ: أَنَّ اللهَ أَحْيَا لَهُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَآمَنَا بِهِ. (¬3) وَقَدْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ دِحْيَةَ (¬4): [هَذَا الحَدِيْثُ مَوْضُوْعٌ يَرُدُّهُ القُرْآنُ وَالإِجْمَاعُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا الَّذِيْنَ يَمُوْتُوْنَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (النِّسَاءِ:18). وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ: إِنَّ مُقْتَضَى هَذَا الحَدِيْثِ .... وردَّ عَلَى ابْنِ دِحْيَةَ] (¬5)، فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ هَذِهِ حَيَاةٌ جَدِيْدَةٌ؛ كَمَا رَجَعَتِ الشَّمْسُ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا فَصَلَّى عَلِيٌّ العَصْرَ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ حَدِيْثٌ ثَابِتٌ، يَعْنِي: حَدِيْثَ الشَّمْسِ. (¬6) قَالَ القُرْطُبِيُّ: فَلَيْسَ إِحْيَاؤُهُمَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ اللهَ أَحْيَا عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ؛ فَآمَنْ بِهِ، قُلْتُ: وَهَذَا كُلّه مُتَوَقِّف عَلَى صِحَّةِ الحَدِيْثِ، فَإِذَا صَحَّ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ (¬7)، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). ¬

_ (¬1) (223/ 4). (¬2) أَيْ: وَكَذَلِكَ فِي الغَرَابَةِ وَالنَّكَارَةِ. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - (401/ 1): (قَالَ القُرْطُبِيُّ: (وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ اللهَ أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى آمَنَا بِهِ، وَأَجَبْنَا عَنْ قَوْلِهِ (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ)). قُلْتُ (ابْنُ كَثِيْرٍ): وَالحَدِيْثُ المَرْوِيُّ فِي حَيَاةِ أَبَوَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). (¬4) قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السِّيَرِ (389/ 22): (هُوْ أَبُو الخَطَّابِ عُمَرُ بْنُ حَسَنٍ الكَلْبِيُّ؛ الشَّيْخُ العَلاَّمَةُ المُحَدِّثُ ... ، قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: (وَكَانَ حَافِظًا مَاهِرًا، تَامَّ المَعْرِفَةِ بِالنَّحْوِ وَاللُّغَة، ظَاهِرِيَّ المَذْهَبِ، كَثِيْرَ الوَقِيعَةِ فِي السَّلَفِ، أَحْمَقَ، شَدِيْدَ الكِبْر، خَبِيثَ اللِّسَانِ، مُتَهَاوِنًا فِي دِيْنِهِ، وَكَانَ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ)، (ت 633 هـ)). (¬5) وَمَا بَيْنَ المُعْتَرِضَتَيْنِ زِيَادَةٌ مِنْ أَحَدِ نُسَخِ تَفْسِيْرِ ابْنِ كَثِيْرٍ (دَارُ طَيْبَةَ، تَحْقِيْقُ سَامِي بْنِ مُحَمَّد سَلَامَة) خِلَافًا لِغَيْرِهَا مِنَ النُّسَخِ وَالتِيْ فِيْهَا أَنَّ الحَافِظَ ابْنَ دِحْيَةَ مُؤَيِّدٌ لِمَسْأَلَةِ الإِحْيَاءِ، وَالَّذِيْ أَثْبَتْنَاهُ هُوَ الصَّوَابُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - كَمَا تَجِدُهُ فِيْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ (ص140) لِلقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬6) بل هُوَ مَوْضُوْعٌ، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (582/ 8) - بَعْدَمَا اسْتَعْرَضَ رِوَايَاتِ الحَدِيْثِ -: (وَالَّذِيْ يَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مَصْنُوْعٌ مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِي الرَّوَافِضِ قَبَّحَهُمُ اللهُ، وَلَعَنَ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعَجَّلَ لهُ مَا تَوَعَّدَهُ الشَّارِعُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ حَيْثُ قَالَ - وَهُوَ الصَّادِقُ فِي المَقَالِ-: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)، .. وَقَدِ اغْتَرَّ بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ رَحِمَهُ اللهُ وَمَالَ إِلَى صِحَّتِهِ، ... وَهَكَذَا مَالَ إِلَيْهِ أَبُوْ جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا فِيْمَا قِيْلَ). (¬7) وَقَدْ عَلِمْتَ فِيْمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَنَزِيْدُ عَلَى مَا سَبَقَ: - أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ؛ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ. قَالَ: (اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي)، فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ، وَجِئْتُهُ؛ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي. صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3214). الصَّحِيْحَةُ (161). - عَنِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوْطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ -؟ قَالَ: (هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6208). - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (212). - قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (195/ 7): (وَوَقَفْتُ عَلَى جُزْءٍ جَمَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الرَّفْضِ؛ أَكْثَرَ فِيْهِ مِنَ الأَحَادِيْثِ الوَاهِيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِسْلَامِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيْقِ). قُلْتُ: وَكَذَا قَالَ فِيْ كِتَابِهِ (الإِصَابَةُ) (196/ 7) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ رِوَايَاتِهِم.

- فَائِدَة 2) قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (فِيْهِ مَضَرَّةُ تَعْظِيْمِ الأَسْلَافِ وَالأَكَابِرِ): وَأَنَّ إِتِّبَاعَهُم مَذْمُوْمٌ! هَذَا الإِتِّبَاعُ فِيْهِ تَفْصِيْلٌ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الهُدَى وَالحَقِّ فَهُوَ مَذْمُوْمٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى هُدَىً وَحَقٍّ فَهُوَ مَمْدُوْحٌ، وَدَلِيْلُ الذَّمِّ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُوْلِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُوْنَ} (المَائِدَة:104). وَأَمَّا دَلِيْلُ المَدْحِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يُوْسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِيْ إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوْبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُوْنَ} (يُوْسُف:38). - فَائِدَة 3) أَنْوَاعُ الهِدَايَةِ فِي الشَّرِيْعَةِ أَرْبَعَةٌ: 1 - هِدَايَةُ الفِطْرَةِ (الغَرِيْزَةِ): وَهِيَ هِدَايَةُ المَخْلُوْقِ إِلَى مَا فِيْهِ بَقَاءُ حَيَاتِهِ وَحُسْنُ مَعَاشِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {قَالَ رَبُّنَا الَّذِيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طَه:50)، يَعْنِي هَدَاهُ إِلَى مَا فِيْهِ مَصْلَحَتُهُ فِي دُنْيَاهُ، كَهِدَايَةِ الطَّيْرِ إِلَى صُنْعِ العُشِّ، وَهِدَايَةِ الرَّضِيْعِ إِلَى الثَّدْي وَ ........ 2 - هِدَايَةُ الدِّلَالَةِ وَالإِرْشَادِ: وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَنْ دَلَّ إِلَى الخَيْرِ، وَهِيَ الأَكْثَرُ فِي القُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرَّعْد:7). 3 - هِدَايَةُ التَّوْفِيْقِ لِلإِيْمَانِ: وَهِيَ خَاصَّةٌ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ الَّذِيْ يُوَفِّقْ وَيُلْهِم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَوْفِيْقِي إِلَّا بِاللَّهِ} (هُوْد:88)، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} (القَصَص:56). 4 - هِدَايَةُ دُخُوْلِ الجَنَّةِ أَوِ النَّارِ: وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الإِيْمَانِ وَالكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيْهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيْمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيْمِ} (يُوْنُس:9)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُوْرِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} (الأَعْرَاف:43). وِهِدَايَةُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى دُخُوْلِ النَّارِ هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاهْدُوْهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيْمِ، وَقِفُوْهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُوْلُوْنَ} (الصَّافَّات:24).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) كَيْفَ عَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهَادَةَ عَلَى عَمِّهِ فِي حَالِ الاحْتِضَارِ - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّوبَةَ حَيْنَهَا لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا - كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّيْ تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِيْنَ يَمُوْتُوْنَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيْمًا} (النِّسَاء:18)؟! وَالجَوَابُ: هُوَ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ((لَمَّا حَضَرَتْ ....) المُرَادُ قَرُبتْ وَفَاتُهُ وَحَضُرَتْ دَلَائِلُهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ المُعَايَنَةِ وَالنَّزْعِ، وَلَوْ كَانَتْ حَالَ المُعَايَنَةِ وَالنَّزْعِ لَمْ تَنْفَعْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِيْنَ يَمُوْتُوْنَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيْمًا} (النِّسَاء:18)، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ المُعَايَنَةِ مُحَاوَرَتُهُ لِلنَّبِيِّ وَكُفَّارِ قُرَيْشٍ؛ وَجَوَابُهُ عَنْ نَفْسِهِ). (¬1) ¬

_ (¬1) شَرْحُ مُسْلِمٍ (214/ 1)، وَبوَّبَ عَلَيْهِ - بَابُ الدَّلِيْلِ عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِ مَنْ حَضَرَهُ المَوْتُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي النَّزْعِ -.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) فِي عَدَمِ جَوَازِ الاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا؛ جَاءَ فِي البُخَارِيِّ (¬1) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى رَأْسِ المُنَافِقِيْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُوْلٍ؛ وَقَالَ: (إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِيْنَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا)؟! وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ فِي البُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (لمَّا مَاتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيِّ بْنِ سَلُوْلٍ وَدُعِيَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَتُصلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ كَذَا وكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا؟! - أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ -، فَتَبَسَّمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: (أَخِّرْ عَنِّيْ يَا عُمَرُ)، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: (أَمَا إِنِّيْ خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّيْ إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِيْنَ يُغْفَرُ لَهُ؛ لَزِدْتُ عَلَيْهَا)، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمكُثْ إِلَّا يَسِيْرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُوْنَ} (التَّوْبَة:84) قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَاللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ). وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: فَمَا صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. (¬2) قُلْتُ: فَيَكُوْنُ الاسْتِغْفَارُ - اليَوْمَ - لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا هُوَ مِنَ الاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ. (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (1366). (¬2) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3097). صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ (3097). (¬3) كَمَا فِي حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّهُ سَيَكُوْنُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُوْنَ فِي الطُّهُوْرِ وَالدُّعَاءِ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (96). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2396). (¬4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيْمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإِسْرَاء:24)، فَنَسَخَتْهَا الآيَةُ فِي بَرَاءَة {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيْنَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيْمِ} (التَّوبَة:113). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (23). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (17).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} (القَصَص:56) بَيَانُ أَنَّ الهِدَايَةَ لَيْسَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِيْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ} (الشُّوْرَى:52)؟! وَالجَوَابُ: أَنَّ الهِدَايَةَ المَنْفِيَّةَ هِيَ هِدَايَةُ التَّوْفِيْقِ لِدُخُوْلِ الإِسْلَامِ، وَهَذِهِ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، فَهِيَ تُطْلَبُ مِنْهُ، وَيُمَثَّلُ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الحَدِيْثِ القُدُسِيِّ (يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُم) (¬1)، وَأَمَّا الهِدَايَةُ المُثْبَتَةُ فَهِيَ غَيْرُهَا وَمَعْنَاهَا هُنَا هِدَايَةُ البَيَانِ وَالإِرْشَادِ وَالدِّلَالَةِ، وَيُمَثَّلُ لَهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَمَّا ثَمُوْدُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذَابِ الهُوْنِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُوْنَ} (فُصِّلَت:17). ¬

_ (¬1) رَوَاهُ أَبُوْ ذَرٍّ مَرْفُوْعًا، وَهُوَ قُدُسِيٌّ. صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2577).

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) كَيْفَ يَسْتَقِيْمُ أَنْ تَكُوْنَ آيَةُ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيْنَ} - وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ! - وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ وَقِصَّتُهُ مَكِّيَّةٌ؟! وَالجَوَابُ: قَالَ أَهْلُ العِلْمِ: إَنَّ القِصَّةَ مَكِّيَّةٌ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ النَّهْيُ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِيْنَ إِلَّا فِي المَدِيْنَةِ، وَيُعْلَمُ بِهَذَا أَيْضًا أنَّ اسْتِئْذَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فِي الاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ بَعْدَ الهِجْرَةِ لَمْ يَكُنْ مَنهيٌّ عَنْهُ ابْتِدَاءً (¬1)، وَلَكِنْ عِنْدَهَا نَزَلَتْ آيَةُ سُوْرَةِ التَّوْبَةِ. (¬2) ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (976) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: زَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ؛ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، وَقَالَ: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُوْرَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُوْرُوا القُبُوْرَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ المَوْتَ). (¬2) وَفِي مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ (3290) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ؛ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَحِمَكَ اللهُ وغَفَرَ لَكَ يَا عَمِّ؛ وَلَا أَزَالُ اسْتَغْفِرُ لَكَ حَتَّى يَنْهَانِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). فَأَخَذَ المُسْلِمُوْنَ يَسْتَغْفِرُوْنَ لِمَوْتَاهُم - الَّذِيْنَ مَاتُوا وَهُمْ مُشْرِكُوْنَ - فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيْنَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيْمِ} (التَّوبَة:113). قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (صَحِيْحٌ).

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) كَيْفَ يَسْتَقِيْمُ النَّهْيُّ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلمُشْرِكِيْنَ مَعَ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِقَوْمِهِ المُشْرِكِيْنَ كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ - ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ - وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُوْلُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ)) (¬1)؟! وَالجَوَابُ: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلمُشْرِكِيْنَ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِم لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ مَخْصُوْصٌ بِالمَوْتِ عَلَى ذَلِكَ. وَالدَّلِيْلُ تَقْيِيْدُ النَّهْي بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيْمِ}، وَهَذَا التَّبَيُّنُ يَكُوْنُ إِذَا مَاتَ عَلَى الكُفْرِ (¬2)، قَالَهُ الطَّبريُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ. (¬3) (¬4) وَأَجَابَ بِهِ الإِمْامُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ (مُشْكِلُ الآثَارِ). (¬5) وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (¬6) بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ - كَمَا قَالَ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَتَاوَى (¬7) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (مَا زَالَ إِبْرَاهِيْمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيْهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ؛ فَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ). (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) البُخَارِيِّ (3477)، وَمُسْلِمٍ (1792). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (211/ 4) - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} -: (لَمَّا مَاتَ. هَذَا ثَابِتٌ عَنْ مُجَاهِدٍ). (¬3) (509/ 14). (¬4) قُلْتُ: وَتَأَمَّلِ القَيْدَ فِي قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُوْنَ} (التَّوبَة:84)، وَالشَّاهِدُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُوْنَ}. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ الجَوَابَ عَنْ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِيْهِ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيْمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ يَقُوْمُ الحِسَابُ} (إِبْرَاهِيْم:41)، وَأَنَّهُ مَخْصُوْصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيْنَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيْمِ، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيْمَ لِأَبِيْهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيْمٌ} (التَّوْبَة:114). وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (¬5) مُشْكِلُ الآثَارِ (280/ 6). (¬6) تَفْسِيْرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (10050). (¬7) الحَاوِي (259/ 2). (¬8) أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص96) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬9) وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِجَوَابٍ آخَرَ؛ أَنَّهُ مَحْمُوْلٌ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ النَّهْي، وَلَكِنَّ الأَوَّلَ أَوْلَى. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وَتَرْكِهِمْ دِيْنَهُمْ هُوَ الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِيْنَ وَقُوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِيْنِكُمْ وَلَا تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ} (النِّسَاء:171). وفي الصَّحيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيْرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِيْنَ إِلَّا ضَلَالًا} (نُوْح:24). قَالَ: (هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِيْنَ مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِيْ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيْهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِيَ العِلْمُ عُبِدَتْ). (¬1) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: (لَمَّا مَاتُوا، عَكَفُوا عَلَى قُبُوْرِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيْلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدُوْهُمْ). (¬2) وَعَنْ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تُطْرُوْنِيْ كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ) أَخْرِجَاهُ. (¬3) وَقَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الغُلُوُّ). (¬4) وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (هَلَكَ المُتَنَطِّعُوْنَ - قَالَهَا ثَلَاثًا-). (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: أَنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا البَابَ وَبَابَيْنِ بَعْدَهُ، تَبَيَّنَ لَهُ غُرْبَةُ الإِسْلَامِ، وَرَأَى مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَتَقْلِيْبِهِ لِلْقُلُوْبِ العَجَبَ. الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شِرْكٍ حَدَثَ فِي الأَرْضِ كَانَ بِشُبْهَةِ الصَّالِحِيْنَ. الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شَيْءٍ غُيِّرَ بِهِ دِيْنُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ مَعَ مَعْرِفَةِ أَنَّ اللهَ أَرْسِلَهُمْ! الرَّابِعَةُ: قَبُوْلُ البِدَعِ مَعَ كَوْنِ الشَّرَائِعِ وَالفِطَرِ تَرُدُّهَا! الخَامِسَةُ: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كُلِّهُ مَزْجُ الحَقِّ بِالبَاطِلِ. فَالأَوَّلُ: مَحَبَّةُ الصَّالِحِيْنَ. وَالثَّانِي: فِعْلُ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالدِّيْنِ شَيْئًا أَرَادُوا بِهِ خَيْرًا؛ فَظَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غَيْرَهُ. السَّادِسَةُ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ نُوْحٍ. السَّابِعَةُ: جِبِلَّةُ الآدَمِيِّ فِي كَوْنِ الحَقِّ يَنْقُصُ فِي قَلْبِهِ؛ وَالبَاطِلِ يَزِيْدُ. الثَّامِنَةُ: فِيْهِ شَاهِدٌ لِمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ البِدَعَ سَبَبُ الكُفْرِ. التَّاسِعَةُ: مَعْرِفَةُ الشَّيْطَانِ بِمَا تَؤُوْلُ إِلَيْهِ البِدْعَةُ؛ وَلَوْ حَسُنَ قَصْدُ الفَاعِلِ. العَاشِرَةُ: مَعْرِفَةُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ؛ وَهِيَ النَّهْيُ عَنْ الغُلُوُّ وَمَعْرِفَةُ مَا يَؤُوْلُ إِلَيْهِ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَضَرَّةُ العُكُوفِ عَلَى القَبْرِ لِأَجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عَنْ التَّمَاثِيْلِ وَالحِكْمَةِ فِي إِزَالَتِهَا. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ القِصَّةِ وَشِدَّةُ الحَاجَةِ إِلَيْهَا مَعَ الغَفْلَةِ عَنْهَا. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ أَعْجَبُ العَجَبِ؛ قِرَاءَتُهُمْ إِيَّاهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيْرِ وَالحَدِيْثِ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِمَعْنَى الكَلَامِ، وَكَوْنُ اللهِ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُلُوْبِهِمْ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ فِعْلَ قَوْمِ نُوْحٍ هُوَ أَفْضَلُ العِبَادَاتِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُوْلُهُ عَنْهُ فَهُوَ الكُفْرُ المُبِيْحُ لِلدَّمِ وَالمَالِ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيْدُوا إِلَّا الشَّفَاعَةَ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: ظَنُّهُمْ أَنَّ العُلَمَاءَ الَّذِيْنَ صَوَّرُوا الصُّوَرَ أَرَادُوا ذَلِكَ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: البَيَانُ العَظِيْمُ فِي قَوْلِهِ (لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ) فَصَلَوَاتُ اللهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بَلَّغَ البَلَاغَ المُبِيْنِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: نَصِيْحَتُهُ إِيَّانَا بِهَلَاكِ المُتَنَطِّعِيْنَ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّهَا لَمْ تُعْبَدْ حَتَّى نُسِيَ العِلْمُ، فَفِيْهَا بَيَانُ مَعْرِفَةِ قَدْرِ وُجُوْدِهِ وَمَضَرَّةُ فَقْدِهِ. العِشْرُوْنَ: أَنَّ سَبَبَ فَقْدِ العِلْمِ مَوْتُ العُلَمَاءِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ (4920)، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (667/ 8): (قِيْلَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ المَذْكُوْرَ؛ هُوَ الخُرَاسَانِيُّ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهَذَا مِمَّا اسْتُعْظِمَ عَلَى البُخَارِيِّ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، لَكِنِ الَّذِيْ قَوِيَ عِنْدِي أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ بِخُصُوصِهِ عِنْدَ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح جَمِيْعًا). (¬2) (إِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ مِنْ مَصَايِدِ الشَّيْطَانِ) (184/ 1). (¬3) البُخَارِيُّ (3445) فَقَط دُوْنَ مُسْلِمٍ. (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (1851) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ النَّسَائِيِّ (3057). وَهُوَ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي الصُّغْرَى (1681) عَنْهُ عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مَرْفُوْعًا. وَقَدْ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِدُوْنِ ذِكْرِ رَاوِيْه هَكَذَا. (¬5) مُسْلِمٌ (2670).

الشرح

الشَّرْحُ - قَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِيْنِكُمْ وَلَا تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيْحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُوْلُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُوْلُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيْلًا} (النِّسَاء:171). - أَوْرَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هَذَا البَابَ لِبَيَانِ أَسْبَابِ وَذَرَائِعِ الشِّرْكِ بَعْدَمَا ذَكَرَ الأُصُوْلَ وَالعَقَائِدَ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا الحَدَّ مَدْحًا أَوْ قَدْحًا. (¬1) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ} أَيْ: لَا تَصِفُوْهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ. وَفِيْهِ بَيَانُ تَحْرِيْمِ القَوْلِ بِالرَّأْي فِي الدِّيْنِ مِمَّا لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيْلٍ شَرْعِيٍّ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّمَا المَسِيْحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُوْلُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ}: هَذِهِ صيْغَةُ حَصْرٍ، وَفَائِدَتُهَا الإِعْلَامُ بِأَنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهُ مِنَ الأُلوْهيَّةِ شَيْءٌ. وَفِيَها بَيَانُ أُمُوْرٍ: فِي قَوْلِهِ {ابْنُ مَرْيَمَ}: أَضَافَهُ إِلَى أُمِّهِ لِيَقْطَعَ قَوْلَ النَّصَارَى الَّذِيْنَ يُضِيْفُوْنَهُ إِلَى اللهِ. فِي قَوْلِهِ {رَسُوْلُ اللهِ}: تَكْذِيْبٌ لِقَوْلِ اليَهُوْدِ: إِنَّهُ كَذَّابٌ، وَلِقَوْلِ النَّصَارَى: إِنَّهُ إِلَهٌ. فِي قَوْلِهِ {وَكَلِمَتُهُ}: إِبْطَالٌ لِقَوْلِ اليَهُوْدِ: إِنَّهُ ابْنُ زِنَى. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَرُوْحٌ مِنْهُ}: أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَغِيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ جَسَدٍ وَرُوْحٍ، وَإِضَافَةُ الرُّوْحِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ هِيَ مِنْ بَابِ التَّشْرِيْفِ وَالتِّكْرِيْمِ؛ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوْحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِيْنَ} (ص:72)، فَهَذِهِ أَيْضًا لِلتَّشْرِيْفِ وَالتَّكْرِيْمِ. (¬2) ¬

_ (¬1) حَيْثُ قَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، وَجَعَلُوْهُ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا اليَهُوْدُ غَلَوا فِيْهِ فقَدَحُوا فِيْهِ، وَقَالُوا: إِنَّ أُمَّهُ زَانِيَةٌ، وَإِنَّهُ وَلَدُ زِنَى، وَكُلُّ ذَلِكَ - مِنَ الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيْطِ - هُوَ خِلَافُ المَنْهَجِ الوَسَطِ - مَنْهَجِ أَهْلِ الإِسْلَامِ مِنِ اعْتِقَادِهِم فِي عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ عَبْدٌ رَسُوْلٌ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (479/ 2): (فَقَوْلُهُ فِي الآيَةِ وَالحَدِيْثِ {وَرُوْحٌ مِنْهُ} كَقَوْلِهِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيْعًا مِنْهُ} (الجَاثِيَة:13) أَيْ: مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، وَلَيْسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ - كَمَا تَقُوْلُهُ النَّصَارَى - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللهِ المُتَتَابِعَةُ، بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ، كَمَا فِي الآيَةِ الأُخْرَى. وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ {وَرُوْحٌ مِنْهُ} أَيْ: وَرَسُوْلٌ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَمَحَبَّةٌ مِنْهُ. وَالأَظْهَرُ الأَوَّلُ؛ أنَّه مَخْلُوْقٌ مِنْ رُوْحٍ مَخْلُوْقَةٍ، وَأُضِيْفَتِ الرُّوْحُ إِلَى اللهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيفِ؛ كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالبَيْتُ إِلَى اللهِ فِي قَوْلِهِ {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ} (هُود:64)، وَفِي قَوْلِهِ {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِيْنَ} (الحَجِّ:26)).

- الأَنْصَابُ: جَمْعُ نُصُبٍ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْصَبُ مِنْ عَصَا أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ وَعَطَاءُ وَسَعِيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ حِجَارَة كَانُوا يَذْبَحُوْنَ قَرَابِيْنَهُمْ عِنْدهَا. (¬1) - العُكُوْفُ لُغَةً: (عَكَفَهُ يَعْكُفُهُ ويَعْكِفُهُ عَكْفًا: حَبَسَهُ؛ وَعَلَيْهِ عُكُوْفًا: أقْبَلَ عَلَيْهِ مُوَاظِبًا؛ وَالقَوْمُ حَوْلَهُ: اسْتَدَارُوا، وَكَذَا الطَّيْرُ حَوْلَ القَتِيْلِ). (¬2) - حَدِيْثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِيْ فِيْهِ ذِكْرُ قِصَّةِ الأَصْنَامِ؛ حُكْمُهُ الرَّفْعُ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْي؛ فَهُوَ غَيْبِيٌّ. وَالحَدِيْثُ اخْتَصَرَهُ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ وَهُوَ بِتَمَامِهِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (¬3) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِيْ كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوْحٍ فِي العَرَبِ بَعْدُ (¬4)، أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الجَنْدَلِ (¬5)، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوْثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالجَوْفِ عِنْدَ سَبَأ، وَأَمَّا يَعُوْقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الكَلَاعِ؛ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِيْنَ مِنْ قَوْمِ نُوْحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِيْ كَانُوا يَجْلِسُوْنَ أَنْصَابًا وَسَمُّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُوْلَئِكَ وَتَنَسَّخَ (وَنُسِيَ) (¬6) العِلْمُ عُبِدَتْ). - فِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانُ أَنَّ أَوَّلَ شِرْكٍ وَقَعَ فِي الأَرْضِ كَانَ بِسَبَبِ الغُلُوِّ فِي الصَّالِحِيْنَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (كَانَ بَيْنَ نُوْحٍ وَآدَمَ عَشْرَةُ قُرُوْنٍ - كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيْعَةٍ مِنَ الحَقِّ -، فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ وَالمُرْسَلِيْنَ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ؛ فَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً). (¬7) ¬

_ (¬1) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (179/ 3). وَفِيْ البُخَارِيِّ (4720)، وَمُسْلِمٍ (1781) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ - وَحَوْلَ البَيْتِ سِتُّوْنَ وَثَلَاثُ مِائَةِ نُصُبٍ - فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُوْدٍ فِي يَدِهِ وَيَقُوْلُ {جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ} (الإِسْرَاء:81)، {جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيْدُ} (سَبَأ:49). (¬2) قَالَهُ فِي القَامُوْسُ المُحِيْطِ (ص839)؛ مَادَّةُ: عَكَفَ. (¬3) البُخَارِيُّ (4920). (¬4) أَيْ: انْتَقَلَتْ إِلَى العَرَبِ فِيْمَا بَعْدُ، وَقَدْ أَدْخَلَهَا إِلَى العَرَبِ رَجُلٌ يُدْعَى عَمْرُو بْنُ لُحِيٍّ الخُزَاعِيُّ؛ كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَعَبَدَ الأَصْنَامَ: أَبُو خُزَاعَةَ؛ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (4258) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1677). (¬5) اسْمُ مَوْضِعٍ فَاصِلٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ. قَالَهُ فِي عُمْدَةِ القَارِي (97/ 4). (¬6) أَيْ: عِلْمُ تِلْكَ الصُّوَرِ بِخُصُوْصِهَا. (¬7) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (3654)، وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ). وَانْظُرْ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص90).

- الإِطْرَاءُ: هُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ فِي المَدْحِ، وَالكَذِبُ فِيْهِ. (¬1) - النَّصَارَى: المُرَادُ بِهِم أَتْبَاعُ عِيْسَى، قِيْلَ: سُمُّوا نَصَارَى نِسْبَةً إِلَى بَلَدٍ وَهِيَ (النَّاصِرَةُ) فِي فِلَسْطِيْن، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ الحَوَارِيُّوْنَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ} (الصَّف:14). (¬2) - حَدِيْثُ (إِيَّاكُمْ وَالغُلُوّ): تَمَامُهُ هُوَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ - غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ -: (هَاتِ القُطْ لِي). فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ - هُنَّ حَصَى الخَذْفِ -، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِى يَدِهِ قَالَ: (بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الغُلُوُّ فِى الدِّينِ). وَفِيْهِ بَيَانُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى المَشْرُوْعِ وَمُجَاوَزَةَ الحَدِّ يَكُوْنُ غُلُوًّا، وَأَنَّ الأَصْلَ هُوَ الْتِزَامُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ} (هُوْد:112). فَأَمَرَ بِلُزُوْمِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُوْنَ؛ دُوْنَ أَنْ يَتَجَاوَزُوا ذَلِكَ. (¬3) - قَوْلُهُ (هَلَكَ المُتَنَطِّعُوْنَ): أَيْ: المُتَعَمِّقُوْنَ الغَالُوْنَ المُجَاوِزُوْنَ الحُدُوْدَ فِي أَقْوَالِهِم وَأَفْعَالِهِم. (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَهُ فِي لِسَانِ العَرَبِ (6/ 15). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (479/ 2): (وَالنَّصَارَى - عَلَيْهِمْ لَعَائِن الله - مِنْ جَهْلهمْ؛ لَيْسَ لَهُمْ ضَابِطٌ وَلَا لِكُفْرِهِمْ حَدٌّ، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَضَلَالُهُمْ مُنْتَشِرٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ إِلَهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ شَرِيْكًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ وَلَدًا، وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيْرَةٌ لَهُمْ آرَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَقْوَالٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْض المُتَكَلِّمِيْنَ حَيْثُ قَالَ: لَوْ اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنَ النَّصَارَى لَافْتَرَقُوا عَنْ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا. وَلَقَدْ ذَكَرَ بَعْض عُلَمَائِهِمُ المَشَاهِيْرُ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ سَعِيْدُ بْنُ بِطْرِيق؛ بَتْركُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ - فِي حُدُوْدِ سَنَةِ أَرْبَعمِائَةٍ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا المَجْمَعَ الكَبِيْرَ الَّذِيْ عَقَدُوا فِيْهِ الأَمَانَةَ الكَبِيْرَةَ الَّتِيْ لَهُمْ - وَإِنَّمَا هِيَ الخِيَانَةُ الحَقِيْرَةُ الصَّغِيْرَةُ - وَذَلِكَ فِي أَيَّام قُسْطَنْطِين - بَانِي المَدِيْنَةِ المَشْهُوْرَةِ - وَأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ، فَكَانُوا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفَيْنِ أُسْقُفًا، فَكَانُوا أَحْزَابًا كَثِيْرَةً، كُلُّ خَمْسِيْنَ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ، وَعِشْرُوْنَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَمِائَةٍ عَلَى مَقَالَةٍ، وَسَبْعُوْنَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَأَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْقَصَ. فَلَمَّا رَأَى مِنْهُمْ عِصَابَةً قَدْ زَادُوا عَلَى الثَّلَاثِمَائَةِ بِثِمَانِيَةَ عَشَرَ نَفَرًا- وَقَدْ تَوَافَقُوا عَلَى مَقَالَةٍ - فَأَخَذَهَا المَلِكُ وَنَصَرَهَا وَأَيَّدَهَا - وَكَانَ فَيْلَسُوْفًا دَاهِيَةً - وَمَحَقَ مَا عَدَاهَا مِنَ الأَقْوَال). (¬3) قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (203/ 4): ({وَلَا تَطْغَوْا} لَا تَجَاوَزُوا أَمْرِيْ وَلَا تَعْصُوْنِي، وَقِيْلَ: مَعْنَاهُ وَلَا تَغْلُوا فَتَزِيْدُوا عَلَى مَا أَمَرْتُ وَنَهَيْتُ). (¬4) قَالَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (220/ 16)، وَقَدْ جَعَلَ التَّنَطُّعَ مُتَنَاوِلًا لِلأَفْعَالِ؛ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الخَطَّابيُّ رَحِمَهُ اللهُ حَيْثُ خَصَّهُ بِالكَلَامِ فَقَط.

- قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُوْلُهُ عَنْهُ فَهُوَ الكُفْرُ المُبِيْحُ لِلدَّمِ وَالمَالِ): يَعْنِيْ أَنَّ الَّذِيْنَ لَمْ يَفَقَهُوا التَّوْحِيْدَ وَلَمْ يَفْهَمُوا القُرْآنَ وَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ كُفْرِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الأُمَمِ؛ ظَنُّوا أَنَّ الكُفْرَ وَالشِّرْكَ هُوَ الرِّدَّةُ عَنِ الدِّيْنِ فَقَط؛ وَهُوَ الَّذِيْ يُوْجِبُ إِبَاحَةَ الدَّمِ وَالمَالِ! وَلَمْ يَفْطَنُوا إِلَى أَنَّ الشِّرْكَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ حَتَّى مِنَ الصَّالِحِيْنَ القَاصِدِيْنَ لِلقُرْبِ مِنَ اللهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ (هُوَ الغُلُوُّ في الصَالِحِيْنَ). - فِي البَابِ عِدَّةُ فَوَائِدَ؛ مِنْهَا: 1) أنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ لَا يُسوِّغُ العَمَلَ غَيْرَ المَشْرُوْعِ، لِأَنَّ قَوْمَ نُوْحٍ أَرَادُوْا بِاتِّخَاذِ الأَنْصَابِ النَّشَاطَ عَلَى العِبَادَةِ وتَذَكُّرَ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِيْنَ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الكُفْرَ بِهِ تَعَالَى! (¬1) 2) أَنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ لَا تُصَحِّحُ العَمَلَ، إِذْ لَا بُدَّ مَعَ النِّيَّةِ الحَسَنَةِ مِنْ مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ، كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَة مَرْفُوْعًا (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). (¬2) 3) بَيَانُ أَهَمِّيَّةِ وُجُوْدِ العُلَمَاءِ فِي النَّاسِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ مَا نَشَطَ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الشِّرْكِ إِلَّا عِنْدَمَا فُقِدَ العِلْمُ وَمَاتَ العُلَمَاءُ. 4) فِيْهِ أَنَّ مَكْرَ الشَّيْطَانِ - فِيْ هَذَا البَابِ - يَكُوْنُ مِنْ جِهَتَيْنِ: أ) تَزْيِيْنُ البَاطِلِ، وَالتَّرْوِيْجُ لَهُ بِالدَّعَاوَى الحَسَنَةِ. ب) التَّدَرُّجُ فِيْهِ. 5) فِيْهِ كَرَاهَةُ التَّقَعُّرِ فِي الكَلَامِ بِالتَّشَدُّقِ وَتَكَلُّفِ الفَصَاحَةِ وَاسْتِعْمَالِ وَحْشِيِّ اللُّغَةِ وَدَقَائِقِ الإِعْرَابِ فِي مُخَاطَبَةِ العَوَامِ وَنَحْوِهِم. وَفِي الحَدِيْثِ ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُوْلُوا قَوْلَكُمْ، فَإِنَّمَا تَشْقِيْقُ الكَلَامِ مِنَ الشَّيْطَانِ)، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا)). (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ الطَّبريُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (639/ 23): (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ {وَيَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنَسْرًا} قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِيْنَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوْحٍ؛ وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاع يَقْتَدُوْنَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابهمُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَقْتَدُوْنَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى العِبَادَة إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُوْنَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيْسُ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُوْنَهُمْ، وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ المَطَرَ فَعَبَدُوْهُمْ). (¬2) مُسْلِمٌ (1718). (¬3) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (875) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (675).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّهْيَ فِي قَوْلِهِ (لَا تُطْرُوْنِيْ كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ) أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مِثْلِ إِطْرَاءِ النَّصَارى لِعِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَط، يَعْنِي: لَا تُطْرُوْنِي بِمِثْلِ مَا أَطْرَتِ النَّصَارى ابْنَ مَرْيَم، فَيَكُوْنُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ - فَقَط - أَنْ يُدَّعَى أنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنٌ للهِ تَعَالَى (¬1)، فَالنَّهْيُ عَنِ الإِطْرَاءِ لَيْسَ عَلَى عُمُوْمِهِ! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الكَافَ هُنَا فِيْ قَوْلِهِ (كَمَا) هِيَ كَافُ التَّشْبِيْهِ (القِيَاسِ)، وَالفَرْقُ بَيْنَ التَّمْثِيْلِ وَالتَّشْبيْهِ: أنَّ التَّمْثِيْلَ يَعْنِي المُطَابَقَةَ، بَيْنَمَا التَّشْبِيْهَ يَعْنِي الاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ - كَالعِلَّةِ فِي الحُكْمِ -، فَيَكُوْنُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ أَصْلُ الإِطْرَاءِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ سِيَاقُ الحَدِيْثِ؛ فَقَد أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُوْلُوا: (عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ)، وَهَذَا هُوَ المَآلُ مِنَ النَّهْيِّ عَنِ الإِطْرَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّهْيُ هُوَ عَنْ ادِّعَاءِ أَنَّهُ ابْنٌ للهِ تَعَالَى فَقَط - وَالَّذِيْ يَنْبَنِي عَلِيْهِ جَوَازُ ادِّعَاءِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا هُوَ مِنْ شِرْكِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ} (النَّحْل:60). (¬2) (¬3) وَلَا يَخْفَى إِنْ شَاءَ اللهُ أنَّ أَنْوَاعَ الشِّرْكِ كَثِيْرْةٌ وَلَيْسَتْ مَحْصُوْرَةً فَقَط بِشِرْكِ النَّصَارى بِاتِّخَاذِ الوَلَدِ، بَلْ إِنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِيْنَ هُوَ ادِّعَاءُ أَنَّ للهِ تَعَالَى شُفَعَاءَ مِنَ الصَّالِحِيْنَ يَشْفَعُوْنَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَهُم وَبِغَيْرِ رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوعِ فِيْهِم. قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬4): (وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيْحِ الحَدِيْثِ: (لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عَيْسَى بْنَ مَرْيَمَ، وَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ) فَمَعْنَاهُ: لَا تَصِفُوْنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ تَلْتَمِسُوْنَ بِذَلِكَ مَدْحِي، كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيْسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيْهِ، فَنَسَبُوْهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ امْرَأً فَوْقَ حَدِّهِ وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيْهِ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَوْلَى الخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). 2) أنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ) هُوَ مِنْ أَسَالِيْبِ اللُّغَةِ فِي الحَصْرِ، أَيْ: مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ رَسُوْلٌ، وَجَاءَ هَذَا الحَصْرُ بَعْدَ فَاءِ التَّعْلِيْلِ لِبَيَانِ أَنَّ العِلَّةَ فِي عَدَمِ الإطْرَاءِ هُوَ لِكَوْنِهِ فَقَط عَبْدٌ رَسُوْلٌ، فَهُوَ عَبْدٌ لَا يُعبْدُ، وَرَسُوْلٌ لَا يُكَذَّبُ. 3) قَدْ دَلَّتِ النُّصُوْصُ الكَثِيْرَةُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى النَّهْي عَنِ الغُلوِّ مُطْلَقًا وَعَنْ أَشْيَاءَ كَثِيْرْةٍ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ المَدْحِ، وَلَكِنْ نُهِيَ عَنْهَا خَوْفًا مِمَّا تَكُوْنُ ذَرِيْعَةً إِلَيْهِ. وَانْظُرِ الأَحَادِيْثَ الآتِيَةَ عَلَى سَبِيْلِ المِثَالِ: أ) عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَيَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُوْلُوا بِقَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَرَسُوْلُ اللهِ. وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَا رَفَعَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). (¬5) ب) عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيْرِ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِى وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: (السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى). قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا. فَقَالَ: (قُوْلُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ؛ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ). (¬6) (¬7) ج) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا خَيْرَ البَرِيَّةِ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَاكَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬8) وَأَخِيْرًا فَلْيُعْلَمْ أنَّ تَعْظِيْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ المَشْرُوْعِ نَوْعَان: الأَوَّلُ: كُفْرٌ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاللهِ تَعَالَى؛ كَدُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالاسْتِغَاثَةِ بِهِ فِي الشَّدَائِدِ. الثَّانِيْ: مَعْصِيَةٌ وَذَرِيْعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ؛ كَالكَذِبِ عَلَيْهِ فِي صِفَاتِهِ، وَاخْتِرَاعِ الآيَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ غَيْرِ المَرْويَّةِ بِالأَسَانِيْدِ الصَّحِيْحَةِ. ¬

_ (¬1) كَمَا قَالَ قَائِلُهُم البُوْصِيْرِيُّ فِي قَصِيْدَةِ البُرْدَةِ: (دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارى فِي نَبِيِّهِم ... وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيْهِ وَاحْتَكِم). (¬2) وَتَقْدِيْمُ الجَارِّ وَالمَجْرُوْرِ فِي قَوْلِهِ {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} يُفِيْدُ الحَصَرَ. (¬3) كَمَا قَالَ البُوْصِيْرِيُّ فِي البُرْدَةِ: (يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوْذُ بِهِ ... سِوَاكَ عِنْدَ حُلُوْلِ الحَادِثِ العَمَمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي ... فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ يَا زَلَّةَ القَدَمِ فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا ... وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللوْحِ وَالقَلَمِ). (¬4) تَفْسِيْرُ القُرْطُبِيِّ (247/ 5). (¬5) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (13529)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10007). غَايَةُ المَرَامِ (127). (¬6) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4806). (¬7) أَيْ: لَا يَتَّخِذَنَّكُم الشَّيْطَانُ جَرِيًّا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الأثير رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (739/ 1): (يُرِيْدُ: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُم مِنَ القَوْلِ، وَلَا تَتَكَلَّفُوْهُ كَأَنَّكُم وُكَلَاءُ الشَّيْطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطقُوْنَ عَنْ لِسَانِهِ). (¬8) مُسْلِمٌ (2369).

باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده؟!

بَابُ مَا جَاءَ مِنَ التَّغْلِيْظِ فِيْمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ؛ فَكَيْفَ إِذَا عَبَدَهُ؟! فِي الصَّحِيْحِ عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيْسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ؛ وَمَا فِيْهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ: (أُوْلَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيْهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ) (¬1). فَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا بَيْنَ الفِتْنَتَيْنِ: فِتْنَةَ القُبُوْرِ، وَفِتْنَةَ التَّمَاثِيْلِ. وَلَهُمَا عَنْهَا؛ قَالَتْ: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيْصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا فَقَالَ - وَهُوَ كَذَلِكَ -: (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ - يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا - وَلَوْلَا ذَلِكَ; أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا). أَخْرَجَاهُ. (¬2) وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَمُوْتَ بِخَمْسٍ - وَهُوَ يَقُوْلُ: (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُوْنَ لِي مِنْكُمْ خَلِيْلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيْلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيْلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيْلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُوْنَ قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُوْرَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ). (¬3) فَقَدْ نَهَى عَنْهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَعَنَ - وَهُوَ فِي السِّيَاقِ - مَنْ فَعَلَهُ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ - وَإِنْ لَمْ يُبْنَ مَسْجِدٌ -، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُوْنُوا لِيَبْنُوا حَوْلَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُصِدَتِ الصَّلَاةُ فِيْهِ؛ فَقَدِ اتُّخِذَ مَسْجِدًا، بَلْ كُلُّ مَوْضِعٍ يُصَلَّى فِيْهِ، يُسَمَّى مَسْجِدًا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُوْرًا). (¬4) وَلِأَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا (إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَاَلَّذِيْنَ يَتَّخِذُوْنَ القُبُوْرَ مَسَاجِدَ). وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيْحِهِ. (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: مَا ذَكَرَ الرَّسُوْلُ فِيْمَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُعْبَدُ اللهُ فِيْهِ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ، وَلَوْ صَحَّتْ نِيَّةُ الفَاعِلِ. الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ عَنْ التَّمَاثِيْلِ وَغِلَظُ الأَمْرِ فِي ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: العَبْرَةُ فِي مُبَالَغَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كَيْفَ بَيَّنَ لَهُمْ هَذَا أَوَّلًا، ثُمَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ قَالَ مَا قَالَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي السِّيَاقِ لَمْ يَكْتَفِ بِمَا تَقَدَّمَ. الرَّابِعَةُ: نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ القَبْرُ. الخَامِسَةُ: أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى فِي قُبُوْرِ أَنْبِيَائِهِمْ. السَّادِسَةُ: لَعَنَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ. السَّابِعَةُ: أَنَّ مُرَادَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْذِيرُهُ إِيَّانَا عَنْ قَبْرِهِ. الثَّامِنَةُ: العِلَّةُ فِي عَدَمِ إِبْرَازِ قَبْرِهِ. التَّاسِعَةُ: فِي مَعْنَى اتِّخَاذِهَا مَسْجِدًا. العَاشِرَةُ: أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ مَنْ اتَّخَذَهَا وَبَيْنَ مَنْ تَقُوْمُ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ، فَذَكَرَ الذَّرِيعَةَ إِلَى الشِّرْكِ قَبْلَ وُقُوْعِهِ مَعَ خَاتِمَتِهِ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ذِكْرُهُ فِي خُطْبَتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ الرَّدَّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَشَرُّ أَهْلِ البِدَعِ، بَلْ أَخْرَجَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِيْنَ فِرْقَةً، وَهُمُ الرَّافِضَةُ وَالجَهْمِيَّةُ، وَبِسَبَبِ الرَّافِضَةِ حَدَثَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ القُبُوْرِ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَنَى عَلَيْهَا المَسَاجِدَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَا بُلِيَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّةِ النَّزْعِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَا أُكْرِمَ بِهِ مِنَ الخُلَّةِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّهَا أَعْلَى مَنْ المَحَبَّةِ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّ الصِّدِّيْقَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الإِشَارَةُ إِلَى خِلَافَتِهِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (434)، وَمُسْلِمٌ (528). (¬2) البُخَارِيُّ (4441)، وَمُسْلِمٌ (529). (¬3) مُسْلِمٌ (532). (¬4) البُخَارِيُّ (438)، وَمُسْلِمٌ (521) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. (¬5) صَحِيْحٌ. رَوَاهُ أَحْمَدَ (4342) بِتَمَامِهِ فِي المُسْنَدِ. وَالشَّطْرُ الأَوَّلُ مِنْهُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7067) تَعْلِيْقًا، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ (2949) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ بِلَفْظِ (لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ)، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (6847). وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص23).

الشرح

الشَّرْحُ - مَقْصُوْدُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ مِنَ البَابِ بَيَانُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ وَسَائِلَ الشَّرْكِ مَلْعُوْنًا وَمَوْصُوْفًا بِأَنَّهُ مِنْ شِرارِ الخَلْقِ، فكَيْفَ بِمَنْ فَعَلَ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ. - إِنَّ الأَدِلَّةَ الَّتِيْ أَوْرَدَهَا المُصَنِّفُ هِيَ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلَكنَّهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ (فِيْمَنْ عَبَدَ اللهَ) وَذَلِكَ بِجَامِعِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التَّعْظِيْمُ؛ وَأَنَّ النَّتِيْجَةَ هِيَ الشِّرْكُ، فَهِيَ مِنْ بَابِ القِيَاسِ لَا مِنْ بَابِ التَّنْصِيْصِ. وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا حَدِيْثُ النَّهْي عَنِ الذَّبْحِ عِنْدَ الأَوْثَانِ، وَهُوَ حَدِيْثُ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ فِي بَابِ (لَا يُذْبَحُ للهِ بِمَكَانٍ يُذْبَحُ فِيْهِ لِغَيْرِ اللهِ). - اللَّعْنَةُ: هِيَ الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم فَعَلُوا كَبِيْرَةً مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوْبِ. - قَوْلُهَا (طَفِقَ): مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوْعِ، أَيْ: جَعَلَ وَبَدَأَ. - قَوْلُهُاَ (خَمِيْصَةً): هُوَ الكِسَاءُ الغَليْظُ الَّذِيْ لَهُ أَعْلَامٌ (خُطُوْطٌ). - قَوْلُهُ (لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى): يَحْتَمِلُ أنَّها خَبَرِيَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أنَّهُ أَرَادَ بِهَا الدُّعَاءَ؛ فَتَكُوْنُ خَبَرِيَّةً لَفْظًا؛ إِنْشَائِيَّةً مَعْنى. - قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬1): (وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ حَدِيْثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الكَنِيْسَةِ الَّتِيْ كَانَتْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيْهَا مِنَ التَّصَاوِيْرِ؛ وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيْهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ) فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِيْ فَعَلَهُ شَرُّ الخَلْقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ). ¬

_ (¬1) فَتْحُ البَارِي (382/ 10).

- قَوْلُهُ (اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ): إنَّ اتِّخَاذَ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ يَكُوْنُ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثِ صُوَرٍ: (¬1) 1) أَنْ يَسْجُدَ عَلَى القَبْرِ؛ يَعْنِي: يَجْعَلَ القَبْرَ مَكَانَ سُجُوْدِهِ. (¬2) 2) أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى القَبْرِ؛ فَيَكُوْنَ القَبْرُ أَمَامَهُ يُصَلِّي إِلَيْهِ. (¬3) 3) أَنْ يَتَّخِذَ القَبْرَ مَسْجِدًا بِأَنْ يَجْعَلَ القَبْرَ فِي دَاخِلِ بِنَاءِ المَسْجِدِ, فَيَتَّخِذَ ذَلِكَ المَكَانَ لِلتَّعَبُّدِ وَالصَّلَاةِ فِيْهِ - وَهِيَ الصُّوْرَةُ الأَعَمُّ - وَعَلَيْهَا صُوْرَةُ النَّهْي فِي حَدِيْثِ (أُوْلَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا). (¬4) ¬

_ (¬1) وَكُلُّهَا مَشْمُوْلَةٌ بِعُمُوْمِ قَوْلِهِ: (اتَّخَذُوا)، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الاتِّخَاذَ أَعَمُّ مِنَ البِنَاءِ. قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الأُمُّ) (317/ 1): (وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَوَّى - يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوْفٌ - أَوْ يُصَلَّى إِلَيْهِ. قَالَ: وَإِنْ صَلَّى إِلَيْهِ أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ أَسَاءَ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَاتَلَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ). قَالَ: وَأَكْرَهُ هَذَا لِلسُّنَّةِ وَالآثَارِ، وَأنَّهُ كَرِهَ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ - يَعْنِي: يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا - وَلَمْ تُؤْمَنْ فِي ذَلِكَ الفِتْنَةُ وَالضَّلَالُ). (¬2) وَهَذِهِ الصُّوْرَةُ فِي الوَاقِعِ لَمْ تَحْصُلْ بِانْتِشَارٍ؛ لِأَنَّ قُبُوْرَ الأَنْبِيَاءِ فِي اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى لَمْ تَكُنْ مُبَاشِرةً لِلنَّاسِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلُوا إِلَى القَبْرِ وَأنْ يَسْجُدوا فَوْقَهُ؛ بَلْ كَانُوا يُعَظِّمُوْنَ قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم؛ فَلَا يُصَلُّوا عَلَيْهَا مُبَاشَرَةً. (¬3) هَذَا وَقَدْ دَلَّتِ الشَّرِيْعَةُ عَلَى النَّهْي عَنْ هَذَا النَّوْعِ وَمَا قَبْلَهُ كَمَا فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا عِنْدَ الطَّبرانِيِّ فِي الكَبِيْرِ (376/ 11) (لَا تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ، ولَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ). صَحِيْحُ الجَامِعِ (7348). (¬4) وَالبِنَاءُ عَلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ جابرٍ مَرْفُوْعًا (سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْعَدَ عَلَى القَبْرِ وَأَنْ يُقَصَّصَ (يُجَصَّصَ) وَيُبْنَى عَلَيْهِ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُد. صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (2762). وَلِذَلِكَ كَانَ قَبْرُ أَفْضَلِ البَشَرِ غَيْرَ مَبْنِيٍّ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ (102/ 2) - بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: (أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا). قُلْتُ: وَسُفْيَانُ هَذَا هُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْنَ. (فَتْحُ البَارِي) (257/ 3). وَكَمَا فِي حَدِيْثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْحِدَ لَهُ لَحْدٌ، وَنُصِبَ اللَّبِنُ نَصْبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الأَرْضِ نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (6635)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (6736). وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ؛ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ) (ص153). وَفِي التِّرْمِذِيِّ (358/ 2) عَقِبَ حَدِيْثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (ولَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ)؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (أَكْرَهُ أَنْ يُرْفَعَ القَبْرُ إِلَّا بِقَدْرِ مَا نَعْرِفُ أَنَّه قَبْرٌ لِكَي لَا يُوْطَأَ وَلَا يُجْلَسَ عَلَيْهِ).

- قَوْلُهَا (لأُبْرِزَ): أَيْ: لَأُخْرِجَ مِنْ بيْتِهِ وَدُفِنَ مَعَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ فِي البَقِيْعِ. (¬1) - قَوْلُهَا (غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) فِيْهَا رِوَايَتَانِ (كَمَا فِي البُخَارِيِّ): خُشِيَ - بِالضَّمِّ - أَيْ: مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ، - وَبِالفَتْحِ - أَيْ: مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهَذَا الأَخِيْرِ يُعْلَمُ أَنَّ الدَّفْنَ فِي البَيْتِ تَمَّ بِتَوْقِيْفٍ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬2) - إِنَّ سَبَبَ دَفْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ أَمْرَان: 1) حَدِيْثُ البَابِ، وَفِيْهِ (ولَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ). 2) حَدِيْثُ (مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوْضِعِ الَّذِيْ يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيْهِ). (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (200/ 3): (أَيْ: لَكُشِفَ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُتَّخَذ عَلَيْهِ الحَائِلُ، وَالمُرَادُ الدَّفْنُ خَارِجَ بَيْتِهِ). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (532/ 1): (وَكَأَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ مُرْتَحِلٌ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ؛ فَخَافَ أَنْ يُعَظَّم قَبْرُهُ كَمَا فَعَلَ مَنْ مَضَى؛ فَلَعَنَ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى - إِشَارَةً إِلَى ذَمِّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلهمْ -). (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1018) عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوْعًا، صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ (1018). وَهَذَا الدَّفْنُ فِي البَيْتِ مِنْ خُصُوْصِيَّاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإلَّا فَالأَصْلُ الدَّفْنُ فِي المَقَابِرِ وَعَدَمُ الدَّفْنِ فِي البُيُوْتِ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ (780) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُم مَقَابِرَ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (530/ 1): (فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الدَّفْنِ فِي البُيُوْتِ مُطْلَقًا).

- قَوْلُهُ (خَلِيْلًا): الخُلَّةُ بِالضَّمِّ: الصَّدَاقَةُ وَالمَحَبَّةُ الَّتِيْ تَخَلَّلَتِ القَلْبَ فَصَارَتْ خِلَالَهُ: أَيْ: فِي بَاطِنِهِ. (¬1) وَالخُلَّةُ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ المَحَبَّةِ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ فَرَّقَ وَجَعَلَ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيْلَ اللهِ؛ وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبِيْبَ اللهِ، فَإِنَّ الخُلَّةَ أَعْلَى مِنَ المَحَبَّةِ، لِذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِلبُخَارِيِّ (¬2) (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيْلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ؛ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي)، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَمُعَاذٍ وَغَيْرَهُم، وَمَعْ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمُ الخُلَّةَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى اتَّخَذَهُ خَلِيْلًا، فمَنْ نَفَاهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ لَهُ صِفَةَ الحَبيْبِ فَقَط فَقَدْ هَضَمَهُ مَنْزِلَتَهُ. (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَهُ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (145/ 2). (¬2) البُخَارِيُّ (3656). (¬3) وَفِي التِّرْمِذِيِّ (3616) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلُ اللهِ - وَهُوَ كَذلِكَ -، وَمُوْسَى نَجِيُّ اللهِ اللهِ - وَهُوَ كَذلِكَ -، وَعِيْسَى رُوْحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ اللهِ - وَهُوَ كَذلِكَ -، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللهُ - وَهُوَ كَذلِكَ -، أَلَا وَأَنَا حَبِيْبُ اللهِ - وَلَا فَخْرَ -) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: (هَذَا حَدِيْثٌ غَرِيْبٌ). ضَعِيْفٌ. ضَعِيْفُ التِّرْمِذِيِّ (3616). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (423/ 2): (وَهَذَا حَدِيْثٌ غَرِيْبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ). قَالَ الشَّيْخُ مُقْبِلُ الوَادِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الشَّفَاعَةُ) (ص43): (الحَدِيْثُ فِي سَنَدِهِ زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ؛ وَهُوَ ضَعِيْفٌ كَمَا فِي التَّقْرِيْبِ، وَسَلَمَةُ بْنُ وَهْرَام، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: رَوَى أَحَادِيْثَ مَنَاكِيْرَ أَخْشَى أَنْ يَكُوْنَ ضَعِيْفًا .... وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الحَدِيْثِ أنَّ فِي الصَّحِيْحِ: (إِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيْلًا كَمَا اتَّخذَ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلًا)).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ فِيْهِ قَبْرٌ مَمْنُوْعَةٌ! فَمَا الجَوَابُ عَنْ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِنَ فِي بَيْتِهِ؛ رُغْمَ أَنَّ فِي البَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ وَلَمْ يُنقلْ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَحَرَّجُ مِنَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ؟ وَالجَوَابُ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ: 1) أَنَّ هَذَا لَيْسَ صَرِيْحًا فِي الجَوَازِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ نَصٌّ صَرِيْحٌ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ تَصَلِّي عِنْدَ القَبْرِ، فَيَبْقَى الأَمْرُ عَلَى أَصْلِ النَّهْي. 2) أنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَرَّجُوْنَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (قُمْتُ يَوْمًا أُصَلِّي - وَبَيْنَ يَدِيَّ قَبْرٌ لَا أَشْعُرُ بِهِ -؛ فَنَادَانِي عُمَرُ: القَبْرَ القَبْرَ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي القَمَرَ، فَقَالَ لِي بَعْضُ مَنْ يِلِيْنِي: إِنَّمَا يَعْنِي القَبْرَ، فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ). (¬1) 3) أَنَّهُ وَرَدَ مَا يُشِيْرُ إِلَى المَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا جَعَلَتْ جِدَارًا فِي بَيْتِهَا يِفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ القَبْرِ، كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؛ يَقُوْلُ: (قُسِمَ بَيْتُ عَائِشَةَ بِاثْنَيْنِ: قِسْمٌ كَانَ فِيْهِ القَبْرُ، وَقِسْمٌ تَكُوْنُ فِيْهِ عَائِشَةُ، وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ). (¬2) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (93/ 1) مُعَلَّقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ، وَهُوَ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي الكُبْرَى (4277)، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (1581) وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص35). (¬2) طَبَقَاتُ ابْنِ سَعْدٍ (294/ 2). قُلْتُ: فَإِذَا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا صَنَعَتْ ذَلِكَ الحَاجِزَ بينَهَا وَبَيْنَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُ القَبْرَ فِي المَسْجِدِ، وَيُفَضِّلُ الصَّلَاةَ بِجِوَارِهِ؟!!

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ لَا تَجُوْزُ فِي المَقَابِرِ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ أَحَادِيْثِ صَلَاةِ الجَنَازَةِ فِي المَقْبَرَةِ؟! (¬1) الجَوَابُ: 1) أنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْي؛ لِثُبُوْتِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 2) أنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ - وَإِنْ كَانَتْ تُسَمَّى صَلَاةً شَرْعًا -، فَهِيَ لَيْسَ فِيْهَا رُكُوْعٌ وَلَا سُجُوْدٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الدُّعَاءُ لِلمَيِّتِ، فَاخْتَلَفَتْ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِيْ نُهيَ عَنْهَا أَصْلًا مِنْ جِهَةِ الهَيْئَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ وَجْهٌ لِلنَّهْي - وَهُوَ المُشَابَهَةُ الَّتِيْ تَكُوْنُ ذَرِيْعَةً إِلَى الشِّرْكِ -. (¬2) 3) يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَتْ خَالِيَةً مِنَ الرُّكُوْعِ وَالسُّجُوْدِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيْهَا مَا يُشْعِرُ بِتَعْظِيْمِ المَيِّتِ، وإنَّمَا بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَهِيَ تُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا المَيِّتَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَنْفَعُهُ، فَاخْتَلَفَتْ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِيْ نُهيَ عَنْهَا أَصْلًا مِنْ جِهَةِ العِلَّةِ أَيْضًا؛ حَيْثُ لَمْ تُوْجَدْ هُنَا عِلَّةُ النَّهْي وَهِيَ ذَرِيْعَةُ الشِّرْكِ. فَاخْتَلَفَتِ الصَّلَاتَانِ مِنْ حَيْثُ الوَصْفِ وَالعِلَّةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ¬

_ (¬1) كَصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُوْلٍ، وَعَلَى المَرْأَةِ الَّتِيْ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ. (¬2) وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا فِي بَابِ - لَا يُذْبَحُ للهِ بِمَكَانٍ يُذْبَحُ فِيْهِ لِغَيْرِ اللهِ - أنَّ اخْتِلَافَ هَيْئَةِ العِبَادَةِ مُؤَثِّرٌ فِي جَوَازِهَا فِي بَعْضِ أَمَاكِنِ النَّهْي.

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ (إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ) فِيْهِ أَنَّهُم مِنْ شِرَارِ النَّاسِ! وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ جَاءَ وَصْفُ الطَّائِفَةِ المَنْصُوْرَةِ بِأَنَّهُ (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُوْرَةٌ حَتَّى تَقُوْمَ السَّاعَةُ)؛ فَمَا التَّوْفِيْقُ بَيْنَ الحَدِيْثَيْنِ؟ الجَوَابُ: أَنْ يُقالَ: إِنَّ المُرَادَ بِقَوْلِهِ (حَتَّى تَقُوْمَ السَّاعَةُ) أَيْ: إِلَى قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَيْسَ إِلَى قِيَامِهَا بِالفِعْلِ، لِأنَّهَا لَا تَقُوْمُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الخَلْقِ، فَاللهُ تَعَالَى يُرْسِلُ رِيْحًا تَقْبِضُ نَفْسَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا شِرَارُ الخَلْقِ (¬1) - وَعَلَيْهِم تَقُوْمُ السَّاعَةُ - وَكَمَا فِي لَفْظٍ لِلبُخَارِيِّ (حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ). (¬2) وَيُمْكِنُ القَوْلُ أَيْضًا بِأَنَّ المَقْصُوْدَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ عَلَى الطَّائِفَةِ هُوَ مَوتُهُم كَمَا رُوِيَ أَنَّ (مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ) وَلَكِنَّهُ ضَعِيْفٌ، وَالأَوَّلُ أَوْلَى. (¬3) ¬

_ (¬1) كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2907) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مَرْفُوْعًا (لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى). فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِيْنَ أَنْزَلَ اللهُ {هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِالهُدَى وَدِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْنَ} (التَّوْبَة:33) أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا. قَالَ: (إنَّهُ سَيَكُوْنُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيْحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيْمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فيهِ فَيَرْجِعُوْنَ إِلَى دِيْنِ آبَائِهِم). (¬2) البُخَارِيُّ (7311) عَنِ المُغِيْرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) ضَعِيْفٌ. حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ (267/ 6) عَنْ أَنَسٍ. الضَّعِيْفَةُ (1166).

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) زَعَمَ بَعْضُهُم أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ هُوَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ القُبُوْرَ تَتَنَجَّسُ بِسَبَبِ مَا فِيْهَا؛ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ سَبَبُ تَحْرِيْمِ الصَّلَاةِ فِيْهَا، لِذَلِكَ إِذَا كَانَتِ القُبُوْرُ قَدِيْمَةً (مُنْدَرِسَةً) فَلَا بَأْسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيْهَا لِزَوَالِ العِلَّةِ؟! الجَوَابُ: دَعْوَى أَنَّ العِلَّةَ هِيَ النَّجَاسَةُ مَرْدُوْدٌ مِنْ أَوْجُهٍ، وَبِرَدِّهَا يَبْقَى النَّهْيُ قَائِمًا (¬1)، وَالأَوْجُهُ هِيَ: 1) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي النُّصُوْصِ أَبَدًا مَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ أَوْ يُوْمِئُ إِلَيْهَا. 2) أَنَّهُ إِنْ كَانَ المَيِّتُ مُسْلِمًا فَهُوَ لَيْسَ بِنَجِسٍ أَبَدًا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ المُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ). (¬2) وَإِنْ قِيْلَ بِنَجَاسَتِهِ مَيِّتًا فَقَط فَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ (¬3)، وَقَدْ وَرَدَتِ النُّصُوْصُ بِذَمِّ أَهْلِ الكِتَابِ لِاتِّخَاذِهِم المَسَاجِدَ عَلَى قُبُوْرِ أَنْبِيَائِهِم. 3) أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ العِلَّةُ النَّجَاسَةَ لَمَا جَازَتْ صَلَاةُ الجَنَازَةِ فِي المَقَابِرِ أَيْضًا. (¬4) 4) أنَّ النُّصُوْصَ النَّبَوِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أنَّ العِلَّةَ فِي النَّهْي هِيَ تَعْظِيْمُ الصَّالِحِيْنَ (¬5) حَيْثُ قَرَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيْثِهِ عَنِ النَّصَارى بَيْنَ أُمُوْرٍ هِيَ (كَنِيْسةُ النَّصَارَى- العَبْدُ الصَّالِحُ - بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ- صَوَّرُوا) فَالجَمْعُ بَيْنَ البِنَاءِ وَالتَّصْوِيْرِ وَالصَّلَاحِ هُوَ لِدِلَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ التَّعْظِيْمُ، وَقَدْ عُلِمَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُم {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِيْنِكُمْ وَلَا تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيْحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُوْلُ اللهِ} (النِّسَاء:171). (¬6) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَظَّمَ مَخْلُوْقٌ حَتَّى يُجْعَلَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَعْدِهُ مِنَ النَّاسِ). (¬7) 5) إِذَا كَانَتِ العِلَّةُ نَجَاسَةُ المَيِّتِ فَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ؛ لِوُجُوْدِ القَدْرِ الكَبِيْرِ مِنَ التُّرَابِ بَيْنَ سَطْحِ الأَرْضِ وَبَيْنَ المَيِّتِ. (¬8) وَأَخِيْرًا فَيُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ العِلَّةَ هِيَ النَّجَاسَةُ مِنْ جِهَةِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ، وَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِالاسْتِحَالَةِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ} (التَّوْبَة:28). (¬9) ¬

_ (¬1) وَعَلَى فَرْضِ كَوْنِ النَّجَاسَةِ هِيَ عِلَّةٌ فِي النَّهْي، فَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهَا وَحْدَهَا العِلَّةُ، لِذَلِكَ فَإِنَّ انْتِفَاءَهَا لَا يَعْنِي زَوَالَ النَّهْي. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (285)، وَمُسْلِمٌ (371) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. وَرَدَّ بَعْضُهُم عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَنْجُسُ بِدَلِيْلِ الأَمْرِ بِغَسْلِهِ قَبْلَ الدَّفْنِ. قُلْتُ: وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِم، لِأَنَّهُ يُقَالُ بِأَنَّ هَذَا الغَسْلَ لَهُ قَدْ أَذْهَبَ نَجَاسَتَهُ - عَلَى فَرْضِ النَّجَاسَةِ -، عَدَا عَنْ كَوْنِ الأَمْرِ بِالغَسْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَعِنْدَ الحَاكِمِ (1426) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي غَسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوْهُ، فَإِنَّ مَيِّتَكُمْ لَيْسَ بِنَجَسٍ؛ فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5408). (¬3) عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1531). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2212). (¬4) وَصَلَاةُ الجَنَازَةِ تَجُوْزُ فِي المَسَاجِدِ، فَإِذَا كَانَ المَيِّتُ نَجِسًا فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُدْخَلَ الجَنَازَةُ إِلَى المَسْجِدِ! وَأَيْضًا لَا يَخْفَى حَدِيْثُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِ المَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِيْ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (460)، وَمُسْلِمٌ (956). (¬5) كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافُ لِذَلِكَ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّشَبُّهُ بِالنَّصَارَى. (¬6) وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (7358) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ). صَحِيْحٌ. تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ (ص22). (¬7) أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَجْمُوْعِ (314/ 5). وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (13/ 5): (قَالَ العُلَمَاء: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ مَسْجِدًا خَوْفًا مِنَ المُبَالَغَة فِي تَعْظِيْمِهِ وَالِافْتِتَانِ بِهِ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الكُفْرِ كَمَا جَرَى لِكَثِيْرٍ مِنَ الأُمَمِ الخَالِيَةِ. وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْنَ وَالتَّابِعُوْنَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ كَثُرَ المُسْلِمُوْنَ؛ وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوْتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ فِيْهِ، - وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ مَدْفِنُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؛ بَنَوْا عَلَى القَبْرِ حِيْطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيْرَةً حَوْلَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ - فَيُصَلِّي إِلَيْهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُوْرِ - ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ القَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا؛ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيْثِ: (لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ). قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا قَالَهُ أَهْلُ العِلْمِ فِي التَّفْسِيْرِ عَنْ قِصَّةِ أَوْثَانِ قَوْمِ نُوْحٍ أنَّهُم عَكَفُوا عَلَى قُبُوْرِهِم، ثُمَّ عَبَدُوْهُم. (¬8) وَفِي البُخَارِيِّ (1868) قِصَّةُ نَبْشِ قُبُوْرِ المُشْرِكِيْنَ لِبِنَاءِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإزَالَةِ التُّرَابِ الَّذِيْ يُفْتَرَضُ أَنْ يَكُوْنَ هُوَ مَظَنَّةَ التَّنَجُّسِ. (¬9) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (208/ 3): (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ المَنْعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ حَالَ خَشْيَةِ أَنْ يُصْنَعَ بِالقَبْرِ كَمَا صَنَعَ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لُعِنُوا، وَأَمَّا إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ فَلَا امْتِنَاعَ، وَقَدْ يَقُوْلُ بِالمَنْعِ مُطْلَقًا مَنْ يَرَى سَدَّ الذَّرِيْعَةِ - وَهُوَ هُنَا مُتَّجِهٌ قَوِيٌّ -). قَالَ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيْقِهِ عَلَى الفَتْحِ: (بَلْ هَذَا هُوَ الحَقُّ, لِعُمُوْمِ الأَحَادِيْثِ الوَارِدَةِ بِالنَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ, ولَعْنِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ, وَلِأَنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الشِّرْكِ بِالمَقْبُوْرِيْنَ فِيْهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَالشِّرْكُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى أَصْحَابِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِم، وَفِي حَدِيْثِ (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم الشِّرْكُ الأَصْغَرُ) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (23630) عَنْ مَحْمُوْدِ بْنِ لَبِيْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (951). بَلْ إِبْرَاهِيْمُ نَفْسُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} (إِبْرَاهِيْم:35) فَهَلْ يُؤْمَنُ عَلَى غَيْرِهِ؟! بَلْ أَقُوْلُ: لَا يَأْمَنُ الفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا مَفْتُوْنٌ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ المُوَفِّقُ وَهُوَ الهَادِي لِلصَّوَابِ.

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) إِنَّ النُّصُوْصَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى التَّحْرِيْمِ، وَلَكِنْ حَمَلَهَا بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى الكَرَاهَةِ؛ كَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ حَيْثُ قَالَ: (وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَظَّمَ مَخْلُوْقٌ حَتَّى يُجْعَلَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا؛ مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عَلَيْهِ وَالضَّلَالِ وَعَلَى مَنْ بَعْدِهُ مِنَ النَّاسِ)؟ (¬1) وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ القَوْلَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيْهِ عَلَى المَعْنَى الاصْطِلَاحِيِّ لِلكَرَاهَةِ - أَيْ: الَّذِيْ لَا يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَيُثَابُ تَارِكُهُ للهِ! - غَيْرُ مُسْتَقِيْمٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّحْرِيْمِ، بَلْ وَأَشَدِّ التَّحْرِيْمِ، وَدَلَّتْ لِذَلِكَ أَلْفَاظُ الحَدِيْثِ وَفِيْهِ (اللَّعْنُ، شِرَارُ النَّاسِ) فَهِيَ مِنْ أَلْفَاظِ الكَبَائِرِ كَمَا لَا يَخْفَى. 2) أنَّ العُلَمَاءَ الَّذِيْنَ تَكَلَّمُوا بِالكَرَاهَةِ إنَّمَا قَصَدُوا التَّحْرِيْمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَلْفَاظَ السَّلَفِ هِيَ أَلْفَاظُ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ (¬2)، وَأَمَّا الكَرَاهَةُ عِنْدَنَا - اليَوْمَ - فَهَذِهِ كَرَاهَةٌ اصْطَلَحَ عَلَيْهَا المُتَأَخِّرُوْنَ لِلتَّفْرِيْقِ فِي النَّهْي بَيْنَ مَا يَأْثَمُ فَاعِلُهُ وَمَا لَا يَأْثَمُ، وَلَوْ رُحْتَ تَسْتَعْرِضُ نُصُوْصَ القُرْآنِ فِي الكَرَاهَةِ لَتَبَيَّنَ لَكَ ذَلِكَ. (¬3) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعْلَامُ المُوَقِّعِيْنَ) (¬4): (وَقَدْ غَلَطَ كَثِيْرٌ مِنَ المُتَأَخِّرِيْنَ مِنْ أَتْبَاعِ الأَئِمَّةِ عَلَى أَئِمَّتِهِم بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَيْثُ تَورَّعَ الأَئِمَّةُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيْمِ وَأَطْلَقُوا لَفْظَ الكَرَاهَةِ، فَنَفَى المُتَأَخِّرُوْنَ التَّحْرِيْمَ عَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الأَئِمَّةُ، ثُمَّ سَهُلَ عَلَيْهِم لَفْظُ الكَرَاهَةِ وَخَفَّتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِم، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُم عَلَى التَّنْزِيْهِ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ غَلَطٌ عَظِيْمٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ وَعَلَى الأَئِمَّةِ). (¬5) وَعَلَيْهِ فَإِنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ هُنَا يُقْصَدُ بِهِ التَّحْرِيْمُ. (¬6) ¬

_ (¬1) الأُمِّ (317/ 1) لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬2) هَذَا هُوَ الأَصْلُ إِلَّا لِقَرِيْنَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الرِّسَالَةُ) (ص216): (وَمَا نَهَى عَنْهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِلتَّحْرِيْمِ حَتَّى تَأْتِيَ دِلَالَةٌ عَنْهُ عَلَى أنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ التَّحْرِيْمِ). (¬3) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوْقَ وَالعِصْيَانَ} (الحُجُرَات:7). (¬4) إِعْلَامُ المُوَقِّعِيْنَ (32/ 1). (¬5) قَالَ ابْنُ بَدْرَانَ - فَقِيْهٌ أُصُوْلِيٌّ حَنْبَلِيٌّ (ت 1346هـ) - فِي كِتَابِهِ (المَدْخَلُ إِلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ) (ص130): (فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُوْنَ الكَرَاهَةَ فِي مَعْنَاهَا الَّذِيْ اسْتُعْمِلَتْ فِيْهِ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُوْلِهِ، وَلَكِنَّ المُتَأَخِّرُوْنَ اصْطَلحُوا عَلَى تَخْصِيْصِ الكَرَاهَةِ بِمَا لَيْسَ بمُحَرِّمٍ وتَرْكُهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِهِ). (¬6) وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي الأُمِّ (318/ 1) أَيْضًا (وَأَكْرَهُ النِّيَاحَةَ عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ وَأَنْ تَنْدُبَهُ النَّائِحَةُ عَلَى الانْفِرَادِ. لَكِن يُعزَّى بِمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّبْرِ وَالاسْتِرْجَاعِ، وَأَكْرَهُ المَأْتَمَ - وَهِيَ الجَمَاعَةُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكْنْ لَهُم بُكَاءٌ - فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَدِّدُ الحُزْنَ وَيُكَلِّفُ المُؤْنَةَ). قُلْتُ: وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَوْلُهُ بِالكَرَاهَةِ لِلنِّيَاحَةِ؛ رُغْمَ مَا عُلِمَ مِنَ الحَدِيْثُ - الَّذِيْ فِي مُسْلِمٍ (67) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا - (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي الأنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ). قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَجْمُوْعِ (307/ 5) - فِي سِيَاقِ الحَدِيْثِ عَنِ النِّيَاحَةِ -: (وَكَذَا وَقَعَ لَفْظُ الكَرَاهَةِ فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي (الأُمِّ) وَحَمَلَهَا الأَصْحَابُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيْمِ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ الإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ).

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) هَلْ يُفَرَّقُ - مِنْ جِهَةِ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ فِي المَسْجِدِ - بَيْنَ كَوْنِ القَبْرِ فِي قِبْلَةِ المُصَلِّي أَمْ لَا؟ الجَوَابُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ، بَلْ تَزْدَادُ الكَرَاهَةُ. (¬1) خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأَفَاضِلِ (¬2)؛ حَيْثُ أَجَازَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ فِيْهِ قَبْرٌ - إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ - بِشَرْطِ أَنْ يَكُوْنَ القَبْرُ طَارِئًا عَلَى المَسْجِدِ دُوْنَ العَكْسِ، وَوَجْهُ التَّفْرِيْقِ أَنَّ الأَوَّلَ مَخْصُوْصٌ بِالحَدِيْثِ (لَا تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ) (¬3)، بِمَعْنَى أَنَّ النَّهْيَ هُوَ عَنِ الاسْتِقْبَالِ فَقَط، وَأَمَّا النَّهْيُ فِي حَالَةِ أَنْ يَكُوْنَ المَسْجِدُ طَارِئًا عَلَى القَبْرِ؛ هُوَ لِكَوْنِهِ صَارَ كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ؛ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى فِيْهِ: {لَا تَقُمْ فِيْهِ أَبَدًا} (التَّوْبَة:108)! وَالجَوَابُ عَلَى مَا سَبَقَ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ القَبْرِ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ أَمْ لَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ: أ- عُمُوْمِ النَّهْي دُوْنَ مُخَصِّصٍ، كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ (أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُوْرَ مَسَاجِدَ) (¬4)، وَعَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ - فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ - بَيْنَ كَوْنِ المَسْجِدِ هُوَ الطَّارِئُ عَلَى القَبْرِ أَمِ العَكْسُ. ب- أَنَّ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى القَبْرِ أَخَصُّ مِنَ عُمُوْمِ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي المَسَاجِدِ الَّتِيْ فِيْهَا القُبُوْرُ؛ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَكِنْ تَزْدَادُ الكَرَاهَةُ إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي المَسْجِدِ وَالقَبْرُ فِي قِبْلَتِهِ. (¬5) ج- أَنَّ عِلَّةَ النَّهْي وَاحِدَةٌ فِي الحَالَتَيْنِ؛ وَهِيَ أَنَّهَا ذَرِيْعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ. د- أَنَّ الامْتِنَاعَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي المَسْجِدِ الذِيْ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ - دُوْنَ العَكْسِ -؛ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ مِنْ جِهَةِ الوَاقِعِ وَالتَّطْبِيْقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيْزُ أَيِّهِمَا طَرَأَ عَلَى الآخَرِ مِنْ قِبَلِ عَامَّةِ النَّاسِ - اللَّهُمَّ إِلَّا مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ، أَوْ أُخْبِرَ بِهِ جَزْمًا -، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي رَدِّ ذَلِكَ التَّفْرِيْقِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. وَأَمَّا جَعْلُ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيُ اللهُ عَنْهَا - لَمَّا وُسِّعَ المَسْجِدُ - مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ مُحَدَّدَةً؛ فَصَحِيْحٌ أَنَّهُ كَيْ لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ القَبْرِ مَعَ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ مُنْصَبٌّ فَقَط عَلَى اسْتِقْبَالِ القَبْرِ بِالصَّلَاةِ فَقَط، وَذَلِكَ لِأَنَّ المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ لَهُ خُصُوْصِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ - كَمَا سَبَقَ - حَيْثُ فِيْهِ فَضِيْلَةُ الصَّلَاةِ، وَفِيْهِ كَوْنُ القَبْرِ مُحَاطًا بِالجُدْرَانِ غَيْرَ ظَاهِرٍ، فَصَارَتْ حَقِيْقَةُ الأَمْرِ هُوَ زِيَادَةُ الاحْتِيَاطِ - حَتَّى لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ القَبْرَ نَفْسَهُ فِي الصَّلَاةِ -، فَحَقِيْقَةُ تَثْلِيْثِ الجِدَارِ إِذًا هُوَ كَيْ لَا تَظْهَرَ صُوْرَةُ التَّقَصُّدِ لِلحُجْرَةِ الَّتِيْ فِيْهَا القَبْرُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلجُدْرَانِ الَّتِيْ أُقِيْمَتْ حَوْلَهُ أَصْلًا مَعْنَى؛ إِذَا كَانَ عَدَمُ الاسْتِقْبَالِ كَافِيًا فِي ذَلِكَ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (¬6) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الثَّمَرُ المُسْتَطَابُ) (380/ 1): (وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ يَحْيَى الكَانْدَهْلَوِيُّ الهِنْدِيُّ الحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ (الكَوْكَبُ الدُّريُّ عَلَى جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ) مَا نَصُّهُ: (وَأَمَّا اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا فِيْهِ مِنَ الشَّبَهِ بِاليَهُوْدِ فِي اتِّخَاذِهِم مَسَاجِدَ عَلَى قُبُوْرِ أَنْبِيَائِهِمِ وَكُبَرَائِهِم وَلِمَا فِيْهِ مِنْ تَعْظِيْمِ المَيِّتِ وَشَبَهٍ بِعَبَدَةِ الأَصْنَامِ لَوْ كَانَ القَبْرُ فِي جَانِبِ القِبْلَةِ. وَكَرَاهَةُ كَوْنِهِ فِي جَانِبِ القِبْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ كَرَاهَةِ كَوْنِهِ يَمِيْنًا أَوْ يَسَارًا؛ وَإِنْ كَانَ خَلْفَ المُصَلِّي فَهُوَ أَخَفُّ كَرَاهَةٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنْ كَرَاهَةٍ). وَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ وَالعَيْنِيُّ فِي (العُمْدَةِ): (أَنَّ القَبْرَ فِي المَسْجِدِ إِذَا كَانَ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ فَإِنَّهُ تَزْدَادُ الكَرَاهَةُ). وَهَذَا هُوَ الحَقُّ فِي المَسْأَلَةِ حَسْبَ التَّفْصِيْلِ الَّذِيْ ذَكَرَهُ الهِنْدِيُّ). (¬2) كَالشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ. اُنْظُرْ أَشْرِطَةَ شَرْحِ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ - كِتَابُ الجَنَائِزِ - شَرِيْطُ (رَقَم 6/أ)، سُؤَالُ (إِذَا كَانَ القَبْرُ عَنْ يَمِيْنِ الإِنْسَانِ أَوْ يَسَارِهِ؟) (¬3) صَحِيْحٌ. الطَّبرانيُّ في الكَبِيْرِ (376/ 11) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7348). (¬4) مُسْلِمٌ (532) عَنْ جُنْدُبٍ مَرْفُوْعًا. (¬5) وَقَدْ يَشْهَدُ لِلتَّفْرِيْقِ - بَيْنَ المَسْجِدِ المُتَّخَذِ لِلصَّلَاةِ؛ وَبَيْنَ عُمُوْمِ أَمَاكِنِ الصَّلَاةِ - مَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ: (قُمْتُ يَوْمًا أُصَلِّي - وَبَيْنَ يَدِيَّ قَبْرٌ لَا أَشْعُرُ بِهِ -؛ فَنَادَانِي عُمَرُ: القَبْرَ القَبْرَ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي القَمَرَ، فَقَالَ لِي بَعْضُ مَنْ يِلِيْنِي: إِنَّمَا يَعْنِي القَبْرَ، فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (93/ 1) مُعَلَّقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ، وَهُوَ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي الكُبْرَى (4277) وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ (1581) وَغَيْرِهِ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص35). فَقَوْلُهُ (فَتَنَحَّيْتُ) قَدْ يُفِيْدُ أَنَّ النَّهْيَ هُوَ عَنِ الاسْتِقْبَالِ فَقَط - فِي غَيْرِ المَسْجِدِ المُتَّخَذِ لِلصَّلَاةِ -، إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ فِي لَفْظٍ آخَرَ أَنَّهُ (جَازَ القَبْرَ وَصَلَّى). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (524/ 1): (وَالأَثَرُ المَذْكُوْرُ عَنْ عُمَرَ رَوَيْنَاهُ مَوْصُوْلًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ - شَيْخِ البُخَارِيِّ - وَلَفْظُهُ (بَيْنَمَا أَنَسٌ يُصَلِّي إِلَى قَبْرٍ نَادَاهُ عُمَرُ: القَبْرَ القَبْرَ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي القَمَرَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي القَبْرَ؛ جَازَ القَبْرَ وَصَلَّى). وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَغْلِيْقِ التَّعْلِيْقِ؛ مِنْهَا مِنْ طَرِيْقِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيْهِ (فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَلِيْنِي: إِنَّمَا يَعْنِي القَبْرَ، فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ)، وَقَوْلُهُ (القَبْرَ القَبْرَ) بِالنَّصْبِ فِيْهِمَا عَلَى التَّحْذِيْرِ، وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِعَادَةِ) اسْتَنْبَطَهُ مِنْ تَمَادِي أَنَسٍ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسَادَهَا لَقَطَعَهَا وَاسْتَأْنَفَ). اُنْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش647) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. واُنْظُرْ شَرْحَ كِتَابِ (قُرَّةُ عُيُوْنِ المُوَحِّدِيْنَ) (ش24) لِلشَّيْخِ صَالِحِ الفَوْزَان حَفِظَهُ اللهُ. (¬6) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (14/ 5): (وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْنَ وَالتَّابِعُوْنَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ كَثُرَ المُسْلِمُوْنَ؛ وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوْتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ فِيْهِ، - وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ مَدْفِنُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؛ بَنَوْا عَلَى القَبْرِ حِيْطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيْرَةً حَوْلَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ - فَيُصَلِّي إِلَيْهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُوْرِ - ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ القَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا؛ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيْثِ: (لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ). تَنْبِيْهٌ) عَزُو إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ إِلَى الصَّحَابةِ لَا يَثْبُتُ؛ كَمَا أَوْضَحَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكِي) (ص151). قُلْتُ: وَفِي (إِكْمَالِ المُعَلِّمِ) (252/ 2) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلقَاضِي عِيَاض: (وَلِهَذَا لَمَّا احْتَاجَ المُسْلِمُوْنَ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكَاثُرِهِم بِالمَدِيْنَةِ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ أُدْخِلَ فِيْهَا بُيُوْتَ أَزْوَاجِهِ)، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّحَابَةَ؛ فَتَنَبَّهْ.

الملحق الرابع على كتاب التوحيد) مختصر تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد

المُلْحَقُ الرَّابِعُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) مُخْتَصَرُ تَحْذِيْرِ السَّاجِدِ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ (¬1) - الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي أَحَادِيْثِ النَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ: (قَالَ ابْنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ: هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ). (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) وَالكِتَابُ الأَصْلُ هُوَ لِلعَلَّاَمَةِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ, وَقَدْ أَوْرَدْتُهُ عَلَى أَبْوَابِهِ مُخْتَصَرًا، وَأَضَفْتُ إِلَيْهِ فَوَائِدَ أُخَرَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ العِلْمِ تَتْمِيْمًا لِلفَائِدَةِ. (¬2) وَتَعَقَّبَهُ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مَشْهُوْرَةٌ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى. اُنْظُرْ كِتَابَ (نَيْلُ الأَوْطَارِ) (155/ 2). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص57): (مُتَوَاتِرَةٌ). (¬3) قُلْتُ: وَاكْتَفَيْنَا بِمَا فِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنَ الأَحَادِيْثِ النَّاهِيَةِ عَنِ الإِعَادَةِ هُنَا.

- الفصل الثاني: معنى اتخاذ القبور مساجد

- الفَصْلُ الثَّانِي: مَعْنَى اتِّخَاذِ القُبْوْرِ مَسَاجِدَ؛ هُوَ ثَلَاثَةُ مَعَانِي: 1) الصَّلَاةُ عَلَى القُبُوْرِ بِمَعْنَى السُّجُوْدِ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (نَهَى نَبِيُّ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أَنْ يُبْنَى عَلَى القُبُوْرِ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهَا، أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهَا) (¬1) , قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِيُّ (¬2) فِي الزَّوَاجِرِ: (وَاتِّخَاذُ القَبْرِ مَسْجِدًا مَعْنَاهُ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَوْ إِلَيْهِ). (¬3) 2) السُّجُوْدُ إِلَيْهَا وَاسْتِقْبَالُهَا بِالصَّلَاَةِ وَالدُّعَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْر). (¬4) 3) بِنَاءُ المَسَاجِدِ عَلَيْهَا وَقَصْدُ الصَّلَاةِ فِيْهَا، كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ (أُوْلَئِكَ إِذَا كَانَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ؛ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيْهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬5) وَكَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ؛ قَالَ: نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ. (¬6) (¬7) قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الأُمُّ) (¬8): (وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَوَّى - يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوْفٌ - أَوْ يُصَلَّى إِلَيْهِ. قَالَ: وَإِنْ صَلَّى إِلَيْهِ أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ أَسَاءَ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَاتَلَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ). قَالَ: وَأَكْرَهُ هَذَا لِلسُّنَّةِ وَالآثَارِ، وَأنَّهُ كَرِهَ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ - يَعْنِي: يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا - وَلَمْ تُؤْمَنْ فِي ذَلِكَ الفِتْنَةُ وَالضَّلَالُ). (¬9) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ، أَوْ إِدْخَالِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ؛ لِأَنَّ المَحْذُوْرَ وَاحِدٌ. قَالَ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬10): (وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَأَنَّهُ إذَا بُنِيَ المَسْجِدُ لِقَصْدِ أَنْ يُدْفَنَ فِي بَعْضِهِ أَحَدٌ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي اللَّعْنَةِ، بَلْ يَحْرُمُ الدَّفْنُ فِي المَسْجِدِ. وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فِيْهِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِمُخَالَفَتِهِ لِمُقْتَضَى وَقْفِهُ مَسْجِدًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). (¬11) (¬12) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُوْ يَعْلَى (1020) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ. تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ (ص29). (¬2) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ؛ الهِيْتَمِيُّ السَّعْدِيُّ الأَنْصَارِيُّ، شِهَابُ الدِّيْنِ شَيْخُ الإِسْلَامِ، أَبُوْ العَبَّاسِ: فَقِيْهٌ بِاحِثٌ مَصْرِيٌّ، مَوْلِدُهُ فِي مَحِلَّةِ أَبِي الهَيْتَم - مِنْ إِقْلِيْمِ الغَرْبِيَّةِ بِمِصْرَ - وَإلَيْهَا نِسْبَتهُ، (ت 974 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (234/ 1). (¬3) الزَّوَاجِرُ (246/ 1). (¬4) صَحِيْحٌ. الطَّبرانيُّ في الكَبِيْرِ (376/ 11) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7348). (¬5) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (434)، وَمُسْلِمٌ (528) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬6) مُسْلِمٌ (970). (¬7) وَترْجَمَ البُخَارِيُّ (88/ 2) رَحِمَهُ اللهُ لِحَدِيْثِ (لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا) بِقَوْلِهِ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ)؛ فَجَعَلَ مِنْ مَعْنَى الاتِّخَاذِ البِنَاءَ عَلَى القُبُوْرِ المَسَاجِدَ. وَقَالَ الجَصَّاصُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مُخْتَصَرُ اخْتِلَافِ الفُقَهَاءِ) (407/ 1): (قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللهُ: بُنْيَانُ القُبُوْرِ لَيْسَ مِنْ حَالِ المُسْلِمِيْنَ، وَإنَّمَا هُوَ مِنْ حَالِ النَّصَارَى). (¬8) الأُمِّ (317/ 1) لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬9) قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (358/ 2) عَقِبِ حَدِيْثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (لَا تَدَعْ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَه): (قَالَ الشَّافِعِيُّ: (أَكْرَهُ أَنْ يُرْفَعَ القَبْرُ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ قَبْرٌ لِكَيْلَا يُوطَأَ وَلَا يُجْلَسَ عَلَيْهِ)). (¬10) هُوَ عَبْدُ الرَّحِيْمِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَبْو الفَضْلِ؛ زَيْنُ الدِّيْنِ، المَعْرُوْفُ بِالحَافِظِ العِرَاقِيِّ: بَحَّاثَةٌ مِنْ كِبَارِ حُفَّاظِ الحَدِيْثِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، صَاحِبُ المُغْنِي عَلَى الإِحْيَاءِ، (ت 806 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (344/ 3). (¬11) نَقَلَهُ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (274/ 5). (¬12) وَقَدْ سَبَقَ فِي مَسَائِلِ البَابِ المَاضِي بَيَانُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ - مِنْ جِهَةِ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ - بَيْنَ كَوْنِ المَسْجِدِ طَارِئًا عَلَى القَبْرِ أَمِ العَكْسُ.

- الفصل الثالث: في أن اتخاذ القبور مساجد من الكبائر

- الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَنَّ اتِّخَاذَ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ مِنَ الكَبَائِرِ: وَذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ؛ وَلِوَصْفِهِم بِشِرَارِ الخَلْقِ. وَالعُلَمَاءُ فِي اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ مُتَّفِقُوْنَ عَلَى المَنْعِ: (¬1) 1 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ كَبِيْرَةٌ. قَالَ الحَافِظُ الهَيْتَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ): (الكَبِيْرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُوْنَ: اتِّخَاذُ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيْهَا، وَاتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا، وَالطَّوَافُ بِهَا، وَاسْتِلَامُهَا، وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا). (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَجْمُوْعِ (¬3): (وَاتَّفَقَتْ نُصُوْصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى كَرَاهَةِ بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلى القَبْرِ سَوَاءً كَانَ المَيِّتُ مَشْهُوْرًا بِالصَّلَاحِ أَوْ غَيْرِهِ، لِعُمُوْمِ الأَحَادِيْثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَتُكْرَهُ الصَّلاةُ إِلَى القُبُوْرِ - سَوَاءً كَانَ المَيِّتُ صَالِحًا أَوْ غَيْرَهُ -، قَال الحَافِظُ أَبُو مُوْسَى (¬4): قَالَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬5): (وَلا يُصَلَّى إِلَى قَبْرِهِ، وَلَا عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِهِ وَإِعْظَامًا لَهُ لِلأَحَادِيْثِ، وَاَللهُ أَعْلمُ)). 2 - مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ الكَرَاهَةُ التَّحْرِيْمِيَّةُ. فَقَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ - تَلِمِيْذُ أَبِي حَنِيْفَة - فِي كِتَابِهِ (الآثَارُ): (لَا نَرَى أَنْ يُزادَ عَلَى مَا خَرَجَ مِنَ القَبْرِ، وَنَكْرَهُ أَنْ يُجَصَّصَ أَوْ يُطَيَّنَ أَوْ يُجْعَلَ عِنْدَهُ مَسْجِدًا). (¬6) 3 - مَذْهَبُ المَالِكِيَّةِ التَّحْرِيْمُ. قَالَ القُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيْرِهِ (¬7) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الحَدِيْثَ الخَامِسَ (¬8): (قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا يُحرِّمُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُوْرَ الأَنْبِيَاءِ وَالعُلَمَاءِ مَسَاجِدَ). 4 - مَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ التَّحْرِيْمُ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ تيميَّةَ فِي (الفَتَاوَى الكُبْرَى): (يَحْرُمُ الإِسْرَاجُ عَلَى القُبُوْرِ وَاتِّخَاذُ القُبُوْرِ المَسَاجِدَ عَلَيْهَا وبَيْنَهَا، وَيَتَعَيَّنُ إِزَالَتُهَا، وَلَا أَعْلَمُ فِيْهِ خِلَافًا بَيْنَ العُلَمَاءِ المَعْرُوْفِيْنَ). (¬9) (¬10) ¬

_ (¬1) قَالَ الجزيْريُّ فِي كِتَابِهِ (الفِقْهُ عَلَى المَذَاهَبِ الأَرْبَعَةِ) (487/ 1): (يُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ بَيْتٌ أَوْ قُبَّةٌ أَوْ مَدْرَسَةٌ أَوْ مَسْجِدٌ أَوْ حِيْطَانٌ تُحْدِقُ بهِ - كَالحِيْشَانِ - إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الزِّيْنَةُ وَالتَّفَاخُرُ؛ وَإلَّا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا). قُلْتُ: وَهُوَ المَنْقُوْلُ أَيْضًا عَنْ فَتَاوَى عُلَمَاءِ الأَزْهَرِ. وَالحَوْشُ: (الحَوْشُ: شِبْهُ الحَظِيرَةِ ... ، ويُطْلِقُه أَهْلُ مِصْرَ عَلَى فِنَاءِ الدَّارِ). تَاجُ العَرُوْسِ (163/ 17). (¬2) الزَّوَاجِرُ (244/ 1). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا فَجَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ بَعْدِي) أَيْ: لَا تُعَظِّمُوهُ تَعْظِيْمَ غَيْرِكُمْ لِأَوْثَانِهِمْ بِالسُّجُوْدِ لَهُ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الإِمَامُ (قُلْتُ: هُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِيْنَ نَقَلَ قَوْلَهُم) بِقَوْلِهِ (وَاتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا) هَذَا المَعْنَى! اتَّجَهَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيْرَةٌ؛ بَلْ كُفْرٌ بِشَرْطِهِ (قُلْتُ: أَيْ: أنَّ سَبَبَ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذَلِكَ الإمَامِ كَانَ التَّبَرُّكَ وَالتَّعْظِيْمَ)، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْظِيْمِ الَّذِيْ لَمْ يُؤْذَنْ فِيْهِ كَبِيْرَةٌ فَفِيْهِ بُعْدٌ! نَعَمْ. قَالَ بَعْضُ الحَنَابِلَةِ: قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلَاةَ عِنْدَ القَبْرِ مُتَبَرِّكًا بِهَا عَيْنُ المُحَادَّةِ لِلَّهِ وَرَسُوْلِهِ، وَإِبْدَاعُ دِيْنٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ثُمَّ إجْمَاعًا، فَإِنَّ أَعْظَمَ المُحَرَّمَاتِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَاتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ أَوْ بِنَاؤُهَا عَلَيْهَا، وَالقَوْلُ بِالكَرَاهَةِ مَحْمُوْلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، إذْ لَا يُظَنُّ بِالعُلَمَاءِ تَجْوِيْزُ فِعْلٍ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ فَاعِلِهِ، وَتَجِبُ المُبَادَرَةُ لِهَدْمِهَا وَهَدْمِ القِبَابِ الَّتِيْ عَلَى القُبُوْرِ إذْ هِيَ أَضَرُّ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ؛ لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدْمِ القُبُوْرِ المُشْرِفَةِ، وَتَجِبُ إزَالَةُ كُلِّ قِنْدِيْلٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى قَبْرٍ وَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَنَذْرُهُ. انْتَهَى). (¬3) المَجْمُوْعُ (316/ 5). (¬4) هُوَ أَبُو مُوْسَى المَدِيْنِيِّ؛ الحَافِظُ الكَبِيْرُ شَيْخُ الإِسْلَامِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الأَصْبَهَانِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ (ت 581 هـ). اُنْظُرْ كِتَابَ (تَذْكِرَةُ الحُفَّاظِ) (86/ 4) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ. (¬5) هُوَ الشَّيْخُ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوْقٍ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ البَغْدَادِيُّ الزَّعْفَرَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، الفَقِيْهُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ الثَّبْتُ، (ت 517 هـ). اُنْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (471/ 19). (¬6) الآثَارُ (190/ 2)، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: (وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، وَالكَرَاهَةُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ إِذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ لِلتَّحْرِيْمِ كَمَا هُوَ مَعْرُوْفٌ لَدَيْهِم، وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيْمِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ ابْنُ المَلِكِ مِنْهُم. (¬7) (380/ 10). (¬8) وَهُوَ حَدِيْثُ البُخَارِيِّ (434)، وَمُسْلِمٍ (528) وَفِيْهِ (أُوْلَئِكَ إِذَا كَانَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ؛ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا). (¬9) الفَتَاوَى الكُبْرَى (361/ 5). (¬10) وَقَالَ ابْنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَعَادِ) (501/ 3): (وَمِنْهَا: أَنَّ الوَقْفَ لَا يَصِحُّ عَلَى غَيْرِ بِرٍّ وَلَا قُرْبَةٍ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ وَقْفُ هَذَا المَسْجِدِ (المَبْنِيِّ عَلَى قَبْرٍ) وَعَلَى هَذَا: فَيُهْدَمُ المَسْجِدُ إذَا بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ، كَمَا يُنْبَشُ المَيِّتُ إذَا دُفِنَ فِي المَسْجِدِ - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ - فَلَا يَجْتَمِعُ فِي دِيْنِ الإِسْلَامِ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ، بَلْ أَيُّهُمَا طَرَأَ عَلَى الآخَرِ مُنِعَ مِنْهُ وَكَانَ الحُكْمُ لِلسَّابِقِ. فَلَوْ وُضِعَا مَعًا لَمْ يَجُزْ وَلَا يَصِحُّ هَذَا الوَقْفُ، وَلَا يَجُوزُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي هَذَا المَسْجِدِ لِنَهْي رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَعْنِهِ مَنْ اتَّخَذَ القَبْرَ مَسْجِدًا أَوْ أَوْقَدَ عَلَيْهِ سِرَاجًا، فَهَذَا دِيْنُ الإِسْلَامِ الَّذِيْ بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُوْلَهُ وَنَبِيَّهُ، وَغُرْبَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَرَى).

- الفصل الرابع: شبهات تدل على خلاف ذلك، وجوابها

- الفَصْلُ الرَّابِعُ: شُبُهَاتٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَجَوَابُهَا: - الشُّبْهَةُ الأُوْلَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُوْرَةِ الكَهْفِ {قَالَ الَّذِيْنَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (الكَهْف:21) فِيْهِ أنَّ المُؤْمِنِيْنَ هُمُ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا ذَلِكَ، وَأَقَرَّهُم اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِم ذَلِكَ! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ (¬1): 1) إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى صَحِيْحَةً؛ فَإِنَّه يُقَالُ لَهُم: شَرْعُ مَنْ قَبْلِنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ. (¬2) 2) لَيْسَ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مَشْرُوْعًا عِنْدَهُم، فَلَيْسَ فِي الآيَةِ - صَرَاحَةً - أَنَّهُم كَانُوا مُسْلِمِيْنَ، عَدَا عَنْ أَنْ يَكُوْنُوا مُسْلِمِيْنَ صَالِحِيْنَ، بَلِ الظَّاهِرُ هُوَ العَكْسُ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬3) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ (لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ؛ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ) -: (وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيْثُ؛ وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ {قَالَ الَّذِيْنَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (الكَهْف:21) فَجَعَلَ اتِّخَاذَ القُبُوْرِ عَلَى المَسَاجِدِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الغَلَبَةِ عَلَى الأُمُوْرِ؛ وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ القَهْرُ وَالغَلَبَةُ وَإتِّبَاعُ الهَوَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ العِلْمِ وَالفَضْلِ المُنْتَصِرِ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الهُدَى). (¬4) 3) دَعْوَى أَنَّهُم مُسْلِمُوْنَ؛ لَيْسَتْ ثَابِتَةٌ، بَلْ مُخْتَلَفٌ فِيْهَا عِنْدَ المُفَسِّرِيْنَ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (¬5): (حَكَى ابْنُ جَرِيْرٍ فِي القَائِلِيْنَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُم المُسْلِمُوْنَ مِنْهُم. الثَّانِي: أَنَّهُم أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْهُم. فَاللهُ أَعْلَمُ. (¬6) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِيْنَ قَالوُا ذَلِكَ هُمْ أَصْحَابُ الكَلِمَةِ وَالنُّفُوْذِ، وَلَكِنْ هُمْ مَحْمُوْدُوْنَ أَمْ لَا؟ فِيْهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ قَالَ: (لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ؛ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا)، وَقَدْ رُوِّيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّه لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَال - فِي زَمَانِهِ بِالعِرَاق - أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ). (¬7) قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ المُفَسِّرُوْنَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيْمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ هُمُ المُسْلِمُوْنَ أَمِ المُشْرِكونَ! فَمَا القَوْلُ بِهَذَا الفِعْلِ الَّذِيْ اسْتَوَى فِيْهِ الظَّنُّ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ؟ فَهَلْ هَذَا إِلَّا دَلِيْلٌ عَلَى الذَّمِّ (¬8)، وَاللهُ أَعْلَمُ. 4) أَنَّ الآيَةَ الكَرِيْمَةَ لَمْ تُسَقْ لِبَيَانِ حُكْمِ هَذَا الفِعْلِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهَا كَانَتِ اخْتِبَارًا لِلمُشْرِكِيْنَ فِي تَصْدِيْقِهِم بِالآيَاتِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬9): (وَإنَّمَا قُلنَا إِنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ أَوْلَى بِتَأْوِيْلِ الآيَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الكَهْفِ عَلَى نَبِيِّهِ احْتِجَاجًا بِهَا عَلَى المُشْرِكِيْنَ مِنْ قَوْمِهِ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - إِذْ سَأَلُوْهُ عَنْهَا اخْتِبَارًا مِنْهُم لَهُ بِالجَوَابِ عَنْهَا لِصِدْقِهِ). (¬10) 5) لِمَاذَا احْتُجَّ بِقَوْلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِيْ عَلَامَتُهَا الغَلَبَةُ، وَلَمْ يُحْتَجَّ بِالأُوْلَى - وَهِيَ المُنَازِعَةُ للثَّانِيَةِ {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ} وَقَدْ جَاءَ مِنْ صِفَتِهَا تَسْلِيْمُ العِلْمِ بِحَالِ أَهْلِ الكَهْفِ إِلَى اللهِ تَعَالَى {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} وَهَذَا أَوْلَى بِالاقْتِدَاءِ مِنَ الَّذِيْنَ وُصِفُوا بِالغَلَبَةِ فَقَط. (¬11) 6) أنَّهُ إِذَا قِيْلَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ؛ فَيُقَالُ: إِنَّ بِنَاءَ المَسْجِدِ عَلَيْهِم فِي الكَهْفِ لَهُ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُوْنَ البِنَاءُ تَمَّ عَلَى ظَهْرِ الجَبَلِ الَّذِيْ فِيْهِ الكَهْفُ (¬12)، أَوْ أَنْ يُبْنَى عِنْدَ بَابِ الكَهْفِ (¬13)، وَفِي الحَالَتِيْنِ لَيْسَ فِيْهَا صُوْرَةُ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ (¬14)، فَبَطَلَ الاسْتِدْلَالُ؛ وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (¬15) ¬

_ (¬1) مُعْظَمُ أَوْجُهِ الرَّدِّ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كِتَابِ (البِنَاءُ عَلَى القُبُوْرِ) لِلشَّيْخِ المُحَدِّثِ المُعَلِّمِيِّ اليَمَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) وَعَلَى فَرْضِ كَوْنِهِ جَازَ فِي شَرْعِهِم، فَيُقَالُ: شَرْعُنَا أَتَمُّ، وَقَدْ جَاءَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا كَانَ فِي قَوْمِ يُوْسُفَ السُّجُوْدُ لِلبَشَرِ جَائِزٌ مِنْ بَابِ التَّحِيَّةِ، فَنُهِيَ عَنْهُ عِنْدَنَا، وَكَمَا فِي صِنْعَةِ الجِنِّ لِسُلَيْمَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّمَاثِيْلِ - عَلَى القَوْلِ بِأنَّهَا كَانَتْ صُوَرًا لِذَوَاتِ أَرْوَاحٍ - أَمَّا فِي شَرْعِنَا فَنُهيَ عَنْ تَصْوِيْرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ. (¬3) (193/ 3). (¬4) قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (الكَهْف:12)، فَقَدْ جَعَلَ تَعَالَى مِنْهُم حِزْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيْهِم، فَلَيْسَ بمُسَلَّمٍ أَنَّهُم كَانُوا فِئَةً وَاحِدَةً مُسْلِمَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (613/ 17): (وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِيْنَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِم قَوْمٌ مِنْ قَوْمُ الفِتْيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُم: كَانَ الحِزْبَانِ جَمِيْعًا كَافِرِيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُم: بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، وَالآخَرُ كَافِرًا). قُلْتُ: وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَثْبَتْنَاهُ. (¬5) (147/ 5). (¬6) وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (351/ 10): ({قَالَ الَّذِيْنَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} - أَهْلُ السُّلْطَانِ وَالمُلْكِ مِنْهُم -: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَسْجِدًا). (¬7) وَهُوَ أَثَرٌ صَحِيْحٌ. أَوْرَدَهُ الرَّبَعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الشَّامِ، اُنْظُرْ تَخْرِيْجَ كِتَابِ فَضَائِلِ الشَّامِ (ص51)، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش304). (¬8) فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ تَمَّتِ الحُجَّةُ، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِيْنَ فَهُم جُهَّالُهُم؛ وَلَيْسَ فِعْلُهُم بِحُجَّةٍ. (¬9) (601/ 17). (¬10) عَلَى أَنَّه يُمْكِنُ إِضَافَةُ فَائِدَةٍ ثَانيَةٍ فِي سَبَبِ إِيْرَادِ هَذِهِ القِصَّةِ؛ وَهِيَ تَنْبِيْهُ الأُمَّةِ إِلَى سَدِّ القُبُوْرِ؛ وَأَنَّ أَهْلَ الإِيْمَانِ مِنْهُم كَانُوا يُنَازِعُوْنَ أَهْلَ الغَلَبَةِ عَلَى المَنْعِ مِنْ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (147/ 5): ({فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}: أَيْ: سُدُّوا عَلَيْهِم بَابَ كَهْفِهِم، وَذَرُوْهُم عَلَى حَالِهِم). (¬11) عَلَى أنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ أَيْضًا بِأنَّهُ لَيْسَ فِي القُرْآنِ أَنَّهُم عَمِلُوا بِذَلِكَ، بَلْ مُجَرَّدُ حُصُوْلِ التَّنَازُعِ. (¬12) قَالَ الآلُوْسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (رُوْحُ المَعَانِي) (227/ 8): (وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِنَّ ذَلِكَ الاتِّخَاذَ كَانَ عَلَى الكَهْفِ فَوْقَ الجَبَلِ الَّذِيْ هُوَ فِيْهِ، وَفِي خَبَرِ مُجَاهِدٍ أَنَّ المَلِكَ تَرَكَهُم فِي كَهْفِهِم وَبَنَى عَلَى كَهْفِهِم مَسْجِدًا - وَهَذَا أَقْرَبُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَمَا لَا يَخْفَى - وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى القَوْلِ بِأَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ مَاتُوا بَعْدَ الإِعْثَارِ عَلَيْهِم، وَأَمَّا عَلَى القَوْلِ بِأَنَّهُم نَامُوا كَمَا نَامُوا أَوَّلًا فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى مَا قِيْلَ. وَبِالجُمْلَةِ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ أَدْنَى رَشَدٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى خِلَافِ مَا نَطَقَتْ بِهِ الأَخْبَارُ الصَّحِيْحَةُ وَالآثَارُ الصَّرِيْحَةُ مُعَوِّلًا عَلَى الاسْتِدْلَالِ بِهَذِه الآيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الغِوَايةِ غَايَةٌ، وَفِي قِلَّةِ النُّهَى نِهَايَةٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ يُبِيْحُ مَا يَفْعَلُهُ الجَهَلَةُ فِي قُبُوْرِ الصَّالِحِيْنَ مِنْ إِشْرَافِهَا وَبِنَائِهَا بِالجِصِّ وَالآجُرِّ وَتَعْلِيْقِ القَنَادِيْلِ عَلَيْهَا وَالصَّلَاةِ إِلَيْهَا وَالطَّوَافِ بِهَا وَاسْتِلَامِهَا وَالاجْتِمَاعِ عِنْدَهَا فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ؛ وَبِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ القِصَّةِ مِنْ جَعْلِ المَلِكِ لَهُم فِي كُلِّ سَنَةٍ عِيْدًا). (¬13) قَالَ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (الدُرُّ المَنْثُورُ) (375/ 5): (وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ .... فَقَالَ المَلِكُ: لَأَتَّخِذَنَّ عِنْدَ هَؤُلْاءِ القَوْمِ الصَّالِحِيْنَ مَسْجِدًا). (¬14) عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ أَيْضًا: لَيْسَ فِي الآيَةِ بَيَانُ مَوْتِهِم حَتَّى يُجْعَلَ لَهُم قَبْرٌ ثُمَّ يُقَالُ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ! بَلْ يُجْزَمُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُم قَبْرٌ، بَلْ مَاتُوا فِي صَحْنِ الكَهْفِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} (الكَهْف:21)، فَلَو عَلِمُوا عَنْهُم شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُم ذَلِكَ القَوْلُ. (¬15) وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ دَاخِلَ الكَهْفِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ الكَهْفِ - الَّذِيْ أُعِدَّ لِلاخْتِبَاءِ - لَا يُفْتَرَضُ فِيْهِ أَنْ يَكُوْنَ مِنَ السَّعَةِ مَا يُمَكِّنُ مِنَ البِنَاءِ بِدَاخِلِهِ، عَدَا عَنْ كَوْنِهِ بِحُكْمِ المَبْنِيِّ.

الشبهة الثانية: كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف

- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ فِي مَسْجِدِهِ الشَّرِيْفِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمَا دَفَنَهُ أَصْحَابُهُ رِضْوُانُ اللهِ عَلَيْهِم فِي مَسْجِدِهِ! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ هَذَا - وَإِنْ كَانَ هُوَ المُشَاهَدُ اليَوْمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؛ فَإِنَّهُم لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ دَفَنُوْهُ فِي حُجْرَتِهِ الَّتِيْ كَانَتْ بِجَانِبِ مَسْجِدِهِ وَكَانَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ فِيْهِ بَابٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى المَسْجِدِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوْفٌ مَقْطُوْعٌ بِهِ عِنْدَ العُلَمَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُم، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم حِيْنَمَا دَفَنُوْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ فِي الحُجْرَةِ؛ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَيْ لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ بَعْدَهُم مِنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ مَسْجِدًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي حَدِيْثِ عَائِشَة وَغَيْرِهِ, وَلَكِنْ وَقَعَ بَعْدَهُم مَا لَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهِم، ذَلِكَ أنَّ الوَلِيْدَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ أَمَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ بِهَدْمِ المَسْجِدِ النَّبَويِّ وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ إِلَيْهِ فَأُدْخِلَتْ فِيْهِ الحُجْرَةُ النَّبَويَّةُ - حُجْرَةُ عَائِشَةَ - فَصَارَ القَبْرُ بِذَلِكَ فِي المَسْجِدِ, وَلَمْ يَكُنْ فِي المَدِيْنَةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ حِيْنَذَاكَ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُم. (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكي فِي الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِيِّ) (¬2): (وَإنَّمَا أُدْخْلَتِ الحُجْرَةُ فِي المَسْجِدِ فِي خِلَافَةِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ بَعْدَ مَوْتِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ الَّذِيْنَ كَانُوا بِالمَدِيْنَةِ، وَكَانَ آخِرَهُم مَوْتًا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَتُوفِّيَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ المَلِكِ، فَإِنَّه تُوفيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِيْنَ، وَالوَلِيْدُ تَوَلَّى سَنَةَ سِتِّ وَثَمَانِيْنَ، وَتُوفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ، فَكَانَ بِنَاءُ المَسْجِدِ وَإدْخَالُ الحُجْرَةِ فِيْهِ فِيْمَا بَيْنَ ذَلِكَ). وَعَلَيْهِ فَلَا يُحْتَجُّ بِفِعْلِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ عَلَى أَحَادِيْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ النَّاهِيَةِ؛ مَعَ مَا عَلِمْتَ مِنْ سَعْي الصَّحَابَةِ إِلَى عَزْلِ القَبْرِ عَنِ المَسْجِدِ. (¬3) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْنَ وَالتَّابِعُوْنَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ كَثُرَ المُسْلِمُوْنَ؛ وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوْتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ فِيْهِ، - وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ مَدْفِنُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؛ بَنَوْا عَلَى القَبْرِ حِيْطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيْرَةً حَوْلَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ - فَيُصَلِّي إِلَيْهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُوْرِ - ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ القَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا؛ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيْثِ: (لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ). (¬4) 2) أَنَّ القَبْرَ مَعْزُوْلٌ عَنِ المَسْجِدِ لَا سِيَّمَا وَأَنَّهُ قَدْ أُحِيْطَ بِجُدْرَانٍ عِدَّةٍ تَعْزِلُهُ عَنِ المَسْجِدِ (¬5)، لِذَلِكَ لَوْ تَقَصَّدَ رَجُلٌ أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ القَبْرِ وَيَرْتَكِبَ المَحْذُوْرَ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيْعَ لِأَنَّ القَبْرَ مَعْزُوْلٌ عَنِ المَسْجِدِ قَدْ أُغْلِقَتْ كُلُّ المَنَافِذِ إِلَيْهِ، فَبِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِ صُوْرَتِهِ صُوْرَةَ قَبْرٌ فِي مَسْجِدٍ. (¬6) وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنَ القَوْلِ بِأَنَّ المَسْجِدَ النَّبَويَّ - عَلَى فَرْضِ أَنَّ الآنَ صُوَرتُهُ صُوْرَةُ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ، فَلَا يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّهْي لِمَا لَهُ مِنْ فَضِيْلَةٍ عُظْمَى فِي مُضَاعَفَةِ أَجْرِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَعْرُوْفٌ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِقَاعِدَةِ (مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيْعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ). (¬7) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الجَوَابُ البَاهِرُ فِي حُكْمِ زِيَارَةِ المَقَابِرِ): (وَالصَّلَاةُ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا؛ بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيْهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَكَانَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ قَبْلَ دُخُوْلِ الحُجْرَةِ فِيْهِ حِيْنَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيْهِ وَالمُهَاجِرُوْنَ وَالأَنْصَارُ، وَالعِبَادَةُ فِيْهِ إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الحُجْرَةِ فِيْهِ؛ فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ). (¬8) ¬

_ (¬1) بَلْ إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا جَعَلَتْ جِدَارًا فِي بيْتِهَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ القَبْرِ، كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ (294/ 2) عَنِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ يَقُوْلُ: (قُسِمَ بَيْتُ عَائِشَة بِاثْنَيْن: قِسْمٌ كَانَ فِيْهِ القَبْرُ، وَقِسْمٌ تَكُوْنُ فِيْهِ عَائِشَةُ، وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ). (¬2) (ص151). (¬3) هَذَا وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ كَثِيْرْةٌ فِي بَيَانِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم عَنْ ذَلِكَ البِنَاءِ وَالاتِّخَاذِ، وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ ثَلَاثَةٌ: أ) أَوْرَدَ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الجَامِعِ الكَبِيْرِ (وَالأَثَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ زَنْجَوِيه) عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَة؛ قَالَ: لَمَّا ائْتَمَرُوا فِي دَفْنِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَقَامِهِ! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَجْعَلَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ. وَقَالَ آخَرُوْنَ: نَدْفِنُهُ فِي البَقِيْعِ حَيْثُ دُفِنَ إِخْوَانُهُ مِنَ المَهَاجِرِيْنَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نُخْرِجَ قَبْرَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى البَقِيْعِ فَيَعُوْذُ بهِ عَائِذٌ مِنَ النَّاسِ - للهِ عَلَيْهِ حَقٌّ - وَحَقُّ اللهِ فَهُوَ حَقُّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنْ أَخَذْنَا بِهِ ضَيَّعْنَا حَقَّ اللهِ، وَإِنْ أَخْفَرْنَاهُ أَخْفَرْنَا قَبْرَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَمَا تَرَى أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ قَبَضَ رُوْحَهُ). قَالُوا: فَأَنْتَ - وَاللهِ - رَضِيُّ مُقْنِعٌ، ثُمَّ خَطُّوا حَوْلَ الفِرَاشِ خَطًّا، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلِيٌّ وَالعبَّاسُ وَالفَضْلُ وَأَهْلُهُ، وَوَقَعَ القَوْمُ فِي الحَفْرِ يَحْفِرُوْنَ حَيْثُ كَانَ الفِرَاشُ. ذَكَرَهُ فِي فِضَائِلِ الصِّدِّيْقِ. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص13): (قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ: (وَهُوَ مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، فَإِنَّ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ - مَعَ ضَعْفِهِ - لَمْ يُدْرِكْ أيَّامَ الصِّدِّيْقِ). كَذَا فِي (الجَامِعِ الكَبِيْرِ) لِلسُّيُوْطِيِّ (3/ 147/12)). ب) رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ (21/ 4) عَنْ سَالِمِ أَبِي النَّضْرِ؛ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ المُسْلِمُوْنَ فِي عَهْدِ عُمَرَ ضَاقَ بِهُمُ المَسْجِدُ؛ فَاشْتَرَى عُمَرُ مَا حَوْلَ المَسْجِدِ مِنَ الدُّوْرِ إِلَّا دَارَ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلبِ وَحُجَرِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلعَبَّاسِ: يَا أَبَا الفَضْلِ إِنَّ مَسْجِدَ المُسْلِمِيْنَ قَدْ ضَاقَ بِهِم، وَقَدْ ابْتَعْتُ مَا حَوْلَهُ منَ المَنَازِلِ نُوَسِّعُ بهِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ فِي مَسْجِدِهِم إِلَّا دَارَكَ وَحُجَرَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، فَأَمَّا حُجُرَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْن فَلَا سَبِيْلَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا دَارُكَ فَبِعْنِيْهَا بِمَا شِئْتَ مِنْ بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِيْنَ أُوَسِّعُ بِهَا فِي مَسْجِدِهِم). جـ) أَنْكَرَ سَعِيْدُ بْنُ المَسَيِّبِ رَحِمَهُ اللهُ (وَقَدْ تُوُفِّيَ بَعْدَ التِّسْعِيْن) ذَلِكَ الِإدْخَالَ, فَقَدْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَارِيْخِهِ (415/ 12) بَعْدَ أَنْ سَاقَ قِصَّةَ إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ: (وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيْدَ بْنَ المُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَة فِي المَسْجِدِ - كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ القَبْرُ مَسْجِدًا -). (¬4) شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 5). تَنْبِيْهٌ) عَزُو إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ إِلَى الصَّحَابةِ لَا يَثْبُتُ؛ كَمَا أَوْضَحَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكِي) (ص151). قُلْتُ: وَفِي (إِكْمَالِ المُعَلِّمِ) (252/ 2) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلقَاضِي عِيَاض: (وَلِهَذَا لَمَّا احْتَاجَ المُسْلِمُوْنَ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكَاثُرِهِم بِالمَدِيْنَةِ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ أُدْخِلَ فِيْهَا بُيُوْتَ أَزْوَاجِهِ)، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّحَابَةَ؛ فَتَنَبَّهْ. (¬5) وَالمَوْجُوْدُ عَلَيْهِ الآنَ مِنَ الجُدْرَانِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ: فَالجِدَارُ الأَوَّلُ - وَهُوَ مُغْلَقٌ تَمَامًا - هُوَ جِدَارُ حُجْرَةِ عَائِشَة

الشبهة الثالثة: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف مع أن فيه قبر سبعين نبيا!

- الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ (¬1) مَعَ أنَّ فِيْهِ قَبْرَ سَبْعِيْنَ نَبِيًّا!! (¬2) وَالجَوَابُ: أَنَّنَا لَا نَشُكُّ فِي صَلَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا المَسْجِدِ؛ وَلَكِنَّنَا نَقُوْلُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الشُّبْهَةِ مِنْ أَنَّهُ دُفِنَ فِيْهِ سَبْعُوْنَ نَبِيًّا!! لَا حُجَّةَ فِيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ: لَا يَصِحُّ. فَإِنَّ فِيْهِ عِيْسَى بْنَ شَاذَان؛ قَالَ فِيْهِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِهِ (الثِّقَاتُ): (يُغَرِّبُ) (¬3)، وَفِيْهِ أَيْضًا إِبْرَاهِيْمُ بْنُ طَهْمَانَ؛ قَالَ فِيْهِ ابْنُ حَجَرٍ: (ثِقَةٌ يُغَرِّبُ). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَنَا أَخْشَى أَنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ تَحَرَّفَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ: (قَبْرُ) بَدَلَ (صَلَّى) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الثَّانِيَ هُوَ المَشْهُوْرُ فِي الحَدِيْثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الكَبِيْرِ) (¬4) بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (صَلَّى فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ سَبْعُوْنَ نَبِيًّا)، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (¬5)، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. 2) مِنْ جِهَةِ المَعْنَى: لَيْسَ فِي الحَدِيْثِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ القُبُوْرَ ظَاهِرْةٌ فِي المَسْجِدِ، وَقَدْ عَقَدَ الأَزْرَقِيُّ (¬6) فِي تَارِيْخِ مَكَّةَ عِدَّةَ فُصُوْلٍ فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ؛ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ فِيْهِ قُبُوْرًا بَارِزَةً، وَمِنَ المَعْلُوْمِ أَنَّ الشَّرِيْعَةَ إِنَّمَا تُبْنَى أَحْكَامُهَا عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي المَسْجِدِ المَذْكُوْرِ قُبُوْرٌ ظَاهِرَةٌ فَلَا مَحْظُوْرَ فِي الصَّلَاةِ فِيْهِ البَتَّةَ، لِأَنَّ القُبُوْرَ مُنْدَرِسَةٌ وَلَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ، بَلْ لَوْلَا هَذَا الخَبَرِ - الَّذِيْ عَرَفْتَ ضَعْفَهُ - لَمْ يَخْطرْ فِي بَالِ أَحَدٍ أَنَّ فِي أَرْضِهِ سَبْعِيْنَ قَبْرًا، وَلِذَلِكَ لَا تَقَعُ فِيْهِ تِلْكَ المَفْسَدَةُ الَّتِيْ تَقَعُ عَادَةً فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُوْرِ الظَّاهِرَةِ وَالمُشْرِفَةِ. (¬7) ¬

_ (¬1) قَالَ الجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ (الصِّحَاحُ) (1359/ 4): (الخَيْفُ: مَا انْحَدَرَ عَنْ غِلَظِ الجَبَلِ وَارْتَفَعَ عَنْ مَسِيْلِ المَاءِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ مَسْجِدُ الخَيْفِ بِمِنَى). (¬2) رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (414/ 12) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا (فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ قَبْرُ سَبْعِيْنَ نَبِيًّا). وَسَيَأْتِي بَيَانُ كَوْنِهِ ضَعِيْفًا. (¬3) (الثِّقَاتُ) (494/ 8). وَمَعْنَى (يُغَرِّبُ): أَيْ: يَأْتِي بِالغَرَائِبِ عَلَى أقْرَانِهِ فِي الحَدِيْثِ. انْظُرْ كِتَابَ (تَوْضِيْحُ الأَفْكَارِ) (167/ 2) لِلصَّنْعَانيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) المُعْجَمُ الكَبِيْرُ (452/ 11). (¬5) المُعْجَمُ الأَوْسَطُ (5407). (¬6) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الوَلِيْدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ الأَزْرَقِ؛ أَبُو الوَلِيْدِ الأَزْرَقِيُّ: مُؤرِّخٌ يَمَانِيُّ الأَصْلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. قَالَهُ الزِّرِكْلِيُّ فِي الأَعْلَامِ (222/ 6). (¬7) وَمِثْلُهَا فِي الشُّبْهَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِسْمَاعِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَدْفُوْنٌ فِي الحِجْرِ مِنَ البَيْتِ, وَعُلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الحِجْرِ مُسْتَحَبَّةٌ!! وَالجَوَابُ عَنْهَا هُوَ كَمَا سَبَقَ آنِفًا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الكَلَامُ مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِه فَإِنَّ هَذَا القَبْرَ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ فَزَالَتِ العِلَّةُ. وَالحَمْدُ للهِ.

الشبهة الرابعة: بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجدا على قبر أبي بصير

- الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: بِنَاءُ أَبِي جَنْدَلٍ مَسْجِدًا عَلَى قَبْرِ أَبِي بَصِيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الاسْتِيْعَابِ لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ -! وَالجَوَابُ: 1) أنَّ هَذَا الأَثَرَ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ تَقُوْمُ بِهِ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الحَدِيْثِ المَعْرُوْفَةِ المَشْهُوْرَةِ، وَإنَّمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَصِيْرٍ مِنْ كِتَابِهِ (الاسْتِيْعَابُ) (¬1) مُرْسَلًا فَقَالَ: (وَلَهُ قِصَّةٌ فِي المَغَازِي عَجِيْبَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ؛ وَفِيْهَا (فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَل مَكَانَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَبَنَى عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا)). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الكِتَابِ: (وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ (بَنَى عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا) مُعْضَلَةٌ مُنْكَرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ). 2) أَنَّهُ لَيْسَ فِي القِصَّةِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ وَأَقرَّهُ. 3) أَنَّهُ لَو فَرَضْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِذَلِكَ وَأَقَرَّهُ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ، لِأَنَّ الأَحَادِيْثَ صَرِيْحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ - كَمَا سَبَقَ - فَلَا يَجُوْزُ أَنْ يُتْرَكَ النَّصُّ المُتَأَخِّرُ مِنْ أَجْلِ النَّصِّ المُتَقَدِّمِ - عَلَى فَرَضِ صِحَّتِهِ -. (¬2) ¬

_ (¬1) الاسْتِيْعَابُ (1612/ 4). (¬2) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ (300/ 25) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ (وَجَعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا) بَدَلَ (عَلَى قَبْرِهِ). وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ أَيْضًا، فَلَمْ يَعُدْ فِيْهِ حُجَّةٌ عَلَى المَقْصُوْدِ. وَفِي كِتَابِ (فَتْحُ البَارِي) (351/ 5) قَوْلُ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ (وَفِي رِوَايَةِ مُوْسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ (فكَتَبَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَصِيْرٍ، فَقَدِمَ كِتَابُهُ - وَأَبُو بَصِيْرٍ يَمُوْتُ -، فَمَاتَ - وَكِتَابُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ - فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَلٍ مَكَانَهُ، وَجَعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا)). قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ الدُّوَيْش رَحِمَهُ اللهُ - فِي التَّعْلِيْقِ عَلَى فَتْحِ البَارِي لِابْنِ حَجَرٍ -: (هَذَا لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ إِمَّا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، خُصُوْصًا مَرَاسِيْلُ الزُّهْرِيِّ؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَضْعَفِ المَرَاسِيْلِ؛ كَمَا روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِهِ (الجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ) (246/ 1) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيْدٍ القَطَّانِ (أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى إِرْسَالَ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ شَيْئًا، وَيَقُوْلُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيْحِ، وَيَقُوْلُ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ حُفَّاظٌ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا شَيْئًا عَقَلُوْهُ)، وَأَيْضًا يُعَارِضُهُ مَا تَقَدَّمُ مِنَ الأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيْمِ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ). قُلْتُ: فَالأَثَرُ الَّذِيْ فِي الفَتْحِ مُنْقَطِعٌ، وَلَيْسَ فِيْهِ البِنَاءُ عَلَى القَبْرِ نَفْسِهِ. وَالحَمْدُ للهِ.

الشبهة الخامسة: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبور مساجد؛ إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور! وقد زالت العلة اليوم

- الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ: زَعَمَ بَعْضُهُم أَنَّ المَنْعَ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ؛ إِنَّمَا كَانَ لِعِلَّةِ خَشْيَةِ الافْتِتَانِ بِالمَقْبُوْرِ! وَقَدْ زَالَتِ العِلَّةُ اليَوْمَ بِرُسُوْخِ الإِيْمَانِ وَالتَّوْحِيْدِ فِي قُلُوْبِ المُؤْمِنِيْنَ؛ فَزَالَ المَنْعُ! (¬1) وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم إِنَّمَا دَفَنُوْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا، فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى مِنْهُم - أَيْ: مِنْ جِهَةِ الافْتِتَانِ -، وَأَيْضًا التَّابِعُوْنَ وَمَنْ بَعْدَهُم أَمَرُوا بِذَلِكَ وَعَمِلُوا بِهِ، كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ؛ قَالَ: قَالَ لِيْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِيْ عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَدَعَنَّ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ، وَلَا صُوْرَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا). (¬2) (¬3) 2) دَلَّتِ السُّنَّةُ الشَّرِيْفَةُ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ سَيَقَعُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ - وَهُوَ وَاقِعٌ الآنَ - وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ الغُلُوَّ فِي قُبُوْرِ الصَّالِحِيْنِ هُوَ أَهَمُّ أَسْبَابِهَا، وَعَلَيْهِ فَلَمْ تُؤْمَنْ فِتْنَةُ الشِّرْكِ بَعْدُ، وَانْظُرْ مَا جَاءَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الشِّرْكَ وَاقعٌ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ: - (لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِيْ الخَلَصَةِ، وَذُوْ الخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِيْ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ فِي الجَاهِلِيَّةِ). (¬4) (¬5) - (لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى). فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِيْنَ أَنْزَلَ اللهُ {هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِالهُدَى وَدِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْنَ} (التَّوْبَة:33) أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا. قَالَ: (إنَّهُ سَيَكُوْنُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيْحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيْمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فيهِ فَيَرْجِعُوْنَ إِلَى دِيْنِ آبَائِهِم). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬6) - (لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ منْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِيْنَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأوْثانَ). (¬7) - (لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللهُ اللهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬8)، وَفِي رِوَايَةٍ أَحْمَدَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ). (¬9) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (208/ 3): (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ المَنْعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ حَالَ خَشْيَةِ أَنْ يُصْنَعَ بِالقَبْرِ كَمَا صَنَعَ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لُعِنُوا، وَأَمَّا إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ فَلَا امْتِنَاعَ وَقَدْ يَقُوْلُ بِالمَنْعِ مُطْلَقًا مَنْ يَرَى سَدَّ الذَّرِيْعَةِ - وَهُوَ هُنَا مُتَّجِهٌ قَوِيٌّ -). قَالَ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيْقِهِ عَلَى الفَتْحِ: (بَلْ هَذَا هُوَ الحَقُّ, لِعُمُوْمِ الأَحَادِيْثِ الوَارِدَةِ بِالنَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ, ولَعْنِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ, وَلِأَنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الشِّرْكِ بِالمَقْبُوْرِيْنَ فِيْهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى أَصْحَابِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيْثِ (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم الشِّرْكُ الأَصْغَرُ) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (23630) عَنْ مَحْمُوْدِ بْنِ لَبِيْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (951). بَلْ إِبْرَاهِيْمُ نَفْسُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} (إِبْرَاهِيْم:35) فَهَلْ يُؤْمَنُ عَلَى غَيْرِهِ؟! بَلْ أَقُوْلُ: لَا يَأْمَنُ الفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا مَفْتُوْنٌ. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ المُوَفِّقُ وَهُوَ الهَادِي لِلصَّوَابِ. (¬2) مُسْلِمٌ (969). (¬3) قَالَ المَعْرُوْرُ بْنُ سُوَيْدٍ الأَسَدِيُّ؛ خَرَجْتُ مَعَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِيْنَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا صَلَّى بِنَا الغَدَاةَ، ثُمَّ رَأَى النَّاسَ يَذْهَبُوْنَ مَذْهَبًا، فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ هَؤلَاءِ؟ قَيْلَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! مَسْجِدٌ صَلَّى فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ يَأْتُوْنَهُ يُصَلُّوْنَ فِيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِمِثْلِ هَذَا - يَتَّبِعُوْنَ آثَارَ أَنْبِيَائِهِم، فَيَتَّخِذُوْنَهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا -، مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ المَسَاجِدِ فَلْيُصَلِّ؛ وَمَنْ لَا فَلْيَمْضِ، وَلَا يَتَعَمَّدْهَا). صَحِيْحٌ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي المُصَنِّفِ (7550). اُنْظُرْ تَخْرِيْجَ أَحَادِيْثِ فَضَائِل الشَّامِ وَدِمَشْقَ (ص50) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) البُخَارِيُّ (7116)، وَمُسْلِمٌ (2906) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬5) وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا جَرِيْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ البَجَليُّ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3020)، وَفِيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا تُرِيْحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟) فَقَالَ جَرِيْرٌ: فَنَفَرْتُ فِي مَائَةٍ وَخَمْسِيْنَ رَاكِبًا، فَكَسَرْنَاهُ، وقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ) - وَفِي لَفْظٍ لَهُ (4357) - (كَانَ ذُو الخَلَصَةِ بَيْتًا بِاليَمَنِ لِخَثْعَمَ وبَجِيلةَ؛ فِيْهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ، يُقَالُ لَهَا: الكَعْبَةُ، قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا). (¬6) مُسْلِمٌ (2907). (¬7) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4252) عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2654). (¬8) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّذْكِرَةُ) (ص1351): (قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِم: قُيِّدَ (الله) بِرَفْعِ الهَاءِ وَنَصْبِهَا، فَمَنْ رَفَعَهَا؛ فَمَعْنَاهُ ذَهَابُ التَّوْحِيْدِ، وَمَنْ نَصَبَهَا؛ فَمَعْنَاهُ انْقِطَاعُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ. أَيْ: لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُوْلُ: اتَّقِ اللهَ). (¬9) مُسْلِمٌ (148)، وَأَحْمَدُ (13833) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا.

الشبهة السادسة: أن مسجد بني أمية (المسجد الأموي) منذ دخل إليه الصحابة وغيرهم لم ينكروا وجود قبر يحيى عليه السلام!

- الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ مَسْجِدَ بَنِي أُمَيَّةَ (المَسْجِدَ الأُمَوِيَّ) مُنْذَ دَخَلَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُم لَمْ يُنْكِرُوا وُجُوْدَ قَبْرِ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ المَسْجِدَ الأُمَويَّ إِنَّمَا أَنْشَأَهُ الوَلِيْدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ رَحِمَهُ اللهُ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ جُزْءًا مِنْ مَعْبَدٍ رُوْمَانِيٍّ أَوْ كَنِيْسَةٍ؛ وَاسْتَغَلَّ بِنَاءَهُ وَهَيْئَتَهُ لِيَكُوْنُ مَسْجِدًا، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ صَلَّى فِيْهِ مِنَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ (¬1) أَنَّهُ رَأَى قَبْرًا فِيْهِ أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ شَأْنِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الاسْتِدْلَالِ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ أَصْلًا. 2) دَعْوَى أَنَّ فِيْهَا قَبْرَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ اخْتِلَاقٍ. وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ: أ) عَدَمُ وُجُوْدِ الدَّلِيْلِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُم أَثْنَاءَ العَمَلِيَّاتِ فِيْهِ - عَمَلِيَّاتِ الإِصْلَاحِ لِجَعْلِهِ مَسْجِدًا - وَجَدُوا فِيْهِ مَغَارَةً فِيْهَا صُنْدُوْقٌ فِيْهِ رَأْسٌ؛ وَكُتِبَ عَلَى الصُّنْدُوْقِ: هَذَا رَأْسُ يَحْيَى، فَأَمَرَ الوَلِيْدُ بِإِبْقَائِهِ فِي مَكَانِهِ وَجَعَلَ العَمُوْدَ الَّذِيْ فَوْقَهُ مُغَيَّرًا مِنَ الأَعْمِدَةِ، فَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ قَبْرٌ! بَلْ أَبْقَاهُ فِي مَغَارَتِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذَا الأَثَرُ إِسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ جِدًّا أَيْضًا، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ (¬2)، وَفِي الإِسْنَادِ إِبْرَاهِيْمُ بْنُ هِشَامٍ الغَسَّانِيُّ، وَهُوَ كَذَّابٌ. (¬3) ب - أَنَّ جُمْهُوْرَ المُؤَرِّخِيْنَ ذَكَرُوا أَنَّ رَأْسَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ فِي مَسْجِدٍ فِي حَلَبَ، وَلَيْسَ فِي المَسْجِدِ الأُمَوِيِّ. (¬4) وَبَعْدَ هَذَا البَيَانِ لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ فِيْهِ قَبْرٌ؛ العِبْرَةُ فِيْهِ بِالظَّاهِرِ وَلَيْسَ بِالحَقِيْقَةِ، فَوُجُوْدُ بِنَاءٍ أَوْ مَقَامٍ أَوْ قُبَّةٍ عَلَى قَبْرٍ هُوَ كَافٍ فِي النَّهْي خَشْيَةَ الافْتِتَانِ، وَلَوْ لَمْ يُوْجَدْ فِيْهِ مَقْبُورٌ أَصْلًا. وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَذَلِكَ لِوُجُوْدِ عِلَّةِ النَّهْي فِي الحَالَتَيْنِ، وَلِأَنَّ تَمْيِيْزَ حَقِيْقَةِ المَقْبُوْرِ فِي القَبْرِ لَيْسَ بِمُسْتَطَاعٍ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّةً بَعْدَ مُرُوْرِ أَزْمِنَةٍ مِنْ وُجُوْدِ القَبْرِ فِي المَسْجِدِ. (¬5) ¬

_ (¬1) وَقَدْ ثَبَتَ أنَّه قَدْ صَلَّى فِيْهِ كَثِيْرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم كَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَثَوْبَانَ. (¬2) تَارِيْخُ دِمَشْقَ (241/ 2). (¬3) اُنْظُرْ كِتَابَ (مِيْزَانُ الاعْتِدَالِ) (73/ 1). (¬4) وَقَدْ ذَكَرَ الكَاتِبُ إِحْسَانُ عَبَّاس فِي كِتَابِهِ (شَذَرَاتٌ مِنْ كُتُبٍ مَفْقُوْدَةٍ فِي التَّارِيْخِ) (57/ 1) - نَقْلًا عِنْ تَارِيْخِ ابْنِ العَظِيْمِيِّ التَّنُوْخِيِّ -: ((سَنَةَ (435هـ): فِيْهَا ظَهَرَ بِبَعْلَبَك فِي حَجَرٍ مَنْقُوْرٍ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَنُقِلَ إِلَى حِمْصَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى مَدِيْنةِ حَلَبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِهَذَا المَقَامِ المَذْكُوْرِ فِي جُرْنٍ مِنَ الخَامِ الأَبْيَضِ، وَوُضِعَ فِي خِزَانَةٍ إِلَى جَانِبِ المِحْرَابِ، وَأُغْلِقَتْ وَوُضِعَ عَلَيْهَا سِتْرٌ يَصُوْنُهَا). (¬5) كَمَا فِي رَدِّ العَلَّامَةِ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مِرْقَاةُ المَفَاتِيْحِ) (601/ 2) عَلَى شُبْهَةِ كَوْنِ قَبْرِ إِسْمَاعِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الحَطِيْمِ (الحِجْرِ) عِنْدَ المِيْزَابِ فَقَالَ: (وَفِيْهِ أَنَّ صُوْرَةَ قَبْرِ إِسْمَاعِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُ مُنْدَرِسَةٌ فَلَا يَصْلُحُ الاسْتِدْلَالُ بِهِ).

- الفصل الخامس: في حكمة تحريم بناء المساجد على القبور

- الفَصْلُ الخَامِسُ: فِي حِكْمَةِ تَحْرِيْمِ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ: اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ تَبَارَك وَتَعَالَى - وَقَدْ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَجَعَلَ شَرِيْعَتَهُ خَاتِمَةَ الشَّرَائِعِ - أَنْ يَنْهَى عَنْ كُلِّ الوَسَائِلِ الَّتِيْ يُخْشَى أَنْ تَكُوْنَ ذَرِيْعَةً - وَلَوْ بَعْدَ حِيْنٍ - لِوقُوْعِ النَّاسِ فِي الشِّركِ؛ الَّذِيْ هُوَ أَكْبَرُ الكَبَائِرِ، فَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ كَمَا نَهَى عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا وَاتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا.

- الفصل السادس: في حكم الصلاة في المساجد المبنية على القبور

- الفَصْلُ السَّادِسُ: فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُوْرِ: اعْلَمْ أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ المَسَاجِدِ هُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ العُلَمَاءِ, وَإنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي بُطْلَانِهَا. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الحَنَابِلَةِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ. وَالحُكْمُ هُوَ عَلَى دَرَجَاتٍ: 1) مَنْ تَقَصَّدَ المَسْجِدَ لِأَجْلِ القَبْرِ؛ فَالصَّلَاةُ مُحَرَّمَةٌ، بَلْ وَبَاطِلَةٌ. (¬1) 2) مَنْ لَمْ يَتَقَصَّدِ المَسْجِدَ لِأَجْلِ القَبْرِ، فَيُقَالُ: إِنَّ الصَّلَاةَ مَنْهيٌّ عَنْهَا، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ البُطْلَانُ. (¬2) 3) مَنْ لَمْ يَتَقَصَّدِ المَسْجِدَ لِأَجْلِ القَبْرِ، وَإنَّمَا صَلَّى اتِّفَاقًا - أَيْ صَادَفَهُ القَبْرُ -، فَهَذَا إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُدْرِكَ الجَمَاعَةَ فِي غَيْرِهِ مِنَ المَسَاجِدِ كَانَ هَذَا هُوَ الوَاجِبُ فِي حَقِّهِ، وَإلَّا صَلَّى فِيْهِ لِإِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ الوَاجِبَةِ فِي حَقِّهِ. (¬3) - فَائِدَةٌ) لَا تُصَلَّى فِي المَقْبَرَةِ إِلَّا الجَنَازَةُ: (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬5): (قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: (وَقَدْ قَالَ نَافِعُ - مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ -: صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَة وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسَطَ البَقِيْعِ، وَالإِمَامُ يَوْمَئِذٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ). (¬6) قُلْتُ: وَصَلَاةُ الجَنَازَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْي عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: (لَا يُصَلَّى فِي مَسْجِدٍ بَيْنَ المَقَابِرِ إِلَّا الجَنَائِزُ؛ لِأَنَّ الجَنَائِزَ هَذِهِ سُنَّتُهَا) يُشِيْرُ إِلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: (وَرُوِّيْنَا أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ كَانَ يُصَلِّي فِي المَقْبَرَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَتِرُ بِقَبْرٍ) (¬7)). قُلْتُ: فَتُصَلَّى الجَنَازةُ فِي المُصَلَّى الخَاصِّ بِهَا عِنْدَ المَقْبَرَةِ، وَلَيْسَ بَيْنَ القُبُوْرِ، وَذَلِكَ لِحَدِيْثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهى أَنْ يُصَلَّى عَلَى الجَنَائِزِ بَيْنَ القُبُوْرِ). (¬8) وَأَمَّا حَدِيْثُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِيْ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ فَجَائِزَةٌ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ، وَلَكِنَّ التَّفْرِيْقَ بَيْنَ الحَالَتِيْنِ هُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَلَاةِ الجَنَازَةِ بَيْنَ القُبُوْرِ هُوَ قَبْلَ دَفْنِ المَيِّتِ، أَمَّا صُوْرَةُ الحَالَةِ الثَّانيةِ عِنْدَ القَبْرِ فَهِيَ بَعْدَ الدَّفْنِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا (¬9)، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الأَدِلَّةُ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬10) ¬

_ (¬1) خَاصَّةً أَنَّ عِلَّةَ النَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القَبْرِ مَسْجِدًا هِيَ نَفْسُ تِلْكَ المَوْجُوْدَةِ فِي هَذَا التَّقَصُّدِ؛ وَهِيَ الافْتِتَانُ بِالميِّتِ وَالتَّعَلُّقُ بِهِ دُوْنَ اللهِ تَعَالَى؛ سَوَاءً كَانَ المُسَمَّى بِذَلِكَ القَصْدِ شَفَاعَةً أَوْ تَوَسُّلًا أَوْ تَوَسُّطًا إِلَى اللهِ تَعَالَى. (¬2) قُلْتُ: وَلَعلَّهُ أَيْضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ؛ حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِهِ (الأُمُّ) (317/ 1): (وَأكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَوَّى - يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوْفٌ - أَوْ يُصَلَّى إِلَيْهِ. قَالَ: وَإنْ صَلَّى إِلَيْهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الكِتَابِ: (إِنَّ المَسْأَلَةَ بِحَاجَةٍ لِتَوْسِيْعٍ أَكْثَرَ فِي البَحْثِ، عِلْمًا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الحَنَابِلَةِ - كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هُوَ البُطْلَانُ). (¬3) قَالَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش543)، وَهُوَ عَلَى قَاعِدَةِ (مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيْعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ). (¬4) كَمَا فِي الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي البُخَارِيِّ (460)، وَمُسْلِمٍ (956) فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجَنَازَةَ عِنْدَ قَبْرِ المَرْأَةِ الَّتِيْ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ. (¬5) (197/ 3). (¬6) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الكِتَابِ (ص124): (أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنَّفِ (1594/ 407/1) بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ نَافِعٍ). (¬7) رَوَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ فِي الأَوْسَطِ (183/ 2 - 185/ 2)، وَفِيْهِ خَالِدُ بنُ يَزِيْدَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي مَالِكٍ الهَمْدَانِيُّ؛ ضَعَّفُوْهُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (مِيْزَانُ الاعْتِدَالِ) (645/ 1). (¬8) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (5631). أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص108) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬9) قَالَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش231). (¬10) وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ - كَالمُنَاوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (341/ 6) - إِلَى أَنَّ النَّهيَ هُوَ لِلكَرَاهَةِ التَّنْزِيهيَّةِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا فِي حَدِيْثِ المَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِيْ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذِهِ القُبُوْرَ مَمْلُوْءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا عَلَيْهِمْ بِصَلَاتِي) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (956) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} (التَّوْبَة:103). قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ فِي التَّفْسِيْرِ (454/ 14): (إِنَّ دُعَاءَكَ وَاسْتِغْفَارَكَ طَمَأْنِيْنَةٌ لَهُمْ). قُلْتُ: وَلَكِنْ سَبَقَ مَعَنَا قَوْلُ نَافِعٍ (صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَة وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسَطَ البَقِيْعِ). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

- الفصل السابع: في أن الحكم السابق يشمل جميع المساجد إلا المسجد النبوي

- الفَصْلُ السَّابِعُ: فِي أَنَّ الحُكْمَ السَّابِقَ يَشْمَلُ جَمِيْعَ المَسَاجِدِ إِلَّا المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، وَذَلِكَ لِفَضِيْلَةِ الصَّلَاةِ فِيْهِ بِأَلْفٍ مِمَّا سِوَاهُ، وَأَيْضًا لِوُجُوْدِ الرَّوْضَةِ الشَّرِيْفَةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1)، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الفَضَائِلِ؛ فَلَوْ قِيْلَ بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيْهِ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ تَسْوِيَتُهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ المَسَاجِدِ وَرَفْعَ هَذِهِ الفَضَائِلِ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَجُوْزُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (¬2): (وَالصَّلَاةُ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا؛ بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيْهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَكَانَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ قَبْلَ دُخُوْلِ الحُجْرَةِ فِيْهِ؛ حِيْنَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيْهِ وَالمُهَاجِرُوْنَ وَالأَنْصَارُ، وَالعِبَادَةُ فِيْهِ إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الحُجْرَةِ فِيْهِ؛ فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ). ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1196)، وَمُسْلِمٌ (1391) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (348/ 27).

باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ الغُلُوُّ فِي قُبُوْرِ الصَّالِحِيْنَ يُصَيِّرُهَا أَوْثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ رَوَى مَالِكُ فِي المُوَطَّأ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ؛ اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَىَ قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ). (¬1) وَلِابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ؛ عَنْ مَنْصُورٍ؛ عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى} (النَّجْم:19) قَالَ: كَانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيْقَ؛ فَمَاتَ فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ. (¬2) وَكَذَا قَالَ أَبُو الجَوْزَاءِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (كَانَ يَلُتُّ السَّوِيْقَ لِلْحَاجِّ). (¬3) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: (لَعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ القُبُوْرِ وَالمُتّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ). رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. (¬4) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ الأَوْثَانِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ العِبَادَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَعِذْ إِلَّا مِمَّا يُخَافُ وُقُوعُهُ. الرَّابِعَةُ: قَرْنُهُ بِهَذَا اتِّخَاذَ قُبُوْرِ الأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ. الخَامِسَةُ: ذِكْرُ شِدَّةِ الغَضَبِ مِنَ اللهِ. السَّادِسَةُ: وَهِيَ مِنْ أَهَمِّهَا؛ مَعْرِفَةُ صِفَةِ عِبَادَةِ اللَّاتِ - الَّتِيْ هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الأَوْثَانِ -. السَّابِعَةُ: مَعْرِفَةُ أَنَّهُ قَبْرُ رَجُلٍ صَالِحٍ. الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ اسْمُ صَاحِبِ القَبْرِ، وَذِكْرُ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ. التَّاسِعَةُ: لَعْنُهُ زَوَّارَاتِ القُبُوْرِ. العَاشِرَةُ: لَعْنُهُ مَنْ أَسْرَجَهَا. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. المُوَطَّأ (172/ 1) (وَلَكِنَّهُ عِنْدَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ، لِأَنَّهُ عَنْ عَطَاءٍ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ)، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (7358) بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا بِلَفْظ (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا؛ لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ). أَحْكَامُ الجَنَائِزِ لِلشَّيْخِ (ص216) الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (523/ 22). (¬3) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (523/ 22). (¬4) صَحِيْحٌ بِلَفْظِ (زَوَّارَاتِ)، وَبِدُوْنِ لَفْظِ (السُّرُجِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (1056) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَسَّان مَرْفُوْعًا. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَمَامُ المِنَّةِ) (ص257): (هَذَا الحَدِيْثُ - عَلَى شُهرتِهِ - ضَعِيْفُ الإِسْنَادِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ بَاذَام عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَاذَامُ ضَعَّفَهُ الجُمْهُوْرُ؛ بَلِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُم بِالكَذِبِ كَمَا ذَكَرْتُهُ فِي أَحْكَامِ الجَنَائِزِ، نَعَمْ؛ الحَدِيْثُ صَحِيْحٌ لِغَيْرِهِ بِلَفْظِ: (زَوَّارَات) لِأَنَّ لَهُ شَوَاهِدَ؛ غَيْرَ (السُّرُجِ) فَلَمْ أَجِدْ لَهُ شَاهِدًا فَيَبْقَى عَلَى ضَعْفِهِ). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ) (ص232): (وَأَمَّا الجُمْلَةُ الأُوْلَى مِنَ الحَدِيْثِ فَصَحِيْحَةٌ؛ لَهَا شَاهِدَان مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ (قُلْتُ: عِنْدَ ابْنِ مَاجَه، وَبِلَفْظِ زَوَّارَات) أَوْرَدْتُهُمَا فِي المَسْأَلَةِ (119 ص 185،186). وَأَمَّا الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ صَحِيْحَةٌ أَيْضًا مُتَوَاتِرَةُ المَعْنَى). قُلْتُ: أَي بُدُوْنِ لَفْظِ السُّرُجِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (200/ 3) - فِي شَرْحِ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا -: (وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي (كِتَابِ التَّفْصِيْلِ): هَذَا الحَدِيْثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَأَبُو صَالِحٍ بَاذَام قَدْ اتَّقَى النَّاسُ حَدِيْثَهُ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).

الشرح

الشِّرْحُ - قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ): (يُعْبَدُ) صِفَةٌ لِلوَثَنِ، وَهِيَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، أَيْ: إَنَّ القُبُوْرَ تَصِيْرُ أَوْثَانًا إِذَا عُبِدَتْ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى. (¬1) - قَوْلُهُ (لِابْنِ جَرِيْرٍ): هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيْرٍ بْنِ يَزِيْدَ الطَّبَرِيُّ (¬2)، صَاحِبُ التَّفْسِيْرِ وَالتَّارِيْخِ وَالأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ: (لَا أَعْلَمُ عَلَى الأَرْضِ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيْرٍ، وَكَانَ مِنَ المُجْتَهِدِيْنَ لَا يُقَلِّدُ أَحَدًا)، (ت 310 هـ)). وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ (مُحَمَّدِ بنِ جَرِيْرِ بنِ رُسْتُمٍ؛ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ) فَهَذَا الأَخِيْرُ رَافِضِيٌ. (¬3) - قَوْلُهُ (عَنْ سُفْيَانَ) الظَّاهِرُ: أَنَّهُ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيْدٍ بْنِ مَسْرُوْقٍ الثَّوَرِيُّ؛ أَبُو عَبْدِ اللهِ الكُوْفِيُّ، ثِقَةٌ حَافِظٌ فَقِيْهٌ إِمَامٌ عَابِدٌ، كَانَ مُجْتَهِدًا; وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَتَفَقَّهُوْنَ عَلَى مَذْهَبِهِ، (ت 161 هـ)، مِنْ طَبَقَةِ كِبَارِ الأَتْبَاعِ الَّذِيْنَ لَمْ يَلْقَوا الصَّحَابَةَ. (¬4) - قَوْلُهُ (عَنْ مَنْصُورٍ): هُوَ ابْنُ المُعْتَمِرِ؛ أَبُو عَتَّابٍ السُّلَمِيُّ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ فَقِيْهٌ، (ت 132 هـ)، مِنَ الطَّبَقةِ الصُغْرَى مِنَ التَّابِعِيْنَ. (¬5) - قَوْلُهُ (عَنْ مُجَاهِدٍ): هُوَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ؛ أَبُو الحَجَّاجِ المَخْزُوْمِيُّ المَكِّيُّ، ثِقَةٌ إِمَامٌ فِي التَّفْسِيْرِ، أَخَذَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، (ت 104 هـ)، مِنَ الطَّبَقَةِ الوسْطَى مِنَ التَّابِعِيْنَ. (¬6) - قَوْلُهُ (أَبُو الجُوْزَاءِ): هُوَ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّبَعِيُّ، (ت 83 هـ)، مِنَ الطَّبَقةِ الوسْطَى مِنَ التَّابِعِيْنَ. (¬7) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (423/ 1): (صَحِيْحٌ أَنَّهُ يُوْجَدُ أُنَاسٌ يَغْلُوْنَ فِيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى جَعْلِ قَبْرِهِ وَثَنًا، وَلَكِنْ قَدْ يَعْبُدُوْنَ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ فِي مَكَانٍ بَعِيْدٍ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَتَوَجَّهُ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَائِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، فَيَكُوْنُ قَدْ اتَّخَذَهُ وَثَنًا، لَكِنَّ القَبْرَ نَفْسُهُ لَمْ يُجْعَلْ وَثَنًا). قُلْتُ: وَقَدْ حَمَى اللهُ تَعَالَى القَبْرَ بِأَنْ جَعَلَ حَوْلَهُ مِنَ الجُدْرَانِ مَا لَا يَقْدِرُوْنَ مَعَهُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ وَاسْتِلَامِهِ أَصْلًا. (¬2) وَهُوَ غَيْرُ الشَّيْخِ مُحِبِّ الدِّيْنِ الطَّبَرِيِّ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ شَيْخِ الحَرَمِ؛ وَهُوَ فَقِيْهٌ مُحَدِّثٌ شَافِعِيٌّ (ت 694 هـ)، لَهُ كِتَابُ الأَحْكَامِ فِي الحَدِيْثِ. وَهُمَا أَيْضًا غَيْرُ الشَّيْخِ الكَيَا الطَّبَرِيِّ؛ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الهَراسيِّ، أَبِي الحَسَنِ؛ عِمَادِ الدِّيْنِ، وَهُوَ فَقِيْهٌ شَافِعِيٌّ (ت 504 هـ)، لَهُ كِتَابُ شِفَاءِ المُسْتَرْشِدِيْنَ، وَنَقْضُ مُفْرَدَاتِ أَحْمَدَ، وَكُتُبٌ فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ. (¬3) اُنْظُرْ سِيَرَ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (282/ 14)، (267/ 14) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) وَأَمَّا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الهِلَالِيُّ؛ فَإِنَّ وَفَاتَهُ سَنَةَ (198 هـ). اُنْظُرْ سِيَرَ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (229/ 7) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬5) اُنْظُرْ سِيَرَ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (402/ 5) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬6) اُنْظُرْ سِيَرَ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (449/ 4) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬7) اُنْظُرْ (الثِقَاتُ) لِابْنِ حِبَّانَ (42/ 4).

- السَّوِيْقُ: هُوَ الحَبُّ (مِنْ قَمْحٍ أَوْ شَعِيْرٍ) يُحْمَصُ عَلَى النَّارِ، ثُمَّ يُطْحَنُ، ثُمَّ يُوْضَعُ مَعَهُ سَمْنٌ أَوْ زَيْتٌ وَيُخْلَطُ وَيُؤْكَلُ، وَقَدْ يَكُوْنُ مَعَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. - (اللَّاتُ): بِالتَّخْفِيْفِ، وَأَيْضًا بِالتَّشْدِيْدِ، فَعَلَى الأَوَّلِ: اللَّاتُ: اشْتِقَاقٌ مِنَ اللهِ، وَهُوَ تَأْنِيْثٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُوْلُوْنَ -. وَعَلَى الثَّانِي: اللَّاتُّ: مِنَ اللَّتِّ، حَيْثُ كَانَ يَلُتُّ السَّوِيْقَ لِلحَاجِّ. (¬1) - اللَّاتُ (¬2): كَانَتْ صَخْرَةً بَيْضَاءَ مَنْقُوْشَةً، عَلَيْهَا بَيْتٌ وَأَسْتَارٌ (¬3) وَسَدَنَةٌ وَحَوْلَهُ فِنَاءٌ مُعظَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَهُمْ ثَقِيْفٌ وَمَنْ تَبِعَهَا، بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا المُغِيْرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَهَدَمَهَا وَحَرَّقَها بِالنَّارِ. وَالعُزَّى (¬4): كَانَتْ شَجَرَةً عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَأَسْتَارٌ بِنَخْلَة (مَكَانٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ) كَانَتْ قُرَيْشُ يُعَظِّمُونَها، وَلَمَّا فَتَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيْدِ إِلَيْهَا فَهَدَمَهَا. وَأَمَّا مَنَاةُ (¬5): فَصَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَالأَوْسُ وَالخَزْرَجُ يُعَظِّمُونَهَا وَيُهِلُّونَ مِنْهَا لِلحَجِّ، بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَهَدَمَهَا عَامَ الفَتْحِ. (¬6) وَسُمِّيَتْ بِـ (مَنَاة) لِكَثْرَةِ مَا يُمْنَى (يُرَاقُ) عَلَيْهَا مِنَ الدِّمَاءِ. ¬

_ (¬1) اللَّتُّ: الدَّقُّ وَالشَّدُّ وَالإِيْثَاقُ وَالفَتُّ وَالسَّحْقُ. القَامُوْسُ المُحِيْطُ (ص159). (¬2) هَذِهِ الأَوْثَانُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ لِأَهْلِ الحِجَازِ، وَلِهَذَا نُصَّ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا، وَإِلَّا فَفِي الحِجَازِ أَوْثَانٌ غَيْرُهَا كَثِيْرَةٌ، وَلَكِنَّ الفِتْنَةَ بِهَا أَشَدُّ. وَهَذِهِ الصَّخْرَةُ تَرْمُزُ لِرَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ يَجْلِسُ عِنْدَهَا. قَالَ القُرْطُبُيُّ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيرِ (100/ 17): (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كَانَ (اللَاتُ) يَبِيْعُ السَّوِيْقَ وَالسَّمْنَ عِنْدَ صَخْرَةٍ وَيَصُبُّهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَبَدَتْ ثَقِيفُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ إِعْظَامًا لِصَاحِبِ السَّوِيْقِ). (¬3) إِنَّ وُجُوْدَ البَيْتَ وَالأَسْتَارَ عَلَى الصَّنَمِ هُوَ لِتُضَاهَى بِهِ الكَعْبَةُ؛ فَيُعْتَكَفُ عِنْدَهَا وَيُطَافُ بِهَا، كَالكَعْبَةِ اليَمَانِيَّةِ عَلَى صَنَمِ دَوْسٍ (ذِي الخَلَصَةِ). (¬4) (العُزَّى): لُغَةً؛ مُؤَنَّثُ أَعَزّ. وَقَدْ جَعَلَ المُشْرِكُوْنَ الإِنَاثَ للهِ كَالمَلَائِكَةِ وَاللَاتِ وَالعُزَّى وَمَنَاة. (¬5) وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُم اشْتَقُّوا اللَاتَ مِنَ الإِلَهِ، وَالعُزَّى مِنَ العَزِيْزِ، وَمَنَاةَ مِنَ المَنَّانِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ في بَابِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ}. (¬6) قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (456/ 7) بِاخْتِصَارٍ.

- حُكْمُ زِيَارَةِ القُبُوْرِ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ - بِحَسْبِ القَصْدِ وَالفِعْلِ -: 1) سُنَّةٌ: وَهِيَ الزِّيَارَةُ لِلاتِّعَاظِ وَالدُّعَاءِ لِلمَوتَى. 2) بِدْعَةٌ: وَهِيَ الزِّيَارَةُ لِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُم. 3) شِرْكٌ: وَهِيَ الزِّيَارَةُ لِدُعَاءِ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِنْجَادِ بِهِم وَالاسْتِغَاثَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. - قَوْلُهُ (وَالمُتَّخِذِيْنَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ): عَطْفُ إِسْرَاجِ القُبُوْرِ عَلَى البِنَاءِ عَلَيْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ غُلُوٌّ فِي المَقْبُوْرِ يُؤَدِّي لِلافْتِتَانِ بِهِ. - إِيْقَادُ السُّرُجِ عَلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَوْجُهٍ: 1) وَسِيْلَةٌ لِلافْتِتَانِ بِالمَقْبُورِ، فَهُوَ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ. 2) بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لَا يَعْرِفُهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ. 3) إِضَاعَةٌ لِلمَالِ. 4) تَشَبُّهٌ بِالمَجُوْسِ عُبَّادِ النَّارِ. (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الزَّوَاجِرُ) (273/ 1): (صَرَّحُ أَصْحَابُنَا بِحُرْمَةِ السِّرَاجِ عَلَى القَبْرِ - وَإِنْ قَلَّ - حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مُقِيْمٌ وَلَا زَائِرٌ، وَعَلَّلُوهُ بِالإِسْرَافِ وَإِضَاعَةِ المَالِ وَالتَّشَبُّهِ بِالمَجُوْسِ، فَلَا يَبْعُدُ فِي هَذَا أَنْ يَكُوْنَ كَبِيْرَةً).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُهُ تَعَالَى (غَضِبَ اللهُ): الغَضَبُ للهِ تَعَالَى هَلْ هُوَ صِفَةٌ حَقِيْقيَّةٌ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى؟ أَمْ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيْلِ (التَّعْطِيْلِ): غَضَبُ اللهِ هُوَ الانْتِقَامُ مِمَّنْ عَصَاهُ! وَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: إِرَادَةُ الانْتِقَامِ مِمَّنْ عَصَاهُ، وَالحُجَّةُ عِنْدَهُم أَنَّهَا تَشْبِيْهٌ لِلخَالِقِ بِالمَخْلُوْقِ! وَوَصْفٌ لَهُ بِمَا لَا يَلِيْقُ! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأَوَّلُ) أَنَّ غَضَبَ اللهِ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُ غَضَبَ المَخْلُوْقِيْنَ لَا فِي الحَقِيْقَةِ وَلَا فِي الأَثَرِ: 1) فَمِنْ حَيْثُ الحَقِيْقَةِ: غَضَبُ المَخْلُوْقِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ طَلَبًا لِلانْتِقَامِ، وَهُوَ جَمْرَةٌ يُلْقِيْهَا الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ حَتَّى يَفُوْرَ، أَمَّا غَضَبُ الخَالِقِ، فَإِنَّهُ صِفَةٌ لَا تُمَاثِلُ هَذَا، قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الشُّوْرَى:11). 2) مِنْ حَيْثُ الأَثَرِ: غَضَبُ الآدَمِيِّ قَدْ يُؤَثِّرُ آثَارًا غَيْرَ مَحْمُوْدَةٍ، فَقَدْ يَقْتُلُ المَغْضُوْبَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ، أَوْ يِكْسِرُ الإِنَاءَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ أَدْنَى ارْتِبَاطٍ بِمَوْضُوْعِ الغَضَبِ نَفْسِهِ! أَمَّا غَضَبُ اللهِ تَعَالَى فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلَّا آثَارٌ حَمِيْدَةٌ، فَاللهُ تَعَالَى عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ. وَتَأَمَّلِ الاقْتِرَانَ بَيْنَ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى كَالعَزِيْزِ الحَكِيْمِ؛ حَيْثُ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُخْرِجُهُ عِزَّتُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَتِهِ؛ بِخِلَافِ العَزِيْزِ مِنَ البَشَرِ. الوَجْهُ الثَّانِي) يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ تَأْوِيْلِ صِفَةِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ (¬1) قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمَّا آسَفُوْنَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِيْنَ} (الزُّخْرُف:55)، فَإِنَّ مَعْنَى {آسَفُوْنَا} أَغْضَبُوْنَا (¬2)، فَجَعَلَ الانْتِقَامَ غَيْرَ الغَضَبِ، بَلْ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ تَفْسِيْرِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ. (¬3) ¬

_ (¬1) وَإِنْ كَانَ الانْتِقَامُ قَدْ يَكُوْنُ مِنْ لَوَازِمِ الغَضَبِ أَحْيَانًا، فَاللهُ تَعَالَى يُوْصَفُ بِالانْتِقَامِ مِنَ المُجْرِمِيْنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا مِنَ المُجْرِمِيْنَ مُنتَقِمُوْنَ} (السَّجْدَة:22). (¬2) قَالَهُ الطَّبَريُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (121/ 13). (¬3) قُلْتُ: وَأَيْضًا؛ فَالغَضَبُ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ، فَلَيْسَتْ مَذْمُوْمَةً مُطْلَقًا. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (159/ 28): (وَالمُؤْلِمُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الغَضَبَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الحُزْنَ، وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الوَجْهُ عِنْدَ الغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ القُدْرَةِ، وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الحُزْنِ لِغَوْرِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ العَجْزِ).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا حُكْمُ زِيَارَةِ النِّسَاءِ لِلمَقَابِرِ؟ الجَوَابُ: فِيْهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَدْ ذَهَبَ الأَكْثَرُ إِلَى الجَوَازِ مَعَ الكَرَاهَةِ (¬1) (¬2) - وَهُوَ الأَرْجَحُ - وَتَدُلُّ لَهُ أُمُوْرٌ، مِنْهَا (¬3): 1) عُمُوْمُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُوْرِ فَزُوْرُوْهَا (¬4)؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُم الآخِرَةَ). (¬5) (¬6) 2) مُشَارَكَةُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ فِي العِلَّةِ الَّتِيْ مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَتْ زِيَارَةُ القُبُوْرِ (فَإِنَّهَا تُرِقُّ القَلْبَ، وَتُدْمِعُ العَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ). (¬7) 3) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي زِيَارَةِ القُبُوْرِ، وَفِيْهَا أَحَادِيْثُ: أ) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ المَقَابِرِ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ؛ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ القُبُوْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ نَهَى؛ ثُمَّ أَمَرَنَا بِزِيَارَتِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا (أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي زِيَارَةِ القُبُوْرِ). (¬8) (¬9) ب) فِي قِصَّةِ إِتْيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البَقِيْعَ لَيْلًا لِيَسْتَغْفِر لِأَهْلِهِ؛ حَيْثُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: (قُلْتُ: كَيْفَ أَقُوْلُ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: (قُوْلِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُسْلِمِيْنَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِيْنَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِيْنَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُوْنَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬10) (¬11) 4) إِقْرَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي حَدِيْثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: (اتَّقِيْ اللهَ وَاصْبِرِي). قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيْبَتِي - وَلَمْ تَعْرِفْهُ -، فَقِيْلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِيْنَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬12) (¬13) ¬

_ (¬1) وَتَوَسَّعَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ فِي عُمُوْمِ النَّهْي حَتَّى لِزِيَارَةِ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَجْمُوْعِ (310/ 5): (وَالَّذِيْ قَطَعَ بِهِ الجُمْهُوْرُ أَنَّهَا مَكْرُوْهَةٌ لَهُنَّ كَرَاهَةُ تَنْزِيْهٍ). وَفِي كِتَابِ (نَيْلُ الأَوْطَارِ) لِلشَّوْكَانِيِّ (134/ 4): (وذَهَبَ الأَكْثَرُ إِلَى الجَوَازِ إِذَا أُمْنَتِ الفِتْنَةُ، قَالَ القُرْطُبِيُّ: (اللَّعْنُ المَذْكُوْرُ فِي الحَدِيْثِ إِنَّمَا هُوَ لِلمُكْثِرَاتِ مِنَ الزِّيَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيْهِ الصِّيْغَةُ مِنَ المُبَالَغَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيْعِ حَقِّ الزَّوجِ وَالتَّبَرُّجِ وَمَا يَنْشَأُ مِنَ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا أُمِنَ جَمِيْعُ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنَ الإِذْنِ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَ المَوْتِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. انْتَهَى). وَهَذَا الكَلَامُ هُوَ الَّذِيْ يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي الجَمْعِ بَيْنَ أَحَادِيْثِ البَابِ المُتَعَارِضَةِ فِي الظَّاهِرِ). (¬3) وَالأَدِلَّةُ مَأْخُوْذَةٌ مِنْ كِتَابِ أَحْكَامِ الجَنَائِزِ (ص180) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَالَ فِيْهِ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا: (وَالنِّسَاءُ كَالرِّجَالِ فِي اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ القُبُوْرِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوْزُ لَهُنَّ الإِكْثَارُ مِنْ زِيَارَةِ القُبُوْرِ وَالتَّرَدُّدِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي بِهِنَّ إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرِيْعَةِ؛ مِنْ مِثْلِ الصِّيَاحِ وَالتَّبَرُّجِ وَاتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَجَالِسَ لِلنُّزْهَةِ، وَتَضْيِيْعِ الوَقْتِ فِي الكَلَامِ الفَارَغِ؛ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ اليَوْمَ فِي بَعْضِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ المُرَادُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - بِالحَدِيْثِ المَشْهُوْرِ: (لَعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي لَفْظٍ: لَعَنَ اللهُ - زَوَّارَاتِ القُبُوْرِ). (¬4) وَالأَمْرُ هُنَا لَيْسَ لِلوُجُوْبِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى قَاعِدَةِ: (الأَمْرُ بَعْدَ النَّهْي يُفِيْدُ مُطْلَقَ الإِبَاحَةِ). (¬5) مُسْلِمٌ (1977)، وَالتِّرْمِذِيُّ (1054) عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوْعًا. (¬6) وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بِحَدِيْثِ (لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ القُبُوْرِ) وَذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ مُخَصِّصٌ لِلحَدِيْثِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ أَيْضًا يُجَابُ عَلَى جَوَابِهِم بِأُمُوْرٍ؛ مِنْهَا: أ- أَنَّ حَدِيْثَ الإِبَاحَةِ هُوَ نَاسِخٌ لِحَدِيْثِ نَهْي النِّسَاءِ الَّذِيْ فِيْهِ اللَّعْنُ. قُلْتُ: وَلَا يُقَالُ هُنَا بِالتَّخْصِيْصِ - بِأَنْ يَكُوْنَ العَامُّ الَّذِيْ يَشْمَلُ الرِّجالَ وَالنِّسَاءَ هُنَا مَخْصُوْصٌ بِحَدِيْثِ النَّهْي الَّذِيْ فِيْهِ اللَّعْنُ لِلنِّسَاءِ -! وَذَلِكَ لِكَوْنِ العِلَّةِ مُشْتَرِكَةً فِي الحَالَتَيْنِ جَمِيْعًا، فَمَا كَانَ سَبَبًا لِلمَنْعِ مِنَ الزِّيَارةِ أَوَّلًا هُوَ مَشْتَرَكٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ لَمَّا أُبِيْحَ أُبِيْحَ لِعِلَّةٍ أَيْضًا مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ؛ وَهِيَ التَّذْكِيْرُ بِالآخِرَةِ. ب- أَنَّ حَدِيْثَ نَهْي النِّسَاءِ - فِقْهًا - بَاقٍ عَلَى عُمُوْمِ النَّهْي مِنْ جِهَةِ الإِكْثَارِ مِنَ الزِّيَارَةِ، وَمَنْسُوْخٌ مِنْ جِهَةِ مَنْعِ مُطْلَقِ الزِّيَارَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السُّنَنِ (363/ 2) - عَقِبَ حَدِيْثِ لَعْنِ الزَّوَّارَاتِ -: (وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيَارَةِ القُبُوْرِ، فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ). (¬7) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (1393) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْح الجَامِعِ (4584). (¬8) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (1392)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (7207). أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص181). (¬9) وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُم عَلَى المَنْعِ بِمَفْهُوْمِ حَدِيْثِ التِّرْمِذِيِّ (1055) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ قَالَ: تُوفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِـ (الحَبَشِيِّ) - مَكَانٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ اثْنَا عَشَرَ مِيْلًا - فَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ فِيْهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ أَتَتْ قَبْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ - فِي جُمْلَةِ مَا قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: (وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ). فَفِيْهِ ابْنُ جُرَيْحٍ مُدَلِّسٌ؛ وَقَدْ عَنْعَنَهُ. ضَعِيْفُ التِّرْمِذِيِّ (1055). (¬10) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (974). وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ (قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِيْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ البَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِيْ، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ البَقِيْعَ فَقَامَ، فَأَطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: (مَا لَكِ؟ يَا عَائِشُ، حَشْيَا رَابِيَةً) قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، قَالَ: (لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيْفُ الخَبِيْرُ)، قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: (فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِيْ رَأَيْتُ أَمَامِي؟) قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: (أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيْفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُوْلُهُ؟) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ، قَالَ: (فَإِنَّ جِبْرِيْلَ أَتَانِي حِيْنَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوْقِظَكِ، وَخَشِيْتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ البَقِيْعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ)، قُلْتُ: كَيْفَ أَقُوْلُ لَهُمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: (قُوْلِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُسْلِمِيْنَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِيْنَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِيْنَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُوْنَ). وَ (الإحْضَارُ): الجَرْيُ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الهَرْوَلَةِ. وَ (لَهَدَنِي): دَفَعَنِيْ. وَ (حَشْيَا): بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ وَإسْكَانِ المُعْجَمَةِ مَعْنَاهُ وَقَعَ عَلَيْكِ الحَشَا؛ وَهُوَ الرَّبُو وَالتَّهَيُّجُ الَّذِيْ يَعْرِضُ لِلمُسْرِعِ فِي مَشْيِهِ مِنِ ارتِفَاعِ النَّفَسِ وَتَوَاتُرِهِ. وَ (رَابِيَة): أَيْ: مُرْتَفِعَةُ البَطْنِ. (¬11) وَأُجِيْبَ عَنْهُ بِأَنَّ الإِتْيَانَ هُنَا مَ

باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ المُصْطَفَى جَنَابَ التَّوْحِيْدِ وَسَّدِّهِ كُلَّ طَرِيْقٍ يُوَصِّلُ إِلَى الشِّرْكِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِيْنَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيْمِ} (التَّوْبَة:129). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا, وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيْدًا, وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيْمَكُمْ يَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. (¬1) وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيْءُ إِلَى فُرْجَةً كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُ فِيْهَا فَيَدْعُو؛ فَنَهَاهُ، وَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّيْ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيْدًا، وَلَا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيْمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ). رَوَاهُ فِي المُخْتَارَةِ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ (بَرَاءَة). الثَّانِيَةُ: إِبْعَادُهُ أُمَّتَهُ عَنْ هَذَا الحِمَى غَايَةَ البُعْدِ. الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ حِرْصِهِ عَلَيْنَا وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. الرَّابِعَةُ: نَهْيُهُ عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوْصٍ؛ مَعَ أَنَّ زِيَارَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ. الخَامِسَةُ: نَهْيُهُ عَنْ الإِكْثَارِ مِنَ الزِّيَارَةِ. السَّادِسَةُ: حَثُّهُ عَلَى النَّافِلَةِ فِي البَيْتِ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى فِي المَقْبَرَةِ. الثَّامِنَةُ: تَعْلِيْلُ ذَلِكَ بِأَنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ وَسَلَامَهُ عَلَيْهِ يَبْلُغُهُ - وَإِنْ بَعُدَ -، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ مَنْ أَرَادَ القُرْبَ. التَّاسِعَةُ: كَوْنُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي البَرْزَخِ تُعْرَضُ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2042). صَحِيْحُ الجَامِعِ (7226)، وَهُوَ بِلَفْظِ (فَإِنَّ صَلَاتَكُم)، وَالَّذِيْ فِي المَتْنِ هُوَ مِنْ لَفْظِ مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى (6761) عَنِ الحَسَنِ مَرْفُوْعًا. (¬2) صَحِيْحٌ لِغَيْرِهِ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (49/ 2). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَخْرِيْجُ أَحَادِيْثِ فَضَائِلِ الشَّامِ) (ص52): (صَحِيْحٌ بِطُرُقِهِ وشَوَاهِدِهِ).

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ (المُصْطَفَى): أَصْلُهَا المُصْتَفَى مِنَ الصَّفْوَةِ: وَهُوَ خِيَارُ الشَّيْءِ؛ وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيْرَةُ الأَنْبِيَاءِ. - قَوْلُهُ (جَنَابَ): أَيْ: جَوَانِبَ التَّوْحِيْدِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}: مَا: مَصْدَرِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مَوْصُوْلَةً، أَيْ: عَزِيْزٌ عَلَيْهِ عَنَتُكُم، أَيْ: (مَشَقَّتُكُم). - قَوْلُهُ تَعَالَى {عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ}: جَمَعَ فِيْهِ بَيْنَ دَفْعِ المَكْرُوْبِ وَحُصُوْلِ المَحْبُوبِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {بِالمُؤْمِنِيْنَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ}: بِالمُؤْمِنِيْنَ: جَارٌّ وَمَجْرُوْرٌ، وَهُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ يُفِيْدُ الحَصْرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفَتْحِ:29). - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ تَوَلَّوا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ}: وَجْهُ الأَمْرِ بِالاحْتِسَابِ عِنْدَ التَّوَلِّيْ هُوَ أَنَّ التَّوليَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْعِرُ بِالضَّعْفِ لِقِلَّةِ المَتْبُوعِيْنَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الإِرْشَادُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَجَعْلِهِ حَسِيْبَهُ وَكَافِيَهُ. - قَوْلُ (حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكيلِ): تُقَالُ فِي الشَّدَائِدِ؛ فَهِيَ لِلاسْتِعَانَةِ (¬1)، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ (¬2)، وَقَوْلِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ حِيْنَ أُلقِيَ فِي النَّارِ. (¬3) - قَوْلُهُ تَعَالَى {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}: جَمَعَ فِيْهَا تَوْحِيْدَيِّ الرُّبُوْبِيَّةِ وَالأُلُوْهِيَّةِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}: فِيْهَا تَقْدِيْمُ الجَارِّ وَالمَجْرُوْرِ لِإِفَادَةِ الحَصْرِ. - التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ: هُوَ الاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي جَلْبِ المَنَافِعِ وَدَفْعِ المَضَارِّ، مَعَ الثِّقَةِ بِهِ، وَفِعْلُ الأَسْبَابِ النَّافِعَةِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {رَبُّ العَرْشِ العَظِيْمِ}: العَظِيْمُ صِفَةٌ لِلعَرْشِ، وَعَظَمَتُهُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذُو العَرْشِ المَجِيْدِ} (البُرُوْج:15) - عَلَى قِرَاءَةِ الكَسْرِ - (¬4)، فَفِيْهَا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ العَظِيْمِ يُوْصَفُ بِهَا المَخْلُوْقُ، وَمِثْلُهَا الرَّحِيْمُ وَالرَّؤُوْفُ وَالحَكِيْمُ، وَلَكِنَّ عَظَمَتَهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ كَعَظَمَةِ غَيْرِهِ. ¬

_ (¬1) وَلَيْسَتْ لِلتَّحَسُّرِ عَلَى فَوَاتِ المَطْلُوْبِ! أَوْ لِلتَّأَفُّفِ مِنْ حُصُوْلِ مَكْرُوْهٍ! بَلْ مَعْنَاهَا تَوْحِيْدُ الأُلُوْهِيَّةِ، وَذَلِكَ بِحَصْرِ الاسْتِعَانَةِ بهِ سُبْحَانَهُ؛ لِمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ مِنْ تَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّة، فَالحَسْبُ هُوَ الكَافِي، وَلَا يَكْفِي فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (¬2) قَالَ تَعَالَى: {الَّذِيْنَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ} فَكَانَتِ العَاقِبَةُ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيْمٍ} (آل عِمْرَان:174). (¬3) فِي البُخَارِيِّ (4564) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيْمَ - حِيْنَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ -: حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكيْلُ). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (372/ 8): ({المَجِيْدُ} فِيْهِ قِرَاءَتَانِ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِالجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلعَرْشِ، وَكِلَاهُمَا مَعْنَاهُ صَحِيْحٌ).

- قَوْلُهُ (لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيْدًا): العِيْدُ يَكُوْنُ عِيْدًا مَكَانِيًّا أَوْ زَمَنِيًّا، وَهُنَا هُوَ عِيْدٌ مَكَانِيٌ (¬1)، فَيَكُوْنُ النَّهْيُ هُوَ عَنْ كَثْرَةِ العَوْدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى الغُلوِّ. - قَدْ عَمِلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ فَلَم يَكُوْنُوا يَعْتَادُوْنَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا دَخَلُوا المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ (¬2)، وَإِنَّمَا فَقَطْ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ (¬3)، فَيَكُوْنُ اتِّخَاذُهُ عِيْدًا هُوَ مِنْ اتِّبَاعِ {غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ} (النِّسَاء:115). وَزَادَ الأَمْرَ بَيَانًا فِعْلُ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي الأَثَرِ هُنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللهُ (¬4) حَيْثُ اسْتَدَلَ بِالحَدِيْثِ عَلَى المَنْعِ. وَأَيْضًا فِي الأَثَرِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي سُهَيْلٍ؛ قَالَ: رَآنِي الحَسَنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ القَبْرِ فَنَادَانِي - وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى - فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى العَشَاءِ، فَقُلْتُ: لَا أُرِيْدُهُ، فَقَالَ: مَا لِي رَأَيْتُكَ عِنْدَ القَبْر؟ فَقُلْتُ: سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ المَسْجِد فَسَلِّمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيْدًا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوْتَكُمْ مَقَابِرَ، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ مَا كُنْتُمْ، لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالأَنْدَلُسِ إِلَّا سَوَاءٌ). (¬5) ¬

_ (¬1) وَمِثْلُهُ حَدِيْثُ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ مَرْفُوْعًا (هَلْ كَانَ فِيْهَا عِيْدٌ مِنْ أَعْيَادِهِم) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3313). وَقَدْ سَبَقَ. (¬2) قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ (ت 544هـ) فِي كِتَابِهِ (الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوْقِ المُصْطَفَى) (ص675): (وَقَالَ مَالِكٌ فِي المَبْسُوطِ: (وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ وَخَرَجَ مِنْهُ - مِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ - الوُقُوفُ بِالقَبْرِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ). وَقَالَ فِيْهِ أَيْضًا: (لَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ). قِيْلَ لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ لَا يَقْدِمُوْنَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيْدُوْنَهُ؛ يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ فِي اليَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ! وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الجُمُعَةِ أَوْ فِي الأَيَّامِ المَرَّةَ وَالمَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ القَبْرِ فَيُسَلِّمُوْنَ، وَيَدْعُوْنَ سَاعَةً! فَقَالَ: (لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الفِقْهِ بِبَلَدِنَا، وَتَرْكُهُ وَاسِعٌ، وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ، وَيُكْرَهُ إِلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ). وَكَذَا أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الإِيْضَاحُ فِي مَنَاسِكِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ) (ص459). وَكَذَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ وَهْبَةُ الزُّحَيْلِيُّ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الفِقْهُ الإِسْلَامِيُّ وَأَدِلَّتُهُ) (ص2404) فِي فَقَرَةِ - زِيَارَةِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفَقَرَةِ العَاشِرَةِ. (¬3) وَلَمْ يَكُنِ السَّلَفُ يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْتُوْنَ إِلَى مَسْجِدِهِ فَيُصَلُّوْنَ، فَإِذَا قَضَوا الصَّلَاةَ قَعَدُوا أَوْ خَرَجُوا، وَلَمْ يَكُوْنُوا يَأْتُوْنَ القَبْرَ لِلسَّلَامِ؛ لِعِلْمِهِم أَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ وَأكْمَلُ، وَكَمَا سَبَقَ أَيْضًا فِي قَوْلِ الحَسَنِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم حَيْثُ قَالَ: (إِذَا دَخَلْتَ المَسْجِدَ فَسَلِّمْ). (¬4) وَهُوَ المُسَمَّى بِزَيْنِ العَابِدِيْن (ت 94 هـ)، وَيُسمَّى عَليًّا الأَصْغَرَ تَمْيِيْزًا لَهُ عَنْ أَخِيْهِ (عَلِيٍّ الأَكْبَرِ الَّذِيْ تُوُفِّيَ مَعَ أَبِيْه رَحِمَهُم اللهُ). الأَعْلَام لِلزِّرِكْلِيِّ (277/ 4). (¬5) رَوَاهُ سَعِيْدُ بْنُ مَنْصُوْرٍ فِي سُنَنِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ قَوِيٌّ كَمَا فِي أَحْكَامِ الجَنَائِزِ (ص220) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

- قَوْلُهُ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا): هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانِي: 1) أَيْ: لَا تَدْفِنُوا فِيْهَا، فَتَكُوْنَ مَقْبَرَةً. (¬1) 2) أَيْ: لَا تُعَطِّلُوْهَا عَنِ العِبَادَةِ؛ فَتَجْعَلُوْهَا كَالمَقَابِرِ لَا يُصَلَّى فِيْهَا، لِأَنَّ المَقْبَرَةَ لَا يُصَلَّى فِيْهَا، لِذَلِكَ قَالَ: (صَلُّوا فِي بُيُوْتِكُم). (¬2) 3) أَيْ: لَا تَجْعَلُوْهَا كَالمَقَابِرِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ فِيْهَا، لِأَنَّ المَقْبَرَةَ لَا يُقْرَأُ فِيْهَا القُرْآنُ. (¬3) - قَوْلُهُ (وَصَلُّوا عَلَيَّ): أَيْ: قُوْلُوا (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ)، وَصَلَاةُ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ: هِيَ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِم عِنْدَ المَلَائِكَةِ. (¬4) أَمَّا صَلَاةُ المَلَائِكَةِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ: فَهِيَ الاسْتِغْفَارُ (¬5) وَالتَّبْرِيْكُ. قَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ: (قَالَ أَبُو العَالِيَةِ: صَلَاةُ اللهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ المَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يُصَلُّوْنَ} يُبَرِّكُوْنَ). (¬6) وَأَمَّا صَلَاةُ المُسْلِمِيْنَ عَلَى بَعْضِهِم فَهِيَ الدُّعَاءُ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬7) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (530/ 1): (فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الدَّفْنِ فِي البُيُوْتِ مُطْلَقًا. وَاللهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوْزُ أَيْضًا السَّكَنُ بَيْنَ القُبُوْرِ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَتَاوَى (356/ 13) - فِي جَوَابِ سُؤَالٍ حَوْلَ السُّكْنَى فِي المَقْبَرَةِ -: (وَهَذَا مُنْكَرٌ وَإِهَانَةٌ لِلقُبُوْرِ، وَإِذَا صَلَّوا عِنْدَهَا فَصَلَاتُهُم بَاطِلَةٌ، وَالجُلُوْسُ عِنْدَ القُبُوْرِ بِالصُّورَةِ المَذْكُوْرَةِ وَالصَّلَاةُ عِنْدَهَا مِنَ المُنْكَرَاتِ). قُلْتُ: أَيْضًا مِنْ أَوْجُهِ النَّهْي كُوْنُهَا وَقْفٌ. (¬2) مُسْلِمٌ (777) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. قُلْتُ: وَلَا يَصِحُّ القَوْلُ بِأَنَّ المَعْنَى (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُم كَالقُبُوْرِ): أَيْ: بِأَنْ تَكُوْنُوا كَالأَمْوَاتِ في القُبُوْرِ؛ فَإِنَّهُم لَا يُصَلُّوْنَ! وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي البَرْزَخِ ثَابِتَةٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ. (¬3) رَوَى مُسْلِمٌ (780) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ مَقَابِرَ؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذِيْ يُقْرَأُ فِيْهِ سُوْرَةُ البَقَرَةِ). (¬4) صَلَاةُ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ لَيْسَتْ هِيَ الرَّحمةُ، وَذَلِكَ لِحَدِيْثِ أَبِي العَالِيَةِ الآتِي، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُوْنَ} (البَقَرَة:157)، فَالعَطْفُ يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ. (¬5) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (445)، وَمُسْلِمٍ (649) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِيْ صَلَّى فِيْهِ - مَا لَمْ يُحْدِثْ - تَقُوْلُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ؛ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ). (¬6) البُخَارِيُّ (12/ 6). (¬7) مُسْلِمٌ (1430)، وَفِي لَفْظِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الكَبِيْرِ (231/ 10) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (فَلْيَدْعُ بِالبَرَكَةِ). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الجَامِعِ (538).

- قَوْلُهُ (وَصَلُّوا عَلَيَّ فإنَّ تَسْلِيْمَكُمْ): هَذَا يُسَمَّى الطَيَّ والنَّشْرَ، أَيْ: صَلُّوا عَلَيَّ وسَلِّمُوا؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُم وَتَسْلِيْمَكُم تَبْلُغُنِي. وَالمُرَادُ: صَلُّوا عَلَيَّ فِي أَيِّ مَكَانٍ كُنْتُم؛ وَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ تَأْتُوا إِلَى القَبْرِ وَتُسَلِّمُوا عَلَيَّ وَتُصَلُّوا عَلَيَّ عِنْدَهُ. - إِنَّ الدَّفْنَ فِي البُيُوْتِ مَنْهيٌّ عَنْهُ، وَمِنْ مَضَارِّهِ: 1) ذَرِيْعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ: لِأَنَّ البَيْتَ تُقَامُ فِيْهِ صَلَوَاتُ النَّافِلَةِ (وَالفَرَائِضُ لِلنِّسَاءِ) - عَلَى الأَقَلِّ -، فيُخْشَى مِنَ الغُلوِّ فِيْهِ واتِّخَاذِهِ مَسْجِدًا، عَدَا عَنْ كَوْنِ تَخْصِيْصِهِ بِهَذَا الدَّفْنِ يُعْطِيْهِ مَزِيَّةً عَنْ غَيْرِهِ مِنَ القُبُوْرِ، فَلَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الفِتْنَةُ. (¬1) 2) حِرمَاُن الميِّتِ مِنْ دَعَوَاتِ المُسْلِمِيْنَ - وَهُوَ دُعَاءُ دُخُوْلِ المَقْبَرَةِ عَلَى الأَقَلِّ - لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُم، وَأَيْضًا لِكَثْرَةِ مَنْ يَزُوْرُ المَقَابِرَ مُقَارَنَةً مَعَ مَنْ يَزُوْرُ ذَلِكَ البَيْتَ. 3) يُضَيِّقُ عَلَى الوَرَثَةِ مَسْكَنَهُم، وَيَمْنَعُ مِيْرَاثَهُم مِنَ البَيْتِ لِحُرْمَةِ المَدْفُوْنِ فِيْهِ مِنْ نَبْشِ قَبْرِهِ أَوِ امْتِهَانِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُوْنَ مِنْ أَغْلَبِ وُجُوْهِ الانْتِفَاعِ بِهِ. 4) لَا يُذَكِّرُ الآخِرَةَ، لِأَنَّ أَهْلَ البَيْتِ اعْتَادُوا ذَلِكَ. - التَّرَدُّدُ عَلَى القَبْرِ مَمْنُوْعٌ نَصًّا وَمَفْهُوْمًا، فَالنَّصُّ هُوَ فِي قَوْلِهِ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا)، وَالمَفْهُوْمُ هُوَ فِي قَوْلِهِ (فَإِنَّ تَسْلِيْمَكُمْ يَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا دَاعِيَ لِلذَّهَابِ إِلَى السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. (¬2) - كِتَابُ (المُخْتَارَةُ): هُوَ كِتَابٌ جَمَعَ فِيْهِ مُؤَلِّفُهُ الأَحَادِيْثَ الجِيَادَ الزَّائِدَةَ عَلَى الصَّحِيْحَيْن. وَمُؤَلِّفُهُ: هُوَ الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيُّ؛ ضِيَاءُ الدِّيْنِ الحَنْبَلِيُّ، (ت 643 هـ). (¬3) ¬

_ (¬1) وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَعَنَ زَوَّارَاتِ القُبُوْر، فَكَيْفَ بِمَنْ أقَامَ عِنْدَهَا. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَحْقِيْقِ كِتَابِ (الآيَاتُ البَيِّنَاتُ) (ص80): ((وَأَمَّا حَدِيْثُ (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْتُهُ) فَهُوَ مَوْضُوْعٌ - كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى - وَقَدْ خَرَّجْتُهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (203)، وَلَمْ أَجِدْ دَلِيْلًا عَلَى سَمَاعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامَ مَنْ سَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ - وَحَدِيْثُ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ صَرِيْحًا فِي ذَلِكَ - فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَوْلَهُ (أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ السَّلَامَ مِنَ القَرِيْبِ)!، وَحَدِيْثُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ المُتَقَدِّمُ مُطْلَقٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ هَذَا إِنَّمَا يَرْوِيْه مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانِ السُّدِّيُّ عَنِ الأَعْمَشِ - وَهُوَ كَذَّابٌ بِالاتِّفَاقِ -، وَهَذَا الحَدِيْثُ مَوْضُوْعٌ عَلَى الأَعْمَشِ بِإِجْمَاعِهِم. وَانْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (204). وَأَمَّا حَدِيْثُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ الَّذِيْ أشارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ فَهُوَ (إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِيْنَ فِي الأَرْضِ يُبَلِّغُوْنِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ). صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (1281). صَحِيْحُ النَّسَائِيِّ (1281). (¬3) قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي اخْتِصَارِ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ (ص29): (فَصْلٌ - الزِّيَادَاتُ عَلَى الصَّحِيْحَيْنِ -: وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ ضِيَاءُ الدِّيْنِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ (المُخْتَارَةُ) وَلَمْ يَتِمَّ، كَانَ بَعْضُ الحُفَّاظِ مِنْ مَشَايِخِنَا يُرَجِّحُهُ عَلَى مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (426/ 22): (تَصْحِيْحُ الحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيِّ فِي مُخْتَارِهِ خَيْرٌ مِنْ تَصْحِيْحِ الحَاكِمِ).

- قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ (كَوْنُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي البَرْزَخِ تُعْرَضُ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ): أَيْ: فَقَطْ عَرْضُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيْمِ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ (إِنَّ تَسْلِيْمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ). (¬1) - فَائِدَةٌ) فِي حَدِيْثِ (اجْعَلُوا فِي بُيُوْتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ؛ وَلَا تَتَّخِذُوْهَا قُبُوْرًا): (¬2) دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الأَفْضَلَ أَنْ يَجْعَلَ المَرْءُ صَلَاتَهُ فِي بيْتِهِ لِجَمِيْعِ النَّوَافِلِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْضَلَ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ) (¬3) إِلَّا مَا وَرَدَ فِيْ الشَّرْعِ بِأَنْ يُفْعَلَ فِي المَسْجِدِ، مِثْلَ: صَلَاةِ الكُسُوْفِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ. وَهَذَا الحُكْمُ عَامٌّ حَتَّى لَوْ كُنْتَ فِي المَدِيْنَةِ النَّبَوِيَّةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي المَدِيْنَةِ، وَتَكُوْنُ المُضَاعَفَةُ إِذًا بِالنِّسْبَةِ لِلفَرَائِضِ - أَوِ النَّوَافِلِ الَّتِيْ تُسَنُّ لَهَا الجَمَاعَةُ -، وَأَيْضًا تَكُوْنُ الفَضِيْلَةُ بِاعْتِبَارِ المَسَاجدِ مَعَ بَعْضِهَا. ¬

_ (¬1) وَفِي الحَدِيْثِ (إنَّ مِنْ أفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الجُمعَةِ؛ فِيْهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيْهِ قُبِضَ، وَفِيْهِ النَّفْخَةُ، وَفِيْهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيْهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ. إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تأْكُلَ أَجْسَادَ الأنْبِيَاءِ)، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ - يَقُوْلُوْنَ: بَلِيْتَ -؟ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1047) عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (696). وَأَمَّا حَدِيْثُ (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ؛ تُحَدِّثُوْنَ ويُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا أَنَا مُتُّ كَانَتْ وَفَاتِي خَيْرًا لَكُمْ؛ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمالَكُمْ؛ فَمَا رَأيْتُ خَيْرًا حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ) فَهُوَ عِنْدَ البَزَّارِ (308/ 5) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ ضَعِيْفٌ. الضَّعِيْفَةُ (975). وَقَالَ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَخْرِيْجِ الإحْيَاءِ (3810): (أَخْرَجَهُ البزَّارُ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيْحِ، إِلَّا أَنَّ عَبْدَ المَجِيْدِ بْنَ عَبْدِ العَزِيْزِ بْنِ أَبِي رَوَّاد - وَإِنْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِيْنٍ وَالنَّسَائِيُّ - فَقَدْ ضَعَّفَهُ كَثِيْرُوْنَ، وَرَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (432)، وَمُسْلِمٌ (777) ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7290)، وَمُسْلِمٌ (781) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوْعًا.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) مَا الجَوَابُ عَنِ التَّعَارُضِ حَوْلَ مَا نُقِلَ عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ أَوِ القِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَدْ قَالَ الإِمَامُ البَاجِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬1) فِي كِتَابِهِ (المُنْتَقَى) شَرْحُ المُوَطَّأِ (¬2): ((مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الدُّعَاءُ عِنْدَ القَبْرِ؛ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي المَبْسُوطِ: (لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو؛ وَلَكِنْ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَمْضِي)، وَلَكِنْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ - فِي غَيْرِ المَبْسُوطِ - أَنَّهُ يَدْعُو مُسْتَقْبِلَ القَبْرِ؛ وَلَا يَدْعُو وَهُوَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ وَظَهْرَهُ إِلَى القَبْرِ)؟ الجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ الأَخِيْرَةَ - مِمَّا لَهَجَ بِهَا كَثِيْرٌ مِنَ المُتَصَوِّفَةِ - وَهِيَ أَنَّ الخَلِيْفَةَ المَنْصُوْرَ العَبَّاسِيَّ سَأَلَ مَالِكًا عَنِ اسْتِقْبَالِ الحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الدُّعَاءِ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: (هُوَ وَسِيْلَتُكَ وَوَسِيْلَةُ أَبِيْكَ آدَمَ)! هِيَ حِكَايَةٌ بَاطِلَةٌ مَكْذُوْبَةٌ عَلَى مَالِكٍ؛ مُخَالِفَةٌ لِلثَّابِتِ المَنْقُوْلِ عَنْهُ بِأَسَانِيْدِ الثِّقَاتِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَرَاوِيْهَا عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ؛ وَقَدْ كَذَّبَهُ كَثِيْرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ (¬3)، عَدَا عَنِ الانْقِطَاعِ فِي السَّنَدِ؛ فَإِنَّه لَمْ يُدْرِكْ أَبَا جَعْفَرٍ المنْصُوْرَ أَصْلًا. (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ أَبُو الوَلِيْدِ البَاجِيُّ؛ سُلَيْمَانُ بنُ خَلَفِ بنِ سَعْدٍ الأَنْدَلُسِيُّ؛ القُرْطُبِيُّ؛ البَاجِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، (ت 474 هـ). اُنْظُرِ السِّيَر لِلذَّهَبِيِّ (535/ 18). (¬2) المُنْتَقَى (296/ 1). وَقَدْ رَوَاهَا القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ (الشِّفَا) (ص595)، وَفِيْهَا (وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؛ أَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ وَأَدْعُو؛ أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ؛ وَهُوَ وَسِيْلَتُكَ وَوَسِيْلَةُ أَبِيْكَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ؟! بَلِ اسْتَقْبِلْهُ، وَاسْتَشْفِعْ بِهِ، فَيُشَفِّعْهُ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا} (النِّسَاء:64). (¬3) رُغْمَ كَوْنِهِ حَافِظًا، وَقَدْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ بَعْضُهُم. وَفِي السِّيَرِ (504/ 11) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (قَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُوْرِيُّ: قُلْتُ لابْنِ خُزَيْمَةَ: لَوْ حَدَّثَ الأُسْتَاذُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ - فَإِنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ قَدْ أَحسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ! - قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَلَوْ عَرَفَه كَمَا عَرَفْنَاهُ، لَمَا أَثْنَى عَلَيْهِ أَصْلًا). قُلْتُ: وَقَدْ عُلِمَ فِي مُصْطَلَحِ الحَدِيْثِ أَنَّ الجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيْلِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُفَسَّرًا. (¬4) أَبُو جَعْفَرٍ المَنْصُوْرُ وفاتُهُ (158 هـ) كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَهْذِيْبُ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ) (203/ 2)، أَمَّا مُحَمَّدِ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ فَقَد قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبَيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَنْهُ فِي السِّيَرِ (503/ 11): (مَوْلِدُهُ فِي حُدُوْدِ السِّتِّيْنَ وَمائَةٍ). (¬5) قَالَ الشَّيْخُ الدُّكْتُورُ وَهْبَةُ الزُّحَيليُّ حَفِظَهُ اللهُ وَرَعَاهُ فِي كِتَابِهِ (الفِقْهُ الإِسْلَامِيُّ وَأَدِلَّتُهُ) (ص1453) - فِي حَاشِيَةِ أَبْوَابِ صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ -: (اتَّفَقَ الأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرٍ رَجَاءَ الإِجَابَةِ بِدْعَةٌ، لَا قُرْبَةٌ).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا) مُعَارَضَةٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِنَ فِي بَيْتِهِ! وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ: أ) حَدِيْثُ (مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوْضِعِ الَّذِيْ يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيْهِ). (¬1) ب) خَشْيَةُ الافْتِتَانِ بِقَبْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ). (¬2) 2) أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا جَعَلَتْ جِدَارًا فِي بَيْتِهَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ القَبْرِ (¬3)، فَخَرَجَ بِذَلِكَ القَبْرُ عَنِ البَيْتِ وَصَارَ ذَلِكَ الشَّطْرُ مِنْهُ مَدْفَنًا، وَلِذَلِكَ أَمْكَنَ دَفْنُ صَاحِبَيْهِ مَعَهُ أَيْضًا فِيْمَا بَعْدُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَلَيْسَ فِيْهِ إِذًا ارْتِكَابُ مَحْظُورٍ، وَالحَمْدُ للهِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1018) عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5649). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4441)، وَمُسْلِمٌ (529) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابنِ سَعْدٍ (294/ 2) عَنِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: (قُسِمَ بَيْتُ عَائِشَةَ بِاثْنَيْنِ: قِسْمٌ كَانَ فِيْهِ القَبْرُ، وَقِسْمٌ تَكُوْنُ فِيْهِ عَائِشَةُ، وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ المَنْهِيَّ فِي الحَدِيْثِ هُوَ الصَّلَاةُ فِي القَبْرِ نَفْسِهِ؛ وَلَيْسَ فِي المَقْبَرَةِ؟! (¬1) وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ فِي أَحَادِيْثَ أُخَرَ عَلَى المَنْعِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي المَقْبَرَةِ نَفْسِهَا، مِنْهَا: (الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الحَمَّامَ وَالمَقْبُرَةَ). (¬2) 2) أَنَّ الحَدِيْثَ نَفْسَهُ وَرَدَ بِلَفْظِ (المَقَابِرِ) كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ من حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ مَقَابِرَ؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذِيْ تُقْرَأُ فِيْهِ سُوْرَةُ البَقَرَةِ). (¬3) 3) جَعْلُ عِلَّةِ الحَدِيْثِ أَنَّ المَيِّتَ لَا يُصَلِي مَرْدُوْدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أ) أَنَّ الصَّلَاةَ فِي القَبْرِ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ أَبَدًا، بَلْ وَلَيْسَتْ بِمُسْتَطَاعَةٍ أَصْلًا، فَكَيْفَ يُؤْتَى بِالنَّهْي عَنْهَا، فَهُوَ مِنَ النَّهْي عَنِ المُحَالِ. ب) قَدْ ثَبَتَ بِأَحَادِيْثَ أَنَّ المَوُتَى يُصَلُّوْنَ فِي قُبُوْرِهِم؛ مِنْهَا (الأَنْبِيَاءُ أَحْياءٌ فِي قُبُوْرِهِمْ يُصَلُّوْنَ). (¬4) وَمِنْهَا حَدِيْثُ صَلَاةِ مُوْسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرِهِ عِنْدَمَا رَآهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬5) وَمِثْلُهُ حَدِيْثُ سُؤَالِ المَلَكَيْنِ لِلمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ (فيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِيْ كَانَ قَبْلَكُم؛ مَا تَقُوْلُ فِيْهِ وَمَاذَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ؟ فَيَقُوْلُ: دَعُوْنِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ) الحَدِيْثُ. (¬6) ¬

_ (¬1) وَيَكُوْنُ عِنْدَهُم مَعْنَى الحَدِيْثِ بِتَمَامِهِ (لَا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم كَالقَبْرِ لَا تُصَلُّونَ فِيْهِ، بَلْ صَلُّوا فِي بُيُوْتِكُم لِأَنَّ المَوْتَى لَا يُصَلُّوْنَ). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (492) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2767). (¬3) مُسْلِمٌ (780). وَفِي البُخَارِيِّ (432) بِلَفْظِ (اجْعَلُوا فِي بُيُوْتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوْهَا قُبُوْرًا)؛ وَتَرْجَمَ لَهُ البُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي المَقَابِرِ). (¬4) صَحِيْحٌ. أَبُو يَعْلَى (6888) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (621). (¬5) مُسْلِمٌ (2375) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. (¬6) حَسَنٌ. ابْنُ حبَّان (3113) فِي صَحِيْحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3561).

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعْبُدُ الأَوْثَانَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ أُوْتُوا نَصِيْبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُوْنَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ وَيَقُوْلُوْنَ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِن الَّذِيْنَ آمَنُوا سَبِيْلًا} (النِّسَاء: 51). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوْبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيْرَ وَعَبَدَ الطَاغُوْتَ} (المَائِدَة:60). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {قَالَ الَّذِيْنَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (الكَهْف:21). وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ, حَتَّى لَوْ دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوْهُ). قُلْنَا: يَا رَسُوْلَ اللهِ, اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ؟). أَخْرَجَاهُ. (¬1) وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ؛ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيْتُ الكَنْزَيْن الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَيَسْتَبِيْحَ بَيْضَتَهُمْ. وَإِنّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ - وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - حَتَّىَ يَكُوْنَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا). (¬2) وَرَوَاهُ البَرْقَانِيُّ فِي صَحِيْحِهِ، وَزَادَ: (وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ المُضِلِّيْنَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ؛ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَلَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِيْنَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُوْنُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُوْنَ ثَلَاثُوْنَ - كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ - وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ؛ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُوْرَةٌ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى). (¬3) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ النِّسَاءِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ المَائِدَةِ. الثَّالِثَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ الكَهْفِ. الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَهَمُّهَا؛ مَا مَعْنَى الإِيْمَانِ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ فِي هَذَا المَوْضِعِ؛ هَلْ هُوَ اعْتِقَادُ قَلْبٍ؟! أَوْ هُوَ مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهَا مَعَ بُغْضِهَا وَمَعْرِفَةُ بُطْلَانِهَا؟ الخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ الكُفَّارِ الَّذِيْنَ يَعْرِفُوْنَ كُفْرَهُمْ؛ أَهْدَى سَبِيْلًا مِنَ المُؤْمِنِيْنَ! السَّادِسَةُ: وَهِيَ المَقْصُوْدَةُ بِالتَّرْجَمَةِ؛ أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي حَدِيْثِ أَبِي سَعِيْدٍ. السَّابِعَةُ: تَصْرِيْحُهُ بِوُقُوْعِهَا - أَعْنِي عِبَادَةَ الأَوْثَانِ - فِي هَذِهِ الأُمَّةِ فِي جُمُوْعٍ كَثِيْرَةٍ. الثَّامِنَةُ: العَجَبُ العُجَابُ؛ خُرُوْجُ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، مِثْلُ المُخْتَارِ - مَعَ تَكَلُّمِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَتَصْرِيْحِهِ بِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَنَّ الرَّسُوْلَ حَقٌّ وَأَنَّ القُرْآنَ حَقٌّ، وَفِيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ - وَمَعَ هَذَا يُصَدَّقُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَعَ التَّضَادِّ الوَاضِحِ، وَقَدْ خَرَجَ المُخْتَارُ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَتَبِعَهُ فِئَامٌ كَثِيْرَةٌ. التَّاسِعَةُ: البِشَارَةُ بِأَنَّ الحَقَّ لَا يَزُوْلُ بِالكُلِّيَّةِ كَمَا زَالَ فِيْمَا مَضَى، بَلْ لَا تَزَالُ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ. العَاشِرَةُ: الآيَةُ العُظْمَى؛ أَنَّهُمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ العَظِيْمَةِ؛ مِنْهَا إِخْبَارُهُ بِأَنَّ اللهَ زَوَى لَهُ المَشَارِقَ وَالمَغَارِبَ، وَأَخْبَرَ بِمَعْنَى ذَلِكَ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ بِخِلَافِ الجَنُوْبِ وَالشَّمَالِ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ أُعْطِيَ الكَنْزَيْنِ وَإِخْبَارُهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ لِأُمَّتِهِ فِي الِاثْنَتَيْنِ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ مُنِعَ الثَّالِثَةِ، وَإِخْبَارُهُ بِوُقُوْعِ السَّيْفِ، وَأَنَّهُ لَا يُرْفَعُ إِذْ وَقَعَ، وَإِخْبَارُهُ بِإِهْلَاكِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَسَبْيِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَخَوْفِهِ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ المُضِلِّيْنَ، وَإِخْبَارُهُ بِظُهُوْرِ المُتَنَبِّئِيْنَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَإِخْبَارُهُ بِبَقَاءِ الطَّائِفَةِ المَنْصُوْرَةِ. وَكُلُّ هَذَا وَقْعِ - كَمَا أَخْبَرَ - مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِنْ أَبْعَدِ مَا يَكُوْنُ فِي العُقُوْلِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: حَصْرُ الخَوْفِ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ المُضِلِّيْنَ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيْهُ عَلَى مَعْنَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (3456)، وَمُسْلِمٌ (2669). (¬2) مُسْلِمٌ (2889). (¬3) صَحِيْحٌ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ (4252). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2654).

الشرح

الشَّرْحُ - الأَوْثَانُ: جَمْعُ وَثَنٍ. قِيْلَ: سُمِّيَ وَثَنًا لِانْتِصَابِهِ وَثَبَاتِهِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ - مِنْ وَثَنَ بِالمَكَانِ أَيْ: أقَامَ بِهِ فَهُوَ وَاثِنٌ -. (¬1) - قَوْلُ المُصَنِّفِ (بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ) وَلَيْسَ كُلَّهَا، وَذَلِكَ لِوُجُوْدِ الطَّائفَةِ المْنَصُوْرَةِ فِيْهَا الَّتِيْ تَكُوْنُ بَاقِيَةً عَلَى الحَقِّ، فَفِيْهِ بُشْرَى بِأَنَّ الحَقَّ لَا يَزُوْلُ بِالكُلِّيَّةِ، وَفِيْهِ أَيْضًا حُجِّيَّةُ الإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى شَيْءٍ دَخَلَتْ فِيْهَا الطَّائفةُ المَنْصُوْرَةُ. - سَبَبُ نُزُوْلِ آيَةِ سُوْرَةِ النِّسَاءِ هُوَ كَمَا فِي تَفْسِيْرِ ابْنِ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ (¬2): (وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيْدٍ المُقْرِي حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرو عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبٍ وَكَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الكِتَابِ وَأَهْلُ العِلْمِ؛ فَأَخْبِرُوْنَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ. فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ نَصِلُ الأَرْحَامَ وَنَنْحَرُ الكَوْمَاءَ (¬3) وَنَسْقِي المَاءَ عَلَى اللَّبَنِ وَنَفُكُّ العَانِي وَنَسْقِي الحَجِيْجَ. وَمُحَمَّد صُنْبُوْرٌ (¬4) قَطَعَ أَرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الحَجِيْجَ مِنْ غِفَارٍ؛ فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيْلًا). فَأَنْزَلَ اللهُ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ أُوْتُوا نَصِيْبًا} الآيَة. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْر وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ). - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَبَدَ الطَّاغُوْتَ} فِيْهَا قِرَاءَاتٌ؛ أَشْهَرُهَا: (وَعَبَدَ الطَّاغُوْتَ)، فَـ (عَبَدَ) فِعْلٌ مَاضٍ، وَ (الطَّاغُوْتَ): مِفْعُوْلٌ بِهِ. وَالقِرَاءَةُ الأُخْرَى (وعَبُدَ الطَّاغُوْتِ) بِفَتْحِ عَيْنِ (عَبُدَ) وَضَمِّ بَائِهَا وَخَفْضِ (الطَّاغُوْتِ) بِإِضَافَةِ (عَبُدَ) إِلَيْهِ. وَعَنَوا بِذَلِكَ: وَخَدَمَ الطَّاغوتِ. (¬5) - فِي الآيَةِ فَائِدَةُ أَنَّ العِلمَ وَحْدَهُ لَيْسَ بِعَاصِمٍ مِنَ المَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُؤْمِنَ مَنْ أُوْتِيَ نَصِيْبًا مِنَ الكِتَابِ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، لِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَكْثَرُ دُعائِهِ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ). (¬6) - وَجْهُ المُنَاسَبَةِ مِنَ الآيَاتِ مَعَ البَابِ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا بِالحَدِيْثِ؛ وَهُوَ (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم)، فَإِذَا كَانَ الَّذِيْنَ أُوْتُوا نَصِيْبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُوْنَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ؛ وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ مَنْ يَرْكَبُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا؛ لَزِمَ مِنْ هَذَا أنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ، فَتَكُوْنُ الآيَةُ مُوَافِقَةً لِلتَّرجَمَةِ بِذَلِكَ. - قَوْلُهُ {بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ} الجِبْتُ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيْهِ، وَالطَّاغُوْتُ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَدْعُو إِلَى البَاطِلِ. (¬7) ¬

_ (¬1) تَاجُ العَرُوْسِ (239/ 36). (¬2) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْر (334/ 2). (¬3) سُمِّيَتْ (كَوْمَاءَ) لِأَنَّ عَلَى سَنَامِهَا شَحْمٌ مُتَكَوِّمٌ مُتَكَدِّسٌ. (¬4) الصُّنْبُوْرُ: الرَّجَلُ الفَرْدُ الضَّعِيْفُ الذَّلِيْلُ بِلَا أَهْلٍ وَلَا عَقِبٍ وَلَا نَاصِرٍ. تَاجُ العَرُوْسِ (353/ 12). (¬5) وَفِيْهَا أَيْضًا قِرَاءَاتٌ أُخْرُ أَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (414/ 10) وَقَالَ: (وأمَّا قِرَاءَةُ القَرَأَةِ؛ فِبِأَحَدِ الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ بَدَأْتُ بِذِكْرِهِمَا). (¬6) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3522) عَنْ أمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (4801). (¬7) الجِبْتُ بِالكَسْرِ: الصَّنَمُ وَالكَاهِنُ وَالسَّاحِرُ وَالسِّحْرُ وَالَّذِيْ لَا خَيْرَ فِيْهِ وكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى. القَامُوْسُ المُحِيْطِ (ص149).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيْلِ}: هَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ أَفَعَلِ التَّفْضِيْلِ فِيْمَا لَيْسَ فِي الطَّرَفِ الآخَرِ لَهُ مُشَارَكَةٌ. (¬1) - فِي الآيَةِ الأُوْلَى وَالثَّانِيَةِ فَائِدَةُ أنَّ الإِنْسَانَ يَرِثُ آبَاءَهُ وَأَجْدَادَهُ إِذَا كَانَ عَلَى نَهْجِهِم وَعَلَى طَرِيْقِهِم؛ فَيُخَاطَبُ خِطَابَهُم، حَيْثُ أَنَّ مَنْ جُعِلُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيْرَ قَدْ هَلَكُوا، وَهَؤُلْاَءِ عَلَى دِيْنِهِم وَإِنْ لَمْ يَكُوْنُوا مِنْ نَسْلِهِم أَصْلًا؛ وَمَعْ ذَلِكَ خُوْطِبُوا نِيَابَةً عَنْهُم لِكَوْنِهِم عَلَى نَهْجِهِم وَمُقِرُّوْنَ بِصِحَّةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِم. - (القُذَّةُ): وَاحِدَةُ رِيْشِ السَّهْمِ. - قَوْلُهُ (لَتَتَّبِعُنَّ): خَبْرٌ بِمَعْنَى النَّهْي، أَيْ: لَا تَتَشَبَّهُوا بِهِم وَلَا تُقَلِّدُوْهُم (¬2)، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ). (¬3) - قَوْلُهُ (زَوَى لِيَ الأَرْضَ): أَيْ جَمَعَ لِيَ الأَرْضَ وَضَمَّهَا لِي. - قَوْلُهُ (فَرَأَيْتُ): أَيْ: بِعَيْنِي (¬4)، وَقَدْ تَكُوْنُ مَنَامًا. - قَوْلُهُ (أُعْطِيْتُ): هُوَ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ لَهُ. - قَوْلُهُ (الكَنْزَيْنِ): أَيْ: ماَلُ الرُّوْمِ الَّذِيْ غَالِبُهُ الذَّهَبُ، وَمَالُ الفُرْسِ الَّذِيْ غَالِبُهُ الفِضَّةُ وَالجَوْهَرُ. وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيْلِ اللهِ). (¬5) (¬6) - قَوْلُهُ (بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ) السَّنَةُ: القَحْطُ وَالجَدْبُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِيْنَ} (الأَعْرَاف:130): أَي الجَدْبِ المُتَوَالِي. أَوْ بِسَنَةٍ: أَيْ: عَامٍ زَمَنِيٍّ، وَالمَعْنَى هَلَاكُهُم كُلُّهُم فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. ¬

_ (¬1) قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (144/ 3)، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِيْنَ} (المُؤْمِنُوْن:14)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (النَّمْل:59). (¬2) وَهَذَا الإِتِّبَاعُ المُرَادُ بِهِ تَقْلِيْدُ الأُمَمِ المَاضِيَةِ كَاليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى فِي عَادَاتِهِم مِمَّا لَا نَفْعَ فِيْهِ وَلَا خَيْرَ؛ كَمَا فِي الحَدِيْثِ هُنَا، وَالحَدِيْثُ يَشْمَلُ أَيْضًا فَارِسَ وَالرُّوْمَ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (7319) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (5114) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2831). وَفِي لَفْظٍ (لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وبَاعًا بِبَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ دَخَلْتُم، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم ضَاجَعَ أُمَّهُ بِالطَّرِيْقِ لَفَعَلْتُم). صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (8404) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1348). (¬4) قَدْ تَكُوْنُ تَقْوِيَةَ بَصَرٍ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَمْكَنَهُ رُؤْيَةُ مَا بَعُد مِنَ الأَرْضِ. (¬5) البُخَارِيُّ (3120)، وَمُسْلِمٌ (2918). (¬6) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (625/ 6): (وَقَدْ اسْتُشْكِلَ هَذَا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الفُرْسِ؛ لِأَنَّ آخِرَهُم قُتِلَ فِي زَمَنِ عُثْمَان، وَاسْتُشْكِلَ أَيْضًا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الرُّومِ! وَأُجِيْبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ المُرَادَ لَا يَبْقَى كِسْرَى بِالعِرَاقِ وَلَا قَيْصرَ بِالشَّامِ، وَهَذَا مَنْقُوْلٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ).

- قَوْلُهُ تَعَالَى (قَضَيْتُ قَضَاءً)، القَضَاءُ نَوْعَانِ: أ) شَرْعِيٌّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الإِسْرَاء:23). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُوْنَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِيْنًا} (الأَحْزَاب:36). ب) كَوْنِيٌّ: كَالحَدِيْثِ هُنَا، وكَقَوْلِهِ تَعَالَى {بَدِيْعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُوْلُ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} (البَقَرَة:117). وَكِلَاهُمَا حَقٌّ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالحَقِّ} (غَافِر:20). أمَّا التَّفْرِيْقُ بَيْنَهُمَا فَيَكُوْنُ مِنْ جِهَتَيْنِ: أ) الكَوْنِيُّ: وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَقَدْ لَا يُحِبُّهُ. ب) الشَّرْعِيُّ: قَدْ يَقَعُ وَقَدْ لَا يَقَعُ، وَهُوَ مَحْبُوْبٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى. - قَوْلُهُ (وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ): هَذِهِ الإِجَابَةُ بِعَدَمِ التَّسْلِيْطِ قُيِّدَتْ بِقَوْلِهِ (حَتَّى يَكُوْنَ بَعْضُهُم يُهْلِكُ بَعْضًا ويَسْبِي بَعْضُهُم بَعْضًا)، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُم؛ فَقَدْ يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِم عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِم؛ فَيَسْتَبِيْحَ بَيْضَتَهُم. فَفِيْهِ الإِرْشَادُ إِلَى أَنَّ تَفَرُّقَ الأُمَّةِ وَتَنَاحُرَهَا فِيْمَا بَيْنَهَا هُوَ سَبَبٌ لِتَسَلُّطِ العَدُوِّ عَلَيْهَا، وَأَنَّ اجْتِمَاعَهَا وَتَوَحُّدَهَا عَلَى الحَقِّ سَبَبٌ لِمَنْعِ الكُفَّارِ مِنَ الاسْتِيْلَاءِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ بِلَادِهَا. - قَوْلُهُ (بَيْضَتَهُمْ): أَيْ: حَوْزَتَهُم وَسَاحَتَهُم، وَالمَعْنَى: لَا يَسْتَبِيْحَ بِلَادَهُم وجَمَاعَتَهُم. - قَوْلُهُ (الأَئِمَّةَ المُضِلِّيْنَ): فِيْهِ أَنَّ الضَّلَالَ كَالحَقِّ - فِيْهِ أَئِمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَيْهِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُوْنَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لَا يُنْصَرُوْنَ} (القَصَص:41) وَهَذَا يَشْمَلُ الحُكَّامَ الفَاسِدِيْنَ والعُلَمَاءَ المُضِلِّيْنَ. (¬1) - قَوْلُهُ (فِئَامٌ)، الفِئَامُ: الجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. (¬2) ¬

_ (¬1) عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ؛ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: (هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلَامَ؟) قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: (يَهْدِمُهُ زَلَّةُ العَالِمِ، وَجِدَالُ المُنَافِقِ بِالكِتَابِ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ المُضِلِّيْنَ). صَحِيْحٌ. سُنَنَ الدَّارِمِيِّ (220). تَحْقِيْقُ المِشْكَاةِ (72). (¬2) لِسَانُ العَرَبِ (447/ 12).

- قَوْلُهُ (وَلَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِيْنَ): الحَيُّ: المُرَادُ بِهِ: القَبِيْلَةُ، وَمَعْنَى (يَلْحَقَ): يَتَّبِعَ، وَذَلِكَ إِمَّا بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِلَادِهِم وَيَسْكُنُوا مَعَهُم وَيَكُوْنوا مِنْ دَوْلَتِهِم، وَإِمَّا بِأَنْ يَبْقُوا فِي بِلَادِ المُسْلِمِيْنَ؛ وَلَكِنَّهُم عَلَى مَنْهَجِ الكُفَّارِ، وَيَرْتَدُّوْنَ عَنِ الإِسْلَامِ. وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوْصٌ كَثِيْرَةٌ مِنَ السُّنَّةِ الشَّرِيْفَةِ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ سَيَقَعُ فِي الأُمَّةِ - وَهُوَ وَاقِعٌ الآنَ - مِنْهَا: - (لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِيْ الخَلَصَةِ، وَذُوْ الخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِيْ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ فِي الجَاهِلِيَّةِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬1) (¬2) - (لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى)، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِيْنَ أَنْزَلَ اللهُ {هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِالهُدَى وَدِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْنَ} (التَّوْبَة:33) أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا! قَالَ: (إنَّهُ سَيَكُوْنُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيْحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيْمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فيهِ فَيَرْجِعُوْنَ إِلَى دِيْنِ آبَائِهِم). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) - (لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ منْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِيْنَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأوْثانَ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ثَوْبَان مَرْفُوْعًا. (¬4) - (لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللهُ اللهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬5)، وَفِي رِوَايَةٍ أَحْمَدَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ). (¬6) - قَوْلُهُ (طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي) (¬7): قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (¬8) (أَمَّا هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَقَالَ البُخَارِيُّ (¬9): هُمْ أَهْلُ العِلْمِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ لَمْ يَكُوْنُوا أَهْلَ الحَدِيْثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُم (¬10)! قَالَ القَاضِي عِيَاضُ: (إنَّمَا أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ الحَدِيْثِ)، قُلْتُ (النَّوَوِيُّ): وَيَحْتَمِلُ أَنْ هَذِهِ الطَّائفةَ مُفَرَّقَةٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ المُؤْمِنِيْنَ، مِنْهُم شُجْعَانٌ مُقَاتِلُوْنَ، وَمِنْهُم فُقَهَاءُ، وَمِنْهُم مُحَدِّثُونَ، وَمِنْهُم زُهَّادٌ وَآمِرُوْنَ بِالمَعْرُوْفِ وَنَاهُوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، وَمِنْهُم أَهْلُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الخَيْرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُوْنُوا مُجْتَمِعِيْنَ؛ بَلْ قَدْ يَكُوْنُوْنَ مُتَفَرِّقيْنَ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ). - قَوْلُهُ (لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ): خَذَلَهُم؛ أَيْ: لَمْ يَنْصُرْهُم وَيُوَافِقْهُم عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّهُ سَيُوْجَدُ مَنْ يَخْذُلُهُم، لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّهُم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيْرَةً بِإِذْنِ اللهِ} (البَقَرَة:249). ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (7116)، وَمُسْلِمٌ (2906) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. وَ (الأَلْيَةُ): العَجِيْزَةُ، أَوْ مَا رَكِبَ العَجُزَ مِنْ شَحْمٍ وَلَحْمٍ. القَامُوْسُ المُحِيْطُ (ص1260). قَالَ العَلَّامَةُ القَنوْجِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (حُسْنُ الأُسْوَةِ) (ص454): (وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهم يَرْتَدُّوْنَ وَيَرْجِعُوْنَ إِلَى جَاهِلِيَّتِهِم فِي عِبَادَةِ الأَوْثَانِ؛ فَتَرْمُلُ حَوْلَهُ نِسَاءُ دَوْسٍ طَائِفَاتٍ بِهِ؛ فَتَرْتَجُّ أَرْدَافُهُنَّ). (¬2) وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِيْ الخَلَصَةِ جَرِيْرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ البَجَليَّ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3020)، وَفِيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا تُرِيْحُنِي مِنْ ذِيْ الخَلَصَةِ؟) فَقَالَ جَرِيْرٌ: فَنَفَرْتُ فِي مَائَةٍ وَخَمْسِيْنَ رَاكِبًا، فَكَسَرْنَاهُ، وقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ) - وَفِي لَفْظٍ لَهُ (4357) - (كَانَ ذُو الخَلَصَةِ بَيْتًا بِاليَمَنِ لِخَثْعَمَ وبَجِيْلةَ؛ فِيْهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ، يُقَالُ لَهَا: الكَعْبَةُ، قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا). (¬3) مُسْلِمٌ (2907). (¬4) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4252)، وَهُوَ فِي مَتْنِ البَابِ. (¬5) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّذْكِرَةُ) (ص1351): (قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِم: قُيِّدَ (الله) بِرَفْعِ الهَاءِ وَنَصْبِهَا، فَمَنْ رَفَعَهَا؛ فَمَعْنَاهُ ذَهَابُ التَّوْحِيْدِ، وَمَنْ نَصَبَهَا؛ فَمَعْنَاهُ انْقِطَاعُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ. أَيْ: لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُوْلُ: اتَّقِ اللهَ). (¬6) مُسْلِمٌ (148)، وَأَحْمَدُ (13833) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. (¬7) وَحَدِيْثُ الطَّائِفَةِ المْنَصُوْرَةِ مُتَوَاتِرٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَحْتَ حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (5849). (¬8) شَرْحُ مُسْلِمٍ (66/ 13). (¬9) البُخَارِيُّ (101/ 9). (¬10) أورَدَهُ الحَاكِمُ فِي مَعْرِفَةِ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ (ص2).

- قَوْلُهُ (حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ): أَي الكَوْنِيُّ، وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ عِنْدَمَا يَأْتِي أَمْرُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنْ تَقْبِضَ الرِّيْحُ الطَّيّبَةُ نَفْسَ كُلِّ مُؤْمِنٍ فَلَا يَبْقَى إِلَّا شِرَارُ الخَلْقِ، وَعَلَيْهِم تَقُوْمُ السَّاعَةُ. (¬1) - قَوْلُهُ (سَيَكُوْنُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُوْنَ ثَلَاثُوْنَ): وَهُم مَنْ كَانَ لَهُ شَأْنٌ وَشَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ وَاتَّبَعَهُم أُنَاسٌ كَثِيْرٌ، وَإلَّا فَالكَذَّابُوْنَ المُدَّعُوْنَ لِلنُّبُوَّةِ كَثِيْروْنَ. - قَوْلُهُ (تَبَارَكَ): الصَّوَابُ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا العَبْدُ فَهُوَ مُبَارَكٌ. (¬2) - المُخْتَارُ هُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفيُّ، خَرَجَ وَغَلَبَ عَلَى الكُوْفَةِ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَظْهَرَ مَحَبَّةَ آلِ البَيْتِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الثَّأْرِ مِنْ قَتَلَةِ الحُسَيْنِ، فَتَتَبَّعَهُم وَقَتَلَ كَثِيْرًا مِمَّنْ بَاشَرَ ذَلِكَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، فَانْخَدَعَتْ بِهِ العَامَّةُ، ثُمَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَزَعَمَ أَنَّ جِبْرِيْلَ يَأْتِيْهِ. - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ (مَا مَعْنَى الإِيْمَانِ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ فِي هَذَا المَوْضِعِ؛ هَلْ هُوَ اعْتِقَادُ قَلْبٍ، أَوْ هُوَ مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهَا مَعَ بُغْضِهَا وَمَعْرِفَةُ بُطْلَانِهَا؟): قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (¬3): (أمَّا إِيْمَانُ القَلْبِ وَاعْتِقَادُهُ؛ فَهَذَا لَا شَكَّ فِي دُخُوْلِهِ فِي الآيَةِ، وَأَمَّا مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهَا فِي العَمَلِ مَعَ بُغْضِهَا وَمَعْرِفَةِ بُطْلَانِهَا، فَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيْلٍ، فَإِنْ كَانَ وَافَقَ أَصْحَابَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا صَحِيْحَةٌ فَهَذَا كُفْرٌ، وَإِنْ كَانَ وَافَقَ أَصْحَابَهَا وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا صَحِيْحَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ، لَكِنَّهُ لَا شَكَّ عَلَى خَطَرٍ عَظِيْمٍ يُخْشَى أَنْ يُؤَدِّي بِهِ الحَالُ إِلَى الكُفْرِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ). (¬4) قُلْتُ: وَعِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ فِي تَوْجِيْهِ كَلَامِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ وَتَصْحِيْحِهِ؛ وَذَلِكَ بِكَوْنِ المُوَافَقَةِ ظَاهِرًا تَكُوْنُ كُفْرًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي القَلْبِ اطْمِئْنَانٌ بِالتَّوْحِيْدِ أَصْلًا وَانْقِيَادٌ لَهُ - كَحَالِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَالعِلْمَانِيِّيْنَ وَأَشْبَاهِهِم. (¬5) - فَائِدَةٌ) جَرَى فِي هَذِهِ الأُمَّةِ كَثِيْرٌ مِنِ اتِّبَاعِ الأُمَمِ المَاضِيَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِهَا، وَمِنْهَا عَلَى سَبِيْلِ المِثَالِ: بِنَاءُ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ. عِبَادَةُ القُبُوْرِ؛ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِيْنَ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنَسْرًا} (نُوْح:23). نُفَاةُ الصِّفَاتِ؛ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُمْ يَكْفُرُوْنَ بِالرَّحْمَنِ} (الرَّعْد:30). آكِلِيْنَ الرِّبَا؛ مَعَ آكِلِي السُّحْتِ. إِقَامَةُ الحُدُوْدِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَتَرْكُ الشُّرَفَاءِ. تَحْرِيْفُهُم (اسْتَوَى) إِلَى (اسْتَوْلَى)؛ مَعَ {مِنَ الَّذِيْنَ هَادُوا يُحَرِّفُوْنَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (النِّسَاء:46). التَّعَصُّبُ لِلمَشَايِخِ عَلَى حِسَابِ الحَقِّ؛ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ وَالمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التَّوْبَة:31). قَوْلُهُم عَنِ المُتَمَسِّكِيْنَ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُم رَجْعِيُّوْنَ؛ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّوْنَ} (المُطَفِّفِيْن:32). ¬

_ (¬1) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (66/ 13): (حَتَّى تَقُوْمَ السَّاعَةُ) أَيْ: (تَقْرُبَ السَّاعَةُ، وَهُوَ خُرُوْجُ الرِّيْحِ). (¬2) وَالبَرَكَةُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى هِيَ مِنْ جهتين: فِعْلُهُ (أَنَّهُ تَعَالَى جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ)، وَوَصْفُهُ (تَبَارَكَ: تَعَاظَمَ). (¬3) القَوْلُ المُفِيْدُ (483/ 1). (¬4) قُلْتُ: وَالمُوَافَقَةُ فِي الظَّاهِرِ لَا تَكُوْنُ كُفْرًا إنْ كَانَتْ أَيْضًا مِنْ بَابِ المُنَاظَرَةِ وَالمُحَاجَّةِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِيْنَ} (الأَنْعَام:76) (292/ 3): (وَالحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي هَذَا المَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الهَيَاكِلِ وَالأَصْنَامِ). (¬5) وَرَاجِعْ لُزُوْمًا المَسْأَلَةَ الأُوْلَى مِنْ (بَابِ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ) فَإِنَّ فِيْهَا تَحْقِيْقًا مُفِيْدًا لِمِثْلِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) احْتَجَّ الزَّاهِدُوْنَ فِي تَعَلُّمِ التَّوْحِيْدِ اليَوْمَ بِالحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبدَهُ المُصَلُّوْنَ؛ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيْشِ بَيْنَهُمْ)! (¬1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). فَمَا الجَوَابُ عَنْهُ؟ الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ هَذَا اليَأْسَ هُوَ بِحَسْبِ ظَنِّ الشَّيْطَانِ نَفْسِهِ، فَهُوَ لَا يَعْلمُ الغَيْبَ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيْثِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّسَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ لِكَثْرَةِ مَا رَأَى مِنِ انْتِشَارِ الإِسْلَامِ. (¬3) 2) أَنَّ الحَدِيْثَ ذَكَرَ وَصْفَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُم - المُصَلُّوْنَ - وَهُوَ وَصْفٌ أَخَصُّ مِنْ عُمُوْمِ المُسْلِمِيْنَ، فَتَكُوْنُ لِلعَهْدِ. وَالعَهْدُ هُنَا هُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أ) أَنَّهُم الصَّحَابَةُ الَّذِيْنَ هُمْ أَوَّلُ مَقْصُوْدٍ عِنْدَ ذِكْرِ الحَدِيْثِ، وَعَلَيْهِ فَمَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِم مِنَ الفِتْنَةِ لَا يُؤْمَنُ عَلَى غَيْرِهِم مِمَّنْ بَعُدَ عَهْدُهُ عَنِ الوَحْي وَالرِّسَالَةِ وَأُصُوْلِ الإِسْلَامِ. ب) المُصَلُّوْنَ الصَّلَاةَ التَّامَّةَ العَالِمُوْنَ بِحَقِيْقَتِهَا وَمَعَانِيْهَا، فَهُمُ المُوَحِّدُوْنَ حَقِيْقَةً، وَانْظُرِ اسْتِثْنَاءَ اللهِ تَعَالَى لَهُم بِقَوْلِهِ {إِلَّا المُصَلِّيْنَ} (المَعَارِج:22). (¬4) 3) أَنَّهُ يَئِسَ مِنْ جِهَةِ إِطْبَاقِ أَهْلِ الأَرْضِ عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى المُسْلِمِيْنَ بِوُجُوْدِ الطَّائِفَةِ المَنْصُوْرَةِ البَاقِيَةِ عَلَى الحَقِّ. (¬5) 4) بَقِيَ أَنْ يُقَالَ - وَهِيَ قَاصِمَةُ ظَهْرِ الزَّاهِدِيْنَ فِي تَعَلُّمِ التَّوْحِيْدِ - بِأَنَّ الحَدِيْثَ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا! فَنَقُوْلُ إِنَّهُ يَئِسَ مِنْ وُقُوْعِ الشِّرْكِ فِي جَزِيْرَةِ العَرَبِ فَقَط، فَهُوَ دَلِيْلُ قُوَّةِ الإِسْلَامِ هُنَاكَ وَانْتِشَارِهِ فِيْهِ وَرُسُوْخِ قَدَمِ عُلَمَائِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ البُلْدَانِ. (¬6) ¬

_ (¬1) وَقَرِيْبٌ مِنْهُ فِي الاسْتِدْلَالِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا؛ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوْهَا). البُخَارِيُّ (3158)، وَمُسْلِمٌ (2961) عَنْ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوْعًا. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (211/ 3): (أي: عَلَى مَجْمُوْعِكُم، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنَ البَعْضِ؛ أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى). (¬2) مُسْلِمٌ (2812). (¬3) وَأَمَّا حَدِيْثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ - وَالَّذِيْ بَعَثَكَ بِالحَقِّ - إِنَّهُ لَيَعْتَرِضُ فِي صَدْرِي الشَّيْءُ؛ وَوَدِدْتُ أَنْ أَكُوْنَ حُمَمًا، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ قَدْ يَئَّسَ الشَّيْطَانَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالمُحَقَّرَاتِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ). فَهُوَ مُنْقَطِعٌ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (172/ 20). انْظُرِ كِتَابَ (المَطَالِبُ العَالِيَةُ) (553/ 12) لِلحَافِظِ العَسْقَلَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:45). وَفِي الحَدِيْثِ (مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ وَالرُّبُعَ وَالخُمُسَ - حَتَّى بَلَغَ - العُشُرَ). حَسَنٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (616) عَنْ أَبِي اليَسَرِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (538). (¬5) كَمَا فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (لَمَّا افتَتَحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ؛ رَنَّ إِبْلِيْسُ رَنَّةً اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ جُنُوْدُهُ، فَقَالَ: إيْأَسُوا أَنْ نَرَى أَمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ يَوْمِكُم هَذَا! وَلَكِنِ افْتِنُوْهُم فِي دِيْنِهِم، وَأَفْشُوا فِيْهِمُ النَّوْحَ). صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (11/ 12). الصَّحِيْحَةُ (3467). فَالكَلَامُ إِذًا هُوَ بِاعْتِبَارِ الأُمَّةِ كُلِّهَا. (¬6) وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ (8810) فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا تَحْقِرُوْنَ). صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (2635). وَهَذَا الوَجْهُ الأَخِيْرُ - عِنْدِي - هُوَ مِنْ بَابِ إِلْزَامِ الخَصْمِ بِلَازِمِ بَاطِلِهِ، وَإِلَّا فَالأَوْلَى هُوَ مَا ذُكِرَ سَابِقًا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) يُشْكِلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى الحَقِّ مَنْصُوْرَةً) مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ كَثِيْرًا مِنَ الَّذِيْنَ كَانُوا عَلَى الحَقِّ قُتِلُوا بِيَدِ أَعْدَائِهِم! وَالجَوَابُ: أَنَّ نَصْرَهَا هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) أَنَّهُ بِالحُجَّةِ وَالبُرْهَانِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ظَاهِرِيْنَ عَلَى الحَقِّ)، فَعُلُوُّهُم هُوَ بِالحَقِّ الَّذِيْ مَعَهُم. 2) أَنَّهُ فِي الآخِرَةِ بِالحُكْمِ لَهُم وَلِأَتْبَاعِهِم بِالثَّوَابِ، وَلِمَنْ حَاربَهُم بِشِدَّةِ العِقَابِ. (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬2): (قَدْ أَوْرَدَ أَبُو جَعْفَرٍ؛ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَاَلَّذِيْنَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (غَافِر:51) سُؤَالًا، فَقَالَ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَتَلَهُ قَوْمُه بِالكُلِّيَّةِ كَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَشَعْيَا (¬3)، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ إِمَّا مُهَاجِرًا كَإِبْرَاهِيْمَ، وَإِمَّا إِلَى السَّمَاءِ كَعِيْسَى، فَأَيْنَ النُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُوْنَ الخَبَرُ خَرَجَ عَامًّا وَالمُرَادُ بِهِ البَعْضُ، قَالَ: وَهَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُوْنَ المُرَادُ بِالنَّصْرِ الِانْتِصَارَ لَهُمْ مِمَّنْ آذَاهُمْ؛ وَسَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ فِي غَيْبَتِهِمْ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، كَمَا فُعِلَ بِقَتَلَةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا، وَشَعْيَا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مَنْ أَهَانَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ). (¬4) ¬

_ (¬1) أَفَادَهُمَا الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص739). (¬2) (150/ 7). (¬3) وَهُوَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيْلَ. (¬4) وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ - أَيْضًا - فِي التَّفْسِيْرِ (150/ 7): (وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النُّمْرُوْدَ أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى أَخْذَ عَزِيْزٍ مُقْتَدِرٍ، وَأَمَّا الَّذِيْنَ رَامُوا صَلْبَ المَسِيْحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ اليَهُوْدِ؛ فَسَلَّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الرُّوْمَ فَأَهَانُوْهُمْ وَأَذَلُّوْهُمْ وَأَظْهَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَة سَيَنْزِلُ عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا؛ فَيَقْتُلُ المَسِيْحَ الدَّجَّالَ وَجُنُوْدَهُ مِنَ اليَهُوْدِ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيْرَ، وَيَكْسِرَ الصَّلِيْبَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ؛ فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ، وَهَذِهِ نُصْرَةٌ عَظِيْمَةٌ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ فِي قَدِيْمِ الدَّهْرِ وَحَدِيْثِهِ؛ أَنَّهُ يَنْصُرُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِيْنَ فِي الدُّنْيَا وَيُقِرُّ أَعْيُنَهُمْ مِمَّنْ آذَاهُمْ).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) هَلِ المُرَادُ بِالقِرَدَةِ وَالخَنَازِيْرِ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ؛ هَذِهِ المَوْجُوْدَةَ؟ الجَوَابُ: لَا، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ القِرَدَةُ وَالخَنَازِيْرُ قَبْلَ ذَلِكَ). (¬1) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2663).

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ: (وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّيْنَ) يُشْكِلُ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ نُزُوْلِ عِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِتَشْرِيْعٍ جَدِيْدٍ؛ كَوَضْعِ الجِزْيَةِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ؟ (¬1) وَالجَوَابُ: أَنَّ نُبُوَّتَهُ سَابِقَةٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي عَامِلًا بِشَرِيْعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلَيْسَ بِالإِنْجِيْلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟)، فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (¬2): إِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ حَدَّثَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ)! قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: (تَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟) قُلْتُ: تُخْبِرُنِي، قَالَ: (فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬3) وَأَمَّا كَوْنُهُ يَضَعُ الجِزْيَةَ (¬4) وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ، فَلَيْسَ تَشْرِيْعًا جَدِيْدًا مِنْهُ، بَلْ هُوَ تَشْرِيْعٌ مِنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّه أَخْبَرَ بِهِ مُقَرِّرًا لَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى أَتْبَاعُهُ حِيْنَهَا بِالنَّصَارَى. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (2222)، وَمُسْلِمٌ (155). (¬2) الرَّاوي عَنْهُ هُوَ الوَلِيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ. (¬3) صَحِيْحُ مُسْلِمٍ (155). (¬4) قَوْلُهُ (وَيَضَعُ الجِزْيَةَ):) الصَّوَابُ فِي مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الكُفَّارِ إِلَّا الإِسْلَامَ، وَمَنْ بَذَلَ مِنْهُمُ الجِزْيَةَ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ بِهَا؛ بَلْ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ أَوِ القَتْلَ. هَكَذَا قَالَهُ الإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى). قَالَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (190/ 2).

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ الطَّائِفَةَ المَنْصُوْرَةَ هُمْ أَهْلُ الحَدِيْثِ، فمَا مَدَى صِحَّةِ هَذَا القَوْلِ؟ الجَوَابُ: فِيْهِ تَفْصِيْلٌ؛ إِنْ أُرِيْدَ بِذَلِكَ أَهْلُ الحَدِيْثِ المُصْطَلَحِ عَلَيْهِ- الَّذِيْنَ يَأْخُذُوْنَ الحَدِيْثَ رِوَايَةً وَدِرَايَةً - وَأُخْرِجَ مِنْهُمُ الفُقَهَاءُ وَعُلَمَاءُ التَّفْسِيْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيْحٍ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ التَّفْسِيْرِ وَالفُقَهَاءَ الَّذِيْنَ يَتَحَرَّوْنَ البِنَاءَ عَلَى الدَّلِيْلِ هُمْ فِي الحَقِيْقَةِ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الحَدِيْثِ صِنَاعَةً؛ لِأَنَّ العُلُوْمَ الشَّرْعيَّةَ هِيَ تَفْسِيْرٌ، وَحَدِيْثٌ، وَفِقْهٌ ... إِلَخ. فَالمَقْصُوْدُ إِذًا كُلُّ مَنْ تَحَاكَمَ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمْ أَهْلُ الحَدِيْثِ بِالمَعْنَى العَامِّ، فَيَشْمَلُ الفُقَهَاءَ الَّذِيْنَ يَتَحَرَّوْنَ العَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُوْنُوا مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ اصْطِلَاحًا. (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (95/ 4): (وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الحَدِيْثِ: المُقْتَصِرِيْنَ عَلَى سَمَاعِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ أَوْ رِوَايَتِهِ! بَلْ نَعْنِي بِهِمْ: كُلَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاتِّبَاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ القُرْآنِ، وَأَدْنَى خَصْلَةٍ فِي هَؤُلَاءِ: مَحَبَّةُ القُرْآنِ وَالحَدِيْثِ وَالبَحْثِ عَنْهُمَا وَعَنْ مَعَانِيْهِمَا وَالعَمَلِ بِمَا عَلِمُوْهُ مِنْ مُوْجِبِهِمَا). قُلْتُ: وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ أَهْلَ الحَدِيْثِ - المُصْطَلَحِ عَلَيْهِ - يَتَفَرَّدُوْنَ وَيَتَمَيَّزُوْنَ بِكَوْنِهِم أَكْثَرَ النَّاسِ صَلَاةً عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَتَعَرَّضُوْنَ لِذِكْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَثْنَاءَ مُمَارَسَتِهِم لِذَلِكَ العِلْمِ الشَّرِيْفِ.

باب ما جاء في السحر

بَابُ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَة مِنْ خَلَاقٍ} (البَقَرَة:102). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يُؤْمِنُوْنَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ} (النِّسَاء:51). قَالَ عُمَرُ: الجِبْتُ: السِّحْرُ، والطَّاغُوْتُ: الشَّيْطَانُ (¬1). وَقَالَ جَابِرٌ: الطَّوَاغِيْتُ: كُهَّانٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ؛ فِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ. (¬2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ)، قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِيْ حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيْمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ). (¬3) وَعَنْ جُنْدُبٍ مَرْفُوْعًا (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: الصَّحِيْحُ أَنَّهُ مَوْقُوْفٌ. (¬4) وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبَدَةَ؛ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنِ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ. (¬5) وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ أَنَّهَا أَمَرَتْ بِقَتْلِ جَارِيَةٍ لَهَا سَحَرَتْهَا؛ فَقُتِلَتْ (¬6). وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ جُنْدَبٍ. (¬7) قَالَ أَحْمَدُ: عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬8) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ البَقَرَةِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ النِّسَاءِ. الثَّالِثَةُ: تَفْسِيْرُ الجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ، وَالفَرَقُ بَيْنَهُمَا. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الطَّاغُوْتَ قَدْ يَكُوْنُ مِنَ الجِنِّ وَقَدْ يَكُوْنُ مِنَ الإِنْسِ. الخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ السَّبْعِ المُوبِقَاتِ المَخْصُوْصَاتِ بِالنَّهْيِ. السَّادِسَةُ: أَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ. الثَّامِنَةُ: وُجُوْدُ هَذَا فِي المُسْلِمِيْنَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَكَيْفَ بَعْدَهُ?! ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (45/ 6) تَعْلِيْقًا، وَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيْرهِ وَمُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ. وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. اُنْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (252/ 8) لِابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (45/ 6) تَعْلِيْقًا، وَوَصَلَهٌ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيْقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّه. اُنْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (252/ 8) لِابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬3) البُخَارِيُّ (2766)، وَمُسْلِمٌ (89). (¬4) ضَعِيْفٌ مَرْفُوْعًا، صَحِيْحٌ مَوْقُوْفًا. التِّرْمِذِيُّ (1460). الضَّعِيْفَةُ (1446). (¬5) صَحِيْحٌ. أَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (3156)، وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ (3043) وَأَحْمَدَ (1657). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (3043). (¬6) صَحِيْحٌ. الأَثَرُ فِي المُوَطَّأِ (871/ 2) وَهُوَ ضَعِيْفُ الإِسْنَادِ، وَلَكِنْ صَحَّ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (27912) عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا، وَوَجَدُوا سِحْرَهَا، وَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا سَحَرَتْهَا، وَوَجَدُوا سِحْرَهَا، وَاعْتَرَفَتْ بِهِ، فَكَأَنَّ عُثْمَانُ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ لأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ). أَفَادَهُ حَامِدُ مُحَمَّد طَاهِر فِي تَحْقِيْقِ كِتَابِ المُوَطَّأِ (ص580) طَبْعَةُ دَارِ الفَجْرِ لِلتُّرَاثِ - القَاهِرَة. (¬7) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (8975)، وَالدَّارَقُطْنِيُّ (3205)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (16501). اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثَ الضَّعِيْفَةِ (1446). (¬8) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (365/ 1).

الشرح

الشَّرْحُ - السِّحْرُ لُغَةً: كُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُه وَدَقَّ. (¬1) وَشَرْعًا: (عَزَائِمُ (¬2) وَرُقَى وَعُقَدُ تُؤَثِّرُ فِي الأَبْدَانِ وَالقُلُوْبِ فَيُمْرِضُ وَيَقْتُلُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوجِهِ وَيَأخُذُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ). (¬3) وَفِي هَذَا البَابِ لَنْ نَتَعَرَّضَ لِلمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا لِلشَّرْعِيِّ الَّذِيْ يَكُوْنُ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ وَالاسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِيْنِ. - مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ السِّحْرِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّ السِّحْرَ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ. - السِّحْرُ لَا خَيْرَ فِيْهِ بَلْ كُلُّهُ فَسَادٌ، وَتَأَمَّلْ كَوْنَ عُمَرَ سَمَّى الجِبْتَ سِحْرًا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَتَعَلَّمُوْنَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (البَقَرَة:102)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوْسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِيْنَ} (يُوْنُس:81). - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ}: أَيْ: أَخَذَ السِّحْرَ وَبَذَلَ تَوْحِيْدَهُ عِوَضًا. - قَوْلُهُ تَعَالَى {يُؤْمِنُوْنَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوْتِ}: قَالَ عُمَرُ: (الجِبْتُ: السِّحْرُ) هَذَا فِي ذَمِّ أَهْلِ الكِتَابِ، لِأَنَّ السِّحْرَ يَكْثُرُ فِي اليَهُوْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، وَجَعْلُهُ إِيْمَانًا هُوَ دَلِيْلُ كُفْرِ مَنْ تَعَاطَاهُ. - تَفْسِيْرُ عُمَرَ الجِبْتَ بِالسِّحْرِ؛ وَالطَّاغُوْتَ بِالشَّيْطَانِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّفْسِيْرِ بِالمِثَالِ، وَكَذَا تَفْسِيْرُ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. - قَوْلُهُ (المُوْبِقَات): أَي المُهْلِكَات، وَالهَلَاكُ فِي الدُّنْيَا بِالعِقَابِ وَالحَدِّ، وَفِي الآخِرَةِ لِمَا لَهُ مِنَ الوَعِيْدِ بِالعَذَابِ. - قَوْلُهُ (وَأَكْلُ الرِّبَا): خَصُّهُ بِالأَكْلِ؛ لَيْسَ حَصْرًا لِوَجْهِ النَّهْي، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الغَالِبِ، لِأَنَّ أَوَّلَ وُجُوْهِ الانْتِفَاعِ هُوَ الأَكْلُ، وَكَذَا أَكْلُ مَالِ اليَتِيْمِ. - الرِّبَا (¬4): الزِّيَادَةُ، وَحُكْمُهُ شَرْعًا أَنَّهُ كَبِيْرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوْسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُوْنَ وَلَا تُظْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:279). ¬

_ (¬1) لِسَانُ العَرَبِ (348/ 4). (¬2) العَزَائِمُ: هِيَ القِرَاءَةُ وَالرُّقَى. (¬3) قَالَهُ المُوَفَّقُ ابْنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت 620هـ) فِي كِتَابِهِ (الكَافِي فِي فِقْهِ الإِمَامِ أَحْمَدَ) (64/ 4). (¬4) وَمَادَّةُ مَوْضُوْعِ الرِّبَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كِتَابِ (الوَجِيْزُ) (ص346) لِلشَّيْخِ عَبْدِ العَظِيْمِ بْنِ بَدَوِيِّ حَفِظَهُ اللهُ، وَمِنْ كِتَابِ (الدَّرَاريُّ المَضِيَّةُ) (259/ 2) لِلشَّوْكَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.

- أَنْوَاعُ الرِّبَا: 1) رِبَا النَّسِيْئَةِ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ المَشْرُوْطَةُ الَّتِيْ يَأْخُذُهَا الدَّائِنُ مِنَ المَدِيْنِ نَظِيْرَ التَّأْجِيْلِ. (¬1) 2) رِبَا الفَضْلِ: وَهُوَ بَيْعُ النُّقُوْدِ بِالنُّقُودِ، أَوِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ ذَرِيْعَةٌ إِلَى الرِّبَا الأَوَّلِ. وَرِبَا الفَضْلِ لَا يَجْرِي إِلَّا فِي الأَصْنَافِ السِّتَّةِ المَنْصُوْصِ عَلَيْهَا فِي هَذَا الحَدِيْثِ، وَهُوَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوْعًا (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ وَالبُرُّ بِالبُرِّ وَالشَّعِيْرُ بِالشَّعِيْرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيْعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬2) (¬3) فَإِذَا بِيْعَ جِنْسٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ بِجِنْسِهِ كَذَهَبٍ بِذَهَبٍ، أَوْ تَمْرٍ بِتَمْرٍ حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيْئَةُ - بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الجُوْدَةِ والرَّدَاءَةِ - وَلَا بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ فِي المَجْلِسِ. وَإِذَا بِيْعَ جِنْسٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، أَوْ بُرٍّ بِشَعِيْرٍ جَازَ التَّفَاضُلُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُوْنَ التَّقَابُضُ فِي المَجْلِسِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيْثِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالفِضَّةِ - وَالفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا - يَدًا بِيَدٍ؛ وَأَمَّا نَسِيْئَةً فَلَا، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ البُرِّ بِالشَّعِيْرِ - وَالشَّعِيْرُ أَكْثَرُهُمَا - يَدًا بِيَدٍ؛ وَأَمَّا نَسِيْئَةً فَلَا). (¬4) وَإِذَا بِيْعَ جِنْسٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ بِمَا يُخَالِفُهُ فِي الجِنْسِ وَالعِلَّةِ كَذَهَبٍ بِبُرٍّ، وَفِضَّةٍ بِمِلْحٍ، جَازَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيْئَةُ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيْدٍ). (¬5) وَلَا يَصِحُّ بَيْعٌ رَبَويٌّ بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا. - قَوْلُهُ (وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيْمِ): اليَتِيْمُ: هُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوْهُ قَبْلَ بُلُوْغِهِ، أَمَّا مَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ قَبْلَ بُلُوْغِهِ فَلَيْسَ يَتِيْمًا لَا شَرْعًا وَلَا لُغَةً. (¬6) وَاليَتِيْمُ مَأْخُوْذٌ مِنَ اليُتْمِ؛ وَهُوَ الإِنْفِرَادُ، أَي انْفَرَدَ عَنِ الكَاسِبِ لَهُ، لِأَنَّ أَبَاهُ هُوَ الَّذِيْ يَكْسِبُ لَهُ. (¬7) وَخَصَّ اليَتِيْمَ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يُدَافِعُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَوْلَى أَنْ يُرْحَمَ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ حَقًّا فِي الفَيْءِ. ¬

_ (¬1) وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَشْرُوْطَةً كَيْ يَخْرُجَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْ بَابِ المُكَافَأَةِ عَلَى المَعْرُوْفِ، لِذَا فَلَا يَصِحُّ القَوْلُ بِحَرْفِيَّةِ القَاعِدَةِ المَشْهُوْرَةِ (كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبَا)، وَهُوَ أَثَرٌ مَوْقُوْفٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ وَلَا يَصِحُّ. ضَعِيْفُ الجَامِعِ (4244). (¬2) مُسْلِمٌ (1587). (¬3) وَهَذِهِ تُسَمَّى الأَصْنَافَ الرَّبَويَّةَ - أَي الَّتِيْ يَجْرِي فِيْهَا الرِّبَا - وَأَيَّدَهُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ، وَالجُمْهُوْرُ عَلَى عَدَمِ الحَصْرِ فِي هَذِهِ السِّتَّةِ، وَخَصَّ الدَّلِيْلُ بَعْضَ الحَالَاتِ مِنَ الرِّبَا؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. (¬4) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3349) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3443). (¬5) البُخَارِيُّ (2068). (¬6) وَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ يَتِيْمًا كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2873) عَنْ عليٍّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7609). (¬7) قَالَ الأَزْهَرِيُّ فِي (تَهْذِيْبُ اللُّغَةِ) (242/ 14): (وَقَالَ الأَصْمَعيُّ: اليُتْمُ فِي البَهَائِمِ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ، وَفِي النَّاسِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ).

- قَوْلُهُ (وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزّحْفِ): التَّوَلِّي: الإِدْبَارُ وَالإعْرَاضُ، وَيَوْمُ الزَّحْفِ: هُوَ يَوْمُ تَلَاحُمِ الصَّفَّيْنِ فِي القِتَالِ مَعَ الكُفَّارِ. (¬1) وَالحَدِيْثُ خَصَّهُ القُرْآنُ بِثَلَاثَةِ اسْتِثْنَاءَاتٍ: 1) أَنْ يَكُوْنَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ - أَيْ: مُتَهَيِّئًا لَهُ - كمَنْ يَنْصَرِفُ لِيُصْلِحَ مِنْ شَأْنِهِ أَوْ يُهَيِّأَ الأَسْلِحَةَ وَيُعِدَّهَا، وَمِنْهُ الانْحِرَافُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ يَأْتِي العَدُوُّ مِنْ جهَتِهِ، فَهَذَا لَا يُعَدُّ مُتَوَلِّيًا، إِنَّمَا يُعَدُّ مُتَهَيِّئًا. 2) أَنْ يَتَحَيَّزَ إِلَى فِئَةٍ، كَمَا إِذَا حُصِرَتْ سَرِيَّةٌ لِلمُسْلِمِيْنَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا العَدُوُّ؛ فَانْصَرَفَ مِنْ هَؤُلَاءِ لِيُنْقِذَهَا، وَدَلِيْلُ هَذِيْنِ الأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيْرُ} (الأَنْفَال:16). 3) إِذَا كَانَ الكفَّارُ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَي المُسْلِمِيْنَ، فَيَجُوْزُ الفِرَارُ حِيْنَئِذٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيْكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِيْنَ) (الأَنْفَال:66). (¬2) - قَوْلُهُ (وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِيْ حَرَّمَ الله إِلَاّ بِالحَقِّ): المُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا: بَدَنُ الآدَمِيِّ الَّذِيْ فِيْهِ الرُّوْحُ. وَقَوْلُهُ (إلَّا بِالحَقِّ) أَيْ: مِمَّا يُوْجِبُ القَتْلَ، كَالثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِيْنِهِ المُفَارِقِ لِلجَمَاعَةِ. كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) ¬

_ (¬1) وَسُمِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ؛ لِأَنَّ الجُمُوْعَ إِذَا تَقَابَلَتْ تَجِدُ أَنَّ بَعْضَهَا يَزْحَفُ إِلَى بَعْضٍ، كَالَّذِيْ يَمْشِي زَحْفًا - كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم يَهَابُ الآخَرَ - فَيَمْشِي رُوَيْدًا رُوَيْدًا. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (505/ 1): (أَوْ كَانَ عِنْدَهُم عُدَّةٌ لَا يُمْكِنُ لِلمُسْلِمِيْنَ مُقَاوَمَتُهَا، كَالطَّائِرَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ المُسْلِمِيْنَ مِنَ الصَّوَارِيْخِ مَا يَدْفَعُهَا، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الصُّمُوْدَ يَسْتَلْزِمُ الهَلَاكَ وَالقَضَاءَ عَلَى المُسْلِمِيْنَ؛ فَلَا يَجوْزُ لَهُم أَنْ يَبْقَوا). قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (رَوْضَةُ الطَّالِبِيْنَ) (449/ 7): (وَقَالَ الإِمَامُ (الجُوَيْنِيُّ): إِنْ كَانَ فِي الثَّبَاتِ الهَلَاكُ المَحْضُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ؛ وَجَبَ الفِرَارُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِيْهِ نِكَايةٌ فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: (النَّوَوِيُّ) هَذَا الَّذِيْ قَالَهُ الإِمَامُ هُوَ الحَقُّ، وَأَصَحُّ الوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬3) البُخَارِيُّ (6878).

- قَوْلُهُ (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ): صَحِيْحٌ مَوْقُوْفٌ، وَالرَّاوِي هُوَ جُنْدُبُ (الخَيْرِ) بْنُ كَعْبٍ الأزْدِيُّ؛ المُلَقَّبُ بِقَاتِلِ السَّاحِرِ (¬1)، وَلَيْسَ جُنْدُبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ. وَلُقِّبَ بِقَاتِلِ السَّاحِرِ لِمَا جَاءَ مِنْ (أَنَّ أَمِيْرًا مِنْ أُمَرَاءِ الكُوْفَةِ (الوَلِيْدَ بْنَ عُقْبَةَ) دَعَا سَاحِرًا يَلْعَبُ بَيْنَ يَدِي النَّاسِ (فَكَانَ يَأْخُذُ سَيْفَهُ فَيَذْبَحُ نَفْسَهُ؛ وَلَا يَضُرُّهُ! وَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَ الرَّجُلِ ثُمَّ يَصِيْحُ بهِ فَيَقُوْمُ خَارِجًا فَيَرْتَدُّ إِلَيْهِ رَأْسُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللهِ، يُحْيي المَوْتَى! فَبَلَغَ جُنْدَبَ، فَأَقْبَلَ بِسَيْفِهِ - وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ - فَلَمَّا رَآهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ؛ فَقَالَ: إنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُحيي نَفْسَهُ! ثُمَّ قَرَأَ {أَفَتَأْتُوْنَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:3) فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَنْ تُرَاعُوا، إنَّمَا أَرَدْتُ السَّاحِرَ. فَأَخَذَهُ الأَمِيْرُ فَحَبَسَهُ (وَأَمَرَ بِهِ الوَلِيْدُ دِيْنَارًا - صَاحِبَ السِّجْنِ؛ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا - فَسَجَنَهُ، فَأَعْجَبَهُ نَحْوُ الرَّجُلِ، فَقَالَ: أَتَسْتَطِيْعُ أَنْ تَهْرُبَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاخْرُجْ لَا يَسْأَلْنِي اللهُ عَنْكَ أَبَدًا). فَبَلَغَ ذَلِكَ سَلْمَانَ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعَا! لَمْ يَكُنْ يَنْبَغي لِهَذَا - وَهُوَ إِمَامٌ يُؤْتَمُّ بِهِ - يَدْعُو سَاحِرًا يَلْعَبُ بينَ يَدِيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يُعَاتِبَ أَمِيْرَهُ بِالسَّيْفِ). (¬2) (¬3) - قَوْلُهُ (وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ): القَذْفُ: بِمَعْنَى الرَّمِيُ، وَالمُرَادُ بِهِ هُنَا الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَالمُحْصَنَاتُ هُنَا الحَرَائِرُ، وَهُوَ الصَّحِيْحُ. - قَوْلُهُ (الغَافِلَاتُ): هُنَّ العَفِيْفَاتُ عَنِ الزِّنَا؛ البَعِيْدَاتُ عَنْهُ؛ اللَّاتِي لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِنَّ هَذَا الأَمْرُ، وَ (المُؤْمِنَاتُ) احْتِرَازًا مِنَ الكَافِرَاتِ. (¬4) وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَلَى القَاذِفِ ثَلَاثَةَ أُمُوْرٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُوْنَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوْهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُوْنَ} (النُّوْر:4). وَقَذْفُ المُحْصَنِيْنَ الغَافِلِيْنَ المُؤْمِنِيْنَ كَقَذْفِ المُحْصَنَاتِ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوْبِ، وَإنَّمَا خَصَّ بِذَلِكَ المَرْأَةَ؛ لِأَنَّ الغَالِبَ أَنَّ القَذْفَ يَكُوْنُ لِلنِّسَاءِ أَكْثَرُ؛ إِذِ البَغَايَا كَثِيْرَاتٌ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَقَذْفُ المَرْأَةِ أَشَدُّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَ فِي نَسَبِ أَوْلَادِهَا مِنْ زَوْجِهَا؛ فَيُلْحِقُ بِهَنَّ القَذْفُ ضَرَرًا أَكْبَرَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الغَالِبِ. ¬

_ (¬1) وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ. انْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (175/ 3). (¬2) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (8076)، وَالدَّارَقُطْنِيُّ (3205)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (16501)، وَالأَصْلُ لِلحَاكِمِ، وَمَا بَيْنَ قَوْسَيْنِ مُضَافٌ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّتِيْ أَوْرَدَهَا الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِأَسَانِيْدَ صَحِيْحَةٍ. اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (1446). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الضَّعِيْفَةِ (1446): (وَمِثْلُ هَذَا السَّاحِرِ المَقْتُوْلِ؛ هَؤُلَاءِ الطُّرُقِيَّةُ الَّذِيْنَ يَتَظَاهَرُوْنَ بِأَنَّهُم مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ؛ فَيَضْرِبُوْنَ أنْفُسَهُم بِالسَّيْفِ وَالشِّيْشِ، وَبَعْضُهُ سِحْرٌ وَتَخْيِيْلٌ لَا حَقِيْقَةَ لَهُ، وَبَعْضُهُ تَجَارِبٌ وَتَمَارِيْنٌ يَسْتَطِيْعُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ إِذَا تَمَرَّسَ عَلَيْهِ؛ وَكَانَ قَوِيَّ القَلْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَسُّهُم النَّارَ بِأَفْوَاهِهِم وَأَيْدِيْهِم، وَدُخُوْلِهِمُ التَّنُّوْرَ). (¬4) قَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (62/ 14): (احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قَذْفِ الكَافِرَاتِ؛ فَإِنَّ قَذْفَهُنَّ لَيْسَ مِنَ الكَبَائِرِ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِيَّةً فَقَذْفُهَا مِنَ الصَّغَائِرِ لَا يُوجِبُ الحَدَّ، وَفِي قَذْفِهِ الأَمَةَ المُسْلِمَةَ التَّعْزيرُ دُوْنَ الحَدِّ).

- حَدِيْثُ بَجَالَةَ (¬1) بْنِ عَبَدَةَ أَنَّهُ (كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ). هُوَ صَحِيْحٌ، لَكِنَّ لَفْظَهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَأَحْمَدَ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ. وَفِيْهِ مِنَ الفِقْهِ أَمْرُ الخَلِيْفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَمْرُهُ النَّاسَ - بِقَتْلِ السَّوَاحِرِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ الاسْتِفْصَالُ. - قَوْلُهُ (حَدُّ السَّاحِرِ): بِمَعْنَى: عُقُوْبَةُ السَّاحِرِ (¬2)، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّاحِرَ مُرْتَدٌّ بِسِحْرِهِ، وَالرِدَّةُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا بِالقَتْلِ (¬3)، وَالفَرْقُ بَيْنَ الحَدِّ وَعُقُوَبَةِ الرِّدَّةِ يَظْهَرُ فِي جَانِبَيْنِ: أ - أَنَّ الحَدَّ إِذَا بَلَغَ الإِمَامَ لَا يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ، أَمَّا الكُفْرُ؛ فَإِنَّه يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ. (¬4) ب- أَنَّ الحُدُوْدَ كَفَّارَاتٌ لِأَصْحَابِهَا وَتَنْفَعُ صَاحِبَهَا (¬5)، أَمَّا الرِّدَّةُ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا بِالقَتْلِ؛ وَلَا تَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ. ¬

_ (¬1) (بَجَالَة): بِفَتْحَتَيْنِ، وَ (عَبَدَة): بِفَتْحَتَيْنِ، العَنْبَريُّ؛ التَّمِيْمِيُّ، أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَكَانَ كَاتِبًا لِجُزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ. اُنْظُرْ الإِصَابَةَ (465/ 1). (¬2) أَيْ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى تَطْهِيْرِ المُسْلِمِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلُّهُ كُفْرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فَيَصِحُّ عَلَى مَحْمَلٍ عِنْدَهُ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُوْنَ سِحْرًا لَا كُفْرَ فِيْهِ؛ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الحَدِّ اصْطِلَاحًا. (¬3) وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (3017) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوْهُ). (¬4) وَأَمَّا اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ فَفِيْهَا تَفْصِيْلٌ، قَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (64/ 14): (قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيْفَةَ وَأَحْمَدُ - فِي المَشْهُوْرِ عَنْهُ -: لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: تُقْبَلُ. وَعَنْ مَالِكٍ: إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ كَالزِّنْدِيْقِ، فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبِلْنَاهُ وَلَمْ نُقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ قُتِلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُ: فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَتَعَمَّدِ القَتْلَ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ). (¬5) فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (3892) - بَابُ الحُدُوْدُ كَفَّارَةٌ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: (بَايِعُوْنِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا) وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّهَا، (فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ). قَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (273/ 23): (قَالَ الكِرْمَانِيُّ: وَهَذِهِ الآيَةُ هِيَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِيْنَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِيْنَكَ فِي مَعْرُوْفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} (المُمْتَحِنَةُ:12)).

- قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَقِبَ حَدِيْثِ جُنْدُبٍ - الَّذِيْ فِيْهِ قَتْلُ السَّاحِرِ -: (وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَغَيْرِهِمْ - وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (¬1) - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي سِحْرِهِ مَا يَبْلُغُ الكُفْرَ، فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا دُوْنَ الكُفْرِ؛ فَلَمْ نَرَ عَلَيْهِ قَتْلًا). (¬2) (¬3) - إِذَا تَابَ السَّاحِرُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ سِحْرَهُ لَا يَزِيْدُ عَنِ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَقَدْ صَحَّتْ تَوْبَةُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ لَهُ تَوْبَةٌ؛ لَا يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أُحْضِرَ إِلَى الإِمَامِ أَنَّهُ يُرْفَعُ عَنْهُ القَتْلُ، وَلَكِنَّهَا تَنْفَعُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ لَا يَزُوْلُ بِالتَّوْبَةِ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ الزِّنْدِيْقِ الَّذِيْ يُظْهِرُ الإِسْلَامَ وَيَدَّعِي التَّوْبَةَ مِنَ الكُفْرِ، فَأَمْرُهُ إِلَى الحَاكِمِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. - وَصْفُ السِّحْرِ يَخْتَلِفُ عَنْ تَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَالوَصْفُ يُبَيِّنُ حُكْمَهُ، أَمَّا تَعَلُّمُهُ فَقَدْ يُفْتَتَنُ بِهِ المَرْءُ فَيَعْمَلُهُ، وَتَجِدُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ لِلسَّاحِرِ (صِفْ لَنَا سِحْرَكَ). (¬4) - حَدِيْثُ السَّبْعِ المُوْبِقَاتِ وَرَدَ فِيْهِ عِدَّةُ أَلْفَاظٍ، وَقَدْ جَمَعَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ مَا صَحَّ مِنْ هَذِهِ الأَلْفَاظِ؛ فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَالمُعْتَمَدُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مَرْفُوْعًا - بِغَيْرِ تَدَاخُلٍ مِنْ وَجْهٍ صَحِيْحٍ - وَهِيَ السَّبْعَةُ المَذْكُوْرَةُ فِي حَدِيْثِ البَابِ، وَالانْتِقَالُ عَنِ الهِجْرَةِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالعُقُوْقُ وَاليَمِيْنُ الغَمُوْسُ وَالإِلْحَادُ فِي الحَرَمِ وَشُرْبُ الخَمْرِ وَشَهَادَةُ الزُّوْرِ وَالنَّمِيْمَةُ وَتَرْكُ التَّنَزُّهِ مِنَ البَوْلِ وَالغُلُوْلُ وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ وَفِرَاقُ الجَمَاعَةِ. فَتِلْكَ عِشْرُوْنَ خَصْلَةً). (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِي المُوَطَّأِ (871/ 2): (السَّاحِرُ: الَّذِيْ يَعْمَلُ السِّحْرَ؛ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ؛ هُوَ مِثْلُ الَّذِيْ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ؛ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ). (¬2) التِّرْمِذِيُّ (112/ 3). (¬3) وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ لِلبُخَارِيِّ (162)؛ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ سَحَرَتْهَا جَارِيَةٌ لَهَا، فَأَمَرَتْ بِهَا فَبَاعُوْهَا. صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (120). وَبَوَّبَ عَلَيْهِ البَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (236/ 8) (بَابُ مَنْ لَا يَكُوْنُ سِحْرُهُ كُفْرًا، وَلَمْ يَقْتُلْ بِهِ أَحَدًا؛ لَمْ يُقْتَلْ). وَفِي الأُمِّ (293/ 1) لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا بَيْعُ عَائِشَةَ الجَارِيَةَ - وَلَمْ تَأْمُرْ بِقَتْلِهَا - فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُوْنَ لَمْ تَعْرِفْ مَا السِّحْرُ؛ فَبَاعَتْهَا، لِأَنَّ لَهَا بَيْعَهَا عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ تَسْحَرْهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ السِّحْرَ شِرْكٌ مَا تَرَكَتْ قَتْلَهَا إِنْ لَمْ تَتُبْ، أَوْ دَفَعَتْهَا إِلَى الإِمَامِ لِيَقْتُلْهَا). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (371/ 1): (قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله: إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْر؛ قُلْنَا لَهُ: صِفْ لَنَا سِحْرَكَ، فَإِنْ وَصَفَ مَا يُوْجِبُ الكُفْرَ مِثْل مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ بَابِلٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ؛ وَأَنَّهَا تَفْعَل مَا يُلْتَمَسُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوْجِبُ الكُفْرَ؛ فَإِنْ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ). (¬5) فَتْحُ البَارِي (183/ 12).

الملحق الخامس على كتاب التوحيد) فوائد ومسائل باب ما جاء في السحر

المُلْحَقُ الخَامِسُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) فَوَائِدُ وَمَسَائِلُ بَابِ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ - الفَائِدَةُ الأُوْلَى) تَفْسِيْرُ آيَاتِ سُوْرَةِ البَقَرَةِ مِنْ تَفْسِيْرِ الشَّيْخِ السَّعْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (¬1): قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِيْنُ عَلَى (¬2) مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِيْنَ كَفَرُوا يُعَلِّمُوْنَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوْتَ وَمَارُوْتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُوْلَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُوْنَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُوْنَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّيْنَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُوْنَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُوْنَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوْبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:103). قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (هُمْ كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ، فَلْم يَسْتَعْمِلْهُ سُلَيْمَانُ، بَلْ نَزَّهَهُ الصَّادِقُ فِي قِيْلِهِ {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أَيْ: بِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَلَمْ يَتَعَلَّمْهُ، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِيْنَ كَفَرُوا} بِذَلِكَ. {يُعَلِّمُوْنَ النَّاسَ السِّحْرَ} مِنْ إِضْلَالِهِم وَحِرْصِهِم عَلَى إِغْوَاءِ بَني آدَمَ، وَكَذَلِكَ اتَّبَعَ اليَهُوْدُ السِّحْرَ الَّذِيْ أُنْزِلَ عَلَى المَلَكِيْنِ الكَائِنَيْنِ بِأَرْضِ بَابِلَ مِنْ أَرْضِ العِرَاقِ، أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا السِّحْرُ امْتِحَانًا وَابْتِلَاءً مِنَ اللهِ لِعِبَادِهِ فَيُعَلِّمَانِهِمُ السِّحْرَ. (¬3) ¬

_ (¬1) (ص61). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (350/ 1): (وَعَدَّاهُ بِـ (عَلَى) لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ (تَتْلُو): تَكْذِبُ). (¬3) وَقَدْ اسْتَعْرَضَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (419/ 2) قَوْلَيْنِ فِيْهَا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (قَوْلُهُ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ} قَالَ بَعْضُهُم: مَعْنَاهُ الجَحْدُ، وَهِيَ بمَعْنَى (لَمْ) فَتَأْوِيْلُ الآيَةِ عَلَى هَذَا المَعْنَى: وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى المَلَكَيْنِ، وَاتَّبَعُوا الَّذِيْ تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، وَلَا أَنْزَلَ اللهُ السِّحْرَ عَلَى المَلَكَينِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِيْنَ كَفَرُوا يُعَلِّمُوْنَ النَّاسَ السِّحْرَ. فَيَكُوْنُ حِيْنَئِذٍ قَوْلُهُ {بِبَابِلَ هَارُوْتَ وَمَارُوْتَ} مِنَ المُؤَخَّرِ الَّذِيْ مَعْنَاهُ التَّقدِيْمُ. وَقَالَ آخَرُوْنَ: بَلْ تَأْوِيْلُ (مَا) الَّتِيْ فِي قَوْلِهِ {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ}: (الذِيْ) ....). وَسَاقَ بِنَحْوِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ وَرَجَّحَهُ. وَالأَوَّلُ رَجَّحَهُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (50/ 2)، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَعَلَى الوَجْهِ الأَوَّلِ (مَا: النَافِيَة): يَكُوْنُ عِنْدَهُمُ المَلَكَانِ جِبْرِيْلُ وَمِيْكَائِيْلُ هُمَا الَّذَيْنِ ادَّعَى فِيْهِمُ اليَهُوْدُ النُّزُولَ بِالسِّحْرِ، وَهَارُوْتُ وَمَارُوْتُ هُمَا الَّذَيْنِ تَعَلَّمُوا السِّحْرَ مِنَ الشَّيَاطِيْنِ. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (لَا شَكَّ أَنَّ الآيَةَ فِيْهَا خِلَافٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيْرِ، لَكِنِ الَّذِيْ تَرَجَّحَ لَدَيَّ أَنَا شَخْصِيًّا بِأَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ} لَيْسَتْ نَافِيَةً، بَلْ هِيَ مَوْصُوْلَة، أَيْ: أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ المَلَكَيْنِ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ السِّحْرَ - حَيْثُ كَانَ السِّحْرُ انْتَشَرَ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ؛ وَاخْتَلَطَ أَمْرُهُ بِبَعْضِ المُعْجِزَاتِ الَّتِيْ كَانَ يَأْتِي بِهَا بَعْضُ الأَنْبِيَاءِ - كَمِثْلِ قِصَّةِ السَّحَرَةِ مَعَ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، حَيْثُ أَرَادَ فِرْعَوْنُ عَلَى يَدِي السَّحَرَةِ أَنْ يُضَلِّلَ الشَّعْبَ عَنْ دَعْوَةِ مُوْسَى إِلَى الحَقِّ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ إنَّمَا هُوَ السِّحْرُ، ثُمَّ كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَضَى عَلَى عَمَلِ السَّحَرَةِ وَأَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِاللهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، فَكَانَ عِلْمُهُم بِالسِّحْرِ سَبَبًا لَهُم لِيُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا كَانَ خَيَالًا وَسِحْرًا وَبَيْنَ مَا كَانَ حَقِيْقَةً، {فَأَلْقَى مُوْسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُوْنَ} (الشُّعَرَاء: 45)). أَشْرِطَةُ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش189).

{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى} يَنْصَحَاهُ، وَ {يَقُوْلَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} أَيْ: لَا تَتَعَلَّمِ السِّحْرَ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، فَيَنْهَيَانِهِ عَنِ السِّحْرِ، وَيُخْبِرَانِهِ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، فَتَعْلِيْمُ الشَّيَاطِيْنِ لِلسِّحْرِ عَلَى وَجْهِ التَّدْلِيْسِ وَالإِضْلَالِ، وَنِسْبَتُهُ وَتَرْويجُهُ إِلَى مَنْ بَرَّأَهُ اللهُ مِنْهُ - وَهُوَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - (هُوَ أَيْضًا عَلَى وَجْهِ الإِضْلَالِ) (¬1)، وَتَعْلِيْمُ المَلَكَيْنِ امْتِحَانًا مَعَ نُصْحِهِمَا لِئَلَّا يَكُوْنَ لَهُم حُجَّةٌ. (¬2) فَهَؤُلْاءِ اليَهُوْدُ يَتَّبِعُونَ السِّحْرَ الَّذِيْ تُعَلِّمُهُ الشَّيَاطِيْنُ وَالسِّحْرَ الَّذِيْ يُعَلِّمُهُ المَلَكَانِ، فَتَرَكُوا عِلْمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِيْنَ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِلْمِ الشَّيَاطِيْنِ، وَكُلٌّ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَفَاسِدَ السِّحْرِ فَقَالَ: {فَيَتَعَلَّمُوْنَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُوْنَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} مَعَ أَنَّ مَحَبَّةَ الزَّوْجَيْنِ لَا تُقَاسُ بِمَحَبَّةِ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ قَالَ فِي حَقِّهِمَا: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الرُّوْم:21) وَفِي هَذَا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيْقَةٌ، وَأَنَّهُ يَضُرُّ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ: بِإِرَادَةِ اللهِ، وَالإِذْنُ نَوْعَانِ: إِذْنٌ قَدَرِيٌّ؛ وَهُوَ المُتَعَلِّقُ بَمَشِيْئَةِ اللهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَإِذْنٌ شَرْعِيٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ: {فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ} (¬3) وَفِي هَذِهِ الآيَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ أَنَّ الأَسْبَابَ مَهْمَا بَلَغَتْ فِي قُوَّةِ التَّأْثِيْرِ، فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلقَضَاءِ وَالقَدَرِ؛ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً فِي التَّأْثِيْرِ. (¬4) ثُمَّ ذَكرَ أَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيْهِ مَنْفَعَةٌ لَا دِيْنِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ؛ كَمَا يُوْجَدُ بَعْضُ المَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ المَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الخَمْرِ والمَيْسِرِ: {قُلْ فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيْرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البَقَرَة:219) فَهَذَا السِّحْرُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ دَاعٍ أَصْلًا فَالمَنْهِيَّاتُ كُلُّهَا إِمَّا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ شَرُّهَا أَكْبَرُ مِنْ خَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ المَأْمُورَاتِ إِمَّا مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ أَوْ خَيْرُهَا أَكْثَرُ مِنْ شَرِّهَا. {وَلَقَدْ عَلِمُوا} أَيْ اليَهُوْدُ {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أَيْ: رَغِبَ فِي السِّحْرِ رَغْبَةَ المُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} أَيْ: نَصِيْبٍ، بَلْ هُوَ مُوْجِبٌ لِلعُقُوْبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُم إِيَّاهُ جَهْلًا وَلَكِنَّهُم اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ. {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُوْنَ} عِلْمًا يُثْمِرُ العَمَلَ مَا فَعَلُوْهُ. ¬

_ (¬1) زِيَادَةٌ مِنِّي لَيْسَتْ فِي الأَصْلِ كَيْ يَسْتَقِيْمَ الكَلَامُ. (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشَّمْس:8). قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (454/ 24): (فَبَيَّنَ لَهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَأْتِيَ أَو تَذَرَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ). قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (99/ 15): (كَذَلِكَ قَدْ قِيْلَ فِي قَوْلِهِ {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البَلَد:10): أَيْ: بَيَّنَا لَهُ طَرِيْقَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ وَهُوَ هُدَى البَيَانِ العَامِّ المُشْتَرَكِ. وَقِيلَ: هَدَيْنَا المُؤْمِنَ لِطَرِيْقِ الخَيْرِ وَالكَافِرَ لِطَرِيْقِ الشَّرِّ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُوْنُ قَدْ جَعَلَ الفُجُوْرَ هُدَى كَمَا جَعَلَ أُوْلَئِكَ البَيَانَ إلْهَامًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوْرًا} (الإِنْسَان:3) قِيْلَ: هُوَ الهُدَى المُشْتَرَكُ؛ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّتِيْ يَجِبُ سُلُوْكُهَا وَالطَّرِيقَ الَّتِيْ لَا يَجِبُ سُلُوْكُهَا. وَقِيلَ: بَلْ هَدَى كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى مَا سَلَكَهُ مِنَ السَّبِيْلِ {إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوْرًا}). (¬3) قُلْتُ: وَهِيَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عِنْدِي فِي كَوْنِهَا مِنَ الإِذْنِ الشَّرْعِيِّ - الَّذِيْ قَدْ يَقَعُ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ -، وَيُغْنِي عَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّيْنِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِيْنَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} (الشُّوْرَى:21). فَالإِذْنُ هُنَا هُوَ الأَمْرُ بِالشَّرْعِ؛ فَمِنَ النَّاسِ مُطِيْعٌ وَمِنْهُ عَاصٍّ. (¬4) حَيْثُ جُعِلَتْ مُقَيَّدَةً بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.

- الفائدة الثانية) اعلم أنه قد جاء في التفاسير كثير من الروايات حول هاروت وماروت

- الفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي التَّفَاسِيْرِ كَثِيْرٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ حَوْلَ هَارُوْتَ وَمَارُوْتَ وَمَا جَرَى مَعَهُمَا مِنْ إِنْزَالِهِمَا وَافْتِتَانِهِمَا بِالمَرْأَةِ (¬1) وَتَوْبَتِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ مَرْفُوْعًا، بَلْ أَقْصَى مَا قَدْ يَصِحُّ مِنْهَا هُوَ مَوْقُوْفٌ مَنْقُوْلٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ. (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) وَفِيْهَا الحَدِيْثُ المَوْضُوْعُ (لَعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّهْرَةَ، فَإِنَّهَا فَتَنَتِ المَلَكَيْنِ). مَوْضُوْعٌ. ابْنُ السُّنِّيِّ (ص604) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. الضَّعِيْفَةُ (913). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (360/ 1): (وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيْلهَا إِلَى أَخْبَار بَنِي إِسْرَائِيل؛ إِذْ لَيْسَ فِيْهَا حَدِيْثٌ مَرْفُوْعٌ صَحِيْحٌ مُتَّصِلُ الإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ المَصْدُوْقِ المَعْصُوْمِ الَّذِيْ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ القُرْآنِ إِجْمَالُ القِصَّةِ مِنْ غَيْرِ بَسْطٍ وَلَا إِطْنَابٍ فِيْهَا، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي القُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيْقَةِ الحَالِ). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الضَّعِيْفَةِ (913): (قُلْتُ: وَقَدْ زَعَمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ دَوْمَةِ الجَنْدَلِ أَنَّهَا رَأَتْهُمَا مُعَلَّقَيْنِ بِأَرْجُلِهِمَا بِبَابِلٍ، وَأَنَّهَا تَعَلَّمَتْ مِنْهُم السِّحْرَ- وَهُمَا فِي هَذِهِ الحَالِةِ - فِي قِصَّةٍ طَوِيْلَةٍ حَكَتْهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا؛ رَوَاهَا ابْنُ جَرِيْرٍ فِي تَفْسِيْرِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَكِنَّ المَرْأَةَ مَجْهُوْلَةٌ فَلَا يُوْثَقُ بِخَبَرِهَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ: (إِنَّهُ أَثَرٌ غَرِيْبٌ وَسِيَاقٌ عَجِيْبٌ)). وَ (دَوْمَةُ الجَنْدَلِ): اسْمُ مَوْضِعٍ فَاصِلٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ. قَالَهُ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةِ القَارِي) (97/ 4).

- الفائدة الثالثة) أنواع السحر

- الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ) أَنْوَاعُ السِّحْرِ: (¬1) قَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي): (¬2) (وذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازي أَنْوَاعَ السِّحْرِ ثَمَانِيَةً: 1) سِحْرُ الكَلْدَانِيِّيْنَ الَّذِيْنَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ الكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ المُتَحَيِّرَةَ - وَهِيَ السَّيَّارَةُ - وَكَانُوا يَعْتَقِدُوْنَ أَنَّهَا مُدَبِّرَةٌ لِلعَالَمِ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بِالخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُمُ الَّذِيْنَ بَعَثَ اللهُ إِبْرَاهِيْمَ الخَلِيْلَ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِم وَرَدًّا لِمَذَاهِبِهِم. 2) سِحْرُ أَصْحَابِ الأَوْهَامِ وَالنُّفُوْسِ القَوِيَّةِ. 3) الاسْتِعَانَةُ بِالأَرْوَاحِ الأَرْضِيَّةِ - وَهُمُ الجِنُّ - خِلَافًا لِلفَلَاسِفَةِ وَالمُعْتَزِلَةِ، وَهُم عَلَى قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنُوْنَ، وَكُفَّارٌ - وَهُمُ الشَّيَاطِيْنُ -. وَهَذَا النَّوعُ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ مِنَ الرُّقَى وَالدَّخَنِ، وَهَذَا النَّوْعُ المُسَمَّى بِالعَزَائِمِ وَعَمَلِ تَسْخِيْرٍ. 4) التَّخَيُّلَاتُ وَالأَخْذُ بِالعُيُوْنِ وَالشَّعْبَذَةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِيْنَ أَنَّ سِحْرَ السَّحَرَةِ بَيْنَ يَدِي فِرْعَوْنَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ. (¬3) 5) الأَعْمَالُ العَجِيْبَةُ الَّتِيْ تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيْبِ الآلَاتِ المُرَكَّبَةِ. 6) الاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِ الأَدْوِيَةِ؛ يَعْنِي فِي الأَطْعِمَةِ وَالدِّهَانَاتِ. 7) تَعَلُّقُ القَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يدَّعِي السَّاحِرُ أَنَّهُ عَرَفَ الاسْمَ الأعْظَمَ، وَأَنَّ الجِنَّ يُطِيْعُوْنَهُ وَيَنْقَادُوْنَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الأُمُوْرِ. 8) السَّعيُ بِالنَّميْمَةِ بِالتَّصْريْفِ مِنْ وُجُوْهٍ خَفِيَّةٍ لَطِيْفَةٍ، وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ. وَإنَّمَا أُدْخِلَ كَثِيْرٌ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاعِ المَذْكُوْرَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا، لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، ولِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ (إنَّ مِنَ البيَانِ لَسِحْرًا)، وَسُمِّيَ السُّحُوْرَ لِكَونِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخِرَ اللَّيْلِ). ¬

_ (¬1) أَشْهَرُهَا أَرْبَعٌ - تَسْهِيْلًا لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّمْيِيْزِ-: أ) عُقَدٌ وَرُقَى: وَهِيَ قِرَاءَاتٌ وَطَلَاسِمٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا السَّاحِرُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الشَّيَاطِيْنِ فِيْمَا يُرِيْدُ بِهِ ضَرَرَ المَسْحُوْرِ، لَكِنْ قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّيْنَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} (البَقَرَة:102). ب) خِفَّةُ اليَدِّ: وَهَذِهِ يُحْسِنُوْنَهَا بِالتَّدَرُّبِ عَلَى المُسَارَعَةِ بِفِعْلِ الأَشْيَاءِ، كَإِخْرَاجِ المُخْبُوءِ مِنْ حَيْثُ لَا يُشْعَرُ بِهِ، أَوِ اكْتِسَابِ المَهَارَةِ فِي أَدَاءِ أَعْمَالٍ يَعْسُرُ عَلَى النَّاسِ فِعْلُهَا. جـ) سِحْرُ العُيُوْنِ: وَهَذَا كَثِيْرٌ عِنْدَ الدَّجَّاليَنَ، فَهُوَ لَا يُدْخِلُ السَّيْفَ - مَثَلًا - فِي جَسَدِهِ، لَكِنَّهُ يَسْحَرُ عُيُوْنَ المُشَاهِدِيْنَ وَيُمَرِّرُ السَّيْفَ عَلَى جَانِبِهِ، وَيَراهُ النَّاسُ المَسْحُوْرُوْنَ مَرَّ فِي وَسَطِهِ، وَبَعْضُهُ يَكُوْنُ مِنَ القِسْمِ السَّابِقِ. د) اسْتِعْمَالُ المَوَادِّ الكِيْمَاوِيَّةِ: وَهَذِهِ يُحْسِنُهَا مَنْ يُجِيْدُ تَرْكِيْبَ المَوَادِّ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ؛ فَتَنْتُجُ مَادَّةٌ تَمْنَعُ تَأْثِيْرَ بَعْضِ المَوَادِّ، مِثْلَ مَا كَانَتْ تَصْنَعُ الطَّائِفَةُ الصُّوْفِيَّةٌ الرِّفَاعِيَّةُ مِنْ إِيْهَامِ النَّاسِ أَنَّهُم لَا تُؤَثِّرُ بِهِمُ النَّارُ. وَالحَقِيْقَةُ أَنَّهُم يَدْهَنُوْنَ جُلُوْدَهُم بِبَعْضِ المَوَادِّ الَّتِيْ تَمْنَعُ تَأْثِيْرَ النَّارِ فِيْهِم! وَقَدْ تَحَدَّاهُم شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيِمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ فِي أَنْ يَغْتَسِلُوا بِالمَاءِ السَّاخِنِ قَبْلَ دُخُوْلِهِمُ النَّارَ؛ فَرَفَضُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَشَفَ حِيْلَتَهُم. أَوْ أَنْ يَأْتِيَ السَّاحِرُ بِحَمَامَةٍ فَيَخْنِقَهَا أَمَامَ المُشَاهِدِيْنَ ثُمَّ يَضْرِبَهَا بِيَدِهِ فَتَقُوْمَ وَتَطِيْرَ! وَالحَقِيْقَةُ: أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ بِنْجٌ! فَأَشَمَّهَا إِيَّاهُ وأَوْهَمَهُم أَنَّهُ خَنَقَهَا فَمَاتَتْ، ثُمَّ لَمَّا ضَرَبَهَا أَفَاقَتْ مِنَ البِنْجِ! وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيْرٌ مِمَّا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ وَالمُشَعْوِذُوْنَ. (¬2) عُمْدَةُ القَارِي (61/ 14)، وَقَدْ اخْتَصَرَهَا رَحِمَهُ اللهُ مِنَ الأَصْلِ، ونَقَلْتُهَا عَنْهُ لِكَونِهَا مُخْتَصَرَةً دَرْءًا لِلإِطَالَةِ. (¬3) قَالَ فِي تَاجِ العَرُوْسِ (426/ 9): (الشَّعْوَذَةُ: السُّرْعَةُ. وَقِيْلَ: هِيَ الخِفَّةُ فِي كُلِّ أَمْرٍ). وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (44/ 2): (وَالشَّعْوَذِيُّ: البَرِيْد - لِخِفَّةِ سَيْرِهِ -). وَسَيَأْتِي مَعَنَا رَدُّ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ سِحْرَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَانَ مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ لَا الحَقِيْقَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ.

- الفائدة الرابعة) حكم السحر؛ أنه كفر (تعلمه، والعمل به)

- الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ) حُكْمُ السِّحْرِ؛ أَنَّهُ كُفْرٌ (تَعَلُّمُه، وَالعَمَلُ بِهِ): 1) مِنْ جِهَةِ التَّعَلُّمِ (¬1): قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِيْنَ كَفَرُوا يُعَلِّمُوْنَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البَقَرَة:102). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬3): (وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى تَكْفِيْرِ مَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ، وَيُسْتَشْهَدُ لَهُ بِالحَدِيْثِ (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). وَهُوَ صَحِيْحٌ مَوْقُوْفٌ). (¬4) 2) مِنْ جِهَةِ العَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُوْلَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوْبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُوْنَ}. فَالسِّحْرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. ¬

_ (¬1) أَيْ: تَعَلُّمُهُ لَيَعْمَلَ بِهِ، وَلَيْسَ لِلإِطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَعْنِي طَبْعًا أَنَّ الأَخِيْرَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنَ الأَوَّلِ. (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (176/ 14): (وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيْمُهُ فَحَرَامٌ، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَقْتَضِي الكُفرَ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا). قُلْتُ: وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ جَارٍ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ أَنَّ فِيْهِ تَفْصِيْلٌ مِنْ جِهَةِ الكُفْرِ. وَسَيَأْتِي البَحْثُ فِيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (225/ 10): (وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الآيَةِ عَلَى لِسَانِ المَلَكَيْنِ: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر)؛ فَإِنَّ فِيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، فَيَكُوْنُ العَمَلُ بِهِ كُفْرًا). (¬3) (363/ 1). (¬4) صَحِيْحٌ. البزَّارُ (256/ 5) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَوْقُوْفًا، صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3048). قُلْتُ: وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (217/ 10): (إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأَي).

- الفائدة الخامسة) السحر لا يضر إلا بإذن الله تعالى

- الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ) السِّحْرُ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى: - إِنَّ تَعْلِيْقَ أَثَرِ السِّحْرِ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى يُفِيْدُ كَمَالَ التَّوَكُّلِ عَلِيْهِ سُبْحَانَهُ، لِذَلِكَ فَالاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ تَعَالَى وَالرُّقَى الشَّرْعِيَّةُ هِيَ سَبِيْلُ التَّحَصُّنِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَأثَرِ السِّحْرِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ بِخَمْسٍ، مِنْهَا: (وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِيْنٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ). (¬1) (¬2) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2863) عَنِ الحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2604). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (372/ 1): (قُلْتُ: أَنْفَعُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِذْهَابِ السِّحْرِ؛ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُوْلِهِ فِي إِذْهَابِ ذَلِكَ؛ وَهُمَا المُعَوِّذَتَانِ، وَفِي الحَدِيْثِ (لَمْ يَتَعَوَّذْ المُتَعَوِّذُ بِمِثْلِهِمَا)، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الكُرْسِيِّ فَإِنَّهَا مَطْرِدَةٌ لِلشَّيْطَانِ). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ هُوَ عِنْدَ النَّسائِيِّ (5431) عَنْ عَقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهنيِّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ النَّسَائِيِّ (5431).

- الفائدة السادسة) ذكر شيء من أعراض السحر والمس

- الفَائِدَةُ السَّادِسَةُ) ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَعْرَاضِ السِّحْرِ وَالمَسِّ وَعِلَاجِ ذَلِكَ (¬1): ذَكَرَ أَهْلُ الخِبْرَةِ بِالرُّقَى أَعْرَاضًا لِلمَسِّ وَالسِّحْرِ، فَمِنْ عَلَامَاتِ المَسِّ مَا يَلِي: 1 - الإِعْرَاضُ وَالنُّفوْرُ الشَّدِيْدُ مِنْ سَمَاعِ الأَذَانِ أَوِ القُرْآنِ. 2 - الإغْمَاءُ أَوِ التَّشَنُّجُ أَوِ الصَّرَعُ وَالسُّقُوْطُ حَالَ القِرَاءَةِ عَلَيْهِ. 3 - كَثْرَةُ الرُّؤَى المُفْزِعَةِ. 4 - الوِحْدَةُ وَالعُزْلَةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ الغَرِيْبَةِ. 5 - قَدْ يَنْطِقُ الشَّيْطَانُ الَّذِيْ تَلَبَّسَ بِهِ عِنْدَ القِرَاءَةِ. 6 - التَّخَبُّطُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِيْنَ يَأْكُلُوْنَ الرِّبَا لَا يَقُوْمُوْنَ إِلَّا كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البَقَرَة:275). أَمَّا السِّحْرُ فَمِنْ أَعْرَاضِهِ: 1 - كُرْهُ المَسْحُوْرُ لِزَوْجَتِهِ أَوِ المَسْحُوْرَةُ لِزَوْجِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُوْنَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُوْنَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} (البَقَرَة:102). 2 - اخْتِلَافُ حَالَتِهِ خَارِجَ البَيْتِ عَنْ حَالَتِهِ دَاخِلَهُ اخْتِلَافًا كُلِّيًّا؛ فَيَشْتَاقُ إِلَى أَهْلِهِ وَبَيْتِهِ فِي الخَارِجِ، فَإِذَا دَخَلَ كَرِهَهُم أَشَدَّ الكُرْهِ. 3 - عَدَمُ القُدْرَةِ عَلَى وِقَاعِ الزَّوْجَةِ. 4 - تَوَالِي إِسْقَاطِ المَرْأَةِ الحَامِلِ بِاسْتِمْرَارٍ. 5 - التَّغَيُّرُ المُفَاجِئُ فِي التَّصَرُّفَاتِ دُوْنَ أَيِّ سَبَبٍ وَاضِحٍ. 6 - عَدَمُ اشْتِهَاءِ الطَّعَامِ بِالكُلِّيَّةِ. 7 - أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ. 8 - الطَّاعَةُ العَمْيَاءُ وَالمَحَبَّةُ المُفَاجِئَةُ وَالمُفْرِطَةُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ. هَذَا وَيَجِبُ الانْتِبَاهُ إِلَى أَنَّ الأَعْرَاضَ المَذْكُوْرَةَ آنِفًا لَا يُشْتَرَطُ - عِنْدَ تَوَفِّرِ بَعْضِهَا - أَنْ يَكُوْنَ الشَّخْصُ مُصَابًا بِالسِّحْرِ أَوِ المَسِّ، فَقَدْ تَكُوْنُ بَعْضُهَا لِأَسْبَابٍ عُضْوِيَّةٍ أَوْ نَفْسِيَّةٍ أُخْرَى. أما عِلَاجُ السِّحْرِ وَالمَسِّ، فَيَكُوْنُ بِـ: 1 - التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَصِدْقِ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ. 2 - الرُّقَى وَالتَّعْوِيْذَاتِ الشَّرْعيَّةِ. وَأَهَمُّهَا المُعَوِّذَتَانِ، وَهُمَا اللَّتَانِ شَفَى اللهُ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا قَطُّ، يُضَافُ إِلَيْهِمَا قِرَاءَةُ سُوْرَةِ الإِخْلَاصِ، وَسُوْرَةِ الفَاتِحَةِ؛ فَإِنَّهَا رُقْيَةٌ نَاجِحَةٌ كَمَا ثَبَتَ. 3 - اسْتِخْرَاجِ السِّحْرِ - إنْ أَمْكَنَ - وَإتْلَافِهِ؛ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَحَرَهُ لَبِيْدُ بْنُ الأَعْصَمِ اليَهُوْدِيُّ. 4 - اسْتِعْمَالِ الأَدْوِيَةِ المُبَاحَةِ كَأَكْلِ سَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ تَمْرِ العَاليَةِ (البَرْنِيِّ؛ مِنْ تُمُوْرِ المَدِيْنةِ النَّبَوِيَّةِ) عَلَى الرِّيْقِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ يَأْكُلُ مِنْ أَيِّ تَمْرٍ وَجَدَهُ؛ يَكُوْنُ نَافِعًا بِإِذْنِ اللهِ. (¬2) 5 - الحِجَامَةِ. 6 - الدُّعَاءِ. ¬

_ (¬1) مُسْتَفَادٌ مِنْ مَوْقِعِ (الإِسْلَامُ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ) عَلَى الشَّبَكَةِ العَنْكَبُوْتِيَّةِ - فَتْوَى رَقَم (240) -، بِإِشْرَافِ الشَّيْخِ صَالِحِ المُنَجِّدِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً؛ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ). البُخَارِيُّ (5769) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوْعًا.

- المسألة الأولى) هل يقتل الساحر؟

- المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلْ يُقْتَلُ السَّاحِرُ؟ فِيْهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ: 1 - يُقْتَلُ مُطْلَقًا رِدَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِالشِّرْكِ. 2 - يُقْتَلُ رِدَّةً إِذَا كَانَ بِشِرْكٍ، وَحَدًّا إِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ بِدُوْنِ شِرْكٍ - كَاسْتِعْمَالِ الأَدْوِيَةِ المُمْرِضَةِ -. 3 - قَوْلُ شَيْخِ الإِسْلَامِ بِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيْقِ؛ يُتْرَكُ أَمْرُهُ إِلَى الإِمَامِ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ، إِنْ رَأَى المَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي قَتْلِهِ؛ قَتَلَهُ. وَالأَرْجَحُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِهِ السِّحْرُ إِلَى الكُفْرِ فَقَتْلُهُ قَتْلُ رِدَّةٍ، ومَنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ السِّحْرُ إِلَى الكُفْرِ فَقَتْلُهُ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ؛ وَحَيْثُ رَأَى الإِمَامُ المَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ. (¬1) وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِيْقِ عُمُوْمُ أَمْرِ عُمَرَ لِلأُمَرَاءِ بِالقَتْلِ (¬2)، وَقَوْلُ جُنْدُبٍ وفِعْلُهُ، وَإِقْرَارُ سَلْمَانَ (¬3)، وَكَذَا فِعْلُ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. وَقَدْ سَبَقَ فِي البَابِ المَاضِي بَيَانُ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (509/ 1): (وَالحَاصِلُ: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُقْتَلَ السَّحَرَةُ - سَوَاءً قُلْنَا بِكُفْرِهِم أَمْ لَمْ نَقُلْ - لِأَنَّهُم يُمْرِضُوْنَ وَيَقْتُلُوْنَ ويُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَكَذَلِكَ بِالعَكْسِ، فَقَدْ يَعْطِفُوْنَ فَيُؤَلِّفُوْنَ بَيْنَ الأَعْدَاءِ، وَيَتَوَصَّلُوْنَ إِلَى أَغْرَاضِهِم، فَإِنَّ بَعْضَهُم قَدْ يَسْحَرُ أَحَدًا لِيَعْطِفَهُ إِلَيْهِ وَيَنَالَ مآرِبَهُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ سَحَرَ امْرَأَةً لِيَبْغِي بَهَا، وَلِأَنَّهُم كَانُوا يَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا؛ فَكَانَ وَاجِبًا عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ قَتْلُهُم بِدُوْنِ اسْتِتَابَةٍ مَادَامَ أَنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِهِم وَفَظَاعَةِ أَمْرِهِم، فَإِنَّ الحَدَّ لَا يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ؛ مَتَى قُبِضَ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يُنْفِذَ فِيْهِ الحَدَّ، وَالقَوْلُ بِقَتْلِهِم مُوَافِقٌ لِلقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُم يَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا، وَفَسَادُهُم مِنْ أَعْظَمِ الفَسَادِ، فَقَتْلُهُم وَاجِبٌ عَلَى الإِمَامِ، وَلَا يَجُوْزُ لِلإمَامِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ قَتْلِهِم، لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إِذَا تُرِكُوا وَشَأْنَهُم انْتَشَرَ فَسَادُهُم فِي أَرْضِهِم وَفِي أَرْضِ غَيْرِهِم، وَإِذَا قُتِلُوا سَلِمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِم، وَارْتَدَعَ النَّاسُ عَنْ تَعَاطِي السِّحْرِ). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (125/ 2) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ اِتِّبَاعِ سُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ مِنَ الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ (رَقَم 28) -: (وَبِكُلِّ حَالٍ، فَمَا جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةَ؛ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فِي عَصْرِهِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الحَقُّ، وَلَوْ خَالَفَ فِيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ). (¬3) قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مَوْضِعُ إِنْكَارِهِ عَلَى جُنْدُبٍ هُوَ الافْتِئَاتُ عَلَى الأَمِيْرِ وَمُبَاشَرَةُ الحَدِّ بِيَدِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

- المسألة الثانية) احتج بعضهم على عدم قتل الساحر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل من سحره!

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) احْتَجَّ بَعْضُهُم عَلَى عَدَمِ قَتْلِ السَّاحِرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلْ مَنْ سَحَرَهُ! وَالجَوَابُ: قَدْ تَقَدَّمَ عَمَلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ، وَلَكِنَّ سَبَبَ عَدَمِ القَتْلِ هُنَا - أَيْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَحَرَهُ - هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: أ) أَنَّ سَاحِرَ أَهْلِ الكِتَابِ مُسْتَثْنَى مِنَ القَتْلِ، لِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا السَّاحِرُ الَّذِيْ أَصْلُهُ مُسْلِمٌ؛ فَهُوَ مُرْتَدٌّ مُبَدِّلٌ لِدِيْنِهِ. وَفِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ - يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُوْلُ الله - إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِيْنِهِ؛ المُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬1) (¬2) ب) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ دَرْءًا لِلفِتْنَةِ، كَمَا فِي نَفْسِ الحَدِيْثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها، وَفِيْهِ (فَقُلْتُ: يَا رَسُوْل اللهِ؛ أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ! قَالَ: (لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا)، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ). (¬3) (¬4) جـ) أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَقَدْ عَفَا عَمَّن سَحَرَهُ. (¬5) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6867)، وَمُسْلِمٌ (1676). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (277/ 6) - تَعْلِيْقًا عَلَى تَبْوِيْبِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَابُ هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِيِّ إِذَا سَحَرَ -: (قَالَ ابْنُ بَطَّال: لَا يُقْتَلُ سَاحِرُ أَهْلِ العَهْدِ لَكِنْ يُعَاقَبُ، إِلَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ فَيُقْتَلُ، أَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَيُؤْخَذُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الجُمْهُوْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدْخَلَ بِسِحْرِهِ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ؛ نُقِضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ). وَقَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (63/ 14): (وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الكِتَابِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيْفَةَ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ المُسْلِمُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكُ وَأَحْمَدُ: لَا يُقْتَلُ لِقِصَّةِ لَبِيْدِ بْنِ أَعْصَمٍ). (¬3) وَهُوَ لَفْظٌ لِمُسْلِمٍ (2189). (¬4) اعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ هَذَا الحَدِيْثِ فِي شَأْنِ اسْتِخْرَاجِ السِّحْرِ وَقَتْلِ السَّاحِرِ مُتَنَوِّعَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَمْ أَجِدْ مَا يَرْوِي الغَلِيْلَ إِلَّا مَا وَجَّهَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيْثِ الصَّحِيْحَيْن) (341/ 4)، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَوْلُهَا: أَفَأَخْرَجْتَهُ؟ وَفِي لَفْظٍ فَهَلَّا أَحْرَقْتَهُ؟ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الَّذِيْ سُحِرَ فِيْهِ، إِلَّا أَنَّا قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيْقٍ آخَرَ وَفِيْهِ قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَفَلَا تَأْخُذُ الخَبِيْثَ فَتَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ: (أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانيَ اللهُ؛ وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيْرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا)، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِشَارَةَ إِلَى اليَهُوْدِيِّ السَّاحِرِ! وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لِلسَّاحِرِ وَذَلِكَ لِلسِّحْرِ). قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَخْرَجَ السِّحَرَ أَصْلًا وَحَلَّهُ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (19267)، وَالنَّسائيِّ فِي الكُبْرَى (3529) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمٍ بِلَفْظِ (فَاسْتَخْرَجَهَا فَجَاءَ بِهَا فَحَلَّلَهَا). وَأَوْرَدَهُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2761) بِلَفْظِ (فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُلَّ العُقَدَ - أَيْ: لِعَليٍّ -). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (236/ 10): (وَإنَّمَا لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِيْدَ بْنَ الأَعْصَمِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ خَشِيَ إِذَا قَتَلَهُ أَنْ تَثُوْرَ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ وَبَيْنَ حُلَفَائِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ مِنْ نَمَطِ مَا رَاعَاهُ مِنْ تَرْكِ قَتْلِ المُنَافِقِيْنَ سَوَاءً كَانَ لَبِيْدُ يَهُوْدِيًّا أَوْ مُنًافِقًا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الاخْتِلَافِ فِيْهِ).

- المسألة الثالثة) أورد بعضهم بعض الشبهات في شأن قاتل النفس المؤمنة؛ منها

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) أَوْرَدَ بَعْضُهُم بَعْضَ الشُّبُهَاتِ فِي شَأْنِ قَاتِلِ النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ (¬1)؛ مِنْهَا: - الشُّبْهَةُ الأُوْلَى) أَنَّهُ خَالِدٌ فِي النَّارِ - وَهُوَ كَافِرٌ تَبَعًا لِذَلِكَ -، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيْهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيْمًا} (النِّسَاء:93) (¬2)؟ وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ (¬3): أ) أَنَّ المُرَادَ بِالخُلُوْدِ هُوَ لِمُسْتَحِلِّ ذَلِكَ، وَالمُسْتَحِلُّ كَافِرٌ إِجْمَاعًا؛ وَتَبَعًا لِذَلِكَ هُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ (مُتَعَمِّدًا): (أَيْ: مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِهِ). (¬4) (¬5) ب) أَنَّ الجَزاءَ فِي الآيَاتِ لَيْسَ المَقْصُوْدُ وُقُوْعُهُ؛ وَإنَّمَا الإِخْبَارُ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، فَهُوَ وَعِيْدٌ وَلَيْسَ بِوَعْدٍ. (¬6) قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (عَوْنُ المَعْبُوْدِ) (¬7): (جُمْهُوْرُ السَّلَفِ وَجَمِيْعُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَمَلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى التَّغْلِيْظِ، وَصَحَّحُوا تَوْبَةَ القَاتِلِ كَغَيْرِهِ، وَقَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} أَيْ: إِنْ شَاءَ أَنْ يُجَازِيَهُ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}). (¬8) وَقَالَ أَبُو مِجْلَز: (هِيَ جَزَاؤُهُ؛ فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُ فَعَلَ). (¬9) ج) أَنَّ هَذِهِ النُّصُوْصَ مَخَصُوْصَةٌ بِالنُّصُوْصِ الدَّالَّةِ عَلَى العَفْوِ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَبِالتَّوْبَةِ وَبِأَحَادِيْثِ الشَّفَاعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِخْرَاجِ المُوَحِّدَينَ مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيْمًا} (النِّسَاء:48). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ؛ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلَانِ الجنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيْلِ اللهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوْبُ اللهُ عَلَى القَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬10) وَالشَّاهِدُ مِنَ الحَدِيْثِ كَوْنُهُ نَفَعَهُ عَمَلُهُ الصَّالِحُ؛ فَتَجَاوَزَ اللهُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ القَتْلِ. د) أَنَّ الخُلُوْدَ هُنَا لَيْسَ عَلَى بَابِهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ طُوْلُ البَقَاءِ. قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬11): (وَالخُلُودُ: البَقَاءُ، وَمِنْهُ جَنَّةُ الخُلْدِ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِيْمَا يَطُوْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: خَلَّدَ اللهُ مُلْكَهُ أَيْ: طَوَّلَهُ. قَالَ زُهَيْرٌ: (أَلَا لَا أَرَى عَلَى الحَوَادِثِ بَاقِيًا ... وَلَا خَالِدًا إِلَّا الجِبَالَ الرَّوَاسِيَا)). قُلْتُ: وَقَدْ عُلِمَ يَقِيْنًا زَوَالُ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْسِفُ الجِبَالَ فَلَا تَبْقَى. (¬12) (¬13) ¬

_ (¬1) وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ انْظُرْ شَرْحَ (بَابِ مَا جَاءَ فِي التَّنْجِيْمِ) مِنْ كِتَابِنَا هَذَا؛ وَمَا فِيْهِ مِنَ الكَلَامِ عَلَى نُصُوْصِ الوَعِيْدِ. وَفِي ظَاهِرِ هَذِهِ النُّصُوْصِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفهَمُ مِنْهَا الكُفْرُ المُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ؛ وَأَنَّ صَاحِبَهَا خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ. (¬2) وَبِمَعْنَاهَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوْعًا (كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَاّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكَا أَوْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4270). صَحِيْحُ الجَامِعِ (4524). (¬3) وَهِيَ أَوْجَهُهَا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬4) أَوْرَدَهُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (334/ 5). (¬5) قُلْتُ: وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4270) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوْعًا (مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ؛ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الجَامِعِ (6454). قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (348/ 7): (وفِي الحَدِيْثِ (مَن قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بقتْلِه؛ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا)؛ هَكَذَا جَاءَ الحَدِيْثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الحَدِيْثِ: قَالَ خَالِدُ بْنُ دَهْقَان - وَهُوَ رَاوِي الحَدِيْثِ -: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الغَسَّانِيِّ عَنْ قَوْلِهِ (اِعْتبَطَ بِقَتْلِهِ)، قَالَ: الَّذِيْنَ يُقاتَلوْنَ فِي الفِتْنَةِ؛ فَيَرَى أَنَّهُ عَلَى هُدَى؛ لَا يَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: وَهَذَا التَّفْسِيْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الغِبْطةِ - بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ - وَهِيَ الفَرَحُ وَالسُّرُوْرُ وَحُسْنُ الحَالِ، لِأَنَّ القَاتِلَ يَفْرَحُ بِقَتْل خَصْمِهِ، فَإِذَا كَانَ المَقْتُوْلُ مُؤْمِنًا وَفَرِحَ بِقَتْلِهِ دَخَلَ فِي هَذَا الوَعِيْدِ. وَقَالَ الخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ - وَشَرَحَ هَذَا الحَدِيْثَ - فَقَالَ: اعْتَبَطَ قَتْلَهُ، أَيْ: قَتَله ظُلْمًا لَا عَنْ قِصَاصٍ). (¬6) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَنْ وَعَدَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا، فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا، فَهُوَ فِيْهِ بِالخِيَارِ). صَحِيْحٌ. أَبُو يَعْلَى (3316) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2463). (¬7) هُوَ مُحَمَّدُ؛ شَمْسُ الحَقِّ؛ العَظِيْمُ آبَادِي؛ أَبُو الطَّيِّبِ، (ت 1329هـ). (¬8) عَوْنُ المَعْبُوْدِ (236/ 11). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ الحُجَّةِ فِي ذَلِكَ حَدِيْثُ الإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِيْ قَتَلَ تِسْعَة وَتِسْعِينَ نَفْسًا؛ ثُمَّ أَتَى تَمَامَ المِائَةِ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: لَا تَوْبَة لَكَ؛ فَقَتَلَهُ فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرَ فَقَالَ لَهُ: وَمَنْ يَحُول بَيْنك وَبَيْن التَّوْبَةِ. الحَدِيْث. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِمَنْ قَبْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ فَمِثْلُهُ لَهُمْ أَوْلَى لِمَا خَفَّفَ الله عَنْهُمْ مِنَ الأَثْقَالِ الَّتِيْ كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُم). (¬9) حَسَنٌ مَقْطُوْعٌ. سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4276). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4276). وَأَبُو مِجْلَزٍ: هُوَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ السَّدُوسِيُّ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، (ت 110 هـ). اُنْظُرْ تَقْرِيْبَ التَّهْذِيْبِ (586/ 1). (¬10) أَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ (2826) - بَابُ الكَافِر يَقْتُلُ المُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ أَوْ يُقْتَلُ -، وَمُسْلِمٌ (1890). (¬11) (241/ 1). (¬12) قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ - شَرِيْط رَقَم (28) -: (الخُلُوْدُ فِي القُرْآنِ نَوْعَانِ: خُلُوْدٌ أَبَدِيٌّ، وَخُلُوْدٌ أَمَدِيٌّ. الخُلُوْدُ فِي اللُّغَةِ - وَاسْتِعْمَالُ القُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ -: أَنَّ الخُلُوْدَ مَعْنَاهُ المُكْثُ الطَّوِيْلُ، إِذَا مَكَثَ طَوِيْلًا قِيْلَ لَهُ: خَالِدٌ، وَلِذَلِكَ العَرَبُ تُسَمِّي أَوْلَادَهَا خَالِدًا تَفَاؤُلًا بِطُوْلِ المُكْثِ؛ بِطُوْلِ العُمُرِ، سَمَّوْهُ خَالِدًا، يَعْنِي أَنَّهُ سَيُعَمِّرُ عُمْرًا طَوِيْلًا، وَلَيْسَ مَعْنَى الخُلُوْدِ يَعْنِي أَنَّهُ خُلُوْدٌ لَيْسَ مَعَهُ اِنْقِطَاعٌ، وَإِنَّمَا هَذَا يُمَيَّزُ بِالأَبَدِيَّةِ، لِهَذَا فِي الآيَاتِ ثَمَّ آيَاتٌ فِيْهَا {أَبَدًا}، وَثَمَّ آيَاتٌ لَيْسَ فِيْهَا الأَبَدِيَّةُ، فَلَمَّا جَاءَ فِي القَتْلِ قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيْهَا} (النِّسَاء:93)، أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الخُلُوْدَ فِي هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ أَبَدِيًّا لِأَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيْرَةِ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بِتَوْحِيْدِهِ). (¬13) قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَيْضًا الجَوَابُ بِمِثْلِ مَا قالَه السِّنْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ النَّسَائِيِّ (81/ 7): (وَكَأَنَّ المُرَادَ: كُلُّ ذَنْبٍ تُرْجَى مَغْفِرَتُهُ ابْتِدَاءً إِلَّا قَتْلُ المُؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغْفَرُ بِلَا سَبْقِ عُقُوْبَةٍ، وَإلَّا الكُفْرُ فَإِنَّه لَا يُغْفَرُ أَصْلًا).

الشبهة الثانية) قالوا: وليس للقاتل توبة

- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: وَلَيْسَ لِلقَاتِلِ تَوْبَةٌ - اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَعَنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (قَالَ: لَا تَوْبَةَ لَهُ)؛ وَعَنْ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {لَا يَدْعُوْنَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} (الفُرْقَان:70) (¬1) قَالَ: (كَانَتْ هَذِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ) البُخَارِيُّ؟ (¬2) (¬3) وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أ) أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الآيَتِيْنِ أَصْلًا، لِأَنَّ الأُوْلَى أَثْبَتَتْ لَهُ الجَزَاءَ، وَالثَّانِيَةَ أَثْبَتَتْ لَهُ قَبُوْلَ التَّوْبَةِ إِنْ تَابَ. قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (¬4): (وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَمُوْتُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ القَاتِلَ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ - وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا -، وَأَنَّ لَهُ تَوْبَةً). ب) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيْعُ اسْتِدْرَاكَ مَا فَاتَهُ؛ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَيَاةِ لِلمَيِّتِ؛ كَمَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَقُوقِ المَالِيَّةِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيْثُ النَّسَائِيِّ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ يَقُوْلُ: (يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالقَاتِلِ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، فَيَقُوْلُ: أَيْ: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيْمَ قَتَلَنِي؟). ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ؛ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللهُ ثُمَّ مَا نَسَخَهَا). فَهُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ عَدَمَ القَبُوْلِ هُوَ بِاعْتِبَارِ حَقِّ المَقْتُوْلِ الَّذِيْ لَا يُمْكِنُ إِرْجَاعُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟) (¬5)، وَلَيْسَ أَنَّهُ إِنْ تَابَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ. (¬6) وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ - عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مُطْلَقًا -. (¬7) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (هَذَا هُوَ المَشْهُوْرُ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً؛ وَجَوَازُ المَغْفِرَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوْءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوْرًا رَحِيْمًا} وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْهَبُ جَمِيْعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا - مَحْمُوْلٌ عَلَى التَّغْلِيْظِ وَالتَّحْذِيْرِ مِنَ القَتْل؛ وَالتَّوْرِيَةِ فِي المَنْعِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّتِيْ اِحْتَجَّ بِهَا اِبْنُ عَبَّاسٍ تَصْرِيْحٌ بِأَنَّهُ يُخَلَّدُ، وَإِنَّمَا فِيْهَا أَنَّهُ جَزَاؤُهُ، وَلَا يَلْزَم مِنْهُ أَنَّهُ يُجَازَى). (¬8) ¬

_ (¬1) قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِيْنَ لَا يَدْعُوْنَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُوْنَ النَّفْسَ الَّتِيْ حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُوْنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيْهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوْرًا رَحِيْمًا} (الفُرْقَان:70). (¬2) البُخَارِيُّ (4764). (¬3) وَفِي نَفْسِ البَابِ قَالَ ابْنُ عُبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ النِّسَاءِ. وَأَيْضًا فِي الحَدِيْثِ (أَبَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ لِقَاتِلِ المُؤمِنِ تَوْبَةً). صَحِيْحٌ. المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (163/ 6) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (689). (¬4) (فَيْضُ القَدِيْرِ) (71/ 1). (¬5) صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (3999). صَحِيْحُ النَّسائيِّ (3999). (¬6) قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ: (وَالتَّحْقِيْقُ فِي هَذَا: أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ تَتَعَلَّقُ فِيْهِ ثَلَاثَةُ حُقُوْقٍ: حَقٌّ لِأَوْلِيَاءِ المَقْتُوْلِ، وَحَقٌّ للهِ جَلَّ وَعَلَا، وَحَقٌّ لِلمَقْتُولِ نَفْسِهِ. فَأَمَّا حَقُّ أَوْلِيَاءِ المَقتولِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالقِصَاصِ أَوْ بِدَفْعِ الدِّيَةِ، وَأَمَّا حَقُّ اللهِ جَلَّ وعَلَا فَإِنَّه يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ (قُلْتُ: كَمَا فِي آيَةِ سُوْرَةِ الفُرْقَانِ)، وَيَبْقَى حَقُّ المَقْتُوْلِ لَابُدَّ مِنْ أَدَائِهِ، وَلَابُدَّ أَنْ تُؤَدَّى الحُقُوْقُ إِلَى أَصْحَابِهَا، لِأَنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُمْسِكًا قَاتِلَهُ فَيَقُوْلُ: (يَا رَبِّ! اسْأَلْ هَذَا فِيْمَ قَتَلَنِي؟) فَهَلْ يَضِيْعُ حَقُّهُ؟ لَا؛ لَنْ يَضِيْعَ حَقُّهُ. وَهَذَا وَجْهٌ اسْتَدَلَّ بِهِ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَيَجُوْزُ أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا يُرْضِي المَقْتُوْلَ عَنِ القَاتِلِ فِي ذَلِكَ المَوقِفِ إِذَا شَاءَ). مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (75)، شَرْحُ البَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلأَخِيْرِ بحَدِيْثِ (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرفَات وَأَهْلِ المَشْعَرِ؛ وَضَمِنَ عَنْهُم التَّبِعَاتَ). صَحِيْحٌ. أَوْرَدَهُ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1796) عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1151). (¬7) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ عِنْدَ حَدِيْث رَقَم (2799) - فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ فِي ذَلِكَ -: (الأُوْلَى: مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْهُ: أَنَّهُ أَتَاهُ رَجَلٌ؛ فَقَالَ: إنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي؛ وخَطَبَهَا غَيْرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا! فَهَلْ لِيْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: (أُمُّكَ حَيَّةٌ؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (تُبْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ). فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟ فَقَالَ: (إنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الوَالِدَةِ). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيْحَيْنِ. الثَّانِيَةُ: مَا رَوَاهُ سَعِيْدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} قَالَ: (لَيْسَ لِقَاتِلٍ تَوْبَةٌ؛ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْفِرِ اللهَ). أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيْرٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ - عَلَى قَوْلِهِ الأَوَّلِ - ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: (إِلَّا أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ). وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬8) شَرْحُ مُسْلِمٍ (159/ 18).

- المسألة الرابعة) ما سبب عطف السحر على الشرك في الحديث، رغم أن السحر هو من الشرك

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) مَا سَبَبُ عَطْفِ السِّحْرِ عَلَى الشِّرْكِ فِي الحَدِيْثِ؛ رُغْمَ أَنَّ السِّحْرَ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ السِّحْرَ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى خُطُوْرَتِهِ. 2) أَنَّ السِّحْرَ لَيْسَ مُطَابِقًا تَمَامًا لِلشِّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ لَيْسَ بِشِرْكٍ؛ كَمَا هُوَ فِي اسْتِخْدَامِ العَقَاقِيْرِ وَالتَّدْخِيْنِ وَخِفَّةِ اليَدِ.

- المسألة الخامسة) استدل بعضهم على جواز تعلم السحر بقول الرازي

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) اسْتَدَلَّ بَعْضُهُم عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ بِقَوْلِ الرَّازِي (¬1) رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬2): (أَنَّ العِلْمَ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيْحٍ وَلَا مَحْظُوْرٍ. اتَّفَقَ المُحَقِّقُوْنَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ العِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيْفٌ, وَأَيْضًا لِعُمُوْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ} (الزُّمَر:9)، وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُعْجِزَةِ، وَالعِلْمُ بِكَوْنِ المُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ)! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ (¬3): 1) قَوْلُهُ: العِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيْحٍ! إِنْ كَانَ عَقْلًا؛ فَجُمْهُوْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى المَنْعِ. 2) قَوْلُهُ: وَلَا مَحْظُوْرَ فِيْهِ! فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً). (¬4) 3) قَوْلُهُ: اتَّفَقَ المُحَقِّقُوْنَ عَلَى ذَلِكَ! لَيْسَ بِصَوَابٍ، فَأَيْنَ كَلَامُ الأَئِمَّةِ العُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِم عَلَى تَحْسِيْنِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ. (¬5) 4) قَوْلُهُ: لِعُمُوْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ}! فِيْهِ نَظَرٌ, لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى مَدْحِ العَالِمِيْنَ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ. (¬6) 5) قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَحْصُلُ العِلْمُ بِالمُعْجِزِ إِلَّا بِالعِلْمِ بِالسِّحْرِ! هُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ, لِأَنَّ أَعْظَمَ مُعْجِزَاتِ رَسُوْلِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ هُوَ القُرْآنُ العَظِيْمُ؛ وَالعِلْمُ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ السِّحْرِ أَصْلًا. ثُمَّ مِنَ المَعْلومِ بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِيْنَ وَأَئِمَّةَ المُسْلِمِيْنَ وَعامَّتَهُم كَانُوا يَعْلَمُوْنَ المُعْجِزَ وَيُفَرِّقُوْنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ, وَلَمْ يَكُوْنُوا يَعْلَمُوْنَ السِّحْرَ وَلَا تَعَلَّمُوْهُ وَلَا عَلَّمُوْهُ, وَاللهُ أَعْلَمُ. ¬

_ (¬1) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ فَخْرُ الدِّيْنِ الرَّازِيُّ؛ صَاحِبُ التَّفْسِيْرِ المُسَمَّى (مَفَاتِيْحُ الغَيْبِ)، (ت 606 هـ). قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي المِيْزَانِ (340/ 3): (وَلَهُ كِتَابُ (السِّرُّ المُكْتُومُ) فِي مُخَاطَبَةِ النُّجُوْمِ؛ سِحْرٌ صَرِيْحٌ، فَلَعَلَّهُ تَابَ مِنْ تَأْلِيْفِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (367/ 1): (وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَابَ مِنْهُ! وَقِيْلَ: بَلْ صَنَّفَهُ عَلَى وَجْهِ إِظْهَارِ الفَضِيْلَةِ؛ لَا عَلَى سَبِيْلِ الِاعْتِقَادِ - وَهَذَا هُوَ المَظْنُوْنُ بِهِ -، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِيْهِ طَرِيْقَهُمْ فِي مُخَاطَبَةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَكَيْفِيَّةِ مَا يَفْعَلُوْنَ وَمَا يَلْبَسُونَهُ وَمَا يَتَمَسَّكُوْنَ بِهِ). (¬2) تَفْسِيْرُ الرَّازِي (626/ 3) وَبِحَذْفٍ يَسِيْرٍ مِنْ قِبَلِ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (366/ 1). (¬3) مُعْظَمُ مَادَّةِ هَذَا الجَوَابِ هُوَ مِنْ رَدِّ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيْرٍ عَلَيْهِ فِي التَّفْسِيْرِ (366/ 1) رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. (¬4) مُسْلِمٌ (2230) عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الأَثَرِ أَيْضًا (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا؛ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). صَحِيْحٌ. البزَّارُ (256/ 5) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَوْقُوْفًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3048). (¬5) وَقَدْ سَبَقَ النَّقْلُ عَنِ النَّوَوِيِّ وَالحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ فِي تَحْرِيْمِ تَعَلُّمِهِ. (¬6) وَإِلَّا فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الكُفَّارَ عَلَى مُجَرَّدِ عِلْمِهِم العِلْمَ الدُّنْيَوِيَّ، قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُوْنَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُوْنَ} (الرُّوْم:7).

- المسألة السادسة) أنكر بعضهم تلبس الجني بالإنسي

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) أنْكَرَ بَعْضُهُم تَلَبُّسَ الجِنِّيِّ بِالإِنْسِيِّ، وَقَالُوا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ طَبِيعَتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا الجَوَابُ؟ نَقُوْلُ: قَدْ دَلَّتِ الشَّرِيْعَةُ عَلَى وُقُوْعِ هَذَا التَّلَبُّسِ فِي عِدَّةِ نُصُوْصٍ مِنْهَا: (¬1) 1) قَوْلُ اللهِ تَعَالَى {الَّذِيْنَ يَأْكُلُوْنَ الرِّبا لَا يَقُوْمُوْنَ إِلَّا كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البَقَرَة:275). (¬2) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬3): (فِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيْلٌ عَلَى فَسَادِ إنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ الصَّرَعَ مِنْ جِهَةِ الجِنِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الطَّبَائِعِ (¬4)، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْلُكُ فِي الإِنْسَانِ وَلَا يَكُوْنُ مِنْهُ مَسُّ). (¬5) (¬6) 2) عَنْ عُثْمَان بْنِ أَبِي العَاصِ؛ أَنَّهُ شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَلُّتَ القُرْآنِ مِنْ صَدْرِهِ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: (يَا شَيْطَانُ! أُخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثْمَان)، فَمَا نَسِيْتُ شَيْئًا أُرِيْدُ حِفْظَهُ. (¬7) 3) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا (إِذَا تَثاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطاعَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬8) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (¬9): (قَالَ العُلَمَاءُ: أُمِرَ بِكَظْمِ التَّثَاوبِ وَرَدِّهِ وَوَضْعِ اليَدِ عَلَى الفَمِ لِئَلَّا يَبْلُغَ الشَّيْطَانُ مُرَادَهُ مِنْ تَشْوِيْهِ صُوْرَتِهِ، وَدُخُوْلِهِ فَمَهَ، وَضَحِكِهِ مِنْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬10) أَخِيْرًا؛ نَقُوْلُ: لَا يِلْزَمُ أَبَدًا مِنْ كَوْنِ الرَّجُلِ يُصْرَعُ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا بَدَرَ مِنْهُ فِي حَالِ صَرَعِهِ مُطْلَقًا، بَلْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى كَوْنِهِ مَغْلُوْبًا عَلَى عَقْلِهِ أَمْ غَيْرَ مَغْلُوْبٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ المَجْنُوْنِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ الصَّبِيِّ حتَّى يَحْتَلِمَ). (¬11) (¬12) ¬

_ (¬1) وَهِيَ عَلَى سَبِيْلِ تَنْوِيْعِ أَوْجُهِ الدِّلَالَةِ لَا الجَمْعِ وَالاسْتِقْصَاءِ. (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَجْنُوْنًا يَتَخَبَّطَ. ثُمَّ قَرَأَ {الَّذِيْنَ يَأْكُلُوْنَ الرِّبا لَا يَقُوْمُوْنَ إِلَّا كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ}). صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (110) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1862). (¬3) (335/ 3). (¬4) كَجُمْلَةِ الأَمْرَاضِ العَصَبِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ. (¬5) قُلْتُ: وَانْظُرْ وَتَعَجَّبْ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ - صَاحِبِ الكَشَّافِ - رَحِمَهُ اللهُ وغَفَرَ لَهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (320/ 1) حَيْثُ قَالَ: ({لَا يَقُوْمُوْنَ} إِذَا بُعِثُوا مِنْ قُبُوْرِهِم {إِلاَّ كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ} أَي المَصْرُوْعُ. وَتَخَبُّطُ الشَّيْطَانِ مِنْ زَعَمَاتِ العَرَبِ، يَزْعُمُوْنَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الإِنْسَانَ فَيُصْرَعُ. وَالخَبْطَ: الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ كَخَبْطِ العَشْوَاءِ، فَوَرَدَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُوْنَ. وَالمَسُّ: الجُنُوْنُ، وَرَجُلٌ مَمْسُوْسٌ - وَهَذَا أَيْضًا مِنْ زَعَمَاتِهِم - وَأَنَّ الجنِّيَّ يَمَسُّهُ فَيَخْتَلِطُ عَقْلَهُ، وَكَذَلِكَ جُنَّ الرَّجُلُ: مَعْنَاهُ ضَرَبَتْهُ الجِنُّ. وَرَأَيْتُهُم لَهُم فِي الجِنِّ قِصَصٌ وَأَخْبَارٌ وَعَجَائِبُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنْدَهُم كَإِنْكَارِ المُشَاهَدَاتِ). قُلْتُ: العَجِيْبُ مِنْهُ كَيْفَ أَنَّهُ يَصِفُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ زَعَمَاتِ العَرَبِ؛ رُغْمَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَبَّهَ قِيَامَ آكِلِ الرِّبَا بِقِيَامِ مَنْ بهِ مَسٌّ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَهَلْ يُشَبِّهُ رَبُّنَا تَعَالَى شَيْئًا - وَاقِعٌ حَتْمًا - بِشَيْءٍ لَا حَقِيْقَةَ لَهُ، بَلْ وَيُؤَكِّدُهُ بِالاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النَّفْي. (¬6) وَقَرِيْبٌ مِنْ هَذَا فِي الدِّلَالَةِ حَدِيْثُ البُخَارِيِّ (6048) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ -، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوْذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ). فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ). فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُوْنٌ). قُلْتُ: وَهُوَ صَرِيْحٌ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي جُنُوْنِ النَّاسِ. (¬7) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ (8347)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبوَّةِ (307/ 5). الصَّحِيْحَةُ (2918). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَقِبَهُ: (وَفِي الحَدِيْثِ دِلَالَةٌ صَرِيْحَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَلَبَّسُ الإِنْسَانَ وَيَدْخُلُ فِيْهِ - وَلَوْ كَانَ مُؤْمِنًا صَالِحًا - وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيْثُ كَثِيْرْةٌ، ... وَمِثْلُهُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّة؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي هَذَا بِهِ لَمَمٌ (جُنُوْنٌ) مُنْذُ سَبْعِ سِنِيْنَ؛ يَأْخُذُهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَدْنِيهِ)، فَأَدْنَتْهُ مِنْهُ، فَتَفَلَ فِي فِيْهِ، وَقَالَ: (أُخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ! أَنَا رَسُوْلُ اللهِ). رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .... ، وَبِالجُمْلَةِ فَالحَدِيْثُ بِهَذِهِ المُتَابَعَاتِ جَيِّدٌ). (¬8) مُسْلِمٌ (2995). وَبِمَعْنَاهُ (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2039)، وَمُسْلِمٌ (2175) عَنْ صَفِيَّةَ مَرْفُوْعًا مَرْفُوْعًا. (¬9) شَرْحُ مُسْلِمٍ (123/ 18). (¬10) وَيُضَافُ لِذَلِكَ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَحْسُوْسٌ مِنْ أَحْوَالِ المَمْسُوْسِيْنَ مِنْ أَنَّ الجِنَّ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ. قَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (214/ 21): (وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ: قُلْتُ لِأَبِي: إِنَّ قَوْمًا يَقُوْلُوْنَ: إِنَّ الجِنَّ لَا تَدْخُلُ فِي بَدَنِ الإِنْسِ! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ يَكْذِبُوْنَ، هُوَ ذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ). (¬11) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4399) عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3512). (¬12) قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ - شَرِيْط رَقَم (496) - جَوَابًا عَلَى سُؤَالٍ (السُّؤالُ: هَلِ المَسْحُوْرُ أَوِ الَّذِيْ بهِ صَرَعٌ لَهُ حُكْمُ المَعْذُوْرِيْنَ؟ وَهَلْ إِذَا فَعَلَ إِثْمًا ثُمَّ عُلِمَ أَنَّهُ مَسْحُوْرٌ - وَفَعَلَ هَذَا بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ - لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ؟ الجَوَابُ: إِذَا كَانَ فَاقِدَ العَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَاقِدَ العَقْلِ؛ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ العَوَارِضِ - وَعَقْلُهُ مَوْجُوْدٌ مَعَهُ - فَإِنَّهَ يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ، حَتَّى لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَلَمٌ أَوِ اكْتِئَابٌ وَعَدَمُ ارْتِيَاحٍ، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِيْ يُعْذَرُ فِيْهِ هُوَ فُقْدَانُ العَقْلِ).

- المسألة السابعة) أنكرت المعتزلة حقيقة السحر

- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) أَنْكرَتِ المُعْتَزِلَةُ حَقِيْقَةَ السِّحْرِ! (¬1) وَقَالُوا إِنَّمَا هِيَ أَوْهَامٌ وَخِفَّةٌ فِي اليَدِ فَقَط! وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طَه:66)، فَهُوَ خَيَالٌ فِي العَيْنِ فَقَط! وَأَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الحِبَالَ كَانَتْ مَمْلُوْءَةً زِئْبَقًا (¬2)! فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ: أَنَّهُ يُقَالُ ابْتِدَاءً: لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ حَقِيْقِيٌّ لَهُ تَأْثِيْرٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَارٍ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ مِنَ الخِفَّةِ وَالاسْتِتَارِ وَالسُّرْعَةِ وَالخِدَاعِ، فَإِذَا أُثْبِتَ نَوْعٌ مَا بِدَلِيْلٍ فَهَذَا لَا يَعْنِي نَفْيَ الآخَرِ (¬3). بَعْدَ ذَلِكَ نَقُوْلُ إِنَّ مِنَ أَدِلَّة حَقِيْقَةِ وَأَثَرِ السِّحْرِ: 1) قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ أَعُوْذُ بِرَبِّ الفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ} (الفَلَق:5) وَالنَّفَّاثَاتُ فِي العُقَدِ: هُنَّ السَّوَاحِرُ (¬4) مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمَّا أُمِرَ بِالاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ عُلِمَ أَنَّ لَهُنَّ تَأْثِيرًا وَضَرَرًا حَقِيْقَةً. (¬5) 2) قَوْلُهُ تَعَالَى {فَيَتَعَلَّمُوْنَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُوْنَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّيْنَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} (البَقَرَة:102) ظَاهِرٌ فِيْهِ أَثَرُ السِّحْرِ فِي التَّفْرِيْقَ وَالضَّرَرَ. (¬6) 3) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ قَالَتْ سَحَرَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ - يُقَالُ لَهُ: لَبِيْدُ بْنُ الأَعْصَمِ - حَتَّى كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ - وَهْوَ عِنْدِي - لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيْمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيْهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ؛ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوْبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيْدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ (¬7) نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ). فَأَتَاهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِيْنِ). قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: (قَدْ عَافَانِي اللهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيْهِ شَرًّا). فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ. (¬8) وَالشَّاهِدُ فِيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: (التَّخْيِيْلُ، قَدْ عَافَانِي). وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طَه:66) أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخييلِ دُوْنَ الحَقِيْقَةِ! فَالرَّدُّ عَلَيْهِم مِنْ جِهَتَيْنِ: أ) أَنَّ هَذَا التَّخْيِيْلَ - وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيْقَةَ لَهُ فِي تَغْيِيْرِ أَعْيَانِ الأَشْيَاءِ - وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤَثِّرًا حَقِيْقَةً عَلَى العَيْنَ حَتَّى جَعَلَهَا تَتَخَيَّلُ. فَهَذَا دَلِيْلٌ عَلَى حَقيقَتِهِ وَأَثَرِهِ. ب) لَا يَصِحُّ حَمْلُ ذَلِكَ السِّحْرِ عَلَى التَّخْيِيْلِ بِكَوْنِ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ كَانَتْ مَمْلُوْءَةً زِئْبَقًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ سَعْيُ الحيَّاتِ هَذَا خَيَالًا بَلْ حَرَكَةً حَقِيْقِيَّةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سِحْرًا لِأَعْيُنِ النَّاسِ أَصْلًا، وَلَا يُسَمَّى - أَصْلًا - سِحْرًا؛ بَلْ صِنَاعَةً مِنَ الصِّنَاعَاتِ المُشْتَرَكةِ. (¬9) ¬

_ (¬1) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (174/ 14) - بَابُ السِّحْرِ -: (قَالَ الإِمَامُ المَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُوْرِ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ؛ وَأَنَّ لَهُ حَقِيْقَةً كَحَقِيْقَةِ غَيْرِهِ مِنَ الأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ؛ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَى حَقَيقَتَهُ وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ لَا حَقَائِقَ لَهَا). (¬2) وَهِيَ مُجَرَّدُ دَعْوَى تُخَالِفُ ظَاهِرَ مَا وَرَدَ فِي النُّصُوْصِ القُرْآنيَّةِ مِنْ كَوْنِهِم جَاءُوا بِالسِّحْرِ؛ وَسَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ؛ وَأَنَّهُ سِحْرٌ عَظِيْمٌ. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (225/ 10): (وَقَوْلُهُ {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طَه:66): الآيَةُ عُمْدَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا هُوَ تَخْيِيْلٌ! وَلَا حُجَّةَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ سِحْرُهُم كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيْعَ أَنْوَاعِ السِّحْرِ تَخْيِيْلٌ). قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُ سِحْرِهِم تَخْيِيْلًا فَصَحِيْحٌ، أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ حَقِيْقَةٌ فَخَطَأٌ، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ مُوْسَى مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى حَقِيْقَتِهِ أَنَّهُ أثَّرَ فِي الأَعْيُنِ حَتَّى تَخَيَّلوا، فَتَحَوُّلُ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ إِلَى أَفَاعِي لَيْسَ لَهُ حَقِيْقَةٌ، أَمَّا تَأَثُّرُ الأَعْيُنِ فَحَقِيْقَةٌ. وَاللهُ تَعَالَى المُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. (¬4) قَالَهُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحِ (136/ 7). (¬5) وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً؛ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ). البُخَارِيُّ (5769) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوْعًا. فعَطْفُ السِّحْرِ عَلَى السُّمِّ؛ يَدُلُّ عَلَى وُجُوْدِ التَّأْثِيْرِ الحَقِيْقِيِّ؛ بَلْ وَعَلَى عِظَمِ أَثَرِهِ كَالسُّمِّ المُمِيْتِ. (¬6) قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ) (86/ 7): (وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي العَقْلِ أَنْ يَكُوْنَ البَارِي سُبْحَانَهُ يَخْرِقُ العَادَاتِ عِنْدَ النُّطْقِ بِكَلَامٍ مُلَفَّقٍ أَوْ تَرْكِيْبِ أَجْسَامٍ، أَوِ المَزْجِ بَيْنَ قِوىً عَلَى تَرتَيبٍ مَا - لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا السَّاحِرُ -). (¬7) (جُفِّ طَلْعٍ): الجُفُّ: وِعَاءُ الطَّلعِ وَغِشَاؤُهُ الَّذِيْ يُكِنُّهُ. (¬8) البُخَارِيُّ (5763)، وَمُسْلِمٌ (2189). (¬9) وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذَلِكَ حِيْلَةً مِنْهُم - كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ -؛ لَكَانَ طَرِيْقُ إِبْطَالِهَا إِخْرَاجُ مَا فِيْهَا مِنَ الزِّئْبَقِ؛ وَبَيَانُ ذَلِكَ المُحَالِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِلْقَاءِ العَصَا لِابْتِلَاعِهَا، وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذِهِ الحِيَلَةِ لَا يُحْتَاجُ فِيْهَا إِلَى الاسْتِعَانَةِ بِالسَّحَرَةِ؛ بَلْ يَكْفِي فِيْهَا حُذَّاقُ الصُّنَّاعِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَعْظِيْمِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ وَخُضُوْعِهِ لَهُم وَوَعْدِهِم بِالتَّقْرِيْبِ وَالجَزَاءِ. انْظُرْ (بَدَائِعُ الفَوَائِدِ) (ص748) لِابْنِ القَّيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ.

- المسألة الثامنة) أنكرت المعتزلة كون النبي صلى الله عليه وسلم سحر، من أوجه

- المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ) أَنْكَرَتِ المُعْتَزِلَةُ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، مِنْ أَوْجُهٍ: الشُّبْهَةُ الأُوْلَى) قَالُوا: هَذَا يُدْخِلُ طَعْنًا عَلَى تَبْلِيْغِ الدِّيْنِ! وَالجَوَابُ: نَقُوْلُ قَدْ ثَبَتَ كُلٌّ مِنَ الأَمْرَيْنِ، فنُثْبِتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سُحِرَ (¬1)، وَنَنْفِي عَنْهُ الخَطَأَ فِي التَّشْرِيْعِ. قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَعَادِ) (¬2): (وَكَانَ غَايَةُ هَذَا السِّحْرِ فِيْهِ؛ إِنَّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِر جَوَارِحِهِ، لَا عَلَى عَقْلِه وَقَلْبِه، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيَالٌ لَا حَقِيْقَةَ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ الأَمْرَاضِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (إنَّ هَذَا السِّحْرَ هُوَ مَا يُسَمَّى الآنَ بِالرَّبْطِ، فَلَا يَسْتَطِيْعُ الرَّجُلُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ؛ وَمَعْ هَذَا فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ سَائِرِ شُؤُوْنِهِ) أ. هـ بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ أَشْرِطَةِ فَتَاوَى جِدَّة (ش11). وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (175/ 14) - عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللهُ -: (وَيُرْوَى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ): أَيْ: يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ وَمُتَقَدِّمِ عَادَتِهِ القُدْرَةُ عَلَيْهِنَّ؛ فَإِذَا دَنَى مِنْهُنَّ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ؛ فَلَم يَأْتِهِنَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَرِي المَسْحُوْرَ. وكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّهُ يُخيَّلُ إِلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ وَنَحْوُهُ فمَحْمُوْلٌ عَلَى التَّخيُّلِ بِالبَصَرِ لَا لِخَلَلٍ تَطَرَّقَ إِلَى العَقْلِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُدْخِلُ لَبْسًا عَلَى الرِّسَالَةِ). (¬2) (116/ 4).

الشبهة الثانية) أن المشركين هم الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم مسحور!

الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ المُشْرِكِيْنَ هُمُ الَّذِيْنَ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْحُوْرٌ! قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُوْنَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُوْنَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُوْلُ الظَّالِمُوْنَ إِنْ تَتَّبِعُوْنَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوْرًا، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيْعُوْنَ سَبِيْلًا} (الإِسْرَاء:48). وَالجَوَابُ: أَنَّ اتِّهَامَهُم لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِنْ بَابِ الإيْذَاءِ؛ وَيَقْصِدُوْنَ أَنَّ كَلَامَهُ كَلَامُ المَجَانِيْن - وَحَاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَأَنَّهُ أَتَى بِمَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يَصِحُّ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ مُصَابٌ بِسِحْرٍ فِي بَدَنِهِ قَدْ أَمْرَضَهُ.، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُوْلٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُوْنٌ} (الذَّارِيَات:5). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (فَتَارَةً - مِنْ إِفْكِهِمْ يَقُوْلُوْنَ: سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُوْلُوْنَ: شَاعِرٌ، وَتَارَةً يَقُوْلُوْنَ: مَجْنُوْنٌ، وَتَارَةً يَقُوْلُوْنَ: كَذَّابٌ. وَقَالَ الله تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيْعُوْنَ سَبِيْلًا} (الإِسْرَاء:48)). وَيَتَأَكَّدُ الجَوَابُ بِبَيَانِ أَنَّ هَذَا هُوَ نَظِيْرُ مَا جَرَى مَعَ مُوْسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوْسَى: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوْسَى مَسْحُوْرًا} (الإِسْرَاء:101)، مَعَ مَا قَد عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طَه:66)). ¬

_ (¬1) (94/ 6).

- المسألة التاسعة) إذا كان حديث الباب ذكر سبعا من الموبقات، فكيف الجمع

- المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ) إِذَا كَانَ حَدِيْثُ البَابِ ذَكَرَ سَبْعًا مِنَ المُوْبِقَاتِ، فَكَيْفَ الجَمْعُ مَعَ مَا وَرَدَ فِي أَلْفَاظٍ كَثِيْرْةٍ لِلحَدِيْثِ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ السَّبْعَةِ؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ (¬1): 1) أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ أَوَّلًا بِالمَذْكُوْرَاتِ، ثُمَّ أَعْلَمَ بِمَا زَادَ، فَيَجِبُ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ. 2) أَنَّ الاقْتِصَارَ وَقَعَ بِحَسْبِ المَقَامِ بِالنِّسبَةِ لِلسَّائِلِ أَوْ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ. 3) أَنَّ مَفْهُوْمَ العَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ (وَهُوَ جَوَابٌ ضَعِيْفٌ). ¬

_ (¬1) ذَكَرَهَا الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (183/ 12).

باب بيان شيء من أنواع السحر

بَابُ بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ؛ حَدَّثَنَا عَوْفٌ؛ عَنْ حَيَّانَ بْنِ العَلَاءِ؛ حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيْصَةَ عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ العِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الجِبْتِ). قَالَ عَوْفٌ: العِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: الخَطُّ يُخَطُّ بِالأَرْضِ، وَالجِبْتُ؛ قَالَ الحَسَنُ: رَنَّةُ الشَّيْطَانِ. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ المُسْنَدِ مِنْهُ. (¬1) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا; قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُوْمِ; فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ؛ زَادَ مَا زَادَ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ. (¬2) وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيْهَا؛ فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ; فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا؛ وُكِلَ إِلَيْهِ). (¬3) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا العَضْهُ? هِيَ النَّمِيْمَةُ؛ القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬4) وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا). (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: أَنَّ العِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الجِبْتِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ العِيَافَةِ وَالطَّرْقِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ عِلْمَ النُّجُوْمِ نَوْعٌ مِنَ السِّحْرِ. الرَّابِعَةُ: العُقَدُ مَعَ النَّفْثِ مِنْ ذَلِكَ. الخَامِسَةُ: أَنَّ النَّمِيْمَةَ مِنْ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ: أَنَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الفَصَاحَةِ. ¬

(¬1) ضَعِيْفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3907)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (11043)، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (6131)، وَأَحْمَدُ (20604)، وَفِيْهِ حيَّانُ بْنُ العَلَاءِ؛ وَهُوَ مَجْهُوْلٌ. تَحْقِيْقُ رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (1678). قُلْتُ: لَكِنَّ أَثَرَ عَوْفٍ صَحِيْحٌ مَقْطُوْعٌ. صَحِيْحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (3908). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3905). صَحِيْحُ الجَامِعِ (6074). (¬3) ضَعِيْفٌ. ضَعِيْفُ الجَامِعِ (5702)، وَالشَّطْرُ الأَخِيْرُ مِنْهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (2072). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3456). قُلْتُ: لَكِنَّ الحَدِيْثَ مَعْنَاهُ صَحِيْحٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَقْدَ العُقَدِ وَالنَّفْثَ فِيْهَا هُوَ عَمَلُ السَّوَاحِرِ كَمَا قَالَهُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ (136/ 7) فِي بَابِ السِّحْرِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِعْلَ هَذَا السِّحْرِ شِرْكٌ. وَعِنْدَ البَزَّارِ (52/ 9) مِنْ حَدِيْثِ عِمْرَانَ مَرْفُوْعًا (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَو تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ). صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (2195). (¬4) مُسْلِمٌ (2606). (¬5) البُخَارِيُّ (5146) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (869) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوْعًا.

الشرح

الشَّرْحُ - أَرَادَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِهَذَا البَابِ بَيَانَ أَنَّ السِّحْرَ أَنْوَاعٌ - أَيْ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَالعُرْفِ، وَالشَّرْعِ - وَمِنْهُ الكُفْرُ، وَمِنْهُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ. فَقَدْ يُسَمَّى الشَّيْءُ سِحْرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِعْلَ السِّحْرِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِيْقَتِهِ سِحْرًا مِنْ جِهَةِ المَعْنَى الَّذِيْ هُوَ الكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الشَّيَاطِيْن وَالاسْتِعَانَةُ بِهِم -، وَقَدْ يُسَمَّى أَيْضًا سِحْرًا مِنْ حِيْثُ خَفَاءِ أَسْبَابِهِ المَزْعُوْمَةِ. - قَوْلُهُ (العِيَافَةَ): عَافَ الشَّيءَ يَعَافُهُ: إِذَا تَرَكَهُ فَلَم تبْغِهِ نَفْسُهُ، وعَافَ الطَّيْرُ يَعِيْفُ عَيَفَانًا وَعَيْفًا وَعِيَافَةً: إِذَا حَامَ فِي السَّمَاءِ. (¬1) - قَوْلُهُ (زَجْرُ الطّيْرِ): هُوَ أَنْ يُحرِّكَ طَيْرًا حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَيْنَ يَتَحَرَّكُ، ثُمَّ يَفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ الزَّجْرِ هَلْ هَذَا الأَمْرُ الَّذِيْ سَيُقْدِمُ عَلَيْهِ أَمْرٌ مَحْمُوْدٌ أَمْ أَمْرٌ مَذْمُوْمٌ. وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ عُمُوْمِ الطِّيَرَةِ الَّتِيْ هِيَ التَّشَاؤُمُ وَالتَّفَاؤُلُ، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ. (¬2) - العِيَافَةُ مِنَ السِّحْرِ، فَحرَكَةُ الطَّيْرِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً لَهَا أَثَرٌ خَفَيٌّ دَخَلَ فِي النَّفْسِ فَأَثَّرَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الإِقْدَامِ أَوِ الكَفِّ. (¬3) - قَوْلُهُ (الطَّرْقُ): مَأْخُوْذٌ مِنْ وَضْعِ طُرُقٍ وَخُطُوْطٍ فِي الأَرْضِ، وَفَاعِلُهُ يُسَمَّى الرَّمَّالَ. - قَوْلُ الحَسَنِ (رَنَّةُ الشَّيْطَانِ): أَيْ: مِنْ وَحْي الشَّيْطَانِ، وَالرَّنِيْنُ هُوَ صَوْتُهُ الَّذِيْ يَسْتَفِزُ بِهِ. (¬4) - قَوْلُهُ (اقْتَبَسَ): تَعَلَّمَ، وَ (شُعْبَةً): طائِفَةً. ¬

_ (¬1) جَمْهَرَةُ اللُّغَةِ (938/ 2) لِابْنِ دُرَيْدٍ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (213/ 10): (وَكَانُوا يَتَيَمَّنُوْنَ بِالسَّانِحِ وَيَتَشَاءَمُوْنَ بِالبَارِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن رَمْيُهُ إِلَّا بِأَنْ يَنْحَرِف إِلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ عُقَلَاءِ الجَاهِلِيَّةِ يُنْكِرُ التَّطَيُّرَ وَيَتَمَدَّحُ بِتَرْكِهِ. قَالَ شَاعِر مِنْهُمْ: لَعُمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِق بِالحَصَى ... وَلَا زَاجَرَتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانِعُ). (¬3) وَيُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّهَا مِنَ السِّحْرِ بِحَسْبِ مَا يُدَّعَى مِنْ أَثَرِهَا فِي عِلْمِ الغَيْبِ. (¬4) وَصَوْتُ الشَّيْطَانِ يَشْمَلُ أَشْيَاءَ كَثِيْرْةً؛ مِنْهَا: الأَغَانِي وَالمَزَامِيْرُ، قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (الإِسْرَاء:64). وَصَوْتُ الشَّيْطَانِ هُوَ كُلُّ كَلَامٍ بَاطِلٍ، وكُلُّ كَلَامٍ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ.

- عِلْمُ التَّنْجِيْمِ: هُوَ عِلْمُ النُّجومِ، وَالتَّنْجِيْمُ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ (¬1): 1) الاعْتِقَادُ بِأَنَّ النُّجُوْمَ هِيَ الَّتِيْ تُدبِّرُ الكَوْنَ وَتُصَرِّفُهُ، وَأَنَّهَا تُخَاطَبُ وَتُعْبَدُ وَتُدْعَى وَيُسَبَّحُ لَهَا، فَهَذَا النَّوْعُ سِحْرٌ وَشِرْكٌ. (¬2) 2) عِلْمُ التَّأْثِيْرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالأَحْوَالِ الفَلَكِيَّةِ عَلَى الحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ، كَالاسْتِدْلَالُ بِمَوَاضِعِ النُّجُوْمِ مِنَ الاقْتِرْانِ وَالطُّلُوْعِ عَلَى الأُمُوْرِ الَّتِيْ تَحْدُثُ فِي الأَرْضِ، وَهَذَا أَيْضًا كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى (¬3). وَلَكِنَّهُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: أ) أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا يَدَّعِي بِهِ عِلْمَ الغَيْبِ، فَيَسْتَدِلَّ بِحَرَكَاتِهَا وَتَنَقُّلَاتِهَا وَتَغَيُّرَاتِهَا عَلَى أَنَّهُ سَيَكُوْنُ كَذَا وَكَذَا (¬4)، فَهَذَا اتَّخَذَ تَعَلُّمَ النُّجومِ وَسِيْلَةً لِادِّعَاءِ عِلْمِ الغَيْبِ، وَدَعْوَى عِلْمِ الغَيْبِ كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65)، وَهَذَا الأُسْلُوْبُ اللُّغَوِيُّ فِي الحَصْرِ هُوَ مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الحَصْرِ، لِأَنَّهُ بِالنَّفِي وَالإِثْبَاتِ، فَإِذَا ادَّعَى أَحَدٌ عِلْمَ الغَيْبِ؛ فَقَدْ كَذَّبَ القُرْآنَ. ب) أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا لِحُدُوْثِ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَيْ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ شَيْءٌ؛ نَسَبَهُ إِلَى النُّجُوْمِ، وَلَا يَنْسُبُ إِلَى النُّجُوْمِ شَيْئًا إِلَّا بَعْدَ وُقُوْعِهِ، فَهَذَا شِرْكٌ أَصْغَرٌ. 3) عِلْمُ التَّسْيِيْرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُوْمِ عَلَى الجِهَاتِ وَالأَوْقَاتِ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَقَدْ يَجِبُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا. (¬5) وَهَذَا الاسْتِدْلَالُ أَيْضًا يَكُوْنُ مِنْ جِهَتَيْنِ: أ) الاسْتِدْلَالُ عَلَى الزَّمَانِ: كَالفُصُوْلِ وَدُخُوْلِ رَمَضَانَ وَالأَعْيَادِ وَمَوَاعِيْدِ الزِّرَاعَةِ وَالحَصَادِ وَ .... ب) الاسْتِدْلَالُ عَلَى المَكَانِ: كَجِهَةِ القِبْلَةِ وَالجِهَاتِ الأَرْبَعَةِ وَ ... (¬6) ¬

_ (¬1) وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِهِ هُوَ عَلَى النَّوْعِ الثَّانِي، وَهُوَ مَعْرِفَةُ المُغَيَّبَاتِ عَنْ طَرِيْقِ النُّجُوْمِ. (¬2) كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الكَنْعَانِيُّوْنَ الَّذِيْنَ بُعِثَ فِيْهِم إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُم كَانُوا يَبْنُوْنَ هَيَاكِلَ عَلَى صُوَرِ الكَوَاكِبِ الَّتِيْ يَرَوْنَهَا، وَيَجْعَلُوْنَ بُيُوْتًا لَهَا، وَيَضَعُوْنَ فِيْهَا الصُّوَرَ، ثُمَّ يَتَقَرَّبُوْنَ إِلَيْهَا بِالدُّعَاءِ، وَيَلْبَسُوْنَ لِبَاسًا مُعَيَّنًا، وَيُبَخِّرُوْنَ عِنْدَهَا، وَيَتَقرَّبُوْنَ إِلَيْهَا بِالقُرَبِ، وَيَزْعُمُوْنَ أَنَّهُم إِذَا صَنَعُوا ذَلِكَ نَزَلَتْ رُوْحَانِيَّاتُهَا، وَهَذِهِ الرُّوْحَانِيَّاتُ الَّتِيْ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهَا رُوْحَانِيَّاتُ الكَوَاكِبِ؛ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّيَاطِيْنِ الَّتِيْ تَنْزِلُ عَلَيْهِم، وَقَدْ تُخَاطِبُهُم، وَقَدْ تَقْضِي حَوَائِجَهُم وَتَفْعَلُ لَهُم بَعْضَ الشَّيْءِ الَّذِيْ يُرِيْدُوْنَهُ؛ لِأَنَّهُم فَعَلُوا مَا تَرْضَاهُ الشَّيَاطِيْنُ، فَخَدَمُوْهَا وَعَبَدُوْهَا، فَيَأْتُوْنَ إِلَيْهِم بِبَعْضِ النَّفْعِ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (76)، شَرْحُ البَابِ. (¬3) وَقَدْ تَغَيَّرَتِ الطُّرُقُ الآنَ عِنْدَ نَاسٍ مِنَ المُثَقَّفِيْنَ - كَمَا يَزْعُمُوْنَ -، فَيَكْتُبُوْنَ جَدَاوِلَ وَيَذْكُرُوْنَ الحَوَادِثَ الَّتِيْ تَحْدُثُ فِي هَذَا البُرْجِ، فَيَقُوْلُوْنَ: يَوْمُ كَذَا يَكُوْنُ كَذَا وَكَذَا، ومَنْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي اليَوْمِ الفُلَانِيِّ يَحْدُثُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يُنْظَرَ فِيْهَا؛ لِأَنَّهَا رَجْمٌ بِالغَيْبِ. (¬4) مِثْلُ أَنْ يَقُوْلَ: هَذَا الإِنْسَانُ سَتَكُوْنُ حَيَاتُهُ شَقَاءً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي وَقْتِ النَّجْمِ الفُلَانِيِّ، وَهَذَا حَيَاتُهُ سَتَكُوْنُ سَعِيْدَةً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي النَّجْمِ الفُلَانِيِّ. (¬5) كَحَالَةِ المُسَافِرِ خَارِجَ البُنْيَانِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ جِهَةِ القِبْلَةِ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ. (¬6) وَمِنْهُ نَأْخُذُ خَطَأَ العَوَامِّ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ - إِذَا هَبَّتِ الرِّيْحُ -: طَلَعَ النَّجْمُ الفُلَانِيُّ! وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّجُوْمَ لَا تَأْثِيْرَ لَهَا بِالرِّيَاحِ، صَحِيْحٌ أَنَّ بَعْضَ الأَوْقَاتِ وَالفُصُوْلِ يَكُوْنُ فِيْهَا رِيْحٌ وَمَطَرٌ؛ وَلَكِنَّهَا ظَرْفٌ لَهُمَا، وَلَيْسَتْ سَبَبًا لَهُمَا.

- قَوْلُهُ (زَادَ مَا زَادَ): هُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَلازِمَيْنِ: 1) كُلَّمَا ازْدِادَ مِنْ عِلْمِ النُّجُوْمِ؛ ازْدَادَ مِنَ السِّحْرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَقِيْقَتِهِ؛ وَهُوَ عِلْمُ التَّأْثِيْرِ فَيُصْبِحُ سِحْرًا وَكِهَانَةً حَقِيْقَةً. 2) كُلَّمَا ازْدِادَ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ النُّجُوْمِ؛ ازْدِادَ فِي الإِثْمِ الحَاصِلِ. - النَّفْثُ: هُوَ النَّفْخُ بِرِيْقٍ خَفِيْفٍ، وَهُوَ دُوْنَ التَّفْلِ. - قَوْلُهُ (وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا؛ وُكِلَ إِلَيْهِ): مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الجُمْلَةِ لِلَّتِيْ قَبْلَهَا هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ النَّافِخَ فِي العُقَدِ يُرِيْدُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَذَا الشَّيْءِ إِلَى حَاجَتِهِ وَمَآرِبِهِ، فَيُوكَلُ إِلَى هَذَا الشَّيْءِ المُحَرَّمِ؛ وَهُوَ السِّحْرُ. 2) أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا سُحِرَ عَنْ طَرِيْقِ النَّفْثِ بِالعُقَدِ ذَهَبَ إِلَى السِّحْرةِ وتَعَلَّقَ بِهِم لِيَكْشِفُوا مَا بهِم! وَتَعَلَّقُوا أَيْضًا التَّمَائِمَ! فَكَانَ فِيْهِ إِذًا الإِرْشَادُ إِلَى التَّوكلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى الَّذِيْ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ الأَسْبَابُ كُلُّهُا، وَمِنْ ثُمَّ يَتَعَاطَى مَا جَازَ فِي الشَّرِيْعَةِ فِعْلُهُ مِنَ الأَسْبَابِ. (¬1) - (العِضَةُ): الكَذِبُ وَالبُهْتَانُ، وَ (العَضْهُ): التَّفْرِيْقُ (¬2). قَالَ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (¬3): (وَالعِضَةُ: السِّحْرُ وَالكِهَانَةُ، وَالعَاضِهُ: السَّاحِرُ). (¬4) ¬

_ (¬1) وَقَدْ يَشْمَلُ الحَدِيْثُ مَنْ تَوَكَّلَ وَاعْتَمَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ مُعْجَبًا بِمَا يَقُوْلُ وَيَفْعَلُ، فَإِنَّهُ يُوْكَلُ إِلَى نَفْسِهِ، ويُوْكَلُ إِلَى ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَعَوْرَةٍ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُوْنَ العَبْدُ دَائِمًا مُتَعَلِّقًا بِاللهِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ حَتَّى فِي أَهْوَنِ الأُمُوْرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَعَلَّقَ بِصَنْعَةٍ مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ عَمَلٍ مِنْ عَمَلِهِ فَيُوْكَلُ إِلَيْهِ. (¬2) العَضْهُ - بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ وَسُكُوْنِ المُعجَمَةِ - قَالَ ابْنُ الأثير رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (496/ 3): (هَكَذَا يُرْوَى فِي كُتُبِ الحَدِيْثِ، وَالَّذِيْ فِي كُتُبِ الغَرِيْبِ (ألَا أُنَبِّئُكُم مَا العِضَةُ) بِكَسْرِ العَيْنِ وَفَتْحَ الضَّادِ). (¬3) (ص1249) بِحَذْفٍ يَسِيْرٍ. (¬4) وَقَالَ فِي تَاجِ العَرُوْسِ (61/ 39): ({الَّذِيْنَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِيْنَ} (الحِجْر:91) قَالَ الرَّاغِبُ: جَعَلوا القُرْآنَ عِضِيْنَ؛ أَيْ: مُفَرَّقًا، فَقَالُوا: كِهَانَةٌ، وَقَالُوا: أَسَاطِيْرُ الأَوَّلِيْنَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفُوْهُ بِهِ، وَقِيْلَ: مَعْنَى (عِضِيْن) مَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَتُؤْمِنُوْنَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُوْنَ بِبَعْضٍ} (البَقَرَة:85) خِلَافَ مَنْ قَالَ فِيْهِ: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّوْنَكُمْ وَتُؤْمِنُوْنَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ} (البَقَرَة:118)). قُلْتُ: وَهُوَ صَحِيْحٌ مِنَ الوَجْهَيْنِ هُنَا، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ دُوْنَ بَعْضٍ فَقَدْ فَرَّقَ فِيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِيْنَ يَكْفُرُوْنَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيْدُوْنَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُوْلُوْنَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيْلًا، أُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُوْنَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِيْنَ عَذَابًا مُهِيْنًا} (النِّسَاء:151). وَأَيْضًا فَإِنَّهُم كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْمَا جَاءَ بِهِ مِنَ القُرْآنِ؛ فَهُوَ عَلَى المَعْنَى الثَّانِي أَيْضًا صَحِيْحٌ؛ أَي: مِنَ الكَذِبِ وَالبُهْتَانِ.

- النَّمِيْمَةُ كَبِيْرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَهِيَ نَقْلُ الكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الوِشَايَةِ وَالإِفْسَادِ (¬1). وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا سِحْرًا أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ فِي التَّفرِيْقِ بَيْنَ النَّاسِ، بَلْ قَدْ تَكُوْنُ أَشَدَّ مِنْ حَيْثُ الضَّرَرِ، كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيْرٍ (¬2): (يُفْسِدُ النَّمَّامُ وَالكذَّابُ فِي سَاعَةٍ مَا لَا يُفْسِدُ السَّاحِرُ فِي سَنَةٍ). وَفِي الحَدِيْثِ (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ) (¬3) وَهُوَ النَّمَّامُ. - قَوْلُهُ (إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا) (¬4): (مِنْ) هُنَا للتَّبْعِيْضِ. وَالبَيَانُ عُمُوْمًا هُوَ عَلَى مَعْنَيِيْنِ: 1) الإِفْهَامُ: وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيْهِ جَمِيْعُ النَّاسِ - خِلَافًا لِلبَهَائِمِ -، قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرَّحْمَن:3). (¬5) 2) الفَصَاحَةُ التَّامَّةُ: وَهِيَ الَّتِيْ تَسْبِي العُقُوْلَ وَتُغَيِّرُ الأَفْكَارَ، وَتُؤَثِّرُ فِي القُلُوْبِ، وَعَلَيْهَا يُحْمَلُ الحَدِيْثُ هُنَا. وَوَجْهُ كَوْنِهِ مِنَ السِّحْرِ هُوَ أَنَّ صَاحِبَهُ يُؤَثِّرُ فِي النَّاسِ بِاسْتِمَالَةِ قُلُوْبِهِم عَلَى وَجْهٍ خَفِيٍّ؛ فَيَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ، فَيَجْعَلُ الحَقَّ فِي قَالِبِ البَاطِلِ؛ وَالبَاطِلَ فِي قَالِبِ الحَقِّ. - قَوْلُهُ (مِنَ البَيَانِ): اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي كَوْنِهِ سِيْقَ لِلمَدْحِ أَمْ لِلذَمِّ، فجَعَلَهُ بَعْضُهُم لِلذَّمِّ لِكَوْنِهِ سَمَّاهُ سِحْرًا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُم مَدْحًا لِكَوْنِهِ عَنِ البَيَانِ - وَالبَيَانُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى -. وَالأَرْجَحُ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - هُوَ أَنَّهُ يُمْدَحُ أَوْ يُذَمُّ بِحَسْبِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ - إِذَا خَلَا مِنَ التَّكلُّفِ -. (¬6) (¬7) - فَائِدَةٌ) يَدْخُلُ فِي إتْيَانِ الكُهَّانِ قِرَاءَةُ المَجَلَّاتِ الَّتِيْ فِيْهَا بُرُوْجُ الحَظِّ، فَالإِنْسَانُ يَقْرَؤُهَا وَقَدْ يُفْتَتَنُ بِهَا، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ إِتْيَانِ الكُهَّانِ. ¬

_ (¬1) وَفِي لَفْظٍ لِلحَدِيْثِ (أَتَدْرُوْنَ مَا العَضْهُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: نَقْلُ الحَدِيْثِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى بَعْضٍ - لِيُفْسِدُوا بَيْنَهُمْ -). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (425) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (845). (¬2) وَهُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ حَافِظٌ، (ت 129 هـ)، وَالأَثَرُ أَوْرَدَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الفُرُوْعِ (211/ 10) عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُمَا اللهُ. (¬3) البُخَارِيُّ (6056)، وَمُسْلِمٌ (105) عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوْعًا. (¬4) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ قَالَ: (جَلَسَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ التَّمِيْمِيُّوْنَ، فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ؛ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَنَا سَيِّدُ تَمِيْمٍ، وَالمُطَاعُ فِيْهِمْ، وَالمُجَابُ فِيْهِمْ، أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ فَآخُذُ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَهَذَا يَعْلَمُ ذَاكَ - يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الأَهْتَمِ -، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّهُ لَشَدِيْدُ العَارِضَةِ، مَانِعٌ لِجَانِبِهِ، مُطَاعٌ فِي نَادِيْهِ، قَالَ الزِّبْرِقَانُ: وَاللَّهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيْرَ مَا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ إِلَّا الحَسَدُ، قَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَحْسُدُكَ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَئِيْمُ الخَالِ، حَدِيْثُ المَالِ، أَحْمَقُ الوَالِدِ، مُضَيِّعٌ فِي العَشِيْرَةِ، وَاللَّهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ لَقَدْ صَدَقْتَ فِيْمَا قُلْتُ أَوَّلًا، وَمَا كَذَبْتُ فِيْمَا قُلْتُ آخِرًا، لَكِنِّي رَجُلٌ رَضِيْتُ فَقُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتَ، وَغَضِبْتُ فَقُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتَ، وَوَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِي الأَمْرِيْنِ جَمِيْعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا؛ إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)). مُسْتَدْرَكُ الحَاكِمِ (6568). وَفِي لَفْظٍ لِلحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَجُلًا أَوْ أَعْرَابِيًّا؛ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً)). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (872). الصَّحِيْحَةُ (1731). (¬5) وَمِنْهُ سُمِّيَتِ البَهِيْمَةُ بَهِيْمَةً؛ لِأَنَّهَا مُبْهِمَةٌ عَمَّا تُرِيْدُ. (¬6) وَفِي لَفْظٍ أَيْضًا فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ (875) عَنِ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ - خَطِيْبَانِ - عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَامَا فَتَكَلَّمَا ثُمَّ قَعَدَا، وَقَامَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ - خَطِيْبُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَتَكَلَّمَ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِهِمَا، فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَخْطُبُ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُوْلُوا قَوْلَكُمْ، فَإِنَّمَا تَشْقِيْقُ الكَلَامِ مِنَ الشَّيْطَانِ)، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا) صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (675). وَتَشْقِيْقُ الكَلَامِ: هُوَ المُبَالَغَةُ فِيْهِ وَتَزْيِيْنُهُ. (¬7) قَالَ ابْنُ الرُّوْمِيِّ فِي دِيْوَانِهِ (169/ 2): (في زُخْرُفِ القَوْلِ تَرْجِيْحٌ لِقَائِلِهِ ... وَالحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيْهِ بَعْضُ تَغْيِيْرِ تَقُوْلُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيْرِ مَدْحًا وَذَمًّا ومَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا ... سِحْرُ البَيَانِ يُرِي الظَلْمَاءَ كَالنَّوْرِ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) إِذَا كَانَ الطَّرْقُ مِنَ السِّحْرِ، فَمَا الجَوَابَ عَنْ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّبِيِّ الَّذِيْ كَانَ يَخُطُّ؛ وَالَّذِيْ قَالَ فِيْهِ: (فَمَنْ وَافَقَ خَطُّهُ خَطَّهُ فَذَاكَ)؟ (¬1) الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ هَذَا هُوَ مِنَ التَّعْلِيْقِ بِالمُحَالِ، وَالمَعْنَى: مَنْ كَانَ مِنْكُم نَبِيًّا فَلَهُ ذَاكَ، وَالمَقْصُوْدُ أَنَّهُ حَرَامٌ. 2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبِيْلًا لِنَبيِّهِ ذَاكَ؛ أَنَّهُ يَخُطُّ فِي الأَرْضِ فَيُعَلِّمُهُ مِنْ وَحْيهِ بِمَا شَاءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ وَهُوَ كَاذِبٌ يَقِيْنًا؛ لِانْقِضَاءِ زَمَنِ الوَحْي وَالنُّبُوَّةِ، فَيَكُوْنُ مِنِ ادِّعَاءِ الغَيْبِ وَمِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الشَّيَاطِيْنِ، فَالأَوَّلُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي وَحْيٌ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ. ¬

باب ما جاء في الكهان ونحوهم

بَابُ مَا جَاءَ فِي الكُهَّانِ وَنَحْوِهِمْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا). (¬1) وَعَنْ أَبِي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (مَنْ أَتَىَ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (¬2) وَلِلْأَرْبَعَةِ وَالحَاكِمِ - وَقَالَ صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا -، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). (¬3) وَلِأَبِي يَعَلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مِثْلُهُ مَوْقُوْفًا. (¬4) وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوْعًا (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطِيِّرَ لَهُ أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِّرَ لَهُ، ومَنْ أَتَى كَاهِنًا؛ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. (¬5) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - دُوْنَ قَوْلِهِ (وَمَنْ أَتَى) إِلَى آخِرِهِ -. (¬6) قَالَ البَغَوِيُّ: العَرَّافُ: الَّذِيْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُوْرِ بِمُقَدِّمَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى المَسْرُوْقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيْلَ هُوَ الكَاهِنُ، وَالكَاهِنُ: هُوَ الَّذِيْ يُخْبِرُ عَنِ المُغَيَّبَاتِ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: الَّذِيْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي الضَّمِيْرِ. (¬7) وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: العَرَّافُ اسْمٌ لِلْكَاهِنِ وَالمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ وَنَحْوِهِمْ؛ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الأُمُوْرِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ. (¬8) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ يَكْتُبُوْنَ (أَبَا جَادٍ) وَيَنْظُرُوْنَ فِي النُّجُوْمِ: (مَا أَرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلَاقٍ). (¬9) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ تَصْدِيْقُ الكَاهِنِ مَعَ الإِيْمَانِ بِالقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ. الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُكُهِّنَ لَهُ. الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُطُيَّرَ لَهُ. الخَامِسَةُ: ذِكْرُ مَنْ سُحِرَ لَهُ. السَّادِسَةُ: ذِكْرُ مَنْ تَعَلَّمَ أَبَا جَادٍ. السَّابِعَةُ: ذِكْرُ الفَرْقِ بَيْنَ الكَاهِنِ وَالعَرَّافِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2230) (دُوْنَ زِيَادَةِ (فَصَدَّقَهُ))، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ (16638) فِي المُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ دُوْنَ زِيَادَةِ (فَسَأَلَهُ). الضَّعِيْفَةُ (6523). قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيْثُ (مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ فَقَدْ بَرِءَ مِمَّا أُنِزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ، لَمْ تُقْبلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا)! فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّعِيْفَةِ بِنَفْسِ الرَّقَمِ السَّابِقِ (6523): (مُنْكَرٌ لِلفَقَرَةِ الثَّانِيَةِ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي المُعْجَمِ الأَوْسَطِ، فَإِنَّ الفَقَرَةَ الثَّانِيَةَ إنَّمَا صَحَّتْ فِي المُصَدِّقِ بِلَفْظِ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاة أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ورَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْرُهُ). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3904). الصَّحِيْحَةُ (3387). (¬3) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (15). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَفِي أَسَانِيْدِهِم كَلَامٌ ذَكَرْتُهُ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3047). (¬4) صَحِيْحٌ مَوْقُوْفًا. أَبُوْ يَعْلَى (5408)، وَالبزَّارُ (315/ 5)؛ وَبِزِيَادَةِ (أَوْ سَاحِرًا). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (3048). قُلْتُ: وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (217/ 10): (إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْي). (¬5) صَحِيْحٌ لِغَيْرِهِ. البزَّارُ (52/ 9)، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (162/ 18). الصَّحِيْحَةُ (2195). (¬6) الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (4262). (¬7) شَرْحُ السُّنَّةِ لِلبَغَوِيِّ (182/ 12). (¬8) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (173/ 35). (¬9) صَحِيْحٌ مَوْقُوْفًا. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنِّفِ بِرَقَم (19805)، وَقَالَ: (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُوْس عَنْ أَبِيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ). وَكَذَا رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الشُّعَبِ (4831). تَحْقِيْقُ فَتْحِ المَجِيْدِ (ص307) لِلشَّيْخِ حَامِدِ الفَقِي. وَالمَرْفُوْعُ مِنْهُ مَوْضُوْعٌ وَهُوَ بِلَفْظِ (رُبَّ مُعَلِّمِ حُرُوْفِ أَبَي جَادَ، دَارَسٍ فِي النُّجُوْمِ، لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلَاقٌ يَوْمَ القِيَامَةِ)، فَإِنَّ فِيْهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيْدَ العُمَرِيَّ، وَهُوَ كذَّابٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (41/ 11). الضَّعِيْفَةُ (417).

الشرح

الشَّرْحُ - قَالَ فِي المُعْجَمِ الوَسِيْطِ: ((كَهَنَ) لَهُ كِهَانَةً؛ أَخْبَرَهُ بِالغَيْبِ؛ فَهُوَ كَاهِنٌ). (¬1) وَفِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ: (تَكَهَّنَ: قَضَى لَهُ بِالغَيْبِ). (¬2) - الكَاهِنُ يَجْتَمِعُ مَعَ السَّاحِرِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتَخْدِمُ الجِنَّ لِغَرَضِهِ وَيَسْتَمْتِعُ بِهِ. - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ وَلِمَا قَبْلَهُ؛ هُوَ أَنَّ الكَاهِنَ كَافرٌ، وَأَنَّ الكِهَانَةَ شِرْكٌ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنٍ: 1) مِنْ جِهَةِ دَعْوَى مُشَارَكَةِ اللهِ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ بِالغَيْبِ؛ وَهَذَا اخْتَصَّ بِهِ سُبْحَانَهُ. (¬3) 2) مِنْ جِهَةِ التَّقَرُّبِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الجِنِّ؛ وَدُعَائِهِم وَعِبَادَتِهِم. وَقَدْ جَعَلَهُم جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ الطَّوَاغِيْتِ - كَمَا سَبَقَ فِي الأَبْوَابِ -، فَهُم طَوَاغِيْتُ لِأَنَّهُم تَجَاوَزُوا حَدَّهُم فَنَازَعُوا اللهَ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ وعِلْمِ مَا فِي الصُّدُوْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65). - قَوْلُهُ (فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ): أَيْ: بِالقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65). - أَثَرُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ المَوْقُوْفُ هُوَ بِلَفْظِ (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا؛ فَسَأَلَهُ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)، وَلَهُ حُكْمُ الرَّفعِ، كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي): (إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، ومِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْي). (¬4) - قَوْلُهُ (لَيسَ مِنَّا): إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَالكَبَائِرُ مِنْهَا مَا قَدْ يَكُوْنُ كُفْرًا مُخْرِجًا مِنَ المِلَّةِ، وَمِنْهُ مَا قَدْ يَكُوْنُ مَعْصِيَةً كَبِيْرَةً. - أَبُو يَعْلَى: هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيْمِيُّ؛ المَوْصِلِيُّ -نِسْبَةً إِلَى المَوْصِل - صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ كَالمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ، (ت 307هـ). ¬

_ (¬1) المُعْجَمُ الوَسِيْطُ (803/ 2) (¬2) القَامُوْسُ المُحِيْطُ (ص1228). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الفَتْحِ (216/ 10): (وَالكَهَانَةُ - بِفَتْحِ الكَافِ وَيَجُوْزُ كَسْرُهَا- ادِّعَاءُ عِلْمِ الغَيْبِ؛ كَالإِخْبَارِ بِمَا سَيَقَعُ فِي الأَرْضِ مَعَ الاسْتِنَادِ إِلَى سَبَبٍ، وَالأَصْلُ فِيْهَا اسْتِرَاقُ السَّمْعِ مِنْ كَلَامِ المَلَائِكَةِ، فَيُلْقِيْهِ فِي أُذُنِ الكَاهِنِ. وَالكَاهِنُ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى العَرَّافِ وَالَّذِيْ يَضْرِبُ بِالحَصَى وَالمُنَجِّمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَقُوْمُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَيَسْعَى فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ. وَقَالَ فِي المُحْكَمِ: الكَاهِنُ: القَاضِي بِالغَيْبِ، وَقَالَ فِي الجَامِعِ: العَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ أَذِنَ بِشَيْءٍ قَبْلَ وُقُوْعِهِ كَاهِنًا). (¬3) وَتَأَمَّلْ قَوْلَ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي حَقِّ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُوْنُ فِي غَدٍ؛ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُوْلُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ}). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177)، حَيْثُ جَعَلَتْ ادِّعَاءَ ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتِرَاءً عَظِيْمًا عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ وَلَيْسَ فَقَطْ عَلَى الرَّسُوْلِ، وَمَا ذَاكَ - وَاللهُ أَعْلَمُ - إِلَّا لِأَنَّ الشِّرْكَ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ هُوَ تَنَقُّصٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (¬4) (217/ 10).

- الكَاهِنُ لَا يَجُوْزُ إِتْيَانُهُ وَلَوْ لِمُجَرَّدِ الاطِّلَاعِ عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَفِي مُسْلِمٍ فِي حَدِيْثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ عِنْدَمَا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ يَأْتُوْنَ الكُهَّانَ فَقَالَ لَهُ: (لَا تَأْتِهِم). (¬1) (¬2) - قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلَاقٌ): أَيْ: لَيْسَ لَهُ نَصِيْبٌ مِنَ الجَنَّةِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ كَافِرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَرةِ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (البَقَرَة:102). - البَغَوِيُّ: هُوَ مُحْيي السُّنَّةِ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ الحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُوْدٍ الفَرَّاءُ؛ البَغَوِيُّ (نِسْبَةً إِلَى - بَغ - وَهِيَ مَدِيْنَةٌ بَيْنَ هَرَاةَ وَمَرْو فِي خُرِاسَانَ) الشَّافِعِيُّ؛ عَالِمُ خُرَاسَان وَصَاحِبُ التَّصَانِيْفِ كَالتَّهْذِيْبِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ وَالتَّفْسِيْرِ (ت 516 هـ). - (أَبُو العَبَّاسِ): هُوَ شَيْخُ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنُ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ، (ت 728 هـ). - قَوْلُهُ (يُخْبِرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ): يَعْنِي عَمَّا فِي القَلْبِ - وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي القُلُوْبِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى -، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُوْرِ} (فَاطِر:38)، لَكِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ هَوَاجِسِ الإِنْسَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِيْ يُوَسْوِسُ لَهُ. - الكَاهِنُ يَسْتَخْدِمُ وَسِيْلَةً ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ فِي إِجَابَاتِهِ لِيُقْنِعَ السَّائِلَ بِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ العِلْمُ عَنْ طَرِيْقِهَا؛ كَالنُّجُوْمِ أَوِ الخَطِّ أَوِ الكَفِّ، وَهِيَ وَسَائِلُ لَا تُحَصِّلُ ذَلِكَ العِلْمَ، وَلَكِنَّ العِلْمَ جَاءَهُ عَنْ طَرِيْقِ الجِنِّ، وَهَذِهِ الوَسِيْلَةُ إنَّمَا هِيَ لِخِدَاعِ النَّاسِ كَيْ يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّهَا تُؤدِي إِلَى ذَلِكَ العِلْمِ؛ فَيَظُنَّ بِهِ الكَرَامَةَ وَالخُصُوْصِيَّةَ لَا الدَّجَلَ وَالشَّعْوَذَةَ. - الكَاهِنُ وَالمُنَجِّمُ يَجِبُ قَتْلُهُمُ لِدَفعِ مَفْسَدَتِهِم وَمَضَرَّتِهِم - حَتَّى وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ كُفْرِهِم - لِأَنَّ أَسْبَابَ القَتْلِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالكُفْرِ فَقَط، بَلْ لِلقَتْلِ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِيْنَ يُحَارِبُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيْهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ} (المَائِدَة:33). فَكُلُّ مَنْ أفسدَ عَلَى النَّاسِ أُمُوْرَ دِيْنِهِم أَوْ دُنْيَاهُم؛ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ؛ وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأُمُوْرُ تَصِلُ إِلَى الخُرُوْجِ مِنَ الإِسْلَامِ. (¬3) - قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ يَكْتُبُوْنَ (أَبَا جَادٍ) وَيَنْظُرُوْنَ فِي النُّجُوْمِ: المَقْصُوْدُ بِـ (أَبَا جَادٍ) أَي حُرُوْفُ الهِجَاءِ، وَهَذِهِ يَنْقَسِمُ تَعَلُّمُهَا إِلَى قِسْمَيْنِ (¬4): 1) تَعَلُّمٌ مُبَاحٌ: كَأَنْ يَتَعَلَّمَهَا المَرْءُ لِحِسَابِ الجُمَلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; كَمَا هُوَ مَعْرُوْفٌ عِنْدَ العَرَبِ مِنْ أَنَّهُم مَثَلًا يُؤَرِّخُوْنَ عَنْ طَرِيْقِ حِسَابِ الجُمَلِ الَّتِي يَكْتُبُوْنَهَا، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. 2) تَعَلُّمٌ مُحَرَّمٌ: وَهُوَ كِتَابَتُهَا بِكِتَابَةٍ مُرْتَبِطَةٍ بِسَيْرِ النُّجُوْمِ - كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ مِنْ عَمَلِ المُنَجِّمِيْنَ وَالكُهَّانِ -، حَيْثُ أَنَّهُم يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُم يَسْتَدِلُّوْنَ بِهَا عَلَى الحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (537). (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (22/ 5): (قَالَ العُلَمَاءُ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ إِتْيَانِ الكَاهِنِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُوْنَ فِي مُغَيَّبَاتٍ قَدْ يُصَادِفُ بَعْضُهَا الإِصَابَةَ؛ فَتُخَافُ الفِتْنَةُ عَلَى الإِنْسَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُلَبِّسُوْنَ عَلَى النَّاسِ كَثِيْرًا مِنْ أَمْرِ الشَّرَائِعِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيْثُ الصَّحِيْحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ وَتَصْدِيْقِهِمْ فِيْمَا يَقُوْلُوْنَ، وَتَحْرِيْمِ مَا يُعْطَوْنَ مِنَ الحُلْوَانِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِيْنَ). قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (23/ 6): (وَاعْلَمْ أَنَّ إِتْيَانَ الكَاهِنِ شَدِيْدُ التَّحْرِيْمِ حَتَّى فِي المِلَلِ السَّابِقَةِ. قَالَ فِي السِّفْرِ الثَّانِي مِنَ التَّوْرَاةِ: (لَا تَتَّبِعُوا العَرَّافِيْنَ وَالقَافَةَ وَلَا تَنْطَلِقُوا إِلَيْهِم، وَلَا تَسْأَلُوْهُم عَنْ شَيْءٍ لِئَلَّا تَتَنَجَّسُوا بِهِم)). (¬3) قُلْتُ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -: إنَّمَا قِيْلَ بِالاسْتِتَابَةِ هُنَا خِلَافًا لِلسَّاحِرِ - أَنَّهُ يُقْتَلُ دُوْنَ اسْتِتَابَةٍ! - لِأَنَّ السِّحْرَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالكُفْرِ الأَكْبَرِ، أَمَّا الكَاهِنُ فَقَدْ يَكُوْنُ مِثْلُهُ؛ وَقَدْ لَا يَكُوْنُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُوْنَ مُتَعَاطِيًا لِلكَذِبِ وَالشَّعْوَذَةِ وَالتَّلْبِيْسِ دُوْنَ حَقِيْقَةِ السِّحْرِ وَادِّعَاءِ الغَيْبِ. وَأَمَّا إِنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوْبيَّةِ فيُقْتَلُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أقْدَرَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ سَبَبًا إِلَى ذَلِكَ العِلْمِ؛ فَمِثْلُ هَذا يُسْتَتَابُ؛ وَإلَّا قُتِلَ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬4) القَوْلُ المُفِيْدُ (519/ 1) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ - بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ -.

- اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي حُكْمِ مَنْ أَتَى الكَاهِنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: 1) مَنْ أَتَاهُ لِيَسْأَلُهُ فَقَطْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْن يَوْمًا، لِحَدِيْثِ مُسْلِمٍ (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً)، ومَنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ كُفْرًا أَكْبَرًا لِلحَدِيْثِ الثَّانِي (مَنْ أَتَىَ كَاهِنًا, فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). (¬1) (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ أَيْضًا (مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً، فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ). (¬3) 2) مَنْ أَتَى الكَاهِنَ مُطْلَقًا (¬4) فَقَدْ كَفَرَ كُفْرًا أَصْغَرًا (¬5)، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوْصِ، فَيَكُوْنُ حُكْمُ الفِعْلِ أَنَّهُ كُفْرٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ قَبُوْلِ الصَّلَاةِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَلَمْ نَقْلُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا أَكْبَرًا لِكَوْنِهِ خَصَّ عَدَمَ القَبُوْلِ بِأَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ وَسَائِرُ عَمَلِهِ مُطْلَقًا (¬6). وَيَكُوْنُ كُفْرًا أَكْبَرًا إِذَا اسْتَحَلَّ إِتْيَانَهُم. (¬7) 3) إِمْرَارُ هَذِهِ النُّصُوْصِ كَمَا جَاءَتْ دُوْنَ الخَوضِ فِي تَفْصِيْلِهَا (¬8)، فَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَتَى الكَاهِنَ أَنَّهُ كَفَرَ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَلَا نَخُوْضُ فِي بَيَانِ حَقيقَتِهَا لِيَكُوْنَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوْسِ وَأَشَدَّ فِي الزَّجْرَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي المَنْصُوْصِ عَنْهُ. (¬9) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2230). (¬2) وَهَذَا التَّوْجِيْهُ مُتَعَقَّبٌ بِكَوْنِ لَفْظِ الحَدِيْثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (16638) جَمَعَ بَيْنَ التَّصْدِيْقِ وَبَيْنَ عَدَمِ قَبُوْلِ الصَّلَاةِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا. وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ: إِنَّ العِلَّةُ الَّتِيْ جُعِلَتْ هُنَا فِي عَدَمِ كُفْرِ السَّائِلِ - فَقَط - هِيَ عَدَمُ التَّصْدِيْقِ؛ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الحَالِ أَنَّهُ جَاءَ لِيَسْتَفِيْدَ مِمَّا عِنْدَهُ، فَلَوْ وَافَقَ قَوْلُ الكَاهِنَ هَوَى السَّائِلِ لَصَدَّقَهُ، فَعِلَّةُ الكُفْرِ مَوْجُوْدَةٌ بِمُجَرَّدِ الإِتْيَانِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬3) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (69/ 22) عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ مَرْفُوْعًا، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيْفٌ جِدًا مُسَلْسَلٌ بِالعِلَلِ. انْظُرِ الضَّعِيْفَةَ (6674). وَمِثْلُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (6670) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ فَقَدْ بَرِءَ مِمَّا أُنِزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا). ضَعِيْفٌ. الضَّعِيْفَةُ (5281). (¬4) طَبْعًا لَيْسَ بِقَصْدِ الإِفْحَامِ وَالمُنَاظَرَةِ وَإِبْطَالِ حُجَّةِ الكَاهِنِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ الإِطِّلَاعِ وَالاسْتِفَادَةِ مِمَّا عِنْدَهُ، أَمَّا بِقَصْدِ الإِفْحَامِ وَالإِبْطَالِ فَجَائِزٌ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنْ دِيْنِهِ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3055) (أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ - وَقَدْ قَارَبَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ - فَلَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُوْلُ اللهِ؟) فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُوْلُ الأُمِّيِّينَ. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُوْلُ اللهِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَاذَا تَرَى؟) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِيْنِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خُلِطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ). قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيْئًا)، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ). قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِيْهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ). وَ (الأُطُمُ) بِضَمَّتِيْنِ: كُلُّ حِصْنٍ مَبْنِيٍّ بِحِجَارَةٍ. وَقَوْلُهُ (إِنْ يَكُنْهُ) أَيْ: إِنْ يَكُنْ هُوَ المَسِيْحَ الدَّجَّالَ. (¬5) وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَد، كَمَا فِي كِتَابِ (الفُرُوْعِ) (211/ 10). (¬6) قَالَ صَاحِبُ فَتِحِ المَجِيْدِ (ص296) رَحِمَهُ اللهُ: (هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُوْلُ: هُوَ كُفْرٌ دُوْنَ كُفْرٍ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُوْلُ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ؛ فَيُسْأَلُ عَنْ وَجْهِ الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيْثَيْنِ). (¬7) قَالَ صَاحِبُ (عَوْنُ المَعْبُوْدِ بِشَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد) (284/ 10): (وَهُوَ مَحْمُوْلٌ عَلَى الاسْتِحْلَالِ أَوْ عَلَى التَّهْدِيْدِ وَالوَعِيْدِ). (¬8) قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الفُرُوْعُ) (213/ 10): (وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الكَلَامَ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ النُّصُوْصِ تَوَرُّعًا، وَيَمُرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيْرٍ؛ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ المَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ). (¬9) قُلْتُ: وَالأَرْجَحُ هُوَ الثَّانِي لِتَضَافُرِ الأَدِلَّةِ وَجَمْعِهَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ إِمْرَارِهَا كَمَا جَاءَتْ فَهُوَ صَحِيْحٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الزَّجْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِي مَعْرِفَةَ حُكْمِهِ، وَذَلِكَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الآثَارِ، وَكَيْ لَا تَبْقَى الأَدِلَّةُ دُوْنَ تَوْجِيْهٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) هَلْ مِنَ الكِهَانَةِ مَا يُخْبَرُ بِهِ الآنَ مِنْ أَحْوَالِ الطَّقْسِ فِي خِلَالِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ سَاعَةً قَادِمَةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؟ وَالجَوَابُ: لَا، لِأَنَّه يَسْتَنِدُ إِلَى أُمُوْرٍ حِسِّيَّةٍ، وَهِيَ تَكَيُّفُ الجَوُّ، لِأَنَّ الجَوَّ يَتَكَيَّفُ عَلَى صِفَةٍ مُعيَّنَةٍ تُعْرَفُ بِالمَوَازِيْنِ الدَّقِيقَةِ عِنْدَ أَهْلِ الخِبْرَةِ، فَيَكُوْنُ الجَوُّ مَثَلًا صَالِحًا لِأَنْ يُمْطِرَ أَوْ لَا يُمْطِرَ، وَنَظِيْرُ ذَلِكَ فِي العِلْمِ البَدِيْهِيِّ أَنَّنَا إِذَا رَأَيْنَا تَجَمُّعَ الغُيْومِ وَالرَّعَدَ وَالبَرْقَ وَثِقَلَ السَّحَابِ؛ نَقُوْلُ يُوْشِكُ أَنْ يَنْزِلَ المَطَرُ، فَمَا اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ مَحْسُوْسٍ؛ فَلَيْسَ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ. (¬1) لَكِنَّ هَذَا - وَإِنْ كَانَ سَبَبًا حَقِيْقِيًّا - فَإِنَّهُ لَا يُتَعَلَّقُ بِهِ فِي نِسْبَةِ المَطَرِ إِلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ أَجْرَاهُ؛ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيْهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيْبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (النُّوْر:43). (¬2) ¬

_ (¬1) وَنَقُوْلُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ أَطْلَعَهُم عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُم وَسِيْلَةً حَقِيْقيَّةً مُبَاحَةً إِلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الكَهَنَةِ الَّذِيْنَ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى لَهُم وَسِيْلَةً إِلَى تِلْكَ المَعْرِفَةِ؛ فَيَكُوْنُوْنَ كَذَبَةً فِي دَعْوَاهُم تِلْكَ. (¬2) قُلْتُ: وَالتَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الأَسْبَابِ، وَنِسْبَةُ نُزُوْلِ المَطَرِ إِلَيْهَا، مَعَ الغَفْلَةِ عَنِ الرَّزَّاقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَنْ رَحْمَتِهِ وحِكْمَتِهِ؛ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الكُفْرِ - وَإِنْ لَمْ يَكْنْ كُفْرًا أَكْبَرًا - فَهُوَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ، فَاليَوْمَ ذَهَبَتْ أَنْوَاءُ الجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَتِ المُنْخَفَضَاتُ الجَويَّةُ.

الملحق السادس على كتاب التوحيد) مسائل في العلم بالغيب

المُلْحَقُ السَّادِسُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) مَسَائِلُ في العِلْمِ بِالغَيْبِ (¬1) - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلْ عِلْمُ الغَيْبِ مُخْتَصٌّ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؟ الجَوَابُ: نَعَمْ. إِنَّ عِلْمَ الغَيْبِ مُخْتَصٌّ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَيَقُوْلُوْنَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِيْنَ} (يُوْنُس:20). فَالغَيْبُ هُوَ مَا غَابَ عَنِ العُيوْنِ - وَإِنْ كَانَ مُحَصَّلًا فِي القُلُوْبِ - (¬2). وَالمُؤْمِنُوْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ رُغْمَ عَدِمِ رُؤيَتِهِمَا، لِكَوْنِ الخَبَرِ الصَّادِقِ قَدْ أَتَى بِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المُتَّقِيْنَ: {الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالغَيْبِ} (البَقَرَة:3). وَالغَيْبُ الَّذِيْ اخْتَصَّ بهِ اللهُ تَعَالَى هُوَ الغَيْبُ الذَّاتيُّ؛ أَيْ: الَّذِيْ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ بِذَاتِهِ دُوْنَ وَاسِطَةٍ إِلَّا اللهُ تَعَالَى (¬3)، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِيْ يُهَيِّئُ مِنَ الأَسْبَابِ القَدَرِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُمَكِّنُ المَخْلُوْقَ مِنَ الاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ. (¬4) وَنَقَلَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬5) عَنِ القُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (أَنَّ هَذِهِ الخَمْسَ لَا سَبِيْلَ لِمَخْلُوْقٍ عَلَى عِلْمٍ بِهَا قَاطِعٍ، وَأَمَّا الظَّنُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِأَمَارَةٍ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيْبُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ، وَلَا نَفْيُهُ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ النُّصُوْصِ). (¬6) ¬

_ (¬1) وَسَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللهُ - ذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنَ شُبُهَاتٍ أُخَرَ وَجَوَابِهَا فِي مُلْحَقِ (ردُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِيْنَ). (¬2) قَالَهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ؛ كَمَا فِي لِسَانِ العَرَبِ (654/ 1). وَقَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُوْنَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُوْنَ} (البَقَرَة:33) (497/ 1): (وَالغَيْبُ: هُوَ مَا غَابَ عَنْ أبْصَارِهِم فَلَمْ يُعَايِنُوْهُ). (¬3) قَالَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش 426). قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّوْقِيْفُ عَلَى مُهِمَّاتِ التَّعَارِيْفِ) (ص254): (الغَيْبُ: مَا غَابَ عَنِ الحِسِّ؛ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِلْمٌ يَهْتَدِي بِهِ الفِعْلُ فَيَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ). (¬4) فَالقَدَرِيَّةُ مِنْهَا: هُوَ مَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ؛ كَبَعْضِ المُخْتَرَعَاتِ الحَدِيْثَةِ الَّتِيْ قَدَّرَ اللهُ المَخْلُوْقَ عَلَى صُنْعِهَا؛ كَالهَاتِفِ الخُلَوِيِّ (لِعِلْمِ الحَاضِرِ)، وَالتَّصْوِيْرِ الشُّعَاعِيِّ (لِعِلْمِ المُسْتَقْبَلِ) وَالتَّحْلِيْلِ المَخْبَرِيِّ لِلمُستَحَاثَّاتِ وَغَيْرِهَا (لِعِلْمِ المَاضِيْ)، وَكتَمْكِيْنِهِ تَعَالَى لِلجِنِّ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَإِخْبَارِهِم أَوْلِيَائَهُم مِنَ الكُهَّانِ. وَأَيْضًا الرُّؤْيَا فِي المَنَامِ هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيْثِ الوَعِيْدُ عَلَى مَنْ أَرَى نَفْسَهُ مَا لَمْ يَرَى، وَالحَدِيْثُ هُوَ (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ؛ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ). البُخَارِيُّ (7042) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ مِنْهَا فَتَكُوْنُ وُفْقَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوْصُ، فَعُلِمَ بِهَا أَنَّ الجَنَّةَ وَالنَّارَ مَوْجُوْدَتَانِ (لِعِلْمِ الحَاضِرِ)، وَمَرَاحِلُ تَكوُّنِ الجَنِيْنِ (لِعِلْمِ الحَاضِرِ أَيْضًا)، وَيَوْمُ القِيَامَةِ وَمَا سَيَكُوْنُ فِيْهِ (لِعِلْمِ المُسْتَقْبَلِ)، وَقِصَّةُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامِ فِيْمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ (لِعِلْمِ المَاضِي). (¬5) (216/ 1). (¬6) وَهَذِهِ الخَمْسُ هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتُ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ} (لُقْمَان:34).

- المسألة الثانية) ما أشكال علم الغيب؟

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا أَشْكَالُ عِلْمِ الغَيْبِ (¬1)؟ 1) عِلْمُ المُسْتَقْبَلِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعِلْم الغَيْبِ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوْءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيْرٌ وَبَشِيْرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ} (الأَعْرَاف:188). (¬2) 2) عِلْمُ المَاضِي، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيْهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُوْنَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُوْنَ} (آل عِمْرَان:44). 3) عِلْمُ الحَاضِرِ فِيْمَا غَابَ عَنْكَ حِسُّهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُوْنَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِيْنِ} (سَبَأ:14). 4) عِلْمُ البَاطِنِ وَمَا فِي الضَّمِيْرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُوْرِ} (فَاطِر:38). (¬3) ¬

_ (¬1) كَمَا يُمْكِنُ تَقْسِيْمُ هَذِهِ الأَشْكَالِ - مِنْ جِهَةِ العُمُوْمِ - إِلى: غَيْبٍ مُطْلَقٍ: وَهُوَ الَّذِيْ لَمْ يُعَلِّمْهُ اللهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ، وَإِلى غَيْبٍ نِسْبِيٍّ: وَهُوَ الَّذِيْ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلِعَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ. أَفَادَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الغُنَيْمَانُ فِي كِتَابِهِ (عِلْم الغَيْبِ فِي الشَّرِيْعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ) (ص35). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص153): (وَالمُرَادُ بِالغَيْبِ: المُسْتَقْبَلُ، أَمَّا المَوْجُوْدُ أَوِ المَاضِي؛ فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُمَا فَلَيْسَ بِكَافِرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ قَدْ حَصَلَ وَعَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ مِنَ النَّاسِ، لَكِنَّ غَيْبَ المُسْتَقْبَلِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا للهِ وَحْدَهُ). قُلْتُ: لَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَجِدُهُ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الغَيْبِ الَّتِيْ أَثْبَتْنَاهَا، وَأَمَّا كَوْنُ المَوْجُوْدِ وَالمَاضِيْ مَعْلُوْمًا لِبَعْضٍ دُوْنَ بَعْضٍ فَهَذَا كُلُّهُ بِقَيْدِ أَنَّهُم اطَّلَعُوا عَلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ كَمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ أَوْ ... ، وَلَكِنَّ الغَيْبَ - الَّذِيْ هُوَ مَوْضُوْعُ البَحْثِ - هُوَ مَا كَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَأَيْضًا كُوْنُهُ جُعِلَ لَيْسَ مِنَ الغَيْبِ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُهُم وَقَدْ مَضَى زَمَنُهُ! فَأَيْضًا عِلْمُ مَا سَيَكُوْنُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُهُم؛ كَمَا فِي إخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الغَيْبِ. قَالَ الشَّيْخُ الآلُوْسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (رُوْحُ المَعَانِي) (229/ 11) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُوْنَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِيْنِ} (سَبَأ:14): (وَفِي الآيَةِ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الغَيْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالأُمُوْرِ المُسْتَقْبَلَةِ، بَلْ يَشْمَلُ الأُمُوْرَ الوَاقِعَةَ الَّتِيْ هِيَ غَائِبَةٌ عَنِ الشَّخْصِ أَيْضًا). (¬3) وَأَمَّا حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المَرْفُوْعُ فِي كِتَابَةِ المَلَكِ لِلحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّذِيْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6491)، وَمُسْلِمٌ (128) وَالَّذِيْ فِيْهِ (إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوْهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوْهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوْهَا عَشْرًا)؛ فَهُوَ يُفِيْدُ عِلْمَ المَلَكِ بِمَا يَهُمُّ بِهِ العَبْدُ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ لِيَكْتُبَهُ، أَوْ مِمَّا مَكَّنَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ. قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (325/ 11). قُلْتُ: وَسَبَبُ هَذَا الجَوابِ الَّذِيْ تَقَدَّمَ بِهِ الحَافِظُ رَحِمَهُ اللهُ هُوَ كَوْنُ عِلْمِ مَا فِي الصُّدُوْرِ خَاصٌّ بِاللهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ مِنَ الغَيْبِ الَّذِيْ تَفَرَّدَ بِهِ اللهُ سُبْحَانَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُوْرِ} (فَاطِر:38)، فَلَيْسَ بِغَرِيْبٍ أَنْ يُمَكِّنَ اللهُ تَعَالَى المَلَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا إِخْبَارُهُ تَعَالَى - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلَكٍ -: {قُلْ لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُوْلُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوْحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيْرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُوْنَ} (الأَنْعَامُ:50). قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (145/ 3): ({لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ} أَيْ: خَزَائِنُ رِزْقِهِ فَأُعْطِيْكُم مَا تُرِيْدُوْنَ، {وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ} فَأُخْبِرُكُم بِمَا غَابَ مِمَّا مَضَى وَمِمَّا سَيَكُوْنُ، {وَلَا أَقُوْلُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ المَلَكَ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الآدَمِيُّ وَيُشَاهِدُ مَا لَا يُشَاهِدُهُ الآدَمِيُّ). وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (البَحْرُ المُحِيْطُ) (132/ 3): (فَاطِّلَاعُ الرَّسُوْلِ عَلَى الغَيْبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيْهِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ فِي الغَيْبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الوَحِي، لَا مِنْ جِهَةِ اطِّلَاعِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى المُغَيَّبَاتِ).

- المسألة الثالثة) لو قال قائل إن أحد الأولياء يعلم الغيب، فماذا يقال له؟

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) لو قَالَ قَائِلٌ إِنَّ أَحَدَ الأَوْلِيَاءِ يَعْلَمُ الغَيْبَ، فَمَاذَا يُقَالُ لَهُ؟ الجَوَابُ: نَقُوْلُ لَهُ: خَالَفْتَ القُرْآنَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65)، وَيَقُوْلُ تَعَالَى أَيْضًا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُو} (الأَنْعَام:59). فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ! قُلْنَا لَهُ: أَيْضًا خَالَفْتَ القُرْآنَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَصَرَ ذلِكَ الاطْلَاعَ فِي الرُّسُلِ فَقَط، قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجِنّ:27). فَيَكُوْنُ ذَلِكَ إِمَّا كَذِبًا، أَو كِهَانَةً وَتَعَامُلًا مَعَ الجِنِّ. بَلْ إِنْ حَقِيْقَةَ هَذِهِ الدَّعْوَى إِبْطَالُ النُّبُوَّاتِ وَدَعَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ، فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ إِطِّلَاعَ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ آيَةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهَا عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِي بُيُوْتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (آل عِمْرَان:49).

فائدة) في إطلاع الله تعالى الرسل على الغيب ثلاث ملاحظات هي

فَائِدَةٌ) فِي إِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى الرُّسلَ عَلَى الغَيْبِ ثَلَاثُ مُلَاحَظَاتٍ هِيَ: 1) صَحِيْحٌ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُظْهِرُ رُسَلَهُ عَلَى الغَيْبِ؛ وَلَكِنَّ الإِظْهَارَ هُوَ إِطْلَاعٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَقَط، وَلَيْسَ عِلْمًا تَامًّا. (¬1) أَمَّا دَعْوَى عِلْمِهِم بِالغَيْبِ مُطْلَقًا فَهُوَ كَذِبٌ، قَالَ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعِلْم الغَيْبِ} (الأَنْعَام:50). (¬2) 2) هَذِهِ الأَشْيَاءُ الَّتِيْ أُطْلِعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مِنْ بَابِ إِظْهَارِ الآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى تَأْيِيْدِ رَبِّهِ لَهُ، وَلَكنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا اسْتِقْلَالًا (¬3)، بَلْ هِيَ مَقْرُوْنَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي إِطْلَاعِهِ عَلَيْهَا مَتَى شَاءَ سُبْحَانَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُوْلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} (الرَّعْد:38). (¬4) فَمَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمُوْرِ المُغَيَّبَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِ - وَلَيْسَ اسْتِقْلَالًا - لِذَلِكَ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الإِظْهَارَ مِنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَفَى عَنْهُ العِلْمَ بِالغَيْبِ، فَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجِنّ:26)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ فِي النَّفْي: {قُلْ لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعِلْم الغَيْبِ} (الأَنْعَام:50). 3) أَنَّ الغَايَةَ مِنْ إِظْهَارِهِم عَلَى شَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ هُوَ تَأْيِيْدُهُم عَلَى صِحَّةِ دَعوَاهُم، وَإظْهَارُ نُصْرَتِهِم عَلَى عَدُوِّهِم، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِي بُيُوْتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (آل عِمْرَان:49)؛ بِخِلَافِ غَايَةِ مَنْ يَنْسِبُ عِلْمَ الغَيْبِ إِلَى المَشَايْخِ وَالأَوْلِيَاءِ - مِنَ المُتَصَوِّفَةِ وَغَيْرِهِم - فَهُمْ يُرِيْدُوْنَ بِذَلِكَ فَتْحَ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِهِم وَالتَّعَلُّقِ بِهِم وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِم، وَشَتَّانَ بَينَ الوَجْهَينِ. (¬5) أما مَا يُنْسَبُ لِبَعْضِ الشُّيُوْخِ أَوِ الصَّالِحِيْنَ مِنْ أُمُوْرٍ تَشْتَبِهُ عَلَى سَامِعِهَا، أَوْ تَحْصُلُ مَعَ أَفْرَادٍ مِنَّا نَحنُ! فيُمْكِنُ تَصْدِيْقُهَا - مَا لَمْ تُخَالِفْ نَصًّا - عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِغَيْبٍ؛ وَلَا بِإِطْلَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّه قَدْ يَكُوْنُ إِلْهَامًا وَمَعُونَةً مِنْهُ تَعَالَى وَتَوْفِيْقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَسْتَطيْعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِكَونِهِ تَلَقَّاهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى الغَيْبِ، وَلَكِنَّهُ حَدْسٌ وَحُسْنُ ظَنٍّ بِهِ تَعَالَى أنَّهُ سَيُوَفِّقُهُ فِي أَمْرِهِ. كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ). قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ? قَالَ: (الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ). (¬6) وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثوْنَ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ - فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ). (¬7) (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) وكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آل عِمْرَان:179). قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (البَحْرُ المُحِيْطُ) (132/ 3): (فَاطِّلَاعُ الرَّسُوْلِ عَلَى الغَيْبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيْهِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ فِي الغَيْبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الوَحِي، لَا مِنْ جِهَةِ اطِّلَاعِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى المُغَيَّبَاتِ). (¬2) قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُوْنَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (التَّوْبَة:101)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ: {وَآخَرِيْنَ مِنْ دُوْنِهِمْ لَا تَعْلَمُوْنَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأَنْفَال:60). وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُوْنَ إِلَيَّ؛ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيْهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ؛ فَلَا يَأْخُذْهَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2680) عَنْ أمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوْعًا. وَفِي الحَدِيْثِ (أَلَا إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4740) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. وَكَمَا فِي حَدِيْثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي رَدِّهَا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ حَيْثُ قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُوْلُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}) البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177). (¬3) أَيْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَتَى شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ وَقَصْدِهِ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ شَيْءٍ مَقْرُوْنٌ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيْئَتِهِ؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. (¬4) وقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُوْنَ} (إِبْرَاهِيْم:11). (¬5) وَيَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنْ يُصَحِّحُوا دُعَاءَ النَّصَارَى لِعِيْسَى عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَصْحِيْحِ دُعَائِهِم لِأَوْلِيَائِهِم؛ وَذَلِكَ لِكَوْنِ النَّصِّ القُرْآنِيِّ قَدْ شَهِدَ لِعِيْسَى عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَمْرَيْنِ زَائِدَيْنِ عَلَى دَعْوَى أَوْلَئِكَ، وُهُمَا: أ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ مِنَ العِلْمِ بِالغَيْبِ؛ بَلْ وَمِنْ شِفَاءِ المَرْضَى وَإِحْيَاءِ المَوْتَى - بِإِذْنِهِ كَمَا يَقُوْلُوْنَ عَنْ أَوْلِيَائِهِم! -. ب) حَيَاتُهُ الحَقِيْقِيَّةُ - وَلَيْسَتْ البَرْزَخِيَّةُ كَحَالِ أَوْلِيَائِهِم - الآنَ، حَيْثُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَإِنَّمَا رُفِعَ عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَحَقِيْقَةُ حَالِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُم غَافِلُوْنَ عَنْ أَنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِيْنَ كَانَ فِي التَّعَلُّقِ بِالصَّالِحِيْنَ، كَمَا فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ اللَّاتِ؛ وَقِصَّةِ قَوْمِ نُوْحٍ عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ صَالِحِيْهِم. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (¬6) البُخَارِيُّ (5776)، ومُسْلِمٌ (2224). وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي التَّطَيُّرِ). (¬7) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬8) رَاجِعْ شَرِيْطَ (688) مِنْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ جَوَابِ سُؤَالٍ (هَلِ الرُّؤيا الصَّالِحَةُ مِنَ الغَيْبِ؟). (¬9) وَهَذَا عَلَى القَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ.

- المسألة الرابعة) ما الوحي وما الإلهام؟

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) مَا الوَحْيُ وَمَا الإِلْهَامِ؟ الوَحْيُ لُغَةً: هُوَ الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وخَفَاءٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: وَحْيُ إِلْهَامٍ - وَوَحْيُ إِرْسَالٍ. فَوَحْيُ الإِلْهَامِ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوْتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُوْنَ} (النَّحل:68)، وكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوْسَى أَنْ أَرْضِعِيْهِ} (القَصَص:7). وَأَمَّا وَحْيُ الإِرْسَالِ: فَهُوَ الَّذِيْ يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيْلُ إِلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا الوَحْيُ قَدْ يَكُوْنَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ مُشَافَهَةً وَيَرَاهُ بِعَيْنِهِ (¬1)، وَقَدْ يَكُوْنُ مَا يُبَثُّ فِي نَفْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬2) وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الوَحْيِّ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ اللهِ تَعَالَى جَزْمًا (¬3)، رُغْمَ أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ أَحْيَانًا الإِلْهَامُ، أَوْ تَزْيِيْنُ الشَّيَاطِيْنِ. (¬4) وَأَمَّا الإِلْهَامُ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْزِمَ المَرْءُ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَتُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِهِ، كَمَا جَرَى معَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (¬5) فَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا - كَمَا أَثْبَتْنَا آخِرًا - أَنَّ الوَحْيَ يَكُوْنُ حَقًّا ومِنَ اللهِ تَعَالَى (¬6)؛ فَإِنْ كَانَ فِي الشَّرِيْعَةِ - الآنَ - فَهُوَ مُحَالٌ؛ وَذَلِكَ لِكَمَالِ الشَّريْعَةِ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬7)، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا فَمَرْدُوْدٌ أَيْضًا وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ الوَحْي بِعْدَهُ أَيْضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬8) أَمَّا الإِلْهَامُ فَلَا يَسْتَطِيْعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِصَوَابِهِ أَصْلًا - فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ ضَلَالًا فِي نَفْسِهِ؛ أَوْ مُفْضِيًا إِلَى ضَلَالٍ- فَإِنْ كَانَ خَيْرًا كَانَ تَوفِيْقًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمَعُوْنَةً، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَإِضْلَالٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. (¬9) (¬10) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ) (¬11) عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ الصِّرَاطِ وَالسُّوْرَانِ (¬12): (فَهَذَا الوَاعِظُ فِي قُلُوْبِ المُؤْمِنِيْنَ هُوَ الإِلْهَامُ الإِلَهِيُّ بِوَاسِطَةِ المَلَائِكَةِ). ¬

_ (¬1) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (كَانَ جَبْرَائِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ فِي صُوْرَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ). صَحِيْحٌ. ابْنُ سَعْدٍ (250/ 4) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثَ الصَّحِيْحَةِ (1111). قُلْتُ: وَالمَعْنَى أَنَّ جِبْرَائِيْلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أَشْبَهَ بِدِحْيَةَ الكَلْبِيِّ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ دِحْيَةُ الكَلْبِيُّ، كَمَا فِي لَفْظِ ابْنِ سَعْدٍ (250/ 4) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1111). (¬2) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إنَّ رُوْحَ القُدْسِ نَفَثَ فِي رُوْعِي؛ أَنَّهُ لَنْ تَمُوْتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وأَجَلَهَا). صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (2136) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2866). (¬3) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُوْلًا فَيُوْحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيْمٌ} (الشُّوْرَى:51). (¬4) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُوْنَ} (الأَنْعَام:112). (¬5) كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فإِنَّهُ عُمَرُ). قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيْرُ (مُحَدَّثُوْنَ): مُلْهَمُوْن. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ هَذَا هُوَ فَقِيْهٌ مِنَ الأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، (ت 197 هـ). (¬6) لِذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الوَحْي حَرَسًا لِئَلَّا يُسْتَرِقَ وَلِئَلَّا يُخْلَطَ بِهِ غَيْرُهُ - بِخِلَافِ الإِلْهَامِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجِنّ:27). (¬7) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ} (المَائِدَة:3). (¬8) كَمَا فِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (مَا نَزَلَ وَحْيٌ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (2142). صَحَّحَهُ الشَّيْخُ شُعَيْبٌ الأَرْنَؤُوْطُ. (¬9) قُلْتُ: فَضَابِطُهُ أَمْرَانِ: عَدَمُ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، ثُمَّ حُصُوْلُ الخَيْرِ بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬10) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ لِلشَّيْطانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ: فَإِيْعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيْبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فَإِيْعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيْقٌ بِالحَقِّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَلْيَحْمَدِ اللهِ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2988) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ مَوَارِدِ الظَمْآنِ (38). وَكَانَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ صَحَّحَه بَعْدُ؛ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬11) (70/ 1). (¬12) وَالحَدِيْثُ هُوَ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيْمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُوْرَانِ، فِيْهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُوْرٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُوْلُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيْعًا وَلَا تَتَعَرَّجُوا (وَفِي نُسَخٍ: وَلَا تَتَفَرَّجُوا، وَلَا تَعْوَجُّوا)، وَدَاعٍ يَدْعُوْ مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ الإِسْلَامُ، وَالسُّوْرَانِ: حُدُوْدُ اللهِ، وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ)). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (17634) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3887).

- المسألة الخامسة) ما الجواب عن شبهة كون عمر محدث

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) مَا الجَوَابُ عَنْ شُبْهِةِ كَوْنِ عُمَرَ مُحَدَّثًا؛ فَهُوَ إِذًا يَعْلَمُ الغَيْبَ، بَلْ فِي قِصَّةِ (سَارِيَةَ) مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى القَوْمِ وَأَنَّ عَدُوَّهُم يُبَاغِتُهُم وَيَهْزِمُهُم، ثُمَّ أَمَرَ سَارِيَةَ بِأَخْذِ نَاحِيَةِ الجَبَلِ كَيْ يَسْلَمَ مِنْهُم! (¬1) وَأَيْضًا قَدْ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقِرَاءَةٍ فِيْهَا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ} بِزِيَادَةِ - وَلَا مُحَدَّثٍ - مِنْ سُوْرَةِ الحَجِّ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ المُحَدَّثِ بِالغَيْبِ أَيْضًا! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الحَدِيْثَ لَمْ يَجْزِمُ بِذَلِكَ، بَلْ جَاءَ عَلَى جِهَةِ الفَرْضِ لَا الجَزْمِ، وَلَفْظُ الحَدِيْثِ هُوَ (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ). (¬2) 2) أَنَّ الحَدِيْثَ نَفْسَهُ يُبيِّنُ أَنَّ الإِطِّلَاعَ عَلَى الغَيْبِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا لِلأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا التَّحَدِيْثُ فَهُوَ مُشَابِهٌ لَهُ وَلَكِنَّه لَيْسَ مِنْهُ، فَصَاحِبُهُ يُحَدَّثُ إِمَّا صَرَاحَةً أَوْ فِي نَفْسِهِ بِأَشْيَاءَ؛ لَكِنَّه لَا يَسْتَطِيْعُ الجَزْمَ بَصَحَّتِهَا. وَبُرْهَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أ) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَفْسَهُ قَدْ جَاءَ عَنْهُ قَوْلُهُ (وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيْمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيْمَ مُصَلًّى}. وَآيَةُ الحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؛ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬3) فَظَهَرَ صَرَاحَةً أَنَّهُ وَافَقَ الحَقَّ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ دُوْنَ جَزْمٍ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الحَقِّ، بَلْ لَوْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ ذَلِكَ لَمَا قَالَ: (وَافَقْتُ)، بَلْ قَالَ: (أَطَعْتُ رَبِّي فِي قَوْلِ ثَلَاثٍ)، بَلْ وَلَمَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَنْتَظِرَ إِقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. ب) أَنَّ عُمَرَ نَفْسَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ مَا كَانَ خِلَافَ الحَقِّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا فِي رَأْيهِ فِي صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ (¬4)، وَأَيْضًا فِي حِوَارِهِ معَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي حَرْبِ الرِّدَّةِ (¬5)، فَلَو كَانَ يَعْلَمُ الغَيْبَ أَوْ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ لَمَا صَدَرَ عَنْهُ كُلُّ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ مُوَفَّقًا لِقَوْلِ الصَّوَابِ كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إنَّ اللهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُوْلُ بِهِ). (¬6) ¬

_ (¬1) وَسَيَأْتِي فِي الجَوَابِ ذِكْرُ تَفَاصِيْلِ القِصَّةِ. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (402)، وَمُسْلِمٌ (2399) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. (¬4) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ: (قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ؛ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ؛ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ؛ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا - وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِيْ كَانَ بَيْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم وَبَيْنَ المُشْرِكِيْنَ - فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ؛ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟! فَقَالَ: (بَلَى)، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟! قَالَ: (بَلَى)، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِيْنِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟! فَقَالَ: (يَا ابْنَ الخَطَّابِ! إِنِّي رَسُوْلُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا)، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا؛ فَنَزَلَتْ سُوْرَةُ الفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3182)، وَمُسْلِمٌ (1785). (¬5) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ -، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُوْلُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)؟! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُوْنِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّوْنَهَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6925)، وَمُسْلِمٌ (20). (¬6) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (5145) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1736).

3) أَنَّ مَا جَرَى لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ - لَيْسَ فِيْهِ عِلْمٌ بِالغَيْبِ مُطْلَقًا، وَلَكنَّهُ مِنْ بَابَ الكَرَامَاتِ الَّتِيْ أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - لَهُ وَلِغَيْرِهِ - وَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا أَنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ؛ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ عَنْهُ، بَلْ ولَا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى الغَيْبِ أَصْلًا! وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِيْ صَحَّتْ فِي ذَلِكَ هِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: (وَجَّهَ عُمَرُ جَيْشًا، وَرَأَّسَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْطُبُ جَعَل يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ، الجَبَلَ! - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ قَدِمَ رَسُوْلُ الجَيْشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ هُزِمْنَا، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ إِلَى الجَبَلِ! - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، فَأَسْنَدْنَا ظُهُوْرَنَا إِلَى الجَبَلِ؛ فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى - وَكَانَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ المَدِيْنَةِ حَيْثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَكَانِ الجَيْشِ مَسِيْرَةَ شَهْرٍ - فَقيْلَ لِعُمَرَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيْحُ بِذَلِكَ). (¬1) فَلَيْسَ فِيْهَا عِلْمُهُ بِمَا وَقَعَ لَهُم؛ وَإِنَّمَا جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ أَثْنَاءَ خُطْبَتِهِ دُوْنَ قَصْدٍ مِنْهُ أَصْلًا وَلَا عِلْمٍ، وَدَلِيْلُ ذَلِكَ سُؤَالُهُ رَسُوْلَ الجَيْشِ مَا جَرَى مَعَهُ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّاسِ لَهُ (إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيْحُ بِذَلِكَ!). (¬2) عَلَى أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ عُمَرُ قَدْ رَأَى ذَلِكَ فَيَبْقَى مِنْ بَابِ الكَرَامَاتِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الغَيْبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الإِطِّلَاعَ عَلَى الغَيْبِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا لِلرُّسُلِ، وَإلَّا فَهَّلا اطَّلَعَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ سَارِيَةَ - وَأَشَدُّ خَطَرًا مِنْهُ عَلَيْهِ - ألَا وَهُوَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ المَجُوْسِيُّ الَّذِيْ طَعَنَهُ فِي الصَّلَاةِ - وَهُوَ خَلْفهُ فِي الصُّفُوفِ - وَلَا يَحْتَاجُ لِكَثِيْرِ عَنَاءٍ لِرُؤْيَتِهِ وَرُؤْيَةِ سِكِّيْنِهِ؟! (¬3) وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا الاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ القِصَّةِ عَلَى حُصُوْلِ المُكَاشَفَاتِ مِنَ المَشَايْخِ وَالأَوْلِيَاءِ لِمَا يَحْصُلُ حَوْلَنَا؛ أَوْ لِمَا فِي الصُّدُوْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الصُّدُوْرِ هُوَ مِمَّا اخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ - كَمَا سَبَقَ -، وَأَمَّا المُكَاشَفَاتُ لِمَا يَحْصُلُ حَوْلَهُم فَقَد يَكُوْنُ تَعَامُلًا مَعَ الجِنِّ، أَوْ اخْتِلَاقًا، أَوْ تَهْوِيْلًا لِلقَصَصَ، أَوْ فِرَاسَةً وَفِطْنَةً، وَعَلَى كُلِّ فَلَا تُقَاسُ عَلَى قِصَّةِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَهُ مَزِيَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فِيْهِ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الحَديْثِ (فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ). ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الاعِتْقَادُ لِلبَيْهَقِيِّ (314/ 1) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. الصَّحِيْحَةُ (1110). وَأَمَّا بَقِيَّةُ الطُّرُقِ الَّتِيْ فِيْهَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِهِم فَقَالَ ذَلِكَ! فَضَعِيْفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَمَّا مَا أَثْبَتْنَاهُ فَهُوَ صَحِيْحٌ. قَالَ عَنْهُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (175/ 10): (هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ). (¬2) قاَلَ الذَّهَبيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَارِيْخُ الإِسْلَامِ) (249/ 3): (وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ سُئِلَ فِيْمَا بَعْدُ عَنْ كَلَامِهِ (يَا سَارِيَةُ؛ الجَبَلَ) فَلَمْ يَذْكُرْهُ). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (1110): (وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيْهِ، أَنَّ النِّدَاءَ المَذْكُوْرَ إِنَّمَا كَانَ إِلْهَامًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعُمَرَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ غَرِيْبًا عَنْهُ، فَإِنَّهُ (مُحَدَّثٌ) كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيْهِ أَنَّ عُمَرَ كُشِفَ لَهُ حَالُ الجَيْشِ؛ وَأَنَّهُ رَآهُم رَأْيَ العَيْنِ، فَاسْتِدْلَالُ بَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ بِذَلكَ عَلَى مَا يَزْعُمُوْنَهُ مِنَ الكَشْفِ لِلأَوْلِيَاءِ؛ وَعَلَى إِمْكَانِ اطِّلَاعِهِم عَلَى مَا فِي القُلُوْبِ مِنْ أَبْطَلِ البَاطِلِ، كَيْفَ لَا وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ رَبِّ العَالَمِيْنَ المُنْفَرَدِ بِعِلْمِ الغَيْبِ وَالإطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الصُّدُوْرِ. وَلَيْتَ شِعْرِيْ كَيْفَ يَزْعُمُ هَؤُلْاءِ ذَلِكَ الزَّعْمَ البَاطِلَ وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُوْلُ فِي كِتَابِهِ: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجِنّ:27)، فَهَلْ يَعْتَقِدُوْنَ أَنَّ أولَئْكَ الأَوْلِيَاءَ رُسُلٌ مِنْ رُسُلِ اللهِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُم يَطَّلِعُوْنَ عَلَى الغَيْبِ بِإِطْلَاعِ اللهِ إِيَّاهُم!! سُبْحَانَك هَذا بُهْتَانٌ عَظيمٌ. عَلَى أَنَّهُ لَو صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَشْفًا، فَهُوَ مِنَ الأُمُوْرِ الخَارِقَةِ لِلعَادَةِ - الَّتِيْ قَدْ تَقَعُ مِنَ الكَافِرِ أَيْضًا - فَلَيْسَ مُجَرَّدُ صُدُوْرِ مِثْلِهِ بِالذِيْ يَدُلُّ عَلَى إِيْمَانِ الَّذِيْ صَدَرَ مِنْهُ - فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَلَايَتِهِ - وَلِذَلِكَ يَقُوْلُ العُلَمَاءُ إِنَّ الخَارِقَ لِلعَادَةِ إنْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ فَهُوَ كَرَامَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِدْرَاجٌ، وَيَضْرِبُوْنَ عَلَى هَذَا مَثَلًا: الخَوَارِقَ الَّتِيْ تَقَعُ عَلَى يَدِ الدَّجَّالِ الأَكْبَرِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَقَولِهِ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِري؛ فَتُمْطِرُ! وَلِلأَرْضِ: أَنْبِتِي نَبَاتَكِ فَتُنْبِتُ! وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الأَحَادِيْثُ الصَّحِيْحَةُ).

4) أَنَّ مَعْنَى (مُحَدَّثٍ) أَصْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ مَنْ يُحَدِّثُه، كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِلحَدِيْثِ (قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ كَيْفَ مُحَدَّثٌ؟ قَالَ: (تَتَكَلَّمُ المَلَائِكَةُ عَلَى لِسَانِهِ)). (¬1) 5) أَمَّا عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَفْسِهَا؛ فَالجَوَابُ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ أوجُهٍ: (¬2) أ) أَنَّ هَذِهِ القِرَاءَةَ لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً وَلَا مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ، وَلَا يَجُوْزُ الاحْتِجَاجُ بِهَا فِي أُصُوْلِ الدِّيْنِ. (¬3) ب) إِنْ كَانَتْ صَحِيْحَةً؛ فَالمَعْنَى أَنَّ المُحَدَّثَ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَكَانُوا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُنْسَخُ مَا يُلْقِيْهِ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ. وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا كَانَتِ الأُمَمُ قَبْلَنَا لَا يَكفِيْهِم نَبيٌّ وَاحِدٌ؛ بَلْ يُحِيْلُهُم هَذَا النَّبِيُّ فِي بَعْضِ الأُمُوْرِ عَلَى النَّبِيِّ الآخَرِ، وَكَانُوا يَحْتَاجُوْنَ إِلَى عَدَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَيَحْتَاجُوْنَ إِلَى المُحَدَّثِ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغْنَاهُم اللهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ؛ فَكَيْفَ لَا يُغْنِيْهِم عَنِ المُحَدَّثِ! وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ) (¬4) فَعَلَّقَ ذَلِكَ بِـ (إِنْ)؛ وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ اسْتِغْنَاءَ أُمَّتِهِ عَنْ مُحَدَّثٍ كَمَا اسْتَغْنَتْ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ سَوَاءً كَانَ فِيْهَا مُحَدَّثٌ أَوْ لَا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ لِكَمَالِهَا بِرَسُوْلِهَا الَّذِيْ هُوَ أَكْمَلُ الرُّسُلِ وَأَجْمَلُهُم. (¬5) ج) أَنَّ المُحَدَّثَ هُوَ المُلْهَمُ، وَالإِلْهَامَ لَا يَعْنِي العِلْمَ بِالغَيْبِ الَّذِيْ اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَإنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَالظَّنُّ لَيْسَ بِعِلْمٍ يَقِيْنِيٍّ. (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) قَالَ الهَيْثَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ) (14439): (رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَفِيْهِ أَبُو سَعْدٍ - خَادِمُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ - وَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ). (¬2) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (79/ 12): (قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ}). (¬3) اُنْظُرْ شَرْحَ العَقِيْدَةِ الأَصْفَهَانِيَّةِ (ص16) لِشَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬5) اُنْظُرْ شَرْحَ العَقِيْدَةِ الأَصْفَهَانِيَّةِ (ص16) لِشَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ. (¬6) وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ) (68/ 1) إِلَى أَنَّ التَّحْدِيْثَ أَخَصُّ مِنَ الإِلْهَامِ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (التَّحْدِيْثُ أَخَصُّ مِنَ الإِلْهَامِ، فَإِنَّ الإِلْهَامَ عَامٌّ لِلمُؤْمِنِيْنَ بِحَسْبِ إِيْمَانِهِم؛ فّكُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدَ أَلْهَمَهُ اللهُ رُشْدَهُ الَّذِيْ حَصَلَ لَهُ بِهِ الإِيْمَانُ، فَأَمَّا التَّحْدِيْثُ فَالنَّبِيُّ قَالَ فِيْهِ: (إنْ يِكُنْ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ؛ فَعُمَرُ) يَعْنِي مِنَ المُحَدَّثِينَ، فَالتَّحْدِيْثُ إِلْهَامٌ خَاصٌّ وَهُوَ الوَحْيُ إِلَى غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ). قُلْتُ: وَعَلَى كُلٍّ؛ فَإِنَّ الإِلْهَامِ وَالتَّحْدِيْثَ لَيْسَ بِعِلْمٍ يَقينيٍّ. (¬7) وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى كَوْنِهِ مُرْسَلًا؛ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيْرِ مَا يُعْرَفُ بِالطَّيِّ وَالنَّشْرِ فِي لِسَانِ العَرَبِ، فَيَكُوْنُ المَعْنَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ وَلَا نَبِيٍّ، وَلَا أَلْهَمْنَا مِنْ مُحَدَّثٍ؛ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: (يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا) فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَحَامِلًا رُمْحًا. أَفَادَهُ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ) (342/ 4).

- المسألة السادسة) هل المنام من العلم بالغيب؟

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) هَلِ رُؤْيَا المَنَامِ مِنَ العِلْمِ بِالغَيْبِ؟ الجَوَابُ: لَا، لَيْسَ مِنَ العِلْمِ بالغَيْبِ، إِلَّا إِنْ كَانَتْ لِلأَنْبِيَاءِ فَهِي مِنْ جُمْلَةِ شُؤُوْنِ النُّبُوَّةِ، بِخِلَافِ المَنَامِ الَّذِيْ يَراهُ الرَّجُلُ مِنَّا؛ فَمِنْهُ الحَقُّ ومِنْهُ البَاطِلُ، وَلَيْسَ مَعْنَى الحَقِّ هُنَا أَنَّهُ يَجْزِمُ بِكَوْنِهِ غَيْبَاَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَكُوْنُ فِيْهِ نَوْعُ اطْلَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الكَرَامَاتِ الَّتِيْ يُعْطِيْهَا اللهُ تَعَالَى لِلعَبْدِ (¬1)، خَاصَّةً وَأَنَّ هَذِهِ المَنَامَاتِ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ جَاءَتْ فِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ المَرْفُوْعِ وَهُوَ (رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ - وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ - وَالرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: حَدِيْثُ النَّفْسِ وَتَخْوِيْفُ الشَّيْطَانِ وَبُشْرَى مِنَ اللهِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلَا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬2) وَأَمَّا قَوْلُهُ (رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) فَمَعْنَاهُ: (إِنْ وَقَعَتِ الرُّؤيَا مِنَ النَّبِيِّ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيْقَةً، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ فَهِي جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبوَّةِ عَلَى سَبِيْلِ المَجَازِ، وَقَالَ الخَطَّابيُّ: (قِيْلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّ الرُّؤيَا تَجِيْءُ عَلَى مُوافَقَةِ النُّبوَّةِ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقِيْلَ: المَعْنَى أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ - وَإِنِ انْقَطَعَتْ - فَعِلْمُهَا بَاقٍ)). (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) وَإِنْ كَانَتْ أَيْضًا لَا تَخْتَصُّ مُطْلَقًا بِالصَّالِحِيْنَ؛ كَمَا فِي رُؤْيَةِ مَلِكِ مِصْرَ فِي قِصَّةِ يُوْسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7017)، وَمُسْلِمٌ (2263). (¬3) أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (363/ 12). (¬4) قَالَ الحَافِظ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (363/ 12): (وَتُعقّبَ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِيْمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُعبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ: (أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟!)، ثُمَّ قَالَ: (الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ؛ فَلَا يُلْعَبُ بِالنُّبُوَّةِ!) وَالجَوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا نُبُوَّةٌ بَاقيَةٌ، وَإنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ النُّبُوَّةَ مِنْ جِهَةِ الاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الغَيْبِ؛ فَإِنَّه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيْهَا بِغَيرِ عِلْمٍ). قُلْتُ: وَيُمْكِنُ القَوْلُ أَيْضًا أَنَّ جِهَةَ النُّبُوَّةِ فِيْهَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ تَأْوِيْلِهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّرْعِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّوْجِيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ أَمَرَ أَنْ لَا تُقَصَّ إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ عَالِمًا هُوَ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّرِيْعَةَ جَاءَ فِيْهَا كَثِيْرٌ مِنْ تَأْوِيْلِ المَنَامَاتِ، كَمَا جَعَلَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ كِتَابًا سَمَّاهُ كِتَابَ التَّعْبِيْرِ (29/ 9).

- المسألة السابعة) ما الجواب عن الأثر الذي فيه معرفة أبي بكر بما سيأتيه من الولد، وعن أثر عثمان في مكاشفة أنس رضي الله عنهما؟

- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) مَا الجَوَابُ عَنِ الأَثَرِ الَّذِيْ فِيْهِ مَعْرِفَةُ أَبِي بَكرٍ بِمَا سَيَأْتِيْهِ مِنَ الوَلَدِ، وَعَنْ أَثَرِ عُثْمَانَ فِي مُكَاشَفَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْنَ؟ الجَوَابُ: الأَثَرُ بِتَمَامِهِ فِي المُوطَّأ أَنَّهُ عِنْدَمَا حَضَرَتِ الوَفَاةُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ فَأَخْبَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ وَرَثَتِهِ مِنَ البَنِيْنَ؛ فَقَالَ: (وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الوَارِثِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ؛ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ. فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ؛ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، إِنَّمَا هُوَ أَسْمَاءُ فَمَنِ الأُخْرَى قَالَ: ذُوْ بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ؛ أُرَاهَا جَارِيَةً (¬1)). (¬2) وَالجَوَابُ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّهُ مُجَرَّدُ ظَنٍّ وَتَخْمِيْنٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ (أُرَاهَا) أَيْ: أَظُنُّهَا، فَلَيْسَ هُوَ مِنَ العِلْمِ بِالغَيْبِ بِحَالٍ. 2) أَنَّ سَبَبَهَا قَدْ يَكُوْنُ رُؤْيَا رَآهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْقَانِيُّ (¬3) رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ المُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ مُزَيْنٍ (¬4): (قَالَ بَعْضُ فُقَهَائِنَا: وَذَلِكَ لِرُؤْيَا رَآهَا أَبُوْ بَكْرٍ). 3) أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى كَونِهِ مِنْ جُمْلَةِ الكَرَامَاتِ الَّتِيْ أُكْرِمَ بِهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَمَا سَبَقَ فِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ عَنْ لَمَّةِ المَلَكِ -. - وَأَمَّا أَثَرُ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: (يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدُكُم - وَأَثَرُ الزِّنَى ظَاهِرٌ عَلَى عَينَيهِ! -) فَهُوَ أَثَرٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيْثِ المَشْهُوْرِيْنَ، بَلْ رَوَاهُ القُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ بِصِيْغَةِ التَّمْرِيْضِ. (¬5) وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الظَّنِّ وَالحَدْسِ الَّذِيْ يَقَعُ فِي خَاطِرِ المُؤْمِنِ وَقَلَّمَا يُخْطِأُ، وَلَيْسَ لَهُ دِلَالَةٌ عَلَى عِلْمِ الغَيْبِ أَصْلًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ - جَوَابًا عَلَى قَوْلِ عُثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ؟؟) فَهُوَ دَلِيْلٌ عَلَى تَأْكِيْدِ عَدَمِ العِلْمِ بِالغَيْبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ الجَزْمَ لَا يَكُوْنُ إِلَّا وَحْيًا. 2) أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَجَابَ عَلَى جَوابِ أَنَسٍ بِمَا يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ السَّابِقَ، فَقَالَ: (لَا، وَلَكِنَّهَا بَصِيْرَةٌ وَبُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ). (¬6) وَيَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ حَدِيْثُ (إنَّ للهِ تَعَالَى عِبَادًا يَعْرِفُوْنَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ). (¬7) ¬

_ (¬1) وَاسْمُهَا أُمُّ كُلْثُوْمٍ. (¬2) صَحِيْحٌ. المُوَطَّأُ (752/ 2). إِرْوَاءُ الغَلِيْلِ (1619). (¬3) شَرْحُ الزَّرْقَانِيِّ (86/ 4)، وَالزَّرْقَانِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ البَاقِي بِنِ يُوْسُفَ الأَزْهَرِيُّ؛ المَالِكيُّ، (ت 1122 هـ). (¬4) هُوَ يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيْم بْنِ مُزَيْنٍ؛ أَبُو زَكَرِيَّا: عَالِمٌ بِلُغَةِ الحَدِيْثِ وَرِجَالِهِ، مِنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، (ت 259 هـ). الأَعْلَام لِلزِّرِكْلِيِّ (134/ 8). (¬5) أَفَادَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الغُنَيْمَانُ فِي كِتَابِهِ (عِلْمُ الغَيْبِ فِي الشَّرِيْعَةِ الإِسْلَاميَّةِ) (ص462). (¬6) قَالَ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص563): (وَالفِراسَةُ بِالكَسْرِ: اسْمٌ مِنَ التَّفَرُّسِ، وَبِالفَتْحِ: الحِذْقُ بِرُكُوبِ الخَيْلِ وَأَمْرِهَا). (¬7) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (2935) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1693). وَأَمَّا حَدِيْثُ (اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤمِنِ؛ فَإنَّه يَنْظُرُ بِنُوْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) فَهُوَ ضَعِيْفٌ. التِّرْمِذِيُّ (3127) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا. المَوْضُوْعَاتُ لِلصَّغَانِيِّ (ص51).

- المسألة الثامنة) من أين يأتي الكاهن بأخباره؟

- المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ) مِنْ أَيْنَ يَأْتِي الكَاهِنُ بِأَخْبَارِهِ؟ الجَوَابُ: يِأْتِي مِنْ عِدَّةِ أَشْكَالٍ؛ هِيَ: 1) مَا يَتَلَقَّونَهُ مِنَ الجِنِّ: فَإِنَّ الجِنَّ كَانُوا يَصْعَدُوْنَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ؛ فَيَرْكَبُ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَى أَنْ يَدْنُوَ الأَعْلَى بِحَيْثُ يَسْمَعُ الكَلَامَ فَيُلْقِيْهِ إِلَى الَّذِيْ يَلِيْهِ، إِلَى أَنْ يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقِيْهِ فِي أُذُنِ الكَاهِنِ فَيَزِيْدَ فِيْهِ. (¬1) 2) مَا يُخْبِرُ الجِنِّيُّ بِهِ مَنْ يُوَالِيْهِ بِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ - مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ غَالِبًا، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ لَا مَنْ بَعُدَ -. 3) مَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِيْنٍ وَحَدْسٍ، وَهَذَا قَدْ يَجْعَلُ اللهُ فِيْهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةً؛ مَعَ كَثْرَةِ الكَذِبِ فِيْهِ. 4) مَا يَسْتَنِدُ إِلَى التَّجْرُبَةِ وَالعَادَةِ، فَيَسْتَدِلُ عَلَى الحَادِثِ بِمَا وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ. 5) مَا يَعْرِفُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ هَوَاجِسِ الإِنْسَانِ الَّتِيْ يُوَسْوِسُهَا لِابْنِ آدَمَ؛ فيُخْبِرُ بِهَا وَلِيَّهُ. (¬2) ¬

_ (¬1) وَفِي البُخَارِيِّ (6213)، وَمُسْلِمٍ (2228) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسُوا بِشَيْءٍ). قَالُوا يَا رَسُوْلَ اللهِ: فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُوْنَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُوْنُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُوْنَ فِيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ)). وَفِي لَفْظٍ (فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حجرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (219/ 10): (قَوْلُهُ لَهُم (لَيْسُوا بِشَيْءٍ): أَيْ: لَيْسَ قَوْلُهُم بِشَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، (ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الخَطَّابِيِّ رَحِمَهُ اللهُ): (أَنَّ إِصَابَةَ الكَاهِنِ أَحْيَانًا إِنَّمَا هِيَ لِأَنَّ الجِنِّيَّ يُلْقِي إِلَيْهِ الكَلِمَةَ الَّتِيْ يَسْمَعُهَا - اسْتِرَاقًا مِنَ المَلَائِكَةِ - فَيَزِيْدُ عَلَيْهَا أَكَاذِيْبَ يَقِيْسُهَا عَلَى مَا سَمِعَ، فَرُبَّمَا أَصَابَ نَادِرًا؛ وَخَطَؤُهُ الغَالِبُ)). (¬2) انْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (217/ 10)، وَكِتَابَ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (513/ 1).

الباب السابع والعشرون) باب ما جاء في النشرة

بَابُ مَا جَاءَ فِي النُّشْرَةِ عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ، فَقَالَ: (هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ. (¬1) وَقَالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهَا، فَقَالَ: ابْنُ مَسْعُوْدٍ يَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ. (¬2) وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ؛ قُلْتُ لِابْنِ المُسَيِّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ؛ أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنْشَرُ? قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيْدُوْنَ بِهِ الإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ، فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ. (¬3) وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحُلُّ السِّحَرَ إِلَّا سَاحِرٌ. (¬4) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: النُّشْرَةُ: حَلُّ السِّحَرِ عَنِ المَسْحُوْرِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: حَلٌّ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ الَّذِيْ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ - وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الحَسَنِ - فَيَتَقَرَّبُ النَّاشِرُ وَالمُنْتَشَرُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِمَا يُحِبُّ، فَيُبْطِلُ عَمَلَهُ عَنِ المَسْحُوْرِ. وَالثَّانِي: النُّشْرَةُ بِالرُّقْيَةِ وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالأَدْوِيَةِ وَالدَّعَوَاتِ المُبَاحَةِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ. (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنِ النُّشْرَةِ. الثَّانِيَةُ: الفَرَقُ بَيْنَ المَنْهِيِّ عَنْهُ وَالمُرَخَّصِ فِيْهِ؛ مِمَّا يُزِيْلُ الإِشْكَالَ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (14135)، وَعَنْهُ أَبُو دَاوُدَ (3868). الصَّحِيْحَةُ (2760). (¬2) (الآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ) (77/ 3) لِابْنِ مُفْلِحٍ الحَنْبَلِيِّ. وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي جَامِعِ المَسَانِيْدِ: (النُّشْرَةُ: حَلُّ السِّحْرِ عَنِ المَسْحُوْرِ، وَلَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ السِّحْرَ، وَقَدْ قَالَ الحَسَنُ: لَا يُطْلِقُ السِّحْرَ إِلَّا سَاحِرٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوْزُ ذَلِكَ. وَسُئِلَ سَعِيْدُ بْنُ المُسَيِّبِ عَنْ حَلِّ العُقَدِ وَالنُّشُرِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يُطْلِقُ السِّحْرَ عَنِ المَسْحُوْرِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ). انْتَهَى كَلَامُهُ). (¬3) صَحِيْحٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (137/ 7) تَعْلِيْقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ فِي تَغْلِيْقِ التَّعلِيْقِ (49/ 5) عَنِ الطَّبَرِيِّ فِي تَهْذِيْبِ الآثَارِ، وَقَالَ: (إِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2760): (وَرِوَايَةُ قَتَادَةَ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شِيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْهُ مُخْتَصَرًا). (¬4) حَسَنٌ مَقْطُوْعٌ. الصَّحِيْحَةُ (2760). (¬5) قَالَهُ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (إِعْلَامُ المُوَقِّعِيْنَ عَنْ رَبِّ العَالَمِيْنَ) (301/ 4).

الشرح

الشَّرْحُ - النَّشْرُ: لُغَةً؛ خِلَافُ الطَّيِّ، وَالنَّشْرُ: التَّفرِيْقُ، وَالنُّشْرَةُ بِالضَّمِّ: رُقْيَةٌ يُعالَجُ بِهَا المَجْنُوْنُ وَالمَرِيْضُ وَمَنْ كَانَ يُظَنُّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الجِنِّ، وَقَدْ نَشَرَ عنه؛ إِذَا رَقَاهُ. (¬1) - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِمَا قَبْلَهُ هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ إِتْيَانِ النَّاسِ إِلَى السَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ بِقَصْدِ حَلِّ السِّحْرِ عَنِ المَسْحُوْرِ. 2) بَيَانُ المَشْرُوْعِ فِي ذَلِكَ - عِوَضًا عَنِ المَذْمُومِ - كَمَا تَجِدُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ (بَابُ مَا جَاءَ فِي النُّشْرَة): يَعْنِي مِنَ التَّفْصِيْلِ؛ وَأَنَّ مِنْهَا المَذْمُوْمُ وَمِنْهَا المَأْذُوْنُ؟ - قَوْلُهُ (سُئِل عَنِ النُّشْرَة): (أَلْ) هُنَا لِلْعَهْدِ، أَيْ: النُّشْرَةُ المَعْرُوْفَةُ فِي الجَاهِلِيَّةِ الَّتِيْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُوْنَهَا فِي حَلِّ السِّحْرِ، وَهِيَ حَلُّ السِّحْرِ بِاسْتِخْدَامِ الشَّيَاطِيْنِ وَبِالسِّحْرِ؛ كَالعُقَدِ وَالنَّفْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ (أَلْ) هُنَا لِلاسْتِغْرَاقِ! وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ جَوَازِ الرُّقيَةِ؛ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى، ورُقِيَ. - قَوْلُهُ (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ): أَيْ: مِنَ العَمَلِ الَّذِيْ يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَيُوْحِي بِهِ، وَهُوَ دَلِيْلٌ عَلَى التَّحْرِيْمِ. - قَوْلُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ (ابْنُ مَسْعُوْدٍ يَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ): مَرَّ مَعَنَا فِيْمَا سَبَقَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ كَانَ يَكْرَهُ جَمِيْعَ أَنْوَاعِ التَّمَائِمِ - حَتَّى مِنَ القُرْآنِ -. - (الطِّبُّ) هُنَا: مَعْنَاهُ السِّحْرُ، وَمَطْبُوْبٌ أَيْ: مَسْحُوْرٌ، وَهَذَا - عِنْدَ العَرَبِ - هُوَ مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ بِالشِّفَاءِ، لِأَنَّ الطِبَّ مَعْنَاهُ العِلَاجُ، وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ لِلَّدَيْغِ سَلِيْمٌ وَلِلكَسِيْرِ جَبِيْرٌ مِنْ بَابِ التَّفَاؤلِ بِالشِّفَاءِ، وَلِلَّرَكْبِ قَافِلَةٌ مِنْ بَابِ التَّفَاؤلِ بِالعَوْدَةِ وَالسَّلَامَةِ. - قَوْلُ ابْنِ المُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللهُ (لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا يُرِيْدُوْنَ بِهِ الإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ، فَلَم يُنْهَ عَنْهُ) يُرِيْدُ بِذَلِكَ: مَا يَنْفَعُ مِنَ النُّشْرَةِ بِالتَّعَوُّذَاتِ وَالأَدْعِيَةِ وَالقُرْآنِ وَالدَّوَاءِ المُبَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ دُوْنَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ السِّحْرِ، كَمَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ التَّدَاوِي لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ. - الحَسَنُ: هُوَ ابْنُ أَبِي الحَسَنِ، اسْمُهُ: يَسَارُ، وَهُوَ البَصْرِيُّ الأَنْصَارِيُّ، ثِقَةٌ فَقِيْهٌ، إِمَامٌ مِنْ خِيَارِ التَّابِعِيْنَ، (ت 110 هـ). - قَتَادَةُ: هُوَ ابْنَ دِعَامَةَ السَّدُوْسِيُّ، نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ سَدُوْس، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ عُلَماءِ التَّابِعِيْنَ، وَيُقَالُ إِنَّه وُلِدَ أَكْمَهًا، (ت 117 هـ). ¬

_ (¬1) قَالَهُ فِي تَاجِ العَرُوْسِ (217/ 14)، بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ.

- النُّشْرَةُ الجَائِزَةُ أَنْوَاعٌ - كَمَا فِي كَلَامِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَهِيَ: 1) الرُّقيَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالقُرْآنِ: بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَى المَسْحُوْرِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَالفَاتِحَةِ وَآيَةِ الكُرْسِيِّ وَسُوْرَةِ البَقَرَةِ وَالقَوَاقِلِ. 2) الرُّقيَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالتَّعَوًّذَاتِ: وَهِيَ الأَدْعِيَةُ، وَخَاصَّةً الَّتِيْ وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬1) 3) الأَدْوِيَةُ المُبَاحَةُ: وَهَذِهِ يَعْرِفُهَا الحُذَّاقُ وَأَهْلُ التَّجْرِبَةِ وَأَهْلُ العَقِيْدَةِ السَّلِيْمَةِ. (¬2) فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الأُمُوْرُ المُبَاحَةُ نَفَعَ اللهُ بِهَا؛ لَا سِيَّمَا مَعَ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاعْتِقَادِ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلَا يَزِيْدُ الظَّالِمِيْنَ إِلَّا خَسَارًا} (الإِسْرَاء:82). وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا مَنْ يُوْثَقُ بِعِلْمِهِ وَدِيْنِهِ - دُوْنَ أَصْحَابِ المَطَامِعِ الدُّنيَويَّةِ وَالمُشَعْوِذِيْنَ - الَّذِيْنَ يُفْسِدُوْنَ عَقَائِدَ النَّاسِ، وَيُرَهِبُوْنَهُم بِالكَذِبِ وَالتَّدْجِيْلِ. (¬3) - فَائِدَةٌ) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المُفْهِمُ شَرْحُ مُسْلِمٍ) (¬4) - بَابُ الرُّقيَةِ بِأَسْمَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ -: (قَوْلُهُ (ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِيْ تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ) (¬5): هَذَا الأَمْرُ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيْمِ وَالإرْشَادِ إِلَى مَا يَنْفَعُ مِنْ وَضْعِ يَدِ الرَّاقي عَلَى المَرِيْضِ وَمَسْحِهِ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَخْصُوْصًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ كُلُّ رَاقٍ .... ، وَمِمَّا يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ يَفْعَلَهُ النَّفْثُ وَالتَّفْلُ، وَقَدْ قُلنَا أَنَّهُمَا نَفْخٌ مَعَ رِيْقٍ). (¬6) ¬

_ (¬1) وَمِنْهَا: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا؛ ثُمَّ قَالَ: أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2708) عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيْمٍ مَرْفُوْعًا. وَمِنْهَا (أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3371) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. وَمِنْهَا (أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ - الَّتِيْ لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ - مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيْهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأ فِي الأَرْضِ وَبَرَأ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ يَطْرُقُ - إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ - يَا رَحْمَنُ) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الَأوْسَطِ (43) عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خُنْبُشٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (840). وَمِنْهَا (بِسْمِ اللهِ أَرْقيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤذِيْكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ وَعَيْنِ حَاسِدٍ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ؛ وَاللهُ يَشْفِيْكَ). مُسْلِمٌ (2186) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا. وَمِنْهَا (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبْ البَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ؛ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5743)، وَمُسْلِمٌ (2191). (¬2) قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: (وَبَلَغَنِي أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا سُحِرَتْ، فَقِيْلَ لَهَا فِي مَنَامِهَا: خُذِي مَاءً مِنْ ثَلَاثَةِ آبَارٍ تَجْرِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَاغْتَسِلِي بِهِ، فَفَعَلَتْ فَذَهَبَ عَنْهَا). المَنْتَقَى شَرْحُ المُوَطَّأِ (255/ 7) لِلبَاجِي. وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (372/ 1): (وَحَكَى القُرْطُبِيُّ عَنْ وَهْبٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: يُؤْخَذُ سَبْعُ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ؛ فَتُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ تُضْرَبُ بِالمَاءِ، وَيُقْرَأُ عَلَيْهَا آيَةُ الكُرْسِيِّ، وَيَشْرَبُ مِنْهَا المَسْحُوْرُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِبَاقِيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ الَّذِيْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ). (¬3) قُلْتُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِفَادَةِ الرُّقيَةِ -وَلِكَنَّهُ أَكْمَلُ - أَنْ يَكُوْنَ المَرْقِيُّ مُؤْمِنًا أَوْ صَالِحًا، فَفِي البُخَارِيِّ (5736) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوْهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُوْنَا، وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيْعًا مِنَ الشَّاءِ. فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ؛ فَبَرَأَ. فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوْهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ: (وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوْهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ). وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ (2201) - بَابُ جَوَازِ أَخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى الرُّقيَةِ بِالقُرْآنِ وَالأَذْكَارِ -. وَ (القِرَى): مَا يُعدُّ لِلضَّيْفِ النَّازِلِ مِنَ النُّزْلِ. (¬4) المُفْهِمُ شَرْحُ مُسْلِمٍ (589/ 5). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ (580/ 5): (وَأَمَّا النَّفْثُ وَوَضْعُ السَّبَّابَةِ عَلَى الأَرْضِ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالمَرْقِيِّ شَيْءٌ لَهُ بَالٌ وَلَا أَثَرٌ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ التَّبرُّكِ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَبِآثَارِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَّا الرِّيْقُ وَوَضْعُ الإِصْبَعِ - وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - فَإِمَّا أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ لِخَاصِّيَّةٍ فِيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ لِحِكْمَةِ إِخْفَاءِ آثَارِ القُدْرَةِ بِمُبَاشَرَةِ الأَسْبَابِ المُعْتَادَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ شَرْعًا أَنْ يُجْرِيَ اللهُ تَعَالَى بَرَكَةَ الشِّفَاءِ فِي الرِّيْقِ وَالتُّرَابِ الَّذِيْ قَارَنَ القِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ الشَّرِيْفَ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ المَقَامَ مَقَامُ تَبَرُّكٍ وَاسْتِعَانَةٍ بِاللهِ تَعَالَى الكَرِيْمِ. (¬5) هُوَ شَطْرٌ مِنْ حَدِيْثِ مُسْلِمٍ (2202)، وَهُوَ بِتَمَامِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ الثَّقَفِيِّ؛ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِيْ تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللهِ - ثَلَاثًا -، وَقُلْ - سَبْعَ مَرَّاتٍ -:أَعُوْذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ). (¬6) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2192) - بَابُ رُقيَةِ المَرِيْضِ بِالمُعَوِّذَاتِ وَالنَّفْثِ -: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ قَالَتْ: (كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالمُعوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَه الَّذِيْ مَاتَ فِيْهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أعَظْمَ بَرَكةً مِنْ يَدِي).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) لِمَاذَا لَا يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ المَسَيَّبِ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ السِّحْرَ فِي النُّشرَةِ؟ الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ ابْنَ المُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللهُ أَرْفَعُ مَقَامًا مِنْ أَنْ يُجِيْزَ السِّحْرَ - مَعْ مَا عُلِمَ مِنَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيْمِ السِّحْرِ وَذَمِّ مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ -. 2) أَنَّ كَلَامَهُ عَامٌّ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ فيُحْمَلُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُشْكِلٍ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ المُسَلَّمَاتِ. 3) أَنَّهُ قَيَّدَ إِبَاحَتَهُ لِلنُّشْرَةِ بِقَيْدِ النَّفْعِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ (فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ)، فيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى غَيْرِ السِّحْرِ قَطْعًا، لِأَنَّ السِّحْرَ لَيْسَ فِيْهِ نَفْعٌ بِالنَّصِّ - لَا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُوْنَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (البَقَرَة:102) -، وَلَا مِنْ جِهَةِ عَاقِبَتِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طَه:69) -. (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص61): (ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيْهِ مَنْفَعَةٌ لَا دِيْنِيَّةٌ ولا دُنْيَوِيَّةٌ - كَمَا يُوْجَدُ بَعْضُ المَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ المَعَاصِي -).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) أَلَا يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ حَلَّ السِّحْرِ بِالسِّحْرِ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُوْرَاتِ؛ وَالقَاعِدَةُ الأُصُوليَّةُ تَقُوْلُ: (الضَّرُوْرَاتُ تُبِيْحُ المَحْظُوْرَاتِ)؟ (¬1) الجَوَابُ: لَا يَجُوْزُ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ: 1) أَنَّ صُوْرَةَ النَّهْي فِي الحَدِيْثِ عِنْدَمَا سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ النُّشْرَةِ - وَهِيَ لِلمَسْحُوْرِ قَطْعًا - مُطَابِقَةٌ لِلنَّهْي - بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهَا (هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ) -، فَكَيْفَ جَازَتِ النُشْرَةُ بِالسِّحْرِ مِنْ بَابِ الشِّفَاءِ؛ مَعَ أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِهَا!! 2) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ أَصْلًا كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (وَمِنَّا رِجَالٌ يَأْتُوْنَ الكُهَّانَ. قَالَ: (فَلَا تَأْتُوْهُمْ). (¬2) فَإِنَّهُ حَتَّى لَو انْدَفَعَتْ بِهِ الضَّرُوْرَةُ - جَدَلًا - فَإِنَّه لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِهِ فِيْمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إنَّ اللهَ خَلَقَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، فَتَدَاوُوا، وَلَا تَتَدَاوُوا بِحَرَامٍ). (¬3) وَقَدْ حَذَّرَتِ الشَّرِيْعَةُ مِنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ وَالعَرَّافِيْنَ وَالسِّحْرةِ، وَلَا يَخْفَى - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - أَنَّ إِتْيِانَ النَّاسِ إِلِيْهِم هُوَ مِنْ بَابِ الالْتِجَاءِ إِليْهِم مِمَّا يُلِمُّ بِهِم مِنَ المَصَائِبِ فِي أَمْوَالِهِم وَأَبْدَانِهِم؛ فَجَاءَ التَّحْذِيْرُ مِنْهُم عَامًّا - رُغْمَ ذَلِكَ - وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُم مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ). (¬4) 3) مِنْ جِهَةِ القَاعِدَةِ المَذْكُوْرَةِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ القَاعِدَةَ صَحِيْحَةٌ، وَلَكِنَّ حَمْلَهَا عَلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ غَيْرُ صَحِيْحٍ، فَالضَّرُوْرَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ - وَهِيَ حِفْظُ الدِّيْنِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالمَالِ، وَالعَقْلِ (¬5) - وَلَكِنْ لِلعَمَلِ بِهَذِهِ القَاعِدَةِ هُنَاكَ قُيُودٌ، هِيَ: أ) أَنْ لَا يَجِدَ سِوَى هَذَا المُحَرَّمِ. وَهَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ هُنَا، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لِعِبَادِهِ فِي عِلَاجِ السِّحْرِ الكَثِيْرَ المُبَاحَ مِنَ القُرْآنِ وَالرُّقَى وَالتَّعْوِيْذَاتِ وَالأَدْوِيَةِ المُبَاحَةِ - كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عَنِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. ب) أَنْ تَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرُوْرَةُ. وَهَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ هُنَا، لِأَنَّ السِّحْرَ ضَارٌّ وَلَيْسَ بِنَافِعٍ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طَه:69). (¬6) ج) أَنَّ الضَّرُوْرَةَ تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا. وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ هُنَا، فَالضَّرُوْرَاتُ الخَمْسُ أَوَّلُهَا حِفْظُ الدِّيْنِ، فَلَا يُبْذَلُ مَا هُوَ أَعْلَى لِتَحْصِيْلِ مَا هُوَ أَدْنَى - وَهُوَ حِفْظُ النَّفْسِ - (¬7)، فَالأَنْفُسُ لَا يَجُوْزُ حِفْظُهَا بِالشِّرْكِ، فَالسِّحْرُ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِالشِّرْكِ، وَالَّذِيْ يَأْتِي السَّاحِرَ وَيَطْلُبُ مِنْهُ حَلَّ السِّحْرِ؛ هَذَا فِيْهِ الرِّضَى بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ! وَبِأَنْ يُشْرِكَ ذَاكَ بِاللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ مَنْفَعَتِهِ! وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. (¬8) وَفِي الحَدِيْثِ (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ). (¬9) ¬

_ (¬1) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (233/ 10): (قَوْلُهُ (النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ): إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِهَا، وَيَخْتَلِفُ الحُكْمُ بِالقَصْدِ؛ فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيْرًا كَانَ خَيْرًا، وَإِلَّا فَهُوَ شَرٌّ). وَهُوَ مَرْدُوْدٌ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ وَنَفَعَ بِعِلْمِهِ: (هَذَا وَلَا خِلَافَ عِنْدِي بَيْنَ الأَثَرَيْنِ، فَأَثَرُ الحَسَنِ يُحْمَلُ عَلَى الاسْتِعَانَةِ بِالجِنِّ وَالشَّيَاطِيْنِ وَالوَسَائِلِ المُرْضِيَةِ لَهُم كَالذَّبْحِ لَهُم وَنَحْوِهِ - وَهُوَ المُرَادُ بِالحَدِيْثِ -، وَأَثَرُ سَعِيْدٍ عَلَى الاسْتِعَانَةِ بِالرُّقَى وَالتَّعَاوِيْذِ المَشْرُوْعَةِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِلى هَذَا مَالَ البَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، وَهُوَ المُرَادُ بِمَا ذَكَرَهُ الحَافِظُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّن يُطْلِقَ السِّحْرَ عَنِ المَسْحُوْرِ؟ فَقَالَ: (لَا بَأْسَ بِهِ). وَأَمَّا قَوْلُ الحَافِظِ: (وَيَخْتَلِفُ الحُكْمُ بِالقَصْدِ؛ فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيْرًا كَانَ خَيْرًا؛ وَإلَّا فَهُوَ شَرٌّ). قُلْتُ: هَذَا لَا يَكْفِي فِي التَّفْرِيْقِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ قَصْدُ الخَيْرِ مَعَ كَوْنِ الوَسِيْلَةِ إِلَيْهِ شَرٌّ، كَمَا قِيْلَ فِي المَرْأَةِ الفَاجِرَةِ: (لَيْتَهَا لَمْ تَزْنِ وَلَمْ تَتَصَدَّق)). الصَّحِيْحَةُ (2760). (¬2) مُسْلِمٌ (537). (¬3) حَسَنٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (254/ 24) عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ مَرْفُوْعًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ أَيْضًا (345/ 9) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَوْقُوْفًا عَلِيْهِ بِلَفْظِ (إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيْمَا حَرَّم عَلَيْكُم)، وَعَلَّقَهُ البُخَارِيُّ (110/ 7) مَجْزُوْمًا بِهِ وَصَحَّحَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَتْحِ. مُخْتَصَرًا مِنَ الصَّحِيْحَةِ (1633). (¬4) صَحِيْحٌ. البزَّارُ (52/ 9) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2195). (¬5) ذَكَرَهَا الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المُوَافَقَاتُ) (20/ 2)، وَتَرْتِيْبُهَا هُوَ مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَدْنَى. (¬6) هَذَا وَإِنْ كَانَ التَّدَاوِي عُمُوْمًا مَحْمُوْلٌ عَلَى الظَّنِّ الغَالِبِ وَلَيْسَ عَلَى اليَقِيْنِ؛ وَلَكِنَّ التَّدَاوِي بِالسِّحْرِ الظَّنُّ الغَالِبُ الرَّاجِحُ فِيْهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ، بَلْ كَمَا مَرَّ سَابِقًا فِي الآيَاتِ الكَرِيْمَاتِ، وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (18781) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ مَرْفُوْعًا. وَتَأَمَّلْ كَوْنَ عُمَرَ سَمَّى الجِبْتَ سِحْرًا، كَمَا سبقَ؛ فَهُوَ لَا خيرَ فِيْهِ مُطْلَقًا. (¬7) هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ المَسْحُوْرَ شَارَفَ عَلَى المَوْتِ، وَإِلَّا فَالسِّحْرُ غَالِبُهُ يَجْرِي مَجْرَى المَرَضِ الَّذِيْ يَعْتَري الإِنْسَانَ عَادَةً. (¬8) قَالَهُ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص331)؛ بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. قُلْتُ: وَلَا يَرِدُ عَلَينَا فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ الأَخِيْرَةِ الاسْتِدْلَالُ بِحَدِيْثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي إِكْرَاهِهِ عَلَى الكُفْرِ - وَهُوَ صَحِيْحٌ. رَوَاهُ الحَاكِمُ (3362)؛ وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَذَلِكَ لِأَنَّه يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حَديْثُ عَمَّارٍ فِيْهِ الكُفْرُ ظَاهِرًا فَقَطْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَيْفَ تَجِدُ قَلبَكَ؟ فَقَالَ عَمَّاُر: مُطْمَئِنًّا بِالإِيْمَانِ)، أَمَّا هُنَا فَفِيْهِ كُفْرٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، عَدَا عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَرَعَ لَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬9) حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (18) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (14).

باب ما جاء في التطير

بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّطَيُّرِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {أَلَا إِنَّمَا طَائُرُهْم عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ} (الأَعْرَاف:131). وَقَوْلُهُ {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُوْنَ} (يَس:19). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ). أَخْرَجَاهُ. (¬1) زَادَ مُسْلِمٌ: (وَلَا نَوْءَ وَلَا غُوْلَ). وَلَهُمَا عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ). قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ? قَالَ: (الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ). (¬2) وَلِأَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: (ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَحْسَنُهَا الفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ). (¬3) وَلَهُ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ - ثَلَاثًا - وَمَا مِنَّا إِلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (¬4)، وَجُعِلَ آخِرُهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ. (¬5) وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَمْرِوٍ (مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ). قَالُوا: فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ? قَالَ: (أَنْ يَقُوْلَ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ). (¬6) وَلَهُ مِنْ حَدِيْثِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ (إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ). (¬7) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: التَّنْبِيْهُ عَلَى قَوْلِهِ {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} مَعَ قَوْلِهِ {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}. الثَّانِيَةُ: نَفْيُ العَدْوَى. الثَّالِثَةُ: نَفْيُ الطِّيَرَةِ. الرَّابِعَةُ: نَفْيُ الهَامَةِ. الخَامِسَةُ: نَفْيُ الصَّفَرِ. السَّادِسَةُ: أَنَّ الفَأْلَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ. السَّابِعَةُ: تَفْسِيْرُ الفَأْلِ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ الوَاقِعَ فِي القُلُوْبِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ كَرَاهَتِهِ؛ لَا يَضُرُّ بَلْ يُذْهِبُهُ اللهُ بِالتَّوَكُّلِ. التَّاسِعَةُ: ذِكْرُ مَا يَقُوْلُ مَنْ وَجَدَهُ. العَاشِرَةُ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّ الطِّيَرَةَ شِرْكٌ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: تَفْسِيْرُ الطِّيَرَةِ المَذْمُوْمَةِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (5757)، ومُسْلِمٌ (2220). (¬2) البُخَارِيُّ (5776)، ومُسْلِمٌ (2224). (¬3) ضَعِيْفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3919). الضَّعِيْفَةُ (1619). وَالحَدِيْثُ هُوَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ وَلَيْسَ عَنْ عُقْبَةَ كَمَا تَجِدُهُ فِي مَصْدَرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (رِيَاضُ الصَّالِحِيْنَ) (ص593): (حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ)! فَلَيْسَ بِصَحِيْحٍ. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (ضَعِيْفُ الإِسْنَادِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيْقِ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيْبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ؛ قَالَ: ذُكْرَتْ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ (255/ 1) مِنْ طَرِيْقِ الأَعْمَشِ عَنْ حَبِيْبٍ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: (عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيَّ) بَدَلَ (عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ)، وَأَظنُّهُ تَصْحِيْفًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيْفٌ - وَإِنْ كَانَ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ - فَإِنَّ حَبِيْبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ كَثِيْرُ التَّدْلِيْسِ؛ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّحَدِيْثِ، وَعُرْوَةَ بْنَ عَامِرٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِيْنَ، فَالحَدِيْثُ مُرْسَلٌ، وَقِيْلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَقَالَ الحَافِظُ فِي (التَّهْذِيْبِ): (أَثْبَتَ غَيْرُ وَاحِدٍ لَهُ صُحْبَةً، وَشَكَّ فِيْهِ بَعْضُهُم، وَرِوَايَتُهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَكُوْنَ صَحَابيًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ حَبِيْبٍ عَنْهُ مُنْقَطِعَةٌ). وَقَالَ فِي (الإِصَابَةِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ الحَدِيْثَ مِنْ طَرِيْقِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: (رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّ حَبِيْبَ كَثِيْرُ الإِرْسَالِ)). الضَّعِيْفَةُ (1619). (¬4) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3910)، وَالتِّرْمِذِيُّ (1514). الصَّحِيْحَةُ (429). (¬5) قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (213/ 3): (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ (البُخَارِيَّ) يَقُوْلُ: كَانَ سُلَيْمَانُ (بْنُ حَرْبٍ) يَقُوْلُ فِي هَذَا الحَدِيْثِ (وَمَا مِنَّا إلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ): هَذَا عِنْدِي قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ الشَّارِحُ المُنَاوِيُّ: (لَكِنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ القَطَّانِ بِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ مَسُوْقٍ فِي سِيَاقٍ؛ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى دَرْجِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ). قُلْتُ: ولَا حَجَّةَ هُنَا فِي الإِدْرَاجِ، فَالحَدِيْثُ صَحِيْحٌ بِكَامِلِهِ)). الصَّحِيْحَةُ (429). (¬6) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (7045). صَحِيْحُ الجَامِعِ (6264). (¬7) ضَعِيْفٌ. أَحْمَدُ (1824). (وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ مَسْلَمَةَ الجُهَنِيِّ - رَاوِيْهِ - وَبَيْنَ الفَضْلِ). كَمَا فِي فَتْحِ المَجِيْدِ (ص315). وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَبَرِحَ ظَبْيٌ فَمَالَ فِي شِقِّهِ فَاحْتَضَنْتُهُ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ تَطَيَّرْتَ؟ قَالَ: (إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ)). وضَعَّفَهُ الشَّيْخُ شُعَيْبٌ الأَرْنَؤُوْطُ فِي تَحْقِيْقِهِ لِلمُسْنَدِ.

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الأَبْوَابِ المُتَعَلِّقَةِ بِالسِّحْرِ هُوَ أَنَّ التَّطَيُّرَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِنَصِّ الحَدِيْثِ. (¬1) - وَحَقِيْقَتُهُ: التَّشَاؤُمُ أَوِ التَّفَاؤُلُ بِحَرَكَةِ الطَّيْرِ مِنَ السَّوَانِحِ وَالبَوَارِحِ أَوِ النَّطِيْحِ أَوِ القَعِيْدِ، أَوْ بِغَيْرِ الطَّيْرِ مِنَ الحَوَادِثِ. (¬2) - التَّطَيُّرُ يُنَافِي كَمَالَ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ؛ لِأَنَّه شِرْكٌ أَصْغَرٌ. وَسَبَبُ كَوْنِهِ شِرْكًا هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) مُنَافَاتُهُ لِلتَّوَكُّلِ؛ لِتَعَلُّقِ القَلْبِ بِهِ دُوْنَ اللهِ تَعَالَى، وَسَبَقَ الكَلَامُ فِي بَابِ (مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيْدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حَسَابٍ) عَنْ عَلَاقَةِ التَّوَكُّلِ بِتَرْكِ الطِّيَرَةِ. (¬3) 2) اعْتِقَادُ سَبَبِ النَّفْعِ أَوِ الضُّرِ فِي الطَّائِرِ وَنَحْوِهِ؛ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّرْعُ سَبَبًا. (¬4) 3) رَجْمٌ بِالغَيْبِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65). - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوْسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ} (الأَعْرَاف:131) (¬5)، قَالَ ابْنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ({أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} يَقُوْلُ: مَصَائِبُهُم عِنْدَ اللهِ وَمِنْ قِبَلِه). (¬6) - قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيْمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُوْنَ} (يَس:19)، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أَيْ: مَرْدُوْدٌ عَلَيْكُم، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: أَعْمَالُكُم مَعَكُم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُوْنَ} (¬7) أَيْ: مِنْ أَجْلِ أنَّا ذَكَّرْنَاكُم وَأَمَرْنَاكُم بِتَوْحِيْدِ اللهِ وَإِخْلَاصِ العِبَادَةِ لَهُ؛ قَابَلْتُمُونَا بِهَذَا الكَلَامِ وَتَوَعَدْتُمُوْنَا وتَهَدَّدْتُمُوْنَا! بَلْ أَنْتُم قَوْمٌ مُسْرِفُوْنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: إِنْ ذَكَّرْنَاكُم بِاللهِ تَطَيَّرْتُم بِنَا؛ بَلْ أَنْتُم قَوْمٌ مُسْرِفُوْنَ. (¬8) ¬

_ (¬1) أَيْ: حَدِيْثِ قَبِيْصَةَ مَرْفُوْعًا (إِنَّ العِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الجِبْتِ). ضَعِيْفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3907). وَقَدْ سَبَقَ الكَلَامُ عَلَيْهِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (213/ 10): (وَكَانُوا يَتَيَمَّنُوْنَ بِالسَّانِحِ وَيَتَشَاءَمُوْنَ بِالبَارِحِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن رَمْيُهُ إِلَّا بِأَنْ يَنْحَرِف إِلَيْهِ، ... ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ عُقَلَاء الجَاهِلِيَّة يُنْكِر التَّطَيُّر وَيَتَمَدَّح بِتَرْكِهِ. قَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ: (لَعُمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالحَصَى ... وَلَا زَاجَرَتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانِعُ)). (¬3) لَكِنْ لَوْ اعْتَقَدَ هَذَا المُتَشَائِمُ المُتَطَيِّرُ أَنَّ هَذَا فَاعِلٌ بِنَفْسِهِ دُوْنَ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَعَ اللهِ شَرِيْكًا فِي الخَلْقِ وَالإِيْجَادِ. (¬4) وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى هَذِهِ القَاعِدَةِ فِي بَابِ الاسْتِسْقاءِ بِالأَنْوَاءِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬5) المُرَادُ بِالحَسَنَةِ هُنَا: الخَصْبُ وَالأَرْزَاقُ وَنُزُوْلُ الأَمَطْارِ. (¬6) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (461/ 3) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬7) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (562/ 1): (وَقَوْلُهُ {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُوْنَ} يَنْبَغِي أَنْ تَقِفَ عَلَى قَوْلِهِ {ذُكِّرْتُمْ} لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوْفٌ تَقْدِيْرُهُ: أَئِنْ ذُكِّرْتُم تَطَيَّرْتُم! وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصِلْهَا بِمَا بَعْدَهَا. (¬8) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (570/ 6).

- وَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أَنَّ التَّطَيُّرَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ المُشْرِكِيْنَ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ. (¬1) - قَوْلُهُ (لَا عَدْوَى): أَيْ: لَا عَدْوَى مُؤَثِّرَةٌ بِطَبْعِهَا وَنَفْسِهَا، وَإنَّمَا تَنتَقِلُ العَدْوَى بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَهْلُ الجَاهِليَّةِ يَعْتَقِدُوْنَ أَنَّ العَدْوَى تَنْتَقِلُ بِنَفْسِهَا، فَأَبْطَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ الاعْتِقَادَ. (¬2) (¬3) - قَوْلُهُ (وَلَا طِيَرَةَ): المَنْفِيُّ هُنَا لَيْسَ هُوَ وُجُوْدُ الطِّيَرَةِ؛ لِأَنَّ الطِّيَرَةَ مَوْجُوْدَةٌ مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ النَّاسِ (¬4) وَمِنْ جِهَةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَلَكِنَّهَا بَاطِلَةٌ، كَذَلِكَ العَدْوَى مَوْجُوْدَةٌ مِنْ جِهَةِ الوُقوعِ، فَالنَّفيُ إِذًا يَعُوْدُ عَلَى صِحَّةِ الاعْتِقَادِ بِهَا. - الهَامَةُ: بِالفَتْحِ؛ فِيْهَا قَوْلَانِ: 1) هِيَ طَائِرُ اللَّيْلِ المَعْرُوْفُ (¬5)، وَقِيْلَ: هِيَ البُوْمَةُ، قَالُوا: كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى دَارِ أَحَدِهِم رَآهَا نَاعِيَةً لَهُ نَفْسَهُ أَوْ بَعْضَ أَهْلِهِ. 2) أَنَّ العَرَبَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ عِظَامَ المَيِّتِ - وَقِيْلَ رُوْحَهُ - تَنْقَلِبُ هَامَةً تَطِيْرُ. (¬6) وَيَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ المُرَادُ النَّوْعِيْن؛ فَإِنَّهُمَا جَمِيْعًا بَاطِلَانِ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. (¬7) ¬

_ (¬1) كَمَا قَالَ قَوْمُ صَالِحٍ لَهُ {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ} (النَّمْل:47) فَيُسْتَفَادُ مِنَ الآيَتَيْنِ المَذْكُوْرَتَيْنِ فِي البَابِ: أَنَّ التَّطَيُّرَ كَانَ مَعْرُوْفًا مِنْ قِبَلِ العَرَبِ وَمِنْ غَيْرِ العَرَبَ، لِأَنَّ الأُوْلَى فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَصْحَابِ القَرْيَةِ. (¬2) قَالَ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (351/ 7): (بَابُ لَا عَدْوَى عَلَى الوَجْهِ الَّذِيْ كَانوا فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ إِضَافَةِ الفِعْلِ إِلَى غَيْرِ اللهِ). (¬3) وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ فَتْحِ المَجِيْدِ رَحِمَهُ اللهُ (ص307): (وَالمَنْفِيُّ: نَفْسُ سِرَايَةِ العِلَّةِ أَوْ إِضَافَتُهَا إِلَى العِلَّةِ. وَالأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ). قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي؛ مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (79)، شَرْحُ البَابِ. وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي المَسَائِلِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬4) وَفِي حَدِيْثِ مُعَاوَيِةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ؛ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَنِ الطِّيَرَةِ، فَقَالَ لَهُ: (ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُم فِي صَدْرِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُم). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (537). فَأَخْبَرَ أَنَّ تَأثيرَهُ وَتَشَاؤمَهُ بِالطَّيْرِ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ وَعَقِيْدَتِهِ؛ لَا فِي المُتَطَيَّرِ بِهِ، فَوَهْمُهُ وَخَوْفُهُ وَإِشْرَاكُهُ هُوَ الَّذِيْ يُطَيِّرُهُ وَيَصُدُّهُ لِمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ. (¬5) يُدْعَى (الصَّدَى). (¬6) وَأَنَّهَا تَبْقَى تَصِيْحُ حَتَّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِ المَقْتُوْلِ، وَفِيْهَا يَقُوْلُ قَائِلُهُم: (يَا عَمْرُو إِلَّا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي ... أَضْرِبُكَ حَتَّى تَقُوْلَ الهَامَةُ اسْقُونِي). (¬7) شَرْحُ مُسْلِمٍ (215/ 14).

- قَوْلُهُ (وَلَا صَفَرَ): فِيْهِ ثَلَاثةُ أَقْوَالٍ: 1) أَنَّهُ شَهْرُ صَفَرٍ، حَيْثُ كَانَتِ العَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِهِ؛ فَيَتْرُكُوْنَ الأَسْفَارَ وَالأَعْمَالَ وَالنِّكَاحَ فِيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُوْنُ عَطْفُهُ عَلَى الطِّيَرَةِ هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ. 2) أَنَّهُ دَاءٌ فِي البَطْنِ يُصِيْبُ الإِبِلَ وَيَنْتَقِلُ مِنْ بَعِيْرٍ إِلَى آخَرَ، وَعَلَيْهِ يَكُوْنُ عَطْفُهُ عَلَى العَدْوَى هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ أَيْضًا. 3) أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ النَّسِيْئَةِ، فَكَانُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ يَنْسَئُوْنَ، فَإِذَا أَرَادُوا القِتَالَ فِي شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ اسْتَحَلُّوْهُ، وَأَخَّرُوا الحُرْمَةَ إِلَى شَهْرِ صَفَرَ، وَهَذِهِ النَّسِيْئَةُ هِيَ الَّتِيْ ذَكَرَهَا اللهُ بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا النَّسِيْءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِيْنَ كَفَرُوا يُحِلُّوْنَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُوْنَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ} (التَّوْبَة:37). - هَذَا النَّفيُ فِي هَذِهِ الأُمُوْرِ المَذْكُوْرَةِ فِي الحَدِيْثِ لَيْسَ نَفيًا لِلوُجُوْدِ - لِأَنَّهَا مَوْجُوْدَةٌ - وَلَكِنَّهُ نَفْيٌ: 1) لِلتَّأثِيْرِ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ سَبَبًا صَحِيْحًا؛ كَالعَدْوَى. 2) أَوْ نَفْيًا لِكَونِهِ سَبَبًا إِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ كَالطِّيَرَةٍ وَالهَامَةِ وَالنَّوْءِ، وَأَمَّا الغُوْلُ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِكِلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي. - قَوْلُهُ (وَلَا نَوْءَ): هُوَ وَاحِدُ الأَنْوَاءِ، وَالأَنْوَاءُ هِيَ: مَنَازِلُ القَمَرِ. (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي): (كَانُوا يَقُوْلُوْنَ (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) فَأَبْطَلَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؛ بِأَنَّ المَطَر إِنَّمَا يَقَعُ بِإِذْنِ اللهِ لَا بِفِعْلِ الكَوَاكِب - وَإِنْ كَانَتْ العَادَةُ جَرَتْ بِوُقُوْعِ المَطَرِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ - لَكِنْ بِإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيْرِهِ؛ لَا صُنْعَ لِلْكَوَاكِبِ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). (¬2) - قَوْلُهُ (وَلَا غُوْل): قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (¬3): (الغُوْلُ: أَحَدُ الغِيْلَانِ، وَهِيَ جِنْسٌ مِنَ الجِنِّ وَالشَّيَاطِيْنِ (¬4)، كَانَتِ العَرَبُ تَزْعُم أَنَّ الغُوْلَ فِي الفَلَاةِ تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فَتَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا: أَيْ: تَتَلَوَّنُ تلَوُّنًا فِي صُوَرٍ شَتَّى وَتَغُولُهُم أَيْ: تُضِلُّهُم عَنِ الطَّريْقِ وَتُهْلِكهُم؛ فَنَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ وَأَبْطَلَهُ). وَالحَاصِلُ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيْعُ أَنْ تَضِلَّ أَحَدًا مَعَ ذِكْرِ اللهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيْفًا} (النِّسَاء:76). فَالعَرَبُ كَانُوا إِذَا سَافَرُوا أَوْ ذَهَبُوا يَمِيْنًا أَوْ شِمَالًا تَلَوَّنَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِيْنُ بِأَلْوَانٍ مُفْزِعَةٍ مُخِيْفَةٍ؛ فَتُدْخِلُ فِي قُلُوْبِهِمُ الرُّعْبَ وَالخَوْفَ، فَتَجِدُهُم يَكْتَئِبُوْنَ وَيَمْتَنِعُوْنَ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى هَذَا الوَجْهِ الَّذِيْ أَرَادُوا. (¬5) ¬

_ (¬1) وَهِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُوْنَ مَنْزِلَةً، كُلُّ مَنْزِلَةٍ لَهَا نَجْمٌ؛ تَدُوْرُ بِمَدَارِ السَّنَةِ، وَهَذِهِ النُّجُوْمُ بَعْضُهَا يُسَمَّى النُّجُوْمَ الشَّمَالِيَّةَ - وَهِيَ لِأَيَّامِ الصَّيْفِ -، وَبَعْضُهَا يُسَمَّى النُّجُوْمَ الجَنوبِيَّةَ - وَهِيَ لِأَيَّامِ الشِّتَاءِ -، وَأَجْرَى اللهُ العَادَةَ أَنَّ المَطَرَ - مَثَلًا فِي وَسَطِ الجَزِيْرَةِ العَرَبيَّةِ - يَكُوْنُ أَيَّامَ الشِّتَاءِ، أَمَّا أَيَّامَ الصَّيْفِ فَلَا مَطَرَ. فَكَانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّ المَطَرَ يَكُوْنُ بِالأَنْوَاءِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا مَحْمُوْدٌ وَبَعْضَهَا مَنْحُوْسٌ لَا يَأْتِي فِيْهَا خَيْرٌ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّوْنَ بَعْضَهَا: سَعْدًا أَوْ سَعْدَ السُّعُوْدِ، وَبَعْضَهَا يَتَشَاءَمُوْنَ بِهَا أَشَدَّ التَّشَاؤُمِ كَسَعْدِ الذَّابِحِ، فَيَقُوْلُوْنَ: هَذَا نَوْءٌ غَيْرُ مَحْمُوْدٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِيْهِ المَطَرُ وَلَا يَحْصُلُ فِيْهِ الخَيْرُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (568/ 1). (¬2) (فَتْحُ البَارِي) (159/ 10). (¬3) (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (746/ 3). (¬4) هِيَ سَحَرَتُهُم، وَقَالَ بَعْضُهُم: السَّاحِرُ الذَّكَرُ هُوَ الغُوْلُ، وَالأُنْثَى هِيَ السِّعْلَاةُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (لِسَانُ العَرَبِ) (510/ 11). (¬5) وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يُضْعِفُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ، وَالشَّيْطَانُ حَرِيْصٌ عَلَى إِدْخَالِ القَلَقِ وَالحُزْنِ عَلَى الإِنْسَانِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيْعُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُوْنَ} (المُجَادِلَة:10).

- قَوْلُهُ (وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ) (¬1): الفَأْلُ هُنَا هُوَ الاسْتِبْشَارُ بِحُصُوْلِ الخَيْرِ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَسُرُّ، لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَمَّلُوا الخَيْرَ مِنَ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ سَبَبٍ فَهُم عَلَى خَيْرٍ، وَإِذَا قَطَعُوا آمَالَهُم وَرَجَاءَهُم مِنَ اللهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرِّ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ القُدُسِيِّ (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي). (¬2) وَمِنْ جُمْلَةِ الأَمْثِلَةِ فِي التَّفَاؤُلِ المَشْرُوْعِ هَذِهِ الأَحَادِيْثُ: 1) عَنْ بُرِيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا؛ سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا؛ فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ بِهَا وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ). (¬3) 2) عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي حَدِيْثِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ حِيْنَ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرو، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ). (¬4) 3) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ؛ يَا نَجِيْحُ). (¬5) ¬

_ (¬1) وَفِي رِوَايَةٍ (قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: (الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5754)، وَمُسْلِمٌ (2223) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) البُخَارِيُّ (7405) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3920). الصَّحِيْحَةُ (762). (¬4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2731). وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ (915) تَحْتَ بَابِ (التَّبَرُّكُ بِالاسْمِ الحَسَنِ). (¬5) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1616). صَحِيْحُ الجَامِعِ (4978).

- قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ): أَيْ: لَا يُقَدِّرُهَا وَلَا يُوجِدُهَا لِلعَبْدِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ تَكُوْنُ الحَسَنَاتُ بِأَسْبَابٍ، لِأَنَّ خَالِقَ هَذِهِ الأَسْبَابِ هُوَ اللهُ، فَإِذَا وجِدَتْ هَذِهِ الحَسَنَاتُ بِأَسْبَابٍ خَلَقَهَا اللهُ؛ صَارَ المُوجِدُ هُوَ اللهُ تَعَالَى. وَالمُرَادُ بِالحَسَنَاتِ: مَا يَسْتَحْسِنُ المَرْءُ وُقُوْعَهُ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الحَسَنَاتِ الشَّرْعِيَّةَ؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَيَشْمَلُ أَيْضًا الحَسَنَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ؛ كَالمَالِ وَالوَلَدِ وَنَحْوِهَا. - قَوْلُهُ (وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ): فِي مَعْنَاهَا وَجْهَانِ: 1) البَاءُ بمَعْنَى (فِي): وَالتَّقْدِيْرُ أَيْ: لَا حَوْلَ إِلَّا فِي اللهِ وَحْدَهُ، وَالمَنفيُّ عَنْ غَيْرِهِ هُوَ الحَوْلُ المُطْلَقُ، وَالحَوْلُ هُنَا نِسْبِيٌّ، فَالكَامِلُ هُوَ فِي اللهِ وَحْدَهُ. 2) البَاءُ لِلاسْتِعَانَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ: أَيْ: لَا تَحَوُّلَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ إِلَّا مُسْتَعِيْنِيْنَ بِاللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الوَجْهُ أَصَحُّ، فَالأَصْلُ فِي الكَلَامِ عَدَمُ التَّقْدِيْرِ. (¬1) - الفَأْلُ الحَسَنُ (¬2) يَخْتَلِفُ عَنِ الطِّيَرَةِ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) الفَأْلُ الحَسَنُ لَا يُقْصَدُ؛ بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ فَقَد تُقْصَدُ. كَمَا فِي الحَدِيْثِ (أَقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَّاتِهَا). (¬3) 2) الفَأْلُ الحَسَنُ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي العَمَلِ أَوِ المَنْعِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَهُوَ مُجَرَّدُ بُشْرَى، بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ فَهِي مُؤَثِّرَةٌ فِي عَمَلِ المَتَطَيِّرِ. 3) الفَأْلُ الحَسَنُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي القَلبِ، فَيَبْقَى القَلْبُ مُتَعَلِّقًا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ؛ فَإِنَّ المُتطيِّرَ يَعْتَمِدُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهَا. 4) الفَأْلُ الحَسَنُ نَاجِمٌ عَنْ نُطْقٍ وَبَيَانٍ يَدُلَّانِ عَلَى الاسْتِبْشَارِ؛ بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ فَلَيسَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيْحٌ مِنْ نُطْقٍ أَوْ بَيَانٍ. (¬4) ¬

_ (¬1) وَكَذَا القَوْلُ فِي (القُوَّةِ). (¬2) لَفْظُ (الفَأْلِ الحَسَنَ) هُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ (24982) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا، وَتَمَامُهُ (الطَّيرُ تَجْرِي بِقَدَرٍ، وكَانَ يُعْجِبُهُ الفَألُ الحَسَنُ). صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (860). وَعِنْدَ البُخَارِيِّ (5756) بِلَفْظِ (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ). (¬3) سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (2835) عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الكَعْبِيَّةِ مَرْفُوْعًا، وَقَدْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ تَصَحِيْحِهِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (5862). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (69/ 2): ((أَقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَّاتِهَا) بِفَتْحِ المِيْمِ وَكَسْرِ الكَافِ وَشَدِّ النُّوْنِ أَوْ تُخَفَّفُ جَمْعُ (مَكِنَّة): أَيْ: أَقِرُّوهَا فِي أَوْكَارِهَا فَلَا تُنَفِّرُوْهَا عَنْ بَيضِهَا وَلَا تُزْعِجُوْهَا عَنْهُ وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَالمُرَادُ: أَمَاكِنُهَا؛ مِنْ قَولِهِم (النَّاسُ عَلَى مَكَانَاتِهِم) أَيْ: مَنَازِلِهِم وَمَقَامَاتِهِم، أَوْ جَمْعُ (مُكُنَةٍ) بِضَمِّ المِيْمِ وَالكَافِ بِمَعْنَى التَّمَكُّنُ: أَيْ: أَقِرُّوْهَا عَلَى كُلِّ مُكُنةٍ تَرَوْنَهَا عَلَيْهَا، وَدَعُوا التَّطَيُّرَ بِهَا. كَانَ أَحَدُهُم إِذَا سَافَرَ نَفَّرَ طَيْرًا، فَإِنْ طَارَ يَمِيْنًا تَفَاءَلَ، وَإِنْ طَارَ شِمَالًا تَشَاءَمَ وَرَجَعَ). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (214/ 10): (قَالَ الخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَر الفَأْلِ عَنْ نُطْقٍ وَبَيَانٍ، فَكَأَنَّهُ خَبَرٌ جَاءَ عَنْ غَيْبٍ، بِخِلَافِ غَيْرهِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى حَرَكَةِ الطَّائِرِ أَوْ نُطْقِهِ وَلَيْسَ فِيْهِ بَيَانٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ مِمَّنْ يَتَعَاطَاهُ).

- عِلَاجُ الطِّيَرَةِ ثَلَاثَةُ أُمُوْرٍ (¬1): 1) التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاسْتِحْضَارُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالخَيْرِ وَلَا يَدْفَعُ الشَّرَّ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. 2) أَنْ يَمْضِيَ المَرْءُ فِي حَاجَتِهِ الَّتِيْ أَرَادَهَا، وَلَا يَرْجِعَ عَنْهَا بِسَبَبِ الطِّيَرَةِ. 3) الدُّعَاءُ، وَمِنْهُ (اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ). (¬2) - قَوْلُهُ (وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ): يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا - وَكُلُّهَا صَحِيْحَةٌ قَرِيْبَةٌ -: أ) أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ إِلَّا قَضَاؤُكَ الَّذِيْ قَضَيْتَهُ، فَعِلْمُ المُغَيَّبَاتِ إِنَّمَا هُوَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الدُّعَاءُ كَفَّارَةٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي الطِّيَرَةِ. ب) أَنَّ المُرَادَ بِالطَّيْرِ هُنَا مَا يَتَشَاءَمُ بِهِ الإِنْسَانُ، فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ لِلإِنْسانِ مِنَ التَّشَاؤمِ وَالحَوَادِثِ المَكْرُوْهَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ الخَيْرَ مِنْهُ أَيْضًا سُبْحَانَه، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّمَا طَائُرُهْم عِندَ اللهِ} (الأَعْرَاف:131). ج) أَنَّ الطُّيُوْرَ كُلُّهَا مِلْكُكَ، فَهِي لَا تَفْعَلُ شَيْئًا، وَإنَّمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ} (النَّحْل:79). فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ بِإِذْنِ اللهِ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ يُدَبِّرُهَا وَيُصَرِّفُهَا وَيُسَخِّرُهَا تَذْهَبُ يَمِيْنًا وَشِمَالًا، وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالحَوَادِثِ. (¬3) - قَوْلُهُ (إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ): فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ المَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا أثَّرَ فِي إِتْمَامِ أَمْرِكَ أَوِ الانْصِرَافِ عَنْهُ، وَفِي الحَدِيْثِ (لَنْ يَلِجَ الدَّرَجَاتِ العُلَى مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ تَطَيُّرًا). (¬4) ¬

_ (¬1) (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (17/ 2) لِلشَّيْخِ الفَوْزَانِ حَفِظَهُ اللهُ مُخْتَصَرًا. (¬2) قُلْتُ: هَذَا - وَإِنْ كَانَ الحَدِيْثُ ضَعِيْفًا - فَلَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ بِهِ مِنْ بَابِ عُمُوْمِ الدُّعَاءِ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ، لَا مِنْ بَابِ كَوْنِهِ سُنَّةً نَبَوِيَّةً. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬3) وَكَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ لَفْظُ (الطَّيْرُ تَجْرِي بِقَدَرٍ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (24982) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (860). (¬4) صَحِيْحٌ. مُسْنَدُ الشَّامِيِّيْنَ لِلطَّبَرَانِيِّ (2104) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2161).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُهُ (وَمَا مِنَّا إِلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتّوَكُّلِ) كَيْفَ تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَرِيْحٌ فِي الوُقُوْعِ فِي الشِّرْكِ؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ الشِّرْكَ وَالإِثْمَ فِي الطِّيَرَةِ حَاصِلٌ بِالتَّأَثُّرِ بِهَا فِي الإِقْدَامِ أَوِ الإِعْرَاضِ، أَمَّا مَا يَقَعُ فِي القَلْبِ مِنْ مُجَرَّدِ رُؤيَتِهَا أَوْ سَمَاعِهَا فَلَيسَ فِيْهِ إِثْمٌ، لِذَلِكَ فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَمْرو المَرْفُوْعِ (مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ). (¬1) 2) أَنَّ زِيَادَةَ (وَمَا مِنَّا إِلَاّ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ) رَجَّحَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ كَوْنَهَا مُدْرَجَةً مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (¬2) ¬

_ (¬1) وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ عِنْدَمَا سَأَلَهُ عَنِ الطِّيَرَةِ (ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُوْنَهُ فِي صُدُوْرِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ) صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (537). (¬2) قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (213/ 3): (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ (البُخَارِيَّ) يَقُوْلُ: كَانَ سُلَيْمَانُ (بْنُ حَرْبٍ) يَقُوْلُ فِي هَذَا الحَدِيْثِ (وَمَا مِنَّا إلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ): هَذَا عِنْدِي قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ الشَّارِحُ المُنَاوِيُّ: (لَكِنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ القَطَّانِ بِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ مَسُوْقٍ فِي سِيَاقٍ؛ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى دَرْجِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ). قُلْتُ: ولَا حَجَّةَ هُنَا فِي الإِدْرَاجِ، فَالحَدِيْثُ صَحِيْحٌ بِكَامِلِهِ)). الصَّحِيْحَةُ (429).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا الجَمْعُ بَيْنَ الآيَتِيْنِ فِي البَابِ مِنْ حَيْثُ جِهَةِ تَعَلُّقِ الطِّيَرَةِ، حَيْثُ كَانَتْ فِي الآيَةِ الأُوْلَى {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ}، وَفِي الثَّانِيَةِ {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}؟ الجَوَابُ: لَا مُنَافَاةَ بَينَهُمَا، لِأَنَّ الأُوْلَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُقَدِّرَ لِهَذِهِ المَصَائِبِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَالثَّانِيَةَ تُبَيِّنُ سَبَبَهَا، وَهُوَ أَنَّهَا بِسَبَبِهِم، فَطَائِرُهُم مَعَهُم أَيْ: الشُّؤْمُ الحَاصِلُ عَلَيْهِم مَعَهُم مُلَازِمٌ لَهُم؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُم تَسْتَلْزِمُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِيْ عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ} (الرُّوْم:41). (¬1) ¬

_ (¬1) وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُوْنُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُوْلُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُوْلُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُوْنَ يَفْقَهُوْنَ حَدِيثًا، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُوْلًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيْدًا} (النِّسَاء:79).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) ألَا يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ نَفيَ العَدْوَى هُوَ نَفْيٌ لِوُجُوْدِهَا مُطْلَقًا، وَلَيْسَ لِكَوْنِهَا هِيَ الفَاعِلَةَ نَفْسَهَا؟ الجَوَابُ: قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ، وَلَكِنَّ الأَرْجَحَ هُوَ مَا أَثْبَتْنَاهُ سَابِقًا مِنْ أَنَّ النَّفيَ هُوَ لِاعْتِقَادِهِم سَرَيَانَ العَدْوَى بِطَبْعِهَا دُوْنَ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا يُرَجِّحُ هَذَا الوَجْهَ وُجُوْدُ العَدْوَى أَصْلًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْن: 1) أَنَّ الوَاقِعَ يَشْهَدُ لِذَلِكَ، فمُخَالَطَةُ السَّلِيْمِ لِلمَرِيْضِ هُوَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي حُصُوْلِ مَرَضِ السَّلِيْمِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُرَدَّ. 2) الأَحَادِيْثُ الكَثِيْرَةُ الَّتِيْ فِيْهَا الأَمْرُ بِاجْتِنَابِ مُخَالَطَةِ المَجْذُوْمِ (¬1) وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الأَمْرَاضِ المُعْدِيَةِ، وَهَذَا فِيْهِ إثْبَاتُ العَدْوَى، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ) (¬2)، وكَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُوْمِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) (¬3) (¬4)، وَكَالأَمْرِ بِعَدَمِ الدُّخُوْلِ أَوِ الخُرُوْجِ مِنْ أَرْضِ الطَّاعُونِ. (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) الجُذَامُ: مَرَضٌ خَبِيْثٌ مُعْدٍ بِسُرْعَةٍ، ويُسَمَّى أَيْضًا مَرَضُ - هَانْسِن - وَهُوَ مَرَضٌ يُؤَثِّرُ أَسَاسًا عَلَى الجِلْدِ وَالأَغْشِيَةِ المُخَاطِيَّةِ. وَالجَذْمُ: القَطْعُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَجَذُّمِ الأَصَابِعِ وَتَقَطُّعِهَا. (¬2) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2221)، وَالمَعْنَى: لَا يُوْرِدُ صَاحِبُ الإِبِلِ المَرِيْضَةِ عَلَى صَاحِبِ الإِبِلِ الصَّحِيْحَةِ؛ لِئَلَّا تَنْتَقِلَ العَدْوَى. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (352/ 7): (بَابُ لَا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ؛ فَقَدْ يَجْعَلُ اللهُ تَعَالَى - بِمَشِيئَتِهِ - مُخَالَطَتَهُ إِيَّاهُ سَبَبًا لِمَرَضِهِ). (¬3) صَحِيْحٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ تَعْلِيْقًا (5707) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الصَّحِيْحَةُ (783). وتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بينَ النَّفْي وَالإِثْبَاتِ فِي حَدِيْثٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ (لَا عَدْوَى، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُوْمِ). (¬4) وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُ القَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّ الأَمْرَ بِاجْتِنَابِ المَجْذُوْمِ هُوَ لِدَفْعِ وَهْمِ وُجُوْدِ العَدْوَى أَصْلًا. قُلْتُ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ جَوَابِهِم أُمُوْرٌ: أ) هَذَا التَّعْلِيْلُ لَا دَلِيْلَ صَرِيْحَ عَلَيْهِ؛ وَإنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ وَجْهٍ لِلتَّوْفِيْقِ فَقَط، وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ (لَا عَدْوَى) لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: فَالأَوَّلُ نَفْيٌ لِلْوُجُوْدِ، وَالثَّانِي نَفيٌ لِلصِّحَّةِ، وَالثَّالِثُ نَفيٌ لِلكَمَالِ. وَهُنَا يُمْكِنُ الجَمْعُ بِالحَمْلِ عَلَى نَفي صِحَّةِ الاعْتِقَادِ الشَّائِعِ عِنْدَهُم، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِ حَدِيْثٍ وَتَعْطِيْلِ مَعْنَى حَدِيْثٍ. ب) فِي حَدِيْثِ عَمْرو بْنِ الشَّرِيْدِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: (كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيْفٍ رَجُلٌ مَجْذُوْمٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُوْل اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاك؛ فَارْجِعْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2231)، فَلَمْ يُصَافِحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْعَتِهِ؛ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ سَيِّدُ المُتَوَكِّلِيْنَ وَهُوَ بَعِيْدٌ عَنْ هَذَا الوَهْمِ لَا رَيْبَ؛ وَمَعْ ذَلِكَ فَلَمْ يُصَافِحْهُ! جـ) هَذَا الوَهْمُ الَّذِيْ جُعِلَ سَبَبَ الفِرَارِ مِنَ المَجْذُوْمِ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالبَيَانِ، وَالبَيَانُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ أَوْضَحُ مِنَ الإِشَارَةِ وَالإِيمَاءِ بِالأَوْجُهِ البَعِيْدَةِ - لَوْ كَانَ هُوَ سَبَبُ نَفي العَدْوَى فِي الحَدِيْثِ -. (¬5) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5729) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوْعًا. (¬6) وَفِي المَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى كَثِيْرْةٌ مَرْجُوحَةٌ مِنْهَا: دَعْوَى النَّسْخِ بِأَنَّ أَحَادِيْثَ نَفْي العَدْوَى نَاسِخَةٌ لِأَحَادِيْثِ الاجْتِنَابِ (المُثْبِتَةِ للعَدْوَى). وَبِالعَكْسِ أَيْضًا: أَنَّ أَحَادِيْثَ إِثْبَاتِ العَدْوَى ثَابِتَةٌ؛ وَغَيرُهَا مُتَكَلَّمٌ فِيْهَا. وَكِلَاهُمَا مَرْدُوْدٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الجَمْعِ. وَأَيْضًا دَعْوَى التَّخْصِيْصِ؛ بِأَنَّ أَحَادِيْثَ (لَا عَدْوَى) وَأَحَادِيْثَ مُخَالَطَةِ المَجْذُوْمِ خَاصَّةٌ بِقَوِيِّ الإِيْمَانِ؛ وَأَمَّا أَحَادِيْثَ الاجْتِنَابِ فَهيَ لِضَعِيْفِهِ. أَوْ أَنَّ الأَمْرَ بِالاجْتِنَابِ لَيْسَ لِمَسْأَلةِ العَدْوَى؛ وَإِنَّمَا رِعَايَةً لِحَالِ المَرِيضِ وَمَنْعًا لِأَذِيَّتِهِ بِإِدَامَةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. أَوْ دَعْوَى التَّخْصِيْصِ بِالاجْتِنَابِ لِمَرِيْضِ الجُذَامِ فَقَط. قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ: (وَالصَّحِيْحُ الَّذِيْ عَلَيْهِ الأَكْثَرُ - وَيَتَعَيَّنُ المَصِيْرُ إِلَيْهِ - أَنْ لَا نَسْخَ، بَلْ يَجِبُ الجَمْعُ بَيْنَ الحَدِيْثَيْنِ؛ وَحَمْلُ الأَمْرِ بِاجْتِنَابِهِ وَالفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَالأَكْلُ مَعَهُ عَلَى بَيَانِ الجَوَازِ) أ. هـ مُخْتَصَرًا مِنَ الفَتْحِ (159/ 10) لِابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. قُلْتُ: حَدِيْثُ أَكْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ مَعَ المَجْذُوْمِ ضَعِيْفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3925) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. الضَّعِيْفَةُ (1144).

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) إِذَا كَانَتِ الطِّيَرَةُ مَنْفِيَّةً، فَمَا الجَوَابُ عَنْ حَدِيْثِ (الشُّؤْمُ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالفَرَسِ)؟ (¬1) الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ الحَدِيْثِ: فَالصَّوَابُ هُوَ (إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ)، وَأَمَّا الحَدِيْثُ مَوْضُوْعُ السُّؤَالِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِمَا يَلِي: أ) مُخَالَفَتُهُ لِأَحَادِيْثِ البَابِ الصَّرِيْحَةِ بِكَوْنِ الطِّيَرَةِ شِرْكٌ. ب) أَنَّ الحَدِيْثَ التَّالِي لَهُ فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ هُوَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَر وَلَكِنَّهُ بِلَفْظِ (إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ؛ فَفِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ). (¬2) ج) دَعْوَى أَنَّ الشُّؤمَ هُوَ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالمَسْكَنِ هُوَ عَقِيْدَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (دَخَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ عَلَى عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَاهَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (الطِّيَرَةُ فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ). فَغَضِبَتْ، وَطَارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ، وَشِقَّةٌ فِي الأَرْضِ (¬3)، وَقَالَتْ: وَالَّذِيْ أَنْزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى مُحَمَّدٍ؛ مَا قَالَهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ، إِنَّمَا قَالَ: (كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَتَطَيَّرُوْنَ مِنْ ذَلِكَ)). (¬4) د) أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُعَارِضُهُ وَهُوَ (لَا شُؤْمَ، وَقَدْ يَكُوْنُ اليُمْنُ فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ). (¬5) 2) مِنْ جِهَةِ فِقْهِ الحَدِيْثِ - عَلَى فَرْضِ ثُبُوْتِهِ -: أَنَّ الشَّؤْمَ هُنَا لَيْسَ بمَعْنَى الطِّيَرَةِ الشِّركيَّةِ، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى السَّبَبِ القَدَريِّ فِي حُصُوْلِ الخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَهَذَا صَحِيْحٌ لَا رَيْبَ فِيْهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَةِ المَرْءِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَسْعَدُ وَقَدْ يَسُوْءُ. (¬6) وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِالحَدِيْثِ الآتِي: (ثَلَاثَةٌ مِنَ السَّعَادَةِ؛ وَثَلَاثَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ. فَمِنَ السَّعَادَةِ المَرْأةُ الصَّالِحَةُ تَرَاهَا فَتُعْجِبُكَ، وَتَغِيْبُ عَنْهَا فَتَأْمَنُها عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ، وَالدَّابَّةُ تَكُوْنُ وَطِيْئَةً؛ فَتُلْحِقُكَ بِأَصْحَابِكَ، وَالدَّارُ تَكُوْنُ وَاسِعَةً كَثِيْرْةَ المَرَافِقِ، وَمِنَ الشَّقَاءِ المَرْأَةُ تَرَاهَا فَتَسُوْءُكَ وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْكَ، وَإِنْ غِبْتَ عَنْهَا لَمْ تَأْمَنْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ، وَالدَّابَّةُ تَكُوْنُ قَطُوْفًا (¬7)؛ فَإِنْ ضَرَبْتَها أَتْعَبَتْكَ وَإِنْ تَرَكْتَهَا لَمْ تُلْحِقْكَ بِأَصْحَابِكَ، وَالدَّارُ تَكُوْنُ ضَيِّقَةً قَلِيْلَةَ المَرَافِقِ) (¬8). فَدَلَّ الحَدِيْثُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ؛ مِنْهَا مَا يُسْعِدُ وَمِنْهَا مَا يُشْقِي، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ القَدَرِيَّةِ. (¬9) (¬10) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5093) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. (¬2) البُخَارِيُّ (5094). (¬3) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (510/ 4): (أَيْ: كَأَنَّهَا تفَرَّقَتْ وَتقَطَّعَتْ قِطَعًا مِنْ شِدَّةِ الغَضَبِ). وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (182/ 10): (فَطَارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ وَشِقَّةٌ فِي الأًرْضِ: هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الغَضَبِ وَالغَيْظِ. يُقَالُ: قَدْ انْشَقَّ فُلَانٌ مِنَ الغَضَبِ، كَأَنَّهُ امْتَلَأَ بَاطِنُهُ بِهِ حَتَّى انْشَقَّ). (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (26034). الصَّحِيْحَةُ (993). وَفِي لَفْظٍ فِي مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ (1641) عَنْ مَكْحُوْلٍ؛ قِيْلَ لِعَائِشَة: (إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ؛ يَقُوْلُ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ). فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَمْ يَحْفَظْ أَبُو هُرَيْرَةَ، لِأَنَّهُ دَخَلَ وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (قَاتَلَ اللهُ اليَهُوْدَ، يَقُوْلُوْنَ: الشَّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: الدَّارُ وَالمَرْأَةُ وَالفَرَسُ) فَسَمِعَ آخِرَ الحَدِيْثِ وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ). قَالَ الزَّركَشِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الإِجَابَةُ لِإِيرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ) (ص115): (قَالَ بَعْضُ الأَئِمَّة: وَرِوَايَة عَائِشَةَ فِي هَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ - إِنْ شَاءَ اللهُ - لِمُوَافِقَتِهِ نَهْيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الطِّيَرَةِ نَهْيًا عَامًّا، وَكَرَاهَتِهِ لَهَا وَتَرْغِيْبِهِ فِي تَرْكِهَا بِقَوْلِه (يَدْخُلُ الجَنَّةَ سَبْعُوْنَ ألَفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُمُ الَّذِيْنَ لَا يَكْتَوُوْنَ وَلَا يَسْتَرْقُوْنَ وَلَا يَتَطَيَّرُوْنَ وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُوْنَ)). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (993): (وَجُمْلَةُ القَوْلِ أَنَّ الحَدِيْثَ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ، فَمِنْهُم مَنْ رَوَاهُ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَمِنْهُم مَنْ زَادَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِهِ؛ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طِيَرَةَ أَوْ شُؤْمَ وَهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ - كَمَا قَالَ العُلَمَاءُ - وعَلَيْهِ الأَكْثَرُوْنَ، فَرِوَايَتُهُم هِيَ الرَّاجِحَةُ؛ لِأَنَّ مَعَهُم زِيَادَةُ عِلْمٍ، فَيَجِبُ قَبُوْلُهَا). (¬5) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (424/ 4) عَنْ حَكِيْمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1930). (¬6) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ) (257/ 2): (وَبِالجُمْلَةِ فَإِخْبِارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّؤْمِ أَنَّهُ يَكُوْنُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ فِيْهِ إِثْبَاتُ الطِّيَرَةِ الَّتِيْ نَفَاهَا، وَإنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَه قَدْ يَخْلِقُ مِنْهَا أَعْيَانًا مَشْؤُمَةً عَلَى مَنْ قَارَبَهَا وَسَاكَنَهَا، وَأَعْيَانًا مُبَارَكَةً لَا يَلْحَقُ مَنْ قَارَبَهَا مِنْهَا شُؤْمٌ وَلَا شَرٌ. وَهَذَا كَمَا يُعْطِي سُبْحَانَهُ الوَالِدَيْنِ وَلَدًا مُبَارَكًا يَرَيَانِ الخَيْرَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيُعْطِي غَيْرَهُمَا وَلَدًا مَشْؤُمًا نَذْلًا يَرَيَانِ الشَّرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُعْطَاهُ العَبْدُ مِنْ وِلايَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ الدَّارُ وَالمَرْأَةُ وَالفَرَسُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسُّعُوْدِ وَالنُّحُوْسِ؛ فَيَخْلِقُ بَعْضَ هَذِهِ الأَعْيَانِ سُعُوْدًا مُبَارَكَةً - وَيَقْضِي بِسَعَادَةِ مَنْ قَارَنَهَا - وَحُصُوْلِ اليُمْنِ لَهُ وَالبَرَكَةِ، وَيَخْلُقُ بَعْضَ ذَلِكَ نُحُوسًا يَتَنَحَّسُ بِهَا مَنْ قَارَنَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، كَمَا خَلَقَ سَائِرَ الأَسْبَابِ وَرَبَطَهَا بِمُسَبِّبَاتِهَا المُتَضَادَّةِ وَالمُخْتَلِفَةِ). (¬7) أَيْ: بَطِيئَةَ السَّيْرِ. (¬8) حَسَنٌ. الحَاكِمُ (2684) عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5367). وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ (4032) بِزِيَادَةِ (وَالجَارِ الصَّالِحِ). صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (282). وَفِيْهِ مَا لَا يَخْفَى مِنْ وَجْهِ الاشْتِرَاكِ مَعَ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ فِي كَثْرَةِ مُلَازَمَةِ الرَّجُلِ لِهَذِهِ الأَشْيَاء. فَالجَارُ الصَّالِحُ مِنَ السَّعَادَةِ لِأَنَّه يُعِيْنُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ وَيَتَمَثَّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العَصْر:3)، وَلَا يُشْغِلُكَ بِالدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا وَفِتَنِهَا عَنِ الآخِرَةِ. (¬9) وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الحَدِيْثِ تَصْحِيْحُ الحَدِيْثِ مَوْضُوْعِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ، لِأَنَّ مَدَارَ الإِشْكَالِ هُوَ عَلى لَفْظِ الشُّؤْمِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُوْدٍ فِي هَذَا الحَدِيْثِ، وَأَيْضًا لِاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَلَيْهِ؛ فَتَنَبَّهْ. (¬10) قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ تَبْوِيْبَ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (8/ 7) عَلَى الحَدِيْثِ فَقَالَ: (بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ المَرْأَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} (التَّغَابُن:14)). فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَا يَكُوْنُ فِيْهَا شَرٌّ لِزَوْجِهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُوْنُ فِيْهَا خَيْرٌ. ثُمَّ أَوْرَدَ البُخَارِيُّ (5096) حَدِيْثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَرْفُوْعًا (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ) وَهَذَا فِيْهِ بَيَانُ سَبَبِ الشُّؤْمِ فِيْهَا، وَأَنَّ فِتْنَةَ المَرْأَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ أَعْظَمِ الفِتَنِ، فَلِذَلكَ قَالَ: (بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ المَرْأَةِ)، فَجَعَلَ تِلْكَ الفِتْنَةَ هِيَ سَبَبَ الشُّؤْمِ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ القَدَرِيَّةِ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ. فَرَحِمَ اللهُ البُخَارِيَّ مَا أَدَقَّ نَظَرَهُ.

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) هَلْ يُشْرَعُ تَغْيِيْرُ الأَسْمَاءِ لِدَفْعِ الطِّيَرَةِ؟ الجَوَابُ: نَعَم، وَلَكِنَّ المَقْصُوْدَ بِدَفْعِ الطِّيَرَةِ هُنَا هُوَ دَفْعُ تَطَيُّرِ النَّاسِ بِهَا، وَلِمَنْعِ تَوَّهُمِ كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِحُصُوْلِ الطِّيَرَةِ. كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَرَّ بِأَرْضٍ تُسَمَّى غَدِرَةً؛ فَسَمَّاهَا خَضِرَةً). (¬1) قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مُشْكِلُ الآثَارِ) - فِي وَجْهِ كَرَاهِيةِ اسْمِهَا -: (أنْ يَنْزِلَهَا نَازِلٌ - وَاسْمُهَا عِنْدَهُ غَدِرَةٌ - فَيَتَطَيَّرُ بِذَلِكَ، فَحَوَّلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهَا إِلَى خَضِرَة مِمَّا لَا طِيَرَةَ فِيْهِ). (¬2) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. ابْنُ حِبَّان (5821)، وَأَبُو يَعْلَى (4556). تَحْقِيْقُ مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى لِلأُسْتَاذِ حُسَيْن أَسَد حَفِظَهُ اللهُ. وَأَوَرَدَهُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (208) مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانيِّ فِي المُعْجَمِ الصَّغِيْرِ (349) بِلَفْظِ (عَفِرَة) بَدَلَ (غَدِرَة). وَ (عَفِرَة): (بِفَتْحِ عَيْنٍ، وَكَسْر فَاءٍ، وَهِيَ مِنَ الأَرْض مَا لَا تُنْبِتُ شَيْئًا). قَالَهُ صَاحِبُ عَوْنِ المَعْبُوْدِ (2234/ 9). وَنَقَلَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ) (344/ 12) عَنِ الخَطَّابيِّ رَحِمَهُ اللهُ قَوْلَهُ: (وَأَمَّا عَفِرَة: - يَعْنِي بِفَتْحِ العَيْنِ وكَسْرِ الفَاءِ - فَهِيَ نَعْتُ الأَرْضِ الَّتِيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا فَسَمَّاهَا خَضِرَةً عَلَى مَعْنَى التَّفَاؤُلِ حَتَّى تَخْضَرَّ). (¬2) مُشْكِلُ الآثَارِ (104/ 5).

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) إِذَا كَانَتِ الطِّيَرَةُ مِنَ الشِّرْكِ! فَمَا الجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (الإِسْرَاء:13)؟ (¬1) الجَوَابُ: ذِكْرُ الطَّيْرِ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ لَيْسَ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالطِّيَرَةِ المَعْرُوْفَةِ، وَإنَّمَا المَقْصُوْدُ بِهِ عَمَلُ المَرْءِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬2): (وَطَائِرُهُ هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ وَغَيْرُهُمَا - مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَيُلْزَمُ بِهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزَّلْزَلَةِ:8)، وَقَالَ تَعَالَى: {عَنِ اليَمِيْنِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيْدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدٌ} (ق:18) وَقَالَ: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِيْنَ كِرَامًا كَاتِبِيْنَ يَعْلَمُوْنَ مَا تَفْعَلُوْنَ} (الانْفِطَار:14)، وَقَالَ: {إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} (الطُّوْر:16)، وَقَالَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوْءًا يُجْزَ بِهِ} (النِّسَاء:123) الآيَة، وَالمَقْصُوْدُ أَنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ مَحْفُوْظٌ عَلَيْهِ قَلِيْلَهُ وَكَثِيْرَهُ، وَيُكْتَبُ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ صَبَاحًا وَمَسَاءً). (¬3) ¬

_ (¬1) وَيُشْبِهُهُ حَدِيْثُ أَحْمَدَ (14878) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا (طَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عُنُقِهِ). صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (1907). (¬2) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (50/ 5). (¬3) قُلْتُ: وَحَمَلَهُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (397/ 17) عَلَى الكِتَابَةِ القَدَريَّةِ فَقَالَ: (وكُلَّ إِنْسَانِ أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضيَ لَهُ أَنَّهُ عَامِلُهُ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ شَقَاءٍ أَوْ سَعَادَةٍ بِعَمَلِهِ فِي عُنُقِهِ لَا يُفَارِقُهُ).

- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) هَلْ قَوْلُهُ (وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ) خَاصٌّ بِكَونِهِ كَلَامًا مُسْتَحْسَنًا، أَمْ يَتَعَدَّاهُ إِلَى المَرْئِيِّ المُسْتَحْسَنِ أَيْضًا؟ الجَوَابُ: يَتَعَدَّاهُ، وَذَلِكَ لِسَبَبَيْنِ: 1) أَنَّ العِلَّةَ فِي جَوَازِ الأَوَّلِ هُوَ كَوْنُهُ مِنْ بَابِ البِشْرِ بِحُصُوْلِ الخَيْرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهِ فَإِذَا وُجِدَ فِي المَرْئِيِّ مَا يُبَشِّرُ بِخَيْرٍ فَهُوَ أَيْضًا مَشْرُوْعٌ، عَدَا عَنْ كَوْنِهِ لَيْسَ فِيْهِ عِلَّةُ النَّهْي عَنِ التَّطَيُّرِ؛ الَّتِيْ هِيَ سُوْءُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى وَضَعْفُ التَّوَكُّلِ، وَرَجْمٌ بِالغَيْبِ، واعْتِقَادُ حُصُوْلِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. 2) أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى هَذَا أَيْضًا، كَمَا فِي حَدِيْثِ قُدُوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ؛ وَفِيْهِ أَنَّهُ عِنْدَمَا رَأَى أَهْلَهَا قَدْ خَرَجوا إِلَى أَعْمَالِهِم وَبِأَيْدِيْهِم الفُؤُوسُ وَالمَسَاحِيُّ اسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ خَرَابَ خَيْبَرَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهُ أَكْبَرُ، خَرَبَتْ خَيْبَرُ). (¬1) قَالَ القَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ) (¬2): (وَقَوْلُهُ: (اللهُ أَكْبَرُ، خَرَبَتْ خَيْبَرُ) قَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَآهُم خَرَجُوا بِآلَةِ الخَرَابِ وَالهَدْمِ؛ لِقَوْلِهِ: (خَرَجُوا بِفُؤُوْسِهِم وَمَكَاتِلِهِم وَمُرُوْرِهِم)، وَهَذَا مِنَ الفَأْلِ الحَسَنَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وحَقِّ المُسْلِمِيْنَ - الَّذِيْ كَانَ يَسْتَحِبُّهُ - وَلَيْسَ مِنَ الطِّيَرَةِ المَذْمُوْمَةِ). ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (371)، وَمُسْلِمٍ (1365) عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: (كُنْتُ رِدْفَ أَبِي طَلْحَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ - وَقَدَمِي تَمَسُّ قَدَمَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ حِينَ بَزَغَتِ الشَّمْسُ وَقَدْ أَخْرَجُوا مَوَاشِيَهُمْ، وَخَرَجُوا بِفُؤُوْسِهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ وَمُرُوْرِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ، وَالخَمِيْسُ! قَالَ: وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِيْنَ})، قَالَ: وَهَزَمَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). وَقَوْلُهُ (بِمَكَاتِلِهِمْ): جَمْعِ مِكْتَلٍ - بِكَسْرِ المِيمِ - وَهُوَ الزِّنْبِيْلُ الكَبِيْرُ، (وَمَسَاحِيْهِمْ): جَمْعُ مِسْحَاةٍ؛ وَهِيَ المِجْرَفَةُ مِنَ الحَدِيدِ، (وَالخَمِيْسُ): هُوَ الجَيْشُ. (¬2) إِكْمَالُ المُعْلِمِ (304/ 4).

- المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ) إِذَا كَانَتِ الطِّيَرَةُ هِيَ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ، فَمَا الجَوَابُ عَنِ الحَدِيْثِ (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيْرٌ فِيْهَا عَدَدُنَا وَكَثِيْرٌ فِيْهَا أَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى؛ فَقَلَّ فِيْهَا عَدَدُنَا وَقَلَّتْ فِيْهَا أَمْوَالُنَا! فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَرُوْهَا ذَمِيْمَةً)) (¬1)؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) دَرْءًا لِلمَفْسَدَةِ: فتَرْكُهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّطَيُّر بِهَا، وَإنَّمَا لِدَرْءِ مَا قَدْ يُعْتَقَدُ مِنْ شُؤْمِهَا؛ فَيَقَعُ المُتَشَائِمُ بِهَا فِي الشِّركِ. قَالَ صَاحِبُ (عَوْنُ المَعْبُوْدِ) (¬2): (قَالَ الخَطَّابِيُّ وَابْنُ الأَثِيْرِ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِبْطَالًا لِمَا وَقَعَ فِي نُفُوْسِهِمْ مِنْ أَنَّ المَكْرُوْهَ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِ السُّكْنَى، فَإِذَا تَحَوَّلُوا عَنْهَا انْقَطَعَتْ مَادَّةُ ذَلِكَ الوَهْمِ وَزَالَ عَنْهُمْ مَا خَامَرَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ). 2) أَنَّهَا سَبَبٌ قَدَرِيٌّ صَحِيْحٌ لَيْسَ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالطِّيَرَةِ؛ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ الَّتِيْ إِذَا صَلَحَتْ سَعِدَ سَاكِنُهَا، وَإِذَا سَاءَتْ سَاءَ سَاكِنُهَا، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيْثِ (الشُّؤْمُ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالفَرَسِ). ¬

_ (¬1) حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (3924) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (790). (¬2) عَوْنُ المَعْبُوْدِ (300/ 10).

- المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ) هَلْ قَوْلُ القَائِلِ عِنْدَ سَمَاعِهِ مَا يُتَطَيَّرُ مِنْهُ عَادَةً (خَيْرٌ خَيْرٌ)، أَوْ (خَيْرٌ يَا طَيْرُ) مَشْرُوْعٌ لِرَدِّ التَّشَاؤُمِ؟ الجَوَابُ: لَا يُشْرَعُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مُدَاوَاةِ البِدْعَةِ بِالبِدْعَةِ. (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬2): (وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عِكْرِمَة قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَرَّ طَائِرٌ فَصَاحَ، فَقَالَ رَجُلٌ: خَيْرٌ خَيْرٌ!، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عِنْدَ هَذَا لَا خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ). (¬3) وَأَمَّا حَدِيْثُ قَوْلِ (خَيْرٍ خَيْرٍ - عِنْدَ سَمَاعِ نَعِيْقِ الغُرَابِ وَنَحوِهِ -). فَلَيْسَ بِحَدِيْثٍ، وَهُوَ نَوْعُ طِيَرَةٍ. قَالَهُ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ). (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (567/ 1): (وَبَعْضُ النَّاسِ إِذَا انْتَهَى مِنْ شَيْءٍ فِي صَفَر أرَّخَ ذَلِكَ وَقَالَ: انْتَهَى فِي صَفَرِ الخَيْرِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ مُدَاوَاةِ البِدْعَةِ بِبِدْعَةٍ، وَالجَهْلِ بِالجَهْلِ، فَهُوَ لَيْسَ شَهْرَ خَيْرٍ وَلَا شَهْرَ شَرٍّ). (¬2) فَتْحُ البَارِي (215/ 10). (¬3) وَرَوَى الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (4/ 4) أَنَّ (رَجُلًا كَانَ يَسِيْرُ مَعَ طَاوُوْسَ فَسَمِعَ غُرَابًا نَعَبَ، فَقَالَ: خَيْرٌ. فَقَالَ طَاوُوْسُ: أَيُّ خَيْرٍ عِنْدَ هَذَا أَوْ شَرٍّ؟! لَا تَصْحَبْنِي أَوْ لَا تَسِرْ مَعِيَ). قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (764/ 1): (نَعَبَ الغُرَابُ: صَاحَ وَصَوَّتَ). (¬4) (المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ) (ص333).

- المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ) هَلِ المَقْصُوْدُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ (لَا غُوْل) نَفيُ وُجُوْدِهِ؟ الجَوَابُ: لَا، وَإنَّمَا المَقْصُوْدُ نَفيُ الاعْتِقَادِ بِهِ عَلَى تِلْكَ الصُّوْرَةِ المَزْعُوْمَةِ عِنْدَ العَرَبِ. وَيَدُلُّ لِوُجُودِهِ: 1) أَنَّ هَذَا شَائِعٌ مَعْرُوْفٌ وُجُوْدُهُ عِنْدَ العَرَبِ. (¬1) 2) مَا ثَبَتَ فِي الأَحَادِيْثِ مِنْ لَفْظِ الغُوْلِ كَحَدِيثِ أَبِي أَيُّوْبَ (كَانَتْ لِي سَهْوَةٌ (¬2) فِيْهَا تَمْرٌ، فَكَانَتِ الغُوْلُ تَجِيْءُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ). (¬3) بَلْ فِي القُرْآنِ مَا يُشِيْرُ إِلَى وُجُوْدِهَا أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِيْ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِيْنُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُوْنَهُ إِلَى الهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ} (الأَنْعَام:71). (¬4) وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ الغِيْلَانَ ذُكِرَتْ عِنْدَ عُمُرَ فَقَالَ: (إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُوْرَتِهِ الَّتِيْ خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا؛ وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا). (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص1040) - بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ -: (غَالَهُ: أَهْلَكَهُ، كَاغْتَالَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ. وَالغُوْلُ بِالضَّمِّ: الهَلَكَةُ وَالدَّاهِيَةُ وَالسِّعْلَاةُ وَسَاحِرَةُ الجِنِّ وَالمَنِيَّةُ وَشَيْطَانٌ يَأْكُلُ النَّاسَ). (¬2) هُوَ بَيْتٌ صَغِيْرٌ - فِي الجِدَارِ - كَالخِزَانَةِ الصَّغِيرةِ. (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2880). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1469). (¬4) قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (452/ 11): (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {أَنَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلآلِهَةِ وَمَنْ يَدُعُو إِلَيْهَا وَلِلدُّعَاةِ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ إِلَى اللهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيْقِ تَائِهًا ضَالًّا، إِذْ نَادَاهُ مُنَادٍ: (يَا فُلانُ بْنُ فُلَانٍ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيْقِ)، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُوْنَهُ: (يَا فُلَانُ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيْقِ)! فَإِنْ اتَّبَعَ الدَّاعِيَ الأَوَّلَ انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي الهَلَكَةِ، وَإِنْ أَجَابَ مَنْ يَدْعُوْهُ إِلَى الهُدَى اهْتَدَى إِلَى الطَّرِيْقِ، وَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ الَّتِيْ تَدْعُو فِي البَرِّيَّةِ مِنَ الغِيْلَانِ). قُلْتُ: وَالغِيْلَانُ هُنا هِيَ مِنَ الجِنِّ الَّتِيْ تَسْعَى فِي إِضْلَالِ النَّاسِ. وَمِثْلُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ (389) عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: (أَرْسَلَنِي أَبِي إلَى بَنِي حَارِثَةَ - وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا أَوْ صَاحِبٌ لَنَا - فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ، قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِيْ مَعِيَ عَلَى الحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا! فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي فَقَالَ: لَوْ شَعَرْتُ أَنَّك تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْك؛ وَلَكِنْ إذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ؛ وَلَّى وَلَهُ حِصَاصٌ)). وَ (الحِصَاصُ): هُوَ الضُّرَاطُ. وَ (أَبُوْ صَالِحٍ السَّمَّانُ) هُوَ ذَكْوانُ: تَابِعِيٌّ مِنَ الوُسْطَى وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ (ت 101 هـ). (¬5) صَحِيْحٌ. ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، بَابُ (الغِيْلَانُ إِذَا رُئيَتْ مَا يَقُوْلُ الرَّجُلُ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (344/ 6): (إسْنَادُهُ صَحِيْحٌ). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِمْ؛ فَقِيْلَ: ....).

- المَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ) كَيْفَ يُدْفَعُ شَرُّ الغِيْلَانِ؟ يُدْفَعُ بِأُمُوْرٍ مِنْهَا: 1) التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي الأُمُوْرِ كُلِّهَا، لِأَنَّ عَمَلَ الغُوْلِ حَقِيْقَةً هُوَ التَّخْوِيْفُ وَالسَّعْيُ فِي الإِضْلَالِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُوْنَ} (المُجَادِلَة:10). 2) ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ: أ) قِرَاءَةُ القُرْآنِ وَخَاصَّةً سُوْرَةَ البَقَرَةِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذِيْ تُقْرَأُ فِيْهِ سُوْرَةُ البَقَرَةِ). (¬1) (¬2) ب) النِّدَاءُ بِالأَذَانِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِيْنَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ). (¬3) وَثَبَتَ أَنَّ الغِيْلَانَ ذُكِرَتْ عِنْدَ عُمُرَ فَقَالَ: (إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُوْرَتِهِ الَّتِيْ خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا؛ وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا). (¬4) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (780) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) وَكَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي أَيُّوْبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيْهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيْءُ الغُوْلُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ، قَالَ: فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (فَاذْهَبْ؛ فَإِذَا رَأَيْتَهَا فَقُلْ: بِسْمِ اللهِ؛ أَجِيْبِي رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: فَأَخَذَهَا، فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُوْدَ؛ فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (مَا فَعَلَ أَسِيْرُكَ؟) قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُوْدَ. فَقَالَ: (كَذَبَتْ، وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ)، قَالَ: فَأَخَذَهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُوْدَ؛ فَأَرْسَلَهَا. فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا فَعَلَ أَسِيْرُكَ؟) قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُوْدَ، فَقَالَ: (كَذَبَتْ وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ)، فَأَخَذَهَا فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِكِ حَتَّى أَذْهَبَ بِكِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنِّي ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيْئًا؛ آيَةَ الكُرْسِيِّ؛ اقْرَأْهَا فِي بَيْتِكَ فَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَلَا غَيْرُهُ. قَالَ: فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا فَعَلَ أَسِيْرُكَ؟) قَالَ: فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَتْ، قَالَ: (صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوْبٌ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2880). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1469). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (608)، وَمُسْلِمٌ (389) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬4) صَحِيْحٌ. ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، بَابُ (الغِيْلَانُ إِذَا رُئيَتْ مَا يَقُوْلُ الرَّجُلُ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (344/ 6): (إسْنَادُهُ صَحِيْحٌ). قُلْتُ: وَهَذَا الأَثَرُ يُغْنِي عَنِ المَرْفُوْعِ الضَّعِيْفِ (إذَا تَغَوَّلَتْ لَكُمُ الغِيْلَانُ فَنَادُوا بِالأَذَانِ). ضَعِيْفٌ. ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (29741). الضَّعِيْفَةُ (1140). وَمِثْلُهُ مَا سَبَقَ فِي حَدِيْثِ مُسْلِمٍ (389) عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ حِيْنَ أَمَرَهُ أَبُوْهُ بِالأَذَانِ إِذَا لَقِيَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشَّيَاطِيْن.

باب ما جاء في التنجيم

بابُ مَا جَاءَ فِي التَنْجِيْمِ قَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ: قَالَ قَتَادَةُ: (خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجُوْمَ لِثَلَاثٍ؛ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُوْمًا لِلشَّيَاطِيْنِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيْهَا غَيْرَ ذَلِكَ; أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيْبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ) انْتَهَى. (¬1) وَكَرِهَ قَتَادَةُ تَعَلُّمَ مَنَازِلِ القَمَرِ، وَلَمْ يُرَخِّصِ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِيْهِ. ذَكَرَهُ حَرْبٌ عَنْهُمَا. وَرَخَّصَ فِي تَعَلُّمِ المَنَازِلِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ أَبِي مُوْسَى؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ: مُدْمِنُ الخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: الحِكْمَةُ فِي خَلْقِ النُّجُوْمِ. الثَّانِيَةُ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ الخِلَافِ فِي تَعَلُّمِ المَنَازِلَ. الرَّابِعَةُ: الوَعِيْدُ فِيْمَنْ صَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ السِّحْرِ؛ وَلَوْ عَرَفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ. ¬

_ (¬1) ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ (107/ 4) تَعْلِيْقًا مَجْزُوْمًا بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيْرِ (16536)، وَالطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيْرِ (508/ 23)، وَغَيْرُهُم. وَتَمَامُهُ - كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ -: (وَإِنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللهِ؛ قَدْ أَحْدَثُوْا مِنْ هَذِهِ النُّجُوْمِ كِهَانَةً: مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، ومَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَعَمْرِيْ مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُوْلَدُ بِهِ الأَحْمَرُ وَالأَسْوَدُ، وَالقَصِيْرُ وَالطَّوِيْلُ، وَالحَسَنُ وَالدَّمِيْمُ، وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ! وَقَضَى اللهُ أَنَّهُ {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65)). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (207/ 6): (وَهُوَ كَلَامٌ جَلِيْلٌ مَتِيْنٌ صَحِيْحٌ). (¬2) صَحِيْحٌ لِغَيْرِهِ. أَحْمَدُ (19569)، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (5346). صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (2539)، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِزِيَادَةِ (ومَنْ مَاتَ وهُوَ مُدْمِنٌ لِلْخَمْرِ سَقَاهُ اللهُ مِنْ نَهْرِ الغُوْطَةِ؛ نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوْجِ المُومِسَاتِ، يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيْحُ فُرُوْجِهِنَّ). ضَعِيْفُ التَّرْغِيْبُ وَالتَّرْهِيْبُ (1410).

الشرح

الشَّرْحُ - عِلْمُ التَّنْجِيْمِ: هُوَ عِلْمُ النُّجومِ، وَالتَّنْجِيْمُ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ (¬1): 1) الاعْتِقَادُ بِأَنَّ النُّجُوْمَ هِيَ الَّتِيْ تُدبِّرُ الكَوْنَ وَتُصَرِّفُهُ، وَأَنَّهَا تُخَاطَبُ وَتُعْبَدُ وَتُدْعَى وَيُسَبَّحُ لَهَا، فَهَذَا النَّوْعُ سِحْرٌ وَشِرْكٌ. (¬2) 2) عِلْمُ التَّأْثِيْرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالأَحْوَالِ الفَلَكِيَّةِ عَلَى الحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ، كَالاسْتِدْلَالُ بِمَوَاضِعِ النُّجُوْمِ مِنَ الاقْتِرْانِ وَالطُّلُوْعِ عَلَى الأُمُوْرِ الَّتِيْ تَحْدُثُ فِي الأَرْضِ، وَهَذَا أَيْضًا كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى (¬3). وَلَكِنَّهُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: أ) أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا يَدَّعِي بِهِ عِلْمَ الغَيْبِ، فَيَسْتَدِلَّ بِحَرَكَاتِهَا وَتَنَقُّلَاتِهَا وَتَغَيُّرَاتِهَا عَلَى أَنَّهُ سَيَكُوْنُ كَذَا وَكَذَا (¬4)، فَهَذَا اتَّخَذَ تَعَلُّمَ النُّجومِ وَسِيْلَةً لِادِّعَاءِ عِلْمِ الغَيْبِ، وَدَعْوَى عِلْمِ الغَيْبِ كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65)، وَهَذَا الأُسْلُوْبُ اللُّغَوِيُّ فِي الحَصْرِ هُوَ مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الحَصْرِ، لِأَنَّهُ بِالنَّفِي وَالإِثْبَاتِ، فَإِذَا ادَّعَى أَحَدٌ عِلْمَ الغَيْبِ؛ فَقَدْ كَذَّبَ القُرْآنَ. ب) أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا لِحُدُوْثِ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَيْ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ شَيْءٌ؛ نَسَبَهُ إِلَى النُّجُوْمِ، وَلَا يَنْسُبُ إِلَى النُّجُوْمِ شَيْئًا إِلَّا بَعْدَ وُقُوْعِهِ، فَهَذَا شِرْكٌ أَصْغَرٌ. (¬5) (¬6) 3) عِلْمُ التَّسْيِيْرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُوْمِ عَلَى الجِهَاتِ وَالأَوْقَاتِ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَقَدْ يَجِبُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا. (¬7) وَهَذَا الاسْتِدْلَالُ أَيْضًا يَكُوْنُ مِنْ جِهَتَيْنِ: أ) الاسْتِدْلَالُ عَلَى الزَّمَانِ: كَالفُصُوْلِ وَدُخُوْلِ رَمَضَانَ وَالأَعْيَادِ وَمَوَاعِيْدِ الزِّرَاعَةِ وَالحَصَادِ وَ .... ب) الاسْتِدْلَالُ عَلَى المَكَانِ: كَجِهَةِ القِبْلَةِ وَالجِهَاتِ الأَرْبَعَةِ وَ ... (¬8) ¬

_ (¬1) وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِهِ هُوَ عَلَى النَّوْعِ الثَّانِي، وَهُوَ مَعْرِفَةُ المُغَيَّبَاتِ عَنْ طَرِيْقِ النُّجُوْمِ. (¬2) كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الكَنْعَانِيُّوْنَ الَّذِيْنَ بُعِثَ فِيْهِم إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُم كَانُوا يَبْنُوْنَ هَيَاكِلَ عَلَى صُوَرِ الكَوَاكِبِ الَّتِيْ يَرَوْنَهَا، وَيَجْعَلُوْنَ بُيُوْتًا لَهَا، وَيَضَعُوْنَ فِيْهَا الصُّوَرَ، ثُمَّ يَتَقَرَّبُوْنَ إِلَيْهَا بِالدُّعَاءِ، وَيَلْبَسُوْنَ لِبَاسًا مُعَيَّنًا، وَيُبَخِّرُوْنَ عِنْدَهَا، وَيَتَقرَّبُوْنَ إِلَيْهَا بِالقُرَبِ، وَيَزْعُمُوْنَ أَنَّهُم إِذَا صَنَعُوا ذَلِكَ نَزَلَتْ رُوْحَانِيَّاتُهَا، وَهَذِهِ الرُّوْحَانِيَّاتُ الَّتِيْ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهَا رُوْحَانِيَّاتُ الكَوَاكِبِ؛ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّيَاطِيْنِ الَّتِيْ تَنْزِلُ عَلَيْهِم، وَقَدْ تُخَاطِبُهُم، وَقَدْ تَقْضِي حَوَائِجَهُم وَتَفْعَلُ لَهُم بَعْضَ الشَّيْءِ الَّذِيْ يُرِيْدُوْنَهُ؛ لِأَنَّهُم فَعَلُوا مَا تَرْضَاهُ الشَّيَاطِيْنُ، فَخَدَمُوْهَا وَعَبَدُوْهَا، فَيَأْتُوْنَ إِلَيْهِم بِبَعْضِ النَّفْعِ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (76). (¬3) وَقَدْ تَغَيَّرَتِ الطُّرُقُ الآنَ عِنْدَ نَاسٍ مِنَ المُثَقَّفِيْنَ - كَمَا يَزْعُمُوْنَ -، فَيَكْتُبُوْنَ جَدَاوِلَ وَيَذْكُرُوْنَ الحَوَادِثَ الَّتِيْ تَحْدُثُ فِي هَذَا البُرْجِ، فَيَقُوْلُوْنَ: يَوْمُ كَذَا يَكُوْنُ كَذَا وَكَذَا، ومَنْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي اليَوْمِ الفُلَانِيِّ يَحْدُثُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يُنْظَرَ فِيْهَا؛ لِأَنَّهَا رَجْمٌ بِالغَيْبِ. (¬4) مِثْلُ أَنْ يَقُوْلَ: هَذَا الإِنْسَانُ سَتَكُوْنُ حَيَاتُهُ شَقَاءً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي وَقْتِ النَّجْمِ الفُلَانِيِّ، وَهَذَا حَيَاتُهُ سَتَكُوْنُ سَعِيْدَةً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي النَّجْمِ الفُلَانِيِّ. (¬5) فَالدَّرَجَةُ الأُوْلَى هِيَ قَبْلَ الوُقُوْعِ؛ وَهِيَ ادِّعَاءُ عِلْمِ الغَيْبِ، وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الوُقُوْعِ. (¬6) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (523/ 2): (وَأَعْلَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي الأُمِّ: (مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا - عَلَى مَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الشِّرْكِ يَعْنُوْنَ مِنْ إِضَافَةِ المَطَرِ إِلَى أَنَّهُ مَطَرُ نَوْءِ كَذَا - فَذَلِكَ كُفْرٌ كَمَا قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النَّوْءَ وَقْتٌ؛ وَالوَقْتَ مَخْلُوْقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ شَيْئًا، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا - عَلَى مَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْتِ كَذَا - فَلَا يَكُوْنُ كُفْرًا، وَغَيْرُهُ مِنَ الكَلَامِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ). يَعْنِي حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِطْلَاقُ الحَدِيْثِ (أَي حَدِيْثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ)). (¬7) كَحَالَةِ المُسَافِرِ خَارِجَ البُنْيَانِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ جِهَةِ القِبْلَةِ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ. (¬8) وَمِنْهُ نَأْخُذُ خَطَأَ العَوَامِّ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ إِذَا هَبَّتِ الرِّيْحُ: طَلَعَ النَّجْمُ الفُلَانِيُّ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّجُوْمَ لَا تَأْثِيْرَ لَهَا بِالرِّيَاحِ، صَحِيْحٌ أَنَّ بَعْضَ الأَوْقَاتِ وَالفُصُوْلِ يَكُوْنُ فِيْهَا رِيْحٌ وَمَطَرٌ؛ وَلَكِنَّهَا ظَرْفٌ لَهُمَا، وَلَيْسَتْ سَبَبًا لَهُمَا.

- قَالَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَعَالِمُ السُّنَنِ) (¬1): (عِلْمُ النُّجُوْمِ المَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَدَّعِيْهِ أَهْلُ التَّنْجِيْمِ مِنْ عِلْمِ الكَوَائِنِ وَالحَوَادِثِ الَّتِيْ لَمْ تَقَعْ وَسَتَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ كَإِخْبَارِهِم بِأَوْقَاتِ هُبُوْبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيْءِ المَطَرِ، وَظُهُوْرِ الحَرِّ وَالبَرْدِ وَتَغَيُّرِ الأَسْعَارِ وَمَا كَانَ فِي مَعَانِيْهَا مِنَ الأُمُوْرِ؛ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُم يُدْرِكُوْنَ مَعْرِفَتَهَا بِسَيْرِ الكَوَاكِبِ فِي مَجَارِيْهَا وَبِاجْتِمَاعِهَا وَاقْتِرَانِهَا وَيَدَّعُوْنَ لَهَا تَأْثِيْرًا فِي السُّفْلِيَّاتِ وَأَنَّهَا تَتَصَرَّفُ عَلَى أَحْكَامِهَا وَتَجْرِي عَلَى قَضَايَا مُوْجِبَاتِهَا، وَهَذَا مِنْهُم تَحَكُّمٌ عَلَى الغَيْبِ وَتَعَاطٍ لعِلْمٍ اسْتِأْثَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهِ؛ لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ أَحَدٌ سِوَاهُ). - فِي بَيَانِ الدَّلِيْلِ عَلَى كُلٍّ مِمَّا ذَكَرَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الأَوَّلُ وَالثَّانِي) زِيْنَةً لِلسَّمَاءِ وَرُجُوْمًا لِلشَّيَاطِيْنِ: قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} (الصَّافَات:7). الثَّالِثُ) عَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا: قَالَ تَعَالَى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُوْنَ} (النَّحْل:16). - قَوْلُهُ (وتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ): لِأَنَّ النُّجُوْمَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ الَّتِيْ لَا يَعْلَمُ البَشَرُ شَأْنَ خَفَايَاهَا إِلَّا بِمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهَا, وَالمُسْلِمُ مَأْمُوْرٌ بِالكَفِّ عَنْهَا إِلَّا فِي حُدُوْدِ مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ بَيَانُهُ كَمَا بَيَّنَهُ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ. وَفِي الحَدِيْثِ (إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُوْمُ فأَمْسِكُوا، وَإذا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمْسِكُوا). (¬2) - أَثَرُ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللهُ - كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ -: (وَإِنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللهِ؛ قَدْ أَحْدَثُوْا مِنْ هَذِهِ النُّجُوْمِ كِهَانَةً: مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، ومَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَعَمْرِيْ مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُوْلَدُ بِهِ الأَحْمَرُ وَالأَسْوَدُ، وَالقَصِيْرُ وَالطَّوِيْلُ، وَالحَسَنُ وَالدَّمِيْمُ، وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ! وَقَضَى اللهُ أَنَّهُ {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّمْل:65)). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬4): (وَهُوَ كَلَامٌ جَلِيْلٌ مَتِيْنٌ صَحِيْحٌ). ¬

_ (¬1) مَعَالِمُ السُّنَنِ (229/ 4). (¬2) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (198/ 10) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (34). (¬3) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيْرِ (16536). (¬4) (204/ 6).

- قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ (ورَخَّصَ فِيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ) هُوَ الصَّحِيْحُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِذَلِكَ العِلْمِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِيْ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوْرًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِيْنَ وَالحِسَابَ} (يُوْنُس:5) وَظَاهِرُ الآيَةِ أَنَّ حُصُوْلَ المِنَّةِ بِهِ هِيَ فِي تَعَلُّمِهِ، وَهُوَ دَلِيْلُ الجَوَازِ. (¬1) - (حَرْبٌ): هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ الكِرْمَانِيُّ؛ الفَقِيْهُ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَهُ كِتَابُ (المَسَائِلُ) الَّتِيْ سُئِلَ عَنْهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، (ت 280 هـ). - (إِسْحَاقُ): هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ بْنِ مَخْلَدٍ؛ أَبُو يَعْقُوْبَ؛ الحَنْظَلِيُّ النَيْسَابُوْرِيُّ؛ الإِمَامُ المَعْرُوْفُ بِابْنِ رَاهَوِيْه، قَالَ أَحْمَدُ: إِسْحَاقُ عِنْدَنا إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، (ت 239 هـ). - قَوْلُهُ (وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ) (¬2): قَصَدَ بِهِ المُصَنِّفُ هُنَا التَّصْدِيْقَ بِعِلْمِ النُّجُوْمِ المَذْمُوْمِ، وَالإِقْرَارَ بِصِحَّتِهِ وَالعَمَلَ بِهِ (¬3)، وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا أَنَّ التَّنْجِيْمَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُوْمِ؛ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَادَ). (¬4) ¬

_ (¬1) عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ مَنْ مَنَعَ - وَخَاصَّةً قَتَادَةَ - فَمَنْعُهُ مَحْمُوْلٌ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ - جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ - أَوْ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَكُوْنُ سَبَبُ المَنْعِ هُوَ سَدُّ ذَرِيْعَةِ الشِّرْكِ، وَهَذَا السَّدُّ هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: أ) أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى تَعَلُّمِ المَذْمُومِ. ب) أَنَّهُ يُخْشَى إِذَا قِيْلَ: إذا طَلَعَ النَّجُمُ الفُلَانِيُّ فَإِنَّهُ سَيَكُوْنُ حَرًا أَوْ بَرْدًا - مِنْ بَابِ الاسْتِدْلَالِ عَلَى الزَّمَنِ - أَنَّ بَعْضَ العَامَّةِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِيْ يَأْتِي بِالبَرْدِ أَوِ الحَرِّ أَوِ الرِّيْحِ. (¬2) وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (إنَّ أخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي فِي آخِرِ زَمَانِهَا النُّجُوْمُ، وَتَكْذِيْبٌ بِالقَدَرِ، وَحَيْفُ السُّلْطَانِ). الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (289/ 8) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1127). (¬3) وَيَشْمَلُ أَيْضًا المُصَدِّقُ لِقَوْلِ الكَاهِنِ بِدَعْوَاهُ عِلْمَ المُغَيَّبَاتِ. (¬4) صَحِيْحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (3905) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (6074).

- قَوْلُهُ (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ): هُوَ مِنْ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ. وَفِي ظَاهِرِهَا إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفهَمُ مِنْهَا الكُفْرُ المُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ - رُغْمَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ لَيْسَ بِشِرْكٍ أَصْلًا! - وَفِي الجَوَابِ عَلَيْهَا أَقْوَالٌ (¬1): 1) مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وَالخَوَارِجِ الَّذِيْنَ يَأْخُذُوْنَ بِظَاهِرِ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ (¬2)، فَيَرَوْنَ الخُرُوْجَ مِنَ الإِيْمَانِ بِهَذِهِ المَعْصِيَةِ، لَكِنَّ الخَوَارِجَ يَقُوْلُوْنَ: هُوَ كَافِرٌ، وَالمُعْتَزِلَةَ يَقُوْلُوْنَ: هُوَ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ، وَتَتَّفِقُ الطَائِفَتَانِ عَلَى أَنَّهُم مُخَلَّدُوْنَ فِي النَّارِ، فَيُجْرُوْنَ هَذَا الحَدِيْثَ وَنَحْوَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يَنْظُرُوْنَ إِلَى الأَحَادِيْثِ الأُخْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ إِيْمَانُ - وَإِنْ قَلَّ -، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ مَآلًا. وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ مِنَ الخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ مَرْدُوْدٌ مُخَالِفٌ لِلإِجْمَاعِ. (¬3) 2) أَنَّ هَذَا الوَعِيْدَ هُوَ فِيْمَنِ اسْتَحَلَّ هَذَا الفِعْلَ. (¬4) 3) أَنَّ نُصُوْصَ الوَعِيْدِ هَذِهِ تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِمَعْنَاهَا، بَلْ يُقَالُ: هَكَذَا قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُوْلُهُ وَنَسْكُتْ، وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيْرٍ مِنَ السَّلَفِ، كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ. (¬5) 4) أَنَّ هَذَا نَفْيٌ مُطْلَقٌ، وَالنَّفْيُ المُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى المُقَيَّدِ، فَيُقَالُ: لَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ دُخُوْلًا مُطْلَقًا - يَعْنِي لَا يَسْبِقُهُ عَذَابٌ -، وَلَكِنَّهُم يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ دُخُوْلًا يَسْبِقُهُ عَذَابٌ بِقَدْرِ ذُنُوْبِهِم - إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُم أَوْلًا -، ثُمَّ مَرْجِعُهُم إِلَى الجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نُصُوْصَ الشَّرِيْعَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُلَائِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى القَوَاعِدِ وَأَبْيَنُ حَتَّى لَا تَبْقَى دِلَالَةُ النُّصُوْصِ غَيْرَ مَعْلُوْمَةٍ، فَتُقَيَّدُ النُّصُوْصُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. (¬6) 5) أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ حَرِيٌ أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِسُوْءِ الخَاتِمَةِ، فَيَمُوْتُ كَافِرًا، فَيَكُوْنُ هَذَا الوَعِيْدُ هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُوْلُ حَالُهُ إِلَيْهِ. (¬7) ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ وَزِيَادَةٍ مِنَ كِتَابِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (14/ 2) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ. وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ اُنْظُرْ شَرْحَ بَابِ (مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ) مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَمَا فِيْهِ مِنَ الكَلَامِ عَلَى بَعْضِ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ (مَسْأَلَةِ قَاتِلِ النَّفْسِ). (¬2) أَيْ: يُسَلِّطُونَهَا عَلَى أُصُوْلِ الشَّرِيْعَةِ وَيَجْعَلُوْنَهَا قَاضِيَةً عَلَيْهَا دُوْنَ تَوْجِيْهٍ لَهَا، فَيُبْطِلُوْنَ بِهَا عُمُوْمَ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيْمًا} (النِّسَاء:48)، وَمِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الجنَّةَ، .... وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الخَمْرَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6443) عَنْ أَبِي ذَرٍّ. (¬3) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ (97/ 2): (وَأَمَّا حُكْمُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِدُخُوْلِ النَّارِ؛ وَمَنْ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِدُخُوْلِهِ الجَنَّةَ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُوْنَ). (¬4) وَفِي الحَدِيْثِ (مُدْمِنُ الخَمْرِ؛ إنْ مَاتَ لَقِيَ اللهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (2453) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (677). قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ (167/ 12): (يُشْبِهُ أَنْ يَكُوْنَ مَعْنَى هَذَا الخَبَرِ: مَنْ لَقِيَ اللهَ مُدْمِنَ خَمْرٍ مُسْتَحِلًّا لِشُرْبِهِ؛ لَقِيَهُ كَعَابِدِ وَثَنٍ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالَةِ الكُفْرِ). (¬5) وَلِأَنَّ تَأْوِيْلَهَا يُبْطِلُ مَفَادَهَا مِنْ وُقُوْعِ الزَّجْرِ فِي النُّفُوْسِ. وَهَذَا القَوْلُ حَقِيْقَتُهُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ هَذِهِ النُّصُوْصِ؛ لَا أَنَّهَا مَجْهُوْلَةُ المَعْنَى عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الخَوْضَ فِي بَيَانِهَا وَجَمْعِهَا مَعَ سَائِرِ النُّصُوْصِ مُضْعِفٌ لِأَثَرِهَا فِي الزَّجْرِ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الفُرُوْعُ) (213/ 10): (وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الكَلَامَ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ النُّصُوْصِ تَوَرُّعًا، وَيَمُرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيْرٍ؛ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ المَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ). وَقَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ص320): (قَوْلُهُ: (ثَلَاثةٌ لَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ): هَذَا مِنْ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ الَّتِيْ كَرِهَ السَّلَفُ تَأْوِيْلَهَا، وَقَالُوا: أَمِرُّوْهَا كَمَا جَاءَتْ، وَمَنْ تَأَوَّلَهَا فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ مِنَ القَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ. وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ: إنَّ كُلَّ عَمَلٍ دُوْنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ - المُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلَامِ -؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَشِيْئَةِ اللهِ، فَإِنْ عَذَّبَهُ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ العَذَابَ، وَإِنْ غَفَرَ لَهُ فَبِفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ). (¬6) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (113/ 16) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) -: (هَذَا الحَدِيْثُ يُتَأَوَّلُ بِتَأْوِيْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ القَطِيْعَةَ بِلَا سَبَبٍ وَلَا شُبْهَةٍ - مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيْمِهَا -؛ فَهَذَا كَافِرٌ يُخَلُّدُ فِي النَّارِ وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَبَدًا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُهَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ مَعَ السَّابِقِيْنَ؛ بَلْ يُعَاقَبُ بِتَأَخُّرِهِ القَدْرَ الَّذِيْ يُرِيْدُهُ اللهُ تَعَالَى). (¬7) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رَحِمَهُ اللهُ (324/ 4): ((ذِكْرُ خَبَرٍ تَاسِعٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا؛ أَنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ اسْمَ المُتَوَقَّعِ مِنَ الشَّيْءِ فِي النِّهَايَةِ عَلَى البِدَايَةِ: (ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيْثَ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (المِرَاءُ فِي القَرْآنِ كُفْرٌ). قَالَ أَبُو حَاتِمٍ (ابْنُ حِبَّانَ): (إِذَا مَارَى المَرْءُ فِي القُرْآنِ أَدَّاهُ ذَلِكَ - إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ - إِلَى أَنْ يَرْتَابَ فِي الآي المُتَشَابِهِ مِنْهُ، وَإِذَا ارْتَابَ فِي بَعْضِهِ أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الجَحْدِ، فَأَطْلَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الكُفْرِ الَّذِيْ هُوَ الجَحْدُ عَلَى بِدَايَةِ سَبَبِهِ الَّذِيْ هُوَ المِرَاءُ)). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ صَحِيْحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4603) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (6687).

- فَائِدَة 1) مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا العَصْرِ بِوُضُوْحٍ - مَعَ غَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهُ - مَا يَكْثُرُ فِي المَجَلَّاتِ وَيُسَمُّوْنَه الأَبْرَاجَ، وَيَجْعَلُوْنَ أَمَامَ كُلِّ بُرْجٍ مَا سَيَحْصُلُ فِيْهِ، فَإِذَا كَانَ المَرْءُ مَوْلُوْدًا فِي ذَلِكَ البُرْجِ فَإِنَّهُم يَقُوْلُوْنَ لَهُ: (سَيَحْصُلُ لَكَ فِي هَذَا الشَّهْرِ كَذَا وَكَذَا). (¬1) وَهَذَا هُوَ التَّنْجِيْمِ الَّذِيْ هُوَ ادِّعَاءُ التَأْثِيْرِ، وَالاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُوْمِ وَالبُرُوْجِ عَلَى التَّأْثِيْرِ فِي الأَرْضِ وَعَلَى مَا سَيَحْصُلُ فِيْهَا هُوَ نَوْعٌ مِنَ الكِهَانَةِ، وَوُجُوْدُهُ فِي المَجَلَّاتِ وَالجَرَائِدِ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ هُوَ وُجُوْدٌ لِلكُهَّانِ فِيْهَا، فَهَذَا يَجِبُ إِنْكَارُهُ إِنْكَارًا لِلشِّرْكِ، وَلِادِّعَاءِ مَعْرِفَةِ الغَيْبِ، وَلِأَنَّ التَّنْجِيْمَ مِنَ السِّحْرِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيَجِبُ إِنْكَارُهُ عَلَى كُلِّ صَعِيْدٍ. (¬2) - فَائِدَة 2) الَّذِيْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُوْمِ عَلَى الزَّمانِ وَالمَكَانِ إِنَّمَا هُوَ مَنْ تَوَفَّرَ فِيْهِ شَرْطَانِ: 1) أَنْ يَكُوْنَ صَاحِبَ خِبْرَةٍ فِي ذَلِكَ. 2) أَنْ يَكُوْنَ مُؤْتَمَنًا فِي دِيْنِهِ، حَرِيْصًا عَلَى أَمْرِ شَرِيْعَتِهِ. (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مِرْقَاةُ المَفَاتِيْحِ) (2911/ 7): (وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُوْنَا عَنْ مَوْلُوْدَيْنِ وُلِدَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ أَلَيْسَ يَجِبُ تَسَاوِيْهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ؛ وَلَا تَمْيِيْزَ بَيْنَهُمَا فِي الصُّورَةِ وَالقَدِّ وَالمَنْظَرِ؛ وَحَتَّى لَا يُصِيْبَ أَحَدًا نَكْبَةٌ إِلَّا أَصَابَ الآخَرَ، وَحَتَّى لَا يَفْعَلَ هَذَا شَيْئًا إِلَّا وَالآخَرَ يَفْعَلُ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ فِي العَالَمِ اثْنَانِ هَذَا صِفَتُهُمَا). (¬2) وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يُدْخِلَهُ بَيْتَهُ، وَأَنْ لَا يَقْرَأَهُ وَلَا يطَّلِعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي النَّهْي مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَتَى إِلَى الكَاهِنِ غَيْرَ مُنْكِرٍ لَهُ. وَعَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ لَا يُؤَثِّمَ نَفْسَهُ وَلَا مَنْ فِي بَيْتِهِ بِإِدْخَالِ شَيْءٍ مِنَ الجَرَائِدِ الَّتِيْ فِيْهَا ذَلِكَ إِلَى البُيُوْتِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ إِدْخَالٌ لِلْكَهَنَةِ إِلَى البُيُوْتِ، وَهَذَا - وَالعِيَاذُ بِاللهِ - مِنَ الكَبَائِرِ. (¬3) قَالَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَعَالِمُ السُّنَنِ) (230/ 4): (وَأَمَّا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ جِهَةِ النُّجُوْمِ عَلَى جِهَةِ القِبْلَةِ؛ فَإِنَّمَا هِيَ كَوَاكِبُ رَصَدَهَا أَهْلُ الخِبْرَةِ بِهَا مِنَ الأَئِمَّةِ - الَّذِيْنَ لَا نَشُكُّ فِي عِنَايَتِهِم بِأَمْرِ الدِّيْنِ وَمَعْرِفَتِهِم بِهَا وَصِدْقِهِم فِيْمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْهَا - مِثْلَ أَنْ يُشَاهِدُوْهَا بِحَضْرَةِ الكَعْبَةِ وَيُشَاهِدُوْهَا فِي حَالِ الغَيْبَةِ عَنْهَا، فَكَانَ إِدْرَاكُهُم الدِّلَالَةَ عَنْهَا بِالمُعَايَنَةِ، وَإِدْرَاكُنَا لِذَلِكَ (هُوَ) بِقَبُوْلِنَا لِخَبَرِهِم - إِذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِيْنَ فِي دِيْنِهِم وَلَا مُقَصِّرِيْنَ فِي مَعْرِفَتِهِم -).

باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

بَابُ مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {وَتَجْعَلُوْنَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُوْنَ} (الوَاقِعَة:82). وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُوْنَهُنَّ: الفَخْرُ بِالأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُوْمِ وَالنِّيَاحَةُ). وَقَالَ: (النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا؛ تُقَامُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) وَلَهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقَبْلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُوْنَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ?) قَالُوا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمَ. قَالَ: (قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ). (¬2) وَلَهُمَا مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ، وَفِيْهِ: (قَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوْمِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُوْنَ عَظِيْمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيْمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُوْنٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُوْنَ، تَنْزِيْلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِيْنَ، أَفَبِهَذَا الحَدِيْثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُوْنَ، وَتَجْعَلُوْنَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُوْنَ} (الوَاقِعَة:82)). (¬3) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ الوَاقِعَةِ. الثَّانِيَةُ: ذِكْرُ الأَرْبَعِ الَّتِيْ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ. الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ الكُفْرِ فِي بَعْضِهَا. الرَّابِعَةُ: أَنَّ مِنَ الكُفْرِ مَا لَا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ. الخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) بِسَبَبِ نُزُوْلِ النِّعْمَةِ. السَّادِسَةُ: التَّفَطُّنُ لِلْإِيْمَانِ فِي هَذَا المَوْضِعِ. السَّابِعَةُ: التَّفَطُّنُ لِلْكُفْرِ فِي هَذَا المَوْضِعِ. الثَّامِنَةُ: التَّفَطُّنُ لِقَوْلِهِ: (لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا). التَّاسِعَةُ: إِخْرَاجُ العَالِمِ لِلْمُتَعَلِّمِ المَسْأَلَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهَا لِقَوْلِهِ (أَتَدْرُوْنَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ?). العَاشِرَةُ: وَعِيْدُ النَّائِحَةِ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (934). (¬2) البُخَارِيُّ (846)، وَمُسْلِمٌ (71). (¬3) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (73) فَقَط دُوْنَ البُخَارِيِّ.

الشرح

الشَّرْحُ - الاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْواءِ: هُوَ نِسْبَةُ السُّقْيَا إِلَى الأَنْوَاءِ، وَالأَنْوَاءُ هِيَ النُّجُوْمُ، يُقَالُ لِلنَّجْمِ نَوْءٌ، وَالعَرَبُ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ النُّجُوْمَ وَالأَنْوَاءَ سَبَبٌ فِي نُزُوْلِ المَطَرِ. (¬1) وَنَاءَ لُغَةً: أَيْ: نَهَضَ وَطَلَعَ، وَقِيْلَ: أَرَادَ بِالنَّوْءِ الغُرُوْبَ، وَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ. (¬2) وَالنَّوْءُ: وَاحِدُ الأَنْوَاءِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُوْنَ مَنْزِلَةً (نَجْمًا)، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا تَقْرِيْبًا، وَكُلُّ نَجْمٍ مِنْهَا إِذَا طَلَعَ فِي المَشْرِقِ وَقَعَ حَالَ طُلُوْعِهِ آخَرُ فِي المَغْرِبِ، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الثَّمَانِيَةُ وَالعِشْرُوْنَ بِانْتِهَاءِ السَّنَةِ، وَكَانَتِ العَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ مَعَ سُقُوْطِ المَنْزِلَةِ وَطُلُوْعِ نَظِيْرِهَا يَكُوْنُ مَطَرٌ، فَيَنْسِبُوْنَهُ إِلَيْهَا فَيَقُوْلُوْنَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوْءًا لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ السَّاقطُ مِنْهَا بِالغَرْبِ نَاءَ الطَّالِعُ بِالشَّرْقِ. (¬3) - مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الأَبْوَابِ هُوَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الاسْتِسْقَاءَ بِالأَنْوَاءِ نَوْعٌ مِنَ التَّنْجِيْمِ. 2) أَنَّهُ مِنَ السِّحْرِ بِمَعْنَاهُ العَامُّ. 3) أَنَّهُ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ، لِأَنَّهُ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ، حَيْثُ نَسَبَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ، - وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ فَقَطْ - فَهُوَ كُفْرٌ أَصْغَرٌ. - الاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ شِرْكٌ، وَهُوَ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: 1) أَنْ يَدْعُوَ الأَنْوَاءَ بِالسُّقْيَا، فَيَسْتَغِيْثَ بِهَا مِنْ دُوْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ شِرْكٌ أَكْبَرٌ، وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الأُلُوْهِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ} (يُوْنُس:106). 2) أَنْ يَنْسِبَ حُصُوْلَ الأَمْطَارِ إِلَى هَذِهِ الأَنْوَاءِ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الفَاعِلَةُ بِنَفْسِهَا دُوْنَ اللهِ تَعَالَى - وَلَوْ لَمْ يَدْعُهَا -، فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرٌ فِي الرُّبُوْبِيَّةِ. 3) أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الأَنْوَاءَ سَبَبًا لِلمَطَرِ - مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ اللهَ هُوَ الخَالِقُ الفَاعِلُ - وَهُوَ شِرْكٌ أَصْغَرٌ. (¬4) ¬

_ (¬1) وَمِنْهُم - وَهِيَ طَائِفَةٌ قَلِيْلَةٌ - مَنْ يَجْعَلُ النَّوْءَ أَوِ النَّجْمَ هُوَ الَّذِيْ يَأْتِي بِالمَطَرِ. (¬2) قَالَهُ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (260/ 5). (¬3) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ كِتَابِ (فَتْحُ البَارِي) (524/ 2) لِابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (524/ 2): (فَإِنِ اعْتَقَدَ قَائِلٌ ذَلِكَ - أَنَّ لِلنَّوْءِ صُنْعًا فِي ذَلِكَ - فَكُفْرُهُ كُفْرُ تَشْرِيْكٍ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيْلِ التَّجْرِبَةِ فَلَيْسَ بِشِرْكٍ، لَكِنْ يَجُوْزُ إِطْلَاقُ الكُفْرِ عَلَيْهِ وَإِرَادَةُ كُفْرِ النِّعْمَةِ).

- (أَبُو مَالِكٍ): هُوَ الحَارِثُ بْنُ الحَارِثِ الشَّامِيُّ، صَحَابِيٌّ، وَفِي الصَّحَابَةِ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ اثْنَانُ غَيْرُ هَذَا. - قَوْلُهُ (مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ): فِيْهِ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الجَاهِلِيَّةِ كُلُّهُ مَذْمُوْمٌ؛ وَهُوَ أَمْرُ مَا قَبْلَ البِعْثَةِ، كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيْقَ دَمَهُ). (¬1) - (الجَاهِلِيَّةُ): مُشْتَقَّةٌ إِمَّا مِنَ الجَهْلِ الَّذِيْ هُوَ ضِدُّ العِلْمِ، أَوْ مِنَ الجَهَالَةِ الَّتِيْ هِيَ السَّفَهُ؛ وَهِيَ ضِدُّ الحِكْمَةِ. - قَوْلُهُ (الفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ): يَعْنِي عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالرِّفْعَةِ. (¬2) - قَوْلُهُ (وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ): هُوَ الطَّعْنُ فِي نَسَبِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَالتَّكْذِيْبُ بِنَسَبِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِغَيْرِ دَلِيْلٍ وَمِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ قَاعِدَةً هُنَا، وَهِيَ (أَنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُوْنَ عَلَى أَنْسَابِهِم) (¬3)، فَإِذَا كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذِكْرِ النَّسَبِ - وَأَنَّ فُلَانًا يَنْتَسِبُ إِلَى آلِ فُلَانٍ أَوْ إِلَى القَبِيْلَةِ الفُلَانِيَّةِ - إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ أَوْ مَادِّيٌّ كَإِعْطَاءِ حَقٍّ لِغَيْرِ أَهْلِهِ، أَوْ مِيْرَاثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُوْنَ عَلَى أَنْسَابِهِم. (¬4) - قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي الحَدِيْثِ: (وَفِيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ - مَعَ فَضْلِهِ وَعِلْمِهِ وَدِيْنِهِ قَدْ يَكُوْنُ فِيْهِ بَعْضُ هَذِهِ الخِصَالِ المُسَمَّاةِ بِجَاهِلِيَّةٍ وَيَهُوْدِيَّةٍ وَنَصْرَانِيَّةٍ وَلَا يُوْجِبُ ذَلِكَ كُفْرَهُ وَلَا فِسْقَهُ). (¬5) قُلْتُ: وَالمُرَادُ بِالخِصَالِ الجَاهِلِيَّةِ هُنَا: الخِصَالُ العَمَلِيَّةُ لَا الاعْتِقَادِيَّةُ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6882). (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّ اللهَ قَدْ أذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَها بِالآبَاءِ؛ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أنْتُمْ بَنُو آدَمَ؛ وآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ؛ أوْ لَيَكُوْنُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجُعْلانِ الَّتِيْ تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ). حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (5116) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1787). وَالعُبِّيَّةُ: الفَخْرُ وَالكِبْرُ وَالنَّخْوَةُ. وَأَيْضًا فِي الحَدِيْثِ (انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً؛ فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الإِسْلَامِ. قَالَ: فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لهَذَيْنِ المُنْتَسِبَيْنِ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا المُنْتَمِي - أَوِ المُنْتَسِبُ - إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ! فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا المُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الجَنَّةِ! فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الجَنَّةِ)). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (21178) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. الصَّحِيْحَةُ (1270). (¬3) قَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ) (ص687): (حَدِيْثُ (المُؤْمِنُ مُؤْتَمَنٌ عَلى نَسَبِهِ) بَيَّضَ لَهُ شَيخُنَا فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ (النَّاسُ مُؤْتَمَنُوْنَ عَلَى أَنْسَابِهِم)). (¬4) أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الإِثْبَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ شَائِعٌ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ النَّاسِ. (¬5) اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ (252/ 1).

- قَوْلُهُ (وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُوْمِ): هُوَ نِسْبَةُ السُّقْيَا إِلَى النُّجُوْمِ، وَيَشْمَلُ أَيْضًا مَا هُوَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تُطْلَبَ السُّقْيَا مِنَ النُّجُوْمِ، كَحَالِ الَّذِيْنَ يَعْتَقِدُوْنَ أَنَّ الحَوَادِثَ الأَرْضِيَّةَ تَحْصُلُ بِالنُّجُوْمِ نَفْسِهَا، وَهَذَا هُوَ مِنْ شِرْكِ الرُّبُوْبِيَّةِ. - قَوْلُهُ (وَالنِّيَاحَةُ): النِّيَاحَةُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَهِيَ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ المُصِيْبَةِ (¬1)، وَشَقُّ الجَيْبِ وَنَحْو ذَلِكَ، وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّبْرِ الوَاجِبِ. (¬2) وَإِنَّمَا كَانَتْ جَاهِلِيَّةً لِأُمُوْرٍ؛ مِنْهَا: 1) أَنَّهَا لَا تَزِيْدُ النَّائِحَ إِلَّا شِدَةً وَحُزْنًا وَعَذَابًا. 2) أَنَّهَا تُهَيِّجُ أَحْزَانَ غَيْرِهِ. 3) أَنَّهَا تَسَخُّطٌ عَلَى قَدَرِهِ تَعَالَى وَاعْتِرَاضٌ عَلَيْهِ. 4) أَنَّهَا لَا تَرُدُّ القَضَاءَ، وَلَا تَرْفَعُ مَا نَزَلَ. - قَوْلُهُ (تُقَامُ يَوْمَ القِيَامَةِ): أَيْ: تُقَامُ مِنْ قَبْرِهَا. - قَوْلُهُ (وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ): السِّرْبَالُ: الثَّوْبُ السَّابِغُ كَالدِّرْعِ، وَالقَطِرَانُ مَعْرُوْفٌ، وَيُسَمَّى (الزِّفْتَ)، وَقِيْلَ: إِنَّهُ النُّحَاسُ المُذَابُ. - قَوْلُهُ (وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ): الجَرَبُ: مَرْضٌ مَعْرُوْفٌ يَكُوْنُ فِي الجِلْدِ، يُؤَرِّقُ الإِنْسَانَ، وَرُبَّمَا يَقْتُلُ الحَيَوَانَ، وَالمَعْنَى أَنَّ كُلَّ جِلْدِهَا يَكُوْنُ جَرَبًا بِمَنْزِلَةِ الدِّرْعِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ قَطِرَانٌ وَجَرَبٌ زَادَ البَلَاءُ. وَالحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّها لَمَّا لَمْ تَتَلَبَّسْ بِلِبَاسِ الصَّبْرِ عِنْدَ المُصِيْبَةِ؛ فَإِنَّهَا تُعَاقَبُ بِلِبَاسِ العَذَابِ - وَهُوَ سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ - فَكَانَتِ العُقُوْبَةُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ. - (الحُدَيْبِيَّةُ) فِيْهَا لُغَتَانِ: التَّخْفِيْفُ - وَهُوَ أَكْثَرُ -، وَالتَّشْدِيْدُ؛ وَهِيَ اسْمُ بِئْرٍ سُمِّيَ بِهَا المَكَانُ، وَهَذَا المَكَانُ قَرِيْبٌ مِنْ مَكَّةَ - بَعْضُهُ فِي الحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي الحَرَمِ - نَزَلَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الهِجْرَةِ لَمَّا قَدِمَ مُعْتَمِرًا، فَصَدَّهُ المُشْرِكونُ عَنِ البَيْتِ، وَيُسَمَّى الآنَ (الشّمِيْسِيُ). - قَوْلُهُ (سَمَاءٍ): أَيْ: مَطَرٍ، وَأُطلقَ عَلَيْهِ (سَمًا) لِكَوْنِهِ يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَكُلِّ جِهَةِ عُلُوٍ تُسَمَّى سَمَاء. (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (24/ 2): (وَالنِّيَاحَةُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالبُكَاءِ عَلَى المَيِّتِ قَصْدًا عَلَى سَبِيْلِ النَّوْحِ كَنَوْحِ الحَمَامِ). (¬2) وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ (مِنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ) إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬3) قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (523/ 2).

- قَوْلُهُ (كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ): - مِنْ - هُنَا لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ. - فِي حَدِيْثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ بَيَانٌ لِلقَاعِدَةِ الهَامَّةِ فِي الشِّرْكِ الأَصْغَرِ، وَهِيَ: (أَنَّ مَنْ نَسَبَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى - الَّتِيْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ - إِلَى غَيْرِهِ؛ أَنَّهُ يَكُوْنُ مُشْرِكًا شِرْكًا أَصْغَرًا) (¬1)، حَيْثُ أَنَّ مَنْ نَسَبَ النِّعْمَةَ إِلَى النَّوْءِ قِيْلَ فِيْهِ (كَافِرٌ بِي)، وَهُوَ أَصْغَرٌ لِأَنَّهُم لَمْ يَرْتَدُّوا بِذَلِكَ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَتَجْعَلُوْنَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُوْنَ}: يَعْنِي وَتَجْعَلُوْنَ (رِزْقَكُم) بِمَعْنَى (شُكْرَكُم) أَنَّكُم تُكَذِّبُوْنَ، أَيْ: تُكَذِّبُوْنَ بَدَلَ الشُّكْرِ. (¬2) وَالتَّكْذِيْبُ يَشْمَلُ وَجْهَيْنِ: تَكْذِيْبَ القُرْآنِ - وَهَذَا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَبِهَذَا الحَدِيْثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُوْنَ} -، وَالآخَرَ أَنَّهُم نَسَبُوا المَطَرَ إِلَى الأَنْوَاءِ، فَكَانَ تَكْذِيْبًا بِالدِّيْنِ؛ أَيْ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: (مَا مُطِرَ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا أَصْبَحَ بَعْضُهُم كَافِرًا، يَقُوْلُوْنَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذا وَكَذا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَتَجْعَلُوْنَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُوْنَ}). (¬3) وَهَذَا الوَجْهُ هُوَ المَقْصُوْدُ فِي البَابِ. - (القُرْآنُ الكَرِيْمُ)، الكَرِيْمُ فِيْهِ مَعْنَيَانِ: 1) الحَسَنُ البَهِيُّ: وَهَذَا كَمَالٌ فِي ذَاتِهِ. (¬4) 2) الكَثِيْرُ العَطَاءِ: وَهَذَا كَمَالٌ فِي العَطَاءِ. - قَوْلُهُ {فِي كِتَابٍ مَكْنُوْنٍ} (¬5): اخْتَلَفَ المُفَسِّرُوْنَ فِي هَذَا الكِتَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الأَوَّلُ) أَنَّهُ اللَّوْحُ المَحْفُوْظُ الَّذِيْ كَتَبَ اللهُ فِيْهِ كُلَّ شَيْءٍ. الثَّانِي) أَنَّهُ الصُّحُفُ الَّتِيْ فِي أَيْدِي المَلَائِكَةِ. ¬

_ (¬1) قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ (ص324) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَذَلِكَ أَنَّ القَائِلَ لِذَلِكَ نَسَبَ مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى - الَّذِيْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ - إِلَى خَلْقٍ مُسَخَّرٍ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا قُدْرَةَ لهُ عَلَى شَيْءٍ؛ فَيَكُوْنُ ذَلِكَ شِرْكًا أَصْغَرًا. وَاللهُ أَعْلَمُ). وَقَالَ أَيْضًا (ص326): (إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ لِلنَّوْءِ تَأْثِيْرًا فِي إِنْزَالِ المَطَرِ فَهَذَا كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي الرُّبُوْبِيَّةِ، وَالمُشْرِكُ كَافِرٌ. وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ نِعْمَةَ اللهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ النَّوءَ سَبَبًا لِإِنْزَالِ المَطَرِ فِيْهِ، وَإِنِّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ يَحْبِسُهُ إِذَا شَاءَ وَيُنْزِلُهُ إِذَا شَاءَ). وَقَالَ أَيْضًا (ص326): (وَدَلَّ هَذَا الحَدِيْثُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوْزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضِيْفَ أَفْعَالَ اللهِ إِلَى غَيْرِهِ - وَلَوْ عَلَى سَبِيْلِ المَجَازِ -). (¬2) وَقَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (153/ 23): (وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ مِنْ لُغَةِ أَزْدِ شَنْوْءَةَ: مَا رَزَقَ فُلَانٌ بِمَعْنَى: مَا شَكَرَ فُلَانٌ). قُلْتُ: وَ (الهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ): مُؤَرِّخٌ، عَالِمٌ بِالأَدَبِ وَالنَّسَبِ، (ت 207هـ). (¬3) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيْرٍ فِي التَّفْسِيْرِ (154/ 23)، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْر رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (546/ 7): (إِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ). (¬4) وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيْثِ إِرْسَالِ مُعَاذٍ إِلَى اليَمَنِ: (إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِم)، وَقَدْ سَبَقَ. (¬5) المَكْنُوْنُ: المَحْفُوْظُ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلْ يَصِحُّ قَوْلُ: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا، أَوْ بِسَعْدِ السُّعُوْدِ - عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتٌ لِذَلِكَ -؟ الجَوَابُ: مِنْ جِهَةِ المَعْنَى: يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ البَاءَ هِيَ ظَرْفِيَّةٌ؛ وَلَيْسَتْ سَبَبيَّةً، فَيَكُوْنُ المَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْتِ ظُهُوْرِ نَوْءِ كَذَا، أَوْ مُطِرْنَا فِي وَقْتِ دُخُوْلِ سَعْدِ السُّعُوْدِ. وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ الاسْتِعْمَالِ: يُخْشَى عِنْدَ اسْتِعْمَالِهَا أَنْ تُفهمَ عَلَى غَيْرِ هَذَا المُرَادِ، خَاصَّةً وَقَدْ شَاعَ اسْتِخْدَامُهَا عِنْدَ العَرَبِ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ بِالمَعْنَى الفَاسِدِ، لِذَلِكَ فَالأَوْلَى تَرْكُهَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذّرَائِعِ، وَالاسْتِعَاضَةُ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الصَّرِيْحِ - فِي وَقْتِ - الدَّالِ عَلَى الظَّرْفيَّةِ بِشَكْلٍ أَصْرَحَ. (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬2): (وَأَعْلَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي الأُمِّ: (مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا - عَلَى مَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الشِّرْكِ يَعْنُوْنَ مِنْ إِضَافَةِ المَطَرِ إِلَى أَنَّهُ مَطَرُ نَوْءِ كَذَا - فَذَلِكَ كُفْرٌ كَمَا قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النَّوْءَ وَقْتٌ؛ وَالوَقْتَ مَخْلُوْقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ شَيْئًا، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا - عَلَى مَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْتِ كَذَا - فَلَا يَكُوْنُ كُفْرًا، وَغَيْرُهُ مِنَ الكَلَامِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ) يَعْنِي حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِطْلَاقُ الحَدِيْثِ (أَي حَدِيْثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ)). (¬3) ¬

_ (¬1) هَذَا وَإِنْ كُنَّا نَنْهَى عَنِ اسْتِخْدَامِ اللَّفْظِ المُشْتَبِهِ، فَلَسْنَا نَغْفَلُ عَنِ التَّنْبِيْهِ دَوْمًا إِلَى كَوْنِ ذَلِكَ تَقْدِيْرًا وَنِعْمَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَضَرُوْرَةِ التَّذْكِيْرِ بِذَلِكَ أَمَامَ العَامَّةِ. (¬2) فَتْحُ البَارِي (215/ 10). (¬3) وَفِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالآثَارِ (7227) لِلبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ - يَوْمَ جُمُعَةٍ؛ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ -: كَمْ بَقِيَ مِنْ نَوْءِ الثُّرَيَّا؟ فَقَامَ العَبَّاسُ؛ فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا العَوَّاءَ، فَدَعَا وَدَعَا النَّاسُ حَتَّى نَزَلَ عَنِ المِنْبَرِ، فَمُطِرَ مَطَرًا أُحْيَا النَّاسُ مِنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَذَا يُبَيِّنُ مَا وَصَفْتُ؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ: كَمْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الثُّرَيَّا؟ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَ الأَمْطَارَ فِي أَوْقَاتٍ - فِيْمَا جَرَّبُوا - كَمَا عَلِمُوا أَنَّهُ قَدَّرَ الحَرَّ وَالبَرْدَ - فِيْمَا جَرَّبُوا - فِي أَوْقَاتٍ).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) هَلْ يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ يُجِيْبُ عَنْ أَمْرٍ مِنَ الأُمُوْرِ الكَوْنِيَّةِ (غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ) بِقَوْلِهِ (اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ)؟ الجَوَابُ: لَا يَصِحُّ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: 1) وَفَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقِطَاعُهُ عَنْ عِلْمِ الدُّنْيَا. (¬1) 2) أَنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ - مِنْ جِهَةِ العِلْمِ - عَنْ سَائِرِ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِ أَصْلًا هُوَ عِلْمُ الشَّرِيْعَةِ وَلَيْسَ أُمُوْرُ الدُّنْيَا. (¬2) ¬

_ (¬1) وَفِي الحَدِيْثِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثوا بَعْدَكَ) رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6586)، وَمُسْلِمٌ (247). وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ عَيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيْدًا مَا دُمْتُ فِيْهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيْبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} (المَائِدَة:117). (¬2) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2363): بَابُ وُجُوْبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا دُوْنَ مَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيْلِ الرَّأْي - عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا - وَفِيْهِ: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا (2361) عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوْسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: (مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟) فَقَالُوا: يُلَقِّحُوْنَهُ، يَجْعَلُوْنَ الذَّكَرَ فِي الأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا!)، قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: (إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوْهُ؛ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُوْنِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) فِي حَدِيْثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ؛ لِمَاذَا لَمْ يُحْمَلِ الكُفْرُ فِيْهِ عَلَى الكُفْرِ الأَكْبَرِ؟ الجَوَابُ: لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الأَكْبَرِ لِأُمُوْرٍ: 1) أَنَّهُم لَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ أَنَّ النَّوْءَ خَالِقٌ لِلمَطَرِ، وَإِنَّمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُوْلِهِ، فَهُم لَمْ يُشْرِكُوا فِي الرُّبُوْبِيَّةِ، وَأَيْضًا هُم لَمْ يَسْتَغِيْثُوا بِهِ لِإِنْزَالِ المَطَرِ, فَهُم لَمْ يُشْرِكُوا فِي الأُلُوْهِيَّةِ أَيْضًا، وَالعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا لَمْ تَكُنْ تَنْسِبُ المَطَرَ إِلَى النُّجُوْمِ عَلَى أَنَّهَا خَالِقَةٌ مُنَزِّلَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُوْلُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:63). 2) حَدِيْثُ البَابِ (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي) قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُم مَا زَالُوا فِي أُمَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 3) أَنَّ الكُفْرَ هُنَا هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ كُفْرٌ أَصْغَرٌ. وَدَلَّ لِذَلِكَ بَعْضُ أَلْفَاظِ الحَدِيْثِ. (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬2): (وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ المُرَادُ بِهِ كُفْرَ النِّعْمَةِ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ سُفْيَانَ (فَأَمَّا مَنْ حَمِدَنِي عَلى سُقيَايَ وَأثْنى عَلَيَّ فَذَلِكَ آمَنَ بِي)، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَالإِسْمَاعِيلِيِّ نَحْوُهُ؛ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: (وَكَفَرَ بِي أَوْ قَالَ: كَفَرَ نِعْمَتِيَ)، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ (قَالَ اللهُ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيْقٌ مِنْهُمْ كَافِرِيْنَ بِهَا) (¬3)، وَلَهُ فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ)). (¬4) قُلْتُ: وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّ الكُفْرَ كَانَ بِالنِّعْمَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ (كَافِرِيْنَ بِهَا). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. 4) أَنَّهُم لَمْ يَرْتَدُّوا بِذَلِكَ، فَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّيْنَ لَأَمَرَهُم بِالشَّهَادَتَيْنِ. ¬

_ (¬1) وَمِنْ أَمْثِلَةِ كُفْرِ النِّعْمَةِ مَا فِي البُخَارِيِّ (29) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُرِيْتُ النَّارَ؛ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ؛ يَكْفُرْنَ)، قِيْلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيْرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ؛ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا؛ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)، فَالكُفْرُ فِي هَذَا الحَدِيْثِ هُوَ كُفْرٌ لِلنِّعْمَةِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ المَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا. (¬2) فَتْحُ البَارِي (523/ 2). (¬3) مُسْلِمٌ (72) مَرْفُوْعًا. (¬4) مُسْلِمٌ (73) مَرْفُوْعًا.

باب قول الله تعالى {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} (البقرة:165).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} (البَقَرَة:165). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوْهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيْلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} (التَّوْبَة:24). عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ). أَخْرَجَاهُ. (¬1) وَلَهُمَا عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ؛ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيْمَانِ؛ أَنْ يَكُوْنَ اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُوْدَ فِي الكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ). (¬2) وَفِي رِوَايَةٍ: (لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الإِيْمَانِ حَتَّى) إِلَى آخِرِهِ. (¬3) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللهِ، وَوَالَى فِي اللهِ، وَعَادَى فِي اللهِ، فَإِنَّمَا تُنَالُ وَلَايَةُ اللهِ بِذَلِكَ، وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الإِيْمَانِ - وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ - حَتَّى يَكُوْنَ كَذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ عَامَّةُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيْرٍ. (¬4) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البَقَرَة:166)، قَالَ: (المَوَدَّةُ). (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ (البَقَرَةِ). الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ (بَرَاءَةَ). الثَّالِثَةُ: وُجُوْبُ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالمَالِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ نَفْيَ الإِيْمَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى الخُرُوْجِ مِنَ الإِسْلَامِ. الخَامِسَةُ: أَنَّ لِلْإِيْمَانِ حَلَاوَةٌ قَدْ يَجِدُهَا الإِنْسَانُ وَقَدْ لَا يَجِدُهَا. السَّادِسَةُ: أَعْمَالُ القَلْبِ الأَرْبَعِ الَّتِيْ لَا تُنَالُ وَلَايَةُ اللهِ إِلَّا بِهَا، وَلَا يَجِدُ أَحَدٌ طَعْمَ الإِيْمَانِ إِلَّا بِهَا. السَّابِعَةُ: فَهْمُ الصِّحَابِيِّ لِلْوَاقِعِ؛ أَنَّ عَامَّةَ المُؤَاخَاةِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا. الثَّامِنَةُ: تَفْسِيْرُ {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}. التَّاسِعَةُ: أَنَّ مِنَ المُشْرِكِيْنَ مَنْ يُحِبُّ اللهَ حُبًّا شَدِيْدًا. العَاشِرَةُ: الوَعِيْدُ عَلَى مَنْ كَانَتِ الثَّمَانِيَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ دِيْنِهِ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ نِدًّا تُسَاوِي مَحَبَّتُهُ مَحَبَّةَ اللهِ، فَهُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (14)، وَمُسْلِمٌ (44). (¬2) البُخَارِيُّ (16)، وَمُسْلِمٌ (43). (¬3) البُخَارِيُّ (6041). (¬4) عَزَاهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (125/ 1) - الحَدِيْثُ الثَّانِي - إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ. وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبْيِرِ (417/ 12) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوْفًا، قَالَ الهَيْثَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ) (90/ 1): (وَفِيْهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ - وَالأَكْثَرُ عَلَى ضَعْفِهِ -). وَقَرِيْبٌ مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (215/ 11) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (أَوْثَقُ عُرَى الإِيْمَانِ؛ المُوَالَاةُ فِي اللهِ، وَالمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالحُبُّ فِي اللهِ، وَالبُغْضُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). حَسَنٌ. الصَّحِيْحَةُ (1728). (¬5) رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيْرِهِ (290/ 3).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذِهِ الأَبْوَابُ القَادِمَةُ يَصْلُحُ تَسْمِيَتُهَا بِأَبْوَابِ العِبَادَاتِ القَلْبِيَّةِ، وَهَذِهِ العِبَادَاتُ عَلَى دَرَجَاتٍ، وَتَارِكُهَا وَاقِعٌ بَيْنَ تَرْكٍ لِأَصْلِ التَّوْحِيْدِ وَبَيْنَ تَرْكٍ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ. - المَحَبَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ: القِسْمُ الأَوَّلُ) مَحَبَّةٌ خَاصَّةٌ: وَهِيَ مَحَبَّةُ العُبُوْدِيَّةِ. وَهِيَ الَّتِيْ تُوْجِبُ التَذَلُّلَ وَالتَّعْظِيْمَ - وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِاللهِ تَعَالَى - فمَنْ أَحَبَّ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ مَحَبَّةَ عِبَادَةٍ، فَهُوَ مُشْرِكٌ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ، وَهَذِهِ المَحَبَّةُ مُنَافِيَةٌ لِأَصْلِ التَّوْحِيْدِ. (¬1) القِسْمُ الثَّانِي) مَحَبَّةٌ عَامَّةٌ: وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَبَّةِ عُبُوديَّةٍ. وَهِيَ أَنْوَاعٌ: 1) مَحَبَّةٌ للهِ وَفِي اللهِ، كَمَحَبَّةِ الرُّسُلِ وَالصَّالِحِيْنَ وَ .... ، أَوْ أَعْمَالٍ كَالصَّلَاَةِ وَالزَّكَاةِ وَ .... وَهَذَا النَّوعُ مِنَ المَحَبَّةِ سَبَبُهُ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى؛ وَحَتَّى مَحَبَّةُ الرَّسُوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ، وَتُبْنَى عَلَى هَذِهِ المَحَبَّةِ الطَّاعَةُ، فمَنْ أَحَبَّ طَاعَةَ غَيْرِ اللهِ كَمَحَبَّةِ طَاعَةِ اللهِ أَوْ أَكْثَرَ؛ فَهُوَ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَتُوْبَ مِنْ ذَلِكَ وَيَرْجِعَ إِلَى تَكْمِيْلِ المَحَبَّةِ الوَاجِبَةِ، وَإِنَّ جَمِيْعَ المَعَاصِي تَنْشَأُ عَنْ تَقْدِيْمِ هَوَى النَّفْسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ. (¬2) (¬3) 2) مَحَبَّةُ إِشْفَاقٍ وَرَحْمَةٍ، وَذَلِكَ كَمَحَبَّةِ الأَوْلَادِ وَالصِّغَارِ وَالضُّعَفَاءِ وَالمَرْضَى. 3) مَحَبَّةُ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيْمٍ وَتَوْقِيْرٍ، كَمَحَبَّةِ الإِنْسَانِ لِوَالِدِهِ وَلِمُعَلِّمِهِ. 4) مَحَبَّةُ طَبِيْعِيَّةٌ، كَمَحَبَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالمَلْبَسِ وَالمَرْكَبِ وَالمَسْكَنِ. وَأَشْرَفُ هَذِهِ الأَنْوَاعِ النَّوْعُ الأَوَّلُ، وَالبَقِيَّةُ هُم مِنْ قِسْمِ المُبَاحِ؛ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا مَا يَقْتَضِي التَّعَبُّدَ فَتَصِيْرُ عِبَادَةً، فَالإِنْسَانُ يُحِبُّ وَالِدَهُ مَحَبَّةَ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيْمٍ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا نِيَّةُ بِرِّ الوَالِدَيْنِ صَارَتْ عِبَادَةً، وَكَذَلِكَ المَحَبَّةُ الطَّبِيْعِيَّةُ - كَالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالمَلْبَسِ وَالمَسْكَنِ - إِذَا قَصَدَ بِهَا الاسْتِعَانَةَ عَلَى عِبَادَةٍ صَارَتْ عِبَادَةً. وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى مَا نَوَى المُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ شَهَوَاتِهِ المُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ؛ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُوْمُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي مِنَ النَّوْمِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللهُ لِي؛ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي) (¬4)؛ يَعْنِي أَنَّهُ يَنْوِي بِنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى القِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَوْمِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ. (¬5) - قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ}: نَزَلَتْ فِيْمَنْ رَضِيَ بِالمُكْثِ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ - مَحَبَّةً لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ وَإِيْثَارًا لَهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ -. ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلْ إِيْرَادَ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ لِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ مَعَ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ الَّذِيْ فِي الشِّركِ، فَفِي كِتَابِ التَّفْسِيْرِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (4497) - بَابُ قَوْلِهِ {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} (البَقَرَة:165) - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ قَالَ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُوْ مِنْ دُوْنِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ)، وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ وَهْوَ لَا يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الجَنَّةَ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (397/ 2) - شَرْحُ حَدِيْثِ رَقَم (41) -: (فَجَمِيْعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ هَوَى النُّفُوْسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِيْنَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} (القَصَص:64). وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي؛ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ). (¬3) فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص189) - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيْظًا، وَيَقُوْلُوْنَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِيْ تَقُوْلُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيْلًا} (النِّسَاء:81) -: (أَيْ: كُلُّ مَنْ أَطَاعَ رَسُوْلَ اللهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيْهِ {فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} تَعَالَى لِكَوْنِهِ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ وَشَرْعِهِ وَوَحْيِهِ وَتَنْزِيْلِهِ، وَفِي هَذَا عِصْمَةُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ مُطْلَقًا، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَعْصُوْمٌ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ لَمْ يَأْمُرْ بِطَاعَتِهِ مُطْلَقًا وَيَمْدَحْ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا مِنَ الحُقُوْقِ المُشْتَرَكَةِ، فَإنَّ الحُقُوْقَ ثَلَاثَةٌ: حَقٌّ للهِ تَعَالَى لَا يَكُوْنُ لِأَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْهِ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ. وَقِسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّسُوْلِ، وَهُوَ التَّعْزِيْرُ وَالتَّوْقِيْرُ وَالنُّصْرَةُ. وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ الإِيْمَانُ بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ وَمَحَبَّتِهِمَا وَطَاعَتِهِمَا، كَمَا جَمَعَ اللهُ بَيْنَ هَذِهِ الحُقُوْقِ فِي قَوْلِهِ {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيْلًا} (الفَتْح:9)). (¬4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4341) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ. (¬5) قَالَ سَعِيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ: (مَتَاعُ الغُرُوْرِ: مَا يُلْهِيْكَ عَنْ طَلَبِ الآخِرَةِ، وَمَا لَمْ يُلْهِكَ فَلَيْسَ بِمَتَاعِ الغُرُوْرِ، وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ بَلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ). تَفْسِيْرُ البَغَوِيِّ (39/ 8).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}: تَهْدِيْدٌ وَوَعِيْدٌ وَذَمٌّ لِمَنْ قَدَّمَ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى؛ فَكَيْفَ بِمَنْ قَدَّمَ أَحَدَهَا فَقَط. وَفِيْهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ لَا يَكُوْنُ كَافِرًا خَارِجًا مِنَ المِلَّةِ كَحَالِ أَصْحَابِ القِسْمِ الأَوَّلِ (أَصْحَابِ مَحَبَّةِ العُبوْدِيَّةِ)، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيْثُ البُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا؛ وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ). فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ - وَاللَّهِ - لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الآنَ يَا عُمَرُ)). (¬1) (¬2) - قَوْلُهُ (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ): فِيْهِ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَدْ فَاتَهُ الكَمَالُ الوَاجِبُ - الَّذِيْ يَأْثَمُ تَارِكُهُ -. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الكَمَالِ المُسْتَحَبِّ - الَّذِيْ مَنْ فَاتَهُ؛ فَإِنَّه لَا يَأْثَمُ صَاحِبُهُ -، وَإِنَّ جَمِيْعَ المَعَاصِي نَاشِئَةٌ عَنْ تَقْدِيْمِ هَوَى النَّفْسِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬3) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ (¬4): (فَمَنْ قَالَ: إنَّ المَنْفِيَّ هُوَ الكَمَالُ؛ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الكَمَالِ الوَاجِبِ - الَّذِيْ يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوْبَةِ -؛ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الكَمَالِ المُسْتَحَبِّ؛ فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يَقَعَ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيْئًا؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلَهُ لَا حَقِيْقَةً وَلَا مَجَازًا). (¬5) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6632). (¬2) وَلَا يَخْفَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ بِإِسْلَامٍ صَحِيْحٍ قَبِلَهُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلَى حَالٍ فَاتَهُ فِيْهِ الكَمَالُ الوَاجِبُ، فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الآنَ يَا عُمَرُ). وَتَأَمَّلْ أَيْضًا حَدِيْثَ أَنَسٍ فِي هَذَا البَابِ حَيْثُ جُعِلَ مَنْ أَتَى بِالثَّلَاثِ المَذْكُوْرَةِ وَاجِدًا لِحَلَاوَةِ الإِيْمَانِ؛ وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الإِيْمَانِ. وَقَرِيْبٌ مِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ المُسْلِمِيْنَ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ قِيْلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيْمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيْقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيْبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيْلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُوْنَ فَتِيْلًا} (النِّسَاء:77)، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا فَرِيْقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وَلَمْ يَكُوْنُوا فِي تِلْكَ الحَالِ كُفَّارًا بَلْ كَانُوا مُسْلِمِيْنَ قَدْ فَاتَهُمُ الكَمَالُ الوَاجِبُ. وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي البَابِ التَّالِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬3) كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي الجَامِعِ. (¬4) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (15/ 7). (¬5) وَفِي البُخَارِيِّ (13) وَمُسْلِمِ (45) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوْعًا (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (302) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ رَقَم (13) -: (فَإِنَّ الإِيْمَانَ كَثِيْرًا مَا يُنْفَى لِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِهِ وَوَاجِبَاتِهِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَزْنِي الزَّانِي - حِيْنَ يَزْنِي - وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلِهِ (وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ الَّذِيْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بِوَائِقَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَقَالَ ابْنُ دَقِيْقٍ العِيْد رَحِمَهُ اللهُ - عِنْدَ شَرْحِ نَفْسِ الحَدِيْثِ أَيْضًا مِنَ الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ - (ص63): (قَالَ العُلَمَاءُ: يَعْنِي لَا يُؤْمِنُ - مِنَ الإِيْمَانِ التَّامِّ -، وَإلَّا فَأَصْلُ الإِيْمَانِ يَحْصَلُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ).

- حَدِيْثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيْهِ جَوَامِعٌ مِنَ الكَلِمِ: لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الأَلْفَاظُ اليَسِيْرَةُ مَعَانِيَ كَثِيْرْةً، فَأَقْسَامُ المَحَبَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ ثَلَاثَةٌ: مَحَبَّةُ إِجْلَالٍ وَعَظَمَةٍ كَمَحَبَّةِ الوَالِدِ، وَمَحَبَّةُ شَفَقَةٍ وَرَحْمَةٍ كَمَحَبَّةِ الوَلَدِ، وَمَحبَّةُ اسْتِحْسَانٍ وَمُشاكَلَةٍ كَمَحَبَّةِ النَّاسِ. فذَكَرَ الحَدِيْثُ أَصْنَافَ المَحَبَّةِ جَمِيْعِهَا. (¬1) وَأَيْضًا قَوْلُهُ (حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ) فِيْهِ ذِكْرُ المَحَبَّةِ فِي اللهِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. - قَوْلُهُ (وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيْمَانِ): قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ العُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللهُ: مَعْنَى حَلَاوَةِ الإِيْمَانِ: اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ، وَتَحَمُّلُ المَشَقَّاتِ فِي رِضَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى عَرَضِ الدُّنْيَا، وَمَحَبَّةُ العَبْدِ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬2) - قَوْلُهُ (فَإِنَّمَا تُنَالُ وَلَايَةُ اللهِ بِذَلِكَ): الولَايَةُ - بِفَتْحِ الوَاوِ-: المَحَبَّةُ وَالنُّصْرَةُ، وَبِالكَسْرِ: المُلْكُ وَالإِمَارَةُ. وَوَلَايَةُ اللهِ نَوْعَانِ: 1) عَامَّةٌ: وَهِيَ الشَّامِلَةُ لِكُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُوْنَ} (يُوْنُس:30)، فَجَعَلَ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَلَايَةً عَلَى هَؤُلَاءِ المُفْتَرِيْنَ، فَهَذِهِ وَلَايَةٌ عَامَّةٌ، فَاللهُ هُوَ الَّذِيْ يَتَوَلَّى عِبَادَهُ بِالتَّدْبِيْرِ وَالتَّصْرِيْفِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. 2) خَاصَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَتَوَلَّى اللهُ العَبْدَ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيْقِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَهَذِهِ لِلمُؤْمِنِيْنَ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِيْنَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِيْنَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (مُحَمَّد:11)، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ المَقْصُوْدُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِيْنَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِيْنَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البَقَرَة:166): الأَسْبَابُ: أَي الوَسَائِلُ الَّتِيْ اتَّخَذَهَا المُشْرِكوْنَ لِنَيلِ شَفَاعَةِ وَنَصْرِ مَعْبُوْدِهِم وَآلِهَتِهِم عِنْدَ اللهِ. وَمِنْ هذهِ الوَسَائِلِ: المَوَدَّةُ وَالذَّبْحُ وَالدُّعَاءُ وَالتَّبَرُّكُ وَ ... ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِيْنَ) (العَنْكَبُوْت:25). ¬

_ (¬1) قَالَهُ ابْنُ دَقِيْقٍ العَيْد رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ (حَدِيْث 41) (ص136). (¬2) شَرْحُ مُسْلِمٍ (13/ 2).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) لِمَاذَا حُمِلَ قَوْلُهُ (لَا يُؤْمِنُ) عَلَى نَفْي الكَمَالِ، رُغْمَ أَنَّ هُنَاكَ مَحَامِلَ أُخَرَ تَقْبَلُهَا اللُّغَةُ، وَهِيَ نَفْيُ الوُجُوْدِ وَنَفْيُ الصِّحَّةِ؟ الجَوَابُ: أَنَّ الأَصْلَ - مِنْ جِهَةِ لِسَانِ العَرَبِ - هُوَ الحَمْلُ عَلَى نَفْي الوُجُوْدِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمِ المَعْنَى حُمِلَ عَلَى نَفْي الصِّحَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمِ المَعْنَى حُمِلَ عَلَى نَفْي الكَمَالِ. فَهُنَا الإِيْمَانُ الَّذِيْ هُوَ التَّصْدِيْقُ لُغَةً مَوْجُوْدٌ، وَهُوَ أَيْضًا صَحِيْحٌ غَيْرُ مَرْدُوْدٍ - وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ صِحَّتِهِ وَقَبُوْلِهِ -، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الأَخِيْرُ؛ وَهُوَ الحَمْلُ عَلَى نَفْي الكَمَالِ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوَاعِدُ الفِقْهِيَّةُ) (¬1): (وَالنَّفْيُ لِلوُجُوْدِ ثُمَّ الصِّحَّةِ ... ثُمَّ الكَمَالِ فَارْعَيَنَّ الرُّتْبَةَ). (¬2) ¬

_ (¬1) القَوَاعِدُ الفِقْهِيَّةُ (ص11). (¬2) وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الشَّرْحُ المُمْتِعُ عَلَى زَادِ المُسْتَقْنِع) (158/ 1): ((النَّفْيُ يَكُوْنُ أَوَّلًا لِنَفْي الوُجُوْدِ، ثُمَّ لِنَفْي الصِّحَةِ، ثُمَّ لِنَفْي الكَمَالِ). فَإِذَا جَاءَ نَصٌّ فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فِيْهِ نَفْيٌ لِشَيْءٍ؛ فَالأَصْلُ أَنَّ هَذَا النَّفيَ هُوَ لِنَفْي وُجُوْدِ ذَلِكَ الشَيْءِ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُوْدًا فَهُوَ نَفْيُ الصِّحَّةِ - وَنَفْيُ الصِّحَّةِ نَفْيٌ لِلوُجُوْدِ الشَّرْعِيِّ -، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ بِأَنْ صَحَّتِ العِبَادَةُ مَعَ وُجُوْدِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ صَارَ النَّفْيُ لِنَفْي الكَمَالِ لَا لِنَفْي الصِّحَّةِ). مِثَالُ نَفْي الوُجُوْدِ: (لَا خَالِقَ لِلكَوْنِ إِلَّا اللهُ). مِثَالُ نَفْي الصِّحَةِ: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأمِّ الكِتَابِ). مِثَالُ نَفْي الكَمَالِ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).

باب قول الله تعالى {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوْهُمْ وَخَافُوْنِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (آل عِمْرَان:175) وَقَوْلِهِ {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُوْنُوا مِنَ المُهْتَدِيْنَ} (التَّوْبَة:18). وَقَوْلِهِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوْذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} (العَنْكَبُوْت:10). عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا (إِنَّ مِنْ ضَعْفِ اليَقِيْنِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيْصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ). (¬1) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنِ التَمَسَ رِضَى اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ؛ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَى النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ؛ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ (آلِ عِمْرَانَ). الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ (بَرَاءَةَ). الثَّالِثَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ (العَنْكَبُوْتِ). الرَّابِعَةُ: أَنَّ اليَقِيْنَ يَضْعُفُ وَيَقْوَى. الخَامِسَةُ: عَلَامَةُ ضَعْفِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الثَّلَاثُ. السَّادِسَةُ: أَنَّ إِخْلَاصَ الخَوْفِ لِلَّهِ مِنَ الفَرَائِضِ. السَّابِعَةُ: ذِكْرُ ثَوَابِ مَنْ فَعَلَهُ. الثَّامِنَةُ: ذِكْرُ عِقَابِ مَنْ تَرَكَهُ. ¬

_ (¬1) مَوْضُوْعٌ. أَبُو نُعَيْمٍ فِي الحِلْيَةِ (106/ 5). الضَّعِيْفَةُ (1483). (¬2) صَحِيْحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (226). صَحِيْحُ الجَامِعِ (6097).

الشرح

الشَّرْحُ - الخَوْفُ عِبَادَةٌ لِلقَلْبِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ تَعَالَى، فَهِيَ كَالذُّلِّ وَالمَحَبَّةِ وَالإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ عِبَادَةِ القَلْبِ للهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرَّحْمَن:46)، وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ عَظَمَةِ هَذِهِ العِبَادَةِ فِي الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا (كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيْهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُوْنِي ثُمَّ اطْحَنُوْنِي ثُمَّ ذَرُّوْنِي فِي الرِّيْحِ؛ فَوَ اللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي (¬1) لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِيْ مَا فِيْكِ مِنْهُ؛ فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ). (¬2) (¬3) - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ المُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ أَعْقَبَ بَابَ المَحَبَّةِ بِبَابِ الخَوْفِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ العِبَادَةِ، فَبِالمَحَبَّةِ يَكُوْنُ امْتِثَالُ الأَمْرِ، وَبِالخَوْفِ يَكُوْنُ اجْتِنَابُ النَّهْي. - إِنَّ عِبَادَةَ الخَوْفِ نَاشِئَةٌ فِي قَلْبِ المُسْلِمِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِرُبُوْبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفِهِ وَمُلْكِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَه. (¬4) ¬

_ (¬1) لِلعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَقْوَالٌ: أ- أَنَّهَا مِنَ القُدْرَةِ وَالاسْتِطَاعَةِ، وَهُوَ كَانَ جَاهِلًا بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى إِعَادَتِهِ. ب- أَنَّهَا مِنَ التَّقْدِيْرِ وَالقَضَاءِ، كَأَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: لَئِنْ كَانَ سَبَقَ فِي قَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ ذِيْ جُرْمٍ عَلَى جُرْمِهِ؛ لَيُعَذِبنِّيَ اللهُ عَلَى إِجْرَامِي وَذُنُوْبِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِيْنَ غَيْرِي. جـ- أَنَّهَا مِنَ التَّقْتِيْرِ وَالتَّضْيِيْقِ: كَأَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: لَئِنْ ضَيَّقَ اللهُ عَلَيَّ وَبَالَغَ فِي مُحَاسَبَتِي وَجَزَائِي عَلَى ذُنُوْبِي. اُنْظُرِ الصَّحِيْحَةَ (3048). قُلْتُ: وَطَلَبُ الرَّجُلِ لِحَرْقِهِ وَذَرِّهِ فِي الرِّيْحِ يُوْمِأُ إِلَى أَنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ هُوَ المَقْصُوْدُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬2) البُخَارِيُّ (3481)، وَمُسْلِمٌ (2756). وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (3785) بِلَفْظِ) إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ مِنَ الخَيْرِ شَيْئًا قَطُّ - إِلَّا التَّوْحِيْدَ - فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ لِأَهْلِهِ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَخُذُوْنِي ...). صَحِيْحٌ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَوْقُوْفًا. تَحْقِيْقُ الشَّيْخِ شُعَيْبٍ الأَرْنَؤُوْط. (¬3) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (500/ 12): (وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَكْفِيْرُ المُعَيَّنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ - بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الكُفَّارِ - لَا يَجُوْزُ الإِقْدَامُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُوْمَ عَلَى أَحَدِهِمُ الحُجَّةُ الرِّسَالِيَّةُ الَّتِيْ يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُمْ مُخَالِفُوْنَ لِلرُّسُلِ - وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ المَقَالَةُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا كُفْرٌ -، وَهَكَذَا الكَلَامُ فِي تَكْفِيْرِ جَمِيْعِ المُعَيَّنِيْنَ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ البِدْعَةِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُ المُبْتَدِعَةِ يَكُوْنُ فِيْهِ مِنَ الإِيْمَانِ مَا لَيْسَ فِي بَعْضٍ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِيْنَ - وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ - حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ المَحَجَّةُ، وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِيْنِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُوْلُ إِلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ). (¬4) كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدُهُ تُجَاهَكَ، إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ اسْتَعَنتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، وَاعْلَم أَنَّ الأُمّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنفَعُوْكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوْكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوْكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضَرُّوْكَ إِلَّا بشَيْءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (2803)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2516). صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ (2516).

- الخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى يِنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِلَى مَا هُوَ شِرْكٌ؛ وَإِلى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ؛ وَإِلى مَا هُوَ مُبَاحٌ. 1) الخَوْفُ الشِّرْكِيُّ: وَهُوَ خَوْفُ السِّرِّ (خَوْفُ التَّعْظِيْمِ - خَوْفُ العُبُوْدِيَّةِ) يَعْنِي أَنْ يَخَافَ فِي دَاخِلِهِ مِنْ هَذَا المُخَوَّفِ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُ بِسُوْءٍ، وَهَذَا النَّوعُ مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوْحِيْدِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيْم وَقَوْمِهِ {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّوْنِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُوْنَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُوْنَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُوْنَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الفَرِيْقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} (الأَنْعَام:81). وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ هُوْدٍ وَقَوْمِهِ {قَالُوا يَا هُوْدُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِيْنَ، إِنْ نَقُوْلُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوْءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيْءٌ مِمَّا تُشْرِكُوْنَ، مِنْ دُوْنِهِ فَكِيْدُوْنِي جَمِيْعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُوْنِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ} (هُوْد:56). وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُوْنَكَ بِالَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزُّمَر:36). (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (100/ 7): (وَيُخَوِّفُوْنَكَ بِالَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ - يَعْنِي المُشْرِكِيْنَ - يُخَوِّفُوْنَ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَعَّدُوْنَهُ بِأَصْنَامِهِم وَآلِهَتِهِم الَّتِيْ يَدْعُوْنَهَا مِنْ دوْنِ اللهِ جَهْلًا مِنْهُم وَضَلَالًا؛ ولِهَذَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيْزٍ ذِيْ انْتِقامٍ} أَيْ: مَنِيْعِ الجَنَابِ، لَا يُضَامُ مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى جَنَابِهِ وَلَجَأَ إِلَى بَابِهِ، فَإِنَّهُ العَزِيْزُ الَّذِيْ لَا أَعَزَّ مِنْهُ وَلَا أَشَدَّ انْتِقَامًا مِنْهُ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَأَشْرَكَ وَعَانَدَ رَسُوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

2) الخَوْفُ المُحَرَّمُ (¬1): وَهُوَ أَنْ يَخَافَ مِنْ مَخْلُوْقٍ؛ فَيُطِيْعَهُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، أَوْ يَتْرُكَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ - خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ -، بِحَيْثُ أَنَّهُ إِذَا هَدَّدَهُ إِنْسَانٌ وَأَمَرَهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ فَخَافَهُ - وَهُوَ لَا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يُنْفِذَ مَا هَدَّدَهُ بِهِ - فَهَذَا خَوفٌ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّه يُؤَدِّي إِلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ بِلَا عُذْرٍ (¬2)، وَهَذَا النَّوعُ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ. (¬3) وَفِي الحَدِيْثِ (أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُوْلَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ؛ أَنْ يَقُوْلَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيْمٍ) (¬4)، وَكَمَا فِي وصيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ (وَأَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ). (¬5) ¬

_ (¬1) وَالَّذِيْ قَبْلَهُ أَيْضًا مُحَرَّمٌ - لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ - وَلَكنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، كَمَا فِي تَفْرِيْقِ أَهْلِ العِلْمِ فِي الذُّنُوْبِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالكَبِيْرَةِ وَالمَعْصِيَةِ؛ رُغمَ أَنَّهَا كُلَّهَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ المَعَاصِي، وَلَكِنَّهُم يَعْنُوْنَ بِالأَخِيْرِ عُمُوْمَ المَعَاصِي مِنَ الصَّغَائِرِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (53/ 13): (قَالَ الطَّبَرِيُّ: (اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيْثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَفَعَهُ (أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)، وَبِعُمُوْمِ قَوْلِهِ (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) الحَدِيْثَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ المُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ المُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُوْنَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ لِحَدِيْثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوْعًا (يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ) الحَدِيْث). قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ المَذْكُوْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيْثُ (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ (يَتَعَرَّضَ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيْقُ)). انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجِبُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوْفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا). قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيْثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فَهُوَ صَحِيْحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4344). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4344). وَأَمَّا حَدِيْثُ (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (49) عَنْ أَبي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا. وَأمَّا حَدِيْثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1854) أَيْضًا. وَأمَّا حَدِيْثُ (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) فَهُوَ صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (613). (¬3) فَمَنْ خَشِيَ أَحَدًا أَكْثَرَ مِنْ خَشْيَتِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى - لَيْسَ خَوْفَ العُبُوْدِيَّةِ - فَهُوَ الخَوْفُ المُحَرَّمُ، وَهُوَ كَمَنْ أَحَبَّ غَيْرَ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ - وَلَكِنْ أَيْضًا لَيْسَ مَحَبَّةَ العُبُوْديَّةِ -. قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (547/ 8) عِنْدَ تَأْوِيْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ قِيْلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيْمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيْقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيْبٍ} (النِّسَاء:77): (ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوْهُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الجِهَادُ - وَقَدْ فُرِضَ عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ - وَكَانُوا يَسْأَلُوْنَ اللهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ القِتَالَ، فَلَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ شَقَّ عَلَيْهِم ذَلِكَ وَقَالُوا مَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُم فِي كِتَابِهِ). (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (11474) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (168). (¬5) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (21415). الصَّحِيْحَةُ (2166). وَتَمَامُهُ (أَمَرَنِي خَلِيْلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ؛ أَمَرَنِي بِحُبِّ المَسَاكِيْنَ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُوْنِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُوْلَ بِالحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْت العَرْشِ).

3) الخَوْفُ الطَّبِيْعِيُّ: وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيْعِيٌّ؛ كَالخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ, أَوْ نَارٍ، أَوْ مُؤْذٍ وَمُهْلِكٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ وَالجُبْنِ وَالبُخْلِ وَالهَرَمِ. (¬1) وَهَذَا النَّوعُ مُبَاحٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ إِلَّا إِنْ أَدَّى إِلَى مَحْظُوْرٍ شَرْعيٍّ. - يُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ الأُوْلَى فِي المَتْنِ أَنَّ الخَوْفَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ مُنَافٍ لِلإِيْمَانِ، فَإِنْ كَانَ الخَوْفُ يُؤَدِّي إِلَى الشِّرْكِ؛ فَهُوَ مُنَافٍ لِأَصْلِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُنَافٍ لِكَمَالِهِ. - الخَوْفُ مِنَ اللهِ تَعَالَى دَرَجَاتٌ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْلُو فِي خَوْفِهِ؛ فَيَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ؛ فَلَا يَسْتَغْفِرْهُ وَلَا يَنْتَهِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ! وَمِنْهُم مَنْ يُفرِّطُ فِيْهِ؛ فَلَا يَأْبَهُ بِعَذَابِ رَبِّهِ؛ فَلَا يَنْتَهِي أَيْضًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَمِنْهُم مَنْ يَعْتَدِلُ فِي خَوْفِهِ - وَهَذَا هُوَ الخَوْفُ العَدْلُ - وَضَابِطُهُ أَنَّهُ يَرُدُّ العَبْدَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ فَقَطْ وَلَا يُقَنِّطُهُ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: (وَالقَدْرُ الوَاجِبُ مِنَ الخَوْفِ؛ مَا حَمَلَ عَلَى أَدَاءِ الفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ المَحَارِمِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ صَارَ بَاعِثًا لِلنُّفُوْسِ عَلَى التَّشْمِيْرِ فِي نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ وَالانْكِفَافِ عَنْ دَقَائِقِ المَكْرُوْهَاتِ وَالتَّبَسُّطِ فِي فُضُوْلِ المُبَاحَاتِ؛ كَانَ ذَلِكَ فَضْلًا مَحْمُوْدًا، فَإِنْ تَزَايَدَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَوْرَثَ مَرَضًا أَوْ مَوْتًا أَوْ هَمًّا لَازِمًا بِحَيْثُ يَقْطَعُ عَنِ السَّعْي فِي اكْتِسَابِ الفَضَائِلِ المَطْلُوْيَةِ المَحْبُوْبَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لَمْ يَكُنْ مَحْمُوْدًا). (¬3) - فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ الإِيْمَانِ بِهِ وَبَيْنَ الإِيْمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ - وَكَثِيْرًا مَا يَقْرِنُ اللهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا - وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الإِيْمَانَ بِاليَوْمِ الآخِرِ يَحْمِلُ الإِنْسَانَ عَلَى الامْتِثَالِ، فَإِنَّهُ إِذَا آمَنَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْثًا وَجَزَاءً؛ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى العَمَلِ لِذَلِكَ اليَوْمِ. ¬

_ (¬1) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (6367)، وَمُسْلِمٍ (2706) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ وَالجُبْنِ وَالهَرَمِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَات). (¬2) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (67/ 2). قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص157): ({إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوْهُمْ وَخَافُوْنِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (آل عِمْرَان:175) وَفِي هَذِهِ الآيَةِ وُجُوْبُ الخَوْفِ مِنَ اللهِ وَحْدَهَ، وَأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الإِيْمَانِ، فَعَلَى قَدْرِ إِيْمَانِ العَبْدِ يَكُوْنُ خَوْفُهُ مِنَ اللهِ، وَالخَوْفُ المَحْمُوْدُ مَا حَجَزَ العَبْدَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ). (¬3) التَّخْوِيْفُ مِنَ النَّارِ وَالتَّعْرِيْفُ بِحَالِ دَارِ البَوَارِ (ص 28).

- قَوْلُهُ (وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ): هَذَا الذَّمُّ لَا يَعْنِي تَرْكَ شُكْرِ النَّاسِ عَلَى مَا أَسْدَوْهُ مِنْ مَعْرُوْفٍ، وَذَلِكَ لِحَدِيْثِ (لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ) (¬1)، وَإِنَّمَا المَعْنَى النَّهْيُ عَنِ التَّعَلُّقِ بِهِم فِي ذَلِكَ، وَالغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تَعَالَى الَّذِيْ هُوَ مُسَبِّبُ تِلْكَ النِّعْمَةِ حَقِيْقَةً. - فِي حَدِيْثِ أَبِي سَعِيْدٍ إِثْبَاتُ صِفَتَيِّ الرِّضَى وَالسَّخَطِ للهِ تَعَالَى - خِلَافًا لِلمُعَطِّلَةِ - وَذَلِكَ لِزَعْمِهِم أَنَّ الغَضَبَ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لِطَلَبِ الانْتِقَامِ؛ وَأَنَّ هَذَا لَا يَلِيْقُ بِاللهِ تَعَالَى! وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهم شَبَّهُوا - فِي أَذْهَانِهِم -سَخَطَ اللهِ أَوْ غَضَبَهُ بِغَضَبِ المَخْلُوْقِ؛ وَاللهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَكَذَلِكَ غَضَبُهُ يَلِيْقُ بِهِ. وَالعَجَبُ مِنَ المُعَطِّلَةِ أَنَّهُم أَثْبَتوا بَعْضَ الصِّفَاتِ كَالإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ - وَلَمْ يَجْعَلُوْهَا دَالَّةً عَلَى التَّمْثِيْلِ بِالمَخْلُوْقِ! - مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا يُقَالُ لَهُم: الإِرَادَةُ - وَهِيَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ- إِنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَلِيْقُ بِهِ ذَلِكَ!! - مُجَارَاةً لَهُم عَلَى قَاعِدَتِهِم -، فَإِذَا قَالُوا: هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوْقِ! نَقُوْلُ: وَالغَضَبُ الَّذِيْ ذَكَرْتُمُوْهُ هُوَ غَضَبُ المَخْلُوْقِ أَيْضًا. وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيْلَاتِ جِنَايَةٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ ظَوَاهِرَ نُصُوْصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِغَيْرِ هُدَىً مِنَ اللهِ تَعَالَى وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هِيَ تَتَضَمَّنُ طَعْنًا فِي الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، لِأَنَّنَا نَقُوْلُ: هَذِهِ المَعَانِي الَّتِيْ صَرَفْتُم النُّصُوْصُ إِلَيْهَا؛ هَلِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُوْنَ يَعْلَمُوْنَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا يَعْلَمُوْنَ، فَقَدْ اتَّهَمُوْهُم بِالقُصُوْرِ فِي الفَهْمِ، وَإِنْ قَالُوا: يَعْلَمُوْنَهَا وَلَمْ يُبَيِّنُوْهَا لَنَا؛ فَقَدِ اتَّهَمُوْهُم بِالتَّقْصِيْرِ فِي التَّأْدِيَةِ، وَكِلَاهُمَا شَنِيْعٌ. (¬2) - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَعَسَى}: (عَسَى) لُغَةً حَرْفُ تَرَجٍّ، وَلَكِنَّهَا مِنَ اللهِ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاللهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلِهَذَا يَقُوْلُ العُلَمَاءُ: كُلُّ (عَسَى) مِنَ اللهِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، كَمَا فِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (¬3) - قَوْلُهُ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ آمَنَّا بِاللَّهِ}: هُوَ قَوْلٌ مُجَرَّدٌ لَيْسَ لَهُ حَقِيْقَةٌ فِي قَلْبِهِ، {فَإِذَا أُوْذِيَ فِي اللهِ} أَيْ: إِذَا جَاءَ الامْتِحَانُ - وَكُلُّ المُؤْمِنِيْنَ يُمْتَحَنُوْنَ وَلَا يُتْرَكُوْنَ عَلَى قَوْلِ {آمَنَّا بِاللَّهِ} فَقَطْ - ظَهَرَ الصَّادقُ فِي إِيْمَانِهِ مِنَ الكَاذِبِ، قَالَ تَعَالَى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُوْلُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:2) يَعْنِي: يُخْتَبَرُوْنَ وَيُمْتَحَنُوْنَ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِيْنَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِيْنَ}، فَإِذَا قَالَ: (آمَنْتُ بِاللهِ) فَإِنَّه يُمْتَحَنُ بِأَنْ يُصَابَ بِالأَذَى مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ وَالفُسَّاقِ، فَإِنْ صَبَرَ وَثَبَتَ عَلَى إِيْمَانِهِ وَتَحَمُّلِ الأَذَى فِي سَبِيْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَهَذَا دَلِيْلٌ عَلَى صِدْقِ إِيْمَانِهِ، أمَّا إِنِ انْحَرَفَ وَذَهَبَ مَعَ الفِتْنَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا دَلِيْلٌ عَلَى نِفَاقِهِ. وَهُوَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} - يَعْنِي عَلَى طَرَفٍ - {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِيْنُ} (الحَجّ:11). ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (218) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (416). (¬2) اُنْظُرْ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (82/ 2). وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي أَنَّ الغُلُوَّ فِي قُبُوْرِ الصَّالِحِيْنَ يُصَيِّرُهَا أَوْثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ) ذِكْرُ مَسْأَلَةٍ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الغَضَبِ للهِ تَعَالَى. (¬3) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (168/ 14) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُوْنُوا مِنَ المُهْتَدِيْنَ} (التَّوْبَة:18).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) مَا صِحَّةُ القَوْلِ الَّذِيْ اشْتُهِرَ عَنِ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ - رَابِعَةَ العَدَوِيَّةِ (¬1) - وَهُوَ: (اللَّهُمَّ إِنِّيْ مَا عَبَدْتُكَ خَوْفًا مِنْ نَارِكَ وَلَا طَمَعًا فِي جَنَّتِكَ، وَلَكِنْ لِأَنَّكَ رَبٌّ تَسْتَحِقُ العِبَادَةَ)؟ (¬2) الجَوَابُ: هُوَ كَلَامٌ مَرْدُوْدٌ، مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، خَارِجٌ عَنِ اعْتِقَادِ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ - وَاللَّبِيْبُ تَكْفِيْهِ الإِشَارَةُ -: 1) أَنَّ اللهَ تَعَالَى بيَّنَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الإِيْمَانِ المُقَرَّبِيْنَ أَنَّهُم يَعْبُدُوْنَ اللهَ تَعَالَى طَمَعًا فِي الجَّنَّةِ وَخَوْفًا مِنَ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُوْنَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُوْنَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِيْنَ} (الأَنْبِيَاء:90). (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السِّيَرِ (241/ 8): (هِيَ رَابِعَةُ العَدَوِيَّةُ؛ أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ إِسْمَاعِيْلَ؛ العَتَكِيَّةُ؛ البَصْرِيَّةُ؛ الزَّاهِدَةُ؛ العَابِدَةُ؛ الخَاشعَةُ، (ت 180هـ). قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: أَمَّا رَابِعَةُ، فَقَدْ حَمَلَ النَّاسُ عَنْهَا حِكْمَةً كَثِيْرَةً، وَحَكَى عَنْهَا سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قِيْلَ عَنْهَا، وَقَدْ تَمَثَّلَتْهُ بِهَذَا: (وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الفُؤَادِ مُحَدِّثِي ... وَأَبَحْتُ جِسْمِيَ مَنْ أَرَادَ جُلُوْسِي)، فَنَسَبَهَا بَعْضُهُم إِلَى الحُلُوْلِ بِنِصْفِ البَيْتِ، وَإِلَى الإِبَاحَةِ بِتَمَامِهِ. قُلْتُ (الذَّهبيُّ): فَهَذَا غُلُوٌّ وَجَهْلٌ، وَلَعَلَّ مَنْ نَسَبَهَا إِلَى ذَلِكَ مُبَاحِيٌّ حُلُوْلِيٌّ، لِيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى كُفْرِهِ). بِاخْتِصَارٍ يَسِيْرٍ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ (مِيْزَانُ الاعْتِدَالِ) (61/ 2) - عِنْدَ تَرْجَمَةِ رِيَاحِ بْنِ عَمْرٍو القَيْسِيِّ -: (قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الآجُرِّيُّ: سَأَلْتُ أَبَا دَاوُد عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ وَأَبُو حَبِيْبٍ وَحَيَّانُ الجُرَيْرِيُّ وَرَابِعَةُ - رَابِعَتُهُم فِي الزَّنْدَقَةِ -). وَقَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (633/ 13): (وَتَكَلَّمَ فِيهَا أَبُو دَاودَ السِّجِسْتَانِيُّ؛ وَاتَّهَمَهَا بِالزَّنْدَقَةِ، فَلَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهَا أَمْرٌ). (¬2) وَقَرِيْبٌ مِنْهُ مَا نَقَلَهُ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (134/ 3)، وَغَيْرُهُ فِي تَرْجَمَةِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَالَ عَنْهُ - بَعْدَ ذِكْرِ الإِسْنَادِ وَبَعْضٍ مِنْ مَقَالَاتِهِ -: (إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ العَبِيْدِ، وَآخَرِيْنَ عَبَدُوْهُ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَقَوْمًا عَبَدُوا اللهَ شُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأَحْرَارِ). قُلْتُ: وَفِي الإِسْنَادِ أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ؛ قَالَ عَنْهُ الزِّرِكْلِيُّ فِي كِتَابِهِ (الأَعْلَامُ) (138/ 1): (أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ الحِمَّانِيُّ؛ مُؤرِّخٌ؛ مِنَ الأَحْنَافِ صَنَّفَ (مَنَاقِبَ الإِمَامِ الأَعْظَمِ أَبِي حَنِيْفَة)، وَلِلمُؤَرِّخِيْنَ كَلَامٌ فِي اتِّهَامِهِ بِالوَضْعِ). وَقَالَ عَنْهُ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي المِيْزَانِ (105/ 1): (هَالِكٌ). (¬3) قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (521/ 18): (وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَيَدْعُوْنَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} يَقُوْلُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَانُوا يَعْبُدُوْنَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا، وَعَنَى بِالدُّعَاءِ فِي هَذَا المَوْضِعِ العِبَادَةَ، كَمَا قَالَ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُوْنَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (مَرْيَم:48)، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ {رَغَبًا} أَنَّهُم كَانُوا يَعْبُدُوْنَهُ رَغْبَةً مِنْهُم فِيْمَا يَرْجُوْنَ مِنْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، {وَرَهَبًا} يَعْنِي رَهْبَةً مِنْهُم مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ؛ بِتَرْكِهِم عِبَادَتَهُ ورُكُوْبِهِم مَعْصِيَتَهُ).

2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهُ مِنَ الآيَاتِ وَالصِفَاتِ مَا يَلْزَمُ مَعَهُ إِيْمَانُ النَّاسِ، وَيَصِحُّ بِهِ إِيْمَانُهُم، فَوَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِصِفَتَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيْرًا وَنَذِيْرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُوْنَ} (سَبَأ:28) (¬1)، فَمَنْ عَمِلَ بِمُوْجَبِ بِعْثَةِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُقَالُ بِتَخْطِئَةِ مَنْهَجِهِ؟! (¬2) فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ الرِّضَا فِي الآخِرَةِ لِمَنْ خَافَ مِنَ النَّارِ الَّتِيْ أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِلكفَّارِ؛ وَأَرْسَلَ الرَّسُوْلَ نَذِيْرًا مِنْهَا؛ فَمَنْ خَافَ مِنْهَا فَصَدَّقَ بِهِ؛ كَيْفَ يَكُوْنُ غَيْرَ مَرْضِيَ الإِيْمَانِ أَوْ نَاقِصَهُ! قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرَّحْمَن:46). وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَلَ أَهْلِ الإِيْمَانِ تِجَارَةً رَابِحَةً مَعَ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيْمٍ، تُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَتُجَاهِدُوْنَ فِي سَبِيْلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} (الصَّف:11). 3) أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَنَقُّصُ إِيْمَانِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ تِلْكَ المَرْتَبَةَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِ اللهِ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ هِيَ مَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، وَلَكِنَّهَا تَحْتَاجُ لِاعْتِبَارٍ وَتَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ فِي الآيَاتِ الكَوْنيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، وَإِلى أَنْ يَبْلُغَ العَبْدُ - نَاطِقُ الشَّهَادَةِ - هَذِهِ المَرْتَبَةَ لَا يَكُوْنُ مَذْمُوْمًا! بَلْ هُوَ مَمْدُوْحٌ حَيْثَ تَرَكَ عِبَادَةَ الطَّاغُوْتِ وَوَحَّدَ اللهَ تَعَالَى كَمَا أَمَرَهُ، وَيَكُوْنُ سَاعِيًا فِيْمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ. (¬3) وَفِي الحَدِيْثِ عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالحَدِيْدِ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: (أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ). فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ؛ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَمِلَ قَلِيْلًا وَأُجِرَ كَثِيْرًا)). (¬4) وَفِي الحَدِيْثِ (كَانَ غُلَامٌ يَهُوْدِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ؛ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُوْدُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ) فَنَظَرَ إِلَى أَبِيْهِ - وَهُوَ عِنْدَهُ -، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُوْلُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ)). (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (301/ 14): ({بَشِيْرًا} أَيْ: بِالجنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَ. {وَنَذِيْرًا} مِنَ النَّارِ لِمَنْ كَفَرَ). (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً؛ فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيْعُوْهُ، فَغَضِبَ فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيْعُوْنِي؟! قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوْهَا، فَقَالَ: اُدْخُلُوْهَا، فَهَمُّوا - وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا - وَيَقُوْلُوْنَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ! فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ؛ فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (لَوْ دَخَلُوْهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوْفِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7145)، وَمُسْلِمٌ (1840) مِنْ حَدِيْثِ عَليٍّ مَرْفُوْعًا. (¬3) قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِيْنَ} (الرُّوْم:22)، وَهَؤُلَاءِ العَالِمِيْنَ - بِكَسْرِ اللَّامِ - لَا شَكَّ أَنَّهُم تَمَتَّعُوا بِعِلْمٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِم - مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ سَابِقَةُ العِلْمِ الوَاسِعِ وَالنَّظَرِ البَعِيْدِ -، فَهَلْ يُضَلَّلُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟! قَالَ الإِمَامُ المُحَقِّقُ ابْنُ دَقِيْق العِيْد رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ (ص55): (وَفِي قَوْلِهِ (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ) دِلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ المُحَقِّقِيْن وَالجَمَاهِيْرِ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ دِيْنَ الإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا - لَا تَرَدُّدَ فِيْهِ - كَفَاهُ ذَلِكَ؛ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعلُّمُ أَدِلَّةِ المُتَكَلِّمِيْنَ وَمَعْرِفَةُ اللهِ بِهَا؛ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي نَحْوِ أَهْلِ القِبْلَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ المُرَادَ التَّصْدِيْقُ الجَازِمُ - وَقَدْ حَصَلَ - لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتَفَى بِالتَّصْدِيْقِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ المَعْرِفَةَ بِالدَّلِيْلِ). (¬4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2808)، وَمُسْلِمٌ (1900). (¬5) صَحِيْحُ البُخَارِيِّ (1356) عَنْ أَنَسٍ.

باب قول الله تعالى {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (المَائِدَة:23). وَقَوْلِهِ {إِنَّمَا المُؤْمِنُوْنَ الَّذِيْنَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُوْنَ} (الأَنْفَال:2). وَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ} (الأَنْفَال:64). وَقَوْلِهِ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطَّلاق:3). وِعِنْ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: - حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ - قالَهَا إِبْرَاهِيْمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وقالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ} (آل عِمْرَان:173). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَالنَّسَائيُّ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنَ الفَرَائِضِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مِنْ شُرُوْطِ الإِيْمَانِ. الثَّالِثَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ اَلْأَنْفَالِ. الرَّابِعَةُ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ فِي آخِرِهَا. الخَامِسَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ اَلطَّلَاقِ. السَّادِسَةُ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ الكَلِمَةِ، وَأَنَّهَا قَوْلُ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّدَائِدِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (4563)، وَالنَّسَائيُّ فِي الكُبْرَى (11015).

الشرح

الشَّرْحُ - التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ: هُوَ الاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي جَلْبِ المَنَافِعِ وَدَفْعِ المَضَارِّ مَعَ الثِّقَةِ بِهِ وَفِعْلُ الأَسْبَابِ النَّافِعَةِ. وَيُقَالُ وَكَلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ: إِذَا اعْتَمَدتُ عَلَيْهِ. وَحَقِيْقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ: أَنْ يَعْلَمَ العَبْدُ أَنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ تَعَالى؛ وَأنَّهُ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ هُوَ النَّافعُ الضَّارُّ المُعْطِي المَانِعُ، وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَبَعْدَ هَذَا العِلْمِ يَعْتَمِدُ بقلبِهِ عَلَى رَبِّهِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِ دِيْنِهِ وَدُنْيَاه، وَفِي دَفْعِ المَضَارِّ، وَيَثِقُ غَايَةَ الوُثُوْقِ بِرَبِّهِ فِي حُصُوْلِ مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا بَاذِلٌ جُهْدَهُ فِي فِعْلِ الأَسْبَابِ النَّافِعَةِ. (¬1) - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} بَيَانُ أُمُوْرٍ - وَبِهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ -: 1) فَرَضِيَّةُ التَّوَكُّلِ، وَالأَمْرُ بِهَا، وَأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنَ العِبَادَاتِ العَظِيْمَةِ. 2) وُجُوْبُ إِخْلَاصِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَدَلَّ لِذَلِكَ أُسْلُوْبُ الحَصْرِ فِي تَقْدِيْمِ الجَارِّ وَالمَجْرُوْرِ. 3) أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنَ الإِيْمَانِ. (¬2) 4) أَنَّ إِخْلَاصَهُ شَرْطٌ فِي الإِيْمَانِ، كَمَا فِي آيَةِ سُوْرَةِ يُوْنُس {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّسْلِمِيْنَ} (يُوْنُس:84). - التَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: 1) التَّوَكُّلُ فِي الأُمُوْرِ الَّتِيْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ - كَالَّذِيْنَ يَتَوَكَّلُوْنَ عَلَى الأَمْوَاتِ وَالطَّوَاغِيْتِ فِي تَحْصِيْلِ مَطَالِبِهِم مِنْ نَصْرٍ أَوْ حِفْظٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ شَفَاعَةٍ - فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرٌ. 2) التَّوَكُّلُ فِي الأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، كَمَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى أَمِيْرٍ أَوْ سُلْطَانٍ فِيْمَا أَقْدَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ دَفْعِ أَذَىً وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ نَوْعُ شِرْكٍ أَصْغَرٍ؛ مِثْلُ اعْتِمَادِ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى وَظِيفَتِهِم فِي حُصُوْلِ رِزْقِهِم، ولِهَذَا تَجِدُ الإِنْسَانَ مِنْهُم يَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى هَذَا اعْتِمَادَ افْتِقَارٍ. - الفَرْقُ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالوَكَالَةِ: التَّوَكُّلُ هُوَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، بَيْنَمَا الوَكَالَةُ - وَهِيَ جَائِزَةٌ - فَهِيَ إِقَامَةُ الشَّخْصِ غَيرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا (¬3)، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي حُصُوْلِ مَا وَكَلَهُ بِهِ اعْتِمَادًا قَلبِيًّا، بَلْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ فِي تَيْسِيْرِ أَمْرِهِ الَّذِيْ يَطْلُبُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ - وَيَعُدُّ ذَلِكَ الشَّخْصَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ الَّتِيْ يَجُوْزُ فِعْلُهَا - فَيَكُوْنُ رَجَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُ وَتَعَلُّقُهُ مَحْصُوْرًا فِي اللهِ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ النَّوْعَيْنِ السَّابِقَيْنِ. - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا المُؤْمِنُوْنَ الَّذِيْنَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُوْنَ، الَّذِيْنَ يُقِيْمُوْنَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْنَ} فِيْهَا وَصْفُ المُؤْمِنِيْنَ حقًّا بِخَمْسَةِ مَقَامَاتٍ مِنْ مَقَامَاتِ الإِيْمَانِ، وَهِيَ الوَجَلُ عِنْدَ الذِّكْرِ، وَزِيَادَةُ الإِيْمَانِ عِنْدَ سَمَاعِ القُرْآنِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَحْدَهَ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَالإِنْفَاقُ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى. - المُرَادُ بِالإِيْمَانِ هُنَا - فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ - الإِيْمَانُ الكَامِلُ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ المَرْءَ يَكُوْنُ مُؤْمِنًا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَهُوَ مَعَهُ مُطْلَقُ الإِيْمَانِ؛ وَلَيْسَ كَمَالُهُ. ¬

_ (¬1) فَالتَّوَكُّلُ يَتَضَمَّنُ إِذًا: عِلْمٌ ثُمَّ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ ثُمَّ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ. (¬2) وَزِيَادَتُهُ دَلِيْلُ زِيَادَةِ الإِيْمَانِ؛ وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ. (¬3) قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (479/ 4) فِي شَرْحِ كِتَابِ الوَكَالَةِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ.

- التَّوَكُّلُ الصَّحِيْحُ لَا بُدَّ فِيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: الأوَّلُ: أَنْ يَكُوْنَ الاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ اعْتِمَادًا صَادِقًا حَقِيْقِيًّا. الثَّانِي: فِعْلُ الأَسْبَابِ المَأْذُوْنِ فِيْهَا. فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا فَيَتْرُكَ الأَسْبَابَ، وَأَيْضًا أَنْ لَا يَجْعَلَ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا - أَي صَارَ مُدَّعِيًا لِلتَّوَكُّلِ عِنْدَمَا فَقَدَ الأَسْبَابَ -. ومَنْ جَعَلَ أَكْثَرَ اعْتِمَادِهِ عَلَى الأَسْبَابِ؛ نَقَصَ بِذَلِكَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَكُوْنُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي كِفَايَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ وَحْدَهُ هُوَ العُمْدَةَ فِيْمَا يَرْجُوْهُ مِنْ حُصُوْلِ المَطْلُوْبِ. وَأَيْضًا مَنْ جَعَلَ اعْتِمَادَهُ عَلَى اللهِ مُلْغِيًا لِلأَسْبَابِ؛ فَقَدْ طَعَنَ فِي حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ المُتَوكِّلَيْنَ؛ وَمَع ذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ بِالأَسْبَابِ، فَكَانَ يَأْخُذُ الزَّادَ فِي السَّفَرِ، وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَلَمَّا خَرَجَ مُهَاجِرًا أَخَذَ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيْقِ. - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} بَيَانُ فَضِيْلَةِ التَّوَكُّلِ، حَيْثُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَكْفِي عَبْدَهُ إِذَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُوْنَ عَلَى اللهِ تَعَالَى حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوْحُ بِطَانًا). (¬1) - فَائِدَة 1) التَّوَكُّلُ هُوَ الاعْتِمَادُ، وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ فَهُوَ عِبَادَةٌ. (¬2) - فَائِدَة 2) فِي شَرْحِ حَدِيْثِ (مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِىءَ مِنَ التَّوَكُّلِ) (¬3)، قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (¬4): ((مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِىءَ مِنَ التَّوَكُّلِ) لِفِعْلِهِ مَا يُسَنُّ التَّنَزُّهُ عَنْهُ مِنَ الاكْتِوَاءِ لِخَطَرِهِ، والاسْتِرْقَاءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللهِ؛ لِاحْتِمَالِ كَونِهِ شِرْكًا. أَوْ هَذَا فِيْمَنْ فَعَلَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا لَا عَلَى اللهِ فَصَارَ بِذَلِكَ بَرِيْئًا مِنَ التَّوَكُّلِ، فَإِنْ فُقِدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَرِيْئًا مِنْهُ، وَقَد سَبَقَ أَنَّ الكَيَّ لَا يُتْرَكُ مُطْلَقًا وَلَا يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا، بَلْ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ طَرِيْقًا لِلشِّفَاءِ وَعَدَمِ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ - مَعَ مُصَاحَبَةِ اعْتِقَادِ أَنَّ الشِّفَاءَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ -. (¬5) وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (¬6): الكَيُّ نَوْعَان: 1) كَيُّ الصَّحِيْحِ لِئَلَّا يَعْتَلَّ، فَهَذَا الَّذِيْ قِيْلَ فِيْهِ: (مَنْ اكْتَوَى؛ لَمْ يَتَوَكَّلْ) لِأَنَّه يُرِيْدُ أَنْ يَدْفَعَ القَدَرَ؛ وَالقَدَرُ لَا يُدَافَعُ. 2) وَالثَّانِي: كَيُّ الجُرْحِ إِذَا فَسَدَ؛ وَالعُضْوِ إِذَا قُطِعَ، فَهُوَ الَّذِيْ شُرِعَ التَّدَاوِي فِيْهِ، فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ؛ فَخِلَافُ الأَوْلَى لِمَا فِيْهِ مِنْ تَعْجِيْلِ التَّعْذِيْبِ بِالنَّارِ لِأَمْرٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ). (¬7) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (370)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2344) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (310). (¬2) أَفَادَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش 326). (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2055) عَنِ المُغِيْرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (244). (¬4) فَيْضُ القَدِيْرِ (82/ 6). (¬5) وَبِنَحوِهِ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ كَمَا نَقَلَهُ البَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (396/ 2) عَنْهُ: (قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَكِبَ مَا يُسْتَحَبُّ التَّنْزِيْهُ عَنْهُ مِنَ الِاكْتِوَاءِ وَالِاسْتِرْقَاءِ لِمَا فِيْهِ مِنَ الخَطَرِ، وَمِنَ الِاسْتِرْقَاءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ ذِكْرِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُوْنَ شِرْكًا، أَوِ اسْتَعْمَلَهَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا لَا عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيْمَا وَضَعَ فِيْهِمَا مِنَ الشِّفَاءِ، فَصَارَ بِهَذَا أَوْ بِارْتِكَابِهِ المَكْرُوْهَ بَرِيْئًا مِنَ التَّوَكُّلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَسْبَابِ المُبَاحَةِ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا بَرِيْئًا مِنَ التَّوَكُّلِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَقَد سَبَقَ فِي بَابِ (مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيْدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ) بَيَانُ أَنَّ مَعْنَى (يَسْتَرْقُوْنَ) لَيسَ يَخْتَصُّ بِالرُّقْيَةِ الشِّرْكِيَّةِ، وَإِنَّمَا بِالجَائِزَةِ، وَالنَّهْيُ هُوَ لِمُنَافَاةِ كَمَالِ التَّوحِيْدِ المُسْتَحَبِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ (فَقَدْ بَرِىءَ مِنَ التَّوَكُّلِ) عَلَى نَفْي أَصْلِ الإِيْمَانِ بِكَوْنِ الاسْتِرْقَاءِ مُخْتَصًا بِالرُّقْيَةِ الشِّرْكِيَّةِ - كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ - وَلَكِنَّ قَوْلَ المُنَاوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ السَّابِقَ (لِفِعْلِهِ مَا يُسَنُّ التَّنَزُّهُ عَنْهُ) يَقْصِدُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَعْلُوْمٍ مِنَ الشِّرْكِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ، فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يُسَنُّ التَّنَزُّهُ عَنْهُ (لِاحْتِمَالِ كَونِهِ شِرْكًا) وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬6) هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ بْنُ قُتَيْبَةَ الدِّيْنَوَرِيُّ، قَاضِي دِيْنَورَ، النَّحَوِيُّ؛ اللُّغَوِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ البَدِيْعَةِ المَشْهُوْرَةِ، (ت 276هـ). (¬7) وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (244) عِنْدَ حَدِيْثِ (مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِىءَ مِنَ التَّوَكُّلِ): (قُلْتُ: وَفِيْهِ كَرَاهَةُ الاكْتِوَاءِ وَالاسْتِرْقَاءِ. أَمَّا الأَوَّلُ؛ فِلِمَا فِيْهِ مِنَ التَّعْذِيْبِ بِالنَّارِ، وَأَمَّا الآخَرُ؛ فَلِمَا فِيْهِ مِنَ الاحْتِيَاجِ إِلَى الغَيْرِ فِيْمَا الفَائِدَةُ فِيْهِ مَظْنُوْنَةٌ غَيْرُ رَاجِحَةٍ).

باب قول الله تعالى {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} (الأعراف:99).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُوْنَ} (الأَعْرَاف:99). وَقَوْلِهِ {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّوْنَ} (الحِجْر:56). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ? فَقَالَ: (اَلشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهُ). (¬1) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ؛ قَالَ: (أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالقُنُوْطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ). رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ الأَعْرَافِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ الحِجْرِ. الثَّالِثَةُ: شِدَّةُ الوَعِيْدِ فِيْمَنْ أَمِنَ مَكَرَ اللهِ. الرَّابِعَةُ: شِدَّةُ الوَعِيْدِ فِي القُنُوْطِ. ¬

_ (¬1) فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. الحَدِيْثُ أَوْرَدَهُ الحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ الأَسْتَارِ عَنْ زَوَائِدِ البَزَّارِ) (71/ 1). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (278/ 2): (وَقَدْ رَوَاهُ البَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ إِسْحَاقَ العَطَّارِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيْلِ عَنْ شَبِيْبِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُوْل الله مَا الكَبَائِر؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالقُنُوْطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَالأَشْبَه أَنْ يَكُوْنَ مَوْقُوفًا؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن مَسْعُوْدٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْن جَرِيْرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوْبُ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: (أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَاليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالقُنُوْطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ). وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيْثِ الأَعْمَشِ وَأَبِي إِسْحَاقَ عَنْ وَبَرَةَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَهُوَ صَحِيْحٌ إِلَيْهِ بِلَا شَكٍّ). (¬2) صَحِيْحٌ. تَفْسِيْرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (155/ 1)، وَتَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (242/ 8). صَحَّحَهُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (278/ 2). انْظُرِ الحَاشِيَةَ السَّابِقَةَ.

الشرح

الشَّرْحُ - قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُوْنَ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُوْنَ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُوْنَ، أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُوْنَ، أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحَىً وَهُمْ يَلْعَبُوْنَ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُوْنَ} (الأَعْرَاف:99). - مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّ الأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللهِ؛ وَالقُنُوْطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ مُنَافِيَانِ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ؛ وَقَدْ يُنَافِيَانِ أَصْلَهُ إِذَا اسْتَحْكَمَا. - الأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ سَبَبُهُ ضَعْفُ عِبَادَةِ الخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَمَّا القُنُوْطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فَسَبَبُهُ ضَعْفُ عِبَادَةِ الرَّجَاءِ بِاللهِ تَعَالَى. وَكِلَاهُمَا مُنَافِيَانِ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ، وَقَدْ يُنَافِيَانَ أصْلَهُ إِنْ صَحِبَهُمَا اعْتِقَادٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُوْنَ} (يُوْسُف:87). - أَوْرَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هَاتَيْنِ العِبَادَتَيْنِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَتَان، فَلَا يَصِحُّ الإِفْرَاطُ فِي رَجَاءِ المَغْفِرَةِ بِحَيْثُ يَأْمَنُ عَذَابَ اللهِ! وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ الإِفْرَاطُ فِي الخَوْفِ بِحَيْثُ يَقْنَطُ مِنْ مَغْفِرَةِ اللهِ! (¬1) لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمَا كَجَنَاحَي الطَّائِرِ إِذَا اخْتَلَّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ سَقَطَ الطَّائِرُ، وَاُنْظُرْ قَوْلَهَ تَعَالَى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ} (الزُّمَر:9). وكَقَوْلِهِ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوْرًا} (الإِسْرَاء:57). - الأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ: هُوَ إِقَامَةُ العَبْدِ عَلَى الذَّنْبِ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ المَغْفِرَةَ، وَفِي الحَدِيْثِ (إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي العَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيْهِ مَا يُحِبُّ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوْتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُوْنَ} (الأَنْعَام:44)). (¬2) - مَكْرُ اللهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ: 1) اسْتِدْرَاجُ العَاصِي بِالنِّعَمِ. 2) أَنْ يَكُوْنَ العَاصِي آمِنًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. - القُنُوْطُ: اسْتِبْعَادُ الفَرَجِ وَاليَأْسُ مِنْهُ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ - مِنْ جِهَةِ المُخَالَفَةِ -. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (3502) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1268). (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (17311) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (413).

- قَوْلُهُ (وَاليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)، هَذَا اليَأْسُ فِيْهِ مَحْذُوْرَانِ: 1) إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ. 2) الجَهْلُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُوْدِهِ وَمَغْفِرَتِهِ. - قَوْلُهُ (وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)، هَذَا الأَمْنُ فِيْهِ أَيْضًا مَحْذُورَانِ: 1) الجَهْلُ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِإِحَاطَتِهِ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَقُدْرَةً. 2) العُجْبُ بِالنَّفْسِ؛ حَيْثُ اعْتَقَدَ صَاحِبُ الأَمْنِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَذَابًا؛ بَلْ هُوَ أَهْلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ رُغْمَ مَعَاصِيْهِ. - قَوْلُهُ (مِنَ الكَبَائِرِ): فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ المَعَاصِي مِنْهَا الصَّغَائِرُ وَمِنْهَا الكَبَائِرُ وَبَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَعْدُوْدَةً بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَإنَّمَا هِيَ مَحْدُوْدَةٌ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ. وَضَابِطُهَا مَا قَالَهُ المُحَقِّقُوْنَ مِنَ العُلَمَاءِ (كَشَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَالحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ) وَهِيَ أنَّهَا: (كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ نَفْي إِيْمَانٍ أَوْ نَفْيٍ مِنَ المِلَّةِ، أَوْ لَهُ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ وَعِيْدٍ مَخْصُوْصٌ فِي الآخِرَةِ). (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (184/ 12): (وَمِنْ أَحْسَنِ التَّعَارِيْفِ قَوْلُ القُرْطُبِيِّ فِي المُفْهِمِ: كُلُّ ذَنْبٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَنَّهُ كَبِيْرَةٌ أَوْ عَظِيْمٌ، أَوْ أُخْبِرَ فِيْهِ بِشِدَّةِ العِقَابِ، أَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الحَدُّ، أَوْ شُدِّدَ النَّكِيْرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَبِيْرَةٌ. وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي تَتَبُّعُ مَا وَرَدَ فِيْهِ الوَعِيْدُ أَوِ اللَّعْنُ أَوِ الفِسْقُ مِنَ القُرْآنِ أَوِ الأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ وَالحَسَنَةِ، وَيُضَمُّ إِلَى مَا وَرَدَ فِيْهِ التَّنْصِيْصُ فِي القُرْآنِ وَالأَحَادِيْثِ الصِّحَاحِ وَالحِسَانِ عَلَى أَنَّهُ كَبِيْرَةٌ، فَمَهْمَا بَلَغَ مَجْمُوْعُ ذَلِكَ عُرِفَ مِنْهُ تَحْرِيْرُ عَدَدِهَا). وَأَيْضًا أَفَادَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (650/ 11) بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ فِيْهِ أَيْضًا عَنِ الصَّغِيْرَةِ - بِالمُقَابَلَةِ -: (أَمْثَلُ الأَقْوَالِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ؛ القَوْلُ المَأْثُوْرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا - وَهُوَ أَنَّ الصَّغِيْرَةَ مَا دُوْنَ الحَدَّيْنِ: حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الآخِرَةِ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُهُ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِيْنَ} (يُوْسُف:110)؛ أَلَيْسَ فِيْهِ أَنَّ الرُّسُلَ يَئِسُوا؟ الجَوَابُ: أَنَّ هَذَا يَأْسٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ المَدْعُوِّيْنَ لَنْ يُؤمِنُوا بَعْدَ هَذَا الوَقْتِ، وَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ يَأْسِهِم مِنْ رَوْحِ اللهِ تَعَالَى. (¬1) ¬

_ (¬1) وَقَوْلُهُ تَعَالَى {كُذِبُوا} فِيْهَا قِرَاءَتَان، بِالتَّخْفِيْفِ: وَيَكُوْنُ فِيْهَا صَاحِبُ الظَّنِّ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَالمَدْعُوُّوْنَ. وَالقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ بِالتَّشْدِيْدِ {كُذِّبُوا}: وَيَكُوْنُ صَاحِبُ الظَّنِّ فِيْهَا هُمُ الرُّسُلُ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ النَّاسَ قَدْ كَذَّبُوْهُم. اُنْظُرْ تَفْسِيْرَ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (308/ 16).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) كَيْفَ يُوْصَفُ اللهُ تَعَالَى بِالمَكْرِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ مَذْمُوْمٌ؟ الجَوَابُ: إِنَّ المَكْرَ فِي مَحَلِّهِ المَمْدُوْحِ مَمْدُوْحٌ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ المَاكِرِ؛ وَأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا يُوْصَفُ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى الإِطْلَاقِ، فَلَا يَجُوْزُ أَنْ تَقُوْلَ: إنَّ اللهَ مَاكِرٌ، وَإنَّمَا تُذْكَرُ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي مَقَامٍ تَكُوْنُ فِيْهِ مَدْحًا، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوْكَ أَوْ يَقْتُلُوْكَ أَوْ يُخْرِجُوْكَ وَيَمْكُرُوْنَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِيْنَ} (الأَنْفَال:30) (¬1)، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُنْفى عَنْهُ أَيْضًا عَلَى سَبِيْلِ الإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ يُوْصَفُ بِهَا اللهُ تَعَالَى فِي المَوْضِعِ الَّذِيْ تَكُوْنُ فِيْهِ مَدْحًا، فَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى اللهُ بِهَا؛ فَلَا يُقَالُ: إنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ المَاكِرُ. (¬2) (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلْ كَيْفَ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَيْرُ مَنْ مَكَرَ، حَيْثُ دَفَعَ سُبْحَانَهُ كُلَّ شُبْهَةِ سُوْءِ فَهْمٍ عَنْ مَكْرِهِ. (¬2) وَذَلِكَ لِأَنَّ الاسْمِ يُفِيْدُ الاسْتِغْرَاقَ دُوْنَ التَّفْصِيْلَ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الأَسْمَاءَ تَوْقِيْفِيَّةٌ. (¬3) وَمِثْلُهَا أَيْضًا صِفَةُ الخِدَاعِ وَالكَيْدِ، فَهِيَ صِفَاتٌ جَاءَتْ فِي مُقَابَلَةِ صَنِيْعِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِصَنِيْعِهِم وَقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِم وَإِحَاطَتِهِ بِهِم. أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُحْتَالًا أَرَادَ خِدَاعَ شَخْصٍ؛ فَعَلِمَ بِذَلِكَ هَذَا الشَّخْصُ وَجَارَاهُ عَلَى خُدْعَتِهِ لِيُوقِعَ بِهِ وَلِيَرُدَّ خُدْعَتَهُ إِلَيْهِ وَيُوقِعَهُ فِي شَرِّ عَمَلِهِ؛ هَلْ يَكُوْنُ هَذَا الخِدَاعُ وَالمَكْرُ مُذْمُوْمًا؟ طَبْعًا لَا. فَمَكْرُ الرَّجُلِ الأَوَّلِ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (فَاطِر:43). وَأَمَّا مَكْرُ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ مَكْرِهِم مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُوْنَ، فَهُوَ دَلِيْلٌ عَلَى القُوَّةِ وَالعِلْمِ وَالعِزَّةِ وَالمَنَعَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُوْنَ} (النَّمْل:50)، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الحَرْبُ خَدْعَةٌ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3030)، وَمُسْلِمٌ (1739) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. (¬4) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيْعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} (الرَّعْدُ:42)، فَمَعْنَاهُ إِحَاطَتُهُ تَعَالَى بِمَكْرِهِم عِلْمًا وَجَزَاءً وَخَلْقًا وَتَقْدِيْرًا. قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (328/ 4): (أَيْ: عِنْدَ اللهِ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، وَقِيْلَ: إِنَّ اللهَ خَالِقُ مَكْرِهِمْ جَمِيْعًا، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَإِلَيْهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، فَلَا يَضُرُّ مَكْرُ أَحَدٍ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِهِ).

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) إِذَا كَانَ القُنُوْطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى كُفْرٌ؛ فَكَيْفَ اسْتَبْعَدَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الفَرَجَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُوْنَ}؟ الجَوَابُ: إِنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلمَلَائِكَةِ {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُوْنَ، قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ القَانِطِيْنَ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّوْنَ} لَيْسَ فِيْهِ أَنَّ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَنَطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَإنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ اسْتِبْعَادِ الوُقُوْعِ مِنْ جِهَةِ الأَسْبَابِ، وَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ العَادَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَبُرَ سِنُّهُ وَسِنُّ زَوْجَتِهِ اسْتُبْعِدَ أَنْ يُولَدَ لَهُ مِنْهَا - مِنْ جِهَةِ الأَسْبَابِ -، فَلَيْسَ قَوْلُهُ ذَاكَ هُوَ مِنَ القُنُوْطِ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ هُوَ نَفْسُهُ القَانِطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِالضَّلَالِ. (¬1) ¬

_ (¬1) وَمِثْلُهُ قَوْلُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا بَشَّرُوُهُ بِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُوْنُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (آل عِمْرَان:40) فَهُوَ نَظَرَ إِلَى الأَسْبَابِ وَتَعَجَّبَ مِنْ إِتْيَانِ الوَلَدِ بِهَا، وَلَمْ يُظْهِرْ قُنُوْطًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، بَلْ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ عِنْدَمَا رَأَى رِزْقَ رَبِّهَا لَهَا - مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ مِنْهَا - دَعَا اللهَ طَالِبًا مِنْهُ لِذَاكَ؛ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِيَطْلُبَ مِنْهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ قَانِطًا مِنْ ربِّهِ! قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ} (آل عِمْرَان:37) فَدُعَائُهُ دَالٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى رِزْقِهِ وَلَوْ عَدِمَ هُوَ السَّبَبَ.

باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

بَابُ مِنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ} (التَّغَابُن:11). قَالَ عَلْقَمَةُ: (هُوَ الرَّجُلُ تُصِيْبُهُ المُصِيْبَةُ؛ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ). (¬1) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ). (¬2) وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُوْدَ وَشَقَّ الجُيُوْبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ). (¬3) وَعَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ؛ عَجَّلَ لَهُ بِالعُقُوْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ؛ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ). (¬4) وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ). حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ التَّغَابُنِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الإِيْمَانِ بِاللَّهِ. الثَّالِثَةُ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ. الرَّابِعَةُ: شِدَّةُ الوَعِيْدِ فِيْمَنْ ضَرَبَ الخُدُوْدَ، وَشَقَّ الجُيُوْبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ. الخَامِسَةُ: عَلَامَةُ إِرَادَةِ اللهِ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ. السَّادِسَةُ: عَلَامَةُ إِرَادَةِ اللهِ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ. السَّابِعَةُ: عَلَامَةُ حُبِّ اللهِ لِلْعَبْدِ. الثَّامِنَةُ: تَحْرِيْمُ السُّخْطِ. التَّاسِعَةُ: ثَوَابُ الرِّضَا بِالبَلَاءِ. ¬

_ (¬1) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (421/ 23). (¬2) مُسْلِمٌ (67). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1297)، وَمُسْلِمٌ (103). (¬4) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2396). الصَّحِيْحَةُ (1220). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ، أَوْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: (حَدِيْثٌ حَسَنٌ غَرِيْبٌ). قُلْتُ: وَسَعْدٌ هَذَا اخْتَلَفَ فِيْهِ الرُّواةُ؛ فَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ، وَبَعْضُهُم عَلَى القَلْبِ: سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ - وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ البُخَارِيِّ -، قَالَ الحَافِظُ فِي التَّقْرِيْبِ: (صَدُوقٌ لهُ أَفْرَادٌ). وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيْثِ الحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوْعًا بِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (2455) وَأَبْو نُعَيْمٍ فِي (أَخْبَارِ أَصْبَهَانَ) (2/ 274) وَالبَيْهَقِيُّ (ص153 - 154) وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّ الحَسَنَ - وَهُوَ البَصْرِيَّ - مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَهُ. وَلِشَطْرِهِ الأَوَّلِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي (ذَمِّ الهَوَى) (ص 126)). (¬5) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2396) عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسٍ. الصَّحِيْحَةُ (146).

الشرح

الشَّرْحُ - مُقَدِّمَةٌ فِي فَضْلِ الصَّبْرِ: قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزُّمَر:10). وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ). (¬1) وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصَّبْرِ ضِيَاءٌ). (¬2) وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ). (¬3) - الصَّبْرُ لُغَةً: الحَبْسُ وَالمَنْعُ، وَمِنْهُ قُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا: أَيْ: حَبْسًا. - مُنَاسَبَةُ الآيَةِ مَعَ البَابِ وَمَعَ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ أَنَّ الصَّبْرَ إِيْمَانٌ، وَتَرْكَهُ تَرْكٌ لِلإِيْمَانِ (¬4)، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ) حَيْثُ جُعِلَ تَرْكُ الصَّبْرِ - وَهُوَ النِّيَاحَةُ هُنَا - كُفْرًا. - مَوَاضِعُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ يَقَعُ عَلَى القَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ، وَعَلَى الجَوَارِحِ. (¬5) - أَنْوَاعُ الصَّبْرِ: 1) صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ. 2) صَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ. 3) صَبْرٌ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللهُ مِنَ المَصَائِبِ - وَهُوَ مَوْضُوْعُ البَابِ -. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ}: أَيْ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ كَانَ بِقَدَرِ اللهِ، وَرَضِيَ بِذَلِكَ وَصَبَرَ؛ فَإِنَّ اللهَ يُثِيْبُهُ هِدَايَةً فِي قَلْبِهِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬6): (وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيْبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ؛ هَدَى اللهُ قَلْبَهُ، وعَوَّضَهُ عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا هُدَىً فِي قَلْبِهِ وَيَقِيْنًا صَادِقًا، وَقَدْ يُخْلِفُ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ). ¬

_ (¬1) الحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ؛ أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوْهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ: (مَا يَكُوْنُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1469)، وَمُسْلِمٌ (1053). (¬2) مُسْلِمٌ (223) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ. (¬3) ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ (99/ 8) تَعْلِيْقًا. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (303/ 11): (وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ مُجاهدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ ...). (¬4) حَيْثُ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الصَّبْرَ إِيْمَانًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ} (التَّغَابُن:11). (¬5) قُلْتُ: وَيُقَابِلُهُ السَّخَطُ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الجَوَانِبِ أَيْضًا. (¬6) (137/ 8).

- فِي البَابِ مِنَ الفِقْهِ أَنَّ مِنَ الكُفْرِ مَا لَا يُخْرِجُ منَ المِلَّةِ، وَفِي الحَدِيْثِ (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُوْنَهُنَّ: الفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُوْمِ، وَالنِّيَاحَةُ. وَقَالَ: النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا؛ تُقَامُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ). (¬1) - قَوْلُهُ (هُمَا بِهِم كُفْرٌ): لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمَا كُفْرًا أَنْ يَكُوْنَ فَاعِلُهُمَا كَافِرًا (¬2)، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الزِّنْدِيْقِ وَاليَهُوْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الكُفَّارِ؛ أَنَّه إِذَا فَعَلَ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الإِيْمَانِ - كَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّريقِ وَالصِّدْقِ وَالصَّدَقَةِ - أَنَّهُ يَكُوْنُ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ لِأَنَّه كَافِرٌ فِي أَصْلِهِ، بِخِلَافِ مَنْ سَبَقَ الكَلَامُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي أَصْلِهِ. وَهَذَا الحَدِيْثُ يَجْعَلُهُ أَهْلُ العِلْمِ مِنْ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ الَّتِيْ يُمِرُّوْنَهَا كَمَا جَاءَتْ دُوْنَ الخَوْضِ فِي تَفْسِيْرِهَا، لَا لِعَدَمِ العِلْمِ بِمَعْنَاهَا وَلَكِنْ كَيْ تَكُوْنَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَبْلغَ فِي الزَّجْرِ، وحَقِيْقَةُ هَذَا الكُفْرِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ؛ حَيْثُ يَأْثَمُ تَارِكُهُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ المِلَّةِ. (¬3) - قَوْلُهُ (مَنْ ضَرَبَ الخُدُوْدَ): هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الغَالِبِ، لَا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَمَا كَانَ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَعْنَاهُ فَهُوَ مِنْهُ. (¬4) - قَوْلُهُ (دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ): عَامٌّ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الأَقْوَالِ المَذْمُوْمَةِ، فَيَدْخُلُ فِيْهِ نَدْبُ الميِّتِ، وَالدُّعَاءُ بِالوَيْلِ وَالثُّبُوْرِ (¬5)، وَهَذَا مِنَ السَّخَطِ بِاللِّسَانِ، فَهُوَ مُنَافٍ لِلصَّبْرِ، وَيَدْخُلُ فِيْ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا التَّعَصُّبُ وَدَعْوَى التَّجَمُّعِ عَلَى غَيْرِ الإِسْلَامِ. (¬6) وَفِي الحَدِيْثِ (انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً؛ فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الإِسْلَامِ. قَالَ: فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لهَذَيْنِ المُنْتَسِبَيْنِ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا المُنْتَمِي - أَوِ المُنْتَسِبُ - إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ! فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا المُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الجَنَّةِ! فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الجَنَّةِ)). (¬7) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (934) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ مَرْفُوْعًا. (¬2) إِلَّا إِنِ اسْتَحَلَّهَا، وَهَذَا الاسْتِحْلَالُ هُوَ الَّذِيْ يَجْعَلُهُ كَافِرًا كُفْرًا أَكْبَرًا مُخْرِجًا عَنِ المِلَّةِ. (¬3) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (57/ 2): (وَفِيْهِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ هُمَا مِنْ أَعمَالِ الكُفَّارِ وَأَخْلَاقِ الجَاهِلِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّه يُؤَدِّي إِلَى الكُفْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّه كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالإحْسَانِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي المُسْتَحِلِّ). (¬4) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (116/ 2): (وَمِثْلُهُ هَدْمُ البُيُوْتِ، وَكَسْرُ الأَوَانِي، وَتَخْرِيْبُ الطَّعَامِ، وَنَحْوُهُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ المُصِيْبَةِ). (¬5) كَمَا فِي حَدِيْثِ ابْنِ مَاجَه (1585) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ (لَعَنَ الخَامِشَةَ وَجْهَهَا، وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا، وَالدَّاعِيَةَ بِالوَيْلِ وَالثُّبُورِ). الصَّحِيْحَةُ (2147). (¬6) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (183/ 4) - كِتَابِ المَنَاقِبِ؛ بَابِ مَا يُنْهَى مِنْ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ حَتَّى كَثُرُوا - وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ رَجُلٌ لَعَّابٌ؛ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيْدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِيْنَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ)، ثُمَّ قَالَ: (مَا شَأْنُهُمْ؟) فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعُوْهَا فَإِنَّهَا خَبِيْثَةٌ). وَ (الكَسْعُ): أَنْ تَضْرِبَ دُبُرَ الإِنْسَانِ بِيَدِكَ، أَوْ بِصَدْرِ قَدَمِكَ. (¬7) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (21178) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. الصَّحِيْحَةُ (1270).

- قَوْلُهُ (عَجَّلَ لَهُ العُقُوْبَةَ فِي الدُّنْيَا): أَرَادَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ الإِرْشَادَ إِلَى أَنَّ المَصَائِبَ قَدْ يَكُوْنُ فِيْهَا مَنْفَعَةُ العَبْدِ، فَتَكُوْنُ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ، وَهَذَا مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَالاحْتِسَابِ وَالاسْتِرْجَاعِ، فَتَكُوْنُ المُصِيْبَةُ فِي تِلْكَ الحَالِ خَيْرًا لَهُ. وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ مَرْفُوْعًا (عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ - وَلَيْسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ -، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ). (¬1) وَكَمَا فِي حَدِيْثِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ - أَوْ أُمِّ المُسَيَّبِ - فَقَالَ: (مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ - أَوْ يَا أُمَّ المُسَيَّبِ - تُزَفْزِفِيْنَ؟) (¬2) قَالَتْ: الحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيْهَا، فَقَالَ: (لَا تَسُبِّي الحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيْدِ). (¬3) - فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ) مَعَ قَوْلِهِ أَيْضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيْثٍ آخَرٍ (وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) (¬4) تَفْصِيْلٌ: وَهُوَ أَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مَخْلُوْقَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مَقْصُوْدًا ابْتِدَاءً، بَلْ هُوَ خَيْرٌ فِي حَقِيْقَتِهِ، فَيَظْهَرُ فِيْهِ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الصَّابِرِ، وَعَدْلُهُ مَعَ الكَافِرِ. قَالَ العُلَمَاءُ: أَفْعَالُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حِكْمَةٌ؛ تَدُوْرُ بَيْنَ العَدْلِ وَالفَضْلِ. (¬5) - أَوْجُهُ بَيَانِ أَنَّ المَصَائِبَ نِعْمَةٌ: (¬6) 1) مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ (كَمَا فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ - عَجَّلَ لَهُ العُقُوْبَةَ -). 2) تَدْعُو إِلَى الصَّبْرِ؛ فَيُثَابُ عَلَيهَا - كَمَا فِي آيَةِ البَابِ -. (¬7) 3) تَقْتَضِي الإِنَابَةَ إِلَى اللهِ وَالذُّلَّ لَهُ، حَيْثُ يَسْتَشْعِرُ العَبْدُ ضَعْفَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَيَظْهَرُ افْتِقَارُهُ إِلَيْهِ، فَتَظْهَرُ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ. (¬8) 4) رَفْعُ الدَّرَجَاتِ (¬9)، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ - حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ - لَوْ أَنَّ جُلودَهُمْ كانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيْضِ). (¬10) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2999). وَعِنْدَ أَحْمَدَ (16806) مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ؛ أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلَاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ المَرْأَةُ: مَهْ! فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ، وَجَاءَنَا بِالإِسْلَامِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الحَائِطُ فَشَجَّهُ؛ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ؛ فَقَالَ: (أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللهُ بِكَ خَيْرًا، إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوْبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ). صَحِيْحٌ. اُنْظُرْ تَخْرِيْجَ كِتَابِ (كَلِمَةُ الإِخْلَاصِ وَتَحْقِيْقُ مَعْنَاهَا لِلحَافِظِ ابْنِ رَجَب) (ص47) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (131/ 16): ((تُزَفْزِفِيْنَ): مَعْنَاهُ: تَتَحَرَّكِيْنَ حَرَكَةً شَدِيْدَةً، أَيْ تَرْعَدِيْنَ). (¬3) مُسْلِمٌ (2575). (¬4) وَهُوَ مِنْ حَدِيْثِ عَليٍّ مَرْفُوْعًا فِي مُسْلِمٍ (771). وَقَرِيْبٌ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الإِشْكَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوْكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:35). (¬5) قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ الخَضِرِ وَمَا فِيْهَا مِنَ الحِكَمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَ الخَضِرِ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (الكَهْف:82). (¬6) وَلَكِنَّهَا بِقَيْدِ الحَدِيْثِ السَّابِقِ (وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلمُؤْمِنِ). (¬7) قُلْتُ: وَفِي حَدِيْثِ البُخَارِيِّ (1283)، وَمُسْلِمٍ (926) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى). قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (227/ 6): (مَعْنَاهُ: الصَّبْرُ الكَامِلُ الَّذِيْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأَجْرُ الجَزِيلُ لِكَثْرَةِ المَشَقَّةِ فِيْهِ، وَأَصْلُ الصَّدْمِ الضَّرْبُ فِيْ شَيْءٍ صُلْبٍ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي كُلِّ مَكْرُوْهٍ حَصَلَ بَغْتَةً). (¬8) (وَالمُؤْمِنُ إِذَا اسْتَبْطَأَ الفَرَجَ وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ - وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ اسْتِجَابَةٌ - رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ، وَهَذَا اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ كَثِيْرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوْجِبُ انْكِسَارَ العَبْدِ لِمَوْلَاهُ، وَاعْتِرَافَهَ لَهُ بِأَنَّه أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تَسْرعُ إِلَيْهِ حِيْنَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيْجُ الكُرَبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوْبُهُم مِنْ أَجْلِهِ). بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ كِتَابِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (494/ 1). (¬9) هَذَا مَعَ بَيَانِ أَنَّ الأَصْلَ فِي المَصَائِبِ أَنَّهَا بِسَبَبِ الذُّنُوْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيْبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْكُمْ وَيَعْفُوْ عَنْ كَثِيْرٍ} (الشُّوْرَى:30)، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِسَبَبِ الذُّنُوْبِ كَانَتْ امْتِحَانًا لِلْعَبْدِ كَيْ يَظْهَرَ صَبْرُهُ وَيَنَالَ الدَّرَجَاتِ العَالِيَةَ عِنْدَ رَبِّهِ، كَمَا فِي حَدِيْثِ البُخَارِيِّ (5648) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوْعَكُ كَمَا يُوْعَكُ رَجُلَانِ مِنَّا، وكَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (إنَّ الرَّجُلَ لَيَكُوْنُ لَهُ المَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ؛ فَما يَبْلُغُها بِعَمَلٍ؛ فَلَا يَزَالُ اللهُ يَبْتَلِيْهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبْلِّغَهُ إيَّاهَا). حَسَنٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (2908). الصَّحِيْحَةُ (1599). (¬10) حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2402) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2206).

- فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ الثَّاني بَيَانُ تَفَاضُلِ الثَّوَابِ بِتَفَاضُلِ الابْتِلَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (أشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِيْنِهِ صُلْبًا؛ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِيْنِهِ رِقَّةٌ؛ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ دِيْنِهِ، فَما يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيْئَةٌ). (¬1) وَفِيْهِ بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي العَبْدَ بِمَا يُطِيْقُ، وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البَقَرَة:286). - وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ المَقْصُوْدُ بِهِ الحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى البَلَاءِ بَعْدَ وُقُوْعِهِ لَا التَّرْغِيْبُ فِي طَلَبِهِ، وَذَلِكَ لِوُرُوْد النَّهْي عَنْهُ. (¬2) - مَرَاتِبُ النَّاسِ عِنْدَ المُصِيْبَةِ: 1) مَرْتَبَةُ السَّخَطِ عَلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى: وَيَكُوْنُ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ، كَمَا فِي المتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُوْدَ وَشَقَّ الجُيُوْبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ). (¬3) 2) مَرْتَبَةُ الصَّبْرِ: وَهُوَ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ البَلَاءِ؛ وَأنَّهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللهُ، وَقَدْ يَتَمَنَّى العَبْدُ زَوَالَهَا؛ كَمِثْلِ مَنْ ابْتُلِيَ بِمَرَضٍ؛ فَيَعْلَمُ أنَّهُ لِحِكْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ، فَهُوَ رَاضٍ بِفِعْلِ رَبِّهِ (أَي بِتَقْدِيْرِهِ) - وَإِنْ كَانَ مُتَمَنِّيًا لِزَوَالِهِ؛ وَهُوَ المَقْدُوْرُ -. (¬4) 3) مَرْتَبَةُ الرِّضَا بِالمَقْدُوْرِ: فَهُوَ رَاضٍ بِالقَدَرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لِحِكْمَةٍ، وَأَيْضًا هُوَ رَاضٍ بِمَا حَلَّ بِهِ - أَيْ: مِنَ المَقْدُوْرِ - غَيْرُ مُتَمَنٍ لِزَوَالِ مَا أَصَابَهُ. لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِأَسْبَابِ إِزَالَةِ المُؤْلِمِ؛ لِأَنَّ المَقْصُوْدَ هُوَ إِظْهَارُ مَحَبَّةِ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ؛ لِأَنَّهُ نَاتِجٌ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. (¬5) (¬6) 4) مَرْتَبَةُ الشُّكْرِ عَلَى المُصِيْبَةِ: ووَجْهُهَا أَنَّه يَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّه لَمْ يَجْعَلْهَا فِي دِيْنِهِ (¬7)، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَذَابَ الدُّنيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2398) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (143). (¬2) قَالَهُ المُبَارَكْفُوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ بِشَرْحِ التِّرْمِذِيِّ) (66/ 7). وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاصْبِرُوا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3026)، وَمُسْلِمٌ (1741) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1297)، وَمُسْلِمٌ (103). (¬4) وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ تُسَمَّى أَحْيَانًا بِمَرْتَبَةِ الرِّضَا؛ وَلَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى - وَالَّذِيْ هُوَ المُقَارِنُ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ - أَمَّا المَرْتَبَةُ التَّالِيَةُ فَهِي الرِّضَا بِالمَقْدُوْرِ - وَهُوَ الَّذِيْ فِيْهِ الخَيْرُ وَالشَّرُّ -، وَهِيَ أَعْلَى مِنَ السَّابِقَةِ. (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (488/ 1): (وَالفَرْقُ بَيْنَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ: أَنَّ الصَّبْرَ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ مَعَ وُجُودِ الأَلَمِ؛ وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَفُّ الجَوَارِحِ عَنِ العَمَلِ بِمُقْتَضَى الجَزَعِ، وَالرِّضَا: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالقَضَاءِ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ المُؤْلِمِ؛ وَإِنْ وُجِدَ الإِحْسَاسُ بِالأَلَمِ، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ القَلْبَ مِنْ رُوْحِ اليَقِيْنِ وَالمَعْرِفَةِ، وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا، فَقَدْ يُزِيلُ الإِحْسَاسَ بِالأَلَمِ بِالكُلِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ). (¬6) قُلْتُ: لَا سِيَّمَا إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، أَوْ مَا كَانَ مَذْمُوْمًا فِي نَفْسِهِ، فَالمَقْصُوْدُ هُنَا الابْتِلَاءُ بِالمُصِيْبَةِ، كَمَا بَوَّبَ عَلَيْهِ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ (بَابُ مِنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ). وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَعَادِ) (9/ 4): (فَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُ التَّدَاوِي فِي نَفْسِهِ؛ وَالْأَمْرُ بِهِ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ). (¬7) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (وَلَا تَجْعَلْ مُصِيْبَتَنا فِي دِيْنِنَا). حَسَنٌّ. التِّرْمِذِيُّ (3502) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1268).

باب ما جاء في الرياء

بَابُ مَا جَاءَ فِي الرِّيَاءِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوْحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكَهْف:110). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيْهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا (أَلَا أُخْبِرُكُمْ مَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ المَسِيْحِ الدَّجَّالِ؟) قَالُوا: بَلَى. قَالَ: (الشِّرْكُ الخَفِيُّ؛ يَقُوْمُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهَ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ الكَهْفِ. الثَّانِيَةُ: الأَمْرُ العَظِيْمُ فِي رَدِّ العَمَلِ الصَّالِحِ إِذَا دَخَلَهُ شَيْءٌ لِغَيْرِ اللهِ. الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ السَّبَبِ المُوجِبِ لِذَلِكَ - وَهُوَ كَمَالُ الغِنَى -. الرَّابِعَةُ: أَنَّ مِنَ الأَسْبَابِ؛ أَنَّهُ تَعَالَى خَيْرُ الشُّرَكَاءِ. الخَامِسَةُ: خَوْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الرِّيَاءِ. السَّادِسَةُ: أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ المَرْءَ يُصَلِّي لِلَّهِ؛ لَكِنْ يُزَيِّنُهَا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْهِ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2985). (¬2) حَسَنٌ. ابْنُ مَاجَه (4204)، وَأَحْمَدُ (11252). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2607).

الشرح

الشَّرْحُ - الرِّيَاءُ حَقِيْقَتُهُ مِنَ الرُّؤيَةِ البَصَرِيَّةِ، وَيَكُوْنُ أَيْضًا مِنَ السَّمْعِ؛ فَيُسَمَّى سُمْعَةً، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَن سَمَّع سَمَّعَ اللهُ به، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ). (¬1) - الرِّيَاءُ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرٌ، وَهُوَ أَيْضًا شِرْكٌ خَفيٌّ، فَهُوَ أَصْغَرٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْبَرَ، أَيْ: لَيْسَ فَاعِلُهُ كَافِرًا بِاللهِ تَعَالَى خَارِجًا عَنِ المِلَّةِ. وَهُوَ شِرْكٌ خَفِيٌّ (¬2) بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّه يُخَالِطُ نِيَّةَ العَبْدِ وَلَيْسَ عَمَلَهُ. (¬3) - أَنْوَاعُ الرِّيَاءِ: (¬4) 1) رِيَاءُ المُنَافِقِيْنَ: بِأَنْ يُظْهِرَ الإِسْلَامَ وَيُبْطِنَ الكُفْرَ، فَالرِّيَاءُ هَذَا هُوَ فِي أَصْلِ الدِّينِ. وَهَذَا مِنَافٍ لِلتَّوْحِيْدِ مِنْ أَصْلِهِ، وكُفْرٌ أَكْبَرٌ بِاللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُنَافِقِيْنَ بِقَوْلِهِ {يُرَاءُوْنَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُوْنَ اللهَ إِلَّا قَلِيْلًا} (النِّسَاء:142). 2) رِيَاءُ المُسْلِمِ (أَي الَّذِيْ قَدْ يَصْدُرُ مِنَ المُسْلِمِ): بِأَنْ يَكُوْنَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّهُ يُرَائِي بِبَعْضِ عَمَلِهِ، فَهَذَا شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَهُوَ مُنافٍ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ، لِأَنَّه لَيْسَ فِي أَصْلِ تَديُّنِهِ؛ وَعَلَيْهِ حَدِيْثُ البَابِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ (الخَوفِ مِنَ الشِّرْكِ) بَيَانُ أَنَّهُ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ. (¬5) - سَبَبُ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الشِّركِ الخَفِيِّ أَكْثَرَ مِنَ المَسِيْحِ الدَّجَّالِ رُغْمَ عِظَمِ فِتْنَتِهِ؛ هُوَ أَنَّ هَذَا النَّوعَ مِنَ الشِّرْكِ خَفيٌّ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَيَعْرِضُ لِلعُبَّادِ فِي عِبَادَتِهِم، أَمَّا المَسِيْحُ الدَّجَّالُ؛ فَإِنَّ أَمْرَهُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي حَقِّهِ مِنَ النُّصُوْصِ، لِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ شِيْعَتَهِ هُمْ مِمَّن لَا عِلْمَ عِنْدَهُم. - إِنَّ اسْتِدْلَالَ المُصَنِّفِ هُنَا هُوَ منِ بَابِ الأَوْلَى، حَيْثُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الرِّيَاءِ؛ فَغَيْرُهُم - مِمَّنْ هُم أَقَلُّ عِلْمًا وَصَلَاحًا - هُمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6499)، وَمُسْلِمٌ (2986) مِنْ حَدِيْثِ جُنْدُبٍ مَرْفُوْعًا. وَفِي رِوَايَةٍ لَأَحْمَدَ (3839) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا (مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ؛ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ)، وَالمَعْنَى: أَظْهَرَ اللهُ عَنْهُ مَا يَنطَوي عَلَيْهِ مِنْ قُبْحِ السَّرَائِرِ. (¬2) وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ (937) عَنْ مَحْمُوْدِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ). قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ مَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: (يَقُوْمُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي؛ فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ). حَسَنٌ. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (31). (¬3) وَتَأَمَّلِ الحَدِيْثَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ (انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيْكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيْلُهُ وَكَثِيْرُهُ؟) قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ)). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (716). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (554). (¬4) مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّمْهِيْدِ (ص52) لِلشَّيْخِ صَالِحِ آلِ الشَّيْخ حَفِظَهُ اللهُ. (¬5) وذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ: هُوَ جَمِيْعُ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ الَّتِيْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشِّرْكِ؛ كَالغُلوِّ فِي المَخْلُوْقِ - بِحَيْثُ لَا يَصِلُ هَذَا الغُلُوُّ إِلَى رُتْبَةِ العِبَادَةِ - وَكَالحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ وَكَيَسِيْرِ الرَّيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

- حُكْمُ العِبَادَةِ إِذَا خَالَطَهَا الرِّيَاءُ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ (¬1): 1) أَنْ يَكُوْنَ البَاعِثُ عَلَى العِبَادَةِ مُرَاءَاةَ النَّاسِ مِنَ الأَصْلِ؛ كَمَنْ قَامَ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِ مُرَاءَاةِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى، فَهَذَا شِرْكٌ وَالعِبَادَةُ بَاطِلَةٌ. (¬2) 2) أَنْ يَكُوْنَ الرِّيَاءُ مُشَارِكًا لِلعِبَادَةِ فِي أَثْنَائِهَا؛ بِمَعْنَى أَنْ يَكُوْنَ الحَامِلُ لَهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ الإِخْلَاصَ للهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَطْرَأُ الرِّيَاءُ فِي أَثْنَاءِ العِبَادَةِ؛ فَهُنَا نُمَيِّزُ العِبَادَةَ نَفْسَهَا؛ فَإِنْ كَانَتِ العِبَادَةُ لَا يَنْبَنِي آخِرُهَا عَلَى أوَّلِهَا (كَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَالصَّدَقَةِ تِلوَ الصَّدَقَةِ)، فَأَوَّلُهَا صَحِيْحٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَالبَاطِلُ آخِرُهَا. أَمَّا إِذَا كَانَتِ العِبَادَةُ يَنْبَنِي آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا (كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ)؛ فَإِذَا دَافَعَ الرِّيَاءَ وَكَرِهَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ). (¬3) أمَّا إِذَا اسْتَرْسَلَ مَعَهُ ولم يُدَافِعْهُ؛ فَحِيْنَئِذٍ تَبْطُلُ جَمِيْعُ العِبَادَةِ؛ لِأَنَّ آخِرَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَمُرْتَبِطٌ بِهَا. (¬4) 3) إِذَا طَرَأَ الرِّيَاءُ بَعْدَ انْتِهَاءِ العِبَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهَا شَيْئًا - اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ عُدْوَانٌ كَالمَنِّ وَالأَذَى بِالصَّدَقَةِ - فَإِنَّ هَذَا العُدْوَانَ يَكُوْنُ إِثْمُهُ مُقَابِلًا لِأَجْرِ الصَّدَقَةِ فَيُبْطِلُهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِيْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُوْنَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِيْنَ} (البَقَرَة:264). ¬

_ (¬1) (القَوْلُ المُفِيْدُ) لِلشَّيْخِ العُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ (125/ 2)؛ بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬2) وَكُوْنُ العِبَادَةِ بَاطِلَةٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهَا، عَدَا عَنِ الإثْمِ فِيْهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ فَهِيَ سَاقِطَةٌ عَنْ ذِمَّتِهِ. (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5269)، وَمُسْلِمٌ (127) مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. (¬4) وَفِي بُطْلَانِهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُم: إَنَّهُ يُجَازَى بِأَصْلِ نِيَّتِهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُم اللهُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (83/ 1). قُلْتُ: وَلَكِنْ يَشْهَدُ لِمَا أَثْبَتْنَا حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المَرْفُوْعُ (قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيْهِ غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2985).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {يُوْحَى إِلَيَّ}: الوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مَرْيَم:11)، وَفِي الشَّرْعِ: إِعْلَامُ اللهِ بالشَّرْعِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}: المُرَادُ بِاللِّقَاءِ هُنَا المُلَاقَاةُ الخَاصَّةُ، لِأَنَّ اللِّقَاءَ نَوْعَان: 1) عَامٌّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيْهِ} (الانِشْقِاَق:6). 2) خَاصٌّ بِالمُؤْمِنِيْنَ، وَهُوَ لَقَاءُ الرِّضَى وَالنَّعِيْمِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَتَتَضَمَّنُ رؤيَتَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: فِيْهِ بَيَانُ صِفَةِ العَمَلِ المَقْبُوْلِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَمَا فِي الحَدِيْثِيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِيْزَانَا قَبُوْلِ العَمَلِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ وَهُمَا حَدِيْثُ (إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، وَحَدِيْثُ (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهو رَدٌّ). (¬1) وَكَمَا قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِيْ خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيْزُ الغَفُوْرُ} (المُلْك:2) قَالَ: (أخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُوْنَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالخَالِصُ إِذَا كَانَ للهِ وَالصَّوَابُ إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ). (¬2) - قَوْلُهُ تَعَالَى {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: ذِكْرُ الرُّبُوْبِيَّةِ هُنَا فِيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى العِلَّةِ فِي التَّوْحِيْدِ، فَكَمَا أَنَّ رَبَّكَ خَلَقَكَ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي خَلْقِكَ؛ فَإِنَّهُ أَيْضًا مَعْبُوْدُكَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي العِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ} (البَقَرَة:21). ¬

_ (¬1) الحَدِيْثُ الأَوَّلُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوْعًا، والثَّانِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2697)، وَمُسْلِمٌ (1718) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا؛ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. (¬2) رَوَاهُ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (95/ 8).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) مَا حُكْمُ مَنْ خَالَطَتْ نِيَّتَهُ نِيَّةٌ غَيْرُ الرِّيَاءِ؛ كَمَنْ جَاهَدَ مِنْ أَجْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَأَضَافَ لِذَلِكَ المَغْنَمَ، وَكَمَنْ حَجَّ لِأَدَاءِ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ فَرِيْضَةٍ وَأَضَافَ لِذَلِكَ تِجَارَةً دُنْيَوِيَّةً، وَكَمَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَوْسِيْعًا فِي رِزْقِهِ وَإِطَالَةِ عُمُرِهِ؟ الجَوَابُ: إِنَّ أَجْرَهُ يَنْقُصُ بِحَسْبِ ذَلِكَ؛ وَلَا يَبْطُلُ، كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا (مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيْلِ اللهِ فَيُصِيْبُوْنَ الغَنِيْمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الأُجْرَةِ وَيَبْقى لَهُمُ الثُّلْثُ، فَإِنْ لَمْ يُصِيْبُوا غَنِيْمَة تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمُ). (¬1) (¬2) وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَغَّبَ المُؤْمِنِيْنَ فِي تَقْوَاهُ بِذِكْرِ مَنَافِعَ لَهُم فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطَّلَاق:2)، وَكَمَا فِي الحَجِّ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (البَقَرَة:198)، وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ المُتَّفقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَه فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (1906). (¬2) قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: (التَّاجِرُ وَالمُسْتَأْجَرُ أَجْرُهُم عَلَى قَدْرِ مَا يَخْلُصُ مِنْ نيَّتِهِم فِي غَزَاتِهِم، وَلَا يَكُوْنُ مِثْلَ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيْرَهُ). جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ (82/ 1). (¬3) البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557). (¬4) وَلَكِنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَعْنِي جَوَازَ أَنْ تَكُوْنَ نيَّتُهُ خَالِصَةً لِأَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا مَذْمُوْمٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيْدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيْدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوْمًا مَدْحُوْرًا} (الإِسْرَاء:18)، وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَنْ غَزَا فِي سَبِيْلِ اللهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى). صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (3138) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (6401).

باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

بَابُ مِنَ الشِّرْكِ إِرَادَةُ الإِنْسَانِ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيْهَا وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُوْنَ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيْهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (هُوْد:16). في الصَّحَيْحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّيْنَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيْصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيْلَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيْكَ فَلَا انْتَقَشَ. طُوْبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ؛ إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: إِرَادَةُ الإِنْسَانِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ هُوْدٍ. الثَّالِثَةُ: تَسْمِيَةُ الإِنْسَانِ المُسْلِمِ عَبْدَ الدِّيْنَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالخَمِيْصَةِ. الرَّابِعَةُ: تَفْسِيْرُ ذَلِكَ؛ بِأَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ. الخَامِسَةُ: قَوْلُهُ (تَعِسَ وَانْتَكَسَ). السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ (وَإِذَا شِيْكَ فَلَا انْتَقَشَ). السَّابِعَةُ: الثَّنَاءُ عَلَى المُجَاهِدِ المَوْصُوْفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحُ البُخَارِيِّ (2887). وَأَمَّا ذِكْرُ الخَمِيْلَةِ فَلَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَلفَاظِ الحَدِيْثِ - فَضْلًا عَنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ - وَقَدْ أَوْرَدَهُ شَيْخُ الإسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (35/ 1) هَكَذَا - كَمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ هُنَا -، وَعِوَضًا عَنْهُ فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ قَوْلُهُ (القَطِيْفَة) بَدَلَ (الخَمِيْلَةِ). وَالقَطِيْفَةُ: كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى الخَمِيْلَةِ؛ كَمَا ذَكَروا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ.

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلبَابِ السَّابِقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ العَامِلَ فِيْهِ يُرِيْدُ بِعَمَلِهِ الثَّوَابَ العَاجِلَ - كَالرِّزْقِ وَالعَافِيَةِ وَالأَمَانِ وَالذُّرِّيَّةِ -، وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلبَابِ السَّابِقِ فِي أَنَّ العَامِلَ هُنَا عَمَلُهُ هُوَ لِوَجْهِ اللهِ وَلَيْسَ رِيَاءً، وَأَمَّا البَابُ السَّابِقُ فَعَمَلُهُ هُوَ لِمُرَاءَاةِ النَّاسِ، وَاشْتَرَكوا فِي كَوْنِ الغَايَةِ من عَمَلِهِم هِيَ المَصْلَحَةُ العَاجِلَةُ فَقَط. (¬1) - مَنْ كَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِلأَجْرِ العَاجِلِ وَالثَّوَابِ الدُّنْيَوِيِّ ولَا يَرْجُو الآخِرَةِ أَبَدًا؛ فَهَذَا هُوَ الكَافِرُ الكُفْرَ الأَكْبَرَ (¬2)، وَسَبَبُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ إِيْمَانِهِ بِاليَوْمِ الآخِرِ؛ وَأَنَّ فِيْهِ الجَزَاءَ وَالثَّوَابَ وَالجنَّةَ وَالنَّارَ، وَهَذَا يُنَاقِضُ أَصْلَ التَّوْحِيْدِ، وَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ فَفِيْهِ خَصْلَةٌ مِنَ الكُفْرِ حتَّى يَدَعَهَا (¬3)، وَهُوَ بِذَلِكَ يُنَاقِضُ كَمَالَ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ، فَهُوَ يُرِيْدُ بِعَمَلِهِ نَفْعًا فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ غَافِلٌ عَنْ ثَوَابِ الآخِرَةِ. (¬4) - مَنْ عَمِلَ عَمَلًا مُخْلِصًا فِيْهِ للهِ رَاجِيًا بِذَلِكَ الثَّوَابَ العَاجِلَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ كَافِرًا. (¬5) وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً؛ يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا؛ حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا). (¬6) ¬

_ (¬1) وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ أَنَّ العَمَلَ هُنَاكَ حَابِطٌ لَا ثَوَابَ فِيْهِ مِنَ اللهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ، أَمَّا هُنَا فَقَدْ يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. (¬2) وَكَذَلِكَ فِي البَابِ السَّابِقِ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِغَيْرِ اللهِ فَهَذَا هُوَ المُنَافِقُ الأَصْلِيُّ، وَكَمَا سَبَقَ قَرِيْبًا بَيَانُ أَنَّ الرِّيَاءَ نَوْعَانِ: رِيَاءُ المُنَافِقِ - وَرِيَاءُ المُسْلِم. (¬3) كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُوْنُ فِيْهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ المُنَافِقِ الخَالِصِ (كَالكَذِبِ وَالخِيَانَةِ وَالغَدْرِ وَالفُجُورِ). (¬4) قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (ص378): (يَقُوْلُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أَيْ: كُلُّ إِرَادَتِهِ مَقْصُورةٌ عَلَى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَعَلَى زِينَتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِيْنَ وَالقَنَاطِيْرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ؛ قَدْ صَرَفَ رَغْبَتَهُ وَسَعْيَهُ وَعَمَلَهُ فِي هَذِهِ الأَشْيَاء وَلَمْ يَجْعَلْ لِدَارِ القَرَارِ مِنْ إِرَادَتِهِ شَيْئًا؛ فَهَذَا لَا يَكُوْنُ إِلَّا كَافِرًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا؛ لَكَانَ مَا مَعَهُ مِنَ الإِيْمَانِ يَمْنَعُهُ أَنْ تَكُوْنَ جَمِيْعُ إِرَادَتِهِ لِلدَّارِ الدُّنْيَا، بَلْ نَفْسُ إيِمَانِهِ وَمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الأَعْمَالِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ إِرَادَتِهِ الدَّارَ الآخِرَةَ. وَلَكِنَّ هَذَا الشَّقِيَّ الَّذِيْ كَأَنَّهُ خُلِقَ لِلدُّنْيَا وَحْدِهَا {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيْهَا} أَيْ: نُعْطِيْهِم مَا قُسِمَ لَهُم فِي أُمِّ الكِتَابِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا {وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُونَ} أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ شَيْئًا مِمَّا قُدِّرَ لَهُم؛ وَلَكِنْ هَذَا مُنْتَهَى نَعِيْمِهِم). (¬5) قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُوْنِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُوْنَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُوْنَ} (الأَحْقَاف:20). وَكَمَا فِي البُخَارِيِّ (2468)، وَمُسْلِمٌ (1479) مِنْ حَدِيْثِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اُدْعُ اللهَ أَنْ يُوسِّعَ عَلَى أُمَّتِكِ؛ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّوْمَ؛ وَهُمْ لَا يعْبُدُوْنَ اللهَ! فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ: (أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! أُوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُم طَيِّبَاتُهم فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا)). (¬6) مُسْلِمٌ (2808) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيْرِ (264/ 15) عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ ({مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيْهَا وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُوْنَ} أَيْ: لَا يُظْلَمُونَ. يَقُوْلُ: مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَسَدَمَهُ (أَي: وَلَعَهُ) وَطِلْبَتَهُ وَنِيَّتَهُ جَازَاهُ اللهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْضِي إِلَى الآخِرَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا جَزَاءً. وَأَمَّا المُؤْمِنُ؛ فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيهَا فِي الآخِرَةِ {وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُونَ} أَيْ: فِي الآخِرَةِ لَا يُظْلَمُونَ).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيْهَا وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُوْنَ، أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيْهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (هُوْد:16) هَذِهِ الآيَةُ مَخْصُوْصَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيْدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيْدُ} (الإِسْرَاء:18) أَيْ: لِمَنْ شَاءَ وبِمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ. (¬1) - مِنَ الأَمْثِلَةِ الَّتِيْ تُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ إِرَادَةِ الإِنْسَانِ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا: أَنْ يُرِيْدَ المَالَ، كَمَنْ أَذَّنَ لِيَأْخُذَ رَاتِبَ المُؤَذِّنِ، أَوْ حَجَّ لِيَأْخُذَ المَالَ. أَنْ يُرِيْدَ المَرْتَبَةَ، كَمَنْ تَعَلَّمَ فِي كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لِيَأْخُذَ الشَّهَادَةَ؛ فَتَرْتَفِعَ مَرْتَبَتُهُ. أَنْ يُرِيْدَ دَفْعَ المَصَائِبِ وَالأَمْرَاضِ عَنْهُ؛ كَمَنْ يَعْبُدُ اللهَ كَيْ يَجْزيَهُ اللهُ بِهَذَا فِي الدُّنْيَا بِمَحَبَّةِ الخَلْقِ لَهُ وَدَفْعِ السُّوْءِ عَنْهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. - (القَطِيْفَةُ): كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى الخَمِيْلَةِ. - سُمِّيَ الرَّجُلُ عَابِدًا لِلدِّرْهَمِ وَالدِّيْنَارِ لِأَنَّهَا هِيَ المَقْصُوْدَةُ بِعَمَلِهِ وَهِمَّتِهِ، بِعَكْسِ مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةً لِابْتِغَاءِ الدَّارِ الآخِرَةِ. - قَوْلُهُ (تَعِسَ وَانْتَكَسَ): تَعِسَ: خَابَ وَهَلَكَ، وَانْتَكَسَ: انْتَكَسَتْ عَلَيْهِ الأُمُوْرُ بِحَيْثُ لَا تَتَيَسَّرُ لَهُ، فَكُلَّمَا أَرَادَ شَيْئًا انْقَلَبَتْ عَلَيْهِ الأُمُوْرُ خِلَافَ مَا يُرِيْدُ. - قَوْلُهُ (طُوْبَى): مِنَ الطِّيْبِ، وَهِيَ اسْمُ تَفْضِيْلٍ، وَيُقَالُ (أَطْيَبُ) لِلمُذَكَّرِ وَطُوْبَى لِلمُؤَنَّثِ، وَالمَعْنَى: أَطْيَبُ حَالٍ تَكُوْنُ لِهَذَا الرَّجُلِ، وَفِي الحَدِيْثِ (طُوْبَى شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ مَسِيْرَةَ مائَةَ عَامٍ؛ ثِيَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا). (¬2) - فِي قَوْلِهِ (إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ ... وَإنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ): ذِكْرٌ مَمْدُوحٌ لِصِفَاتِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَهِيَ: 1) بَيَانُ ائْتِمَارِهِ بِمَا أُمِرَ طَالَمَا أَنَّهُ فِي سَبيْلِ اللهِ. (¬3) 2) قِيَامُهُ بِعَمَلِهِ عَلَى أَحْسِنِ وَجْهٍ. وَالتَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ (إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ) أُسْلُوْبٌ مِنَ أَسَالِيْبِ العَرَبِ فِي بَيَانَ تَحَقُّقِ الشَّيْءِ وَوُقُوْعِهِ عَلَى وَجْهِهِ. 3) عَدَمُ سَعْيِهِ خَلْفَ ثَنَاءِ النَّاسِ، فَالسَّاقَةُ - وَهِيَ فِي مُؤَخِّرَةُ الجَيْشِ - لَا يُتَفَطَّنُ لِصَاحِبِهَا أَنَّهُ فِي جِهَادٍ؛ بِخِلَافِ مُقَدَّمِ الجَيْشِ، فَهَذَا الرَّجُلُ بَعِيْدٌ عَنِ الرِّيَاءِ. - قَوْلُهُ (إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ): أَيْ: لَيْسَ لَهُ جَاهٌ وَلَا شَرَفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّه لَيْسَ مِنْ طُلَّابِهَا، فَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَفَاعَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُ عِنْدَهُم، كَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوْعٍ بِالأَبْوَابِ؛ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ). مُسْلِمٌ. (¬4) ¬

_ (¬1) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيْدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيْدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيْبٍ} (الشُّوْرَى:20). (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (11673) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1985). (¬3) قَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (172/ 14): (وَالسَّاقَةُ مُؤَخِّرَةُ الجَيْشِ، وَالمَعْنَى: إِيْتِمَارُهُ لِمَا أُمِرَ وَإِقَامَتُهُ حَيْثُ أُقِيْمَ، لَا يُفْقَدُ مِنْ مَكَانِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الحِرَاسَةُ وَالسَّاقَةُ؛ لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مَشَقَّةً وَأَكْثَرُ آفَةً، الأَوَّلُ عِنْدَ دُخُوْلِهِم دَارَ الحَرْبِ، وَالآخَرُ عِنْدَ خُرُوْجِهِم مِنْهَا). (¬4) مُسْلِمٌ (2622).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) مَا حُكْمُ أَخْذِ المَالِ عَلَى بَعْضِ الوَظَائِفِ الدِّينيَّةِ؛ كَإِمَامَةِ المَسْجِدِ، وَالتَّدْرِيْسِ الشَّرْعِيِّ، وَتَعْلِيْمِ القُرْآنِ وَ ..... ؟؟ الجَوَابُ: لَا يَجُوْزُ أَخْذُهُ عَلَى أَنَّهُ أَجْرٌ عَلَى العِبَادَةِ، وَلَكِنْ يَجُوْزُ مِنْ بَابِ الإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّعْوِيْضِ لَهُ عَنِ اشْتِغَالِهِ بِالأُمُوْرِ النَّافِعَةِ لِلمُسْلِمِيْنَ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ النِّيَّةِ، وَيَزِيْدُ وُضُوْحًا أَيْضًا فِيْمَا لَوْ لَمْ يُعْطَ الأُجْرَةَ عِنْدَ اكْتِفَائِهِ؛ فَهَلْ سَيَبْقَى عَلَى عَمَلِهِ السَّابِقِ؟! وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ قَالَ: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَآتِيَنَّ رَسُوْلَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَسْأَلَنَّهُ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللَّهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ - وَلَيْسَتْ بِمَالٍ؛ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيْلِ اللَّهِ - قَالَ: (إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا). (¬1) وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوْعًا (بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالدِّيْنِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِيْنِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيْبٍ). (¬2) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3416)، صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (3416). (¬2) صَحِيْحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (405)، وَالحَاكِمُ (346/ 4). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2825).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) هَلْ يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ مَنْ يَتَعَلَّمُوْنَ فِي الكُلِّيَّاتِ أَوْ غَيْرِهَا لِغَايَةِ شَهَادَةٍ أَوْ مَرْتَبَةٍ؟ الجَوَابُ: أَنَّهُم يَدْخُلُوْنَ فِي ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُرِيْدُوا غَرَضًا شَرْعِيًّا، وَلَكِنْ نَقُوْلُ لَهُم: 1) لَا تَقْصِدُوا بِذَلِكَ المَرْتَبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ، بَلِ اتَّخِذُوا هَذِهِ الشَّهَادَاتِ وَسِيْلَةً لِلعَمْلِ فِي الحُقُوْلِ النَّافِعَةِ لِلخَلْقِ؛ لِأَنَّ الأَعْمَالَ فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّهَادَاتِ، وَالنَّاسُ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ الوُصُوْلَ إِلَى مَنْفَعَةِ الخَلْقِ إِلَّا بِهَذِهِ الوَسِيْلَةِ، وَبِذَلِكَ تَكُوْنُ النِّيَّةُ سَلِيْمَةً. 2) أَنَّ مَنْ أَرَادَ العِلْمَ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّه قَدْ لَا يَجِدْهُ إِلَّا فِي الكُلِّيَّاتِ، فَيَدْخُلُ الكُلِّيَّةَ أَوْ نَحْوَهَا لِهَذَا الغَرَضِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلمَرْتَبَةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَهُمُّهُ. 3) أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ بِعَمَلِهِ الحُسْنَيِيْنِ - حُسْنَى الدُّنْيَا وَحُسْنَى الآخِرَةِ - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطَّلَاق:3)، فَرَغَّبَهُ سُبْحَانَهُ فِي التَّقْوَى بِذِكْرِ المَخْرَجِ مِنْ كُلِّ ضِيْقٍ وَالرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (138/ 2).

باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله؛ فقد اتخذهم أربابا من دون الله

بَابُ مَنْ أَطَاعَ العُلَمَاءَ وَالأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيْمِ مَا أَحَلَّ اللهُ أَوْ تَحْلِيْلِ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ فَقَدْ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُوْنِ اللهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يُوْشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ؛ أَقُوْلُ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ! وَتَقُوْلُوْنَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ?!). (¬1) وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: عَجِبْتُ لِقَوْمٍ عَرَفُوا الإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ؛ وَيَذْهَبُوْنَ إِلَى رَأْيِ سُفْيَانَ!! وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} (النُّوْر:63) أَتَدْرِي مَا الفِتْنَةُ? الفِتْنَةُ الشِّرْكُ، لَعَلَّهُ إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلَكَ. (¬2) وَعَنْ عَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ وَالمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (التَّوْبَة:31)، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ! قَالَ: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُوْنَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّوْنَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّوْنَهُ?)، فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُم). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. (¬3) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ اَلنُّوْر. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ بَرَاءَةَ. الثَّالِثَةُ: التَّنْبِيْهُ عَلَى مَعْنَى العِبَادَةِ الَّتِيْ أَنْكَرَهَا عَدِيٌّ. الرَّابِعَةُ: تَمْثِيْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَتَمْثِيْلُ أَحْمَدَ بِسُفْيَانَ. الخَامِسَةُ: تَغَيُّرُ الأَحْوَالِ إِلَى هَذِهِ الغَايَةِ، حَتَّى صَارَ عِنْدَ الأَكْثَرِ عُبَادَةُ الرُّهْبَانِ هِيَ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ - وَتُسَمَّى الوَلَايَةُ -، وَعِبَادَةُ الأَحْبَارِ هِيَ العِلْمُ وَالفِقْهُ، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ الأَحْوَالُ إِلَى أَنَّ عُبِدَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الصَّالِحِيْنَ، وَعُبِدَ بِالمَعْنَى الثَّانِيَ مَنْ هُوَ مِنَ الجَاهِلِيْنَ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (3121)، وَلَفْظُهُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُوْلُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ: يَقُوْلُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُوْنَ؛ أَقُوْلُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَيَقُوْلُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ). قَالَ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص417): (بِإِسْنَادٍ صَحَيْحٍ). وَأَوْرَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَطَالِبُ العَالِيَةُ) (96/ 7) وَقَالَ: ((قَالَ إِسْحَاقُ: نَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوْبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيْحَكَ أَضَلَلْتَ! تَأْمُرُنَا بِالعُمْرَةِ فِي العَشْرِ وَلَيْسَ فِيْهِنَّ عُمْرَةٌ!) فَقَالَ: (يَا عُرَيُّ فَسَلْ أُمَّكَ). قَالَ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَقُوْلَا ذَلِكَ؛ وَكَانَا أَعْلَمَ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَعَ لَهُ مِنْكَ). فَقَالَ: (مِنْ هَهُنَا تَرِدُوْنَ؛ نَجِيْئُكُمْ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجِيْئُوْنَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ). سَنَدُهُ صَحِيْحٌ، وَبَعْضُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالعُمْرَةِ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ). قُلْتُ: وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهَوِيْه فِي مُسْنَدِهِ. (¬2) ذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الفُرُوْعِ (107/ 11)، وَأَيْضًا شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (104/ 19). وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ ابْنُ بَطَّةَ العُكْبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الإبانَةُ الكُبْرَى) (260/ 1) عَنِ الفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: (سَمَعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ؛ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُوْلُ: نَظَرْتُ فِي المُصْحَفِ فَوَجَدْتُ فِيْهِ طَاعَةَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِيْنَ مَوْضِعًا، ثُمَّ جَعَلَ يَتْلوْ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} (النُّوْر:63)، وَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا، وَيَقُوْلُ: ومَا الفِتْنَةُ؟ الشِّرْكُ. لَعَلَّهُ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَزِيْغَ فيُهْلِكَهُ. وَجَعَلَ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا} (النِّسَاء:65)). قُلْتُ: وَأَمَّا سُفْيَانُ هُنَا فَهُوَ الثَّوْرِيُّ؛ كَمَا ذَكَرُوا فِي شُرُوْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ. (¬3) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (92/ 17) وَالتِّرْمِذِيُّ (3095) وَحَسَّنَهُ. الصَّحِيْحَةُ (3293). وَلَفْظُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: (أَتَيْتُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفي عُنُقِي صَلِيْبٌ مِنْ ذَهَبٍ -، فَقَالَ: (يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ)، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُوْرَةِ بَرَاءَةَ {اتَّخَذْوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ}، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُوْنُوا يَعْبُدُوْنَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوْهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوْهُ)). وَلَمْ أَجِدْهُ فِي أَحْمَدَ - إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ قَصْدُهُ أَصْلَ الحَدِيْثِ -، وَلَمْ يَعْزُهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ إِلَيْهِ فِي تَخْرِيْجِهِ أَيْضًا.

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّ تَوْحِيْدَ العَبْدِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعْتَقِدَ العَبْدُ مَا شَرَعَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُوْلِهِ. - قَوْلُهُ (العُلَمَاءَ وَالأُمَرَاءَ): هُمْ أُوْلُو الأَمْرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَطِيْعُوا اللهَ وَأَطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النِّسَاء:59). وَالأَمْرُ يَشْمَلُ: 1) الأَمْرَ الدِّيْنِيَّ؛ وَأَصْحَابُهُ هُمُ العُلَمَاءُ. 2) الأَمْرَ الدُّنْيَوِيَّ؛ وَأَصْحَابُهُ هُمُ الأُمَرَاءُ. - قَوْلُهُ (أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلَكَ): أَيْ: إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِ أَحَدٍ؛ فَإِنَّه يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُعَاقَبَ فَيُجْعَلَ فِي قَلْبِهِ الزَّيْغُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ اليَهُوْدِ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوْبَهُمْ} (الصَّفُّ:5)، فَهُم زَاغُوا بِمَحْضِ إِرَادَتِهِم وَاخْتِيَارِهِم مَعَ بَيَانِ الحُجَجِ وَظُهُوْرِ الدَّلَائِلِ وَالبَرَاهِيْنَ, فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوْبَهُم عُقُوْبَةً مِنْهُ لَهُم عَلَى ذَلِكَ, وَقَدْ يَصِلُ ذَلِكَ إِلَى الشِّرْكِ الأَكْبَرِ إِذَا كَانَ فِي تَحْلِيْلِ الحَرَامِ - مَعَ العِلْمِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ -، أَوْ تَحْرِيْمِ الحَلَالِ - مَعَ العِلْمِ بأَنَّهُ حَلَالٌ -. - قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المَسْلُوْلُ) (¬1): (إِذَا كَانَ المُخَالِفُ عَنْ أَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُذِّرَ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ أَوْ مِنَ العَذَابِ الأَلِيْمِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُوْنُ مُفْضِيًا إِلَى الكُفْرِ أَوِ العَذَابِ الأَلِيْمِ، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ إِفْضَاءُهُ إِلَى العَذَابِ؛ هُوَ مَجُرَّدُ فِعْلِ المَعْصِيَةِ، وَإِفْضَاؤُهُ إِلَى الكُفْرِ؛ إنَّمَا هُوَ لِمَا قَد يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ اسْتِخْفَافٍ بِحَقِّ الأَمْرِ الشَّرْعِيِّ كَمَا فَعَلَ إِبْلِيْسُ). - قَوْلُ الإمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ: (عَجِبْتُ). العَجَبُ نَوْعَان: 1) عَجَبُ اسْتِحْسَانٍ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُوْرِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ). (¬2) 2) عَجَبُ إِنْكَارٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُوْنَ} (الصَّافَات:12)، وَكَمَا فِي كَلَامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ هُنَا. - قَوْلُهُ تَعَالَى {يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ}: الأَمْرُ هُنَا هُوَ وَاحِدُ الأَوَامِرِ، وَلَيْسَ مِنَ الأُمُوْرِ أَي (الشُّؤُوْنِ)، وَهُوَ مُفْرَدٌ مُضَافٌ؛ فَيَعُمُّ جَمِيْعَ الأَوَامِرِ، وَعُدِّيَ فِعْلُ (يُخَالِفُوْنَ) بِـ (عَنْ) لِإفَادَتِهِ مَعْنَى الإِعْرَاضِ. (¬3) ¬

_ (¬1) (الصَّارِمُ المَسْلُوْلُ) (ص57). (¬2) البُخَارِيُّ (168). (¬3) قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (231/ 19): (وَقَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ} أُدْخِلَتْ (عَنْ) لِأَنَّ مَعْنَى الكَلَامِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يَلُوْذُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ، وَيُدْبِرُوْنَ عَنْهُ مُعْرِضِيْنَ). قُلْتُ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا عَنِ المُنَافِقِيْنَ {وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُوْلِ رَأَيْتَ المُنَافِقِيْنَ يَصُدُّوْنَ عَنْكَ صُدُوْدًا} (النِّسَاء:61).

- حَدِيْثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ بِتَمَامِهِ - كَمَا عَنْدَ الطَّبَرانِيِّ فِي الكَبِيْرِ - قَالَ: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيْبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: (يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ)، فَطَرَحْتُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُوْرَةَ بَرَاءَة، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ} (التَّوْبَة:31) حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُوْنَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُوْنَهُ وَيُحِلُّوْنَ مَا حَرَّمَ اللهُ، فَتَسْتَحِلُّوْنَهُ؟) قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ)). (¬1) - قَوْلُهُ تَعَالَى {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ}: (سُبْحَانَ): اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّسْبِيْحِ؛ وَهُوَ التَّنْزِيْهُ، أَيْ: تَنْزِيْهُ اللهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ. - اعْلَمْ أَنَّ اتِّبَاعَ العُلَمَاءِ أَوِ الأُمَرَاءِ فِي تَحْلِيْلِ مَا حَرَّمَ اللهُ أَوْ تَحْرِيْمِ مَا أَحَلَّ اللهُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: (¬2) 1) أَنْ يُتَابِعَهُم فِي ذَلِكَ رَاضِيًا بِقَوْلِهِم؛ مُقَدِّمًا لَهُ؛ سَاخِطًا لِحُكْمِ اللهِ، فَهُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ كَرِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ، وَلَا تَحْبُطُ الأَعْمَالُ إِلَّا بِالكُفْرِ، فَكُلُّ مَنْ كَرِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَهُوَ كَافِرٌ. 2) أَنْ يُتَابِعَهُم فِي ذَلِكَ رَاضِيًا بِحُكْمِ اللهِ وَعَالِمًا بِأَنَّهُ أَمْثَلُ وَأَصْلَحُ لِلعِبَادِ وَالبِلَادِ، وَلَكِنْ لِهَوَىً فِي نَفْسِهِ اخْتَارَهُ؛ كَأَنْ يُرِيْدَ مَثَلًا وَظِيْفَةً، فَهَذَا لَا يَكْفُرُ، وَلَكِنَّهُ فَاسِقٌ وَلَهُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ العُصَاةِ. 3) أَنْ يُتَابِعَهُم جَاهِلًا؛ فَيَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللهِ، فَهَذَا لَهُ حَالَانِ: أ) أَنْ يُمْكِنَهُ أَنْ يَعْرِفَ الحَقَّ بِنَفْسِهِ؛ فَهُوَ مُفَرِّطٌ أَوْ مُقَصِّرٌ، وَهُوَ آثِمٌ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ العِلْمِ عِنْدَ عَدَمِ العِلْمِ. ب) أَنْ لَا يَكُوْنَ عَالِمًا وَلَا يُمْكِنَهُ التَّعَلُّمُ؛ فَيُتَابِعُهُم تَقْلِيْدًا، وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الحَقَّ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَليْهِ؛ لِأَنَّه فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَكَانَ مَعْذُوْرًا بِذَلِكَ. (¬3) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (92/ 17) وَالتِّرْمِذِيُّ (3095) وَحَسَّنَهُ. الصَّحِيْحَةُ (3293). (¬2) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (157/ 2). وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ تَفْسِيْرِ التَّوْحِيْدِ نَقْلُ قَوْلِ شَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ، وَنُعِيْدُهُ هُنَا لِتَمَامِ الفَائِدَةِ: قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْموعِ الفَتَاوى (70/ 7): (وَهَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا - حَيْثُ أَطَاعُوْهُمْ فِي تَحْلِيْلِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيْمِ مَا أَحَلَّ اللهُ - يَكُوْنُوْنَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِيْنَ اللهِ؛ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيْلِ؛ فَيَعْتَقِدُوْنَ تَحْلِيْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيْمَ مَا أَحَلَّ اللهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ - مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِيْنَ الرُّسُلِ - فَهَذَا كُفْرٌ وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ شِرْكًا - وَإِنْ لَمْ يَكُوْنُوا يُصَلُّوْنَ لَهُمْ وَيَسْجُدُوْنَ لَهُمْ - فَكَانَ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي خِلَافِ الدِّيْنِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّيْنِ، وَاعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُوْنَ مَا قَالَهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ؛ مُشْرِكًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُوْنَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيْمَانُهُمْ بِتَحْرِيْمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيْلِ الحَرَامِ ثَابِتًا، لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوْهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ - كَمَا يَفْعَلُ المُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ المَعَاصِي الَّتِيْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ - فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوْبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوْفِ)). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ الأَخِيْرُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7145)، وَمُسْلِمٌ (1840) مِنْ حَدِيْثِ عَليٍّ مَرْفُوْعًا. ملاحظة: قَالَ الشَّيْخُ نَاصِرُ بْنُ حَمَدٍ الفَهْدُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صِيَانَةُ مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى مِنَ السَّقْطِ وَالتَّصْحِيْفِ) (ص 59): (وَقَوْلُهُ هُنَا (بِتَحْرِيْمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيْلِ الحَرَامِ) قَدْ أَشَارَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُوْنُ تَصْحِيْفًا مِنَ النُّسَّاخِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ العِبَارَةَ هِيَ (بِتَحْرِيْمِ الحَرَامِ وَتَحْلِيْلِ الحَلَالِ)). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (273/ 1): (وَالعَجَبُ أَنَّهُم فِي العِرَاقِ يَقُوْلُوْنَ: عِنْدَنَا الحُسَيْنُ؛ فَيَطُوْفُوْنَ قَبْرَهُ وَيَسْأَلُوْنَهُ، وَفِي مِصْرَ كَذَلِكَ، وَفِي سُوْرِيَّا كَذَلِكَ، وَهَذَا سَفَهٌ فِي العُقُوْلِ وَضَلَالٌ فِي الدِّيْنِ، وَالعَامَّةُ لَا يُلَامُوْنَ فِي الوَاقِعِ، لَكِنَّ الَّذِيْ يُلَامُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ العُلَمَاءِ وَمِنْ غَيْرِ العُلَمَاءِ).

- قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَضَى فِي الإِبْهَامِ بِخَمْسَ عَشَرَةَ، فَلَمَّا وَجَدَ كِتَابَ آلِ عَمْرُو بْنِ حَزْمٍ؛ وَفِيْهِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ قَالَ (وفي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ) صَارُوا إِلَيْهِ. قَالَ: وَلَمْ يَقْبَلُوا كِتَابَ آلِ عَمْرُو بْنِ حَزْمٍ - وَاللهُ أَعْلَمُ - حَتَّى ثَبَتَ لَهُم أَنَّهُ كِتَابُ رَسُوْلِ اللهِ. وَفِي هَذَا الحَدِيْثِ دِلَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: قَبُوْلُ الخَبَرِ. وَالأُخْرَى: أَنْ يُقْبَلَ الخَبَرُ فِي الوَقْتِ الَّذِيْ يَثْبُتُ فِيْهِ - وَإِنْ لَمْ يَمْضِ عَمَلٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ بِمِثْلِ الخَبَرِ الَّذِيْ قَبِلُوا -، وَدِلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَو مَضَى أَيْضًا عَمَلٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ ثُمَّ وُجِدَ عَنِ النَّبِيِّ خَبَرٌ يُخَالِفُ عَمَلَهُ لَتُرِكَ عَمَلُهُ لِخَبَرِ رَسُوْلِ اللهِ، وَدِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَدِيْثَ رَسُوْلِ اللهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ لَا بِعَمَلِ غَيْرِهِ بَعْدهُ). (¬1) - لَيْسَ كُلُّ حُكْمٍ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى يَكُوْنُ كُفْرًا مُخْرِجًا مِنَ المِلَّةِ: قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيْهَا هُدَىً وَنُوْرٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّوْنَ الَّذِيْنَ أَسْلَمُوا لِلَّذِيْنَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّوْنَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيْلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُوْنَ} (المَائِدَة:44). قَالَ إِمَامُ المُفَسِّرِيْنَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬2): (وَأَوْلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ؛ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هذهِ الآيَاتُ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الكِتَابِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الآيَاتِ فِيْهِم نَزَلَتْ، وَهُمُ المَعنِيُّوْنَ بِهَا، وَهَذِهِ الآيَاتُ سِيَاقُ الخَبَرِ عَنْهُم؛ فَكَوْنُهَا خَبَرًا عَنْهُم أَوْلَى. فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَد عَمَّ بِالخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ جَميْعِ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ! فَكَيْفَ جَعَلْتَهُ خَاصًّا؟ قِيْلَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى عَمَّ بِالخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ كَانُوا بِحُكْمِ اللهِ الَّذِيْ حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ جَاحِدِيْنَ؛ فَأَخْبَرَ عَنْهُم أَنَّهُم بِتَرْكِهِم الحُكْمَ - عَلَى سَبِيْلِ مَا تَرَكُوْهُ - كَافِرُوْنَ. وَكَذَلِكَ القَوْلُ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ جَاحِدًا بِهِ؛ هُوَ بِاللهِ كَافِرٌ - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - لِأَنَّه بِجُحُوْدِهِ حُكْمَ اللهِ - بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَنْزَلُه فِي كِتَابِهِ - نَظِيْرُ جُحُوْدِهِ نُبُوَّةَ نَبيِّهِ - بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ نَبيٌّ -). (¬3) ¬

_ (¬1) أَوْرَدَهُ القَاسِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (قَوَاعِدُ التَّحَدِيْثِ) (ص302) فِي (بَيَانِ الثَّمَرَاتِ المُجْتَنَاةِ مِنْ شَجَرةِ الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ المُبَارَكَةِ) وَالنَّصُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هُوَ فِي كِتَابِهِ (الرِّسَالَةُ) (ص424). وَأَمَّا الحَدِيْثُ الَّذِيْ أَوْرَدَهُ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (17698) وَغَيْرِه، وَلَفْظُهُ - كَمَا أَوْرَدَهُ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي جَامِعِ الأَحَادِيْثِ (471/ 2) - (عَنْ سَعِيْدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَالَ: قَضَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي الإِبْهَامِ وَالتِيْ تَلِيْهَا نِصْفَ دِيَّةِ الكَفِّ. وَفِي لَفْظٍ: قَضَى فِي الإِبْهَامِ خَمْسَ عَشَرَةَ، وَفِي السَّبَّابَةِ عَشْرًا، وَفِي الوْسْطَى عَشْرًا، وَفِي البِنْصَرِ تِسْعًا، وَفِي الخِنْصَرِ سِتًّا، حَتَّى وَجَدَ كِتَابًا عِنْدَ آلِ عَمْرُو بْنِ حَزْمٍ يَزْعُمُوْنَ أنَّهُ مِنْ رَسوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فِيْهِ: (وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ). فَأَخَذَ بِهِ وَصَارَتْ إِلَى عَشْرٍ عَشْرٍ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: إِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ مُتَّصِلٌ إِلَى ابْنِ المُسيِّبِ؛ فَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ فَذَاكَ). قُلْتُ: وَالتَّفْصِيْلُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَدُوْرُ حَوْلَ الخَمْسِيْنَ مِنَ الإِبِلِ، لِأَنَّهَا دِيَّةُ اليَدِ إِذَا قُطِعَتْ، وَالاجْتِهَادُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللهُ هُوَ فِي دِيَّةِ كُلَّ أُصْبُعٍ لِوَحْدِهَا. (¬2) (358/ 10). (¬3) قَوْلُ ابْنِ عبَّاسٍ المَذْكُوْرُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيْرٍ نَفْسُهُ (357/ 10)، وَلَفْظُهُ (مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2552): (جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ).

- قَالَ الإمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي عَقِيْدَتِهِ المَشْهُوْرَةِ: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَم يَسْتَحِلَّهُ). (¬1) وَقَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الرُّوْحُ) (¬2): (وَأَمَّا الحُكْمُ المُبَدَّلُ - وَهُوَ الحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ - فَلَا يَحِلُّ تَنْفِيْذُهُ ولَا العَمَلُ بِهِ ولَا يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ، وَصَاحِبُهُ بَيْنَ الكُفْرِ وَالفُسُوْقِ وَالظُلْمِ). (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَخْرِيْجِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص57): (يَعْنِي اسْتِحْلَالًا قَلْبيًّا اعْتِقَادِيًّا، وَإلَّا فَكُلُّ مُذْنِبٍ مُسْتَحِلٌّ لِذَنْبِهِ عَمَلِيًّا، أَيْ: مُرْتَكِبٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْرِيْقِ بَيْنَ المُسْتَحِلِّ اعْتِقَادًا - فَهُوَ كَافِرٌ إِجْمَاعًا - وَبَيْنَ المُسْتَحِلِّ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا فَهُوَ مُذْنِبٌ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ اللَّائِقَ بِهِ - إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ - ثُمَّ يُنْجِيْهِ إِيْمَانُهُ، خِلَافًا لِلخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ الَّذِيْنَ يَحْكُمُوْنَ عَلَيْهِ بِالخُلُوْدِ فِي النَّارِ؛ وَإِنٍ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ فِي رِسَالَتِهِ النَّفِيْسَةِ الوَجِيْزَةِ (فِتْنَةُ التَّكْفِيْرِ) (ص32): (وَفِي قِصَّةِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِيْ قَاتَلَ أَحَدَ المُشْرِكِيْنَ؛ فَلَمَّا رَأَى هَذَا المُشْرِكُ أَنَّهُ صَارَ تَحْتَ ضَرْبَةِ سَيْفِ المُسْلِمِ الصَّحَابِيِّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَا بَالَاهَا الصَّحَابِيُّ؛ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، فَاعْتَذَرَ الصَّحَابِيُّ بِأَنَّ المُشْرِكَ مَا قَالَهَا إِلَّا خَوْفًا مِنَ القَتْلِ، وَكَانَ جَوَابُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. إِذًا الكُفْرُ الاعْتِقَادِيُّ لَيْسَ لَهُ عَلَاقَةٌ أَسَاسِيَّةٌ بِمُجَرَّدِ العَمَلِ، إِنَّمَا عَلَاقَتُهُ الكُبْرَى بِالقَلْبِ). (¬2) (الرُّوْحُ) (267). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا فِي شَرْحِ نَفْسِ البَابِ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (160/ 2): (أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ وَضَعَ قَوَانِيْنَ تَشْرِيْعِيَّةً - مَع عِلْمِهِ بِحُكْمِ اللهِ وَبِمُخَالَفَةِ هَذِهِ القَوَانِيْن لِحُكْمِ اللهِ - فَهَذَا قَد بَدَّلَ الشَّرِيْعَةَ بِهَذِهِ القَوَانِيْن، فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ بِهَذَا القَانُوْنِ عَن شَرِيْعَةِ اللهِ إِلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَيْرٌ لِلعِبَادِ وَالبِلَادِ مِنْ شَرِيْعَةِ اللهِ، وَعِنْدَمَا نَقُوْلُ بِأَنَّهُ كَافِرٌ، فَنَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ يُوْصِلُ إِلَى الكُفْرِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُوْنُ الوَاضِعُ لَهُ مَعْذُوْرًا؛ مِثْلَ أَنْ يُغَرَّرَ بِهِ كَأَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ الإِسْلَامَ، أَوْ هَذَا مِنَ المَصَالِحِ المُرْسَلَةِ، أَوْ هَذَا مِمَّا رَدَّهُ الإِسْلَامُ إِلَى النَّاسِ، فَيُوْجَدُ بَعْضُ العُلَمَاءِ - وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِيْنَ - يَقُوْلُوْنَ: (إنَّ مَسْأَلَةَ المُعَامَلَاتِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالشَّرْعِ، بَلْ تَرْجِعُ إِلَى مَا يُصْلِحُ الاقْتِصَادَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسْبِهِ، فَإِذَا اقْتَضَى الحَالُ أَنْ نَضَعَ بُنُوكًا لِلرِّبَا أَوْ ضَرَائِبَ عَلَى النَّاسِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ فِيْهِ!)).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) مَا هِيَ شُرُوْطُ التَّكْفِيْرِ؟ (¬1) 1) ثُبُوْتُ أَنَّ هَذَا القَوْلَ أَوِ الفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ كُفْرٌ بِمُقْتَضَى دِلَالَةِ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. 2) ثُبُوْتُ قِيَامِهِ بِالمُكَلَّفِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيْبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ} (الحُجُرَات:6). 3) بُلُوْغُ الحُجَّةِ. (¬2) 4) انْتِفَاءُ مَوَانِعِ التَّكْفِيْرِ فِي حَقِّهِ. وَمِنْ مَوَانِعِ التَّكفِيْرِ: الإِكْرَاهُ (¬3)، وَعَدَمُ القَصْدِ؛ فَلَا يَدْرِي مَا يَقُوْلُ لِشِدَّةِ فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ خَوْفٍ. (¬4) (¬5) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى - فِي مَعْرِضِ الكَلَامِ عَنِ الخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ -: (وَأَمَّا تَكْفِيْرُهُمْ وَتَخْلِيْدُهُمْ؛ فَفِيْهِ أَيْضًا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُوْرَانِ: وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالقَوْلَانِ فِي الخَوَارِجِ وَالمَارِقِيْنَ مِنَ الحَرُوْرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَالصَّحِيْحُ أَنَّ هَذِهِ الأَقْوَالَ الَّتِيْ يَقُوْلُوْنَهَا - الَّتِيْ يُعْلَمُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ - كُفْرٌ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمُ الَّتِيْ هِيَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الكُفَّارِ بِالمُسْلِمِيْنَ هِيَ كُفْرٌ أَيْضًا - وَقَدْ ذَكَرْت دَلَائِلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ -؛ لَكِنَّ تَكْفِيْرَ الوَاحِدِ المُعَيَّنِ مِنْهُمْ وَالحُكْمَ بِتَخْلِيْدِهِ فِي النَّارِ مَوْقُوْفٌ عَلَى ثُبُوْتِ شُرُوْطِ التَّكْفِيْرِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ. فَإِنَّا نُطْلِقُ القَوْلَ بِنُصُوْصِ الوَعْدِ وَالوَعِيْدِ وَالتَّكْفِيْرِ وَالتَّفْسِيْقِ؛ وَلَا نَحْكُمُ لِلْمُعَيَّنِ بِدُخُوْلِهِ فِي ذَلِكَ العَامِّ حَتَّى يَقُوْمَ فِيْهِ المُقْتَضَى الَّذِيْ لَا مَعَارِضَ لَهُ، وَقَدْ بَسَطْتُ هَذِهِ القَاعِدَةَ فِي (قَاعِدَةُ التَّكْفِيْرِ)، وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُفْرِ الَّذِيْ قَالَ: إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُوْنِي ثُمَّ ذَرُّوْنِي فِي اليَمِّ؛ فَوَ اللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِيْنَ - مَعَ شَكِّهِ فِي قُدْرَةِ اللهِ وَإِعَادَتِهِ-؛ وَلِهَذَا لَا يُكَفِّرُ العُلَمَاءُ مِنِ اسْتَحَلَّ شَيْئًا مِنَ المُحَرَّمَاتِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِسْلَامِ أَوْ لِنَشْأَتِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيْدَةٍ، فَإِنَّ حُكْمَ الكُفْرِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بَعْدَ بُلُوْغِ الرِّسَالَةِ، وَكَثِيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَكُوْنُ قَدْ بَلَغَتْهُ النُّصُوْصُ المُخَالِفَةُ لِمَا يَرَاهُ؛ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُوْلَ بُعِثَ بِذَلِكَ؛ فَيُطْلَقُ أَنَّ هَذَا القَوْلَ كُفْرٌ؛ وَيُكَفَّرُ مَتَى قَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ؛ دُوْنَ غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). (¬6) ¬

_ (¬1) مَجْمُوْعُ فَتَاوَى الشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ (52/ 3). (¬2) قَالَ تَعَالَى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِيْنَ وَمُنذِرِيْنَ لِئَلَّا يَكُوْنَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيْزًا حَكِيْمًا} (النِّسَاء:165). (¬3) قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيْمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ} (النَّحْل:106). (¬4) قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيْمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوْبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوْرًا رَحِيْمًا} (الأَحْزَاب:5). (¬5) وَفِي البُخَارِيِّ (45/ 7) (قَالَ عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوْمُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ؛ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ؛ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيْدٌ لِأَبِي؟! فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ). رَوَاهُ البُخَارِيِّ - وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ مُعَلَّقٌ - وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بِـ: (بَابِ الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ وَالكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالمَجْنُوْنِ وَأَمْرِهِمَا وَالغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ). (¬6) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (500/ 28)

باب قول الله تعالى {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيْدًا وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُوْلِ رَأَيْتَ المُنَافِقِيْنَ يَصُدُّوْنَ عَنْكَ صُدُوْدًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيْبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ ثُمَّ جَاءُوْكَ يَحْلِفُوْنَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيْقًا} (النِّسَاء:61). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُوْنَ} (البَقَرَة:11). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوْهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيْبٌ مِنَ المُحْسِنِيْنَ} (الأَعْرَاف:56). وَقَوْلُهُ تَعَالَى {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُوْنَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوْقِنُوْنَ} (المَائِدَة:50). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُوْنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ). قَالَ النَّوَوِيُّ: (حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الحُجَّةِ (¬1) بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ). (¬2) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ المُنَافِقِيْنَ وَرَجُلٍ مِنَ اليَهُوْدِ خُصُوْمَةٌ، فَقَالَ اليَهُوْدِيُّ: نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ - عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ -، وَقَالَ المُنَافِقُ: نَتَحَاكَمُ إِلَى اليَهُوْدِ - لَعَلِمَهُ أَنَّهُمْ يَأْخُذُوْنَ الرِّشْوَةَ - فَاتَّفَقَا أَنْ يَأْتِيَا كَاهِنًا فِي جُهَيْنَةَ فَيَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ} الآيَة). (¬3) وَقِيْلَ: (نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: نَتَرَافَعُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الآخَرُ: إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَى عُمَرَ، فَذَكَرَ لَهُ أَحَدُهُمَا القِصَّةَ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يَرْضَ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكَذَلِكَ? قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ). (¬4) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ النِّسَاءِ وَمَا فِيْهَا مِنَ الإِعَانَةِ عَلَى فَهْمِ الطَّاغُوْتِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ البَقَرَةِ {وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُوْنَ}. الثَّالِثَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ الأَعْرَافِ {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ}. الرَّابِعَةُ: تَفْسِيْرُ {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ}. الخَامِسَةُ: مَا قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي سَبَبِ نُزُوْلِ الآيَةِ الأُوْلَى. السَّادِسَةُ: تَفْسِيْرُ الإِيْمَانِ الصَّادِقِ وَالكَاذِبِ. السَّابِعَةُ: قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ المُنَافِقِ. الثَّامِنَةُ: كَوْنُ الإِيْمَانِ لَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ حَتَّى يَكُوْنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ¬

_ (¬1) كِتَابُ (الحُجَّةُ عَلَى تَارِكِ المَحَجَّةِ) لِلشَّيْخِ أَبِي الفَتْحِ؛ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ المَقْدِسِيِّ الشَّافِعِيِّ، الفَقِيْهِ الزَّاهِدِ نَزيْلِ دِمَشْقَ، تَضَمَّنَ كِتَابُهُ ذِكْرَ أُصُوْلِ الدِّيْنِ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ الحَدِيْثِ وَالسُّنَّةِ، (ت 490 هـ). جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ (393/ 2)، وَاُنْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ (136/ 19). (¬2) الأَرْبَعُوْنَ النَّوَوِيَّةُ (ص113). وَالحَدِيْثُ ضَعِيْفٌ، ضَعَّفَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي ظِلَالِ الجَنَّةِ (15). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (294/ 2): (تَصْحِيْحُ هَذَا الحَدِيْثِ بَعِيْدٌ جِدًّا مِنْ وُجُوْهٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ حَدِيْثٌ يَتَفَرَّدُ بِهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ المَرْوَزِيُّ). وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ (ص395): (مَعْنَى الحَدِيْثِ - بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسْنَادِهِ - صَحِيْحٌ). (¬3) صَحِيْحٌ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (37/ 5): (رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي تَفْسِيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: ...). (¬4) صَحِيْحٌ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (37/ 5): (وَقَدْ رَوَى الكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيْرِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ المُنَافِقِيْنَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُوْدِيٍّ خُصُوْمَةٌ؛ فَقَالَ اليَهُوْدِيُّ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ، وَقَالَ المُنَافِقُ: بَلْ نَأْتِي كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ، فَذَكَرَ القِصَّةَ، وَفِيْهِ أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ المُنَافِقَ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُوْلِ هَذِهِ الآيَاتِ؛ وَتَسْمِيَةِ عُمَرَ الفَارُوقَ، وَهَذَا الإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيْفًا لَكِنْ تَقَوَّى بِطَرِيْقِ مُجَاهِدٍ).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بِبَابِ (النَّهْي عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى). - قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيْدًا، وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُوْلِ رَأَيْتَ المُنَافِقِيْنَ يَصُدُّوْنَ عَنْكَ صُدُوْدًا، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيْبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ ثُمَّ جَاءُوْكَ يَحْلِفُوْنَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيْقًا، أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوْبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيْغًا، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُوْلٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا} (النِّسَاء:65). - وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوْكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُصِيْبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيْرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُوْنَ، أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُوْنَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُوْنَ} (المَائِدَة:50). - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّ تَوْحِيْدَ العَبْدِ لَا يَكْمُلُ الكَمَالَ الوَاجِبَ حَتَّى يُحَكِّمَ شَرْعَ اللهِ تَعَالَى فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. وَإِنَّ الحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فَرْضٌ، وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى شَهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ، وَإِنَّ تَرْكَ الحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَتَحْكِيْمَ غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي شُؤُوْنِ المُتَخَاصِمِيْنَ؛ وَتَنْزِيَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ القُرْآنِ الكَرِيْمِ شِرْكٌ أَكْبَرٌ وَكُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ مِلَّةِ الإِسْلَامِ. - الحُكْمُ للهِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأَعْرَاف:54)، فَالأَمْرُ لَهُ وَحْدَهُ، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الخَالِقُ وَحْدَهُ. وَإِنَّ تَرْكَ التَّحَاكُمِ إِلَى شَرْعِهِ تَعَالَى رَغْبَةً عَنْهُ مُنَافٍ لِأَصلِ التَّوْحِيْدِ، لِأَنَّه فَقَدَ بَعْضَ شُرُوْطِ شَهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ أَلَا وَهِيَ المَحَبَّةُ وَالانْقِيَادُ وَالقَبُوْلُ. وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ التَّحَاكُمَ إِلَى شَرْعِهِ تَعَالَى جَهَالَةً مِنْهُ وَسَفَهًا وَإِيثَارًا لِهَوَى النَّفْسِ وَطَاعَةً لِلشَّيْطَانِ - دُوْنَ جُحُوْدٍ لِذَلِكَ -؛ معَ الاعْتِرَافِ بَالخَطَأِ وَالتَّقْصِيْرِ فِي جَنَابِهِ تَعَالَى، وَمَعَ الإِقْرَارِ بِصِحَّةِ التَّنْزِيْلِ وَصَلَاحِهِ لِكُلِّ عَصْرٍ؛ فَهُوَ تَارِكٌ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجبِ - الَّذِيْ يَأْثَمُ تَارِكُهُ -، وَهُوَ تَحْتَ المَشِيْئَةِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي البَابِ المَاضِي وَفِي بَابِ (تَفْسِيْرِ التَّوْحِيْدِ) تَفْصِيْلُ هَذِهِ المَسْأَلَةِ. وَالحَمْدُ للهِ. (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ فِي فَتْحِ المَجِيْدِ (ص397): (فَإِنْ كَانَ الَّذِيْ تُحِبُّهُ وَتَمِيْلُ إِلَيْهِ وَتَعْمَلُ بِهِ تَابِعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى مَا يُخَالِفُهُ - فَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ الإِيْمَانِ المُطْلَقِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَوْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا؛ انْتَفَى عَنْهُ مِنَ الإِيْمَانِ كَمَالُهُ الوَاجِبُ، كَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (لَا يَزْنِي الزَّانِي - حِيْنَ يَزْنِي - وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِيْنَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) يَعْنِي: أَنَّهُ بِالمَعْصِيَةِ يَنْتَفِي عَنْهُ كَمَالُ الإِيْمَانِ الوَاجِبِ، وَيَنْزِلُ عَنْهُ فِي دَرَجَةِ الإِسْلَامِ وَيَنْقُصُ إِيْمَانُهُ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الإِيْمَانُ إِلَّا بِقَيْدِ المَعْصِيَةِ أَوِ الفُسُوْقِ، فَيُقَالُ: مُؤْمِنٌ عَاصٍ، أَوْ يُقَالُ: مُؤْمِنٌ بِإِيْمَانِهِ؛ فَاسِقٌ بِمَعْصِيَتِهِ، فَيَكُوْنُ مَعَهُ مُطْلَقُ الإِيْمَانِ الَّذِيْ لَا يَصِحَّ إِسْلَامُهُ إِلَّا بِهِ). قُلْتُ: وَحَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2475)، وَمُسْلِمٌ (57) مَرْفُوْعًا. وَقَالَ الشَّيْخُ الفَوْزَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (187/ 2): (مَنْ اخْتارَ حُكْمَ الطَّاغُوْتِ عَلَى حُكْمِ اللهِ أَوْ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَقَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، أَوْ قَالَ: تَحْكِيْمُ الطَّاغُوْتِ جَائِزٌ، أَوْ حَكَمَ بِالشَّرِيْعَةِ فِي بَعْضِ الأُمُوْرِ دُوْنَ بَعْضٍ؛ فَهَذَا كَافِرٌ بِاللهِ - كَالَّذِيْنَ يُحَكِّمُوْنَ الشَّرِيْعَةَ فِي الأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ فَقَط -. أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لِهَوىً فِي نَفْسِهِ - وَهُوَ يَعْتَرِفُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ حُكْمَ اللهِ هُوَ الحَقُّ، وَحُكْمَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، وَيَعْتَرِفُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَمُذْنِبٌ - فَهَذَا يَكْفُرُ كُفْرًا أَصْغَرًا لَا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ).

- حُكْمُ اللهِ تَعَالَى أَنْوَاعٌ: 1) قَدَرِيٌّ (كَونِيٌّ)، كَمَا فِي قَوْلِ أَخِي يُوسُفَ {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِيْنَ} (يُوْسُف:80). 2) شَرْعِيٌّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} (الشُّوْرَى:10). 3) جَزَائِيٌّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَتِ اليَهُوْدُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُوْدُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُوْنَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيْمَا كَانُوا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ} (البَقَرَة:113). - زَعْمُ المُنَافِقِيْنَ هُنَا هُوَ قَوْلُهُم الكَذِبَ (¬1)، لِأَنَّه لَا يَجْتَمِعُ الإِيْمَانُ بِالقُرْآنِ مَعَ إِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالإِرَادَةُ هُنَا ضَابِطٌ مُهِمٌّ لِكَوْنِ فَاعِلِهِ كَافِرًا كُفْرًا أَكْبَرًا، فَهو تَارِكٌ لِلحَقِّ مُقْبِلٌ عَلَى البَاطِلِ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي إِيْمَانِهِ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ مَيْلٌ لِغَيْرِ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى. (¬2) (¬3) - قَوْلُهُ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} هُمُ المُنَافِقُوْنَ، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} هُمُ اليَهُوْدُ، وَكُلٌّ قَدْ أُمِرَ فِي كِتَابِهِ بِالكُفْرِ بِالطَّاغُوْتِ، وَالطَّاغُوْتُ هُنَا هُوَ الكَاهِنُ المَذْكُوْر فِيْمَا سَبَقَ مِنَ الأَبْوَابِ حَيْثُ أَنَّهُم أَرَادُوا التَّحَاكُمَ إِلَيْهِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيْبَةٌ}: المُصِيْبَةُ هُنَا تَشْمَلُ المُصِيْبَةَ الشَّرْعِيَّةَ (¬4)، وَالمُصِيْبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ كَالفَقْرِ وَالجَدْبِ. - (الصَّدُّ): الإِعْرَاضُ وَالصُّدُوْفُ (¬5)، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {رَأَيْتَ المُنَافِقِيْنَ يَصُدُّوْنَ عَنْكَ صُدُوْدًا}: أَيْ: يُعْرِضُوْنَ إِعْرَاضًا كُلِّيًّا. - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}: أَيْ: لَا تَقْبَلِ اعْتِذَارَهُم؛ لِأَنَّه اعْتِذَارٌ كَاذِبٌ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ الاعْتِذَارُ مِنَ النَّادِمِ وَالتَّائِبِ وَالمُخْطِئِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، أَمَّا الإِنْسَانُ المُتَعَمِّدُ لِلبَاطِلِ فَلَا يُقْبَلُ اعْتِذَارُهُ إِلَّا إِذَا رَجَعَ إِلَى الصَّوَابِ وَتَابَ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيْغًا}: أَيْ: وَانْصَحْهُم فِيْمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم بِكَلَامٍ بَلِيْغٍ رَادِعٍ لَهُم. - الإِفْسَادُ فِي الأَرْضِ نَوْعَان: 1) إِفْسَادٌ حِسِّيٌّ (مَادِّيٌّ): وَذَلِكَ كَهَدْمِ البُيُوْتَ وَإِفْسَادِ الطُّرُقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (¬6) 2) إِفْسَادٌ مَعْنَوِيٌّ: وَذَلِكَ بِالمَعَاصِي، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُوْنَ} (البَقَرَة:11). ¬

_ (¬1) قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي كِتَابِهِ (جَمْهَرَةُ اللُّغَةِ) (816/ 2): (وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ الزَّعْمُ عَلَى البَاطِلِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي التَّنْزِيْلِ {زَعَمَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} (التَّغَابُن:7)). (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الآيَاتِ {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوْبِهِمْ}. (¬3) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (50) - بَعْدَ حَدِيْثِ البَابِ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُوْنَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوْفٌ يَقُوْلُوْنَ مَا لَا يَفْعَلُوْنَ، وَيَفْعَلُوْنَ مَا لَا يُؤْمَرُوْنَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيْمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ). (¬4) قُلْتُ: كَالقَتْلِ وَالحَبْسِ وَالهَجْرِ وَالفَضِيْحَةِ. (¬5) لِسَانُ العَرَبِ (245/ 3). (¬6) قُلْتُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُوْنَ فِي الأَرْضِ} (الكَهْف:94).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُوْنَ} (البَقَرَة:11). فِيْهِ بَيَانُ أُمُورٍ: 1) أَنَّ التَّحَاكُمَ إِلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ هُوَ مِنَ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ. 2) أَنَّهُ مِنْ عَمِلِ المُنَافِقِيْنَ. 3) التَّنْبِيْهُ عَلَى عَدَمِ الاغْتِرَارِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ - وَإِنْ زَخْرَفُوْهَا بِالدَّعَاوَى - كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِيْنَ {وَإِنْ يَقُوْلُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} (المُنَافِقُوْن:4). (¬1) 4) التَّحْذيْرُ مِنَ الاغْتِرَارِ بِالرَّأْي؛ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيْلٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬2) 5) فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ المُنَافِقَ لَا يَثِقُ بِحُكْمِ الشَّرِيْعَةِ؛ لِذَلكَ أَرَادَ مَا هُوَ أَحْسنُ مِنْهَا فِي ظَنِّهِ. (¬3) - قَوْلُهُ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُوْنَ}: أَيْ: لَا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ تَعَالَى لِلمُوْقِنِيْنَ، وكُلَّمَا زَادَ إِيْمَانُ العَبْدِ وَيَقِيْنُهُ زَادَ حُسْنُ حُكْمِ الشَّرْعِ عِنْدَهُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ مِنْ آثَارِ الإِيْمَانِ بِالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَعْرِفَةِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثير رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (126/ 8): (أَيْ: كَانُوا أَشْكَالًا حَسَنَةً وَذَوِي فَصَاحَةٍ وَأَلْسِنَةٍ، إِذَا سَمِعَهُمُ السَّامِعُ يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلَاغَتِهِمْ). (¬2) قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنِ عيَّاشٍ - مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْنَ، (ت 194هـ) - فِي الآيَةِ: (إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ - وَهُم فَسَادٌ - فَأَصْلَحَهُم اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَمَنْ دَعَا إِلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهوَ مِنَ المُفْسِدِيْنَ فِي الأَرْضِ). تَفْسِيْرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8601). (¬3) وَفِي البُخَارِيِّ (6882) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (أبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثلَاثةٌ؛ مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبٌ دَمَ امْرِىءٍ بَغيْرِ حَقَ لِيُهْرِيْقَ دَمَهُ).

- قَوْلُهُ {وَمَنْ أَحْسَنُ} هُوَ من بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعُلِ التَّفْضِيْلِ فِيْمَا لَيْسَ لَهُ فِي الطَّرَفِ الآخَرِ مُشَارِكٌ. - فِي النُّصُوْصِ السَّابِقَةِ بَيَانُ وُجُوْبِ تَحْكِيْمِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأُمُوْرِ كَافَّةٍ، وَإِنَّ مَنَاهِجَ الجَمَاعَاتِ الدَّعَوِيَّةِ هِيَ مِنْ هَذَا البَابِ أَيْضًا؛ فَيَجِبُ أَنْ نُحَكِّمَ فِيْهَا كِتَابَ اللهِ وُسنَّةَ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مُتَمَشِّيًا مَعَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مَنْهَجٌ صَحِيْحٌ يَجِبُ السَّيْرُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَيَجِبُ أَنْ نَرْفُضَهُ وَأَنْ نَبْتَعِدَ عَنْهُ، وَلَا يَجُوْزُ التَّعَصُّبُ لِجَمَاعَةٍ أَوْ لِحِزْبٍ أَوْ لِمَنْهَجٍ دَعَوِيٍّ عَلَى حِسَابِ تَجَاوُزِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَالَّذِيْ يَقْصُرُ هَذَا التَّحَاكُمَ عَلَى المَحَاكِمِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَطْ فَهُوَ مُخْطِئٌ، لِأَنَّ المُرَادَ التَّحَاكُمُ فِي جَمِيْعِ الأُمُوْرِ وَجَمِيْعِ المُنَازَعَاتِ وَالخُصُوْمَاتِ وَالحُقُوْقِ المَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَحَتَّى فِي أَقْوَالِ المُجْتَهِدِيْنَ وَالفُقَهَاءِ وَالمَنَاهِجِ الدَّعَوِيَّةِ وَالمَنَاهِجِ الجَمَاعِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} (الشُّوْرَى:10) وَ {شَيْءٍ} نَكِرةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ كُلَّ نِزَاعٍ وكُلَّ خِلَافٍ. (¬1) - سَبَبُ نُزُوْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا} (النِّسَاء:65) هُوَ مَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ (¬2) الَّتِيْ يُسْقَوْنَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحْ المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ المَاءَ إِلَى جَارِكَ)، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ) (¬3)، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}). (¬4) - قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا}: (فَالتَّحْكِيْمُ فِي مَقَامِ الإِسْلَامِ، وَانْتِفَاءُ الحَرَجِ فِي مَقَامِ الإِيْمَانِ، وَالتَّسْلِيْمُ فِي مَقَامِ الإِحْسَانِ. فَمَنِ اسْتَكْمَلَ هَذِهِ المَرَاتِبَ وَكَمَّلَهَا؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ مَرَاتِبَ الدِّيْنِ كُلِّهَا. فَمَنْ تَرَكَ هَذَا التَّحْكِيْمَ المَذْكُوْرَ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ - مَعَ التِزَامِهِ - فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ العَاصِيْنَ). (¬5) - قَوْلُهُ (حَتَّى يَكُوْنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ): الهَوَى بِالقَصْرِ هُوَ: المَيْلُ، وَبِالمَدِّ هُوَ: الرِّيْحُ، وَالمُرَادُ الأَوَّلُ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (346/ 2): (وَالآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهَا ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَحَاكَمُوا إِلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ البَاطِلِ، وَهُوَ المُرَادُ بِالطَّاغُوْتِ هَاهُنَا). (¬2) (الشِّرَاجُ) بِكَسْرِ الشِّيْنِ: جَمْعُ شَرجَة؛ وَهِيَ مَسِيْلُ المَاءِ. (¬3) (الجَدْرُ): الحَائِطُ؛ وَالمَعْنَى أَنْ يَحْبِسَ المَاءَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى ارْتِفَاعِ الحَاجِزِ بَيْنَ الحِيَاضِ - وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ السُّقْيَا - وَبَعْضُهُم يَرْوِي (الجَذْرُ): وَالمَعْنَى أَنْ يَصِلَ إِلَى تَمَامِ الشُّرْبِ. (¬4) البُخَارِيُّ (2359)، وَمُسْلِمٌ (2357). (¬5) تَفْسِيْرُ السَّعْدِيِّ (ص184).

- قَوْلُهُ (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم): هَذَا فِيْهِ نَفيٌ لِكَمَالِ الإِيْمَانِ الوَاجِبِ. وَمَعْنَى الحَدِيْثِ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَكُوْنُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الإِيْمَانِ الوَاجِبِ حَتَّى تَكُوْنَ مَحبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا، فَيُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُوْنَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأَحْزَاب:36). وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ)، فَلَا يَكُوْنُ المُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَقًّا حَتَّى يُقَدِّمَ مَحَبَّةَ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَحَبَّةِ جَمِيْعِ الخَلْقِ، وَمَحَبَّةُ الرَّسُوْلِ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ. (¬1) (¬2) - قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (¬3): (فَجَمِيْعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ هَوَى النُّفُوْسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِيْنَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} (القَصَص:64). وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي؛ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ). قُلْتُ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدَىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ} (القَصَص:50) بَيَانُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمِ الشَّرِيْعَةَ فَهُوَ صَاحِبُ هَوَىً. قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى الاتِّبَاعَ قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ، وَإِمَّا الهَوَى). (¬4) - قَوْلُهُ (هَوَاهُ): الهَوَى لَهُ مَعْنَيَانِ: 1) المَيْلُ إِلَى خِلَافِ الحَقِّ - وَهُوَ المَعْنَى إِذَا أُطْلِقَ اللَّفْظُ -، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ} (ص:26). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} (النَّازِعَات:41). 2) المَحَبَّةُ وَالمَيْلُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِيْهِ المَيْلُ إِلَى الحَقِّ وَغَيْرِهِ، فيُذَمُّ وَيُمْدَحُ بِحَسْبِ المَحْبُوبِ. وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (أَمَا تَسْتَحِي المَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} (الأَحْزَاب:51) (¬5)، قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ). (¬6) وَعَلَى هَذَا النَّوعِ يُحْمَلُ حَدِيْثُ البَابِ، أَيْ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم الإِيْمَانَ الوَاجِبَ حَتَّى تَكُوْنَ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬7) - قَوْلُهُ (وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُوْدِ): اليَهُوْدُ هُمُ المُنْتَسِبُوْنَ إِلَى دِيْنِ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ إِمَّا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُم {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (الأَعْرَاف:156) أَيْ: رَجَعنَا، أَوْ نِسْبَةً إِلَى أَبِيْهِم يَهُوذَا، وَلَكِنْ بَعْدَ التَّعْرِيْبِ صَارَ بِالدَّالِ. - فِي القِصَّةِ أَنَّ المُنَافِقَ أَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى اليَهُوْدِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُم يَأْخُذُوْنَ الرِّشْوَةَ، وَهِيَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيْهِم {سَمَّاعُوْنَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُوْنَ لِلسُّحْتِ} (المَائِدَة:42)، أَيْ: سَمَّاعُوْنَ لِلبَاطِلِ، {أَكَّالُوْنَ لِلسُّحْتِ} أَي الحَرَامِ، وَهُوَ الرِّشْوَةُ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ -. (¬8) (¬9) - فَائِدَةٌ) لَيْسَ المَقْصُوْدُ مِنَ التَّحَاكُمِ إِلَى الشَّرِيْعَةِ هُوَ مُجَرَّدُ تَحْقِيْقِ الأَمْنِ وَالعَدَالَةِ بَيْنَ النَّاسِ! فَهَذَا لَا يَكْفِي، بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَكُوْنَ تَحْكِيْمُ الشَّرِيْعَةِ تَعَبُّدًا وَطَاعَةً للهِ تَعَالَى، وَلَا يَخْفَاكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ كَثِيْرًا مِنَ الأَحْكَامِ هِيَ تَعَبُّدِيَّةٌ مَحْضَةٌ - لَا تُعْقَلُ لَدِيْنَا - فَلَا يَجُوْزُ تَعْطِيْلُهَا بِحُجَّةِ أنَّنَا لَا نَعْلَمُ وَجْهَ إِفَادَتِهَا اجْتِمَاعِيًّا أَوِ اقْتِصَادِيًّا أَوْ ..... ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (13)، وَمُسْلِمٌ (45). (¬2) قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: كُلُّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُوَافِقِ اللهَ فِي أَمْرِهِ، فَدَعْوُاهُ بَاطِلَةٌ، وَكُلُّ مُحِبٍّ لَيْسَ يَخَافُ اللهَ، فَهُوَ مَغْرُوْرٌ. (¬3) جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ (397/ 2) عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ رَقَم (41) مِنَ الأَرْبَعِيْن النَّوَوِيَّةِ. (¬4) رَوْضَةُ المُحِبِّيْنَ (404/ 1). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (445/ 6): ({تُرْجِي} أَيْ: تُؤَخِّرُ {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أَيْ: مِنَ الوَاهِبَاتِ أَنْفُسَهُنَّ، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أَيْ: مَنْ شِئْتَ قَبِلْتَهَا، ومَنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا، وَمَنْ رَدَدْتَهَا؛ فَأَنْتَ فِيْهَا أَيْضًا بِالخَيَارَ بَعْدَ ذَلِكَ، إنْ شِئْتَ عُدْتَ فِيْهَا فَآوَيْتَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}). (¬6) البُخَارِيُّ (5113)، وَمُسْلِمٌ (1464). (¬7) وَعَلَى هَذَا الوجْهِ - أَنَّ الهَوَى بِمَعْنَى المَحَبَّةِ - لَا يَبْقَى وَجْهٌ لِإِنْكَارِ مَتْنِ الحَدِيْثِ - مِمَّنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالفَضْلِ - بِحُجَّةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلهَوَى أَنْ يُوَافِقَ الشَّرْعَ؛ وَأَنَّ الهَوَى مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ دَوْمًا؛ وَأَنَّ الإِيْمَانَ يَكُوْنُ بِمُخَالَفَةِ الهَوَى بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ الإِنْكَارِ بِالحَدِيْثِ (حُفَّتِ الجَنَّةَ بِالمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2822) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا، وَأَيْضًا بِحَدِيْثِ (وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (23967) عَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (549). قُلْتُ: بَلْ قَدْ يَكُوْنُ فِي مَا يَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ المَرْءُ بِطَبْعِهِ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ - مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ - كَمَا فِي حَدِيْثِ (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1006) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوْعًا. (¬8) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (117/ 3). (¬9) مُلَاحَظَةٌ: سَبَقَ فِي مُلْحَقِ (قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ وَالبَرَكَةِ) ذِكْرُ مَسْأَلَةٍ فِيْهَا الرَّدُّ عَلَى قِصَّةِ العُتْبِيِّ الَّتِيْ يِذْكُرُهَا بَعْضُهُم فِي شَرْحِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا}.

باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات

بَابُ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {وَهُمْ يَكْفُرُوْنَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرَّعْد:30). وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ؛ قَالَ عَلِيٌّ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُوْنَ، أَتُرِيْدُوْنَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُوْلُهُ?!). (¬1) وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا انْتَفَضَ لَمَّا سَمِعَ حَدِيْثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّفَاتِ - اسْتِنْكَارًا لِذَلِكَ -، فَقَالَ: مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ? يَجِدُوْنَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ وَيَهْلِكُوْنَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ?! (¬2) وَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الرَّحْمَنَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيْهِمْ {وَهُمْ يَكْفُرُوْنَ بِالرَّحْمَن} (الرَّعْد:30). (¬3) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: عَدَمُ الإِيْمَانِ بِجَحْدِ شَيْءٍ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ آيَةِ الرَّعْدِ. الثَّالِثَةُ: تَرَكُ التَّحْدِيْثِ بِمَا لَا يَفْهَمُ السَّامِعُ. الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ العِلَّةِ; أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَكْذِيْبِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدِ المُنْكِرُ. الخَامِسَةُ: كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَنْ اسْتَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَهْلَكَهُ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (127). (¬2) رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيْرِ (239/ 2)، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ (485)، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الظِّلَالِ (485). وَأَيْضًا صَحَّحَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (232/ 7). (¬3) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ بِنَحْوْهِ (445/ 16).

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) أَنَّ جَحْدَ شَيْءٍ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ (¬1) هُوَ مِنْ خِصَالِ الكُفَّارِ وَالمُشْرِكِيْنَ. (¬2) وَالجُحُوْدُ: هُوَ الإِنْكَارُ مَعَ العِلْمِ. 2) أَنَّ مِنْ بَرَاهِيْن تَوْحِيْدِ العِبَادَةِ تَوْحِيْدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَجَحْدُ شَيْءٍ مِنْهَا مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوْحِيْدِ. (¬3) فَنَفْيُ الصِّفَاتِ تَعْطِيْلٌ، وَتَمَامُ التَّعْطِيْلِ نَفيُ وُجُوْدِ الرَّبِّ أَصْلًا، لِأَنَّ عَدَمَ الصِّفَاتِ عَدَمٌ لِلمَوْصُوْفِ، فَكُلُّ مَا لَا صِفَةَ لَهُ عَدَمٌ. قَالَ نُعَيْمُ بْنَ حَمَّادٍ: (أَنَا كُنْتُ جَهْمِيًّا - فَلِذَلِكَ عَرَفْتُ كَلَامَهُم - فَلَمَّا طَلَبْتُ الحَدِيْثَ؛ عَرَفتُ أَنَّ أَمرَهُم يَرْجِعُ إِلَى التَّعْطِيْلِ). (¬4) - إنَّ الإِيْمَانَ بِالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَعْرِفَةَ آثَارِهِمَا فِي مَلَكوْتِ اللهِ تَعَالَى يُقُوَيَّانِ اليَقِيْنَ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَهُمَا سَبَبَانِ لِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَلِمَا يَنْتُجُ عَنْهُمَا مِنَ المَحَبَّةِ وَالخَشيَةِ وَالتَّقوى وَالعَمَلِ. ¬

_ (¬1) أَيْ: مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. (¬2) وَهَذَا الإِنْكَارُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الجُحُوْدِ مِنْهُم وَلَيْسَ الجَهْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُوْنَ} (يس:15). وَقَدْ وَرَدَتْ أَشْعَارٌ مِنْ أَشْعَارِ الجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا فِيْهَا ذِكْرُ الرَّحْمَنِ وَالإِقْرَارِ بِهِ وتَسميَتِهِ سُبْحَانَهُ بِهِ، كَمَا فِي لِسَانِ العَرَبِ (214/ 6) - نَقْلًا عَنِ امْرِئِ القَيْسِ (ت 80 ق. هـ): (تِلْكَ السَّحَابُ إِذَا الرَّحْمَنُ أَنْشَأَهَا ... رَوَّى بِهَا مِنْ مَحُوْلِ الأَرْضِ أَنْفَاسًا) وَ (المَحْلُ): الجُوْعُ الشَّدِيْدُ؛ كَمَا في لِسَانِ العَرَبِ (616/ 11). قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (131/ 1): (وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الغَبَاءِ أَنَّ العَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ (الرَّحْمَنَ)، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي لُغَتِهَا). (¬3) وَتَوْحِيْدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْحِيْدِ، وَهُوَ فِي الحَقِيْقَةِ دَاخِلٌ فِي تَوْحِيْدِ الرُّبُوْبيَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا بَعْضُ العُلماءِ يُجْمِلُ وَيَجْعَلُ التَّوْحِيْدَ نَوْعَانِ: تَوْحِيْدٌ فِي المَعْرِفَةِ وَالإِثْبَاتِ؛ وَهُوَ تَوْحِيْدُ الرُّبُوْبيَّةِ وَالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ التَّوْحِيْدُ العِلْمِيُّ الخَبَرِيُّ. وَتَوْحِيْدٌ فِي الطَّلبِ وَالقَصْدِ؛ وَهُوَ التَّوْحِيْدُ العَمَلِيُّ الطَّلَبِيُّ، وَهُوَ تَوْحِيْدُ الأُلُوْهِيَّةِ. وَلَكِنْ لَمَّا وُجِدَتْ طَوَائِفُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ افْتَرَقَتْ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَصَارَ لَهَا رَأْيٌ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ تُخَالِفُ بِهِ الحَقَّ؛ جُعِلَ هَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ مِنْ أَجْلِ الرَّدِّ عَلَيْهِم وَبَيَانِهِ لِلنَّاسِ. (¬4) اُنْظُرْ سِيَرَ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (597/ 10) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ تَرْجَمَةِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ - وَهُوَ شَيْخُ البُخَارِيِّ - (ت 229 هـ). وَأَوْرَدَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا فِي السِّيَرِ (376/ 21) - عِنْدَ تَرْجَمَةِ أَبِي الفَرَجِ ابْنِ الجَوْزِيِّ، (ت 597 هـ) - قَوْلَهُ رَحِمَهُ اللهُ: (أَهْلُ الكَلَام يَقُوْلُوْنَ: مَا فِي السَّمَاءِ رَبٌّ، وَلَا فِي المُصْحَفِ قُرْآنٌ، وَلَا فِي القَبْرِ نَبِيٌّ، ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُم). وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّوَاعِقُ المُرْسَلَةُ عَلَى الجَهْمِيَّةِ وَالمُعَطِّلَةِ) (148/ 1): (المُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، وَالمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا، وَالمُوَحِّدُ يَعْبُدُ رَبًّا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى وَالصِّفَاتُ العُلَى). وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّوْحِيْدُ) (11/ 1): (أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِ خَالِقِنَا: ذِكْرُ نَفْسِهِ، جَلَّ رَبُّنَا عَنْ أَنْ تَكُوْنَ نَفْسُهُ كَنَفْسِ خَلْقِهِ، وَعَزَّ عَنْ أَنْ يَكُوْنَ عَدَمًا لَا نَفْسَ لَهُ). قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ صِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَيْسَتْ نَفْسَهَا الذَّاتُ.

- الظَّاهِرُ مِنْ إِيْرَادِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ لِلآيَةِ الكَرِيْمَةِ هُوَ بَيَانُ أَنَّ عَدَمَ الإِقْرَارِ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ هُوَ كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَوْرَدَ بَعْدَهَا أَثَرَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِبَيَانِ أَنَّ الوَاجِبَ عَلَى الدَّاعِي أَنْ لَا يُحَدِّثَ النَّاسَ بِمَا لَا تُدْرِكُهُ عُقُوْلُهُم؛ لِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ الكُفْرِ سَبَبُهُ تَحْدِيْثُ السَّامِعِ بِمَا لَا يَعْقِلُ، ثُمَّ أَوْرَدَ بَعْدَهَا أَثَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِبَيَانِ أَنَّ الوَاجِبَ عَلَى المُسْتَمِعِ أَنْ يُسَلِّمَ لِلكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَرُدَّ الأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ لِجَهْلِهِ بِحَقِيْقَتِهَا. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَهُمْ يَكْفُرُوْنَ بِالرَّحْمَن}: المُرَادُ أَنَّهُم يَكْفُرُوْنَ بِهَذَا الاسْمِ لَا بالمُسَمَّى، فَهُم يُقرِّوْنَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ} (لُقْمَان:25). - (الرَّحْمَنُ): اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ جَحَدَهُ المُشْرِكُوْنَ وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ (¬1)، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى جُحُوْدَهُم هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ العَزِيْزِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيْلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوْرًا} (الفُرْقَان:60). {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإِسْرَاء:110). (¬2) {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُوْنَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ} (المُلْك:29). {وَإِذَا رَآكَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُوْنَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِيْ يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:36). (¬3) (¬4) - قَالَ البَغَويُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬5): (قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابَ الصُّلْحِ - فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اكْتُبْ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ)، قَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا صَاحِبَ اليَمَامَةِ - يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابَ - اكْتُبْ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ: (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ)، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ يَكْفُرُوْنَ بِالرَّحْمَنِ}). ¬

_ (¬1) وَجَحْدُهُم هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِتَكْذِيْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ فِيْمَا أَخْبَرَ بِهِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (128/ 5): (يَقُوْلُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ المُشْرِكِيْنَ المُنْكِرِيْنَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ المَانِعِيْنَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ: {ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى} أَيْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ دُعَائِكُمْ لَهُ بِاسْمِ (اللَّهِ) أَوْ بِاسْمِ (الرَّحْمَنِ)، فَإِنَّهُ ذُو الأَسْمَاءِ الحُسْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللهُ الَّذِيْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْمُ} إِلَى أَنْ قَالَ: {لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ} (الحَشْرِ:24). وَقَدْ رَوَى مَكْحُوْلٌ أَنَّ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِيْنَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُوْلُ فِي سُجُوْدِهِ: (يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيْمُ)، فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا؛ وَهُوَ يَدْعُو اثْنَيْنِ! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ). قُلْتُ: وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَنْهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (360/ 13): (رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوِيْه بِسَنَدٍ ضَعِيْفٍ). (¬3) قَالَ البَغَويُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (318/ 5): (وَذَلِكَ أَنَّهُم كَانُوا يَقُوْلُوْنَ: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ). (¬4) وَقَدْ أَوَّلَ هَذِهِ الصِّفَةَ الأَشَاعِرَةُ وَلَمْ يُثْبِتُوا حَقِيْقَتَهَا للهِ فَجَعَلُوْهَا دَالَّةً عَلَى الضَّعْفِ وَاللِّيْنِ، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ. (¬5) (318/ 4).

- إَنَّ تَأْوِيْلَ المُعطِّلَةِ لِصَفَةِ الرَّحْمَةِ أَخْطَرُ مِنْ جَحْدِ المُشْرِكِيْنَ لِاسْمِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ المُشْرِكِيْنَ أَنْكَرُوا الاسْمَ فَقَطْ وَلَمْ يُنْكِروا المَعْنَى؛ بِخِلَافِ المُعَطِّلَةِ فَهُم أَنْكَرُوا حَقِيْقَةَ المَعْنَى - وَإِنْ أَثْبَتُوا الاسْمَ - وَلَا يَخْفَى أَنَّ المَقْصُوْدَ مِنَ الاسْمِ مَعْنَاهُ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ لَفْظِهِ، فَأَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى أَعْلَامٌ وَأَوْصَافٌ. (¬1) - الجَحْدُ: هُوَ الإِنْكَارُ، وَالإِنْكَارُ نَوْعَانِ: 1) إِنْكَارُ تَكْذِيْبٍ: وَهَذَا كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، فَلَو أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُوْلَ: لَيْسَ للهِ يَدٌ، أَوْ أَنَّ اللهَ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى عَرْشِهِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ عَيْنٌ، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِيْنَ. 2) إِنْكَارُ تَأْوِيْلٍ: وَهُوَ أَنْ لَا يُنْكِرَهَا وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُهَا إِلَى مَعْنَىً يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، فَهَذَا نَوْعَانِ: أ) أَنْ يَكُوْنَ لِلتَّأْوِيْلِ مُسَوِّغٌ فِي اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ، فَهَذَا لَا يُوْجِبُ الكُفْرَ - وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ -. ب) أَنْ لَا يَكُوْنَ لهُ مُسَوِّغٍ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فَهَذَا حُكْمُهُ الكُفْرُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُسَوِّغٌ صَارَ فِي الحَقِيْقَةِ تَكْذِيْبًا؛ مِثْلَ أَنْ يَقُوْلَ: المُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القَمَر:14) أَيْ: تَجْرِي بِأَرَاضِيْنَا! فَهَذَا كَافِرٌ لِأَنَّه نَفَاهَا نَفْيًا مُطْلَقًا، فَهُوَ مُكَذَّبٌ. وَلَوْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوْطَتَانِ} (المَائِدَة:64) المُرَادُ بِيَدَيْهِ: السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ! فَهُوَ كُفْرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّه لَا مُسَوِّغَ لَهُ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، لَكِنْ إِنْ قَالَ: المُرَادُ بِاليَدِ النِّعْمَةُ أَوِ القُوَّةُ، فَلَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ تَحْتَمِلُهَا. (¬2) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِلَيْهِ مَتَابِ}: أَيْ: وَإِلَيْهِ مَرْجِعِي وَأَوْبَتِي. (¬3) وَالتَّوْبَةُ الَّتِيْ لَا تَكُوْنُ إِلَّا للهِ هِيَ تَوْبَةُ العِبَادَةِ - كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ - وَأَمَّا التَّوْبَةُ - الَّتِيْ هِيَ بِمَعْنَى الرُّجُوْعِ - فَإِنَّهَا تَكُوْنُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حِيْنَ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ فَوَجَدَ نُمْرُقَةً (وِسَادَةً) فِيْهَا صُوَرٌ، فَوَقَفَ بِالبَابِ وَلَمْ يَدْخُلْ، فَقَالَتْ: (أَتُوْبُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ). (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ مِنْ شَرِحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مَنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (89/ 1). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَمَّا إِذَا وَقَعَ إِنْسَانٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ مَثَلًا أَنْ يَكُوْنَ اللهُ مَوْصُوْفًا بِالرَّحْمَةِ أَوْ مَوْصُوْفًا بِالعُلُوِّ أَوْ مَوْصُوْفًا بِأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُوْنُ عِنْدَهُ شُبَهٌ، فَيَجِبُ أَنْ تُزَالَ الشُّبَهُ عَنْهُ، فَإِذَا أُزِيْلَتْ الشُّبَهُ عَنْهُ وَأَصَرَّ عَلَى الإِنْكَارِ فَلَهُ حُكْمٌ آخَر، غَيْرَ أَنَّنَا نَقُوْلُ: إنَّ فِعْلَكَ أَوْ قَوْلَكَ هَذَا كُفْرٌ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ وأَقَرَّ بِهِ يَكُوْنُ كَافِرًا، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ). مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (103)، شَرْحُ البَابِ. (¬3) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (445/ 16). (¬4) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ فِي البُخَارِيِّ (5957) عَنْ عَائِشَةَ؛ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا (أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيْهَا تَصَاوِيْرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَامَ عَلَى البَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَتُوْبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُوْلِهِ؛ مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟) قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَصْحَابِ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُوْنَ فَيُقَالُ: لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ). وَقَالَ: (إِنَّ البيْتَ الَّذِيْ فِيْهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ المَلَائِكَةُ)). (¬5) أَيْ: أَرْجِعُ إِلَى مَا يُرِيْدُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حِيْنَ يَضْرِبُ الوَالِدُ ابْنَهُ لِسُوْءِ أَدَبِهِ؛ فَيَقُوْلُ الابْنُ: أَتُوْبُ.

- قَوْلُ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُوْنَ): أَيْ: بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفُوْهُ وَتَبْلُغُهُ عُقُوْلُهُم حَتَّى لَا يُفْتَنُوا بِهِ، كَمَا فِي الأَثَرِ الآخَرِ (مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيْثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُوْلُهُم إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِم فِتْنَةً) (¬1)، وَقَدْ بَوَّبَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحِ عَلَى أَثَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ العِلْمِ بِقَوْلِهِ (بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُوْنَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَلَّا يَفْهَمُوا). (¬2) وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الحِكْمَةِ فِي الدَّعْوَةِ أَلَّا تُبَاغِتَ النَّاسَ بِمَا لَا يُمْكِنُهم إِدْرَاكُهُ، بل تَدْعُوْهُم رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى تَسْتَقِرَ عُقُوْلُهُم. (¬3) وَفِي الأَثَرِ دَلِيْلٌ عَلَى مَنْعِ تَحَدِيْثِ النَّاسِ بَمَا لَا تُدْرِكُهُ عُقُوْلُهُم، وَمِنْ ذَلِكَ التَّفَاصِيْلُ وَالتَّوَسُّعُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِنْكَارِهَا - وَهُوَ كُفْرٌ بِهَا - وَذَلِكَ يُنَافِي تَوْحِيْدَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَدَلَّ الأَثَرُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ العِلْمِ لَا يَصْلُحُ لِكُلِّ أَحَدٍ. - قَوْلُهُ (بِمَا يَعْرِفُوْنَ): لَيْسَ مَعْنَاهُ بِمَا يَعْرِفُوْنَهُ مِنْ قَبْلُ - لِأَنَّ الَّذِيْ يَعْرِفُوْنَهُ مِنْ قَبْلُ يَكُوْنُ التَّحَدِيْثُ بِهِ مِنْ تَحْصِيْلِ الحَاصِلِ - وَإِنَّمَا المَقْصُوْدُ بِمَا يُدْرِكُوْنَ بِعُقُوْلِهِم، لِأَنَّ السَّامِعَ لِمَا لَمْ يَفْهَمْهُ يَعْتَقدُ اسْتِحَالَتَه - جَهْلًا - فَلَا يَعْرِفُ وُجُوْدَهُ، فَيَلْزَمُ التَّكْذِيْبَ. - وَجْهُ التَّكْذِيْبِ فِي أَثَرِ عَلِيٍّ هُوَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُوْلُهُ: كَذَا وَكَذَا، قَالُوا هَذَا كَذِبٌ - إِذَا كَانَتْ عُقُوْلُهُم لَا تَبْلُغُهُ - فَهُمْ لَا يُكَذِّبُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ، لَكِنْ يُكَذِّبُوْنَكَ بِحَديْثٍ تَنْسِبُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ، فَيَكُوْنُوْنَ مُكَذِّبِيْنَ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ - لَا مُبَاشَرَةً لَكِنْ بِوَاسِطَةِ النَّاقِلِ -. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (11/ 1) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَوْقُوْفًا، بَابُ النَّهْي عَنِ الحَدِيْثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ. (¬2) وَالحَدِيْثُ صَحِيْحٌ مَوْقُوْفًا، وَلَا يَصِحُّ مَرْفُوْعًا، وَفِي كَشْفِ الخَفَاءِ لِلعَجْلُوْنِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (405/ 1): (خَرَّجَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ، وَهُوَ مَوْضُوْعٌ) أَي المَرْفُوْعُ. (¬3) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (193/ 2): (وَمِثْلُ ذَلِكَ؛ العَمَلُ بِالسُّنَّةِ الَّتِيْ لَا يَعْتَادُهَا النَّاسُ وَيَسْتَنْكِرُونَهَا، فَإِنَّنَا نَعْمَلُ بِهَا لَكِنْ بَعْدَ أَنْ نُخْبِرَهُم بِهَا؛ حَتَّى تَقْبَلَهَا نُفُوْسُهُم وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيْهَا. وُيْسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الأَثَرِ أَهَمِّيَّةُ الحِكْمَةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ يَجْبُ عَلَى الدَّاعِيَةِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُقُوْلِ المَدْعُوِّيْنَ وَيُنْزِلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَتَهُ). قُلْتُ: وَمِنْ نَفْسِ البَابِ أَوْرَدَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ حَدِيْثَ البُخَارِيِّ (6502) فِي أَرْبَعِيْنِيَّتِهِ وَهُوَ (إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبْ وَمَا تقرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِيْ يَبْطِشُ بِهَا وَرجْلَهُ الَّتِيْ يَمْشِي بِهَا وإنْ سَأَلَنِيْ لَأُعْطِيَنَّهُ وَإِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيْذَنَّهُ)) وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَمَامِهِ! وَتَمَامُهُ (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرْهُ مَسَاءَتَهُ)، فَلَعَلَّ اخْتِصَارَهُ لَهُ هُوَ مِنْ هَذَا البَابِ - أَيْ مُرَاعَاةً لِحَالِ السَّامِعِيْنَ - وَذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الأَرْبَعِيْنَ هِيَ مِنَ المُتُوْنِ المُعَدَّةِ لِلمُبْتَدِئِيْنَ فِي طَلَبِ العِلْمِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

- مُنَاسَبَةُ هَذَا الأَثَرِ لِهَذَا البَابِ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ جَحْدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنْ يُحَدِّثَ المَرْءُ النَّاسَ بِمَا لَا يَعْقِلُوْنَهُ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُم إِيْمَانٌ إِجْمَالِيٌّ بِالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ يَصِحُّ مَعَهُ تَوْحِيْدُهُم وَإِيْمَانُهُم وَإِسْلَامُهُم، فَالدُّخُوْلُ فِي تَفَاصِيْلِ ذَلِكَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ المُخَاطَبُ يَعْقِلُ ذَلِكَ وَيَعِيْه، وَهَذِهِ لَيْسَتْ حَالَ أَكْثَرِ النَّاسِ. - (عَبْدُ الرَّزَّاقِ): هُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ، مِنْ صِغَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْنَ، (ت 211 هـ). - (مَعْمَرُ): هُوَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ الأَزْدِيُّ؛ البَصْرِيُّ؛ نَزِيْلُ اليَمَنِ، من كِبَارِ أَتباعِ التَّابِعِيْنَ، (ت 154 هـ). - (ابْنُ طَاوُس): هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ اليَمَانِيُّ - لَمْ يَلْقَ الصَّحَابَةَ - قَالَ مَعْمرٌ: (كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالعَرَبيَّةِ)، (ت 132 هـ). - (طَاوُس): هُوَ طَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ الجَنَدِيُّ - بِفَتْحِ الجِيْمِ وَالنُّوْنِ - الإِمَامُ العَلَمُ، مِنَ الوُسْطَى مِنَ التَّابِعِيْنَ، قِيْلَ: اسْمُهُ ذَكوَان؛ وَطَاوُس لَقَبُهُ، (ت 106 هـ). - قَوْلُهُ (مَا فَرَقُ)؛ هِيَ عَلَى احْتِمَالَاتٍ ثَلَاثَةٍ: (فَرَقُ): بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ القَافِ؛ اسْمٌ مِنَ الفَرَقِ، أَيْ: الخَوْفِ. (¬1) (فرَّقَ، فَرَقَ): بِفَتحِ الرَّاءِ - مُشَدَّدَةً - وفَتْحِ القَافِ، أَوْ بِفَتحِ الرَّاءِ - مُخَفَّفَةً - وَفَتْحِ القَافِ؛ فِعْلٌ مِنَ التَّفْرِيْقِ وَالتَّمْيِيْزِ. فَعَلى الأُوْلَى - ولَعَلَّهَا الأَوْلَى أَيْضًا - تَكُوْنُ (مَا) اسْتِفْهَاميَّةً لِلإِنْكَارِ. أَيْ: مَا خَوْفُ هَؤُلْاءِ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَةِ الَّتِيْ تُلِيَتْ عَلَيْهِم وَبَلَغَتْهُم، لِمَاذَا لَا يُثْبِتُونَهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَثْبَتَهَا اللهُ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهَا لَهُ رَسُوْلُه؟! وَهَذَا يَنْصَبُّ تَمَامًا عَلَى أَهْلِ التَّعْطِيْلِ وَالتَّحْرِيْفِ الَّذِيْنَ يُنْكِرُوْنَ الصِّفَاتِ، فَمَا الَّذِيْ يُخَوِّفُهُم مِنْ إِثْبَاتِهَا وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ؟! (¬2) - قَوْلُهُ (يَجِدُوْنَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ): أَيْ: مُحْكَمِ القُرْآنِ، يَعْنِي إِذَا خُوْطِبُوا بِمَا يَعْلَمُوْنَه وَجَدُوا فِي قُلُوْبِهِم رِقَّةً لِذَلِكَ وَقَبُوْلًا. - قَوْلُهُ (وَيَهُلَكُوْنَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ): أَيْ: مُتَشَابِهِ القُرْآنِ، يَعْنِي إِذَا سَمِعُوا فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ شَيْئًا لَا تَعْقِلُهُ عُقُوْلُهُم لَمْ يُسَلِّمُوا بِهِ؛ فَهَلَكُوا عِنْدَهُ وَخَافُوا وَفَرَقُوا وَأَوَّلُوا وَنَفَوا أَوْ جَحَدُوا، وَذَلِكَ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الضَّلَالِ وَالتَّهْلُكَةِ. وَالمُتَشَابِهُ هُنَا هُوَ حَقِيْقَةُ الصِّفَةِ وَكَيفيَّتُهَا - وَهِيَ الَّتِيْ خَافُوا مِنْ إِثْبَاتِهَا - فَكَانَ عَلَيْهِم أَنْ يَرُدُّوا مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِم إِلَى مُحْكَمِهِ، وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الشُّوْرَى:11). ¬

_ (¬1) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} (التَّوْبَة:56). (¬2) وَعَلَى الأُخْرَيِيْنِ تَكُوْنُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَ (مَا) تَكُوْنُ اسْتِفْهَامِيَّةً، أَوْ نَافِيَةً.

- وَجْهُ إِنْكَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الرَّجُلِ هُوَ عَدَمُ التَّسْلِيْمِ لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّ عَدَمَ إِنْكَارِهِ عَلَى التَّالِي لِلحَدِيْثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النُّصُوْصِ لَيْسَتْ مِنَ المُتَشَابِهَاتِ الَّتِيْ تُتْرَكُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ بِمَعْنَاهَا وَمَا فِيْهَا مِنَ الفَوَائِدِ وَالعِبَرِ - مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَخَوْفِ المَخْلُوْقاتِ مِنْهُ (كَالنَّارِ هُنَا فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ، وَسَيَأْتِي) -، لَكِنْ تُوْكَلُ كَيفِيَّةُ وَحَقِيْقَةُ مَا فِيْهَا مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا هُوَ مَنْهَجُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم. فَالمُنْتَفِضُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا كَمَا سَلَّمَ لِغَيرِهَا، وَالوَاجِبُ هُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (آمَنْتُ بِاللهِ وَبِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ؛ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَآمَنْتُ بِرَسُوْلِ اللهِ وَبِمَا جَاءِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ؛ عَلَى مُرَادِ رَسُوْلِ اللهِ). (¬1) فَالمُتَشَابِهُ هُنَا فَهُوَ كَيْفيَّةُ وَحَقِيْقَةُ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَمَثَلًا صِفَةُ السَّمْعِ للهِ تَعَالَى ثَابِتَةٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَعْنَاهَا مَفْهُوْمٌ مِنْ سَمَاعِهِ تَعَالَى لِجَمِيْعِ خَلْقِه، وَلَكِنَّ كَيْفِيَّةَ السَّمَاعِ مَجْهُوْلَةٌ لَنَا، فَالمُتَشَابِهُ هُنَا هُوَ الكَيْفيَّةُ وَلَيْسَتِ الصِّفَةُ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬2): (وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أنْكَرَ عَلَى مَنْ اسْتَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ النُّصُوْصِ؛ وَزَعَمَ أَنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ! فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيْه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ ابْنَ عبَّاسٍ بحَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ)، وَفِيْهِ: (فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ) - أَوْ قَالَ: (قَدَمَهُ) فِيْهَا - (¬3)، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَانْتَفَضَ، فَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ: (مَا فَرَقُ هَؤْلَاءِ، يَجِدُوْنَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ، وَيَهلَكُوْنَ عندَ مُتَشَابِهِهِ). وَخَرَّجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوِيْه فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ تَأْوِيْلٌ لَذَكَرَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَسَعْهُ كِتْمَانُهُ) ـ (¬4) ¬

_ (¬1) لُمْعَةُ الاعْتِقَادِ (7/ 1) لِابْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (138/ 14): (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيْعِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ رُؤُوْسِ أَصْحَابِهِ (أَي الشَّافِعِيِّ) مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ بِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيْثِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيْفٍ وَلَا تَشْبِيْهٍ وَلَا تَعْطِيْلٍ وَلَا تَحْرِيْفٍ؛ عَلَى طَرِيْقِ السَّلَفِ). وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (العُلُوُّ لِلعَلِيِّ الغَفَّارِ) (ص166): (وَعَنْ يُوْنُس بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى؛ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: للهِ تَعَالَى أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا - قَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ - رَدُّهَا). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (407/ 13): (وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُوْنُس بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا، وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوْتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ فَقَدَ كَفَرَ، وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُ بِالعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالفِكْرِ، فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيْهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}). (¬2) فَتْحُ البَارِي (232/ 7). (¬3) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ مَرْفُوْعًا (تَحَاجَّتْ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوْثِرْتُ بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتْ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: (أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا). فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ؛ فَتَقُوْلُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ - وَلَا يَظْلِمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا - وَأَمَّا الجَنَّةُ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4850)، وَمُسْلِمٌ (2846). (¬4) قُلْتُ: وَقَصْدُهُ إِجْرَاءُ النُّصُوْصِ عَلَى ظَاهِرِهَا دُوْنَ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيْرِهَا؛ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الشُّوْرَى:11).

- المُحْكَمُ: هُوَ مَا يُمَيِّزُ الحَقِيْقَةَ المَقْصُوْدَةَ عَنْ غَيْرِهَا. وَالمُتشَابِهُ: مَا احْتَمَل مَعنَيَيْنِ؛ فَيُشبِهُ هَذَا وَيُشبِهُ هَذَا. وَحُكْمُهُ هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِيْنَ فِي قُلُوْبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُوْنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيْلِهِ} (آل عِمْرَان:7). فَابْتِغَاءُ الفِتْنَةِ هُوَ: لِيَفْتِنُوا النَّاسَ بِهِ؛ إِذْ وَضَعُوْهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، وَابْتِغَاءُ تَأْوِيْلِهِ: أَيْ تَحْرِيفِهِ عَلَى مَا يُرِيْدُوْنَ. (¬1) - القُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِاعْتِبَارٍ، وَكُلُّهُ مُتَشَابِهٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَمِنْهُ المُحْكَمُ وَمِنْهُ المُتَشَابِهُ بِاعْتِبَارٍ ثَالِثٍ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الأَوَّلُ) كُلُّهُ مُحْكَمٌ: كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {آلر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيْمٍ خَبِيْرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ} (هُوْد:2)، فَالقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ، بِمَعْنَى أنًّ مَعْنَاهُ وَاضِحٌ مُتَعَاضِدٌ، وَأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَحْكَمَهُ فَلَا اخْتِلَافَ فِيْهِ وَلَا تَبَايُنَ، وَإِنَّمَا بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيْهِ اخْتِلَافًا كَثِيْرًا} (النِّسَاء:82). الثَّانِي) كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ: بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، فَهَذَا الحُكْمُ وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ تُشْبِهُ تِلْكَ لِأَنَّهَا تَسِيْرُ مَعَهَا فِي قَاعِدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَنُصُوْصُ الشَّرِيْعَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَؤُوْلُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيْثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُوْدُ الَّذِيْنَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزُّمَر:23)، فَقَالَ: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} فَالقُرْآنُ مُتَشَابِهٌ؛ يَعْنِي بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعضًا، فَهَذَا خَبَرٌ فِي الجَنَّةِ وَهَذَا خَبَرٌ فِي الجنَّةِ، وَبَعْضُ الأَخْبَارِ تُفَصِّلُ بَعْضًا, هَذِهِ قِصَّةٌ وَهَذِهِ قِصَّةٌ, هَذِهِ تُصَدِّقُ هَذِهِ، وَهَذِهِ تَزِيْدُهَا تَفْصِيْلًا وَأَحْكَامًا، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا فِي القُرْآنِ. (¬2) الثَّالِثُ) مِنْهُ المُحْكَمُ وَمِنْهُ المُتَشَابِهُ: وَهُوَ الَّذِيْ جَاءَ فِي آيَةِ سُوْرَةِ آلِ عِمْرَانَ {هُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عِمْرَان:7)، فَمِنْهُ مُحْكَمٌ - وَهُوَ الَّذِيْ اتَّضَحَ لَكَ عِلْمُهُ -، وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ - وَهُوَ الَّذِيْ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ -، ومَنْهَجُ أَهْلِ الحَقِّ هُوَ رَدُّ مَا اشْتَبَهَ مِنْهُ إِلَى مُحْكَمِهِ وَلَا يُعَارِضُوْنَ بَينَهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الرَّاسِخِيْنَ فِي العِلْمِ: {وَالرَّاسِخُوْنَ فِي العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُو الأَلْبَابِ} (آل عِمْرَان:7). (¬3) وَالمُحْكَمُ مِنَ النُّصُوْصِ هُوَ الَّذِيْ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ؛ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيْلٍ آخَرَ يُفَسِّرُهُ، وَالمُتَشَابِهُ هُوَ: الَّذِيْ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيْلٍ آخَرَ يُفَسِّرُهُ، كَالنَّاسِخِ وَالمَنْسُوْخِ (¬4)، وَالمُطْلَقِ وَالمُقَيَّدِ، وَالعَامِّ وَالخَاصِّ، وَالمُجْمَلِ وَالمُبَيَّنِ. (¬5) وَعَلَامَةُ أَهْلِ البِدَعِ اتِّبَاعُ المُتَشَابِهِ وَتَرْكُ المُحْكَمِ، كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: تَلَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِيْنَ فِي قُلُوْبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُوْنَ فِي العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُو الأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِيْنَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ). (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (8/ 2): ({فَيَتَّبِعُوْنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أَيْ: إِنَّمَا يَأْخُذُوْنَ مِنْهُ بِالمُتَشَابِهِ الَّذِيْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوْهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الفَاسِدَةِ، وَيُنْزِلُوْهُ عَلَيْهَا - لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُوْنَهُ - فَأَمَّا المُحْكَمُ فَلَا نَصِيْبَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَامِغٌ لَهُمْ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ} أَيِ الإِضْلَالِ لِأَتْبَاعِهِمْ - إِيْهَامًا لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّوْنَ عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِالقُرْآنِ - وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، كَمَا لَوِ احْتَجَّ النَّصَارَى بِأَنَّ القُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ عِيسَى هُوَ رُوْحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَتَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} (الزُّخْرُف:59) وَبِقَوْلِهِ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} (آلِ عِمْرَانَ:59) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ المُحْكَمَةِ المُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِ اللَّهِ، وَعَبْدٌ وَرَسُوْلٌ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيْلِهِ} أَيْ: تَحْرِيْفِهِ عَلَى مَا يُرِيْدُوْن، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: يَبْتَغُوْنَ أَنْ يَعْلَمُوا مَا يَكُوْنُ، وَمَا عَوَاقِبُ الأَشْيَاءِ مِنَ القُرْآنِ). (¬2) فَالتَّشَابُهُ هُنَا يَكُوْنُ مِنْ جِهَةِ المُشَابَهَةِ فِي الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَنَصْرِ المُؤْمِنِيْنَ وَعِقَابِ الكَافِرِيْنَ وَأَمْثَالِهَا، وَيَكُوْنُ أَيْضًا التَّشَابُهُ مِنْ جِهَةِ التَّقْيِيْدِ وَالتَّفْصِيْلِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (6/ 2): (يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ فِي القُرْآنِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ، أَيْ: بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتُ الدِّلَالَةِ؛ لَا التِبَاسَ فِيْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ فِيْهَا اشْتِبَاهٌ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فَمَنْ رَدَّ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى الوَاضِحِ مِنْهُ، وَحَكَّمَ مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهِهِ عِنْدَهُ؛ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَكَسَ انْعَكَسَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِيْ أَنزلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ} أَيْ: أَصْلُهُ الَّذِيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أَيْ: تَحْتَمِلُ دِلَالَتُهَا مُوَافَقَةَ المُحْكَمِ؛ وَقَدْ تَحْتَمِلُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالتَّرْكِيبِ؛ لَا مِنْ حَيْثُ المُرَادِ). (¬4) وَالإحْكَامُ بِمَعْنَى النَّسْخِ؛ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ} (الحَجّ:52). (¬5) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَقُوْلُ الَّذِيْنَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُوْرَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُوْرَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيْهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِيْنَ فِي قُلُوْبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} (مُحَمَّد:20). قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (174/ 22): ({فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُوْرَةٌ مُحْكَمَةٌ} يَعْنِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ بِالبَيَانِ وَالفَرَائِضِ). (¬6) البُخَارِيُّ (4547)، وَمُسْلِمٌ (2665). (¬7) قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ) (363/ 1): (وَمَنْ نَظَرَ إِلَى طُرُقِ أَهْلِ البِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لِأَنَّهَا سَيَّالَةٌ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ؛ وَعَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زَائِغٍ وَكَافِرٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وَكُفْرِهِ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي التَزَمَهَا إِلَى الشَّرِيْعَةِ. فَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الكُفَّارِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ القُرْآنِ؛ كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيْكِ عِيْسَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ} (النِّسَاء:171)، وَاسْتَدَلَّ عَلَى (أَنَّ الكَفَّارَ مِنْ) أَهْلِ الجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِيْنَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِيْنَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} (البَقَرَة:62)، الآيَةَ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ اليَهُوْدِ عَلَى تَفْضِيْلِهِمْ عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِيْنَ} (البَقَرَة:47)، وَبَعْضُ الحُلُوْلِيَّةِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوْحِي} (الحِجْر:29)، وَالتَّنَاسُخِيُّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ {فِي أَيِّ صُوْرَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانْفِطَار:8)، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ المُتَشَابِهَاتِ، أَوْ حَرَّفَ المَنَاطَاتِ، أَوْ حَمَّلَ الآيَاتِ مَا لَا تَحَمَلُهُ عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَوْ تَمَسَّكَ بِالأَحَادِيْثِ الوَاهِيَةِ، أَوْ أَخَذَ الأَدِلَّةَ بِبَادِيَ الرَّأْيِ؛ (لَهُ) أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ أَوْ حَدِيْثٍ لَا يَفُوزُ بِذَلِكَ أَصْلًا).

- والمُتَشَابِهُ هُنَا (في آيَةِ آلِ عِمْرَانَ) نَوْعَانِ: تَشَابُهٌ نِسْبِيٌّ، وَتَشَابُهٌ مُطْلَقٌ: 1) فَالمُتَشَابِهُ المُطْلَقُ: يَخْفَى عَلى كُلِّ أَحَدٍ - حَتَّى عَلَى الرَّاسِخِيْنَ فِي العِلْمِ - وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ مَأْخُوْذَةٌ مِنْ قِرَاءَةِ الوَقْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلَّا اللهُ} (¬1)، وَذَلِكَ مِثْلُ كَيْفِيَّةِ وَحَقَائِقِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَحَقَائِقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ نَعِيْمِ الجَنَّةِ وَعَذَابِ النَّارِ (¬2)، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي نَعِيْمِ الجَنَّةِ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (السَّجْدَة:17)، أَيْ: لَا تَعْلَمُ حَقَائِقَ ذَلِكَ - مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ صِفَاتِهَا عُمُوْمًا كَأَنْهَارِهَا وَأَشْجَارِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَنِسَائِهَا -، وكَمَا فِي الأَثَرِ (لَيْسَ فِي الجَنَّةِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الأَسْمَاءُ) (¬3). وَهَذِهِ الحَقَائِقُ هِيَ مِمَّا لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ضَرُوْرَةٌ وَلَا حَاجَةٌ لِلنَّاسِ فِي تَدَيُّنِهِم وَسُلُوْكِهِم وَعَقِيْدَتِهِم - أَيْ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ شَرْعِيٌّ - فَلَو كَانَ لِلنَّاسِ فِيْهَا حَاجَةٌ لَبَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى وَلَمْ يَسْكُتْ عَنْهَا. (¬4) 2) المُتَشَابِهُ النِّسْبِيُّ: يَخْفَى عَلى أَحَدٍ دُوْنَ أَحَدٍ، وَهَذِهِ مَأْخُوْذَةٌ مِنْ قِرَاءَةِ الوَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُوْنَ فِي العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُو الأَلْبَابِ}، فَيَكُوْنُ هَذَا المُتَشَابِهُ مَعْلُومًا أَيْضًا لِلرَّاسِخِيْنَ فِي العِلْمِ دُوْنَ عُمُوْمِ النَّاسِ، كَمَا فِي التَّفَاسِيْرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: (أَنَا مِنَ الرَّاسِخيْنَ فِي العِلْمِ الَّذِيْ يَعْلَمُوْنَ تَأْوِيْلَهُ). (¬5) ¬

_ (¬1) وَعَلَيْهَا الجُمْهُوْرُ، كَمَا ذَكَرَهُ الشّنْقِيْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَضْوَاءُ البَيَانِ) (192/ 1). قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (204/ 6): (وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُم مَرْفُوْعُوْنَ بِجُمْلَةِ خَبَرِهِم بَعْدَهُم وَهُوَ (يَقُوْلُوْنَ)؛ لِمَا قَدْ بَيَّنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّهُم لَا يَعْلَمُوْنَ تَأْوِيلَ المُتَشَابِهِ الَّذِيْ ذَكَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَهُوَ فِيْمَا بَلَغَنِي مَعَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَة أُبَيٍّ: (وَيَقُوْلُ الرَّاسِخُوْنَ فِي العِلْمِ) كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهُ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ: (إِنْ تَأْوِيْلُهُ إِلَّا عِنْدَ اللهِ. وَالرَّاسِخُوْنَ فِي العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ)). (¬2) وَمِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلَّا تَأْوِيْلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} (الأَعْرَاف:53) أَيْ: حَقِيْقَةُ مَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ المَعَادِ. قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (11/ 2). (¬3) رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي صِفَة الجَنَّةِ (ص124)، وَالمَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (16/ 10) مَوْقُوْفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. الصَّحِيْحَةُ (2188). (¬4) قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (180/ 6): (وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيْعَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ آيِ القُرْآنِ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ بَيَانًا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَهُدَىً لِلْعَالَمِيْنَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ مَا بِهِمْ إِلَيْهِ الحَاجَةُ؛ ثُمَّ لَا يَكُوْنُ لَهُمْ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيْلِهِ سَبِيْلٌ!! فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَكُلُّ مَا فِيْهِ لِخَلْقِهِ إِلَيْهِ الحَاجَةُ؛ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِ مَا بِهِمْ عَنْ بَعْضِ مَعَانِيهِ الغِنَى - وَإِنِ اضْطَرَّتْهُ الحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي مَعَانٍ كَثِيْرَةٍ - وَذَلِكَ كَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيْمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيْمَانِهَا خَيْرًا} (الأَنْعَام:158) فَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ أَنَّ تِلْكَ الآيَةَ الَّتِيْ أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤُهُ عِبَادَهُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيْمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ؛ هِيَ طُلُوْعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَالَّذِيْ كَانَتْ بِالعِبَادِ إِلَيْهِ الحَاجَةُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ هُوَ العِلْمُ مِنْهُمْ بِوَقْتِ نَفْعِ التَّوْبَةِ بِصِفَتِهِ بِغَيْرِ تَحْدِيْدِهِ بِعَدٍّ بِالسِّنِيْنَ وَالشُّهُوْرِ وَالأَيَّامِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ لَهُمْ بِدِلَالَةِ الكِتَابِ، وَأَوْضَحَهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسَّرًا، وَالَّذِيْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ مِنْهُ هُوَ العِلْمُ بِمِقْدَارِ المُدَّةِ الَّتِيْ بَيْنَ وَقْتِ نُزُوْلِ هَذِهِ الآيَةِ وَوَقْتِ حُدُوْثِ تِلْكَ الآيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ فِي دِيْنٍ وَلَا دُنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ العِلْمُ الَّذِيْ اسْتَأْثَرَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ دُوْنَ خَلْقِهِ، فَحَجَبَهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ هُوَ المَعْنَى الَّذِيْ طَلَبَتِ اليَهُوْدُ مَعْرِفَتَهُ فِي مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ (الم، وَالمص، وَالر، وَالمر) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ المُتَشَابِهَاتِ الَّتِيْ أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُوْنَ تَأْوِيْلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلَّا اللهُ). (¬5) تَفْسِيْرُ البَغَوِيِّ (10/ 2). وَاسْتَدَلَ لِصِحَّةِ هَذَا المَعْنَى بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ حَيْثُ قَالُوا: إنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آخِرِ الآيَاتِ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُو الأَلْبَابِ} مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِيْنَ أَصْحَابَ الأَلبَابِ هُمُ الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ مَعَانِيْهَا دُوْنَ سَائِر النَّاسِ.

- قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (وَ (الرَّحْمَن) أَيْ: ذُو الرَّحْمَةِ الوَاسِعَةِ؛ ولِهَذَا جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ (فَعْلَانَ) الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى السَّعَةِ، وَ {الرَّحِيْم} أَي المُوْصِلُ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ ولِهَذَا جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ (فَعِيْلٍ) الدَّالِّ عَلَى وُقوْعِ الفِعْلِ. فَهُنَا رَحْمَةٌ هِيَ صِفَتُهُ؛ هَذِهِ دَلَّ عَلَيْهَا اسْمُ (الرَّحْمَنِ)، وَرَحْمَةٌ هِيَ فِعْلُهُ، أَيْ: إِيْصَالُ الرَّحْمَةِ إِلَى المَرْحُومِ؛ دَلَّ عَلَيْهَا اسْمُ (الرَّحِيْمِ)). (¬2) ¬

_ (¬1) تَفْسِيْرُ الفَاتِحَةِ وَالبَقَرَةِ (5/ 1). (¬2) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ) (56/ 1): (فَالرَّحْمَنُ: الَّذِيْ الرَّحْمَةُ وَصْفُهُ، وَالرَّحِيْمُ: الرَّاحِمُ لِعِبَادِهِ. وَلِهَذَا يَقُوْلُ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالمُؤْمِنِيْنَ رَحِيْمًا} (الأَحْزَاب:43)، وكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ} (التَّوْبَة:117)، وَلَمْ يَجِئْ رَحْمَنٌ بِعِبَادِهِ وَلَا رَحْمَنٌ بِالمُؤْمِنِيْنَ؛ مَعَ مَا فِي اسْمِ الرَّحْمَنِ - الَّذِيْ هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَانَ - مِنْ سِعَةِ هَذَا الوَصْفِ وَثُبُوْتِ جَمِيْعِ مَعْنَاهُ المَوْصُوْفِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُم يَقُوْلُوْنَ غَضْبَانَ لِلمُمْتَلِئِ غَضَبًا؛ وَنَدْمَانَ وَحَيْرَانَ وَسَكْرَانَ وَلَهْفَانَ لِمَنْ مُلِئَ بِذَلِكَ! فَبِنَاءُ فَعْلَانَ لِلسِّعَةِ وَالشُّمُوْلِ، وَلِهَذا يُقْرَنُ اسْتِوَاءُهُ عَلَى العَرْشِ بِهَذا الاسْمِ كَثِيْرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طَه:5)، فَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ باسْمِ الرَّحْمَنِ؛ لِأَنَّ العَرْشَ مُحِيْطٌ بِالمَخْلُوْقَاتِ قَدْ وَسِعَهَا، وَالرَّحْمَةُ مُحِيْطَةٌ بِالخَلْقِ وَاسِعَةً لَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأَعْرَاف:156)).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المِسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلْ يَصِحُّ تَأْوِيْلُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ للهِ تَعَالَى بِإِرَادَةِ الثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى (¬1)، حَيْثُ أَنَّهُم - المُعَطِّلَةُ - قَالُوا: إِنَّ الرَّحْمَةَ لِيْنٌ وَضَعْفٌ وَرِقَّةٌ يَتَنَزَّهُ البَارِي سُبْحَانَهُ عَنْهَا! أَمَّا الإِرَادَةُ فَهِيَ مِمَّا دَلَّ العَقْلُ عَلَيْهَا؟ الجَوَابُ: لَا يَصِحُّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّوْرَى:11). فَنُثْبِتُ مَا أَثْبَتَ وَنَنْفِي عَنْه التَّمْثِيْلَ، فيَكُوْنُ بِذَلِكَ حَالُنَا كَحَالِ مِنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيْهِم: {وَالرَّاسِخُوْنَ فِي العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آلِ عِمْرَان:7). 2) أَنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِيْ تَسْتَلْزِمُ الضَّعْفَ وَاللَّيْنَ وَالرِّقَّةَ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوْقِ وَلَيْسَتْ رَحْمَةُ الخَالِقِ تَعَالَى، فَالخَالِقُ سُبْحَانَهُ رَحْمَتُهُ مُقَارِنَةٌ لِكَمَالِ سُلْطَانِهِ وَعِزَّتِهِ وَقوَّتِهِ. وَتَأَمَّلْ جَمْعَ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ صِفَتَيْنِ لَهُ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّهُ هُوَ العَزِيْزُ الرَّحِيْمُ} (الدُّخَان:42)، فَعِزَّتُهُ تَعَالَى غَيْرُ مُنْفَكَّةٍ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَلَا يَكُوْنُ فِيْهَا ضَعْفٌ وَلِيْنٌ وَرِقِّةٌ وَ ... مِمَّا يُنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬2) ¬

_ (¬1) كَمَا قَالَ صَاحِبُ تَفْسِيْرِ الجَلَالَيْنِ (2/ 1) عِنْدَ تَفْسِيْرِ سُوْرَةِ الفَاتِحَةِ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ): (أَي ذِي الرَّحْمَةِ؛ وَهِيَ إِرَادَةُ الخَيْرِ لِأَهْلِهِ). وَكَمَا قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ دَقِيْق العِيْد (ت 702 هـ) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وغَفَرَ لَهُ - فِي شَرْحِ البَسْمَلَةِ مِنْ مُقَدِّمَةِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ - (ص11): (وَالرَّحْمَنُ: العَامُّ الرَّحْمَةِ لِجَمِيْعِ البَرِيَّةِ، وَالرَّحِيْمُ: الخَاصُّ الرَّحْمَةِ لِلمُؤْمِنِيْنَ، وَأَصْلُ (الرَّحْمَةِ) انْعِطَافُ القَلْبِ وَالرِّقَةُ، وَهِيَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِرَادَةُ الخَيْرِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ تَرْكُ العُقُوْبَةِ لِمَنْ يَسْتَوجِبُهَا). وَبِمِثْلِهِ نَقَلَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في صِفَةِ المَحَبَّةِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (183/ 16) - عِنْدَ بَابِ إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَمَرَ جِبْرِيْلَ فَأَحَبَّهُ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ - فَقَالَ: (ثُمَّ يُوْضَعُ لَهُ القَبُوْلُ فِي الأَرْضِ، وَذَكَرَ في البُغْضِ نَحْوَهُ. قَالَ العُلَمَاءُ: مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ هِيَ إِرَادَتُهُ الخَيْرَ لَهُ وَهِدَايَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِ). (¬2) بَلْ بَعْضُ المَخْلُوْقِيْنَ - كَالنِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ - وَلَيْسَ كُلُّ المَخْلُوْقِيْنَ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَوْلِهِ {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ} (البَلَد:17)، مَعَ نَهْيِهِ عِبَادَهُ عَنِ الوَهَنِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (آلِ عِمْرَان:139)، وَمَعَ وَصْفِهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِيْنَ بِالشِّدَّةِ عَلَى الكَافِرِيْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ} (الفَتْحِ:29). وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَبَيْنَ الوَهَنِ وَالضَّعْفِ. وَتَرَى المَلِكَ ذُا السُّلْطَانِ العَظِيْمِ، يَكُوْنُ مِنْ أَقْوَى النَّاسِ وَيَكُوْنُ أَيْضًا مِنْ أَرْحَمِ النَّاسِ وَهَذَا مُمْكِنٌ، فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالضَّعْفِ. وَتَرَى الرَّجُلَ الشَّدِيْدَ الغَلِيْظَ صَاحِبَ البَطْشِ يَكُوْنُ رَحِيْمًا بِأَوْلَادِهِ عَطُوْفًا عَلَيْهِم دُوْنَ غَيْرِهِم. وَتَرَى الأُنْثَى مِنَ السِّبَاعِ وَالوُحُوْشِ الكَوَاسِرِ تَكُوْنُ رَفِيْقَةً رَحِيْمَةً بِأَوْلَادِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ قَوِيَّةٌ عَزِيْزَةٌ فِي مَمْلَكَتِهَا. وَكَيْفَ يَصِحُّ القَوْلُ بِذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ). حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (374) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (288). فَإِنْ اسْتَقَامَ ذَلِكَ في المَخْلُوْقِ، أَفَلَا يَكُوْن البَارِي أُوْلَى سُبْحَانَهُ بِكَمَالِ الصِّفات؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِيْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ فِي حَقِّ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ، قَدْ تُقَارِنُ الضَّعْفَ وَالخَوَرَ؛ ظَنَّ مَنْ غَلِطَ في ذَلِكَ أَنَّهَا كَذِلِكَ مُطْلَقًا. انْظُرْ شَرْحَ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (62/ 1).

3) تَأْوِيْلُ الرَّحْمَةِ بِإِرَادَةِ الرِّضَى أَوِ الثَّوَابِ بِحُجَّةِ أَنَّ هَذَا تَنْزِيْهٌ للهِ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ المَخْلُوْقِ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمُوْرٌ: أ) أَنَّ الإِرَادَةَ أَيْضًا يَرِدُ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا ذَكَرُوا فِي الرَّحْمَةِ، فَيُقَالُ لَهُم أَنَّ الإِرَادَةَ - وَهِيَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ - إِنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَلِيْقُ بِهِ ذَلِكَ - مُجَارَاةً لَهُم عَلَى قَاعِدَتِهِم -، فَإِذَا قَالُوا: هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوْقِ الضَّعِيْفِ المُحْتَاجِ! أَمْكَنَ الجَوَابُ بِمِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ؛ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ المُسْتَلْزِمَةَ لِلنَّقْصِ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوْقِ الضَّعِيْفِ. ب) تَأْوِيْلُ الرَّحْمَةِ بِمَا سَبَقَ مِنْ إِرَادَةِ الثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى مُخَالِفٌ لَمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ، فَلَو كَانَ حَقًّا لَذَكَرُوْهُ وَمَا غَفِلُوا عَنْهُ كَمَا يَدَّعِي المُؤَوِّلُوْنَ، حَيْثُ يَقُوْلُوْنَ بِأَنَّ عَامَّةَ المُسْلِمِيْنَ - وَفِيْهِمُ السَّلَفُ - غَافِلُوْنَ عَنْ هَذَا المَعْنَى الَّذِيْ يُعَدُّ عِنْدَهُم مُنْكَرًا. وَالصَّوَابُ - الَّذِيْ لَا رَيْبَ فِيْهِ -: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَلَى الهَدِيِّ المُسْتَقِيْمِ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ} (البَقَرَة:137). (¬1) جـ) دَعْوَى أَنَّ العَقْلَ دَلَّ عَلَى صِفَةِ الإِرَادَةِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ فِيْهِ مُجَازَفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَنَوُّعُ المَخْلُوْقَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا مُرِيْدٌ لِهَذَا التَّنَوُّعِ، فَأَوْضَحُ مِنْهُ مَا قَامَ فِي الفِطَرِ وَنُفُوْسِ النَّاسِ مِنْ حُصُوْلِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ وَانْتِشَارِ الخَيْرِ وَتَفْرِيْجِ الغَمِّ وَنُزُوْلِ الغَيْثِ وَ ... مِمَّا فِيْهِ بَيَانُ رَحْمَةِ مَنْ أَجْرَى تِلْكَ الأُمُوْرَ، وَهُوَ الَّذِيْ تَرَاهُ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ العَامَّةِ مِنْهُم فَضْلًا عَنِ الخَاصَّةِ. وَكَمَا سَبَقَ فِي شِعْرِ امْرِئِ القَيْسِ: (تِلْكَ السَّحَابُ إِذَا الرَّحْمَنُ أَنْشَأَهَا ... رَوَّى بِهَا مِنْ مَحُوْلِ الأَرْضِ أَنْفَاسًا). وَ (المَحْلُ): الجُوْعُ الشَّدِيْدُ. (¬2) د) أَنَّ الرَّحْمَةَ مُغَايِرَةٌ لِلثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى أَوِ الفَضْلِ، فَاللهُ تَعَالَى وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِهَا يَرْحَمُ الكَافِرَ في الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ لَا يُثِيْبُهُ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ - كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ قَطْعًا -. وَفِي الحَدِيْثِ (جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مَائَةَ جُزْءٍ، فَأمسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِن ذَلِكَ الجُزْءِ تَتَراحَمُ الخَلَائِقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيْبَهُ). (¬3) وَكَقَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُوْنَ} (يُوْنُس:58)، فَفَرَّقَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالفَضْلِ أَيْضًا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى المُغَايَرَةِ. وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْوِيْهِ إِلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوْقَةٍ؛ وَأَنَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الخَيْرِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ وَحُصُوْلِ النِّعَمِ هِيَ آثَارُ رَحْمَةِ اللهِ، فَنُزُوْلُ المَطَرِ وَنَبَاتُ الأَرْضِ وَ ... هِيَ أَشْيَاءُ مَخْلُوْقَةٌ، فَالعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الشَيْء عَلَى الشَيْءِ؛ وَأَيْضًا تُطْلِقُ الصِّفَةَ عَلَى المَفْعُوْلِ، كَقَوْلِكَ عَنِ المَقْدُوْرِ هَذِهِ قُدْرَةُ اللهِ (¬4)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُوْنَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِيْنَ، فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ} (الرُّوْم:50). ¬

_ (¬1) قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ - فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ القَدَرِ -: (فَارْضَ لِنَفْسِكَ مَا رَضِيَ بِهِ القَوْمُ لأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كَفَوْا، وَلَهُمْ عَلَى كَشْفِ الأُمُوْرِ كَانُوا أَقْوَى، وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيْهِ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ الهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟! لَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ! (فَـ) مَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيْلِهِمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ السَّابِقُوْنَ، فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيْهِ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي). صَحِيْحٌ مَقْطُوْعٌ. أَبُو دَاوُدَ (4612). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4614). (¬2) لِسَانُ العَرَبِ (616/ 11). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6000)، وَمُسْلِمٌ (2752) مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬4) وَكَقَوْلِكَ عَنْ إِهْلَاكِ اللهِ تَعَالَى لِلأُمَمِ الكَافِرَةِ: هَذِهِ حِكْمَةُ اللهِ، وَكَقَوْلِكَ عَنِ المَوْلُوْدِ الذَّكَرِ أَوِ الأُنْثَى: هَذِهِ إِرَادَةُ اللهِ، وَعَنِ المَطَرِ: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُوْنِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ بَلِ الظَّالِمُوْنَ فِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ} (لُقْمَان:11) وَذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيْمٍ} (لقُمْاَن:10) فَالمَخْلُوْقُ المَفْعُوْلُ عُبِّرَ عَنْهُ بِالصِّفَةِ وَهِيَ الخَلْقُ، فَهَلْ يُقَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ؟! وَالمُعْتَزِلَةُ وَالجَهْمِيَّةُ يَجْعَلُوْنَ فِعْلَ اللهِ تَعَالَى مَخْلُوْقٌ أَصْلًا.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا هِيَ شُرُوْطُ التَّوْبَةِ: (¬1) 1) الإِخْلَاصُ فِيْهَا: فَلَا يَحْمِلْهُ عَلَى التَّوْبَةِ خَوْفُهُ مِنْ أَحَدٍ، أَوْ تَابَ لِأَجْلِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ مُسْتَقِيْمٌ، فَـ (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬2) 2) النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَفِي الحَدِيْثِ (النَّدَمُ تَوْبَةٌ). (¬3) 3) الإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، لَكِنْ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ وَجَبَ أَدَاؤُهُ: أ) فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الأَوَامِرِ وَيُمْكِنُهُ إِدْرَاكُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ. ب) وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الكَفَّارَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا. ج) وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ العِبَادِ فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ. 4) العَزْمُ عَلَى عَدَمِ العَوْدَةِ فِي المُسْتَقْبَلِ - وَلَيْسَ الشَّرْطُ عَدَمَ العَوْدَةِ -، فَإِنْ عَادَ إِلَى الذَّنْبِ فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ تَوْبَتَهُ الأُوْلَى. (¬4) 5) أَنْ تَكُوْنَ التَّوْبَةُ فِي وَقْتِ القَبُوْلِ، وَهِيَ عَلَى حَالَتَيْنِ: أ) عَامَّةٌ: وَهِيَ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ. كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا). (¬5) (¬6) ب) خَاصَّةٌ لِكُلِّ فَرْدٍ: وَهِيَ قَبْلَ نَزْعِ الرُّوْحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلَا الَّذِيْنَ يَمُوْتُوْنَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيْمًا} (النِّسَاء:18). (¬7) ¬

_ (¬1) اُنْظُرْ شَرْحَ الأَرْبَعِيْن النَّوَوِيَّةِ (ص401) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907). (¬3) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (4252) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (6802). (¬4) كَمَا في الصَّحِيْحَيْن من حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ). ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ: رَبِّ؛ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ). ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ؛ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ)). البُخَارِيُّ (7507)، وَمُسْلِمٌ (2758). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (2/ 409): (وَالمَعْنَى مَا دَامَ عَلَى هَذَا الحَالِ كُلَّمَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الاسْتِغْفَارُ المَقْرُوْنُ بِعَدَمِ الإِصْرَارِ). (¬5) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2479) عَنْ مُعَاوِيَة مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7469). (¬6) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَقُوْلُوْنَ مَتَى هَذَا الفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ، قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا إِيْمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُوْنَ} (السَّجْدة:29). (¬7) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص171): (وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْبَةَ فِي هَذِهِ الحَالِ تَوْبَةُ اِضْطِرَارٍ لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا، إِنَّمَا تَنْفَعُ تَوْبَةُ الاخْتِيَارِ).

الملحق السابع على كتاب التوحيد) مختصر القواعد المثلى

المُلْحَقُ السَّابِعُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) مُخْتَصَرُ القَوَاعِدِ المُثْلَى الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. أَمَّا بَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مُفِيْدٌ لِكِتَابِ (القَوَاعِدُ المُثْلَى فِي صِفَاتِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ الحُسْنَى) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ. (¬1) - قَوَاعِدُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى: 1) أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حُسْنَى: أَيْ: بَالِغَةٌ فِي الحُسْنِ غَايَتَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الأَعْرَاف:180). مِثَالُ ذَلِكَ: (الحَيُّ) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، مُتَضَمِّنٌ لِلحَيَاةِ الكَامِلَةِ الَّتِيْ لَمْ تُسْبَقْ بِعَدَمٍ، وَلَا يَلْحَقُهَا زَوَالٌ، الحَيَاةُ المُسْتَلْزِمَةُ لِكَمَالِ الصِّفَاتِ مِنَ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَغَيْرِهَا. وَالحُسْنُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى يَكُوْنُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ اسْمٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَيَكُوْنُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَيَحْصُلُ بِجَمْعِ الاسْمِ إِلَى الآخَرِ كَمَالٌ فَوْقَ كَمَالٍ. مِثَالُ ذَلِكَ: (العَزِيْزُ الحَكِيْمُ)، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي القُرْآنِ كَثِيْرًا، فَيَكُوْنُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَالًّا عَلَى الكَمَالِ الخَاصِّ الَّذِيْ يَقْتَضِيْهِ - وَهُوَ العِزَّةُ فِي العَزِيْزِ، وَالحِكْمَةُ فِي الحَكِيْمِ - وَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا دَالٌّ عَلَى كَمَالٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ عِزَّتَهُ تَعَالَى مَقْرُوْنَةٌ بِالحِكْمَةِ، فَعِزَّتُهُ لَا تَقْتَضِي ظُلْمًا وَجَوْرًا كَسُوْءِ فِعْلٍ؛ كَمَا قَدْ يَكُوْنُ مِنْ أَعِزَّاءِ المَخْلُوْقِيْنَ، فَإِنَّ العَزِيْزَ مِنْهُم قَدْ تَأْخُذُهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ، فَيَظْلُمُ وَيَجُوْرُ وَيُسِيْءُ التَّصَرُّفَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ مَقْرُوْنَانِ بِالعِزِّ الكَامِلِ بِخِلَافِ حِكْمَةِ المَخْلُوْقِ فَإِنَّهَا قَدْ يَعْتَرِيْهَا الذُلُّ. 2) أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى أَعْلَامٌ وَأَوْصَافٌ: فَهِيَ أَعْلَامٌ بِاعْتِبَار دِلَالَتِهَا عَلَى الذَّاتِ، وَأَوْصَافٌ بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ المَعَانِي، وَهِيَ بِالاعْتِبَارِ الأَوَّلِ مُتَرَادِفَةٌ لِدِلَالَتِهَا عَلَى مُسَمَّىً وَاحِدٍ - وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَبِالاعْتِبَارِ الثَّانِي مُتَبَايِنَةٌ لِدِلَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنَاهُ الخَاصِّ فَـ (الحَيُّ، العَلِيْمُ، القَدِيْرُ، السَّمِيْعُ، البَصِيْرُ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيْمُ، العَزِيْزُ، الحَكِيْمُ) كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِمُسَمَّىً وَاحِدٍ؛ وَهُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَكِنْ مَعْنَى الحَيِّ غَيْرُ مَعْنَى العَلِيْمِ، وَمَعْنَى العِلِيْمِ غَيْرُ مَعْنَى القَدِيْرِ، وَهَكَذَا. 3) أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى إِنْ دَلَّتْ عَلَى وَصْفٍ مُتَعَدٍ؛ لَزِمَ إِثْبَاتُهُ: أَيْ: ثُبُوْتُ حُكْمِهِ وَمُقْتَضَاهُ. مِثَالُ ذَلِكَ: (السَّمِيْعُ) يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ السَّمِيْعِ اسْمًا للهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتَ السَّمْعِ صِفَةً لَهُ، وَإِثْبَاتَ حُكْمِ ذَلِكَ وَمُقْتَضَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ يَسْمَعُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيْعٌ بَصِيْرٌ} (المُجَادِلَة:1). ¬

_ (¬1) وَفِيْهِ تَصَرُّفٌ وَزِيَادَةٌ يَسِيْرَةٌ، أَمَّا الحَاشِيَةُ فَهِيَ مِنْ خَارِجِ الكِتَابِ الأَصْلِ، أَضَفْتُهَا تَتْمِيْمًا لِلفَائِدَةِ.

4) دِلَالَةُ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَكُوْنُ بِالمُطَابَقَةِ وَبِالتَّضَمُّنِ وَبالالْتِزَامِ: مِثَالُ ذَلِكَ: (الخَالِقُ) يَدُلُّ عَلَى ذَاتِ اللهِ وَعَلَى صِفَةِ الخَلْقِ بِالمُطَابَقَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَحْدَهَا بِالتَّضَمُّنِ، وَعَلَى صِفَةِ الخَلْقِ وَحْدَهَا أَيْضًا بِالتَّضَمُّنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِفَتَي العِلْمِ وَالقُدْرَةِ بِالالْتِزَامِ، وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللهُ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَالَ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطَّلَاق:12). 5) أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى تَوْقِيْفِيَّةٌ لَا مَجَالَ لِلعَقْلِ فِيْهَا: وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الوُقُوْفُ فِيْهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَا يُزَادُ فِيْهَا وَلَا يُنْقَصُ؛ لِأَنَّ العَقْلَ لَا يُمْكِنُهُ إِدْرَاكُ مَا يَسْتَحِقُّهُ تَعَالَى مِنَ الأَسْمَاءِ (¬1)، فَوَجَبَ الوُقُوْفُ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُوْلًا} (الإِسْرَاء:36)، وَقَوْلِهِ (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ} (الأَعْرَاف:33). 6) أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى غَيْرُ مَحْصُوْرَةٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيْثِ (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ؛ سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ؛ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ؛ أَوِ استَأثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ؛ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيْعَ قَلْبِي) (¬2)، وَمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ حَصْرُهُ وَلَا الإِحَاطَةُ بِهِ. (¬3) وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْيِيْنُ هَذِهِ الأَسْمَاءِ، وَالحَدِيْثُ المَرْوِيُّ عَنْهُ فِي تَعْيِيْنِهَا ضَعِيْفٌ. (¬4) ¬

_ (¬1) أَمَّا عَلَى سَبِيْلِ الإِجْمَالِ فَنَعَم؛ بِخِلَافِ التَّفْصِيْلِ وَالاسْتِحْقَاقِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى لِقَوْمِ مُوْسَى الَّذِيْنَ عَبَدُوا العِجْلَ {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} (طَه:89)، وَأَيْضًا قَوْلَ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِيْهِ {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مَرْيَم:42). (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (3712) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (199). (¬3) وَأَمَّا حَدِيْثُ (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ اسْمًا ....)، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (5/ 17): (وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ لَيْسَ فِيْهِ حَصْرٌ لِأَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لهُ أَسْمَاءٌ غَيْرُ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِيْنَ، وَإِنَّمَا مَقْصُوْدُ الحَدِيْثِ أَنَّ هَذِهِ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِيْنَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ. فَالمُرَادُ الإِخْبَارُ عَنْ دُخُوْلِ الجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الإِخْبَارُ بِحَصْرِ الأَسْمَاءِ، ولِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ الآخَرِ (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أنْزَلتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي بُلُوْغِ المَرَامِ (ص419): (وَالتَّحْقِيْقُ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ).

7) الإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى هُوَ المَيْلُ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيْهَا. وَهُوَ أَنْوَاعٌ: الأوَّلُ) أَنْ يُنْكِرَ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالأَحْكَامِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ التَّعْطِيْلُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِم. وَإنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِلْحَادًا لِوُجُوْبِ الإِيْمَانِ بِهَا وَبِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ وَالصِّفاتِ اللَّائِقَةِ بِاللهِ، فَإِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَيْلٌ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيْهَا. (¬1) الثَّانِي) أَنْ يَجْعَلَهَا دَالَّةً عَلَى صِفَاتٍ تُمَاثِلُ صِفَاتِ المَخْلُوْقِيْنَ - كَمَا فَعَلَ أَهْلُ التَّمْثِيْلِ -، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْثِيْلَ مَعْنَى بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تدُّلَ عَلَيْهِ النُّصُوْصُ، بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَجَعْلُهَا دَالَّةً عَلَيْهِ مَيْلٌ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيْهَا. (¬2) الثَّالِثُ) أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، كَتَسْمِيَةِ النَّصَارَى لَهُ: (الأَبَ)، وَتَسْمِيَةِ الفَلَاسِفَةِ إِيَّاهُ (العِلَّةَ الفَاعِلَةَ)، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى تَوْقِيْفِيَّةٌ، فَتَسْمِيَةُ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ مَيْلٌ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيْهَا، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الأَسَمْاءَ نَفْسَهَا الَّتِيْ سَمَّوهُ بِهَا بَاطِلةٌ يُنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا. (¬3) الرَّابِعُ) أَنْ يَشْتَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ أَسْمَاءً لِلأَصْنَامِ، كَمَا فَعَلَ المُشْرِكُوْنَ فِي اشْتِقَاقِ العُزَّى مِنَ العَزِيْزِ، وَاشْتِقَاقِ اللَّاتِ مِنَ الإِلَهِ - عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ - فَسَمَّوا بِهَا أَصْنَامَهُم؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (الأَعْرَاف:180). (¬4) ¬

_ (¬1) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِيْنَ {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُوْنَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرَّعْد:30). (¬2) وَأَشْهَرُ مَنْ نُسِبَ إِلَى التَّمْثِيْلِ مِنَ الطَّوَائِفِ هُمْ قُدَمَاءُ الرَّافِضَةِ، حَيْثُ جَعَلُوا اللهَ حَالًّا فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. اُنْظُرْ مِنْهَاجَ السُّنَّةِ (242/ 2) لِشَيْخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬3) قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ المُتَصَوِّفَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى - هُوَ - أَه -. (¬4) قُلْتُ: وَإِنَّ تَقْدِيْمَ مَا حَقُّهُ التَّأخِيْرُ يُفِيْدُ الحَصْرَ.

- قواعد في صفات الله تعالى

- قَوَاعِدُ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى: 1) صِفَاتُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ؛ لَا نَقْصَ فِيْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوْهِ: كَالحَيَاةِ وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالرَّحْمَةِ وَالعِزَّةِ وَالحِكْمَةِ وَالعُلُوِّ وَالعَظَمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا السَّمْعُ (¬1) وَالعَقْلُ وَالفِطْرَةُ. قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ} (النَّحْل:60)، وَالمَثَلُ الأَعْلَى هُوَ الوَصْفُ الأَعْلَى. وَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ كَمَالًا فِي حَالٍ، وَنَقْصًا فِي حَالٍ؛ لَمْ تَكُنْ جَائِزَةً فِي حَقِّ اللهِ وَلَا مُمْتَنِعَةً عَلَى سَبِيْلِ الإِطْلَاقِ، فَلَا تُثْبَتُ لَهُ إِثْبَاتًا مُطْلَقًا، وَلَا تُنْفَى عَنْهُ نَفْيًا مُطْلَقًا بَلْ لَابُدَّ مِنَ التَّفْصِيْلِ، فَتَجُوْزُ فِي الحَالِ الَّتِيْ تَكُوْنُ كَمَالًا، وَتَمْتَنِعُ فِي الحَالِ الَّتِيْ تَكُوْنُ نَقْصًا، وَذَلِكَ كَالمَكْرِ وَالكَيْدِ وَالخِدَاعِ وَنَحْوِهَا. فَهَذِهِ الصِّفَاتُ تَكُوْنُ كَمَالًا إِذَا كَانَتْ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ يُعَامِلُوْنَ الفَاعِلَ بِمِثْلِهَا، لِأَنَّهَا حِيْنَئِذٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا قَادِرٌ عَلَى مُقَابَلَةِ عَدُوِّهِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ أَوْ أَشَدَّ، وَتَكُوْنَ نَقْصًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الحَالِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا اللهُ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى سَبِيْلِ الإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْ يُعَامِلُوْنَهُ وَرُسَلَهُ بِمِثْلِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِيْنَ} (الأَنْفَال:30)، وَقَوْلِهِ {إِنَّهُمْ يَكِيْدُوْنَ كَيْدًا وَأَكِيْدُ كَيْدًا} (الطّارق:16)، وَقَوْلِهِ {إِنَّ المُنَافِقِيْنَ يُخَادِعُوْنَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النِّسَاء:142)، وَقَوْلِهِ {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُوْنَ، اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البَقَرَة:15). (¬2) 2) بَابُ الصِّفَاتِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الأَسْمَاءِ: وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ اسْمٍ مُتَضَمِّنٌ لِصِفَةٍ - كَمَا سَبَقَ فِي القَاعِدَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الأَسْمَاءِ -، وَلِأَنَّ مِنَ الصِّفَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى، وَأَفْعَالُهُ لَا مُنْتَهَى لَهَا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى المَجِيْءُ وَالإِتْيَانُ وَالأَخْذُ وَالإِمْسَاكُ وَالبَطْشُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِيْ لَا تُحْصَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّك} (الفَجْر:22)، وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ} (البَقَرَة:210)، فَنَصِفُ اللهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى الوَجْهِ الوَارِدِ - وَلَا نُسَمِّيْهِ بِهَا - فَلَا نَقُوْلُ: إِنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الجَائِي وَالآتِي وَالآخِذِ وَالمُمْسِكِ وَالبَاطِشِ وَالمُرِيْدِ وَالنَّازِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَإِنْ كُنَّا نُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ وَنَصِفُهُ بِهَا -. (¬3) ¬

_ (¬1) أَي الدَّلِيْلُ الخَبَريُّ. (¬2) وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَإِنْ يُرِيْدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ) (الأَنْفَال:71) فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ خَانَ مَنْ خَانَهُ فَقَالَ: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، وَلَمْ يَقُلْ (فَخَانَهُم)؛ لِأَنَّ الخِيَانَةَ خُدْعَةٌ فِي مَقَامِ الائْتِمَانِ، وَهِيَ صِفَةُ ذمٍّ مُطْلَقًا، وَتَجِدُ بُرْهَانَ ذَلِكَ فِي الحَدِيْثِ (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خانَكَ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3535) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (423). فَلَمْ يَجُزْ لِلمُؤْمِنِ أَنْ يُقَابِلَ مَنْ خَانَهُ أَوَّلًا بِخِيَانَةٍ مُمَاثِلَةٍ - رُغْمَ أَنَّهَا مِنْ بَابِ المُقَابَلَةِ وَلَيْسَ الابْتِدَاءِ - وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ صِفَةَ الخِيَانَةِ مَذْمُوْمَةٌ مُطْلَقًا. (¬3) وَكَذَلِكَ بَابُ الإِخْبَارِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَالِهِ تَعَالَى وَهِيَ لَا مُنْتَهَى لَهَا.

3) صِفَاتُ اللهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: ثُبُوْتِيَّةٍ، وَسَلْبِيَّةٍ: فَالثُبُوْتِيَّةُ: مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوْهِ، كَالحَيَاةِ وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالاسْتِوَاءِ عَلَى العَرْشِ وَالنُّزُوْلِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالوَجْهِ وَاليَدِيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ: مَا نَفَاهَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّهَا صِفَاتُ نَقْصٍ فِي حقِّهِ كَالمَوْتِ، وَالنَّوْمِ، وَالجَهْلِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالعَجْزِ، وَالتَّعَبِ. فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنِ اللهِ تَعَالَى مَعَ إِثْبَاتِ ضِدِّهَا عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا نَفَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ فَالمُرَادُ بِهِ بَيَانُ انْتِفَائِهِ لِثُبُوْتِ كَمَالِ ضِدِّهِ، لَا لِمُجَرَّدِ نَفْيهِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِكَمَالٍ؛ إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى الكَمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْيَ عَدَمٌ، وَالعَدَمُ لَيْسَ بشَيْءٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ كَمَالًا. مِثَالُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِيْ لَا يَمُوْتُ} (الفُرْقَان:58)، فَنَفْيُ المَوْتِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ حَيَاتِهِ. مِثَالٌ ثَانٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكَهْف:49)، فَنَفْيُ الظُلْمِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ عَدْلِهِ. مِثَالٌ ثَالِثٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} (فَاطِر:44)، فَنَفْيُ العَجْزِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيْمًا قَدِيْرًا}. لِأَنَّ العَجْزَ سَببُهُ إِمَّا الجَهْلُ بِأَسْبَابِ الإِيْجَادِ، وَإِمَّا قُصُوْرُ القُدْرَةِ عَنْهُنَّ، فَلِكَمَالِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِيُعْجِزَهُ شَيْءٌ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ. (¬1) 4) الصِّفَاتُ الثُّبُوْتِيَّةُ صِفَاتُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ، فَكُلَّمَا كَثُرَتْ وَتَنَوَّعَتْ دِلَالَتُهَا ظَهَرَ مِنْ كَمَالِ المَوْصُوْفِ بِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ. وَلِهَذَا كَانَتِ الصِّفَاتُ الثُّبُوْتِيَّةُ الَّتِيْ أَخْبَرَ اللهُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ أَكْثَرَ بِكَثِيْرٍ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ - كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ -. أَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ فَلَمْ تُذْكَرْ غَالِبًا إِلَّا فِي الأَحْوَالِ التَّالِيَةِ: الأُوْلَى) بَيَانُ عُمُوْمِ كَمَالِهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّوْرَى:11)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإِخْلَاص:4). الثَّانِيَةُ) نَفْيُ مَا ادَّعَاهُ فِي حَقِّهِ الكَاذِبُوْنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} (مَرْيَم:92). الثَّالِثَةُ) دَفْعُ تَوَهُّمِ نَقْصٍ مِنْ كَمَالِ اللهِ تَعَالَى فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِيْنَ} (الدُّخَان:38)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوْبٍ} (ق:38). (¬2) ¬

_ (¬1) فَائِدَة) الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ عِنْدَ الأَشَاعِرَةِ هِيَ الَّتِيْ تَسْلِبُ عَنِ اللهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيْقُ بِهِ، وَهِيَ خَمْسُ صِفَاتٍ عَلَى اصْطِلَاحِهِم وَهِيَ (البَقَاءُ، القِدَمُ، مُخَالَفَتُهُ لِلحَوَادِثِ، قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ، الوَحْدَانِيَّةُ). (¬2) قُلْتُ: وَالدَّلِيْلُ هَذَا صَالِحٌ لِلحَالَيْنِ الأَخِيْرَيْنِ، كَمَا فِي تَفْسِيْرِ ابْنِ كَثِيْرٍ (409/ 7) رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ اليَهُوْدُ - عَلَيْهِم لَعَائِنُ اللهِ -: خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي اليَوْمِ السَّابِعِ - وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ -، وَهُم يُسَمُّوْنَهُ يَوْمَ الرَّاحَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى تَكْذِيْبَهُم فِيْمَا قَالُوْهُ).

5) الصِّفَاتُ الثُّبُوْتِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ، ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ: فَالذَّاتِيَّةُ: هِيَ الَّتِيْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا بِهَا، كَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالعِزَّةِ وَالحِكْمَةِ وَالعُلُوِّ وَالعَظَمَةِ. (¬1) وَالفِعْلِيَّةُ: هِيَ الَّتِيْ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيْئَتِهِ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ فَعَلَهَا؛ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهَا، كَالاسْتِوَاءِ عَلَى العَرْشِ، وَالنُّزُوْلِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَقَدْ تَكُوْنُ الصِّفَةُ ذَاتِيَّةً فِعْلِيَّةً (¬2) بِاعْتِبَارَيْنِ - كَالكَلَامِ - فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَزْلْ وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا، وَبِاعْتِبَارِ آحَادِ الكَلَامِ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الكَلَامَ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيْئَتِهِ تَعَالَى، يَتَكَلَّمُ مَتَى شَاءَ بِمَا شَاءَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} (يَس:82)، وَكُلُّ صِفَةْ تَعَلَّقَتْ بِمَشِيْئَتِهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ تَكُوْنُ الحِكْمَةُ مَعْلُوْمَةً لَنَا، وَقَدْ نَعْجَزُ عَنْ إِدْرَاكِهَا، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِيْنِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَشَاءُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلحِكْمَةِ، كَمَا يُشِيْرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا تَشَاءُوْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيْمًا حَكِيْمًا} (الإِنْسَان:30). ¬

_ (¬1) قُلْتُ: وَهُوَ تَعَالَى مُتّصِفٌ بِهَا دَوْمًا، فَهِيَ غَيْرُ مُرْتَبِطَةٍ بِالمَشِيْئَةِ كَالصِّفَاتِ الفِعْلِيَّةِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ تُقْسَمُ أَيْضًا إِلَى صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ كَالعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالحِكْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ، وَإِلَى صِفَات خَبَرِيَّةٍ كَالوَجْهِ وَاليَدَيْنِ وَالعَيْنَيْنِ، وَهَذِهِ الخَبَرِيَّةُ مُسَمَّاهَا بِالنِّسْبَةِ لَنَا أَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ - وَلَكِنْ لَا نَصِفُ اللهَ تَعَالَى بِهَا لِعَدَمِ وُرُوْدِهَا فِي الشَّرِيْعَةِ -. (¬2) وَتُسَمَّى أَيْضًا الصِّفَاتِ الطَارِئَةَ.

6) يَلْزَمُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ التَّخَلِّي عَنْ مَحْذُوْرَيْنِ عَظِيْمَيْنِ هُمَا: التَّمْثِيْلُ، وَالتَّكْيِيْفُ. فَالتَّمْثِيْلُ: هُوَ اعْتِقَادُ المُثْبِتِ أَنَّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ المَخْلُوْقِيْنَ! وَهَذَا اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ بِدَلِيْلِ السَّمْعِ وَالعَقْلِ. أَمَّا السَّمْعُ: فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّوْرَى:11)، وَقَوْلُهُ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مَرْيَم:56)، وَقَوْلُهُ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإِخْلَاص:4). وَأَمَّا العَقْلُ فَمِنْ وُجُوْهٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوْقِ تَبَايُنًا فِي الذّاتِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُوْنَ بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ فِي الصِّفَاتِ، وَأَيْضًا أَنَّنَا نُشَاهِدُ فِي المَخْلُوْقَاتِ مَا يَتَّفِقُ فِي الأَسْمَاءِ وَيَخْتَلِفُ فِي الحَقِيْقَةِ وَالكَيْفِيَّةِ، فَنُشَاهِدُ أَنَّ لِلإِنْسَانِ يَدًا لَيْسَتْ كَيَدِ الفِيْلِ، وَلَهُ قُوَّةً لَيْسَتْ كَقُوَّةِ الجَمَلِ، مَعَ الاتِّفَاقِ فِي الاسْمِ، فَهَذِهِ يَدٌ وَهَذِهِ يَدٌ، وَهَذِهِ قُوَّةٌ وَهَذِهِ قُوَّةٌ، وَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ فِي الكَيْفِيَّةِ وَالوَصْفِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الاتّفاقَ فِي الاسْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الاتِّفَاقُ فِي الحَقِيْقَةِ. وَالتَّشْبِيْهُ هُوَ كَالتَّمْثِيْلِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّمْثِيْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ، وَالتَّشْبِيْهَ التَّسْوِيَةُ فِي أَكْثَرِ الصِّفَاتِ، لَكِنَّ التَّعْبِيْرَ بِنَفْي التَّمْثِيْلِ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ القُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّوْرَى:11) (¬1). وَأَمَّا التَّكْيِيْفُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ المُثْبِتُ أَنَّ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا! وَهَذَا اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ بِدَلِيْلِ السَّمْعِ وَالعَقْلِ. أَمَّا السَّمْعُ: فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا يُحِيطُوْنَ بِهِ عِلْمًا} (طَه:110)، وَقَوْلُهُ {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُوْلًا} (الإِسْرَاء:36)، وَمِنَ المَعْلُوْمِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ رَبِّنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْهَا وَلَمْ يُخْبِرْنَا عَنْ كَيْفِيَّتِهَا، فَيَكُوْنُ تَكْيِيْفُنَا لَهَا قَفْوًا لِمَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَقوْلًا بِمَا لَا يُمْكِنُنَا الإِحَاطةُ بِهِ. وَأَمَّا العَقْلُ: فَلِأَنَّ الشَّيْءَ لَا تُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ صِفَاتِهِ إِلَّا بَعْدَ العِلْمِ بِأَحَدِ ثَلَاثٍ: كَيْفِيَّةُ ذَاتِهِ، أَوْ بِنَظِيْرِهِ المُسَاوِي لَهُ، أَوْ بِالخَبَرِ الصَّادِقِ عَنْهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الطُّرُقِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ صِفَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَجَبَ بُطْلَانُ تَكْيِيْفِهَا. 7) صِفَاتُ اللهِ تَعَالَى تَوْقِيْفِيَّةٌ لَا مَجَالَ لِلعَقْلِ فِيْهَا: فَلَا نُثْبِتُ للهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مَا دَلَّ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ثُبُوْتِهِ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَا يُوْصَفُ اللهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُوْلُهُ، لَا يُتَجَاوَزُ القُرْآنُ وَالحَدِيْثُ). (¬2) ¬

_ (¬1) وَلِأَنَّ نَفْيَ التَّشْبِيْهِ مُطْلَقًا بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوْقِ غَيْرُ صَحِيْحٌ، وَذَلِكَ لِوُجُوْدِ الاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الصِّفَةِ فِي كَثِيْرٍ مِنَ الصِّفَاتِ، كَصِفَةِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالعِلْمِ وَالحَيَاةِ وَالقُدْرَةِ، وَلَكِنَّ الكَمَالَ فِيْهَا هُوَ للهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (الأَعْرَاف:180)، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {لِلَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ} (النَّحْل:60). (¬2) ذَكَرَهُ أَبُو عُثْمَان الصَّابُوْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت 449هـ) فِي كِتَابِهِ (عَقِيْدَةُ السَّلَفِ وَأَصْحَابِ الحَدِيْثِ) (ص63).

- قواعد في أدلة الأسماء والصفات

- قَوَاعِدُ فِي أَدِلَّةِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: 1) الأَدِلَّةُ الَّتِيْ تَثْبُتُ بِهَا أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ، هِيَ: كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَسُنَّةُ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَثْبُتُ أَسْمَاءُ اللهِ وَصِفَاتُهُ بِغَيْرِهِمَا. وَعَلَى هَذَا فَمَا وَرَدَ إِثْبَاتُهُ للهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَجَبُ إِثْبَاتُهُ، وَمَا وَرَدَ نَفْيُهُ فِيْهِمَا وَجَبَ نَفْيُهُ - مَعَ إِثْبَاتِ كَمَالِ ضِدِّهِ - وَمَا لَمْ يَرِدْ إِثْبَاتُهُ وَلَا نَفْيُهُ فِيْهِمَا وَجَبَ التَّوقُّفُ فِي لَفْظِهِ فَلَا يُثْبَتُ وَلَا يُنْفَى لِعَدَمِ وُرُوْدِ الإِثْبَاتِ وَالنَّفْي فِيْهِ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ فيُفَصَّلُ فِيْهِ، فَإِنْ أُرِيْدَ بِهِ حَقٌّ - يَلِيْقُ بِالله تَعَالَى - فَهُوَ مَقْبُوْلٌ، وَإِنْ أُرِيْدَ بِهِ مَعْنَىً لَا يَلِيْقُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَ رَدُّهُ. وَمِمَّا لَمْ يَرِدْ إِثْبَاتُهُ وَلَا نَفْيُهُ لَفْظُ (الجِهَةِ) فَلَوْ سَأَلَ سَائِلٌ هَلْ نُثْبِتُ للهِ تَعَالَى جِهَةً؟ قُلْنَا لَهُ: لَفْظُ الجِهَةِ لَمْ يَرِدْ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَيُغْنِي عَنْهُ مَا ثَبَتَ فِيْهِمَا مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ. (¬1) 2) الوَاجِبُ فِي نُصُوْصِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا دُوْنَ تَحْرِيْفٍ - لَاسِيَّمَا نُصُوْصِ الصِّفَاتِ - حَيْثَ لَا مَجَالَ لِلرَّأْي فِيْهَا. وَدَلِيْلُ ذَلِكَ: السَّمْعُ، وَالعَقْلُ. أَمَّا السَّمْعُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {نَزَلَ بِهِ الرُّوْحُ الأَمِيْنُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُوْنَ مِنَ المُنْذِرِيْنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ} (الشُّعَرَاء:195)، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوْبِ فَهْمِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيْهِ ظَاهِرُهُ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ؛ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ دَلِيْلٌ شَرْعِيٌّ. وَقَدْ ذَمَّ اللهُ تَعَالَى اليَهُوْدَ عَلَى تَحْرِيْفِهِم، فقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِيْنَ هَادُوا يُحَرِّفُوْنَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُوْلُوْنَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} (النِّسَاء:46). وَأَمَّا العَقْلُ: فَلِأَنَّ المُتَكَلِّمَ بِهَذِهِ النُّصُوْصِ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ خَاطَبَنَا بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ المُبِيْنِ، فَوَجَبَ قَبُوْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِلَّا لَاخْتَلَفَتِ الآرَاءُ وَتَفَرَّقَتِ الأُمَّةُ. 3) ظَوَاهِرُ نُصُوْصِ الصِّفَاتِ مَعْلُوْمةٌ لَنَا بِاعْتِبَارٍ، وَمَجْهُوْلَةٌ لَنَا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، فَبِاعْتِبَارِ المَعْنَى هِيَ مَعْلُوْمَةٌ، وَبِاعْتِبَارِ الكَيْفِيَّةِ الَّتِيْ هِيَ عَلَيْهَا مَجْهُوْلَةٌ. ¬

_ (¬1) قُلْتُ: وَمِثْلُهُ الكَلَامُ عَلَى المَكَانِ، فَلَفْظُهُ لَيْسَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ نَنْظُرُ إِلَى المَقْصُوْدِ؛ فَإِنْ كَانَ المَقْصُوْدُ نَفْيُ سُؤَالِ أَيْنَ اللهَ؟ وَأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَوْقَ العَرْشِ! فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُوْدٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَإِنْ كَانَ المَقْصُوْدُ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُوْدٍ دَاخِلَ خَلْقٍ مِنْ مَخْلُوْقَاتِهِ (أَيْ غَيْرُ مُحَاطٍ بِالمَخْلُوْقَاتِ؛ وَهِيَ الأَمَاكِنُ الَّتِيْ خَلقَهَا اللهُ) فَهَذَا صَحِيْحٌ، فَاللهُ فَوْقَ عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ المَكَانِ وَالزَّمَانِ.

4) ظَاهِرُ النُّصُوْصِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى الذّهْنِ مِنَ المَعَانِي: وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ السِّيَاقِ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الكَلَامُ، فَالكَلِمَةُ الوَاحِدَةُ يَكُوْنُ لَهَا مَعْنَىً فِي سِيَاقٍ، وَمَعْنَىً آخَرَ فِي سِيَاقٍ آخَرَ، وَتَرْكِيْبُ الكَلَامِ يُفِيْدُ مَعْنَىً عَلَى وَجْهٍ وَمَعْنَىً آخَرَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَلَفْظُ (القَرْيَةِ) مَثَلًا يُرَادُ بِهِ القَوْمُ تَارَةً، وَمَسَاكِنُ القَوْمِ تَارَةً أُخْرَى، فَمِنَ الأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيْدًا} (الإِسْرَاء:58)، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ ضَيْفِ إِبْرَاهِيْم {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَة} (العَنْكَبُوْت:36). وَتَقُوْلُ: صَنَعْتُ هَذَا بِيَدِي، فَلَا تَكُوْنُ اليَدُ كَاليَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص:75)؛ لِأَنَّ اليَدَ فِي المِثَالِ أُضِيْفَتْ إِلَى المَخْلُوْقِ فَتَكُوْنُ مُنَاسِبَةً لَهُ، وَفِي الآيَةِ أُضِيْفَتْ إِلَى الخَالِقِ فَتَكُوْنُ لَائِقَةً بِهِ، فَلَا أَحَدَ - سَلِيْمَ الفِطْرَةِ؛ صَحِيْحَ العَقْلِ - يَعْتَقِدُ أَنَّ يَدَ الخَالِقِ كَيَدِ المَخْلُوْقِ أَوْ بِالعَكْسِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَظَاهِرُ نُصُوْصِ الصِّفَاتِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى الذّهْنِ مِنَ المَعَانِي. وَهُنَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: القِسْمُ الأوَّلُ) هُمْ مَنْ جَعَلُوا الظَّاهِرَ المُتَبَادِرَ مِنْهَا مَعْنَىً حَقًّا يَلِيْقُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَبْقَوا دِلَالَتَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ السَّلَفُ الَّذِيْنَ اجْتَمَعُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَالَّذِيْنَ لَا يَصْدُقُ لَقَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ إِلَّا عَلَيْهِم - وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ - كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (¬1) فَقَالَ: (أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُوْنَ عَلَى الإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالإِيْمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الحَقِيْقَةِ لَا عَلَى المَجَازِ؛ إِلَّا أَنَّهُم لَا يُكَيِّفُوْنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَحُدُّوْنَ فِيْهِ صِفَةً مَحْصُوْرَةً. وَأَمَّا أَهْلُ البِدَعِ وَالجَهْمِيَّةُ وَالمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالخَوَارِجُ فَكُلُّهُم يُنْكِرُها وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الحَقِيْقَةِ، وَيَزْعُمُوْنَ أَنَّ مَنْ أقرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ، وَهُم عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا نَافُوْنَ لِلمَعْبُوْدِ. وَالحَقُّ فِيْمَا قَالَهُ القَائِلُوْنَ بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُوْلِهِ، وَهُمْ أَئِمَّةُ الجَمَاعَةِ. وَالحَمْدُ للهِ). (¬2) القِسْمُ الثَّانِي) مَنْ جَعَلُوا الظَّاهِرَ المُتَبَادِرَ مِنْ نُصُوْصِ الصِّفَاتِ مَعْنَىً بَاطِلًا لَا يَلِيْقُ بِاللهِ وَهُوَ التَّشْبِيْهُ، وَأَبْقَوا دِلَالَتَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ المُشَبِّهَةُ، وَمَذْهَبُهُم بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ، وَيُخَالِفُ مَا فَهِمَهُ السَّلَفُ فيَكُوْنُ بَاطِلًا. القِسْمُ الثَّالِثُ) مَنْ جَعَلُوا المَعْنَى المُتَبَادِرَ مِنْ نُصُوْصِ الصِّفَاتِ مَعْنَىً بَاطِلًا لَا يَلِيْقُ بِالله وَهُوَ التَّشْبِيْهُ، ثُمَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْكَرُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ المَعْنَى، فَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا النُّصُوْصَ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى مَعَانٍ عَيَّنُوْهَا بِعُقُوْلِهِم، وَاضْطَرَبُوا فِي تَعْيِيْنِهَا اضْطِرَابًا كَثِيْرًا، وَسَمَّوا ذَلِكَ تَأْوِيْلًا - وَهُوَ فِي الحَقِيْقَةِ تَحْرِيْفٌ - وَمَذْهَبُهُم بَاطِلٌ مِنْ وُجُوْهٍ: أ) أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى النُّصُوْصِ حَيْثُ جَعَلُوْهَا دَالَّةً عَلَى مَعْنَىً بَاطِلٍ غَيْرِ لَائِقٍ بِاللهِ وَلَا مُرَادٍ لَهُ. ب) أَنَّهُ صَرْفٌ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ؛ لِيَعْقِلُوا الكَلَامَ وَيَفْهَمُوْهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيْهِ هَذَا اللِّسَانُ العَرَبِيُّ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَهُم بِأَفْصِحِ لِسَانِ البَشَرِ؛ فَوَجَبَ حَمْلُ كَلَامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ المَفْهُوْمِ بِذَلِكَ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ؛ غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُصَانَ عَنِ التَّكْيِيْفِ وَالتَّمْثِيْلِ فِي حَقِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. جـ) أَنَّ صَرْفَ كَلَامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنَىً يُخَالِفُهُ؛ قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ} (الأَعْرَاف:3). فَالصَّارِفُ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُوْلِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنَىً يُخَالِفُهُ قَدْ قَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَقَالَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الأَوَّلُ) أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ المُرَادُ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُوْلِهِ كَذَا - مَعَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الكَلَامِ -. الثَّانِي) أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ المُرَادَ بِهِ كَذَا - لِمَعْنَىً آخَرَ - لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الكَلَامِ. مِثَالُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيْسَ {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص:75)، فَإِذَا صَرَفَ الكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ وَقَالَ: لَمْ يُرِدْ بِاليَدَيْنِ اليَدَيْنِ الحَقِيْقِيَّتَيْنِ! وَإِنَّمَا أَرَادَ كَذَا وَكَذَا! قُلْنَا لَهُ: مَا دَلِيْلُكَ عَلَى مَا نَفَيْتَ؟ وَمَا دَلِيْلُكَ عَلَى مَا أَثْبَتَّ؟ فَإنْ أَتَى بِدَلِيْلٍ - وَأَنَّى لَهُ ذَلِكَ -، وَإِلَّا كَانَ قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ. د) أَنَّ صَرْفَ نُصُوْصِ الصِّفَاتِ عَنْ ظَاهِرِهَا مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَسَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا؛ فيَكُوْنُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الحَقَّ - بِلَا رَيْبٍ - فِيْمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَسَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. ¬

_ (¬1) التَّمْهِيْدُ (145/ 7). (¬2) قُلْتُ: وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (407/ 13): (وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُوْنُس بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا، وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوْتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ فَقَدَ كَفَرَ، وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُ بِالعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالفِكْرِ، فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيْهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}).

هـ) أَنْ يُقالَ لِلمُعَطِّلِ: هَلْ أَنْتَ أَعْلَمُ بِاللهِ مِنْ نَفْسِهِ؟ فَسَيَقُوْلُ: لَا. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ صِدْقٌ وَحَقٌّ؟ فَسَيَقُوْلُ: نَعَم. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ كَلَامًا أَفْصَحَ وَأَبْيَنَ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى؟ فَسَيَقُوْلُ: لَا. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ تَظُنُّ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُعَمِّيَ الحَقَّ عَلَى الخَلْقِ فِي هَذِهِ النُّصُوْصِ لِيَسْتَخْرِجُوْهُ بِعُقُوْلِهِم؟ فَسَيَقُوْلُ: لَا. فَيُقَالُ لَهُ: يَلْزَمُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ جَوَابِكَ أَنْ تُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ دُوْنَ تَعْطِيْلٍ مِنْكَ، فَهَذَا أَقْوَمُ لَكَ فِي دِيْنِكَ، وَأَسْلَمُ لَكَ {يَوْمَ يُنَادِيْهِمْ فَيَقُوْلُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِيْنَ} (القَصَص:65). و) أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّعْطِيْلِ - المُسَمَّى عِنْدَهُم تَأْوِيْلًا - لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ؛ أَهَمُّهَا: أَنَّ ظَاهِرَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَشْبِيْهٌ لِلخَالِقِ بِالمَخْلُوْقِ وَأَنَّ ظَاهِرَهُمَا كُفْرٌ لَا يَجُوْزُ القَوْلُ بِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَعَانِيْهَا بَلْ أَوْكَلَهَا إِلَى عُقُوْلِنَا المُتَضَارِبَةِ وَإلى فَهْمِ كُلِّ شَخْصٍ، وَفِيْهِ مِنْ سُوْءِ الظَّنِّ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَعْنَاهَا، وَفِيْهِ سُوْءُ الظَّنِّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُم إِمَّا سَكَتُوا عَنِ القَوْلِ فِيْهَا لِجَهْلِهِم بِمَعْنَاهَا؛ أَوْ عَلِمُوْهَا وَكَتَمُوا بَيَانَهَا. (¬1) ثُمَّ إِنَّ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيْلِ مَنْ طَرَدَ قَاعِدَتَهُ فِي جَمِيْعِ الصِّفَاتِ، أَوْ تَعَدَّى إِلَى الأَسْمَاءِ - أَيْضًا - وَمِنْهُم مَنْ تَنَاقَضَ فَأَثْبَتَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُوْنَ بَعْض - كَالأَشْعَرِيَّةِ وَالمَاتُرِيْدِيَّةِ - أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتُوْهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَنَفَوا مَا نَفَوْهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ يَنْفِيْهِ أَوْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. فَنَقُوْلُ لَهُم: نَفْيُكُم لِمَا نَفَيْتُمُوْهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالطَّرِيْقِ العَقْلِيِّ الَّذِيْ أَثْبَتُّمْ بِهِ مَا أَثْبَتُّمُوْهُ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالدَّلِيْلِ السَّمْعِيِّ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُم أَثْبَتُوا صِفَةَ الإِرَادَةِ، وَنَفَوا صِفَةَ الرَّحْمَةِ، فَأَثْبَتُوا صِفَةَ الإِرَادَةِ لِدِلَالَةِ السَّمْعِ وَالعَقْلِ عَلَيْهَا. أَمَّا السَّمْعُ: فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ} (البَقَرَة:235)، وَأَمَّا العَقْلُ: فَإِنَّ اخْتِلَافَ المَخْلُوْقَاتِ وَتَخْصِيْصَ بَعْضِهَا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ ذَاتٍ أَوْ وَصْفٍ دَلِيْلٌ عَلَى الإِرَادَةِ. وَنَفَوا الرَّحْمَةَ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ لِيْنَ الرَّاحِمِ وَرقَّتَهُ لِلمَرْحُوْمِ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى!! (¬2)، وَأَوَّلُوا الأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ المُثْبِتَةَ لِلرَّحْمَةِ إِلَى الفِعْلِ أَوْ إِرَادَةِ الفِعْلِ، فَفَسَّرُوا الرَّحِيْمَ بِالمُنْعِمِ أَوْ مُرِيْدِ الإِنْعَامِ! فَنَقُوْلُ لَهُم: الرَّحْمَةُ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى بِالأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَأَدِلَّةُ ثُبُوْتِهَا أَكْثَرُ عَدَدًا وَتَنَوُّعًا مِنْ أَدِلَّةِ الإِرَادَةِ، فَقَدْ وَرَدَتْ بِالاسْمِ مِثْلِ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ) (الفَاتِحَة:4)، وَالصِّفَةِ مِثْلِ: (وَرَبُّكَ الغَفُوْرُ ذُو الرَّحْمَةِ) (الكَهْف:58)، وَالفِعْلِ مِثْلِ: (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ) (العَنْكَبُوْت:21)، وَيُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالعَقْلِ أَيْضًا، فَإِنَّ النِّعَمَ الكَثِيْرَةَ عَلَى العبَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالنِّقَمَ الَّتِيْ تُدْفَعُ عَنْهُم فِي كُلِّ حِيْنٍ دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوْتِ الرَّحْمَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدِلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ أَبْيَنُ وَأَجْلَى مِنْ دِلَالَةِ الإِرَادَةِ - لِظُهُوْرِ ذَلِكَ لِلخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ - بِخِلَافِ دِلَالَةِ التَّخْصِيْصِ عَلَى الإِرَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِأَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ. وَأَمَّا نَفْيُهَا بِحُجَّةِ أَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ اللِّيْنَ وَالرِّقَةَ؛ فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ لَوْ كَانَتْ مُسْتَقِيْمَةً لَأَمْكَنَ نَفْيُ الإِرَادَةِ بِمِثْلِهَا فَيُقَالُ: الإِرَادَةُ: مَيْلُ المُرِيْدِ إِلَى مَا يَرْجُو بِهِ حُصُوْلَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الحَاجَةَ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ! فَإِنْ أُجِيْبَ: بِأَنَّ هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوْقِ؛ أَمْكَنَ الجَوَابُ بِمِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ المُسْتَلْزِمَةَ لِلنَّقْصِ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوْقِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّعْطِيْلِ سَوَاءً كَانَ تَعْطِيْلًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (426/ 3): (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش} فَلِلنَّاسِ فِي هَذَا المَقَامِ مَقَالَاتٌ كَثِيْرَةٌ جِدًّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَإِنَّمَا نَسْلُكُ فِي هَذَا المَقَام مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِح مَالِكٍ وَالأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّة المُسْلِمِيْنَ قَدِيْمًا وَحَدِيْثًا؛ وَهُوَ إِمْرَارهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْر تَكْيِيْفٍ وَلَا تَشْبِيْهٍ وَلَا تَعْطِيْلٍ. وَالظَّاهِرُ المُتَبَادِرُ إِلَى أَذْهَانِ المُشَبِّهِيْنَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْع البَصِيْرُ} بَلِ الأَمْرُ كَمَا قَالَ الأَئِمَّةُ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخُزَاعِيُّ شَيْخُ البُخَارِيِّ قَالَ: (مَنْ شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ الله بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيْمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُوْلُهُ تَشْبِيْهٌ)، فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الآيَاتُ الصَّرِيْحَةُ وَالأَخْبَارُ الصَّحِيْحَةُ عَلَى الوَجْهِ الَّذِيْ يَلِيْقُ بِجَلَالِ اللهِ وَنَفَى عَنِ اللهِ تَعَالَى النَّقَائِصَ؛ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيْل الهُدَى). (¬2) كَمَا قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ دَقِيْق العِيْد (ت 702 هـ) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وغَفَرَ لَهُ - فِي شَرْحِ البَسْمَلَةِ مِنْ مُقَدِّمَةِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ - (ص11): (وَالرَّحْمَنُ: العَامُّ الرَّحْمَةِ لِجَمِيْعِ البَرِيَّةِ، وَالرَّحِيْمُ: الخَاصُّ الرَّحْمَةِ لِلمُؤْمِنِيْنَ، وَأَصْلُ (الرَّحْمَةِ) انْعِطَافُ القَلْبِ وَالرِّقَةُ، وَهِيَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِرَادَةُ الخَيْرِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ تَرْكُ العُقُوْبَةِ لِمَنْ يَسْتَوجِبُهَا).

- شبه وجوابها

- شُبَهٌ وَجَوَابُهَا: زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ صَرَفُوا بَعْضَ النُّصُوْصِ عَنْ ظَاهِرِهَا؛ وَذَلِكَ مُلْزِمٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ بِالمُوَافَقَةِ عَلَى التَّأْوِيْلِ أَوِ المُدَاهَنَةِ فِيْهِ، وَقَالُوا: كَيْفَ تُنْكِرُوْنَ عَلَيْنَا تَأْوِيْلَ مَا أَوَّلْنَاهُ مَعَ ارْتِكَابِكُم لِمِثْلِهِ فِيْمَا أَوْلَّتُمُوْهُ؟ وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الأَوَّلُ) جَوَابٌ مُجْمَلٌ: أ) لَا نُسلِّمُ أَنَّ تَفْسِيْرَ السَّلَفِ لَهَا هُوَ صَرْفٌ لَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الكَلَامِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنَ المَعْنَى، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ السِّيَاقِ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الكَلَامُ، فَإِنَّ الأَلْفَاظَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا بِحَسْبِ تَرْكِيْبِ الكَلَامِ، وَالكَلَامُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَلْفَاظٍ وَجُمَلٍ يَظْهَرُ مَعْنَاهَا وَيَتَعَيَّنُ بِضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ. ب) أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ تَفْسِيْرَهُم صَرْفٌ لَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَإِنَّ لَهُم فِي ذَلِكَ دَلِيْلًا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ إِمَّا مُتَّصِلًا وَإِمَّا مُنْفَصِلًا، وَلَيْسَ لِمُجَرَّدِ شُبُهَاتٍ يَزْعُمُهَا الصَّارِفُ بَرَاهِيْنَ وَقَطْعِيَّاتٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى نَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي) جَوَابٌ مُفَصَّلٌ، وَلنُمَثِّلْ بِالأَمْثِلَةِ التَّالِيَةِ: 1) فَنَبْدَأُ بِمَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الغَزَالِيُّ (¬1) عَنْ بَعْضِ الحَنَابِلَةِ؛ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَتَأَوَّلْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: (الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِيْنُ اللهِ فِي الأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ)، وَ (إِنَّ قُلُوْبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ)، وَ (إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ). وَالجَوَابُ: أ) أَنَّ هَذِهِ الحِكَايَةَ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ، نَقَلَهَا عَنِ الغَزَالِيِّ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنْ مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى، وَقَالَ: (هَذِهِ الحِكَايَةُ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَدَ). (¬2) ب) حَدِيْثُ (الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِيْنُ اللهِ فِي الأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ). الحَدِيْثُ مُنْكَرٌ. (¬3) جـ) حَدِيْثُ (إِنَّ قُلُوْبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنِ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬4) وَالجَوَابُ عَنْهُ: قَدْ أَخَذَ السَّلَفُ أَهْلُ السُّنَّةِ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ وَقَالُوا: إِنَّ للهِ تَعَالَى أَصَابِعَ حَقِيْقَةً نُثْبِتُهَا لَهُ كَمَا أَثْبتَها لَهُ رَسُوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ قُلُوْبِ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعِيْنِ مِنْهَا أَنْ تَكُوْنَ مُمَاسَةً لَهَا حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الحَدِيْثَ مُوْهِمٌ لِلحُلُوْلِ؛ فَيَجِبُ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ! فَهَذَا السَّحَابُ مُسَخَّرٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ لَا يَمَسُّ السَّمَاءَ وَلَا الأَرْضَ. وَيُقَالُ: بَدْرٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةَ رُغْمَ تَبَاعُدِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا، فَقُلُوْبُ بَنِي آدَمَ كُلُّهَا بَيْنَ إِصْبَعِيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ حَقِيْقَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُمَاسَةٌ وَلَا حُلُوْلٌ. د) (إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ). (¬5) وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالنَّفَسُ هُنَا هُوَ مِنَ التَّنْفِيْسِ وَهُوَ التَّفْرِيْجُ، وَلَيْسَتْ النَّفْسُ بِمَعْنَى الذَّاتِ. قَالَ الأَزْهَرِيُّ فِي (تَهْذِيْبِ اللُّغَةِ) (¬6): (النَّفَسُ فِي هَذيْنِ الحَدِيْثَيْنِ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ الحَقِيْقِيِّ مِنْ (نَفَّسَ يُنَفِّسُ تَنْفِيْسًا وَنَفَسًا) كَمَا يُقَالُ: فَرَّجَ يُفَرِّجُ تَفْرِيْجًا وَفَرَجًا كَأَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ تَنْفِيْسَ ربِّكُم مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ، لِأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ نَصَرَهُم بِهِم وَأَيَّدَهُم بِرِجَالِهِم). ¬

_ (¬1) إِحْيَاءُ عُلُوْمِ الدِّيْنِ (103/ 1). (¬2) مَجْمُوْع الفَتَاوَى (398/ 5). (¬3) قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (409/ 3) - مُتَعَقِّبًا عَلَى السُّيُوْطِيِّ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِي الجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ الخَطِيْبِ وَابْنِ عَسَاكِرَ -: (قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: حَدِيْثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيْثٌ بَاطِلٌ؛ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ). (¬4) مُسْلِمٌ (2654) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا. (¬5) صَحِيْحٌ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (52/ 7) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ السَّكُوْنِيِّ مَرْفُوْعًا، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أَوَّلًا، ثُمَّ وَجَدَ لَهُ شَاهِدًا فَصَحَّحَهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (3367). (¬6) تَهْذِيْبُ اللُّغَةِ (9/ 13).

قوله تعالى {ثم استوى إلى السماء}

2) قَوْلُهُ تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (البَقَرَة:29) (¬1): إِنَّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَفْسِيْرِهَا قَوْلَانِ: أ) أَنَّهَا بِمَعْنَى ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِيْ رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيْرٍ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الخِلَافَ -: (وَأَوْلَى المَعَانِي بِقَوْلِ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ}: عَلَا عَلَيْهِنَّ وَارْتَفَعَ؛ فَدَبَّرَهُنَّ بِقُدْرَتِهِ وَخَلَقَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ). (¬2) وَقَالَ البَغَوِيُّ فِي تَفْسِيْرِهِ: (هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ)، وَذَلِكَ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ لَفْظِ (اسْتَوَى)، وَتَفْوِيْضًا لِعِلْمِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الارْتِفَاعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). (¬3) ب) أَنَّ الاسْتِوَاءَ هُنَا بِمَعْنَى القَصْدِ التَّامِ؛ وَإِلى هَذَا القَوْلِ ذَهَبَ ابْنُ كَثِيْرٍ فِي تَفْسِيْرِ سُوْرَةِ البَقَرَةِ، وَالبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيْرِ فُصِّلَت. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ: (أَيْ: قَصَدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَالاسْتِوَاءُ هَاهُنَا ضُمِّنَ مَعْنَى القَصْدِ وَالإِقْبَالِ؛ لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإلَى). (¬4) وَقَالَ البَغَوِيُّ: (أَيْ: عَمَدَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ). (¬5) وَهَذَا القَوْلُ لَيْسَ صَرْفًا لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِه، وَذَلِكَ لِأَنَّ الفِعْلَ (اسْتَوَى) اقْتَرَنَ بِحَرْفٍ يَدُلُّ عَلَى الغَايَةِ وَالانْتِهَاءِ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَعْنَىً يُنَاسِبُ الحَرْفَ المُقْتِرِنَ بِهِ. ¬

_ (¬1) وَالمَقْصُوْدُ مِنْ إِيْرَادِهَا الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ أَوَّلَها بِالقَصْدِ وَلَيْسَ بِالعُلُوِّ. (¬2) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (430/ 1). (¬3) تَفْسِيْرُ البَغَوِيِّ (78/ 1). (¬4) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (213/ 1). (¬5) تَفْسِيْرُ البَغَوِيِّ (165/ 7).

عدم منافاة العلو للمعية

3) أَمَّا عَدَمُ مُنَافَاةِ العُلُوِّ لِلمَعِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} (الحَدِيْد:4)، وَقَوْلِهِ {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المُجَادِلَة:4). فَالجَوَابُ: أَنَّ الكَلَامَ فِي هَاتَيْنِ الآيَتِيْنِ حَقٌّ عَلَى حَقِيْقَتِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَكِنْ مَا حَقِيْقَتُهُ وَظَاهِرُهُ؟ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيْقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ مُخْتَلِطًا بِهِم! أَوْ حَالًّا فِي أَمْكِنَتِهِم؟! أَوْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيْقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ مُحِيْطًا بِهِم عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا وَتَدْبِيْرًا وَسُلْطَانًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوْبيَّتِهِ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيْعِ خَلْقِهِ؟ لَا رَيْبَ أَنَّ القَوْلَ الأوَّلَ لَا يَقْتَضِيْهِ السِّيَاقُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ المَعِيَّةَ هُنَا أُضِيْفَتْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحِيْطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِهِ! وَلِأَنَّ المَعِيَّةَ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِيْ نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ لَا تَسْتَلْزِمُ الاخْتِلَاطَ أَوِ المُصَاحَبَةَ فِي المَكَانِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ المُصَاحَبَةِ، ثُمَّ تُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسْبِهِ. (¬1) وَتَفْسِيْرُ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ بِمَا يَقْتَضِي الحُلُوْلَ وَالاخْتِلَاطَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوْهٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ، فَمَا فَسَّرَهَا أَحَدٌ مِنْهُم بِذَلِكَ؛ بَلْ كَانُوا مُجْمِعِيْنَ عَلَى إِنْكارِهِ. وَأَيْضًا أَنَّهُ مُنَافٍ لِعُلُوِّ اللهِ تَعَالَى الثَّابِتِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالعَقْلِ وَالفِطْرةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ. فَإِذَا تَبيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا القَوْلِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُوْنَ الحَقُّ هُوَ القَوْلَ الثَّانِي؛ وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ مُحِيْطًا بِهِم - عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا وَتَدْبِيْرًا وَسُلْطَانًا وَغَيْرَ ذَلِكَ - مِمَّا تَقْتَضِيْهِ رُبُوْبِيَّتُهُ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيْعِ خَلْقِهِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الآيَتِيْنِ بِلَا رَيْبٍ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَتْوَى الحَمَوِيَّةِ: (ثُمَّ هَذِهِ المَعِيَّةُ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ المَوَارِدِ، فَلَمَّا قَالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} دَلَّ ظَاهِرُ الخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ المَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ؛ شَهِيْدٌ عَلَيْكُمْ وَمُهَيْمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الخِطَابِ وَحَقِيْقَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الآيَة، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهِ فِي الغَارِ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا} كَانَ هَذَا أَيْضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَدَلَّتْ الحَالُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ المَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةُ الِاطِّلَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ). (¬2) وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُوْنَ ذَاتُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مُخْتَلِطَةً بِالخَلْقِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيْهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ} (الحَدِيْد:4). فَيَكُوْنُ ظَاهِرُ الآيَةِ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ المَعِيَّةِ عِلْمُهُ بِعِبَادِهِ وَبَصَرُهُ بِأَعْمَالِهِم مَعَ عُلُوِّهِ عَلَيْهِم وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُخْتَلِطٌ بِهِم، وَلَا أَنَّهُ مَعَهُم فِي الأَرْضِ وَإِلَّا لَكَانَ آخِرُ الآيَةِ مُنَاقِضًا لِأَوَّلِهَا الدَّالِّ عَلَى عُلُوِّهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُم، وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُم، وَيَرَى أَفْعَالَهُم، وَيُدَبِّرُ شُؤُوْنَهُم، فَيُحِيِي وُيُمِيْتُ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُؤْتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقْتَضِيْهِ رُبُوْبيَّتُهُ وَكَمَالُ سُلْطَانِهِ، لَا يَحْجُبُهُ عَنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، ومِنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيْقَةً وَلَوْ كَانَ فَوْقَهُم عَلَى عَرْشِهِ حَقِيْقَةً. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ: لَوْ فُرِضَ امْتِنَاعُ اجْتِمَاعِ المَعِيَّةِ وَالعُلوِّ فِي حَقِّ المَخْلُوْقِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فِي حَقِّ الخَالِقِ الَّذِيْ جَمَعَ لِنَفْسِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الذَّارِيَات:11). (¬3) ¬

_ (¬1) قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ أَنَّ المَعِيَّةَ فِي اللُّغَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الحُلُوْلُ فِي المَكَانِ قَوْلُكَ: سِرْتُ مَعَ القَمَر، وَأَيْضًا لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الاخْتِلَاطُ كَقَوْلِكَ: زَوْجَتِي مَعِي. (¬2) الفَتْوَى الحَمَوِيَّةُ (ص521). (¬3) وَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ المُعَطِّلَةِ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِالآيَةِ الكَرِيْمَةِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الحَدِيْد:4) وَذَلِكَ لِأَنَّ الآيَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى المَعِيَّةِ لِلأَشْخَاصِ فَقَط؛ وَلَيْسَ لِعُمُوْمِ الأَمْكِنَةِ، فَتَنَبَّهْ، وَبِاللهِ التَّوْفِيْقُ.

قوله تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}

4) قَوْلُهُ تَعَالَى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيْدِ، إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِيْنِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيْدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدٌ} (ق:18) حَيْثُ فُسِّرَ القُرْبُ فِيْهِمَا بِقُرْبِ المَلَائِكَةِ! وَالجَوَابُ: أَنَّ تَفْسِيْرَ القُرْبِ فِيْهِمَا بِقُرْبِ المَلَائِكَةِ لَيْسَ صَرْفًا لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، فَإِنَّ القُرْبَ مُقَيَّدٌ فِيْهَا بِالمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالَ: {إِذْ يَتَلَقَّى} فَهُوَ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِهِ قُرْبُ المَلَكَيْنِ المُتَلَقِيِيْنِ. فَإِنْ قِيْلَ: لِمَاذَا أَضَافَ اللهُ القُرْبَ إِلَيْهِ، وَهَلْ جَاءَ نَحْو هَذَا التَّعْبِيْرِ مُرَادًا بِهِ المَلَائِكَةُ؟ فَالجَوَابُ: أَضَافَ اللهُ تَعَالَى قُرْبَ المَلَائِكَةِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ قُرْبَهُم تَمَّ بِأَمْرِهِ، وَهُمْ جُنُوْدُهُ وَرُسُلُهُ، وَقَدْ جَاءَ نَحْو هَذَا التَّعْبِيْرِ مُرَادًا بِهِ المَلَائِكَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القِيَامَة:18) فَإِنَّ المُرَادَ بِهِ قِرَاءَةُ جِبْرِيْلَ القُرْآنَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَضَافَ القِرَاءَةَ إِلَيْهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ جِبْرِيْلُ يَقْرَأُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى صَحَّتْ إِضَافَةُ القِرَاءَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوْطٍ} (هُوْد:74) وَإِبْرَاهِيْمُ إِنَّمَا كَانَ يُجَادِلُ المَلَائِكَةَ الَّذِيْنَ هُمْ رُسُلُ اللهِ تَعَالَى. 5) قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ سَفِيْنَةِ نُوْحٍ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القَمَر:14)، وَقَوْلُهُ لِمُوْسَى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طَه:39). وَالجَوَابُ: أَنَّ المَعْنَى فِي هَاتَيْنِ الآيَتِيْنِ عَلَى ظَاهِرِ الكَلَامِ وَحَقِيْقَتِهِ، لَكِنْ مَا ظَاهِرُ الكَلَامِ وَحَقِيْقتُهُ هُنَا؟ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيْقَتَهُ أَنَّ السَّفِيْنَةَ تَجْرِي فِي عَيْنِ اللهِ؛ أَوْ أَنَّ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَرْبَى فَوْقَ عَيْنِ اللهِ تَعَالَى؟!! أَوْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ السَّفِيْنَةَ تَجْرِي وَعَيْنُ اللهِ تَرْعَاهَا وَتَكْلَؤُهَا، وَكَذَلِكَ تَرْبِيَةُ مُوْسَى تَكُوْنُ عَلَى عَيْنِ اللهِ تَعَالَى يَرْعَاهُ وَيَكْلَؤُهُ بِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أ) أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيْهِ الكَلَامُ بِمُقْتَضَى الخِطَابِ العَرَبِيِّ، وَالقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ العَرَبِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ} (يُوْسُف:2) وَلَا أَحَدَ يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ القَائِلِ: فُلَانٌ يَسِيْرُ بِعَيْنِي أَنَّ المَعْنَى أَنَّهُ يَسِيْرُ دَاخِلَ عَيْنِهِ، وَلَا مِنْ قَوْلِ القَائِلِ: فُلَانٌ تَخَرَّجَ عَلَى عَيْنِي؛ أَنَّ تَخَرُّجَهُ كَانَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى عَيْنِهِ، وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي هَذَا الخِطَابِ لَضَحِكَ مِنْهُ السُّفَهَاءُ فَضْلًا عَنِ العُقَلَاءِ. (¬1) ب) أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ غَايَةَ الامْتِنَاعِ، وَلَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَرَفَ اللهَ وَقَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ أَنْ يَفْهَمَهُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا يَحُلُّ فِيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِهِ، وَلَا هُوَ حَالٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوْقَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا مِنَ النَّاحِيَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُوْنَ ظَاهِرُ الكَلَامِ هُوَ القَوْلُ الثَّانِي؛ أَنَّ السَّفِيْنَةَ تَجْرِي وَعَيْنُ اللهِ تَرْعَاهَا وَتَكْلَؤُهَا، وَكَذَلِكَ تَرْبِيَةُ مُوْسَى تَكُوْنُ عَلَى عَيْنِ اللهِ يَرْعَاهُ وَيَكْلَؤُهُ بِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ بِمَرْأَىً مِنِّي، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ يَكْلَؤُهُ بِعَيْنِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَاهُ. (¬2) ¬

_ (¬1) قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ: إِنَّكَ تَحْتَ عَيْنِي، وَفُلَانٌ تَخَرَّجَ مِنْ تَحْتِ يَدِي، وَفُلَانٌ يَدِي اليُمْنَى وَ ..... مِمَّا مَعْنَاهُ ظَاهِرٌ مَفْهُوْمٌ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ. (¬2) قُلْتُ: وَوَجْهُ كَوْنِ العَيْنِ هِيَ الَّتِيْ تَرْعَاهُ دُوْنَ الوَجْهِ أَوِ اليَدِ أَو .... هُوَ لِأَنَّ العَيْنَ تُفِيْدُ الاطِّلَاعَ وَالمُرَاقَبَةَ وَالإِحَاطَةَ مِمَّا يُنَاسِبُ الحِفْظَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

قوله تعالى في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به

6) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الحَدِيْثِ القُدُسِيِّ: (وَلَا يَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِيْ يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِيْ يَمْشِيْ بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ). صَحِيْح البُخَارِيِّ. (¬1) وَقَدْ أَخَذَ السَّلَفُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ وَأَقَرُّوْهُ عَلَى حَقِيْقَتِهِ، وَلَكِنْ مَا ظَاهِرُ هَذَا الحَدِيْثِ؟ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَكُوْنُ سَمْعَ الوَلِيِّ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ؟ أَوْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ بِحَيْثُ يَكُوْنُ إِدْرَاكُهُ وَعَمَلُهُ للهِ وَبِاللهِ وَفِي اللهِ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرُ الكَلَامِ؛ بَلْ وَلَا يَقْتَضِيْهِ الكَلَامُ لِمَنْ تَدَبَّرَ الحَدِيْثَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (وَلَا يَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ ...)، وَقَالَ: (وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ) فَأَثْبَتَ عَبْدًا وَمَعْبُوْدًا، وَمُتَقَرِّبًا وَمُتَقَرَّبًا إِلَيْهِ، وَمُحِبًّا وَمَحْبُوْبًا، وَسَائِلًا وَمَسْئُوْلًا، وَمُعْطِيًا وَمُعْطَىً، وَمُسْتَعِيْذًا وَمُسْتَعَاذًا بِهِ، فَسِيَاقُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ عَلَى اثْنَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ؛ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الآخَرِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ القَوْلِ الأَوَّلِ وَامْتِنَاعُهُ تَعَيَّنَ القَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الحَدِيْثِ حَيْثُ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإِثَابَةِ وَالإِعَانَةِ - وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ هَذَا الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَمَلِهِ، وَهَذَا مَا فَسَّرَهُ بِهِ السَّلَفُ، وَهُوَ تَفْسِيْرٌ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَمُوَافِقٌ لِحَقِيْقَتِهِ وَمُتَعَيِّنٌ بِسِيَاقِهِ، وَلَيْسَ فِيْهِ تَأْوِيْلٌ وَلَا صَرْفٌ لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَللهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ. (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6502)، وَفِي الحَدِيْثِ كَلَامٌ، رَاجِعِ الصَّحِيْحَةَ (1640). (¬2) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المُجَلَّى فِي شَرْحِ القَوَاعِدِ المُثْلَى) (ص284) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ القَائِلِ: اسْتَعْمِلْنِي عَلَى كَذَا؛ أَكُنْ يَدَكَ اليُمْنَى، فَمَا هُوَ ظاهِرُ هَذَا الكَلَامِ عَلَى الحَقِيْقَةِ - وَالَّذِيْ يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ العَالِمِ أَوِ العَامِيِّ؟؟ -. (¬3) وَفِي الجَوَابِ عَنِ الحَدِيْث أَقْوَالٌ أُخْرُ؛ مِنْهَا: إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا كَانَ وَلِيًّا للهِ عَزَّ وَجَلَّ حَفِظَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ وَ .... ، فَلَا يَسْتَخْدِمُهَا إِلَّا فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (344/ 11): (وَقَالَ الطُّوْفِيُّ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ - مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِم - أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ العَبْدِ وَتَأْيِيْدِهِ وَإِعَانَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الآلَاتِ الَّتِيْ يَسْتَعِيْنُ بِهَا). قُلْتُ: وَهَذَا المَعْنَى حَقٌّ، لَكِنْ لَيْسَ فِي الحَدِيْثِ مَجَازٌ حَتَّى يُذْهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَىً آخَرَ، فَالحَدِيْثُ ظَاهِرُهُ هُوَ هَذَا المَعْنَى نَفْسُهُ. أَمَّا (الطُّوْفِيُّ) هَذَا؛ فَلَعَلَّهُ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ القَوِيِّ الطُّوْفِيُّ الصَّرْصَرِيُّ؛ أَبُو الرَّبِيْعِ؛ نَجْمُ الدِّيْنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 716 هـ)، وَلَهُ شَرْحُ عَلَى الأَرْبَعِيْن. اُنْظُرْ كِتَابَ (ذَيْلُ طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ) لِلحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ (404/ 4).

- بيان أدلة العلو

- بَيَانُ أَدِلَّةِ العُلُوِّ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالعَقْلِ وَالفِطْرَةِ وَالإِجْمَاعِ: 1) أَمَّا دِلَالَةُ الكِتَابِ، فَقَدْ تَنَوَّعَتْ دِلَالتُهُ عَلَى ذَلِكَ: أ) تَارَةً بِلَفْظِ العُلُوِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيْمُ} (البَقَرَة:255)، وَالفَوْقِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأَنْعَام:18)، وَالاسْتِوَاءِ عَلَى العَرْشِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طَه:5)، وَكَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْض} (المُلْك:16). (¬1) (¬2) ب) وَتَارَةً بِلَفْظِ صُعُوْدِ الأَشْيَاءِ وَعُرُوْجِهَا وَرَفْعِهَا إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فَاطِر:10)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوْحُ إِلَيْهِ} (المَعَارِج:4)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آلِ عِمْرَان:55). ج) وَتَارَةً بِلَفْظِ نُزُوْلِ الأَشْيَاءِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوْحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّك} (النَّحْل:102)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} (السَّجْدَة:5). (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) (324/ 2): (بَابُ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (المُلْك:16) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ؛ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوْبَ الفَقِيْهُ: قَدْ تَضَعُ العَرَبُ (فِي) بِمَوْضِعِ (عَلَى)، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَسِيْحُوا فِي الأَرْضِ} (التَّوْبَة:2) وَقَالَ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوْعِ النَّخْلِ} (طَه:71) وَمَعْنَاهُ: عَلَى الأَرْضِ وَعَلَى النَّخْلِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {في السَّمَاءِ} أَيْ: عَلَى العَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ). (¬2) وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ المَقْصُوْدَ فِي الآيَةِ الأَخِيْرَةِ المَلَائِكَةَ! فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أ) قَوْلُهُ تَعَالَى (أَفَأَمِنَ الَّذِيْنَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُوْنَ) (النَّحْل:45) حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الفَاعِلُ سُبْحَانَهُ لِلخَسْفِ وَلَيْسَ المَلَائِكَةَ. ب) أَنَّهَا عَلَى فَرْضِ كَوْنِ المَقْصُوْدِ بِهَا المَلَائِكَةُ، فَنَقُوْلُ قَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ المَلَائِكَةَ عِنْدَهُ، فَيَكُوْنُ ذَلِكَ دَلِيْلًا عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِيْنَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُوْنَهُ وَلَهُ يَسْجُدُوْنَ} (الأَعْرَاف:206). (¬3) قُلْتُ: وَأَمَّا اعْتِرَاضُ بَعْضِهِم بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ إِنْزَالَ الحَدِيْدِ وَالأَنْعَامِ وَالمَطَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِثْلُ إِنْزَالِ القَرْآنِ؛ فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى العُلُوِّ! فَالجَوَابُ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الإِنْزَالَ - فِي القُرْآنِ - عَلَى ثَلَاثِةِ أَشْكَالٍ: أ) إِنْزَالٌ مُطْلَقٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا الحَدِيْدَ فِيْهِ بَأْسٌ شَدِيْدٌ} (الحَدِيْد:25) فَأَطْلَقَ الإِنْزَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَبْدأَهُ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} (الزُّمَر:6). ب) الإِنْزَالُ مِنَ السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرًا} (الفُرْقَان:48). ج) إِنْزَالٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، كَقَوْلِهِ {تَنْزِيْلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيْزِ الحَكِيْمِ} (الزُّمَر:1)، وَقَوْلِهِ {قُلْ نَزَّلَهُ رُوْحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَهُدَىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ} (النَّحْل:102)، وَقَالَ أَيْضًا: {وَالَّذِيْنَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ فَلَا تَكُوْنَنَّ مِنَ المُمْتَرِيْنَ} (الأَنْعَام:114). فَهَذَا الإِنْزَالُ مِنْ عِنْدِهِ خَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِالقُرْآنِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ مِنَ الأَنْوَاعِ، فَلَا تَصِحُّ مُعَارَضَتُهُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الأَمْثِلَةِ وَالحَمْدُ للهِ. اُنْظرْ كِتَابَ (الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةَ النَّجْدِيَّةِ) (377/ 3). (¬4) قُلْتُ: وَأَيْضًا هُنَاكَ أَوْجُهٌ أُخَرُ، مِنْهَا: أ) الإِخْبَارُ عَنِ الأُمَمِ المَاضِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لِهَامَانَ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوْسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (غَافِر:37). قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (387/ 21): (وَقَوْلُهُ {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} يَقُوْلُ: وَإِنِّي لَأَظُنُّ مُوْسَى كَاذِبًا فِيْمَا يَقُوْلُ وَيَدَّعِي مِنْ أَنَّ لَهُ فِي السَّمَاءِ؛ رَبًّا أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا). قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص287) - بَعْدَ إِيْرَادِ وَجْهِ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ -: (فَمَنْ نَفَى العُلُوَّ مِنَ الجَهْمِيَّةِ فَهُوَ فِرْعَوْنِيٌّ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ فَهُوَ مُوْسَوِيٌّ مُحَمَّدِيٌّ). ب) الإِخْبَارُ بِـ (عِنْدَ) - حَيْثُ عُلِمَ أَنَّ المَلَائِكَةَ فِي السَّمَاءِ -كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:19). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِيْنَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُوْنَهُ وَلَهُ يَسْجُدُوْنَ} (الأَعْرَاف:206). ج) تَشْبِيْهُ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَدِيْثِ البُخَارِيِّ (806)، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ (أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: (هَلْ تُمَارُوْنَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟) قَالُوا: لَا يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: (فَهَلْ تُمَارُوْنَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، ....)). فَالتَّشْبِيْهُ فِي الرُّؤْيَةِ فِيْهِ ثَلَاثَةُ جَوَانِبَ هِيَ: الوُضُوْحُ لِلرَّائِي (لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ)، العُلُوُّ لِلمَرْئِيِّ (عُلُوُّ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ)، النَّظَرُ إِلَى العُلُوِّ (النَّظَرُ إِلَى السَّمَاءِ وَالقَمَرِ).

2) أما السنة

2) أَمَّا السُّنَّةُ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِهَا؛ القَوْلِيَّةِ وَالفِعْلِيَّةِ وَالإِقْرَارِيَّةِ فِي أَحَادِيْثَ كَثِيْرْةٍ تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَعَلَى وُجُوْهٍ مُتَنَوِّعَةٍ: أ) قَوْلِيَّةٍ: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُجُوْدِهِ (سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى) (¬1)، وَقَوْلِهِ (لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ؛ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: (إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي)) (¬2)، وَقَوْلِهِ (أَلَا تَأْمَنُوْنِي وَأَنَا أَمِيْنُ مَنْ فِي السَّمَاءِ). (¬3) ب) فِعْلِيَّةٍ: أَنَّهُ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَة حِيْنَ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ). (¬4) ج) إِقْرَارِيَّةٍ: أَنَّهُ قَالَ لِلجَارِيَةِ: (أَيْنَ اللهُ؟) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَأَقَرَّهَا وَقَالَ لِسَيِّدِهَا: (اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ). (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (772) عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7404)، وَمُسْلِمٌ (2751) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4351)، وَمُسْلِمٌ (1064) عَنْ أَبِي سَعِيْد الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا. (¬4) مُسْلِمٌ (1218) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. (¬5) مُسْلِمٌ (571) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ مَرْفُوْعًا. (¬6) وَهُوَ سُؤَالُ امْتِحَانٍ لِلإِيْمَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الرِّسَالَةُ) (ص75): (فَلَوْ آمَنَ عَبْدٌ بِهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بَرَسُوْلِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ كَمَالِ الإِيْمَانِ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِرَسُوْلِهِ مَعَهُ. وَهَكَذَا سَنَّ رَسُوْلُهُ فِي كُلِّ مَنْ امْتَحَنَهُ لِلإِيْمَانِ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الحَكَمِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ بِجَارِيَةٍ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ: عَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُها؟ فَقَالَ لَهَا رَسُوْلُ اللهِ: (أَيْنَ اللهُ؟) فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ: (وَمَنْ أَنَا؟) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُوْلُ اللهِ. قَالَ: (فَأَعْتِقْهَا)).

3) أما العقل

3) أَمَّا العَقْلُ: فَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوْبِ صِفَةِ الكَمَالِ للهِ تَعَالَى وَتَنْزِيْهِهِ عَنِ النَّقْصِ، وَالعُلُوُّ صِفَةُ كَمَالٍ، وَالسُّفْلُ نَقْصٌ، فَوَجَبَتْ للهِ تَعَالَى صِفَةُ العُلُوِّ وَتَنْزِيْهُهُ عَنْ ضِدِّهَا. (¬1) 4) أَمَّا الفِطْرَةُ: فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى دِلَالَةً ضَرُوْرِيَّةً فِطْرِيَّةً؛ فَمَا مِنْ دَاعٍ أَوْ خَائِفٍ فَزِعَ إِلَى ربِّه تَعَالَى إِلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ ضَرُوْرَةَ الاتِّجَاهِ نَحْوَ العُلُوِّ لَا يَلْتَفِتُ عَنْ ذَلِكَ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَاسْأَلِ المُصَلِّيْنَ؛ يَقُوْلُ الوَاحِدُ مِنْهُم فِي سُجُوْدِهِ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى) فَاُنْظُرْ أَيْنَ تَتَّجِهُ قُلُوْبُهُم حِيْنَذَاكَ؟ (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلِ السُّفْلَ وَالأَسْفَلَ فِي النُّصُوْصِ القُرْآنيِّةِ لِتَرَى بُرْهَانَ ذَلِكَ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ) (474/ 18) - عِنْدَ تَرْجَمَةِ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ أَبِي المَعَالِي الجُوَيْنِيِّ-: (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: حَضَرَ المُحَدِّثُ أَبُو جَعْفَرٍ الهَمَذَانِيُّ فِي مَجْلِسَ وَعْظِ أَبِي المَعَالِي، فَقَالَ: كَانَ اللهُ وَلَا عَرْشَ، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: أَخْبِرْنَا يَا أَسْتَاذُ عَنْ هَذِهِ الضَّرُوْرَةِ الَّتِيْ نَجِدُهَا، مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ: يَا اللهُ! إِلَّا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُوْرَةً تَطْلُبُ العُلُوَّ! وَلَا يَلتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً! فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُوْرَةَ عَنْ أَنْفُسنَا؟ - أَوْ قَالَ: فَهَلْ عِنْدَكَ دَوَاءٌ لِدَفْعِ هَذِهِ الضَّرُوْرَةِ الَّتِيْ نَجدُهَا؟ - فَقَالَ: يَا حَبِيْبِي! مَا ثَمَّ إِلَّا الحَيْرَةَ، وَلَطَمَ عَلَى رَأْسِهِ، وَنَزَلَ، وَبَقِيَ وَقْتًا عَجِيْب، وَقَالَ فِيْمَا بَعْد: حَيَّرَنِي الهَمَذَانِيُّ). قُلْتُ: وَأمَّا مَا نقَلَهُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (24/ 5) - عَنْ بَعْضِهِم عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ الجَارِيَةِ - قَوْلَهُ: (لِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةَ الدَّاعِيْنَ، كَمَا أَنَّ الكَعْبَة قِبْلَةُ المُصَلِّيْنَ) مُرِيْدًا بِذَلِكَ مُعَارَضَةَ الجَوَابِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَهُوَ كَلَامٌ هَزِيْلٌ مَرْدُوْدٌ، وَهُزَالَهُ يَأْتِي مِنْ إِخْرَاجِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ظَاهِرِهِ مَعَ أَنَّ المَقَامَ خَطِيْرٌ جَلِيْلٌ فِيْهِ إِخْبَارٌ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى - فِيْمَا ظَاهِرُهُ كُفْرٌ عِنْدَهُم!! - وَلَوْ تَسَامَحْنَا بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيْلَاتَ فِي العَقِيْدَةِ! فَمَاذَا يَسْلَمُ لَنَا مِنْ دِيْنِنَا؟ وَاللهُ المُوَفِّقُ وَهُوَ الهَادِي لِلصَّوَابِ. (¬3) وَفِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (126/ 9)؛ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوْحُ إِلَيْهِ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَخِيْهِ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِيْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيْهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {العَمَلُ الصَّالِحُ} يَرْفَعُ الكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ: {ذِي المَعَارِجِ} المَلَائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللهِ). قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (443/ 1): (وَمَقْصُوْدُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ عُلُوَّ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ أَمْرٌ مَفْطُوْرٌ عَلَيْهِ الخَلْقُ، وَمَعْلُوْمٌ بِالعَقْلِ، وَالوَحْيُ جَاءَ مُؤَيِّدًا لِذَلِكَ، وَمُوَضِّحًا لَهُ). قُلْتُ: وَكَانَ مِنْ أَيْمَانِ العَرَبِ قَوْلُهُم: (لَا وَالَّذِيْ يَرَانِي مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ). أَفَادَهُ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) (463/ 1)، وَعَزَاهُ هُنَاكَ إِلَى كِتَابِ (أَيْمَانُ العَرَبِ) (ص15) لِلنُّجِيْرَمِيِّ.

5) أما الإجماع

5) أَمَّا الإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُوْنَ وَالأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَكَلَامُهُم مَشْهُوْرٌ فِي ذَلِكَ نَصًّا وَظَاهِرًا، قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: (كُنَّا وَالتَّابِعُوْنَ مُتَوَافِرُوْنُ نَقُوْلُ: إِنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ). (¬1) (¬2) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (406/ 13): (أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ). (¬2) قُلْتُ: وَلَوْ رُحْتَ تَسْأَلُ اليَوْمَ بَعْضَ الأَشَاعِرَةِ وَأَمْثَالَهُم: أَيْنَ اللهُ؟ فَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ عِنْدَهُم جَوَابًا، وَبَعْضُهُم يُنْكِرُ هَذَا السُّؤَالَ أَصْلًا، وَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُوْدٌ وَيَكْفِيْنَا، وَبَعْضُهُم - وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَمْثَلِهِم طَرِيْقَةً - يَقُوْلُ: (اللهُ لَا فَوْق وَلَا تَحْت، وَلَا يَمِيْن وَلَا يَسَار، وَلَا أَمَام وَلَا خَلَف، وَلَا دَاخِلَ العَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ) كَذَا فِي حَاشِيَةِ البَيْجُوْرِيّ عَلَى (الجَوْهَرَةِ) صَفْحَة (58). أَفَادَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عِنْهُ فِي مُقَدِّمَتِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ العُلُوِّ (ص54).

- حكم منكر الصفات

- حُكْمُ مُنْكِرِ الصِّفَاتِ: يَجِبُ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَى المُسْلِمِ بِكُفْرٍ أَوْ فِسْقٍ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرَيْنِ: 1) دِلَالَةُ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا القَوْلَ أَوِ الفِعْلَ مُوْجِبٌ لِلكُفْرِ أَوِ الفِسْقِ. 2) انْطِبَاقُ هَذَا الحُكْمِ عَلَى القَائِلِ المُعَيَّنِ أَوِ الفَاعِلِ المُعَيَّنِ بِحَيْثُ تَتِمُ شُرُوْطُ التَّكْفِيْرِ أَوِ التَّفْسِيْقِ فِي حَقِّهِ وَتَنْتَفِي المَوَانِعُ. وَمِنْ أَهَمِّ الشُّرُوْطِ أَنْ يَكُوْنَ عَالِمًا بِمُخَالَفَتِهِ الَّتِيْ أَوْجَبَتْ أَنْ يَكُوْنَ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيْرًا} (النِّسَاء:115)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُوْنَ} (التَّوْبَة:115). وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ العِلْمِ: لَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الفَرَائِضِ إِذَا كَانَ حَدِيْثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ. وَمِنَ المَوَانِعِ أَنْ يَقَعَ مَا يُوْجِبُ الكُفْرَ أَوِ الفِسْقَ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ: مِنْهَا: أَنْ يُكْرَهَ عَلَى ذَلِكَ فَيَفْعَلَهُ لِدَاعِي الإِكْرَاهِ لَا اطْمِئْنَانًا بِهِ، فَلَا يَكْفُرُ حِيْنَئِذٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيْمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ} (النَّحْل:106). وَمِنْهَا: أَنْ يُغْلَقَ عَلَيْهِ فِكْرُهُ؛ فَلَا يَدْرِي مَا يَقُوْلُ لِشِدَّةِ فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَالحَدِيْثِ الَّذِيْ فِيْهِ قَوْلُ الرَّجُلِ (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (¬2): (هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا - وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي - أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيْرٍ وَتَفْسِيْقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إِلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ الرِّسَالِيَّةُ الَّتِيْ مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى، وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ خَطَأَهَا، وَذَلِكَ يَعُمُّ الخَطَأَ فِي المَسَائِلِ الخَبَرِيَّةِ القَوْلِيَّةِ (¬3) وَالمَسَائِلِ العَمَلِيَّةِ. وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيْرٍ مِنْ هَذِهِ المَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُنْت أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّمَا نُقِلَ لَهُمْ عَنِ السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ القَوْلِ بِتَكْفِيْرِ مَنْ يَقُوْلُ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ؛ لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِيْنِ. وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَتْ فِيْهَا الأُمَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الأُصُوْلِ الكِبَارِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الوَعِيْدِ، فَإِنَّ نُصُوْصَ القُرْآنِ فِي الوَعِيْدِ مُطْلَقَةٌ كَقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِيْنَ يَأْكُلُوْنَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا} الآيَةَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ: (مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا). فَإِنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ مَنْ قَالَ كَذَا: فَهُوَ كَذَا. ثُمَّ الشَّخْصُ المُعَيَّنُ يَلْتَغِي حُكْمُ الوَعِيْدِ فِيْهِ بِتَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُوْلَةٍ، وَالتَّكْفِيْرُ هُوَ مِنَ الوَعِيْدِ، فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ القَوْلُ تَكْذِيْبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُوْلُ - لَكِنْ قَدْ يَكُوْنُ الرَّجُلُ حَدِيْثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيْدَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُوْمَ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، وَقَدْ يَكُوْنُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوْصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيْلَهَا - وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا - وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الحَدِيْثَ الَّذِيْ فِي الصَّحِيْحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِيْ قَالَ: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُوْنِي ثُمَّ اسْحَقُوْنِي، ثُمَّ ذَرُّوْنِي فِي اليَمِّ؛ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِيْنَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ اللهُ لَهُ: (مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْتَ؟)، قَالَ: خَشْيَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ). فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِيْنَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ. وَالمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ؛ الحَرِيْصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُوْلِ أَوْلَى بِالمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا). وَبِهَذَا عُلِمَ الفَرْقُ بَيْنَ القَوْلِ وَالقَائِلِ، وَبَيْنَ الفِعْلِ وَالفَاعِلِ، فَلَيْسَ كُلُّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ - يَكُوْن فِسْقًا أَوْ كُفْرًا - يُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ أَوْ فَاعِلِهِ بِذَلِكَ. لَكِن مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ الإِسْلَامِ أُعْطِيَ أَحْكَامَ الكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، ومَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ فَأَصَرَّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ - تَبَعًا لِاعْتِقَادٍ كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَوْ مَتْبُوْعٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ دُنْيَا كَانَ يُؤْثِرُهَا - فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا تَقْتَضِيْهِ تِلْكَ المُخَالَفَةُ مِنْ كُفْرٍ أَوْ فُسُوْقٍ. (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ - حِيْنَ يَتُوْبُ إِلَيْهِ - مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ - وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا - قَائِمَةً عِنْدَهُ - فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ). صَحِيْحُ مُسْلِمٍ (2747). (¬2) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (229/ 3). (¬3) أَي الاعْتِقَادِيَّة. (¬4) قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ) (374/ 14): (قَالَ أَبُو الوَلِيْدِ؛ حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَقِيْهُ: سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ يَقُوْلُ: (القُرْآنُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَخْلُوْقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ؛ يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ، وَلَا يُدفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِيْنَ). وَلابْنِ خُزَيْمَةَ عَظَمَةٌ فِي النُّفُوْسِ، وَجَلَالَةٌ فِي القُلُوْبِ - لِعِلْمِهِ وَدِيْنِهِ وَاتِّبَاعِهِ السُّنَّةَ - وَكِتَابُهُ فِي (التَّوْحِيْدِ) مُجَلَّدٌ كَبِيْرٌ، وَقَدْ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ حَدِيْثَ الصُّورَةِ، فَلْيَعْذُرْ مَنْ تَأَوَّلَ بَعْضَ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا السَّلَفُ فَمَا خَاضُوا فِي التَّأْوِيْلِ، بَلْ آمَنُوا وَكَفُّوا، وَفَوَّضُوا عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَلَوْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ - مَعَ صِحَّةِ إِيْمَانِهِ وَتَوَخِّيْهِ لِاتِّبَاعِ الحَقِّ - أَهْدَرْنَاهُ وَبَدَّعنَاهُ! لَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنَ الأَئِمَّةِ مَعَنَا، رَحِمَ اللهُ الجَمِيْعَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ). قُلْتُ: وَمَقْصُوْدُهُ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ نَفْسَهُ هُوَ أَيْضًا تَأَوَّلَ بَعْضَ الصِّفَاتِ؛ لِذَلِكَ فَلْيَعْذُرْ غَيْرَهُ أَيْضًا. (¬5) وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ انْظُرْ مَسْأَلَةَ (شُرُوْطِ التَّكْفِيْرِ) فِي شَرْحِ بَابِ (مَنْ أَطَاعَ العُلَمَاءَ وَالأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيْمِ مَا أَحَلَّ اللهُ أَوْ تَحْلِيْلِ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ فَقَدْ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُوْنِ اللهِ).

باب قول الله تعالى {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} (النحل:107).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَعْرِفُوْنَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُوْنَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُوْنَ} (النَّحْل:107). قَالَ مُجَاهِدٌ مَا مَعْنَاهُ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ هَذَا مَالِي؛ وَرِثْتُهُ عَنْ آبَائِي. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: يَقُوْلُوْنَ: لَوْلَا فُلَانٌ لَمْ يَكُنْ كَذَا. (¬1) وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَقُوْلُوْنَ: هَذَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا. (¬2) وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ - بَعْدَ حَدِيْثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الَّذِيْ فِيْهِ (وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ)) - الحَدِيْثَ: (وَقَدْ تَقَدَّمَ؛ وَهَذَا كَثِيْرٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ يَذُمُّ سُبْحَانَهُ مَنْ يُضِيْفُ إِنْعَامَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيُشْرِكُ بِهِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ كَقَوْلِهِمْ: كَانَتِ الرِّيْحُ طَيِّبَةً، وَالمَلَّاحُ حَاذِقًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةٍ كَثِيْرَةٍ). (¬3) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ مَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ وَإِنْكَارِهَا. الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ أَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةٍ كَثِيْرَةٍ. الثَّالِثَةُ: تَسْمِيَةُ هَذَا الكَلَامِ إِنْكَارًا لِلنِّعْمَةِ. الرَّابِعَةُ: اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي القَلْبِ. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (273/ 17) بِنَحْوِهِ. (¬2) رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (273/ 17) بِنَحْوِهِ. (¬3) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (33/ 8).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ بَابِ (مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ) لِأَنَّه مِنْ جِنْسِهِ، فَفِيْهِ تَنَقُّصٌ لِلرُّبُوْبِيَّةِ، فَالَّذِيْ يَجْحَدُ الأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ قَدْ تَنَقَّصَ الرُّبُوْبِيَّةَ، وَكَذَلِكَ الَّذِيْ يُضُيْفُ النِّعَمَ إِلَى غَيْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَدْ تَنَقَّصَ الرُّبُوْبِيَّةَ. - هَذِهِ الآيَةُ هِيَ مِنْ سُوْرَةِ النَّحْلِ الَّتِيْ تُسَمَّى سُوْرَةَ النِّعَمِ، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَّدَ فِيْهَا كَثِيْرًا مِنْ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقَالَ فِيْهَا: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوْهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} (النَّحْل:18). - قَوْلُهُ تَعَالَى {يَعْرِفُوْنَ}: أَيْ: يُدْرِكُوْنَ بِحَوَاسِّهِم أَنَّ النِّعْمَةَ مِنْ عِنْدِ اللهِ. - قَوْلُهُ {نِعْمَتَ اللهِ}: مُفْرَدَةٌ مُضَافَة؛ وَالمُرَادُ بِهَا الجَمْعُ، وَالقَاعِدَةُ اللُّغَوِيَّةُ: أَنَّ المُفْرَدَ المُضَافَ يَعُمُّ. - قَوْلُهُ {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}: أَيْ: يُنْكِروْنَ إِضَافَتَهَا إِلَى اللهِ لِكَوْنِهِم يُضِيْفُوْنَهَا إِلَى السَّبَبِ غَافِلِيْنَ عَنِ المُسَبِّبِ الَّذِيْ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ، وَلَيْسَ المَعْنَى أنَّهُم يُنْكِرُوْنَ هَذِهِ النِّعْمَةَ؛ مِثَلَ أَنْ يَقُوْلُوا: مَا جَاءَنَا مَطَرٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ صِحَّةٌ، وَلَكِنْ يُنْكِرُوْنَهَا بِإضَافَتِهَا إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، غَافِلِيْنَ عَنِ الَّذِيْ خَلَقَ السَّبَبَ فَوُجِدَتْ بِهِ النِّعْمَةُ. (¬1) - فِي هَذِهِ الآيَةِ بَيَانُ أَنَّ إِضَافَةَ النِّعَمِ إِلَى غَيْرِ اللهِ نَقْصٌ فِي كَمَالِ التَّوْحِيْدِ وَنَوْعُ شِرْكٍ بِاللهِ جَلَّ وَعَلَا. وَالآيَةُ الكَرِيْمَةُ - وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّ المَقْصُوْدَ بِالنِّعْمَةِ فِيْهَا هُوَ بَعْثَةُ الرَّسُوْلِ الكَرِيْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2) - فَعُمُوْمُهَا صَحِيْحٌ، وَيَصِحُّ القَوْلُ بِأَنَّ إِنْكَارَ النِّعَمِ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ المُشْرِكِيْنَ، وَقَدْ سُمِّيَ كُفْرًا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بالأَنْوَاءِ)، والقَاعِدَةُ المَشْهُوْرَةُ فِي التَّفْسِيْرِ تَقُوْلُ: (العِبْرَةُ بِعُمُوْمِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوْصِ السَّبَبِ). - مَنْ أَضَافَ نِعْمَةَ الخَالِقِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ جَعَلَ مَعَهُ شَرِيْكًا فِي الرُّبُوْبِيَّةِ وَالأُلُوْهِيَّةِ: 1) فَإِضَافَتُهَا إِلَى السَّبَبِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ؛ هَذَا إِخْلَالٌ بِتَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ. 2) تَرْكُ القِيَامِ بِالشُّكْرِ - الَّذِيْ هُوَ العِبَادَةُ - هُوَ إِخْلَالٌ بِتَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ. ¬

_ (¬1) وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَجْعَلُوْنَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُوْنَ} فِي نِسْبَةِ المَطَرِ إِلَى الأَنْوَاءِ. (¬2) قَالَ الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (273/ 17): (وَأَوْلَى الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهُهَا بِتَأْوِيْلِ الآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بالنِّعْمَةِ الَّتِيْ ذَكَرَهَا اللهُ فِي قَوْلِهِ {يَعْرِفُوْنَ نِعْمَةَ اللهِ} النِّعْمَةَ عَلَيْهِم بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ إِلَيْهِم دَاعِيًا إِلَى مَا بَعَثَهُ بِدُعَائِهِم إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ بَينَ آيَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا خَبَرٌ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَّا بُعِثَ بِهِ).

- (عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ): هُوَ ابْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُوْدٍ الهُذَلِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ الكُوْفيُّ؛ الزَّاهِدُ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ مَاتَ قَبْلَ (120هـ). - (ابْنُ قُتَيْبَةَ): هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّيْنَوَرِيُّ - قَاضِي دِيْنَورَ - النَّحَوِيُّ؛ اللُّغَوِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ البَدِيْعَةِ المَشْهُوْرَةِ، (ت 276هـ). - قَوْلُهُ (هَذَا مَالي وَرِثْتُهُ عَنْ آبَائِي)، وقَوْلُهُ (يَقُوْلُوْنَ لَوْلَا فُلَانٌ لَمْ يَكُنْ كَذَا): ظَاهِرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيْهَا، وَلِكْن لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ فِي مَعْرِضِ الكَلَامِ عَنِ المُنْعِمِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ المَحْذُوْرِ، أَمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ السَّبَبِ - دُوْنَ الغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى - لَكَانَ جَائِزًا، لِأَنَّه خَبَرٌ مَحْضٌ. وَدَلَّتْ لِذَلِكَ بَعْضُ نُصُوْصِ السُّنَّةِ الشَّرِيْفَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ (وَلَولَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (¬1)، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ إِضَافَةِ النِّعْمَةِ إِلَى الإِنْسَانِ عَلَى سَبِيْلِ الخَبَرِ، وَبَينَ إِضَافَتِهِ إِلَى سَبَبِهِ مُتَنَاسِيًا المُسَبِّبَ وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. - وَأَمَّا قَوْلُهُم (هَذَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا) فَفِيْهِ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ؛ مُضَافٌ إِلِيْهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ. - أَقْوَالُ المُفَسِّرِيْنَ السَّابِقَةُ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ بَعْضِهَا مِنْ جِهَةِ التَّنَوِّعِ - وَلَيْسَتْ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ - لِأَنَّ الآيَةَ تَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المُفَسِّريْنَ يَأْخُذُ مَعْنَىً مِنْ هَذِهِ المَعَانِي، فَإِذَا جَمَعْتَهَا وَجَدْتَّ أَنَّ الآيَةَ تَتَضَمَّنُ هَذِهِ المَعَانِي الَّتِيْ قَالُوْهَا جَمِيْعًا. - المَلَّاحُ: هُوَ قَائِدُ السَّفِيْنَةِ، وَسُمِّيَ مَلاَّحًا لِمُلَازَمَتِهِ لِلمَاءِ المِلْحِ، لِأَنَّ مَاءَ البَحْرِ مَالِحٌ. وَأمَّا الحَاذِقُ: فَهُوَ الَّذِيْ يُجِيْدُ المِهْنَةَ. ¬

_ (¬1) البُخَاريُّ (3883) عَنِ العَبَّاسِ مَرْفُوْعًا.

- أَرْكَاُنُ الشُّكْرِ: 1) الاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ. 2) نِسْبَتُهَا إِلَى المُنْعِمِ، وَذَلِكَ بِالتَّحَدُّثِ بِهَا ظَاهِرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضُّحَى:11). 3) صَرْفُهَا فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى. (¬1) - إنَّ نِسْبَةَ النِّعْمَةِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى- لَفْظًا - لَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: 1) أَنْ يَكُوْنَ السَّبَبُ خَفِيًّا لَا تَأْثِيْرَ لَهُ إِطْلَاقًا؛ كَأنْ يَقُوْلَ: لَوْلَا الوَلِيُّ الفُلَانيُّ - المَيِّتُ أَوِ الغَائِبُ - مَا حَصَلَ كَذَا وَكَذَا! فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرٌ؛ لِأَنَّه بِهَذَا القَوْلِ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِهَذَا الوَلِيِّ تَصَرُّفًا فِي الكَوْنِ مَعَ أَنَّهُ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ، فَهُوَ تَصَرُّفٌ خَفِيٌّ. 2) أَنْ يُضِيْفَهُ إِلَى سَبَبٍ صَحِيْحٍ ثَابِتٍ شَرْعًا أَوْ حِسًّا؛ فَهَذَا جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّ السَّبَبَ مُؤَثِرٌ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ لَا يَتَنَاسَى المُنْعِمَ بِذلِكَ. 3) أَنْ يُضِيْفَهُ إِلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ؛ لَكِن لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ سَبَبًا لَا شَرْعًا وَلَا حِسًّا؛ فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ. (¬2) - فِي بَيَانِ قُبْحِ وبُطْلَانِ مَنْ أَضَافَ النِّعْمَةَ إِلَى السَّبَبِ دُوْنَ الخَالِقِ: 1) أَنَّ الخَالِقَ لِهَذهِ الأَسْبَابِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، فَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يُشْكَرَ وتُضَافَ النِّعْمَةُ إِلَيْهِ. 2) أَنَّ السَّبَبَ قَدْ لَا يُؤَثِّرُ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنَّ السَّنَةَ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلَا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا). (¬3) 3) أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُوْنُ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيْرِهِ. (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ) (234/ 2): (وَأَصْلُ الشُّكْرِ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ: ظُهُوْرُ أَثَرِ الغِذَاءِ فِي أَبْدَانِ الحَيَوَانِ ظُهُوْرًا بَيِّنًا. يُقَالُ: شَكِرَتِ الدَّابَّةُ؛ تَشْكَرُ شَكَرًا - عَلَى وَزْنِ سَمِنَتْ تَسْمَنُ سِمَنًا - إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا أَثَرُ العَلَفِ، وَدَابَّةٌ شَكُوْرٌ: إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تَأْكُلُ وَتُعْطَى مِنَ العَلَفِ. وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (حَتَّى إِنَّ الدَّوَابَّ لَتَشْكَرُ مِنْ لُحُومِهِمْ) أَيْ لَتَسَمَنُ مِنْ كَثْرَةِ مَا تَأْكُلُ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ حَقِيْقَتُهُ فِي العُبُودِيَّةِ: وَهُوَ ظُهُوْرُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا، وَعَلَى قَلْبِهِ شُهُوْدًا وَمَحَبَّةً، وَعَلَى جَوَارِحِهِ انْقِيَادًا وَطَاعَةً. وَالشُّكْرُ مَبْنِيٌ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ: خُضُوْعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ، وَحُبُّهُ لَهُ، وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهَا، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (3153)، وَلَمْ أَجِدْ لَفْظَهُ فِي مُسْلِمٍ - إِلَّا أنْ يَكُوْنَ المَقْصُوْدُ أَصْلَهُ -، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (8501) وَقَالَ: (هَذَا حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ). وَالحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ هُوَ فِي حَقِّ يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ عِنْدَ مَوْتِهِم؛ حَيْثُ تَأْكُلُ دَوَابُّ الأَرْضِ مِنْ جُثَثِهِم. (¬2) وَذَلِكَ مِثْلُ التَّمَائِمِ وَالقَلَائِدِ الَّتِيْ يُقَالُ أَنَّهَا تَمْنَعُ العَيْنَ ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَكَانَ مُشَابِهًا لِلمُشْرِكِيْنَ فِي صَنِيْعِهِم وَتَعَلُّقِهِم بِهَا. وَمِثْلُهُ أَيْضًا زَعْمُ نُزُوْلِ المَطَرِ بِسَبَبِ حَرَكَاتِ النُّجُوْمِ وأَمْثَالِهَا، حَيْثُ جَاءَ فِيْهِ (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادي مُؤْمِنٌ بي وَكَافِرٌ). وَقَدْ سَبَقَ فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ). (¬3) مُسْلِمٌ (2904) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬4) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ السَّدِيْدُ) (ص42) - وَقَدْ سَبَقَ -: أَحْكَامُ الأَسْبَابِ؛ ثَلَاثَةُ أُمُوْرٍ: 1) أَنْ لَا يَجْعَلَ مِنْهَا سَبَبًا إِلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّه سَبَبٌ شَرْعًا أَوْ قَدَرًا. 2) أَنْ لَا يَعْتَمِدَ العَبْدُ عَلَيْهَا، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى مُسَبِّبِهَا وَمُقَدِّرِهَا، مَعَ قِيَامِهِ بِالمَشْرُوْعِ مِنْهَا، وَحِرْصِهِ عَلَى النَّافِعِ مِنْهَا. 3) أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الأَسْبَابَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِيْهَا كَيْفَ يَشَاءُ؛ إِنْ شَاءَ أَبْقَى سَبَبِيَّتَها جَارِيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيَّرَهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ عَظِيْمَةٌ لِلعِبَادِ فِي أَنْ لَا يَعْتَمِدوا عَلَيْهَا، وَلِيَعْلَمُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ.

باب قوله تعالى {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (البقرة:22).

بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:22). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الآيَةِ: (الأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ؛ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَنْ تَقُوْلَ: وَاللَّهِ؛ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ! وَحَيَاتِي! وَتَقُوْلَ: لَوْلَا كُلَيْبَةُ هَذَا; لَأَتَانَا اللُّصُوْصُ! وَلَوْلَا البَطُّ فِي الدَّارِ؛ لَأَتَى اللُّصُوْصُ! وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ! وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلَا اللهُ وَفُلَانٌ! لَا تَجْعَلْ فِيْهَا فُلَانًا، هَذَا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. (¬1) وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ. (¬2) وَقَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: (لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا). (¬3) وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَقُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ؛ وَلَكِنْ قُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ. (¬4) وَجَاءَ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيِّ؛ أَنَّهُ يَكْرَهُ: أَعُوْذُ بِاللَّهِ وَبِكَ، وَيَجُوْزُ أَنْ يَقُوْلَ: بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، قَالَ: وَيَقُوْلُ: لَوْلَا اللهُ ثُمَّ فُلَانٌ، وَلَا تَقُوْلُوا: لَوْلَا اللهُ وَفُلَانٌ. (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ آيَةِ البَقَرَةِ فِي الأَنْدَادِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يُفَسِّرُوْنَ الآيَةَ النَّازِلَةَ فِي الشِّرْكِ الأَكْبَرِ؛ أَنَّهَا تَعُمُّ الأَصْغَرَ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ الحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ صَادِقًا فَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ اليَمِيْنِ الغَمُوْسِ. الخَامِسَةُ: الفَرَقُ بَيْنَ الوَاوِ وَ (ثُمَّ) فِي اللَّفْظِ. ¬

الشرح

الشَّرْحُ - الآيَةُ الَّتِيْ فِي التَّرْجَمَةِ يُقْصَدُ بِهَا الشِّرْكُ الأَكْبَرُ بِأَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا فِي العِبَادَةِ وَالحُبِّ وَالخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ العِبَادَاتِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهَا المُصَنِّفُ هُنَا الشِّرْكَ الأَصْغَرَ؛ كَالشِّرْكِ فِي الأَلفَاظِ وَالحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وَكَالتَّشْرِيْكِ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي الأَلْفَاظِ كَـ: (لَوْلَا اللهُ وَفُلَانٌ؛ وَهَذَا بِاللهِ وَبِكَ)، وَكَإِضَافَةِ النِّعَمِ وَوُقُوْعِهَا لِغَيْرِ اللهِ كَـ: (لَوْلَا الحَارِسُ لِأَتَانَا اللُّصُوْصُ، وَلَوْلَا الدَّوَاءُ الفُلَانِيُّ لَهَلَكْتُ، ولَولَا حِذْقُ فُلَانٍ فِي المَكْسَبِ الفُلَانِيِّ لَمَا حَصَلَ كَذَا)، فَكُلُّ هَذَا يُنَافِي التَّوْحِيْدَ الوَاجِبَ. وَالوَاجِبُ أَنْ تُضَافَ الأُمُوْرُ وَوُقُوْعُهَا وَنَفْعُ الأَسْبَابِ إِلَى إِرَادَةِ اللهِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَذْكُرَ معَ ذَلكَ مَرْتَبَةَ السَّبَبِ وَنَفْعَهُ، فَيَقُوْلُ: (لَوْلَا اللهُ ثُمَّ كَذَا)؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ الأَسْبَابَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا يَتِمُّ تَوْحِيْدُ العَبْدِ حَتَّى لَا يَجْعَلَ للهِ نِدًّا فِي قَلبِهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}: الفَاءُ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ هِيَ فَاءُ التَّعْلِيْلِ، وَمَعْنَى الكَلَامِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ كُلَّ مَا سَبَقَ عَن اللهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ (¬1)؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوْزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ نِدًّا سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وَالنِّدُّ هُوَ المَثِيْلُ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}: يَشْمَلُ العِبَادَةَ وَأَيْضًا الأَسْمَاءَ والصِّفَاتِ. - قَوْلُهُ (أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ): الخَفَاءُ هُوَ لِأَثَرِ الدَّبِيْبِ عَلَى الصَّفَاةِ - وَهُوَ الحَجَرُ الأَمْلَسُ -، وَزَادَ الأَمْرَ خَفَاءً ظُلْمَةُ اللَّيْلِ. وَقَدْ سَبَقَ حَدِيْثُ (أَلَا أخْبِرُكمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ المَسِيْحِ الدَّجَّالِ؛ الشِّرْكُ الخَفِيُّ، أَنْ يَقُوْمَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ؛ فَيُزَيِّنَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ). (¬2) - الحَلِفُ: هُوَ تَأْكِيْدُ الكَلَامِ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوْصٍ، وَيَكُوْنُ غَالِبًا بِالبَاءِ وَالوَاوِ وَالتَّاءِ. - قَوْلُ (وَاللَّهِ؛ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ) فِيْهِ مَنهيَّانِ: 1) الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى. 2) الشِّرْكُ بِالتَّسْوِيَةِ بَينَهُمَا بِوَاوِ العَطْفِ. - الكَمَالُ أَنْ يُقَالَ: لَولَا اللهُ لَمْ يَكنْ كَذَا، وَيَجُوْزُ قَوْلُ لَولَا اللهُ ثُمَّ فُلَانٌ لَمْ يَكنْ كَذَا. - حَدِيْثُ (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمرَ وَلَيْسَ عُنْ أَبِيْهِ. - الحَدِيْثُ الَّذِيْ فِي الحَلِفِ هُوَ مِنَ الكُفْرِ الأَصْغَرِ إِنْ قُصِدَ بِالحَلِفِ تَعْظِيْمُ المَحْلُوفِ بِهِ فَقَط، وَيَكُوْنُ مِنَ الأَكْبَرِ إِنْ كَانَ ذَلكَ عِنْدَهُ مُعَظَّمًا كَرَبِّ العَالَمِيْنَ، وَأَمَّا إِنْ حَلَفَ بِاللهِ كَاذِبًا ثُمَّ لَمْ يَرْضَ بِالحَلِفِ بِغَيْرِهِ كَاذِبًا! فَهوَ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ، ويَكُوْنُ مِنْ شِرْكِ السَّرَائِرِ. (¬3) ¬

- قَوْلُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا) فِيْهِ بَيَانُ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَسَائِلِ البَابِ السَّابِعِ (فِيْهِ شَاهِدٌ لِكَلَامِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ)، وَفِيْهِ أَيْضًا عُمْقُ عِلْمِ السَّلَفِ، وَفِيْهِ اسْتِعْمَالُ أَفْعُلِ التَّفْضِيْلِ فِيْمَا لَيْسَ فِي الطَّرَفِ الآخَرِ مُشَارِكٌ لَهُ. - قَوْلُهُ (لَا تَقُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ): لِأَنَّ فِيْهِ تَسْوِيَةً فِي المَشِيئَةِ، وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِيْنَ {قَالُوا وَهُمْ فِيْهَا يَخْتَصِمُوْنَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ، إِذْ نُسَوِّيْكُمْ بِرَبِّ العَالَمِيْنَ} (الشُّعَرَاء:98). (¬1) - قَوْلُهُ (لَا تَقُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ؛ وَلَكِنْ قُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ): فِيْهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مَنْ سَدَّ بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يَفْتَحَ لَهُم بَابًا مُبَاحًا. (¬2) - (إِبْرَاهِيْمُ النَّخَعِيُّ): هُوَ أَبُو عِمْرَانَ؛ الإِمَامُ الحَافِظُ؛ فَقِيْهُ العِرَاقِ؛ النَّخَعِيُّ؛ اليَمَانِيُّ؛ الكُوْفِيُّ؛ أَحَدُ الأَعْلَامِ؛ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِيْنَ، (ت 96 هـ). - فِي كَرَاهَةِ النَّخَعيِّ بَيَانُ أَنَّ السَّلَفَ يَسْتَخْدِمُوْنَ لَفْظَ الكَرَاهَةِ بِمَعْنَى التَّحْرِيْمِ وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ لَهُم فِيْمَا لَمْ يَرِدْ فِيْهِ نَصٌّ. ¬

- فَائِدَة 1) فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الشِّرْكِ بِنَوعيهِ الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ: عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيْكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيْلُهُ وَكَثِيْرُهُ؟) قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ). (¬1) - فَائِدَة 2) فِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانُ أَنَّ السَّلَفَ يَسْتَدِلُّوْنَ بِأَدِّلَّةِ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ عَلَى الأَصْغَرِ - كَمَا سَبَقَ فِي أَثَرِ حُذَيْفَةَ فِي بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَة وَالخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِرَفْعِ البَلَاءِ أَوْ دَفْعِهِ) -. (¬2) - فَائِدَة 3) الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ: الشِّرْكُ الأَصْغَرُ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ؛ يَعْنِي مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كَالحَلِفِ مَثَلًا، فَالحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ أَكْبَرُ مِنَ الحَلِفِ بِاللهِ كَذِبًا - كَمَا فِي أَثَرِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ هُنَا - وَجِنْسُ الشِّرْكِ أَكْبَرُ مِنْ جِنْسِ الكَبَائِرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُوْنَ كُلَّمَا قِيْلَ: إِنَّهُ شِرْكٌ أَصْغَرٌ؛ أَنَّهُ يَكُوْنُ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ الكَبَائِرِ، فَفِي الكَبَائِرِ مَا جَاءَ فِيْهِ مِنَ التَّغلِيْظِ وَالوَعِيْدِ الشَّدِيْدِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ -. وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬3) (¬4) ¬

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) إِذَا كَانَ الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ قَسَمِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالمَخْلُوْقَاتِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (الطَّارق:1)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} (الشَّمْس:6)، وَقوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النَّجْم:1)؛ وَغَيْرِهَا كَثيْرٌ؟ وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ: 1) أَنَّ القَسَمَ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى هُوَ شِرْكٌ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ المَخْلُوْقِ، وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ الَّذِيْ يَأْمُرُ ويَنْهَى؛ والعَبْدُ هُوَ المَأْمُوْرُ. 2) أَنَّ قَسَمَ المَخْلُوْقِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيْهِ إِظْهَارٌ لِعَظَمَةِ المُقْسَمِ بِهِ؛ بِخِلَافِ قَسَمِهِ سُبْحَانَهُ بِالمَخْلُوْقَاتِ؛ فَإِنَّهُ لِبَيَانِ عَظَمَتِهِ نَفْسِهِ تَعَالَى، فَعَظَمَةُ الشَّيْءِ دَلِيْلٌ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُوْنَ} (الزُّخْرُف:82)، وَقَدْ سَبَقَ فِي السُّؤَالِ قَسَمُ اللهِ تَعَالَى بِالسَّمَاءِ وَالأَرْضِ لِبَيَانِ عَظَمَةِ خَلْقِهِمَا؛ وَهُنَا أَضَافَهُمَا إِلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ إِضَافَةَ رُبُوْبِيَّةٍ مَعَ تَسْبِيْحِ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيْقِهِ. 3) أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:23).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) إِذَا كَانَ الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنِ الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ؛ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ الأَعْرَابِيِّ الَّذِيْ سَأَلَ عَمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ؛ وَقَالَ فِي آخِرِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْلَحَ وَأَبِيْهِ؛ إِنْ صَدَقَ) (¬1)، وَأَيْضًا الحَدِيْثِ الآخَرِ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الَّذِيْ سَأَلَ عَنْ أَيِّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ وَفِيْهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَا وَأَبِيْكَ؛ لَتُنَبَّأَنَّهُ)؟ (¬2) وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ: 1) الحَدِيْثُ الأَوَّلُ لَفْظُهُ هَذَا شَاذٌّ، وَالآخَرُ مُنْكَرٌ كَمَا حَقَّقَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬3) 2) أَنَّ هَذَا تَصْحِيْفٌ مِنَ الرُّوَاةِ حَيْثُ أَنَّ أَصْلَ الكِتَابَةِ هِيَ بِدَوْنِ تَنْقِيْطٍ؛ فَتَشَابَهَ لَفْظُ (أَبِيْهِ - أَبِيْكَ) مَعَ (اللهِ). 3) أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ العَرَبِ؛ وَلَا تَقْصِدُ حَقِيْقَتَهُ. (¬4) 4) أَنَّهُ كَانَ مَسْكُوْتًا عَنْهُ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ؛ ثُمَّ نُسِخَ بِأَحَادِيْثِ النَّهْي؛ حَيْثُ عُلِمَ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ لَمْ يَنْهَ عَنْ أَشْيَاءَ مِثْلِ (مَا شَاءَ اللهُ وشَاءَ مُحَمَّدٌ) ثُمَّ نُهيَ عَنْهَا، وَهِيَ مِنَ الشِّرْكِ اللَّفْظِيِّ. (¬5) 5) أَنَّ فِيْهِ حَذْفُ مُضَافٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيْرُ: (أَفْلَحَ وَرَبِّ أَبِيْهِ). ¬

باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

بَابُ مَا جَاءَ فِيْمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالحَلِفِ بِاللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ. الثَّانِيَةُ: الأَمْرُ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ بِاللَّهِ أَنْ يَرْضَى. الثَّالِثَةُ: وَعِيدُ مَنْ لَمْ يَرْضَ. ¬

الشرح

الشَّرْحُ - الرِّضَى عِنْدَ مَنْ حُلِفَ لَهُ باللهِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيْمِ المَحْلُوفِ بِهِ، وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (رَأَى عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟! قَالَ: كَلَّا؛ وَاللَّهِ الَّذِيْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي). (¬1) - قَوْلُهُ (مَنْ حُلِفَ لَهُ باللهِ فَلْيَرْضَ): لَهُ جِهَتَانِ: 1) مِنْ جِهَةٍ شَرعِيَّةٍ: يَجِبُ القَبُوْلُ لِأَنَّه مِنَ الرِّضَى بالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَخَاصَّةً عِنْدَ القَاضِي. وَلَعَلَّ هَذَا الوَجهَ هُوَ المَقْصُوْدُ مِنَ البَابِ لِقَوْلِهِ (مَا جَاءَ فِيْمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالحَلِفِ بِاللَّهِ) فَمَطْلُوبُهُ إِظْهَارُ القَنَاعَةِ؛ وَهُوَ دَلِيْلُ تَعْظِيْمِ المَحْلُوْفِ بِهِ. (¬2) 2) مِنْ جِهَةٍ حِسِّيَّةٍ: إِنْ كَانَ الحَالِفُ مَوْضِعَ ثِقَةٍ؛ فَيَجِبُ الرِّضَى، وَإلَّا فَلَا يَجِبُ كَمَا لَو كَانَ كَافِرًا أَوْ مَعْرُوْفًا بِكَذِبِهِ. (¬3) - قَوْلُهُ (وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ): أَيْ: فَقَدْ بَرِءَ اللهُ مِنْهُ، أَوْ فَقَدْ بَرِءَ هُوَ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ حِزِبَ اللهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا الفِعْلَ مِنَ الكَبَائِرِ. (¬4) ¬

الباب الرابع والأربعون) باب قول ما شاء الله وشئت

بَابُ قَوْلِ مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ عَنْ قُتَيْلَةَ (¬1)؛ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُشْرِكُوْنَ، تَقُوْلُوْنَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ! وَتَقُوْلُوْنَ: وَالكَعْبَةِ! فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُوْلُوا: وَرَبِّ الكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُوْلُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ. (¬2) وَلَهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: (أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا? بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ). (¬3) وَلِابْنِ مَاجَه عَنِ الطُّفَيْلِ - أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا -; قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ اليَهُوْدِ; قُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ القَوْمُ؛ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُوْلُوْنَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ! قَالُوا: وَأَنْتُمْ لَأَنْتُمُ القَوْمُ؛ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُوْلُوْنَ مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ! ثُمَّ مَرَرْتُ بِنَفَرٍ مِنَ النَّصَارَى، فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ القَوْمُ؛ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُوْلُوْنَ: المَسِيْحُ ابْنُ اللهِ! قَالُوا: وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ القَوْمُ؛ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُوْلُوْنَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ! فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِهَا مَنْ أَخْبَرْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: (هَلْ أَخْبَرْتَ بِهَا أَحَدًا?) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا؛ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا; فَلَا تَقُوْلُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ قُوْلُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ). (¬4) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: مَعْرِفَةُ اليَهُوْدِ بِالشِّرْكِ الأَصْغَرِ. الثَّانِيَةُ: فَهْمُ الإِنْسَانِ إِذَا كَانَ لَهُ هَوَىً. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا?!) فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ: (يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ). وَالبَيْتَيْنِ بَعْدَهُ?! (¬5) الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ، لِقَوْلِهِ (يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا). الخَامِسَةُ: أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنْ أَقْسَامِ الوَحْي. السَّادِسَةُ: أَنَّهَا قَدْ تَكُوْنُ سَبَبًا لِشَرْعِ بَعْضِ الأَحْكَامِ. ¬

_ (¬1) قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ رَحِمَهُ اللهُ (ص419): (بِمُثَنَّاةٍ مُصَغَّرَةٍ؛ بِنْتُ صَيْفِيّ الأَنْصَارِيَّةُ، صَحَابِيَّةٌ مُهَاجِرَةٌ). وَلَكِنْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي الإِصَابَةِ (284/ 8): (قُتَيْلَةُ بِنْتُ صَيْفِيّ، وَيُقَالُ: الأَنْصَارِيَّةُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَتْ مِنَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَّلِ، رَوَى عَنْهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَسَارٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَسَبَهَا أَنْصَارِيَّةً. وَقَوْلُهُ (مِنَ المُهَاجِرَاتِ) يَأْبَى ذَلِكَ). (¬2) صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (3773). الصَّحِيْحَةُ (136). (¬3) صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10759). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (783). (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (20694)، وابْنُ مَاجَه (2118). الصَّحِيْحَةُ (137). (¬5) وَهُمَا قَوْلُهُ (وَلَنْ يَضِيْقَ - رَسُوْلَ اللهِ - جَاهُكَ بِي ... إِذَا الكَرِيْمُ تَحلَّى بِاسمِ مُنتَقِمِ فَإِنَّ مِنْ جُوْدِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتها ... وَمِنْ عُلُوْمِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ). وَسَيَأْتِي مَعَنَا مُلْحَقٌ مُخْتَصَرٌ- إِنْ شَاءَ اللهُ - فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ.

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ هُوَ فِي بَيَانِ نَوعٍ مِنْ شِرْكِ الأَلفاظِ؛ وَأَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي بَعْضِهَا (¬1) بِالوَاوِ دُوْنَ - ثُمَّ - يُعَدُّ شِرْكًا لَفظِيًّا. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيْثِ أَنَّ قَولَ الرَّجُلِ لِغَيْرهِ (مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ) يُعَدُّ شِرْكًا فِي الشَّرِيْعَةِ, وَهُوَ مِنْ شِرْكِ الأَلفَاظِ, لِأَنَّهُ يُوْهِمُ أَنَّ مَشِيْئَةَ العَبْدِ فِي دَرَجَةِ مَشيئَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وَسَبَبُهُ القَرْنُ بَيْنَ المَشيئَتَيْنِ, وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ العَامَّةِ وأَشْبَاهِهِم - مِمَّنْ يَدعي العِلْمَ -: (مَالِي غَيْرُ اللهِ وَأَنْتَ) وَ (تَوَكَّلْنَا عَلى اللهِ وَعَلَيْكَ) , وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِ المُحَاضِرِيْنَ: (بَاسْمِ اللهِ وَالوَطَنِ) , أَوْ (بَاسْمِ اللهِ وَالشَّعْبِ) , وَنَحوِ ذَلِكَ مِنَ الأَلْفَاظِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِيْ يَجِبُ الانْتِهَاءُ عَنْهَا وَالتَّوبَةُ مِنْهَا أَدَبًا مَعَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَلَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذا الأَدَبِ الكَرِيْمِ كَثِيْرٌ مِنَ العَامَّةِ وَغَيْرُ قَلِيْلٍ مِنَ الخَاصَّةِ الَّذِيْنَ يُسَوِّغُونَ النُّطْقَ بِمِثْلِ هَذهِ الشِّرْكِيَّاتِ! كَمُنَادَاتِهِم غَيْرَ اللهِ فِي الشَّدَائِدِ! والاسْتِنْجَادَ بِالأَمْوَاتِ مِنَ الصَّالِحِيْنَ! وَالحَلِفَ بِهِم مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى! وَالإِقْسَامَ بِهِم عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ! فَإِذَا مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِم عَالِمٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنهَّمُ بَدَلَ أَنْ يَكُوْنُوا عَوْنًا عَلَى إِنْكَارِ المُنْكَرِ, عَادُوا بِالإِنْكَارِ عَلَيْهِ, وَقَالُوا: إِنَّ نِيَّةَ أُوْلَئِكَ - المُنَادِيْنَ غَيْرَ اللهِ - طَيِّبَةٌ؛ وَإِنَّهَا (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ!!) كَمَا جَاءَ فِي الحِدِيْثِ. فَيَجْهَلُوْنَ أَوْ يَتَجَاهَلُوْنَ - إِرْضَاءً لِلعَامَّةِ - أَنَّ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ - وَإِنْ وُجِدَتْ عِنْدَ المَذْكُوْرِيْنَ - فَهيَ لَا تَجْعَلُ العَمَلَ السَيِّئَ صَالِحًا, وَأَنَّ مَعْنَى الحَدِيْثِ المَذْكُوْرِ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِالنِّيَّاتِ الخَالِصَةِ, لَا أَنَّ الأَعْمَالَ المُخَالِفَةَ لِلشَّرِيْعَةِ تَنْقَلُب إِلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ مَشْرُوْعَةٍ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ بِهَا! ذَلِكَ مَا لَا يَقُوْلُهُ إِلَّا جَاهِلٌ أَو مُغْرِضٌ, أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَو صَلَّى تُجَاهَ القَبْرِ؛ لَكَانَ ذَلكَ مُنْكَرًا مِنَ العَمَلِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ لِلأَحَادِيْثِ وَالآثَارِ الوَارِدَةِ فِي النَّهْي عَنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ بِالصَّلَاةِ, فَهَلْ يَقُوْلُ عَاقِلٌ: إِنَّ الَّذِيْ يَعُوْدُ إِلَى الاسْتِقْبَالِ - بَعْدَ عِلْمِهِ بِنَهي الشَّرْعِ عَنْهُ - إِنَّ نِيَّتَهُ طَيِّبَةٌ وَعَمَلُهُ مَشْرُوْعٌ؟! كَلَّا ثُمَّ كَلَّا, فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِيْ يَسْتَغِيْثُونَ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى, وَيَنْسَوْنَهُ تَعَالَى فِي حَالَةٍ - هُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُوْنُوْنَ فِيْهَا إِلَى عَوْنِهِ وَمَدَدِهِ - لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُوْنَ نِيَّاتُهُم طَيِّبَةً؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ عَمَلُهُم صَالِحًا, وَهُمْ يُصِرُّوْنَ عَلَى هَذا المُنْكَرِ - وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ -). (¬2) - قَوْلُهُ (فَلَا تَقُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ): لِأَنَّ فِيْهِ تَسْوِيَةً فِي المَشِيْئَةِ، وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِيْنَ {قَالُوا وَهُمْ فِيْهَا يَخْتَصِمُوْنَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ، إِذْ نُسَوِّيْكُمْ بِرَبِّ العَالَمِيْنَ} (الشُّعَرَاء:98). ¬

_ (¬1) احْتِرَازًا مِنْ كُلٍّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬2) الصَّحِيْحَةُ (139).

- قَوْلُهُ (لَا تَقُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ؛ وَلَكِنْ قُوْلُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ): فِيْهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مَنْ سَدَّ بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يَفْتَحَ لَهُم بَابًا مُبَاحًا. (¬1) - فِي الحَدِيْثِ قَبُوْلُ الحَقِّ أَيْنَمَا كَانَ، كَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ يَزِيْدَ بْنَ عُمَيْرَةَ؛ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: (وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الحَكِيْمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُوْلُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الحَكِيْمِ، وَقَدْ يَقُوْلُ المُنَافِقُ كَلِمَةَ الحَقِّ)، قَالَ: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِيْنِي - رَحِمَكَ اللهُ - أَنَّ الحَكِيْمَ قَدْ يَقُوْلُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ؛ وَأَنَّ المُنَافِقَ قَدْ يَقُوْلُ كَلِمَةَ الحَقِّ؟ قَالَ: (بَلَى؛ اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الحَكِيْمِ المُشْتَهِرَاتِ (¬2) - الَّتِيْ يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ؟ - وَلَا يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الحَقِّ نُوْرًا). (¬3) - فِي لَفْظِ أَحْمَدَ (كَانَ يَمْنُعُنِي الحَيَاءُ مِنْكُمْ) (¬4): حَيَاؤُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُم لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الحَيَاءِ مِنَ الإِنْكَارِ عَلَيْهِم؛ بَلْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُهَا؛ وَلَكِنَّهُ يَستَحْيِي أَنْ يَذْكُرَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِنْكَارِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الأَمْرُ الإِلَهِيُّ بِالرُّؤيَا الصَّالِحَةِ أَنْكَرَهَا وَلَم يَستَحْي فِي ذَلكَ. - هَذِهِ المَسَائِلُ لَيْسَتْ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا مِنَ الأَصْغَرِ - كَمَا قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَسَائِلِهِ - وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الحَدِيْثِ (وَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا) وَتَحْرِيْمُ الشِّرْكِ فِي الأَلْفَاظِ أَتَى بِالتَّدْرِيْجِ فِي تَارِيْخِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ وَتَبْلِيْغِهِ أُمَّتَهُ بِالأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، أَمَّا الشِّرْكُ الأَكْبَرُ - الجَلِيُّ - فَقَدْ نَفَاهُ مِنْ أَوَّلِ الرِّسَالَةِ. وَهَذَا فِيْهِ بَيَانٌ لِفِقْهِ الدَّعْوَةِ فِي تَبْلِيْغِ الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ، وَفِيْهِ بَيَانُ فِقْهِ الدَّاعِيَةِ؛ أَنَّه يَنْبَغِي عِنْدَ تَغْيِيْرِ الشَّيْءِ أَنْ يُغَيِّرَ إِلَى شَيْءٍ قَرِيْبٍ مِنْهُ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَا (الكَعْبَة - رَبِّ الكَعْبَة) وَ (وَشِئْتَ - ثُمَّ شِئْتَ). - قَوْلُ (مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ): أَكْمَلُ فِي الإِخْلَاصِ وَأَبْعَدُ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ أَنْ يَقُوْلَ: (ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ)؛ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا. ¬

_ (¬1) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لَا تَقُوْلُوا رَاعِنَا وَقُوْلُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِيْنَ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} (البَقَرَة:104). (¬2) قَالَ أَبُو دَاوُد رَحِمَهُ اللهُ في سُنَنِهِ (202/ 4): وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا (المُشَبَّهَاتِ) مَكَانَ (المُشْتَهِرَاتِ). قَالَ صَاحِبُ (عَوْنُ المَعْبُوْدِ بِشَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد) (238/ 12): (أَيِ الكَلِمَاتِ المُشْتَهِرَاتِ بِالبُطْلَانِ، (الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ؟) أَيْ: يَقُوْلُ النَّاسُ - إِنْكَارًا - فِي شَأْنِ تِلْكَ المُشْتَهِرَاتِ: مَا هَذِهِ؟ (وَلَا يُنْئِيَنَّكَ) أَيْ: لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، (ذَلِكَ) المَذْكُوْرُ مِنْ مُشْتَهِرَاتِ الحَكِيْمِ، (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الحَكِيْمِ، (فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ) أَيِ الحَكِيْمُ، (أَنْ يُرَاجِعَ) أَيْ: يَرْجِعَ عَنِ المُشْتَهِرَاتِ). (¬3) صَحِيْحٌ مَوْقُوْفٌ. أَبُو دَاوُدَ (4611). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4611). وَأَمَّا حَدِيْثُ (الكَلِمَةُ الحِكْمَةُ؛ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ). فَهُوَ ضَعِيْفٌ جِدًّا. ابْنُ مَاجَه (4169) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. ضَعِيْفُ الجَامِعِ (4301،4302). (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (20694) عَنْ طُفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (138).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) يُشْكِلُ جَوَازُ العَطْفِ فِي حَدِيْثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - الَّذِيْ فِيْهِ قولُهُم (اللهُ وَرَسُوْلُهُ أعلمُ) - مَعَ حَدِيْثِ (قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللهُ وشِئْتَ. فَقَالَ: (جَعَلتَ للهِ نِدًّا؟ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)) (¬1)؟ الجَوَابُ: إِنَّ إِقْرَارَهُ لِقَوْلِهِم (اللهُ وَرَسُوْلَهُ أَعْلَمُ) الَّذِيْ فِيْهِ العَطْفُ بِالوَاوِ، هُوَ لِأَنَّ عِلْمَ الرَّسُوْلِ هَذَا - الشَّرْعِيَّ - هُوَ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ الَّذِيْ يُعلِّمُهُ مَا لَا يُدْرِكُهُ البَشَرُ. وَكَذَلِكَ فِي المَسَائِلِ الشَّرْعيَّةِ الأُخْرَى يُقَالُ: (اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ)؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الخَلْقِ بِشَرْعِ اللهِ، وَعِلْمُهُ بِهِ هُوَ مِنْ تَعْلِيْمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَمَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ: (مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ)، لِأَنَّ هَذَا فِي بَابِ القَدَرِ وَالمَشِيْئَةِ، وَمَشِيْئَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ مَشِيْئَتِهِ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْرُوْنًا مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ (¬2)، بَلْ يُقَالُ: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُعْطَفُ بِـ (ثُمَّ)، فَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الأُمُوْرَ الشَّرْعِيَّةَ يَصِحُّ فِيْهَا العَطْفُ بِالوَاوِ، وَأَمَّا الكَوْنِيَّةَ، فَلَا. (¬3) (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (783) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ. الصَّحِيْحَةُ (139). وَكَمَا فِي حَدِيْثِ قُتَيْلَةَ؛ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُشْرِكُوْنَ، تَقُوْلُوْنَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ! وَتَقُوْلُوْنَ: وَالكَعْبَةِ! فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُوْلُوا: وَرَبِّ الكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُوْلُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ). صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (3773). الصَّحِيْحَةُ (136). (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا تَشَاءُوْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيْمًا حَكِيْمًا} (الإِنْسَان:30). (¬3) وَمِنَ الخَطَأِ أَيْضًا مَنْ يَكْتُبُ عَلَى بَعْضِ الأَعْمَالِ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوْلُهُ} (التَّوْبَة:105) بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَذُّرِ رُؤْيَتِهِ، فَاللهُ يَرَى؛ وَلَكِنَّ رَسُوْلَهُ لَا يَرَى! فَلَا تَجُوْزُ كِتَابَتُهُ - بِهَذَا القَصْدِ - لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬4) وَبِمِثْلِهِ أَيْضًا الجَوَابُ عَنْ حَدِيْثِ (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وَالَّذِيْ فِيْهِ الهِجْرَةُ (إِلى اللهِ وَرَسُوْلِهِ) وَلَمْ يَقُلْ: (ثُمَّ رَسُوْلِهِ)، وَالجَوَابُ فِيْهِ أَيْضًا: إِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيْعَةِ يَصِحُّ أَنْ يُعبَّرَ عَنْهُ بِالوَاوِ، لِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ رَبِّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَسُوْلَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} (النِّسَاء:80)، وَأَمَّا الأُمُوْرُ الكَوْنِيَّةُ - كَالمَشِيْئَةِ مَثَلًا - فَإِنَّهُ لَا يَجُوْزُ أَنْ يُقْرَنَ مَعَ اللهِ أَحَدٌ بِالوَاوِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ مَشِيْئَةَ العَبْدِ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ مَشِيْئَةِ اللهِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَشَاءَ اللهُ، فَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيْئَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُوْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِيْنَ} (التَّكْوِيْر:29). (¬5) مُلَاحَظَةٌ: لِتَمَامِ الفَائِدَةِ رَاجِعْ مَسَائِلَ بَابِ (مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ).

باب من سب الدهر فقد آذى الله

بَابُ مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَقَدْ آذَى اللهَ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {وَقَالوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوْتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّوْنَ} (الجَاثِيَة:24). وَفِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (قَالَ اللهُ تَعَالَى: يُؤْذِيْنِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ - وَأَنَا الدَّهْرُ - أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). وَفِي رِوَايَةٍ: (لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فِإنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ. الثَّانِيَةُ: تَسْمِيَتُهُ آَذَىً للهِ. الثَّالِثَةُ: التَّأَمُّلُ فِي قَوْلِهِ (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ). الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُوْنُ سَابًّا - وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِقَلْبِهِ -. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (4826). وَفِيْهِ أَيْضًا (6182) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (لَا تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، وَلَا تَقُوْلُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ).

الشرح

الشَّرْحُ - إِنَّ سَبَّ الدَّهْرِ يُنَافي كَمَالَ التَّوْحِيْدِ، وَيَعُوْدُ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا بِالإِيْذَاءِ؛ لِأَنَّه سَبٌّ لِمَنْ تَصَرَّفَ بِهَذَا الدَّهْرِ. وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ؛ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ). (¬1) - الآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ نِسْبَةَ الأَشْيَاءِ إِلَى الدَّهْرِ اسْتِقْلَالًا هِيَ مِنْ خِصَالِ المُشْرِكِيْنَ أَعْدَاءِ التَّوحِيْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ المُعْتَزِّ (¬2): (يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِيْ أَحَدًا ... وَأَنْتَ وَالِدُ سُوْءٍ تَأْكُلُ الوَلَدَ). (¬3) فَلَا تَصِحُّ نِسْبَةُ الإِهْلَاكِ إِلَى الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوْقٌ مَرْبُوْبٌ؛ لَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ لَا فِي غَيْرِهِ وَلَا فِي نَفْسِهِ أَصْلًا، بَلِ اللهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الَّذِيْ يُحْيِي وَيُمِيْتُ؛ وَيَقْضِي فِيْهِ بِمَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنَّ الأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ عَوْدَةُ مَسَبَّةِ الدَّهْرِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّمَا تَأْوِيْلُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: أَنَّ العَرَبَ كَانَ شَأْنُهَا أَنْ تَذُمَّ الدَّهْرَ وَتَسُبَّهُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِمْ - مِنْ مَوْتٍ أَوْ هَرِمٍ أَوْ تَلَفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَيَقُولُوْنَ: إِنَّمَا يُهْلِكُنَا الدَّهْرُ - وَهُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ -، وَهُمَا الفَنَتَانِ وَالجَدِيدَانِ، فَيَقُولُوْنَ: أَصَابَتْهُمْ قَوَارِعُ الدَّهْرِ، وَأَبَادَهُمُ الدَّهْرُ، وَأَتَى عَلَيْهِمْ، فَيَجْعَلُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ اللَّذَيْنِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ، فَيَذُمُّوْنَ الدَّهْرَ بِأَنَّهُ الَّذِي يُفْنِينَا وَيَفْعَلُ بِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ) عَلَى أَنَّهُ يُفْنِيْكُمْ وَالَّذِي يَفْعَلُ بِكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ!! فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمْ فَاعِلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّمَا تَسُبُّوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ فَاعِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ). (¬4) (¬5) - إِنَّ سَبَّ الدَّهْرِ - أَوْ وَصْفَهُ - يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ (¬6): 1) أَنْ يَقْصِدَ الخَبَرَ المَحْضَ دُوْنَ اللَّوْمِ، فَهَذَا جَائِزٌ، ومِنْهُ قَوْلُ لُوْطٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوْطًا سِيْءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيْبٌ} (هُوْد:77). (¬7) 2) أَنْ يَسُبَّ الدَّهْرَ عَلَى أَنَّه هُوَ الفَاعِلُ. كَأَنْ يَعْتَقِدَ بِسَبِّهِ الدَّهْرَ؛ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الَّذِيْ يُقَلِّبُ الأُمُوْرَ إِلَى الخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرٌ لِأَنَّه اعْتَقَدَ أَنَّ مَعَ اللهِ خَالِقًا، وَلِأَنَّهُ نَسَبَ إِيْجَادَ الحَوْادِثِ إِلَى غَيْرِ اللهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ نِسْبَةُ الإِمَاتَةِ إِلَى الدَّهْرِ فِي قَوْلِ المُشْرِكِيْنَ {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجَاثِيَة:24). 3) أَنْ يَسُبَّ الدَّهْرَ - لَا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ هُوَ الفَاعِلَ - بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ هُوَ الفَاعِلُ، لَكِنْ يَسُبُّهُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِهَذَا الأَمْرِ المَكْرُوْهِ عِنْدَهُ، فَهَذَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مَقْصُوْدُ المُصَنِّفِ فِي هَذَا البَابِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4908) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (528). (¬2) هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ المُعْتَزُّ بِاللهِ بْنُ المُتَوَكِّلِ بْنِ المُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشيْدِ العَبَّاسِيُّ، أَبُو العَبَّاسِ، (ت 296 هـ). (¬3) اُنْظُرْ كِتَابَ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (713/ 14) لِلحَافِظِ ابْنِ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬4) مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالآثَارِ لِلبَيْهَقِيِّ (203/ 5). (¬5) قَالَ ابْنُ الجَوْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صَيْدُ الخَاطِرِ) (ص 407): (وَرُبَّمَا جَعَلُوا اللهَ الدُّنْيَا، وَيَقُوْلُوْنَ: فَعَلَتْ وَصَنَعَتْ!). (¬6) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (240/ 2)؛ بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬7) قُلْتُ: الأَوْلَى فِي هَذَا النَّوعِ أَنْ يُسَمَّى وَصْفًا وَلَا يُسَمَّى سَبًّا، كَمَا قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ رَحِمَهُ اللهُ (ص425): (وَلَيسَ مِنْهُ وَصْفُ السِّنِيْنَ بالشِّدَّةِ وَنَحوِ ذَلكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} (يُوْسُف:48)).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلِ الدَّهْرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا فِي الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي الصَّحِيْحِ (قَالَ اللهُ تَعَالَى: يُؤْذِيْنِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ - وَأَنَا الدَّهْرُ - أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)؟ (¬1) الجَوَابُ: الدَّهْرُ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ اللهِ، وَلَيْسَ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: 1) أَنَّ سِيَاقَ الحَدِيْثِ يَأْبَاهُ، بَلْ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ المَقْصُوْدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ المُتَصَرِّفُ بِالدَّهْرِ نَفْسِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ (بِيَدِي الأَمْرُ؛ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ هُوَ الزَّمَنُ وَهُوَ الدَّهْرُ نَفْسُهُ، فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ يُقَلِّبُهُما. (¬2) 2) أَنَّ الزَّمَنَ مَخْلُوْقٌ كَالمَكَانِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِيْ خَلَقَهُ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُوْنَ} (يُوْنُس:67)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (إِبْرَاهِيْم:33). فَالإِخْبَارُ عَنِ الجَعْلِ - وَهُوَ الخَلْقُ هُنَا - وَالتَّسْخِيْرِ دَلِيْلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَخْلُوْقًا مِنْ جُمْلَةِ المَخْلُوْقَاتِ. (¬3) 3) أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حُسْنَى، أَيْ: بَالِغَةٌ فِي الحُسْنِ أَقْصَاهُ، وَهِيَ مُتضمِّنةٌ لِصِفَاتِ الكَمَالِ، أَمَّا الدَّهْرُ فَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَىً يَتَفَاضَلُ أَصْلًا، فَلَيسَ فِيْهِ مَدْلُوْلٌ لِلحُسْنِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى. (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (494/ 2): (وَالقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ وَالصُّوفِيَّةِ: إنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ القَدِيْمُ الأَزَلِيُّ، وَرَوَوْا فِي بَعْضِ الأَدْعِيَةِ: (يَا دَهْرُ، يَا دَيْهُوْرُ، يَا دَيْهَارُ). وَهَذَا المَعْنَى صَحِيْحٌ، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا المَعْنَى صَحِيْحٌ، إنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يُسَمَّى دَهْرًا). (¬2) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ المُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الحَدِيْثِ، وَهَذِهِ الطَّرِيْقَةُ مِنَ الكَلَامِ شَائِعَةُ الاسْتِخْدَامِ، كَمَا يُقَالُ عَنِ الرَّجُلِ العَظِيْمِ الشَّأْنِ المُتَصَرِّفِ فِي الدَّوْلَةِ أَنَّهُ دَوْلَةٌ، وَعَنْ رَئِيْسِ الشُّرْطَةِ أَنَّهُ هُوَ الشُّرْطَةَ. (¬3) وَلَمْ نَسْتَدِلَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوْرًا} (الفُرْقَان:62) - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأَفَاضِلِ - وَذَلِكَ لِأَنَّها لَا تَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى المَقْصُوْدِ، ذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُوْلَيْنِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الخَلْقِ؛ وَإنَّمَا عَلَى التَّصْيِيْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (الزُّخْرُف:3)، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُوْلٍ وَاحِدٍ فَقَط؛ فَإِنَّ مَعْنَاهَا (الخَلْقُ). وَالحَمْدُ للهِ. (¬4) وَهُنَاكَ وَجْهٌ أَخَرُ فِي الرَّدِّ بِأَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّهْرُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ الكُفَّارِ {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} خَطَأً! فَتَأَمَّلْ.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) كَيْفَ يَصِحُّ القَولُ بِأَنَّ ابْنَ آدَمَ يُؤْذِي اللهَ تَعَالَى؛ مَعَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ العَالَمِيْنَ سُبْحَانَهُ؟ الجَوَابُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ الأَذِيَّةِ الضَّرَرُ، فَالإِنْسَانُ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِ القَبِيْحِ أَوْ مُشَاهَدَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا يَتَأَذَّى بِالرَّائِحَةِ الكَرِيْهَةِ كَالبَصَلِ وَالثُّوْمِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الأَذِيَّةَ فِي القُرْآنِ وَنَفَى الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِيْنَ يُؤْذُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِيْنًا} (الأَحْزَاب:57)، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَيْضًا: {إِنَّ الَّذِيْنَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالأِيْمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ) (آل عِمْرَان:177). وَأَيْضًا أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ الأَذِيَّةَ للهِ كَمَا فِي حَدِيْثِ البَابِ (¬1)، وَأَخْبَرَ أَيْضًا عَنْ نَفْي الضَّرَرِ عَنْهُ تَعَالَى كَمَا فِي الحَدِيْثِ القُدُسيِّ (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّوْنِي). (¬2) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذَىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوْكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُوْنَ} (آل عِمْرَان:111). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬4): (فَلَيسَ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ مِنْهُم ضَرَرٌ فِي أَدْيَانِهِم وَلَا أَبْدَانِهِم، وَإنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُوْنَ إِلَيْهِ مِنَ الأَذَى؛ أَذِيَّةُ الكَلَامِ الَّتِيْ لَا سَبِيْلَ إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهَا مِنْ كُلِّ مُعَادِي). ¬

_ (¬1) وَكَحَدِيْثِ (لَيْسَ أَحَدٌ - أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ - أَصْبَرَ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللهِ؛ إِنَّهُمْ لَيَدَّعُوْنَ لَهُ وَلَدًا - وَإِنَّهُ لَيُعَافِيْهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ -). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6099)، وَمُسْلِمٌ (2804) عَنْ أَبِي مُوْسَى مَرْفُوْعًا. (¬2) مُسْلِمٌ (2577) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوْعًا. (¬3) قُلْتُ: وَكَمَا جَاءَ عَنِ الأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيتُ أَعْرَابِيَّةً فِي الفَلَاةِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَصْبِرُوْنَ عَلَى الحَرِّ وَالبَرْدِ؟ أَمَا يَضُرُّكُم الحَرُّ وَالبَرْدُ؟ فَقَالَتْ: لَا سَوَاءَ؛ أَمَّا الحَرُّ فَهُوَ أَذَىً، وَإِنَّمَا الَّذِيْ يَضُرُّ هُوَ البَرْدُ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (56)، شَرْحُ بَابِ (قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ}). (¬4) (ص143).

باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

بَابُ التَّسَمِّي بِقَاضِي القُضَاةِ وَنَحْوِهِ فِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلَاكِ؛ لَا مَالِكَ إِلَّا اللهَ). وَفِي رِوَايَةٍ: (أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ). (¬1) قَوْلُهُ (أَخْنَعَ): يَعْنِي أَوْضَعَ. قَالَ سُفْيَانُ: مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ. فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنِ التَّسَمِّي بِمَلِكِ الأَمْلَاكِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا فِي مَعْنَاهُ مِثْلُهُ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ. الثَّالِثَةُ: التَّفَطُّنُ لِلتَّغْلِيْظِ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ مَعَ القَطْعِ بِأَنَّ القَلْبَ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ. الرَّابِعَةُ: التَّفَطُّنُ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6206)، وَمُسْلِمٌ (2143)، وَاللَّفْظُ لَهُ.

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ (إِنَّ أَغْيَظَ اسْمٍ عَلَى اللهِ): الغَيْظُ هُنَا لَا يَتَعَلَّقُ فَقَطْ بِالاسْمِ المُجَرَّدِ بَلْ بِمَنْ تَسَمَّى بِهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى (أَغْيَظَ رَجُلٍ عَلَى اللهِ). - قَوْلُهُ (أَغْيَظَ): الغَيْظُ: الغَضَبُ، أَو أشَدُّهُ (¬1)، وَهِيَ من الصِفَاتِ الَّتِيْ تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ. (¬2) - أَخَذَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ النَّهْيَ عَنْ التَّسْمِيَةِ بِـ (قَاضِي القُضَاةِ) - وَهُوَ مِمَّا اشْتَهَرَ بَينَ النَّاسِ وَيَعْنُوْنَ بِهِ أَعْلَمَ القُضَاةِ - مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ (مَلِكَ الأَمْلَاكِ) وَحَيْثُ أنَّ اللهَ هُوَ المَالِكُ الحَقِيْقِيُّ وأنَّ مُلْكَهُ كَامِلٌ؛ وأَنَّ العِبَادَ مُلْكُهُم قَاصِرٌ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُم إِلَّا مَا فِي يَدِهِ؛ صَارَ من نَفْسِ المَعنى أَنَّ التَّسَمِّي بِقَاضِي القُضَاةِ لَا يَجُوْزُ لِأَنَّ أَعْلَمَ مَنْ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، فَاللهُ حُكْمُهُ حَقٌّ بِلَا شَكٍ، وَهُوَ يَقْضِي بَيْنَ الجَمِيْعِ - بِمَنْ فِيْهِم القُضَاةُ أَنْفُسُهُم -، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ العَزِيْزُ العَلِيْمُ} (النَّمْل:78)، وكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيْمَا كَانُوا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ} (يُوْنُس:93)، وَالقَاضِي مِنَ البَشَرِ قَدْ يُخْطِئُ وَقَدْ يُصِيْبُ، وَقَضَاؤهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بَينَ مَنْ هُم فِي بَلَدِهِ وَتَحْتَ إِمْرَتِهِ، فَلَا يَجُوْزُ إِطْلَاقُ قَاضِي القُضَاةِ عَلَى البَشَرِ لِأَنَّهُ لَا يَلِيْقُ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ إِطْلَاقُهَا مُقَيَّدَةً كَقَوْلِك: قَاضِي قُضَاةِ دِمَشْقَ. - المَلِكُ وَالمَالِكُ لُغَةً: المَلِكُ مِنَ المُلْكِ؛ وَهُوَ الَّذِيْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، أَمَّا المَالِكُ فَهُوَ فَاعِلٌ مِنَ المِلْكِ، وَمَلَكَ الشَّيْءَ يَعْنِي: اقْتَنَاهُ وَصَارَ مُخْتَصًّا بِهِ. (¬3) - مَنْ قَصَدَ بِتَسْمِيَةِ نَفْسِهِ مَلِكَ الأَمْلَاكِ رِفْعَةً وَعُلُّوًّا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُجَازِيْهِ بِنَقِيْضِ قَصْدِهِ وَيَجْعَلُهُ وَضِيْعًا، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُوْنَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُوْلُسَ، تَعْلُوْهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ؛ طِينَةِ الخَبَالِ) (¬4)، وَذَلِكَ مُعَامَلَةً لَهُم بِنَقيْضِ قَصْدِهِم، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِيْنَ لَا يُرِيْدُوْنَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ} (القَصَص:83)، وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللهِ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ). (¬5) - شَرْحُ سُفْيَانَ - وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (¬6) - (مَلِكَ الأَمْلَاكِ) بِـ (شَاهَان شَاه) إنَّمَا هُوَ لِبَيانِ أَنَّ المَنْهِيَّ لَيْسَ اللَّفْظَ المُجَرَّدَ بَلِ المَعْنَى. ¬

_ (¬1) القَامُوْسُ المُحِيْطُ (ص697). (¬2) وَقَالَ الشَّيْخُ الفَاضِلُ عَلَوِيُّ السَّقَّافُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) (ص264): (وَقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ الأَصْبَهَانِيُّ فِي ((الحُجَّةُ فِي بَيَانِ المَحَجَّةِ) (2/ 457): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُوْصَفُ اللهُ بِالغَضَبِ، وَلَا يُوْصَفُ بَالغَيْظِ)). فَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬3) قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَسِيْرِ) (19/ 1) - فِي تَفْسِيْر الفَاتِحَةِ -: (وَجُمْهُوْرُ القُرَّاءِ (مَلِكِ) - بِفَتْحِ المِيْمِ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ - وَهُوَ أَظْهَرُ فِي المَدْحِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَلِكٍ مَالِكٌ، وَلَيسَ كُلُّ مَالِكٍ مَلِكًا). (¬4) حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2492) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (8040). وَالخَبَالُ: بِفَتْحِ الخَاءِ المُعْجَمَةِ؛ هُوَ الفَسَادُ. (¬5) مُسْلِمٌ (2132) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. (¬6) هُوَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الهِلَالِيُّ (ت 198 هـ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) كَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ مَا يَمْلِكُوْنَ مِنْ قِطْمِيْرٍ} (فَاطِر:13) الَّتِيْ فِيْهَا نَفيُ التَّمَلُّكِ عَنِ البَشَرِ؛ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ النُّصُوْصِ الَّتِيْ فِيْهَا إِثْبَاتُ التَّمَلُّكِ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الأَكْلِ مِنَ البُيُوْتِ {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} (النُّوْر:61)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُوْمِيْنَ} (المُؤْمِنُوْن:6)؟ وَالجَوَابُ: أَنَّ مِلْكَ العَبْدِ لِلشَّيْءِ هُوَ مِلْكٌ قَاصِرٌ وَلَيْسَ تَامًّا، وَهَذَا القُصُوْرُ هُوَ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ: 1) مِنْ جِهَةِ القَدَرِ: فَأَنَا لَا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أَقُوْلَ لِوَلَدِيَ المَرِيْضِ: إِبْرَأْ؛ فَيَبْرَأُ، وَلَا أَسْتَطِيْعُ إِرْجَاعَ دِرْهَمٍ أَنْفَقْتُهُ، وَلَا كِتَابٍ أَحْرَقْتُهُ. 2) مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ: فَأَنَا لَا أَسْتَطِيْعُ أَنَّ أَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِي كَمَا أَشَاءُ - إِذَا خَالَفَ الشَّرْعَ - كَالتَّعَامُلِ بِالرِّبَا، أَوِ القِمَارِ فِيْهِ وَ .... 3) مِنْ جِهَةِ الشُّمُوْلِ: أَنَّ العَبْدَ يَمْلِكُ مَا تَحْتَ يَدِهِ، وَلَا يَمْلِكُ مَا تَحْتَ يَدِ غَيْرِهِ. 4) مِنْ جِهَةِ الزَّمَنِ: فَاللهُ تَعَالَى مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الَّذِيْ وَرَّثَ المَالَ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ، فَالعَبْدُ - وَلَوْ كَانَ مَالِكًا لِشَيْءٍ فِي الحَاضِرِ - وَلَكِنَّهُ قَبْلَ وُصُوْلِهِ لِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ، وَقَبْلَ خَلْقِهِ (أَيْ: الشَّخْصِ) لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ كَذَلِكَ، وَإِذَا سُرِقَ مِنْهُ كَذَلِكَ. فَالمِلْكُ وَالمَالُ كُلُّهُ للهِ يُوْرِثُهُ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوْهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِيْ آتَاكُمْ} (النُّوْر:33). (¬1) ¬

_ (¬1) وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ فَالَّذِيْنَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيْرٌ} (الحَدِيْد:7).

باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

بَابُ احْتِرَامُ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَتَغْيِيْرُ الِاسْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ؛ أَنَّهُ كَانَ يُكَنَّى أَبَا الحَكَمِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ)، فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي؛ فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الفَرِيْقَيْنِ، فَقَالَ: (مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الوَلَدِ?)، قُلْتُ: شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللهِ، قَالَ: (فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ?) قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: (فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: احْتِرَامُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ - وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ -. الثَّانِيَةُ: تَغْيِيْرُ الِاسْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: اخْتِيَارُ أَكْبَرِ الأَبْنَاءِ لِلْكُنْيَةِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4955). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4955).

الشرح

الشَّرْحُ - يُوصَفُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِأَنَّهُ الحَاكِمُ وَالحَكَمُ، وَ (الحَكَمُ) اسْمٌ لَهُ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (¬1) - اسْمُ (أَبِي الحَكَمِ) فِيْهِ مُخَالَفَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الحَكَمُ؛ فَفِيْهِ مُنَازَعَةٌ للهِ تَعَالَى فِي اسْمِهِ وَصِفَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ (إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ)، خَاصَّةً أَنَّهَا مَقْرُوْنَةٌ بِأَلِّ التَّعْرِيْفِ الدَّالَّةِ عَلَى الاسْتِغْراقِ. (¬2) 2) أَنَّ قَوْلَهُم (أَبَا الحَكَمِ) هُنَا يُفِيْدُ عُلُوَّ وَكَمَالَ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَلِيْقُ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. - الكُنْيِةُ مَا صُدِّرَ بَأَبٍ أَوْ أُمٍ أَوْ ابْنٍ أَوْ ابْنَةٍ وَنَحوِ ذَلِكَ، وَاللَّقَبُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَزَينِ العَابِدِيْن وَنَحْوِهِ. وَتَكُوْنُ الكُنيَةُ لِلمَدْحِ كَمَا فِي هَذَا الحَدِيْثِ، وَقَدْ تَكُوْنُ لِلذَّمِّ كَأَبِي جَهْلٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ لِمُصَاحَبَةِ الشَّيْءِ مِثْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَكُوْنُ لِمُجَرَّدِ العَلَمِيَّةِ كَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. - حُكْمُ اللهِ تَعَالَى أَنْوَاعٌ: 1) قَدَرِيٌّ (كَونِيٌّ)، كَمَا فِي قَوْلِ أَخِي يُوْسُفَ {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِيْنَ} (يُوْسُف:80). 2) شَرْعِيٌّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} (الشُّوْرَى:10). 3) جَزَائِيٌّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَتِ اليَهُوْدُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُوْدُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُوْنَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيْمَا كَانُوا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ} (البَقَرَة:113). - فِي الحَدِيْثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِأَهلِ الوَعْظِ وَالإِرْشَادِ وَالنُّصْحِ إِذَا أَغْلَقوا بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يُبَيِّنُوا للنَّاسِ المُبَاحَ مِنْهُ (أَبَا الحَكَمِ - أَبَا شُرَيحٍ). - أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ - مِنْ حَيْثُ جَوَازِ التَّسْمِيَةِ -: 1) مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا للهِ؛ فَهَذَا لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ سُمِّيَ وَجَبَ تَغْيِيْرُهُ، مِثْلَ: اللهُ، الرَّحْمَنُ، رَبُّ العَالَمِيْن، وَمَا أَشْبَهَ ذَلكَ. 2) مَا يَصِحُّ أَنْ يُوْصَفَ بِهِ غَيْرُ اللهِ، مِثْلَ: الرَّحِيْمُ، السَّمِيْعُ، البَصِيْرُ، فَإِنْ لُوْحِظَتْ الصِّفَةُ مَعَهَا مُنِعَ مِنَ التَّسَمِّي بِهَا، وَإِنْ لَمْ تُلَاحَظِ الصِّفَةُ جَازَ التَّسَمِّي بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ مَحْضٌ. (¬3) وَدِلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ اسْمُهُ (الحَكَمُ، وَحَكِيْمٌ) وَلَمْ يُغَيِّرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ كَمَا غَيَّرَ اسْمَ أَبِي الحَكَمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّه عَلَمٌ مَحْضٌ. (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَهُ الشَّيخُ الفَاضِلُ عَلوي السَّقَّافُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) (ص121). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي أَشْرِطَةِ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش13): (يُطْلَقُ عَلَى اللهِ تَعَالَى (الحَاكِمُ) عَلَى سَبِيْلِ الإِخْبَارِ). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الفَاضِلُ الفَوْزَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (257/ 2): (فَالحَكَمُ- بِالأَلِفِ وَاللَّامِ- لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى اللهِ سُبْحَانَه وَتَعَالَى، أَمَّا أَنْ يُقَالَ: (حَكَمٌ) بِدُوْنِ تَعْرِيْفٍ فَلَا بَأْسَ، فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُوْلُ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (النِّسَاء:35)). قُلْتُ: فإنَّ (ألَّـ) التَّعْرِيْفِ هُنَا هِيَ لِلاسْتِغْرَاقِ وَهَذَا لَا يَكُوْنُ إِلَّا للهِ تَعَالَى، أمَّا مَا كَانَ مُجَرَّدًا مِثَلَ (حَكَم) وَلَمْ تُقَارِنْهَا الصِّفَةُ - وهيَ النِّهَايَةُ فِي الحُكْمِ؛ وَلَيسَ مُجَرَّدَ الحُكْمِ - فَهُوَ جَائِزٌ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ مُحَلَّاةً بِـ (ألَّـ) التَّعْرِيْفِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ العَهْدِ فَإِنَّهَا صَحِيْحَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيْقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:188). (¬3) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (261/ 2). وَقَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ المَوْدُوْدِ) (127): (وَأَمَّا الأَسْمَاءُ الَّتِيْ تُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ - كَالسَّميْعِ وَالبَصِيْرِ وَالرَّؤُوْفِ وَالرَّحِيْمِ - فَيَجُوْزُ أَنْ يُخْبَرَ بِمَعَانِيْهَا عَنِ المَخْلُوْقِ، وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يَتَسَمَّى بِهَا عَلَى الإِطْلَاقِ؛ بِحَيثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى). وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ البُخَارِيِّ (68/ 7): (وَأَمَّا الرَّبُّ فَهِيَ كَلِمَةٌ - وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً؛ وَتَقَعُ عَلَى غَيْرِ الخَالِقِ لِقَوْلِهِمْ (رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَبُّ الدَّارِ) وَيُرَادُ صَاحِبُهَا - فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ تَخْتَصُّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَغْلَبِ وَالأَكْثَرِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُسْتَعْمَلَ فِي المَخْلُوْقِيْنَ؛ لِنَفْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوْزُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللهِ (إلَهٌ) وَلَا (رَحْمَنٌ)، وَيَجُوْزُ أَنْ يُقَالَ (رَحِيْمٌ) لِاخْتِصَاصِ اللهِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ، فَكَذَلِكَ الرَّبُّ لَا يُقَالُ لِغَيْرِ اللهِ). (¬4) كالحَكَمِ بْنِ الحَارثِ السُّلَمِيِّ, وَالحَكَمِ بْنِ سَعِيْدٍ بْنِ العَاصِ, وَالحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ, وَكَحَكِيْمِ بْنِ حِزَامٍ, وَحَكِيْمِ بْنِ الحَارِثِ الطَّائِفِيِّ, وَحَكِيْمِ بْنِ طَليْقٍ الأُمَوِيِّ, وَغَيْرِهِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. انْظُرِ كِتَابَ (الإِصَابَةُ) (86/ 2) لِابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ.

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

بَابُ مَنْ هَزَلَ بِشَيْءٍ فِيْهِ ذِكْرُ اللهِ أَوِ القُرْآنِ أَوِ الرَّسُوْلِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُوْلُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوْضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُوْنَ} (التَّوْبَة:65). وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَقَتَادَةَ - دَخَلَ حَدِيْثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ -: (أَنَّهُ قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ; أَرْغَبَ بُطُوْنًا، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ - يَعْنِي رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ القُرَّاءَ - فَقَالَ لَهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ عَوْفٌ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَهُ فَوَجَدَ القُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ، فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ نَاقَتَهُ - فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوْضُ وَنَتَحَدَّثُ حَدِيْثَ الرَّكْبِ؛ نَقْطَعُ بِهِ عَنَاءَ الطَّرِيْقِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقًا بِنِسْعَةِ نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ الحِجَارَةَ تَنْكُبُ رِجْلَيْهِ -، وَهُوَ يَقُوْلُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوْضُ وَنَلْعَبُ، فَيَقُوْلُ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُوْنَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ} (التَّوْبَة:65)، مَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَمَا يَزِيْدُهُ عَلَيْهِ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: وَهِيَ العَظِيْمَةُ; أَنَّ مَنْ هَزَلَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا تَفْسِيْرُ الآيَةِ فِيْمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ. الثَّالِثَةُ: الفَرَقُ بَيْنَ النَّمِيْمَةِ وَبَيْنَ النَّصِيْحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُوْلِهِ. الرَّابِعَةُ: الفَرَقُ بَيْنَ العَفْوِ الَّذِيْ يُحِبُّهُ اللهُ وَبَيْنَ الغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ. الخَامِسَةُ: أَنَّ مِنَ الِاعْتِذَارِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ. ¬

_ (¬1) حَسَنٌ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (333/ 14) مِنْ طَرِيْقِ كُلٍّ مِنَ الرُّوَاةِ المَذْكُوْرِيْن. وَأَيْضًا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (1829/ 6)، وَحَسَّنَهُ الشَّيخُ مُقْبِلُ الوَادِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الصَّحِيْحُ المُسْنَدُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُوْلِ) (ص108).

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكتَابِ التَّوْحِيْدِ ظَاهِرَةٌ؛ وهيَ أَنَّ الهَزَلَ وَالاسْتِهْزَاءَ بِاللهِ أَوْ بِالرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِالقُرْآنِ مُنَافٍ لِأَصلِ التَّوْحِيْدِ وَكُفْرٌ مُخْرِجٌ مِنَ المِلَّةِ. - المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَذْكُرِ (الدِّيْنَ) فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ (اللهِ أَوِ القُرْآنِ أَوِ الرَّسُوْلِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الهَزْلَ بِالدِّيْنِ فِيْهِ تَفْصِيْلٌ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الهَزْلَ بِالدِّيْنِ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ تَدَيُّنُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الدِّيْنُ الَّذِيْ يَنْتَمِي إِلَيْهِ الشَّخْصُ المَذْمُوْمُ. - قَالَ تَعَالَى: {يَحْذَرُ المُنَافِقُوْنَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُوْرَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوْبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُوْنَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُوْلُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوْضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُوْنَ، لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِيْنَ، المُنَافِقُوْنَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُوْنَ بِالمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوْفِ وَيَقْبِضُوْنَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِيْنَ هُمُ الفَاسِقُوْنَ} (التَّوْبَة:67). (¬1) هَذِهِ السُّوَرةُ كَانَتْ تُسَمَّى عِنْدَ الصَّحَابَةِ بِـ (الفَاضِحَةُ)؛ لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ المُنَافِقِيْنَ وَعَلَامَاتِهِم وَأَقْوَالَهُم. - فِي البَابِ ضَرُوْرَةُ مُرَاقَبَةِ الإِنْسَانِ لِلِسَانَهُ، كَمَا فِي أَحَادَيْثَ مِنْهَا: 1) (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ - لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا - يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ - لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا - يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ). (¬2) 2) (وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوْهِهِمْ - أَو قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ). (¬3) - الاسْتِهْزَاءُ بِآيَاتِ اللهِ يَشْمَلُ الآيَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كَالقُرْآنِ، وَالآيَاتِ الكَونِيَّةَ كَتَقْدِيْرِ اللهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَ ... الَّتِيْ تَدُلُّ عَلَى صُنْعِ اللهِ تَعَالَى وَتَدْبِيْرِهِ وَحِكْمَتِهِ. - إِنَّ أَهْلَ التَّوْحِيْدِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُم اسْتِهْزَاءٌ أَصْلًا، وَلَو اسْتَهْزَءَوا لَعَلِمْنَا أَنَّهُم غَيْرُ مُعَظِّمِيْنَ للهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّ تَوْحِيْدَهُم ذَهَبَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الاسْتِهْزَاءَ يَطْرُدُ التَّعْظِيْمَ. (¬4) ¬

_ (¬1) قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُوْنَ} مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى مُخْرِجٌ الكُفْرَ الَّذِيْ تَكْتُمُوْنَهُ وَتُظْهِرُوْنَ خِلَافَهُ نِفَاقًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ فِي قُلُوْبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ} (مُحَمَّد:29). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6478)، وَمُسْلِمٌ (2988) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2616) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1122). (¬4) قُلْتُ: إِنَّ الاسْتِهْزَاءَ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّيْنِ - حَتَّى لَوْ كَانَ صَاحِبُهُ مَازِحًا لَاعِبًا غَيْرَ جَادٍ - هُوَ كُفْرٌ أَكْبَرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ؛ إِلَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ فَاهِمٍ وَلَا عَاقِلٍ لِمَا يَقُوْلُ، فَمِثْلُ هَذَا - الأَخِيْرِ - يُعَزَّرُ تَأْدِيْبًا وَرَدْعًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ.

- لَا يَقَعُ الكُفْرُ الأَكْبَرُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنَ الإِسَاءَةِ لِلشَّرِيْعَةِ إِنْ كَانَ غَيرَ قَاصِدٍ لِمَا يَقُوْلُ، وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ: 1) (قَالَ عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ (¬1)، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوْمُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ (¬2)؛ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ؛ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيْدٌ لِأَبِي؟! فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ). (¬3) 2) (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ - حِيْنَ يَتُوْبُ إِلَيْهِ - مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ - وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا - قَائِمَةً عِنْدَهُ - فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ -: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ). (¬4) (¬5) - قَوْلُهُ (وَالحِجَارَةُ تَنْكُبُ رِجلَيْهِ): أَيْ: يَمْشِي وَالحِجَارَةُ تَضْرُبُ رِجلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ يَمْشِي بِسُرْعَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يُحِسُّ فِي تِلْكَ الحَالِ; لِأَنَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يَعْتَذِرَ. ¬

_ (¬1) شَارِفَيَّ: تَثْنِيَةُ شَارِفٍ: وَهوَ المُسِنُّ مِنَ الإِبِلِ. (¬2) ثَمِلَ: أَيْ: قَد أَخَذَهُ الشَّرَابُ. (¬3) البُخَارِيُّ (45/ 7)، وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ مُعَلَّقٌ، وَعُنْوَانُ البَابِ: (بَابُ الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ وَالكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالمَجْنُوْنِ وَأَمْرِهِمَا وَالغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ). (¬4) صَحِيْحُ (2747) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. (¬5) قَالَ الحَافِظُ زَيْنُ الدِّيْنِ العِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (طَرْحُ التَّثْرِيْبِ) (20/ 2): (فَائِدَةٌ: مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى كَلِمَةِ الكُفْرِ: (الثَّالِثَةُ وَالأَرْبَعُوْنَ) فِيْهِ حُجَّةٌ عَلَى بَعْضِ المَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَدِيْنُوْنَ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى كَلِمَةِ الكُفْرِ - إذَا ادَّعَى ذَلِكَ - وَخَالَفَهُمُ الجُمْهُوْرُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِيْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ؛ ثُمَّ وَجَدَهَا فَقَالَ - مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ -: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّك. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ). وَاَلَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الحُكَّامِ الحُذَّاقِ مِنْهُمْ اعْتِبَارُ حَالِ الوَاقِعِ مِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعُرِفَ مِنْهُ وُقُوْعُهُ فِي المُخَالَفَاتِ وَقِلَّةِ المُبَالَاةِ بِأَمْرِ الدِّيْنِ؛ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى دَعْوَاهُ، وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلْتَةً وَعُرِفَ بِالصِّيَانَةِ وَالتَّحَفُّظِ قَبِلُوا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ تَوَسُّطٌ حَسَنٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ).

- الغَضَبُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ صَاحِبُهُ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي غِلَاقٍ) (¬1)، لَكِنَّ الغَضَبَ الَّذِيْ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ صَاحِبُهُ هُوَ الَّذِيْ يَغِيْبُ فِيْهِ وَعْيُهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا يَقُوْلُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الغَضَبُ قَلِيْلًا يَعِي مَعَهُ صَاحِبُهُ مَا يَقُوْلُ فَهَذَا يُؤَاخَذُ بِعَوَاقِبِهِ. (¬2) - مَنْ سَبَّ اللهَ تَعَالَى فإِنَّهُ تُقْبَلُ تَوبَتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالخَطَإِ، وَوَصَفَ اللهَ تَعَالَى بِمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ صِفَاتِ التَّعْظِيمِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ} (الزُّمَر:53). أَمَّا مَنْ سَبَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ تَوْبَةٌ أَيْضًا وَلَكِنْ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ بِخِلَافِ مَنْ سَبَّ اللهَ تَعَالَى؛ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ تَوبَتُهُ وَلَا يُقْتَلُ؛ لَا لِأَنَّ حَقَّ اللهِ تَعَالَى دُوْنَ حَقِّ الرَّسوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا بِعَفْوِهِ عَنْ حَقِّهِ إِذَا تَابَ العَبْدُ إِلَيهِ؛ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعًا، أَمَّا سَبُّ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ رَاجِعٌ لِحَقِّهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ وَفَاتِهِ نَحْنُ لَا نَعْلَمُ عَنْهُ أَنَّهُ عَفَا! لِذَلِكَ نُنَفِّذُ مَا نَرَاهُ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ، فَيُقْتَلُ السَّابُّ بَعْدَ تَوبَتِهِ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَإِذَا قُتِلَ؛ غَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَصَلَّينَا عَلَيْهِ وَدَفَنَّاهُ مَعَ المُسْلِمِيْنَ وَكَذَا لَو قَذَفَهُ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُجْلَدُ. (¬3) وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُ قَتْلَ بَعْضِ المُنَافِقِيْنَ الَّذِيْنَ ظَهَرَ كُفْرُهُم لِئَلَّا يَتَحَدَّثِ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ (¬4)، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَيَاتِهِ فَقَط. (¬5) وَيَشْهَدُ لِوُجُوْبِ قَتْلِ مَنْ سَبَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ - بَابُ الحُكْمِ فِيْمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ؛ قَالَ: أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ، فَقُلْتُ: أَقْتُلُهُ؟ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: (لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬6) ¬

_ (¬1) حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (2193) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7525). قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الغِلَاقُ أَظُنُّهُ فِي الغَضَبِ. (¬2) وَفِي فَتَاوَى (نُوْرٌ عَلَى الدَّرْبِ)، شَرِيْطُ رَقَم (374) للشَّيْخِ ابن عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ: (تَقُوْلُ السَّائِلَةُ مِنَ الجَزَائِرِ: يَا شَيْخُ، هَلْ سَبُّ الدِّيْنِ فِي حَالَةِ الغَضَبِ مِنَ الكُفْرِ؟ فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أَمَّا إِذَا كَانَ الغَضَبُ شَدِيْدًا بِحَيثُ لَا يَمْلِكُ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الدِّينِ - لِأَنَّهُ لَا يَعِي مَا يَقُوْلُ - وَأَمَّا إِذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَسَبُّ الدِّيْنِ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوْبَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ). (¬3) وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُوْلَهُ)، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3031)، وَمُسْلِمٌ (1801). (¬4) وَمِنْ نَفْسِ البَابِ تَرْكُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَتْلَ ذَلِكَ المُنَافِقِ الَّذِيْ قَالَ مَا قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوْكٍ كَمَا فِي حَدِيْثِ البَابِ. (¬5) قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَعَادِ) (56/ 5): (وَأَمَّا تَرْكُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ مَنْ قَدَحَ فِي عَدْلِهِ بِقَوْلِهِ (اعْدِلْ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ) وَفِي حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ (أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟) وَفِي قَصْدِهِ بِقَوْلِهِ (إنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ؛ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ) أَوْ فِي خَلْوَتِهِ بِقَوْلِهِ (يَقُوْلُوْنَ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الغَيِّ وَتَسْتَخْلِي بِه) وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَذَلِكَ أَنَّ الحَقَّ لَهُ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ؛ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَلَيْسَ لِأُمَّتِهِ تَرْكُ اسْتِيْفَاءِ حَقَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ حَيْثُ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُوْرًا بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ يَعْفُو عَنْ حَقَّهِ لِمَصْلَحَةِ التّأْلِيْفِ وَجَمْعِ الكَلِمَةِ، وَلِئَلَّا يُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهُ، وَلِئَلَّا يَتَحَدَّثُوا أَنَّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَكُلُّ هَذَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬6) صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (4071). صَحِيْحُ النَّسَائِيِّ (4071). وَفِيْهِ أَيْضًا عِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ أَعْمَى كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ - وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ - وَكَانَتْ تُكْثِرُ الوَقِيْعَةَ بِرَسُوْلِ اللهِ وَتَسُبُّهُ؛ فَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي؛ فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَذَكَرَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَوَقَعَتْ فِيهِ، قَالَ: فَلَمْ أَصْبِرْ أَنْ قُمْتُ إِلَى المِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهَا؛ فَأَصْبَحَتْ قَتِيْلًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ فَجَمَعَ النَّاسَ وَقَالَ: (أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا لِي عَلَيْهِ حَقٌّ فَعَلَ مَا فَعَلَ؛ إِلَّا قَامَ)، فَأَقْبَلَ الأَعْمَى يَتَدَلْدَلُ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَنَا صَاحِبُهَا! كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي وَكَانَتْ بِي لَطِيْفَةً رَفِيْقَةً، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الوَقِيْعَةَ فِيْكَ، وَتَشْتُمُكَ، فَأَنْهَاهَا؛ فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتِ البَارِحَةَ ذَكَرْتُكَ؛ فَوَقَعَتْ فِيْكَ، فَقُمْتُ إِلَى المِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا؛ فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ: (أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدْرٌ). صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (4070). صَحِيْحُ النَّسَائِيِّ (4070). وَ (المِغْوَلُ): بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ: سَيْفٌ قَصِيْرٌ يَشْتَمِلُ بِهِ الرَّجُلُ تَحتَ ثِيَابِهِ فَيُغَطِّيْهِ، وَقِيْلَ: حَدِيْدَةٌ لَهَا حَدٌّ مَاضٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: (مِعْوَلٌ) وَهِيَ آلَةٌ حَدِيْدِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ للحَفْرِ فِي الأَرْضِ أَوِ الجَبَلِ. وَ (دَمَهَا هَدْرٌ): الهَدْرُ: الَّذِيْ لَا يُضْمَنُ بِقِصَاصٍ وِلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. وَ (يَتَدَلْدَلُ): أَيْ: يَضْطَرِبُ فِي مَشْيِهِ.

- ذَكَرُوا فِي التَّفَاسِيْرِ: أَنَّهُم كَانُوا ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ، اثْنَانِ مِنْهُم يَسْتَهْزِؤنَ وَالثَّالِثُ كَانَ يَضْحَكُ وَلَا يَخُوْضُ، وَكَانَ يَمْشِي مُجَانِبًا لَهُم وَيُنْكِرُ بَعضَ مَا يَسْمَعُ - وَهوَ الَّذِيْ عُفيَ عَنْهُ - فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذهِ الآيةُ تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ. فَهَذَا الَّذِيْ حَضَرَ هُوَ مِثْلُ الَّذِيْ اسْتَهْزَأَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوْضُوا فِي حَدِيْثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِيْنَ وَالكَافِرِيْنَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيْعًا} (النِّسَاء:140). - إِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِيْ ذَكَرَهَا المُنَافِقُونَ؛ هُمْ أَوْلَى بِهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُؤْمِنِيْنَ؛ وَهِيَ (الكَذِبُ وَالجُبْنُ وَالشَّرَاهَةُ فِي الأَكْلِ). - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (الفَرْقُ بَينَ النَّمِيْمَةِ وَالنَّصِيْحَةِ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ): النَّمِيْمَةُ: هِيَ نَقْلُ الكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الوِشَايَةِ وَالإِفْسَادِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ ((أَتَدْرُوْنَ مَا العَضْهُ؟) قَالُوا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (نَقْلُ الحَدِيْثِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى بَعْضٍ؛ لِيُفْسِدُوا بَيْنَهُمْ)) (¬1)، وَأَمَّا النَّصِيْحَةُ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ; فَلَا يُقْصَدُ بِهَا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا احْتِرَامُ شَعَائِرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِقَامَةُ حُدُوْدِهِ، وَحِفْظُ شَريْعَتِهِ. - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (الفَرَقُ بَيْنَ العَفْوِ الَّذِيْ يُحِبُّهُ اللهُ وَبَيْنَ الغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ): الفَرْقُ هوَ أَنَّ العَفْوَ الَّذِيْ يُحِبُّهُ اللهُ هُوَ الَّذِيْ فِيْهِ إِصْلَاحٌ، لِأَنَّ اللهَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي العَفْوِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِيْنَ} (الشُّوْرَى:40) أَيْ: كَانَ عَفْوُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى الإِصْلَاحِ، أَمَّا مَنْ كَانَ عَفْوُهُ إفِسْاَدًا لَا إِصْلَاحًا؛ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِهَذَا العَفْوِ، فَإِنَّ هَذَا يَحُضُّ الظَّالِمَ عَلَى التَّمَادِي، وَإِنَّ أَعْدَاءِ اللهِ الَّذِيْنَ يُحَارِبُوْنَ دِيْنَهُ وَيُظْهِرُوْنَ العَدَاوَةَ؛ الأَصْلُ فِي مُعَامَلَتِهِم الشِّدَّةُ وَالغِلْظَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ} (الفَتْحِ:29)، فَلَا يَكُوْنُ الرِّفْقُ مَعَهُم إِلَّا فِي جَانِبِ الدَّعْوَةِ وَتَأْلِيْفِ القُلُوْبِ. فَالغِلْظُ وَالرِّفْقُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ رَاجِعٌ إِلَى مُنَاسَبَةِ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ هُوَ الرِّفْقُ بِلَا رَيْبٍ -. - فِي الحَديْثِ اسْتِعْمَالُ الغِلْظَةِ فِي مَحَلِّهَا، وَإِلَّا فَالأَصْلُ أَنَّ مَنْ جَاءَ يَعْتَذِرْ فَإِنَّهُ يُرْحَمُ، لَكِنْ هُنَا هَذَا الهَازِلُ لَيْسَ أَهْلًا للرَّحْمَةِ. - الاسْتِهْزَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذهِ الثَّلَاثَةِ المَذْكُوْرَةِ فِي الآيَةِ هوَ كُفْرٌ أَكْبَرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، أَمَّا الاسْتِهْزَاءُ بِالدِّيْنِ فَفِيْهِ تَفْصِيْلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَد يَكُوْنُ المَقْصُوْدُ بِالدِّيْنِ هُوَ الإِسْلَامَ نَفْسَهُ؛ وَهَذَا يَكُوْنُ كُفْرًا أَكْبَرًا، أَمَّا لَو كَانَ المَقْصُوْدُ هوَ تَدَيُّنَ الرَّجُلِ المَسْبُوْبِ - وَلَيسَ شَرِيْعَتَهُ - الَّتِيْ يَنْتَمِي إِلَيهَا أَصْلًا؛ فَهَذَا لَا يَكْفُرُ؛ وَإِنَّمَا يُزْجَرُ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ المُوْهِمِ. (¬2) - قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ) (¬3): (الكَبِيْرَةُ الأُوْلَى: الشِّرْكُ بِاللهِ: - في سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى مَا يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: .... أَوْ يَلْعَنُهُ أَوْ يَسُبُّهُ أَوْ يَسْتَخِفُّ أَوْ يَسْتَهْزِئُ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ؛ كَلَحْسِ الأَصَابِعِ، أَوْ يُلْحِقُ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِيْنِهِ أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ يُعَرِّضُ بذَلِكَ أَوْ يُشَبِّهُهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيْقِ الإِزْرَاءِ أَوِ التَّصْغِيْرِ لِشَأْنِهِ أَوِ الغَضِّ مِنْهُ. أَوْ تَشَبَّهَ بِالعُلَمَاءِ أَوِ الوُعَّاظِ أَوِ المُعَلِّمِيْنَ - عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ - حَتَّى يَضْحَكُوا، أَوْ يَلْعَبُوا اسْتِخْفَافًا، أَوْ قَالَ: قَصْعَةُ ثَرِيْدٍ خَيْرٌ مِنَ العِلْمِ - اسْتِخْفَافًا أَيْضًا -). (¬4) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (245) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (845). (¬2) وَفِي مَجْمُوْعِ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ آلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ (3899): (سُئِلَ الشَّيْخُ - مُفْتِي الدِّيَارِ السَّعَودِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ - عَنْ حُكْمِ سَبِّ دِيْنِ رَجُلٍ: مِنْ مُحَمِّدِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ إِلَى فَضِيْلَةِ الأَخِّ المُكَرَّمِ الشَّيْخِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ - رَئِيْسِ عَامِّ هَيْئَاتِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ فِي الحِجَازِ - السَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحَمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وبَعْدُ، فَقَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى المُعَامَلَةِ الوَارِدَةِ مِنْكُم بِرَقَم .... الخَاصَّةِ بِاعْتِرَافِ سَعْدِ بْنِ ... بِسَبِّ الدِّيْنِ, وَالمُثْبَتِ اعْتِرَافُهُ لَدَى فَضِيْلَةِ رَئِيْسِ المَحْكَمَةِ الكُبْرَى بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةَ, وَأَنَّه لَمْ يَثْبُتْ لَدَى فَضِيْلَتِهِ مَا يُوْجِبُ إِقَامَةَ حَدِّ الرِّدَّةِ بِقَتْلِ سَعْدٍ المَذْكُوْرِ, ... إِذْ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِسَبِّ الإِسْلَامِ, وَإِنَّمَا سَبِّ دِيْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ, وَهَذا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَدَيُّنَ الرَّجُلِ رَدِيٌّ, وَالحُدُوْدُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ, وَبِهَذَا تَكُوْنُ إِحَالَةُ المَذْكُوْرِ إِلَى القَاضِي المُسْتَعْجَلَةُ لِتَقْرِيْرِ التَّعْزِيْزِ اللَّازِمِ عَلَيْهِ وَجِيْهًا. أَمَّا سَجْنُهُ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِمَا مَضَى لَهُ فِي السِّجْنِ، وَاللهُ يَحْفَظُكُم). قُلْتُ: وحَدِيْثُ (ادْرَؤوا الحُدُوْدَ بِالشُّبُهَاتِ) ضَعِيْفٌ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّارِيْخِ (347/ 23)، وَهُوَ فِي الإِرْوَاءِ (2316). وَلَكِنْ - فِي الجُمْلَةِ - مَعْنَاهُ صَحِيْحٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي سُنَنِ البَيْهَقِيِّ الكُبْرَى (17064) مَوْقُوْفًا عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (ادْرَءُوا الجَلْدَ وَالقَتْلَ عَنِ المُسْلِمِيْنَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). حَسَنٌ. اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (2198)، وَلَفْظُهُ هُنَاكَ (الحَدَّ) بَدَلَ (الجَلْدَ) بِخِلَافِ الأَصْلِ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ وَالإِرْوَاءِ (2355). وَفِي فَتْوَى أُخْرَى أَيْضًا (رَقَم 3900) قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ إِلَى فَضِيْلَةِ مُسَاعِدِ قَاضِي مَحْكَمَةِ صَامِطَة - سَلَّمَهُ اللهُ - السَّلَامُ عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَبَعْدُ: فَقَد جَرَى اطِّلَاعُنَا عَلَى خِطَابِكُم رَقَم ... بِخُصُوْصِ مَسْأَلَةِ مُعَوَّضِ بْنِ .... وَمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ لَعْنِهِ دِيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ المَهْدِيّ، وَمَا قَرَّرْتُمُوْهُ فِي حَقِّهِ مِنْ جَلْدِهِ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ تَعْزِيْرًا، وَاسْتِتَابَتِهِ، ثُمَّ تَوْبَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَطَلَبِكُم مِنَّا الإِحَاطَةَ بِذَلِكَ، وَنُفِيْدُكُم أَنَّ سَبَّهُ دِيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ المَهْدِيِّ - وَالحَالُ أَنَّ مُحَمَّدَ المَهْدِيَّ مُسْلِمٌ - هُوَ سَبٌّ لِلدِّيْنِ الإِسْلَامِيِّ، وَسَبُّ الدِّيْنِ - كَمَا لَا يَخْفَى - عَلَيْكُم ارْتِدَادٌ - وَالعِيَاذُ بِاللهِ -. وَعَلَيْهِ فَيَلْزَمُكُم - عِلَاوَةً عَلَى مَا أَجْرَيتُم - إِحْضَارُ المَذْكُوْرَ، وَأَمْرُهُ بِالاغْتِسَالِ، ثُمَّ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتَجْدِيْدِهِ التَّوْبَةَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ بِشُرُوْطِهَا الثَّلَاثَةِ مِنَ الإِقْلَاعِ عَنْ مُوْجِبِ الإِثْمِ، وَالنَّدَمِ عَلَى صُدُوْرِهِ مِنْهُ، وَالعَزْمِ عَلَى عَدَمِ العَوْدَةِ إِلَيهِ. وَنَظَرًا لِمَا ذَكَرْتَهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ جَاهِلٌ بِمَدْلُوْلِ مَا صَدَرَ مِنْهُ؛ فَيُكْتَفَى بِمَا قَرَّرْتُمُوْهُ عَلَيْهِ تَعْزِيْرًا. وَفَّقَكُمُ اللهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُم. مُفْتِيْ الدِّيَارِ السَّعَوْدِيَّةِ). (¬3) (الزَّوَاجِرُ) (48/ 1). (¬4) وَفِي رَوضَةِ الطَّالِبِيْن (287/ 7) لِلنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَو حَضَرَ جَمَاعَةٌ، وَجَلَسَ أَحَدُهُم عَلَى مَكَانٍ رَفِيْعٍ - تَشَبُّهًا بِالمُذَكِّرِينَ - فَسَأَلوهُ المَسَائِلَ - وَهُمْ يَضْحَكُوْنَ - ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِالمِخْرَاقِ، أَو تَشَبَّهَ بِالمُعَلِّمِيْنَ، فَأَخَذَ خَشَبَةً، وَجَلَسَ القَوْمُ حَوْلَهُ كَالصِّبْيَانِ، وَضَحِكُوا وَاسْتَهْزَؤوا، وَقَالَ: قَصْعَةُ ثَرِيْدٍ خَيْرٌ مِنَ العِلْمِ؛ كَفَرَ. قُلْتُ (النَّوَوِيُّ): الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي مَسْأَلَتَيِّ التَّشَبُّهِ. واللهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُوْنَ المَقْصُوْدُ الاسْتِهْزَاءَ بِشَخْصِ المُدَرِّسِ نَفْسِهِ لَا بِمُعَلِّمِ الشَّرِيْعَةِ إِجْمَالًا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ فِعْلَهُ مُبَاحٌ، كَمَا هُوَ مَفْهُوْمٌ مِنْ قَوْلِهِ (لَا يَكْفُرْ)، وَقَدْ أَقَرَّ رَحِمَهُ اللهُ كَوْنَ ذَلِكَ مِنَ الكَبَائِرِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

الباب التاسع والأربعون) باب قول الله تعالى {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي} (فصلت:50).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُوْلَنَّ هَذَا لِي} (فُصِّلت:50). قَالَ مُجَاهِدٌ: (هَذَا بِعَمَلِي وَأَنَا مَحْقُوْقٌ بِهِ). (¬1) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يُرِيْدُ: مِنْ عِنْدِي). (¬2) وَقَوْلِهِ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القَصَص:78)، قَالَ قَتَادَةُ: (عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوْهِ المَكَاسِبِ). (¬3) وَقَالَ آخَرُوْنَ: (عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ)، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ (أُوْتِيْتُهُ عَلَى شَرَفٍ). (¬4) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللهُ أَنَّ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ؛ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ? قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ؛ وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِيْ قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ. قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ? قَالَ: الإِبِلُ أَوِ البَقَرُ - شَكَّ إِسْحَاقُ - (¬5) فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، وَقَالَ: بَارِكَ اللهُ لَكَ فِيْهَا. قَالَ: فَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ? قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِيْ قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ? قَالَ: البَقَرُ أَوِ الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: بَارِكَ اللهُ لَكَ فِيْهَا. فَأَتَى الأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ? قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي؛ فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ? قَالَ: الغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا. فَأُنْتَجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ البَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُوْرَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِيْنٌ وَابْنُ سَبِيْلٍ؛ قَدْ انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ (¬6) فِي سَفَرِي; فَلَا بَلَاغِ لِيَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِيْ أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ وَالجَلْدَ الحَسَنَ وَالمَالَ; بَعِيْرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الحُقُوْقُ كَثِيْرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ! أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيْرًا؛ فَأَعْطَاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ المَالَ? فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَقْرَعَ فِي صُوْرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا; فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ. قَالَ: وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُوْرَتِهِ؛ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِيْنٌ وَابْنُ سَبِيْلٍ، قَدْ انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي; فَلَا بَلَاغَ لِيَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِيْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؛ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى؛ فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ; فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ; فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ). أَخْرِجَاهُ. (¬7) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ الآيَةِ. الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى {لَيَقُوْلَنَّ هَذَا لِي}؟ الثَّالِثَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ {أُوْتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ} ? الرَّابِعَةُ: مَا فِي هَذِهِ القِصَّةِ العَجِيْبَةِ مِنَ العِبَرِ العَظِيْمَةِ. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (127/ 6) تَعْلِيْقًا، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (560/ 8): (وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيْقِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ). (¬2) تَفْسِيْرُ القُرطُبيِّ (373/ 15). (¬3) تَفْسِيْرُ القُرطُبيِّ (266/ 15). (¬4) الدُّرُّ المَنْثُورُ (234/ 7) لِلسُّيُوْطِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬5) هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ؛ تَابِعِيٌّ مِنَ الوُسْطَى؛ ثِقَةٌ حُجَّةٌ (ت 132 هـ). (¬6) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (502/ 6): (وَلِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ: الحِيَالُ بِالمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، جَمْعُ حِيْلَةٍ: أَيْ: لَمْ يَبْقَ لِي حِيْلَةٌ). (¬7) البُخَارِيُّ (3464)، وَمُسْلِمٌ (2964).

الشرح

الشَّرْحُ - قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الخَيْرِ وَإِنْ مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوْسٌ قَنُوْطٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُوْلَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيْظٍ} (فُصِّلَتْ:50). - وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوْسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوْءُ بِالعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِيْنَ، وَابْتَغِ فِيْمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِيْنَ، قَالَ إِنَّمَا أُوْتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُوْنِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوْبِهِمُ المُجْرِمُوْنَ} (القَصَص:78). - وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُوْنَ} (النَّحْل:53). - وَفِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوْتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ، قَدْ قَالَهَا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُوْنَ} (الزُّمَرْ:50). قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الإِنْسَانِ وَطَبِيْعَتِهِ؛ أَنَّهُ حِيْنَ يَمَسُّهُ ضُرٌّ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شِدَّةٍ أَوْ كَرْبٍ {دَعَانَا} مُلِحًّا فِي تَفْريْجِ مَا نَزَلَ بِهِ {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} فَكَشَفْنَا ضَرَّهُ وَأَزَلْنَا مَشَقَّتَهُ؛ عَادَ بِرَبِّهِ كَافِرًا، وَلِمَعْرُوْفِهِ مُنْكِرًا، وَ {قَالَ إِنَّمَا أُوْتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أَيْ: عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ، وَأَنِّي مُسْتَحِقٌّ لَهُ، لِأَنِّي كَرِيْمٌ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِطُرُقِ تَحْصِيْلِهِ، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} يَبْتَلِي اللهُ بِهَا عِبَادَهُ؛ لِيَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُهُ مِمَّنْ يَكْفُرُهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ} فَلِذَلِكَ يَعُدُّوْنَ الفِتْنَةَ مِنْحَةً، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِم الخَيْرُ المَحْضُ؛ بِمَا قَدْ يَكُوْنُ سَبَبًا لِلخَيْرِ أَوْ لِلشَّرِّ، {قَدْ قَالَهَا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: قَوْلَهُم {إِنَّمَا أُوْتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ} فَمَا زَالتْ مُتَوَارَثَةً عِنْدَ المُكَذِّبِيْنَ، لَا يُقِرُّونَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِم، وَلَا يَرَوْنَ لَهُ حَقًّا، فَلَم يَزَلْ دَأْبُهُم حَتَّى أُهْلِكُوا، وَلَم يُغْنِ {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُوْنَ} حِيْنَ جَاءَهُم العَذَابُ). - هَذَا البَابُ كَالأَبْوَابِ الَّتِيْ قَبْلَهُ فِي بَيَانِ وُجُوْبِ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى فِي الأَلْفَاظِ وَأَنَّ النِّعَمَ يَجِبُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُشْكَرَ عَلَيهَا فَتُعْزَى إِلَيهِ، وَيَقُوْلُ العَبْدُ: هَذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ، وَالكَذِبُ فِي هَذِهِ المَسَائِلِ أَو أَنْ يَتَكَلَّمَ المَرْءُ بِكَلَامٍ لَيسَ مُوَافِقًا للحَقِيْقَةِ أَو هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَد أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ فَهَذَا يُؤَدِّيْهِ إَلى المَهَالِكِ، وَقَد يَسْلُبُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ النِّعْمَةَ بِسَبَبِ لَفْظِهِ. - دَخَلَ فِي هَذَا البَابِ نَوعَانِ مِنَ النَّاسِ: 1) مَنْ يَنْسِبُ النِّعْمَةَ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَنْسِبُهَا إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْلًا، فَهَذَا مُسِيْءٌ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ غَافِلٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَولِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (يُرِيْدُ مِنْ عِنْدِي)، وَكَمَا فِي قَوْل قَتَادَةَ: (عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوْهِ المَكَاسِبِ). 2) مَنْ يَنْسِبُ النِّعْمَةَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الاسْتِحْقَاقِ, وَأَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ الشَّيءَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهَذَا مُسِيْءٌ مِنْ جَانِبِ العُبُوْدِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ: (هَذَا بِعَمَلِي، وَأَنَا مَحْقُوْقٌ بِهِ)، وقَولِهِ أَيْضًا (أُوْتِيْتُهُ عَلَى شَرَفٍ)، فَجَعَلَ تِلْكَ النِّعْمَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى اسْتِحْقَاقًا وَلَيسَ تَفَضُّلًا مِنْهُ سُبْحَانَه وَتَعَالَى. - قَوْلُهُ (أَبْرَصَ): البَرَصُ مَرَضٌ جِلْدِيٌّ مِنَ الأَمْرَاضِ المُسْتَعْصِيَةِ عَلَى البَشَر، لِذَلِكَ كَانَ الشِّفَاءُ مِنْهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ المَسِيْحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَسُوْلًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّيْنِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُوْنُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِي بُيُوْتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} (آل عِمْرَان:49). - قَوْلُهُ (يَبْتَليَهُم): أَيْ: يَخْتَبِرَهُم; كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوْكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً} (الأَنْبِيَاء:35)، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النَّمْل:40). - قَوْلُهُ (قَذَرَنِيَ): أَي اسْتَقْذَرَنِي وَكَرِهَ النَّاسُ مُخَالَطَتي مِنْ أَجْلِهِ. ¬

_ (¬1) (ص727).

- قَوْلُهُ (بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيْهَا): يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُبَارَكَةٌ مِنَ اللهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنْشَاءٌ فَهوَ يَدْعُو لَهُ. - قَوْلُهُ (فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ): لَمْ يَطْلُبْ بَصَرًا حَسَنًا كَمَا طَلَبَهُ صَاحِبَاهُ، وَإنَّمَا طَلَبَ بَصَرًا يُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ فَقَط، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَنَاعَتِهِ بِالكِفَايَةِ. وَطَلَبُهُ لِلغَنَمِ دَلِيْلٌ عَلَى سَكِيْنَتِهِ، لِأَنَّ (السَّكِيْنَةَ فِي أَهْلِ الغَنَمِ). (¬1) - قَوْلُهُ (في صُوْرَتِهِ وَهَيْئَتِهِ): الصُّوْرَةُ فِي الجِسْمِ، وَالهَيْئَةُ فِي الشَّكْلِ وَاللِّبَاسِ. - قَوْلُهُ (فَأُعُطْيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ): العُشَرَاءُ هِيَ: الحَامِلُ الَّتِيْ تَمَّ لَهَا ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَهِيَ أَنْفَسُ الأَمْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ} (التَّكْوِيْر:4). (¬2) - قَوْلُهُ (فَأُنْتَجَ): مَعْنَاهُ: تَوَلَّى الوِلَادَةَ. - قَوْلُهُ (ابْنُ سَبِيْلٍ): أَيْ: مُسَافِرٌ؛ وَقَد نَفِدَ مَا مَعَهُ مِنَ الزَّادِ، وَقَد جَعَلَ اللهُ لَهُ حَقًّا فِي الزَّكَاةِ؛ وَلَو كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. وسُمِّيَ ابْنَ سَبِيْلٍ لِكَونِهِ مُلَازِمًا لِلسَّبِيْلِ وَهوَ الطَّرِيْقُ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ ابْنُ سُوْقٍ، وَابْنُ مَصْلَحَةٍ. - قَوْلُهُ (أَسْأَلُكَ بِالَّذِيْ أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ وَالجَلْدَ الحَسَنَ وَالمَالَ): فِيْهِ التَّذْكِيْرُ بِالنِّعْمَةِ وَالمُنْعِمِ؛ لِيَكُوْنَ أَحْرَى إِلَى الإِجَابَةِ وَلِدَفْعِ الغَفْلَةِ. - قَوْلُهُ (الحُقُوْقُ كَثِيْرَةٌ): أَيْ: هَذَا المَالُ الَّذِيْ عِنْدِي مُتَعَلِّقٌ بِهِ حُقُوْقٌ كَثِيْرَةٌ؛ لَيْسَ حَقَّكَ أَنْتَ فَقَط. - قَوْلُهُ (لَا أَجْهَدُكَ): الجَهْدُ: المَشَقَّةُ، والمَعْنَى: لَا أَشُقُّ عَلَيكُم بِمَنْعٍ وَلَا مِنَّةٍ. - الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ قَدِ انْتَشَرَ وَذَلِكَ لِابْتِدَاءِ قَوْلِ المَلَكِ (أَسْأَلُكَ بِالَّذِيْ أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ وَالجَلْدَ الحَسَنَ وَالمَالَ)، وَلِقَوْلِهِ (كَأَنِّي أَعْرِفُكَ) وَلِقَوْلِهِ فِيْمَا بَعْدُ (فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ). ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3301)، وَمُسْلِمٌ (52) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (133/ 1): (السَّكِيْنَةُ؛ أَيْ: الوَقَارُ أَوِ الرَّحْمَةُ أَوِ الطُّمَأْنِيْنَةُ، مَأْخُوْذٌ مِنْ سُكُوْنِ القَلْبِ). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص912): (أَيْ: عَطَّلَ النَّاسُ حِينَئِذٍ نَفَائِسَ أَمْوَالِهِم الَّتِيْ كَانُوا يَهْتَمُّوْنَ لَهَا وَيُرَاعُوْنَهَا فِي جَمِيْعِ الأَوْقَاتِ؛ فَجَاءَهُم مَا يُذْهِلُهُم عَنْهَا، فَنَبَّهَ بِالعِشَارِ - وَهيَ النُّوْقُ الَّتِيْ تَتْبَعُهَا أَوْلَادُهَا - وَهيَ أَنْفَسُ أَمْوَالِ العَرَبِ إِذْ ذَاكَ).

- فِي الحَدِيْثِ عِدَّةُ فَوَائِدَ؛ مِنْهَا: إِثْبَاتُ صِفَةِ الإِرَادَةِ للهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنْوَاعِهَا فِي بَابِ (قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيْرُ} (سَبَأ:23)). وَأَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَلْزَمُهُ الرِّضَى بِقَضَاءِ اللهِ - أَيْ: بِالمَقْضِيِّ -; لِأَنَّ هَؤلَاءِ الَّذِيْنَ أُصِيْبُوا قَالُوا: أَحَبُّ إِلَيْنَا كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا. وَأَيْضًا جَوَازُ التَّمْثِيْلِ لِلمَصْلَحَةِ، وهوَ أَنْ يَتَمَثَّلَ الإِنْسَانُ بِحَالٍ لَيْسَ هُوَ عَلَيْهَا فِي الحَقيْقَةِ، مِثْلَ أَنْ يَأتيَ بِصُوْرَةِ مِسْكِيْنٍ - وَهو غَنِيٌّ - وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إِذا كَانَتْ فِيْهِ مَصْلَحَةٌ؛ وَأَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ إِنْسَانًا بِمِثْلِ هَذَا مَثَلًا; فَلَهُ ذَلِكَ. (¬1) - الحَدِيْثُ بَوَّبَ عَلَيْهِ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحِ: (بَابُ لَا يَقُوْلُ مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، وَهَلْ يَقُوْلُ أَنَا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ) (¬2)، وَالحَدِيْثُ دلَّ عَلَى الجَوَازِ. (¬3) ¬

_ (¬1) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (295/ 2). (¬2) البُخَارِيُّ (133/ 8). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (540/ 11): (وَقَالَ المُهَلَّبُ: إِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ (مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ) جَائِزٌ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا المَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا جَازَ بِدُخُوْلِ ثُمَّ لِأَنَّ مَشِيْئَةَ اللهِ سَابِقَةٌ عَلَى مَشِيْئَةِ خَلْقِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ عَلَى شَرْطِهِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ الَّذِيْ عَلَى شَرْطِهِ مَا يُوَافِقُهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُوْلَ (مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ) وَكَانَ يَكْرَهُ (أَعُوْذُ بِاللَّهِ وَبِكَ) وَيُجِيْزُ (أَعُوْذُ بِاللَّهِ ثمَّ بِكَ) وَهُوَ مُطَابِقٌ لحَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَشَرْتُ إِلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: مُنَاسَبَةُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ الأَيْمَانِ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الحَلِفِ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْتُ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُتَخَيَّلُ جَوَازُ اليَمِيْنِ بِاللَّهِ ثُمَّ بِغَيْرِهِ عَلَى وِزَانِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ (أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ) فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ ثَبَتَ عَنِ التَّشْرِيْكِ، وَوَرَدَ بِصُوْرَةِ التَّرْتِيبِ عَلَى لِسَانِ المَلَكِ، وَذَلِكَ فِيْمَا عَدَا الأَيْمَانَ، أَمَّا اليَمِيْنُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا صَرِيْحًا فَلَا يُلْحَقُ بِهَا مَا وَرَدَ فِي غَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

باب قول الله تعالى {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} (الأعراف:190).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيْمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (الأَعْرَاف:190). قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: (اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيْمِ كُلِّ اسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اللهِ; كَعَبْدِ عَمْرِوٍ وَعَبْدِ الكَعْبَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - حَاشَا عَبْدِ المُطَّلِبِ -). (¬1) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: (لَمَّا تَغَشَّاهَا آدَمُ; حَمَلَتْ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيْسُ، فَقَالَ: إِنِّي صَاحِبُكُمَا الَّذِيْ أَخْرَجَكُمَا مِنَ الجَنَّةِ، لَتُطِيْعَاني أَوْ لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَيْ إِيِّلٍ، فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكَ فَيَشُقُّهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ - يُخَوِّفُهُمَا - سَمِّيَاهُ عَبْدَ الحَارِثِ. فَأَبَيَا أَنْ يُطِيْعَاهُ؛ فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا، فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الوَلَدِ، فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الحَارِثِ; فَذَلِكَ قَوْلُهُ {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيْمَا آَتَاهُمَا}). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. (¬2) وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ قَتَادَةَ؛ قَالَ: شُرَكَاءَ فِي طَاعَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عِبَادَتِهِ. (¬3) وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا} قَالَ: أَشْفَقَا أَلَّا يَكُوْنَ إِنْسَانًا (¬4)، وَذَكَرَ مَعْنَاهُ عَنْ الحَسَنِ (¬5) وَسَعِيْدٍ (¬6) وَغَيْرِهِمَا. (¬7) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَحْرِيْمُ كُلِّ اسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اللهِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيْرُ الآَيَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ فِي مُجَرَّدِ تَسْمِيَةٍ لَمْ تُقْصَدْ حَقِيْقَتُهَا. الرَّابِعَةُ: أَنَّ هِبَةَ اللهِ لِلرَّجُلِ البِنْتَ السَّوِيَّةَ مِنَ النِّعَمِ. الخَامِسَةُ: ذَكَرَ السَّلَفُ الفَرْقَ بَيْنَ الشِّرْكِ فِي الطَّاعَةِ وَالشِّرْكِ فِي العِبَادَةِ. ¬

_ (¬1) مَرَاتِبُ الإِجْمَاعِ (ص154) لابْنِ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) تَفْسِيْرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8654). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (528/ 3) - فِي هَذَا الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (وَكَأَنَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَصْلُهُ مَأْخُوْذٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - كَمَا رَوَاهُ ابْن أَبِي حَاتِمٍ -: حَدَّثَنَا أَبِي؛ حَدَّثَنَا أَبُو الجُمَاهِرِ؛ حَدَّثَنَا سَعِيْدٌ - يَعْنِي: ابْنَ بَشِيْرٍ - عَنْ عُقْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: (لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيْعِيْنَنِي؛ وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ؟ سَمِّيْهِ عَبْدَ الحَارِثِ! فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَلَدَتْ؛ فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ، فَقَالَ لَهَا مِثْل ذَلِكَ، فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَجَاءَهَا فَقَالَ: إِنْ تُطِيْعِيْنِي يَسْلَمُ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُوْنُ بَهِيْمَةً، فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا). وَهَذِهِ الآثَارُ يَظْهَر عَلَيْهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْل الكِتَاب، وَقَدْ صَحَّ الحَدِيْثُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْل الكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوْهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوْهُمْ). ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيْلُ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُوْلِهِ، وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَسْكُوْتٌ عَنْهُ، فَهُوَ المَأْذُوْنُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ وَلَا حَرَجَ) وَهُوَ الَّذِيْ لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَوْلِهِ (فَلَا تُصَدِّقُوْهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوْهُمْ). وَهَذَا الأَثَرُ هُوَ القِسْمُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثُ؟ فِيْهِ نَظَرٌ! فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ؛ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ القِسْم الثَّالِثِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ الله فِي هَذَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ المُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا المُرَادُ مِنْ ذَلِكَ المُشْرِكُوْنَ مِنْ ذُرِّيَّتهِ، وَلِهَذَا قَالَ الله: {فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} ثُمَّ قَالَ فَذَكَرَ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَوَّلًا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الوَالِدَيْنِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْر الشَّخْص إِلَى الجِنْس كَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيْحَ} الآيَةَ، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ المَصَابِيْحَ - وَهِيَ النُّجُوْمُ الَّتِيْ زُيِّنَتْ بِهَا السَّمَاءُ - لَيْسَتْ هِيَ الَّتِيْ يُرْمَى بِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَخْصِ المَصَابِيْحِ إِلَى جِنْسِهَا، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي القُرْآنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَأَيْضًا هَذَا الأَثَرُ جَاءَ مِنْ طَريْقٍ عَنِ الحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوْعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (3077)، وَقَالَ فِيْهِ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا (526/ 3): (وَالغَرَضُ: أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ مَعْلُوْلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ) - وَذَكَرَهَا رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ -، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (342). وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الفِصَلُ فِي المِلَلِ والأَهْوَاءِ والنِّحَلِ) (4/ 4): (وَهَذَا الَّذِيْ نَسَبُوْهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ أَنَّهُ سَمَّى ابْنَهُ عَبْدَ الحَارِثِ - خُرَافَةٌ مَوْضُوْعَةٌ مَكْذُوبَةٌ مِنْ تَأْلِيْفِ مَنْ لَا دِيْنَ لَهُ وَلَا حَيَاءَ، لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا قَطُّ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي المُشْرِكِيْنَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي آدَمَ - وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَصْلًا - لَمَا كَانَتْ فِيْهِ لِلمُخَالِفِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُ كَأَنْ يَكُوْنَ الشِّرْكُ أَو الشُّرَكَاءُ المَذْكُوْروْنَ فِي الآيَةِ حِينَئِذٍ عَلَى غَيْرِ الشِّرْكِ الَّذِيْ هُوَ الكُفْرُ؛ لَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا جَعَلَا معَ تَوَكُّلِهِمَا شِرْكَةً مِنْ حِفْظِهِ). (¬3) تَفْسِيْرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8659)، وَتَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (312/ 13). (¬4) تَفْسِيْرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8648). (¬5) تَفْسِيْرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8650). (¬6) تَفْسِيْرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8651). (¬7) قُلْتُ: وَلَكِنْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (526/ 3): ((قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ؛ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ؛ عَنْ عَمْرٍو؛ عَنِ الحَسَنِ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيْمَا آتَاهُمَا} قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ المِلَلِ، وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى؛ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ؛ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الحَسَنُ: عَنَى بِهَا ذَرِّيَّةَ آدَمَ - وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدَهُ - يَعْنِي قَوْلَهُ {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيْمَا آتَاهُمَا}. وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ؛ حَدَّثَنَا يَزِيْدُ؛ حَدَّثَنَا سَعِيْدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الحَسَنُ يَقُوْلُ: هُمُ اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى؛ رَزَقَهُمُ اللهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا). وَهَذِهِ أَسَانِيْدُ صَحِيْحَةٌ عَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللهُ؛ أَنَّهُ فَسَّرَ الآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيْرِ وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ - وَلَوْ كَانَ هَذَا الحَدِيْثُ عِنْدَهُ مَحْفُوْظًا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعُهُ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوْفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الكِتَابِ - مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ - مِثْلِ: كَعْبٍ أَوْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمَا - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - إِلَّا أَنَّنَا بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ المَرْفُوْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ مُشَابِهٌ لِلأَبْوَابِ السَّابِقَةِ فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ، لِأَنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ نِسْبَتُهَا لِلمُنْعِمِ. - قَالَ اللهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيْفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الشَّاكِرِيْنَ، فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيْمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ، أَيُشْرِكُوْنَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ} (الأَعْرَاف:191). قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (أَيْ: {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ} أَيُّهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ المُنْتَشِرُوْنَ فِي الأَرْضِ عَلَى كَثْرَتِكُم وَتَفَرُّقِكُم {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَهوَ آدمُ أَبُو البَشَرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أَيْ: خَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ لِأَجْلِ أَنْ يَسْكُنَ إِلَيهَا، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مِنْهُ حَصَلَ بَينَهُمَا مِنَ المُنَاسَبَةِ وَالمُوَافَقَةِ مَا يَقْتَضِي سُكُوْنَ أَحَدِهِمَا إِلَى الآخَرِ، فَانْقَادَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ بِزِمَامِ الشَّهْوَةِ {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} (¬2) أَيْ: تَجَلَّلَهَا مُجَامِعًا لَهَا قَدَّرَ البَارِيُ أَنْ يُوْجَدَ مِنْ تِلْكَ الشَّهْوَةِ وَذَلكَ الجِمَاعِ النَّسْلَ، وَحِيْنَئِذٍ {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيْفًا} وَذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الحَمْلِ، لَا تَحُسُّ بِهِ الأُنْثَى، وَلَا يُثْقِلُهَا {فَلَمَّا} اسْتَمَرَّتْ بِهِ وَ {أَثْقَلَتْ} بِهِ حِيْنَ كَبُرَ فِي بَطْنِهَا، فَحِيْنَئِذٍ صَارَ فِي قُلُوْبِهِمَا الشَّفَقَةُ عَلَى الوَلَدِ وَعَلَى خُرُوْجِهِ حَيًّا صَحِيْحًا سَالِمًا لَا آفَةَ فِيْهِ، فَدَعَوا {اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا} (¬3) وَلَدًا {صَالِحًا} أَيْ: صَالِحَ الخِلْقَةِ تَامَّهَا (¬4) - لَا نَقْصَ فِيْهِ - {لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الشَّاكِرِيْنَ}، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} عَلَى وُفْقِ مَا طَلَبَا، وَتَمَّتْ عَلَيْهِمَا النِّعْمَةُ فِيْهِ {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيْمَا آتَاهُمَا} أَيْ: جَعَلَا للهِ شُرَكَاءَ فِي ذَلِكَ الوَلَدِ الَّذِيْ انْفَرَدَ اللهُ بِإِيْجَادِهِ وَالنِّعْمَةِ بِهِ، وَأَقرَّ بِهِ أَعْيُنَ وَالِدَيْهِ، فَعَبَّدَاه لِغَيْرِ اللهِ (¬5)؛ إِمَّا أَنْ يُسَمِّيَاهُ بِعَبْدِ غَيْرِ اللهِ كَـ (عَبْدِ الحَارِثِ) وَ (عَبْدِ العُزَيْرِ) وَ (عَبْدِ الكَعْبَةِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُشْرِكَا بِاللهِ فِي العِبَادَةِ (¬6) بَعْدَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمَا بِمَا مَنَّ مِنَ النِّعَمِ الَّتِيْ لَا يُحْصِيهَا أَحَدٌ مِنَ العِبَادِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ النَّوعِ إِلَى الجِنْسِ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الكَلَامِ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الكَلَامِ فِي الجِنْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَوْجُوْدٌ فِي الذُّرِّيَّةِ كَثِيْرًا، فَلِذَلِكَ قَرَّرَهُمُ اللهُ عَلى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُم فِي ذَلِكَ ظَالِمُوْنَ أَشَدَّ الظُلْمِ؛ سَوَاءً كَانَ الشِّرْكِ فِي الأَقْوَالِ أَمْ فِي الأَفْعَالِ، فَإِنَّ الخَالِقَ لَهُم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ؛ الَّذِيْ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَجَعَلَ لَهُم مِنْ أَنْفُسِهِم أَزْوَاجًا، ثُمَّ جَعَلَ بَينَهُم مِنَ المَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَسْكُنُ بَعْضُهُم إِلَى بَعْضٍ وَيَأْلَفُهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ؛ ثُمَّ هَدَاهُم إِلَى مَا بِهِ تَحْصُلُ الشَّهْوَةُ وَاللَّذَّةُ وَالأَوْلَادُ وَالنَّسْلُ، ثُمَّ أَوْجَدَ الذُّرِّيَّةَ فِي بُطُوْنِ الأُمَّهَاتِ وَقْتًا مَوْقُوْتًا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ نُفُوْسُهُم، وَيَدْعُوْنَ اللهَ أَنْ يُخْرِجَهُ سَوِيًّا صَحِيْحًا؛ فَأَتَمَّ اللهُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ وَأَنَالَهُم مَطْلُوْبَهُم. أَفَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَعْبُدُوْهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ فِي عِبَادَتِهِ أَحَدًا، وَيُخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ؟! وَلَكِنَّ الأَمْرَ جَاءَ عَلَى العَكْسِ، فَأَشْرَكُوا باللهِ مَنْ لَا {يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ} {وَلا يَسْتَطِيْعُوْنَ لَهُمْ} أَيْ: لِعَابِدِيْهَا {نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُوْنَ}). ¬

_ (¬1) (ص311). (¬2) فِيْهِ الإِرْشَادُ إِلَى الأَدَبِ فِي عَدَمِ ذِكْرِ (الجِمَاعِ) بِصَرِيْحِ اسْمِهِ، وَلِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيْمَةَ تَكْرَهُ أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الشَّيْءَ بِاسْمِهِ إِلَّا إِذَا دَعَتِ الحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَد يُصَرِّحُ بِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ - وَقَد أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا -: (أَنِكْتَهَا) - لَا يُكَنِّي -؛ لِأَنَّ الحَاجَةَ هُنَا دَاعِيَةٌ لِلتَّصْرِيْحِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الأَمْرُ جَلِيًّا. وَالحَدِيْثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6824) عَنْ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) قُلْتُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهَ رَبَّهُمَا} بَيَانُ عِلَّةِ قُبْحِ الشِّرْكِ؛ أَنَّهُ إِشْرَاكٌ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ مَعَ مَنْ يَمْلِكُ، وَلِمَنْ بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ مَعَ مَنْ لَا يَمْلِكُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، فَسُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ. (¬4) وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُوْنَ المَقْصُوْدُ أَيْضًا مَعَهُ صَلَاحٌ دِيْنِيٌّ، ولَكِنَّ الأَوَّلَ أَوْلَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيْمَا آَتَاهُمَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الوِلَادَةِ مُبَاشَرَةً؛ وَلَيْسَ بَعْدَ النُّضْجِ. (¬5) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَحْقِيْقِ كِتَابِ (الإِيْمَانِ) (ص87) لِابْنِ سَلَّام رَحِمَهُ اللهُ: (وَالضَّمِيْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {جَعَلَا} إِنَّمَا يَعُوْدَ إِلَى اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى, بِذَلِكَ فَسَّرَهُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيْرٍ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْهُ, وَهُوَ أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الآيةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنْ كَثيرٍ فِي تَفْسِيْرِهِ). (¬6) وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُوْنَنَّ مِنَ الصَّالِحِيْنَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُوْنَ} (التَّوْبَة:76).

- ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيْدِ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ: عَالِمُ الأَنْدَلُسِ فِي عَصْرِهِ، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الإسلَامِ، كَان فِي الأَنْدَلُسِ خَلْقٌ كَثِيْرٌ يَنْتَسِبُوْنَ إِلَى مَذْهَبِهِ، يُقَالُ لَهُم: (الحَزْمِيَّةُ)، وُلِدَ بِقُرْطُبَةَ، وَكَانَ يُقَالُ: لِسَانُ ابْنِ حَزْمٍ وَسَيْفُ الحَجَّاجِ شَقِيْقَانِ، (ت 456). (¬1) - عبْدُ المُطَّلِبِ؛ اسْمُهُ: شَيْبَةُ الحَمْدِ، وَسُمِّيَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَعَ عَمِّهِ المُطَّلِبِ - وَقَد اسْوَدَّتْ بَشَرَتُهُ مِنَ السَّفَرِ - ظَنَّهُ النَّاسُ عَبْدًا لَهُ؛ فَنَسَبُوْهُ إِلَيْهِ. - قَوْلُهُ (إِبْلِيْسَ): عَلَى وَزْنِ (إِفْعِيْل)، مِنْ أَبْلَسَ: إِذَا يَئِسَ; لِأَنَّهُ يَئِسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى. - الأَيِّلُ: الذَّكَرُ مِنَ الأوْعَالِ، والجَمِيْعُ الأَيَايِلُ، وَسُمِّيَ بِذَاكَ لأَنَّهُ يَؤُوْلُ إِلَى الجِبَالِ يَتَحَصَّنُ بِهَا. - قَوْلُهُ (شُرَكَاءَ فِي طَاعَتِهِ): أَيْ: أَطَاعَاهُ فِيْمَا أَمَرَهُمَا بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّسْمِيَةِ لَا مِنْ جِهَةِ العِبَادَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّدَا الوَلَدَ لِغَيْرِ اللهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ، هَذَا عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ القِصَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ - فِي الحَاشِيَةِ - بَيَانُ أَنَّهَا فِي حَقِّ أَهْلِ الكِتَابِ دُوْنَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ عُمُوْمِ اللَّفْظِ فَإِنَّ هَذَا التَّشْرِيْكَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ شِرْكٌ مِنْ جِهَةِ التَّعَلُّقِ بِالأَسبَابِ وَعَدَمِ نِسْبَةِ النِّعْمَةِ إِلَى المُنْعِمِ سُبْحَانَه وَتَعَالى، حَيْثُ يُضِيْفُ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ سَلَامَةَ المَوْلُوْدِ وَوِقَايَتَهُ إِلَى الأَطِبَّاءِ وَإِرْشَادَاتِهِم، وَإِلى القَوَابِلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. - قَوْلُهُ (أَشْفَقَا أَنْ لَا يَكُوْنَ إِنْسَانًا): أَيْ: خَافَا أَنْ يَكُوْنَ حَيَوَانًا أَوْ جِنِّيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ (أَنَّ هِبَةَ اللهِ لِلرَّجُلِ البِنْتَ السَّوِيَّةَ مِنَ النِّعَمِ) مَأْخُوْذٌ مِنْ أَنَّ النِّعْمَةَ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ تَمَّتْ بِحُصُوْلِ المَوْلُوْدِ الصَّالِحِ التَّامِّ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ جِنْسِهِ. - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ الخَامِسَةِ (ذِكْرُ السَّلَفِ الفَرْقَ بَيْنَ الشِّرْكِ فِي الطَّاعَةِ وَالشِّرْكِ فِي العِبَادَةِ): وَذَلِكَ أَنَّ طَاعَةَ اللهِ نَفْسَهَا هِيَ عِبَادَةٌ لَهُ تَعَالَى، بِخِلَافِ طَاعَةِ غَيْرِهِ؛ فَلَا تَكُوْنُ عِبَادَةً لَهُ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَكُوْنُ عِبَادَةً إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالخُضُوْعِ وَالتَّعْظِيْمِ وَالحُبِّ وَالرَّجَاءِ وَالخَوْفِ. فَطَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا هِيَ عِبَادَةٌ للهِ تَعَالَى، وَلَيْسَتْ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ طَاعَةُ أَهْلِ المَعَاصِي لِأَرْبَابِهِم مِنَ الفُسَّاقِ لَيْسَتْ عِبَادَةً لَهُم، فَهُوَ فَرْقٌ بَيْنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَبَيْنَ سَائِرِ المَعَاصِي، لِذَلِكَ حَسُنَ التَّفْرِيْقُ مِنَ السَّلَفِ بَينَهُمَا دَرْءًا لِلْخَلْطِ بَينَهُمَا. - قَوْلُهُ {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}؛ فِيْهَا قَوْلَانِ: 1) أَنَّ المُرَادَ بِالنَّفْسِ الوَاحِدَةِ: العَيْنُ الوَاحِدَةُ; أَيْ: مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنِ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. 2) أَنَّ المُرَادَ بِالنَّفْسِ: الجِنْسُ، وَجَعَلَ مِنْ هَذَا الجِنْسِ زَوْجَهُ؛ وَلَمْ يَجْعَلْ زَوْجَهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ. (¬2) ¬

_ (¬1) قَالَهُ الزِّرِكْلِيُّ فِي الأَعْلَامِ (245/ 2). (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ إِذْ بَعَثَ فِيْهِمْ رَسُوْلًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (آل عِمْرَان:164) ; أَيْ: مِنْ جِنْسِهِم.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) مَا وَجْهُ التَّوْفِيْقِ بَيْنَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ العِلْمِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِاسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحِ مِنْ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ؛ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ) (¬1)، وَمِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيْثِ (تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ) (¬2)؟ وَالجَوَابُ: 1) قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ عَنْ نَفْسِهِ (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ؛ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ)، هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ إِنْشَاءِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الإِخْبَارِ بِالاسْمِ الَّذِيْ عُرِفَ بِهِ المُسَمَّى دُوْنَ غَيْرِهِ، وَالإِخْبَارُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ تَعْرِيْفِ المُسَمَّى لَا يَحْرُمُ، فقد كَانَ الصَّحَابَةُ يُنَادُوْنَ بَني عَبْدِ شَمْسٍ وَبَني عَبْدِ الدَّارِ بِأَسْمَائِهِم وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ، لِذَلِكَ نَقُوْلُ: بَابُ الإِخْبَارِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الإِنْشَاءِ. (¬3) 2) أَنَّ النِّسْبَةَ فِي قَولِهِ (أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ) لَيْسَتْ نِسْبَةَ عُبُودِيَّةٍ وَتَشْرِيْكٍ بِاللهِ الخَالِقِ العَظِيْمِ؛ وَإِنَّمَا نِسْبَةَ رِقٍّ وَتَبَعِيَّةٍ. (¬4) 3) أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ (تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ) لَيسَ مِنْ بَابِ التَّسْمِيَةِ، وَلَكِنْ مِنْ بَابِ الوَصْفِ بِمَا يُذَمُّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَمَعْنَى العُبُوْدِيَّةِ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ المَوْصُوْفَ قَد جَعَلَ الأَجْرَ الدُّنْيَوِيَّ مُبْتَغَاهُ دُوْنَ الأَجْرِ الأُخْرَوِيِّ. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2864) عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2887) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) وَفِي الحَدِيْثِ (قَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ} قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا - وَقَدْ سَبَقَ -، فَفِي هَذَا الحَدِيْثِ نِدَاءُهُ إِيَّاهُم بِـ (بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ). (¬4) قَالَ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص501): (وَأَمَّا تَسْمِيَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ! فَالمُحَقِّقُوْنَ مِنَ الرُّوَاةِ يَقُوْلُوْنُ: إِنَّ مِنْ سُمِّيَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ؛ فَالصَّحِيْحُ أَنَّ اسْمَهُ المُطَّلِبُ - بِدُوْنِ التَّعْبِيْدِ -، وَلَكِنْ نُقِلَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ؛ لِأَنَّهُ شَاعَتِ التَّسْمِيَةُ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ دُوْنَ المُطَّلِبِ، فَوَقَعَ خَطَأٌ فِي ذَلِكَ).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا أَوْجُهِ الرَّدِّ عَلَى هَذهِ القِصَّةِ - الَّتِيْ فِي هَذَا البَابِ -؛ بِاخْتِصَارٍ؟ (¬1) 1) عَدَمُ صِحَّتِهَا مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ، وَتُخَالِفُ مَا ثَبَتَ بِالأَسَانِيْدِ عَنِ الحَسَنِ وَغَيْرِهِ. (¬2) 2) أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُوْمُوْنَ عَنِ الشِّرْكِ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ. (¬3) 3) أَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيْثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ النَّاسَ يَأْتُوْنَ إِلَى آدَمَ يَطْلُبُوْنَ مِنْهَ الشَّفَاعَةَ؛ فَيَعْتَذِرُ بِأَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ - وَهِيَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَتْ بِشِرْكٍ - وَلَو وَقَعَ مِنْهُ الشِّرْكُ لَكَانَ اعْتِذَارُهُ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى. 4) أَنَّ الشَّيْطَانَ - فِي هَذِهِ القِصَّةِ - جَاءَ إِلَيْهِمَا وَقَالَ: (أَنَا صَاحِبُكُمَا الَّذِيْ أَخْرَجْتُكُمَا مِنَ الجَنَّةِ) وَهَذا لَا يَقُوْلُه مَنْ يُرِيْدُ الإِغْوَاءَ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِشَيْءٍ يُقَرِّبُ قَبُوْلَ قَوْلِهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَكَارَةِ اللَّفْظِ أَصْلًا. 5) أَنَّ إِقْرَارَهُمَا فِي قَوْلِهِ (لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَي أَيِّلٍ) هُوَ شِرْكٌ فِي الرُّبُوْبِيَّةِ؛ لِأَنَّه لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللهُ، فَكَانَ بِذَلِكَ شِرْكًا أَكْبَرًا، وَهَذَا مُسْتَحِيْلٌ عَلَيْهِمَا أَيْضًا. ¬

_ (¬1) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (309/ 2)؛ بِاخْتِصَارٍ يَسِيْرٍ. (¬2) قُلْتُ: خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّارِحُ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبدِ اللهِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَيْسِيْرُ العَزِيْزِ الحَمِيْدِ) (ص630) مِنْ أَنَّ التَّفْسِيْرَ بِغَيرِ ذَلِكَ - وهوَ أَنَّ المَقْصُوْدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {جَعَلَا لَهُ} هُمَا آدَمُ وحوَّاءُ - أَنَّهُ مِنَ التَّفَاسِيْرِ المُبْتَدَعَةِ، وَقَد ذَكَرْنَا فِيْمَا سَبَقَ مِنَ النَّقْلِ عَنِ الحَسَنِ وَغَيْرِهِ بِالأَسَانِيْدِ الصَّحِيْحَةِ غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَد أَيَّدَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيْرِ كَالحَافِظِ ابْنِ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ - وَحَسْبُكَ بِهِ عَالِمًا بِالتَّفَاسِيْرِ المُبْتَدَعَةِ مِنَ الثَّابِتَةِ - حَيْثُ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ (528/ 3): (وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ الله فِي هَذَا؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ المُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا المُرَادُ مِنْ ذَلِكَ المُشْرِكُوْنَ مِنْ ذُرِّيَّتهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللهُ: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُوْنَ}). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬3) قَالَ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص498): (وَالمَعَاصِي الصِّغَارُ جَائِزَةٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ - كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ -).

باب قول الله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} (الأعراف:180).

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (الأَعْرَاف:180). ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ}: يُشْرِكُوْنَ، وَعَنْهُ؛ سَمُّوا اللَّاتَ مِنَ الإِلَهِ، وَالعُزَّى مِنَ العَزِيْزِ. وَعَنِ الأَعْمَشِ: يُدْخِلُوْنَ فِيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: إِثْبَاتُ الأَسْمَاءِ. الثَّانِيَةُ: كَوْنُهَا حُسْنَى. الثَّالِثَةُ: الأَمْرُ بِدُعَائِهِ بِهَا. الرَّابِعَةُ: تَرَكُ مَنْ عَارَضَ مِنَ الجَاهِلِيْنَ المُلْحِدِيْنَ. الخَامِسَةُ: تَفْسِيْرُ الإِلْحَادِ فِيْهَا. السَّادِسَةُ: وَعِيْدُ مَنْ أَلْحَدَ. ¬

_ (¬1) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيْرِ (1623/ 5): (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ): التَّكْذِيْبُ، وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الإِلْحَادُ؛ المُلْحِدِيْنَ: أَنْ ادَّعَوا اللَّاتَ وَالعُزَّى فِي أَسْمَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ (يُلْحِدُوْنَ) قَالَ: يُشْرِكُوْنَ. وَقَالَ الأَعْمَشُ: يُدْخِلُوْنَ فِيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا). انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ وَحَذْفٍ لِلأَسَانِيْدِ.

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ فِيْهِ بَيَانُ الأَدَبِ الأَكْمَلِ فِي سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهوَ دَلِيْلُ العِلْمِ بِهِ وَبِتَعْظِيْمِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ سُبْحَانَهُ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {الحُسْنَى}: مُؤَنَّثُ أَحْسَن، وَهيَ اسْمُ تَفْضِيْلٍ، وَمَعنى الحُسْنَى، أَي البَالِغَةُ فِي الحُسْنِ أَكْمَلَهُ، وَاللَّامُ هُنَا لِلاسْتِحْقَاقِ. وَالحُسْنُ فِي الأَسْمَاءِ يَكُوْنُ رَاجِعًا إِلَى أَنَّ الصِفَةَ الَّتِيْ اشْتَمَلَ عَلَيهَا ذَلِكَ الاسْمُ تَكُوْنُ حَقًّا؛ مَوْجُوْدَةً فيمَنْ تَسَمَّى بِهَا، وَالإِنْسَانُ - وَإِنْ تَسَمَّى بِاسمٍ فِيْهِ مَعنَىً - فَقَد لَا يَكُوْنُ فِيْهِ مِنْ ذَلِكَ المَعْنَى شَيْءٌ، فَيُسَمَّى صَالِحًا - وَقَد لَا يَكُوْنُ صَالِحًا -، وَيُسَمَّى خَالِدًا - وَقَد لَا يَكُوْنُ خَالِدًا -، وَيُسَمَّى مُحَمَّدًا - وَقَد لَا يَكُوْنُ كَثيرَ خِصَالِ الحَمْدِ - وَهَكَذَا، فَإِنَّ الإِنْسَانَ قَد يُسَمَّى بِأَسْمَاءٍ كَثِيْرَةٍ؛ لَكِنْ لَا تَكُوْنُ فِي حَقِّهِ حُسْنَى. (¬1) - قَوْلُهُ تَعَالَى {فَادْعُوْهُ بِهَا}: اعْلَمْ أَنَّ دُعَاءَ اللهِ بِأَسْمَائِهِ لَهُ مَعْنَيَانِ: 1) دُعَاءُ العِبَادَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَعَبَّدَ للهِ بِمَا تَقْتَضِيْهِ تِلْكَ الأَسْمَاءُ، فَمَثَلًا اسْمُ الرَّحِيْمِ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ، وَحِيْنَئِذٍ تَتَطَلَّعُ إِلَى أسَبْابِ الرَّحْمَةِ وَتَفْعَلُهَا. وَالسَّمِيْعُ: يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَبَّدَ للهِ بِمُقْتَضَى السَّمْعِ، بِحَيْثُ لَا تُسْمِعُ اللهَ قَوْلًا يُغْضِبُهُ وَلَا يَرْضَاهُ مِنْكَ. وَالبَصِيْرُ: يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَبَّدَ للهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ البَصَرِ، بِحَيْثُ لَا يَرَى مِنْكَ فِعْلًا يَكْرَهُهُ مِنْكَ. (¬2) 2) دُعَاءُ المَسْأَلَةِ، وَهوَ أَنْ تُقَدِّمَ هَذِهِ الأَسْمَاءَ بَيْنَ يَدِي سُؤَالِكَ مُتَوَسِّلًا بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى. مَثَلًا: يَا حَيُّ؛ يَا قَيُّومُ؛ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: (قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيْرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ). (¬3) وَالإِنْسَانُ إِذَا دَعَا وَعَلَّلَ، فَقَد أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ بِهَذَا الاسْمِ طَالِبًا أَنْ يَكُوْنَ سَبَبًا لِلإِجَابَةِ، وَالتَّوَسُّلُ بِصِفَةِ المَدْعُوِّ المَحْبُوْبَةِ لَهُ هُوَ سَبَبٌ لِلإِجَابَةِ، فَالثَّنَاءُ عَلَى اللهِ بِأَسْمَائِهِ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الإِجَابَةِ. وَالآيَةُ هُنَا تَحْتَمِلُ المَعنَيِيْن. ¬

_ (¬1) وَأَهْلُ العِلْمِ إِذَا فَسَّرُوا الأَسْمَاءَ الحُسْنَى فَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيْبٌ؛ لَيَدُلُّوا النَّاسَ عَلَى أَصْلِ المَعْنَى، أَمَّا المَعْنَى بِكَمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ: (لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ؛ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ). مُسْلِمٌ (486) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القُوْلُ السَّديدُ) (ص161): (فَمَثَلًا أَسْمَاءُ العَظَمَةِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالمَجْدِ وَالجَلَالِ وَالهَيْبَةِ تَمْلَأُ القُلُوْبَ تَعْظِيْمًا للهِ وَإِجْلَالًا لَهُ. وَأَسْمَاءُ الجَمَالِ وَالبِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالجُوْدِ تَمْلَأُ القَلْبَ مَحَبَّةً للهِ وَشَوْقًا لَهُ وَحَمْدًا لَهُ وَشُكْرًا. وَأَسْمَاءُ العِزِّ وَالحِكْمَةِ وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ تَمْلَأُ القَلْبَ خُضُوْعًا للهِ وَخُشُوْعًا وَانْكِسَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَأَسْمَاءُ العِلْمِ وَالخِبْرَةِ وَالإِحَاطَةِ وَالمُرَاقَبَةِ وَالمُشَاهَدَةِ تَمْلَأُ القَلْبَ مُرَاقَبَةً للهِ فِي الحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَحِرَاسَةً لِلخَوَاطِرِ عَنِ الأَفْكَارِ الرَّدِيَّةِ وَالإِرَادَاتِ الفَاسِدَةِ. وَأَسْمَاءُ الغِنَى وَاللُّطْفِ تَمْلَأُ القَلْبَ افْتِقَارًا وَاضْطِرَارًا إِلَيهِ، وَالتِفَاتًا إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ؛ فِي كُلِّ حَالٍ). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (834)، وَمُسْلِمٌ (2705).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {وَذَرُوا الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِي أَسْمَائِهِ} أَيْ: لَا تَسْلُكُوا مَسْلَكَهُم وَلَا طَرِيْقَهُم؛ فَإِنَّهُم عَلَى ضَلَالٍ وَعُدْوَانٍ، وَلَيسَ المَعْنَى عَدَمَ مُنَاصَحَتِهِم وَبَيَانِ الحَقِّ لَهُم، إِذْ لَا يُتْرَكُ الظَّالِمُ عَلَى ظُلْمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ المُرَادَ بِقَوْلِهِ {ذَرُوا} هُوَ التَّهْدِيْدُ لِلمُلْحِدِيْن، أَوِ الإِعْرَاضُ عَنْهُم كَمَا قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (تَرَكُ مَنْ عَارَضَ مِنَ الجَاهِلِيْنَ المُلْحِدِيْنَ). - (الأَعْمَشُ): هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَهْرَانَ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ، تَابِعِيٌّ مَشْهُوْرٌ، كَانَ رَأْسًا فِي العِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، ثِقَةٌ حَافِظٌ؛ لَكِنَّهُ يُدَلِّسُ (ت 148هـ). (¬1) - الإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى: هُوَ المَيْلُ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيْهَا. وَهُوَ أَنْوَاعٌ سَبَقَ بَيَانُهَا. (¬2) - أَنْوَاعُ التَّوَسُّلِ المَشْرُوْعِ: 1) التَّوَسُّلُ بَأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ: تَقُوْلُ: (يَا رَحْمَنُ ارْحَمْنِي)، (يَا غَفُوْرُ اغْفِرْ لِي) وَهَكَذَا، تَذْكُرُ فِي دُعَائِكَ كُلَّ اسْمٍ يُنَاسِبُ حَاجَتَكَ. 2) التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِيْنَ: فَتَأْتِي إِلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَتَقُوْلُ لَهُ: (ادْعُ اللهَ لِي أَنْ يَغْفِرَ لِي)، وَكَتَوَسُّلِ عُمَرَ بِدُعَاءِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ. (¬3) 3) التَّوَسُّلُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا فِي حَدِيْثِ أَصْحَابِ الغَارِ الثَّلَاثَةِ الَّذِيْنَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ (¬4)، وَكَتَوَسُّلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِاعْتِرَافِهِم بِخَطَئِهِم وَظُلْمِهِم لِأَنْفُسِهِم {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ) (الأَعْرَاف:23)، وَكَتَوَسُّلِ المُؤْمِنِيْنَ بِاتِّبَاعِهِم لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيْمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوْبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عِمْرَان:193). ¬

_ (¬1) الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (135/ 3). (¬2) وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِ القَوَاعِدِ المُثْلَى، فَلْيُرَاجَعْ. (¬3) البُخَارِيُّ (1010). وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (¬4) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ - كَمَا فِي البُخَارِيِّ (5974) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ؛ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوْهَا لِلَّهِ صَالِحَةً؛ فَادْعُوا اللهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيْرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ؛ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيْهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا - أَكْرَهُ أَنْ أُوْقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ - فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ، وَقَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِيْنَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِيْنَارٍ، فَلَقِيْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ؛ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا، فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيْرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ؛ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي؛ فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللهُ عَنْهُمْ). وَقَوْلُهُ (وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ): أَيْ: اسْتَطْرَدَ مَعَ غَنَمِهِ فِي الرَّعْي إِلَى أَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَانِهِ زِيَادَةً عَلَى العَادَةِ؛ فَلِذَلِكَ أَبْطَأَ عَنْ أَهْلِهِ. (يَتَضَاغَوْنَ): يَضِجُّوْنَ وَيَصِيْحُوْنَ مِنَ الجُوْعِ. (وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ): كِنَايَةٌ عَنِ الجِمَاعِ وَالوَطْءِ. (بِفَرَقِ أَرُزٍّ): الفَرَقُ: إِنَاءٌ يَسَع ثَلَاثَةَ آصُعٍ. وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ لِأَهْلِ المَدِيْنَةِ يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ. وَالمُدُّ مُقَدَّرٌ بِأَنْ يَمُدَّ الرَّجُلُ يَدَيْهِ فَيَمْلَأَ كَفَّيْهِ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ الطَّلَبَ وَالاسْتِغَاثَةَ بِالصَّالِحِيْنَ هُوَ مِنْ بَابِ الأَسْبَابِ، وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُم يَعْتَقِدُوْنَ فِيْهِم أَنَّهُمْ يَخْلُقُوْنَ وَيَضُرُّوْنَ وَيَنْفَعُوْنَ، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِهِم لِتَحْصِيْلِ إِغَاثَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُم؟! وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّلِ! وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيْلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} (المَائِدَة:35). وَفِي الحَدِيْثِ (تَوَسَّلُوا بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيْمٌ). وَقَد تَوَسَّلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِأَبي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ - كَمَا فِي أَوَائِلِ تَارِيْخِ بَغداد لِلخَطِيْبِ البَغْدَادِيِّ رَحِمَهُ اللهُ -. وَفِي البُخَارِيِّ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلاسْتِسْقَاءِ؛ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ؛ وَفِيْهِ (وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ) (¬1)، فَمَا الجَوَابُ عَمَّا سَلَفَ؟؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ - بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ -: 1) أَنَّ دَعْوَى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِالصَّالِحِيْنَ سَبَبٌ لِإِجَابَةِ اللهِ تَعَالَى؛ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ، وَإِبْطَالٌ لِلتَّوْحِيْدِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الاسْتِغَاثَةَ بِخَلْقِهِ سَبَبًا لِلإِجَابَةِ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِلمَنْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ} (يُوْنُس: 106). وَتَأَمَّلْ كَيفَ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الاسْتِغَاثَةَ بِهِ فِي بَدْرٍ سَبَبًا لِحُصُوْلِ النَّصْرِ؛ رُغْمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُم، قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيْثُوْنَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِيْنَ} (الأَنْفَال:9). وَتَأَمَّلْ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى كَيْفَ خَلَّا بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَينَ أَعْدَائِهِ فِي أُحُدٍ حَتَّى شَجُّوهُ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ البَشَرِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى البَشَرِ مِنَ الأَسْقَامِ وَالأَوْجَاعِ، وَلِيَبْطُلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى - وَلَو كَانَ سَيِّدَ البَشَرِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -. (¬2) وَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوْقِ مُنَاقِضَةٌ لِلعُبُوْدِيَّةِ الخَالِصَةِ للهِ تَعَالَى، حَيْثُ يُجْعَلُ الذُّلُّ وَالخُضُوْعُ وَالإِنَابَةُ وَالتَّعَلُّقُ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى! فَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ البَاطِلِ. وَإنَّمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى العِبَادِ جَمِيْعِهِم أَنْ يَعْتَمِدُوا عَلَى خَالِقِ الأَسْبَابِ وَيَرْغَبُوا إِلَيْهِ وَيَسْتَعِيْنُوا بِهِ وَيَعْبُدُوْهُ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ}. (¬3) وَتَأَمَّلْ تَفْرِيْقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَا فِي يَدِهِ وَبَينَ مَا عِنْدَ اللهِ حَيثُ قَالَ لابْنَتِهِ: (يَا فَاطِمَةُ - بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ - سَلِيْنِي بِمَا شِئْتِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (¬4) وَقَالَ تَعَالَى - عَنْ يَوْمِ القِيَامَةِ أَيْضًا -: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانْفِطَار:19)، وَذَلِكَ لِتَفَرُّدِهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بِالتَّصَرُّفِ وَالحُكْمِ وَالتَّدْبِيْرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَصَرُّفٌ وَلَا تَدْبِيْرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهيٌ، بِخِلَافِ الحَالِ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَلَّكَ أَهْلَهَا مَا خَوَّلَهُم فِيْهَا، فَهُم يَتَصَرَّفُوْنَ فِيْمَا أَعْطَاهُم بِحَسْبِ اخْتِيَارِهِم؛ مَعَ كَوْنِ المِلْكِ وَالأَمْرِ فِي الحَقِيْقَةِ للهِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (1008). (¬2) قَالَ القَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ) (84/ 6): (وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُم مِنَ البَشَرِ؛ تُصِيْبُهُم مِحَنُ الدُّنْيَا، وَيَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِهِم مَا يَطْرَأُ (عَلَى البَشَرِ)). (¬3) وَهَذَا لَا يَعْنِي عَدَمَ جَوَازِ الاسْتِغَاثَةِ بِالعَبْدِ فِيْمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَلَكِنَّ المَحْذُوْرَ هُوَ فِي الاسْتِغَاثَةِ بِمَا كَانَ للهِ تَعَالَى؛ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ البَشَرِ أَصْلًا، وَتَأَمَّلْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِيْنَ {قَالُوا وَهُمْ فِيْهَا يَخْتَصِمُوْنَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ، إِذْ نُسَوِّيْكُمْ بِرَبِّ العَالَمِيْنَ} (الشُّعَرَاء:98). (¬4) مُسْلِمٌ (206).

2) أَمَّا دَعْوَى أَنَّ هَذَا مِنَ التَّوَسُّلِ! فَهَذَا خَطَأٌ كَبِيْرٌ. لِأَنَّ التَّوَسُّلَ مَعْنَاهُ التَّقَرُّبَ (¬1)، وَمَفَادُ الآيَةِ هُوَ اتِّخَاذُ الوَسَائِلِ المُؤَدِيَّةِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا بِخِلَافِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالى، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الأَسْبَابِ المَانِعَةِ لِرِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى أَصْلًا! (¬2) 3) أَمَّا الحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ (تَوَسَّلُوا بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيْمٌ) فَلَا أَصْلَ لَهُ (¬3)، وَأَمَّا الأَحَادِيْثُ الوَارِدَةُ فِي التَّوَسُّلِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيْحٌ وَضَعِيْفٌ، أَمَّا الصَّحِيْحُ فَلَا دَلِيْلَ فِيْهِ البَتَّةَ عَلَى المُدَّعَى؛ مِثْلَ تَوَسُّلِ الصَّحَابَةِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الاسْتِسْقَاءِ، وَتَوَسُّلِ الأَعْمَى بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِجَاهِهِ وَلَا بِذَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَيَأْتِي -، وَلَمَّا كَانَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيْقِ الأَعْلَى غَيْرَ مُمْكِنٍ كَانَ بِالتَّالِي التَّوَسُّلُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآنَ غَيْرَ جَائِزٍ. وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا؛ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لَمَّا اسْتَسْقَوا فِي زَمَنِ عُمَرَ تَوَسَّلُوا بِعَمِّهِ العَبَّاسِ، وَلَمْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُم يَعْلَمُوْنَ مَعْنَى التَّوَسُّلِ المَشْرُوْعِ - وَهوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ تَوَسَّلُوا بَعْدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ عَمِّهِ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَمَشْرُوْعٌ (¬4)، وَكَذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ العُمْيَانِ تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ ذَلِكَ الأَعْمَى؛ ذَلِكَ لِأَنَّ السِّرَّ لَيسَ فِي قَوْلِ الأَعْمَى: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيكَ بِنَبِيِّكَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ)؛ وَإِنَّمَا السِّرُّ الأَكْبَرُ هُوَ فِي دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ كَمَا يَقْتَضِيْهِ وَعْدُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ، ويُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ (اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ) أَي اقْبَلْ شَفَاعَتَهُ - وَهُوَ دُعَاءَهُ - فِيَّ، وَقَوْلُهُ (وَشَفِّعْنِي فِيْهِ) أَي اقْبَلْ شَفَاعَتِي - أَيْ: دُعَائِي - فِي قَبُوْلِ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيَّ، فَمَوْضُوْعُ الحَدِيْثِ كُلِّهِ يَدُوْرُ حَوْلَ الدُّعَاءِ، فَلَا عَلَاقَةَ لِلحَدِيْثِ بِالتَّوَسُّلِ المُبْتَدَعِ - وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالجَاهِ وَالذَّاتِ هُنَا -. (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (724/ 11): (الوَسِيْلةُ: المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالوَسِيْلةُ الدَّرَجَةُ، وَالوَسِيْلَةُ القُرْبَةُ، وَوَسَّلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيْلَةً: إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإِسْرَاء:57)، وَفِي حَدِيْثِ الأَذَانِ (اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيْلَةَ) هيَ فِي الأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَالمُرَادُ بِهِ فِي الحَدِيْثِ: القُرْبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقِيْلَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَقِيْلَ: هِيَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الجَنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ). (¬2) وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ مَنِ افْتَرَى عَلَى البَغَويِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ (يَنْظُرُوْنَ أَيُّهُم أَقْرَبُ إِلَى اللهِ فَيَتَوَسَّلُوْنَ بِهِ) حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَشْخَاصِ فَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَانْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ حَيْثُ تَجِدُهُ عَنَى التَّوَسُّلَ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَيْسِ بِالأَشْخَاصِ الصَّالِحِيْنَ. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (105/ 5): (وَقَوْلُهُ: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} مَعْنَاهُ: يَنْظُرُوْنَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ فَيَتَوَسَّلُوْنَ بِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيُّهُم أَقْرَبُ يَبْتَغِي الوَسِيْلَةَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ). وَقَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (103/ 3): (قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ طَلْحَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَي: القُرْبَةُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدُ وَأَبُو وَائِلٍ وَالحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ قَتَادَة: أَيْ: تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيْهِ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبّهمُ الوَسِيْلَةَ}، وَهَذَا الَّذِيْ قَالَهُ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةُ لَا خِلَاف بَيْنَ المُفَسِّرِيْنَ فِيْهِ). (¬3) قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ: (لَا أَصْلَ لَه). اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ، وَالضَّعِيْفَةُ (22)، وَتَتِمَّةُ التَّعْلِيْقِ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الضَّعِيْفَةِ (22). (¬4) وَلَو كَانَ المُرَادُ مِنَ التَّوَسُّلِ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالجَاهِ لَكَانَ الأَمْرُ مُمْكِنًا عِنْدَهُم لِبَقَاءِ جَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوْمًا - بِخِلَافِ الدُّعَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ - وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُم التَّوَسُّلُ بِالدُّعَاءِ لَا بِالجَاهِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ. (¬5) قَالَ فِي الدُّرِّ المُخْتَارِ (مَعَ حَاشِيَةِ رَدَّ المُحْتَارِ) (396/ 6) - مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ -: (وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة - مَعْزِيًّا لِلْمُنْتَقَى - عَنْ أَبِي يُوْسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: (لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَالدُّعَاءُ المَأْذُوْنُ فِيْهِ؛ المَأْمُوْرُ بِهِ؛ مَا اُسْتُفِيْدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا} (الأَعْرَاف:180))).

4) وَأَمَّا مَا قِيْلَ مِنْ تَوَسُّلِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ بِأَبِي حَنِيْفَةَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - كَمَا فِي التَّارِيْخِ لِلخَطِيْبِ البَغْدَادِيِّ (¬1) - فَنَصُّهُ (سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: إِنِّي لَأَتَبَرَّكُ بِأَبِي حَنِيْفَةَ، وَأَجِيْءُ إِلَى قَبْرِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ - يَعْنِي زَائِرًا - فَإِذَا عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ؛ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَجِئْتُ إِلَى قَبْرِهِ، وَسَأَلْتُ اللهَ تَعَالَى الحَاجَةَ عِنْدَهُ، فَمَا تَبْعُدُ عَنِّي حَتَّى تُقْضَى)!! فهيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ فِيْهَا عُمَرَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ؛ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوْفٍ، وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الرِّجَالِ، وَلَقَد رَأَى الشَّافِعِيُّ بِالحِجَازِ وَاليَمَنِ وَالشَّامِ وَالعِرَاقِ وَمِصْرَ مِنْ قُبُوْرِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ مَنْ كَانَ أَصْحَابُهَا - عِنْدَهُ وَعِنْدَ المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعًا - أَفْضَلَ مِنْ أَبِي حَنِيْفَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنَ العُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللهُ وَرَضِيَ عَنْهُم - وَلَم يُنْقَلْ تَوَسُّلُهُ بِأَحَدٍ مِنْهُم. بَلْ قَد جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي كِتَابِهِ الأُمِّ مِنْ كَرَاهَةِ تَعْظِيْمِ قُبُوْرِ المَخْلُوْقِيْنَ - خَشْيَةَ الفِتْنَةِ بِهَا - حَيثُ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الأُمُّ): (وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَوَّى - يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوْفٌ - أَوْ يُصَلَّى إِلَيْهِ. قَالَ: وَإِنْ صَلَّى إِلَيْهِ أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ أَسَاءَ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَاتَلَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ). قَالَ: وَأَكْرَهُ هَذَا لِلسُّنَّةِ وَالآثَارِ، وَأنَّهُ كَرِهَ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ - يَعْنِي: يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا - وَلَمْ تُؤْمَنْ فِي ذَلِكَ الفِتْنَةُ وَالضَّلَالُ). (¬2) 5) وَأَمَّا تَمَثُّلُ ابْنِ عُمَرَ لِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ؛ فَلَيْسَ فِيْهِ دَلِيْلٌ البَتَّةَ عَلَى التَّوَسُّلِ البِدْعِيِّ - أَيْ: بِالجَاهِ وَالذَّاتِ - وَذَلِكَ لِأُمُوْرٍ: أ) أَنَّ هَذَا شِعْرٌ لِأَبي طَالِبٍ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ أَبَدًا؛ لِكَونِهِ لَيسِ بِمُسْلِمٍ أَصْلًا - فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقِرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ب) أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنَّمَا تَمَثَّلَهُ حَالَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الاسْتِسْقَاءِ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْهُ (رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ - وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي - فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيْشَ كُلُّ مِيْزَابٍ: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ) (¬3)، فَمَنْ أَرَادَ الاحْتِجَاجَ بِهِ؛ فَلْيَحْتَجَّ بِهِ كَمَا وَرَدَ؛ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالدُّعَاءِ. ج) أَنَّ أَهْلَ الحَدِيْثِ الَّذِيْنَ أَوْرَدُوا هَذَا الحَدِيْثَ لَمْ يُوَجِّهُوْهُ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالجَاهِ وَإِنَّمَا بِالدُّعَاءِ، فَقَد بَوَّبَ عَلَيْهِ: البُخَارِيُّ فِي الصَّحِيْحِ؛ بَابُ سُؤَالِ النَّاسِ الإِمَامَ الِاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا. (¬4) البَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الصُغْرَى؛ بَابُ الاسْتِسْقَاءِ بِمَنْ تُرْجَى بَرَكَةُ دُعَائِهِ. (¬5) ¬

_ (¬1) عَزَا الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الأَثَرَ إِلَى تَارِيْخِ الخَطِيْبِ (123/ 1)، وَجُمْلَةُ تَضْعِيْفِ الأَثَرِ - مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ - أَفَادَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ تَحْتَ حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (22). (¬2) كِتَابُ الأُمِّ (317/ 1). (¬3) البُخَارِيُّ (1008). الثِّمَالُ: هُوَ المَلْجَأُ؛ وَالَّذِيْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الأُمُوْرِ. (¬4) البُخَارِيُّ (27/ 2). (¬5) البَيهقيُّ فِي السُّنَنِ الصُغْرَى (491/ 3).

الملحق الثامن على كتاب التوحيد) مختصر التوسل؛ أنواعه؛ أحكامه

المُلْحَقُ الثَّامِنُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) مُخْتَصَرُ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ؛ أَحْكَامُهُ) الحَمْدُ للهِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مُفِيْدٌ لِكِتَابِ (التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ؛ أَحْكَامُهُ) لِشَيْخِنَا المُحَدِّثِ الأَلبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ أَضَفْتُ إِلَيْهِ بَعْضَ الفَوَائِدِ إِلَى مَتْنِهِ وإلى حَاشِيَتِهِ تَتْمِيْمًا لِلفَائِدَةِ. - الفَصْلُ الأَوَّلُ: التَّوَسُّلُ فِي اللُّغَةِ وَالقُرْآنِ: 1) مَعْنَى التَّوَسُّلِ فِي لُغَةِ العَرَبِ: قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ): (مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَجَمْعُهَا وَسَائِلُ). (¬1) وَقَالَ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (¬2): (وَسَلَ إِلَى اللهِ تَعَالَى تَوْسِيْلًا: عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ كَتَوَسَّلَ). وَهُنَاكَ مَعْنَىً آخَرُ لِلوَسِيْلَةِ؛ وهيَ المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالدَّرَجَةُ وَالقُرْبَةُ. (¬3) 2) مَعْنَى الوَسِيْلَةِ فِي القُرْآنِ: وَرَدَتْ لَفْظَةُ - الوَسِيْلَةِ - فِي مَوضِعَيْنِ، وَهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَة وَجَاهِدُوا فِي سَبِيْلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} (المَائِدَة:35)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوْرًا} (الإِسْرَاء:57). فَأَمَّا الآيَةُ الأُوْلَى؛ فَقَد قَالَ إِمَامُ المُفَسِّريْنَ الحَافِظُ ابْنُ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تًفْسِيْرِهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُوْلَهُ فِيْمَا أَخْبَرَهُم وَوَعَدَ مِنَ الثَّوَابِ وَأَوْعَدَ مِنَ العِقَابِ؛ {اتَّقُوا اللهَ} يَقُوْلُ: أَجِيْبُوا اللهَ فِيْمَا أَمَرَكُم وَنَهَاكُم بِالطَّاعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ. {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ} يَقُوْلُ: وَاطْلُبُوا القُرْبَةَ إِلَيْهِ بِالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيْهِ). (¬4) وَأَمَّا الآيَةُ الثَّانِيَةُ فَقَد بَيَّنَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيْلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُنَاسَبَةَ نُزُوْلِهَا الَّتِيْ تُوَضِّحُ مَعْنَاهَا فَقَالَ: (نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ العَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ، فَأَسْلَمَ الجِنِّيُّوْنَ - وَالإِنْسُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَهُم لَا يَشْعُرُوْنَ! -). (¬5) وَهيَ صَرِيْحَةٌ فِي أَنَّ المُرَادَ بِالوَسِيْلَةِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: {يَبْتَغُوْنَ} أَيْ: يَطْلُبُوْنَ مَا يَتَقَرَّبُوْنَ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. 3) الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَحْدَهَا هِيَ الوَسَائِلُ المُقَرِّبَةُ إِلَى اللهِ: قَدْ تَبَيَّنَ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ العَمَلَ حَتَّى يَكُوْنَ صَالِحًا مَقْبُوْلًا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَوَفَّرَ فِيْهِ أَمْرَانِ هَامَّانِ عَظِيْمَانِ، أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُوْنَ صَاحِبُهُ قَد قَصَدَ بِهَ وَجْهَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَثَانِيَهُمَا: أَنْ يَكُوْنَ مُوَافِقًا لِمَا شَرَعَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ، أَوْ بَيَّنَهُ رَسُوْلُهُ فِي سُنَّتِهِ، فَإِذَا اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ هَذَينِ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يَكُنِ العَمَلُ صَالِحًا وَلَا مَقْبُوْلًا. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكَهْف:110) فَقَد أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُوْنَ العَمَلُ صَالِحًا، أَيْ: مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُخْلِصَ بِهِ صَاحِبُهُ للهِ، لَا يَبْتَغي بِهِ سِوُاهُ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬6): (وَهَذَانَ رُكْنَا العَمَلِ المُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُوْنَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ (¬7) وَغَيْرِهِ. ¬

_ (¬1) النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ (402/ 5). وَقَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (11/ 724): (الوَسِيْلةُ: المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالوَسِيْلةُ الدَّرَجَةُ، وَالوَسِيْلَةُ القُرْبَةُ، وَوَسَّلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيْلَةً: إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإِسْرَاء:57)، وَفِي حَدِيْثِ الأَذَانِ (اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيْلَةَ) هيَ فِي الأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَالمُرَادُ بِهِ فِي الحَدِيْثِ: القُرْبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقِيْلَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَقِيْلَ: هِيَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الجَنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ). (¬2) القَامُوْسُ المُحِيْطُ (ص1068). (¬3) كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيْثِ تَسْمِيَةُ أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الجَنَّةِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ؛ فَقُوْلُوا مِثْلَ مَا يَقُوْلُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الوَسِيْلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الجَنَّةِ؛ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُوْنَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الوَسِيْلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (384) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو. (¬4) تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (289/ 10). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ: ({وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ} (قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ طَلْحَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَي القُرْبَةَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدُ وَأَبُو وَائِلٍ وَالحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيْهِ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبّهمُ الوَسِيْلَةَ}. وَهَذَا الَّذِيْ قَالَهُ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةُ لَا خِلَافَ بَيْنَ المُفَسِّرِيْنَ فِيْهِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: (إِذَا غَفَلَ الوَاشُوْنَ عُدْنَا لِوصْلنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالوَسَائِلُ) وَالوَسِيْلَة: هِيَ الَّتِيْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيْلِ المَقْصُوْدِ، وَالوَسِيْلَةُ أَيْضًا: عَلَمٌ عَلَى أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الجَنَّةِ؛ وَهِيَ مَنْزِلَةُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَارُهُ فِي الجَنَّةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ أَمْكِنَةِ الجَنَّةِ إِلَى العَرْشِ). (¬5) البُخَارِيُّ (4714). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (397/ 8): (اسْتَمَرَّ الإِنْسُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَ الجِنَّ عَلَى عِبَادَةِ الجِنِّ - وَالجِنُّ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ أَسْلَمُوا - وَهُمُ الَّذِيْنَ صَارُوا يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ؛ فَزَادَ فِيْهِ (وَالإِنْسُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَعْبُدُوْنَهُمْ لَا يَشْعُرُوْنَ بِإِسْلَامِهِمْ) وَهَذَا هُوَ المُعْتَمَدُ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ الآيَةِ). (¬6) (205/ 5). (¬7) رَوَاهُ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (95/ 8).

- الفصل الثاني: الوسائل الكونية والشرعية

- الفَصْلُ الثَّانِي: الوَسَائِلُ الكَوْنِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ: 1) الوَسِيْلَةُ الكَوْنِيَّةُ: هيَ كُلُّ سَبَبٍ طَبِيْعِيٍ يُوْصِلُ إِلَى المَقْصُوْدِ بِخِلْقَتِهِ الَّتِيْ خَلَقَهَا اللهُ بِهَا؛ وَيُؤَدِّي إِلَى المَطْلُوْبِ بِفِطْرَتِهِ الَّتِيْ فَطَرَهُ اللهُ عَلَيْهَا، وَهيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِ وَالكَافِرِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيْقٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: المَاءُ، فَهُوَ وَسِيْلَةٌ إِلَى رِيِّ الإِنْسَانِ، وَالطَّعَاُم وَسِيْلَةٌ إِلَى شَبَعِهِ، وَاللِّبَاسُ وَسِيْلَةٌ إِلَى حِمَايَتِهِ مِنَ الحَرِّ وَالقَرِّ، وَالسَّيَّارَةُ وَسِيْلَةٌ إِلَى انْتِقَالِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَهَكَذَا. 2) الوَسِيْلَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هيَ كُلُّ سَبَبٍ يُوْصِلُ إِلَى المَقْصُوْدِ عَنْ طَرِيْقِ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى وَبَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَهيَ خَاَّصةٌ بِالمُؤْمِنِ المُتَّبِعِ أَمْرَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ - بِإِخْلَاصٍ وَفَهْمٍ - وَسِيْلَةٌ إِلَى دُخُوْلِ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الخُلُوْدِ فِي النَّارِ، وَإِتْبَاعُ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ وَسِيْلَةٌ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ، وَقَوْلُ الدُّعَاءِ المَأْثُوْرِ بَعْدَ الأَذَانِ وَسِيْلَةٌ إِلَى نَيْلِ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِلَةُ الأَرْحَامِ وَسِيْلَةٌ لِطُوْلِ العُمُرِ وَسِعَةِ الرِّزْقِ، وَهَكَذَا. فَهَذِهِ الأُمُوْرُ وَأَمْثَالُهَا إِنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّهَا وَسَائِلُ تُحَقِّقُ تِلْكَ الغَايَاتِ وَالمَقَاصِدَ عَنْ طَرِيْقِ الشَّرْعِ وَحْدَهُ؛ لَا عَنْ طَريْقِ العِلْمِ أَوِ التَّجْرِبَةِ أَوِ الحَوَاسِّ، فَنَحْنُ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُطِيْلُ العُمُرَ وَتُوَسِّعُ الرِّزْقَ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). (¬1) 3) كَيفَ تَعْرِفُ صِحَّةُ الوَسَائِلِ وَمَشْرُوْعِيَّتُهَا: أَمَّا الوَسِيْلَةُ الكَونِيَّةُ فَلَهَا شَرْطَانِ: الأَوَّلُ أَنْ يَكُوْنَ مُبَاحًا فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُوْنَ قَد ثَبَتَ تَحْقِيقُهُ لِلمَطْلُوبِ - أَوْ غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى الظَّنِّ -. وَأَمَّا الوَسِيْلَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيْهَا إِلَّا ثُبُوْتُهَا فِي الشَّرْعِ لَيْسَ غَيْرُ. (¬2) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557) عَنْ أنسِ بْنِ مالكٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) قُلْتُ: وَهَذَا الثُّبُوْتُ يَتَبَيَّنُ بِمَعْرِفَةِ أَمْرَيْنِ: أ- صِحَّةِ الخَبَرِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ. ب- أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ.

- الفصل الثالث: التوسل المشروع وأنواعه

- الفَصْلُ الثَّالِثُ: التَّوَسُّلُ المَشْرُوْعُ وَأَنْوَاعُهُ: 1) التَّوَسُّلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَىَ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ العُلْيَا: كَأَنْ يَقُوْلَ المُسْلِمُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّك أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْمُ، اللَّطِيْفُ الخَبِيْرُ أَنْ تُعَافِيَنِي، أَوْ يَقُوْلَ: أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَرْحَمَنِي وَتَغْفِرَ لِي. وَمِثْلُهُ قَوْلُ القَائِلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحُبِّكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الحُبَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَدَلِيْلُ مَشْرُوْعِيَّةِ هَذَا التَّوَسُّلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا} (الأَعْرَاف:180)، وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْرًا لِي). (¬1) وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُوْلُ فِي تَشَهُّدِهِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِيْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؛ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوْبِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ غُفِرَ لَهُ) ثَلَاَثًا) (¬2)، وَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا آخَرَ يَقُوْلُ فِي تَشَهُّدِهِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمْدَ؛ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ؛ الحَنَّانُ؛ بَدِيْعَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ؛ ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ؛ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ؛ إِنِّي أَسْأَلُكَ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَدْرُوْنَ بِمَا دَعَا؟) قَالُوا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ العَظِيْمِ الَّذِيْ إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى)). (¬3) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. النَّسَائيُّ (1305) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1301). (¬2) صَحِيْحٌ. النَّسَائيُّ (1301) عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الأَدْرَعِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ النَّسَائيِّ (1301). (¬3) صَحِيْحٌ بِلَفْظِ (المَنَّان) عِوَضًا عَنِ (الحَنَّان). أَحْمَدُ (12611) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (3411).

2) التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي

2) التَّوَسُّلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَامَ بِهِ الدَّاعِيُ: كَأَنْ يَقُوْلَ المُسْلِمُ: اللَّهُمَّ بِإِيْمَانِي بِكَ وَمَحَبَّتِي لَكَ وَاتِّبَاعِي لِرَسُوْلِكَ اغْفِرْ لي. أَوْ يَقُوْلَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحُبِّي لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيْمَانِي بِهِ أَنْ تُفَرِّجَ عَنِّي. وَمِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ الدَّاعِيُ عَمَلًا صَالِحًا - ذَا بَالٍ - فِيْهِ خَوْفُهُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَقْوَاهُ إِيَّاهُ وَإِيثَارَهُ رِضَاهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَطَاعَتَهُ لَهُ جَلَّ شَأْنُهُ، ثُمَّ يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي دُعَائِهِ، لِيَكُوْنَ أَرْجَى لِقَبُوْلِهِ وَإِجَابَتِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوْعِيَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوْبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عِمْرَان:16)، وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ بُرَيدةَ بْنِ الحُصَيْبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِيْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ؛ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِيْ لَمْ يَلِدْ وَلَم يُوْلَدْ، وَلَم يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدُ، فَقَالَ: (قَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ، الَّذِيْ إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ). (¬1) وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ أَصْحَابِ الغَارِ الَّذِيْنَ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِم الصَّخْرَةُ فِي الغَارِ؛ فَسَأَلُوا اللهَ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِهِم؛ فَفَرَّجَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم. (¬2) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (12611) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (1640). (¬2) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ - كَمَا فِي البُخَارِيِّ (5974) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ؛ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوْهَا لِلَّهِ صَالِحَةً؛ فَادْعُوا اللهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيْرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ؛ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيْهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا - أَكْرَهُ أَنْ أُوْقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ - فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ، وَقَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِيْنَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِيْنَارٍ، فَلَقِيْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ؛ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا، فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيْرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ؛ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي؛ فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللهُ عَنْهُمْ). وَقَوْلُهُ (وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ): أَيْ: اسْتَطْرَدَ مَعَ غَنَمِهِ فِي الرَّعْي إِلَى أَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَانِهِ زِيَادَةً عَلَى العَادَةِ؛ فَلِذَلِكَ أَبْطَأَ عَنْ أَهْلِهِ. (يَتَضَاغَوْنَ): يَضِجُّوْنَ وَيَصِيْحُوْنَ مِنَ الجُوْعِ. (وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ): كِنَايَةٌ عَنِ الجِمَاعِ وَالوَطْءِ. (بِفَرَقِ أَرُزٍّ): الفَرَقُ: إِنَاءٌ يَسَع ثَلَاثَةَ آصُعٍ. وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ لِأَهْلِ المَدِيْنَةِ يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ. وَالمُدُّ مُقَدَّرٌ بِأَنْ يَمُدَّ الرَّجُلُ يَدَيْهِ فَيَمْلَأَ كَفَّيْهِ.

3) التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح

3) التَّوَسُّلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِدُعَاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: كَأَنْ يَكُوْنَ المُسْلِمُ فِي ضِيْقٍ شَدِيْدٍ، أَوْ تَحِلَّ بِهِ مُصِيْبَةٌ كَبِيْرَةٌ - وَيَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ التَّفْرِيْطَ فِي جَنْبِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى -؛ فَيَأْخُذَ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ إِلَى اللهِ، فَيَذْهَبَ إِلَى رَجُلٍ يَعْتَقِدُ فِيْهِ الصَّلَاحَ وَالتَّقْوَى أَوِ الفَضْلَ وَالعِلْمَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَيَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ رَبَّهُ، لِيُفَرِّجَ عَنْهُ كَرْبَهُ، وَيُزِيْلَ عَنْهُ هَمَّهُ. وَقَد وَرَدَتْ أَمْثِلَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ الشَّرِيْفَةِ، كَمَا وَقَعَتْ نَمَاذِجُ مِنْهُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: (أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ؛ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ هَلَكَ المَالُ وَجَاعَ العِيَالُ فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ - وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً - فَوَ الَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَمِنْ الغَدِ وَبَعْدَ الغَدِ وَالَّذِيْ يَلِيْهِ حَتَّى الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ - أَوْ قَالَ غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ تَهَدَّمَ البِنَاءُ وَغَرِقَ المَالُ فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا) فَمَا يُشِيْرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ وَصَارَتْ المَدِيْنَةُ مِثْلَ الجَوْبَةِ، وَسَالَ الوَادِي - قَنَاةُ - شَهْرًا وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالجَوْدِ). (¬1) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ). (¬2) وَمَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ (إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَ (إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا)؛ أَنَّنَا كُنَّا نَقْصِدُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَنَا؛ وَنَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِدُعَائِهِ، وَالآنَ - وَقَد انْتَقَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّفِيْقِ الأَعْلَى، وَلَم يَعُدْ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَدْعُوَ لَنَا - فَإِنَّنَا نَتَوَجَّهُ إِلَى عَمِّ نَبِيِّنَا العَبَّاسِ؛ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَنَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُم كَانُوا يَقُوْلُوْنَ فِي دُعَائِهِم: (اللَّهُمَّ بِجَاهِ نَبِيِّكَ اسْقِنَا)، ثُمَّ أَصْبَحُوا يَقُوْلُوْنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ بِجَاهِ العَبَّاسِ اسْقِنَا)!! لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا دُعَاءٌ مُبْتَدَعٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَم يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم. (¬3) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (933)، وَمُسْلِمٌ (897). وَ (القَزَعَةُ): قِطْعَةٌ مِنَ السَّحَابِ الصِّغَارِ المُتَفَرِّقِ. وَ (الجَوْبَةُ): المَوْضِعُ المُنْخَفِضُ مِنَ الأَرْضِ. وَ (قَنَاةُ): اسْمُ وَادٍ فِي المَدِيْنَةِ. (¬2) صَحِيْح البُخَارِيِّ (1010). (¬3) وَمِنْ ذَلِكَ أَيضًا مَا رَوَاهُ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَارِيْخِهِ (112/ 65) بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنِ التَّابِعِيِّ الجَلِيْلِ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ الخَبَائِرِيِّ؛ أَنَّ السَّمَاءَ قَحِطَتْ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - وَأَهْلُ دِمَشْقَ يَسْتَسْقُوْنَ - فَلَمَّا قَعَدَ مُعَاوِيَةُ عَلَى المِنْبَرِ، قَالَ: أَينَ يَزِيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ الجُرَشيُّ؟ فَنَادَاهُ النَّاسُ، فَأَقْبَلَ يَتَخَطَّى النَّاسَ، فَأَمَرَهُ مُعَاوِيَةُ؛ فَصَعِدَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَعَدَ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ إِلَيْكَ اليَوْمَ بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ إِلَيْكَ اليَوْمَ بِيَزيْدِ بْنِ الأَسْوَدِ الجُرَشِيِّ، يَا يَزِيْدُ ارْفَعْ يَدَيْكَ إِلَى اللهِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُم، فَمَا كَانَ أَوْشَكَ أَنْ ثَارَتْ سَحَابَةٌ فِي الغَرْبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ، وَهَبَّتْ لَهَا رِيْحٌ، فَسَقَتْنَا حَتَّى كَادَ النَّاسُ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مَنَازِلَهُم). فَهَذَا مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا لَا يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ - وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُ بِهَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ - يَزِيْدَ بْنِ الأَسْوَدِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -؛ فَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى لِيَسْقِيَهُم وَيُغِيْثَهُم. وَحَدَثَ مِثْلُ هَذَا فِي وِلَايَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ أَيْضًا حَيْثُ اسْتَسْقَى بِيَزِيْدَ هَذَا أَيْضًا. وَيَزِيْدُ هَذَا هُوَ مِنْ سَادَةِ التَّابِعِيْنَ بِالشَّامِ، يَسْكُنُ بِالغُوْطَةِ، بِقَرْيَةِ زِبْدِيْنَ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: (بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي العِشَاءَ الآخِرَةَ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ، وَيَخْرُجُ إِلَى زِبْدِيْنَ، فَتُضِيْءُ إِبْهَامُهُ اليُمْنَى، فَلَا يَزَالُ يَمْشِي فِي ضَوْئِهَا إِلَى القَرْيَةِ). تَارِيْخُ دِمَشْقَ (107/ 65).

- وَأَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ الأَنْوَاعِ مِنَ التَّوَسُّلَاتِ فَفِيْهَا خِلَافٌ، وَالَّذِيْ نَعْتَقِدُهُ وَنَدِيْنُ اللهَ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا مَشْرَوْعٌ، لِأَنَّه لَمْ يَرِدْ فِيْهَا دَلِيْلٌ تَقُوْمُ بِهِ الحُجَّةُ، وَقَد أَنْكَرَهُ العُلَمَاءُ المُحَقِّقُوْنَ فِي العُصُوْرِ الإِسْلَامِيَّةِ المُتَعَاقِبَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَد قَالَ بِبَعْضِهِ بَعْضُ الأَئِمَّةِ، فَأَجَازَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ التَّوَسُّلَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ فَقَط، وَأَجَازَ غَيْرُهُ كَالإِمَامِ الشَّوْكَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ التَّوَسُّلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ. وَلَكِنَّنا - كَشَأْنِنَا فِي جَمِيْعِ الأُمُوْرِ الخِلَافِيَّةِ - نَدُوْرُ مَعَ الدَّلِيْلِ حَيْثُ دَارَ وَلَا نَتَعَصَّبُ لِلرِّجَالِ، وَلَا نَنْحَازُ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلحَقِّ - كَمَا نَرَاهُ وَنَعْتَقِدُهُ -، وَقَد رَأَينَا فِي قَضِيَّةِ التَّوَسُّلِ الَّتِيْ نَحْنُ بِصَدَدِهَا الحَقَّ مَعَ الَّذِيْنَ حَظَرُوا التَّوَسُّلَ بِمَخْلُوْقٍ، وَلَم نَرَ لِمُجِيْزِيْهِ دَلِيْلًا صَحِيْحًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَنَحْنُ نُطَالِبُهُم بِأَنْ يَأْتُوْنَا بِنَصٍّ صَحِيْحٍ صَرِيْحٍ مِنَ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فِيْهِ التَّوَسُّلُ بِمَخْلُوْقٍ، وَهَيهَاتَ أَنْ يَجِدُوا شَيْئًا يُؤَيِّدُ مَا يَذْهَبُوْنَ إِلَيْهِ، أَوْ يَسْنُدُ مَا يَدَّعُوْنَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا شُبَهًا وَاحْتِمَالَاتٍ؛ سَنَعْرُضُ لِلرَّدِّ عَلَيهَا بَعْدَ قَلِيْلٍ. (¬1) - ومِنَ الغَرِيْبِ حَقًّا أَنَّكَ تَرَى هَؤُلَاءِ يُعْرِضُوْنَ عَنْ أَنْوَاعِ التَّوَسُّلِ المَشْرُوْعَةِ السَّابِقَةِ، فَلَا يَكَادُوْنَ يَسْتَعْمِلُوْنَ شَيْئًا مِنْهَا فِي دُعَائِهِم أَوْ تَعْلِيْمِهِم النَّاسَ مَعَ ثُبُوْتِهَا فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلَيهَا، وَتَرَاهُم بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ يَعْمَدُوْنَ إِلَى أَدْعِيَةٍ اخْتَرَعُوْهَا وَتَوَسُّلَاتٍ ابْتَدَعُوْهَا لَمْ يَشْرَعْهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَم يَسْتَعْمِلْهَا رَسُوْلُهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَم تُنْقَلْ عَنْ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ القُرُوْنِ الثَّلَاثَةِ الفَاضِلَةِ، وَأَقَلُّ مَا يُقَالُ فِيْهَا: (إِنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِيْهَا)، فَمَا أَجْدَرَهُم بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَتَسْتَبْدِلُوْنَ الَّذِيْ هُوَ أَدْنَى بِالَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ} (البَقَرَة:61). ¬

_ (¬1) هَذَا وَلَم نَنْفَرِدْ نَحْنُ بِإِنْكَارِ تِلْكَ التَّوَسُّلَاتِ المُبْتَدَعَةِ، بَلْ سَبَقَنَا إِلَى إِنْكَارِهَا كِبَارُ الأَئِمَّةِ وَالعُلَمَاءِ، وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ المَذَاهِبِ المُتَّبَعَةِ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَد جَاءَ فِي كِتَابِ (الدُّرُّ المُخْتَارُ مَعَ حَاشِيَةِ رَدِّ المُحْتَارِ) (396/ 6) - مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ -: (وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة - مَعْزِيًّا لِلْمُنْتَقَى - عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: (لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَالدُّعَاءُ المَأْذُوْنُ فِيْهِ؛ المَأْمُورُ بِهِ؛ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوْهُ بِهَا} (الأَعْرَاف:180))).

- الفصل الرابع: شبهات والجواب عليها

- الفَصْلُ الرَّابِعُ: شُبُهَاتٌ وَالجَوَابُ عَلَيْهَا: - الشُّبْهَةُ الأُوْلَى) اسْتِسْقَاءُ عُمَرَ بِالعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: رَوَى البُخَارِيُّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا؛ فَتَسْقِيْنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ) (¬1)، فَيَفْهَمُوْنَ مِنْ هَذَا الحَدِيْثِ أَنَّ تَوَسُّلَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ بِجَاهِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ تَوَسُّلَهُ هُوَ مُجَرَّدُ ذِكْرٍ مِنْهُ للعَبَّاسِ فِي دُعَائِهِ؛ وَأَنَّهُ فَقَط طَلَبٌ مِنْهُ للهِ أَنْ يَسْقِيَهُم مِنْ أَجْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَقَدْ أَقَرَّتْهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ! فَأَفَادَ - بِزَعْمِهِم - مَا يَدَّعُوْنَ. وَأَمَّا سَبَبُ عُدُوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ التَّوَسُّلِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِزَعْمِهِم أَيْضًا - وَتَوَسُّلِهِ بَدَلًا مِنْهُ بِالعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالمَفْضُولَ مَعَ وُجُوْدِ الفَاضِلِ لَيْسَ إِلَّا! أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيْثُ الضَّرِيْرِ! (¬2) وَالجَوَابُ (¬3): أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ السَّابِقَ (وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا) فِيْهِ تَقْدِيْرٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُوْنَ (نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِجَاهِ عَمِّ نَبِيِّنَا) وَإِمَّا أَنْ يَكُوْنَ (نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِدُعَاءِ عَمِّ نَبِيِّنَا) وَالصَّوَابُ قَطْعًا هُوَ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِعِدَّةِ مُلَاحَظَاتٍ: 1) أَنَّ النُّصُوْصَ الشَّرْعِيَّةَ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَذَلِكَ بِكَوْنِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ تَضَافَرَتْ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالصَّالِحِيْنَ كَانَ بِإِتْيَانِهِم؛ فَيَدْعُوْنَ لَهُم، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا} (النِّسَاء:64). (¬4) 2) أَنَّ المُقَارَنَ بِهِ فِي التَّوَسُّلِ كَانَ (إِنَّا كُنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا، فَتَسْقِيْنَا) فَإِذَا عُلِمَتْ صِفَةُ هَذَا التَّوَسُّلِ الأَوَّلِ عُلِمَتْ صِفَةُ الآخَرِ - وَهُوَ مَوْضُوْعُ النِّزَاعِ -، وَالنَّاظِرُ فِي السُّنَّةِ يَجِدُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لَمَّا قَحَطَوا جَاءَ بَعْضُهُم إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ، وَلَو كَانَ المَقْصُوْدُ هُوَ التَّوَسُّلَ بِالجَاهِ لَبَقِيَ الطَّالِبُ فِي دَارِهِ وَتَوَسَّلَ بِهِ! - إِذْ إِنَّ الجَاهَ مَوجُوْدٌ فِي كِلَا الحَالَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى -. (¬5) 3) أَنَّ العَبَّاسَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَمَا تَوَسَّلُوا بِهِ قَامَ فَدَعَى (¬6)، فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ تَوَسُّلَهُ هُوَ الدُّعَاءُ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (1010) عَنْ أنسٍ. (¬2) وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيْبًا. (¬3) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ وَزِيَادَةٍ عَمَّا فِي الأَصْلِ. (¬4) وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ رَاجِعْ مَسْأَلَةَ قِصَّةِ العُتْبِيِّ فِي مُلْحَقِ (قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ والبَرَكَةُ). (¬5) وَقَد سَبَقَ أَثَرُ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي إِتْيَانِ الأَعْرَابِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ - فَطَلَبَ مِنْهُ الاسْتِسْقَاءَ لَهُم. (¬6) نَقَلَهُ الحَافِظُ العَسْقَلَانُّي رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَتْحِ (3/ 150) حَيثُ قَالَ: (وَقَدْ بَيَّنَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي الأَنْسَابِ صِفَةَ مَا دَعَا بِهِ العَبَّاسُ فِي هَذِهِ الوَاقِعَةِ وَالوَقْتَ الَّذِيْ وَقَعَ فِيْهِ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ العَبَّاسَ لَمَّا اسْتَسْقَى بِهِ عُمَرُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُكْشَفْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَ القَوْمُ بِيَ إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ، وَهَذِهِ أَيْدِيْنَا إِلَيْكَ بِالذُّنُوْبِ، وَنَوَاصِيْنَا إِلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ فَاسْقِنَا الغَيْثَ)، فَأَرْخَتِ السَّمَاءُ مِثْلَ الجِبَالِ حَتَّى أَخْصَبَتِ الأَرْضُ وَعَاشَ النَّاسُ).

4) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَمَا تَوَسَّلَ بِالعَبَّاسِ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ، فَقَد رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ عُمَرَ اسْتَسْقَى بِالمُصَلَّى؛ فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: قُمْ فَاسْتَسْقِ. فَقَامَ العَبَّاسُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّ عِنْدَكَ سَحَابًا، وَإِنَّ عِنْدَكَ مَاءً فَانْشُرِ السَّحَابَ, ثُمَّ أَنْزِلْ فِيْهِ المَاءَ، ثُمَّ أَنْزِلْهُ عَلَيْنَا) فَذَكَرَ الحَدِيْثَ. (¬1) 5) أَنَّ الحَدِيْثَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ جَاءَ مُصَرِّحًا بِلَفْظِ الاسْتِسْقَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِوَضًا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ، كَمَا هُوَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَالإسْمَاعِيْلِيِّ (¬2)، وَالاسْتِسْقَاءُ: هُوَ طَلَبُ السُّقْيَا كَمَا لَا يَخْفَى، فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّوَسُّلِ هُنَا هُوَ الدُّعَاءُ. (¬3) 6) أَنَّ الفَارِقَ فِي قَوْلِ عُمَرَ بَينَ (كُنَّا) وَ (إِنَّا) - أَيْ الآنَ - إِنَّمَا هُوَ حَيَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُوْنَ} (المُؤْمِنُوْن:100). وَقَد أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الحَقِيْقَةِ الصَّحَابيُّ الجَلِيْلُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ (عَلَّمَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّوْرَةَ مِنَ القُرْآنِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ - وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا -، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ - يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (4913). وَالأَثَرُ نَقَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (495/ 2) وَسَكَتَ عَنْهُ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (495/ 2): (وَأَمَّا حَدِيْثُ أَنَسٍ عَنْ عُمَرَ فَأَشَارَ بِهِ أَيْضًا - أَيْ: البُخَارِيُّ - إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ - وَهُوَ عِنْدَ الإِسْمَاعِيْلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ المُثَنَّى عَنِ الأَنْصَارِيِّ بِإِسْنَادِ البُخَارِيِّ إِلَى أَنَسٍ - قَالَ: كَانُوا إِذَا قَحَطُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَوْا بِهِ فَيَسْتَسْقِي لَهُمْ فَيُسْقَوْنَ، فَلَمَّا كَانَ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ؛ فَذَكَرَ الحَدِيْثَ). فَقَولُهُ: (فَيَسْتَسْقِي لَهُم) صَرِيْحٌ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطْلُبُ لَهُم السُّقْيَا مِنَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (962/ 2): (الاسْتِسْقَاءُ - وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ - مِنْ طَلَبِ السُّقْيا: أَيْ: إنْزَالِ الغَيْثِ عَلَى البِلَادِ وَالعِبَادِ. يُقَالُ: سَقَى اللهُ عِبَادَهُ الغَيْثَ وَأَسْقَاهُم. وَالاسْمُ السُّقْيَا بِالضَّمِّ. واسْتَسْقَيْتَ فُلَانًا: إِذَا طَلَبتَ مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَكَ). (¬3) وَأَيضًا فَقَد تَتَابَعَ عَمَلُ السَّلَفِ عَلَى التَّوَسُّلِ بُدُعَاءِ الصَّالِحِيْنَ كَمَا فِي خَبَرِ مُعَاوِيَةَ وَالضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَعَ يَزيدِ بْنِ الأَسْوَدِ الجُرَشِيِّ. وَقَد سَبَقَ. (¬4) البُخَارِيُّ (6265). (¬5) وَأَمَّا فِرْيَةُ مَنْ لَم تَشْعُرْ أَفْئِدَتُهُم بِتَقْوَى اللهِ فِي المُسْلِمِيْنَ؛ مِنْ أَنَّ سَبَبَ قَوْلِ مَانِعِي التَّوَسُّلِ بِالجَاهِ والذَّاتِ هُوَ ظَنُّهُم أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَثَرٌ ذَاتِيٌّ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ قَبْلَ مَوْتِهِ؛ فَلَمَّا مَاتَ لَم يَعُدْ لَهُ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ! أَوْ أَنَّهُ لمَ يَعُدْ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى! وَأَنَّهُم بِذَلِكَ يَعْتَقِدُوْنَ - أَي السَّلَفِيُّوْنَ المُنْكِرُوْنَ لِلتَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ - النَّفْعَ وَالضُّرَّ فِي ذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَهَذَا مَحْضُ افْتِرَاءٍ وَكَذِبٍ - عَلَيْهِم مِنَ اللهِ مَا يَسْتَحِقُّوْنَ - وَإِنَّمَا الفَارِقُ عِنْدَنَا حَقِيْقَةً هُوَ إِمْكَانِيَّةُ الدُّعَاءِ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ مُمْكِنًا، بِخِلَافِ زَمَنِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالفَيْصَلُ بَيْنَنَا وَبَينَهُم قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا، فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا)، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي اِتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ، فَنَحْنُ سَلَفِيُّوْنَ وَهُمْ خَلَفِيُّوْنَ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (أُولَئِكَ آبَائِي؛ فَجِئْني بمِثْلِهِمْ ... إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيْرُ المَجَامِعُ).

7) أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالُ: إِنَّ مُرَادَ عُمَرَ هُوَ بَيَانُ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالمَفْضُوْلِ مَعَ وُجُوْدِ الفَاضِلِ، وَذَلِكَ لِأُمُوْرٍ؛ مِنْهَا: أ) أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيْلَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَكْفِيْنَا القَوْلُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَتَوَسَّلُوا - بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ مَعْنَى التَّوَسُّلِ - بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ. ب) أَنَّ أَحْرَجَ الأَوْقَاتِ - مِنَ القَحْطِ وَالجَدْبِ وَالجُوْعِ - لَا يُقْبَلُ فِيْهِ تَرْكُ الفَاضِلِ وَاللُّجُوْءُ إِلَى المَفْضُولِ! لَا سِّيَمَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ بَيَانُهُ بِالقَوْلِ، أَوْ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِمَا جَمِيْعًا. (¬1) (¬2) ج) أَنَّ التَّوَسُّلَ جَاءَ إِيْضَاحُ مَعْنَاهُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَأعرَابِيِّ، وَأَيضًا بِدُعَاءِ العَبَّاسِ، سَوَاءً كَانَ المَقْصُوْدُ تَعْلِيْمَ الجَوَازِ أَمْ غَيْرَهُ، فَنَقُوْلُ إِذًا لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَوَسَّلَ بِهِ أَصْحَابُهُ - وَأَنَّى لَهُم ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُوْنَ} (الزُّمَر:30). د) تَكْرَارُ التَّوَسُّلِ بِالعَبَّاسِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وجُوْدِ تِلْكَ الدَّعْوَى أَصْلًا؛ لِقَوْلِهِ (إِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا؛ اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ). (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) وَأَيضًا إِنَّ هُنَاكَ مِنَ المَفْضُوْلِ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَى مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلِ التَّوَسُّلُ بِهِم؛ أَلَا وَهُوَ سَائِرُ الأَنْبِيَاءِ وَالمَلَائِكَةُ الكِرَامُ المُقَرَّبُوْنَ - وَهُمْ أَحْيَاءٌ أَيْضًا -، وَلَكِنَّ الفَرْقَ كَمَا لَا يَخْفَى هُوَ أَنَّهُم أَمْوُاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ - بِالنِّسْبَةِ لِسَائِرِ الأَنْبِيَاءِ - أَوْ غَيْرُ حَاضِرِيْنَ لِلدُّعَاءِ - بِالنِّسْبَةِ لِسَائِرِ المَلَائِكَةِ وَعَيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (¬2) وَإِنَّ الانْصِرَافَ عَنِ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَو جَازَ - إِلَى التَّوَسُّلِ بِجَاهِ غِيْرِهِ؛ مَا هُوَ إَلَّا كَالانْصِرَافِ عَنِ الإِقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الإقْتِدَاءِ بِغَيْرِهِ - سَوَاءً بِسَوَاءٍ - إِذْ لَا مُقَارَبَةَ أَبَدًا بَيْنَهُ وَبَينَ غَيْرِهِ. وَلَو أَنَّ إِنْسَانًا أُصِيْبَ بِمَكْرُوْهٍ فَادِحٍ؛ وَكَانَ أَمَامَهُ نَبِيٌّ، وَآخَرُ غَيْرُ نَبِيٍّ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمَا طَلَبَهُ إِلَّا مِنَ النَّبيِّ، وَلَو طَلَبَهُ مِنْ غَيرِ النَّبِيِّ وَتَرَكَ النَّبِيَّ لَعُدَّ مِنَ الآثِمِيْنَ الجَاهِلِيْنَ الَّذِيْنَ يَسْتَبْدِلُوْنَ الَّذِيْ هُوَ أَدْنَى بِالَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ. (¬3) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي الاسْتِيْعَابِ (2/ 814). (¬4) وَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى لِلعَبَّاسِ مَا يَرَى الوَلَدُ لِلْوَالِدِ؛ فَاقْتَدُوا بِرَسُوْلِ اللهِ وَاتَّخِذُوْهُ (أَي العَبَّاسَ) وَسِيْلَةً إِلَى اللهِ)! فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيْفَةٌ فِيْهَا دَاوُدُ بْنُ عَطَاءٍ المَدَنِيُّ، وَهُوَ ضَعِيْفٌ كَمَا فِي التَّقْرِيْبِ (ص199) لِلحَافِظِ، وَقَد تَعَقَّبَ الذَّهَبِيُّ الحَاكِمَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَائِلًا (دَاوُدُ: مَتْرُوْكٌ). وَقَد ذَكَرَ لَهَا الشَّيْخُ الأَلبَانيُّ رَحِمَهُ اللهُ ثَلَاثَ عِلَلٍ: 1 - دَاودُ بْنُ عَطَاءٍ؛ ضَعِيْفٌ. 2 - سَاعِدَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ المُزَنِيُّ؛ لَمْ تُوْجَدْ لَهُ تَرْجَمَةٌ. 3 - الاضْطِرَابُ فِي السَّنَدِ؛ فَتَارَةً عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيْهِ مِنْ طَرِيْقِ هِشَام بْنِ سَعْدٍ، وَتَارةً عَنْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِشَامُ أَقْوَى مِنْ دَاوُدَ. وَلَكِنْ أَيْضًا هَذِهِ الرِّوَايَةُ يَكُوْنُ فِيْهَا التَّوَسُّلُ مَحْمُوْلٌ عَلَى الدُّعَاءِ؛ لِوُجُوْدِ النُّصُوْصِ الصَّحِيْحَةِ الصَّرِيْحَةِ فِي ذَلِكَ.

8) وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ عُمَرَ تَرَكَ التَّوَسُّلَ بِذَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَم يَبْلُغْهُ حَدِيْثُ الضَّرِيْرِ! - وَسَيَأْتِي -، فَهُوَ جَوَابٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوْهٍ: أ) أَنَّ حَدِيْثَ الضَّرِيْرِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَوَسُّلُ عُمَرَ هَذَا مِنَ التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ لَا بِالذَّاتِ، كَمَا سَيأْتِي بَيَانُهُ. ب) أَنَّ تَوَسُّلَ عُمَرَ لَم يَكُنْ سِرًّا، بَلْ كَانَ جَهْرًا عَلَى رُؤُوْسِ الأَشْهَادِ، وَفِيْهِم كِبَارُ الصَّحَابَةِ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ وَغَيْرِهِم، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَخْفَى الحَدِيْثُ عَلَى عُمَرَ، فَهَلْ يَجُوْزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى جَمِيْعِ المَوْجُودِيْنِ مَعَ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ؟! ج) أَنَّ عُمَرَ - كَمَا سَبَقَ - كَانَ يُكَرِّرُ هَذَا التَّوَسُّلَ كُلَّمَا نَزَلَ بِأَهْلِ المَدِيْنَةِ خَطَرٌ، أَوْ كُلَّمَا دُعِيَ لِلاسْتِسْقَاءِ - كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ (كَانَ) - فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ السَّابِقِ؛ وَالَّذِيْ فِيْهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي كِتَابِهِ (الاسْتِيْعَابُ) (¬1)، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَفَيَجُوْزُ أَنْ يَسْتَمِرَ عَلَى الجَهْلِ بِهِ كُلَّمَا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ - وَعِنْدَهُ المُهَاجِرُوْنَ وَالأَنْصَارُ! - وَهُمْ سُكُوْتٌ لَا يُقَدِّمُوْنَ إِلَيْهِ مَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ بِحَدِيْثِ الضَّرِيْرِ؟! د) أَنَّ عُمُرَ لَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِيْ عَدَلَ عَنِ التَّوَسُّلِ بِذَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ، بَلْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ أَيْضًا عَدَلَ إِلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ يَزِيْدَ بْنِ الأَسْوَدِ، وَلَم يَتَوَسَّلَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَاءِ التَّابِعِيْنَ -، فَهَلْ يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ لَم يَكُوْنُوا يَعْلَمُوْنَ بِحَدِيْثِ الضَّرِيْرِ؟! وَقُلْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي تَوَسُّلِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ (¬2) بِيَزِيْدَ هَذَا أَيْضًا! (¬3) ¬

_ (¬1) (الاسْتِيعَابُ) (814/ 2). (¬2) (أَحَدُ الوُلَاةِ الشُّجْعَانِ، شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ، وَسَكَنَهَا، وَشَهِدَ صِفِّيْنَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَوَلَّاُه مُعَاوِيَةُ عَلَى الكُوْفَةِ سَنَةَ 53 هـ، (ت 65 هـ)). قَالَهُ الزِّرِكْلِيُّ فِي الأَعْلَامِ (214/ 3). (¬3) رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرٍ فِي التَّارِيْخِ (112/ 65)، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّوَسُّلُ) (ص42).

الشبهة الثانية) حديث الضرير

- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) حَدِيْثُ الضَّرِيْرِ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ؛ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيْرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اُدْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَني. قَالَ: (إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ، فَهوَ خَيْرٌ)، وَفِي رِوَايَةٍ (وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهوَ خَيْرٌ لَكَ)، فَقَالَ: ادْعُهُ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوْءَهُ؛ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْن، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحمَّدُ (¬1) إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيْهِ)، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ) (¬2). فَيَرَى المُخَالِفُوْنَ أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ فِي الدُّعَاءِ بِالجَاهِ أَوِ الذَّاتِ. وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا التَّوَسُّلَ لَيْسَ تَوَسُّلًا بِالذَّاتِ وَالجَاهِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَسُّلٌ بِالدُّعَاءِ - وَهُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ المَشْرُوْعُ - وَتَدُلُّ لِذَلِكَ أُمُوْرٌ: 1) أَنَّ الأَعْمَى إِنَّمَا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ لَهُ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ (اُدْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنِي)، وَلَو كَانَ قَصْدُ الأَعْمَى التَّوَسُّلَ بِذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ جَاهِهِ أَوْ حَقِّهِ لَمَا كَانَ ثَمَّةَ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى أَنْ يَأْتيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَهُ، بَلْ كَانَ الأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي بَيتِهِ، وَيَدْعُوَ رَبَّهُ بِهِ. (¬3) 2) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَهُ بِالدُّعَاءِ؛ وَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ إِجَابَةِ طَلَبِهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ المَقْصُوْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَسُّلِ. (¬4) 3) قَوْلُ الضَّرِيْرِ فِي آخِرِ دُعَائِهِ (اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ، وَشَفِّعْنِي فِيْهِ) (¬5) صَرِيْحٌ فِي أَنَّ التَّوَسُّلَ كَانَ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ إِنَّ الشَّفَاعَةَ هيَ الدُّعَاءُ (¬6)، وَعَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الحَدِيْثِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِذَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ جَاهِهِ، أَوْ حَقِّهِ. ¬

_ (¬1) الخِطَابُ هُنَا - بِالنِّدَاءِ - فِيْهِ تَوْجِيْهَانِ: أ) أَنَّهُ كَانَ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَحْقِيْقِ كِتَابِ (الآيَاتُ البَيِّنَاتُ) (ص91): (هَذَا إِذَا افْتُرِضَ أَنَّ النّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعِيْدًا أَوْ غَائِبًا عَنْهُ لَا يَسْمَعُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حُضُوْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا إِشْكَالَ). ب) قَالَ شَيْخُ الإْسَلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ) (319/ 2): (هَذَا وَأَمْثَالَهُ نِدَاءٌ يُطْلَبُ مِنْهُ اسْتِحْضَارُ المُنَادَى فِي القَلْبِ، فَيُخَاطَبُ المَشْهُوْدُ بِالقَلْبِ؛ كَمَا يَقُوْلُ المُصَلِّيُ: السَّلَامُ عَلَيكَ أيُّها النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللهُ وبَرَكَاتُهُ. وَالإِنْسَانُ يَقُوْلُ مِثْلَ هَذَا كَثِيْرًا، يُخَاطِبُ مَنْ يَتَصَوَّرُهُ فِي نَفْسِهِ وإنْ لَمْ يكنْ فِي الخَارِجِ مَنْ يَسْمَعُ الخِطَابَ). (¬2) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3578)، وَأَحْمَدُ (17241) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1279). (¬3) وَلَكِنَّهُ لَم يَفْعَلْ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ يَفْهَمُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ فِي لُغَةِ العَرَبِ حَقَّ الفَهْمِ، وَيَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةً يَقُوْلُهَا صَاحِبُ الحَاجَةِ؛ يَذْكُرُ فيهَا اسْمَ مَنْ يُتَوَسَّلُ بِهِ! بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى المَجِيءِ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ فِيْهِ الصَّلَاحَ وَالعِلْمَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَهُ. (¬4) وَفِيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ التَّوَسُّلِ المَشْرُوْعِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ. وَفِي مُجْمَلِ أَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضَّرِيْرِ جَمْعٌ لَطِيْفٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ التَّوَسُّلِ المَشْرُوْعَةِ، حَيْثُ أَمَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْن ثُمَّ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ - وَهَذِهِ الأَعْمَالُ طَاعَةٌ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُقَدِّمُهَا بَينَ يَدي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَهيَ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ} كَمَا سَبَقَ - ثُمَّ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِصِفَةِ الأُلُوْهِيَّةِ للهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ (اللَّهُمَّ)، ثُمَّ جَاءَ دُعَاءُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ بَعْدَهُ. (¬5) هَذِهِ الجُمْلَةُ هيَ عَنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا (17241)، وَالحَاكِمِ (1180) وَغَيْرِهِمَا. وَفِي لَفْظٍ لِلحَاكِمِ (1929): (اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ، وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (681). (¬6) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (184/ 8): (وَالشَّفَاعَةُ: كَلَامُ الشَّفِيْعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يَسْأَلُها لِغَيْرِهِ، وَشَفَعَ إِلَيْهِ: فِي مَعْنَى طَلَبَ إِلَيْهِ، وَالشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ يَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى المَطْلُوْبِ).

4) أَنَّ مِمَّا عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَعْمَى أَنْ يَقُوْلَهُ هُوَ (وَشَفِّعْنِي فِيْهِ) (¬1) أَي اقْبَلْ شَفَاعَتِي؛ أَيْ: دُعَائِي، فَلَو حُمِلَ التَّوَجُّهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الذَّاتِ وَالجَاهِ لَمَا كَانَ لِقَوْلِ الضَّرِيرِ هَذَا مَعْنَىً، وَأَمَّا لَو حُمِلَ عَلَى الدُّعَاءِ لَكَانَ المَعْنَى وَاضِحًا مُسْتَقِيْمًا؛ أَنَّهُ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ تُقْبَلَ شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: دُعَاءَهُ فِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. 5) أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ ذَكَرَهُ العُلَمَاءُ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ المُسْتَجَابِ، وَلَو كَانَ المُرَادُ مِنْهُ التَّوَسُّلَ بِالذَّاتِ لَمَا أَوْرَدَهُ عُلَمَاءُ الحَدِيْثِ فِي بَابِ مُعْجِزَاتِ الأَنْبِيَاءِ (¬2)، فَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ دِلَالَةً صَرِيْحَةً عَلَى أَنَّ المَقْصُوْدَ مِنَ الحَدِيْثِ بَيَانُ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ التَّوَسُّلَ بِالجَاهِ وَالذَّاتِ الَّذِيْ لَا يَقْتَصِرُ فَقَطْ عَلَى حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَأَمَّلْ. (¬3) 6) لَو كَانَ المَقْصُوْدُ مِنْ حَدِيْثِ الضَّرِيْرِ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ لَتَوَاتَرَ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ؛ كَيفَ وَهُوَ مِنَ الوَسِيْلَةِ المَأْمُورِ بِهَا - كَمَا يَقْصِدُ بِهِ المُبْتَدِعَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ} - وَحَيثُ أَنَّهُ لَم يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيْلٌ صَحِيْحٌ مِنْ فِعْلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ يَبْدُو جَلِيًّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ المَقْصُوْدُ بِالَحَدِيْثِ، وَالحَمْدُ للهِ. - فَائِدَة 1) أمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِيْ وَرَدَتْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيْخِهِ فِي آخِرِ الحَدِيْثِ وَهيَ (وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ) فَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ. (¬4) وَلَو صَحَّتْ لَمْ تَكُنْ دَلِيْلًا عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِذَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُوْنَ مَعْنَى قَوْلِه (فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ) يَعني مِنْ إِتْيَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَطَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَالتَّوَضُّؤِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الَّذِيْ عَلَّمَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُو بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. - فَائِدَة 2) أَمَّا الزِّيَادَةُ الثَّانِيَةُ وَهيَ قِصَّةُ الرَّجُلِ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَتَوَسُّلِهِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ، وَأَخْرَجَهَا الطَّبَرَانيُّ فِي المُعْجمِ الصَّغِيْرِ وَالكَبِيْرِ (¬5)، فَهِيَ قِصَّةٌ ضَعِيْفَةٌ مُنْكَرَةٌ. (¬6) ¬

_ (¬1) هَذِهِ الجُمْلَةُ صَحَّتْ فِي الحَدِيْثِ، أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ (17241)، وَالحَاكِمُ (1180) وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَهِيَ وَحْدَهَا حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الحَدِيْثِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ بَاطِلٌ. (¬2) كَمَا فِي كِتَابِ (دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ للبَيْهَقِيِّ) (83/ 6): (بَابُ جِمَاعِ أَبْوَابِ دَعَوَاتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُسْتَجَابَةِ فِي الأَطْعِمَةِ وَالأَشْرِبَةِ، وَبَرَكَاتِهِ الَّتِيْ ظَهَرَتْ فِيْمَا دَعَا فِيْهِ، وَغَيرِ ذَلِكَ مِنْ دَعَوَاتِهِ عَلَى طَرِيْقِ الاخْتِصَارِ). وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَنْ رَأَى أَنَّ تَوَسُّلَ الأَعْمَى كَانَ بِذَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، وَلَا يَزِيْدَ عَلَيْهِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّيْخِ العِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ الَّذِيْ يَقْتَضِيْهِ البَحْثُ العِلْمِيُّ مَعَ الإِنْصَافِ، وَاللهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ. (¬3) كَمَا أَنَّهُ لَو كَانَ السِّرُّ فِي شِفَاءِ الأَعْمَى أَنَّهُ تَوَسَّلَ بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْرِهِ وَحَقِّهِ - كَمَا يَفْهَمُ عَامَّةُ المُتَأَخِّرِيْنَ - لَكَانَ مِنَ اللَّازِمِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الشِّفَاءُ لِغَيْرِهِ مِنَ العُمْيَانِ الَّذِيْنَ يَتَوَسَّلُوْنَ بِجَاهِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِ أَحْيَانًا جَاهَ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِيْنَ وَكُلِّ الأَوْلِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ وَجَاهِ كُلِّ مَنْ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ اللهِ مِنَ المَلَائِكَةِ وَالإنْسِ وَالجِنِّ أَجْمَعِيْنَ! (¬4) وَقَد تَفَرَّدَ فِيْهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ؛ وَخَالَفَ بِذَلِكَ رِوَايَةَ شُعْبَةَ؛ وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ رَوَى هَذَا الحَدِيْثَ. (¬5) المُعْجَمُ الكَبِيْرُ (30/ 9)، وَالمُعْجَمُ الصَّغِيْرُ (508). وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبٍ؛ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ المَكِّيِّ (شَبِيْبِ بْنِ سَعِيْدٍ)، عَنْ رَوْحِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الخَطْمِيِّ المَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَكَانَ عُثْمَانُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ ابْنَ حُنَيْفٍ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ: ائْتِ المِيْضَأَةَ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ ائْتِ المَسْجِدَ فَصَلِّ فِيْهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بنبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فَتَقْضِي لِي حَاجَتِي - وَتُذَكُرُ حَاجَتَكَ -، وَرُحْ حَتَّى أَرْوَحَ مَعَكَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ مَا قَالَ لَهُ، ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَجَاءَ البَوَّابُ حَتَّى أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ، فَقَالَ: حَاجَتُكَ؟ فَذَكَرَ حَاجَتَهُ وَقَضَاهَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَ السَّاعَةُ، وَقَالَ: مَا كَانَتْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ فَأْتِنَا، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيْفٍ، فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِيَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ! وَلَكِنِّي شَهِدْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَتَصَبَّر)، فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ائْتِ المِيْضَأَةَ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ ادْعُ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ)، قَالَ ابْنُ حُنَيْفٍ: فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَطَالَ بِنَا الحَدِيْثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ. حَدَّثَنَا إِدْرِيْسُ بْنُ جَعْفَرٍ العَطَّارُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الخَطْمِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَالحَدِيْثُ صَحِيْحٌ؛ (قَالَهُ الطَّبَرانيُّ رَحِمَهُ اللهُ). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ الحَدِيْثِ - النَّبَوِيِّ -، وَإِنَّمَا البَحْثُ الآنَ فِي هَذِهِ القِصَّةِ الَّتِيْ تَفَرَّدَ بِهَا شَبِيْبُ بْنُ سَعِيْدٍ كَمَا قَالَ الطَّبَرانِيُّ). (¬6) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَخُلَاصَةُ القَولِ: إِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ ضَعِيْفَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ لِأُمُوْرٍ ثَلَاثَةٍ: ضَعْفِ حِفْظِ المُتَفَرِّدِ بِهَا (شَبِيْبِ بْنِ سَعِيْدٍ)، وَالاخْتِلَافِ عَلَيْهِ فِيْهَا، وَمُخَالَفَتِهِ لِلثِّقَاتِ الَّذِيْنَ لَم يَذْكُرُوْهَا فِي الحَدِيْثِ. وَأَمْرٌ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ كَافٍ لِإِسْقَاطِ هَذِهِ القِصَّةَ، فَكَيْفَ بِهَا مُجْتَمِعَةً؟).

الشبهة الثالثة) الأحاديث الضعيفة في التوسل، وأشهرها

- الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) الأَحَادِيْثُ الضَّعِيْفَةُ فِي التَّوَسُّلِ، وَأَشْهَرُهَا: 1) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْريِّ مَرْفُوْعًا (مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِيْنَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هذَا) (¬1). وَهُوَ حَدِيْثٌ ضَعِيْفٌ، فِيْهِ عَطِيَّةُ العَوْفِيُّ؛ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ. (¬2) 2) كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: (بِسْمِ اللهِ، آمَنْتُ باللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، اللَّهُمَّ بِحَقِّ السَّائِلِيْنَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَخْرَجِي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْهُ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، خَرَجْتُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِكَ، وَاتِّقاءَ سَخَطِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيْذَنِي مِنَ النَّارِ وتُدْخِلَنِي الجَنَّةَ) (¬3). مُنْكَرٌ، فِيْهِ الوَازِعُ بْنُ نَافِعٍ العُقَيْلِيُّ، وَهوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَلَكِنْ مَعَ كَوْنِ هَذَيْنِ الحَدِيْثَيْنِ ضَعِيْفَيْنِ فَهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالمَخْلُوْقِيْنَ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يَعُوْدَانِ إِلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ التَّوَسُّلِ المَشْرُوْعَةِ الَّذِيْ تَقَدَّمَ الكَلَامُ عَنْهُ، وَهُوَ التَّوَسُّلِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ فِيْهِمَا التَّوَسُّلَ بِحَقِّ السَّائِلِيْنَ عَلَى اللهِ وَبِحَقِّ مَمْشَى المُصَلِّيْنَ. فَمَا هُوَ حَقُّ السَّائِلِيْنَ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟ لَا شَكَّ أَنَّهُ إِجَابَةُ دُعَائِهِم، وَإِجَابَةُ اللهِ دُعَاءَ عِبَادِهِ؛ هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ حَقُّ مَمْشَى المُسْلِمِ إِلَى المَسْجِدِ هُوَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ وَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً وَيَمْحِي عَنْهُ سَيِّئَةً. وَمَغْفِرَةُ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتُهُ وَإِدْخَالُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ مِمَّنْ يُطِيْعُهُ الجَنَّةَ؛ كُلُّ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ الَّذِيْ يَحْتَجُّ بِهِ المُبْتَدِعُوْنَ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِم. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ أَحْمَدُ (11156)، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَطِيَّةُ ضَعِيْفٌ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّقْرِيْبِ (393/ 1): (صَدُوْقٌ يُخْطِئُ كَثِيْرًا، كَانَ شِيْعِيًا مُدَلِّسًا)، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المُغْنِي فِي الضُّعَفَاءِ) (436/ 2): (مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ). وَانْظُرِ الكَلَامَ عَلَى الحَدِيْثِ مُفَصَّلًا فِي الضَّعِيْفَةِ (24). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ (التَّوَسُّلِ) (ص93): (وَخُلَاصَةُ ذَلِكَ أَنَّ عَطِيَّةَ هَذَا كَانَ يَروي عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمَّا مَاتَ جَالَسَ أَحَدَ الكَذَّابِيْنَ المَعْرُوْفِيْنَ بِالكَذِبِ فِي الحَدِيْثِ - وَهُوَ الكَلبِيُّ - فَكَانَ عَطِيَّةُ إِذَا رَوَى عَنْهُ كَنَّاهُ أَبَا سَعِيْدٍ، فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُوْنَ مِنْهُ أَنَّهُ يُرِيْدُ أَبَا سَعِيْدٍ الخُدْرِيَّ! وَهَذَا وَحْدَهُ عِنْدِي يُسْقِطُ عَدَالَةَ عَطِيَّةَ هَذَا، فَكَيفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ سُوْءُ حِفْظِهِ!). وَأَوْرَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي رِسَالَتِهِ (طَبَقَاتُ المُدَلِّسِيْنَ) (ص50)، فَقَالَ: (تَابِعِيٌّ مَعْرُوْفٌ، ضَعِيْفُ الحِفْظِ؛ مَشْهُوْرٌ بِالتّدْلِيْسِ القَبِيْحِ) ذَكَرَهُ فِي المَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ؛ وَهيَ الَّتِيْ يُوْرِدُ فِيْهَا مَنْ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيْثِهِم إِلَّا بِمَا صَرَّحُوا فِيْهِ بِالسَّمَاعِ؛ لِكَثْرَةِ تَدْلِيْسِهِم عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالمَجَاهِيْلَ. (¬2) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ (مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِيْنَ عَلَيْكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَخَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ. فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيْذَنِي مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوْبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ إِلَّا أَنْتَ) أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُوْنَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ صَلَاتُهُ). (¬3) الحَدِيْثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ (75/ 1) مِنْ طَريقِ الوَازِعِ بْنِ نَافِعٍ العُقَيْلِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ بِلَالٍ. وَهَذَا سَنَدٌ ضَعِيْفٌ جِدًّا، وَآفَتُهُ الوَازِعُ هَذَا، فَإِنَّهُ لَم يَكُنْ عِنْدَهُ وَازِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الكَذِبِ، كَمَا فِي الضَّعِيْفَةِ (6252)، وَفِيْهَا (وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الأَذْكارِ: (حَدِيْثٌ ضَعِيْفٌ؛ أَحَدُ رُوَاتِهِ الوَازِعُ بْنُ نَافِعٍ العُقَيليُّ - وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَأَنَّهُ مُنْكَرُ الحَدِيْثِ -) قَالَ الحَافِظُ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: (هَذَا حَدِيْثٌ وَاهٍ جِدًّا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي (الأَفْرَادِ) مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَقَالَ: (تَفَرَّدَ بِهِ الوَازِعُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَأَنَّهُ مُنْكَرُ الحَدِيْثِ)).

3) عَنْ أَبي أُمَامَةَ؛ قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ (اللَّهُمَّ أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبَدَ،، أَسْأَلُكَ بِنُوْرِ وَجْهِكَ الَّذِيْ أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؛ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَكَ، وَبِحَقِّ السَّائِلِيْنَ) (¬1). وَهُوَ ضَعِيْفٌ جِدًّا. رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ، وَفِيْهِ فَضَّالُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ ضَعِيْفٌ جِدًّا، اتَّهَمَهُ ابْنُ حِبَّانَ. (¬2) (¬3) 4) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ - أُمُّ عَلِيِّ بِنْ أَبِي طَالِبٍ -؛ دَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَأَبَا أَيُّوْبَ الأَنْصَارِيَّ وَعُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَغُلَامًا أَسْوَدَ يَحْفُرُوْنَ، فَلَمَّا فَرَغَ دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَاضْطَجَعَ فِيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُ الَّذِيْ يُحْيِي وَيُمِيْتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوْتُ، اغْفِرْ لأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، ولَقِّنْهَا حُجَّتَها، وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا؛ بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالأَنْبِيَاءِ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ) (¬4). مُنْكَرٌ. رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ فِي الكَبيرِ وَالأَوْسَطِ وَفِيْهِ رَوْحُ بْنُ صَلَاحٍ ضَعِيْفٌ تَفَرَّدَ بِهِ. (¬5) 5) عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيْد؛ قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيْكِ المُهَاجِرِيْنَ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانيُّ فِي المُعْجَمِ الكَبِيْرِ (¬6)، وَيَرَى المُخَالِفُوْنَ أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ يُفِيْدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطْلُبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَفْتَحَ عَلَيْهِ بِالضُّعَفَاءِ المَسَاكِيْنِ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَهَذَا - بِزَعْمِهِم - هُوَ التَّوَسُّلُ المُخْتَلَفُ فِيْهِ نَفْسُهُ. وَلَكِنَّ الحَدِيْثَ مُرْسَلٌ ضَعِيْفٌ، لِأَنَّ (أُمَيَّةَ) لَم تَثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ. (¬7) ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّ الحَدِيْثَ لَو صَحَّ فَلَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيْثُ عُمَرَ وَحَدِيْثُ الأَعْمَى مِنَ التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ الصَّالِحِيْنَ. قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (¬8): (كَانَ يَسْتَفْتِحُ؛ أَيْ: يَفْتَتِحُ القِتَالَ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الفَتْحُ} (الأَنْفَال:19) ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيَسْتَنْصِرُ؛ أَيْ: يَطْلُبُ النُّصْرَةَ بِصَعَالِيْكِ المُسْلِمِيْنَ؛ أَيْ: بُدُعَاءِ فُقَرَائِهِم الَّذِيْنَ لَا مَالَ لَهُم). (¬9) ¬

_ (¬1) الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (264/ 8). وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ وَأمْسَى دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ (اللَّهُمَّ أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ، وَأَنْصَرُ مَنْ ابْتُغِي، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وَأَجْوَدُ مَن سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى، أَنْتَ المَلِكُ لَا شَرِيْكَ لَكَ، وَالفَرْدُ لَا تَهْلَكُ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَكَ، لَنْ تُطَاعَ إِلَّا بِإذْنِكَ، وَلَنْ تُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِكَ، تُطَاعُ فَتَشْكُرُ، وَتُعْصَى فَتَغْفِرُ، أَقْرَبُ شَهِيْدٍ، وَأدْنَى حَفِيْظٍ، حِلْتَ دُوْنَ الثُّغُوْرِ، وَأَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي، وَكَتَبْتَ الآثَارَ، وَنَسَخْتَ الآجَالَ، القُلُوْبُ لَكَ مُفْضِيَّةٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَكَ عَلَانِيَّةٌ، الحَلَالُ مَا أَحْلَلَتَ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمْتَ، وَالدِّيْنُ مَا شَرَّعْتَ، وَالأَمْرُ مَا قَضَيْتَ، وَالخَلْقُ خَلْقُكَ، وَالعَبْدُ عَبْدُكَ، وَأَنْتَ اللهُ الرَّؤُوْفُ الرَّحِيْمُ، أَسأَلُكَ بِنُوْرِ وَجْهِكَ الَّذِيْ أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَبِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَكَ، وَبِحَقِّ السَّائِلِيْنَ عَلَيْكَ أَنْ تَقْبَلَنِي فِي هَذِهِ الغَدَاةِ أَوْ فِي هَذِهِ العَشِّيةِ وَأَنْ تُجِيْرَنِي مِنَ النَّارِ بِقُدْرَتِكَ). (¬2) كِتَابُ (المَجْرُوْحِيْنَ) (204/ 2)، وَقَالَ ابْنُ عَدِّيٍّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الكَامِلُ) (131/ 7): (وَلِفَضَّالِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ أَبِي أُمَامَةَ قَدْرُ عَشَرَةِ أَحَادِيْثَ؛ كُلُّهَا غَيْرُ مَحْفُوْظَةٍ). (¬3) اُنْظُرِ الضَّعِيْفَةَ (6253). (¬4) الطَّبَرَانيُّ فِي الكَبيرِ (351/ 24) وَالمُعْجَمِ الأَوْسَطِ (189). وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ - كَمَا فِي المُعْجَمِ الكَبِيْرِ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: (لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ - أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا، فَقَالَ: (رَحِمَكِ اللهُ يَا أُمِّي، كُنْتِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي، وتُشْبِعِيْنِي وَتَعْرَيْنَ، وتُكْسِيْنِي وَتَمْنَعِيْنَ نَفْسَكِ طَيِّبًا، وتُطْعِمِيْنِي تُرِيْدِيْنَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ)، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُغَسَّلَ ثَلَاثًا، فَلَمَّا بَلَغَ المَاءَ الَّذِيْ فِيْهِ الكَافُوْرُ؛ سَكَبَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، ثُمَّ خَلَعَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيْصَهُ، فَأَلْبَسَهَا إِيَّاهُ وَكَفَّنَهَا بِبُرْدٍ فَوْقَهُ، ثُمَّ دَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَأَبَا أَيُّوْبٍ الأَنْصَارِيَّ وَعُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَغُلَامًا أَسْوَدَ يَحْفُرُوْنَ فَحَفَرُوا قَبْرَهَا، فَلَمَّا بَلَغُوا اللَّحْدَ حَفَرَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَأَخْرَجَ تُرَابَهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاضْطَجَعَ فِيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُ الَّذِيْ يُحْيِي وَيُمِيْتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوْتُ، اغْفِرْ لأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، وَلَقِّنْهَا حُجَّتَها، وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا؛ بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالأَنْبِيَاءِ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ) وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، وأَدْخَلُوْهَا اللَّحْدَ - هُوَ وَالعَبَّاسُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -). (¬5) الضَّعِيْفَةُ (23). (¬6) الطَّبَرَانيُّ فِي المُعْجَمِ الكَبِيْرِ (292/ 1). (¬7) قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الاسْتِيعَابُ) (107/ 1): (لَا تَصِحُّ عِنْدِي صُحْبَتُهُ، وَالحَدِيْثُ مُرْسَلٌ). (¬8) (فَيْضُ القَدِيْرِ) (219/ 5). (¬9) وَفِي الحَدِيْثِ (هَلْ تُنْصَرُوْنَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؛ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ). صَحِيْحٌ. حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ (289/ 8) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7034).

6) عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الخَطِيْئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْتَ لِي، فَقَالَ اللهُ: (يَا آدَمُ، وَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟) قَالَ: يَا رَبِّ، لِأَنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ وَنَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوْحِكَ؛ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ عَلَىَ قَوَائِمِ العَرْشِ مَكْتُوْبًا (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ)؛ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الخَلْقِ إِلَيْكَ، فَقَالَ اللهُ: (صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأَحَبُّ الخَلْقِ إِلَيَّ، ادْعُنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ). أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (¬1)، وَهُوَ مَوْضُوْعٌ، فِيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ وَاهٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ الفِهْرِيُّ مُتَّهَمٌ بِوَضْعِ الحَدِيْثِ. (¬2) وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ العُلَمَاءُ مِنْ وَضْعِ هَذَا الحَدِيْثِ وَبُطْلَانِهِ أَنَّهُ يُخَالِفُ القُرْآنَ الكَرِيْمَ فِي مَوضِعَيْنِ مِنْهُ؛ وَهُمَا: أ) أَنَّهُ تَضَمَّنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَفَرَ لِآدَمَ بِسَبَبِ تَوَسُّلِهِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: (يَا آدَمُ، وَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟))، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقوْلُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ} (البَقَرَة:37). (¬3) ب) قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ) مُعَارِضٌ لِمَا قَد أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ عَنِ الحِكْمَةِ الَّتِيْ مِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ} (الذَّارِيَات:56). (¬4) وَأَمَّا زَعْمُ بَعْضِهِم أَنَّهُ حَدِيْثٌ ضَعِيْفٌ فَقَط - جَدَلًا -؛ وَأَنَّ الحَدِيْثَ الضَّعِيْفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ اتِّفَاقًا! فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذَا التَّوَسُّلِ، وَلِكَوْنِ الاسْتِحْبَابِ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِنَ الأَحْكَامِ الخَمْسَةِ - الَّتِيْ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ صَحِيْحٍ تَقُوْمُ بِهِ الحُجَّةُ - فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ، فَالأَمْرُ خَارِجٌ عَنْ مُجَرَّدِ الفَضَائِلِ. (¬5) 7) حَدِيْثُ (تَوَسَّلُوا بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيْمٌ)، وَبَعْضُهُم يَرْوِيْهِ بِلَفْظِ (إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي، فَإِنَّ جَاهِيَ عِنْدَ اللهِ عَظِيْمٌ). هُوَ حَدِيْثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الحَدِيْثِ البَتَّةَ. (¬6) ¬

_ (¬1) مَوْضُوْعٌ. الحَاكِمُ (4228) وَقَالَ عَقِبَهُ رَحِمَهُ اللهُ: (صَحِيْحُ الإِسْنَادِ؛ وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيْثٍ ذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذَا الكِتَابِ)، فَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (قُلْتُ: بَلْ مَوْضُوْعٌ؛ وَعَبُدُ الرَّحْمَنِ وَاهٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَسْلَمَ الفِهْرِيُّ لَا أَدْري مَنْ ذَا). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ تَنَاقُضِ الحَاكِمِ فِي المُسْتَدْرَكِ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَوْرَدَ فِيْهِ حَدِيْثًا آخَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا وَلَم يُصَحِّحْهُ، بَلْ قَالَ: (وَالشَّيْخَانِ لَم يَحْتَجَّا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيدٍ). قُلْتُ: اُنْظُرِ المُسْتَدْرَكَ (374/ 3). (¬2) وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ بَعْضِهِم بِأَنَّ الحَافِظَ العَسْقَلَانِيَّ رَحِمَهُ اللهُ حَكَمَ عَلَى (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ) أَنَّهُ ضَعِيْفٌ (فَقَط!) - كَمَا فِي اللِّسَانِ (29/ 4) -؛ فَلَا يُفِيْدُهُم شَيْئًا - بِفَضْلِ اللهِ - فَإِنَّ الحَافِظَ نَفْسَهُ قَالَ عَنْ هَذَا الحَدِيْثِ أَصْلًا أَنَّهُ خَبَرٌ بَاطِلٌ، كَمَا تَجِدُهُ فِي تَرْجَمَةِ (عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ الفِهْرِيِّ) مِنْ نَفْسِ الكِتَابِ (359/ 3). وَالحَمْدُ للهِ. (¬3) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَد جَاءَ تَفْسِيْرُ هَذِهِ الكَلِمَاتِ عَنْ تَرْجُمَانِ القُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بِمَا يُخَالِفُ هَذَا الحَدِيْثَ، فَأَخْرَجَ الحَاكِمُ (3/ 545) عَنْهُ: ({فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قَالَ: أَيْ: رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: (بَلَى). قَالَ: أَيْ: رَبِّ، أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: (بَلَى). قَالَ: أَيْ: رَبِّ، أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: (بَلَى). قَالَ: أَيْ: رَبِّ أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قَالَ: (بَلَى). قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ؛ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الجَنَّةِ؟ قَالَ: (بَلَى). قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}). قَالَ الحَاكِمُ: هَذَا حَدِيْثٌ صَحِيْحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَهُوَ كَمَا قَالَا. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا هُوَ فِي حُكْمِ المَرْفُوْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّهُ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ؛ لَا يُقَالُ مِنْ مُجَرَّدِ الرَّأْي. 2) أَنَّهُ وَرَدَ فِي تَفْسِيْرِ الآيَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهوَ فِي حُكْمِ المَرْفُوْعِ). (¬4) وَمِثْلُهُ الحَدِيْثُ المَشْهُوْرُ لَفْظًا (يَا مُحَمَّدُ، لَوْلَاكَ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا) وَهُوَ مَوْضُوْعٌ، كَمَا فِي تَلْخِيْصِ كِتَابِ المَوضُوْعَاتِ (ص86) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ وَفِيْهِ أَيْضًا (وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: (مَوْضُوْعٌ بِلَا شَكٍّ، وَيَحْيَى البَصْرِيُّ تَالِفٌ كَذَّابٌ، وَالسَّنَدُ فِيْهِ ظُلْمَةٌ)). (¬5) قُلْتُ: وَمَعْنَى (فِي الفَضَائِلِ): أَيْ: إِيْرَادُ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ الإِسْنَادِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ فَضِيْلَةِ عَمَلٍ مَا ثَابِتٍ شَرْعًا؛ أَوِ الحَثِّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ حُكْمٍ بِهِ. وَدَعْوَى الاتِّفَاقِ هَذِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بِهَا، وَالرَّاجِحُ عَدَمُ الجَوَازِ؛ لِأَنَّ الكُلَّ شَرْعٌ. وَلَكِنْ الَّذِيْنَ قَالُوا بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ قَدْ وَضَعُوا لِذَلِكَ العَمَلِ شُرُوْطًا، قَالَ الحَافِظُ ابْن حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (تَبْيِيْنُ العَجَبِ بِمَا وَرَدَ فِي شَهْرِ رَجَب) (ص11): (وَلَكِنْ اشْتُهِرَ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ يَتَسَامَحُوْنَ فِي إِيْرَادِ الأَحَادِيْثِ فِي الفَضَائِلِ - وَإِنْ كَانَ فِيْهَا ضَعْفٌ - مَا لَمْ تَكُنْ مَوْضُوْعَةً. وَيَنْبَغِي مَعَ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ أَنْ يَعْتَقِدَ العَامِلُ كَوْنَ ذَلِكَ الحَدِيْثِ ضَعِيْفًا، وَأَنْ لَا يُشْهِرَ بِذَلِكَ، لِئَلَّا يَعْمَلَ المَرْءُ بِحَدِيْثٍ ضَعِيْفٍ، فَيُشَرِّعَ مَا لَيْسَ بِشَرْعٍ، أَوْ يَرَاهُ بَعْضُ الجُهَّالِ؛ فَيَظُنُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ صَحِيْحَةٌ. وَقَدْ صَرَّحَ بِمَعْنَى ذَلِكَ الأُسْتَاذُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ. وَلْيَحْذَرِ المَرْءُ مِنْ دُخُوْلِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيْثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَذَّابِيْن) فَكَيْفَ بِمَنْ عَمِلَ بِهِ؟ وَلَا فَرْقَ فِي العَمَلِ بِالحَدِيْثِ فِي الأَحْكَامِ أَوْ فِي الفَضَائِلِ؛ إِذِ الكُلُّ شَرْعٌ). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَمَامُ المِنَّةِ) (ص36): (فَهَذِهِ شُرُوْطٌ ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ لِجَوَازِ العَمَلِ بِهِ: 1 - أَنْ لَا يَكُوْنَ مَوْضُوْعًا. 2 - أَنْ يَعْرِفَ العَامِلُ بِهِ كَوْنَهُ ضَعِيْفًا. 3 - أَنْ لَا يُشْهرَ العَمَلُ بِهِ). قُلْتُ: وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْدَرِجَ العَمَلُ نَفْسُهُ تَحْتَ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ. قَالَ الشَّيْخُ القَاسِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (قَوَاعِدُ التَّحْدِيْثِ) (ص116): (وَذَكَرَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةَ شُرُوْطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُوْنَ الضَّعْفُ غَيْرَ شَدِيْدٍ، فَيَخْرُجُ مَنْ انْفَرَدَ مِنَ الكَذَّابِيْنَ وَالمُتَّهَمِيْنَ بِالكَذِبِ وَمَنْ فَحُشَ غَلَطُهُ. نَقَلَ العَلَائِيُّ الاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَ أَصْلٍ مَعْمُوْلٍ بِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَعْتَقِدَ عِنْدَ العَمَلِ بِهِ ثُبُوْتَهُ؛ بَلْ يَعْتَقِدُ الاحْتِيَاطَ). (¬6) الضَّعِيْفَةُ (22). وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (320/ 1): (وَلَكِنَّ جَاهَ المَخْلُوْقِ عِنْدَ الخَالِقِ تَعَالَى لَيْسَ كَجَاهِ المَخْلُوْقِ عِنْدَ المَخْلُوْقِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَالمَخْلُوْقُ يَشْفَعُ عِنْدَ المَخْلُوْقِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ شَرِيْكٌ لَهُ فِي حُصُوْلِ المَطْلُوبِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ). أ. هـ بِحَذْفٍ يَسِيْرٍ.

8) أَثَرُ الاسْتِسْقَاءِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ: قَالَ الحَافِظُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬1) مَا نَصُّهُ: (وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ - وَكَانَ خَازِنُ عُمَرَ - قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي المَنَامِ فَقِيْلَ لَهُ: (ائْتِ عُمَرَ) الحَدِيْثَ (¬2)، وَقَدْ رَوَى سَيْفٌ فِي الفُتُوْحِ أَنَّ الَّذِيْ رَأَى المَنَامَ المَذْكُوْرَ هُوَ بِلَالُ بْنُ الحَارِثِ المُزَنِيُّ أَحَدُ الصَّحَابَةِ). وَالجَوَابُ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ وُجُوْهٍ: أ) مَالِكُ الدَّارِ هَذَا غَيْرُ معْرُوْفِ العَدَالَةِ وَالضَّبْطِ، وَأَمَّا قَوْلُ الحَافِظِ رَحِمَهُ اللهُ (بِإسْنَادٍ صَحِيْحٍ) فَهوَ إِلَى مَالِكِ الدَّارِ، وَأَمَّا مَالِكُ نَفْسُهُ فَهوَ مَجْهُوْلٌ. (¬3) ب) أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ اسْتِحْبَابِ إِقَامَةِ صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ لِاسْتِنْزَالِ الغَيْثِ مِنَ السَّمَاءِ. ج) أَنَّ القِصَّةَ لَو صَحَّتْ - جَدَلًا - فَلَا حُجَّةَ فِيْهَا؛ لِأَنَّ مَدَارَهَا عَلَى رَجُلٍ لَم يُسَمَّ، فَهُوَ مَجْهُوْلٌ أَيْضًا، وَتَسْمِيَتُهُ بِلَالًا (بْنَ الحَارِثِ المُزَنِيَّ) فِي رِوَايَةِ سَيْفٍ لَا تُسَاوِي شَيْئًا، لِأَنَّ سَيْفًا هَذَا - وَهُوَ ابْنَ عُمَرَ التَّمِيْمِيَّ - مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ. (¬4) ء) أَنَّ هَذَا الأَثَرَ لَيْسَ فِيْهِ التَّوَسُّلُ - مَوْضُوْعُ البَحْثِ - وَإِنَّمَا فِيْهِ الطَّلَبُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَهَذَا بَحْثٌ آخَرٌ، يَكْفِيْنَا القَوْلُ فِيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ} (يُوْنُس:106). 9) حَدِيْثُ الكُوَّةِ فَوْقَ القَبْرِ (¬5): رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ؛ حَدَّثَنَا سَعِيْدُ بْنُ زَيدٍ؛ حَدَّثَنَا عَمْرو بْنُ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ؛ حَدَّثَنَا أَبُو الجَوزَاءِ - أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ - قَالَ: قَحَطَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ قَحْطًا شَدِيْدًا فَشَكَوا إِلَى عَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْعَلُوا مِنْهُ كُوًّا إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُوْنَ بَينَهُ وَبَينَ السَّمَاءِ سَقْفٌ، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمُطِرْنَا مَطَرًا حَتَّى نَبَتَ العُشْبُ وَسَمِنَتِ الإِبِلُ حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّيَ عَامَ الفَتْقِ. (¬6) وَالجَوَابُ من أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الحَدِيْثَ ضَعِيْفٌ لَا تَقُوْمُ بِهِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، بِسَبَبِ أُمُوْرٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ سَعِيْدًا بْنَ زَيدٍ فِيْهِ ضَعْفٌ، قَالَ فِيْهِ الحَافِظُ فِي كِتَابِهِ (التَّقرِيْبُ): (صَدُوْقٌ لَهُ أَوْهَامٌ). (¬7) وَثَانِيْهَا: أَنَّ أبَا النُّعْمَانِ هَذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ؛ يُعْرَفُ بِعَارِمٍ وَهوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَد اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. (¬8) 2) أَنَّهُ مَوْقُوْفٌ عَلَى عَائِشَةَ وَلَيْسَ بِمَرْفُوْعٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَو صَحَّ لَمْ تَكُنْ فِيْهِ حُجَّةٌ لِأَنَّه يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُوْنَ مِنْ قَبِيْلِ الآرَاءِ الاجْتِهَادِيَّةِ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُخْطِئُوْنَ فِيْهِ وَيُصِيْبُوْنَ، وَلَسْنَا مُلْزَمِيْنَ بِالعَمَلِ بِهَا إِذَا لَمْ تُوَافِقِ السُّنَّةَ. 3) مِمَّا يُبَيّنُ كَذِبَ هَذهِ الرِّوَايَةِ أَنَّه فِي مُدَّةِ حَيَاةِ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ لِلبَيْتِ كُوَّةٌ، بَلْ كَانَ بَاقِيًا كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بَعْضُهُ مَسْقُوفٌ وَبَعْضُهُ مَكْشُوفٌ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تَنْزِلُ فِيْهِ (¬9)، وَلَم تَزَلْ الحُجْرَةُ كَذَلِكَ حَتَّى زَادَ الوَلِيْدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ فِي المَسْجِدِ فِي إِمَارَتِهِ لَمَّا أَدْخَلَ الحُجَرَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ حِيْنِئِذٍ دَخَلَتْ الحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّه بَنَى حَوْلَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِيْ فِيْهَا القَبْرُ جِدَارًا عَالِيًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتِ الكُوَّةُ لِيَنْزِلَ مِنْهَا مَنْ يَنْزِلُ إِذَا احْتِيْجَ إِلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ كَنْسٍ أَوْ تَنْظِيْفٍ. (¬10) ¬

_ (¬1) فَتْحُ البَارِي (495/ 2). (¬2) أَي الَّذِيْ فِيْهِ اسْتِسْقَاءُ عُمَرَ بِالعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. (¬3) وَقَد قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّرْغِيْبُ وَالتَّرْهِيْبُ) (29/ 2) فِي قِصَّةٍ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ الدَّارِ عَنْ عُمَرَ: (رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ فِي الكَبِيْرِ، وَرُوَاتُهُ إِلَى مَالِكِ الدَّارِ ثِقَاتٌ مَشْهُوْرُوْنَ، وَمَالِكُ الدَّارِ لَا أَعْرِفُهُ). (¬4) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَجْرُوْحِيْنَ) (345/ 1): (يَرْوِي المَوْضُوْعَاتِ عَنِ الأَثْبَاتِ). (¬5) وَقَدْ سَبَقَتِ المَسْأَلَةُ فِي مُلْحَقِ (قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ وَالبَرَكَةِ)، وَالإِعَادَةُ لِلمُنَاسَبَةِ. (¬6) الدَّارِمِيُّ (93). (¬7) (التَّقرِيْبُ) (ص236). (¬8) قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَجْرُوْحِيْنَ) (294/ 2). (¬9) كَمَا ثَبَتَ فِي البُخَارِيِّ (545)، وَمُسْلِمٍ (611) عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي العَصْرَ - وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا - لَمْ يَظْهَرِ الفَيءُ بَعْدُ. (¬10) أَفَادَهُ شَيْخُ الإِسْلَام رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَلْخِيْصُ كِتَابِ الاسْتِغَاثَةِ) (93/ 1)، وَاُنْظُرْ كِتَابَ (التَّوَسُّلُ) (ص127) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

الشبهة الرابعة) قياس الخالق على المخلوق

- الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) قِيَاسُ الخَالِقِ عَلَى المَخْلُوْقِ: حَيثُ ادَّعَى المُخَالِفُوْنَ أَنَّ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الصَّالِحِيْنَ وَأَقْدَارِهِم أَمْرٌ مَطْلُوْبٌ وَجَائِزٌ، لِأَنَّ أَحَدَنَا إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ مَلِكٍ أَوْ وَزِيْرٍ أَوْ مَسْؤُوْلٍ كَبِيْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ يَشْعُرُ أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيهِ - هَذَا إِذَا لَمْ يَرُدَّهُ أَصْلًا - لِذَلِكَ كَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ إِذَا أَرَدْنَا حَاجَةً مِنْ مِثْلِهِ؛ فَإِنَّنَا نَبْحَثُ عَمَّنْ يَعْرِفُهُ، وَيَكُوْنُ مُقَرَّبًا إِلَيْهِ، وَنَجْعَلُهُ وَاسِطَةً بَينَنَا وَبَينَهُ، فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ اسْتَجَابَ لَنَا، وَقُضِيَتْ حَاجَتُنَا، وَهَكَذَا الأَمْرُ نَفْسُهُ فِي عَلَاقَتَنِا بِاللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِزَعْمِهِم -!!! وَالجَوَابُ (¬1): أَنَّ هَذَا التَّعْلِيْلَ عَلِيْلٌ، وَهُوَ مِنَ المُنْكَرِ العَظِيْمِ (¬2)، وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ بَصِيْرٌ؛ لَيْسَ كَآحَادِ خَلْقِهِ - سُبْحَانَهُ -، فَالمُلُوْكُ وَأَشْبَاهُهُم يَحْتَاجُوْنَ إِلَى مَنْ يُبَلِّغُهُم أَحْوَالَ الفُقَرَاءِ وَالمُسْتَضْعَفِيْنَ، فَهَذَا مِنْ قِيَاسِ الخَالِقِ عَلَى المَخْلُوْقِ - تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُوْلُهُ الظَّالِمُوْنَ -. (¬3) ب) أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَحْمَنُ رَحِيْمٌ رَؤُوْفٌ؛ لَيْسَ كَآحَادِ خَلْقِهِ - سُبْحَانَهُ -، فَالخَلْقُ رَحْمَتُهُم تُنَاسِبُ قَدْرَهُم، فَهيَ لَا تَسَعُ جَمِيْعَ الخَلْقِ، وَأَمَّا اللهُ تَعَالَى فَرَحْمَتُهُ وَاسِعَةٌ؛ فَلَا يَحْتَاجُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ اسْمُ مَنْ تُسْتَجْلَبُ بِهِ الرَّحْمَةُ إِلَى الخَلْقِ (¬4)؛ بِخِلَافِ مُلُوْكِ الدُّنْيَا، فَهَذَا مِنْ قِيَاسِ الخَالِقِ عَلَى المَخْلُوْقِ. ج) أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِيْنَ كَانَ بِاتِّخَاذِ الشُّفَعَاءِ مِنَ الصَّالِحِيْنَ بَيْنَهُم وَبَينَ اللهِ تَعَالَى، وَفَتْحُ بَابِ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الصَّالِحِيْنَ قَدْ يُفْضِي إَلَى ذَلِكَ (¬5)، قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُوْنَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (يُوْنُس:18). وقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيْعُوْنَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ} (النَّحْل:74). (¬6) ء) أَنَّ صَلَاحَ الصَّالِحِيْنَ هُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِهِم وَحْدَهُم، فَكَيفَ يَتَوَسَّلُ - المُجِيْزُوْنَ - بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِم؟ فَإِنَّمَا صَلَاحُ الصَّالِحِيْنَ رَاجِعٌ إِلَيْهِم، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ المَشْرُوْعِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا سَبَقَ. (¬7) وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ: سَلِيْنِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا). (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ. (¬2) وَالمُنْكَرُ العَظِيْمُ هُوَ مِنْ جِهِةِ المِثَالِ المَذْكُوْرِ - لَا مِنْ جِهَةِ مَسْأَلِة التّوَسُّلِ بِجَاهِ الصَّالِحِيْنَ - وَعَلَيْهِ أَوْجُهُ الرَّدِّ. كَمَا يَصِحُّ الرَّدُّ بِهَذِهِ الأَوْجُهِ عَلَى مَنْ اسْتَدَلَّ بِنفْسِ المِثَالِ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَغَاثَ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الصَّالِحِيْنَ وَالأَوْلِيَاءِ بِدَعْوَى أَنَّهُم هُمُ الَّذِيْنَ يَرْفَعُوْنَ حَوَائِجَ الخَلْقِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. (¬3) قَالَ الإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ) (2/ 887): (لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ - وَهُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالحَدِيثِ - فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ؛ إِلَّا دَاوُدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الأَصْفَهَانِيَّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيَّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ نَفَوَا القِيَاسَ فِي التَّوْحِيدِ وَالأَحْكَامِ جَمِيعًا، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ سِوَى القَوْلَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ). (¬4) وَفِي الحَدِيْثِ (جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ حَتَّى تَرفعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيْبَهُ). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (100) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (73). (¬5) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّوَسُّلُ) (ص133): (إِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِيْ يَحْمِلُ بَعْضَ العُلَمَاءِ وَالمُحَقِّقِيْنَ عَلَى المُبَالَغَةِ فِي إِنْكَارِ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ وَاعْتِبَارِهِ شِرْكًا - وَإِنْ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ لَيْسَ شِرْكًا عِنْدَنَا - بَلْ يُخْشَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الشِّرْكِ). قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ بَابِ (مَا جَاءَ فِي المُصَوِّرِيْن) مِنْ شَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ) شَرِيْطُ رَقَم (128): (أَمَّا دَعْوَةُ اللهِ بِهِمْ كَأَنْ يَقُوْلَ: يَا رَبِّ! أَسْأَلُكَ بِوَلِيِّكَ الفُلَانِيِّ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِجِبْرِيْلَ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ؛ فَهَذَا - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا - إِلَّا أَنَّهُ مِنَ البِدَعِ الَّتِيْ تَكُوْنُ طَرِيْقًا إِلَى الشِّرْكِ). قُلْتُ: فَهُوَ مِنْ بِدَعِ الدُّعَاءِ، وَقَد جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّهُ سَيَكُوْنُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُوْنَ فِي الطُّهُوْرِ وَالدُّعَاءِ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (96) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2396). (¬6) قَالَ الإِمَامُ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي رِسَالَةِ (الوَاسِطَةُ) (ص5): (وَمَنْ أَثْبَتَ الأَنْبِيَاءَ وَسِوَاهُم مِنَ مَشَايخِ العِلْمِ وَالدِّيْنِ وَسَائِطَ بَينَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ كَالحُجَّابِ الَّذِيْنَ بَيْنَ المَلِكِ وَرَعِيَّتِهِ؛ بِحَيثُ يَكُوْنُوْنُ هُم يَرْفَعُوْنَ إِلَى اللهِ تَعَالَى حَوَائِجَ خَلْقِهِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ وَيَرْزُقَهُم وَيَنْصُرَهُم بِتَوَسُّطِهِم؛ بِمَعْنَى أَنَّ الخَلْقَ يَسْأَلُونَهُم؛ وَهُم يَسْأَلُوْنَ اللهَ؛ كَمَا أَنَّ الوَسَائِطَ عِنْدَ المُلُوكِ يَسْأَلوْنَ المَلِكَ حَوَائِجَ النَّاسِ لِقُرْبِهِم مِنْهُم؛ وَالنَّاسُ يَسْأَلونَهُم أَدَبًا مِنْهُم أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ المَلِكِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَهُم مِنَ الوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُم مِنْ طَلَبِهِم مِنَ المَلِكِ لِكَوْنِهِم أَقْرَبَ إِلَى المَلِكِ مِنَ الطَّلَبِ! فَمَنْ أَثْبَتَهُم وَسَائِطَ عَلَى هَذِهِ الوُجُوْهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَهَؤُلَاءِ مُشَبَّهُوْنَ للهِ، شَبَّهُوا الخَالِقَ بِالمَخْلُوْقِ، وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا). مُسْتَفَادٌ مِنْ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ) (ص133) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬7) وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَقَد دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيْعَةُ؛ وَفِيْهِ بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ عَلَى خَلْقِهِ؛ بِأَنْ جَعَلَ لَهُم مِنَ الأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُقَرِّبُ إِجَابَةَ دُعَائِهِم مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالتَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ هُوَ أَيْضًا مِنْ نَفْسِ البَابِ، حَيْثُ دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيْعَةُ، وَفيْهِ بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى بِاسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الصَّالِحِيْنَ - إِنْ شَاءَ -. (¬8) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206). (¬9) وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِيْنَ؛ فَصَحِيْحٌ أَنَّ صَلَاحَهُم أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِهِم وَحْدَهُم مِنْ حَيْثُ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الثَّمَرَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِم وَحْدَهُم، فَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى الغَيْرِ، فَهُوَ - مِنْ جِهَةِ تَعَدِّي ثَمَرَةِ الصَّلَاحِ إِلَى الغَيْرِ -هُوَ كَحُسْنِ الجِوَارِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيْقِ، وَإِطْعَامِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِيْنَ. فَهَذَا كُلُّهُ - مِنْ جِهَةِ الثَّمَرَةِ - مُخَالِفٌ لِثَمَرَةِ جَاهِهِم وَشَرَفِهِم، لِأَنَّ الأَخِيْرَ مُخْتَصٌّ بِهِم، وَلَكِنَّهُ إِنْ تَحَلَّى بِالدُّعَاءِ يَكُوْنُ أَحْرَى بِالإِجَابَةِ، فَلَو أَنَّ رَجُلًا تَوَسَّلَ إِلَيكَ بِجَاهِ مَحْبُوْبٍ عِنْدَكَ؛ هَلْ يَكُوْنُ لَهُ نَفْسُ الأَثَرِ كَمَا لَو أَنَّ ذَلِكَ المَحْبُوْبَ هُوَ الَّذِيْ كَلَّمَكَ بِشَأْنِهِ، فَالأَوَّلُ غَائِبٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَشَافِعٌ. فَظَهَرَ الفَرْقُ وَالحَمْدُ للهِ.

الشبهة الخامسة) هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا الاستحباب

- الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ) هَلْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ التَّوَسُّلِ المُبْتَدَعِ عَلَى وَجْهِ الإِبَاحَةِ؛ لَا الاسْتِحْبَابِ؟ الجَوَابُ: أَنَّهُ مَمْنُوْعٌ؛ وَالمَانِعُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ (¬1): 1) أَنَّ التَّوَسُّلَ أَصْلًا هُوَ اتِّخَاذُ الوَسِيْلَةِ المُقَرِّبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا لَم تَدُلَّ عَلَيْهِ الشَّرِيْعَةُ فَلَيْسَ هُوَ بِتَوَسُّلٍ أَصْلًا. 2) أَنَّ الشَّرِيْعَةَ قَد دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَيْئَةَ الدُّعَاءِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُوْنَ مُوَافِقَةً لِمَا شُرِعَ، وَلَا يَجُوْزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيْهَا، وَفي الحَدِيْثِ (إِنَّهُ سَيَكُوْنُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُوْنَ فِي الطُّهُوْرِ وَالدُّعَاءِ). (¬2) 3) أَنَّ الشَّرِيْعَةَ قَد دَلَّتْ عَلَى المَشْرُوْعِ مِنَ التَّوَسُّلِ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِبْدَالُ مَا هُوَ أَعْلى بِمَا هُوَ أَدْنَى، وَفي الحَدِيْثِ (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). (¬3) ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ وَحَذْفٍ. (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (96) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ. صَحِيْحُ الجَامِعِ (2396). (¬3) مُسْلِمٌ (1718) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا.

الشبهة السادسة) قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح

- الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ) قِيَاسُ التَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ: الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ (¬1): 1) أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ، وَالقِيَاسُ فِي العِبَادَاتِ - كَالاسْتِحْبَابِ هُنَا - بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفي الحَدِيْثِ (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). (¬2) 2) أَنَّ هَذَا القِيَاسَ لَا وَجْهَ لَهُ، فَقَدْ عُلِمَ فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ أَنَّ القِيَاسِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، فَمَا هِيَ عِلَّةُ القِيَاسِ هُنَا (¬3)، فَعَمَلُ العَبْدِ المُتَوَسِّلِ بِعَمَلِ نَفْسِهِ رَاجِعٌ لَهُ؛ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الصَّالِحِيْنَ وَجَاهِهِم فَإِنَّهُ شَيْءٌ يَتْبَعُ صَلَاحَهُم، فَأَينَ وَجْهُ القِيَاسِ. 3) أَنَّ القِيَاسَ إِنَّمَا يَكُوْنُ عِنْدَ فُقْدَانِ النَّصِّ، أَمَا وَالتَّوَسُّلُ قَد دَلَّتِ الشَّرِيْعَةُ عَلَى أَشْكَالِهِ، فَأَينَ سَبَبُ القِيَاسِ؟ ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ. (¬2) مُسْلِمٌ (1718) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) أَيْ: وَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا.

الشبهة السابعة) قياس التوسل بذكر ذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه على التبرك بآثاره

- الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ) قِيَاسُ التَّوَسُّلِ بِذِكْرِ ذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاهِهِ عَلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ: الجَوَابُ (¬1): أَنَّ هَذَا القِيَاسَ لَا يَقُوْلُ بِهِ عَالِمٌ، لِأَنَّ التَّبَرُّكَ بِالذَّاتِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيْفَةِ تَتْبَعُ ذَاتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا قَد انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا بَقِيَ يَقِينًا مِنْ آثَارِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَينَ ذَلِكَ مِنَ التَّوَسُّلِ بِذَاتِهِ وَجَاهِهِ (أي سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى بِهِ)، وَفَرْقٌ كَبِيْرٌ لُغَةً وَشَرْعًا بَينَ التَّوَسُّلِ - عَلَى مَا بَيَّنَاهُ سَابِقًا - وَبَينَ التَّبَرُّكِ. فَالتَّبَرُّكُ هُوَ التِمَاسُ مَنْ حَازَ أَثَرًا مِنْ آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصُوْلَ خَيْرٍ بِهِ؛ فهيَ خُصُوْصِيَّةٌ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2)، وَأَمَّا التَّوَسُّل فَهُوَ إِرْفَاقُ دُعَاءِ اللهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنَ الوَسَائِلِ الَّتِيْ شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، كَأَنْ يَقُوْلَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحُبِّي لِنَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْفِرَ لي، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَالتَّبَرُّكُ يُرْجَى بِهِ شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ الدُّنْيَويِّ فَحَسْب، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِيْ يُرْجَى بِهِ أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الخَيْرِ الدُنْيَوِيِّ وَالأُخْرَوِيِّ، وَهُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا يُرَافِقُهُ مِنَ الدُّعَاءِ. وَإِنَّ الشَّرِيْعَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ التَّبَرُّكِ بِالآثَارِ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُ القَائِلِ - مِنْ بَابِ القِيَاسِ -: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِثَوْبِ نَبِيِّكَ أَوْ نَعْلِهِ أَوْ ...) لَا رَيبَ أَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِيَشُكَّ النَّاسُ فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فَضْلًا عَنْ عَقِيْدَتِهِ وَدِيْنِهِ. ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ. (¬2) وَفِي صَحيحِ مُسْلِمٍ (2069) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ تُخْبِرُ عَنْ جُبَّةٍ كَانَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: (هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا - وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا - فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى). فَأَينَ هَذَا مِنَ التّوَسُّلِ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ؟؟

باب لا يقال السلام على الله

بَابُ لَا يُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى اللهِ فِي الصَّحِيْحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ; قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَقُوْلُوا السَّلَامُ عَلَى اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ السَّلَامِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَحِيَّةٌ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ: العِلَّةُ فِي ذَلِكَ. الخَامِسَةُ: تَعْلِيْمُهُمُ التَّحِيَّةَ الَّتِيْ تَصْلُحُ لِلَّهِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (835).

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُ (السَّلَامُ عَلَى اللهِ): يُوْهِمُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَد يَلْحَقُهُ النَّقْصُ وَالضَّرَرُ وَالمَرَضُ؛ لِذَلِكَ نَحْنُ نَدْعُو لَهُ بِالسَّلَامَةِ! وَهَذَا يُنَافي كَمَالَ صِفَاتِهِ تَعَالَى، فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِيْ يُسَلِّمُ غَيْرَهُ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيْدُ} (فَاطِر:15). (¬1) - مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ اجْتِنَابُ الأَلْفَاظِ المُوْهِمَةِ لِلنَّقْصِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى. - أَوْرَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هَذَا البَابِ بَعْدَ بَابِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ فِي شَيْءٍ مَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ. - السَّلَامُ هُوَ اسْمُ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ المُتَّصِفُ بِالسَّلَامَةِ الكَامِلَةِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، وَهُوَ الَّذِيْ يُعْطِي السَّلَامَةَ لِلْخَلْقِ، وَقَوْلُ المُسْلِمِ لِأَخِيْهِ (السَّلَامُ عَلَيْكُم) هُوَ مِنْ بَابِ التَّوَسُّلِ بِاسْمِ اللهِ فِي الدُعَاءِ بِمَا يُنَاسِبُ المَطْلُوبَ. - فِي الحَدِيْثِ التَّنْبِيْهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الكَلَامِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِهِ، فَقَد يَكُوْنُ الكَلَامُ مُحَرَّمًا - وَلَو قَصَدَ بِهِ صَاحِبُهُ مَعْنَىً حَسَنًا -، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم قَصَدُوا بِذَلِكَ التَّحِيَّةَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ لَمَّا تَضَمَّنَ اللَّفْظُ مَعْنَىً لَا يَلِيْقُ بِاللهِ تَعَالَى نَهَاهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ. - فِيْهِ مِنْ حُسْنِ التَّعْلِيْمِ النَّهْيُ عَنِ المُحَرَّمِ بِبَيَانِ عِلَّتِهِ - إِنْ عُلِمَتْ - وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ: 1) أَوْعَى لِلفَهْمِ وَأَثْبَتُ للذِّهْنِ. 2) أَدْعَى لِلاسْتِجَابَةِ. 3) يُبَيِّنُ سُمُوَّ الشَّرِيْعَةِ وَكَوْنَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الحِكْمَةِ، وَاللهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ (الحَكِيْمُ). 4) فِيْهِ طُمَأْنِيْنَةُ النَّفْسِ لِلحُكْمِ. 5) القِيَاسُ عَلَى مَا شَابَهَ الأَمْرَ فِي العِلَّةِ. - فِيْهِ مِنْ حُسْنِ التَّعلِيْمِ إِعْطَاءُ البَديْلِ المُبَاحِ عِنْدَ النَّهْي عَنِ المُحَرَّمِ. - (السَّلَامُ) اسْمٌ ثُبُوْتِيٌّ سَلْبِيٌّ، فَهُوَ ثُبُوْتِيٌّ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ اسْمًا للهِ تَعَالَى، وَسَلْبِيٌّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ سَلْبِيٌّ، فَهُوَ يَنْفِي النَّقْصَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِثْلُ اسْمِ القُدُّوْسِ للهِ تَعَالَى. - قَوْلُ القَائِلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُم، يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاء: 1) ذِكْرُ اسْمِ اللهِ تَعَالَى، وَالتَّبَرُّكُ بِهِ. 2) إِعْلَامُ المُسَلَّمِ عَلَيْهِ؛ أَنَّهُ مُسَالِمٌ لَهُ لَا يَنَالُهُ مِنْهُ أَذَى. 3) طَلَبُ السَّلَامَةِ وَالخَيْرِ لَهُ. 4) التَّوَسُّلُ بِاسْمِهِ تَعَالَى (السَّلَام) بِمَا يُنَاسِبُ السَّلَامَةَ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (139/ 7): (وِلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ؛ قَالَ: قَالَ جِبْرِيْلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِىءُ خَدِيْجَةَ السَّلَامَ - يَعْنِي: فَأَخْبِرْهَا - فَقَالَتْ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَعَلَى جِبْرِيْلَ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ يَا رَسُوْلَ اللَّهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ)، زَادَ ابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (وَعَلَى مَنْ سَمِعَ السَّلَامَ إِلَّا الشَّيْطَانَ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَهِ الْقِصَّةِ دَلِيْلٌ عَلَى وُفُوْرِ فِقْهِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ - حَيْثُ كَانُوا يَقُوْلُوْنَ فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ؛ فَقُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) فَعَرَفَتْ خَدِيْجَةُ - لِصِحَّةِ فَهْمِهَا - أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يُرَدُّ عَلَى الْمَخْلُوْقِيْنَ، لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَهُوَ أَيْضًا دُعَاء بِالسَّلَامَةِ وَكِلَاهُمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَدَّ بِهِ عَلَى اللَّهِ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَقُوْلُ: عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَالسَّلَامُ اسْمُهُ وَمِنْهُ يُطْلَبُ وَمِنْهُ يَحْصُلُ!! فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَلِيْقُ بِاللَّهِ إِلَّا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَتْ مَكَانَ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ غَايَرَتْ بَيْنَ مَا يَلِيْقُ بِاللَّهِ وَمَا يَلِيْقُ بِغَيْرِهِ؛ فَقَالَتْ: وَعَلَى جِبْرِيْلَ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ).

- فَائِدَةٌ) فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ يَقُوْلُ المُصَلِّي (السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) خِلَافًا لِلمَشْهُوْرِ (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ)، وَذَلِكَ لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم، وَالحَدِيْثُ - مَوْضُوْعُ البَابِ - جَاءَ فِي أَحَدِ الفَاظِهِ - كَمَا فِي البُخَارِيِّ - عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (عَلَّمَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّوْرَةَ مِنَ القُرْآنِ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ) - وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا - فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا (¬1): السَّلَامُ؛ يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬2) (¬3) وَقَد عَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؛ كَمَا فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي عَوَانَةَ - وَصَحَّحَ الرِّوَايَةَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬4) -، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا هَكَذَا كَانَتْ تُعَلِّمُهُ. (¬5) وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِتَوقِيفٍ مِنْهُ لَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلَيسَ اجْتِهَادًا مِنْهُم فَحَسْبُ. (¬6) ¬

_ (¬1) وَهَذِهِ صِيْغَةُ جَمْعٍ تُفيْدُ عَمَلَ الصَّحَابَةِ مَعَهُ. (¬2) البُخَارِيُّ (6265). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (314/ 2): (كَذَا وَقَعَ فِي البُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيْحِهِ وَالسَّرَّاجُ وَالجَوْزَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ البُخَارِيِّ فِيْهِ بِلَفْظِ (فَلَمَّا قُبِضَ؛ قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) بِحَذْفِ لَفْظِ (يَعْنِي) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ. قَالَ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَوَانَةَ وَحْدَهُ -: (إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الصَّحَابَةِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الخِطَابَ فِي السَّلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ فَيُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ). قُلْتُ: قَدْ صَحَّ بِلَا رَيْبٍ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا قَوِيًّا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ؛ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: (أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُوْلُوْنَ - وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ - السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، فَلَمَّا مَاتَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيْحٌ. وَأَمَّا مَا رَوَى سَعِيْدُ بْنُ مَنْصُوْرٍ مِنْ طَرِيْقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّد؛ فَذَكَرَهُ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِنَّمَا كُنَّا نَقُوْلُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ - إِذْ كَانَ حَيًّا! -) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: (هَكَذَا عُلِّمْنَا! وَهَكَذَا نُعَلِّمُ)، فَظَاهِرٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَه بَحْثًا وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي مَعْمَرٍ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ؛ وَالإِسْنَادُ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ ضَعِيْفٌ). (¬4) فَتْحُ البَارِي (314/ 2). (¬5) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الإِرْوَاءِ (312): (قُلْتُ: وَقَد وَجَدْتُ لَهُ شَاهِدَيْنِ صَحِيْحَيْنِ: الأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُوْلُ: ... السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ) أَخْرَجَهُ مَالِكُ فِي المُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. الثَّاني: عَنْ عَاثِشَةَ (أَنَّهَا كَانَتْ تُعَلِّمُهُم التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ؛ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي المُصَنَّفِ وَالسِّرَاجُ فِي مُسْنَدِهِ وَالمُخَلِّصُ فِي الفَوَائِدِ بِسَنَدَيْنِ صَحِيْحَيْنِ عَنْهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ عُدُوْلَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مِنْ لَفْظِ الخِطَابِ (عَلَيْكَ) إِلَى لَفْظِ الغَيْبَةِ (عَلَى النَّبِيِّ) إِنَّمَا بِتَوْقِيْفٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّه أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ مَحْضٌ لَا مَجَالَ للرَّأيِ وَالاجْتِهَادِ فِيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬6) وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الأَفَاضِلِ بِأَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ عَلَّمَ التَّشَهُّدَ عَلَى المَلَإِ بِلَفْظِ الخِطَابِ! فَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ فِيْمَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ هَكَذَا سَمِعُوْهُ؛ فَنَقَلُوْهُ كَمَا سَمِعُوْهُ، وَأَمَّا فِي مَعْرِضِ العَمَلِ بِهِ فَهُوَ كَمَا رَأَيتَ بِلَفْظِ الغَيْبَةِ، وَهَذَا التَّوجِيْهُ أَقْرَبُ لِجَمْعِ النُّصُوْصِ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَخْذِ بَعْضٍ وَإِهْمَالِ بَعْضٍ، وَالحَمْدُ للهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنْهُم رِضْوُانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم؛ وَلَا يُتَابَعُوْنَ عَلَيْهِ! فَلْيَعْذُرْ مَنْ لَم يَرَهُ اجْتِهَادًا مِنْهُم فَقَط، أَوْ رَآه اجْتِهَادًا مِنْهُم وَلَكِنَّهُ رَأَى أَنَّ مُوَافَقَتَهُم أَوْلَى. أَمَّا أَنْ تُتَّخَذَ مِثْلُ هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَسِيْلَةً لِلطَّعْنِ فِي العُلَمَاءِ؛ وَمَدْخَلًا لِلشَّيْطَانِ فِي بَثِّ الأَحْقَادِ بَينَ طُلَّابِ العِلْمِ! فَهَذَا غَيْرُ مَقْبُوْلٍ البَتَّةَ، فَإِنَّ الاخْتِلَافَ بَينَ العُلَمَاءِ مُنْذُ القَدِيْمِ أَمْرٌ مَعْلُوْمٌ مَقْبُوْلٌ ضِمْنَ دَائِرَةِ حُسْنِ النَّوَايَا وَسَلَامَةِ الصُّدُوْرِ؛ مَا دَامَ صَاحِبُهُ مَعْرُوْفًا بِسَلَامَةِ المَنْهَجِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَريْقِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم. قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السِّيَر (376/ 14): (وَلَوْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ - مَعَ صِحَّةِ إِيْمَانِهِ، وَتَوَخِّيْهِ لاتِّبَاعِ الحَقِّ - أَهْدَرْنَاهُ وَبَدَّعنَاهُ؛ لَقَلَّ مَنْ يَسلَمُ مِنَ الأَئِمَّةِ مَعَنَا رَحِمَ اللهُ الجَمِيْعَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ).

باب قول اللهم اغفر لي إن شئت

بَابُ قَوْلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ فِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ؛ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ؛ لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ; فَإِنَّ اللهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ). وَلِمُسْلِمٍ: (وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ; فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ). (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الدُّعَاءِ. الثَّانِيَةُ: بَيَانُ العِلَّةِ فِي ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ (لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةِ). الرَّابِعَةُ: إِعْظَامُ الرَّغْبَةِ. الخَامِسَةُ: التَّعْلِيْلُ لِهَذَا الأَمْرِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (6339)، وَمُسْلِمٌ (2679). وَفِي لَفْظٍ لِلبُخَارِيِّ (7477) (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَبْوَابِ الَّتِيْ فِيْهَا بَيَانُ الأَدَبِ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ. - قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ): مَعْنَاهُ: يَا اللهُ، لَكِنْ لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمَالِ حُذِفَتْ (يَا) النِّدَاءِ، وَعُوِّضَ عَنْهَا بِالمِيْمِ، وَجُعِلَ العِوَضُ فِي الآخِرِ تَيَمُّنًا بِالابْتِدَاءِ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى. - قَوْلُهُ (اغْفِرْ لِي): المَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذَّنْبِ مَعَ التَّجَاوُزِ عَنْهُ; لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الغَفْرِ: وَهُوَ السَّتْرُ، وَالمِغْفَرُ: هُوَ مَا يُسْتَرُ بِهِ الرَّأْسُ لِلوِقَايَةِ مِنَ السِّهَامِ فِي الحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِشَيْءٍ سَاتِرٍ وَاقٍ. (¬1) - العَزْمُ: هُوَ الجَزْمُ فِي الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا ضَعْفٍ. - النَّهيُ فِي هَذَا التَّعْلِيْقِ هُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: 1) أنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُ مُكْرِهٌ عَلَى الشَّيْءِ، وَأَنَّهُ قَد يُعْطي العَطَاءَ وَهُوَ مُكْرَهٌ؛ (فَإِنَّ اللهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ)، وَفِيْهِ الدِّلَالَةُ عَلَى كَمَالِ عِزَّتِهِ. 2) أنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا الأَمْرَ عَظِيْمٌ عَلَى اللهِ وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلعَبْدِ؛ لِذَلِكَ فَهُوَ يَرْبِطُهُ بِالمَشِيْئَةِ وَلَا يُرِيْدُ أَنْ يُصَعِّبَ عَلَيْهِ؛ (فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاُه) وَفِيْهِ الدِّلَالَةُ عَلَى كَمَالِ مُلْكِهِ وَغِنَاه، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ نَقْصٌ فِي جَانِبِ تَعْظِيْمِ الرُّبُوْبيَّةِ. 3) أنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الدَّاعِيَ مُسْتَغْنٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ كَأَنَّهُ يَقُوْلُ: إِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ لَا يَهُمُّنِي، وَهَذَا نَقْصٌ فِي جَانِبِ العُبُوْدِيَّةِ، فَهُوَ مُظْهِرٌ لِضَعْفِ عِبَادَةِ الرَّجَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. (¬2) وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (بَيْنَمَا أَيُّوْبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ؛ فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوْبُ؛ ألَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟! قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ). (¬3) ¬

_ (¬1) وَفِي الحَدِيْثِ (يُدْنَى المُؤْمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوْبِهِ، فَيَقُوْلُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُوْلُ: أَيْ: رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى صَحِيْفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُوْنَ، فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُؤُوْسِ الخَلَائِقِ: هَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ). مُسْلِمٌ (2768) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. وَالشَّاهِدُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي الآخِرَةِ يَسْتُرُهُ فـ (يَضَعُ كَنَفَهُ) وَيَتَجَاوَزُ عَنْ ذُنُوْبِهِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (140/ 11): (وَالمُرَادُ: أَنَّ الَّذِيْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْلِيْقِ بِالمَشِيئَةِ مَا إِذَا كَانَ المَطْلُوْبُ مِنْهُ يَتَأَتَّى إِكْرَاهُهُ عَلَى الشَّيْءِ فَيُخَفِّفُ الأَمْرَ عَلَيْهِ، وَيَعْلَمُ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَّا بِرِضَاهُ؛ وَأَمَّا اللهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلتَّعْلِيْقِ فَائِدَةٌ، وَقِيْلَ: المَعْنَى أَنَّ فِيْهِ صُوْرَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ المَطْلُوْبِ وَالمَطْلُوْبِ مِنْهُ). (¬3) صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (3391). وَقَوْلُهُ (رِجْلُ جَرَادٍ): أَيْ: طَائِفَةُ جَرَادٍ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) مَا الجَوَابُ عَنِ بَعْضِ النُّصُوْصِ التَّالِيَةِ الَّتِيْ فِيْهَا التَّعْلِيْقُ بِالمَشِيْئَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ: 1) حَدِيْثُ البُخَارِيِّ عِنْدَمُا زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيًّا مَرِيْضًا فَقَالَ لَهُ: (طَهُورٌ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ). (¬1) 2) حَدِيْثُ (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا؛ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي) (¬2)، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيْهِ جَزْمٌ بِالمَطْلُوْبِ! 3) قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) (الكَهْف:69)؟ وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ إِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الخِطَابِ فَلَا يَجُوْزُ لِحَدِيْثِ البَابِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيْلِ الخَبَرِ وَالتَّبَرُّكِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَفي الحَدِيْثِ الأَوَّلِ يَكُوْنُ المَعْنَى: إِنَّ هَذَا المَرَضُ هُوَ طُهْرٌ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ ذَلِكَ؛ تَحَاشِيَا لِلجَزْمِ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ صَنَعَ ذَلِكَ بِهِ، فَهُوَ خَبَرٌ. 2) أَنَّ الدُّعَاءَ فِي الحَدِيْثِ الثَّانِي صَحِيْحٌ أَنَّهُ دُعَاءٌ بِصِيْغَةِ الخِطَابِ وَفِيْهِ تَعْلِيْقٌ مُضْمَرٌ بِالمَشِيْئَةِ؛ وَلِكنَّ مَعْنَاهُ خَالٍ مِنْ عِلَّةِ النَّهْي - وَهيَ المَحْذُوْرَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِيْ سَبَقَ بَيَانُهَا -، وَوَجْهُ عَدَمِ الجَزْمِ فِي الدُّعَاءِ وَتَعْلِيْقِ ذَلِكَ بِالمَشِيئَةِ فِيْهِ؛ أَنَّ المَطْلُوْبَ غَيْرُ مُحَقَّقِ النَّفْعِ وَالخَيْرِيَّةِ - بِخِلَافِ النَّفْعِ وَالخَيْرِ المَحْضِ كَالمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ -، فَيَكُوْنُ المَعْنَى اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا فِيْهِ خَيْرٌ لِي فَأَعْطِنِي إِيَّاهُ، فَهَذَا التَّعْلِيْلُ خَارِجٌ عَنِ الأَوْجُهِ الثَّلَاثِ الَّتِيْ ذَكَرْنَاهَا، فَهُوَ تَعْلِيْقٌ مِنْ جِهَةِ العِلْمِ وَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ المَشِيْئَةِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. 3) أَنَّ الآيَةَ الكَرِيْمَةَ الَّتِيْ ذُكِرَ فِيْهَا التَّعْلِيْقُ بِالمَشِيْئَةِ هيَ أَيْضًا خَالِيَةٌ مِنْ عِلَّةِ النَّهْي، وَمَفَادُهَا اسْتِعَانَةُ مُوْسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الصَّبْرِ؛ والتَّخَلِّي عَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَالثِّقَةُ بِاللهِ وَالاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّكُ بِذِكْرِهِ مُسْتَعِيْنًا بِهِ. (¬3) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (7470) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) البُخَارِيُّ (5671)، وَمُسْلِمٌ (2680) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيْلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِيْنَ} (الصَّافات:102).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) إِذَا كَانَ الجَزْمُ بِالدُّعَاءِ وَاجِبًا؛ فَهَلِ الجَزْمُ بِحُصُوْلِ الإِجَابَةِ وَاجِبٌ أَيْضًا؟ الجَوَابُ: فِيْهِ تَفْصِيْلٌ؛ فَإِنْ كَانَ المَقْصُوْدُ هُوَ مِنْ جِهَةِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الإِجَابَةِ؛ وَصِدْقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ رَبْطِ النَّتِيْجَةِ بِالأَسْبَابِ؛ فَالجَوَابُ أَنَّهُ يَجْزِمُ بِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُوْنِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غَافِر:60). وَإِنْ كَانَ المَقْصُوْدُ مُطْلَقًا؛ فَلَا يَصِحُّ الجَزْمُ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ الإِجَابَةِ بِأُمُوْرٍ أُخْرَى مِنْهَا: 1) أَنَّ الإِجَابَةَ لَهَا شُرُوْطٌ وَمَوَانِعُ. (¬1) 2) أَنَّ الإِجَابَةَ قَد تَتَخَلَّفُ بِاعْتِبَارِ المَطْلُوْبِ وَلَيْسِ بِاعْتِبَارِ قَبُوْلِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَقَد تَكُوْنُ لِلعَبْدِ مَصْلَحَةٌ أَعْلَى فِي غَيْرِهَا مِنَ الطَّلَبَاتِ، وَفِي الحَدِيْثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيْهَا إِثْمٌ؛ وَلَا قَطِيْعَةُ رَحِمٍ؛ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوْءِ بِمِثْلِهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ). (¬2) ¬

_ (¬1) وَمِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوْطِ: حُضُوْرُ القَلْبِ كَمَا فِي الحَدِيْثِ (اُدْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوْقِنُوْنَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيْبُ دُعَاءًا مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3479) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (594). وَأَيْضًا الرَّجَاءُ مَعَ الدُّعَاءِ كَمَا فِي الحَدِيْثِ القُدُسِيِّ (يَا ابْنَ آَدَمَ؛ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِيْ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3540) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (127). وَأَيْضًا الكَسْبُ الحَلَالُ كَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (المُؤْمِنُوْن:51)، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البَقَرَة:172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟؟). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1015). وَمِنْ جُمْلَةِ المَوَانِعِ: أَنْ لَا يَكُوْنَ الدُّعَاءُ فِيْهِ إِثْمٌ وَلَا قَطِيْعَةُ رَحِمٍ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيْهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيْعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوْءِ بِمِثْلِهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (710) - بَابُ مَا يُدَّخَرُ لِلدَّاعِي مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ - عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (550). وَأَنْ لَا يَسْتَعجِلَ الإِجَابَةَ فَيُؤَدِّي بِهِ لِتَرْكِ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ أَيْضًا (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِلَّهِ - يَسْأَلُهُ مَسْأَلَةً - إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا؛ إِمَّا عَجَّلَهَا لَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا ادَّخَرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُوْلُ: قَدْ دَعَوْتُ وَدَعَوْتُ فَلَا أَرَاهُ يُسْتَجَابُ). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (711) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (551). أَوْ أَنْ يَكُوْنَ الدُّعَاءُ فِيْهِ اعْتِدَاءٌ كَطَلَبِ مَا لَا يَجُوْزُ شَرْعًا، أَوْ مَا لَا يُقْبَلُ قَدَرًا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: (سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَنَعِيْمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وكَذَا، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا وَكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: يَا بُنيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (سَيَكُوْنُ قَوْمٌ يَعْتَدُوْنَ فِي الدُّعَاءِ)؛ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُوْنَ مِنْهُمْ. إِنْ أُعْطِيْتَ الجَنَّةَ؛ أُعْطِيْتَهَا وَمَا فِيْهَا مِنَ الخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ؛ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيْهَا مِنَ الشَّرِّ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1480). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2397). (¬2) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (710) - بَابُ مَا يُدَّخرُ لِلدَّاعِي مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ - عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيَّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (550).

باب لا يقول عبدي وأمتي

بَابُ لَا يَقُوْلُ: عَبْدِي وَأَمَتِي فِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ؛ وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ (¬1)، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي؛ وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي). (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ عَبْدِي وَأَمَتِي. الثَّانِيَةُ: لَا يَقُوْلُ العَبْدُ: رَبِّي، وَلَا يُقَالُ لَهُ: أَطْعِمْ رَبَّكَ. الثَّالِثَةُ: تَعْلِيْمُ الأَوَّلِ قَوْلَ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي. الرَّابِعَةُ: تَعْلِيْمُ الثَّانِي قَوْلَ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ. الخَامِسَةُ: التَّنْبِيْهُ لِلْمُرَادِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ التَّوْحِيْدِ حَتَّى فِي الأَلْفَاظِ. ¬

_ (¬1) فِي أَحَدِ أَلْفَاظِ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقُوْلَ: (مَوْلَايَ)، فَقَالَ فِيْهِ: (لَا تَقُوْلُوا مَوْلَايَ؛ فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ) - مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ جَوَازُهُ عِنْدَهُ فِي لَفْظٍ آخَر -! وَهَذَا اللَّفْظُ - لَفْظُ النَّهْي-أَعَلَّهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بِأَنَّهُ نُقِلَ بِالمَعْنَى، فَهُوَ شَاذٌّ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَمُعَارِضٌ لِهَذَا الحَدِيْثِ الَّذِيْ هُوَ نَصٌّ فِي إِجَازَةِ ذَلِكَ، فَالصَّحِيْحُ جَوَازُ إِطْلَاقِ لِفْظِ (مَوْلَايَ). انْظُرْ كِتَابَ (طَرْحُ التَّثرِيْبِ) (222/ 6) لِلحَافِظِ العِرَاقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) البُخَارِيُّ (2552)، وَمُسْلِمٌ (2249).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَبْوَابِ السَّابِقَةِ فِي بَيَانِ مُكَمِّلَاتِ التَّوْحِيْدِ، وَبَيَانِ الأَدَبِ الأَكْمَلِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ الأَلْفَاظِ الَّتِيْ يَكُوْنُ الأَوْلَى فِيْهَا إِطْلَاقُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَيَكُوْنُ نَهْيًا عَنِ التَّطَاوُلِ فِي الأَلْفَاظِ، كَمَا فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ (لَا يَقُوْلَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي؛ كُلُّكُمْ عَبِيْدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ؛ وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي). - النَّهْيُ فِي هَذَا الحَدِيْثِ هُوَ لِلكَرَاهَةِ وَلَيْسَ لِلتَّحْرِيْمِ، وَقَد أَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ وَأَرْفَقَ مَعَهُ فِي التَّبْوِيْبَ مَا يَدُلُّ عَلَى الكَرَاهَةِ فَقَط. (¬1) - فِي الحَدِيْثِ الإِرْشَادُ إِلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ (سَيِّدِكَ) وَ (سَيِّدِي) وَ (مَولَايَ) عِوَضًا عَنْ (رَبِّكَ) وَ (رَبِّي) - لِلمَالِكِ - رُغْمَ أَنَّ المَقْصُوْدَ وَاحِدٌ! وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ (الرَّبِّ) عَلَى اللهِ وَحْدَهُ؛ كَانَ الأَوْلَى عَدَمُ إِطْلَاقِهَا عَلَى الخَلْقِ. (¬2) وَأَيْضًا فِي الحَدِيْثِ الإِرْشَادُ إِلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ (غُلَامِي) وَ (فَتَايَ) عِوَضًا عَنْ (عَبْدِي) وَ (أَمَتِي) - لِلمَمْلُوْكِ - رُغْمَ أَنَّ المَقْصُوْدَ وَاحِدٌ! وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ العُبُوْدِيَّةِ عَلَى التَّأَلُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ كَانَ الأَوْلَى عَدَمُ إِطْلَاقِهَا إِلَّا بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ للهِ تَعَالَى. - قَوْلُهُ (سَيِّدِي): السِّيَادَةُ فِي الأَصْلِ عُلُوُّ المَنْزِلَةِ; لِأَنَّهَا مِنَ السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ وَالجَاهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالسَّيِّدُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: المَالِكُ، وَالزَّوْجُ، وَالشَّرِيْفُ المُطَاعُ. - قَد ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ النَّهيَ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ وَلَيْسِ لِلكَرَاهَةِ، وَأَجَابُوا عَنِ الأَدِلَّةِ الَّتِيْ فِيْهَا ذِكْرُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى المَخْلُوْقِ؛ وَالعُبُوْدِيَّةِ مُضَافَةً إِلَى الغُلَامِ؛ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا، وَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَقَد نُهِيَ عَنْهُ (¬3)، وَعَلَيْهِ يَكُوْنُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ. وَهُوَ جَوَابٌ مُتَوَجِّهٌ لَوْلَا أَنَّ فِي شَرْعِنَا مَا دَلَّ عَلَى مِثْلِ مَا جَاءَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا، فَوَجَبَ الحَمْلُ عَلَى الجَوَازِ مَعَ الكَرَاهَةِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬4) ¬

_ (¬1) البُخَارِيِّ (139/ 3)، بَابُ (كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ، وَقَوْلِهِ عَبْدِي أَوْ أَمَتِي، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالصَّالِحِيْنَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النُّوْر:32)، وَقَالَ: {عَبْدًا مَمْلُوْكًا} (النَّحْل:75)، وَ {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} (يُوْسُف:25)، وَقَالَ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} (النِّسَاء:25)، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُوْمُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) وَ {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (يُوْسُف:42) عِنْدَ سَيِّدِكَ، وَ (مَنْ سَيِّدُكُمْ؟)). - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ؛ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ؛ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: (إِذَا نَصَحَ العَبْدُ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ). (¬2) النَّهيُ هُنَا - كَمَا سَيَأْتِي - هُوَ لِلكَرَاهَةِ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ (الرَّبِّ) هَكَذَا مُفْرَدًا دَوْنَ إِضَافَةٍ هُوَ لِلتَّحْرِيْمِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ الرَّبُّ أَصْلًا، فَـ (أَلُّ التَّعْرِيْفِ) هُنَا مَحْمُوْلَةٌ عَلَى الاسْتِغْرَاقِ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ إِلَّا جَنَابَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الأَذْكَارُ) (363): (قَالَ العُلَمَاءُ: لَا يُطْلَقُ الرَّبُّ - بِالأَلِفِ وَاللَّامِ - إِلَاّ عَلَى اللهِ تَعَالَى خَاصَّةً، فَأَمَّا مَعَ الإِضَافَةِ فَيُقَالُ: رَبُّ المَالِ، وَرَبُّ الدَّارِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ (دَعْهَا حتَّى يَلْقاهَا رَبُّهَا)). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ الأَخِيْرُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (91)، وَمُسْلِمٌ (1722) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (118/ 15): (فَإِنْ قِيْلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ يُوْسُفَ سَمَّى السَّيِّدَ رَبًّا فِي قَوْلِهِ {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وَ {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ؛ كَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ؛ وَكَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ عَبْدًا؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوْخًا فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬4) قَالَ الحَافِظِ العِرَاقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (طَرْحُ التَّثْرِيْبِ) (223/ 6): (هَذَا النَّهْيُ عَلَى التَّنْزِيهِ دُوْنَ التَّحْرِيْمِ، وَقَدْ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمِيْعُ العُلَمَاءِ حَتَّى أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ فَبَوَّبَ (بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيْقِ)). قُلْتُ: وَأَيْضًا حَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الِعِلْمِ النَّهْيَ عَلَى مَا كَانَ بِلَفْظِ الخِطَابِ، وَأَجَازَ مَا كَانَ بِلَفْظِ الغَيْبَةِ. وَلَكِنْ مَا أَثْبَتْنَاهُ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الجَمْعِ.

- إِنَّ ذِكْرَ السَّقْيِ وَالإِطْعَامِ وَالوُضُوْءِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيْلِ لَا الحَصْرِ؛ وَالمَقْصُوْدُ النَّهْيُ عَنِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّبِّ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الأُمُوْرُ لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الخِطَابِ. - فِي الحَدِيْثِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مَنْ سَدَّ بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يَفْتَحَ لَهُم بَابًا مُبَاحًا. - العُبُوْدِيَّةُ نَوْعَانِ: 1) عَامَّةٌ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مَرْيَم:93). 2) خَاصَّةٌ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِيْنَ يَمْشُوْنَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُوْنَ قَالُوا سَلَامًا} (الفُرْقَان:63). - قَوْلُهُ (مَوْلَايَ): الوَلَايَةُ - بِفَتْحِ الوَاوِ-: المَحَبَّةُ وَالنُّصْرَةُ، وَبِالكَسْرِ: المُلْكُ وَالإِمَارَةُ. - الوَلَايَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ: 1) وَلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَهَذِهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ; كَالسِّيَادَةِ المُطْلَقَةِ. وَوَلَايَةُ اللهِ لِعِبَادِهِ أَيْضًا نَوْعَان: أ) عَامَّةٌ: وَهِيَ الشَّامِلَةُ لِكُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُوْنَ} (يُوْنُس:30)، فجَعَلَ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَلَايَةً عَلَى هَؤُلَاءِ المُفْتَرِيْنَ، فَهَذِهِ وَلَايَةٌ عَامَّةٌ. فاللهُ هُوَ الَّذِيْ يَتَوَلَّى عِبَادَهُ بِالتَّدْبِيْرِ وَالتَّصْرِيْفِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ب) خَاصَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَتَوَلَّى اللهُ العَبْدَ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيْقِهِ وَهِدَايَتِهِ - وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِالمُؤْمِنِيْنَ -، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِيْنَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِيْنَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (مُحَمَّد:11). 2) وَلَايَةٌ مُقَيَّدَةٌ مُضَافَةٌ: وَهَذِهِ يَجُوْزُ أَنْ تُطْلَقَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهَا فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ كَثِيْرَةٌ، مِنْهَا: النَّاصِرُ، وَالمُتَوَلِّي لِلأُمُوْرِ، وَالسَّيِّدُ، وَالعَتِيْقُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيْلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِيْنَ} (التَّحْرِيْم:4). (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (343/ 2): (وَعَلَيْهِ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاسْتِنْكَارِ بَعْضِ النَّاسِ لِمَنْ خَاطَبَ مَلِكًا بِقَوْلِهِ: مَوْلَايَ; لِأَنَّ المُرَادَ بِمَوْلَايَ أَيْ: مُتَوَلِّي أَمْرِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَئِيْسَ الدَّوْلَةِ يَتَوَلَّى أُمُوْرَهَا; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَطِيْعُوا اللهَ وَأَطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النِّسَاء:59)). قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيْلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِيْنَ} (التَّحْرِيْم:4).

- فَائِدَةٌ) اسْمُ (السَّيِّدِ) هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى (¬1)، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيْثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: (السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا. فَقَالَ: (قُوْلُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)). (¬2) وجَازَ إِطْلَاقُهُ عَلَى المَخْلُوْقِ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عُمُوْمًا إِلَّا مَا يُنَاسِبُ المَخْلُوْقَ، وَقَد انْتَشَرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ المَخْلُوْقِ (¬3)؛ بِخِلَافِ لَفْظِ (الرَّبِّ). (¬4) وَلَكِنْ إِذَا كَانَ السِّيَاقُ سِيَاقَ غُلُوٍّ؛ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى البَشَرِ؛ لِدِلَالَةِ صَرِيْحِ الحَدِيْثِ السَّابِقِ. (¬5) ¬

_ (¬1) انْظُرْ كِتَابَ (القَوَاعِدُ المُثْلَى) (ص16) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَكِتَابَ (صِفَاتُ اللهِ الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (ص208) لِلشَّيْخِ عَلَوِي السَّقَّاف حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (16307)، وَأَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيْحُ الجَامِعِ (3700). (¬3) نَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الدُّعَاءَ بِسَيِّدِي. انْظُرْ كِتَابَ (طَرْحُ التَّثرِيْبِ) (222/ 6) لِلحَافِظِ العِرَاقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. قُلْتُ: وَهَذَا وَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُوْمِ اطْلَاقِ اسْمِ السَّيِّدِ عَلَى غَيْرِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى. وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬4) قَالَ أَبُو العَبَّاسِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المُفْهِمُ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيْصِ كِتَابِ مُسْلِمٍ) (554/ 5): (إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الرَّبَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتُلِفَ فِي السَّيِّدِ هَلْ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟ فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ؛ فَالفَرْقُ وَاضِحٌ إذْ لَا التِبَاسَ وَلَا إشْكَالَ يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِهِ كَمَا يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِ الرَّبِّ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ؛ فَلَيْسَ فِي الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ كَلَفْظِ الرَّبِّ؛ فَيَحْصُلُ الفَرْقُ بِذَلِكَ). وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ البُخَاريِّ (68/ 7): (وَأَمَّا الرَّبُّ فَهِيَ كَلِمَةٌ - وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً؛ وَتَقَعُ عَلَى غَيْرِ الخَالِقِ؛ لِقَوْلِهِمْ (رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَبُّ الدَّارِ) وَيُرَادُ صَاحِبُهَا - فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ تَخْتَصُّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَغْلَبِ وَالأَكْثَرِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُسْتَعْمَلَ فِي المَخْلُوْقِيْنَ لِنَفْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوْزُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللهِ إلَهٌ وَلَا رَحْمَنٌ، وَيَجُوْزُ أَنْ يُقَالَ: رَحِيْمٌ؛ لِاخْتِصَاصِ اللهِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ، فَكَذَلِكَ الرَّبُّ لَا يُقَالُ لِغَيْرِ اللهِ). (¬5) اُنْظُرْ كِتَابَ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (432/ 2) للشَّيْخِ الفَوْزَان حَفِظَهُ اللهُ.

باب لا يرد من سأل بالله

بَابُ لَا يُرَدُّ مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ; فَأَعْطُوْهُ، وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ; فَأَعِيْذُوْهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيْبُوْهُ; وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوْفًا فَكَافِئُوْهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ; فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوْهُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: إِعَاذَةُ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ. الثَّانِيَةُ: إِعْطَاءُ مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ. الثَّالِثَةُ: إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ. اَلرَّابِعَة: المُكَافَأَةُ عَلَى الصَّنِيْعَةِ. الخَامِسَةُ: أَنَّ الدُّعَاءَ مُكَافَأَةٌ لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَيْهِ. السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ (حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوْهُ). ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1672)، وَالنَّسَائِيُّ (2567). الصَّحِيْحَةُ (254).

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّ مِنْ إِظْهَارِ تَعْظِيْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُرَدَّ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ، وَفي رَدِّهِ إِسَاءَةٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى وَنقْصٌ فِي التَّوْحِيْدِ، وَفي إِعْطَائِهِ احْتِرَامٌ لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى وَتَكْمِيْلٌ لِلتَّوْحِيْدِ. (¬1) - إِنَّ إِجَابَةَ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ يَكُوْنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: (¬2) 1) حَالٌ يَحْرُمُ فيهَا رَدُّ السَّائِلِ: إِذَا تَحَقَّقَتْ قُيُودٌ هِيَ: أ- إِذَا تَوَجَّهَ لِمُعَيَّنٍ فِي أَمْرٍ مُعَيَّنٍ؛ خَصَّكَ بِهَذَا التَّوَجُّهَ. ب- سَأَلَكَ بِاللهِ أَنْ تُعِيْنَهُ. ج- القُدْرَةُ عَلَى المَعُوْنَةِ. (¬3) 2) حَالٌ يُكْرَهُ فِيْهَا رَدُّ السَّائِلِ: إِذَا كَانَ التَّوَجُّهُ لَيْسَ لِمُعَيَّنٍ؛ كَأَنْ يَسْأَلُ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا. 3) حَالٌ يُبَاحُ: فِيْمَا إِذَا كَانَ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ يُعْرَفُ مِنْهُ الكَذِبُ. - إِنَّ سُؤَالَ النَّاسِ مِنْ غَيرٍ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُوْرَةِ؛ مَكْرُوْهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ، وَلِهَذَا كَانَ مِمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، حَتَّى إِنَّ سَوْطَ أَحَدِهُم لَيَسْقُطُ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ فَلَا يَقُوْلُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِيه، بَلْ يَنْزِلُ وَيَأْخُذُهُ بِنَفْسِهِ. (¬4) وَفِي الحَدِيْثِ (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ). (¬5) ¬

_ (¬1) وَكَذَلِكَ إِعَاذَةُ مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللهِ. (¬2) أَفَادَهُ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص524)؛ بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ. (¬3) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (349/ 2): (لَكِنْ لَو سَأَلَ إِثْمًا، أَوْ كَانَ فِي إِجَابَتِهِ ضَرَرٌ عَلَى المَسْئُوْلِ; فَإِنَّهُ لَا يُجَابُ). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (255): (وَوُجُوْبُ الإِعْطَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ المَسْؤُوْلُ قَادِرًا عَلَى الإِعْطَاءِ وَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِهِ أَوْ بِأَهْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬4) كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِسْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: ((أَلَا تُبَايِعُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ؟ - وَكُنَّا حَدِيْثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ - قُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ! - حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا -، فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ؛ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ وَتَسْمَعُوا وَتُطِيْعُوا) - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً - قَالَ: (وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا). قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُوْلَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُهُ؛ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ). مُسْلِمٌ (1043). (¬5) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1474)، وَمُسْلِمٌ (1040) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيْمِ إِلَّا لِلضَّرُوْرَةِ، وَأَوْلَى فِي المَنْعِ مِنَ الإِعْطَاءِ مَنْ جَعَلَ التَّسَوُّلَ مِهْنَةً لَهُ؛ فَيَسْأَلُ مَعَ هَذَا بِاللهِ تَعَالَى أَنْ تُعْطِيَهُ! فَهَؤُلَاءِ حَقِيْقَتُهُم عَلَى العَكْسِ مِنَ المُرَادِ النَّبَوِيِّ فِي حَدِيْثِ البَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُم لَا يُعَظِّمُوْنَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُم لَوْ عَظَّمُوْهُ؛ لَمَا جَعَلُوْهُ عُرْضَةً لِأَنْ يَسْأَلوا بِاسْمِهِ أَيَّ شَيْءٍ وَلَوْ قِرْشًا وَاحِدًا.

- قَوْلُهُ (مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأَعِيْذُوْهُ): أَيْ: قَالَ: (أَعُوْذُ بِاللهِ مِنْكَ)، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُعِيْذَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِعَظِيْمٍ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَتِ ابْنَةُ الجَوْنِ لِلرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنْكَ؛ قَالَ لَهَا: (لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيْمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ). (¬1) فَإِعَاذَةُ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ هُوَ دَلِيْلُ تَعْظِيْمٍ للهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ خِصَالِ المُتَّقِيْنَ، كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ عِنْدَمَا جَاءَهَا جِبْرِيْلُ {قَالَتْ إِنِّي أَعُوْذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} (مَرْيَم:18). وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوِ اسْتَعَاذَ مِنْ أَمْرٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ أَوْ أَلْزَمْتَهُ بِالإِقْلَاعِ عَنْ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ؛ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْكَ، فَإِنَّكَ لَا تُعِيْذُهُ، لِمَا فِيْ ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ، وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُعِيْذُ عَاصِيًا، بَلِ العَاصِي يَسْتَحِقُّ العُقُوْبَةَ لَا الانْتِصَارَ لَهُ وَإِعَانَتَهُ، فَإِعْطَاءُ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ هُوَ مِنْ نَفْسِ بَابِ عَدَمِ الإِعَانَةِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ الجَمِيْعَ مِنْ بَابِ تَعْظِيْمِ اللهِ تَعَالَى. - قَوْلُهُ (وَمَنْ دَعَاكُم فَأَجِيْبُوْهُ): جُمْهُوْرُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي وَلِيْمَةِ العُرْسِ فَقَط؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْهَا (بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الوَلِيْمَةِ، يُدْعَى إِلَيْهِ الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ المَسَاكِيْنُ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُوْلَهُ). (¬2) وَهُنَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ وُجُودِ المُنْكَرِ فِيْهَا إِلَّا إِنْ أَمْكَنَ التَّغيْيِرُ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِنْ كَانَ الدَّاعِي غَيْرَ مُسْلِمٍ؛ لِحَدِيْث (حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ المَرِيْضِ وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيْتُ العَاطِسِ) (¬3)، وَأَيْضًا أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنَ الحُضُوْرِ إِسْقَاطُ وَاجِبٍ، وَأَنْ لَا تَتَضَمَّنَ ضَرَرًا عَلَى المُجِيْبِ. (¬4) - إِنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةَ حَقٌّ لِلدَّاعِي وَلَيْسَتْ حَقًّا للهِ تَعَالَى، لِذَا إِذَا أَقَالَكَ الدَّاعِي فَلَا إِثْمَ عَلَيْكَ؛ كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ (حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ). - قَوْلُهُ (حَتَّى تَرَوْا): - بِفَتْحِ التَّاءِ - بِمَعْنَى: تَعْلَمُوا، - وَيَجُوْزُ الضَّمُّ -؛ وَالمَعْنَى حَتَّى تُظْهِرُوا أَنَّكُم قَدْ كَافَأْتُمُوْهُ. - فِي المُكَافَأَةِ فَائِدَتَانِ: 1) تَشْجِيْعُ ذَوِي المَعْرُوْفِ عَلَى فِعْلِ المَعْرُوْفِ. 2) أَنَّ الإِنْسَانَ يَكْسِرُ بِهَا الذُّلَّ الحَاصِلَ لَهُ بِصُنْعِ المَعْرُوْفِ إِلَيْهِ، فَإِذَا رَدَدْتَ إِلَيْهِ مَعْرُوفَهُ زَالَ عَنْكَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِكِ شُعُوْرٌ بِالمِنَّةِ لِأَحِدٍ سِوَى رَبِّ العَالَمِيْنَ. - مِنَ المُكَافَأَةِ مَا جَاءَ فِي الحَديْثِ (مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوْفٌ؛ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ الله خَيْرًا؛ فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ). (¬5) وَفي الأَمْرِ بِالمُكَافَأَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ المَعْرُوْفِ السَّابِقِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (5254) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. (¬2) البُخَارِيُّ (5177)، وَمُسْلِمٌ (1432) عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) البُخَارِيُّ (1240)، وَمُسْلِمٌ (2162) عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬4) اُنْظُرْ تَمَامَ شُرُوْطِ الإِجَابَةِ فِي كِتَابِ (فَتْحُ البَارِي) (242/ 9) لِابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬5) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2035) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (6368). قُلْتُ: وَوَجْهُ الإِحَالَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي الجَزَاءِ هُوَ لِعَجْزِهِ عَنْ جَزَاءِهِ بَنَفْسِهِ؛ فَأَحَالَهُ إِلَى الغَنِيِّ الَّذِيْ لَا يَعْدِلُ جَزَاءَهُ جَزَاءٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

بَابُ لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةُ عَنْ جَابِرٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا غَايَةُ المَطَالِبِ. الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتُ صِفَةِ الوَجْهِ. ¬

_ (¬1) ضَعِيْفٌ. أَبُو دَاوُدَ (1671). ضَعِيْفُ أَبِي دَاوُدَ (الأُمّ) (298)، وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِيْهِ: (إِسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ؛ لِسُوْءِ حِفْظِ سُلَيْمَان- وَهُوَ ابْنُ قَرْمِ بْنِ مُعَاذٍ، يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ-، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الجُمْهُوْرُ).

الشرح

الشَّرْحُ - إِنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَمْرِ العَظِيْمِ فِي الشَّيْءِ الصَّغِيْرِ هُوَ تَقْلِيْلٌ لِشَأْنِهِ، فَلَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ - تَعْظِيْمًا لَهُ - إِلَّا أَعْلَى المَطَالِبِ ألَا وَهِيَ الجَنَّةُ، فَفِي هَذَا البَابِ مُمَاثَلَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الأَبْوَابِ فِي الآدَابِ اللَّفْظِيَّةِ فِي تَعْظِيمِ جَنَابِ اللهِ تَعَالَى. - إِنَّ النُّصُوْصَ الشَّرْعِيَّةَ - فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ عُمُوْمًا - دَلَّتْ عَلَى: وُجُوْبِ إِجَابَةِ مَنْ سُئِلَ بِاللهِ - وَقَدْ سَبَقَ فِي البَابِ المَاضِي بَيَانُهُ -، وَأَيْضًا دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَسْأَلَ العَبْدُ العَبْدَ بِاللهِ أَمْرًا مِنْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا - كَمَا فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِيْ تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا} (النِّسَاء:1)، وَحَدِيْثِ المَلَكِ وَالثَّلَاثَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ الَّذِيْ سَبَقَ -، وَأَيْضًا عَلَى تَحْرِيْمِ سُؤَالِ العَبْدِ لِلعَبْدِ بِوَجْهِ اللهِ أَمْرًا مِنْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا - كَمَا سَيَأْتِي فِي الحَدِيْثِ -، وَأَيْضًا دَلَّتْ عَلَى مَنْعِ سُؤَالِ اللهِ بَوَجْهِهِ إِلَّا الجَنَّةَ - كَمَا فِي حَدِيْثِ البَابِ، وَسَيَأْتِي عَنْ عَطَاءَ رَحِمَهُ اللهُ مَا يُؤَيِّدُهُ -. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. - البَابُ المَاضِي كَانَ الحُكْمُ فِيْهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى المَسْئُوْلِ، وُهُنَا الحُكْمُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى السَّائِلِ. - قَوْلُهُ (لَا يُسْأَلُ): هَذَا نَفْيٌ، وَالنَّفْيُ هُنَا مُتَضَمِّنٌ للنَّهْي. - الحَدِيْثُ ضَعِيْفُ الإِسْنَادِ، وَلَكِنَّ النَّهيَ عَنْ السُؤَالِ بِوَجْهِ اللهِ أَمْرًا مِنْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا صَحِيْحٌ، لحَدِيْثِ (مَلْعُوْنٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللهِ، وَمَلْعُوْنٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ الله ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ؛ مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا). (¬1) (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (فَائِدَةٌ: فِي الحَدِيْثِ (¬3) تَحْرِيْمُ سُؤَالِ شَيْءٍ مِنْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا بِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيْمِ عَدَمِ إِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَ بِهِ تَعَالَى. قَالَ السِّنْدِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى النَّسَائِيِّ: ((الذِيْ يَسْأَلُ بِاللهِ) عَلَى بِنَاءِ الفَاعِلِ، أَي الَّذِيْ يَجْمَعُ بَينَ القُبْحَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا: السُّؤَالُ بِاللهِ، وَالثَّانِي: عَدَمُ الإِعْطَاءِ لِمَنْ يُسْأَلُ بِهِ تَعَالَى؛ فَمَا يُرَاعِي حُرْمَةَ اسْمِهِ تَعَالَى فِي الوَقْتَيْنِ جَمِيْعًا. وَأَمَّا جَعْلُهُ مَبْنِيًّا لِلمَفْعُولِ فَبَعِيْدٌ؛ إِذْ لَا صُنْعَ للعَبْدِ فِي أَنْ يَسْأَلَهُ السَّائِلُ بِاللهِ، فَلَا وَجْهَ لِلجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَينَ تَرْكِ الإِعْطَاءِ فِي هَذَا المَحَلِّ). قُلْتُ (الأَلْبَانِيُّ): وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيْمِ عَدَمِ الإِعْطَاءِ لِمَنْ يَسْأَلُ بِهِ تَعَالَى حَدِيْثُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ المُتَقَدِّمَيْن: (وَمَنْ سَأَلَكُم بِاللهِ فَأَعْطُوْهُ)، وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيْمِ السُّؤَالِ بِهِ تَعَالَى حَدِيْثُ (لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهَ إِلَّا الجَنَّةَ) وَلَكِنَّهُ ضَعِيْفُ الإِسْنَادِ كَمَا بَيَّنَهُ المُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ النَّظَرَ الصَّحِيْحَ يَشْهَدُ لَهُ (¬4)، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ وُجُوْبُ الإِعْطَاءِ لِمَنْ سَأَلَ بِهِ تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ - فَسُؤَالُ السَّائِلِ بِهِ؛ قَدْ يُعَرِّضُ المَسْؤُولَ لِلوُقُوْعِ فِي المُخَالَفَةِ وَهِيَ عَدَمُ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُ مَا سَأَلَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى مُحَرَّمٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَتَأَمَّلْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيْبًا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ أَوْ بِالقُرْآنِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَوُجُوْبُ الإِعْطَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ المَسْؤُوْلُ قَادِرًا عَلَى الإِعْطَاءِ وَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِهِ أَوْ بِأَهْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬5) ¬

_ (¬1) حَسَنٌ. تَارِيْخُ ابْنِ عَسَاكِر (58/ 26) عَنْ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2290). (¬2) قَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ) (ص370): (يَعْنِي: شَيْئًا قَبِيْحًا لَا يَلِيْقُ أَوْ يَكُوْنُ سُؤَالُهُ بِلَفْظٍ قَبِيْحٍ). (¬3) وَهُوَ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا؟). قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (رَجُلٌ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوْتَ أَوْ يُقْتَلَ. وَأُخْبِرُكُمْ بِالَّذِيْ يَلِيْهِ؟). قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ؛ يُقِيْمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْتَزِلُ شُرُوْرَ النَّاسِ. وَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟). قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (الَّذِيْ يُسْأَلُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يُعْطِي بِهِ). صَحِيْحٌ. النَّسَائيُّ (2569). الصَّحِيْحَةُ (255). (¬4) أَيْ: يَشْهَدُ لِمَنْعِ السُّؤَالِ - كَمَا تَجِدُهُ مِنَ السِّيَاقِ -. (¬5) الصَّحِيْحَةُ (255).

- قُلْتُ: يَشْهَدُ لِعُمُوْمِ المَنْعِ مِنَ سُؤَالِ المَخْلُوْقِ بِوَجْهِ اللهِ حَدِيْثُ (مَلْعُوْنٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللهِ، وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ؛ مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا) - وَقَدْ سَبَقَ -. وَيَشْهَدُ لِاسْتِثْنَاءِ سُؤَالِ الخَالِقِ بِوَجْهِهِ فِي أَمْرِ الدِّيْنِ - وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ أَمْرِ الدُّنْيَا - حَدِيْثُ (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} (الأَنْعَام:65) قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعُوْذُ بِوَجْهِكَ) قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: (أَعُوْذُ بِوَجْهِكَ) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيْقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذَا أَهْوَنُ؛ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ)). (¬1) فَحَدِيثُ البَابِ صَحِيْحُ المَعْنَى؛ إِلَّا أَنَّهُ يَزِيْدُ قَيْدًا وَهُوَ أَنْ لَا يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةَ؛ وَهَذَا الحَصْرُ يُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ لَفْظِ الحَدِيْثِ (أَعُوْذُ بِوَجْهِكَ) فِي دَفْعِ العَذَابِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيْهِ طَلَبَ ضِدِّهِ وَهُوَ طَلَبُ النَّجَاةِ إِلَى الجَنَّةِ بِسَلَامٍ. - فَائِدَة 1) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ عَطَاءَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ أَوْ بِالقُرْآنِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. (¬2) - فَائِدَة 2) للهِ تَعَالَى صِفَةُ الوَجْهِ - كَمَا يَلِيْقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ -، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِيْهِ، قَالَ إِمَامُ الأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيمَةَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (كِتَابُ التَّوْحِيْدِ): (فَنَحْنُ - وَجَمِيْعُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَاليَمَنِ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ - مَذْهَبُنَا: أَنَّا نُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ، نُقِرُّ بِذَلِكَ بِأَلْسِنَتِنَا، وَنُصَدِّقُ ذَلِكَ بِقُلُوْبِنَا؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُشَبِّهَ وَجْهَ خَالِقِنَا بِوَجْهِ أَحَدٍ مِنَ المَخْلُوْقِيْنَ، عَزَّ رَبُّنَا عَنْ أَنْ يُشَبَّهَ بِالمَخْلُوْقِيْنَ، وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ مَقَالَةِ المُعَطِّلِيْنَ، وَعَزَّ عَنْ أَنْ يَكُوْنَ عَدَمًا كَمَا قَالَهُ المُبْطِلُوْنَ، لأَنَّ مَا لَا صِفَةَ لَهُ عَدَمٌ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُوْلُ الجَهْمِيُّوْنَ الَّذِيْنَ يُنْكِرُوْنَ صِفَاتِ خَالِقِنَا الَّذِيْ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيْلِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬3) - فَائِدَة 3) قَالَ بَعْضُهُم: وَجْهُ اللهِ؛ المُرَادُ بِهِ القِبْلَةُ (¬4) أَوِ الجِهَةُ أَوِ الثَّوَابُ (¬5) وَلَيْسَ للهِ تَعَالَى وَجْهٌ حَقِيْقِيٌّ! وَالصَّوَابُ أنَّهُ وَجْهٌ للهِ حَقِيْقِيٌّ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ} (الرَّحْمَن:27)، فَإِذَا كَانَ الوَجْهُ مَوْصُوْفًا بِالجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّوَابُ أَوِ الجِهَةُ. (¬6) ¬

_ (¬1) البُخَاريُّ (4628) عَنْ جَابِرٍ. (¬2) مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (10794). الصَّحِيْحَةُ (253). (¬3) التَّوْحِيْدُ لِابْنِ خُزَيْمَةَ (26/ 1). (¬4) كَمَا نَقَلَهُ البَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنِ الشَّافِعِيِّ وَمُجَاهِدٍ رَحِمَهُمُ اللهُ. فَأَمَّا أَثَرُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ هَذَا فَقَد أَوْرَدَهُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ القُرْآنِ لِلشَّافِعِيِّ) (64/ 1) قَالَ: (قَرَأْتُ فِي كِتَابِ المُخْتَصَرِ الكَبِيْرِ فِيْمَا رَوَاهُ أَبو إِبْرَاهِيْمَ المُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ ...) فَهُوَ وِجَادَةٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ. اُنْظُرْ تَحْقِيْقَ كِتَابِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ للبَيْهَقِيِّ) (239/ 4) - طَبْعَةَ دَارِ الرِّسَالَةِ - لِلأَخِ الفَاضِلِ (سَعْدِ بِنِ نَجْدَت آل عُمَر). وَأَمَّا أَثَرُ مُجَاهِدٍ فَقَد رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (56/ 5) وَالطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيْرِ (536/ 2). (¬5) أَيْ: كُلُّ عَمَلٍ هُوَ بَاطِلٌ إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ اللهُ وَحْدَهُ؛ وَهُوَ المَقْصُوْدُ بِـ (وَجْهِ اللهِ). (¬6) وَهَذَا لَا يَعْني أَنَّهُ قَد لَا يَأْتِي بِمَعْنَى الثَّوَابِ فِي بَعْضِ المَوَاضِعِ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (193/ 3) - فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ رَدِّهِ فِي مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ -: (فَأَحْضَرَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ كِتَابَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِلبَيهَقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؛ فَقَالَ: هَذَا فِيْهِ تَأْوِيْلُ الوَجْهِ عَنِ السَّلَفِ، فَقُلْتُ: لَعَلَّك تَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (البَقَرَة:115) فَقَالَ: نَعَمْ. قَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ - يَعْنِي قِبْلَةَ اللهِ -. فَقُلْتُ: نَعَمْ: هَذَا صَحِيْحٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَمَنْ عَدَّهَا فِي الصِّفَاتِ فَقَدْ غَلِطَ كَمَا فَعَلَ طَائِفَةٌ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى المُرَادِ حَيْثُ قَالَ: {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} وَالمَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ الجِهَاتُ. وَالوَجْهُ هُوَ الجِهَةُ؛ يُقَالُ: أَيُّ وَجْهٍ تُرِيْدُهُ؟ أَيْ: أَيُّ جِهَةٍ، وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الوَجْهَ؛ أَيْ: هَذِهِ الجِهَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيْهَا} (البَقَرَة:148) وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} أَيْ: تَسْتَقْبِلُوا وَتَتَوَجَّهُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَةِ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ هُوَ مَكْرُوْهٌ فَقَط وَلَيْسَ لِلتَّحْرِيْمِ؛ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيْثِ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِيْ أَخْطَأْتُ. قَالَ: (لَا تُقْسِمْ)) (¬1)؛ فَفِيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ لَمْ يُجِبْ طَلَبَهُ، فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الحَدِيْثَ السَّابِقَ لَيْسَ فِيْهِ السُّؤَالُ بِاللهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا فِيْهِ القَسَمُ بِاللهِ - وَإِنْ كَانَ قَرِيْبًا مِنْهُ مِنْ جِهَةِ إِظْهَارِ التَّعْظِيْمِ بِإِبْرَارِهِ -، وَلَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا. (¬2) 2) أَنَّ امْتِنَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ قَد يَكُوْنُ لِضَرُوْرَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ أَوْ فِيْهَا مَا لَا يَنْبَغِي تَفْسِيْرُهُ وَذِكْرُهُ (¬3). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. 3) قَدْ جَاءَ فِي حَدِيْثِ الثَّلَاثَةِ - الأَقْرَعِ وَالأَبْرَصِ وَالأَعْمَى - بَيَانُ أَنَّ السَّخَطَ وَقَعَ عَلَى مَنْ لَمْ يُجِبْ سُؤَالَ المَلَكِ بِاللهِ، وَالَّذِيْ فِيْهِ (أَسْأَلُكَ بِالَّذِيْ)، فَمِثْلُهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فَقَط لِلكَرَاهَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬4) 4) أَنَّ أَلْفَاظَ أَحَادِيْثِ النَّهْي هُنَا لَا تَقْبَلُ الحَمْلَ عَلَى الكَرَاهَةِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ ((وَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟) قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (الَّذِيْ يُسْأَلُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يُعْطِي بِهِ)) (¬5)، وَكَمَا فِي مَنْ مَنَعَ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللهَ؛ فَقَالَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَلْعُوْنٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ)، وَقَدْ سَبَقَ. ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7046)، وَمُسْلِمٌ (2269)، وَهُوَ بِتَمَامِهِ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يُحَدِّثُ (أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي المَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُوْنَ مِنْهَا؛ فَالمُسْتَكْثِرُ وَالمُسْتَقِلُّ. وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ؛ فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ، ثُمَّ وُصِلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ! لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اعْبُرْهَا)، قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ؛ فَالإِسْلَامُ، وَأَمَّا الَّذِيْ يَنْطُفُ مِنَ العَسَلِ وَالسَّمْنِ؛ فَالقُرْآنُ - حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ -؛ فَالمُسْتَكْثِرُ مِنَ القُرْآنِ وَالمُسْتَقِلُّ، وَأَمَّا السَّبَبُ الوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَالحَقُّ الَّذِيْ أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيْكَ اللهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ، فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُوْلَ اللهِ - بِأَبِي أَنْتَ - أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا) قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِيْ أَخْطَأْتُ. قَالَ: (لَا تُقْسِمْ)). (¬2) وَلَا يَخْفَى الفَرْقُ بَينَ السُّؤَالِ بِالرَّحِمِ - وَهُوَ جَائِزٌ - وَبَينَ سُؤَالِ الرَّحِمِ نَفْسِهَا - وَهِيَ مَخْلُوْقَةٌ -، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِيْ تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (النِّسَاء:1). (¬3) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ الرُّؤْيَا تَقَعُ عَلَى مَا تُعَبَّرُ، وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ رَفَعَ رِجْلَهُ فَهُوَ يَنْتَظِرُ مَتَى يَضَعُهَا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا نَاصِحًا أَوْ عَالِمًا). صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (8177) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (120). (¬4) عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ السَّخَطَ فِي الحَدِيْثِ كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى أَمْرَيْنِ مَعًا - وَلَيْسَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ - وَهُمَا: الاضْطِرَارُ وَالسُّؤَالُ بِاللهِ. (¬5) صَحِيْحٌ. النَّسَائيُّ (2569). الصَّحِيْحَةُ (255).

باب ما جاء في الـ (لو)

بَابُ مَا جَاءَ فِي الـ (لَو) (¬1) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَقُوْلُوْنَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (آل عِمْرَان:154). وَقَوْلِهِ {الَّذِيْنَ قَالُوْا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوْا لَوْ أَطَاعُوْنَا مَا قُتِلُوا} (آل عِمْرَان:168). وَفِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ; فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا؛ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ; فَإِنَّ - لَوْ - تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ). (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ الآيَتَيْنِ فِي آلِ عِمْرَانَ. الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ الصَّرِيْحُ عَنْ قَوْلٍ (لَوْ) إِذَا أَصَابَكَ شَيْءٌ. الثَّالِثَةُ: تَعْلِيْلُ المَسْأَلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. الرَّابِعَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى الكَلَامِ الحَسَنِ. الخَامِسَةُ: الأَمْرُ بِالحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ. السَّادِسَةُ: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ؛ وَهُوَ العَجْزُ. ¬

_ (¬1) (لَو): لَيْسَتْ اسْمًا وَإِنَّمَا هِيَ حَرْفٌ؛ وَأُضِيفَتْ إِلَيهَا (الـ) التَّعْرِيْفِ الخَاصَّةِ بِالأَسْمَاءِ مِنْ أَجْلِ مُعَامَلَتِهَا أَثْنَاءَ الكَلَامِ كَالأَسْمَاءِ. (¬2) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2664) دُوْنَ البُخَاريِّ.

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيْدِ هُوَ وُجُوْبُ الاسْتِسْلَامِ لِلقَضَاءِ وَالقَدَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ. - لَمْ يَجْزِمِ المُصَنِّفُ بِحُكْمِ قَوْلِ (لَوْ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الحَامِلِ عَلَيْهَا. - قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِيْنَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِيْنَ نَافَقُوا وَقِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيْمَانِ يَقُوْلُوْنَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوْبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُوْنَ، الَّذِيْنَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُوْنَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ} (آل عِمْرَان:168). - وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّوْنَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُوْلُوْنَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُوْنَ لَكَ يَقُوْلُوْنَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوْتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِيْنَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُوْرِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوْبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُوْرِ} (آل عِمْرَان:154). - قَوْلُهُ تَعَالَى {يَقُوْلُوْنَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (آل عِمْرَان:154): أَيْ: لَوْ كَانَ لَنَا فِي هَذِهِ الوَاقِعَةِ رَأْيٌ وَمَشُوْرَةٌ {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُم وَتَكْذِيْبٌ بِقَدَرِ اللهِ، وَتَسْفِيْهٌ مِنْهُم لِرَأْي رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْي أَصْحَابِهِ، وَتَزْكِيَةٌ مِنْهُم لِأَنْفُسِهِم، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِم بِقَوْلِهِ {قَلْ لَوْ كُنْتُم فِي بُيُوْتِكُم} الَّتِيْ هِيَ أبَعْدُ شَيْءٍ عَنْ مَظَانِّ القَتْلِ {لَبَرَزَ الَّذِيْنَ كُتِبَ عَلَيْهِم القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم}. - قَوْلُهُ {لِإِخْوَانِهِم}: قِيْلَ: فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، وَقِيْلَ: فِي الدِّيْنِ ظَاهِرًا; لِأَنَّ المُنَافِقِيْنَ يَتَظَاهَرُوْنَ بِالإِسْلَامِ، وَلَوْ قِيْلَ: إِنَّهُ شَامِلٌ لِلأَمْرَينِ; لَكَانَ صَحِيْحًا. - حَدِيْثُ البَابِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيْمِ قَوْلِ (لَو) أَوْ (لَيْتَ) وَمَا شَابَهَهُمَا عَلَى سَبِيْلِ التَّحَسُّرِ وَالنِّقْمَةِ عَلَى القَدَرِ، وَأَمَّا اسْتِخْدَامُهَا فِي عُمُوْمِ الإِخْبَارِ وَالتَّمَنِّي أَوِ الحَدِيْثِ عَنِ المُسْتَقْبَلِ فَيَجُوْزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيْهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى القَدَرِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (فَاسْتِعْمَالُ (لَوْ) يَكُوْنُ بِحَسْبِ الحَالِ الحَامِلِ عَلَيْهَا؛ فَإِنْ حَمَلَ عَلَيهَا الضَّجَرُ وَالحُزْنُ وَضَعْفُ الإِيْمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ أَوْ تَمَنِّي الشَّرِّ كَانَ مَذْمُومًا، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيهَا الرَّغْبَةُ فِي الخَيْرِ وَالإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيْمِ كَانَ مَحْمُوْدًا، وَلِهَذَا جَعَلَ المُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ مُحْتَمِلَةً لِلأَمْرَينِ). (¬1) - الوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ إِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ أَنْ يَكُوْنَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ- وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ - إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ). (¬2) ¬

_ (¬1) القَوْلُ السَّدِيْدُ (ص172). (¬2) مُسْلِمٌ (2999) عَنْ صُهَيْبٍ مَرْفُوْعًا.

- حَدِيْثُ البَابِ أَوَّلُهُ هُوَ (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيْفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ). وَالقَوِيُّ هُنَا: أَيْ: فِي إِيْمَانِهِ وَمَا يَقْتَضِيْهِ إِيْمَانُهُ (¬1)؛ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ، وَالجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، وَالحَزْمِ فِي العِبَادَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. - قَوْلُهُ (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ): فِيْهِ إِرْشَادٌ كَرِيْمٌ إِلَى الاهْتِمَامِ بِمَا يَنْفَعُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (¬2)، وَكَقَوْلِهِ (مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيْهِ) (¬3)، وَكُلَّمَا كَانَ النَّفْعُ أَكْبَرُ كَانَ الحِرْصُ أَكْثَرُ. - قَوْلُهُ (وَلَا تَعْجَزَنْ): العَجْزُ هُنَا مَعْنَاهُ التَّعَاجُرُ وَالكَسَلُ وَالإِهْمَالُ، وَلَيْسَ العَجْزَ الجِسْمِيَّ، فَإِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَجَزَ عَجْزًا جِسْمِيًّا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، وَفي الحَدِيْثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَعِيْذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ. (¬4) - قَوْلُهُ (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ): فِيْهِ إِرْشَادٌ إِلَى الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عِنْدَ المَصَائِبِ (¬5) - الَّتِيْ لَا كَسْبَ لِلعَبْدِ فِيْهَا - خِلَافًا لِلمَعَائِبِ وَالمَعَاصِي. (¬6) - قَوْلُهُ (فَإِنَّ - لَوْ - تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ): عَمَلُ الشَّيْطَانِ هُنَا هُوَ مَا يُلْقِيْهِ فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ مِنَ الحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ وَالحُزْنِ (¬7)، وَأَسْوَءُ مِنْهُ مَا يُلْقِيْهِ فِي نَفْسِ العَبْدِ مِنْ مُدَافَعَةٍ للقَدَرِ بِالظُّنُوْنِ وَالأَوْهَامِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَكُوْنَ مَا تَمَّ هُوَ بِقَدَرٍ سَابِقٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْكَارِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ. - فِي الحَدِيْثِ بَيَانُ أَرْبَعِ خُطُوَاتٍ عِنْدَ السَّعْي لِلحُصُوْلِ عَلَى المَطْلُوْبِ: 1) الحِرْصُ عَلَى مَا يَنْفَعُ. 2) الاسْتِعَانَةُ بِاللهِ. 3) المُضِيُّ فِي الأَمْرِ، وَالاسْتِمَرَارُ فِيْهِ، وَعَدَمُ التَّعَاجُزِ - أَي: التَّهَاوُنِ وَالكَسَلِ -. وَهَذِهِ المَرَاتِبُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا مَطْلُوبَةٌ مِنَ العَبْدِ مِنْ جِهَةِ سَعْيِهِ. 4) وَإِذَا حَصَلَ خِلَافُ المَقْصُوْدِ؛ فَهَذِهِ لَيْسَتْ إِلَيكَ، وَإِنَّمَا هِيَ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: (وَإِنْ أَصَابَكَ) فَفَوَّضَ الأَمْرَ إلِى اللهِ تَعَالَى، وَأَمَرَهُ بِقَوْلِ (قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ). - فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيْمَانِ} (آلِ عِمْرَان:167) دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ العَبْدَ قَدْ يَكُوْنُ فِيْهِ خَصْلَةُ كُفْرٍ وَخَصْلَةُ إِيْمَانٍ، وَقَدْ يَكُوْنُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الأُخْرَى؛ وَلَا يَكُوْنُ بَعْدُ كَافِرًا خَارِجًا مِنَ الإِسْلَامِ. ¬

_ (¬1) وَبِنَحْوِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (215/ 16). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6369)، وَمُسْلِمٌ (2706) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2317) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5911). (¬4) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (6367)، وَمُسْلِمٍ (2706) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ وَالجُبْنِ وَالهَرَمِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَات). (¬5) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ} (الحَدِيْد:22)، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ} (التَّغَابُن:11). (¬6) كَمَا يَصِحُّ الاحْتِجَاجُ بِالقَدَرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنَ المَعْصِيَةِ - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ - وَسَيَأْتِي قَرِيْبًا ذِكْرُ وَجْهِ ذَلِكَ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ. (¬7) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُوْنَ} (المُجَادِلَة:10)، وَحَتَّى فِي المَنَامِ يُرِيْهِ أَحْلَامًا مُخِيْفَةً لِيُحْزِنَهُ وَيُخَوِّفَهُ.

- التَّعْلِيْقُ عَلَى أَوْجُهِ اسْتِخْدَامِ (لَو) (¬1): 1) فِي الاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّرْعِ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ، حَيْثُ اعْتَرَضَ المُنَافِقُوْنَ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: {لَوْ أَطَاعُوْنَا مَا قُتِلُوا} (آل عِمْرَان:168). 2) فِي الاعْتِرَاضِ عَلَى القَدَرِ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ أَيْضًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِيْنَ: {يَقُوْلُوْنَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوْتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِيْنَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (آل عِمْرَان:154)، أَيْ: قَالُوا: لَوْ أَنَّهُم لَمْ يَخْرُجُوا لَمَا تَعَرَّضُوا لِلقَتْلِ، فَهُم يَعْتَرِضُوْنَ عَلَى قَدَرِ اللهِ. 3) أَنْ تُسْتَعْمَلَ للنَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ أَيْضًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الحَدِيْثُ فِي البَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْتَحُ النَّدَمَ عَلَيْكَ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌ عَنْهُ، لِأَنَّ النَّدَمَ يُكْسِبُ النَّفْسَ حُزْنًا وَانْقِبَاضًا، وَاللهُ يُرِيْدُ مِنَّا أَنْ نَكُوْنَ فِي انْشِرَاحٍ وَانْبِسَاطٍ وَاسْتِبْشَارٍ، كَمَا سَبَقَ فِي الكَلَامِ عَلَى الفَأْلِ الحَسَنِ فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي الطِّيَرَةِ). 4) أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِيْنَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُوْنِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُوْنِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِيْنُ} (النَّحْل:35). (¬2) 5) أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي التَّمَنِّي، وَحُكْمُهُ هَذَا هُوَ بِحَسْبِ مَا تَمَنَّى؛ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ، وَفي الحَدِيْثِ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الأَرْبَعَةِ، قَالَ أَحَدُهُم: (لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ) أَيْ مِنَ الخَيْرِ؛ (فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ)، فَهَذَا تَمَنَّى خَيْرًا، وَقَالَ الثَّانِي: (لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ) أَي مِنَ الشَّرِّ، (فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ). (¬3) (¬4) 6) أَنْ تُسْتَعْمَلَ عَلَى سَبِيْلِ الإِخْبَارِ فَقَط، وَهَذَا جَائِزٌ، مِثْلُ: لَوْ حَضَرْتَ الدَّرْسَ لَاسْتَفَدْتَ عِلْمًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ). (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) انْظُرِ كِتَابَ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (361/ 2) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهٌ. (¬2) وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {سَيَقُوْلُ الَّذِيْنَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوْهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُوْنَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُوْنَ} (الأَنْعَام:148). (¬3) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ (ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيْثًا فَاحْفَظُوْهُ - قَالَ: - مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا -، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيْثًا فَاحْفَظُوْهُ - قَالَ: - إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيْهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيْهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيْهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُوْلُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيْهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيْهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيْهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُوْلُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيْهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2325) عَنْ أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3024). (¬4) وَفي البُخَاريِّ (85/ 9) بَابُ (مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (هُوْد:80)). (¬5) البُخَارِيُّ (1651)، وَمُسْلِمٌ (1216) مِنْ حَدِيْثِ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ - لَوْ - هُنَا؛ هُوَ الإِخْبَارُ عَنِ الأَفْضَلِ لِلمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَ فِيْهَا تَحَسُّرٌ وَنَدَمٌ وَجَزَعٌ عَلَى مَا فَاتَ. (¬6) وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ عُمُوْمِ اللُّغَةِ، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (226/ 13): (قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: (لَوْ) تَدُلُّ عِنْدَ العَرَبِ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، تَقُوْلُ: لَوْ جَاءَنِي زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ؛ مَعْنَاهُ: إِنِّي امْتَنَعْتُ مِنْ إِكْرَامِكَ لِامْتِنَاعِ مَجِيْءِ زَيْدٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى أَكْثَرُ المُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ تَجِيْءُ بِمَعْنَى (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ نَحْوَ {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أَيْ: وَإِنْ أَعْجَبَتْكُمْ، وَتَرِدُ لِلتَّقْلِيْلِ نَحْوَ (التَمِسْ؛ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيْدٍ)، وَمِثْلَ (فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة)، وَتَرِدُ لِلْعَرْضِ نَحْوَ (لَوْ تَنْزِلُ عِنْدَنَا فَتُصِيْبُ خَيْرًا)، وَلِلْحَضِّ نَحْوَ (لَوْ فَعَلْتَ كَذَا) بِمَعْنَى افْعَلْ، وَالأَوَّلُ طَلَبٌ بِأَدَبٍ وَلِيْنٍ، وَالثَّانِي طَلَبٌ بِقُوَّة وَشِدَّةٍ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى التَّمَنِّي نَحْوَ {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أَيْ: فَلَيْتَ لَنَا)). تَمَّ بِحَذْفٍ يَسِيْرٍ.

باب النهي عن سب الريح

بَابُ النَّهْي عَنْ سَبِّ الرِّيْحِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَسُبُّوا الرِّيْحَ; فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُوْنَ; فَقُوْلُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيْحِ وَخَيْرِ مَا فِيْهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيْحِ وَشَرِّ مَا فِيْهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ). صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الرِّيْحِ. الثَّانِيَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى الكَلَامِ النَّافِعِ إِذَا رَأَى الإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُ. الثَّالِثَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى أَنَّهَا مَأْمُوْرَةٌ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا قَدْ تُؤْمَرُ بِخَيْرٍ وَقَدْ تُؤْمَرُ بِشَرٍّ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2252). الصَّحِيْحَةُ (2756). وَفي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (899) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيْحُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيْهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيْهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ).

الشرح

الشَّرْحُ - سَبَبُ النَّهْي عَنْ سَبِّ الرِّيْحِ هُوَ أَنَّ مَسَبَّتَهَا مَسَبَّةٌ لِلآمِرِ لَهَا؛ وَهُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ حَيْثُ أَنَّهَا مَأْمُوْرَةٌ مِنْ قِبَلِهِ (¬1) - كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّهْي عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ - وَهَذَا قَدْحٌ فِي التَّوْحِيْدِ، وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّ رَجُلًا نَازَعَتْهُ الرِّيْحُ رِدَاءَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَنَهَا؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُوْرَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ)). (¬2) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسُبَّ الرِّيْحَ؛ فَإِنَّهَا خَلْقٌ للهِ مُطِيْعٌ وَجُنْدٌ مِنْ أَجْنَادِهِ يَجْعَلُهَا رَحْمَةً وَنَقْمَةً إِذَا شَاءَ). (¬3) - إِنَّ الرِّيْحَ لَا تُسَبُّ وَلَا تُمْدَحُ، فَهِيَ لَا تُسَبُّ لِأَنَّهَا مَأْمُوْرَةٌ، وَأَيْضًا لَا تُمْدَحُ - أَيْ: مِنْ جِهَةِ نِسْبَةِ النِّعْمَةِ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ عُمُوْمِ الإِخْبَارِ وَالوَصْفِ - لِأَنَّ فِي هَذَا تَنَقُّصًا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وِإِسْنَادًا لِلأُمُوْرِ إِلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَعْرِفُوْنَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُوْنَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُوْنَ} (النَّحْل:107) ذِكْرُ قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ (هُوَ كَقَوْلِهِمْ: كَانَتِ الرِّيْحُ طَيِّبَةً، وَالمَلَّاحُ حَاذِقًا). قُلْتُ: وَلَيْسَ مِنْ هَذَا وَصْفُ الرِّيْحِ بِمَا فِيْهَا مِنْ صِفَاتٍ - أَيْ: مِنْ جِهَةِ الشِّدَّةِ وَاللُّطْفِ وَالتَّدْمِيْرِ مَثَلًا - كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِيْ يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيْحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الشَّاكِرِيْنَ} (يُوْنُس:22)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيْحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الحَاقَّة:6)، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ نَظِيْرِ ذَلِكَ فِي بَابِ (مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَقَدْ آذَى اللهَ). (¬4) - قَوْلُهُ (مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيْحِ): الرِّيْحُ نَفْسُهَا فِيْهَا خَيْرٌ وَفِيْهَا شَرٌّ; فَقَدْ تَكُوْنُ عَاصِفَةً تَقْلَعُ الأَشْجَارَ، وَتَهْدِمُ الدِّيَارَ، وَتُفِيْضُ البِحَارَ وَالأَنْهَارِ، وَقَدْ تَكُوْنُ هَادِئَةً تُبْرِدُ الجَوَّ وَتُكْسِبُ النَّشَاطَ. - قَوْلُهُ (وَخِيْرِ مَا فِيْهَا): أَيْ: مَا تَحْمِلُهُ; لِأَنَّهَا قَدْ تَحْمِلُ خَيْرًا; كَتَلْقِيْحِ النَّبَاتِ، وَقَدْ تَحْمِلُ رَائِحَةً طَيِّبَةَ الشَّمِّ، وَقَدْ تَحْمِلُ شَرًّا; كَإِزَالَةِ لِقَاحِ النَّبَاتِ، وَأَمْرَاضٍ تَضُرُّ الإِنْسَانَ وَالبَهَائِمَ. (¬5) - قَوْلُهُ (وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ): أَيْ: مِنْ جِهَةِ عُمُوْمِ الأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ لَهَا. ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {أَمَّنْ يَهْدِيْكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (النَّمْل:63). وَأَيْضًا قَوْلَهُ تَعَالَى {وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلَامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُوْرٍ} (الشُّوْرَى:33). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4908) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (528). (¬3) ذَكَرَهُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالآثَارِ) (7250) بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيْثٍ مُنْقَطِعٍ - أَعَلَّهُ بِذَلِكَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (399/ 6) - وَفِيْهِ (شَكَا رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفَقْرَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَعَلَّكَ تَسُبُّ الرِّيْحَ)). (¬4) قُلْتُ: وَلَكِنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الدَّهْرِ وَالرِّيْحِ؛ هُوَ أَنَّ الرَّيْحَ عَبْدٌ مَأْمُوْرٌ مُطِيْعٌ للهِ تَعَالَى لَهُ اخْتِيَارٌ بِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الطَّاعَةِ، أَمَّا الدَّهْرُ فَهُوَ ظَرْفٌ لِمَا يَحِلُّ فِيْهِ مِنَ الحَوَادِثِ، فَهُوَ مَعْنًى وَلَيْسَ عَيْنًا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬5) قُلْتُ: فِي تَوْجِيْهِ الفَرْقِ بَيْنَ الجُمْلَةِ الأُوْلَى وَالثَّالِثَةِ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -: أَنَّ الخَيْرَ فِي الجُمْلَةِ الأُوْلَى هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا تَقُوْمُ بِهِ الرِّيْحُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا فِي الجُمْلَةُ الثَّالِثَةِ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الخَيْرِ فِيْهَا مَآلًا.

- الرِّيْحُ مَأْمُورَةٌ؛ قَدْ تُؤْمَرُ بِخَيْرٍ وَقَدْ تُؤْمَرُ بِشَرٍ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا تَسُبُّوا الرِّيْحَ، فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالعَذَابِ، وَلَكِنْ سَلُوا اللهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا) (¬1): 1) فَالخَيْرُ هَوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ} (الأَعْرَاف:57). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوْهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِيْنَ} (الحِجْر:22). 2) وَالشَّرُّ هُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهَا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيْحَ العَقِيْمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيْمِ} (الذَّارِيَات:42). (¬2) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيْحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (القَمَر:20). (¬3) وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قَالَتْ: (مَا رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ (¬4)، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ، قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيْحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الغَيْمَ فَرِحُوا - رَجَاءَ أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ المَطَرُ - وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيْحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابَ فَقَالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (الأَحْقَاف:24)). (¬5) (¬6) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ؛ فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ المَدِيْنَةِ هَاجَتْ رِيْحٌ شَدِيْدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيْحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ). فَلَمَّا قَدِمَ المَدِيْنَةَ فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيْمٌ مِنَ المُنَافِقِيْنَ قَدْ مَاتَ. (¬7) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (3727) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7316). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (423/ 7): ((العَقِيْمَ) أَيِ: المُفْسِدَةَ الَّتِيْ لَا تَنْتِجُ شَيْئًا. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} - أَيْ: مِمَّا تُفْسِدُهُ الرِّيْحُ - إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيْمِ أَيْ: كَالشَّيْءِ الهَالِكِ البَالِي). (¬3) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص826): ({رِيْحًا صَرْصَرًا} أَيْ: شَدِيْدَةً جِدًّا {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أَيْ: شَدِيْدِ العَذَابِ وَالشَّقَاءِ عَلَيْهِم {مُسْتَمِرٍّ} عَلَيْهِم سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوْمًا {تَنْزِعُ النَّاسَ} مِنْ شِدَّتِهَا؛ فَتَرْفَعُهُم إِلَى جَوِّ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَدْفَعُهُم بِالأَرْضِ فَتُهْلِكُهُم، فَيُصْبِحُوْنَ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} أَيْ: كَأَنَّ جُثَثَهُم بَعْدَ هَلَاكِهِم مِثْلُ جُذُوْعِ النَّخْلِ الخَاوي الَّذِيْ اقْتَلَعَتْهُ الرِّيْحُ فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ، فَمَا أَهْوَنَ الخَلْقَ عَلَى اللهِ إِذَا عَصَوا أَمْرَهُ). (¬4) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ (92/ 4): (يَعْنِي لَيْسَ يَضْحَكُ ضَحِكًا فَاحِشًا بِقَهْقَهَةٍ - يَفْتَحُ فَمَهُ حَتَّى تَبْدُو لُهَاتُهُ - وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبَتَسَّمُ أَوْ يَضْحَكُ حَتَّى تَبْدُو نَوَاجِذُهُ أَوْ تَبْدُو أَنْيَابُهُ). (¬5) البُخَارِيُّ (4828)، وَمُسْلِمٌ (899). (¬6) قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيْحٌ فِيْهَا عَذَابٌ أَلِيْمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} (الأَحْقَاف:25). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (286/ 7): (أَيْ: لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ مُسْتَقْبِلَهُمْ؛ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ عَارِضٌ مُمْطِرٌ، فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَقَدْ كَانُوا مُمْحِلِيْنَ مُحْتَاجِيْنَ إِلَى المَطَرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيْحٌ فِيْهَا عَذَابٌ أَلِيْمٌ} أَيْ: هُوَ العَذَابُ الَّذِيْ قُلْتُمْ: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ}، {تُدَمِّرُ} أَيْ: تُخَرِّبُ {كُلِّ شَيْءٍ} مِنْ بِلَادِهِمْ - مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ الخَرَابُ - {بِأَمْرِ رَبِّهَا} أَيْ: بِإِذْنِ اللهِ لَهَا فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيْمِ} (الذَّارِيَات:42) أَيْ: كَالشَّيْءِ البَالِي. وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} أَيْ: قَدْ بَادُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ، {كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِيْنَ} أَيْ: هَذَا حُكْمُنَا فِيْمَنْ كَذَّبَ رُسُلَنَا، وَخَالَفَ أَمْرَنَا). (¬7) مُسْلِمٌ (2782).

- فِي الحَدِيْثِ بَيَانُ الذِّكْرِ المَشْرُوْعِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الرِّيْحِ، وَأَيْضًا مَا فِي الحَدِيْثِ (كَانَ إِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيْحُ يَقُوْلُ: (اللَّهُمَّ لَاقِحًا؛ لَا عَقِيْمًا)). (¬1) (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَبْصَرْنَا شَيْئًا فِي السَّمَاءِ - تَعْنِي السَّحَابَ - تَرَكَ عَمَلَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيْهِ)، فَإِنْ كَشَفَهُ اللهُ حَمِدَ اللهَ، وَإِنْ مَطَرَتْ؛ قَالَ: (اللَّهُمَّ سَقْيًا نَافِعًا). (¬3) - فَائِدَةٌ: (فِي الحَدِيْثِ دِلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الرِّيْحَ قَدْ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَقَدْ تَأْتِي بِالعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالرَّحْمَةِ وَالعَذَابِ، وَأَنَّهَا رِيْحٌ وَاحِدَةٌ لَا رِيَاحٌ، فَمَا جَاءَ فِي حَدِيْثِ الطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا بِلَفْظِ (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيْحًا) (¬4) فَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: (لَا أَصْلَ لَهُ)). (¬5) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (718) عَنْ سَلَمَة بْنِ الأَكْوَعِ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2058). (¬2) أَيْ: حَامِلًا لِلمَاءِ كَاللقْحَةِ مِنَ الإِبْلِ، وَ (العَقِيْمُ) الَّتِيْ لَا مَاءَ فِيْهَا، كَالعَقِيْمِ مِنَ الحَيَوَانِ؛ لَا وَلَدَ فِيْهَا. كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيْحَ العَقِيْمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيْمِ} (الذَّارِيَات:42). (¬3) صَحِيْحٌ. السُّنَنُ الكُبْرَى لِلبَيْهَقِيِّ (6469). مِشْكَاةُ المَصَابِيْحِ (1520). (¬4) بَاطِلٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (213/ 11). الضَّعِيْفَةُ (5600). (¬5) قَالَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2756).

باب قول الله تعالى {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء}

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَظُنُّوْنَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُوْلُوْنَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} (آل عِمْرَان:154). وَقَوْلِهِ {الظَّانِّيْنَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} (الفَتْحِ:6). قَالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي الآيَةِ الأُوْلَى: (فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُوْلَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ، وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ بِقَدَرِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ. فَفُسِّرَ بِإِنْكَارِ الحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ القَدْرِ وَإِنْكَارٍ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ، وَهَذَا هُوَ ظَنُّ السَّوْءِ الَّذِيْ ظَنَّهُ المُنَافِقُوْنَ وَالمُشْرِكُوْنَ فِي سُوْرَةِ الفَتْحِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظَنَّ السُّوْءَ؛ لِأَنَّهُ ظَنُّ غَيْرِ مَا يَلِيْقُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَمَا يَلِيْقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدِيْلُ البَاطِلَ عَلَى الحَقِّ إِدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا الحَقُّ، أَوْ أَنْكَرَ أَنَّ مَا جَرَى بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُوْنَ قَدَرُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الحَمْدَ - بَلْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ -; فَذَلِكَ ظَنُّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّوْنَ بِاَللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ فِيْمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِيْمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَمُوْجَبَ (¬1) حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ. فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيْبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ، وَلْيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ. وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَّ لَرَأَيْتُ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى القَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُوْنَ كَذَا وَكَذَا، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ؟ فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيْمَةٍ وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكَ (¬2) نَاجِيًا). (¬3) ¬

_ (¬1) بِالفَتْحِ: هُوَ المُسَبَّبُ النَاتِجُ عَنِ السَّبَبِ بِمَعْنَى المُقْتَضَى. (¬2) أَيْ: أَظُنُّكَ. (¬3) وَتَتِمَّةُ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللهُ فِي (زَّادِ المَعَادِ) (207/ 3): (وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ وَتَشْبِيْهٌ وَتَمْثِيْلٌ؛ وَتَرْكَ الحَقَّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ؛ وَإِنَّمَا رَمَزَ إلَيْهِ رُمُوْزًا بَعِيْدَةً؛ وَأَشَارَ إلَيْهِ إِشَارَاتٍ مُلْغزَةً؛ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ وَصَرَّحَ دَائِمًا بِالتّشْبِيْهِ وَالتّمْثِيْلِ وَالبَاطِلِ؛ وَأَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُتْعِبُوا أَذْهَانَهُمْ وَقُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِي تَحْرِيْفِ كَلَامِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيْلِهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيْلِهِ؛ وَيَتَطّلَبُوا لَهُ وُجُوْهَ الِاحْتِمَالَاتِ المُسْتَكْرَهَةِ وَالتَّأْوِيْلَاتِ - الَّتِيْ هِيَ بِالأَلْغَازِ وَالأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالكَشْفِ وَالبَيَانِ - وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُوْلِهِمْ وَآرَائِهِمْ لَا عَلَى كِتَابِهِ؛ بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُوْنَ مِنْ خِطَابِهِمْ وَلُغَتِهِمْ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يُصَرِّحَ لَهُمْ بِالحَقِّ الَّذِيْ يَنْبَغِي التّصْرِيْحُ بِهِ وَيُرِيحَهُمْ مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِيْ تُوقِعُهُمْ فِي اعْتِقَادِ البَاطِلِ -؛ فَلَمْ يَفْعَلْ! بَلْ سَلَكَ بِهِمْ خِلَافَ طَرِيْقِ الهُدَى وَالبَيَانِ! فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السّوْءِ. فَإِنَّهُ إنْ قَالَ: إنّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التَّعْبِيْرِ عَنِ الحَقِّ بِاللّفْظِ الصَّرِيْحَ - الَّذِيْ عَبّرَ بِهِ هُوَ وَسَلَفُهُ! - فَقَدْ ظَنَّ بِقُدْرَتِهِ العَجْزَ، وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ قَادِرٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ، وَعَدَلَ عَنِ البَيَانِ وَعَنِ التَّصْرِيْحِ بِالحَقِّ إلَى مَا يُوْهِمُ بَلْ يُوقِعُ فِي البَاطِلِ المُحَالِ وَالِاعْتِقَادِ الفَاسِدِ! فَقَدْ ظَنَّ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ وَسَلَفُهُ عَبَّرُوا عَنِ الحَقِّ بِصَرِيْحِهِ دُوْنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ؛ وَأَنَّ الهُدَى وَالحَقَّ فِي كَلَامِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ؛ وَأَمّا كَلَامُ اللهِ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهِ التّشْبِيْهُ وَالتّمْثِيْلُ وَالضَّلَالُ وَظَاهِرُ كَلَامِ المُتَهَوِّكِيْنَ! ظَنَّ السَّوْءِ، وَمِنْ الظَّانِّيْنَ بِهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ).

الشرح

الشَّرْحُ - هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بِبَابِ (النَّهْيُ عَنْ ظَنِّ السُّوْءِ بِاللهِ تَعَالَى). - مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ: أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ التَّوْحِيْدِ، وَسُوْءَ الظَّنِّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُنَافِي التَّوْحِيْدَ (¬1)، وَفي الحَدِيْثِ (لَا يَمُوْتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ). (¬2) - قَوْلُهُ تَعَالَى {يَظُنُّوْنَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ}: فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ كَمَا فِي سُوْرَةِ الفَتْحِ {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُوْلُ وَالمُؤْمِنُوْنَ إِلَى أَهْلِيْهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوْبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُوْرًا} (الفَتْح:12) وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ المُشْرِكِيْنَ لَمَّا ظَهَرُوا تِلْكَ السَّاعَةِ ظَنُّوا أَنَّهَا الفَيْصَلَةُ، وَأَنَّ الإِسْلَامَ قَدْ بَادَ وَأَهْلَهُ. - إِنَّ ظَنَّ السَّوْءِ الَّذِيْ ظَنَّهُ المُنَافِقُوْنَ هُوَ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: 1) أَنَّ اللهَ لَا يَنْصُرُ رَسُوْلَهُ، وَإِنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ إِرْسَالَ الرَّسُوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَبَثٌ وَسَفَهٌ، فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ أَنْ يُرْسَلَ رَسُوْلًا وَيُؤْمَرَ بِالقِتَالِ وَإِتْلَافِ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ؛ ثُمَّ تَكُوْنَ النَّتِيجَةُ أَنْ يَضْمَحِلَ أَمْرُهُ وَيُنْسَى؟ فَهَذَا ظَنُّ سَوْءٍ بِاللهِ تَعَالَى، وَلَا سِيَّمَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِيْ هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّيْنَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ شَرِيْعَتَهُ سَوْفَ تَبْقَى إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِالهُدَى وَدِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْنَ} (الصَّف:9)، وَهَذَا الظَّنُّ أَيْضًا تَكْذِيْبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُوْمُ الأَشْهَادُ} (غَافِر:51)، وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّكْذِيْبَ لِوَعْدِ اللهِ كُفْرٌ. 2) أَنَّ مَا أَصَابَهُم لَمْ يَكُنْ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، فَهُوَ إِنْكَارٌ لِلقَدَرِ، وَهَذَا رَدٌّ لِرُكْنِ الإِيْمَانِ السَّادِسِ. 3) إِنْكَارُهُم لِلحِكْمَةِ، وَهَذَا أَيْضًا كُفْرٌ بِاللهِ وَضَلَالٌ، فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَفَرَ بِاسْمِ اللهِ الحَكِيْمِ، وَمَنْ أَوَّلَهَا فَقَدْ ضَلَّ. - لَا يَسْلَمُ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِاللهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَائَهُ وَصِفَاتِهِ. وَاَللهُ جَلَّ وَعَلَا (يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَأَمَّا الدِّيْنَ فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيْهِ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ). (¬3) فَلَيْسَ إِنْزَالُ النِّعَمِ أَوِ النِّقَمِ دَلِيْلًا عَلَى المَحَبَّةِ أَوْ عَلَى البُغْضِ وَالكَرَاهَةِ، وَإنَّمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، فَقَدْ يَبْتَلِي اللهُ مَنْ يُحِبُّهُ بما يَسُوْءُهُ، وَقَدْ يُنْعِمُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِيْنٌ} (آل عِمْرَان:178). (¬4) (¬5) قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (¬6): (فَلَا تَجْزَعْ وَإِنْ أَعْسَرْتَ يَوْمًا ... فَقَدْ أَيْسَرْتَ فِي الزَّمَنِ الطَّوِيْلِ وَلَا تَيْأَسْ فَإِنَّ اليَأْسَ كُفْرٌ ... لَعَلَّ اللهَ يُغْنِي عَنْ قَلِيْلِ وَلَا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ ... فَإِنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَمِيْلِ). (¬7) ¬

_ (¬1) يُنَافِي أَصْلَهُ إِذَا زَادَ وَكَثُرَ وَاسْتَمَرَّ وَصَرَّحَ بِهِ، أَوْ يُنَافِي كَمَالَهُ الوَاجِبَ إِذَا كَانَ شَيْئًا عَارِضًا أَوْ شَيْئًا خَفِيْفًا أَوْ خَاطِرًا فِي النَّفْسِ فَقَطْ - لَا يَقْصُدُ حَقِيْقَتَهُ -. (¬2) مُسْلِمٌ (2877) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (3672) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2714). (¬4) وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُوْلُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُوْلُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُوْنَ اليَتِيْمَ} (الفَجْر:17). (¬5) كَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيْدٍ عَنْ أَبِيْهِ؛ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ - وعَادَ مَرِيْضًا فِي كِنْدَةَ -، فلمَّا دَخلَ عَليْهِ قَال: أَبشِر فِإنَّ مَرَضَ المُؤْمِنِ يَجَعَلُهُ اللهُ لَه كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَبًا، وإِنَّ مَرَضَ الفَاجِرِ كَالبَعِيْرِ؛ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُم أَرْسَلُوْهُ؛ فَلَا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ وَلِمَ أُرْسِلَ). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (493). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (379). (¬6) بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. (¬7) شُعَبُ الإِيْمَانِ (363/ 12).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {الظَّانِّيْنَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ (¬1) عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}: يَعْنِي: أَنَّ دَائِرَةَ العَذَابِ تَدُوْرُ عَلَيْهِم، وَأَنَّ السُّوْءَ مُحِيْطٌ بِهِم جَمِيْعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا تُحِيْطُ الدَّائِرَةُ بِمَا فِي جَوْفِهَا. - اسْمُ اللهِ تَعَالَى (الحَكِيْم) مُشْتَمِلٌ عَلَى صِفَةِ الحِكْمَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى: 1) حَكِيْمٌ بِمَعْنَى حَاكِمٌ. 2) حَكيْمٌ بِمَعْنَى مُحْكِمٌ لِلأُمُوْرِ. 3) حَكِيْمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ ذُو الحِكْمَةِ البَالِغَةِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ لِحِكْمَةٍ، وَنَحْنُ قَدْ نَعْلَمُهَا وَقَدْ لَا نَعْلَمُهَا. - الأَصْلُ فِي الظَّنِّ: أَنَّهُ الاحْتِمَالُ الرَّاجِحُ - وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى اليَقِيْنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِيْنَ يَظُنُّوْنَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ} (البَقَرَة:46) أَيْ: يَتَيَقَّنُوْنَ -، وَضِدُّ الرَّاجِحِ: المَرْجُوْحُ، وَيُسَمَّى وَهْمًا. (¬2) وَظَنُّ المَنَافِقِيْنَ هُوَ ظَنُّ الجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ قَدْرَ اللهِ وَعَظَمَتَهُ، فَهُوَ ظَنٌّ بَاطِلٌ مبْنِيٌّ عَلَى الجَهْلِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوْتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِيْنَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (آل عِمْرَان:154): الكِتَابَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: شَرْعِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الكَوْنِيَّةَ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى وَقَدْ لَا يُحِبُّهَا - وَعَلَيْهَا تُحْمَلُ الكِتَابَةُ هُنَا -. أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَقَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، وَهِيَ مَحْبُوْبَةٌ دَوْمًا مِنَ اللهِ تَعَالَى. (¬3) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُوْرِكُمْ}: أَيْ: يَخْتَبِرَ مَا فِي صُدُوْرِكُم مِنَ الإِيْمَانِ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَالإِيْمَانِ بِحِكْمَتِهِ، فَيَخْتَبِرَ مَا فِي قَلْبِ العَبْدِ بِمَا يُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ مِنَ الأُمُوْرِ المَكْرُوْهَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوْبِكُمْ}: أَيْ: إِذَا حَصَلَ الابْتِلَاءُ فَقُوْبِلَ بِالصَّبْرِ صَارَ فِي ذَلِكَ تَمْحِيْصٌ لِمَا فِي القَلْبِ، أَيْ: تَطْهِيْرٌ لَهُ وَإِزَالَةٌ لِمَا يَكُوْنُ قَدْ عَلقَ بِهِ مِنْ بَعْضِ الأُمُوْرِ الَّتِيْ لَا تَنْبَغِي. وَقَدْ حَصَلَ الابْتِلَاءُ وَالتَّمْحِيْصُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِدَلِيْلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا نَدَبَهُم الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلخُرُوْجِ حِيْنَ قِيْلَ لَهُ: {إَنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم فَاخْشَوْهُم} (آل عِمْرَان:172) خَرَجُوا إِلَى (حَمْرَاءَ الأَسَدِ) وَلَمْ يَجِدُوا غَزْوًا فَرَجَعُوا، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيْمٍ} (آل عِمْرَان:174). - (ابْنُ القَيِّمِ): هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبي بَكْرِ بْنِ أَيُّوْبَ بْنِ سَعْدٍ الزَّرْعِيُّ؛ الدِّمَشْقِيُّ؛ أَبْو عَبْدِ اللهِ؛ شَمْسُ الدِّيْنِ؛ مِنْ أَرْكَانِ الإِصْلَاحِ الإِسْلَامِيِّ؛ وَأَحَدُ كِبَارِ العُلَمَاءِ. تَتَلْمَذَ عَلَى شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة حَتَّى كَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ، بَلْ يَنْتَصِرُ لَهُ فِي جَمِيْعِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَسُجِنَ مَعَهُ فِي قَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَأُهِيْنَ وَعُذِّبَ بِسَبَبِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الخُلُقِ مَحْبُوْبًا عِنْدَ النَّاسِ، (ت 751). (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَ القُرْطُبيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (234/ 8): (قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيْرٍ وَأَبُو عَمْرو بِضَمِّ السِّيْنِ، وَفَتَحَهَا البَاقُوْنَ). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: (أَجْمَعُوا عَلَى فَتْحِ السِّيْنِ فِي قَوْلِهِ {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} (مَرْيَم: 28)). (¬2) قَالَ الجُرْجَانِيُّ النَّحَوِيُّ (ت 816 هـ) رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّعْرِيْفَاتُ) (144/ 1): (الظَّنُّ: هُوَ الاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيْضِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي اليَقِيْنِ وَالشَّكِّ، وَقِيْلَ: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِّ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرَّجَحَانِ). (¬3) وَمِثَالُ الكِتَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ} (البَقَرَة:183). وَمِثَالُ الكِتَابَةِ الكَوْنِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيْزٌ} (المُجَادِلَة:21). وَقَوْلُهُ تَعَالَى أَيْضًا {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُوْرِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:105). (¬4) الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (56/ 6).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) زَعَمَتِ المُعَطِّلَةُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُوْصَفُ بِالحِكْمَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الأَغْرَاضِ! وَقَالُوا: إِنَّ فِعْلَهُ لِغَرَضٍ مَا يَدُلُّ عَلَى حَاجَتِهِ وَافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ! فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الحِكْمَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الحَاجَةُ وَالافْتِقَارُ، فَالحِكْمَةُ هِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ المُنَاسِبِ لِلْغَايَةِ المَحْمُوْدَةِ، فَهِيَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوْهِ. 2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الحِكْمَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَثْبَتَ كَمَالَ غِنَاهُ وَعِزَّتَهُ، فَنُثْبِتُ الحِكْمَةَ وَنَنْفِي عَنْهُ النَّقْصَ وَالحَاجَةَ وَالافْتِقَارَ. 3) أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُرِيْدُ بِأَفْعَالِهِ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا مَنْفَعَةَ عبِاَدِهِ، فَظَهَرَتْ بِذَلِكَ حِكْمَتُهُ مَعَ رَحْمَتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اللهُ عَنْ تَعْطِيْلِ المُلْحِدِيْنَ -. وَتَأَمَّلْ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى {يُرِيْدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيْفًا} (النِّسَاء:28)، وَقَوْلَهُ أَيْضًا {يُرِيْدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البَقَرَة:185). وَالحَمْدُ للهِ.

باب ما جاء في منكري القدر

بَابُ مَا جَاءَ فِي مُنْكِرِي القَدَرِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاَلَّذِي نَفْسُ ابْنِ عُمَرَ بِيَدِهِ؛ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ؛ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الإِيْمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ؛ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ الإِيْمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ؛ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَكَ. سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. فَقَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ? قَالَ: اُكْتُبْ مَقَادِيْرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُوْمَ السَّاعَةُ). يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي). (¬2) وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى القَلَمَ؛ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ). (¬3) وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ وَهْبٍ؛ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ). (¬4) وَفِي المُسْنَدِ واَلسُّنَنِ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ; قَالَ: (أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ القَدَرِ; فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللهَ يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبِي، فَقَالَ: لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا؛ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُوْدٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ؛ فَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي صَحِيْحِهِ. (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: بَيَانُ فَرْضِ الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ. الثَّانِيَةُ: بَيَانُ كَيْفَيَّةِ الإِيْمَانِ. الثَّالِثَةُ: إِحْبَاطُ عَمَلِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ. الرَّابِعَةُ: الإِخْبَارُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَجِدُ طَعْمَ الإِيْمَانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ. الخَامِسَةُ: ذِكْرُ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللهُ. السَّادِسَةُ: أَنَّهُ جَرَى بِالمَقَادِيْرِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. السَّابِعَةُ: بَرَاءَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ. الثَّامِنَةُ: عَادَةُ السَّلَفِ فِي إِزَالَةِ الشُّبْهَةِ بِسُؤَالِ العُلَمَاءِ. التَّاسِعَةُ: أَنَّ العُلَمَاءَ أَجَابُوْهُ بِمَا يُزِيْلُ شُبْهَتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَسَبُوا الكَلَامَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (8). وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي القَدَرِ بِالبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فَقُلْنَا: لَوْ لَقِيْنَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُوْلُ هَؤُلَاءِ فِي القَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ دَاخِلًا المَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي - أَحَدُنَا عَنْ يَمِيْنِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ - فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُوْنَ القُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُوْنَ العِلْمَ - وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ - وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُوْنَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ: فَإِذَا لَقِيْتَ أُوْلَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيْءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي. وَالَّذِيْ يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ؛ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ ..). قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ) (130/ 1): (قَوْلُهُ: (يَتَقَفَّرُوْنَ العِلْمَ): أَيْ: يَطْلُبُوْنَهُ وَيَتَّبِعُوْنَ أَثَرَهُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَتَقَفَّرُ الشَّيْءَ إِذَا طَلَبَهُ وَاجْتَهَدَ فِي البَحْثِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ (يَزْعُمُوْنَ أَنْ لَا قَدَرَ): أَيْ: أَنَّ الأَشْيَاءَ لَمْ يَسْبِقْ تَقْدِيْرُهَا. وَقَوْلُهُ (أَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ): أَيْ: مُسْتَأْنَفٌ؛ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيْهِ قَدَرٌ وَلَا مَشِيْئَةٌ، يُقَالُ: رَوْضَةٌ أُنُفٌ إِذَا كَانَتْ وَافِيَةَ الكَلَإِ لَمْ يُرْعَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَيَعْنُوْنَ أَنَّ مَا نَعْمَلُهُ لَمْ يُقَدَّرْ). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4700)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2155). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2018). (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (22705). قَالَ الشَّيْخُ شُعَيْبُ الأَرْنَؤُوطُ فِي تَحْقِيْقِ المُسْنَدِ: (حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ؛ وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ). (¬4) كِتَابُ (القَدَرِ) (121/ 1) لِابْنِ وَهَبٍ. (¬5) صَحِيْحٌ. السُّنَّةُ (245) لِابْنِ أَبي عَاصِمٍ، وَأَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ (21589)، وَابْنُ حَبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ بِرَقَم (727). ظِلَالُ الجَنَّةِ (245). مُلَاحَظَةٌ: لَمْ أَجِدِ الحَدِيْثَ عِنْدَ الحَاكِمِ.

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ (مُنْكِرِي): أَصْلُهُ مُنْكِرِيْنَ، وَلَكِنْ حُذِفَتْ النُّوْنُ لِلإِضَافَةِ. - قَوْلُهُ (القَدَر) (¬1): هُوَ تَقْدِيْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلكَائِنَاتِ، وَهُوَ سِرُّ مَكْتُوْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، أَوْ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ مِنْ خَلْقِهِ. (¬2) وَالقَدَرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ (¬3): 1) التَّقْدِيْرِ؛ أَيْ: إِرَادَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الشَّيْءَ. 2) المُقَدَّرِ; أَيْ: مَا قَدَّرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُوْنَ. - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّ الإِيْمَانَ بِالقَدَرِ مُتَعَلِّقٌ بِتَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ وَبِتَوْحِيْدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَلَا يَصِحُّ إِيْمَانُ عَبْدٍ أَصْلًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ؛ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَالإِيْمَانُ بِالقَدَرِ هُوَ إِيْمَانٌ بِكَمَالِ صِفَاتِ اللهَ تَعَالَى. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: (القَدَرُ قُدْرةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى العِبَادِ). (¬4) - حُكْمُ مُنْكِرِ القَدَرِ: قَالَ الإِمَامُ اللَّالكَائِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ) (¬5): ((رُوِيَ عِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيِّ (¬6): (يُسْتَتَابُوْنَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا). وَعَنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ: (القَدَرِيَّةُ يَهُوْدٌ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: القَدَرِيَّةُ نَصَارَى). وَعَنْ نَافِعٍ - مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ -: (القَدَرِيَّةُ يُقْتَلُوْنَ)، وَحَكَى المُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَفَّرَهُم، وَعَنْ إِبْرَاهِيْمَ بْنِ طَهْمَانَ (¬7): (القَدَرِيَّةُ كُفَّارٌ). وَعَنْ أَحْمِد بْنِ حَنْبَلٍ مِثَلَ قَوْلِ مَالِكٍ). ¬

_ (¬1) القَدَرُ لُغَةً: هُوَ القَضَاءُ وَالحُكْمُ؛ وَمِنْهُ لَيْلَةُ القَدْرِ: أَيْ: لَيْلَةُ التَّقْدِيْرِ؛ وَيُمْكِنُ أَيْضًا: اللَّيْلَةُ ذَاتُ الشَّأْنِ. (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ عِلَّةَ أَفْعَالِهِ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (الكَهْف:82). (¬3) وَهَذَا لِكَوْنِ العَرَبِ تُطْلِقُ الاسْمَ عَلَى الفِعْلِ وَعَلَى المَفْعُوْلِ. وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ. (¬4) أَخْرَجَهُ الخَلَّالُ فِي كِتَابِ (السُّنَّةُ) (544/ 3)، وَتَمَامُهُ؛ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ سُئِلَ عَنِ القَدَرِ فَقَالَ: القَدَرُ قُدْرَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى العِبَادِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ زَنَى فَبِقَدَرٍ؛ وَإِنْ سَرَقَ فَبِقَدَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. اللهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَالمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ كَمَالِ رُبُوْبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيْئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُ شَرْعًا ذَلِكَ! وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ إِرَادَةِ العَبْدِ وَهُوَ خَالِقُ آلَاتِهِ، وَبِهِمَا يَقَعُ الفِعْلُ مِنَ العَبْدِ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَمَنَعَهُ العَمَلَ، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي ذَلِكَ {لِيَجْزِيَ الَّذِيْنَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِيْنَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى} (النجم:31). وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ. (¬5) اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ (781/ 4). (¬6) قَاضٍ؛ مِنَ الفُقَهَاءِ العُلَمَاءِ بِالحَدِيْثِ، مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ، (مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْن)، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مِنْ سَادَاتِهَا فِقْهًا وَعِلْمًا، (ت 168 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (192/ 4). (¬7) حَافِظٌ؛ مِنْ كِبَارِهِم فِي خُرَاسَانَ، (مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْن)، (ت 168 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (44/ 1).

- النَّاسُ فِي القَدَرِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: 1) الجَبْرِيَّةُ الجَهْمِيَّةُ: أَثْبَتُوا قَدَرَ اللهِ تَعَالَى وَغَلَوا فِي إِثْبَاتِهِ حَتَّى سَلَبُوا العَبْدَ اخْتِيَارَهُ وَقُدْرَتَهُ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلعَبْدِ اخْتِيَارٌ وَلَا قُدْرَةٌ فِي مَا يَفْعَلُهُ أَوْ يَتْرُكَهُ. 2) القَدَرِيَّةُ المُعْتَزِلَةُ: أَثْبَتُوا لِلعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً فِي عَمَلِهِ وَغَلَوا فِي ذَلِكَ حَتَّى نَفَوا أَنْ يَكُوْنَ للهِ تَعَالَى فِي عَمَلِ العَبْدِ مَشِيْئَةٌ أَوْ خَلْقٌ، وَنَفَى غُلَاتُهُم عِلْمَ اللهِ بِهِ قَبْلَ وُقُوْعِهِ. 3) أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: وَهُمُ الطَّائِفَةُ الوَسَطُ الَّذِيْنَ جَمَعُوا بَيْنَ الأَدِلَّةِ وَسَلَكُوا فِي طَرِيْقِهِم خَيْرَ مِلَّةٍ; فَآمَنُوا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ؛ وَبِأَنَّ لِلعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً وَمَشِيْئَةً، لَكِنَّ مَشِيْئَتَهُ مَرْبُوطَةٌ بِمَشِيْئَةِ اللهِ تَعَالَى; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيْمَ وَمَا تَشَاءُوْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِيْنَ} (التَّكْوِيْر:29). - إِنَّ حُكْمَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مُنْكِرِي القَدَرِ بِأَنَّ نَفَقَاتِهِم غُيْرُ مَقْبُوْلَةٍ يَسْتَوْجِبُ تَكْفِيْرَهُم عِنْدَهُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُوْلِهِ} (التَّوْبَة:54)، وَإِيْرَادُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِحَدِيْثِ جِبْرِيْلَ يُرِيْدُ بِهِ أَنَّ الإِيْمَانَ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يُؤْمَنَ بِالقَدَرِ. (¬1) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي القَدَرِ؛ فَنَزَلَتْ {يَوْمَ يُسْحَبُوْنَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوْهِهِمْ ذُوْقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القَمَر:49). (¬2) وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو بْنِ العَاصِ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {إِنَّ المُجْرِمِيْنَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} (القَمَر:47) فِي أَهْلِ القَدَرِ). (¬3) - قَوْلُهُ (تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ): هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَجِدُهُ الإِنْسَانُ, أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا فَاللهُ تَعَالَى أَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ, لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِحِكْمَتِهِ (¬4) , وَفي الحَدِيْثِ (والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) (¬5)، وَمِثَالُهُ هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الَّذِيْ عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ} (الرُّوْم:41). (¬6) ¬

_ (¬1) وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُكَاتِبُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرَّةً عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي شَيْءٍ مِنَ القَدَرِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (سَيَكُوْنُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُوْنَ بِالقَدَرِ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (5639). صَحِيْحُ الجَامِعِ (3669). وَفي لَفْظٍ لِابْنِ مَاجَه (4061): (يَكُوْنُ فِي أُمَّتِي أَوْ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَقَذْفٌ؛ وَذَلِكَ فِي أَهْلِ القَدَرِ). صَحِيْحٌ. الصَّحِيْحَةُ (1787). (¬2) مُسْلِمٌ (2656). (¬3) قَالَ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الدُّرُّ المَنْثُوْرُ) (683/ 7): (وَأَخْرَجَ البَزَّارُ وَابْنُ المُنْذِرِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ طَرِيْقِ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: ....)، وَأَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ) (ص49)، وَقَالَ: (وَيُرْوَى فِيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم). (¬4) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِيْنَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوْهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِيْ تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيْمٌ) (النُّوْر:11). (¬5) وَهُوَ مِنْ حَدِيْثِ عَلِيٍّ مَرْفُوْعًا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (771)، وَقَرِيْبٌ مِنْهُ فِي الاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوْكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:35). (¬6) وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ بَابِ (مِنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ) حَدِيْثُ أَنَسٍ وَفِيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ) مَعَ قَوْلِهِ أَيْضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيْثٍ آخَرَ (والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)، وَأَنَّ جَوَابَ ذَلِكَ: هُوَ أَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مَخْلُوْقَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مَقْصُوْدًا ابْتِدَاءً، بَلْ هُوَ خَيْرٌ فِي حَقِيْقَتِهِ وَمَآلِهِ، فَيَظْهُرُ فِيْهِ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الصَّابِرِ، وَعَدْلُهُ مَعَ الكَافِرِ. قَالَ العُلَمَاءُ: أَفْعَالُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حِكْمَةٌ تَدُوْرُ بينَ العَدْلِ وَالفَضْلِ، وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ الخَضِرِ وَمَا فِيْهَا مِنَ الحِكَمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَ الخَضِرِ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (الكَهْف:82).

- قَوْلُهُ (خَيْرِهِ وَشَرِّهِ): مَفَادُهُ التَّأْكِيْدُ عَلَى أَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ كِلَاهُمَا مَخْلُوْقَانِ مُقَدَّرَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى. - قَوْلُهُ (حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ): أَيْ: أَنَّ مَا قَدَّرَ اللهُ أَنْ يُصِيْبَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ مَهْمَا عَمِلْتَ مِنْ أَسْبَابٍ؛ فَإِنَّ قَدَرَ اللهِ تَعَالَى وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. - قَوْلُهُ (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَم): القَلَمُ بِالرَّفْعِ (¬1)، وَرُويَ بِالنَّصْبِ (¬2). وَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ يَكُوْنُ المَعْنَى: أَنَّ أَوَّلَ مَخْلُوْقٍ هُوَ القَلَمُ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ يَكُوْنُ المَعْنَى: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ القَلَمَ أَنْ يَكْتُبَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِهِ لَهُ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. - قَوْلُهُ (إلى يَوْمِ القِيَامَةِ): هُوَ يَوْمُ البَعْثِ، وَسُمِّيَ يَوْمَ القِيَامَةِ; لِقِيَامِ أُمُوْرٍ ثَلَاثَةٍ فِيْهِ: 1) قِيَامُ النَّاسِ مِنْ قُبُوْرِهِم لِرَبِّ العَالَمِيْنَ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَوْمٍ عَظِيْمٍ يَوْمَ يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ} (المُطَفِّفِيْن:6). 2) قِيَامُ الأَشْهَادِ الَّذِيْنَ يَشْهَدُوْنَ لِلرُّسُلِ وَعَلَى الأُمَمِ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُوْمُ الأَشْهَادُ} (غَافِر:51). 3) قِيَامُ العَدْلِ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَضَعُ المَوَازِيْنَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} (الأَنْبِيَاء:47). - (ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ): هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ فَيْرُوْز الدَّيْلَمِيُّ؛ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِيْنَ، وَأَبُوْهُ فَيْرُوْزُ هُوَ قَاتِلُ الأَسْوَدِ العَنَسِيِّ الكَذَّابِ. - قَوْلُهُ (وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا; لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ): جَزَمَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ; لَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ القَدَرَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالكَافِرُ يَكُوْنُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الَّذِيْنَ هُمْ أهْلُهَا المُخَلَّدُوْنَ فِيْهَا. وَلَكِنْ هَلْ هَذَا الدَّوَاءُ يُفِيْدُ مَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرُ القَدَرِ؟ الجَوَابُ: نَعَمْ يُفِيْدُ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مُنْتَهَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالقَدَرِ - عَلَى نَحْوِ مَا وُصِفَ - هُوَ هَذَا; فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْتَدِعَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ عَلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا نُسِبَ الأَمْرُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ; زَالَتِ الشُّبْهَةُ تَمَامًا، لَكِنْ تَزُوْلُ عَنِ المُؤْمِنِ، أَمّا غَيْرُ المَؤْمِنِ; فَلَا تَنْفَعُهُ; فَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُوْلُ: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُوْنَ} (يُوْنُس:101). - فِي حَدِيْثِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ بَيَانُ جَوَازِ سُؤَالِ أَكْثَرِ مِنْ عَالِمٍ لِلتَّثَبُّتِ, أَمَّا سُؤَالُ أَكْثَرِ مِنْ عَالِمٍ لِتَتَبُّعِ الرُّخَصِ؛ فَهَذَا لَا يَجُوْزُ. (¬3) - قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَدِيْثِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ -: (لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ؛ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ؛ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ) (¬4)، وَالمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَأَهْلَ الأَرْضِ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ أَنْ يَقُوْمُوا بِحُقُوْقِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا الوَاجِبَةِ لَهُ، فَلَوْ عَذَّبَهُم لَعَذَّبَهُم عَلَى تَرْكِ الحَقِّ، وَلَوْ رَحِمَهُم لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِم لَهَا، فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًا لَهُم؛ وَلَكِنَّهُ حَقُّ تَفَضُّلٍ وَلَيْسَ حَقَ مُقَابَلَةٍ. (¬5) ¬

_ (¬1) عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ؛ وَيَكُوْنُ بِذَلِكَ نَصًّا فِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَخْلُوْقٍ. (¬2) عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ مَفْعُوْلٌ بِهِ لِفِعْلِ خَلَقَ، وَيَكُوْنُ خَبَرُ إِنَّ هُوَ جُمْلَةُ (فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ)، وَعَلَى هَذَا تَكُوْنُ الأَوَّلِيَّةُ فِي الحَدِيْثِ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ القَلَمِ، وَلَيْسِ لِعُمُوْمِ الخَلْقِ. (¬3) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِغَاثَةُ اللهْفَانِ) (228/ 1): (وَمَنْ تَتَبَّعَ مَا اخْتَلَفَ فِيْهِ العُلَمَاءُ وَأَخَذَ بِالرُّخَصِ مِنْ أَقَاوِيْلِهِم تَزَنْدَقَ، أَوْ كَادَ). (¬4) أَحْمَدُ (21611) عَنْهُ مَرْفُوْعًا.، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شُعَيْبُ الأَرْنَؤُوْط فِي تَحْقِيْقِ المُسْنَدِ. (¬5) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (النَّبَأ:36). وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيْهِمْ أُجُوْرَهُمْ وَيَزِيْدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (النِّسَاء:173).

- قَوْلُ المُصِنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الإِيْمَانِ): أَيْ: بِالقَدَرِ؛ وَهُوَ أَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَكَ. - قَوْلُ المُصِنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (ذِكْرُ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللهُ): ظَاهِرُ كَلَامِ المُؤَلِّفِ؛ المَيْلُ إِلَى أَنَّ القَلَمَ هُوَ أَوُّلُ مَخْلُوْقَاتِ اللهِ. (¬1) - مَرَاتِبُ الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ: 1) العِلْمُ: وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيْلًا، فَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُوْنُ. (¬2) 2) الكِتَابَةُ: وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ عِنْدَهُ مَقَادِيْرَ كُلِّ شَيْءٍ مُنْذُ خَلَقَ القَلَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. (¬3) وَدَلِيْلُ المَرْتَبَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِيْنٍ} (الأَنْعَام:59)، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ} (الحَجّ:70). (¬4) 3) المَشِيْئَةُ: وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَكُوْنُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى؛ فَلَا يَكُوْنُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيْدُ أَبَدًا؛ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ فِيْمَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يِفْعَلُهُ المَخْلُوْقُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} (يَس:82)، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوْهُ} (الأَنْعَام:112)، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِيْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (البَقَرَة:253). 4) الخَلْقُ: وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا هُوَ خَالِقُهُ وَمَالِكُهُ وَمُدَبِّرُهُ وَذُوْ سُلْطَانِهِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزُّمَر:62). (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (431/ 2): (وَلَكِنَّ الصَّحِيْحَ خِلَافُهُ، وَأَنَّ القَلَمَ لَيْسَ أَوَّلَ مَخْلُوْقَاتِ اللهِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيْحِ البُخَاريِّ (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيْرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِيْنَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ) وَهَذَا وَاضِحٌ فِي التَّرْتِيْبِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ أَنَّ خَلْقَ القَلَمِ بَعْدَ خَلْقِ العَرْشِ). وَفِي المَنْظُوْمَةِ النُّوْنِيَّةِ لِابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُوْنَ فِي القَلَمِ الَّذِيْ ... كُتِبَ القَضَاءُ بِهِ مِنَ الدَّيَّانِ هلْ كَانَ قَبْلَ العَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ ... قَوْلَاَنِ عِنْدَ أَبِي العَلَا الهَمَذَانِي وَالحَقُّ أنَ العرْشَ قَبْلُ لأَنَّهُ ... قَبْلَ الكِتَابَة كَانَ ذَا أرْكَانِ). قُلْتُ: عَلَى هَذَا التَّوْجِيْهِ صَحِيْحٌ أَنَّ العَرْشَ يَكُوْنُ سَابِقًا لِلقَلَمِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْنِي أَنَّهُ سَبْقٌ مُطْلَقٌ؛ بِأَنْ يَكُوْنَ هُوَ أَوَّلَ مَخْلُوْقٍ مُطْلَقًا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (133) تَحْتَ حَدِيْثِ (إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى القَلَمُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ شَيْءٍ يَكُوْنُ): (فِي الحَدِيْثِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَا يَتَنَاقَلُهُ النَّاسُ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عَقِيْدَةً رَاسِخَةً فِي قُلُوْبِ كَثِيْرٍ مِنْهُم وَهُوَ أَنَّ النُّوْرَ المُحَمَّدِيَّ هُوَ أَوْلُ مَا خَلَقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَسَاسٌ مِنَ الصِّحَّةِ، وَحَدِيْثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِسْنَادُهُ. وَلَعَلَّنَا نُفْرِدُهُ بِالكَلَامِ في الأَحَادِيْثِ الضَّعِيفَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَفِيْهِ رَدُّ عَلَى مَنْ يَقُوْلُ بِأَنَّ العَرْشَ هُوَ أَوَّلُ مَخْلُوْقٍ، وَلَا نَصَّ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يَقُوْلُ بِهِ مَنْ قَالَهُ كَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ - اسْتِنْبَاطًا وَاجْتِهَادًا - فَالأَخْذُ بِهَذَا الحَدِيْثِ - وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيْثُ أُخْرَى - أَوْلَى لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي المَسْأَلَةِ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ. وَتَأْويْلُهُ بِأَنَّ القَلَمَ مَخْلُوْقٌ بَعْدَ العَرْشِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا التَّأْويْلِ لَو كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ العَرْشَ أَوَّلُ المَخْلُوْقَاتِ كُلِّهَا وَمِنْهَا القَلَمُ، أَمَا وَمِثْلُ هَذَا النَّصِّ مَفْقُودٌ، فَلَا يَجُوْزُ هَذَا التَّأْوِيْلُ). وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلومِ وَالحِكَمِ) (104/ 1): (وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ العِلْمَ القَدِيمَ؛ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَلَى تَكْفِيْرِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الإِسْلَامِ). (¬3) وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ عَنْ كَثِيْرٍ مِنَ الأُمُوْرِ قَبْلَ وُقُوْعِهَا؛ كَإِخْبَارِهِ بِهَزِيْمَةِ الفُرْسِ أَمَامَ الرُّوْمِ فِي بِضْعِ سِنِيْنَ، وَكَإِخْبَارِهِ عَنْ قَوْلِ المُنَافِقِيْنَ المُسْتَهْزِئِيْنَ وَمَا كَانَ جَوَابُهُم، وَغَيْرُهُ كَثِيْرٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي القُرْآنِ وَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ؛ مَكْتُوْبٌ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيْمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُوْنٍ} (الوَاقِعَة:77). وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا). رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (2881) وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ بِلَا شَكٍّ كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (شَرِيْط 410) مِنْ فَتَاوَى الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬4) وَهَاتَانِ المَرْتَبَتَانِ سَابِقَتَانِ لِوُقُوْعِ الأَمْرِ، وَإِنْكَارُهُمَا مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوْحِيْدِ. قَالَهُ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص551). (¬5) وَهَاتَانِ المَرْتَبَتَانِ الأَخِيْرَتَانِ مُقَارِنَتَانِ لِوُقُوْعِ الأَمْرِ, وَإِنْكَارُهُمَا مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ. قَالَهُ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص551). قُلْتُ: وَوَجْهُ عَدَمِ كَوْنِ إِنْكَارِهِمَا مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوْحِيْدِ هُوَ أَنَّهُم لَا يُصَرِّحُونَ بِوُجُوْدِ خَالِقٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى؛ فَهُمْ يَنْفُوْنَ أَنْ تَكُوْنَ المَعَاصِي وَاقِعَةً بِمَشِيْئَةِ اللهِ تَعَالَى؛ وَهَذَا مِنْ بَابِ حُسْنِ ظَنِّهِم بِاللهِ تَعَالَى - بِحَسْبِ زَعْمِهِم - وَلَكِنَّهُم أَخْطَأُوا وَوَقَعُوا فِي الضَّلَالِ المُبِيْنِ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (127)، شَرْحُ البَابِ.

- اللهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا العُمُوْمُ لَا مُخَصِّصَ لَهُ، حَتَّى فِعْلَ المَخْلُوْقِ مَخْلُوْقٌ للهِ تَعَالَى; لِأَنّ فِعْلَ المَخْلُوْقِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَهُو وَصِفَاتُهُ مَخْلُوْقَانِ، وَلِأَنَّ فِعْلَهُ نَاتِجٌ عَنْ إِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ فِي الإِنْسَانِ الإِرَادَةَ الجَازِمَةَ وَالقُدْرَةَ التَّامَّةَ. فَفِعْلُ العَبْدِ مُرْتَبِطٌ بِشَيْئَيْنِ: 1) خَلْقٌ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِاللهِ تَعَالَى. 2) مُبَاشَرَةٌ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالعَبْدِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (الوَاقِعَة:24)، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} (النَّحْل:32)، وَلَوْلَا نِسْبَةُ الفِعْلِ إِلَى العَبْدِ مَا كَانَ لِلثَّنَاءِ عَلَى المُؤْمِنِ المُطِيْعِ وَإِثَابَتِهِ وَجْهٌ وَلَا فَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ عُقُوْبَةُ العَاصِي وَتَوْبِيْخُهُ. - فَائِدَة 1) لَا يَجُوْزُ الخَوْضُ فِي مَسَائِلِ القَدَرِ إِلَّا بِقَدْرِ ذِكْرِ مَا جَاءَ فِيْهَا مِنَ الشَّرْعِ - وَلَوْ حَسُنَتْ نِيَّةُ الخَائِضِ -؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيْثِ النَّهْيُ عَنِ التَّوَسُّعِ والتَّعَمُّقِ فِيْهِ (¬1)، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُوْمُ فأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فأمْسِكُوا). (¬2) - فَائِدَة 2) قُلْتُ: القَدَرُ أَصْلًا الكَلَامُ فِيْهِ بِغَيْرِ مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ هُوَ مَوْضُعِ امْتِحَانٍ، وَذَلِكَ لِحَدِيْثِ (إِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فأمْسِكُوا)، وَلِحَدِيْثِ الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَلِحَدِيْثِ (القَدَرِيَّةُ مَجُوْسُ هَذِهِ الأُمَّةِ) (¬3)، وَلِحَدِيْثُ اسْتِشْكَالِ الأَعْرَابِيِّ بِقَوْلِهِ (فَفِيْمَ العَمَلُ). (¬4) فَكُلُّ ذَلِكَ صَرِيْحٌ فِي أَنَّ القَدَرَ أَصْلُ عَرْضِهِ مُشْكِلٌ لِلبَشَرِ فِي عُقُوْلِهِم، لِذَلِكَ كَانَ المَطْلُوبُ هُوَ التَّسْلِيْمَ بِهِ وُفْقَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيْعَةُ. - فَائِدَة 3) لَقَدْ جَاءَ الإِرْشَادُ النَّبَوُيُّ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِالقَدَرِ عَلَى عِدَّةِ جَوَانِبَ مَأْمُوْرٍ بِهَا، وَهِيَ وَاجِبُنَا فِي مَسَائِلِ القَدَرِ: 1) الأَمْرُ بِإِثْبَاتِ القَدَرِ؛ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. 2) عَدَمُ التَّعَمُّقِ فِيْهِ، وَتَرْكُ الخَوْضَ فِيْمَا لَا يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ. (¬5) 3) الأَمْرُ بِالعَمَلِ وَعَدَمِ الاتِّكَالِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي القَدَرِ. 4) جَعْلُ دُخُوْلِ الجَنَّةِ مُرَتَّبًا عَلَى العَمَلِ. 5) جَعْلُ الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ هُوَ قَوْلَ الكُفَّارِ. 6) جَوَازُ الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى المَصَائِبِ كَمَا فِي سُوْرَةِ التَّغَابُنِ وَسُوْرَةِ الحَدِيْدِ (¬6)، وَكَمَا فِي حَدِيْثِ (وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ). (¬7) - فَائِدَة 4) فِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا (كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ؛ حَتَّى العَجْزِ وَالكَيْسِ) (¬8)، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُلَامُ العَاجِزُ، وَإِنَّمَا المُقَصِّرُ. بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لِهُ طَاقَتُهُ وَقُدْرَتُهُ الَّتِي تُنَاسِبُهُ، فَمَنْ رَامَ تَكْلِيْفَهُ مَا لَا يُطِيْقُ - وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يُطِيْقُهُ - فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ وَقَصُرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُلَامُ، وَإِنَّمَا يُلَامُ الَّذِي كَلَّفَهُ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ، وَمَفَادُ ذَلِكَ أَنَّ العَجْزَ وَالضَّعْفَ كَمَا أَنَّهُ يَكُوْنُ فِي الخَلْقِ وَالقُوَّةِ وَالطُّوْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ فَهُوَ أَيْضًا يَكُوْنُ فِي الفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالحِفْظِ وَالاجْتِهَادِ، وَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّنَا حَيْثُ قَالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البَقَرَة:286). ¬

_ (¬1) انْظُرْ تَعْلِيْقَ الشَّيْخِ الأَلبَانيِّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى مَتْنِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص42). (¬2) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (198/ 10) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (34). وَأَيْضًا فِي الحَدِيْثِ (لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُوَاتِيًا - أَوْ مُقَارِبًا - مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي الوِلْدَانِ وَالقَدَرِ). صَحِيْحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (6724) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1515). وَالمَقْصُوْدُ بِالكَلَامِ عَلَى الوِلْدَانِ - وِلْدَانِ المُشْرِكِيْنَ -: هُوَ الخَوْضُ فِي كَوْنِهِم مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَوِ النَّارِ لِمَنْ مَاتَ مِنْهُم قَبْلَ البُلُوْغِ, وَأَيْضًا الخَوْضُ فِي ذَلِكَ بِلَا دَلِيْلٍ. (¬3) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4691) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (4442). قَالَ البَيهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (السُّنَنُ الكُبْرَى) (349/ 10): (إِنَّمَا سَمَّاهُمْ مَجُوْسًا لِمُضَاهَاةِ بَعْضِ مَا يَذْهَبُوْنَ إِلَيْهِ مَذَاهِبَ المَجُوْسِ فِي قَوْلِهِمْ بِالأَصْلَيْنِ - وَهُمَا النُّوْرُ وَالظُّلْمَةُ - يَزْعُمُوْنَ أَنَّ الخَيْرَ مِنْ فِعْلِ النُّوْرِ وَأَنَّ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ، فَصَارُوا ثَنَوِيَّةً، كَذَلِكَ القَدَرِيَّةُ يُضِيْفُوْنَ الخَيْرَ إِلَى اللهِ وَالشَّرَّ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالأَمْرَانِ مَعًا مُضَافَانِ إِلَيْهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا وَإِلَى الفَاعِلِيْنَ لَهُمَا مِنْ عِبَادِهِ فِعْلًا وَاكْتِسَابًا، هَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ الخَطَابِيِّ رَحِمَهُ اللهُ). قُلْتُ: وَهُمْ فِي الحَقِيقةِ فَاقُوا المَجُوْسَ فِي هَذِهِ البِدْعَةِ لِأَنَّهُم أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ كُثُر بِعَدَدِ العِبَادِ. (¬4) وَهُوَ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2648) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: (جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِيْنَنَا؛ كَأَنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيْمَ العَمَلُ اليَوْمَ، أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيْرُ أَمْ فِيْمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: (لَا؛ بَلْ فِيْمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيْرُ). قَالَ: فَفِيمَ العَمَلُ؟ قَالَ: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ)). (¬5) وَفِي الحَدِيْثِ (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي القَدَرِ - فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ، فَقَالَ: (أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِيْنَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ، عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تَتَنَازَعُوا فِيْهِ). حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2133) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ (2133). (¬6) أَمَّا الأُوْلَى فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ} (التَّغَابُن:11). وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ} (الحَدِيْد:22). (¬7) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2664) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬8) مُسْلِم (2655).

- أَنْوَاعُ التَّقْدِيْرَاتِ (الكِتَابَةِ): 1) التَّقْدِيْرُ العَامُّ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ: كَمَا فِي الحَدِيْثِ (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيْرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِيْنَ أَلْفَ سَنَةٍ؛ وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ). (¬1) (¬2) 2) التَّقْدِيْرُ العُمُرِيُّ: كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيْدٍ؛ فَوَ اللهِ الَّذِيْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا). (¬3) 3) التَّقْدِيْرُ الحَوْلِيُّ: وَهُوَ الَّذِيْ يَكُوْنُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ؛ فَيُكْتَبُ فِيْهَا مَا يَكُوْنُ فِي السَّنَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فِيْهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيْمٍ} (الدُّخَان:4). 4) التَّقْدِيْرُ اليَوْمِيُّ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرَّحْمَن:29). (¬4) - مِنْ فَوَائِدِ الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ: 1) أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ تَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ. 2) يُوْجِبُ صِدْقَ الاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّك إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ صَدَقَ اعْتِمَادُكَ عَلَى اللهِ. 3) أَنَّهُ يُوْجِبُ لِلقَلْبِ الطُّمَأْنِيْنَةَ، حَيْثُ تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَكَ. 4) مَنْعُ إِعْجَابِ المَرْءِ بِعَمَلِهِ إَذَا عَمِلَ عَمَلًا يُشْكَرُ عَلَيْهِ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ مَنَّ عَلَيْهِ وَقَدَّرَهُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الحَدِيْد:23). (¬5) 5) عَدَمُ حُزْنِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ; لِأَنَّه مِنْ رَبِّهِ، فَهُوَ صَادِرٌ عَنْ عِلْمٍ وَرَحْمَةٍ وَحِكْمَةٍ. (¬6) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2653) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا. (¬2) وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُوْنَ} (الأَنْعَام:38)، قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (142/ 3): (هُوَ اللَّوْحُ المَحْفُوْظُ). (¬3) البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. (¬4) ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ نَوْعًا آخَرَ بَعْدَ الأَوَّلِ وَهُوَ التَّقْدِيْرُ قَبْلَ خَلْقِ العِبَادِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُوْرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُوْلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِيْنَ} (الأَعْرَاف:172). (¬5) أَيْ: فَرَحَ بَطَرٍ وَإِعْجَابٍ بِالنَّفْسِ. (¬6) وَفي الحَدِيْثِ (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ؛ أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيْمَانُ بِاللَّهِ وَتَصْدِيْقٌ بِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيْلِهِ)، قَالَ: أُرِيْدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ). قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (لَا تَتَّهِمِ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي شَيْءٍ قَضَى لَكَ بِهِ)). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (22717) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (3334).

الملحق التاسع على كتاب التوحيد) مسائل في الإيمان بالقدر

المُلْحَقُ التَّاسِعُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) مَسَائِلُ فِي الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلْ مِنْ مَعْنَى الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ تَرْكُ العَمَلِ وَالاتِّكَالُ عَلَى مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ، وَهَلْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِلعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟ الجَوَابُ: لَا، وَذَلِكَ لِسَبَبَيْنِ: 1) دَلِيْلٌ أَثَرِيٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالعَمَلِ رُغْمَ وُجُوْدِ الكِتَابَةِ وَفِي نَفْسِ الحَدِيْثِ، وَهُوَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيْعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ - وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ - فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ (¬1) ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوْسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيْدَةً)، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيْرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيْرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ) ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى؛ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى} الآيَةَ (اللَّيْل:7). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬2) فَالحَدِيْثُ صَرِيْحٌ فِي الأَمْرِ بِالعَمَلِ رُغْمَ وُجُوْدِ الكِتَابَةِ، وَلَكِنْ يَكُوْنُ العَمَلُ نَفْسُهُ سَبَبًا لِلجَنَّةِ أَوْ لِلنَّارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِيْ أُورِثْتُمُوْهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} (الزُّخْرُف:72). (¬3) 2) دَلِيْلٌ نَظَرِيٌّ: أَنَّهُ يُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ العَاصِي: مَا الَّذِيْ أَعْلَمَكَ أَنَّ اللهَ كَتَبَكَ مُسِيْئًا؟ هَلْ تَعْلَمُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَعْمَلَ الإِسَاءَةَ؟ فَجَوَابُهُ حَتْمًا هُوَ النَّفْيُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُوْلَ إِنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ اخْتَارَ ذَلِكَ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِيْنَ: {سَيَقُوْلُ الَّذِيْنَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوْهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُوْنَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُوْنَ، قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِيْنَ} (الأَنْعَام:149)؛ حَيْثُ جَعَلَ تَعَالَى عَدَمَ عِلْمِهِم بِمَا كَانُوا عَامِلِيْنَ حُجَّةً بِالِغَةً عَلَيْهِم. وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا عَنْهُم: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُوْنَ} (الزخرف:20). (¬4) ¬

_ (¬1) المِخْصَرَةُ: مَا يُتَوَكَّأُ عَلَيْهِ مِنْ عَصَا وَغَيْرِهَا. (¬2) البُخَارِيُّ (4948)، وَمُسْلِمٌ (2647). (¬3) وَأَيْضًا فِي الحَدِيْثِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (4703) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوْعًا ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِيْنِهِ؛ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ؛ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُوْنَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ؛ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً؛ فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ؛ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُوْنَ). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ فَفِيْمَ العَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوْتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوْتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ)). قُلْتُ: وَجُمْلَةُ (مَسْحِ الظَّهْرِ) ضَعَّفَهَا الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ قَدِيْمًا؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَصْحِيْحِهَا بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ إِلَى شَوَاهِدَ لَهَا. تَخْرِيْجُ الطَّحَاوِيَّةِ (ص266 - ط2). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (224/ 7): ({مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ: بِصِحَّةِ مَا قَالُوْهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُوْنَ} أَيْ: يَكْذِبُوْنَ وَيَتَقَوَّلُوْنَ).

المسألة الثانية) ما الجواب عن أدلة الفرقتين الضالتين في مسائل القدر؟

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا الجَوَابُ عَنْ أَدِلَّةِ الفِرْقَتَيْنِ الضَّالَّتَيْنِ فِي مَسَائِلِ القَدَرِ؟ حَيْثُ كَانَتْ أَدِلَّةُ الفِرْقَةِ الأُوْلَى (الجَبْرِيَّةِ) - بِإِيْجَازٍ -: - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُوْنَ} (الصَّافَّات:96). (¬1) - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} (الأَنْفَال:17) , فَنَفَى اللهُ الرَّمْيَ عَنْ نَبِيِّهِ حِيْنَ رَمَى وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ! وَكَانَتْ أَدِلَّةُ الفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ (المُعْتَزِلَةِ القَدَرِيَّةِ) - بِإِيْجَازٍ -: - قَوْلُهُ تَعَالَى {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيْدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيْدُ الآخِرَةَ} (آل عِمْرَان:152)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيْمَ} (التَّكْوِيْر:28)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيْدِ} (فُصِّلَت:46). وَنَحْوِهَا مِنَ النُّصُوْصِ القُرْآنِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لِلعَبْدِ إِرَادَةً وَمَشِيْئَةً خَاصَّةً بِهِ, وَأَنَّهُ هُوَ العَامِلُ الكَاسِبُ الرَّاكِعُ السَّاجِدُ وَنَحْو ذَلِكَ. - أَنَّ هَذَا فِيْهِ نِسْبَةُ الفَحْشَاءِ - بِزَعْمِهِم - إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَعْصِيَةُ العَبْدِ لَا يَجُوْزُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِ تَعَالَى! الجَوَابُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الفِرْقَةِ الأُوْلَى: 1) قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُوْنَ} هُوَ حُجَّةُ عَلَيْهِم؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ العَمَلَ إِلَيْهِم, وَأَمَّا كَوْنُ اللهِ تَعَالَى خَالِقُهُ؛ فَلِأَنَّ عَمَلَ العَبْدِ حَاصِلٌ بِإِرَادَتِهِ الجَازِمَةِ وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ, وَالإِرَادَةُ وَالقُدْرَةُ مَخْلُوْقَتَانِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَانَ بِهِمَا الفِعْلُ مَخْلُوْقًا أَيْضًا للهِ تَعَالَى. 2) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِم أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَضَافَ الرَّمْيَ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, لَكِنَّ الرَّمْيَ فِي الآيَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ: أ- رَمْيُ الشَّيْءِ المَرْمِيِّ؛ وَهُوَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِيْ أَضَافَهُ اللهُ إِلَيْهِ. ب- إِيْصَالُ المَرْمِيِّ إِلَى أَعْيُنِ الكُفَّارِ الَّذِيْنَ رَمَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتُّرَابِ يَوْمُ بَدْرٍ فَأَصَابَ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْهُم, وَهَذَا مِنْ فَعْلِ اللهِ, إِذْ لَيْسَ بِمَقْدُوْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوْصِلَ التُّرَابَ إِلَى عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْهُم. (¬2) (¬3) 3) أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حُجَّةَ المُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ اسْتَدَلُّوا بِالقَدَرِ عَلَى مَعَاصِيْهِم؛ وَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ شَاءَ ذَلِكَ - بِمَعْنَى أَنَّهُم لَيْسَ لَهُم اخْتِيَارٌ يُلَامُوْنَ عَلَيْهِ - فَقَالَ تَعَالَى: {سَيَقُوْلُ الَّذِيْنَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوْهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُوْنَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُوْنَ} (الأَنْعَام:148). (¬4) 4) أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ لِلعَبْدِ مَشِيْئَةً مُسْتَقِلَّةً - مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِهِ -، وَلَكِنَّهَا خَاضِعَةٌ لِمَشِيْئَتِهِ تَعَالَى؛ فَلَا يَقَعُ إِلَّا مَا شَاءَهُ اللهُ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيْمَ وَمَا تَشَاءُوْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِيْنَ} (التَّكْوِيْر:29). 5) أَنَّ القَوْلَ بِسَلْبِ مَشِيْئَةِ وَاخْتِيَارِ العَبْدِ يُبْطِلُ الثَّوَابَ وَالعِقَابَ، وَلَوْلَا نِسْبَةُ الفِعْلِ إِلَى العَبْدِ مَا كَانَ لِلثَّنَاءِ عَلَى المُؤْمِنِ المُطِيْعِ وَإِثَابَتِهِ فَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ عُقُوْبَةُ العَاصِي وَتَوْبِيْخُهُ، وَهَذَا قَادِحٌ فِي الإِيْمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَقَادِحٌ فِي عَدْلِهِ تَعَالَى. ¬

_ (¬1) وَهُوَ عَلَى تَوْجِيهِ أَنَّ العَمَلَ هُنَا هُوَ صِفَةُ العَبْدِ القَائِمَةِ بِهِ؛ وَلَيْسَ المَعْمُوْلَ؛ أَيْ: الأَصْنَامَ. (¬2) قَالَ الإِمَامُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الاعْتِقَادُ) (ص 142): (بَابٌ: القَوْلُ فِي خَلْقِ الأَفْعَالِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (غافر:62) فَدَخَلَ فِيهِ الأَعْيَانُ وَالأَفْعَالُ مِنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ) ثُمَّ أَوْرَدَ مَجْمُوْعَةً مِنَ الأَدِلَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ: (فَثَبَتَ أَنَّ الأَفْعَالَ كُلَّهَا - خَيْرَهَا وَشَرَّهَا - صَادِرَةٌ عَنْ خَلْقِهِ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {فَلَمْ تَقْتُلُوْهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأَنْفَال:17)، وَقَالَ: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُوْنَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُوْنَ} (الوَاقِعَة:64) فَسَلَبَ عَنْهُمْ فِعْلَ القَتْلِ وَالرَّمْيِ وَالزَّرْعِ مَعَ مُبَاشَرَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَأَثْبَتَ فِعْلَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ المَعْنَى المُؤَثِّرَ فِي وُجُودِهَا بَعْدَ عَدَمِهَا هُوَ إِيجَادُهُ وَخَلْقُهُ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ مِنْ عِبَادِهِ مُبَاشَرَةُ تِلْكَ الأَفْعَالِ بِقُدْرَةٍ حَادِثَةٍ أَحْدَثَهَا خَالِقُنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا أَرَادَ، فَهِيَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَلْقٌ - عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اخْتَرَعَهَا بِقُدْرَتِهِ القَدِيمَةِ - وَهِيَ مِنْ عِبَادِهِ كَسْبٌ - عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ قُدْرَةٍ حَادِثَةٍ بِمُبَاشَرَتِهِمُ الَّتِي هِيَ أَكْسَابُهُمْ -). (¬3) قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا البَابِ مَا يُتَنَاقَلُ عَلَى لِسَانِ العَامَّةِ فَضْلًا عَنِ الخَاصَّةِ مِنْ أَنَّهُم يَنْسِبُوْنَ أَفْعَالًا قَامَتْ بِالعِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِ المَرِيْضِ (شَفَانِي اللهُ تَعَالَى) بَعْدَ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ تَعَاطَى عِلَاجَ الطَّبِيْبِ، وَمِثْلُ أَنْ يَقُوْلَ: (أَعْطَانِي اللهُ هَذَا المَالَ) مَعَ أَنَّهُ وَرِثَهُ أَوْ كَسِبَهُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيْحٌ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ إِظْهَارِ نِعْمَةِ المُنْعِمِ بِذَلِكَ وَهُوَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عِلَاجَ الطَّبِيْبِ إِنَّمَا أَخَذَ أَثَرَهُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ طِبُّ الطَّبِيْبِ إِنَّمَا كَانَ بِتَعْلِيْمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ} (النَّحْل:78)، وَأَيْضًا هِبَةُ المَالِ أَوْ كَسْبِهِ فِي التِّجَارَةِ إِنَّمَا تَمَّ بِتَعْلِيْمِ وَتَيْسِيْرِ اللهِ لِهَذَا المَالِ إَلَى أَنْ يَقَعَ فِي يَدِ ذَلِكَ التَّاجِرِ أَوِ الوَارِثِ أَوِ الكَاسِبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النُّوْر:33). (¬4) وَفي البُخَارِيِّ (7347)، وَمُسْلِمٍ (775)؛ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ - بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ: (أَلَا تُصَلُّوْنَ؟) فَقَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ؛ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعَهُ - وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ - وَهُوَ يَقُوْلُ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكَهْف:54)). قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (259/ 2): (في هَذَا الحَدِيْثِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي مُعَارَضَةُ الأَمْرِ بِالقَدَرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ (إِنَّمَا نُفُوْسُنَا بِيَدِ اللهِ) إِلَى آخِرِهِ، اسْتِنَادٌ إِلَى القَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الأَمْرِ، وَهَذَا القَوْلُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الأَمْرِ، بَلْ مُعَارَضَةُ الأَمْرِ بِهَذَا مِنْ بَابِ الجَدَلِ المَذْمُوْمِ الَّذِيْ قَالَ اللهُ فِيْهِ: {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيْءٍ جَدَلًا} وَلِهَذَا انْصَرَفَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَارِهًا لِمَقَالَتِهِ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيْءٍ جَدَلًا}، وَضَرْبُهُ فَخِذَهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَتَعَجُّبُهُ مِنْ عَلِيٍّ كَيْفَ يُعَارِضُ قَوْلَهُ لَهُ (أَلَا تُصَلُّونَ؟) بِتِلْكَ المَقَالَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيْئَةِ اللهِ، فَلَوْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أُمِرَ بِأَمْرٍ قَالَ: إِذَا شَاءَ اللهُ فَعَلْتُهُ وَإِذَا شَاءَ لَمْ أَفْعَلْهُ؛ لَتَعَطَّلَتِ الأَوَامِرُ كُلُّهَا، وَسَادَ هَوَى النُّفُوْسِ).

أَمَّا الجَوَابُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ: 1) أَنَّ إِثْبَاتِ مَشِيْئَةِ العَبْدِ لَا يَعْنِي اسْتِقْلَالَهَا - مِنْ جِهَةِ الوُقُوْعِ -، وَلَكِنَّهَا تَحْتَ مَشِيْئَةِ اللهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيْمَ، وَمَا تَشَاءُوْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِيْنَ} (التَّكْوِيْر:29). 2) أَنَّ إِثْبَاتَ وُجُوْدِ شَيْءٍ فِي الكَوْنِ بِغَيْرِ مَشِيْئَةِ اللهِ هُوَ نَوْعُ إِشْرَاكٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ تَوْحِيْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ, وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القَدَرِيَّةَ مَجُوْسَ هَذِهِ الأُمَّةِ. (¬1) 3) أَنَّ عِلْمَ اللهِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَبِمَا سَيَكُوْنُ فِي المُسْتَقْبَلِ يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ أَرَادَهُ كَوْنًا؛ وَهَذِهِ هِيَ المَشِيْئَةُ. 4) أَنَّ فِعْلَ العَبْدِ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّ فِيْهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَهُوَ أَيْضًا يُنْسَبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى خَلْقًا وَمَشِيْئَةً، وَمَفَادُهُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ مُلْكِهِ وَإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ دَلِيْلُ عَظَمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَكَمَالِ سُلْطَانِهِ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِيْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ} (البَقَرَة:253). (¬2) (¬3) وَيَزِيْدُ هَذَا بَيَانًا مَعْرِفَةُ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى نَوْعَانِ؛ شَرْعِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ؛ وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أ) مِنْ حَيْثُ المَحَبَّةِ؛ الشَّرْعيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَأَمَّا الكَوْنِيَّةُ فَقَدْ يُحِبُّهَا اللهُ وَقَدْ لَا يُحِبُّهَا. ب) مِنْ حَيْثُ الوُقُوْعِ؛ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، بِخِلَافِ الكَوْنِيَّةِ فَهِيَ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَكِلَا النَّوْعَيْنِ مَقُرُوْنٌ بِالحِكْمَةِ. (¬4) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. وَهُوَ لَفْظُ الحَدِيْثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4691) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (4442). قَالَ البَيهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (السُّنَنُ الكُبْرَى) (349/ 10): (إِنَّمَا سَمَّاهُمْ مَجُوْسًا لِمُضَاهَاةِ بَعْضِ مَا يَذْهَبُوْنَ إِلَيْهِ مَذَاهِبَ المَجُوْسِ فِي قَوْلِهِمْ بِالأَصْلَيْنِ - وَهُمَا النُّوْرُ وَالظُّلْمَةُ - يَزْعُمُوْنَ أَنَّ الخَيْرَ مِنْ فِعْلِ النُّوْرِ وَأَنَّ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ، فَصَارُوا ثَنَوِيَّةً، كَذَلِكَ القَدَرِيَّةُ يُضِيْفُوْنَ الخَيْرَ إِلَى اللهِ وَالشَّرَّ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالأَمْرَانِ مَعًا مُضَافَانِ إِلَيْهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا وَإِلَى الفَاعِلِيْنَ لَهُمَا مِنْ عِبَادِهِ فِعْلًا وَاكْتِسَابًا، هَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ الخَطَابِيِّ رَحِمَهُ اللهُ). قُلْتُ: وَهُمْ فِي الحَقِيقةِ فَاقُوا المَجُوْسَ فِي هَذِهِ البِدْعَةِ لِأَنَّهُم أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ كُثُر بِعَدَدِ العِبَادِ. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (492/ 2): (فَأَفْعَالُ العِبَادِ مَخْلُوْقَةٌ للهِ كَسَائِرِ مَخْلُوْقَاتِهِ، وَمَفْعُوْلَةٌ لَهُ، وَهِيَ فِعْلُ العِبَادِ حَقِيْقَةً، وَقَائِمَةٌ بِهِم حَقِيْقَةً. فَالكُفْرُ وَالكَذِبُ وَالظُّلْمُ وَنَحْو ذَلِكَ مِنَ القَبَائِحِ؛ يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ قَامَتْ بِهِ وَفَعَلَهَا، وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ خَلَقَهَا وَجَعَلَهَا صِفَةً لِغَيْرِهِ. فَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَكُوْنُ مُتَّصِفًا بِمَا خَلَقَهُ فِي خَلْقِهِ مِنَ الأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُوْمِ! فَكَذَلِكَ لَا يَكُوْنُ مُتَّصِفًا بِالفِعْلِ الَّذِيْ خَلَقَهُ فِي عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ وَصْفًا لَهُم. وَبِهَذَا تَزُوْلُ شُبْهَةُ المُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُم فَي نَفْيِهِمُ الأَفْعَالَ القَبِيْحَةَ أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ مَشِيْئَةِ اللهِ وَخَلْقِهِ مُحْتَجِّيْنَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ القَبِيْحِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬3) وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ أُحْضِرَ لِلْمُنَاظَرَةِ مَعَ بَعْضِ أَئِمَّةِ المُعْتَزِلَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ المُعْتَزِلِيُّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ. فَقَالَ السُّنِّيُّ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ. فَقَالَ المُعْتَزِلِيُّ: أَيَشَاءُ رَبُّنَا أَنْ يُعْصَى؟! فَقَالَ السُّنِّيُّ: أَفَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟! فَقَالَ المُعْتَزِلِيُّ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الهُدَى وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى؛ أَحْسَنَ إِلَيَّ أَوْ أَسَاءَ؟ فَقَالَ السُّنِّيُّ: إِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَكَ؛ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ. فَانْقَطَعَ. أَوْرَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (451/ 13). (¬4) وَمِثَالُ الكَوْنِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيْدُ} (البُرُوْج:16)، وَالإِرَادَةُ الكَوْنِيَّةُ هِيَ نَفْسُهَا المَشِيْئَةُ، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشأْ لَمْ يَكُنْ. وَمِثَالُ الشَّرْعِيَّةِ {وَاللَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يَتُوْبَ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاء:27).

المسألة الثالثة) كيف الجمع بين حديث (من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه) (1) مع الأحاديث الكثيرة الصريحة التي فيها كتابة أجل الإنسان ع

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) كَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَ حَدِيْثِ (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (¬1) مَعَ الأَحَادِيْثِ الكَثِيْرَةِ الصَّرِيْحَةِ الَّتِيْ فِيْهَا كِتَابَةُ أَجَلِ الإِنْسَانِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا حَدِيْثُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ المَرْفُوْعُ فِي الصَّحِيْحَيْنِ (¬2) وَالَّذِيْ فِيْهِ (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيْدٍ) وَذَلِكَ فِي كَوْنِ الأَجَلِ مَكْتُوْبًا، وَفِي الحَدِيْثِ الأَوَّلِ بَيَّنَ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ؟ (¬3) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُوْنَ} (يُوْنُس:49)؟ الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيْبِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيْعَةِ، فَيَجِبُ إِثْبَاتُ كِلَا الأَمْرَينِ، فَنَقُوْلُ: العُمْرُ مَكْتُوْبٌ؛ وَهُوَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. 2) أَنَّ الشَّرِيْعَةَ قَدْ دَلَّتْ أَصْلًا عَلَى إِمْكَانِيَّةِ حُصُوْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ فِي الأَعْمَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ} (فَاطِر:11). (¬4) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643). (¬3) وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ فَهُوَ أَيْضًا قَابِلٌ لِلنَّقْصِ. (¬4) وَفي شَرْحِ هَذَا التَّعْمِيْرِ وَالنَّقْصِ أَقْوَالٌ أَشْهَرُهَا أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ - بِاخْتِصَارٍ وَتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ تَفْسِيْرِ القُرْطُبِيِّ (333/ 14) -: الأَوَّلُ) أَنَّ التَّعْمِيْرَ هُوَ كِتَابَةُ كَمْ يَكُوْنُ لَهُ مِنَ العُمُرِ، كَمْ سَنَةً وَكَمَ شَهْرًا وَكَمْ يَوْمًا وَكَمْ سَاعَةً، وَالإِنْقَاصُ هُوَ كِتَابَةُ تَنَاقُصِ عُمُرِهِ البَاقِي حَتَّى يَسْتَوفيَ أَجَلَهُ. كَمَا قَالَ سَعِيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُكْتَبُ عُمُرُهُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، ثُمَّ يُكْتَبُ فِي أَسْفَلِ ذَلِكَ: ذَهَبَ يَوْمٌ، ذَهَبَ يَوْمَانِ، حَتَّى يَأْتيَ عَلَى آخِرِهِ. وَالضَّمِيْرُ فِي قَوْلِهِ {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُوْدُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ. الثَّاني) أَنَّ المُعَمَّرَ مَنْ بَلَغَ سِتِّيْنَ سَنَةً، وَالمَنْقُوْصَ مِنْ عُمُرِهِ مَنْ يَمُوْتُ قَبْلَ سِتِّينَ سَنَةً، فَالتَّقْصِيْرُ لَهُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ عُمُرُهُ أَطْوَلَ مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُوْدُ إِلَى غَيْرِ الأَوَّلِ. الثَّالِثُ) أَنَّ اللهَ كَتَبَ عُمُرَ الإِنْسَانِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا إِنْ أَطَاعَ، وَتِسْعِينَ إِنْ عَصَى، فَأيُّهُمَا بَلَغَ فَهُوَ فِي كِتَابٍ. أَيْ: أَنَّهُ يُكْتَبُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ: عُمُرُ فُلَانٍ كَذَا سَنَة، فَإِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زِيْدَ فِي عُمُرِهِ كَذَا سَنَة. فَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ إنَّهُ سَيَصِلُ رَحِمَهُ، فَمَنْ اطَّلَعَ عَلَى الأَوَّلِ دُوْنَ الثَّانِي ظَنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ. وَالضَّمِيْرُ فِي قَوْلِهِ {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُوْدُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ. الرَّابِعُ) أَنَّ النَّقْصَ هُوَ النَّقْصُ مِنَ العُمُرِ المَكْتُوْبِ، كَمَا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الزِّيَادَةُ فِي العُمُرِ المَكْتُوْبِ. وَالتَّغْيِيْرُ يَكُوْنُ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ دُوْنَ مَا فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى. وَالضَّمِيْرُ فِي قَوْلِهِ {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُوْدُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ. وَالقَوْلُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ قَرِيْبَانِ، وَالرَّابِعُ أَرْجَحُ عِنْدِي لِمُوَافَقَتِهِ صَرِيحَ الحَدِيْثِ وَفِعْلَ السَّلفِ كَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ كَمَا سَيَأْتِي.

3) أَنَّ هَذِهِ الكِتَابَةَ لَا تُنَافِي وُجُوْدَ الزِّيَادَةِ أَصْلًا فِي الأَعْمَارِ تَبَعًا لِهَذَهِ الأَسْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الكِتَابَةَ مَقْطُوْعٌ بِهَا بِاعْتِبَارِ الخَاتِمَةِ وَالنِّهَايَةِ، فَلَا يَمْنَعُ أَصْلًا أَنْ تَكُوْنَ مُعْتَبَرَةً ضِمْنَ هَذِهِ الكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ} (فَاطِر:11). (¬1) وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرَّعْد:39). (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) وَفِي صَحيحِ مُسْلِمِ (2647) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيْدٍ مَرْفُوْعًا (يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً: فَيَقُوْلُ يَا رَبِّ مَاذَا؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيْدٌ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، فَيَقُوْلُ اللهُ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَمُصِيْبَتُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيْفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيْهَا وَلَا يُنْقَصُ). فَهُوَ يُبَيِّنُ عَدَمَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلَكِنَّهُ مَحْمُوْلٌ عَلَى عَدَمِ التَّبْدِيْلِ مِنْ جِهَةِ المَلَكِ، كَمَا فِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (فَلَا يَزِيْدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يُنْقِصُ). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (469/ 4) بَعْدَ إِيْرَادِهِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ: (وَمَعْنَى هَذِهِ الأَقْوَالِ: أَنَّ الأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللهُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا القَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ (22386) عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوْعًا: (إِنَّ الرَّجُلُ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيْبُهُ، وَلَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، ولَا يَزِيْدُ فِي العُمُرِ إِلَّا البِرُّ)). قُلْتُ: وَالشَّطْرُ الأَوَّلُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا فِي الصَّحِيْحَةِ (154). (¬3) وَتَأَمَّلْ سِيَاقَ الآيَةِ السَّابِقَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الكِتَابَةَ هِيَ كِتَابَةُ الأَجَلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُوْلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرَّعْد:38).

4) أَنَّ التَّبْدِيْلَ هُوَ حَاصِلٌ بِدِلَالَةِ صَرِيْحِ الحَدِيْثِ لَكِنَّهُ يَكُوْنُ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ؛ بِخِلَافِ مَا هُوَ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَوِ اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ فَهُوَ لَا يَتَغَيَّرُ. (¬1) كَمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ - وَهُوَ يَطُوْفُ بِالبَيْتِ وَيَبْكِي -: (اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا؛ فَامْحُهُ؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الكِتَابِ، فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً). (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (491/ 14): (وَالجَوَابُ المُحَقَّقُ: أَنَّ اللهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ؛ فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ المَكْتُوْبِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوْجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ المَكْتُوْبِ. وَنَظِيْرُ هَذَا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُرِيَهُ صُوْرَةَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ، فَرَأَى فِيْهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيْصٌ؛ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَقَالَ: (ابْنُكَ دَاوُد). قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: (أَرْبَعُوْنَ سَنَةً). قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: (أَلْفُ سَنَةٍ). قَالَ: فَقَدْ وَهَبْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّيْنَ سَنَةً. فَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ المَلَائِكَةُ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّوْنَ سَنَةً. قَالُوا: وَهَبْتَهَا لِابْنِك دَاوُد. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَخْرَجُوا الكِتَابَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ)). وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ وَلِدَاوُدَ عُمُرَهُ. فَهَذَا دَاوُدُ كَانَ عُمُرُهُ المَكْتُوْبُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّيْنَ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيْدًا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ). وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُوْنُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُوْنُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ وَمَا يَزِيْدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَالمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللهُ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا وَبَعْدَ كَوْنِهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ العُلَمَاءُ: إنَّ المَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ، وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، فَلَا مَحْوَ فِيْهِ وَلَا إثْبَاتَ. وَأَمَّا اللَّوْحُ المَحْفُوْظُ فَهَلْ فِيْهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (488/ 11): (وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا فِي عِلْمِ الحَفَظَةِ وَالمُوَكَّلِيْنَ بِالآدَمِيِّ؛ فَيَقَعُ فِيْهِ المَحْو وَالإِثْبَاتُ كَالزِّيَادَةِ فِي العُمُرِ وَالنَّقْصِ، وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللهِ فَلَا مَحْوَ فِيْهِ وَلَا إِثْبَاتَ. وَالعِلْمُ عِنْدَ اللهِ). وَقَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص419): ({يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} مِنَ الأَقْدَارِ. {وَيُثْبِتُ} مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَهَذَا المَحْو وَالتَّغْيِيْرُ فِي غَيْرِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَكَتَبَهُ قَلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ فِيْهِ تَبْدِيْلٌ وَلَا تَغْيِيْرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ أَنْ يَقَعَ فِي عِلْمِهِ نَقْصٌ أَوْ خَلَلٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} أَي اللَّوْحُ المَحْفُوْظُ، الَّذِيْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ سَائِرُ الأَشْيَاءِ، فَهُوَ أَصْلُهَا، وَهِيَ فُرُوْعٌ لَهُ وَشُعَبٌ. فَالتَّغْيِيْرُ وَالتَّبْدِيْلُ يَقَعُ فِي الفُرُوْعِ وَالشُّعَبِ، كَأَعْمَالِ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الَّتِيْ تَكتُبُهَا المَلَائِكَةُ، وَيَجْعَلُ اللهُ لِثُبُوْتِهَا أَسْبَابًا، وَلِمَحْوِهَا أَسْبَابًا، لَا تَتَعَدَّى تِلْكَ الأَسْبَابُ مَا رُسِمَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ، كَمَا جَعَلَ اللهُ البِرَّ وَالصِّلَةَ وَالإِحْسَانَ مِنْ أَسْبَابِ طُوْلِ العُمُرِ وَسِعَةِ الرِّزْقِ، وَكَمَا جَعَلَ المَعَاصِي سَبَبًا لِمَحقِ بَرَكَةِ الرِّزْقِ وَالعُمُرِ، وَكَمَا جَعَلَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ مِنَ المَهَالِكِ وَالمَعَاطِبِ سَبَبًا لِلسَّلَامَةِ، وَجَعَلَ التَّعَرُّضَ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلعَطَبِ، فَهُوَ الَّذِيْ يُدَبِّرُ الأُمُوْرَ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَمَا يُدَبِّرُهُ مِنْهَا لَا يُخَالِفُ مَا قَدْ عَلِمَهُ وَكَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ). قُلْتُ: وَحَدِيْثُ آدَمَ وَدَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ صَحِيْحٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (3368) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5208). (¬2) صَحِيْحٌ. الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيْرِ (481/ 16). اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (5448). (¬3) وَهُنَاكَ وَجْهٌ خَامِسٌ أَوْرَدَهُ بَعْضُهُم، وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي العُمُرِ هِيَ بِمَعْنَى البَرَكَةِ. وَهَذَا الوَجْهُ بَعِيدٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَالرَّاجِحُ مَا أَثْبَتْنَاهُ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (490/ 14): (وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ المُرَادَ بِهِ البَرَكَةُ فِي العُمْرِ؛ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي الزَّمَنِ القَصِيْرِ مَا لَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ إِلَّا فِي الكَثِيْرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالأَجَلَ مُقَدَّرَانِ مَكْتُوْبَانِ. فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: تِلْكَ البَرَكَةُ - وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي العَمَلِ وَالنَّفْعِ - هِيَ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوْبَةٌ وَتَتَنَاوَلُ جَمِيْعَ الأَشْيَاءِ). قُلْتُ: وَفَرَّقَ بَعْضُهُم بَيْنَ العُمْرِ وَالأَجَلِ، فَجَعَلَ العُمْرَ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ بِدِلَالَةِ النُّصُوْصِ، وَجَعَلَ الأَجَلَ غَيْرَ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ أَيْضًا بِدِلَالَةِ النُّصُوْصِ.

المسألة الرابعة) إذا كان العبد قد سبق في علمه تعالى وكتب ذلك عنده؛ أنه من أهل الجنة أو من أهل النار؛ فلماذا العمل؟

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) إِذَا كَانَ العَبْدُ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ؛ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَلِمَاذَا العَمَلُ؟ الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ رُبُوْبِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ بِعَمَلِ العَبْدِ، فَاللهُ تَعَالَى عَلِمَ مَا سَيَكُوْنُ وَكَتَبَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا جَزَاؤُهُ فَمُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ العَبْدِ، وَهَذَا عِلْمٌ آخَرُ غَيْرُ العِلْمِ الأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِيْنَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِيْنَ} (آل عِمْرَان:142)، فَالعَبْدُ مَأْمُوْرٌ بِالعَمَلِ لِتَكُوْنَ لَهُ حُجَّتُهُ عِنْدَ رَبِّهِ. 2) أَنَّ العَبْدَ - وَإِنْ كَانَ مَكْتُوْبًا اسْمُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ - فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الفَرِيْقَيْنِ، وَلَكِنَّ عَمَلَهُ يَكُوْنُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: (جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ؛ قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِيْنَنَا؛ كَأَنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيْمَ العَمَلُ اليَوْمَ، أَفِيْمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيْرُ أَمْ فِيْمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: (لَا؛ بَلْ فِيْمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيْرُ). قَالَ: فَفِيمَ العَمَلُ؟ قَالَ: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ)) (¬1)، فَعَمَلُ العَبْدِ هُوَ الشَّاهِدُ لَهُ. وَفي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوْعًا ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوْسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيْدَةً)، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيْرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيْرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ) ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى؛ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى} الآيَةَ (اللَّيْل:7)). (¬2) فَتَأَمَّلْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ - كَمَا فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ - أَنَّ مَنْ بَادَرَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّصْدِيْقِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُيَسِّرُهُ لِلحُسْنَى الَّتِيْ هِيَ الجَنَّةُ، واَلعَكْسُ بِالعَكْسِ. (¬3) قَالَ ابْنُ بَطَّال رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ البُخَاريِّ (¬4): (وَقَوْلُهُ (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ): فِيْهِ دَلِيْلٌ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ أَهْلِ الجَبْرِ؛ لِأَنَّ التَّيْسِيْرَ غَيْرُ الجَبْرِ، وَاليُسْرَى: العَمَلُ بِالطَّاعَةِ، وَالعُسْرَى: العَمَلُ بِالمَعْصِيَةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ - فِي حَدِيْثِ عَليٍّ -:إِنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِمَنْ يُطِيْعُهُ فَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، وَبِمَنْ يَعْصِيْهِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْقَاقُ مِنْ يَسْتَحِقُّ الجَنَّةَ مِنْهُم بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيْهِم؛ وَلَا اسْتِحْقَاقِهِ النَّارَ لِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيْهِم، وَلَا اضْطَرَّ أَحَدًا مِنْهُم عِلْمُهُ السَّابِقُ إِلَى طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى نَفَذَ عِلْمُهُ فِيْهِم قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم وَمَا هُمْ عَامِلُوْنَ وَإِلى مَا هُمْ صَائِرُوْنَ، إِذْ كَانَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم، وَلَا بَعْدَ مَا خَلَقَهُم، وَلِذَلِكَ وَصَفَ أَهْلَ الجَنَّةِ فَقَالَ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِيْنَ وَقَلِيْلٌ مِّنَ الآخِرِيْنَ} (الوَاقِعَة:14)، إِلَى قَوْلِهِ {وَحُوْرٌ عِيْنٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُوْنِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (الوَاقِعَة:24)، وقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ} (السَّجْدَة:17). وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَهْلِ النَّارِ: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيْهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ} (فُصِّلت:28)، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَثَابَ أَهْلَ طَاعَتِهِ جَنَّتَهُ بِطَاعَتِهِ، وَجَازَى أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ النَّارَ بِمَعْصِيَتِهِم إِيَّاهُ، وَلَم يُخْبِرْنَا أنَّهُ أَدْخَلَ مَنْ أَدْخَلَ مِنْهُم النَّارَ وَالجَنَّةَ لِسَابِقِ عِلْمِهِ فِيْهِم، وَلَكِنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالجَنَّةِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ؛ وَفِي هَذَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا بِمَعْصِيَتِهِ؛ فَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى وَنَهَى؛ لِيُطِيْعَهُ المُطِيْعُ مِنْهُم فَيَسْتَوْجِبَ بِطَاعَتِهِ الجَنَّةَ، وَيَسْتَحِقَّ العِقَابَ مِنْهُم بِمَعْصِيَتِهِ العَاصِي فَيَدْخُلَ بِهَا النَّارَ، وَلِتَتِمَّ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) إِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا وُصِفَ مِنْ أَنَّ الَّذِيْ سَبَقَ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ لَمْ يَضْطَرَّ وَاحِدًا مِنَ الفَرِيْقَيْنِ إِلَى الَّذِيْ كَانَ يَعْمَلُ وَيُمَهِّدُ لِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى ذَلِكَ؟ قِيْلَ: هُوَ أَنَّ كُلَّ فَرِيْقٍ مِنْ هَذِينِ مُسَهَّلٌ لَهُ العَمَلُ الَّذِيْ اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ؛ مُزَيَّنٌ ذَلِكَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيْمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوْبِكُمْ} (الحُجُرَات:7) الآيَةُ. (¬5) وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاءِ، فَإِنَّهُ زَيَّنَ لَهُم سُوْءَ أَعْمَالِهِم لِإِيْثَارِهِم لَهَا عَلَى الهُدَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُوْنَ} (النَّمْل:4)، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوْءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (فَاطِر:8)، وَهَذَا يُصَحِّحُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ عِلْمَ اللهِ النَّافِذَ فِي خَلْقِهِ بِمَا هُمْ بِهِ عَامِلُوْنَ؛ وَكِتَابَهُ الَّذِيْ كَتَبَهُ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُم بِأَعْمَالِهِم لَمْ يَضْطَرَّ أَحَدًا مِنْهُم إِلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ أَنَّ المُضْطَرَّ إِلَى الشَّيْءِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ، لَا مُحِبَّ لَهُ؛ بَلْ هُوَ لَهُ كَارِهٌ وَمِنْهُ هَارِبٌ، وَالكَافِرُ يُقَاتِلُ دُوْنَ كُفْرِهِ أَهْلَ الإِيْمَانِ، وَالفَاسِقُ يُنَاصِبُ دُوْنَ فِسْقِهِ الأَبْرَارَ؛ مُحَامَاةً مِنْ هَذَا عَنْ كُفْرِهِ الَّذِيْ اخْتَارَهُ عَلَى الإِيْمَانِ، وَإِيْثَارًا مِنْ هَذَا لِفِسْقِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ المُؤْمِنُ يَبْذُلُ مُهْجَتَهُ دُوْنَ إِيْمَانِهِ، وَيُؤْثِرُ العَنَاءَ وَالنَّصَبَ دُوْنَ مَلَاذِهِ وَشَهَوَاتِهِ حُبًّا لِمَا هُوَ لَهُ مُخْتَارٌ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ عَلَى مَعَاصِيْهِ، وَأَنَّى يَكُوْنُ مُضْطَرًّا إِلَى مَا يَعْمَلُهُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ؟ فَبَانَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) هُوَ أَنَّ كُلَّ فرِيْقَي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ مُسَهَّلٌ لَهُ العَمْلُ الَّذِيْ اخْتَارَهُ؛ مُزَيَّنٌ ذَلِكَ لَهُ). ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2548). (¬2) البُخَارِيُّ (1362)، وَمُسْلِمٌ (2647). (¬3) وَقَدْ سَأَلَ أَحَدُ إِخْوَانِنَا الشَّيْخَ حَمْدِي بْنَ عَبْدِ المَجِيْدِ السَّلَفِيَّ حَفِظَهُ اللهُ عَنْ أَحَدِ مَشَايْخِ السُّوْءِ الَّذِيْ ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا - مِنْ أَكَابِرِ مُجْرِمِيْهَا - أَنهُّ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ!! فَأَجَابَ الشَّيْخُ الفَاضِلُ بِقَوْلِهِ: (صَحِيْحٌ أَنِّي لَا أَعْرِفُ عَنْ فُلَانٍ - مِثْلَ مَا يَقُوْلُ ذَلِكَ الشَّيْخُ - أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ! وَلَكِنِّي أَعْرِفُ صِفَاتِ كُلِّ أَهْلِ الجَنَّةِ؛ وَلَيْسِ فَرْدًا وَاحِدًا). (¬4) شَرْحُ البُخَارِيِّ (303/ 10). (¬5) وَعَلَيْهِ تَكُوْنُ عَلَامَةُ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ هِيَ أَنْ يُحِبَّ العَبْدُ مَا يُحِبُّ اللهُ تَعَالَى، وَأَنْ يَكْرَهَ العَبْدُ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ} (الأَنْعَام:125).

المسألة الخامسة) ما الجواب عن قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) مَا الجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيْكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} (المَائِدَة:94) وَالَّذِيْ فِيْهِ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ مَا سَيَكُوْنُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا بَعْدَ الوُقُوْعِ؟ (¬1) الجَوَابُ: أَنَّ هَذَا العِلْمَ عِلْمٌ آخَرُ غَيْرُ العِلْمِ السَّابِقِ، فَهُوَ عِلْمُ مُشَاهَدَةٍ وَظُهُوْرٍ، أَمَّا العِلْمُ السَّابِقُ لَهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عِلْمٌ أَزَلِيٌّ بِمَا كَانَ وَمَا سَيَكُوْنُ - كَمَا سَبَقَ فِي كَثِيْرٍ مِنَ الأَدِلَّةِ -، وَلَكِنَّ الفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ العِلْمَ المُضَارِعَ للعَمَلِ هُوَ الَّذِيْ يُبْنَى عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَذَلِكَ كَيْ لَا يَكُوْنَ لِلعَاصِي حُجَّةٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬3): (القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالأَرْبَعُوْنَ: مَتَى عَلَّقَ اللهُ عِلْمَهُ بِالأُمُوْرِ بَعْدَ وُجُوْدِهَا؛ كَانَ المُرَادُ بِذَلِكَ العِلْمَ الَّذِيْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الجَزَاءُ). ¬

_ (¬1) وَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِيْنَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِيْنَ} (آل عِمْرَان:142). (¬2) قُلْتُ: وَأَمَّا لَوْ اسْتَنْفَدَ العَاصيُ فُرْصَتَهُ فِي العَمَلِ؛ فَإِنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى السَّابِقَ حَاكِمٌ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُوْنَ} (الأَنْعَام:28). (¬3) القَوَاعِدُ الحِسَانُ فِي تَفْسِيْرِ القُرْآنِ (ص123).

المسألة السادسة) إذا كانت الهداية من الله تعالى؛ فكيف يكون للعبد أصلا سعي فيها، وما الذي يميز العاصي عن الطائع؟

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) إِذَا كَانَتِ الهِدَايَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ فَكَيْفَ يَكُوْنُ لِلعَبْدِ أَصْلًا سَعْيٌ فِيْهَا، وَمَا الَّذِيْ يُمَيِّزُ العَاصِي عَنِ الطَّائِعِ؟ الجَوَابُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَبْدٍ، فَإِذَا عَلِمَ مِنْهُ صِدْقَ الطَّلَبِ لِلهِدَايَةِ، وَالإِنْصَافَ فِي سَمَاعِ الحَقِّ وَتَمْيِيْزَهُ؛ وَحِرْصَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَهْدِيه كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيْهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُوْنَ} (الأَنْفَال:23)، وَهَذِهِ الهِدَايَةُ هِيَ فَضْلٌ وَرَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا المُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ وَتَدَبُّرِ الآيَاتِ؛ المُسْتَكْبِرُ عَنِ الحَقِّ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَطْمِسُ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلِإسْلَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لَا يَعْقِلُوْنَ} (يُوْنُس:100)، فَلَا يَجِدُ المُعْرِضُ مَا يَجِدُ المُؤْمِنُ مِنْ حَلَاوَةِ الطَّاعَاتِ، وَمَحَبَّةِ العِبَادَةِ، وَالتَّعَلُّقِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالفَرَحِ بِذِكْرِ اللهِ، وَالاطْمِئْنَانِ إِلَى السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالانْشِرَاحِ إِلَيهَا. (¬1) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ} (الأَنْعَام:125). ¬

_ (¬1) وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ مُوْسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُوْنَنِي وَقَدْ تَعْلَمُوْنَ أَنِّي رَسُوْلُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوْبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِيْنَ} (الصَّف:5). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (109/ 8): (وَقَوْلُهُ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوْبَهُمْ}: أَيْ: فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ؛ أَزَاغَ اللهُ قُلُوْبَهُمْ عَنِ الهُدَى، وَأَسْكَنَهَا الشَّكَّ وَالحَيْرَةَ وَالخُذْلَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ} (الأَنْعَامِ:110)، وَقَالَ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيْرًا} (النِّسَاءِ:115) وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِيْنَ}).

المسألة السابعة) ما هو حديث الكتابين، وأين هما الآن؟

- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) مَا هُوَ حَدِيْثُ الكِتَابَيْنِ، وَأَيْنَ هُمَا الآنَ؟ الجَوَابُ: الحَدِيْثُ هُوَ (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ -، فَقَالَ: (أَتَدْرُوْنَ مَا هَذَانِ الكِتَابَانِ؟) فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ لِلَّذِيْ فِي يَدِهِ اليُمْنَى: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِيْنَ؛ فِيْهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيْهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا)، ثُمَّ قَالَ لِلَّذِيْ فِي شِمَالِهِ: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِيْنَ؛ فِيْهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ (¬1)؛ فَلَا يُزَادُ فِيْهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا)، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيْمَ العَمَلُ يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ - وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ -، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ - وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ -)، ثُمَّ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: (فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ؛ فَرِيْقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيْقٌ فِي السَّعِيْرِ). (¬2) أَمَّا الكِتَابَانِ؛ فَهُمَا تَمْثِيْلٌ وَتَقْرِيْبٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هُمَا كِتَابَيْنِ حَقِيْقَةً (¬3)، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: أ- أَنَّ اللَّوْحَ المَحْفُوْظَ الَّذِيْ فِيْهِ تِلْكَ الأَسْمَاءُ هُوَ مَحْفُوْظٌ أَصْلًا مَنْ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. ب- أَنَّهُ لَو كَانَ المَقْصُوْدُ حَقِيْقَتَهُ؛ لَتَوَاتَرَتِ الأَخْبَارُ عَنْهُمَا وَعَنْ مَصِيْرِهِمَا؛ فَشَأْنُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْفَيَانِ عَلَى أَحَدٍ. ج- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَذَهُمَا بِيَدِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُحْتَرَمَيْنِ أَصْلًا مِنْ جِهَةِ حَقِيْقَتِهِمَا. (¬4) ¬

_ (¬1) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (128/ 11): (أَجْمَلْتُ الحِسَابَ: إِذَا جَمَعْتُ آحَادَهُ وَكَمَّلْتُ أَفْرَادَهُ، أَيْ: أُحْصُوا وَجُمِعُوا؛ فَلَا يُزَادُ فِيْهِمْ وَلَا يُنْقَصُ). (¬2) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2141) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (848). (¬3) وَذَهَبَ المُبَارَكْفُوْرِي رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مِرْعَاةُ المَفَاتِيْحِ) (185/ 1) إِلَى حَقِيْقَةِ الكِتَابَينِ. قُلْتُ: وَمَا أَثْبَتْنَاهُ أَوْلَى لِمَا سَتَرَى مِنْ وُجُوْهِ التَّرْجِيْحِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬4) قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (628/ 2): (وَهَذَانِ الكِتَابَانِ اللَّذَانِ أَخَذَهُمَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَا هُمَا الكِتَابَانِ اللَّذَانِ كَتَبَ اللهُ فِيْهِمَا أَسْمَاءَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَمْثِيْلٌ مِنْ رَسُوْلِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيْبٌ إِلَى أَفْهَامِ النَّاسِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا سَيَكُوْنُ وَمَا يَصِيْرُ إِلَيْهِ العِبَادُ، وَكَتَبَهُ تَأْكِيْدًا لِعِلْمِهِ تَعَالَى، فَلَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ).

المسألة الثامنة) إذا كان لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية، فكيف احتج آدم عليه الصلاة والسلام بالقدر على معصيته؟

- المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ) إِذَا كَانَ لَا يَجُوْزُ الاحْتِجَاجُ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ، فَكَيْفَ احْتَجَّ آدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالقَدَرِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟ (¬1) الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ لَوْمَ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِآدَمَ لَيْسَ هُوَ عَلَى المَعْصِيَةِ؛ وَإِنَّمَا عَلَى الخُرُوْجِ مِنَ الجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِيْ أَجَابَ عَنْهُ آدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ مَكْتُوْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ المَعْصِيَةَ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالقَدَرِ عَلَى الخُرُوْجِ مِنَ الجَنَّةِ وَلَيْسَ عَلَى المَعْصِيَةِ نَفْسِهَا، فَالمَعْصِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِآدَمَ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الهُبُوْطِ مِنَ الجَنَّةِ فَهُو مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ بَني آدَمَ، وَهَذَا الَّذِيْ لَامَ عَلَيْهِ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَحْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ وَإِنَّمَا عَلَى الهُبُوْطِ بِشَأْنِ الذُّرِّيَّةِ، وَهُوَ شَيْءٌ مُخْتَلِفٌ عَنِ المَعْصِيَةِ. (¬2) (¬3) 2) أَنَّ احْتِجَاجَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ بِالقَدَرِ عَلَى وُقُوْعِ المَعْصِيَةِ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَلَيْسَ مَعَ المَعْصِيَةِ، وَعَلِيْهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ؛ لِأَنَّه لَا يُبَرِّرُ مُحَرَّمًا وَلَا يَمْنَعُ وَاجِبًا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (¬4) ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ هُوَ (التَقَى آدَمُ وَمُوْسَى، فَقَالَ مُوْسَى لِآدَمَ: أنْتَ الَّذِيْ أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ؟! قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوْسَى الَّذِيْ اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ؛ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ؛ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَجَّ آدَمُ مُوْسَى). البُخَارِيُّ (4736)، وَمُسْلِمٌ (2652) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. وَمَعْنَى (فَحَجَّ آدَمُ مُوْسَى): أَيْ: غَلَبَهُ بِالحُجَّةِ. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (1702): (وَالنَّاسُ مَأْمُوْرُوْنَ عِنْدَ المَصَائِبِ الَّتِيْ تُصِيْبُهُم - بِأَفْعَالِ النَّاسِ أَوْ بِغَيْرِ أَفْعَالِهِم - بِالتَّسْلِيمِ لِلقَدَرِ وَشُهُوْدِ الرُّبُوْبِيَّةِ). (¬3) وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِنَّ لَوْمَ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِآدَمَ هُوَ عَلَى المَعْصِيَةِ؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحِقًّا فِي هَذَا اللَّوْمِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ آدَمَ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهُ؛ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَهُ اللَّوْمُ عَلَى المَعْصِيَةِ. وَهَذَا الجَوَابُ جَوَابٌ ضَعِيْفٌ، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ هُوَ إِهْمَالُ مَعْنَى جَوَابِ آدَمَ عَلَى مُوْسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ حَيْثُ أَنَّهُ احْتَجَّ بِالقَدَرِ وَالكِتَابَةِ وَلَيْسَ بِالتَّوْبَةِ. (¬4) قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شِفَاءُ العَلِيْلِ) (ص18): (إِنَّمَا لَامَ مُوْسَى آدَمَ عَلَى المَعْصِيَةِ الَّتِيْ نَالَتْ الذُّرِّيَّةَ بِخُرُوْجِهِم مِنَ الجَنَّةِ وَنُزُوْلِهِم إِلَى دَارِ الابْتِلَاءِ وَالمِحْنَةِ بِسَبَبِ خَطِيْئَةِ أَبِيْهِم، فَذَكَرَ الخَطِيْئَةَ تَنْبِيْهًا عَلَى سَبِبِ المُصِيْبَةِ المِحْنَةِ الَّتِيْ نَالَتِ الذُّرِّيَّةَ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: (أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الجَنَّةِ)، وَفي لَفْظٍ (خَيَّبْتَنَا) فَاحْتَجَّ آدَمُ بِالقَدَرِ عَلَى المُصِيْبَةِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ المُصِيْبَةَ الَّتِيْ نَالَتْ الذُّرِّيَّةَ بِسَبَبِ خَطِيْئَتِي كَانَتْ مَكْتُوْبَةً بِقَدَرِهِ قَبْلَ خَلْقِي. وَالقَدَرُ يُحْتَجُّ بِهِ فِي المَصَائِبِ دُوْنَ المَعَائِبِ، أَيْ: أَتَلُوْمْنِي عَلَى مُصِيْبَةٍ قُدِّرَتْ عَلَيَّ وَعَلَيْكُم قَبْلَ خَلْقِي بِكَذَا وَكَذَا سَنَةٍ. هَذَا جَوَابُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ. وَقَدْ يَتَوَجَّهُ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الاحْتِجَاجَ بِالقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ يَنْفَعُ فِي مَوْضِعٍ وَيَضُرُّ فِي مَوْضِعٍ، فَيَنْفَعُ إِذَا احْتُجَّ بِهِ بَعْدَ وُقُوْعِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَتَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ - كَمَا فَعَلَ آدَمُ - فَيَكُوْنُ فِي ذِكْرِ القَدَرِ إِذْ ذَاكَ مِنَ التَّوْحِيْدِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَذِكْرِهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الذَّاكِرُ وَالسَّامِعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِالقَدَرِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا وَلَا يُبْطِلُ بِهِ شَرِيْعَةً، بَلْ يُخْبِرُ بِالحَقِّ المَحْضِ عَلَى وَجْهِ التَّوْحِيْدِ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ).

المسألة التاسعة) إذا كان الشر لا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى، فما الجواب عن الحديث - الذي في نفس الباب - (وتؤمن بالقدر خيره وشره)؟

- المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ) إِذَا كَانَ الشَّرُّ لَا يَجُوْزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَمَا الجَوَابُ عَنِ الحَدِيْثِ - الَّذِيْ فِي نَفْسِ البَابِ - (وَتَؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)؟ الجَوَابُ: أَنَّ الَّذِيْ لَا يَجُوْزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ تَعَالَى هُوَ الشَّرُّ الَّذِيْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الأَفْعَالِ - أَيْ نَفْسِ فِعْلِهِ تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ تَعَالَى خَلْقًا وَمَشِيْئَةً؛ إِذْ لَا يَحْصُلُ فِي مُلْكِهِ تَعَالَى إِلَّا مَا شَاءَ وَأَذِنَ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَفي الحَدِيْثِ (والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)، (¬1) فَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْمُ الحَكِيْمُ. وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوْكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:35). (¬2) فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الحَدِيْثِ (وَتَؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) يُقْصَدُ بِهِ المَقْدُوْرُ أَوِ القَضَاءُ وَهُوَ المَخْلُوْقُ (¬3)، وَلَيْسَ نَفْسُ تَقْدِيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَهُوَ كُلُّهُ خَيْرٌ، وَالقَدَرُ وَالقَضَاءُ هُمَا مِنَ الأَلْفَاظِ المُشْتَرَكَةِ الَّتِيْ إِذَا اجْتَمَعَتْ افْتَرَقَتْ؛ وَإِذَا افْتَرَقَتْ اجْتَمَعَتْ. (¬4) (¬5) (¬6) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ اسْمَ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الشَيْء عَلَى الشَيْءِ؛ وَأَيْضًا تُطْلِقُ الصِّفَةَ عَلَى المَفْعُوْلِ، كَقَوْلِكَ عَنِ المَقْدُوْرِ: هَذِهِ قُدْرَةُ اللهِ، فَمِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيْرُ عَنِ المَفْعُوْلِ بِالصِّفَةِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهَا، فَالقَدَرُ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ تَقْدِيْرِ اللهِ تَعَالَى - وَهَذَا مُلَازِمٌ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ العُلَى - وَهَذَا كُلُّهُ خَيْرٌ؛ لَيْسَ فِيْهِ شَرٌّ مُطْلَقًا، وَأَيْضًا يُطْلَقُ القَدَرُ عَلَى المَقْدُوْرِ، وَهُوَ المُفْعُوْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خَلْقِهِ - وَهَذَا هُوَ الَّذِيْ فِيْهِ الخَيْرُ وَالشَّرُّ -، لِأَنَّهُ كُلُّهُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ ابْتِلَاءِ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ بِالخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوْكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:35)، فَيَظْهَرُ فِيْهِ - مَآلًا - فَضْلُهُ تَعَالَى مَعَ المُطِيْعِ، وَعَدْلُهُ مَعَ العَاصِي، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي حَقِيْقَتِهِ. وَقَدْ أَشَارَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى ذَلِكَ في صَحِيْحِهِ فَقَالَ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنَ الخَلَائِقِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَهُوَ الخَالِقُ المُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُوْلٌ مَخْلُوْقٌ مُكَوَّنٌ). (¬7) (¬8) ¬

_ (¬1) وَهُوَ مِنْ حَدِيْثِ عَلِيٍّ مَرْفُوْعًا فِي مُسْلِمٍ (771). (¬2) وَظَاهِرٌ مِنَ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أَنَّ الإِنْسَانَ مَخْلُوْقٌ لِلابْتِلَاءِ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ، وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ لَا مَحَالَةَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَمُجَازِيْهِ عَلَى مَا عَمِلَ فِي ابْتِلَائِهِ. (¬3) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيْحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيْرُ العَزِيْزِ العَلِيْمِ} (فُصِّلَت:12). (¬4) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (186/ 15): (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: القَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوْهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ. وَكُلُّ مَا أُحْكِمَ عَمَلُهُ أَو أُتِمَّ أَو خُتِمَ أَو أُدِّيَ أَدَاءً أَو أُوْجِبَ أَو أُعْلِمَ أَو أُنْفِذَ أَو أُمْضِيَ فَقَدْ قُضِيَ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الوُجُوْهُ كُلُّهَا فِي الحَدِيْثِ، وَمِنْهُ القَضَاءُ المَقْرُوْنُ بِالقَدَرِ، وَالمُرَادُ بِالقَدَرِ التَّقْدِيْرُ، وَبِالقَضَاءِ الخَلْقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أَيْ: خَلَقَهُنَّ، فَالقَضَاءُ وَالقَدَرُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأَسَاسِ وَهُوَ القَدَرُ، وَالآخَرُ بِمَنْزِلَةِ البِنَاءِ وَهُوَ القَضَاءُ، فَمَنْ رَامَ الفَصْلَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ رَامَ هَدْمَ البِنَاءِ وَنَقْضَهُ). وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَن آلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ (الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ) (213/ 3): (وَأَمَّا سُؤَالُهُ عَنِ الفَرْقِ بَيْنَ القَضَاءِ وَالقَدَرِ؟ فَالقَدَرُ أَصْلٌ مِنْ أُصُوْلِ الإِيْمَانِ، كَمَا فِي سُؤَالِ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا أَجَابَهُ بِهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ سَأَلَهُ، قَالَ: (الإِيْمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ)، وَفِي الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَم، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) أَيْ: جَرَى بِمَا يَكُوْنُ مِمَّا يَعْلَمُ اللهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُوْنُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ؛ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُوْنُ، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِيْنٍ} (سَبَأ:3). وَأَمَّا القَضَاءُ: فَيُطْلَقُ فِي القُرْآنِ وَيُرَادُ بِهِ إِيْجَادُ المُقَدَّرِ، كَقَوْلِهِ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فُصِّلَت:12)، وَقَوْلِهِ {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ} (سَبَأ:14)، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الإِخْبَارُ بِمَا سَيَقَعُ مِمَّا قَدَّرَ، كَقَوْلِهِ {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ فِي الكِتَابِ} (الإِسْرَاءُ:4)، أَخْبَرَهُم فِي كِتَابِهِم أَنَّهُم يُفْسِدُوْنَ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الأَمْرُ وَالوَصِيَّةُ، كَمَا قَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإِسْرَاء:23) أَيْ: أَمَرَ وَوَصَّى، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الحُكْمُ، كَقَوْلِهِ {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ} (الزُّمَر:69)، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ القَدَرُ، وَنَحْو ذَلِكَ). (¬5) قَالَ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (شرْحُ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ) (187/ 2): (وَلِهَذَا نَقُوْلُ: إِنَّ القَضَاءَ وَالقَدَرَ مُتَبَايِنَانِ إِنْ اجْتَمَعَا، وَمُتَرَادِفَانِ إِنْ تَفَرَّقَا؛ عَلَى حَدِّ قَوْلِ العُلَمَاءِ: هُمَا كَلِمَتَانِ إِنْ اجْتَمَعَتَا افْتَرَقَتَا، وَإِنْ افْتَرَقَتَا اجْتَمَعَتَا. فَإِذَا قِيْلَ: هَذَا قَدَرُ اللهِ؛ فَهُوَ شَامِلٌ لِلقَضَاءِ، أَمَّا إِذَا ذُكِرَا جَمِيْعًا؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَىً. فَالتَّقْدِيرُ: هُوَ مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الأَوَّلِ أَنْ يَكُوْنَ فِي خَلْقِهِ، وَأَمَّا القَضَاءُ: فَهُوَ مَا قَضَى بِهِ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خَلْقِهِ مِنْ إِيْجَادٍ أَوْ إِعْدَامٍ أَوْ تَغْيِيْرٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُوْنُ التَّقْدِيْرُ سَابِقًا). وَقَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ - شَرِيْط رَقَم (31) -: (قَالَ: (وَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى) وَالخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالحُلْوُ وَالمُرُّ فِي القَدَرْ المَقْصُوْدُ بِهَا مَا يُضَافُ لِلعَبْدِ مِنَ القَدَرِ - يَعْنِي: المَقْدُوْرَ- فَالقَدَرُ لَهُ جِهَتَانِ: أ- جِهَةٌ صِفَةُ اللهِ وَفِعْلُ اللهِ: وَهَذِهِ مُرْتَبِطَةٌ بِعَدَدٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ: أَوَّلُهَا: العِلْمُ، وَالثَّانِي: الكِتَابَةُ وَالمَشِيْئَةُ وَالخَلْقُ وَالحِكْمَةُ وَهِيَ وَضْعُ الأُمُوْرِ مَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا المُوَافِقَةَ لِلغَايَاتِ المَحْمُوْدَةِ مِنْهَا، وَالعَدْلَ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى القَدَرِيِّ؛ وَهُوَ وَضْعُ الأُمُوْرِ وَالمَقَادِيْرِ فِي مَوَاضِعِهَا، هَذِهِ جِهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِاللهِ تَعَالَى. ب- جِهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالعَبْدِ: وَهِيَ المَقْدُوْرُ: وُقُوْعُ المَقْدُوْرِ؛ وُقُوْعُ المُقَدَّرِ عَلَيْهِ؛ وُقُوْعُ القَدَرِ عَلَيْهِ؛ أَوْ حُصُوْلُ القَدَرِ، وَهَذِهِ تُسَمَّى المَقْدُوْرَ، وَتُسَمَّى القَضَاءَ كَمَا أَسْلَفْنَا لَكُم فِي الفَرْقِ مَا بَيْنَ القَدَرِ وَالقَضَاءِ. هَذَا المُقَدَّرُ هُوَ الَّذِيْ يَنْقَسِمُ إِلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ وَإِلى حُلْوٍ وَمُرٍّ). (¬6) قُلْتُ: وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَا اشْتُهِرَ فِي دُعَاءِ القُنُوْتِ عِنْدَ العَامَّةِ بِقَوْلِهِم (وَقِنِا شَرَّ وَسُوْءَ مَا قَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ) يَكُوْنُ مُنْكَرًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرَّ وَالسُّوْءَ فِي تَقْدِيْرِ اللهِ نَفْسِهِ الَّذِيْ هُوَ فِعْلُهُ تَعَالَى - وَفِعْلُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ كَمَا سَلَفَ -، وَأَمَّا جَعْلُهُ فِي القَضَاءِ أَيْضًا - الَّذِيْ هُوَ المَقْدُوْرُ -؛ فَهَذَا صَحِيْحٌ لَا رَيْبَ فِيْهِ، فَالمَحْظُوْرُ وَقَعَ هُنَا عِنْدَمَا جُمِعَ بَيْنَ القَضَاءِ وَالقَدَرِ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ مَعَ نِسْبَةِ السُّوْءِ وَالشَّرِّ إِلَيْهِمَا جَمِيْعًا. وَأَمَّا الدُّعَاءُ المَسْنُوْنُ فَهُوَ بِلَفْظِ (وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ) فَقَط؛ كَمَا تَجِدُهُ فِي سُنَنِ أَبي دَاوُدَ (1425)؛ فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّهِ الَّذِيْ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَصَدَقَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيْلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِيْنَ قَالَ: (الاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي البِدْعَةِ). رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (352)، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ فِي تَعْلِيْقِهِ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (3917). وَقَرِيْبٌ مِنْ ال

المسألة العاشرة) أليس في قوله عليه الصلاة والسلام (الله أعلم بما كانوا عاملين به) (1)، وقوله أيضا (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إ

- المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ) أَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانوا عَامِلِيْنَ بِه) (¬1)، وَقَوْلِهِ أَيْضًا (إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ - حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ - فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا) (¬2) دِلَالَةٌ عَلَى الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى الأَعْمَالِ؟! الجَوَابُ: لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ: 1) مَقْصُوْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيْثِ الأَوَّلِ هُوَ أَنْ لَا تَحْكُمُوا عَلَيْهِم بِالنَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِ آبَائِهِم، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا فَيَكْفُرُوا، وَلَا تَحْكُمُوا عَلَيْهِم بِمِيْثَاقِ الفِطْرَةِ الَّتِيْ وُلِدُوا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُم لَمْ يَبْلُغُوا فَيُؤْمِنُوا. (¬3) وَأَمَّا حَدِيْثُ (وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُوْنَ - مِنَ المُشْرِكِيْنَ - فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ: (هُمْ مِنْهُمْ)) (¬4) فَالمَقْصُودٌ بِهِ أَنَّهُم فِي الدُّنْيَا يُعَامَلُوْنَ مُعَامَلَةَ آبَائِهِم الكُفَّارِ. 2) قَوْلَهُ فِي الحَدِيْثِ الثَّانِي (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ): لَا يَعني أنَّهُ أُجْبِرَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَحَوُّلِ عَمَلِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ عِلْمَ اللهَ تَعَالَى سَابِقٌ لِعَمَلِ الرَّجُلِ. كَمَا فِي الحَدِيْثِ ((لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ العَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ - لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ - ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا. وَإِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ البُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّءٍ - لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ - ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا. وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ). قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: (يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ)). (¬5) ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ هُوَ (سُئِلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ المُشْرِكِيْنَ؛ فَقَالَ: (اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِيْنَ)). البُخَارِيُّ (6597)، وَمُسْلِمٌ (2659) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ أَيْضًا البُخَارِيُّ (6599) مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا ((مَا مِنْ مَوْلُوْدٍ إِلَّا يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنْتِجُوْنَ البَهِيْمَةَ؛ هَلْ تَجِدُوْنَ فِيْهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ حَتَّى تَكُوْنُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا!) قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوْتُ - وَهُوَ صَغِيْرٌ - قَالَ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِيْنَ)). (¬2) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا ((إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيْدٍ؛ فَوَ اللهِ الَّذِيْ لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ - حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ - فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ - حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ - فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643). (¬3) أَفَادَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللهُ كَمَا فِي (كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ) (366/ 2) لِابْنِ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. قُلْتُ: وَيَزِيْدُهُ تَأْكِيْدًا حَدِيْثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُؤْتَى بِأَرْبَعَةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: بِالمَوْلُوْدِ، وَبِالمَعْتُوْهِ، وَبِمَنْ مَاتَ فِي الفَتْرَةِ، وَالشَّيْخِ الفَانِي، كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ، فَيَقُوْلُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعُنُقٍ مِنَ النَّارِ: ابْرُزْ. فَيَقُوْلُ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ أَبْعَثُ إِلَى عِبَادِي رُسُلًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنِّي رَسُوْلُ نَفْسِي إِلَيْكُمْ، ادْخُلُوا هَذِهِ، فَيَقُوْلُ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ: يَا رَبِّ، أَيْنَ نَدْخُلُهَا، وَمِنْهَا كُنَّا نَفِرُّ؟ قَالَ: وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ يَمْضِي، فَيَتَقَحَّمُ فِيْهَا مُسْرِعًا، قَالَ: فَيَقُوْلُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنْتُمْ لِرُسُلِي أَشَدُّ تَكْذِيْبًا وَمَعْصِيَةً، فَيُدْخِلُ هَؤُلَاءِ الجَنَّةَ، وَهَؤُلَاءِ النَّارَ). صَحِيْحٌ. مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى (4224). الصَّحِيْحَةُ (2468). (¬4) البُخَارِيُّ (3013)، وَمُسْلِمٌ (1745) عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ مَرْفُوْعًا. (¬5) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (12214) عَنْ أَنَس مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1334).

المسألة الحادية عشرة) قوله تعالى (كلكم ضال إلا من هديته)، يشكل مع حديث أبي هريرة المرفوع (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يم

- المَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ) قَوْلُهُ تَعَالَى - فِي الحَدِيْثِ القُدُسِيِّ - (كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ) (¬1)، يُشْكِلُ مَعَ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ المَرْفُوْعِ (كُلُّ مَوْلُوْدٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فأَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (¬2) مِنْ جِهَةِ حُصُوْلِ الهِدَايَةِ ابْتِدَاءً. فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ الخِطَابَ فِي الحَدِيْثِ الأَوَّلِ هُوَ عَنِ المُكَلَّفِيْنَ الَّذِيْنَ تَبَيَّنَ سَعْيُهُم، وَاخْتَارُوا طَرِيْقَهُم، بَيْنَمَا الحَدِيْثُ الآخَرُ الكَلَامُ فِيْهِ عَنِ الَّذِيْنَ لَمْ يُكَلَّفُوا بَعْدُ. 2) أَنَّ مَعْنَى الفِطْرَةِ فِيْ هَذَا الحَدِيْثِ الثَّانِي هُوَ الاسْتِعْدَادُ لِقَبُوْلِ الإِسْلَامِ (¬3)، وَلَيْسَ هُوَ نَفْسَ الإِسْلَامِ. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ أَبُوْ ذَرٍّ مَرْفُوْعًا، وَهُوَ قُدُسِيٌّ. صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2577). (¬2) البُخَارِيُّ (1358)، وَمُسْلِمٌ (2658). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (39/ 2): (قَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ (أَيْ فِي الحَدِيْثَ الأَوَّلَ) أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُوْلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ) وَفِي رِوَايَةٍ (مُسْلِمِيْنَ فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِيْنُ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ بَنِي آدَمَ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى قَبُوْلِ الإِسْلَامِ، وَالمَيْلِ إِلَيْهِ دُوْنَ غَيْرِهِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالقُوَّةِ، لَكِنْ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ تَعْلِيْمِ الإِسْلَامِ بِالفِعْلِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّعْلِيْمِ جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُوْنِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ شَيْئًا} (النَّحْل:78)، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (الضُّحَى:7)، وَالمُرَادُ: وَجَدَكَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا عَلَّمَكَ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ). قُلْتُ: وَحَدِيْثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ هُوَ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2865) مَرْفُوْعًا.

المسألة الثانية عشرة) ما حكم قول القائل (حصل هذا الأمر الفلاني صدفة)؟

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ) مَا حُكْمُ قَوْلِ القَائِلِ (حَصَلَ هَذَا الأَمْرُ الفُلَانِيُّ صُدفَةً)؟ الجَوَابُ: حُكْمُهُ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ العَمَلُ، فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ العَبْدِ فَهُوَ صَحِيْحٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ العَبْدَ لَا يَعْلَم الغَيْبَ، وَإِنَّمَا يُجْرِي سَائِرَ أَعْمَالِهِ وُفْقَ ظَنِّهِ فِيْهَا، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ الوَاقِعِ يُصَادِفُ أَشْيَاءَ بِغَيْرِ حُسْبَانٍ لَهَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيْثُ البُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: (عَلَى مَكَانِكُمَا) فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: (أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا - أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا - فَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ). (¬1) أَمَّا إِنْ كَانَ الأَمْرُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كُلّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مَعْلُوْمٌ وَهُوَ بِقَدَرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القَمَر:49). ¬

_ (¬1) صَحِيْحُ البُخَارِيِّ (5361).

الملحق العاشر على كتاب التوحيد) لمحة عن الفرق الضالة في العقيدة

المُلْحَقُ العَاشِرُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) لَمْحَةٌ عَنِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ فِي العَقِيْدَةِ (¬1) - مُقَدِّمَةٌ: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ). قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيْهِ دَخَنٌ). قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ). قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوْهُ فِيْهَا). قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا. فَقَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُوْنَ بِأَلْسِنَتِنَا). قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِيْنَ وَإِمَامَهُمْ). قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (¬2) (¬3) إِنَّ مَعْرِفَةَ الفِرَقِ وَمَذَاهِبِهَا وَشُبُهَاتِهَا؛ وَمَعْرِفَةَ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ - أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ - وَمَا هِيَ عَلَيْهِ؛ هُوَ أَمْرٌ ضَرِوْرِيٌّ لِلمُسْلِمِ، لِأَنَّ هَذِهِ الفِرَقَ الضَّالَّةَ عِنْدَهَا شُبُهَاتٌ ومُغْرَيَاتُ تَضْلِيْلٍ؛ قَدْ يَغْتَرُّ الجَاهِلُ بِهَا وَيَنْخَدِعُ؛ فَيَنْتَمِي إِلَيهَا. وَعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ؛ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيْغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُوْنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوْبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ؛ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: (أُوصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيْرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّيْنَ الرَّاشِدِيْنَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُوْرِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). (¬4) وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُوْنَ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِيْنَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (التَّوْبَة:100). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ مَرْفُوْعًا ((وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِيْنَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً)، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)). (¬5) وَإِنَّ أُصُوْلَ البِدَعِ أَرْبَعُ طَوَائِفَ، وَسَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِيْنَ فِرْقَةً عَنْ هَؤْلَاءِ تَفَرَّقُوا، وَهُمُ: الخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ، وَالقَدَرِيَّةُ، وَالمُرْجِئَةُ. (¬6) ¬

_ (¬1) وَهِيَ عَلَى سَبِيْلِ الاخْتِصَارِ وَالإِجْمَالِ تَتْمِيْمًا لِشَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيْدِ. (¬2) البُخَارِيُّ (7084)، وَفِي رِوَايَةٍ (فَإِنْ لَمْ تَرَ خَلِيْفَةً؛ فَاهْرُبْ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ شَجَرَةٍ). رَوَاهُ أَبْو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ (444). الصَّحِيْحَةُ (2739). (¬3) قَالَ ابْنُ بَطَّال رَحِمَهُ اللهُ - عِنْدَ بَابِ: كَيْفَ الأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ -: (مُرَادُ البَابِ الحَضُّ عَلَى الاعْتِصَامِ بِالجَمَاعَةِ، ... وَالمُرَادُ: بِالجَمَاعَةِ أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْدِ مِنْ كُلِّ عَصْرٍ). اُنْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (316/ 13) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. وَقَالَ الكِرْمَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (مَقْتَضَى الأَمْرِ بِلُزُوْمِ الجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ المُكَلَّفَ المُتَابَعَةُ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ المُجْتَهِدُوْنَ، وَهُمُ المُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ). (فَتْحُ البَارِي) (316/ 13) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي سُنَنِهِ (37/ 4): (وَتَفْسِيْرُ الجَمَاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ هُمْ: أَهْلُ الفِقْهِ وَالعِلْمِ وَالحَدِيْثِ). وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ (21/ 6): (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُوْمِ الجَمَاعَةِ؛ وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ). وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ (101/ 9): (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِيْنَ عَلَى الحَقِّ يُقَاتِلُوْنَ)؛ وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ). وَبَوَّبَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (1475/ 3): (بَابُ الأَمْرِ بِلُزُوْمِ الجَمَاعَةِ عِنْدَ ظُهُوْرِ الفِتَنِ، وَتَحْذِيْرِ الدُّعَاةِ إِلَى الكُفْرِ). (¬4) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيْحُ الجَامِعِ (2549). (¬5) حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2641). صَحِيْحُ الجَامِعِ (9474). (¬6) انْظُرْ كِتَابَ (الاعْتِصَامُ) (720/ 2) لِلشَّاطِبِيِّ، وَكِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (344/ 13) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ؛ عِنْدَ شَرْحِ بَابِ مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيْدِ اللهِ تَعَالَى.

- الفرقة الأولى) القدرية

- الفِرْقَةُ الأَوْلَى) القَدَرِيَّةُ: 1) تَعْرِيْفُهَا: هُمُ الَّذِيْنَ يُنْكِرُوْنَ القَدَرَ، وَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّ مَا يَجْرِي فِي هَذَا الكَوْنِ لَيْسَ بِقَدَرٍ وَقَضَاءٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَحْدُثُ بِفِعْلِ العَبْدِ، وَبُدُوْنِ سَابِقِ عِلْمٍ وَتَقْدِيْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى. (¬1) وَقَدْ وَصَفَهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجُوْسِ هَذِهِ الأُمَّةِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (القَدَرِيَّةُ مَجُوْسُ هَذِهِ الأُمَّةِ). (¬2) وَأَبْرَزُ دُعَاتِهَا هُمْ دُعَاةُ الاعْتِزَالِ أَنْفُسُهُم؛ لِأَنَّ المُعْتَزِلَةَ قَدَرِيَّةٌ. 2) نَشْأَتُهَا: (رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ (سِيْسَوَيْه) مِنْ أَبْنَاءِ المَجُوْسِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجُهَنِّيُّ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الحِجَازِ؛ لَمَّا احْتَرَقَتْ الكَعْبَةُ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى. فَقَالَ آخَرُ: لَمْ يُقَدِّرْ اللهُ هَذَا. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ أَحَدٌ يُنْكِرُ القَدَرَ؛ فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ التَّكْذِيْبَ بِالقَدَرِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ). (¬3) 3) أَبْرَزُ بِدَعِهَا: أ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْ عِنْدَهُ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَكْتُبْ عِنْدَهُ - سُبْحَانَهُ - مَا سَيَكُوْنُ مِنْ أَفْعَالِ العِبَادِ. ب) أَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ مَعَاصِي العِبَادِ لَيْسَ بِمَشِيْئَةِ اللهِ تَعَالَى. جـ) أَنَّ العَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ. (¬4) ¬

_ (¬1) وَقَابَلَتْهُم فِرْقَةُ (الجَبْرِيَّةِ) الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّ العَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ وَلَا اخْتِيَارٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كَالرِّيْشَةِ الَّتِيْ تُحَرِّكُهَا الرِّيْحُ بِغَيرِ اخْتِيَارِهَا. قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص113): (وَسُمُّوا (قَدَرِيَّةً) لِإِنْكَارِهِمُ القَدَرَ، وَكَذَلِكَ تُسَمَّى الجَبْرِيَّةُ المُحْتَجُّوْنَ بِالقَدَرِ قَدَرِيَّةً أَيْضًا، وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّائِفَةِ الأُوْلَى أَغْلَبُ). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4691) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (4442). (¬3) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (384/ 7). (¬4) قَالَ البَيهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (السُّنَنُ الكُبْرَى) (349/ 10): (إِنَّمَا سَمَّاهُمْ مَجُوْسًا لِمُضَاهَاةِ بَعْضِ مَا يَذْهَبُوْنَ إِلَيْهِ مَذَاهِبَ المَجُوْسِ فِي قَوْلِهِمْ بِالأَصْلَيْنِ - وَهُمَا النُّوْرُ وَالظُّلْمَةُ - يَزْعُمُوْنَ أَنَّ الخَيْرَ مِنْ فِعْلِ النُّوْرِ وَأَنَّ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ، فَصَارُوا ثَنَوِيَّةً، كَذَلِكَ القَدَرِيَّةُ يُضِيْفُوْنَ الخَيْرَ إِلَى اللهِ وَالشَّرَّ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالأَمْرَانِ مَعًا مُضَافَانِ إِلَيْهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا وَإِلَى الفَاعِلِيْنَ لَهُمَا مِنْ عِبَادِهِ فِعْلًا وَاكْتِسَابًا، هَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ الخَطَابِيِّ رَحِمَهُ اللهُ). قُلْتُ: وَهُمْ فِي الحَقِيقةِ فَاقُوا المَجُوْسَ فِي هَذِهِ البِدْعَةِ لِأَنَّهُم أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ كُثُر بِعَدَدِ العِبَادِ.

- الفرقة الثانية) الخوارج

- الفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ) الخَوَارِجُ: 1) تَعْرِيْفُهَا: هُمُ الَّذِيْنَ خَرَجُوا عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ فِي آخِرِ عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ ونتَجَ عَنْ خُرُوْجِهِم قَتْلُ عُثْمَانَ، ثُمَّ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زَادَ شَرُّهُم، وَانْشَقُّوا عَلَيْهِ، وَكَفَّرُوْهُ (¬1)، وَكَفَّرُوا الصَّحَابَةَ لِأَنَّهُم لَمْ يُوَافِقُوْهُم عَلَى مَذْهَبِهِم، وَهُمْ يَحْكُمُوْنَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُم فِي مَذْهَبِهِم أَنَّهُ كَافِرٌ. وَأَبْرَزُ دُعَاتِهَا هُمْ دُعَاةُ التَّكْفِيْرِ بِالكَبِيْرَةِ؛ وَالخُرُوْجِ عَلَى الوُلَاةِ (¬2) فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. 2) نَشْأَتُهَا: (أَوَّلُ البِدَعِ ظُهُوْرًا فِي الإِسْلَامِ؛ وَأَظْهَرُهَا ذَمًّا فِي السُّنَّةِ وَالآثَارِ: بِدْعَةُ الحَرُوْرِيَّةِ المَارِقَةِ؛ فَإِنَّ أَوَّلَهُمْ (¬3) قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَقَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ). (¬4) 3) أَبْرَزُ بِدَعِهَا: أ) عَدَمُ التِزَامِ جَمَاعَةِ المُسْلِميْنَ. ب) الخُرُوْجُ عَلَى وَلِي الأَمْرِ (¬5)، وَعَدَمُ طَاعَتِهِ. (¬6) جـ) التَّكْفِيْرُ بِالكَبَائِرِ؛ (¬7) وَأَنَّ صَاحِبَهَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ. ¬

_ (¬1) كَمَا أَنْشَدَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الخَارِجِيُّ فِي قَاتِل عَلِيٍّ، فَقَالَ: (يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوَانًا، إِنِّي لَأَذْكُرُهُ حِيْنًا فَأَحْسِبُهُ ... أَوْفَى البَريَّةِ عِنْدَ اللهِ مِيْزَانًا). أَفَادَهُ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السِّيَرِ (215/ 4) - عِنْدَ تَرْجَمَةِ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ-. قُلْتُ: وَقَدْ رَدَّ هَذِهِ الأَبْيَاتَ بَعْضُهُم، فَقَالَ: (يَا ضَرْبَةً مِنْ شَقِيٍّ لَمْ يَزَلْ أَبْدًا ... بِهَا عَلَيْهِ إِلَهُ الخَلْقِ غَضْبَانًا، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ اللهَ جَاعِلُهُ ... أَوْفَى البَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ خُسْرَانًا). وَقَالَ غَيْرُهُ: (يَا ضَرْبَةً مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ خُسْرَانًا، إِنِّي لَأَذْكُرُهُ حِيْنًا فَألْعَنُهُ ... لَعْنًا وَأَلْعَنُ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانًا). (¬2) أَيْ: بِسَبَبِ الفِسْقِ كَمَا سَبَقَ. (¬3) وَهُوَ ذُو الخُوَيْصِرَةِ التَّمِيْمِيُّ. كَمَا أَفَادَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (496/ 28). (¬4) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (71/ 19). (¬5) وَسَبَبُهُ عِنْدَهُم الفِسْقُ، قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (229/ 12): (وَأَمَّا الخُرُوْجُ عَلَيْهِم وَقِتَالُهُم - (أَيْ وُلَاةُ الأُمُوْرِ) - فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِيْنَ - وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِيْنَ -، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيْثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالفِسْقِ). (¬6) أَيْ عَدَمُ طَاعَةِ الإِمَامِ المُسْلِم إِذَا فَسَقَ، وَهَذَا القَوْلُ مَرْدُوْدٌ بِالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا الحَاكِمُ الكَافِرُ فَنَقُوْلُ: إِنَّهُ يُطَاعُ فِيْمَا هُوَ مِنَ المَعْرُوْفِ، كَأَنْظِمَةِ المُرُوْرِ وَقَوَانِيْنِ المُؤَسَّسَاتِ العَامَّةِ وَ .... مِمَّا هُوَ ظَاهِرُ فِي المَعْرُوْفِ وَالمَصْلَحَةِ العَامَّةِ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ. وَفِي فَتَاوَى الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ بْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ (119/ 7): (سُؤَالٌ: مَا حُكْمُ سَنِّ القَوَانِيْنِ الوَضْعِيَّةِ؟ وَهَلْ يَجُوْزُ العَمَلُ بِهَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُ الحَاكِمُ بِسَنِّهِ هَذِهِ القَوَانِيْنَ؟ جَوَابٌ: إِذَا كَانَ القَانُوْنُ يُوَافِقُ الشَّرْعَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يَسُنَّ قَانُوْنًا لِلطُّرُقِ يَنْفَعُ المُسْلِمِيْنَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِيْ تَنْفَعُ المُسْلِمِيْنَ - وَلَيْسَ فِيْهَا مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ - وَلَكِنْ لِتَسْهِيْلِ أُمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ فَلَا بَأْسَ بِهَا. أَمَّا القَوَانِيْنُ الَّتِيْ تُخَالِفُ الشَّرْعَ فَلَا يَجُوْزُ سَنُّهَا، فَإِذَا سَنَّ قَانُوْنًا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الزَّانِي، أَوْ لَا حَدَّ عَلَى السَّارِقِ، أَوْ لَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ الخَمْرِ، فَهَذَا قَاُنوْنٌ بَاطِلٌ، وَإِذَا اسْتَحَلَّهُ الوَالِي كَفَرَ؛ لِكِوْنِهِ اسْتَحَلَّ مَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالإِجْمَاعَ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ المُحَرَّمَاتِ المُجْمَعِ عَلَيْهَا فَهُوَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ. سُؤَالٌ: كَيْفَ نَتَعَامَلُ مَعَ هَذَا الوَالِي؟ جَوَابٌ: نُطِيْعُهُ فِي المَعْرُوْفِ وَلَيْسَ فِي المَعْصِيَةِ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِالبَدِيْلِ). (¬7) فِي حِيْنِ أَنَّ أَهْلَ السَّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ نَاقِصُ الإِيْمَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ). أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيْرِ (357/ 10). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2552): (جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ).

- الفرقة الثالثة) الشيعة (الرافضة)

- الفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ) الشِّيْعَةُ (الرَّافِضَةُ): 1) تَعْرِيْفُهَا: هُمُ الَّذِيْنَ يَتَشَيَّعُوْنَ لِأَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّشَيُّعُ فِي الأَصْلِ: الإِتِّبَاعُ وَالمُنَاصَرَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيْمَ} (الصَّافَّات:83). وَتَفَرَّقَتِ الشِّيْعَةُ إِلَى فِرَقٍ كَثِيْرَةٍ - بَعْضُهَا أَكْثَرُ ضَلَالًا مِنْ بَعْضٍ - مِنْهُم: (الزَّيْدِيَّةُ) (¬1)، وَ (الرَّافِضَةُ الإِثْنَا عَشَرِيَّة) (¬2)، وَ (الإِسْمَاعِيْلِيَّةُ) (¬3)، وَ (الفَاطِمِيَّةُ) (¬4) وَ (القَرَامِطَةُ) (¬5) وَ (النُّصَيْرِيَّةُ) (¬6)؛ ... عَدَدٌ كَبِيْرٌ، وَفِرَقٌ كَثِيْرَةٌ. 2) نَشْأَتُهَا: (أَصْلُ الرَّفْضِ إِنَّمَا أَحْدَثَهُ مُنَافِقٌ زِنْدِيْقٌ، قَصْدُهُ إِبْطَالُ دِيْنِ الإِسْلَامِ وَالقَدْحُ فِي الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ العُلَمَاءُ. فَإِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا أَظْهَرَ الإِسْلَامَ أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ دِيْنَ الإِسْلَامِ بِمَكْرِهِ وَخُبْثِهِ - كَمَا فَعَلَ بُولِسُ بِدِيْنِ النَّصْرَانِيَّةِ - فَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ الأَمْرَ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى سَعَى فِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عَلى الكُوْفَةِ أَظْهَرَ الغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ وَالنَّصْرَ لَهُ، لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَطَلَبَ قَتْلَهُ؛ فَهَرَبَ مِنْهُ). (¬7) 3) أَبْرَزُ بِدَعِهَا (¬8): أ) أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الوَصِيُ بَعْدَ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الخِلَافَةِ؛ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَالصَّحَابَةَ؛ ظَلَمُوا عَلِيًّا، وَاغْتَصَبُوا الخِلَافَةَ مِنْهُ. ب) كُفْرُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَدَدًا قَلِيْلًا مِنْهُم، وَصَارُوا يَلْعَنُوْنَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيُلَقِّبُونَهُمَا بِصَنَمَي قُرَيْشٍ. جـ) الغُلُوُّ فِي آلِ البَيْتِ (¬9)، وَإِعْطَائُهُم حَقَّ التَّشْرِيْعِ وَالنَّسْخِ. (¬10) ¬

_ (¬1) فِرْقَةٌ مِنَ الشِّيْعَةِ تُنْسَبُ إِلَى زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَمَذْهَبُهُم هُوَ السَّائِدُ فِي اليَمَنِ وَهُوَ حَصْرُ الإِمَامَةِ فِي أَوْلَادِ عَلِيٍ مِنْ فَاطِمَة. المُعْجَمُ الوَسِيْطُ (409/ 1). إِلَّا أَنَّ المَذْهَبَ الزَّيْدِيَّ فِي الفُرُوْعِ لَا يَخْرُجُ عَنْ إِطَارِ مَدَارِسِ الفِقْهِ الإِسْلَامِيِّ وَمَذَاهِبِهِ، وَمَوَاطِنُ الاخْتِلَافِ بَيْنَ الزَّيْدِيَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ الفُرُوْعِ لَا تَكَادُ تُذْكَرُ، وَلَكِنَّهُم افْتَرَقُوا عَنِ الشَّيْعَةِ الإِمَامِيَّةِ بِأَشْيَاءَ كَثِيْرَةٍ أَهَمُّهَا: أَنَّهُم يُقِرُّوْنَ بِخِلَافَةِ أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَلَا يَلْعَنُوْنَهُمَا كَمَا تَفْعَلُ فِرَقُ الشِّيْعَةِ، وَيُخَالِفُوْنَ الشِّيْعَةَ فِي زَوَاجِ المُتْعَةِ وَيَسْتَنْكِرُونَهُ، وَلَا يَقُوْلُوْنَ بِالغُلُوِّ فِي الأَئِمَّةِ. (¬2) يَقُوْلُوْنَ بِاثْنَي عَشَرَ إِمَامًا أَوَّلُهُم عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ وَآخِرُهُم الإِمَامُ المُنْتَظَرُ. المُعْجَمُ الوَسِيْطُ (101/ 1). وَمِنْ جُمْلَةِ بِدَعِهِم: (الإِمَامَةُ وَالعِصْمَةُ وَالعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ وَالغَيْبَةُ والرَّجْعَةُ وَالتَّقِيَّةُ وَالمُتْعَةُ وَالبَرَاءَةُ وَنَقْصُ المُصْحَفِ وَالنِّيَاحَةُ وَالعَزَاءُ فِي عَاشُوْرَاء). (¬3) فِرْقَةٌ مِنَ البَاطِنِيَّةِ مَنْسُوْبَةٌ لِاسْمَاعِيْلَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، يَعْتَقِدُوْنَ بِإِسْقَاطِ التَّكَالِيْفِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَأَنَّ ذَاتَ اللهِ لَا تَقُوْمُ بِهَا صِفَاتٌ. مُعْجَمُ لُغَةِ الفُقَهَاءِ لِلقَلْعَجِيِّ (ص18). وَ (الدَّرْزِيَّةُ): طَائِفَةٌ مِنَ الإِسْمَاعِيْلِيَّةِ يُقَدِّسُوْنَ الحَاكِمَ بِأَمْرِ اللهِ الفَاطِمِيِّ، يُنْسَبُوْنَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ؛ عَبْدِ اللهِ الدَّرْزِيِّ. المُعْجَمُ الوَسِيْطُ (279/ 1). (¬4) الدَّوْلَةُ الفَاطِمِيَّةُ: دَوْلَةٌ يَزْعُمُ خُلَفَاؤُهَا أَنَّهُم يَنْتَسِبُوْنَ إِلَى السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ. (¬5) نَشَأَتْ بِالعِرَاقِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ وَمائَتَيْنِ لِلهِجْرَةِ، وَمِنْ مَبَادِئِهَا: الإِبَاحِيَّةُ. مُعْجَمُ لُغَةِ الفُقَهَاءِ لِلقَلْعَجِيِّ (ص360). (¬6) فِرْقَةٌ مِنْ غُلَاةِ الشِّيْعَةِ، يَقُوْلُوْنَ بِأُلُوْهِيَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ؛ وَبِتَنَاسُخِ الأَرْوَاحِ؛ وَبِإِنْكَارِ اليَوْمِ الآخِرِ، وَيُعْرَفُونَ اليَوْمَ بِاسْمِ (العَلَوِيِّيْنَ)، وُهُوَ الاسْمُ الَّذِيْ أَطْلَقُوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِم إِبَّانَ الحُكْمِ الفَرَنْسِيِّ لِسُوْرِيَّا فِي النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ القَرْنِ العِشْرِيْن، وَيَسْكُنُوْنَ الجُزْءَ الشَّمَالِيَّ الغَرْبِيَّ مِنْ سُوْرِيَّا. مُعْجَمُ لُغَةِ الفُقَهَاءِ لِلقَلْعَجِيِّ (ص481). (¬7) شَرْحُ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ لِابْنِ أَبي العِزِّ الحَنَفِيِّ (ص490). (¬8) بِالنِّسْبَةِ لِفِرْقَةِ الرَّافِضَةِ الإِمَامِيَّةِ. (¬9) وَكَثِيْرٌ مِنْهُم يُقَدِّمُوْنَ لَهُم أَلْوَانًا مِنَ العِبَادَاتِ كَالطَّوَافِ بِقُبُوْرِهِم، وَالاسْتِغَاثَةِ بِهِم؛ بَل وَالسُّجُوْدِ لَهُم عِنْدَ قُبُوْرِهِم. (¬10) فَائِدَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (2223) - فِي مَعْرِضِ بَيَان قَبُوْلِ رِوَايَةِ الشِّيْعِيِّ بِتَفْصِيْلٍ -: (وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّشَيُّعِ بُغْضُ الشَّيْخَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ التَّفْضِيْلِ).

- الفرقة الرابعة) الجهمية

- الفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ) الجَهْمِيَّةُ: 1) تَعْرِيْفُهَا: (هُمْ نُفَاةُ صِفَاتِ اللهِ؛ المُتَّبِعُوْنَ لِلصَّابِئَةِ الضَّالَّةِ). (¬1) 2) نَشْأَتُهَا: (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ المَقَالَةَ فِي الإِسْلَامِ - أَعْنِي أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ عَلَى العَرْشِ حَقِيْقَةً وَأَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَنَحْوَ ذَلِكَ - هُوَ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ (¬2) وَأَخَذَهَا عَنْهُ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ؛ وَأَظْهَرَهَا فَنُسِبَتْ مُقَالَةُ الجَهْمِيَّةِ إلَيْهِ). (¬3) وَانْشَقَّ عَنْهَا مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وَمَذْهَبُ الأَشَاعِرَةِ وَمَذْهَبُ المَاتُرِيْدِيَّةِ. وَ (المُعْتَزِلَةُ: مِنَ القَدَرِيَّةِ، زَعَمُوا أَنَّهُم اعْتَزَلوا فِئَتَيِ الضَّلَالَةِ عِنْدَهُم: أَهْلَ السُّنَّةِ، وَالخَوَارِجَ. أَوْ سَمَّاهُم بِهِ الحَسَنُ (البَصْرِيُّ) لَمَّا اعْتَزَلَهُ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أُسْطُوَانَةٍ مِنْ أُسْطُوَانَاتِ المَسْجِدِ؛ وَشَرَعَ يُقَرِّرُ القَوْلَ بِالمَنْزِلَةِ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ، وَأَنَّ صَاحِبَ الكَبِيْرَةِ لَا مُؤْمِنٌ مُطْلَقٌ وَلَا كَافِرٌ مُطْلَقٌ؛ بَلْ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ). (¬4) وَهُمْ يُثْبِتُوْنَ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى مُجَرَّدَةً عَنِ الصِّفَاتِ وَالمَعَانِي، فَيَجْعَلُوْنَهَا أَعْلَامًا مَحْضَةً. ¬

_ (¬1) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (358/ 12). وَقَالَ فِي المُعْجَمُ الوَسِيْطُ (144/ 1): (الجَهْمِيَّةُ: طَائِفَةٌ مِنَ الخَوَارِجِ مِنَ المُرْجِئَةِ). وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَذْكِرَةُ الحُفَّاظِ) (191/ 1): (وَفي هَذَا الزَّمَانِ (أَي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ التَّابِعِيْنَ) ظَهَرَ بِالبَصْرَةِ عَمْرو بْنُ عُبَيْدٍ العَابِدُ, وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الغَزَّالُ, وَدَعَوا النَّاسَ إِلَى الاعْتِزَالِ وَالقَوْلِ بِالقَدَرِ, وَظَهَرَ بِخُرَاسَان الجَهْمُ بْنُ صَفْوَان وَدَعَا إِلَى تَعْطِيْلِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَخَلْقِ القُرْآنِ). (¬2) قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص522): (وَالجَهْمِيَّةُ: هُمُ المُنْتَسِبُوْنَ إِلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَهُوَ الَّذِيْ أَظْهَرَ نَفْيَ الصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيْلَ، وَهُوَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ الَّذِيْ ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ القَسْرِيُّ بِوَاسِطَ، فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي يَوْمِ عِيْدِ الأَضْحَى، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوْسَى تَكْلِيْمًا - تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُوْلُ الجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيْرًا - ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْتَاءِ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى. وَكَانَ الجَهْمُ بَعْدَهُ بِخُرَاسَانَ، فَأَظْهَرَ مَقَالَتَهُ هُنَاكَ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهَا نَاسٌ؛ بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا شَكًّا فِي رَبِّهِ! وَكَانَ ذَلِكَ لِمُنَاظَرَتِهِ قَوْمًا مِنَ المُشْرِكِيْنَ، يُقَالُ لَهُمُ السُّمَنِيَّةُ - مِنْ فَلَاسِفَةِ الهِنْدِ الَّذِيْنَ يُنْكِرُونَ مِنَ العِلْمِ مَا سِوَى الحِسِّيَّاتِ - قَالُوا لَهُ: هَذَا رَبُّكَ الَّذِيْ تَعْبُدُهُ؛ هَلْ يُرَى أَوْ يُشَمُّ أَوْ يُذَاقُ أَوْ يُلْمَسُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالُوا: هُوَ مَعْدُومٌ!! فَبَقِيَ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا لَا يَعْبُدُ شَيْئًا، ثُمَّ لَمَّا خَلَا قَلْبُهُ مِنْ مَعْبُوْدٍ يُؤَلِّهُهُ، نَقَشَ الشَّيْطَانُ اعْتِقَادًا نَحَتَهُ فِكْرُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ الوُجُوْدُ المُطْلَقُ!! وَنَفَى جَمِيْعَ الصِّفَاتِ، وَاتَّصَلَ بِالجَعْدِ). (¬3) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (20/ 5). وَتَتِمَّةُ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قِيْلَ: إنَّ الجَعْدَ أَخَذَ مَقَالَتَهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ سَمْعَانَ، وَأَخَذَهَا أَبَانُ عَنْ طَالُوْتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيْدِ بْنِ الأَعْصَمِ، وَأَخَذَهَا طَالُوْتُ مِنْ لَبِيْدِ بْنِ الأَعْصَمِ اليَهُوْدِيِّ السَّاحِرِ - الَّذِيْ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ هَذَا - فِيْمَا قِيْلَ - مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَكَانَ فِيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيْرٌ مِنَ الصَّابِئَةِ وَالفَلَاسِفَةِ - بَقَايَا أَهْلِ دِيْنِ نُمْرُوْدَ وَالكَنْعَانِيِّيْنَ الَّذِيْنَ صَنَّفَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِيْنَ فِي سِحْرِهِمْ - وَنُمْرُوْدُ هُوَ مَلِكُ الصَّابِئَةِ الكَلْدَانِيِّينَ المُشْرِكِيْنَ، كَمَا أَنَّ كِسْرَى مَلِكُ الفُرْسِ وَالمَجُوْسِ، وَفِرْعَوْنَ مَلِكُ مِصْرَ، وَالنَّجَاشِيَّ مَلِكُ الحَبَشَةِ، وَبَطْلَيْمُوْسَ مَلِكُ اليُونَانِ، وَقَيْصَرَ مَلِكُ الرُّومِ، فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لَا اسْمَ عَلَمٍ، فَكَانَتْ الصَّابِئَةُ - إِلَّا قَلِيْلًا مِنْهُمْ - إذْ ذَاكَ عَلَى الشِّرْكِ وَعُلَمَاؤُهُمْ هُمُ الفَلَاسِفَةُ، وَإِنْ كَانَ الصَّابِئُ قَدْ لَا يَكُوْنُ مُشْرِكًا؛ بَلْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَالَّذِيْنَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِيْنَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُوْنَ} (البَقَرَة:62)، وَقَالَ: {إنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَالَّذِيْنَ هَادُوا وَالصَّابِئُوْنَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُوْنَ} (المَائِدَة:69). لَكِنَّ كَثِيْرًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِيْنَ؛ كَمَا أَنَّ كَثِيْرًا مِنَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَصَارُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِيْنَ فَأُوْلَئِكَ الصَّابِئُوْنَ - الَّذِيْنَ كَانُوا إذْ ذَاكَ - كَانُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِيْنَ وَكَانُوا يَعْبُدُوْنَ الكَوَاكِبَ وَيَبْنُوْنَ لَهَا الهَيَاكِلَ). (¬4) قَالَهُ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص1031).

وَأُصُوْلُ المُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ: أ- التَّوْحِيْدُ: وَهُوَ - عِنْدَهُم - نَفْيُ المُمَاثَلَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهِ فَتُنْفى الصِّفَاتُ عَنِ اللهِ تَعَالَى!! فَالصِّفَاتُ الإِلَهِيَّةُ المَقْصُوْدُ بِهَا - عِنْدَهُم - نَفْسُ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الذَّاتِ عِنْدَهُم!! ب- العَدْلُ: يَقُوْلُوْنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الفَسَادَ - وَهُوَ صَحِيْحٌ بِهَذَا القَدْرِ -؛ لَكِنَّهُم يَبْنُوْنَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ بَلْ جَعَلَ لَهُم قُدْرَةً يَخْلِقُوْنَ بِهَا أَفْعَالَهُم. ج- إِنْفَاذُ الوَعِيْدِ: بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْعَدَ المُرْتَكِبَ لِلكَبِيْرَةِ بِالنَّارِ؛ فَسَيَخْلُدُ فِيْهَا حَتْمًا وَلَا يَجْعَلُوْنَ عِقَابَهُ تَحْتَ المَشِيْئَةِ، فَلَا يُغْفَرُ لَهُ - عِنْدَهُم - إِلَّا إِنْ تَابَ مِنْهَا. (¬1) د- المَنْزِلَةُ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ: وَتَعْنِي أَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيْرَةِ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الإِيْمَانِ وَالكُفْرِ؛ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ. هـ- الأَمْرُ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ: فَيَقُوْلُوْنَ بِوُجُوْبِ الخُرُوْجِ عَلَى الحَاكِمِ إِذَا خَالَفَ وَانْحَرَفَ عَنِ الحَقِّ. (¬2) - أَمَّا الأَشَاعِرَةُ (¬3): فَيُنْسَبُوْنَ إِلَى أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بُطْلَانُ مَذْهَبِهِم وَصَارَ إِلَى مَذْهَبِ الكُلاَّبِيَّةِ؛ أَتْبَاعِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيْدٍ بْنِ كُلاَّب - وَالَّذِيْ كَانَ يُثبِتُ سَبْعَ صِفَاتٍ، وَيَنْفِي مَا عَدَاهَا (¬4) - ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَى أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَ الكُلاَّبِيَّةِ وَرَجَعَ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَقَوْلِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل رَحِمَهُ اللهُ. (¬5) وَلِكنَّ أَتْبَاعَهُ بَقَوا عَلَى مَذْهَبِ الكُلَّابيَّةِ؛ فَغَالِبُهُم لَا يَزَالُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ الثَّانِي، وَلِذَلِكَ يُسَمَّوْنَ بِالأَشْعَرِيَّةِ؛ نِسْبَةً إِلَى الأَشْعَرِيِّ فِي مَذْهَبِهِ الأَوَّلِ - قَبْلَ مَذْهَبِ السَّلَفِ -. (¬6) 3) أَبْرَزُ بِدَعِهَا (أَيْ الجَهْمِيَّة): أ) نَفيُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ اللهِ تَعَالَى. (¬7) ب) أَنَّ العَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَشِيْئَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى أَفْعَالِهِ. جـ) أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوْقٌ. د) أَنَّ العَمَلَ لَيْسَ مِنَ الإِيْمَانِ؛ فَهُمْ مُرْجِئَةٌ. (¬8) ¬

_ (¬1) قُلْتُ: وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ وَعَدَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا، فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا، فَهُوَ فِيْهِ بِالخِيَارِ). صَحِيْحٌ. أَبُو يَعْلَى (3316) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (2463). (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (229/ 12): (وَأَمَّا الخُرُوْجُ عَلَيْهِم وَقِتَالُهُم (أَي وُلَاةُ الأُمُوْرِ) فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِيْنَ - وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِيْنَ -، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيْثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالفِسْقِ). (¬3) وَقَرِيْبٌ مِنْهَا المَاتُرِيْدِيَّةُ؛ المَنْسُوْبُوْنَ إِلَى أَبي مَنْصُوْرٍ المَاتُرِيْدِيِّ الحَنَفيِّ (ت 333 هـ). (¬4) بِدَعْوَى أَنَّ العَقْلَ لَا يَدُلُّ إِلَا عَلَى سَبْعِ صِفَاتٍ فَقَط، وَهِيَ: العِلْمُ وَالقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالكَلَامُ (النَّفْسِيُّ) وَالحَيَاةُ. (¬5) قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السِّيَرِ (85/ 15): ((عَلِيُّ بنُ إِسْمَاعِيْلَ بْنِ إِسْحَاقَ: العَلاَّمَةُ؛ إِمَامُ المُتَكَلِّمِين؛ .. وَلَمَّا بَرَعَ فِي مَعْرِفَةِ الاعْتِزَالِ، كَرِهَهُ وَتبرَّأَ مِنْهُ، وَصَعِدَ لِلنَّاسِ، فتَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، ثُمَّ أَخَذَ يَرُدُّ عَلَى المُعْتَزِلَة، وَيَهْتِكُ عِوَارَهُم. قَالَ الفَقِيْهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَتِ المُعْتَزِلَةُ قَدْ رَفَعُوا رُؤُوْسَهُم؛ حَتَّى نَشَأَ الأَشْعَرِيُّ فَحَجَرَهُم فِي أَقمَاع السِّمْسِمِ. وَعَنِ ابْنِ البَاقلَانِيِّ قَالَ: أَفْضَلُ أَحْوَالِي أَنْ أَفهَمَ كَلَامَ الأَشْعَرِيِّ. قُلْتُ: رَأَيْتُ لأَبِي الحَسَنَ أَرْبَعَةَ توَالِيْف فِي الأُصُوْلِ يَذْكُرُ فِيْهَا قوَاعِدَ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الصِّفَاتِ، وَقَالَ فِيْهَا: (تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ). ثُمَّ قَالَ: (وَبِذَلِكَ أَقُوْلُ، وَبِهِ أَدِيْنُ، وَلَا تُؤوَّلُ)). (ت 324 هـ)). (¬6) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (طَبَقَاتُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ) (210/ 1): (ذَكَرُوا لِلشَّيْخِ أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، أَوَّلُهَا: حَالُ الاعْتِزَالِ الَّتِيْ رَجَعَ عَنْهَا لَا مَحَالَةَ. وَالحَالُ الثَّانِي: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ العَقْلِيَّةِ السَّبْعَةِ، وَهِيَ: الحَيَاةُ وَالعِلْمُ وَالقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالكَلَامُ، وَتَأْوِيْلُ الخَبَرِيَّةِ كَالوَجْهِ وَاليَدِيْنِ وَالقَدَمِ وَالسَّاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالحَالُ الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيْفٍ وَلَا تَشْبِيْهٍ، جَرْيًا عَلَى مِنْوَالِ السَّلَفِ، وَهِيَ طَرِيْقَتُهُ فِي الإِبَانَةِ الَّتِيْ صَنَّفَهَا آخِرًا؛ وَشَرَحَهَا القَاضِي البَاقِلَّانِيُّ، وَنَقَلَهَا الحَافِظُ أَبُو القَاسِمِ بْنُ عَسَاكِر، وَهِيَ الَّتِيْ مَالَ إِلَيْهَا البَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ (ـهِ) المُتَقَدِّمِيْنَ فِي أَوَاخِرِ قَوْلِهِم. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬7) لِأَنَّ إِثْبَاتَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ - بِزَعْمِهِم - يَقْتَضِي الشِّرْكَ وَتَعَدُّدَ الآلِهَةِ، وَيَقتَضِي أَيْضًا التَّشْبِيْهَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يُوْجَدُ مِثْلُهَا فِي المَخْلُوْقَاتِ. (¬8) قَالَ ابْنُ أَبي العِزِّ الحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص332): (ذَهَبَ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَبُو الحَسَنِ الصَّالِحِيُّ - أَحَدُ رُؤُوْسِ القَدَرِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الإِيْمَانَ هُوَ المَعْرِفَةُ بِالقَلْبِ! وَهَذَا القَوْلُ أَظْهَرُ فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ! فَإِنَّ لَازِمَهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَانُوا مُؤْمِنِيْنَ، فَإِنَّهُم عَرَفُوا صِدْقَ مُوْسَى وَهَارُوْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ مُوْسَى لِفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} (الإِسْرَاء:102)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِيْنَ} (النَّمْل:14)).

باب ما جاء في المصورين

بَابُ مَا جَاءَ فِي المُصَوِّرِيْنَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؛ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيْرَةً). أَخْرَجَاهُ. (¬1) وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِيْنَ يُضَاهِئُوْنَ بِخَلْقِ اللهِ). (¬2) وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُوْرَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ). (¬3) وَلَهُمَا عَنْهُ مَرْفُوْعًا: (مَنْ صَوَّرَ صُوْرَةً فِي الدُّنْيَا؛ كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيْهَا الرُّوْحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ). (¬4) وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ؛ قَالَ: (قَالَ لِي عَلِيٌّ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَّا تَدَعَ صُوْرَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛ إِلَّا سَوَّيْتَهُ). (¬5) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: التَّغْلِيْظُ الشَّدِيْدُ فِي المُصَوِّرِيْنَ. الثَّانِيَةُ: التَّنْبِيْهُ عَلَى العِلَّةِ، وَهُوَ تَرْكُ الأَدَبِ مَعَ اللهِ؛ لِقَوْلِهِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي). الثَّالِثَةُ: التَّنْبِيْهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ (فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ شَعِيْرَةً). الرَّابِعَةُ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا. الخَامِسَةُ: أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ بِعَدَدِ كُلِّ صُوْرَةٍ نَفْسًا يُعَذَّبُ بِهَا المُصَوِّرُ فِي جَهَنَّمَ. السَّادِسَةُ: أَنَّهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِيْهَا الرُّوْحَ. السَّابِعَةُ: الأَمْرُ بِطَمْسِهَا إِذَا وُجِدَتْ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (5953)، وَمُسْلِمٌ (2111). (¬2) البُخَارِيُّ (5954)، وَمُسْلِمٌ (2107). (¬3) البُخَارِيُّ (2225) بِلَفْظٍ قَرِيْبٍ، وَمُسْلِمٌ (2110)، وَالحَدِيْثُ فِي مُسْلِمٍ بِلَفْظِ البِنَاءِ لِلفَاعِلِ (يَجْعَلُ لَهُ)، وَأَمَّا بِلَفْظِ المُصَنِّفِ فَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ (2810). (¬4) البُخَارِيُّ (2225)، وَمُسْلِمٌ (2110). (¬5) مُسْلِمٌ (969).

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) أَنَّ التَّصْوِيْرَ فِيْهِ تَرْكٌ لِلأَدَبِ مَعَ اللهِ تَعَالَى حَيْثُ جَعَلَ المُصَوِّرُ نَفْسَهُ مُضَاهِيًا للهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الخَلْقِ، كَمَا فِي قَوْلِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (التَّنْبِيْهُ عَلَى العِلَّةِ؛ وَهُوَ تَرْكُ الأَدَبِ مَعَ اللهِ؛ لِقَوْلِهِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي)). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِيْنَ يُؤْذُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ} (الأَحْزَاب:58): نَزَلَتْ فِي المُصَوِّرِيْنَ). (¬2) 2) أَنَّ التَّصْوِيْرَ هُوَ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ، كَمَا فِي الصَّحِيْحِ عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيْسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، وَمَا فِيْهَا مِنْ الصُّوَرِ، فَقَالَ: (أُوْلَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ؛ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوْا فِيْهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ). (¬3) - قَوْلُهُ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي): (مَنْ): اسْمُ اسْتِفْهَامٍ؛ وَالمُرَادُ بِهِ النَّفْيُ; أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْي المَحْضِ. - قَوْلُهُ (يَخْلُقُ كَخَلْقِي): (الخَلْقُ): يُقْصَدُ بِهِ أَحَدُ مَعْنَيَيْنِ: التَّقْدِيْرُ، وَالفِعْلُ. وَالأَخِيْرُ هُوَ المَقْصُوْدُ هُنَا. وَفِيْهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ صِفَةِ الخَلْقِ عَلَى غَيْرِ اللهِ، وَلَكِنَّ الخَلْقَ مِنَ العَبْدِ هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيْرِ وَلَيْسَ بَمَعْنَى الإِيْجَادِ مِنَ العَدَمِ، هَذَا مَعَ الفَارِقِ بَيْنَ أَنَّ خَلْقَ اللهِ تَامٌّ؛ وَخَلْقَ العَبْدِ وَتَصْوِيْرَهُ نَاقِصٌ، فَهُوَ خَالٍ مِنَ الحَيَاةِ؛ سَوَاءً كَانَ المُصَوَّرُ ذَا رَوْحٌ أَوْ لَا. (¬4) - قَوْلُهُ (فَلْيَخْلُقُوا): اللَّامُ لِلأَمْرِ، وَلَكِنَّ المُرَادَ بِهِ التَّحَدِّي وَالتَّعْجِيْزُ. - قَوْلُهُ (فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً): الذَّرَّةُ: وَاحِدَةُ الذَّرِّ، وَهِيَ النَّمْلُ الصِّغَارُ. - قَوْلُهُ (أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً): (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ; حَيْثُ انْتَقَلَ مِنَ التَّحَدِّي بِخَلْقِ الحَيَوَانِ ذِي الرُّوْحِ إِلَى خَلْقِ الحَبَّةِ الَّتِيْ لَيْسَ لَهَا رَوْحٌ. - قَوْلُهُ (الَّذِيْنَ يُضَاهِئُوْنَ بِخَلْقِ اللهِ): (يُضَاهِئُوْنَ) أَيْ: يُشَابِهُوْنَ اللهَ فِي خَلْقِهِ وَفِعْلِهِ، يَعْنِي: أَنَّهُم يُصَوِّرُوْنَ الصُّوَرَ الَّتِيْ خَلَقَهَا اللهُ جَلَّ وَعَلَا - وَلَيْسَ للهِ مَثِيْلٌ فِي الخَلْقِ، وَلَيْسَ لَهُ نَظِيْرٌ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ -، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُم أَسَاءُوا الأَدَبَ مِعَ اللهِ تَعَالَى، وَجَعَلُوا أَنْفُسَهُم بِمَنْزِلَةِ المُشَارِكِ للهِ جَلَّ وَعَلَا فِي صِفَةِ الخَلْقِ والتَّصْوِيْرِ - تَعَالَى اللهُ وَتَقَدَّسَ -. - قَوْلُهُ (يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُوْرَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ): أَيْ أَنَّ عَذَابَهُ كَثِيْرٌ بِعَدَدِ الصُّوَرِ الَّتِيْ صَوَّرَهَا، فَيُكَلَّفُ أَنْ يَخْلُقَ الصُوْرَةَ الَّتِيْ صَوَّرَهَا وَيَجْعَلَ فِيْهَا الرُّوْحَ حَتَّى تَكُوْنَ حَيَّةً مِثْلَ الصُوْرَةِ الَّتِيْ تُضَاهِيْهَا وَتُشَابِهُهَا، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، وَتَكْلِيْفُهُ لَا يَنْقَطِعُ؛ فَيَسْتَمِرُّ عَذَابُهُ. - (أَبُو الهَيَّاجِ): هُوَ حَيَّانُ بْنُ حُصَيْنٍ الأَسَدِيُّ الكُوْفِيُّ، ثِقَةٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الوُسْطَى مِنَ التَّابِعِيْنَ، (ت 80 هـ). ¬

_ (¬1) (480/ 6). (¬2) قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ رَسُوْلَنَا الكَرِيْمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجِدُ لَهُ صُوْرَةً وَاحِدَةً - لَا مَرْسُوْمَةً عَلى وَرَقٍ؛ وَلَا مَنْقُوْشَةً عَلَى حَائِطٍ -؛ بَلْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، بَلْ وَلَا عَنِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ رُسُوْمًا وَنُقُوْشًا لِلفَرَاعِنَةِ - وَهُمْ قَبْلَهُم بِمِئَاتِ بَلْ بِآلَافِ السَّنَوَاتِ -، فَمَا وَجْهُ ذَلِكَ إِنْ كُنْتُم تَعْقِلُوْنَ!! (¬3) البُخَارِيُّ (434). (¬4) قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَاريِّ (692/ 2): (وَمُرَادُ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ نِسْبَةُ الخَلْقِ إِلَيْهِم فِعْلًا لَهُمْ حَقِيْقَةً؛ مَعَ أَنَّهُم مَخْلُوْقُوْنَ للهِ تَعَالَى، فَاللهُ خَالِقُهُم وَخَالِقُ أَفْعَالِهِم، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُم فَاعِلِيْنَ قَادِرِيْنَ عَلَى فِعْلِهِم بِاخْتِيَارِهِم وَقُدْرَتِهِم الَّتِيْ خَلَقَهَا اللهُ فِيْهِم، وَلِهَذَا عَذَّبَهُم عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُمْ حَقِيْقَةً مَا عُذِّبُوا عَلَيْهِ).

- قَوْلُهُ (أَلَّا تَدَعَ صُوْرَة إِلَّا طَمَسْتَهَا): (الصُوْرَةُ) هُنَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي فَتَعُمُّ، وَجُمْهُوْرُ أَهْلِ العِلْمِ - وَهُوَ الصَّوَابُ - عَلَى أَنَّ المُحَرَّمَ هُوَ صُوَرُ الحَيَوَانِ فَقَط; لِمَا وَرَدَ فِي الحَدِيْثِ (فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِيْ فِي البَيْتِ يُقْطَعُ؛ فَيَصِيْرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ). (¬1) - الطَّمْسُ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الصُوْرَةِ، فَمَا كَانَ مُلَوَّنًا فَطَمْسُهُ يَكُوْنُ بِوَضْعِ لَوْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مَنْحُوتًا يَكُوْنُ بِالنَّحْتِ فَوْقَهُ، وَمَا كَانَ مُجَسَّمًا فَإِنَّهُ يُكْسَرُ رَأْسُهُ. (¬2) - لَمْ يُفَرِّقِ الحَدِيْثُ بَينَ مَا كَانَ يُعْبَدُ مَنْ دُوْنِ اللهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَا بَيْنَ مَا كَانَ مُمْتَهَنًا وَبَيْنَ غِيْرِهِ، وَلَا يَقَعُ الاسْتِثْنَاءُ فِي الحَدِيْثِ إِلَّا وُفْقَ مَا اسْتَثْنَاهُ غَيْرُهُ مِنَ النُّصُوْصِ. (¬3) - قَوْلُهُ (وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛ إِلَّا سَوَّيْتَهُ): أَيْ: سَوَّيْتَهُ بِمَا حَوْلَهُ مِنَ القُبُوْرِ، أَوْ جَعَلْتَهُ حَسَنًا عَلَى مَا تَقْتَضِيْهِ الشَّرِيْعَةُ. وَلَيْسَ المَعْنَى أَنْ تُسَوِّيَهُ بِالأَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ. (¬4) - مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ القَبْرِ المُشْرِفِ مَعَ الصُّوَرِ: أَنَّ كِلَاهُمَا قدْ يُتَّخَذُ وَسِيْلَةً إِلَى الشِّرْكِ، فَإِنَّ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي قَوْمِ نُوْحٍ أَنَّهُم صَوَّرُوْا صُوَرَ رِجَالٍ صَالِحِيْنَ؛ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ عَبَدُوْهَا، وَكَذَلِكَ القُبُوْرُ المُشْرِفَةُ قَدْ يَزْدَادُ فِيْهَا الغُلُوُّ حَتَّى تُجْعَلَ أَوْثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (356). وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ (أَتَانِي جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لِي: أَتَيْتُكَ البَارِحَةَ؛ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُوْنَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى البَابِ تَمَاثِيْلُ، وَكَانَ فِي البَيْتِ قِرَامَي سِتْرٍ فِيْهِ تَمَاثِيْلُ، وَكَانَ فِي البَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِيْ فِي البَيْتِ يُقْطَعُ فَيَصِيْرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ؛ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ تُوْطَآنِ، وَمُرْ بِالكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الفَوْزَانُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (373/ 2): (وَلَيْسَ مَعْنَى طَمْسِ الصُوْرَةِ - كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الجُهَّالِ أَوِ المُتَحَيِّلِيْنَ - أَنَّهُ يَجْعَلُ خَطًّا فِي عُنُقِ الصُوْرَةِ فَيُصْبِحَ كَالطَّوْقِ! لِأَنَّ الطَّمْسَ أَنْ تُزِيْلَ الرَّأْسَ إِمَّا بِقَطْعِهِ، وَإِمَّا بِتَلْطِيْخِهِ وَإِخْفَائِهِ تَمَامًا). وَأَمَّا الصُّوَرُ الَّتِيْ فِي الجَرَائِدِ وَالمَجَلَّاتِ، فَقَالُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (450/ 2): (الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الصُّوَرَ فِيْهَا غَيْرُ مَقْصُوْدَةٍ، لَكِنْ إِنْ أَمْكَنَ طَمْسُهَا بِلَا حَرَجٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، فَهِوَ أَوْلَى). (¬3) كَتَصْوِيْرِ مَا فِيْهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَمَا لَيْسَ لَهُ رَوْحٌ، وَمَا كَانَ مُمْتَهَنًا - عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ، وَسَيَأْتِي فِي المُلْحَقِ التَّالِي لِلبَابِ ذِكْرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى -. (¬4) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (102/ 2) - بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: (أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا). قُلْتُ: وَسُفْيَانُ هَذَا هُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْنَ؛ كَمَا فِي كِتَابِ (فَتْحُ البَارِي) (257/ 3) لِابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ. وَأَيْضًا كَمَا فِي حَدِيْثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْحِدَ لَهُ لَحْدٌ، وَنُصِبَ اللَّبِنُ نَصْبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الأَرْضِ نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (6635)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (576/ 3). وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. أَفَادَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ) (ص153). وَفِي التِّرْمِذِيِّ (358/ 2) عَقِبَ حَدِيْثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (ولَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ)؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (أَكْرَهُ أَنْ يُرْفَعَ القَبْرُ إِلَّا بِقَدْرِ مَا نَعْرِفُ أَنَّه قَبْرٌ لِكَي لَا يُوْطَأَ وَلَا يُجْلَسَ عَلَيْهِ).

- عُقُوْبَةُ المُصَوِّرِ: 1) أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا. 2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ فِي كُلِّ صُوْرَة نَفْسًا يُعَذَّبُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ. 3) أَنَّهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِيْهَا الرُّوْحَ - وَلَيْسَ بِنَافِخٍ -. 4) أَنَّهُ فِي النَّارِ، وَفِي الحَدِيْثِ (يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُوْلُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيْدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالمُصَوِّرِيْنَ). (¬1) 5) أَنَّهُ مَلْعُونٌ؛ كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الكَلْبِ وَكَسْبِ البَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ وَالمُصَوِّرَ). (¬2) - حُكْمُ التَصْوِيْر: أَنَّهُ كَبِيْرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَقَدْ يَكُوْنُ كُفْرًا أَكْبَرًا مُخْرِجًا مِنَ المِلَّةِ. وَذَلِكَ فِي حَالَتَينِ ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (¬3) فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (قَوْلُهُ (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا): قِيْلَ: هِيَ مَحْمُوْلَةٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ الصُوْرَةَ لِتُعْبَدَ - وَهُوَ صَانِعُ الأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا - فَهَذَا كَافِرٌ، وَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا، وَقِيْلَ: هِيَ فِيْمَنْ قَصَدَ المَعْنَى الَّذِيْ فِي الحَدِيْثِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِرٌ؛ لَهُ مِنْ أَشَدّ العَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ، وَيَزِيْدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا العِبَادَةَ وَلَا المُضَاهَاةَ؛ فَهُوَ فَاسِقٌ صَاحِبُ ذَنْبٍ كَبِيْرٍ، وَلَا يَكْفُرُ كَسَائِرِ المَعَاصِي). (¬4) (¬5) - فَائِدَة 1) فِي الحَدِيْثِ (الصُوْرَةُ الرَّأْسُ، فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلَا صُوْرَةَ). (¬6) وَعَلَيْهِ فَلَوْ صُوِّرَ شَيْءٌ مِنَ الجَسَدِ بِلَا رَأْسٍ جَازَ، بِخِلَافِ تَصْوِيْرِ الرَّأْسِ وَحْدَهُ دُوْنَ جَسَدٍ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَنْهِيًّا عَنْهُ لِدِلَالَةِ الحَدِيْثِ. (¬7) وَيُقْصَدُ أَحْيَانًا بِالصُوْرَةِ الوَجْهُ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَّمَ الصُوْرَةُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: (نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ). (¬8) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2574) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (512). (¬2) البُخَارِيُّ (5962). (¬3) شَرْحُ مُسْلِمٍ (91/ 14). (¬4) قَالَ الحَافِظُ الهَيْتَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ المُحْتَاجِ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ) -مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ - (226/ 10) -: (بَابٌ فِي شِرْطِ الشَّاهِدِ: أَمَّا ذُوْ حِرْفَةٍ مُحَرَّمَةٍ كَمُنَجِّمٍ وَمُصَوِّرٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُطْلَقًا). (¬5) وَقَدْ اشْتُهِرَ فِي هَذَا الزَّمَنِ مَا يُسَمَّى بِالرَّسْمِ الهَزَلِيِّ (الكَارِيْكَاتُوْرِيِّ)، وَهَذَا النَّوْعُ أَشَدُّ قُبْحًا وَتَحْرِيْمًا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزِيْدُ عَلَى حُرْمَةِ التَّصْوِيْرِ بِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ السِّخْرِيَةَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى بِتَشْوِيْهِ الخِلْقَةِ لِيَكُوْنَ مُضْحِكًا، وَفِي الحَدِيْثِ (وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ). حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (4990) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7136). (¬6) صَحِيْحٌ. الإسْمَاعِيْلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ (662/ 2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1921). (¬7) وَفِي مَجْمُوْعِ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ آلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ (190/ 1) قَالَ الشَّيْخُ: (التَّصْوِيْرُ النِّصْفِيُّ لَا إِشْكَالَ عِنْدِي فِي أَنَّهُ مُحَرَّمٌ؛ وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ نَزْرٌ قَلِيْلٌ إِلَى القَوْلِ بِعَدَمِ التَّحْرِيْمِ، وَرُبَّمَا يَكُوْنُ أَخَفُّ مِنَ الكَامِلِ لِأَجْلِ هَذَا القَوْلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا إِشْكَالَ عِنْدِي فِيْهِ، لِأَنَّ الوَجْهَ هُوَ المَقْصُوْدُ). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (388/ 10): (وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الجُمْهُوْرِ أَنَّ الصُوْرَةَ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا ارْتَفَعَ المَانِعُ). (¬8) البُخَارِيُّ (5541)، وَلْفُظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ (5991): (نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَرْبِ الوَجْهِ).

- فَائِدَة 2) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (¬1) فِيْمَنْ (يَقْتَنِي الصُّوَرَ لَا لِرَغْبَةٍ فِيْهَا إِطْلَاقًا، وَلَكِنَّهَا تَأْتِي تَبَعًا لِغَيْرِهَا - كَالتِيْ تَكُوْنُ فِي المَجَلَّاتِ وَالصُّحُفِ - وَلَا يَقْصِدُهَا المُقْتَنِي؛ وَإِنَّمَا يَقْصُدُ مَا فِي هَذِهِ المَجَلَّاتِ وَالصُّحُفِ مِنَ الأَخْبَارِ وَالبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ وَنَحْو ذَلِكَ; فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ; لِأَنَّ الصُّوَرَ فِيْهَا غَيْرُ مَقْصُوْدَةٍ، لَكِنْ إِنْ أَمْكَنَ طَمْسُهَا بِلَا حَرَجٍ وَلَا مَشَقَّةٍ; فَهُوَ أَوْلَى). - فَائِدَة 3) يَجُوْزُ الانْتِفَاعُ بِالبِسَاطِ أَوِ الثَّوْبِ الَّذِيْ فِيْهِ الصُوْرَةُ بِشَرْطِ طَمْسِ الوَجْهِ فِيْهَا، أَوْ تَقْطِيْعِهَا بِمَا تَذْهَبُ بِهِ مَعَالِمُ الصُوْرَةِ، وَلَا يَكْفِي كَوْنُهُ مُمْتَهَنًا، وَدَلَّ لِذَلِكَ حَدِيْثُ جِبْرِيْلَ وَفِيْهِ (أَنَّ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ صَوْتَهُ فَقَالَ: (أُدْخُلْ)، فَقَالَ: إِنَّ فِي البَيْتِ سِتْرًا فِي الحَائِطِ فِيْهِ تَمَاثِيْلُ؛ فَاقْطَعُوا رُءُوْسَهَا فَاجْعَلُوْهَا بِسَاطًا أَوْ وَسَائِدَ فَاوْطَئُوْهُ؛ فَإِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ تَمَاثِيْلُ). (¬2) - فَائِدَة 4) نَفْسُ التَّصْوِيْرِ أَشَدُّ تَحْرِيْمًا مِنْ اقْتِنَاءِ الصُوْرَةِ؛ وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِيْهِ مِنْ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ. (¬3) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (¬4): (قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ العُلَمَاءِ: تَصْوِيْرُ صُوْرَةِ الحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيْدُ التَّحْرِيْمِ، وَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الوَعِيْدِ الشَّدِيْدِ المَذْكُوْرِ فِي الأَحَادِيْثِ، وَسَوَاءً صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ فِيْهِ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى، وَسَوَاءً مَا كَانَ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِيْنَارٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرهَا. وَأَمَّا تَصْوِيْرُ صُوْرَةِ الشَّجَرِ وَرِحَالِ الإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيْهِ صُوْرَةُ حَيَوَانٍ فَلَيْسَ بِحِرَامٍ - هَذَا حُكْمُ نَفْسِ التَصْوِيْرِ -، وَأَمَّا اتِّخَاذُ المُصَوَّرِ فِيْهِ صُوْرَةُ حَيَوَانٍ؛ فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَوْ ثَوْبًا مَلْبُوْسًا أَوْ عِمَامَةً وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدّ مُمْتَهَنًا فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بِسَاطٍ يُدَاسُ وَمِخَدَّةٍ وَوِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْتَهَنُ فَلَيْسَ بِحِرَامٍ). (¬5) ¬

_ (¬1) القَوْلُ المُفِيْدُ (450/ 2). (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (8079) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الصَّحِيْحَةُ (356). (¬3) أَمَّا التَّحْنِيْطُ فَلَيْسَ فِيْهِ مَحْذُوْرٌ، وَيَجُوْزُ اقْتِنَاءُ المُحَنَّطِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ. وَفِي فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ - شَرِيْط (12/ب) - مِنْ فَتَاوَى الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (السُؤَالُ: مَا هُوَ حُكْمُ تَحْنِيْطِ الحَيَوَانَاتِ كَالأَفْعَى وَغَيْرِهَا؟ الجَوَابُ: كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ هَذَا، وَالجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّحْنِيْطُ لِلحَيَوَانِ - وَهُوَ حَيٌّ - فَفِيْهِ تَعْذِيْبٌ فَلَا يَجُوْزُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ المَوْتِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فِيْمَا نَعْلَمُ. السَّائِلُ: وَالمُحَنَّطُ هَلْ يُوْضَعُ فِي البَيْتِ؟ الشَّيْخُ: مَا فِي مَانِع، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ صُوْرَةٌ). قُلْتُ: وَقَصْدُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا لَيْسَتِ الصُّوْرَةَ الَّتِيْ صَوَّرَهَا العَبْدُ - وَالَّتِيْ جَاءَ فِيْهَا النَّهْيُ - وَإِنَّمَا هِيَ الصُّوْرَةُ الَّتِيْ صَوَّرَهَا الرَّحْمَنُ تَعَالَى. وَاللهُ أَعْلَمُ. (¬4) شَرْحُ مُسْلِمٍ (81/ 14). (¬5) أَمَّا هَذِهِ الأَخِيرَةُ فَالرَّاجِحُ فِيْهَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهَا مَشْمُوْلَةٌ بِالنَّهِي، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهَا فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ.

- فَائِدَة 5) بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ حُكْمِ التَصْوِيْرِ؛ أَوْ وجُوْدِ الصُّوَرِ؛ فَإِنَّ مَا اشْتُهِرَ اليَومَ مِنْ انْتِشَارِ أَجْهِزَةِ الاسْتِقْبَالِ الفَضَائِيَّةِ - الدِّشِّ - هُوَ مِنْ أَكْثَرِ الأَخْطَارِ الَّتِيْ تُهَدِّدُ سَلَامَةَ البُيُوْتِ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا فِيْهِ مِنَ الفِتَنِ - رُغْمَ مَا فِيْهِ مِنَ الحَسَنَاتِ - وَذَلِكَ لِتَنَوُّعِ وَسَائِلِ الإِغْرَاءِ فِيْهِ لِلرَّجُلِ وَلِلمَرْأَةِ وَلِلطِّفْلِ مِنْ مَشَاهِدَ وَمَعَازِفَ وَأَفْكَارٍ قَبِيْحَةٍ مُسْتَوْرَدَةٍ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ، وَأَيْضًا لِسُرْعَةِ الافْتِتَانِ بِهِ لِسُهْولَةِ (تَوْلِيْفِهِ) لِلصَّغِيْرِ وَالكَبِيْرِ (¬1)، لِذَلِكَ فَالأَوْلَى التَّخَلُّصُ مِنْهُ وَعَدَمُ احْتِوَاءِهِ أَصْلًا. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ (¬3): (كَمَا أَنَّنِي بِالمُنَاسَبَةِ أُحَذِّرُ صَاحِبَ كُلِّ بَيْتٍ مِنْ أَنْ يَضَعَ فِي بَيْتِهِ مِثْلَ هَذَا (الدِّشِّ)؛ لِأَنَّهُ سَوْفَ يُخَلِّفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَيَكُوْنُ وَبَالًا عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَإِنِّي أَسْأَلُ وَاضِعَ (الدِّشِّ) فِي بَيْتِهِ - وَهُوَ يَرَى هَذِهِ المُنْكَرَاتِ - الَّتِيْ تُبَثُّ مِنْهُ، هَلْ هُوَ بِهَذَا نَاصِحٌ لِأَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ غَاشٌّ لَهُمْ؟ وَالجَوَابُ - وَلَابُدَّ -: أَنَّهُ غَاشُّ؛ إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ مِمَّنْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَحِسُّ, لَكِنْ سَيَقُوْلُ: إَنَّهُ غَاشٌّ, فَأَقُوْلُ لَهُ: اذْكُرْ قَوْلَ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً؛ يَمُوْتُ يَوْمَ يَمُوْتُ - وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ - إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) (¬4)، فَأَنْتَ الآنَ إِذَا مِتَّ وَقَدْ وَضَعْتَ لِأَهْلِكَ هَذَا (الدِّشَّ) الَّذِيْ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ غِشٌّ فِي البَيْتِ؛ لِأَنَّ البَيْتَ فِيْهِ نِسَاءٌ, وَفِيْهِ سُفَهَاءٌ صِغَارٌ؛ لَا يَتَحَاشَوْنَ الشَّيْءَ المُحَرَّمِ, فَأَنْتَ بِهَذَا مَنْ يَمُوْتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ, فَتَكُوْنُ أَهْلًا لِلوَعِيْدِ الشَّدِيْدِ الَّذِيْ جَاءَ فِي الحَدِيْثِ, وَإِلَّا فَكَيْفَ يَلِيْقُ بِالإِنْسَانِ أَنْ يُدَمِّرَ أَخْلَاقَهُ وَأَخْلَاقَ أَهْلِهِ؟). ¬

_ (¬1) وَيَنْدُرُ أَنْ تَجِدَ بَيْتًا فِيْهِ أَجْهِزَةُ الرَّائِي (التِّلْفِزْيُوْن) وَأَهْلُهَا يُصَلُّوْنَ صَلَاةَ الفَجْرِ فِي وَقْتِهَا، وَذَلِكَ لِبَقَائِهِم أَمَامَ هَذَا الرَّائِي إِلَى مَا بَعْدِ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ. (¬2) أَقُوْلُ: وَمَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهِ أَوْ صَعُبَ عَلَيْهِ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ ضَبْطِهِ عَلَى القَنَوَاتِ الخَالِيَةِ مِنَ المَعَاصِي مِنْ أَفْلَامٍ وَتَمْثِيْلِيَّاتٍ وَأَغَانِي وَغَيْرِهَا - ضِمْنَ خِطَّةِ إِزَالَتِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ - مَعَ مُحَاوَلَةِ تَأْمِيْنِ البَدِيْلِ النَّظِيْفِ - كَأَجْهِزَةِ الحَاسُوْبِ - وَالتِيْ تَخْتَلِفُ عَنِ (الدِّشِّ) بِكَوْنِهَا لَا تَعْرِضُ إِلَّا مَا تَضَعُ أَنْتَ فِيْهَا، أَمَّا مَا كَانَ فِيْهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى زَمَنٍ أَطْوَلَ لِلوصُوْلِ إِلَيْهِ وَالبَحْثِ عَنْهُ، عَدَا عَنْ كَوْنِهِ أَصْلًا هُوَ جِهَازٌ تَفَاعُلِيٌّ مُعَدٌّ لِلتَّعْلِيْمِ وَالعَمَلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَشْيَاءِ المُفِيْدَةِ، وَإِلَّا صَارَ مِثْلَ الأَوَّلِ فِي الحَظْرِ. (¬3) مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى وَالرَّسَائِلِ لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ (30/ 15). (¬4) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (142) عَنْ مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوْعًا.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) كَيْفَ الجَمْعُ بَينَ حَدِيْثِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي) وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيْهَا اسْمُهُ} (البَقَرَة:114)، وَقْوِلِهِ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} (الأَنْعَام:21) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوْصِ الَّتِيْ تُبَيِّنُ أَنَّ فِعْلًا مَا هُوَ الأَظْلَمُ؟ الجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّهَا جَمِيْعَهَا مَرَدُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى. (¬1) 2) أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي الأَظْلَمِيَّةِ، أَيْ: أَنَّهَا فِي مُسْتَوَىً وَاحِدٍ فِي كَوْنِهَا فِي قِمَّةِ الظُّلْمِ. 3) أَنَّ الأَظْلَمِيَّةَ - فِي النُّصُوْصِ - نِسْبِيَّةٌ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ فَعَلَ كَذَا بِالنِّسْبَةِ لِنَوْعِ هَذَا العَمَلِ - لَا فِي كُلِّ شَيْءٍ -، فَيُقَالُ مَثَلًا: وَمَنْ أَظْلَمُ - فِي مُشَابَهَةِ أَحَدٍ فِي صُنْعِهِ - مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِ اللهِ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ - فِي مَنْعِ حَقٍّ - مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيْهَا اسْمُهُ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ - فِي افْتِرَاءِ كَذِبٍ - مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا؟ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (383/ 10): (وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ المُصَوِّرِ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَوْمَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غَافِر:46)؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ المُصَوِّرُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ! وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ المُرَادَ هُنَا مَنْ يُصَوِّرُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ - وَهُوَ عَارِفٌ بِذَلِكَ قَاصِدٌ لَهُ - فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ؛ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُدْخَلَ مُدْخَلَ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُوْنُ عَاصِيًا بِتَصْوِيْرهِ فَقَطْ).

الملحق الحادي عشر) مسائل في أحكام الصور والتصوير

المُلْحَقُ الحَادِي عَشَرَ) مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ الصُّوَرِ وَالتَصْوِيْرِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) مَا أَوْجُهُ النَّهْي عَنِ التَصْوِيْرِ؟ الجَوَابُ: 1) مُضَاهَاةُ خَلْقِ اللهِ؛ حَيْثُ جَعَلَ المُصَوِّرُ نَفْسَهُ نِدًّا للهِ تَعَالَى فِي الخَلْقِ وَالتَصْوِيْرِ، وَاللهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ المُصَوِّرُ، وَفي الحَدِيْثِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي). (¬1) 2) أَنَّ التَّصْوِيْرَ هُوَ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ؛ قَالَ: (قَالَ لِي عَلِيٌّ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَّا تَدَعَ صُوْرَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛ إِلَّا سَوَّيْتَهُ). (¬2) (¬3) وَتَأَمَّلْ أَكْثَرَ شِرْكِ الأُمَمِ تَجِدُهُ كَانَ بِتَصْوِيْرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى، فَقَوْمُ نُوْحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصَبُوا أَنْصَابًا ثُمَّ عَبَدُوْهَا (¬4)، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَبَدُوا مَا نَحَتُوا (¬5)، وَقَوْمُ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْرَجَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ عِجْلًا جَسَدًا (¬6)، وَقَوْمُ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَوَّرُوا الصَّالِحِيْنَ فِي مَسَاجِدِهِم. (¬7) (¬8) وَمُشْرِكُو قُرَيْشٍ جَعَلُوا أَصْنَامَهُم كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬9): (وَقَوْلُهُ {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُوْنَ} (الأَعْرَاف:198): إِنَّمَا قَالَ: {يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ} أَيْ: يُقَابِلُوْنَكَ بِعُيُوْنٍ مُصُوْرَة كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ - وَهِيَ جَمَادٌ -، وَلِهَذَا عَامَلَهُم مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصُوْرَةٍ كَالإِنْسَانِ، فَقَالَ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْكَ} فَعبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيْرِ مَنْ يَعْقِلُ). ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (5953)، وَمُسْلِمٌ (2111) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (¬2) مُسْلِمٌ (969). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (382/ 10): (وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ حَدِيْثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الكَنِيْسَةِ الَّتِيْ كَانَتْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيْهَا مِنَ التَّصَاوِيْرِ؛ وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيْهِ تِلْكَ الصُّوَرَ. أُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ) فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِيْ فَعَلَهُ شَرُّ الخَلْقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ). (¬4) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (4920) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيْرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِيْنَ إِلَّا ضَلَالًا} (نُوْح:24). قَالَ: (هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِيْنَ مِنْ قَوْمٍ نُوْحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِم أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِيْ كَانُوا يَجْلِسُوْنَ فِيْهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِيَ العِلْمُ عُبِدَتْ). (¬5) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّوْنَ، قَالَ أَتَعْبُدُوْنَ مَا تَنْحِتُوْنَ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُوْنَ) (الصَّافَّات:96). (¬6) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوْسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيْهِمْ سَبِيْلًا اتَّخَذُوْهُ وَكَانُوا ظَالِمِيْنَ} (الأَعْرَاف:148). (¬7) كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ذَكَرَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيْسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، وَمَا فِيْهَا مِنْ الصُّوَرِ، فَقَالَ: (أُوْلَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيْهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ). البُخَارِيُّ (434). (¬8) قُلْتُ: وَكَثيرٌ مِنْ مُتَصَوِّفَةِ زَمَنِنَا صَوَّرُوا مَشَائِخَهُم بِـ (الكَامِيْرَا) لِيَسْتَحْضِرُوا صُوَرَهُمْ فِي الذِّكْرِ المُسَمَّى بِـ (الرَّابِطَةِ الشَّرِيْفَةِ)؛ فَكَانُوا أَبْعَدَ مَا يَكُوْنُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَقَامِ الإِحْسَانِ (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (8) عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (¬9) (530/ 3).

3) تَشَبُّهٌ بِالمُشْرِكِيْنَ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي ذِكْرِ تَصْوِيْرِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى لِصُوَرِ الصَّالِحِيْنَ فِي كَنَائِسِهِم - وَقَدْ سَبَقَ -. (¬1) (¬2) 4) أَنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ تَصَاوِيْرُ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبي طَلْحَةَ مَرْفُوْعًا (إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ صُوْرَةٌ). (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (434)، وَمُسْلِمٌ (528). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (392/ 10): (وَقَالَ القُرْطُبِيُّ فِي المُفْهِمِ: إِنَّمَا لَمْ تَدْخُلِ المَلَائِكَةُ البَيْتَ الَّذِيْ فِيْهِ الصُوْرَةُ لِأَنَّ مُتَّخِذَهَا قَدْ تَشَبَّهَ بِالكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُوْنَ الصُّوَرَ فِي بُيُوْتِهِمْ وَيُعَظِّمُوْنَهَا، فَكَرِهَتِ المَلَائِكَةُ ذَلِكَ فَلَمْ تَدْخُلْ بَيْتَهُ هَجْرًا لَهُ لِذَلِكَ). (¬3) البُخَارِيُّ (5958). (¬4) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (84/ 14): (وَأَمَّا هَؤُلَاءِ المَلَائِكَةُ الَّذِيْنَ لَا يَدْخُلُوْنَ بَيْتًا فِيْهِ كَلْبٌ أَوْ صُوْرَةٌ فَهُمْ مَلَائِكَةٌ يَطُوْفُوْنَ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّبْرِيْكِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَأَمَّا الحَفَظَةُ فَيَدْخُلُوْنَ فِي كُلّ بَيْتٍ؛ وَلَا يُفَارِقُوْنَ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُوْنَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتهَا. قَالَ الخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ كَلْبٌ أَوْ صُوْرَةٌ مِمَّا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ مِنْ الكِلَابِ وَالصُّوَرِ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحِرَامٍ مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالزَّرْعِ وَالمَاشِيَةِ وَالصُوْرَةِ الَّتِيْ تُمْتَهَنُ فِي البِسَاطِ وَالوِسَادَةِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا يَمْتَنِع دُخُوْلُ المَلَائِكَةِ بِسَبَبِهِ. وَأَشَارَ القَاضِي إِلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ الخَطَّابِيُّ، وَالأَظْهَر أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ كَلْبٍ، وَكُلِّ صُوْرَةٍ، وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُوْنَ مِنْ الجَمِيْعِ لِإِطْلَاقِ الأَحَادِيْثِ، وَلِأَنَّ الجِرْوَ الَّذِيْ كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ السَّرِيْرِ كَانَ لَهُ فِيْهِ عُذْرٌ ظَاهِرٌ - فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَم بِهِ - وَمَعَ هَذَا امْتَنَعَ جِبْرِيْلُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُوْلِ البَيْتِ وَعَلَّلَ بِالجِرْوِ، فَلَوْ كَانَ العُذْرُ فِي وُجُوْدِ الصُوْرَةِ وَالكَلْبِ لَا يَمْنَعهُمْ لَمْ يَمْتَنِعْ جِبْرِيْلُ. وَالله أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِيْنَ فِي الأَرْضِ فُضُلًا عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُوْنَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى بُغْيَتِكُمْ، فَيَجِيْئُوْنَ؛ فَيَحُفُّوْنَ بِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (7424)، وَالتِّرْمِذِيُّ (3600) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (3540)، وَهُوَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ أَيْضًا. قُلْتُ - تَعْلِيْقًا عَلَى تَوْجِيْهِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ الأَخِيْرِ -: وَلَكِنْ فِي الحَدِيْثِ (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا - إِلَّا كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ - فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيْرَاطَانِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5481)، وَمُسْلِمٌ (1574) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في الصَّحِيْحَةِ (356): (السَّادِسُ: تَحْرِيْمُ اقْتِنَاءِ الكَلْبِ لِأَنَّهُ أَيْضًا سَبَبٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُوْلِ المَلَائِكَةِ، وَهَلْ يَمْنَعُ لَوْ كَانَ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ؟ الظَّاهِرُ: لَا؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الصُّوْرَةَ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَا تَمْنَعُ أَيْضًا مِنْ دُخُوْلِ المَلَائِكَةِ بِدَلِيْلِ أَنَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقْتَنِي لُعَبَ البَنَاتِ، وَتَلْعَبُ بِهَا هِيَ وَرَفِيْقَاتُهَا عَلَى مَرْآةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنْكِرُهَا عَلَيْهَا كَمَا ثَبَتَ فِي البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ دُخُوْلِ المَلَائِكَةِ لَمَا أَقَرَّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ الإِمَامِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَنْعِ دُخُوْلِ المَلَائِكَةِ قَدْ يَكُوْنُ مُتَّجِهًا وَصَحِيْحًا بِالنِّسْبَةِ لِكَلْبِ الصَّيْدِ وَالمَاشِيَةِ فِي البَيْتِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أُبِيْحُوا وُفْقَ وَجْهِ اسْتِعْمَالِهِم، بِمَعْنَى أَنَّ كَلْبَ المَاشِيَةِ لَا يَلْزَمُ مِنِ اقْتِنَائِهِ إِدْخَالُهُ البَيْتَ، وَكَذَا كَلْبُ الزَّرْعِ، فَكُلٌّ مَكَانُهُ فِي المَزْرَعَةِ أَوْ فِي البَرِّ حَيْثُ الصِّيْدِ لَا فِي البَيْتِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

المسألة الثانية) ألا يدل حديث أبي هريرة الذي فيه (فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة) أن النهي لا يختص بذوات الأرواح

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) أَلَا يَدُلُّ حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِيْ فِيْهِ (فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيْرَةً) أَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْتَصُّ بِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ (¬1)؟ الجَوَابُ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ؛ وَلَكِنَّهُ حَقِيْقَةً لَيْسَ بِمَقْصُوْدٍ بِالنَّهْي، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ ذِكْرَ الذَّرَّةِ وَالحَبَّةِ وَالشَّعِيْرَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحَدِّي وَذَلِكَ بِعَجْزِ المُصَوِّرِيْنَ عَنِ الخَلْقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الإِيْجَادُ مِنَ العَدَمِ - حَتَّى لِأَحْقَرِ الأَشْيَاءِ - (¬2)، فَخَلْقُهُم هُوَ مُجَرَّدُ تَغْيِيْرٍ مِنْ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ، فَمَهْمَا صَوَّرُوا فَتَصْوِيْرُهُم نَاقِصٌ قَاصِرٌ. 2) دِلَالَةُ أَحَادِيْثِ النَّهْي الأُخْرَى عَلَى تَعْذِيْبِ مَنْ صَوَّرَ ذَاتَ الرُّوْحِ مِثْلَ (مَنْ صَوَّرَ صُوْرَة فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيْهَا الرُّوْحَ وَلَيْسِ بِنَافِخٍ)، وَفِي حَدِيْثٍ آخَرَ (كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُوْرَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ). (¬3) 3) حَدِيْثُ جِبْرِيْلَ وَفِيْهِ (فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِيْ فِي البَيْتِ يُقْطَعُ؛ فَيَصِيْرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ) (¬4) مِمَّا يَدُلُّ أَنَّهُ إِذَا صَارَ التِّمْثَالُ عَلَى هَيْئَةِ شَجَرَةٍ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. (¬5) 4) فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي تَجْوِيْزِ مَا لَيْسَ لَهُ رَوْحٌ، فَفِي الأَثَرِ أَنَّهُ (أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ؛ إِنِّي إِنْسَانٌ؛ إِنَّمَا مَعِيْشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي؛ وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيْرَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: (مَنْ صَوَّرَ صُوْرَةً؛ فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيْهَا الرُّوْحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيْهَا أَبَدًا) فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيْدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ؛ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ؛ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ؛ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيْهِ رُوْحٌ). (¬6) (¬7) 5) أَنَّ الصُوْرَةَ المَنْهِيَ عَنْهَا هِيَ الصُوْرَةُ ذَاتُ الرَّأْسِ؛ لِحَدِيْثِ (الصُوْرَةُ الرَّأْسُ فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلَا صُوْرَةَ). (¬8) ¬

_ (¬1) وَإِلى ذَلِكَ ذَهَبَ مُجَاهِدُ وَحْدَهُ رَحِمَهُ اللهُ؛ كَمَا نَقَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهِ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (395/ 10) عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (394/ 10): (وَالحَقُّ: أَنَّهُ خِطَابُ تَعْجِيْزٍ لَا تَكْلِيْفٍ). (¬3) البُخَارِيُّ (2225)، وَمُسْلِمٌ (2110). (¬4) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (356). (¬5) وَأَمَّا حَدِيْثُ أَبِي أُمَامَةَ؛ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا فِي بَعْضِ المَغَازِي، فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تُصَوِّرَ فِي بَيْتِهَا نَخْلَةً؛ فَمَنَعَهَا، أَوْ نَهَاهَا) فَهُوَ ضَعِيْفٌ. ابْنُ مَاجَه (3652). ضَعِيْفُ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه (3652). (¬6) البُخَارِيُّ (2225)، وَمُسْلِمٌ (2110). (¬7) وَفِيْهِ دَلِيْلٌ أَيْضًا عَلَى تَحْرِيْمِ بَيْعِ صُوَرِ ذَوَاتِ الرُّوْحِ عُمُوْمًا، وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (82/ 3) - فِي تَبْوِيْبِهِ عَلَى الحَدِيْثِ السَّابِقِ -: (بَابُ بَيْعِ التَّصَاوِيْرِ الَّتِيْ لَيْسَ فِيْهَا رُوْحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ). (¬8) صَحِيْحٌ. الإسْمَاعِيْلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ (662/ 2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1921).

المسألة الثالثة) هل يلحق بالتصوير المنهي عنه التصوير الشمسي (الفوتوغرافي)؟ وذلك لاختلافه عن التصوير اليدوي بأمور

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) هَلْ يُلْحَقُ بِالتَّصْوِيْرِ المَنْهِيِّ عَنْهُ التَّصْوِيْرُ الشَّمْسِيُّ (الفُوْتُوْغَرَافِيُّ)؟ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِ عَنِ التَّصْوِيْرِ اليَدَوِيِّ بِأُمُوْرٍ هِيَ: 1) أَنَّهُ مُجَرَّدُ حَبْسٍ لِلظِّلِّ، وَلَيْسَ تَصْوِيْرًا! 2) أَنَّ أَصْلَ الصُوْرَةِ هَذِهِ هِيَ تَصْوِيْرُ اللهِ تَعَالَى! وَالعَبْدُ إِنَّمَا هُوَ نَاسِخٌ فَقَطْ! 3) أَنَّ التَّصْوِيْرَ الفُوتُوغَرَافِيَّ لَيْسَ فِيْهِ مُضَاهَاةٌ لِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ (كَبْسَةِ زِرٍّ) بِخِلَافِ الرَّسْمِ اليَدَوِيِّ فَهُوَ الَّذِيْ يَقُوْمُ صَاحِبُهُ بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِيْهِ وَتَقَصُّدِ المُضَاهَاةِ. 4) أَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى صُوْرَة المِرْآةِ وَالانْعِكَاسِ عَلَى وَجْهِ المَاءِ السَّاكِنِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيْمَ هَذَا المَقِيْسِ عَلَيْهِ؛ وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَالجَوَابُ: نَعَمْ؛ يُلْحَقُ بِهِ، بَلْ إِنَّهُ قَدْ يَكُوْنُ أَوْلَى مِنْهُ فِي التَّحْرِيْمِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَا سَبَقَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَوْجُهٍ: 1) عُمُوْمُ النَّهْي فِي الحَدِيْثِ (مَنْ صَوَّرَ صُوْرَةً)، فَقَوْلُهُ (صُوْرَةً) نَكِرَةٌ تَعُمُّ كُلَّ الصُّوَرِ، فَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ. 2) أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ سَبَبُهُ المُضَاهَاةُ فَقَط، وَلَكِنَّهُ أَيْضًا ذَرِيْعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ (¬1)، وَأَيْضًا لِكَوْنِهِ مَانِعًا لِدُخُوْلِ المَلَائِكَةِ إِلَى البُيُوتِ (¬2)، وَأَيْضًا تَشَبُّهٌ بِالمُشْرِكِيْنَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ أَوْجُهِ النَّهْي عَنِ التَّصْوِيْرِ. (¬3) وَعَلَيْهِ إِذَا انْتَفَتْ عِلَّةُ المُضَاهَاةِ - جَدَلًا - فَمَا زَالَتْ هُنَاكَ عِلَلٌ أُخْرَى لِلنَّهْي بَاقِيَةٌ. 3) دَعْوَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ حَبْسٍ لِلظِّلِّ! فُيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ تَغْيِيْرَ اللَّفْظِ لَا يُغَيِّرُ حَقِيْقَةَ المَعْنَى، فَإِذَا كَانَ حَبْسُ الظِّلِّ تَنْتُجُ عَنْهُ الصُوْرَةُ؛ فَهُوَ إِذَا تَصْوِيْرٌ، وَهُوَ كَقَوْلِنَا عَنِ الرَّسْمِ اليَدِوِيِّ أَنَّهُ مُجَرَّدُ نَقْلٌ مِنَ الوَاقِعِ - أَوِ الخَيَالِ - إِلَى الوَرَقِ، أَوْ مُجَرَّدُ شَفٍّ لِلصُوْرَةِ المَخْلُوْقَةِ إِلَى الوَرَقِ، أَوْ مُجَرَّدُ تَحْرِيكٍ لِلفُرْشَاةِ عَلَى اللَّوْحَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا مَفَادُهُ تَغْيِيْرُ الأَلْفَاظِ لِلخُرُوْجِ مِنَ الأَحْكَامِ. 4) أَنَّ كَوْنَ أَصْلِ الصُوْرَةِ المُصَوِّرَةِ هِيَ خَلْقُ اللهِ تَعَالَى أَوْ صُنْعُهُ المُبَاشَرُ؛ لَا يُخْرِجُ (النَّاسِخَ!!) عَنْ كَوْنِهِ قَدْ أَخْرِجَ صُوْرَةً، فَإِنْ سُمِّيَ نَاسِخًا أَوْ مُصَوِّرًا فَلَا فَرْقَ، فَالصُوْرَةُ هِيَ فِعْلُ المُصَوِّرِ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَالصُوْرَةُ فِعْلُ المُصَوِّرِ (¬4)، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَقَدْ سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ (مَنْ صَوَّرَ صُوْرَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيْهَا الرُّوْحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ)، وَأَمَّا عُرْفًا فَصَاحِبُ دُكَّانِ التَّصْوِيْرِ الشَّمْسِيِّ يُسَمَّى مُصَوِّرًا. ¬

_ (¬1) كَمَا فِي مُسْلِمٍ (969) عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ قَالَ: (قَالَ لِي عَلِيٌّ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَّا تَدَعَ صُوْرَة إِلَّا طَمَسْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛ إِلَّا سَوَّيْتَهُ). (¬2) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (5958) عَنْ أَبي طَلْحَةَ مَرْفُوْعًا (إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ صُوْرَةٌ). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (382/ 10): (وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ حَدِيْثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الكَنِيْسَةِ الَّتِيْ كَانَتْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيْهَا مِنَ التَّصَاوِيْرِ؛ وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيْهِ تِلْكَ الصُّوَرَ. أُوْلَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ) فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِيْ فَعَلَهُ شَرُّ الخَلْقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ). (¬4) قَالَ فِي المُعْجَمِ الوَسِيْطِ (528/ 1): ((التَصْوِيْرُ) نَقْشُ صُوْرَةِ الأَشْيَاءِ أَوِ الأَشْخَاصِ عَلَى لَوْحٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ نَحْوِهِمَا بِالقَلَمِ أَوْ بِالفُرْجُونِ أَوْ بِآلَةِ التَصْوِيْر، وَ (التَّصْوِيْر الشَّمْسِيُّ): أَخْذُ صُوْرَةِ الأَشْيَاءِ بِالمُصَوِّرَةِ الشَّمْسِيَّةِ). قُلْتُ: وَ (الفُرْجُوْنُ) هُوَ (المِحَسَّةُ): وَهُوَ مِشْطٌ لَهُ أَسْنَانٌ لِلتَنْظِيْفِ، وَهُوَ بِمَعْنَى فُرْشَاةِ الرَّسْمِ هُنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.

5) أَمَّا دَعْوَى أَنَّ التَّصْوِيْرَ الفُوتُوغَرَافِيَّ لَيْسَ فِيْهِ مُضَاهَاةٌ لِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ (كَبْسَةِ زِرٍّ)!! فَهُوَ عَجَبٌ مِنَ الكَلَامِ وَاللهِ! (¬1) وَذَلِكَ لِأُمُوْرٍ: أ) أَنَّ كَبْسَةَ الزِّرِّ هَذِهِ هِيَ عَمَلٌ لَا رَيْبَ أَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ وَسَعْيٍ، فَكَمَا أَنَّ الكَلِمَةَ قَدْ تَكُوْنُ سَبَبًا فِي الهَوِيِّ فِي النَّارِ سَبْعِيْنَ خَرِيْفًا، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهَا مِنَ العَمَلِ وَالقَصْدِ - وَإِنْ كَانَ قَلِيْلًا -. (¬2) ب) أَنَّ هَذِهِ الكَبْسَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَةً؛ فَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِأَعْمَالٍ ضِمْنَ عَشَرَاتِ السِّنِيْنَ مِنَ السَّعْي وَالجُهْدِ فِي طَرِيْقِ الوُصُوْلِ إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الآنَ، وَمُخْتَتَمَةٌ أَيْضًا بِأَعْمَالِ إِخْرَاجٍ - مِنْ تَحْمِيْضٍ وَطِبَاعَةٍ وَتَلْوِيْنٍ - فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَبْسَةِ زِرٍّ! ج) أَنَّ هَذَا المُصَوِّرَ مِنْهُ المُحْتَرِفُ وَمِنْهُ المُبْتَدِئُ، وَلَكِنْ كِلَاهُمَا - مَهْمَا قِيْلَ فِي بَسَاطَةِ عَمَلِهِ - فَهُوَ - بِلَا شَكٍّ - حَرِيْصٌ عَلَى أَنْ تَكُوْنَ صُوْرَتُهُ فِي أَفْضَلِ حَالٍ مِنَ المُضَاهَاةِ حَتْمًا، لِذَلْكَ تَرَاهُ يَتَمَايَلُ يَمِيْنًا وَشِمَالًا، إِلَى أَعْلَى وَأَسْفَل، مُشَدِّدًا الإِضَاءَةَ وَمُضَعِّفَهَا، مُنْتَقِيًا لِأَحْسَنِ الآلَاتِ المُصَوِّرَةِ - بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ -، فَهَلْ مِثْلُ هَذَا يُقَالُ عَنْهُ: إِنَّهُ لَا يَقْصِدُ المُضَاهَاةِ؟! د) إِذَا كَانَتْ المُضَاهَاةُ هِيَ عِلَّةَ النَّهْي فِي الرَّسْمِ اليَدَوِيِّ - وَهِيَ أَحَدُ أَوْجُهِ النَّهْي - فَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّصْوِيْرَ الشَّمْسِيَّ أَعْلَى مُضَاهَاةً مِنْ جِهَةِ النَّتِيْجَةِ؛ وَعَلَيْهِ فَالعِلَّةُ فِيْهِ هِيَ مِنْ بَابِ أَوْلَى. (¬3) ¬

_ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (356): (التَّفْرِيْقُ بَيْنَ التَّصْوِيْرِ اليَدَوِيِّ وَالتَّصْوِيْرِ الفُوْتُوْغِرَافِيِّ؛ فَيَحْرُمُ الأَوَّلُ دَوْنَ الثَّانِي! ظَاهِرِيَّةٌ عَصْرِيَّةٌ وَجُمُوْدٌ لَا يُحْمَدُ). (¬2) كَمَا فِي البُخَارِيِّ (6478)، وَمُسْلِمٍ (2988) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ). (¬3) وَلِبَيَانِ شَيْءٍ مِنَ الوَاقِعِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ بِأَنَّ التَّصْوِيْرَ الشَّمْسِيَّ حَقِيْقَةً هُوَ كَاليَدَوِيِّ مِنْ حَيْثُ تَدَرُّجِ الدِّقَّةِ فِي الالْتِقَاطِ وَالعَرْضِ، فَهُنَاكَ مَا يُسَمَّى بِدَرَجَةِ الـ (بِكْسِلْ) وَهِي دَرَجَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ دِقَّةِ الالْتِقَاطِ وَالعَرْضِ، فَمُنْذُ سَنَوَاتٍ كُنْتَ تَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ مِنَ الصُّوَرِ الشَّمْسِيَّةِ إِذَا أَعْمَلْتَ فِيْهَا العَدَسَةَ المُكَبِّرَةَ قَلِيْلًا رَأَيْتَهَا تَنْقَسِمُ إِلَى مُرَبَّعَاتٍ لَوْنِيَّةٍ؛ حَيْثُ تَفْقُدُ الصُوْرَةُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ التَّكْبِيْرِ دِقَّتَهَا وَوُضُوْحَهَا، وَمَعَ تَقَدُّمِ التّقَنِيَّةِ تَزْدَادُ هَذِهِ الدِّقَّةُ، فَهَلْ يُقَالُ بَعْدُ مَعَ هَذَا: إِنَّ المُصَوَّرَ هُوَ نَفْسُ تَصْوِيْرِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ؟! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ.

6) أَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى صُوْرَةِ المِرْآةِ وَالانْعِكَاسِ عَلَى وَجْهِ المَاءِ السَّاكِنِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أ) أَنَّ القَائِمَ قُبَالَةَ المِرْآةِ أَوْ وَجْهِ المَاءِ لَا يُسَمَّى مُصَوِّرًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا. ب) أَنَّ الصُوْرَةَ فِي المِرْآةِ وَعَلَى وَجْهِ المَاءِ لَيْسَتْ مُسْتَقِرَّةً؛ فَلَا يَكُوْنُ صَاحِبُهَا قَدْ خَرَجَ بِصُوْرَة، بَلْ هَذِهِ الصُوْرَة تَزُوْلُ بِزَوَالِ المُقَابِلِ لَهَا. (¬1) ج) أَنَّ الصُوْرَةَ القَائِمَةَ فِي المِرْآةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ المَاءِ تَحْصُلُ بِدُوْنِ أَيِّ سَعْيٍ أَوْ عَمَلٍ مِنَ المَرْءِ، بِخِلَافِ صَاحِبِ (كَبْسَةِ الزِّرِّ). (¬2) 7) لِيَكُنْ إِلْحَاقُ التَّصْوِيْرِ الشَّمْسِيِّ - الفُوْتُوْغَرَافِيِّ - بَعِيْدًا فِي كَوْنِهِ تَصْوِيْرًا مُحَرَّمًا؛ فَهُنَا تَرِدُ مُلَاحَظَاتٌ: أ) مَا هُوَ وَاجِبُ المُسْلِمِ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ المَسْأَلَةُ مِنْ جِهَةِ الحِلِّ أَوِ التَّحْرِيْمِ؟ الجَوَابُ: هُوَ فِي الحَدِيْثِ الشَّرِيْفِ (إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ). (¬3) ب) مَا هُوَ الحَاصِلُ مِنْ إِبَاحَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَصْوِيْرِ؟ هَلْ هُوَ لِتَصْوِيْرِ مَا يَلْزَمُ مِنَ الأَوْرَاقِ الرَّسْمِيَّةِ الحُكُوْمِيَّةِ لِلأَشْخَاصِ؟ أَمْ لِتَصْوِيْرِ صُوَرِ الذِّكْرَيَاتِ وَتَنَاقُلِهَا وَتَعْلِيْقِهَا بِمَا لَا يُمْكِنُ أَبَدًا أَبَدًا ضَبْطُهُ! عِلْمًا أَنَّ حُكْمَ التَّصْوِيْرِ نَفْسَهُ مُفَارِقٌ عَنْ حُكْمِ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ وَتَعْلِيْقِهَا، فَهَذِهِ الأَخِيْرَةُ مَشْمُوْلَةٌ بِنُصُوْصٍ أُخْرَى مِنْ مَنْعِ دُخُوْلِ المَلَائِكَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَتَنَبَّهْ. (¬4) ج) هَلْ فَتْحُ هَذَا البَابِ أَسْلَمُ لِحَيَاةِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ أَمْ إِغْلَاقُهُ؟ وَالوَاقِعُ يَحْكُمُ بَيْنَنَا. ¬

_ (¬1) وَعَلَيْهِ فَلَا مَحْذُوْرَ فِي اسْتِخْدَامِ آلَاتِ المُرَاقَبَةِ فِي المُنْشَآتِ وَالمَتَاجِرِ وَأَشْبَاهِهَا لِأَنَّ الصُوْرَةَ لَيْسَتْ مَحْفُوْظَةً أَصْلًا، وَإِنَّمَا حَقِيْقَتُهَا انْعِكَاسُ الصُّوَرِ فِي المَرَايَا. قُلْتُ: وَأَمَّا حِفْظُهَا أَحْيَانًا مِنْ بَابِ الحَاجَةِ وَالمَصْلَحَةِ كَضَبْطِ اللُّصُوْصِ وَغَيْرِهِ فَجَائِزٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ - فِي شَرِيْطٍ بِعُنْوَانِ (الإِيْمَانُ) مِنْ قِسْمِ المُتَفَرِّقَاتِ ضِمْنَ البَرْنَامِجِ الحَاسُوْبِيِّ المُسَمَّى بِـ (أَهْلُ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) -: (وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى شَرِيْطِ الفِيْدْيُو المُصَوَّرِ بِالكَامِيْرَا فَإِنَّ فِي الشَّرِيْطِ لَيْسَ ثَمَّ صُوْرَةٌ، إِنَّمَا هِيَ مَوْجَاتٌ (كَهْرُومِغْنَاطِيْسِيَّةٌ) تَرَكَّبَتْ فِي الشَّرِيْطِ عَنْ طَرِيْقَ المَوْجَاتِ - رَأْسِيَّةٍ؛ وَأُفُقِيَّةٍ -، وَهَذِهِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى الجِهَازِ حُوِّلَتْ بِالجِهَازِ إِلَى صُوْرَةٍ عَلَى الشَّاشَةِ، وَالصُوْرَةُ عَلَى الشَّاشَةِ هَذِهِ عَرْضٌ لَا يَثْبُتُ، تَذْهَبُ تُغْلِقُهُ ذَهَبَتِ الصُوْرَةُ، فَلَيْسَ ثَمَّ وُجُوْدٍ لِلصُوْرَةِ، وَالصُّوَرُ الَّتِيْ جَاءَ تَحْرِيْمُهَا فِي الشَّرْعِ هِيَ الصُوْرَةُ الثَّابِتَةُ - مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَيْسَ لَهُ ظِلٌّ -). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى وَالرَسَائِلِ (187/ 1): (وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مُجِيْزِي التَّصْوِيْرِ الشَّمْسِيِّ أَنَّهُ نَظِيْرُ ظُهُوْرِ الوَجْهِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّقِيْلَاتِ! وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ ظُهُوْرَ الوَجْهِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا شَيْءٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍ، وَإِنَّمَا يُرَى بِشَرْطِ بَقَاءِ المُقَابَلَةِ، فَإِذَا فُقِدَتِ المُقَابَلَةُ فُقِدَ ظُهُوْرُ الصُوْرَةِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا، بِخِلَافِ الصُوْرَةِ الشَّمْسِيَّةِ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الأَوْرَاقِ وَنَحْوِهَا مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِلْحَاقُهَا بِالصُّوَرِ المَنْقُوْشَةِ بِاليَدِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَصَحُّ مِنْ إِلْحَاقِهَا بِظُهُوْرِ الصُوْرَةِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الصُوْرَةَ الشَّمْسِيَّةَ وَبُدُوَّ الصُوْرَةِ فِي الأَجْرَامِ الصَّقِيْلَةِ وَنَحْوِهَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَمْرَيْنِ: 1) الاسْتِقْرَارُ وَالبَقَاءُ. 2) حُصُوْلُ الصُوْرَةِ عَنْ عَمَلٍ وَمُعَالَجَةٍ. فَلَا يُطْلَقُ لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا عَلَى مُقَابِلِ المِرْآةِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ صَوَّرَ ذَلِكَ، وَمُصَوِّرُ الصُّوَرِ الشَّمْسِيَّةِ مُصَوِّرٌ لُغَةً وَعَقْلًا وَشَرْعًا، فَالمُسَوِّي بَيْنَهُمَا مُسَوٍّ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ، وَالمَانِعُوْنَ مِنْهُ قَدْ سَوَّوا بَيْنَ مَا سَوَّى اللهُ بَيْنَهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ، فَكَانُوا بِالصَّوَابِ أَسْعَدَ؛ وَعَنْ فَتْحِ أَبْوَابِ المَعَاصِي وَالفِتَنِ أَنْفَرَ وَأَبْعَدَ). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (52)، وَمُسْلِمٌ (1599) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. (¬4) أَمَّا مَا نُسِبَ إِلَى الشَّيْخِ الفَاضِلِ ابْنِ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ إِبَاحَةِ التَّصْوِيْرِ الفُوْتُوْغَرَافِيِّ مُطْلَقًا فَهُوَ كَذِبٌ وَزُوْرٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحِيْحٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّصْوِيْر المُحَرَّمِ، وَلَكِنَّهُ أَجَازَهُ فَقَط لِمِثْلِ مَا أَجَزْنَاهُ مِنَ التَّصْوِيْر لِلحَاجَةِ وَالمَصْلَحَةِ، أَمَّا التَّصْوِيْرُ لِلذِّكْرَى وَالحَنِيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَقَدْ نَهَى عَنْهُ رَحِمَهُ اللهُ. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (439/ 2): (وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ يَحِلُّ هَذَا الفِعْلُ أَوْ لَا؟ وَالجَوَابُ: إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مُحَرَّمٍ صَارَ حَرَامًا، وَإِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ صَارَ مُبَاحًا; لِأَنَّ الوَسَائِلَ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ، وَعَلَى هَذَا; فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا صَوَّرَ إِنْسَانًا لِمَا يُسَمُّوْنَهُ بِالذِّكْرَى - سَوَاءً كَانَتْ هَذِهِ الذِّكْرَى لِلتَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ أَوِ التَّلَذُّذِ بِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِ الحَنَانِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ -; فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَلَا يَجُوْزُ لِمَا فِيْهِ مِنْ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ صُوْرَةٌ وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ كَمَا يُوْجَدُ فِي التَّابِعِيَّةِ وَالرُّخْصَةِ وَالجَوَازِ وَمَا أَشْبَهَهُ; فَهَذَا يَكُوْنُ مُبَاحًا، فَإِذَا ذَهَبَ الإِنْسَانُ الَّذِيْ يَحْتَاجُ إِلَى رُخْصَةٍ إِلَى هَذَا المُصَوِّرِ الَّذِيْ تَخْرُجُ مِنْهُ الصُوْرَةُ فَوْرِيَّةً بِدُوْنِ عَمَلٍ - لَا تَحْمِيْضٍ وَلَا غَيْرِهِ - وَقَالَ: صَوِّرْنِي، فَصَوَّرَهُ; فَإِنَّ هَذَا المُصَوِّرَ لَا نَقُوْلُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الحَدِيْثِ; أَيْ: حَدِيْثِ الوَعِيْدِ عَلَى التَصْوِيْرِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: صَوِّرْنِي لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ مُبَاحٍ; صَارَ مِنْ بَابِ الإِعَانَةِ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ).

المسألة الرابعة) هل النهي هو عن التماثيل المجسمة (ذات الظل) أم عن عموم الصور؟

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) هَلْ النَّهْيُ هُوَ عَنِ التَّمَاثِيْلِ المُجَسَّمَةِ (ذَاتِ الظِّلِّ) أَمْ عَنْ عُمُوْمِ الصُّوَرِ؟ الجَوَابُ: بَلْ عَنْ عُمُوْمِ الصُّوَرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ: أَنَّ الصُوْرَةَ تُطْلَقُ عَلَى التِّمْثَالِ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ. قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ: (التِّمْثَالُ: الصُوْرَةُ). (¬1) (¬2) 2) مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ: جَاءَ فِي الحَدِيْثِ النَّهْيُ عَنْ وُجُودِ الصُّوَرِ عَلَى السَّتَائِرِ وَغِيْرِهَا؛ وَهِيَ بِلَا شَكٍّ لَيْسَتْ مُجَسَّمَةً، كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً (¬3) لِي بِقِرَامٍ (¬4) فِيْهِ تَمَاثِيْلُ (¬5) -، فَلَمَّا رَآهُ هَتَكَهُ وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ وَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ الَّذِيْنَ يُضَاهُوْنَ بِخَلْقِ اللهِ)،قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ). (¬6) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (¬7): (وَلَا فَرْق فِي هَذَا كُلِّهِ بَيْنِ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَا ظِلَّ لَهُ. هَذَا تَلْخِيْصُ مَذْهَبِنَا فِي المَسْأَلَةِ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِيْرُ العُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ بَعْض السَّلَفِ: إِنَّمَا يُنْهَى عَمَّا كَانَ لَهُ ظِلٌّ، وَلَا بَأْس بِالصُّوَرِ الَّتِيْ لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِيْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُوْرَةَ فِيْهِ؛ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَذْمُوْمٌ، وَلَيْسَ لِصُوْرَتِهِ ظِلٌّ، مَعَ بَاقِي الأَحَادِيْثِ المُطْلَقَةِ فِي كُلّ صُوْرَة. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّهْيُ فِي الصُوْرَةِ عَلَى العُمُوْمِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ مَا هِيَ فِيْهِ، وَدُخُوْلُ البَيْتِ الَّذِيْ هِيَ فِيْهِ؛ سَوَاءً كَانَتْ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ أَوْ غَيْرَ رَقْمٍ، وَسَوَاءً كَانَتْ فِي حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ مُمْتَهَنٍ أَوْ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ؛ عَمَلًا بِظَاهِرِ الأَحَادِيْثِ، لَا سِيَّمَا حَدِيْثِ (النُّمْرُقَةِ) الَّذِيْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا مَذْهَبٌ قَوِيٌّ). ¬

_ (¬1) لِسَانُ العَرَبِ (613/ 11). (¬2) وَفِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنْ المُمَثِّلِيْنَ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (3868). الصَّحِيْحَةُ (281). قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (613/ 11): (وَفِي الحَدِيْثِ (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا مُمَثِّلٌ مِنَ المُمَثِّلِيْنَ): أَيْ: مُصَوِّرٌ)، وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ. (¬3) قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (1047/ 2): (السَّهْوَةُ: بَيْتٌ صَغِيْرٌ مُنْحَدِرٌ فِي الأَرْضِ قَلِيْلًا؛ شَبِيْهٌ بِالمُخْدَعِ وَالخِزَانةِ). (¬4) (القِرَامُ): بِكَسْرِ القَافِ: السِّتْرُ. (¬5) وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا (فِيهِ الخَيْلُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ). (¬6) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5954)، وَمُسْلِمٌ (2107) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬7) شَرْحُ مُسْلِمٍ (81/ 14).

المسألة الخامسة) هل تخرج من النهي صور ما له رأس إن كان مما لا يعيش حقيقة في الخارج، كالصور الخيالية والصور النصفية؟

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ) هَلْ تَخْرُجُ مِنَ النَّهْي صُوَرُ مَا لَهُ رَأْسٌ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعِيْشُ حَقِيْقَةً فِي الخَارِجِ، كَالصُّوَرِ الخَيَالِيَّةِ وَالصُّوَرِ النِّصْفِيَّةِ؟ الجَوَابُ: إِنَّ هَذَا التَّفْرِيْقَ لَا دَلِيْلَ عَلَيْهِ، بَلْ يَبْقى مَا سَلَفَ مَشْمُوْلًا بِالنَّهْي، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ الأَصْلَ فِي تَحْرِيْمِ الصُوْرَةِ بَقَاءُ الرَّأْسِ، فَحَتَّى لَوْ كَانَتِ الصُوْرَةُ مِمَّا لَا يَعِيْشُ حَقِيْقَةً أَوْ صُوْرَةً نِصْفِيَّةً (كَأَعْلَى البَدَنِ، أَوِ الوَجْهِ) فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيْثُ (الصُوْرَةُ الرَّأْسُ؛ فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلَا صُوْرَةَ). (¬1) 2) قَدْ جَاءَ تَحْرِيْمُ بَعْضٍ مِمَّا سَلَفَ مِنَ الأَمْثِلَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ - وَقَدْ سَتَّرْتُ عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا (¬2) - فِيْهِ الخَيْلُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ، فَأَمَرَنِي فَنَزَعْتُهُ). (¬3) وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّبِيْعَةِ المَحْسُوْسَةِ عِنْدَنَا خَيْلٌ بِجَنَاحَيْنِ. (¬4) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الإسْمَاعِيْلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ (662/ 2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1921). وَكَحَدِيْثِ (فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِيْ فِي البَيْتِ يُقْطَعُ؛ فَيَصِيْرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ) وَقَدْ سَبَقَ. صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (356). (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (87/ 14): (الدُّرْنُوكُ: سِتْرٌ لَهُ خَمْلٌ). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5955)، وَمُسْلِمٌ (2107) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬4) وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ، وَفِي الحَدِيْثِ (أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌ؛ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ إِنّي أُحِبُّ الخَيْلَ! أَفِي الجَنَّةِ خَيْلٌ؟ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ أُدْخِلْتَ الجَنَّةَ؛ أُتِيْتَ بِفَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ لَهُ جَنَاحَانِ فَحُمِلْتَ عَلَيْهِ، ثُمْ طَارَ بِكَ حَيْثُ شِئْتَ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2544) عَنْ أَبي أَيُّوبٍ. الصَّحِيْحَةُ (3001).

المسألة السادسة) هل تخرج من النهي الصور الممتهنة كالفرش والبسط والوسائد؟

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) هَلْ تَخْرُجُ مِنَ النَّهْي الصُوْرُ المُمْتَهَنَةُ كَالفُرُشِ وَالبُسُطِ وَالوَسَائِدِ؟ كَمَا دَلَّ لِذَلِكَ أَمْرُ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ تُجْعَلَ الصُوْرَةُ وِسَادَتَيْنِ تُوْطَئَانِ (¬1)، وَكَحَدِيْثِ (إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ)، وَكَحَدِيْثِ الاتِّكَاءِ عَلَى مِرْفَقَةٍ فِيْهَا صُوْرَةٌ؟ (¬2) الجَوَابُ: الرَّاجِحُ أَنَّ الامْتِهَانَ - وَإِنْ كَانَ أَهْوَنَ مِنْ عَدَمِهِ - فَهُوَ لَا يُخْرِجُ الصُوْرَةَ مِنْ حُكْمِ المَنْعِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ نَفْسَ الحَدِيْثِ - مَوْضِعِ الاسْتِدْلَالِ - جَاءَ بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بالامْتِهَانِ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ قَطْعِ الرُؤُوْسِ مِنَ الصُوْرَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الامْتِهَانِ لَا يَكْفِي، وَاللَّفْظُ هُوَ (أَنَّ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ صَوْتَهُ فَقَالَ: (ادْخُلْ)، فَقَالَ: إِنَّ فِي البَيْتِ سِتْرًا فِي الحَائِطِ فِيْهِ تَمَاثِيْلُ؛ فَاقْطَعُوا رُءُوْسَهَا فَاجْعَلُوْهَا بِسَاطًا أَوْ وَسَائِدَ فَاوْطَئُوْهُ؛ فَإِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ تَمَاثِيْلُ). (¬3) فَإِنْ قِيْلَ: فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الوَسَائِدِ المَوْطُوْءَةِ إِذًا؟ فَالجَوَابُ عَلَيْهِ: أَنَّ هَذَا يَكُوْنُ إِرْشَادًا إِلَى عَدَمِ إِتْلَافِهِ مُطْلَقًا؛ وَإِنَّمَا تَغْيِيْرُهُ بِطَرِيْقَةٍ تُمَكِّنُ مِنَ الانْتِفَاعِ بِهِ كَالوَسَائِدِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرْبِ المِثَالِ لَا الحَصْرِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬4) ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ (أَتَانِي جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لِي: أَتَيْتُكَ البَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُوْنَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى البَابِ تَمَاثِيْلُ، وَكَانَ فِي البَيْتِ قِرَامَي سِتْرٍ فِيْهِ تَمَاثِيْلُ، وَكَانَ فِي البَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِيْ فِي البَيْتِ يُقْطَعُ فَيَصِيْرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ تُوطَآنِ، وَمُرْ بِالكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (356). (¬2) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ - وَقَدْ اشْتَرَيْتُ نَمَطًا فِيْهِ صُوْرَةٌ - فَسَتَرْتُهُ عَلَى سَهْوَةِ بَيْتِي، فَلَمَّا دَخَلَ كَرِهَ مَا صَنَعْتُ وَقَالَ: (أَتَسْتُرِيْنَ الجُدُرَ يَا عَائِشَةُ؟!) فَطَرَحْتُهُ فَقَطَعْتُهُ مِرْفَقَتَيْنِ؛ فَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إِحْدَاهُمَا وَفِيْهَا صُوْرَةٌ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (26103). آدَابُ الزِّفَافِ (ص185). وَ (النَّمَطُ): بِسَاطٌ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ. (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (8079) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الصَّحِيْحَةُ (356). وَأَمَّا لَفْظُ النَّسَائِيِّ (5365) الَّذِيْ فِيْهِ التَخْيِيْرُ وَهُوَ (فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوْسُهَا أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوْطَأُ) فَهُوَ مَرْجُوْحٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أ- مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ، قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (356): (قُلْتُ: وَقَدْ تَابَعَهُ أَبُو إِسْحَاقَ (أي لِـ يُونُسَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ وَهُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ)، فَقَالَ أَحْمَدُ (2/ 308) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ مُخْتَصَرًا بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ لَوْلَا أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ - وَهُوَ السَّبِيْعِيَّ؛ وَالِدَ يُوْنُس - كَانَ تَغَيَّرَ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي لَفْظِهِ، فَرَوَاهُ عَنْهُ مَعْمَرُ هَكَذَا، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ بِهِ نَحْوَهُ بِلَفْظِ (فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوْسُهَا أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوْطَأُ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ (2/ 302) وَالأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ مَعْمَرًا حَفِظَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ الكُوْفِيُّ، قَالَ الحَافِظُ: (ثِقَةٌ عَابِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَبُرَ سَاءَ حِفْظُهُ، وَكِتَابُهُ صَحِيْحٌ)). ب- مِنْ جِهَةِ الفِقْهِ: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ امْتِنَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُخُوْلِ البَيْتِ - وَفِيْهِ النُمْرُقَةُ (الوِسَادَةُ) الَّتِيْ عَلَيْهَا صُوْرَةٌ - وَهِيَ مُمْتَهَنَةٌ بِلَا رَيْبٍ. وَقَدْ سَبَقَ الحَدِيْثُ فِي ذَلِكَ. (¬4) وَأَمَّا حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ (رَخَّصَ فِيْمَا كَانَ يُوطَأُ، وَكَرِهَ مَا كَانَ مَنْصُوْبًا) فَهُوَ ضَعِيْفٌ جِدًّا. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (5703). الضَّعِيْفَةُ (5998).

2) قَدْ جَاءَ تَحْرِيْمُ بَعْضٍ مِمَّا سَلَفَ مِنَ الأَمْثِلَةِ الَّتِيْ فِيْهَا الامْتِهَانُ؛ وَلَمْ يُقِرَّهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً (¬1) فِيْهَا تَصَاوِيْرٌ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالبَابِ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلْتُ: أَتُوْبُ إِلَى اللهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ: (مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟) قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ الصُوْرَةُ). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬3): (وَظَاهِرُ حَدِيْثَيْ عَائِشَةَ - هَذَا وَالَّذِيْ قَبْلَهُ - التَّعَارُضُ، لِأَنَّ الَّذِيْ قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ السِّتْرَ الَّذِيْ فِيْهِ الصُوْرَةُ بَعْدَ أَنْ قُطِعَ وَعُمِلَتْ مِنْهُ الوِسَادَةُ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ أَصْلًا! وَقَدْ أَشَارَ المُصَنِّفُ إِلَى الجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ اتِّخَاذِ مَا يُوطَأُ مِنَ الصُّوَرِ جَوَازُ القُعُوْدِ عَلَى الصُوْرَةِ، فَيَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ اسْتَعْمَلَ مِنَ الوِسَادَةِ مَا لَا صُوْرَة فِيْهِ، وَيَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ رَأَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ القُعُودِ وَالِاتِّكَاءِ وَهُوَ بَعِيْدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الحَدِيْثَيْنِ بِأَنَّهَا لَمَّا قَطَعَتِ السِّتْرَ وَقَعَ القَطْعُ فِي وَسَطِ الصُوْرَةِ مَثَلًا؛ فَخَرَجَتْ عَنْ هَيْئَتِهَا؛ فَلِهَذَا صَارَ يَرْتَفِقُ بِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الجَمْعَ الحَدِيْثُ الَّذِيْ فِي البَابِ قَبْلَهُ فِي نَقْضِ الصُّوَرِ). (¬4) وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ - عِنْدَ شَرْحِ بَابِ نَقْضِ الصُّوَرِ (¬5) -: (وَالَّذِيْ يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ نَقْضِ الصَّلِيْبِ نَقْضَ الصُوْرَةِ الَّتِيْ تَشْتَرِكُ مَعَ الصَّلِيْبِ فِي المَعْنَى؛ وَهُوَ عِبَادَتُهُمَا مِنْ دُوْنِ اللهِ، فَيَكُوْنُ المُرَادُ بِالصُّوَرِ فِي التَّرْجَمَةِ خُصُوْصَ مَا يَكُوْنُ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، بَلْ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ). ¬

_ (¬1) وَهِيَ الوِسَادَةُ. (¬2) البُخَارِيُّ (5957). (¬3) (390/ 10). (¬4) وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الحَدِيْثِ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ (فَاقْطَعُوا رُءُوْسَهَا، فَاجْعَلُوْهَا بِسَاطًا أَوْ وَسَائِدَ فَاوْطَئُوْهُ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (8079) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الصَّحِيْحَةُ (356). فَفِيْهِ بَيَانُ النَّصِّ عَلَى وُفْقِ مَا وَجَّهَهُ الحَافِظُ؛ وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ. (¬5) وَفِيْهِ حَدِيْثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيْهِ تَصَالِيْبُ إِلَّا نَقَضَهُ). البُخَارِيُّ (5952).

3) أَمَّا حَدِيْثُ (إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ)، فَفِيْهِ مَسَالِكُ: الأَوَّلُ) مَعْنَى الرَّقْمِ لَغْةً: قَالَ فِي تَاجِ العَرُوْسِ: (رَقَمَ الثَّوْبَ رَقْمًا: وَشَاهُ). (¬1) وَقَالَ فِي جَمْهَرَةِ اللُّغَةِ: (الرَّقْمُ: رَقْمُ الثَّوْبِ، وَكُلُّ ثَوْبٍ وُشِّيَ فَهُوَ مَرْقُومٌ). (¬2) وَالوَشْيُ مَعْرُوْفٌ أَنَّهُ مِنْ خَلْطِ الأَلْوَانِ، فَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْلِيْمِ، قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (¬3): (الوَشْيُ مَعْرُوْفٌ؛ وَهُوَ يَكُوْنُ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ). وَقَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (¬4): ((رَقَمَ): فِيْهِ (أَتَى فَاطِمَةَ فَوَجَدَ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مُوشّى فَقَالَ: (مَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَالرَّقْمَ) (¬5)؛ يُريْدُ النَّقْشَ وَالوَشْيَ، وَالأَصْلُ فِيْهِ الكِتَابَةُ). قَالَ العَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (¬6): (قَالَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (المُصَوِّرُ هُوَ الَّذِيْ يُصَوِّرُ أَشْكَالَ الحَيَوَانِ، وَالنَّقَّاشُ الَّذِيْ يَنْقُشُ أَشْكَالَ الشَّجَرِ وَنَحْوِهَا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي هَذَا الوَعِيْدِ؛ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ هَذَا البَابِ مَكْرُوْهًا وَدَاخِلًا فِيْمَا يُشْغِلُ القَلْبَ بِمَا لَا يِنْبَغِي)). وَعَلَى مَا سَبَقَ فَإِنَّ الرَّقْمَ لَيْسَ مِنْ بَابِ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ؛ فَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللهِ. ¬

_ (¬1) تَاجُ العَرُوْسِ (272/ 32). (¬2) جَمْهَرَةُ اللُّغَةِ (790/ 2). وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيْسِ اللُّغَةِ (425/ 2): ((رَقَمَ) الرَّاءُ وَالقَافُ وَالمِيْمُ: أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى خَطٍّ وَكِتَابَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالرَّقْمُ: الخَطُّ، وَكُلُّ ثَوْبٍ وُشِيَ فَهُوَ رَقْمٌ). (¬3) لِسَانُ العَرَبِ (392/ 15). (¬4) النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ (618/ 2). (¬5) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4149) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. الصَّحِيْحَةُ (2421). (¬6) عُمْدَةُ القَارِي (74/ 22).

الثَّانِي) جَمْعُ النُّصُوْصِ: الاسْتِثْنَاءُ هُنَا يَكُوْنُ بِحَمْلِ الرَّقْمِ عَلَى مَا يَحِلُّ كَصُوَرِ الشَّجَرِ وَالجَمَادِ، أَوِ الصُوْرَةِ المُقَطَّعَةِ وَالَّتِيْ لَا رَأْسَ فِيْهَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ أَحَادِيْثَ النَّهْي قَدْ تَنَاوَلَتْ عِدَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الثِّيَابِ نُهِيَ عَنِ الصُّوَرِ فِيْهَا كَالسِّتْرِ وَالقِرَامِ وَالوِسَادَةِ، وَهذا الجَمْعُ هُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ المُتَشَابِهِ عَلَى المُحْكَمِ. (¬1) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (¬2): (هَذَا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُوْل بِإِبَاحَةِ مَا كَانَ رَقْمًا مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ، وَجَوَابُنَا وَجَوَابُ الجُمْهُوْر عَنْهُ: أَنَّهُ مَحْمُوْلٌ عَلَى رَقْمٍ عَلَى صُوْرَةِ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا). (¬3) الثَّالِثُ) يُمْكِنُ القَوْلُ أَيْضًا بِمَا أَوْرَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬4): (وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْي كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِيْ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَسَأَذْكُرُهُ فِي البَاب الَّذِيْ يَلِيهِ). (¬5) ¬

_ (¬1) أَفَادَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى وَالرَسَائِلِ (180/ 1). (¬2) شَرْحُ مُسْلِمٍ (85/ 14). (¬3) وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (439/ 2): (المُرَادُ بِالاسْتِثْنَاءِ: مَا يَحِلُ تَصْوِيْرُهُ مِنَ الأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا). (¬4) فَتْحُ البَارِي (391/ 10). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (392/ 10) - عَنْدَ بَابِ: لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ صُوْرَةٌ -: (وَحَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي السُّنَنِ - وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ - أَتَمُّ سِيَاقًا مِنْهُ؛ وَلَفْظُهُ (أَتَانِي جِبْرِيْلُ فَقَالَ: أَتَيْتُكَ البَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُوْنَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى البَابِ تَمَاثِيْلُ، وَكَانَ فِي البَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيْهِ تَمَاثِيْلُ، وَكَانَ فِي البَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِيْ عَلَى بَابِ البَيْتِ يُقْطَعْ فَيَصِيْرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَانِ مَنْبُوذَتَانِ تُوْطَآنِ، وَمُرْ بِالكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ. فَفَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ (إِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوْسُهَا أَوْ تُجْعَلَ بُسُطًا تُوْطَأُ) وَفِي هَذَا الحَدِيْثِ تَرْجِيْحُ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصُوْرَةَ الَّتِيْ تَمْتَنِعُ المَلَائِكَةُ مِنْ دُخُوْلِ المَكَانِ الَّتِيْ تَكُوْنُ فِيْهِ بَاقِيَةٌ عَلَى هَيْئَتِهَا مُرْتَفِعَةٌ غَيْرُ مُمْتَهَنَةٍ، فَأَمَّا لَوْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، أَوْ غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا غُيِّرَتْ مِنْ هَيْئَتِهَا إِمَّا بِقَطْعِهَا مِنْ نِصْفِهَا أَوْ بِقَطْعِ رَأْسِهَا؛ فَلَا امْتِنَاعَ. وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ حَدِيْثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ المَاضِي قِيْلَ: إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ دُخُوْلِ البَيْتِ الَّذِيْ فِيْهِ صُوْرَةٌ إِنْ كَانَتْ رَقْمًا فِي الثَّوْبِ؛ وَظَاهِرُ حَدِيْثِ عَائِشَةَ المَنْعُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ حَدِيْثُ عَائِشَةَ عَلَى الكَرَاهَةِ وَحَدِيْثُ أَبِي طَلْحَةَ عَلَى مُطْلَقِ الجَوَازِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الكَرَاهَةَ. قُلْتُ: وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ؛ لَكِنَّ الجَمْعَ الَّذِيْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْلَى مِنْهُ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيْمَا سَبَقَ أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ المَذْكُوْرَةَ مَرْجُوْحَةٌ مِنْ جِهَةِ التَّخْيِيْرِ. وَمِثْلُ هَذَا الحَدِيْثِ الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا حَدِيْثُ مُسْلِمٍ (2107) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَتْ: (كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيْهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ؛ وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيْتُهُ؛ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا)، قَالَتْ: وَكَانَتْ لَنَا قَطِيْفَةٌ كُنَّا نَقُوْلُ عَلَمُهَا حَرِيْرٌ فَكُنَّا نَلْبَسُهَا)، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا (2107) بِإِسْنَادٍ نَحْوُهُ (وَكَانَتْ لَنَا قَطِيْفَةٌ؛ كُنَّا نَقُوْلُ: عَلَمُهَا حَرِيْرٌ؛ فَكُنَّا نَلْبَسُهَا؛ فَلَمْ يَأْمُرْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهِ). قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (87/ 14): (هَذَا مَحْمُوْلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيْمِ اتِّخَاذِ مَا فِيْهِ صُوْرَةٌ، فَلِهَذَا كَانَ رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ وَيَرَاهُ وَلَا يُنْكِرُهُ قَبْل هَذِهِ المَرَّة الأَخِيْرَةِ). قُلْتُ: وَقُوْلُهَا (وَكَانَتْ لَنَا قَطِيفَةٌ كُنَّا نَقُوْلُ: عَلَمُهَا حَرِيْرٌ؛ فَكُنَّا نَلْبَسُهَا؛ فَلَمْ يَأْمُرْنَا رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهِ)؛ يُوْمِئُ أَنَّ كَلَامَهَا كَانَ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تَكُنْ قَدْ سَبَقَ النَّهْيُ عَنْهَا، ثُمَّ أَصْبَحَ مَنْهِيًّا عَنْهَا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

4) وَأَمَّا الحَدِيْثُ الَّذِيْ فِيْهِ الاتِّكَاءُ عَلَى الصُوْرَةِ، فَالجَوَابُ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: أ) قَوْلُهَا (وَفِيْهَا صُوْرَةٌ) مَحْمُوْلٌ عَلَى أَنَّ فِيْهَا أَجْزَاءٌ مِنَ الصُوْرَةِ الَّتِيْ قُطِعَتْ وَلَيْسَ كَامِلَ الصُوْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَخْبَرَتْ عَنْ نَمَطِهَا أَنَّ فِيْهِ صُوْرَةً - بِلَفْظِ الإِفْرَادِ - وَأَنَّهَا جَعَلَتْ مِنْهُ مِرْفَقَتَيْنِ - بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ -؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصُوْرَةَ - مَوْضِعَ النَّهْيَ - قَدْ صَارَتْ شِقَّيْنِ وَلَمْ تَبْقَ عَلَى حَالِهَا؛ فَتَأَمَّلْ، وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. ب) أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُقِرَّهَا عَلَى النُّمْرُقَةِ (الوِسَادَةِ) الَّتِيْ فِيْهَا صُوْرَةٌ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنَ الحَمْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ غَيْرِهِ، وَهُوَ إِمَّا أَنَّ الصُوْرَةَ مُقَطَّعَةٌ، أَوْ أَنَّهَا صُوْرَةُ مَا لَيْسَ بِذِي رَوْحٍ. ج) أَنَّهُ يُمْكِنُ القَوْلُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّهْي، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ إِنْكَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ سَتْرُ الجِدَارِ أَصْلًا (¬1)، وَلَيْسَ وجُوْدُ الصُوْرَةِ نَفْسِهَا؛ كَمَا هُوَ فِي لَفْظِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ - وَقَدْ سَبَقَ -، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصُوْرَةَ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مَنْهِيًّا عَنْهَا. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. ¬

_ (¬1) وَلَفْظُ مُسْلِمِ (2107) (إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّيْنَ).

المسألة السابعة) إذا كان التصوير واقتناء الصور محرما، فما الجواب عن شبهة جواز صنع التماثيل في قوله تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام

- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) إِذَا كَانَ التَّصْوِيْرُ وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ مُحَرَّمًا، فَمَا الجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ جَوَازِ صُنْعِ التَّمَاثِيْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {يَعْمَلُوْنَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيْبَ وَتَمَاثِيْلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُوْرٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُوْرُ} (سَبَأ:13)؟ (¬1) الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ التِّمْثَالَ لَا يَعْنِي بِالضَّرُوْرَةِ أَنْ يَكُوْنَ عَلَى صُوْرَةِ ذِيْ رَوْحٍ، فَقَدْ يَكُوْنُ عَلَى صُوْرَةِ شَيْءٍ مُبَاحٍ كَالشَّجَرِ وَمَا لَا رَوْحَ فِيْهِ. 2) أَنَّ التَّمَاثِيْلَ لَوْ كَانَتْ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ فَهِيَ كَانَتْ جَائِزَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلِنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا لَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَ شَرْعَنَا، فَشَرْعُنَا أَتَمُّ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا كَمَا لَا يَخْفَى، حَيْثُ جَاءَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ - وَالَّذِيْ هُوَ أَصْلًا سَبَبُ النَّهِي عَنِ التَصْوِيْرِ -. (¬2) وَالحَمْدُ للهِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (¬3): (وَقَدِ اسْتَشْكَلَ كَوْنُ المَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُ المَكَانَ الَّذِيْ فِيْهِ التَّصَاوِيْرُ مَعَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {يَعْمَلُوْنَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيْبَ وَتَمَاثِيْلَ}، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ وَمِنْ زُجَاجٍ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَالجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيْعَةِ، وَكَانُوا يَعْمَلُوْنَ أَشْكَالَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ مِنْهُمْ عَلَى هَيْئَتِهِمْ فِي العِبَادَةِ لِيَتَعَبَّدُوا كَعِبَادَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ أَبُو العَالِيَةِ (¬4): لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ حَرَامًا ثُمَّ جَاءَ شَرْعُنَا بِالنَّهْي عَنْهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّمَاثِيْلَ كَانَتْ عَلَى صُوْرَةِ النُّقُوشِ لِغَيْرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمَلًا؛ لَمْ يَتَعَيَّنِ الحَمْلُ عَلَى المَعْنَى المُشْكِلِ). ¬

_ (¬1) {مَحَارِيْبَ}: أَيْ: المَسَاجِدَ وَالأَبْنِيَةَ المُرْتَفِعَةِ. {جِفَانٍ}: قِصَاعٍ. {كَالجَوَابِ}: كَالحِيَاضِ الَّتِيْ يُجْبَى فِيْهَا المَاءُ. {قُدُوْرٍ رَاسِيَاتٍ}: ثَابِتَاتٍ لَهَا قَوَائِمُ؛ لَا يُحَرَّكْنَ عَنْ أَمَاكِنِهَا لِعَظْمِهِنَّ. (¬2) قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (391/ 6): (قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَتَمَاثِيْلَ} أَيْ: كَانُوا يَعْمَلُوْنَ لَهُ تَمَاثِيْلَ، أَيْ: صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ وَصُفْرٍ وَشَبَّةٍ وَزُجَاجٍ وَرُخَامٍ. وَقِيْلَ: كَانُوا يُصَوِّرُوْنَ السِّبَاعَ وَالطُّيُوْرَ. وَقِيْلَ: كَانُوا يَتَّخِذُوْنَ صُوَرَ المَلَائِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ فِي المَسَاجِدِ لِيَرَاهَا النَّاسُ فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي شَرِيعَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ عِيْسَى كَانَ يَتَّخِذُ صُوَرًا مِنَ الطِّيْنِ فَيَنْفُخُ فِيْهَا فَتَكُوْنُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ). (¬3) فَتْحُ البَارِي (382/ 10). (¬4) (أَبُو العَالِيَةِ): هُوَ الإِمَامُ المُقْرِئُ الحَافِظُ المُفَسِّرُ؛ أَبُو العَالِيَةِ؛ رُفَيْعُ بْنُ مِهْرَانَ الرِّيَاحِيُّ؛ البَصْرِيُّ؛ أَحَدُ الأَعْلَامِ؛ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِيْنَ، وَفَاتُهُ قُرَابَةُ التِّسْعِيْنَ. انْظُرِ السِّيَرَ (207/ 4) لِلذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.

المسألة الثامنة) إذا كان التصوير واقتناء الصور محرما، فما الجواب عن الأحاديث التي فيها وجود بعض التماثيل

- المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ) إِذَا كَانَ التَّصْوِيْرُ وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ مُحَرَّمًا، فَمَا الجَوَابُ عَنِ الأَحَادِيْثِ الَّتِيْ فِيْهَا وجُوْدُ بَعْضِ التَّمَاثِيْلِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَنَاتِ عَائِشَةَ (¬1)، وَالفَرَسِ الَّذِيْ لَهُ جَنَاحَانِ (¬2)، وَصُنْعِ الصَّحَابِةِ لِلُعَبِ العِهْنِ لِلأَوْلَادِ فِي رَمَضَانَ (¬3)، وَعَدَمِ التَّحَرُّزِ مِنَ التَّعَامُلِ بِالدَّرَاهِمِ الفَارِسِيَّةِ وَالدَّنَانِيْرِ الرُّوْمِيَّةِ الَّتِيْ عَلَيْهَا صُوَرُ مُلُوْكِهِم؟ الجَوَابُ: 1) أَنَّ الأَحَادِيْثَ الَّتِيْ فِيْهَا وُجُوْدُ بَعْضِ اللُّعَبِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ لُعَبٌ لِلأَوْلَادِ، وَهِيَ مِمَّا دَلَّتِ النُّصُوْصُ عَلَى جَوَازِهَا، فَيَكُوْنُ مُسْتَثْنَىً مِنَ الأَصْلِ. وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ نَقُوْلُ: إِنَّ تَحْرِيْمَ التَّصْوِيْرِ وَوجُوْدِ الصُّوَرِ مَشْمُوْلٌ بِقَاعِدَةِ (مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيْعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ) (¬4)، فَلُعَبُ البَنَاتِ مَثَلًا تُسَاعِدُ عَلَى تَعْلِيْمِهِم مَا يُسَمَّى اليَوْمَ بِالتَّدْبِيْرِ المَنْزِلِيِّ (¬5)، وَمِثْلُهُ الفَرَسُ ذُوْ الجَنَاحَيْنِ فَهُوَ مِمَّا يُشَجِّعُ الفُرُوْسِيَّةَ وَيَبْعَثُ الهِمَّةَ عَلَى فُنُوْنِ الجِهَادِ، وَأَيْضًا صُنْعُ اللُّعَبِ مِنَ العِهْنِ لِلأَطْفَالِ فِي رَمَضَانَ؛ فَهُوَ لِتَحْقِيقِ فَائِدَةِ تَصْبِيْرِهِم عَلَى الصِّيَامِ حَتَّى يَحِيْنَ مَوْعِدُ الإِفْطَارِ. 2) أَمَّا عَدَمُ التَّحَرُّزِ مِنَ التَّعَامُلِ بِالدَّرَاهِمِ الفَارِسِيَّةِ وَالدَّنَانِيْرِ الرُّوْمِيَّةِ الَّتِيْ عَلَيْهَا صُوَرُ مُلُوْكِهِم؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الحَرَجِ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ} (الحَجّ:78). (¬6) ¬

_ (¬1) وَالحَدِيْثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6130)، وَمُسْلِمٌ (81) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (كُنْتُ أَلْعَبُ بِالبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬2) وَالحَدِيْثُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوْكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ؛ فَهَبَّتْ رِيْحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟) قَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَالَ: (مَا هَذَا الَّذِيْ أَرَى وَسْطَهُنَّ؟) قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: (وَمَا هَذَا الَّذِيْ عَلَيْهِ). قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: (فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ!). قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4932). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4932). (¬3) وَالحَدِيْثُ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ قَالَتْ: (أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُوْرَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: (مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ)، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُوْمُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنْ العِهْنِ؛ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُوْنَ عِنْدَ الإِفْطَارِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1960)، وَمُسْلِمٌ (1136). (¬4) وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ابْنُ القيَّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعْلَامُ المُوَقِّعِيْنَ) (108/ 2). (¬5) وَالتَّخْصِيْصُ مِنَ العُمُوْمِ هُوَ مَذْهَبُ الجُمْهُوْرِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوْخَةٌ بِأَحَادِيْثِ النَّهْي، وَلَكِنَّ هَذَا التَّوْجِيْهَ الأَخِيْرَ مَرْجُوْحٌ لِإِمْكَانِيَّةِ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالتَّخْصِيْصِ المَذْكُوْرِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (527/ 10): (وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيْثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ صُوَرِ البَنَاتِ وَاللُّعَبِ مِنْ أَجْلِ لَعِبِ البَنَاتِ بِهِنَّ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُوْمِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ عَنِ الجُمْهُوْرِ؛ وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ اللُّعَبِ لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيْبِهِنَّ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى أَمْرِ بُيُوْتِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ، قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُهُم إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوْخٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَحَكَى عَن ابْنِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ لِابْنَتِهِ الصُّوَرَ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الدَّاوْدِيُّ أَنه مَنْسُوخٌ. وَقَدْ ترْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ الإِبَاحَةَ لِصِغَارِ النِّسَاءِ اللَّعِبَ بِاللُّعَبِ، وَتَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ: إِبَاحَةَ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ اللَّعِبَ بِالبَنَاتِ، فَلَمْ يُقَيَّدْ بِالصِّغَرِ وَفِيْهِ نَظَرٌ. قَالَ البَيْهَقِيُّ بَعْدَ تَخْرِيْجِهِ: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ؛ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لِعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ. وَبِه جَزَمَ ابْنُ الجَوْزِيِّ، وَقَالَ المُنْذِرِيُّ: إِنْ كَانَتِ اللُّعَبُ كَالصُوْرَةِ؛ فَهُوَ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُسَمَّى مَا لَيْسَ بِصُوْرَةٍ لُعْبَةً، وَبِهَذَا جَزَمَ الحَلِيْمِيُّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ صُوْرَةً كَالوَثَنِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ. وَقِيْلَ مَعْنَى الحَدِيْثِ: اللَّعِبُ مَعَ البَنَاتِ أَيِ الجَوَارِي، وَالبَاءُ هُنَا بِمَعْنَى مَعَ. حَكَاهُ ابْنُ التِّيْنِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ وَرَدَّهُ. قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي الجَامِعِ مِنْ رِوَايَةَ سَعِيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَخْزُومِيِّ عَنْهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الحَدِيْثِ (وَكُنَّ جِوَارِي يَأْتِينَ فَيَلْعَبْنَ بِهَا مَعِيَ) وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عَنْ هِشَامٍ (كُنْتُ أَلْعَبُ بِالبَنَاتِ - وَهُنَّ اللُّعَبُ -). أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوْكَ أَوْ خَيْبَرَ) فَذَكَرَ الحَدِيْثَ فِي هَتْكِهِ السِّتْرَ الَّذِيْ نَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا، قَالَتْ: (فَكَشَفَ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَلَى بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟) قَالَتْ: بَنَاتِي، قَالَتْ: وَرَأَى فِيْهَا فَرَسًا مَرْبُوطًا لَهُ جَنَاحَانِ فَقَالَ: (مَا هَذَا؟) قُلْتُ: فَرَسٌ، قَالَ: (فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟) قُلْتُ: أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ خَيْلٌ لَهَا أَجْنِحَةٌ! فَضَحِكَ). فَهَذَا صَرِيْحٌ فِي أَنَّ المُرَادَ بِاللُّعَبِ غَيْرُ الآدَمِيَّاتِ. قَالَ الخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الحَدِيْثِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالبَنَاتِ لَيْسَ كَالتَّلَهِّي بِسَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِيْ جَاءَ فِيْهَا الوَعِيْدُ، وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَةَ فِيْهَا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ. قُلْتُ: وَفِي الجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ؛ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً - إِمَّا أَكْمَلَتْهَا أَوْ جَاوَزَتْهَا أَوْ قَارَبَتْهَا - وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا، فَيَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فِي خَيْبَرَ، وَيُجْمَعُ بِمَا قَالَ الخَطَّابِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ التَّعَارُض). (¬6) وَقَدْ ذهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا كَانَ مِنْ بَابِ الامْتِهَانِ، وَهَذَا بَعِيْدٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الكُفَّارَ مَا وَضَعُوا صُوَرَ مُلُوْكِهِم عَلَيْهَا إِلَّا لِلتَّعْظِيْمِ وَالتَّخْلِيْدِ لِذِكْرَاهُم. قَالَ الحَافِظُ الهَيْتَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ المُحْتَاجِ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ) -مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ - (433/ 7) -: (لَا يُؤَثِّرُ حَمْلُ النَّقْدِ الَّذِيْ عَلَيْهِ صُوْرَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَاجَةِ وَلِأَنَّهَا مُمْتَهَنَةٌ بِالمُعَامَلَةِ بِهَا، وَلِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَتَعَامَلُوْنَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيْرٍ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ عَادَةُ حَمْلِهِمْ لَهَا، وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ الإِسْلَامِيَّةُ فَلَمْ تَحْدُثْ إِلَّا فِي زَمَنِ عَبْدِ المَلِكِ وَكَانَ مَكْتُوْبًا عَلَيْهَا اسْمُ اللهِ وَاسْمُ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

المسألة التاسعة) هل النهي عن التصوير أو اقتناء الصور خاص بما كان على صورة ما يعبد من دون الله تعالى فقط؟

- المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ) هَلِ النَّهْيُ عَنِ التَّصْوِيْرِ أَوْ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ خَاصٌّ بِمَا كَانَ عَلَى صُوْرَةِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى فَقَط؟ الجَوَابُ: بَلْ هُوَ نَهْيٌ عَامٌّ، وَالدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُوْرٌ: 1) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّ بِالنَّهِي كُلَّ المُصَوِّرِيْنَ، فَلَا دَلِيْلَ عَلَى التَّخْصِيْصِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِم أَنَّ وَصْفَهُ لِلمُصَوِّرِ بِـ (وَمَنْ أَظْلَمُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المَقْصُوْدَ هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ؛ وَأَنَّ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُعْبَدُ، فَصَحِيْحٌ إِنْ كَانَ التَّصْوِيْرُ لِهَذَا القَصْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ القَصْدِ فَهُوَ مُشَابِهٌ لَهُ وَمُرْتَكِبٌ لِلكَبِيْرَةِ؛ وَهِيَ ذَرِيْعَةُ الشِّرْكِ (¬1)، وَلَا يَكُوْنُ كَمَا فِي لَفْظِ الحَدِيْثِ (وَمَنْ أَظْلَمُ)، وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّهْيَ فِي كَثِيْرٍ مِنَ النُّصُوْصِ السَّابِقَةِ قَدْ جَاءَ مُرَتَّبًا عَلَى التَّصْوِيْرِ وَلَيْسَ عَلَى الشِّرْكِ. (¬2) 2) أَنَّ النَّهْيَ فِي الأَحَادِيْثِ لَمْ يَقَعْ فَقَطْ عَلَى جَانِبِ الشَّرْكِ وَذَرَائِعِهِ، وَإِنَّمَا أَيْضًا عَلَى جَانِبِ المُضَاهَاةِ، وَهَذَهِ عِلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَنِ العِلَّةِ المَذْكُوْرَةِ؛ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِيْنَ يُضَاهِئُوْنَ بِخَلْقِ اللهِ). (¬3) 3) أَنَّ النَّهْيَ لَوْ كَانَ خَاصًّا بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى؛ لَكَانَ الامْتِهَانُ كَافِيًا فِي جَوَاز مِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الوِسَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ فِيْهِمَا تَصَاوِيْرٌ، كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً (¬4) فِيْهَا تَصَاوِيْرٌ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالبَابِ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلْتُ: أَتُوْبُ إِلَى اللهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ: (مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟) قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيْهِ الصُوْرَةُ). (¬5) 4) أَنَّ النُّصُوْصَ الَّتِيْ فِيْهَا وجُوْدُ بَعْضِ الصُّوَرِ أَوِ التَّمَاثِيْلِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا؛ هَلْ يَقَعُ فِي ظَنِّ أَحَدٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِمَعْبُوْدَاتٍ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى! فَكَانَتْ أَوَّلًا مُبَاحَةً ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا لِمَا فيْهَا مِنْ إِظْهَارِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى!! وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَصْلَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ هُوَ نَبْذُ الشِّرْكِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَطْلُوْبٍ. ¬

_ (¬1) وَمِثْلُهُ اتِّخَاذُ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ؛ فَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ وَلَيْسَ شِرْكًا؛ إِلَّا إِنْ صَحِبَهَا قَصْدُ التَّعْظِيْمِ وَالتَّقَرُّبِ بِالمَقْبُورِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِيْهِ الحَدِيْثُ (إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَاَلَّذِيْنَ يَتَّخِذُوْنَ القُبُوْرَ مَسَاجِدَ). صَحِيْحٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ (3844) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْد مَرْفُوْعًا، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص23). (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (91/ 14): (قَوْلُهُ (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا): قِيْلَ: هِيَ مَحْمُوْلَةٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ الصُوْرَةَ لِتُعْبَدَ - وَهُوَ صَانِعُ الأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا - فَهَذَا كَافِرٌ، وَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا، وَقِيْلَ: هِيَ فِيْمَنْ قَصَدَ المَعْنَى الَّذِيْ فِي الحَدِيْثِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِرٌ؛ لَهُ مِنْ أَشَدّ العَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ، وَيَزِيْدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا العِبَادَةَ وَلَا المُضَاهَاةَ، فَهُوَ فَاسِقٌ صَاحِبُ ذَنْب كَبِيْرٍ، وَلَا يَكْفُر كَسَائِرِ المَعَاصِي). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5954)، وَمُسْلِمٌ (2107). (¬4) وَهِيَ الوِسَادَةُ. (¬5) البُخَارِيُّ (5957).

المسألة العاشرة) ألا يكون إبقاء التماثيل التي هي على هيئة ذي روح جائزا من باب حماية الآثار التاريخية والتراث الإنساني، وألم يترك الصحابة رضي الله عنهم أهرا

- المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ) أَلَا يَكُوْنُ إِبْقَاءُ التَّمَاثِيْلِ الَّتِيْ هِيَ عَلَى هَيْئَةِ ذِي رَوْحٍ جَائِزًا مِنْ بَابِ حِمَايَةِ الآثَارِ التَّارِيْخِيَّةِ وَالتُّرَاثِ الإِنْسَانِيِّ، وَأَلَمْ يَتْرِكِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَهْرَامَاتِ الفَرَاعِنَةَ وَفِيْهَا تَمَاثِيْلُ الأَشْخَاصِ كَـ (أَبِي الهَوْلِ)؟ الجَوَابُ: لَا؛ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) عُمُوْمُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (لَا تَدَعَ صُوْرَة إِلَّا طَمَسْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛ إِلَّا سَوَّيْتَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ, وَوُجُوْبِ تَغْيِيْرِهِ). (¬2) 2) أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ أَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الآثَارِ؛ فَإِنَّ سَدَّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ أَوْلَى، لَا سِيَّمَا وَالحَالُ اليَوْمَ ظَاهِرٌ فِي بُعْدِ المُسْلِمِيْنَ عَنْ دِيْنِهِم. (¬3) وَأَمَّا التَّعْلِيْلُ بِكَوْنِ هَذِهِ التَّمَاثِيْلِ مِنَ التُّرَاثِ الإِنْسَانِيِّ؛ فَهَذَا كَلَامٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّاتَ وَالعُزَّى وَهُبَلَ وَمَنَاةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الأَصْنَامِ كَانَتْ تُرَاثًا لِمَنْ يَعْبُدُهَا مِنَ العَرَبِ مِنْ أَهْلِ قُرَيْشٍ وَالجَزِيْرَةِ، وَهُوَ تُرَاثٌ، لَكِنَّهُ تُرَاثٌ مُحَرَّمٌ تَجِبُ إِزَالَتُهُ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَالمُؤْمِنُ يُبَادِرُ إِلَى الامْتِثَالِ وَلَا يَرُدُّ أَمْرَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الحُجَجِ الوَاهِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِيْنَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُوْلُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُوْنَ} (النُّوُر:51). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬4): (وَقَدْ رُوِّيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَال - فِي زَمَانِهِ بِالعِرَاقِ - أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ). (¬5) 3) أَنَّ هَذِهِ التَّمَاثِيْلَ - كَأَبِي الهَوْلِ مَثَلًا - لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُشَاهَدَةً مَعْلُوْمَةً مِنْ قِبَلِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ سُئِلَ المُؤَرِّخُ الزِّرِكْلِيُّ عَنِ الأَهْرَامِ وَأَبِي الهَوْلِ وَنَحْوِهَا: هَلْ رَآهُ الصَّحَابَةُ الَّذِيْنَ دَخَلُوا مِصْرَ؟ فَقَالَ: (كَانَ أَكْثَرُهَا مَغْمُوْرًا بِالرِّمَالِ، وَلَا سِيَّمَا أَبَا الهَوْلِ). (¬6) 4) عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُوْمَةً مُشَاهَدَةً مِنْ قِبَلِهِم؛ فَهَلْ يَسْتَطِيْعُوْنَ إِزَالَتَهَا وَهَدْمَهَا؟ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ بَطُّوْطَة فِي رِحْلَتِهِ (17/ 1) أَنَّ الخَلِيْفَةَ المَأْمُوْنَ حَاوَلَ تَدْمِيْرَ الأَهْرَامِ وَضَرَبَهَا بِالمنْجَنِيْقِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ إِلَّا فِي إِحْدَاثِ ثُلْمٍ فِيْهَا. (¬7) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (969). (¬2) شَرْحُ مُسْلِمٍ (82/ 14). (¬3) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الأَصْنَامَ اليَوْمَ مَا زَالَتْ تُعْبَدُ مِنْ قِبَلِ كَثِيْرٍ مِنَ الأُمَمِ، وَاسْأَلْ - إِنْ شِئْتَ - عَنْ مَعْبُودَاتِ أَهْلِ الهِنْدِ وَاليَابَانِ وَغَيْرِهَا اليَوْمَ مِنَ الأُمَمِ المُتَحَضِّرَةِ - زَعَمُوا -. (¬4) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (147/ 5). (¬5) وَهُوَ أَثَرٌ صَحِيْحٌ. أَوْرَدَهُ الرَّبَعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الشَّامِ، اُنْظُرْ تَخْرِيْجَ كِتَابِ فَضَائِلِ الشَّامِ (ص51)، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (ش304). (¬6) من كِتَابِهِ (شِبْهُ جَزِيْرَةِ العَرَبِ) (4/ 1188). مُسْتَفَادٌ مِنْ مَوْقِعِ (الإِسْلَامُ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ) عَلَى الشَّبَكَةِ العَنْكَبُوْتِيَّةِ - فَتْوَى رَقَم (20894) -، بِإِشْرَافِ الشَّيْخِ صَالِحِ المُنَجِّدِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬7) بَلْ إِنَّهُ يُوْجَدُ جَدْعٌ فِي أَنْفِ التِّمْثَالِ نَتِيْجَةَ إِطْلَاقِ المَدَافِعِ عَلَيْهِ إِبَّانَ الحَمْلَةِ الفَرَنْسِيَّةِ عَلَى مِصْرَ عَام (1798م)، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيْهِ.

المسألة الحادية عشرة) ما هي شروط استخدام لعب الأطفال؟

- المَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ) مَا هِيَ شُرُوْطُ اسْتِخْدَامِ لُعَبِ الأَطْفَالِ - ذَاتِ الرُّوْحِ -؟ (¬1) قُلْتُ: لِيُعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الأَصْلَ فِي التَّصْوِيْرِ وَاقْتِنَاءِ الصُّوَرِ التَّحْرِيْمُ؛ وَأَنَّ مَا أَجَازَتْهُ الأَدِلَّةُ لَا يَعْنِي نَسْخَ التَّحْرِيْمِ وَالخُرُوْجَ مِنْ هَذَا الأَصْلِ مُطْلَقًا، بَلْ يَبْقَى الجَوَازُ مُقَيَّدًا وُفْقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الأَدِلَّةُ، فَالتَّصْوِيْرُ كَبْيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ (¬2) - كَمَا سَبَقَ عَنِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ -، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيْدِ الجَوَازِ بِظُرُوْفِ النُّصُوْصِ المُبِيْحَةِ خَوْفًا مِنَ التَّوَسُّعِ الغَيْرِ مَحْمُوْدِ؛ وَالتَّفَلُّتِ مِنْ أَصْلِ التَّحْرِيْمِ. ثُمَّ نَقُوْلُ: قَدْ جَاءَتْ أَدِلَّةُ جَوَازِ لُعَبِ الأَطْفَالِ بِالقُيُوْدِ التَّالِيَةِ - فَهْمًا وَلَيْسَتْ نَصًّا -: 1) أَنْ تُحَقِّقَ مَصْلَحَةً لِلطِّفْلِ (¬3): أ) إِمَّا تَرْبَوِيَّةً وَتَعْلِيْمِيَّةً: كَبَنَاتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَهِيَ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَى أُمُوْرِ الأُسْرَةِ وَمَا يُسَمَّى بِالتَّدْبِيرِ المَنْزِلِيِّ اليَوْمَ، كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (كُنْتُ أَلْعَبُ بِالبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬4) (¬5) ب) أَوْ شَرْعِيَّةً: كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوْكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ؛ فَهَبَّتْ رِيْحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟) قَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ؛ فَقَالَ: (مَا هَذَا الَّذِيْ أَرَى وَسْطَهُنَّ؟) قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: (وَمَا هَذَا الَّذِيْ عَلَيْهِ). قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: (فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ!). قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ) (¬6)، فَهُوَ مِمَّا يُشَجِّعُ الفُرُوْسِيَّةَ وَيَبْعَثُ الهِمَّةَ عَلَى فُنُوْنِ الجِهَادِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً آنِيَّةً كَمَا فِي الفَقَرَةِ التَّالِيَةِ. ج) أَوْ آنِيَّةً: كَتَعْوِيْدِهِم عَلَى الصَّبْرِ، حَيْثُ تُلْهِي هَذِهِ اللُّعَبُ الأَطْفَالَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَا. (¬7) فَفِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ؛ قَالَتْ: (أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُوْرَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: (مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ)، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُوْمُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ؛ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُوْنَ عِنْدَ الإِفْطَارِ). (¬8) (¬9) 2) أَنْ يَكُوْنَ عَدَدُهَا وَتَنَوُّعُهَا بِقَدْرِ الحَاجَةِ وَالمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ الأَصْلَ فِيْهَا الحُرْمَةُ. (¬10) ¬

_ (¬1) وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ هِيَ بِحَسْبِ مَا أَرَاهُ صَوَابًا بَعْدَ دِرَاسَتِي لَهَا، فَإِنْ أَصَبْتُ فَمِنَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنْ قُصُوْرِي. وَاللهُ مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ. (¬2) وَلَا يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِالامْتِهَانِ؛ وَإِنَّمَا الَّذِيْ قَيَّدَهُ بِالامْتِهَانِ - بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ - هُوَ المُصَوَّرُ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ التَّصْوِيْرُ - الَّذِيْ هُوَ صُنْعُ الصُّوْرَةِ -. (¬3) وَهُنَا أُوْرِدُ تَقْسِيْمَاتٍ لِلتَّمْثِيْلِ فَقَط؛ ولَيْسَتْ لِلحَصْرِ. (¬4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6130)، وَمُسْلِمٌ (81). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (527/ 10): (وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيْثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ صُوَرِ البَنَاتِ وَاللُّعَبِ مِنْ أَجْلِ لَعِبِ البَنَاتِ بِهِنَّ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُوْمِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ عَنِ الجُمْهُوْرِ؛ وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ اللُّعَبِ لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيْبِهِنَّ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى أَمْرِ بُيُوْتِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ). (¬6) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4932). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4932). (¬7) وَأَمَّا بَعْضُ اللُّعَبِ الَّتِيْ لَا طَائِلَ مِنْ وَرَائِهَا كَلُعْبَةِ الدُّبِّ (الأَحْمَرِ!) مَثَلًا! فَهِيَ حَتْمًا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا البَابِ، وَإِنْ كَانَ لِلأَسَفِ كَثِيْرٌ مِمَّنْ يَقْتَنِيْهَا لَيْسوا مِنَ الصِّغَارِ سِنًّا؛ وَلَكِنَّهُم مِنَ الصِّغَارِ عَقْلًا، عَدَا عَنْ مَا فِيْهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الفِطْرَةِ السَّلِيْمَةِ في الأُنْسِ بِالوُحُوْشِ. (¬8) قُلْتُ: إِنْ أَمْكَنَ الاسْتِغْنَاءُ عَنْ لُعَبِ البَنَاتِ بِمَا يُمَاثِلُهَا مِنَ الأَلْعَابِ الَّتِيْ تُحَقِّقُ الفَائِدَةَ دُوْنَ أَنْ تَكُوْنَ صُوْرَةً فَهُوَ أَمْرٌ حَسَنٌ، كَمِثْلِ لُعَبِ أَدَوَاتِ المَطْبَخِ وَالخِيَاطَةِ وَ .... ، وَلَا بُدَّ لِلأُسْرَةِ المُسْلِمَةِ مِنَ السَّعْي بِاتَّجَاهِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُوْنَ حَدِيْثُ لُعَبِ عَائِشَةَ السَّابِقِ مَحْمُوْلًا عَلَى ظَاهِرِهِ؛ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَاهُ وَفَائِدَتِهِ الَّتِيْ مِنْ أَجْلِهِ أُبِيْحَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيْثُ الرُّبَيِّعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي تَعْوِيْدِ الصِّغَارِ عَلَى الصِّيَامِ، فَهُوَ الآنَ يَتَحَقَّقُ بِكَثيْرٍ مِنَ الأَشْيَاءِ وَالأَلْعَابِ الَّتِيْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً سَابِقًا، خَاصَّةً وَأَنَّ المَقْصُوْدَ مِنْهَا مَعْقُوْلُ المَعْنَى. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (¬9) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1960)، وَمُسْلِمٌ (1136). (¬10) وَلَيْسَ كَبَعْضِ بُيُوْتِ المُتْرَفِيْنَ - بَلِ الجَاهِلِيْنَ - يَجْعَلُوْنَ غُرْفَةَ الطِّفْلِ مَدِيْنَةً لِلصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيْلِ، فَهَلْ مِثْلُ هَذَا هُوَ الَّذِيْ أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!

3) أَنْ تَكُوْنَ مَسْتُوْرَةً مَخْفِيَّةً غَالِبًا، وَتُخْرَجَ وَقْتَ الحَاجَةِ عِنْدَ اللَّعِبِ بِهَا، لِأَنَّ الإِبَاحَةَ جَاءَتْ بِقَيْدِ اللَّعِبِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَجْعَلُهَا ضِمْنَ خِزَانَةِ العَرْضِ الزُّجَاجِيَّةِ مَثَلًا، فَهِيَ - وَإِنْ كَانَتْ لُعْبَةَ أَطْفَالٍ - فَمَكَانُهَا هُنَاكَ لَيْسَ مَكَانَ اللَّعِبِ بِهَا! بَلْ مَكَانُهَا المَطْلُوْبُ هُوَ أَمَامَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ يَدِيْهِ. وَتَأَمَّلْ حَدَيْثَ الرُّبَيِّعِ السَّابِقَ تَجِدْهُ مِنْ هَذَا البَابِ، حَيْثُ أَنَّ إِعْطَاءَ اللُّعَبِ كَانَ إِذَا بَكَى الصَبِيُّ عَلَى الطَّعَامِ، وَإِلَّا فَهِيَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ أَصْلًا. (¬1) 4) أَنْ تَكُوْنَ مَنْزِلِيَّةَ الصُّنْعِ؛ وَلَا تُشْتَرَى مِنْ خَارِجِ البَيْتِ، وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ: أ) أَنَّ المَقْصُوْدَ مِنْهَا: الفَائِدَةُ أَوِ التَّلْهِيَةُ وَلَيْسَ المُضَاهَاةَ؛ كَمَا هُوَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مِنَ خَارِجِ البَيْتِ، لِأَنَّهَا تَكُوْنُ حِيْنَئِذٍ حِرْفَةً تُقْصَدُ فِيْهَا المُضَاهَاةُ، فَلَا بُدَّ إِذًا أَنْ تَكُوْنَ بَسِيْطَةَ الهَيْئَةِ وَالصُّنْعِ. (¬2) ب) أَنَّ غَالِبَ الدُّمَى اليَوْمَ - مِنْ جِهَةِ الوَاقِعِ - تُعَبِّرُ عَنْ عَادَاتِ مُجْتَمَعَاتِهَا، وَغَالِبُهَا مُسْتَوْرَدٌ مِنْ مُجْتَمَعَاتِ الكُفَّارِ؛ كَمَا فِي الدُّمْيَةِ المَشْهُوْرَةِ المُسَمَّاةِ بِـ (بَارْبِي) وَالتِيْ إِنْ كَانَ اقْتِنَاءُ الصُّوَرِ - جَدَلًا - حَلَالًا مُطْلَقًا؛ فَهِي وَحْدَهَا تُسْتَثْنَى لِتَكُوْنَ حَرَامًا؛ لِمَا فِيْهَا مِنْ نَقْلِ هَيْئَةِ الكُفَّارِ فِي لِبَاسِهِم إِلَى مُجْتَمَعِنَا المُسْلِمِ؛ وَضِمْنَ سِيَاقِ تَعْوِيْدِ البَنَاتِ لِتَكُوْنَ هَذِهِ الدُّمْيَةُ قُدْوَةً لَهُنَّ فِي لِبَاسِهِنَّ وَفِسْقِهِنَّ. (¬3) وَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ الأَلبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِجَوَازِ اللُّعَبِ المَصْنُوْعَةِ مَنْزِلِيًّا؛ دُوْنَ الشِّرَاءِ مِنَ الخَارِجِ. (¬4) وَبِهَذَا تَمَّتِ الشُّرُوْطُ بِحَسْبِ مَا ظَهَرَ لِيْ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، فَإِنْ أَصَبْتُ فَمِنَ اللهِ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنْ قُصُوْرِي وَضَعْفِ فَهْمِي. وَالحَمْدُ للهِ أَوْلًا وَآخِرًا. ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلْ أَيْضًا حَدِيْثَ بَنَاتِ عَائِشَةَ - فِيْمَا سَبَقَ - تَجِدُهُ مِنْ هَذَا القَبِيْلِ وَفِيْهِ: (فَهَبَّتْ رِيْحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ). (¬2) وَفِي مَجْمُوْعِ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ آلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ (181/ 1) - جَوَابًا عَلَى سُؤَالٍ حَوْلَ (عَرَائِسِ البَنَاتِ) - قَالَ: (نَعَمْ؛ يَخْتَلِفُ حُكْمُ هَذِهِ الحَادِثَةِ الجَدِيْدَةِ عَنْ حُكْمِ لُعَبِ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ لِمَا فِي هَذِهِ الجَدِيْدَةِ الحَادِثَةِ مِنْ حَقِيْقَةِ التَّمْثِيْلِ وَالمُضَاهَاةِ وَالمُشَابَهَةِ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى، لِكَوْنِهَا صُوَرًا تَامَّةً بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَلَهَا مِنَ المَنْظَرِ الأَنِيْقِ وَالصُّنْعِ الدَّقِيْقِ وَالرَّوْنَقِ الرَّائِعِ مَا لَا يُوْجَدُ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيْبٌ مِنْهُ فِي الصُّوَرِ الَّتِيْ حَرَّمَتْهَا الشَّرِيْعَةُ المُطَهَّرَةُ، وَتَسْمِيَتُهَا لُعَبًا؛ وَصِغَرُ أَجْسَامِهَا؛ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُوْنَ صُوَرًا، إِذْ العِبْرَةُ فِي الأَشْيَاءِ بِحَقَائِقِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا، فَكَمَا أَنَّ الشِّرْكَ شِرْكٌ وَانْ سَمَّاهُ صَاحِبُهُ اسْتِشْفَاعًا وَتَوَسُّلًا، وَالخَمْرَ خَمْرٌ وَإِنْ سَمَّاهَا صَاحِبُهَا نَبِيْذًا، فَهَذِهِ صُوَرٌ حَقِيْقِيَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا صَانِعُوْهَا وَالمُتَاجِرُوْنَ فِيْهَا وَالمَفْتُوْنُوْنَ بِالصُّوَرِ: لُعَبَ أَطْفَالٍ، وَفِي الحَدِيْثِ: (يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقوامٌ يَسْتحِلُّوْنَ الخَمْرَ يُسَمُّوْنَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا). وَمَنْ زعَمَ أَنَّ لُعَبَ عَائِشَةَ صُوَرٌ حَقِيْقِيَّةٌ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ! فَعَلِيْهِ إِقَامَةٌ الدَّلِيْلِ، وَلَنْ يَجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبْيلًا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَنْقُوْشَةً وَلَا مَنْحُوْتَةً وَلَا مَطْبُوْعَةً مِنَ المَعَادِنِ المُنْطَبِعَةِ وَلَا نَحْو ذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ عِهْنٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ خِرَقٍ أَوْ قَصَبَةٍ أَوْ عَظْمٍ مَرْبُوْطٍ فِي عَرْضِهِ عُوْدٌ مُعْتَرِضًا بِشَكْلٍ يُشْبِهُ المَوْجُودَ مِنَ اللُّعَبِ فِي أَيْدِي البَنَاتِ الآنَ فِي البُلْدَانِ العَرَبِيَّةِ البَعِيْدَةِ عَنِ التَّمَدُّنِ وَالحَضَارَةِ مِمَّا لَا تُشْبِهُ الصُوْرَةَ المُحَرَّمَةَ إِلَّا بِنِسْبَةٍ بَعِيْدَةٍ جِدًّا؛ لِمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ يُصَوِّمُوْنَ أَوْلَادَهُم فَإِذَا طَلَبُوا الطَّعَامَ أَعْطَوْهُم اللُّعَبَ مِنَ العِهْنِ يُعَلِّلُوْنَهُم بِذَلِكَ، وَلِمَا فِي سُنَنِ أَبي دَاوُدَ وَشَرْحِهَا مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ مِنْ ذِكْرِ الفَرَسِ ذِي أَرْبَعَةِ الأَجْنِحَةِ مِنْ رِقَاعٍ - يَعْنِي مِنْ خِرَقٍ -؛ وَلِمَا عُلِمَ عَنْ حَالِ العَرَبِ مِنَ الخُشُوْنَةِ غَالِبًا فِي أَوَانِيْهِم وَمَرَاكِبِهِم وَآلَاتِهِم آلَاتِ اللَّعِبِ وَغَيْرِهَا. وَفِيْمَا ذَكَرْتُ هَا هُنَا مَقْنَعٌ لِمُرِيْدِ الحَقِّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى). (¬3) وَلَيْسَتْ أَيْضًا دُمْيَةُ (فُلَّة) بِالخَالِيَةِ مِنَ العُيُوْبِ - وَإِنْ كَانَتْ أَهْوَنَ مِنَ السَّابِقَةِ - وَذَلِكَ لِوُجُوْدِ بَعْضِ المُخَالَفَاتِ فِيْهَا لِلمُتَأَمِّلِ مِنْ (أَحْمَرِ الشِّفَاهِ، وَالكُمِّ الوَاسِعِ وَ ...). (¬4) أَشْرِطَةُ فَتَاوَى جَدَّة (14/ب).

باب ما جاء في كثرة الحلف

بَابُ مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الحَلِفِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (المَائِدَة:89). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ). أَخْرَجَاهُ. (¬1) وَعَنْ سَلْمَانَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يُزَكِّيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ: أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ; لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِيْنِهِ، وَلَا يَبِيْعُ إِلَّا بِيَمِيْنِهِ). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ. (¬2) وَفِي الصَّحِيْحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُمْ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُمْ - قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا? - ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُوْنَ وَلَا يُسْتَشْهَدُوْنَ، وَيَخُوْنُوْنَ وَلَا يُؤْتَمَنُوْنَ، وَيَنْذِرُوْنَ وَلَا يُوْفُوْنَ، وَيَظْهَرُ فِيْهِمُ السِّمَنُ). (¬3) وَفِيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُمْ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُمْ، ثُمَّ يَجِيْءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِيْنَهُ، وَيَمِيْنُهُ شَهَادَتَهُ). وَقَالَ إِبْرَاهِيْمُ كَانُوا يَضْرِبُوْنَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ. (¬4) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: الوَصِيَّةُ بِحِفْظِ الأَيْمَانِ. الثَّانِيَةُ: الإِخْبَارُ بِأَنَّ الحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ. الثَّالِثَةُ: الوَعِيْدُ الشَّدِيْدُ فِيْمَنْ لَا يَبِيْعُ إِلَّا بِيَمِيْنِهِ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِيْنِهِ. الرَّابِعَةُ: التَّنْبِيْهُ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ مَعَ قِلَّةِ الدَّاعِي. الخَامِسَةُ: ذَمُّ الَّذِيْنَ يَحْلِفُوْنَ وَلَا يُسْتَحْلَفُوْنَ. السَّادِسَةُ: ثَنَاؤُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى القُرُوْنِ الثَّلَاثَةِ أَوِ الأَرْبَعَةِ، وَذِكْرُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُمْ. السَّابِعَةُ: ذَمُّ الَّذِيْنَ يَشْهَدُوْنَ وَلَا يُسْتَشْهَدُوْنَ. الثَّامِنَةُ: كَوْنُ السَّلَفِ يَضْرِبُوْنَ الصِّغَارَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (2087)، وَمُسْلِمٌ (1606)، وَابْنُ حِبَّانَ (4906). (¬2) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (246/ 6). صَحِيْحُ الجَامِعِ (3072). (¬3) البُخَاريُّ (2651). (¬4) البُخَاريُّ (2652). وَقَوْلُ إِبْرَاهِيْمَ هَذَا هُوَ تَتِمَّةُ الحَدِيْثِ نَفْسِهِ.

الشرح

الشَّرْحُ - قَوْلُهُ (بَابُ مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الحَلِفِ): أَيْ: مِنَ النَّهْي عَنْهُ وَالوَعِيْدِ، وَالمَقْصُوْدُ كَثْرَةُ الحَلِفِ بِاللهِ تَعَالَى. - كَثْرَةُ الحَلِفِ هُوَ مَظَنَّةُ تَقْلِيْلِ شَأْنِ المَحْلُوْفِ بِهِ وَالاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَهُوَ يُنَافِي كَمَالَ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ؛ وَيُفْضِي إِلَى الحَلِفِ كَذِبًا بِهِ، فَإِنَّمَا شُرِعَتْ اليَمِيْنُ لِتَأْكِيْدِ الأَمْرِ المَحْلُوْفِ عَلَيْهِ، وَتَعْظِيْمًا لِلخَالِقِ. قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬1): (قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِيْنٍ} (القَلَم:10) أَيْ: كَثِيْرِ الحَلِفِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُوْنُ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ كَذَّابٌ، وَلَا يَكَوْنُ كَذَّابًا إِلَّا وَهُوَ {مَهِيْنٌ} أَيْ: خَسِيْسُ النَّفْسِ). - تَمَامُ الآيَةِ الَّتِي فِي المَتْنِ هُوَ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِيْنَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُوْنَ أَهْلِيْكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ} (المَائِدَة:89). (¬2) - فِي الحَلِفِ جَاءَتْ أَحَادِيْثُ مُتَنَوِّعَةٌ، وَفِيْمَا يَرْتَبِطُ بِالبَابِ نَذْكُرُ مِنْهَا: 1) حَدِيْثُ البَابِ (الحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ؛ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ). 2) حَدِيْثُ البَابِ، وَفِيْهِ (وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ; لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِيْنِهِ، وَلَا يَبِيْعُ إِلَّا بِيَمِيْنِهِ). 3) حَدِيْثُ (إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الحَلِفِ فِي البَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ). (¬3) 4) حَدِيْثُ (اليَمِيْنُ الكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ؛ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ). (¬4) 5) حَدِيْثُ (احْلِفُوا بِاللهِ وَبِرُّوا وَاصْدُقُوا؛ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُحْلَفَ بِهِ). (¬5) وَعَلَيْهِ يَكُوْنُ: 1) الحَلِفُ وَكَثْرَةُ الحَلِفِ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا؛ إِلَّا لِحَاجَةٍ أَو طَاعَةٍ. (¬6) 2) الحَلِفُ فِي البَيْعِ مَكْرُوْهٌ مُطْلَقًا. 3) أَنَّ الحَلِفَ الكَاذِبَ فِيْهِ يَزِيْدُهُ حُرْمَةً. 4) أَنَّ الحَلِفَ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِاللهِ، وَإِلَّا كَانَ مَعْصِيَةً وَشِرْكًا. ¬

_ (¬1) (ص897). (¬2) وَالكِسْوَةُ: هِيَ قَدْرُ مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ. تَفْسِيْرُ السَّعْدِيِّ (ص242). (¬3) مُسْلِمٌ (1607) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ مَرْفُوْعًا. (¬4) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (7207) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (3363). (¬5) صَحِيْحٌ. الحِلْيَةُ (267/ 7) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1119). (¬6) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي (الأُمِّ) (64/ 7): (وَأَكْرَهُ الأَيْمَانَ بِاللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِيْمَا كَانَ للهِ طَاعَةً؛ مِثْلَ البَيْعَةِ عَلَى الجِهَادِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (529/ 11) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ البُخَارِيِّ؛ وَفِيْهِ (وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ) (أي الأَنْصَارُ) -: (وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيْثِ جَوَازُ الحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ قَوْمٌ: يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم)، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ عَنِ الوَفَاءِ بِهَا. وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ أَوْ دَعَتْ إِلَيْهَا حَاجَةٌ كَتَأْكِيْدِ أَمْرٍ أَوْ تَعْظِيْمِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيْمَ أَوْ كَانَ فِي دَعْوَى عِنْدَ الحَاكِمِ وَكَانَ صَادِقًا).

- قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فِيْهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: 1) النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ الحَلِفِ. 2) أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَلْيُوَفِّ؛ وَلَا يَحْنُثْ فِيْهَا. 3) أَنَّ مَنْ حَنَثَ فِيْهَا فَلَا يَتْرُكْهَا دُوْنَ تَكْفِيْرٍ. وَالمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أَرَادَ مِنَ الآيَةِ المَعْنَى الأَوَّلَ - وَإِنْ كَانَ الجَمِيْعُ مَشْمُوْلًا بِالآيَةِ -، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَ المَعَانِي الثَّلَاثَةِ تَعْظِيْمُ اللهِ تَعَالَى. - الأَفْضَلُ فِي مَنْ حَلَفَ عَدَمُ الحِنْثِ بِاليَمِيْنِ إِلَّا لِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ: كَأَنْ يَكُوْنَ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوْهٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} (البَقَرَة:224). أَوْ أَنْ يَأْتِيَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِيْنٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا؛ إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا). (¬1) - قَوْلُهُ (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُم وَلَا ...): دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الكَبَائِرِ. - قَوْلُهُ (لَا يُكَلِّمُهُم): المُرَادُ بِنَفي الكَلَامِ هُنَا كَلَامُ الرِّضَا، أَمَّا كَلَامُ العَرْضِ وَالتَّوْبِيْخِ؛ فَإِنَّ هَذَا الحَدِيْثَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ، وَفِي الحَدِيْثِ (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ - لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ - فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ). (¬2) (¬3) - قَوْلُهُ (لَايُزَكِّيْهِم): أَيْ: لَا يُوَثِّقُهُم وَلَا يَشْهَدُ لَهُم بِالإِيْمَانِ. (¬4) - قَوْلُهُ (أُشَيْمِطٌ): الأُشَيْمِطُ: تَصْغِيْرُ (أَشْمَط)، وَالأَشْمَطُ: هُوَ الَّذِيْ بَدَأَهُ الشَّيْبُ، وَصَغَّرَهُ تَحْقِيْرًا لِشَأْنِهِ. (¬5) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (3133)، وَمُسْلِمٌ (1649) عَنْ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوْعًا. (¬2) البُخَارِيُّ (7512)، وَمُسْلِمٌ (1016) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مَرْفُوْعًا. (¬3) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوْقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُوْنَ} (الأَحْقَاف:34). (¬4) وَأَيْضًا لَا يُطَهِّرُهُم مِنَ الأَخْلَاقِ الرَّذِيْلَةِ؛ وَهَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الزَّكَاةَ هِيَ التَّطْهِيْرُ. (¬5) قَالَ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص674): (الشَّمَطُ، بَيَاضُ الرَّأْسِ يُخالِطُ سَوَادَهُ).

- قَوْلُهُ (عَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ): الاسْتِكْبَارُ يَكُوْنُ لِلذَّاتِ - كَهَذَا الحَدِيْثِ -، وَيَكُوْنُ لِلصِّفَاتِ (كَمَنْ لَدِيْهِ جَاهٌ وَمَالٌ وَحَسَبٌ يَدْفَعُهُ لِذَلِكَ). - قَوْلُهُ (زَانٍ) وَ (مُسْتَكْبِرٌ): يَدُلُّ عَلَى خُبْثِ الطَّبْعِ، فَمَنْ كَبُرَ سِنُّهُ ضَعُفَتْ شَهْوَتُهُ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فَقِيْرًا ذُوْ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَدِيْهِ مَا يَفْتِنُهُ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الكِبْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الخُبْثَ هُوَ فِي أَصْلِ طِبَاعِهِم؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ شَابًّا فَشَهْوَتُهُ العَارِمَةُ تَقُوْدُهُ، أَوْ مَنْ كَانَ غَنِيًّا ذَا مَالٍ وَجَاهٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغْرِيْهِ بِالكِبْرِ، لِذَلِكَ قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (اَلتَّنْبِيْهُ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ مَعَ قِلَّةِ الدَّاعِي). - قَوْلُهُ (جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ): وَذَلِكَ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ وَغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ يُكْثِرُ مِنَ الحَلِفِ تَهَاونًا. - قَوْلُهُ (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي): يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيْلِهِم مُقَارَنَةً مَعَ كُلِّ الأَزْمِنَةِ، فَصَحَابَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الحَوَارِيِّيْنَ الَّذِيْنَ هُمْ أَنْصَارُ عِيْسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَفْضَلُ مِنَ النُّقَبَاءِ السَّبْعِيْنَ الَّذِيْنَ اخْتَارَهُمْ مُوْسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬1) (¬2) - قَوْلُهُ (قَرْنِي):القَرْنُ مُعْتَبَرٌ بِمُعْظَمِ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ مُعْظَمُ النَّاسِ الصَّحَابَةُ؛ فَالقَرْنُ قَرْنُهُم، وَإِذَا كَانَ مُعْظَمُ النَّاسِ التَّابِعِيْنَ؛ فَالقَرْنُ قَرْنُهُم، وَهَكَذَا. (¬3) وَلَكِنَّ هَذِهِ الأَفْضَلِيَّةَ أَفْضَلِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ العُمُوْمِ وَالجِنْسِ؛ لَا مِنْ حَيْثُ الأَفْرَادِ مُطْلَقًا، فَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُوْجَدُ فِي تَابِعِي التَّابِعِيْن مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ بَعْضِ التَّابِعِيْنَ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُوْجَدُ فِي التَّابِعِيْنَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَمَّا فَضْلُ الصُّحْبَةِ؛ فَلَا يَنَالُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الصَّحَابَةِ، وَلَا أَحَدَ يَسْبِقُهُم فِيْهِ، وَأَمَّا العِلْمُ وَالعِبَادَةُ؛ فَقَدْ يَكُوْنُ فِيْمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضِهِم عِلْمًا وَعِبَادَةً. ¬

_ (¬1) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاخْتَارَ مُوْسَى قَوْمَهُ سَبْعِيْنَ رَجُلًا لِمِيْقَاتِنَا} (الأَعْرَاف:155). (¬2) قَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ (3649) (بَاب فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَآهُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ)، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ؛ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيَقُوْلُوْنَ: فِيْكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ: هَلْ فِيْكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ: هَلْ فِيْكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ). (¬3) قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ المَعْبُوْدِ (267/ 12): (وَالقَرْنُ: أَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ، وَهُوَ مِقْدَارُ التَّوَسُّطِ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، وَقِيلَ: القَرْنُ أَرْبَعُوْنَ سَنَةً، وَقِيْلَ ثَمَانُوْنَ، وَقِيْلَ مِائَةُ سَنَةٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِمُدَّةٍ. فَقَرْنُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الصَّحَابَةُ، وَكَانَتْ مُدَّتُهُمْ مِنَ المَبْعَثِ إِلَى آخِرِ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، وَقَرْنُ التَّابِعِيْنَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ إِلَى نَحْوِ (مِائَة وَ) سَبْعِينَ، وَقَرْنُ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْنَ مِنْ ثَمَّ إِلَى نَحْوِ العِشْرِيْنَ وَمِائَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الوَقْتِ ظَهَرَتِ البِدَعُ ظُهُورًا فَاشِيًا، وَأَطْلَقَتِ المُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا).

- قَوْلُهُ (وَيَخُوْنُوْنَ وَلَا يُؤْتَمَنُوْنَ): هِيَ مِنْ عَلَامَاتِ وُقُوْعِ الفِتَنِ كَمَا فِي عِدَّةِ أَحَادِيْثَ، مِنْهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَوْقُوْفًا -: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ؛ يَهْرَمُ فِيْهَا الكَبِيْرُ، وَيَرْبُو فِيْهَا الصَّغِيْرُ، وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَتْ؛ قَالُوا: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ. قَالُوا: وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ). (¬1) - قَوْلُهُ (وَيَظْهَرُ فِيْهِم السِّمَنُ): لِرَغْبَتِهِم فِي الدُّنْيَا، وَنَيْلِ شَهَوَاتِهِم وَالتَّنَعُّمِ بِهَا، وَغَفْلَتِهِم عَنِ الدَّارِ الآخِرَةِ وَالعَمَلِ لَهَا. (¬2) - قَوْلُهُ (كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ): قَالَ أَبُو عُمَر (ابْنُ عَبْدِ البَرِّ): (مَعْنَاهُ عِنْدَهُم: النَّهْيُ عَنْ مُبَادَرَةِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: (أَشْهَدُ بِاللهِ) وَ (عَلَى عَهْدِ اللهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا) وَنحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَضْرِبُوْنَهُم عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَصِيْرَ لَهُمْ بِهِ عَادَةٌ فَيَحْلِفُوْنَ فِي كُلِّ مَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ). (¬3) - الضَّرْبُ مُبَاحٌ شَرْعًا فِي سِيَاقِ التَّأْدِيْبِ وَالتَّرْبِيَةِ وَعِلَاجِ النُّشُوْزِ؛ كَمَا فِي قَوْلِ النَّخَعِيِّ هُنَا، وَكَمَا فِي حَدِيْثِ (مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِيْنَ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِيْنَ فَاضْرِبُوْهُ عَلَيْهَا) (¬4)، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عِلَاجِ نُشُوْزِ المَرْأَةِ: {وَاللَّاتِي تَخَافُوْنَ نُشُوْزَهُنَّ فَعِظُوْهُنَّ وَاهْجُرُوْهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوْهُنَّ} (النِّسَاء:34). (¬5) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الدَّارِمِيُّ (191). صَحَّحَهُ الشَّيْخُ حُسَيْن سَلِيْم أَسَد حَفِظَهُ اللهُ. (¬2) فَالسِّمَنُ هُنَا هِيْ نَتِيْجَةٌ وَلَيْسَتْ سَبَبًا. (¬3) عُمْدَةُ القَارِي لِلعَيْنِيِّ (214/ 13). (¬4) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (495) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا. الإِرْوَاء (298). (¬5) وَقالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِهِ (32/ 7): (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللهِ {وَاضْرِبُوْهُنَّ} أَيْ: ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ). قَالَ القُرْطُبُيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (172/ 5): (وَالضَّرْبُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ ضَرْبُ الأَدَبِ غَيْرُ المُبَرِّحِ، وَهُوَ الَّذِيْ لَا يَكْسِرُ عَظْمًا وَلَا يَشِيْنُ جَارِحَةً؛ كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ المَقْصُوْدَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ. فَلَا جَرَمَ إِذَا أَدَّى إِلَى الهَلَاكِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ القَوْلُ فِي ضَرْبِ المُؤَدِّبِ غُلَامَهُ لِتَعْلِيْمِ القُرْآنِ وَالأَدَبِ).

- فَائِدَةٌ) تُشْتَرَطُ لِجَوَازِ ضَرْبِ الصَّغِيْرِ - تَأْدِيْبًا - أُمُوْرٌ؛ مِنْهَا: 1) أَنْ يَكُوْنَ الصَّغِيْرُ قَابِلًا لِلتَّأْدِيْبِ، فَلَا يُضْرَبُ مَنْ لَا يَعْرِفُ المُرَادَ مِنَ الضَّرْبِ. (¬1) (¬2) 2) أَنْ يَكُوْنَ التَّأْدِيْبُ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ. (¬3) 3) أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي ذَلِكَ كَمًّا أَوْ نَوْعًا. (¬4) 4) أَنْ يَقَعَ مِنَ الصَّغِيْرِ مَا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيْبَ عَلَيْهِ. 5) أَنْ يَقْصِدَ تَأْدِيْبَهُ؛ لَا الانْتِقَامَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ قَصَدَ الانْتِقَامَ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّبًا بَلْ مُنْتَصِرًا. ¬

_ (¬1) وَحَدَّهُ الشَّيْخُ الأَلبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِمَا بَعْدَ العَشْرِ سِنِيْنَ إِلَى البُلُوْغِ كَمَا فِي أَشْرِطَةِ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ (306). (¬2) وَسُئِلَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ ضَرْبِ المُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ، قَالَ: (عَلَى قَدْرِ ذُنُوْبِهِم، وَيَتَوَقَّى بِجُهْدِهِ الضَّرْبَ، وَإِذَا كَانَ صَغِيْرًا لَا يَعْقِلُ؛ فَلَا يَضْرِبْهُ). انْظُرْ كِتَابَ (المُغْنِي) (397/ 5) لِابِنْ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬3) وَاليَتِيْمُ يَجُوْزُ لِكَافِلِهِ أَنْ يَضْرِبَهُ لِحَدِيْثِ شُمَيْسَةَ العَتَكِيَّةِ؛ قَالَتْ: ذُكِرَ أَدَبُ اليَتِيْمِ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: (إِنِّي لأَضْرِبُ اليَتِيْمَ حَتَّى يَنْبَسِطَ). صَحِيْحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (142). صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (105). قُلْتُ: أَيْ: حَتَّى يَمْتَدَّ وَيَنْبَطِحَ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الاسْتِيَاءِ، وَهَذَا الضَّرْبُ دَاخِلٌ فِي عُمُوْمِ الإِحْسَانِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرْبِيَةِ وَالأَدَبِ. (¬4) فَلَا يَزِيْدُ المُرَبِّي فِي ضَرْبِهِ عَنْ عَشْرِ ضَرْبَاتٍ، لِمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6848)، وَمُسْلِمٌ (1708) عَنْ أَبِي بُرْدةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا (لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُوْدِ اللهِ).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُهُ (يَشْهَدُوْنَ وَلَا يُسْتَشْهَدُوْنَ) يُشْكِلُ مَعَ حَدِيْثِ (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِيْ يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) (¬1)، فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ: أَنَّ المَقْصُوْدَ بِحَدِيْثِ البَابِ تَعْظِيْمُ جَنَابِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُكْثِرَ مِنَ الحَلِفِ بِاللهِ، فَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُوْنَ دُوْنَ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُمُ الشَّهَادَةُ، بَلْ يُبَادِرُوْنَ إِلَيْهَا، فَهَذَا دَلِيْلٌ عَلَى اسْتِخْفَافِهِم بِالشَّهَادَةِ؛ وَمُسَارَعَتِهِم إِلَيْهَا لِقِلَّةِ دِيْنِهِم وَقِلَّةِ أَمَانَتِهِم، وَأَمَّا الحَدِيْثُ الآخَرُ فَمَعْنَاهُ هُوَ مَدْحُ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا هُوَ؛ فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا. (¬2) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1719) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ مَرْفُوْعًا. (¬2) قُلْتُ: وَمَعْنَاهُ حِرْصُهُ عَلَى حُقُوْقِ المُسْلِمِيْنَ.

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) فِي حَدِيْثِ البُخَارِيِّ (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي)، قَدْ وَرَدَ فِي نُصُوْصٍ أُخَرَ صَحِيْحَةٍ قَوْلُهُ ((إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ زَمَانَ صَبْرٍ؛ للمُتَمَسِّكِ فِيْهِ أَجْرُ خَمْسِيْنَ شَهِيْدًا)، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (مِنْكُمْ)). (¬1) فَمَا التَّوْفِيْقُ؟ وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ الأَجْرِ فِي العَمَلِ زِيَادَةُ الفَضْلِ، أَيْ: أَنَّ الفَضْلَ الأَكْبَرَ هُوَ قَطْعًا لِلصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلٍ مَا أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُوْنَ هُمْ عَلَى نَفْسِ الفِعْلِ، كَالحَدِيْثِ السَّابِقِ. 2) أَنَّ هَذَا الأَجْرَ لَيْسَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُقيَّدٌ بِأُمُوْرٍ هِيَ (ذَلِكَ الزَّمَنُ، وَذَلِكَ الصَّبْرُ، وَتِلْكَ الشِّدَّةُ)، بَيْنَمَا فَضْلُ الصَّحَابَةِ دَائِمٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (182/ 10) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الصَّحِيْحَةِ (494).

باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

بَابُ مَا جَاءَ فِي ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيْدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيْلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُوْنَ} (النَّحْل:91). عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيْرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ خَيْرًا؛ فَقَالَ: (اُغْزُوَا بِسْمِ اللهِ، فِي سَبِيْلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ. اُغْزُوَا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيْدًا، وَإِذَا لَقِيْتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِيْنَ؛ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ -، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ؛ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ (¬1)؛ فَإِنْ أَجَابُوْكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِيْنَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِيْنَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُهَاجِرِيْنَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُوْنُوْنَ كَأَعْرَابِ المُسْلِمِيْنَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَكُوْنُ لَهُمْ فِي الغَنِيْمَةِ وَالفَيءِ شَيْءٌ؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِيْنَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا؛ فَاسْأَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوْكَ؛ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا؛ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ؛ فَأَرَادُوْكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ؛ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ؛ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ؛ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيْبُ فِيْهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: الفَرْقُ بَيْنَ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ؛ وَذِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ. الثَّانِيَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى أَقَلِّ الأَمْرَيْنِ خَطَرًا. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ (اُغْزُوَا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ). الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ (قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ). الخَامِسَةُ: قَوْلُهُ (اسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ). السَّادِسَةُ: الفَرْقُ بَيْنَ حُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ العُلَمَاءِ. السَّابِعَةُ: فِي كَوْنِ الصَّحَابِيِّ يَحْكُمُ عِنْدَ الحَاجَةِ بِحُكْمٍ لَا يَدْرِي أَيُوَافِقُ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا؟ ¬

_ (¬1) وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه (2858) بِحَذْفِ (ثُمَّ)، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (1617) (الوَاوُ) بَدَلَ (ثُمَّ). (¬2) مُسْلِمٌ (1731).

الشرح

الشَّرْحُ - العَهْدُ هُنَا هُوَ إِبْرَامُ العَقْدِ مَعَ اليَمِيْنِ، وَالمُسْلِمُ مَأْمُوْرٌ بِعَدَمِ نَقْضِهِ. - وَجْهُ مُنَاسَبَةِ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ: 1) أَنَّ نَقْضَ العَهْدِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْظِيْمِ مَنْ جُعِلَ العَهْدُ مَنُوْطًا بِهِ، فَكَمَا أَنَّ كَثْرَةَ الحَلِفِ تَدُلُّ عَلَى عَدِمِ التَّعْظِيْمِ، فَكَذَلِكَ نَقْضُ مَنْ جُعِلَ عَهْدُهُ بِاللهِ يَدُلُّ عَلَى عَدِمِ التَّعْظِيْمِ، فَهُوَ مُشَابِهٌ لِلبَابِ المَاضِي مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيْهَا {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيْلًا} لِأَنَّ مَنْ أَعْطَى اليَمِيْنَ بِاللهِ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أكَّدَ وَفَاءَهُ بِهَذَا الشَّيْءِ الَّذِيْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَكَانَ لِهُ بِمَثَابَةِ الكَفِيْلِ، فَنَقْضُهُ لِلعَهْدِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِهَانَتِهِ بِهِ. 2) أَنَّ نَقْضَ العَهْدِ هُوَ مِنْ خِصَالِ المُنَافِقِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ). (¬1) - الذِّمَّةُ: هِيَ العَهْدُ؛ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُلْتَزَمُ بِهِ كَمَا يَلْتَزِمُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَأُضِيْفَ العَهْدُ هُنَا إِلَى اللهِ لِتَشْرِيْفِهِ. - السَّرِيَّةُ: هِيَ الخَيْلُ تَبْلُغُ أَرْبَعمَائَةٍ وَنَحْوَهَا، وَسُمِّيَتْ سَرِيَّةً لِأَنَّهَا تَسْرِي بِالليْلِ. (¬2) - قَوْلُهُ (أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ خَيْرًا): فِيْهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى أَمْرًا مِنْ أُمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ أَنْ يَسْلُكَ بِهِم الأَخْيَرَ، بِخِلَافِ عَمَلِ الإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ. - قَوْلُهُ (اُغْزُوَا بِسْمِ اللهِ، فِي سَبِيْلِ اللهِ): أَي اشْرَعُوا فِي فِعْلِ الغَزْوِ مُسْتَعِيْنِيْنَ بِاللهِ مُخْلِصِيْنَ لَهُ، فَالبَاءُ فِي (بِسْمِ اللهِ) هُنَا لِلاسْتِعَانَةِ. - قَوْلُهُ (قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ): هَذَا العُمُوْمُ يَشْمَلُ جَمِيْعَ أَهْلِ الكُفْرِ المُحَارِبِيْنَ عَدَا مَنْ لَهُ عَهْدٌ، وَأَيْضًا الرُّهْبَانَ وَالنِّسْوَانَ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الحُلْمَ، وَالشُّيُوْخَ؛ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُم رَأْيٌ وَتَدْبِيْرٌ. (¬3) ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (34)، وَمُسْلِمٌ (58) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوْعًا. (¬2) قَالَ الثَّعَالِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فِقْهُ اللُّغَةِ) (ص156): (أَقلُّ العَسَاكِرِ الجَرِيْدَةُ - وهي قِطْعَة جُرِّدَتْ مِنْ سَائِرِهَا لِوَجْهٍ -، ثُمَّ السَّرِيَّةُ وَهِيَ مِنْ خَمْسِيْنَ إِلَى أَرْبَعْمائةٍ، ثُمَّ الكَتِيْبَةُ وهِيَ مِن أرْبَعِمَائَةٍ إِلَى الأَلْفِ، ثُمَّ الجَيْشُ وهُوَ مِنْ ألْفٍ إِلَى أرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَذَلِكَ الفَيْلَقُ والجَحْفَلُ، ثُمَّ الخَمِيْسُ وهوَ مِنْ أرْبَعَةِ آلَاَفٍ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، والعَسْكَرُ يَجمَعُهَا). (¬3) وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وُجُوْبُ قِتَالِ الكُفَّارِ؛ وَأَنَّ عِلَّةَ قِتَالِهِم الكُفْرُ، وَلَيْسَ المَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَاتَلُ إِلَّا مَنْ كَفَرَ! بَلِ الكُفْرُ سَبَبٌ لِلقِتَالِ، وَمَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ أَيْضًا يُقَاتَلُ، وَإِذَا تَرَكَ أَهْلُ بَلَدٍ شَعَائِرَ الإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ كَصَلَاةِ العِيْدِ مَثَلًا قُوْتِلُوا، وَكَذَا مَنْ تَرَكَ الأَذَانَ وَالإِقَامَةَ - مَعَ أَنَّهُم لَا يَكْفُرُوْنَ بِذَلِكَ -، وَأَيْضًا إِذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ؛ وَأَبَتْ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَفِيْءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ قُوْتِلَتْ، فَالقِتَالُ لَهُ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ الكُفْرِ.

- قَوْلُهُ (وَلَا تَغُلُّوا): الغُلُوْلُ: أَنْ يَكْتُمَ المُجَاهِدُ شَيْئًا مِنَ الغَنِيْمَةِ فَيَخْتَصَّ بِهِ، وَهُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوْبِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} (آل عِمْرَان:161) أَيْ: مُعَذَّبًا بِهِ. - قَوْلُهُ (وَلَا تَغْدِرُوا): وَهَذَا إِذَا عَاهَدْنَا، أَمَّا الغَدْرُ بِلَا عَهْدٍ فَجَائِزُ؛ لِأَنَّ (الحَرْبَ خَدْعَةٌ) كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ. (¬1) - قَوْلُهُ (وَلَا تُمَثِّلُوا): التَّمْثِيْلُ هُوَ التَّشْوِيْهُ بِقَطْعِ بَعْضِ الأَعْضَاءِ، وَلَا يَجُوْزُ إِلَّا إِنْ مَثَّلَ المُشْرِكُوْنَ بِالمُسْلِمِيْنَ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيْثُ العُرَنِيِّيْنَ. (¬2) وَهَذَا يَكُوْنُ مِنْ بَابِ المُعَاقَبَةِ بِالمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِيْنَ} (البَقَرَة:194). - قَوْلُهُ (ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ): أَكْثَرُ نُسَخِ مُسْلِمٍ عَلَى إِثْبَاتِ (ثُمَّ)؛ وَالصَّوَابُ إِسْقَاطُهَا كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَةَ هِيَ إِحْدَى الخِصَالِ الثَّلَاثِ. (¬3) - قَوْلُهُ (إِلى دَارِ المُهَاجِرِيْنَ): المُرَادُ بِهِ تَحَوُّلُ أَهْلِ البَوَادِي الَّذِيْنَ أَسْلَمُوا إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَفِي ذَلِكَ الوَقْتِ كَانَتِ الدَّارُ هِيَ المَدِيْنَةُ النَّبَوِيَّةُ. - قَوْلُهُ (فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِيْنَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُهَاجِرِيْنَ): فَلَهُمْ مَا لِلمُهَاجِرِيْنَ مِنَ الغَنِيْمَةِ وَالفَيْءِ، وَعَلَيْهِم مَا عَلَيْهِم مِنَ الجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ. ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3030)، وَمُسْلِمٌ (1739) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) وَلَفْظُهُ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ؛ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا)، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الحَرَّةِ، حَتَّى مَاتُوا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (233)، وَمُسْلِمٌ (1671). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ أَنَسُ: (إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ، لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ). وَ (عُرَيْنَةُ): حَيٌّ مِنْ بُجَيْلَةَ مِنْ قَحْطَانَ. وَ (فَاجْتَوَوْهَا): مَعْنَاهُ اسْتَوْخَمُوْهَا؛ وَلَمْ تُوَافِقْهُم لِسَقَمٍ أَصَابَهُم. وَ (سَمَلَ أَعْيُنَهُم): فَقَأَهَا. (¬3) قَالَهُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (المُفْهِمِ بِشَرْحِ مُسْلِمٍ) (513/ 3).

- قَوْلُهُ (وَلَا يَكُوْنُ لَهُمْ فِي الغَنِيْمَةِ وَالفَيْءِ شَيْءٌ): الغَنِيْمَةُ: مِا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ بِقِتَالٍ، أَمَّا الفَيْءُ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ. (¬1) - قَوْلُهُ (الجِزْيَة): مِنْ جَزَى يَجْزِي، وَظَاهِرُهَا أَنَّها مُكَافَأَةٌ عَلَى شِيْءٍ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَالٍ مَدْفُوْعٍ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِ عِوَضًا عَنْ حِمَايَتِهِ وَإِقَامَتِهِ بِدَارِنَا، وَالذِّمِّيُّ مَعْصُوْمٌ مَالُهُ وَدَمُّهُ وَذُرِّيَّتُهُ مُقَابِلَ الجِزْيَةِ. وَأَمَّا صِفَةُ أَدَاءِ الجِزْيَةِ فَهِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُوْنَ} (التَّوْبَة:29) أَيْ: يُسَلِّمُوْهَا بِأَيْدِيْهِم، فَلَا يُقْبَلُ أَنْ يُرْسِلَ بِهَا الذِّمِّيُّ خَادِمَهُ أَوْ ابْنَهُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا هُوَ نَفْسُهُ. - قَوْلُهُ (اسْتَعِنْ بِاللهِ): دَلِيْلٌ عَلَى وُجُوْبِ الاسْتِعَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الاغْتِرَارِ بِالقُوَّةِ أَوِ الكَثْرَةِ، فَالاعْتِمَادُ عَلَيْهَا سَبَبٌ لِلهَزِيْمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِيْنَ} (التَّوْبَة:25). - قَوْلُهُ (فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ): وَذَلِكَ خَشْيَةَ نَقْضِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ - كَجُمْلَةِ الأَعْرَابِ مَثَلًا -، أَوْ لِعَارِضٍ خَارِجٍ عَنْ طَاقَتِهِ؛ فَيَقَعُ النَّقْضُ، وَالمَعْنَى العَامُّ: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ نَقْضٌ؛ فَنَقْضُ عَهْدِ الخَلْقِ أَهْوَنُ مِنْ نَقْضِ عَهْدِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسَائِلِ (الإِرْشَادُ إِلَى أَقَلِّ الأَمْرَيْنِ خَطَرًا). - قَوْلُهُ (وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ): هَذَا فِيْمَا لَيْسَ عِنْدَهُ فِيْهِ نَصٌّ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَبَيَانُهُ فِي تَتِمَّةِ قَوْلِهِ (فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيْبُ فِيْهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا). - لِلمُشْرِكِيْنَ مَعَ المُسْلِمِيْنَ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: (¬2) 1) أَنْ لَا يَكُوْنَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم عَهْدٌ، فَيَجِبُ قِتَالُهُم بَعْدَ دَعْوَتِهِم إِلَى الإِسْلَامِ وِإِبَائِهِم عَنْهُ وَعَنْ بَذْلِ الجِزْيَةِ؛ وَلَكِنْ بِشَرْطِ قُدْرَتِنَا عَلَى ذَلِكَ. 2) أَنْ يَكُوْنَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم عَهْدٌ مَحْفُوْظٌ يَسْتَقِيْمُوْنَ فِيْهِ (¬3)، فَهُنَا يَجِبُ الوَفَاءُ لَهُمْ بِعَهْدِهِم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيْمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِيْنَ} (التَّوْبَة:7)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَّا الَّذِيْنَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِيْنَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوْكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِيْنَ} (التَّوْبَة:4). 3) أَنْ يَكُوْنَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم عَهْدٌ نَخَافُ خِيَانَتَهُم فِيْهِ، فَهُنَا يَجِبُ أَنْ نَنْبِذَ إِلَيْهِم العَهْدَ وَنُخْبِرَهُمْ أنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِيْنَ} (الأَنْفَال:58). (¬4) - قَوْلُهُ (أَنْ تَخْفِرُوا): أَيْ: تَغْدِرُوا وَتَنْقُضُوا. ¬

_ (¬1) وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ؛ أَفَادَهُ الشَّنْقِيْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (أَضْوَاءُ البَيَانِ) (54/ 2). (¬2) قَالَه الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (480/ 2). (¬3) أَيْ: يُحَافِظُوْنَ عَلِيْهِ. (¬4) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص324): ({عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: حَتَّى يَسْتَوِي عِلْمُكَ وَعِلْمُهُم بِذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَغْدِرَهُم، أَوْ تَسْعَى فِي شَيْءٍ مِمَّا مَنَعَهُ مُوْجِبُ العَهْدِ؛ حَتَّى تُخْبِرَهُم بِذَلِكَ).

- الهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الانْتِقَالِ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ إِلَى بِلَادِ المُسْلِمِيْنَ مِنْ أَجْلِ حِفْظِ الدَّيْنِ. (¬1) وَالهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُوْمَ السَّاعَةُ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا). (¬2) وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) (¬3) فَالمُرَادُ بِهِ: الهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّهَا بَعْدَ الفَتْحِ صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، وَأَمَّا الهِجْرَةُ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ إِلَى بِلَادِ الإِسْلَامِ فَهِي بَاقِيَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَإِذَا كَانَتِ البِلَادُ بِلَادًا إِسْلَامِيَّةً فَالانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى بَلَدٍ أَفْضَلَ مِنْهَا مُسْتَحَبٌّ. (¬4) - فَائِدَةٌ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ - وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - إِلَى أَنَّ أَخْذَ الجِزْيَةِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الكِتَابِ وَبِالمَجُوْسِ فَقَط مِنَ العَرَبِ وَمِنَ العَجَمِ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُم مِنَ المُشْرِكِيْنَ فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُم جِزْيَةٌ، وَبَعْضُهُم كَالإِمَامِ مَالِكٍ تَوَسَّعَ فَجَعَلَهَا مِنْ كُلِّ المُشْرِكِيْنَ. (¬5) ¬

_ (¬1) وَإِنْ كَانَتْ أَيْضًا قَدْ تَقَعُ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ إِلَى بِلَادِ الكُفْرِ أَيْضًا؛ وَلَكِنْ بِفَارِقِ الأَمْنِ - إِذَا عُدِمَتْ بِلَادُ الإِسْلَامِ - كَمَا فِي هِجْرَةِ الحَبَشَةِ. (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2479) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7469). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2783)، وَمُسْلِمٌ (1353). (¬4) قَالَهُ الشَّيْخُ الفَوْزَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (410/ 2). (¬5) رَاجِعْ تَفْسِيْرَ ابْنِ كَثِيْرٍ (132/ 4). قُلْتُ: وَلَعَلَّ الأَوَّلَ هُوَ الأَرْجَحُ؛ وَيُشِيْرُ لِذَلِكَ حَدِيْثُ البُخَارِيِّ (3156) عَنْ بَجَالَةَ وَفِيْهِ (وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوْسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ) فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيْصِ وَعَدَمِ العُمُوْمِ أَصْلًا.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) مَا الجَوَابُ عَنْ ظَاهِرِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الآيَةِ فِي البَابِ وَبَيْنَ النُّصُوْصِ الَّتِيْ فِيْهَا إِبَاحَةُ نَقْضِ اليَمِيْنِ مَعَ الكَفَّارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} (البَقَرَة:224)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المَائِدَة:89)، وَكَقَوْلِهِ عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِيْنٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا) (¬1)؟ الجَوَابُ: أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ، لِأَنَّ هَذِهِ الأَيْمَانَ - الَّتِيْ لَا يَجُوْزُ نَقْضُهَا - هِيَ الأَيْمَانُ الدَّاخِلَةُ فِي العُهُوْدِ وَالمَوَاثِيْقِ، لَا الأَيْمَانَ الوَارِدَةَ عَلَى حَثٍّ أَوْ مَنْعٍ. ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (3133)، وَمُسْلِمٌ (1649) عَنْ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوْعًا.

باب ما جاء في الإقسام على الله

بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِيْ يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) وَفِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ القَائِلَ رَجُلٌ عَابِدٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ، أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ). (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأَوْلَى: التَّحْذِيْرُ مِنَ التَّأَلِّي عَلَى اللهِ. الثَّانِيَةُ: كَوْنُ النَّارِ أَقْرَبَ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ الجَنَّةَ مِثْلُ ذَلِكَ. الرَّابِعَةُ: فِيْهِ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ) إِلَى آخِرِهِ. الخَامِسَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ أَكْرَهِ الأُمُوْرِ إِلَيْهِ. ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (2621). (¬2) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4901). صَحِيْحُ الجَامِعِ (4455). وَتَمَامُ الحَدِيْثِ (كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيْلَ مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي العِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ المُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُوْلُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ؛ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي؛ أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيْبًا؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ - أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الجَنَّةَ -. فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ العَالَمِيْنَ، فَقَالَ لِهَذَا المُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ؛ فَادْخُلِ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي. وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ).

الشرح

الشَّرْحُ - الإِقْسَامُ عَلَى اللهِ: هُوَ الحَلَفِ عَلَى اللهِ، وَيَتَأَلَّى أَيْ: يَحْلِفُ (¬1)، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُوْنَ مِن نِّسَائِهِم تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} (البَقَرَة:226). (¬2) - مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ: أَنَّ مَنْ تَأَلَّى عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَقَدْ أَسَاءَ الأَدَبَ مَعَهُ وَتَجَرَّأَ عَلَيْهِ وَزَعَمَ التَّحَكُّمَ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، فَالتَّأَلِّي عَلَى العَظِيْمٌ تَنَقُّصٌ لِعَظَمَتِهِ. وَيَزْدَادُ الأَمْرُ سُوْءًا إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةُ مَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ، وَفِي الحَدِيْثِ هُنَا جَاءَ التَّأَلِّي عَلَى اللهِ مُضَافًا إِلَيْهِ حَجَّرُ فَضْلِهِ تَعَالَى، وَتَقْنِيْطُ عِبَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ. - القَسَمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: (¬3) 1) أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُوْلُهُ مِنْ نَفْي أَوْ إِثْبَاتٍ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَهُوَ دَلِيْلٌ عَلَى يِقَيْنِهِ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُوْلُهُ، كَقَوْلِ القَائِلِ: (وَاللهِ؛ لَيُشَفِّعَنَّ اللهُ نَبِيَّهُ فِي الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ)، وَكَقَوْلِ (وَاللهِ؛ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِهِ). (¬4) 2) أَنْ يُقْسِمَ عَلَى رَبِّهِ لِقُوَّةِ رَجَائِهِ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ). (¬5) (¬6) 3) أَنْ يَكُوْنَ الحَامِلَ لَهُ هُوَ الإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ، وَحَجْرُ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُوْءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى، فَهَذَا مُحَرَّمٌ وَهُوَ وَشِيْكٌ بِأَنْ يُحْبِطَ اللهُ عَمَلَ هَذَا المُقْسِمِ. وَهَذَا النَّوْعُ الأَخِيْرُ هُوَ الَّذِيْ سَاقَ المُؤَلِّفُ الحَدَيْثَ مِنْ أَجْلِهِ. (¬7) (¬8) ¬

_ (¬1) قَالَ فِي القَامُوْسِ المُحِيْطِ (ص1260): (آلَى وَائْتَلَى وَتَأَلَّى: أَقْسَمَ). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (ص101): (وَهَذَا مِنَ الأَيْمَانِ الخَاصَّةِ بِالزَّوْجَةِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ حَلِفُ الزَّوْجِ عَلَى تِرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ). وَفِي الآيَةِ تَعْدِيَةُ الإِيْلَاءِ بِـ (مِنْ) لِتَضَمُّنِ مَعْنَى البُعْدِ، فَصَارَ بِمَعْنَى يُبْعِدُوْنَ مِنْ نِسَائِهِم مُؤْلِيْنَ أَوْ مُقْسِمِيْنَ. (¬3) (القَوْلُ المُفِيْدُ) (497/ 2) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬4) قُلْتُ: وَمِصْدَاقُهُ فِي عِلَّةِ النَّهْي فِي حَدِيْثِ البَابِ (أَكُنْتَ بِي عَالِمًا)!! (¬5) وَتَمَامُ الحَدِيْثِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (2703)، وَمُسْلِمٍ (1635) عَنْ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ (أَنَّ الرُّبَيِّعَ - وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ - كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ وَطَلَبُوا العَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟! لَا وَالَّذِيْ بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ: (يَا أَنَسُ؛ كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ)، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)). وَالأَرْشُ: هُوَ دِيَّةُ الجِرَاحَةِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (543/ 11): (وَقَوْلُهُ (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) أَيْ: لَوْ حَلَفَ يَمِيْنًا عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَقَعَ - طَمَعًا فِي كَرَمِ اللهِ بِإِبْرَارِهِ - لَأَبَرَّهُ وَأَوْقَعَهُ لِأَجْلِهِ). (¬6) وَالحَدِيْثُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رَجَاءِ المُقْسِمِ بِاللهِ تَعَالَى، وَعَلَى حُسْنِ ظَنَّهِ بِرَبِّهِ؛ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُنْجِزُ لَهُ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا اشْتُهِرَ عَنِ بَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ مِنْ قَوْلِهِم عَنِ الأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِيْنَ (إِنَّ للهِ عِبَادًا؛ إِذَا أَرَادُوا أَرَادَ) فَهَذَا فِيْهِ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى - إِنْ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا - وَذَلِكَ لِجَعْلِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى تَابِعَةً وَمَحْكُوْمَةً لِإِرَادَةِ المَخْلُوْقِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُوْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيْمًا حَكِيْمًا} (الإِنْسَان:30). (¬7) وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2023/ 4): (بَابُ النَّهْي عَنْ تَقْنِيْطِ الإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ). (¬8) فَائِدَةٌ: قَوْلُ الرَّجُلِ (مَا أَظُنُّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَدَعُ فُلَانًا مِنَ العُقُوْبَةِ) هَذَا القَوْلُ لَا يَجُوْزُ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُوْنَ مِنَ المُتَأَلِّيْنَ عَلَى اللهِ تَعَالَى.

- قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الحَدِيْثِ القُدُسِيِّ (قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ): مَحْمُوْلٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: (¬1) 1) أَنَّ الإِحْبَاطَ هُوَ لِكَامِلِ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِعَمَلِ نَفْسِهِ، وَظَنَّ أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ إِدْلَالًا (¬2) وَتَحَكُّمًا عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي رَحْمَتِهِ، فَكَانَ هَذَا سَبَبًا لِإِبْطَالِ كُلِّ مَا سَبَقَ مِنْ عَمَلِهِ، حَيْثُ فَقَدَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ العِبَادَةِ، وَهُوَ رُكْنُ الذُّلِّ وَالخُضُوْعِ للهِ تَعَالَى. 2) أَنَّ الإِحْبَاطَ هُوَ لِنَوْعِ العَمَلِ الَّذِيْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِيْهِ عَلَى ذَلِكَ العَاصِي - الَّذِيْ قَصَّرَ فِيْهِ هَذَا الأَخِيْرُ -، فَيَكُوْنُ الإِحْبَاطُ جُزْئِيًّا مِنْ بَابِ العُقُوْبَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّأَلِّي. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. - فِي الحَدِيْثِ دِلَالَةٌ عَلَى وُجُوْبِ التَّحَفُّظِ - عِنْدَ إِنْكَارِ المُنْكَرِ - مِنَ الكَلَامِ الَّذِيْ يَكُوْنَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ المُنْكَرَ قَدْ تَحْمِلُهُ الغَيْرَةُ فَيَتَكَلَّمُ عَلَى العُصَاةِ وَالمُخَالِفِيْنَ بِكَلَامٍ لَا يَصِحُّ شَرْعًا؛ فَيُؤَاخَذُ بِهِ. - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ (كَوْنُ النَّارِ أَقْرَبَ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَأَنَّ الجَنَّةَ مِثْلُ ذَلِكَ) يَقْصِدُ حَدِيْثَ (الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ). (¬3) - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ (فِيهِ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ) إِلَى آخِرِهِ) يَقْصِدُ حَدِيْثَ (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ - لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا - يَهْوِي بِهَا سَبْعِيْنَ خَرِيْفًا فِي النَّارِ). (¬4) - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ الخَامِسَةِ (أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ أَكْرَهِ الأُمُوْرِ إِلَيْهِ) غَيْرُ ظَاهِرِ الدِّلَالَةِ عِنْدِي مِنَ الحَدِيْثِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دُخُوْلَ ذَلِكَ العَاصِي الجَنَّةَ كَانَ بِسَبَبِ رَحْمَةِ اللهِ؛ وَلَيْسَ بِسَبَبِ إِنْكَارِ ذَلِكَ العَابِدِ عَلَيْهِ. لَكِنَّ هَذِهِ المَسْأَلَةِ صَحِيْحَةٌ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:216). ¬

_ (¬1) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ كِتَابِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (501/ 2) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. (¬2) قَالَ فِي تَاجِ العَرُوْسِ (502/ 28): (الأَدَلُّ: المَنَّانُ بعَمَلِهِ). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6488) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. (¬4) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2314) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1618).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) مَا الأُمُوْرُ الَّتِيْ تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا عِنْدَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، أَوْ إِنْكَارِ المُنْكَرِ؟ الجَوَابُ: 1) العِلْمُ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُوْنَ هَذَا الأَمْرُ مُنْكَرًا وَاضِحًا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الجَمِيْعُ أَوْ فِيْهِ خِلَافٌ ضَعِيْفٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. (¬1) 2) القُدْرَةُ عَلَى تَغْيِيْرِهِ: وَكُلُّ بِحَسْبِ طَاقَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيْهِمْ بِالمَعَاصِي؛ ثُمَّ يَقْدِرُوْنَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوْشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ). (¬2) وَلَكِنْ تُلَاحَظُ فِيْهِ القُدْرَةُ عَلَى تَحَمُّلِ الأَذَى وَكُلٌّ بِحَسْبِ طَاقَتِهِ، وَفِي الحَدِيْثِ (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ؛ يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيْقُ). (¬3) 3) عَدَمُ الانْتِقَالِ إِلَى مُنْكَرٍ آخَرَ (مِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ): وَلَكِنْ إِلَى مَعْرُوْفٍ، أَوْ تَرْكٍ لِلمُنْكَرِ، أَوْ أَدْنَى مِنْهُ. 4) الرِّفقُ: كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُوْنُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ). (¬4) 5) ظَنُّ الانْتِفَاعِ. (¬5) ¬

_ (¬1) وَأَيْضًا أَنْ يَسْتَبِيْنَ كَوْنُ الأَمْرِ مُنْكَرًا فِي حَقِّ المُنْكَرِ عَلِيْهِ بِدُوْنِ التِبَاسٍ، كَالإِنْكَارُ عَلَى امْرَأَةٍ تَأْكُلُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِعِلَّةِ حَيْضِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ. (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4338) عَنْ جَرِيْرٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (3353). (¬3) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (613). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (251/ 2): (فَأَمَّا حَدِيْثُ (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيْقُ الأَذَى وَلَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ حِيْنَئِذٍ لِلأَمْرِ - وَهَذَا حَقٌّ -، وَإنَّمَا الكَلَامُ فِيْمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ، كَذَلِكَ قَالَهُ الأَئِمَّةُ؛ كَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَالفُضِيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِم). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (53/ 13): (قَالَ الطَّبَرِيُّ: (اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيْثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَفَعَهُ (أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)، وَبِعُمُوْمِ قَوْلِهِ (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) الحَدِيْثَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ المُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ المُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُوْنَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ لِحَدِيْثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوْعًا (يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ ...) وَتَابَعَ الحَدِيْثَ). قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ المَذْكُوْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيْثُ (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ (يَتَعَرَّضَ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيْقُ)). انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجِبُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوْفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا). قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيْثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فَهُوَ صَحِيْحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4344). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4344). وَأَمَّا حَدِيْثُ (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (49) عَنْ أَبي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا. وَأمَّا حَدِيْثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1854) أَيْضًا. وَأمَّا حَدِيْثُ (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) فَهُوَ صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (613). (¬4) مُسْلِمٌ (2594) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. وَالأَصْلُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ هُوَ الرِّفْقُ، لَكِنْ قَدْ تَكُوْنُ الشِّدَّةُ هِيَ الأَفْضَلُ فِي بَعْضِ الَحاَلاتِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِ (مَنْ هَزَلَ بِشَيْءٍ فِيْهِ ذِكْرُ اللهِ أَوِ القُرْآنِ أَوِ الرَّسُوْلِ). قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ). شَرْحُ مُسْلِمٍ (24/ 2) لِلنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬5) وَالجُمْهُوْرُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَاسْتُدِلَ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُوْنَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيْدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُوْنَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِيْنَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوْءِ وَأَخَذْنَا الَّذِيْنَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيْسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُوْنَ} (الأَعْرَاف:165)، وَالشَّاهِدُ فِيْهِ أَنَّ النَّجَاةَ كَانَتْ لِمَنْ كَانَ يَنْهَى عَنِ السُّوْءِ. وَرُدَّ عَلَى الاسْتِدْلَالِ السَّابِقِ بِتَمَامِ الآيَةِ وَفِيْهَا {وَأَخَذْنَا الَّذِيْنَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيْسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُوْنَ} (الأَعْرَاف:165)، وَالشَّاهِدُ هُوَ أَخْذُ الظَّالِمِيْنَ فَقَط بِالعَذَابِ.

باب لا يستشفع بالله على خلقه

بَابُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاَللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! نُهِكَتِ الأَنْفُسُ وَجَاعَ العِيَالُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ، فَاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْكَ، وَبِكَ عَلَى اللهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللهِ! سُبْحَانَ اللهِ!)، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوْهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: (وَيْحَكَ! أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاَللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ))، وَذَكَرَ الحَدِيْثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (¬1) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: إِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ قَالَ: (نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْكَ). الثَّانِيَةُ: تَغَيُّرُهُ تَغَيُّرًا عُرِفَ فِي وُجُوْهِ أَصْحَابِهِ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللهِ). الرَّابِعَةُ: التَّنْبِيْهُ عَلَى تَفْسِيْرِ (سُبْحَانَ اللهِ). الخَامِسَةُ: أَنَّ المُسْلِمِيْنَ يَسْأَلُونَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاسْتِسْقَاءَ. ¬

_ (¬1) ضَعِيْفٌ. أَبُو دَاوُدَ (4726). ظِلَالُ الجَنَّةِ (575).

الشرح

الشَّرْحُ - الشَّفَاعَةُ لُغَةً مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ الزَّوجُ، وَهُوَ خِلَافُ الوَتْرِ (¬1)، وَاصْطِلَاحًا: التَّوَسُّطُ لِلغَيْرِ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ. - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّ المُسْلِمَ يَتَحَرَّزُ مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِيْ فِيْهَا سُوْءُ أَدَبٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَتَنَقُّصٌ لِمَقَامِ الرُّبُوْبِيَّةِ للهِ جَلَّ جَلَالُهُ. فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَى الأَعْرَابِيِّ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهُ يُوْهِمُ أَنَّ اللهَ مُفْتَقِرٌ لِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ المَشْفُوْعِ عِنْدَهُ، وَالحَقُّ أَنَّ الكُلَّ مُفْتَقِرٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ مِّنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُوْمٍ} (الحِجْر:21)، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيْدُ} (فَاطِر:15). - إِنَّ تَسْبِيْحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيْهِهِ للهِ تَعَالَى مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ السُّوْءِ. - حَدِيْثُ البَابِ ضَعَّفَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (¬2)، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (¬3): (لَكِنَّهُ صَحِيْحُ المَعْنَى). - قَوْلُهُ (وَيْحَكَ): (وَيْح) كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا الزَّجْرُ وَالعِتَابُ، وَيُرَادُ بِهَا الشَّفَقَةُ أَحْيَانًا. - قَوْلُهُ (إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ): أَيْ: إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَصَوَّرْتَ حَيْثُ جِئْتَ بِهَذَا اللَّفْظِ. - قَوْلُهُ (إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ): أَيْ: لَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُوْنَ شَفِيْعًا إِلَى أَحًدٍ، وَذَلِكَ لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ. - فِي الحَدِيْثِ مَشْرُوْعِيَّةُ التَّسْبِيْحِ وَالتَّكْبِيْرِ عِنْدَ حُصُوْلِ أَمْرٍ مُنْكَرٍ أَوْ أَمْرٍ عَجِيْبٍ. ¬

_ (¬1) قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (184/ 8): (وَالشَّفَاعَةُ: كَلَامُ الشَّفِيْعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يَسْأَلُهَا لِغَيْرِهِ، وَشَفَعَ إِلَيْهِ: فِي مَعْنَى طَلَبَ إِلَيْهِ، وَالشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ يَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى المَطْلُوْبِ). (¬2) ظِلَالُ الجَنَّةِ (575). (¬3) القَوْلُ المُفِيْدُ (511/ 2).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - مَسْأَلَةٌ) إِذَا كَانَ الاسْتِشْفَاعُ بِاللهِ تَعَالَى عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ غَيْرَ مَشْرُوْعٍ، فَكَيْفَ جَازَ السُّؤَالُ بِاللهِ فِي الحَدِيْثِ (مَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطُوْهُ) (¬1)، وَكَحَدِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ فِي قَوْلِ المَلَكِ (أَسْأَلُكَ بِالَّذِيْ أَعْطَاكَ اللوْنَ الحَسَنَ) (¬2)؟ وَالجَوَابُ: هُوَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ أَبَدًا بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدِيْثَ البَابِ - كَمَا سَبَقَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَأْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَعْظَمُ - أَوْ مُقَارِبٌ - لِشَأْنِ اللهِ سُبْحَانَهُ؛ فَهُوَ تَنَقُّصٌ لِمَقَامِ الرُّبُوْبِيَّةِ، بِخِلَافِ الأَحَادِيْثِ الأُخْرَى فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوْبِ إِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيْمِ المَسْئُوْلِ بِهِ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - عِنْدَ السَّائِلِ؛ وَأَيْضًا عِنْدَ المَسْئُوْلِ إِذَا أَجَابَهُ سُؤَالَهُ. (¬3) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1672) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (254). (¬2) البُخَارِيُّ (3464)، وَمُسْلِمٌ (2964). وَقَدْ سَبَقَ. (¬3) وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ (لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةُ) الكَلَامُ عَنْ حُكْمِ السُّؤَالِ بِاللهِ، وَبِوَجْهِ الله؛ فَلْيُنْظَرْ.

باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك

بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَى التَّوْحِيْدِ وَسَدِّهِ طُرُقَ الشِّرْكِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: (اَلسَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ: (قُوْلُوْا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ. (¬1) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! يَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا، وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قُوْلُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُوْنِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِيْ أَنْزَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ. (¬2) فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَحْذِيْرُ النَّاسِ مِنَ الغُلُوِّ. الثَّانِيَةُ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُوْلَ مَنْ قِيْلَ لَهُ: (أَنْتَ سَيِّدُنَا). الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ (لَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُوْلُوْا إِلَّا الحَقَّ. الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ (مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُوْنِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي). ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4806). (¬2) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (12551)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10007). غَايَةُ المَرَامِ (127).

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ سَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَرَائِعَ الشِّرْكِ مِنْ جِهَةِ التَّمَادِي فِي الأَلْفَاظِ. - سَبَقَ مَعَنَا بَابٌ مُشَابِهٌ وَهُوَ بَابُ (مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ المُصْطَفَى جَنَابَ التَّوْحِيْدِ وَسَّدِّهِ كُلَّ طَرِيْقٍ يُوَصِّلُ إِلَى الشِّرْكِ)، وَالفَرْقُ بَيْنَ البَابَيْنِ أَنَّ الأَوَّلَ فِيْهِ حِمَايَةُ التَّوْحِيْدِ مِنْ جِهَةِ الأَفْعَالِ، وَهَذَا البَابُ فِيْهِ حِمَايَتُهُ مِنْ جِهَةِ الأَقْوَالِ. - قَوْلُهُ (السَّيِّدُ): هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: ذُوْ السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ، وَالسُّؤْدُدُ مَعْنَاهُ: العَظَمَةُ وَالفَخْرُ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَهُوَ مِنْ مَعَانِي اسْمِ الصَّمَدِ. - المَقْصُوْدُ بِقَوْلِهِ (السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى): أَنَّ السَّيِّدَ الحَقِيْقِيَّ المَالِكَ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمِ كَمَا فِي الحَدِيْثِ (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) (¬1)، وَلَكِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا خَافَ مِنَ الغُلُوِّ حَيْثُ لَاحَظَ الإِطْرَاءَ وَالمَدْحَ فِي كَلَامِهِم فَأَرْشَدَهُم إِلَى السَّيِّدِ الحَقِيْقِيِّ وَهُوَ اللهُ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ تَوَاضُعٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2)، وَقَدْ أَخْبَرَتْ أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ تَوَاضُعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَتْ: (كَانَ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ). (¬3) وَأَيْضًا فِي الأَحَادِيْثِ نَهْيٌ عَنِ الغُلُوِّ فِيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَفْعِهِ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ؛ كَمَا هُوَ صَرِيْحُ الحَدِيْثِ. (¬4) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2278) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) قَالَ الحَافِظُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ) (497/ 5): (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَيْرَ البَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَاكَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2369) فِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ. وَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا أَيْضًا مَذْهَبَ التَّوَاضُعِ، وَكَانَ يُشِيْرُ إِلَى النَّهْي عَنِ المُبَالَغَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لِوَفْدِ بَنِي عَامِرٍ حِيْنَ قَالُوا لَهُ: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُوْ الطَّوْلِ عَلَيْنَا، فَقَالَ: (مَهْ مَهْ، قُوْلُوا بِقَوْلِكُم، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، السَّيِّدُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيْثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ)). (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (26194) عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوْفًا. الصَّحِيْحَةُ (671). (¬4) قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (247/ 5): (وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيْحِ الحَدِيْثِ: (لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عَيْسَى بْنَ مَرْيَمَ، وَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ) فَمَعْنَاهُ: لَا تَصِفُوْنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ - تَلْتَمِسُوْنَ بِذَلِكَ مَدْحِي - كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيْسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيْهِ، فَنَسَبُوْهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ امْرَأً فَوْقَ حَدِّهِ وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيْهِ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَوْلَى الخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

- قَوْلُهُ (وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا): أَيْ: عَطَاءً لِلأَحِبَّاءِ وَعُلَوًا عَلَى الْأَعْدَاءِ (¬1)، وَالطَّوْلُ أَيْضًا الشَّرَفُ والغِنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} (النِّسَاء:25)، وَيَكُوْنُ بِمَعْنَى العَظَمَةِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيْدِ العِقَابِ ذِيْ الطَّوْلِ} (غَافِر:3)، أَيْ: ذِيْ العَظَمَةِ وَالغِنَى. - قَوْلُهُم (وَابْنَ خَيْرِنَا): أَيْ: فِي النَّسَبِ لَا فِي المَقَامِ وَالحَالِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي قَوْلِهِ (وَابْنَ سَيِّدِنَا). (¬2) - قَوْلُهُ (قُوْلُوا بِقَوْلِكُمْ): (أَيْ: قُوْلُوا بِقَوْلِ أَهْلِ دِيْنِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ؛ وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُوْلًا كَمَا سَمَّانِي اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَلَا تُسَمُّوْنِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّوْنَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوْنِي مِثْلَهُم فَإِنِّيْ لَسْتُ كَأَحَدِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا لَيَسُوْدُوْنَكُم فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا؛ وَأَنَا أَسُوْدُكُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَسَمُّوْنِي نَبِيًّا وَرَسُوْلًا). (¬3) - قَوْلُهُ (أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ): فِيْهِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ؛ وَمَعْنَاهُ: دَعُوا بَعْضَ قَوْلِكُمْ وَاتْرُكُوهُ وَاقْتَصَدُوا فِيْهِ بِلَا إِفْرَاطٍ، أَوْ دَعُوا (سَيِّدًا) وَقُوْلُوا (نَبِيًّا وَرَسُوْلًا). - قَوْلُهُ (وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ): اسْتَجْرَاهُ بِمَعْنَى: جَذَبَهُ وَجَعَلَهُ يَجْرِي مَعَهُ، أَيْ: لَا يَسْتَمِيْلَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ وَيَجْذِبَنَّكُم إِلَى أَنْ تَقُوْلُوا قَوْلًا مُنْكَرًا، وَمِثْلُهُ أَيْضًا (وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) هُوَ مِنَ الهَوَى: أَي المَحَبَّةِ وَالمَيْلِ، وَقِيْلَ مِنَ الهُوِيِّ: وَهُوَ الوَقُوْعُ. ¬

_ (¬1) قَالَهُ فِي عَوْنُ المَعْبُوْدِ (113/ 13). (¬2) وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (203) عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (فِي النَّارِ). فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ). (¬3) قَالَهُ فِي عَوْنُ المَعْبُوْدِ (112/ 13). وَقَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (739/ 1): (يُرِيْدُ: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُم مِنَ القَوْلِ، وَلَا تَتَكَلَّفُوْهُ كَأَنَّكُم وُكَلَاءُ الشَّيْطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطقُوْنَ عَنْ لِسَانِهِ).

- فَائِدَة 1) مَدْحُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (¬1)؛ إِلَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الفِتْنَةُ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَبُوْهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا). (¬2) - فَائِدَة 2) لَا يَجُوْزُ أَنْ يُقَالَ لِلمُنَافِقِ سَيِّدٌ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَا تَقُوْلُوا لِلْمُنَافِقِ (سَيِّدُنَا)؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ) (¬3)، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُوْنُ تَعْظِيْمًا لَهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّوْقِيْرِ وَالتَّعْظِيْمِ مُطْلَقًا. - فَائِدَة 3) لَا يُشْرَعُ زِيَادَةُ لَفْظِ (سَيِّدِنَا) فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ وُرُوْدِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ صَحَابَتِهِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِيْنَ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (اتِّبَاعُ الأَلْفَاظِ المَأْثُوْرَةِ أَرْجَحُ، وَلَا يُقَالُ: لَعَلَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا لَمْ يَكُنْ يَقُوْلُ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتُهُ مَنْدُوْبَةٌ إِلَى أَنْ تَقُوْلَ ذَلِكَ كُلَّمَا ذُكِرَ!! لِأَنَّا نَقُوْلُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ رَاجِحًا - يَعْنِي: وَصْفَهُ بِالسِّيَادَةِ - لَجَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ عَنِ التَّابِعِيْنَ, وَلَمْ نَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الآثَارِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِيْنَ لَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَرَدَ عَنْهُم مِنْ ذَلِكَ). (¬4) ¬

_ (¬1) بَوَّبَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (2297/ 4): (بَابُ النَّهْي عَنِ المَدْحِ إِذَا كَانَ فِيْهِ إِفْرَاطٌ وَخِيْفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى المَمْدُوْحِ)، وَفِيْهِ عَنْ أَبِىِ مَعْمَرٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيْرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ؛ فَجَعَلَ المِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: (أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوْهِ المَدَّاحِيْنَ التُّرَابَ). وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ (337) لِلبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (بَابُ مَنْ أَثْنَى عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ كَانَ آمِنًا بِهِ)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الجَمُوْحِ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ)، قَالَ: (وَبِئْسَ الرَّجُلُ فُلَانٌ، وَبِئْسَ الرَّجُلُ فُلَانٌ حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً)). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (275). (¬2) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (118) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3182). (¬3) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4977) عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (371). (¬4) انْظُرْ كِتَابَ (أَصْلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ ص938) مِنْ طَرِيْقِ الحَافِظِ الغَرَابِيْلِيِّ عَنِ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ.

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) إِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ - كَمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيْثِ - فَمَا الجَوَابُ عَنِ الأَحَادِيْثِ الَّتِيْ فِيْهَا النَّهْيُ عَنْ تَفْضِيْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ؟ الجَوَابُ: أَنَّ سَبَبَ النَّهْي عَن التَّفْضِيْلِ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ - وَهُمْ مُفَضَّلُوْنَ عَلَى بِعْضٍ شَرْعًا - أَنَّ هَذَا التَّفْضِيْلَ إِذَا خَاضَ النَّاسُ فِيْهِ؛ فَإِنَّهُ سَيُفْضِي إِلَى تَنَقُّصِ أَحَدٍ مِنْهُم عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ وَهَذَا كُفْرٌ، لِذَلِكَ جَاءَ الأَمْرُ بِسَدِّ هَذَا البَابِ. قَالَ الحَافِظُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ) (¬1): (وَقَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البَقَرَة:253) يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)، وَقَوْلُهُ (لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأنْبِيَاءِ) إِنَّمَا هُوَ فِي مُجَادَلَةِ أَهْلِ الكِتَابِ عَلَى مَعْنَى الإِزْرَاءِ بِبَعْضِهِمْ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الِاعْتِقَادِ فِيْهِمْ وَالإخلَالِ بالوَاجِبِ مِنْ حُقُوْقِهِمْ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ المُخَايَرَةُ مِنْ مُسْلِمٍ يُرِيْدُ الوُقُوْفَ عَلَى الأَفْضَلِ مِنْهُمْ فَلَيْسَ هَذَا بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ). (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ (77/ 3). (¬2) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يُوْنُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُوْلَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُوْنُسَ بْنِ مَتَّى). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3395) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. فَقَدْ خُصَّ يُوْنُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَا القَوْلِ لِمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ سَمِعَ قِصَّتَهُ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ تَنَقُّصٌ لَهُ، فَبَالَغَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ فَضْلِهِ؛ لِسَدِّ هَذِهِ الذَّرِيْعَةِ. (¬3) وَمِثْلُهُ حَدِيْثُ (المِرَاءُ فِي القَرْآنِ كُفْرٌ). صَحِيْحٌ، أَبُو دَاوُدَ (4603) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (6687). قَالَ أَبُو حَاتِمٍ (ابْنُ حِبَّانَ) (324/ 4): (إِذَا مَارَى المَرْءُ فِي القُرْآنِ أَدَّاهُ ذَلِكَ - إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ - إِلَى أَنْ يَرْتَابَ فِي الآي المُتَشَابِهِ مِنْهُ، وَإِذَا ارْتَابَ فِي بَعْضِهِ أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الجَحْدِ، فَأَطْلَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الكُفْرِ - الَّذِيْ هُوَ الجَحْدُ - عَلَى بِدَايَةِ سَبَبِهِ - الَّذِيْ هُوَ المِرَاءُ -).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) لِمَاذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الحَدِيْثِ (اَلسَّيِّدُ اللهُ) وَلَمْ يَقُلْ (اللهُ سَيِّدُكُم) مِنْ بَابِ المُقَابَلَةِ؟ وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ (¬1): 1) لِإِفَادَةِ العُمُوْمِ مِنْ (أَلِّ) التَّعْرِيْفِ المُفِيْدَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، بِخِلَافِ الإِضَافَةِ فَهِيَ أَقَلُّ شُمُوْلًا. 2) لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ المُضَافِ إِلَيْهِ; لِأَنَّ سَيِّدَ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ. ¬

_ (¬1) أَفَادَهُ الشَّيْخُ العُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (518/ 2).

باب ما جاء في قول الله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشر

بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيْعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (الزُّمَر:67) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: (جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِيْنَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ (¬1)، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُوْلُ: أَنَا المَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ - تَصْدِيْقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ - ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيْعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (الزُّمَر:67). وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (وَالجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُوْلُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا اللهُ). وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (وَيَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ) أَخْرِجَاهُ. (¬2) وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا: (يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُوْلُ: أَنَا المَلِكُ أَيْنَ الجَبَّارُوْنَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُوْنَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرْضِيْنَ السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُوْلُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُوْنَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُوْنَ؟). (¬3) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: (مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُوْنَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ). (¬4) وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: (قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ) (¬5)، قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (مَا الكُرْسِيِّ فِي العَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيْدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ). (¬6) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ؛ قَالَ: (بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَاَلَّتِي تَلِيْهَا خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالكُرْسِيِّ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الكُرْسِيِّ وَالمَاءِ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَالعَرْشُ فَوْقَ المَاءِ، وَاَللَّهُ فَوْقَ العَرْشِ؛ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَهْدِيّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ المَسْعُوْدِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ. (¬7) قَالَهُ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، قَالَ: (وَلَهُ طُرُقٌ). (¬8) وَعَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ تَدْرُوْنَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟) قُلْنَا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (بَيْنَهُمَا مَسِيْرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، مَسِيْرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيْرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. (¬9) ¬

_ (¬1) الَّذِيْ فِي صَحِيْحِ البُخَاريِّ هُوَ (وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ)، وَفِي أَلْفَاظٍ أُخَرَ لَهُ (وَالجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ) وَ (وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ). (¬2) البُخَارِيُّ (4811)، وَمُسْلِمٌ (2786). (¬3) مُسْلِمٌ (2786). قَالَ الحَافِظُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) (139/ 2): (رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ هَكَذَا، وَذِكْرُ الشِّمَالِ فِيْهِ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ سَالِمٍ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيْثَ نَافِعٌ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ لَمْ يَذْكُرَا فِيْهِ الشِّمَالَ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمُ الشِّمَالَ، وَرُوِيَ ذِكْرُ الشِّمَالِ فِي حَدِيْثٍ آخَرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ القِصَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيْفٌ بِمَرَّةٍ تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَبِالآخَرِ يَزِيْدُ الرَّقَاشِيُّ - وَهُمَا مَتْرُوكَانِ - وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ؟! وَصَحِيْحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّى كِلْتَيْ يَدَيْهِ يَمِيْنًا، وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَرْسَلَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ، أَوْ عَلَى عَادَةِ العَرَبِ فِي ذِكْرِ الشِّمَالِ فِي مُقَابَلَةِ اليَمِيْنِ). وَقَدْ حَكَمَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِالنَّكَارَةِ - وَلَيْسَ فَقَط بِالشُّذُوْذِ - لِضَعْفِ (عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ) المَذْكُوْرِ آنِفًا-، اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الصَّحِيْحَةِ (3136). (¬4) أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (324/ 21) مَوْقُوْفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَبِلَفْظِ (فِي يَدِ اللهِ). قَالَ الشَّيْخُ نَاصِرُ بْنُ حَمَدٍ الفَهَد فِي كِتَابِهِ (تَنْبِيْهَاتٌ عَلَى كُتُبِ تَخْرِيْجِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) (ص94): (الحَدِيْثُ حَسَنٌ عَلَى أَقَلِّ الأَحْوَالِ). قُلْتُ: انْظُرْ - لِزَامًا - سَبَبَ تَحْسِيْنِهِ لِلحَدِيْثِ، وَرَدَّهُ عَلَى مَنْ ضَعَّفَ الحَدِيْثَ بِسَبَبِ أَحَدِ رُوَاتِهِ (عَمْرو بْنِ مَالِكٍ النُّكْرِيِّ) فَقَدْ أَتَى بِمَا يَجْدُرُ تَأَمُّلُهُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيْلِهِ. (¬5) ضَعِيْفٌ. تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (5794). قَالَ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (العُلُوُّ لِلعَلِيِّ الغَفَّارِ) (ص100): (هَذَا مُرْسَلٌ, وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيْفٌ)، وَانْظُرْ أَيْضًا الضَّعِيْفَةَ (6118). (¬6) صَحِيْحٌ. تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ (5794). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ (العَرْشُ) (432). الصَّحِيْحَةُ (109). وَأَمَّا حَدِيْثُ أَبِي ذَرٍّ المَرْفُوْعُ الَّذِيْ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي (العَظَمَةِ) (587/ 2) بِلَفْظِ (الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ) فَهُوَ ضَعِيْفٌ. الضَّعِيْفَةُ (6118). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّعْلِيْقِ عَلَى الطَّحَاوِيَّةِ (ص54): (وَأَمَّا الكُرْسِيُّ فَفِيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (البقرة:255)، وَالكُرْسِيُّ هُوَ الَّذِيْ بَيْنَ يَدَي العَرْشِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوْفًا عَلِيْهِ مِنْ قَوْلِهِ (الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، وَالعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى). وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي كِتَابِي (مُخْتَصَرُ العُلُوِّ لِلذَّهَبِيِّ) وَلَمْ يَصِحَّ فِيْهِ مَرْفُوْعًا سِوَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ العَرْشِ عَلَى الكُرْسِيِّ كَفَضْلِ تِلْكَ الفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الحَلْقَةِ). وَذَلِكَ مِمَّا يُبْطِلُ أَيْضًا تَأْوِيْلَ الكُرْسِيِّ بِالعِلْمِ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّأْوِيْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (109)). (¬7) إِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ. (التَّوْحِيْدُ) (244/ 1) (885/ 2) لِابْنِ خُزَيْمَةَ. اُنْظُرْ كِتَابَ (مُخْتَصَرُ العُلُوِّ) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ص103). (¬8) (العُلُوُّ) (ص45) لِلذَّهَبِيِّ. (¬9) ضَعِيْفٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4723)، وَانْظُرْ أَوْجُهَ التَّضْعِيْفِ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ صَحَّحَهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (1247).

فِيْهِ مَسَائِلُ: الأُوْلَى: تَفْسِيْرُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالأَرْضُ جَمِيْعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ}. الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ العُلُوْمَ وَأَمْثَالَهَا بَاقِيَةٌ عِنْدَ اليَهُوْدِ الَّذِيْنَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرُوْهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوْهَا. الثَّالِثَةُ: أَنَّ الحَبْرَ لَمَّا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَهُ، وَنَزَلَ القُرْآنُ بِتَقْرِيْرِ ذَلِكَ. الرَّابِعَةُ: وُقُوْعُ الضَّحِكُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الحَبْرُ هَذَا العِلْمَ العَظِيْمَ. الخَامِسَةُ: التَّصْرِيْحُ بِذِكْرِ اليَدَيْنِ؛ وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ فِي اليَدِ اليُمْنَى، وَالأَرَضِيْنَ فِي اليَدِ الأُخْرَى. السَّادِسَةُ: التَّصْرِيْحُ بِتَسْمِيَتِهَا: الشِّمَالُ. السَّابِعَةُ: ذِكْرُ الجَبَّارِيْنَ وَالمُتَكَبِّرِيْنَ عِنْدَ ذَلِكَ. الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ (كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ). التَّاسِعَةُ: عِظَمُ الكُرْسِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّمَوَاتِ. العَاشِرَةُ: عِظَمُ العَرْشِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الكُرْسِيِّ. الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ العَرْشَ غَيْرُ الكُرْسِيِّ وَالمَاءِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالكُرْسِيِّ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَيْنَ الكُرْسِيِّ وَالمَاءِ. الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ العَرْشَ فَوْقَ المَاءِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ اللهَ فَوْقَ العَرْشِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: كِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمَائَةِ سَنَةٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ البَحْرَ الَّذِيْ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ؛ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ مَسِيْرَةُ خَمْسِمَائَةِ سَنَةٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. - إِلَى هُنَا تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ كِتَابُ التَّوْحِيْدِ الأَصْلُ -.

الشرح

الشَّرْحُ - مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ أَنَّ هَذَا البَابَ فِيْهِ خُلَاصَةٌ جَامِعَةٌ لِمُجْمَلِ الكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الآيَةَ الكَرِيْمَةَ فِي أَوَّلِ البَابِ دَلَّ أَوَّلُهَا عَلَى عَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى - وَهَذَا فِيْهِ إِظْهَارُ الرُّبُوْبِيَّةِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَدَلَّ آخِرُهَا عَلَى تَنْزِيْهِهِ عَنِ الشِّرْكِ بِهِ - وَهَذَا فِيْهِ إِظْهَارٌ لِتَوْحِيْدِهِ بِالعُبُوْدِيَّةِ -، فَصَارَتْ مِنْ جِهَةِ الدِّلَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:22). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوْا}: أَي المُشْرِكِيْنَ، وَ {قَدَرُوَا}: أَيْ: عَظَّمُوا، وَالمَعْنَى: مَا عَظَّمُوا اللهَ حَقَّ تَعْظِيْمِهِ؛ حَيْثُ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالأَرْضُ جَمِيْعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ}: فِيْهِ بَيَانُ عَظَمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالأَرْضُ جَمِيْعًا}: (جَمِيْعًا) حَالٌ، وَهِي دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِالأَرْضِ الأَرْضُوْنَ كُلُّهَا، وَلِأَنَّ المَوْضِعَ مَوْضِعُ تَفْخِيْمٍ. - قَوْلُهُ تَعَالَى {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ}: فِيْهِ اسْتِدْلَالٌ بِالرُّبُوْبِيَّةِ عَلَى تَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ. - قَوْلُهُ (حَبْرٌ): الحَبْرُ: هُوَ العَالِمُ الكَثِيْرُ العِلْمِ، وَلَفْظُ (الحَبْرِ) يُشَابِهُ لَفْظَ (البَحْرِ) فِي تَرْكِيْبِ الحُرُوْفِ وَالاسْتِخْدَامِ، وَلِهَذَا كَانَ العَالِمُ أَحْيَانًا يُسَمَّى بِالحَبْرِ وَأَحْيَانًا بِالبَحْرِ. - قَوْلُهُ (إِنَّا نَجِدُ): أَيْ: فِي التَّوْرَاةِ. - قَوْلُهُ (عَلَى إِصْبَعٍ) (¬1): فِيْهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى - كَمَا يَلِيْقُ بِهِ سُبْحَانَهُ - مِنْ غَيْرِ تَمْثِيْلٍ وَلَا تَحْرِيْفٍ وَلَا تَعْطِيْلٍ. - قَوْلُهُ (فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيْقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى): فِيْهِ تَأْكِيْدُ صِحَّةِ مَا ذُكِرَ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ، وَهِيَ: ضَحِكُهُ صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، ثُمَّ تَأْكِيْدُهُ صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ بِمَثِيْلَتِهَا مِنَ القُرْآنِ. (¬2) - قَوْلُهُ (يَطْوِي الأَرَضِيْنَ السَّبْعَ): إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الأَرَضِيْنَ سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ، وَشَاهِدُهُ فِي القُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِيْ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطَّلَاق:12). ¬

_ (¬1) (الإِصْبَع): مُثَلَّثَةُ الأَوَّلِ وَالثَّالِثِ. (¬2) وَفِي البَابِ مَسْأَلَةٌ خَاصَّةٌ فِي رَدِّ شُبُهَاتِ المُعَطِّلَةِ عَلَى هَذَا الحَدِيْثِ؛ سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

- قَوْلُهُ (ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ): لَفْظَةُ (شِمَالِهِ) فِيْهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الرُّوَاةِ، فَمِنْهُم مَنْ أَوْرَدَهَا هَكَذَا وَمِنْهُم مَنْ أَوْرَدَهَا بِلَفْظِ (بِيَدِهِ الأُخْرَى)، وَعَلَى كُلٍّ إِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً - بِاللَّفْظِ الأَوَّلِ - مِنْ جِهَةِ الحَدِيْثِ (¬1) فَلَيْسِ فِيْهَا تَعَارُضٌ مَعَ حَدِيْثِ (وَكِلْتَا يَدِي رَبِّي يَمِيْنٌ) (¬2) وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: 1) أَنَّ الإِشْكَالَ بَيْنَ كَوْنِهَا يَمِيْنًا أَوْ شِمَالًا هُوَ بِاْعِتَبارِ المَخْلُوْقِ، أَمَّا اللهُ تَعَالَى فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَمَا صَحَّ أَنْ يَكُوْنَ مُشْكِلًا فِي حَقِّ المَخْلُوْقِ؛ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُوْنَ مُشْكِلًا فِي حَقِّ الخَالِقِ تَعَالَى. (¬3) 2) أَنَّ قَوْلَهُ (وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِيْنٌ): مَعْنَاهُ أَنَّ شِمَالَهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ بِأَنْقَصَ مَنْ يَمِيْنِهِ - كَحَالِ البَشَرِ-، فَهِيَ لَا تَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ شِمَالًا، وَدِلَالَةُ ذَلِكَ سِيَاقُ الحَدِيْثِ وَفِيْهِ (فَقَالَ اللهُ لَهُ (أَي لِآدَمَ) - وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ -: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي - وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِيْنٌ مُبَارَكَةٌ -). (¬4) وَالأَقْرَبُ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - هُوَ التَّوَقُّفُ فِيْهَا لِعَدَمِ ثُبُوْتِهَا مِنْ جِهَةِ صَنْعَةِ الحَدِيْثِ. (¬5) ¬

_ (¬1) قَدْ حَكَمَ عَلَيْهَا الحَافِظُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِالشُّذُوْذِ فِي كِتَابِهِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) (139/ 2)، وَعَدَّهَا الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ مُنْكَرَةً. الصَّحِيْحَةُ (3136). وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الحَاشِيَةِ قَبْلَ قَلِيْلٍ. (¬2) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3368) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5209). وَهُوَ بِتَمَامِهِ (لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيْهِ الرُّوْحَ؛ عَطَسَ فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللهَ بِإِذْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: رَحِمَكَ اللهُ يَا آدَمُ، اذْهَبْ إِلَى أُوْلَئِكَ المَلَائِكَةِ - إِلَى مَلَإٍ مِنْهُمْ جُلُوْسٍ - فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، قَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيْكَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ اللهُ لَهُ - وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ -: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي - وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِيْنٌ مُبَارَكَةٌ - ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيْهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ؛ مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ - فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ مَكْتُوْبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ -، فَإِذَا فِيْهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ - أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ - قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ؛ قَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً. قَالَ: يَا رَبِّ زِدْهُ فِي عُمْرِهِ. قَالَ: ذَاكَ الَّذِيْ كُتِبَ لَهُ. قَالَ: أَيْ: رَبِّ؛ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّيْنَ سَنَةً. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، قَالَ: ثُمَّ أُسْكِنَ الجَنَّةَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أُهْبِطَ مِنْهَا، فَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ، قَالَ: فَأَتَاهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجَّلْتَ، قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى؛ وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لابْنِكِ دَاوُدَ سِتِّيْنَ سَنَةً، فَجَحَدَ؛ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ؛ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ. قَالَ: فَمِنْ يَوْمِئِذٍ أُمِرَ بِالكِتَابِ وَالشُّهُوْدِ). (¬3) وَسُئِلَ الشَّيْخُّ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجَلَّةِ الأَصَالَةِ (ع4، ص 68): (كَيْفَ نُوَفِّقُ بَيْنَ رِوَايَةِ (بِشِمَالِهِ) الوَارِدَةِ فِي حَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ؛ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكِلْتَا يَدِيْهِ يَمِيْنٌ)؟ الجَوَابُ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الحَدِيْثَيْنِ بَادِئ بِدْءٍ؛ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكِلْتَا يَدِيْهِ يَمِيْنٌ) تَأْكَيْدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ}؛ فَهَذَا الوَصْفُ الَّذِيْ أَخْبَرَ بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْكِيْدٌ لِلتَّنْزِيْهِ، فَيَدُ اللهِ لَيْسَتْ كَيَدِ البَشَرِ (شِمَالٌ وَيَمِيْنٌ) وَلَكِنْ كِلْتَا يَدِيْهِ سُبْحَانَهُ يَمِيْنٌ. وَأَمْرٌ آخَرٌ؛ أَنَّ رِوَايَةَ: (بِشِمَالِهِ) شَاذَّةٌ؛ كَمَا بيَّنْتُهَا فِي (تَخْرِيْجِ المُصْطَلَحَاتِ الأَرْبَعَةِ الوَارِدَةِ فِي القُرْآنِ) (رَقَم 1) لِلمَوْدُوْدِيِّ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ وَقَالَ: (بِيَدِهِ الأُخْرَى) - بَدَلَ: (بِشِمَالِهِ) - وَهُوَ المُوَافِقُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكِلْتَا يَدِيْهِ يَمِيْنٌ)، وَاللهُ أَعْلَمُ). قُلْتُ: وَاُنْظُرْ كِتَابَ (صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (ص385) لِلشَّيْخِ عَلَوِيِّ السَّقَّافِّ حَفِظَهُ اللهُ. (¬4) أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْن رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (534/ 2). (¬5) قَالَ الشَّيْخُ الفَاضِلُ عَلَوِيُّ السَّقَّافُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (379): ((أَوَّلًا) القَائِلُوْنَ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الشِّمَالِ أَوِ اليَسَارِ، وَمِنْهُم: الإِمَامُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيْدٍ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الفَرَّاءُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، وَصِدِّيْقُ حَسَن خَان، وَمُحَمَّدُ خَلَيْل الهَرَّاسُ، وَعَبْدُ اللهِ الغُنَيْمَانُ، وَإِلَيْكَ أَدِلَّتَهُم وَأَقْوَالَهُم: ... (وَسَاقَهَا). ثَانِيًا): القَائِلُوْنَ بِأَنَّ كِلْتَا يَدِي اللهِ يَمِيْنٌ - لَا شِمَالَ وَلَا يَسَارَ فِيْهِمَا - مِنْهُمْ: الإِمَامُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي (كِتَابِ التَّوْحِيْدِ)، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَالأَلْبَانِيُّ، وَإِلَيْكَ أَدِلَّتَهُم وَأَقْوَالَهُم: ... (وَسَاقَهَا). التَّرْجِيْحُ: إِنَّ تَعْلِيْلَ القَائِلِيْنَ بِأَنَّ إِحْدَى يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَمِيْنٌ وَالأُخْرَى شِمَالٌ؛ وَأَنَّنَا إِنَّمَا نَقُوْلُ كِلْتَاهُمَا يَمِيْنٌ؛ تَأَدُّبًا وَتَعْظِيْمًا؛ إِذِ الشِّمَالُ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالضَّعْفِ؛ قَوْلٌ قَوِيٌّ، وَلَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ؛ إِلَّا أَنَّنَا نَقُوْلُ: إِنَّ صِفَاتِ اللهِ تَوْقِيْفِيَّةٌ، وَمَا لَمْ يَأْتِ دَلِيْلٌ صَحِيْحٌ صَرِيْحٌ فِي وَصْفِ إِحْدَى يَدِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالشِّمَالِ أَوِ اليَسَارِ؛ فَإِنَّنَا لَا نَتَعَدَّى قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كِلْتَاهُمَا يَمِيْنٌ). وَاللهُ أَعْلَمُ)). تَمَّ بِحَذْفٍ دُوْنَ تَصَرُّفٍ.

- قَوْلُهُ (ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ): أَيْ: هَزًّا حَقِيْقِيًّا، فَيَظْهَرُ فِيْهِ لِلعِبَادِ فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ عَظَمَتُهُ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ، وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ - يَقُوْلُ: (يَأْخُذُ الجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ - وَقَبَضَ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا - ثُمَّ يَقُوْلُ: أَنَا الجَبَّارُ، أَيْنَ الجَبَّارُوْنَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُوْنَ؟) قَالَ: وَيَتَمَيَّلُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِيْنِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى المِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ؛ حَتَّى إِنِّي أَقُوْلُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ (¬1) - قَوْلُهُ (أَنَا المَلِكُ): أَيْ: أَنَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لَا مُلْكَ لِأَحَدٍ سِوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُوْنَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} (غَافِر:16)، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ جَعَلَ اللهُ مِنَ النَّاسِ مُلُوْكًا عَلَى مَا اسْتَخْلَفَهُم فِيْهِ (¬2)، وَمُلْكُهُم قَاصِرٌ وَلَا رَيْبَ (¬3)، وَأَمَّا مُلْكُ اللهِ تَعَالَى تَامٌّ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى فِي الآخِرَةِ يَحْشُرُ النَّاسَ جَمِيْعًا حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا (¬4)؛ فَيَظْهَرُ فِيْهِ بِشَكْلٍ بَيِّنٍ - لَا خَفَاءَ فِيْهِ عَلَى أَحَدٍ وَلَا اسْتِكْبَارَ - كَمَالُ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ تَعَالَى. (¬5) - قَوْلُهُ (أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟): الاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّحَدِّي وَالتَّوْبِيْخِ؛ فَيَقُوْلُ: أَيْنَ المُلُوْكُ الَّذِيْنَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَهُم السُّلْطَةُ وَالتَّجَبُّرُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى عِبَادِ اللهِ؟ وَفِي ذَلِكَ الوَقْتِ يُحْشَرُ أُوْلَئِكَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِم، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ؛ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُوْنَ إِلَى سِجْنٍ في جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولُسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ؛ طِينَةِ الخَبَالِ) (¬6)، وذَلكَ مُعَامَلَةً لَهُم بِنَقيْضِ قَصْدِهِم. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (198). صَحِيْحُ ابْنِ مَاجَه (198)، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا (2788)؛ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيْهِ ذِكْرُ المَيْلُ. قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ (330/ 1): (وَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَقْبِضُ يَدَيْهِ وَيَبْسُطُهُمَا - تَحْقِيْقًا لِلصِّفَةِ - لَا تَشْبِيْهًا لَهَا، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَكَانَ اللهُ سَمِيْعًا بَصِيْرًا} (النِّسْاء:134) وَضَعَ إِصْبِعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَالأُخْرَى عَلَى أُذُنِهِ؛ تَحْقِيْقًا لِصِفَةِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ). قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ الأَخِيْرُ صَحِيْحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (4728). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُد (4728). (¬2) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ فَالَّذِيْنَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيْرٌ} (الحَدِيْد:7). (¬3) وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ (قَوْلِهِ تَعَالَى {أَيُشْرِكُوْنَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ، وَلاَ يَسْتَطِيْعُوْنَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُوْنَ}) بَيَانُ نَوَاحِي هَذَا القُصُوْرِ. (¬4) (غُرْلًا): أَيْ: غَيْرُ مَخْتُوْنِيْنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيْدُهُ} (الأَنْبِيَاء:104). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيْرِ (134/ 1): (وَتَخْصِيْصُ المُلْكِ بِيَوْمِ الدِّيْنِ لَا يَنْفِيْهِ عَمَّا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ العَالَمِيْنَ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيْفَ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيْئًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَ يَقُوْمُ الرُّوْحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُوْنَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (النَّبَأ:38)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (طَه:108)، وَقَالَ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ} (هُوْد:105)). (¬6) حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2492) عَنِ ابْنِ عَمْرُو مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (8040).

- قَوْلُهُ (فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ): هَكَذَا سَاقَهُ المُؤَلِّفُ؛ وَلَكِنِ الَّذِيْ فِي تَفْسِيْرِ ابْنِ جَرِيْرٍ هُوَ بِلَفْظِ (فِي يَدِ اللهِ)، إِلَّا أَنَّ صِفَةَ الكَفِّ للهِ تَعَالَى ثَابِتَةٌ فِي أَحَادِيْثَ أُخْرَ صَحِيْحَةٍ. (¬1) - قَوْلُهُ (كَخَرْدَلَةٍ): هِيَ حَبَّةُ نَبَاتٍ صَغِيْرَةٍ جِدًّا؛ يُضْرَبُ بِهَا المَثَلُ فِي الصِّغَرِ وَالقِلَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِيْطُ بِهِ شَيْءٌ، وَالأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيْلِ التَّقْرِيْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ، وَلَا تُحِيْطُ بِهِ الأَفْهَامُ. - فَي الآثَارِ السَّابِقَةِ بَيَانُ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَإِمْرَارِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيْلٍ وَلَا تَعْطِيْلٍ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيْرِ - عِنْدَ آيَةِ البَابِ -: (وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وَالطَّرِيْقُ فِيْهَا وَفِي أَمْثَالِهَا مَذْهَبُ السَّلَفِ؛ وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيْفٍ وَلَا تَحْرِيْفٍ). (¬3) وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ): (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيْعِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ رُؤُوْسِ أَصْحَابِهِ (أَي الشَّافِعِيِّ) مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ بِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيْثِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيْفٍ وَلَا تَشْبِيْهٍ وَلَا تَعْطِيْلٍ وَلَا تَحْرِيْفٍ؛ عَلَى طَرِيْقِ السَّلَفِ). (¬4) وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (العُلُوُّ لِلعَليِّ الغَفَّارِ): (وَعَنْ يُوْنُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى؛ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: (للهِ تَعَالَى أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا - قَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ - رَدُّهَا)). (¬5) وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي): (وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُوْنُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى؛ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: (للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا، وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوْتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ فَقَدَ كَفَرَ، وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُ بِالعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالفِكْرِ، فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيْهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ})). (¬6) - قَوْلُهُ (مَا الكُرْسِيِّ فِي العَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيْدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ): فِيْهِ بَيَانُ عَظَمَةِ العَرْشِ، وَعَظَمَتُهُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ صَاحِبِهِ وَخَالِقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. ¬

_ (¬1) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِيْنِهِ - وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً - فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُوْنَ أَعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ؛ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيْلَهُ). مُسْلِمٌ (1014) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) وَمِنَ التَّأْوِيْلِ المَذْمُوْمِ - وَالَّذِيْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيْلٌ صَحِيْحٌ صَرِيْحٌ شَرْعِيٌّ - مَا فِي تَفْسِيْرِ الجَلَالَيْنِ (ص177) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (مَا عَرَفُوْهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، أَوْ مَا عَظَّمُوْهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِيْنَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ، {وَالأَرْضُ جَمِيْعًا} حَالٌ؛ أَيْ: السَّبْعُ؛ {قَبْضَتُهُ} أَيْ: مَقْبُوْضَةٌ لَهُ: أَيْ: فِي مُلْكِهِ وَتَصَرًّفِهِ!!! {يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} مَجْمُوْعَاتٌ؛ {بِيَمِيْنِهِ} بِقُدْرَتِهِ!!! {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} مَعَهُ). قُلْتُ: عَلَى هَذَا التَّفْسِيْرِ (أَوِ التَّأْوِيْلِ) تَرِدُ أَسْئِلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ، وَفِي تَأَمُّلِهَا الإِجَابَةُ: أ) مَنْ فَسَّرَ (القَبْضَةَ) بِالمُلْكِ، وَ (اليَمِيْنَ) بِالقُدْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ فِي هَذِهِ الآيَةِ؟ ب) مَا وَجْهُ جَعْلِ الأَرْضِ يَوْمَ القِيَامَةِ - دُوْنَ السَّمَوَاتِ؛ فِي هَذَا التَّفْسِيْرِ - مَخْصُوْصَةً بِالمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ؛ رُغْمَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ أَصْلًا فِي مُلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ تَعَالَى؛ سَوَاءً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ (¬3) تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْر (113/ 7). (¬4) (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (138/ 14). (¬5) (العُلُوُّ لِلعَليِّ الغَفَّارِ) (ص166). (¬6) (فَتْحُ البَارِي) (407/ 13).

- قَوْلُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (وَاَللَّهُ فَوْقَ العَرْشِ؛ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) فِيْهِ بَيَانُ عُلُوِّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ فَوْقَ جَمِيْعِ مَخْلُوْقَاتِهِ؛ وَأَنَّ عُلُوَّهُ مُلَازِمٌ لِعِلْمِهِ تَعَالَى لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ - خِلَافًا لِحَالِ المَخْلُوْقِ -. وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (تَبَارَكَ الَّذِيْ وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ - وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ - وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّم؛ وَهِيَ تَقُوْلُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَانْقَطَعَ وَلَدِي، ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيْلُ بِهَؤُلَاءِ الآيَاتِ {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِيْ تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ} (المُجَادِلَة:1)). (¬1) - قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي): ابْنُ جَرِيْرٍ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيْرٍ بْنِ يَزِيْدَ بْنِ كَثِيْرٍ الطَّبَرِيُّ الآمِلِيُّ؛ أَبُو جَعْفَرٍ - صَاحِبُ التَّفْسِيْرِ المَشْهُوْرِ -، إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ؛ عَالِمُ عَصْرِهِ، (ت 310 هـ). (¬2) وَيُوْنُسُ: هُوَ يُوْنُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى المَصْرِيُّ، ثِقَةٌ فَقِيْهٌ، (ت 264 هـ). وَابْنُ وَهْبٍ: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ القُرَشِيُّ، ثِقَةٌ حَافِظٌ، (ت 197هـ). وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ القُرَشِيُّ، ضَعِيْفٌ، (ت 182 هـ)، وَأَبُوْهُ فَقِيْهٌ عَالِمٌ (ت 136 هـ). - قَوْلُهُ (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ المَسْعُوْدِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ أبِي وَائِلٍ): ابْنُ مَهْدِي: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي بْنِ حَسَّانِ العَنْبَرِيُّ، إِمَامٌ ثِقَةٌ، (ت 198 هـ). وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: هُوَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِيْنَارٍ البَصْرِيُّ، ثِقَةٌ عَابِدٌ، (ت 167 هـ). وَعَاصِمُ: هُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُوْدِ - ابْنُ بَهْدَلَةَ - الأَسَدِيُّ، ثِقَةٌ، (ت 128 هـ). وَزِرُّ: هُوَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشِ بْنِ حُبَاشَةَ بْنِ أَوْسٍ الأَسَدِيُّ، ثِقَةٌ جَلِيْلٌ، (ت 81 هـ). وَالمَسْعُوْدِيُّ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، صَدُوْقٌ، (ت 160 هـ). وَأَبُو وَائِل: هُوَ شَقِيْقُ بْنُ سَلَمَةَ الأَسَدِيُّ الكُوْفِيُّ، مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ، (ت 79 هـ). - فَائِدَةٌ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ {وَالأَرْضُ جَمِيْعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ} فَأَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: (هُمْ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ). (¬3) - قَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ (أَنَّ هَذِهِ العُلُوْمَ وَأَمْثَالَهَا بَاقِيَةٌ عِنْدَ اليَهُوْدِ الَّذِيْنَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرُوْهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوْهَا): كَأَنَّهُ يَقُوْلُ: إِنَّ اليَهُوْدَ خَيْرٌ - مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ - مِنْ أُوْلَئِكَ المُعَطِّلَةِ لِلصِّفَاتِ؛ المُحَرِّفِيْنَ لَهَا، لِأَنَّهُم لَمْ يُكَذِّبُوْهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوْهَا. ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. ابْنُ مَاجَه (2063). صَحِيْحُ ابْنِ مَاجَه (2063). وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ (117/ 9) تَعْلِيْقًا، وَقَالَ: (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَكَانَ اللهُ سَمِيْعًا بَصِيْرًا} وَقَالَ الأَعْمَشُ: عَنْ تَمِيْمٍ؛ عَنْ عُرْوَةَ؛ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِيْ تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}). (¬2) وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيْرِ بْنِ رُسْتُمَ؛ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ (أَيْضًا)؛ فَهُوَ مِنَ الرَّوَافِضِ. انْظُرِ السِّيَرَ (267/ 14) وَ (282/ 14) لِلذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. (¬3) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (24856) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (561).

مسائل على الباب

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ - المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) هَلْ للهِ تَعَالَى صِفَةُ الأَصَابِعِ حَقِيْقَةً؟ أَمْ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنَى المُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيْمِ! وَقَدْ جَاءَ فِي البُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ مِنْ قَوْلِ اليَهُوْدِيِّ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُوْلُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّها مِنْ وَصْفِ اليَهُوْدِ المُجَسِّمَةِ للهِ تَعَالَى! (¬1) الجَوَابُ: للهِ تَعَالَى صِفَةُ الأَصَابِعِ، وَهِيَ غَيْرُ صِفَةِ المُلْكِ، وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيْمِ للهِ تَعَالَى، فَنُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَنَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَئِنْ كَانَتْ صِفَةُ السَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالإِرَادَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّمْثِيْلِ - رُغْمَ أَنَّ أَغْلَبَ المَخْلُوْقَاتِ الحَيَوَانِيَّةِ لَهُم مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفاتِ -؛ فَإِنَّ صِفَةَ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى أَيْضًا لَا تَدُلُّ عَلَى التَّمْثِيْلِ وَلَا عَلَى التَّجْسِيْمِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ القَوْمَ شَبَّهُوا أَوَّلًا فنَفَرُوا، فعَطَّلُوا ثَانِيًا فَكَفَرُوا. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (398/ 13): (وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: (لَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الإِصْبَعِ فِي القُرْآنِ وَلَا فِي حَدِيْثٍ مَقْطُوْعٍ بِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ اليَدَ لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ مِنْ ثُبُوْتِهَا ثُبُوْتُ الأَصَابِعِ، بَلْ هُوَ تَوْقِيْفٌ أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ فَلَا يُكَيَّفُ وَلَا يُشَبَّهُ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الأَصَابِعِ مِنْ تَخْلِيْطِ اليَهُوْدِيِّ، فَإِنَّ اليَهُوْدَ مُشَبِّهَةٌ، وَفِيْمَا يَدَّعُوْنَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلْفَاظٌ تَدْخُلُ فِي بَابِ التَّشْبِيْهِ وَلَا تَدْخُلُ فِي مَذَاهِبِ المُسْلِمِيْنَ، وَأَمَّا ضَحِكُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِ الحَبْرِ فَيَحْتَمِلُ الرِّضَى وَالإِنْكَارَ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّاوِي: (تَصْدِيْقًا لَهُ) فَظَنٌّ مِنْهُ وَحُسْبَانٌ، وَقَدْ جَاءَ الحَدِيْثُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لَيْسَ فِيْهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَعَلَى تَقْدِيْرِ صِحَّتِهَا فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِحُمْرَةِ الوَجْهِ عَلَى الخَجَلِ، وَبِصُفْرَتِهِ عَلَى الوَجَلِ، وَيَكُوْنُ الأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَكُوْنُ الحُمْرَةُ لِأَمْرٍ حَدَثَ فِي البَدَنِ كَثَوَرَانِ الدَّمِ، وَالصُّفْرَةُ لِثَوَرَانٍ خَلْطٍ مِنْ مِرَارٍ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيْرِ أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ مَحْفُوْظًا فَهُوَ مَحْمُوْلٌ على تَأْوِيْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ} أَيْ: قُدْرَتُهُ عَلَى طَيِّهَا، وَسُهُولَةُ الأَمْرِ عَلَيْهِ فِي جَمْعِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ شَيْئًا فِي كَفِّهِ وَاسْتَقَلَّ بِحَمْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْمَعَ كَفَّهُ عَلَيْهِ، بَلْ يُقِلُّهُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، وَقَدْ جَرَى فِي أَمْثَالِهِمْ: فُلَانٌ يُقِلُّ كَذَا بِإِصْبَعِهِ وَيَعْمَلُهُ بِخِنْصَرِهِ). انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ تَعَقَّبَ بَعْضُهُمْ إِنْكَارَ وُرُوْدِ الأَصَابِعِ لِوُرُوْدِهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيْثَ كَالحَدِيْثِ الَّذِيْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (إِنَّ قَلْبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ) وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى القَطْعَ. وَقَالَ القُرْطُبِيُّ فِي المُفْهِمِ: (قَوْلُهُ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ) إِلَى آخِرِ الحَدِيْثِ، هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ اليَهُوْدِيِّ وَهُمْ يَعْتَقِدُوْنَ التَّجْسِيْمَ وَأَنَّ اللهَ شَخْصٌ ذُو جَوَارِحَ - كَمَا يَعْتَقِدُهُ غُلَاةُ المُشَبِّهَةِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ -، وَضَحِكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ جَهْلِ اليَهُوْدِيِّ، وَلِهَذَا قَرَأَ عِنْدَ ذَلِكَ {وَمَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ: مَا عَرَفُوْهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوْهُ حَقَّ تَعْظِيْمِهِ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيْحَةُ المُحَقَّقَةُ، وَأَمَّا مَنْ زَادَ (تَصْدِيْقًا لَهُ) فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهَا مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي وَهِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَدِّقُ المُحَالَ، وَهَذِهِ الأَوْصَافُ فِي حَقِّ اللهِ مُحَالٌ؛ إِذْ لَوْ كَانَ ذَا يَدٍ وَأَصَابِعَ وَجَوَارِحَ كَانَ كَوَاحِدٍ؛ مِنَّا فَكَانَ يَجِبُ لَهُ مِنَ الِافْتِقَارِ وَالحُدُوْثِ وَالنَّقْصِ وَالعَجْزِ مَا يَجِبُ لَنَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُوْنَ إِلَهًا؛ إِذْ لَوْ جَازَتِ الإِلَهِيَّةُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَصَحَّتْ لِلدَّجَّالِ - وَهُوَ مُحَالٌ - فَالمُفْضِي إِلَيْهِ كَذِبٌ، فَقَوْلُ اليَهُوْدِيِّ كَذِبٌ وَمُحَالٌ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ {وَمَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، وَإِنَّمَا تَعَجَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَهْلِهِ؛ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ تَصْدِيْقٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيْلَ قَدْ صَحَّ حَدِيْثُ (إِنَّ قُلُوْبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ) فَالجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا جَاءَنَا مِثْلُ هَذَا فِي الكَلَامِ الصَّادِقِ تَأَوَّلْنَاهُ أَوْ تَوَقَّفْنَا فِيْهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَجْهُهُ - مَعَ القَطْعِ بِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ لِضَرُوْرَةِ صِدْقِ مَنْ دَلَّتِ المُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ - وَأَمَّا إِذَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ مَنْ يَجُوْزُ عَلَيْهِ الكَذِبُ بَلْ عَلَى لِسَانِ مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ نَوْعِهِ بِالكَذِبِ وَالتَّحْرِيْفِ كَذَّبْنَاهُ وَقَبَّحْنَاهُ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِتَصْدِيْقِهِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَصْدِيْقًا لَهُ فِي المَعْنَى؛ بَلْ فِي اللَّفْظِ الَّذِيْ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ نَبِيِّهِ وَنَقْطَعُ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ). انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذَا الَّذِيْ نَحَا إِلَيْهِ أَخِيْرًا أَوْلَى مِمَّا ابْتَدَأَ بِهِ لِمَا فِيْهِ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى ثِقَاتِ الرُّوَاةِ وَرَدِّ الأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ، وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ الرَّاوِي بِالظَّنِّ لَلَزِمَ مِنْهُ تَقْرِيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى البَاطِلِ وَسُكُوْتُهُ عَنِ الإِنْكَارِ - وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ -، وَقد اشْتَدَّ إِنْكَارُ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الضَّحِكَ المَذْكُوْرَ كَانَ عَلَى سَبِيْلِ الإِنْكَارِ؛ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الحَدِيْثَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنْ صَحِيْحِهِ بِطَرِيْقِهِ: (قَدْ أَجَلَّ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُوْصَفَ رَبُّهُ بِحَضْرَتِهِ بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَيَجْعَلَ بَدَلَ الإِنْكَارِ وَالغَضَبِ عَلَى الوَاصِفِ ضَحِكًا! بَلْ لَا يَصِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الوَصْفِ مَنْ يُؤْمِنُ بِنُبُوَّتِهِ). وَقَدْ وَقَعَ الحَدِيْثُ المَاضِي فِي الرِّقَاقِ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ رَفَعَهُ (تَكُوْنُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّؤُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ) الحَدِيْثَ، وَفِيْهِ أَنَّ يَهُوْدِيًّا دَخَلَ فَأَخْبَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَصْحَابه ثُمَّ ضَحِكَ). قُلْتُ: وَقَوْلُ الحَافِظِ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ خُزَيْمَةَ السَّابِقِ إِنَّمَا هُوَ فِي كِتَابِهِ (التَّوْحِيْدُ) (178/ 1)، وَلَيْسَ فِي صَحِيْحِهِ أَصْلًا - لَا الحَدِيْثُ وَلَا البَيَانُ -، وَالحَمْدُ للهِ. وَمَعْنَى الحَدِيْثِ الأَخِيْرِ الَّذِيْ أَوْرَدَهُ الحَافِظُ هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الأَرْضَ كَالرَّغِيْفِ العَظِيْمِ فَيَكُوْنُ ذَلِكَ طَعَامًا لِأَهْلِ الجَنَّةِ. وَكُلُّ مَا سَبَقَ مِنَ الشُّبَهِ - بِحَمْدِ اللهِ - مَرْدُوْدٌ عَلَيْهِ فِي الجَوَابِ؛ عَدَا جُمْلَةَ القُرْطُبِيِّ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - وَهُوَ (إِذْ لَوْ جَازَتِ الإِلَهِيَّةُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَصَحَّتْ لِلدَّجَّالِ)!! وَالجَوَابُ: هَلِ الأُلُوْهِيَّةُ تُنْفَى بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؟! فَعَلَى هَذَا تُنْفَى بَاقِيْ الصِّفَاتِ السَّبْعَةِ - عَلَى مَذْهَبِ الأَشَاعِرَةِ - أَيْضًا عَنِ اللهِ تَعَالَى!! فَإِذَا قِيْلَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ السَّبْعَةُ هِيَ كَمَا يَلِيْقُ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ فَنَقُوْلُ: وَتِلْكَ الَّتِيْ أَثْبَتَهَا الشَّرْعُ أَيْضًا هِيَ كَمَا يَلِيْقُ بِهِ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ لَوْ كَانَتْ صِفَاتُ المَسِيْحِ الدَّجَّالِ الجَسَدِيَّةُ هِيَ عِلَّةُ إِنْكَارِ رُبُوْبِيَّتِهِ - كَمَا سَيَدَّعِيْهِ هُوَ فِي وَقْتِهِ - لَمْ يَكُنْ لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْجُهِ مَعْرِفَتِهِ سَبَبٌ أَبَدًا، حَيْثُ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ بِعِدَّةِ صِفَاتٍ - غَيْرِ جَسَدِيَّةٍ - لِمَعْرِفَةِ كَذِبِهِ، فَلَمْ تَكُنْ صِفَاتُهُ الجَسَدِيَّةُ هِيَ وَجْهُ بَيَانِ ضَلَالِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بَيَانُ وَجْهِ الضَّلَالَةِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ يَأْتِي وَمَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَأَنَّهُ يُحْيِي المَيِّتَ - بِإِذْنِ اللهِ الكَوْنِيِّ - وَأَنَّهُ مَكْتُوْبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ وَ ..... ، هَذَا كُلُّهُ مَعَ ضَرُوْرَةِ مَعْرِفَةِ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ أَبَدًا فِي حَقِيْقَةِ الصِّفَةِ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوْقِ، فَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَيٌّ - وَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ حَيَاتَهُ مُمَاثِلَةٌ لِحَيَاةِ البَشَرِ -؛ فَكَذَلِكَ أَصَابِعُهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ كَأَصَابِعِ البَشَرِ، لِأَنَّ الكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَنِ الكَلَامِ عَلَى الذَّاتِ. فَدَلَّ هَذَا البَيَانُ - بِفَضْلِ اللهِ - عَلَى خَطَأِ تَوْجِيْهِ القُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي قَوْ

أَمَّا مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ - وَالَّذِيْ فِيْهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الأَصَابِعِ، فَنَحْنُ نُوْرِدُهُ وَنُلَخِّصُ مِنْهُ أَوْجُهًا فِي بَيَانِ المَطْلُوْبِ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - فَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِيْنَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُوْلُ: أَنَا المَلِكُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيْقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ. ثُمَّ قَرَأَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيْعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (الزُّمَرْ:67). (¬1) وَهُنَا وَقَفَاتٌ: 1) لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللهِ تَعَالَى قَدْ وُصِفَ بِصِفَةٍ عِنْدَ اليَهُوْدِ أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ خَطَأً مُطْلَقًا، بَلْ مَا وَافَقَ شَرْعَنَا مِنْهُ يَكُوْنُ مَقْبُوْلًا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوْهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوْهُمْ، وَقُوْلُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوْهُمْ). (¬2) 2) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وضَحِكَ، وَلَا يُقَالُ هُنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ اسْتِهْزَاءً وَتَعَجُّبًا مِنْ تَجْسِيْمِ اليَهُوْدِيِّ!! (¬3) وَذَلِكَ لِأُمُوْرٍ: أ) أَنَّ الضَّحِكَ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ يَكُوْنُ إِنْكَارًا، لَا سِيَّمَا مَعَ السُّكُوْتِ وَعَدَمِ البَيَانِ. (¬4) ب) قَدْ ثَبَتَتْ صِفَةُ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى فِي أَحَادِيْثَ أُخَرَ - خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذَلِكَ - كَحَدِيْثِ (إِنَّ قُلُوْبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفهُ حَيْثُ شَاءَ). (¬5) ج) أَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ رَضيَ اللهَ عَنْهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الضَّحِكَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّصْدِيْقِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِم أَنَّ هَذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا فَهِمَ الصَّحَابِيُّ! فَمَرْدُوْدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ يَعْلَمُوْنَ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَكْثَرَ مِمَّا نَعْلَمُ بِلَا رَيْبٍ، وَأَيْضًا هَذَا يَقْتَضِي وَصْفَ ابْنِ مَسْعُوْدٍ وَسَائِر الصَّحَابَةِ الكِرَامِ بِالتَّجْسِيْمِ - عَلَى حَدِّ زَعْمِهِم -، وَأَيْضًا كَيْفَ تَصِحُّ تَخْطِئَتُهُ بِلَا دَلِيْلٍ شَرْعِيٍّ؛ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الإِيْمَانَ يَقَعُ صَحِيْحًا إِذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ إِيْمَانِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البَقَرَة:137). وَأَيْضًا إِنَّ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الحَدِيْثِ (الرَّاوِي أَدْرَى بِمَرْوِيِّهِ). ¬

_ (¬1) البُخَارِيُّ (4811)، وَمُسْلِمٌ (2786). (¬2) صَحِيْحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (1487)، وَأَحَمْدُ (17225) عَنْ أَبِي نَمْلَةَ الأَنْصَارِيِّ. الصَّحِيْحَةُ (2800). (¬3) قَالَ المُبَارَكْفُوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ بِشَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ) (81/ 9): (قُلْتُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّحِكَ المَذْكُوْرَ كَانَ عَلَى سَبِيْلِ الإِنْكَارِ! لَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّهُ يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ). (¬4) قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ (178/ 1): (بَابُ ذِكْرِ إِمْسَاكِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا عَلَى أَصَابِعِهِ - جَلَّ ربُّنَا عَنْ أَنْ تَكُوْنَ أَصَابِعُهُ كَأَصاَبِعِ خَلْقِهِ، وَعَنْ أَنْ يُشْبِهَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ صِفَاتِ خَلْقِهِ -، وَقَدْ أَجَلَّ اللهُ قَدْرَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُوْصَفَ الخَالِقُ البَارِئُ بِحَضْرَتِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَيَسْمَعُهُ فَيَضْحَكُ عِنْدَهُ؛ وَيَجْعَلُ بَدَلَ وُجُوْبِ النَّكِيْرِ وَالغَضَبِ عَلَى المُتَكَلِّمِ بِهِ ضَحِكًا تَبْدُو نَوَاجِذُهُ - تَصْدِيْقًا وَتَعَجُّبًا لِقَائِلِهِ - لَا يَصِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ برِسَالَتِهِ). (¬5) مُسْلِمٌ (2654) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمْرو مَرْفُوْعًا.

3) أَنَّ سُكُوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعْدَ هَذَا الوَصْفِ دُوْنَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِبَيَانٍ هُوَ إِقْرَارٌ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا فِي الأُصُوْلِ أَنَّ (تَأْخِيْرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوْزُ). وَفِي زَعْمِ هَؤُلَاءِ أَنَّ البَيَانَ تأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ حَتَّى وَقَعَ المَحْظُوْرُ، فَفَهِمَ الصَّحَابةُ التَّجْسِيْمَ - وَهُوَ الكُفْرُ المَحْضُ عِنْدَ المُعَطِّلَةِ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلَمْ يَفْهَمُوا قَصْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ إِيْرَادِهِ الآيَةَ الكَرِيْمَةَ. 4) أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَلَّ بِالقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ الحَبْرُ عِنْدَمَا تَلَا الآيَةَ الكَرِيْمَةَ، حَيْثُ ذَكَرَ فِيْهَا قَبْضَةَ اللهِ تَعَالَى؛ وَبِمِثْلِ مَا جَاءَ الكَلَامُ عَنِ اليَهُوْدِيِّ فِي قَبْضِ الأَرْضِ وَطَيِّ السَّمَاءِ. 5) عَلَى تَقْدِيْرِ خَطَإِ جَعْلِ الأَصَابِعِ صِفَةً للهِ تَعَالَى، فَهَلْ يُقرُّوْنَ بِصِفَةِ القَبْضَةِ للهِ تَعَالَى الَّتِيْ جَاءَتْ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ! فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ - وَلَا بُدَّ؛ وَلَوْ مَعَ التَّأْوِيْلِ عِنْدَهُم - فَصِفَةُ الأَصَابِعِ لَيْسَتْ بِأَعْجَبَ مِنْ صِفَةِ القَبْضَةِ، فَمَا سَلَّمُوا بِهِ هُنَا يَصْلُحُ أَنْ يُسَلِّمُوا بِمِثْلِهِ هُنَاكَ. وَالحَمْدُ للهِ. 6) أَنَّ المُتَأَمَّلَ فِي سِيَاقِ الحَدِيْثِ وَمَا ذُكِرَ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ بَعْدَهَا يَجِدُ دِلَالَةً ظَاهِرَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ، حَيْثُ لَوْ كَانَ المَقْصُوْدُ مِنَ الآيَةِ تَنْزِيْهَ اللهِ تَعَالَى عَنِ التَّجْسِيْمِ وَالصِّفَاتِ القَبِيْحَةِ - عَلَى حَدِّ زَعْمِ المُعَطِّلةِ - لَكَانَ اللَّفْظُ المُوَافِقُ لِلسِّيَاقِ هُوَ كَمَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُوْنَ} (الأَنْعَام:100)؛ وَإِنَّمَا جَاءَ الكَلَامُ هُنَا مِنْ لَدُنِ حَكِيْمٍ خَبِيْرٍ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} حَيْثُ جَاءَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ ذِكْرُ صِفَاتِ الرُّبُوْبِيَّةِ وَالعَظَمَةِ، ثُمَّ أُتْبِعَتْ بِالأَمْرِ بِتَوْحِيْدِ الأُلُوْهِيَّةِ - كَمَا لَا يَخْفَى مِنَ الأُسْلُوْبِ القُرْآنِيِّ فِي ذَلِكَ -، فَلَمْ يَذُمَّ اللهُ تَعَالَى مَا ذُكِرَ مِنَ الوَصْفِ، فَأَوَّلُ الآيَةِ فِيْهَا ذِكْرُ تَمْجِيْدِ الرَّبِّ تَعَالَى نَفْسَهُ وذِكْرُ عَظَمَتِهِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنْ جِنْسِ التَّعْظِيمِ أَيْضًا فِي الحَدِيْثِ. وَبِمَعْنَىً آخَرَ: إِنَّ الآيَةَ ذمَّتِ المُشْرِكِيْنَ - وَمِنْهُم اليَهُوْدُ - عَلَى مَا جَاءُوْا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَلَيْسَ مِنَ الوَصْفِ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} (البَقَرَة:22).

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) لَمْ يُذْكَرْ فِي الحَدِيْثِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ} (النَّحْل:98)! فَمَا الجَوَابُ؟ الجَوَابُ: قَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَمَلِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيْمَةَ تَأْمُرُ بِالاسْتِعَاذَةِ فِي حَالِ التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ فِي حَالِ الاسْتِشْهَادِ وَالاسْتِدْلَالِ، وَكُتُبُ الحَدِيْثِ - مِنْ جِهَةِ الهَدْي النَّبَوِيِّ - تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ. (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي رِسَالَتِهِ (القُذَاذَةُ فِي تَحْقِيقِ مَحَلِّ الِاسْتِعَاذَةِ) مِنْ كِتَابِهِ (الحَاوِي لِلفَتَاوِي) (297/ 1): (الَّذِيْ ظَهَرَ لِي - مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَالِاسْتِدْلَالِ - أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُوْلَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى؛ وَيَذْكُرَ الآيَةَ، وَلَا يَذْكُرَ الِاسْتِعَاذَةَ. فَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الأَحَادِيْثِ وَالآثَارِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ...).

الملحق الثاني عشر) مختصر في الرد على أبيات من البردة للبوصيري

المُلْحَقُ الثَّانِي عَشَرَ) مُخْتَصَرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ لِلبُوْصِيْرِي مُقَدِّمَةٌ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ المُرْسَلِيْنَ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ فَوَائِدُ مُخْتَصَرَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُصُوْلٍ فِي الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ أَبْيَاتِ قَصِيْدَةِ البُرْدَةِ (¬1) لِلبُوْصِيْرِي (¬2)، جَمَعْتُهَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ العِلْمِ - مُؤَلِّفًا بَيْنَ كَلَامِهِم - مَعَ بَعْضِ الفَوَائِدِ الَّتِيْ اسْتَحْسَنْتُ إِيْرَادَهَا، وَالحَمْدُ للهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَفِي المُلْحَقِ التَّالِي لِهَذَا وَهُوَ (ردُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِيْنَ) مَزِيْدُ فَائِدَةٍ عَلَى مَا فِي هَذَا المُلْحَقِ مِنْ وُجُوْهٍ أُخَر. ¬

_ (¬1) وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ القَصِيْدَةِ اسْمَ (البُرْدَةُ) مِنْ بَابِ المُحَاكَاةِ وَالمُشَاكَلَةِ لِلقَصِيْدَةِ الشَّهِيْرَةِ لِكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي مَدْحِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى كَعْبًا بُرْدَتَهُ حِيْنَ أَنْشَدَ القَصِيْدَةَ - إِنْ صَحَّ ذَلِكَ - لِأَنَّ ابْنَ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (4/ 429): (قُلْتُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ بُرْدَتَهُ حِيْنَ أَنْشَدَهُ القَصِيْدَةَ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي بَعْضِ مَدَائِحِهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الحَافِظُ أَبُو الحَسَنِ بْنُ الأَثِيْرِ فِي الغَابَةِ قَالَ: وَهِيَ البُرْدَةُ الَّتِيْ عِنْدَ الخُلَفَاءِ. قُلْتُ: وَهَذَا مِنَ الأُمُوْرِ المَشْهُوْرَةِ جِدًّا، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الكُتُبِ المَشْهُوْرَةِ بِإِسْنَادٍ أَرْتَضِيْهِ؛ فَاللَّهُ أَعْلَمُ). كَمَا أَنَّ لِهَذِهِ البُرْدَةِ اسْمًا آخَرَ هُوَ البُرْأَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ البُوْصِيْرِي - كَمَا يَزْعُمُوْنَ - شُفِيَ بِهَا مِنْ عِلَّتِهِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ كَذَلِكَ بِقَصِيْدَةِ الشَّدَائِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا - فِي زَعْمِهِم - تُقْرَأُ لِتَفْرِيْجِ الشَّدَائِدِ وَتَيْسِيْرِ كُلِّ أَمْرٍ عَسِيْرٍ. وَبَعْضُهُم يَكْتُبُهَا بِالزَّعْفَرَانِ عَلَى الوَرَقِ ثُمَّ يَحُلُّ الوَرَقَ فِي المَاءِ وَيَشْرَبُهُ بِنِيَّةِ قَضَاءِ الحَاجَاتِ وَالشِّفَاءِ مِنَ الأَمْرَاضِ. (¬2) قَالَ فِي (مُعْجَمُ المُؤَلِّفِيْنَ) (28/ 10) لِعُمَر كَحَّالَة: (مُحَمَّدُ البُوْصِيْرِي (608 - 694 هـ‍): مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيْدِ بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُحْسِنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الصَنْهَاجِيُّ؛ الدَّلَاصِيُّ؛ البُوْصِيْرِيُّ (شَرَفُ الدِّيْنِ؛ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ) صُوْفِيٌّ؛ مِنْ أَهْلِ الطُّرُقِ؛ نَاظِمٌ. وُلِدَ بِدِلَاص فِي أَوَّلِ شَوَّال، وَنَشَأَ فِي (أَبُو صِيْر)، وَتُوُفِّيَ بِالإِسْكَنْدَرِيَّةِ. مِنْ آثَارِهِ: قَصِيْدَةُ الكَوَاكِبِ الدُّرِّيَّةِ فِي مَدْحِ خَيْرِ البَرِيَّةِ؛ المَعْرُوْفَةُ بِالبُرْدَةِ).

1) (وقدمتك جميع الأنبياء بها ... والرسل تقديم مخدوم على خدم)

1) (وقَدَّمَتْكَ جَمِيْعُ الأَنْبِيَاءِ بِهَا (¬1) ... والرُّسْلِ تَقْدِيْمَ مَخْدُوْمٍ عَلَى خَدَمِ) التَّعْلِيْقُ: هُوَ خَطَأٌ لَا شَكَّ فِيْهِ وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ مَقَامِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ بَعْضُهُم مَعَ بَعْضٍ لَيْسَ فِيْهِم خَادِمٌ وَمَخْدُوْمٌ، وَلَيْسَ تَفْضِيْلُ بَعْضِهِم عَلَى بَعْضٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ المَفْضُوْلُ خَادِمًا لِلفَاضِلِ، بَلْ هُمْ سَوَاءٌ فِي النُّبُوَّةِ. وَفِي الحَدِيْثِ (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُوْلَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى). (¬2) ¬

_ (¬1) وَهِيَ مَنْزِلَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ فِي البَيْتِ السَّابِقِ: (وَبِتَّ تَرْقَى إلَى أنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً ... مِنْ قَابِ قَوْسِيْنِ لَمْ تُدْرَكْ وَلَمْ تُرَمِ). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3395) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا.

2) (وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من … لولاه لم تخرج الدنيا من العدم)

2) (وَكَيْفَ تَدْعُو إلَى الدُّنْيَا ضَرُوْرَةُ مَنْ … لَوْلَاهُ لَمْ تَخْرُجِ الدُّنْيَا مِنَ العَدَمِ) التَّعْلِيْقُ: هُوَ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ سَبَبَ خَلْقِ الجِنِّ وَالإِنْسِ هُوَ لِعِبَادَتِهِ تَعَالَى فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ} (الذَّارِيَات:56). وَبَيَّنَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَ مَا فِي الأَرْضِ لِأَجْلِنَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ} (البَقَرَة:29). وَأَمَّا الحَدِيْثُ المَشْهُوْرَ عَلَى الأَلْسِنَةِ (يَا مُحَمَّدُ، لَوْلَاكَ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا) فَهوَ مَوْضُوْعٌ. (¬1) بَلْ إِنَّهُ يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْعَثُ أَصْلًا إِلَّا مِنْ أَجْلِ العَالَمِيْنَ - رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِهِم -، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ} (الأَنْبِيَاء:107). ¬

_ (¬1) كَمَا فِي تَلْخِيْصِ كِتَابِ المَوضُوْعَاتِ (ص86) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ وَفِيْهِ أَيْضًا (وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: (مَوْضُوْعٌ بِلَا شَكٍّ، وَيَحْيَى البَصْرِيُّ تَالِفٌ كَذَّابٌ، وَالسَّنَدُ فِيْهِ ظُلْمَةٌ)).

3) (فاق النبيين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم)

3) (فَاقَ النَّبِيِّيْنَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ... وَلَمْ يُدَانُوْهُ في عِلْمٍ وَلَا كَرَمِ وَكُلُّهُم مِنْ رَسُوْلِ اللهِ مُلتَمِسٌ ... غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أَوْ رَشفًا مِنَ الدِّيْمِ) (¬1) التَّعْلِيْقُ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ السَّابِقِيْنَ قَدْ نَالُوا وَأَخَذُوْا مِنَ الرَسُوْلَ اللَّاحِقِ. وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا دَلِيْلٍ، وَغُلُوٌّ فَاضِحٌ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأَنْعَام:90). قَالَ الإِمَامُ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (يَقُوْلُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبَالْعَمَلِ الَّذِي عَمِلُوا وَالمِنْهَاجِ الَّذِي سَلَكُوا؛ وَبِالهُدَى الَّذِي هَدَيْنَاهُم؛ وَالتَّوْفِيْقَ الَّذِي وَفَّقْنَاهُم؛ {اقْتَدِهْ} يا محمد، أَيْ: فَاعْمَلْ، وَخُذْ بِهِ وَاسْلُكْهُ؛ فَإِنَّهُ عَمَلٌ للهِ فِيْهِ رِضًا، وَمِنْهَاجٌ مَنْ سَلَكَهُ اهْتَدَى). (¬2) وَأَيْضًا تَأَمَّلْ قَوْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَخِيْهِ مُوْسَى عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَرْحِ قِصَّتِهِ مَعَ الخَضِرِ (يَرْحَمُ اللهُ مُوْسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا). (¬3) ¬

_ (¬1) (الدِّيْمُ): جَمْعُ دِيْمَة: وَهُوَ المَطَرُ لَيْسَ فِيْهِ رَعْدٌ وَلَا بَرْقٌ. لِسَانُ العَرَبِ (219/ 12). (¬2) (229/ 3). (¬3) البُخَارِيُّ (122) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوْعًا.

4) (دع ما ادعته النصارى في نبيهم … واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم)

4) (دَعْ مَا ادَّعَتهُ النَّصَارَى في نَبِيِّهِمُ (¬1) … وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيْهِ وَاحْتَكِمِ وَانْسُبْ إِلَى ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ … وَانْسُبْ إلى قَدْرِهِ ما شِئْتَ منْ عِظَمِ) (¬2) التَّعْلِيْقُ: قَدْ جَرَى المُؤَلِّفُ في هَذَا البَيْتِ - بِزَعْمِهِ - إِلَى الخُلُوْصِ مِنَ الشِّرْكِ، حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ النَّهيَ فِي قَوْلِهِ (لَا تُطْرُوْنِيْ كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ) أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مِثْلِ إِطْرَاءِ النَّصَارَى لِعِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَط، يَعْنِي: لَا تُطْرُوْنِي بِمِثْلِ مَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَم، فَيَكُوْنُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ - فَقَط - أَنْ يُدَّعَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنٌ للهِ تَعَالَى، فَالنَّهْيُ عَنِ الإِطْرَاءِ لَيْسَ عَلَى عُمُوْمِهِ! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الكَافَ هُنَا فِيْ قَوْلِهِ (كَمَا) هِيَ كَافُ التَّشْبِيْهِ (القِيَاسِ)، وَالفَرْقُ بَيْنَ التَّمْثِيْلِ وَالتَّشْبيْهِ: أنَّ التَّمْثِيْلَ يَعْنِي المُطَابَقَةَ، بَيْنَمَا التَّشْبِيْهُ يَعْنِي الاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ - كَالعِلَّةِ فِي الحُكْمِ -، فَيَكُوْنُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ أَصْلُ الإِطْرَاءِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ سِيَاقُ الحَدِيْثِ؛ فَقَد أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُوْلُوا: (عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ)، وَهَذَا هُوَ المَآلُ مِنَ النَّهْيِّ عَنِ الإِطْرَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّهْيُ هُوَ عَنْ ادِّعَاءِ أَنَّهُ ابْنٌ للهِ تَعَالَى فَقَط - وَالَّذِيْ يَنْبَنِي عَلِيْهِ جَوَازُ ادِّعَاءِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا هُوَ مِنْ شِرْكِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ} (النَّحْل:60). (¬3) وَلَا يَخْفَى إِنْ شَاءَ اللهُ أنَّ أَنْوَاعَ الشِّرْكِ كَثِيْرْةٌ وَلَيْسَتْ مَحْصُوْرَةً فَقَط بِشِرْكِ النَّصَارى بِاتِّخَاذِ الوَلَدِ، بَلْ إِنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِيْنَ هُوَ ادِّعَاءُ أَنَّ للهِ تَعَالَى شُفَعَاءَ مِنَ الصَّالِحِيْنَ يَشْفَعُوْنَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَهُم وَبِغَيْرِ رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوعِ فِيْهِم. قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬4): (وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيْحِ الحَدِيْثِ: (لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عَيْسَى بْنَ مَرْيَمَ، وَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ) فَمَعْنَاهُ: لَا تَصِفُوْنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ تَلْتَمِسُوْنَ بِذَلِكَ مَدْحِي، كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيْسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيْهِ، فَنَسَبُوْهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ امْرَأً فَوْقَ حَدِّهِ وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيْهِ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَوْلَى الخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). 2) أنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ) هُوَ مِنْ أَسَالِيْبِ اللُّغَةِ فِي الحَصْرِ، أَيْ: مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ رَسُوْلٌ، وَجَاءَ هَذَا الحَصْرُ بَعْدَ فَاءِ التَّعْلِيْلِ لِبَيَانِ أَنَّ العِلَّةَ فِي عَدَمِ الإطْرَاءِ هُوَ لِكَوْنِهِ فَقَط عَبْدٌ رَسُوْلٌ، فَهُوَ عَبْدٌ لَا يُعبْدُ، وَرَسُوْلٌ لَا يُكَذَّبُ. 33) قَدْ دَلَّتِ النُّصُوْصُ الكَثِيْرَةُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى النَّهْي عَنِ الغُلوِّ مُطْلَقًا وَعَنْ أَشْيَاءَ كَثِيْرْةٍ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ المَدْحِ، وَلَكِنْ نُهِيَ عَنْهَا خَوْفًا مِمَّا تَكُوْنُ ذَرِيْعَةً إِلَيْهِ. وَانْظُرِ الأَحَادِيْثَ الآتِيَةَ عَلَى سَبِيْلِ المِثَالِ: أ) عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَيَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُوْلُوا بِقَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَرَسُوْلُ اللهِ. وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَا رَفَعَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). (¬5) ب) عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيْرِ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِى وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: (السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى). قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا. فَقَالَ: (قُوْلُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ؛ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ). (¬6) (¬7) ج) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا خَيْرَ البَرِيَّةِ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَاكَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬8) وَأَخِيْرًا فَلْيُعْلَمْ أنَّ تَعْظِيْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ المَشْرُوْعِ نَوْعَان: الأَوَّلُ: كُفْرٌ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاللهِ تَعَالَى؛ كَدُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالاسْتِغَاثَةِ بِهِ فِي الشَّدَائِدِ؛ وَاِعْطَائِهِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى المُتَفَرِّدِ بِهَا. الثَّانِيْ: مَعْصِيَةٌ وَذَرِيْعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ؛ كَالكَذِبِ عَلَيْهِ فِي صِفَاتِهِ، وَاخْتِرَاعِ الآيَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ غَيْرِ المَرْويَّةِ بِالأَسَانِيْدِ الصَّحِيْحَةِ، وَهَذَا الوَجْهُ هُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ البُوْصِيْرِي (وَانْسُبْ إِلَى ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ) يَعْنِي مَا شِئْتَ أَنْتَ وَلَيْسَ مَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الحَقِيْقَةِ وَالوَاقِعِ، وَسَبَقَ كَلَامُ القُرْطُبِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا؛ وَأَنَّ صَاحِبَهُ مُعْتَدٍ آثِمٌ. ¬

_ (¬1) وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُم هَذَا الشَّطْرَ قَرِيْنَةً لِصَرْفِ أَيِّ بَيْتٍ دَلَّ عَلَى الشِّرْكِ فِي بَاقِي أَبْيَاتِ البُرْدَةِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ المَدْلُوْلِ!! (¬2) وَقَدْ سَبَقَتْ نَفْسُ المَسْأَلَةِ فِي بَابِ (مَا جَاءَ أَنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وَتَرْكِهِمْ دِيْنَهُمْ هُوَ الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِيْنَ) وَالإِعَادَةُ هُنَا لِلمُنَاسَبَةِ. (¬3) وَتَقْدِيْمُ الجَارِّ وَالمَجْرُوْرِ فِي قَوْلِهِ {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} يُفِيْدُ الحَصَرَ. (¬4) تَفْسِيْرُ القُرْطُبِيِّ (247/ 5). (¬5) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (13529)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10007). غَايَةُ المَرَامِ (127). (¬6) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (4806). (¬7) أَيْ: لَا يَتَّخِذَنَّكُم الشَّيْطَانُ جَرِيًّا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الأثير رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وَالأَثَرِ) (739/ 1): (يُرِيْدُ: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُم مِنَ القَوْلِ، وَلَا تَتَكَلَّفُوْهُ كَأَنَّكُم وُكَلَاءُ الشَّيْطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطقُوْنَ عَنْ لِسَانِهِ). (¬8) مُسْلِمٌ (2369).

5) (لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم)

5) (لَوْ نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَمًا ... أَحْيَا اسْمُهُ حِيْنَ يُدْعَى دَارِسَ الرِّمَمِ) التَّعْلِيْقُ: يَعْنِي أَنَّ آيَاتِهِ (مُعْجِزَاتِهِ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَقْلُ مِنْ قَدْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ تُنَاسِبُهُ لَكَانَ اسْمُهُ - إِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي- يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيْمٌ، وَهَذَا غُلُوٌّ قَبِيْحٌ، وَشِرْكٌ بِاللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنْ آيَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنُ العَظِيْمُ، وكَيْفَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُوْلُ: إِنَّ القُرْآنَ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1)!! فَهُنَا قَدْ جَمَعَ المُؤَلِّفُ بَيْنَ عَظِيْمَتَيْنِ - وَلَا أَدْرِيْ أَيَّتُهُمَا أَعْظَمُ -: الأُوْلَى) أَنَّ آيَاتِهِ لَمْ تُنَاسِبْ قَدْرَهُ - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَعْظَمَ آيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ - فَهَذَا كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى شَنِيْعٌ، فَالقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ - يُحْلَفُ بِهِ - لَا يُقَارَنُ بشَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فكَيْفَ إِذَا جُعِلَ أَدْنَى مِنْ مَقَامِ مَخْلُوْقٍ! بَلْ قَدْ جَعَلَ النَّاظِمُ أَيْضًا إِحْيَاءَ المَوْتَى أَعْظَمَ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيْمِ. (¬2) الثَّانِيَةُ) أَنَّ المُنَاسَبَةَ بَيْنَ قَدْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَآيَاتِهِ - لَوْ تَمَّتْ - لَكَانَ دُعَاءُهُ يُحْيي المَيِّتَ، وَهَذَا كَذِبٌ وَشِرْكٌ بِالله تَعَالَى، فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ آيَاتِهِ لَمْ تُنَاسِبْ قَدْرَهُ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ دُعَائَهُ لَوْ نَاسَبَ قَدْرَهُ؛ فَإِنَّهُ يُحْيي المَيِّتَ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ الَّذِيْ يُحْيي المَوْتَى، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُوْلُوْنَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُوْنَ} (يُوْنُس:31). ¬

_ (¬1) وَلَكِنَّهُ - لِلأَسَفِ - مُسْتَقِيْمٌ عَلَى مَذْهَبِ الأَشَاعِرَةِ، حَيْثُ جَعَلُوا القُرْآنَ الكَرِيْمَ - الَّذِيْ نَتْلُوْهُ فِي صَلَاتِنَا - لَيْسَ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيْقَةً، لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى عِنْدَهُم هُوَ كَلَامُهُ القَائِمُ بِنَفْسِهِ - الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ -؛ بِخِلَافِ المَتْلُوِّ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَرَجَ في ذَلِكَ البَيْتِ قَطُّ! قُلْتُ: وَانْظُرْ كَلَامَ البَاجُوْرِيِّ في شَرْحِ ذَلِكَ البَيْتِ مِنَ البُرْدَةِ حَيْثُ قَالَ فِي ذَلِكَ: (لِأَنَّ الوَاقِعَ أَنَّ قَدْرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِهِ - حَتَّى مِنَ القُرْآنِ المَتْلُوِّ - بِخِلَافِ القُرْآنِ غَيْرِ المَتْلُوِّ، وَهُوَ المَعْنَى القَائِمِ بِذَاتِهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ، لِأَنَّ القَدِيْمَ أَفْضَلُ مِنَ الحَادِثِ، وَمَا شَاعَ عَلَى الأَلْسِنَةِ مِنْ أنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنَ القُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ! فَكَلَامٌ بَاطِلٌ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى القُرْآنِ القَدِيْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ؛ خِلَافًا لِمَنْ زعَمَ ذَلِكَ). (شَرْحُ البَاجُوْرِيِّ عَلَى البُرْدَةِ - طَبْعَةُ دَارِ مَكْتَبَةِ الآدَابِ ص51). قُلْتُ: وَقَصْدُهُ بِـ (القُرْآنِ القَدِيْمِ) أَي كَلَامُ اللهِ النَّفْسِيُّ؛ خِلَافًا لِمَا بَيْنَ أَيْدِيْنَا فِي المُصْحَفِ المَتْلُوِّ. قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صَيْدُ الخَاطِرِ) (ص284): (وَكَذَلِكَ عَظَّمَ أَمْرَ القُرْآنِ وَنَهَى المُحْدِثَ أَنْ يَمَسَّ المُصْحَفَ؛ فَآلَ الأَمْرُ لِقَوْمٍ مِنَ المُتَكَلِّمِيْنَ إِلَى أَنْ أَجَازُوا الإِسْتِنْجَاءَ بِهِ). (¬2) وَقَدْ أَشَارَتِ السُّنَّةُ إِلَى أَنَّ آيَةَ إِنْزَالِ القُرْآنِ الكَرِيْمِ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ إِحْيَاءِ المَوْتَى، حَيْثُ أَنَّ الَّذِيْ أُوْتِيَهُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ آيَةِ سَيِّدِنَا عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ المَرْفُوْعِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلَهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِيْ أُوْتِيْتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُوْنَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ). البُخَارِيُّ (4981)، وَمُسْلِمٌ (152).

6) (لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم)

6) (لَا طِيْبَ يَعْدِلُ تُرْبًا ضَمَّ أَعْظُمَهُ ... طُوْبَى لِمُنْتَشِقٍ مِنْهُ وَمُلْتَثِمِ) التَّعْلِيْقُ: هَذَا البَيْتُ جَمَعَ أَنْوَاعًا مِنَ المُخَالَفَاتِ، مِنْهَا: أ) دَعْوَى أَنَّهُ لَا طِيْبَ يَعْدِلُ تُرْبَةَ قَبْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّوَابُ هُوَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَحَبُّ البِلَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَسَاجِدُهَا) (¬1)، وَأَحَبُّ هَذِهِ المَسَاجِدِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَسْجِدُ الحَرَامُ. ب) دَعْوَى نَيْلِ الجَنَّةِ - فِي قَوْلِهِ (طُوْبَى) - لِمَنْ قَبَّلَ تِلْكَ التُّرْبَةَ وَانْتَشَقَ مِنْ رِيْحِهَا! هَذَا كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ سَبَبًا لِدُخُوْلِ الجَنَّةِ، وَلَا نَقُوْلُ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى المَحَبَّةِ؛ فيَكُوْنَ سَبَبًا لِدُخُوْلِ الجَنَّةِ! لِأَنَّ المَحَبَّةَ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي دُوْنَ العَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى مَنْهَجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَدُوْنَ الإِخْلَاصِ فِي العِبَادَاتِ للهِ تَعَالَى. ج) دَعْوَى جَوَازِ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ الشَّرِيْفِ!! هَذَا الشَّكْلُ مِنَ التَّبَرُّكِ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، عَدَا عَنْ مَا فِيْهِ مِنَ الشِّرْكِ. قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) - عِنْدَ حَدِيْثِ (فَزُوْرُوا القُبُوْرَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ) -: (أَيْ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ تَمَسُّحٌ بِالقَبْرِ أَوْ تَقْبِيْلٌ أَوْ سُجُوْدٌ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ السُّبكْيُّ: بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ إِنَّمَا يَفْعَلُهَا الجُهَّالُ). (¬2) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ مُسْلِم (671) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬2) فَيْضُ القَدِيْرِ) (55/ 5).

7) (فإن لي ذمة منه بتسميتي … محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم)

7) (فَإِنَّ لِي ذِمَّةً مِنْهُ بتَسْمِيَتِي … مُحمَّدًا وَهُوَ أَوْفَى الخَلْقِ بِالذِّمَمِ) التَّعْلِيْقُ: هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ من اسْمِهُ مُحَمَّدٌ ذِمَّةٌ إِلَّا بِالطَّاعَةِ؛ لَا بِمُجَرَّدِ الاشْتِرَاكِ فِي الاسْم. وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَبِيْعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ؛ قَالَ: (كُنْتُ أَبِيْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوْئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: (سَلْ). فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ. قَالَ: (أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ). قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُوْدِ). (¬1) وَلَعَلَّ مَا اشْتُهِرَ مِنَ الأَحَادِيْثِ البَاطِلَةِ هُوَ سَبَبُ قَوْلِهِ ذَاكَ، كَمِثْل حَدِيْثِ (مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُوْدٌ؛ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا - تَبَرُّكًا بِهِ - كَانَ هُوَ وَمَوْلُوْدُهُ فِي الجَنَّةِ) وَهُوَ مَوْضُوْعٌ. (¬2) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (489). (¬2) اُنْظُرِ (المَوْضُوْعَاتُ) (157/ 1) لِابْنِ الجَوْزِيِّ. وَاُنْظُرِ الضَّعِيْفَةَ (171).

8) (ما سامني الدهر ضيما واستجرت به ... إلا ونلت جوارا منه لم يضم)

8) (مَا سَامَنِي الدَّهْرُ ضَيْمًا وَاسْتَجَرْتُ بِهِ ... إِلَّا وَنِلْتُ جِوَارًا مِنْهُ لَمْ يُضَمِ) التَّعْلِيْقُ: هَذَا البَيْتُ فِيْهِ اسْتِغَاثَةٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلأَمْوَاتِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِيْنَ} (الأَحْقَاف:6). وَفِي البَيْتِ أَيْضًا نِسْبَةُ الأَفْعَالِ (الضَّيْمِ) إِلَى الدَّهْرِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ سُلُوْكِ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا مِنْ سُلُوْكِ أَهْلِ الإِلْحَادِ الدَّهْرِيِّيْنَ، قَالَ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِيْنَ: {وَقَالوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوْتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّوْنَ} (الجَاثِيَة:24). (¬1) ¬

_ (¬1) قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ رَحِمَهُ اللهُ (ص425): (وَلَيسَ مِنْهُ وَصْفُ السِّنِيْنَ بالشِّدَّةِ وَنَحوِ ذَلكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} (يُوْسُف:48))، وَقَدْ سَبَقَ الكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ (مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَقَدْ آذَى اللهَ).

9) (أقسمت بالقمر المنشق: إن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم)

9) (أَقْسَمْتُ بِالقَمَرِ المُنْشَقِّ: إِنَّ لَهُ ... مِنْ قَلْبِهِ نِسْبَةً مَبْرُورَةَ القَسَمِ) التَّعْلِيْقُ: القَسَمُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ، أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوْعِيَّتِهِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ). (¬1) قَالَ ابْنُ عَبْدُ البَّرِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ): (أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اليَمِيْنَ بِغَيْرِ اللهِ مَكْرُوْهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، لَا يَجُوْزُ الحَلِفَ بِهَا لِأَحَدٍ). (¬2) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1535) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (2952). (¬2) التَّمْهِيْدُ (367/ 14).

10) (يا أكرم الرسل (الخلق) ما لي من ألوذ به … سواك عند حلول الحادث العمم)

10) (يَا أَكْرَمَ الرُّسُلِ (¬1) مَا لِي مَن أَلُوْذُ بِهِ … سِوَاكَ عِنْدَ حُلُوْلِ الحَادِثِ العَمِمِ) التَّعْلِيْقُ: فِي هَذَا البَيْتِ دُعَاءٌ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا شِرْكٌ بِاللهِ - وَإِنْ قُصِدَتْ بِهِ الشَّفَاعَةُ - لِأَنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ شِرْكٌ بِدَلِيْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُوْنَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (يُوْنُس:18)، فَسَمَّى اللهُ تَعَالَى اتِّخَاذَ الشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ شِرْكًا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِلشَّفَاعَةِ شُرُوْطًا مِنْهَا رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ} (الأَنْبِيَاء: 28)، فَيَكُوْنَ مِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ طَلَبُ الرِّضَى مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ مِنْ أَسْبَابِ حُصُوْلِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ أَنْ تُطْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، بَلْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِيْنَ الأَوَائِلَ كَانَ فِي طَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُوْنَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (يُوْنُس: 18)، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ. (¬2) أَمَّا إِنْ كَانَ المَقْصُوْدُ بِذَلِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ مَوْقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ بِقُيُوْدٍ؛ مِنْهَا: أ) تَصْحِيْحُ ذَلِكَ البَيْتِ لِيَكُوْنَ المَقْصُوْدُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَفِي الحَدِيْثِ (إِيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعْتَذرُ مِنْهُ). (¬3) ب) نَفْيُ الحَصْرِ فِي قَوْلِهِ (مَا لِي مَنْ أَلُوْذُ بِهِ سِوَاكَ) فَيُجْعَلُ فِيْهِ التَّرْتِيْبُ بِـ (اللهِ تَعَالَى) ثُمَّ (أَنْتَ). ج) مَعْرِفَةُ أَنَّ شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا أَسْبَابٌ - لَا تَنَالُ مَنْ يَدْعُوْ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى -. د) أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَهَا شَرْطَان هُمَا: رِضَى اللهِ تَعَالَى عَنِ المَشْفُوْعِ، وَإِذْنُهُ لِلشَّافِعِ فِي أَنْ يَشْفَعَ. (¬4) هـ) أَنَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ القُيُوْدِ يَصِحُّ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ سُؤَالِ الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَدْعُو النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اليَوْمَ. (¬5) ¬

_ (¬1) وَبَعْضُهُم يَرْوِي البَيْتَ بِلَفْظِ (الخَلْقِ) عِوَضًا عَنِ (الرُّسُلِ). (¬2) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ) ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِيْنَ يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُوْنَ جَهَنَّمَ دَاخِرِيْنَ} (غَافِر:60). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (18352) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3407). (¬3) صَحِيْحٌ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (188/ 6) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (354). (¬4) فَشُرُوْطُ الشَّفَاعَةِ: أ) إِذْنُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّافِعِ بِأَنْ يَشْفَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البَقَرَة:255). ب) رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُوْنَ، لَا يَسْبِقُوْنَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُوْنَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:28)، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَ العَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ؛ مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ. وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مَجْمُوْعَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النَّجْم:26). (¬5) فَسُؤَالُ النَّاسِ لِلأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي مَوْقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى صَحِيْحٌ لِأَنَّهُم أَحْيَاءُ حِيْنَهَا وَقَادِرُوْنَ عَلَى الإِجَابَةِ. أَمَّا الآنَ - فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا - فَهُم أَمْوَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُوْنَ} (الزُّمَر:30). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (459/ 5) - فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى حَدِيْثِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى: (وَلَيْسَ فِيْهِ جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بِالأَمْوَاتِ - كَمَا يَتَوَهَّمُ كَثِيْرٌ مِنَ المُبْتَدِعَةِ الأَمْوَاتِ! - بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِالحَيِّ فِيْمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ). وَفِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (202/ 1) ذَكَرَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ أَنْوَاعَ التَّوَسُّلِ، وَذَكَرَ فِي النَّوْعِ الثَّانِيْ مَا نَصُّهُ: (التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُوْنُ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ يَتَوَسَّلُوْنَ بِشَفَاعَتِهِ). وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ القِيَامَةِ, فَقَالَ: (أَنَا فَاعِلٌ) , قَالَ: قُلْتْ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: (اُطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ) , قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيْزَانِ) , قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْد المِيْزَانِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ, فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنِ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2433). الصَّحِيْحَةُ (2630).

11) (ولن يضيق - رسول الله - جاهك بي ... إذا الكريم تحلى باسم منتقم)

11) (وَلَنْ يَضِيقَ - رَسُوْلَ اللهِ - جَاهُكَ بِي ... إِذَا الكَرِيْمُ تَحلَّى بِاسمِ مُنتَقِمِ) التَّعْلِيْقُ: فِي هَذَا البَيْتِ غُلُوٌّ فِيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَيْضًا تَنَقُّصٌ لِرُبُوْبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَالرَّدُّ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ جَوَانِبَ عِدَّةٍ: أ) أَنَّ اللهُ تَعَالَى قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَهُوَ أَيْضًا مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوْءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيْرٌ وَبَشِيْرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ} (الأَعْرَاف:188). وَأَيْضًا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنَتِهِ فَاطْمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (سَلِيْنِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (¬1) بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ لِغَيْرِهِ - وَهِيَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ - فكَيْفَ بِغَيْرِهَا؟ ب) أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانْفِطَار:19)، وَتَأَمَّلْ كَوْنَ النَّفْسِ فِي الآيَةِ نَكِرَةً فِي المَوْضِعِيْنِ؛ الأَمْرُ الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَيًّا كَانَ الشَّافِعُ؛ وَأَيًّا كَانَ المَشْفُوْعُ؛ فَلَا يَمْلِكُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. جـ) زَعْمُ النَّاظِمِ أَنَّ جَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفَعُ (إِذَا الكَرِيْمُ تَحلَّى بِاسمِ مُنتَقِمِ) مَرْدُوْدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا تَحَلَّى - كَمَا زَعَمَ النَّاظِمُ - بِاسْمِ مُنْتَقِمٍ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَقُوْمُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ؛ إِلَّا مَا أَذِنَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ مَقْبُوْلٍ (¬2)؛ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُوْلَةٍ مَأْذُوْنٍ فِيْهَا (¬3)، وَأَمَّا عَلَى سَبِيْلِ هَذَا الإِطْلَاقِ وَبِمَعْنَى المُقَابَلَةِ؛ فَلَيْسَ بِصَحِيْحٍ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} (الزُّمَر:19). ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206). (¬2) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ). صَحِيْحٌ. البَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (3168) عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (1908). (¬3) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (طَه:109).

12) (فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم)

12) (فَإِنَّ مِنْ جُوْدِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتها ... وَمِنْ عُلُوْمِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ) التَّعْلِيْقُ: هَذَا البَيْتُ فِيْهِ غُلُوٌّ شَدِيْدٌ - لَا سِيَّمَا مَعَ (مِنْ) التَّبْعِيْضِيَّةِ هَذِهِ!! -، بَلْ كُفْرٌ بِالرُّبُوْبِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ رِزْقَ العِبَادِ فِي أَيْدِي النَّاسِ اسْتِقْلَالًا، وَلَمْ يَجْعَلْ طَلَبَ الرِّزْقِ إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى حَصْرًا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِيْنَ تَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَمْلِكُوْنَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوْهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:17). ب) أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ مِلْكٌ لَهُ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُوْلَى} (اللَّيْل:13)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {قُلْ لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُوْلُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأَنْعَام:50) (¬1)، فَظَهَرَ بِذَلِكَ كَذِبُ قَوْلِهِ (فَإِنَّ مِنْ جُوْدِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا). ج) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ مِنْ عِنْدَ نَفْسِهِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَا أُعْطِيْكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ؛ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ؛ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ) (¬2)، فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِهِ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الأَسْبَابِ أَيْضًا. د) مَنْ زَعَمَ أَنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ خُلِقَتَا لِأَجْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَهُوَ يَجُوْدُ بِهَا عَلَى مَنْ أَرَادَ! فَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا، وَفِيْهِ حَدِيْثٌ مَوْضُوْعٌ (¬3)، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَعْلَمَنَا بِالحِكْمَةِ مِنْ خَلْقِهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ} (البَقَرَة:29)، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَهُوَ الَّذِيْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (هُوْد:7). هـ) وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ مِنْ عِلْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِلْمُ اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ عَنْ نَبِيِّهِ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ} (الأَعْرَاف:188). تَمَّ إِلَى هُنَا التَّعْلِيْقُ عَلَى نُبْذَةٍ مِنْ أَبْيَاتِ البُوْصِيْرِي؛ بِمَا يُحَقِّقُ المَطْلُوْبَ، وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. ¬

_ (¬1) قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (145/ 3): ({لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ} أَيْ: خَزَائِنُ رِزْقِهِ فَأُعْطِيْكُم مَا تُرِيْدُوْنَ، {وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ} فَأُخْبِرُكُم بِمَا غَابَ مِمَّا مَضَى وَمِمَّا سَيَكُوْنُ، {وَلَا أَقُوْلُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ المَلَكَ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الآدَمِيُّ وَيُشَاهِدُ مَا لَا يُشَاهِدُهُ الآدَمِيُّ). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3117) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) وَالحَدِيْثُ المَشْهُوْرُ لَفْظًا (يَا مُحَمَّدُ، لَوْلَاكَ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا) فَهوَ مَوْضُوْعٌ. كَمَا فِي تَلْخِيْصِ كِتَابِ المَوضُوْعَاتِ (ص86) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ وَفِيْهِ أَيْضًا (وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: (مَوْضُوْعٌ بِلَا شَكٍّ، وَيَحْيَى البَصْرِيُّ تَالِفٌ كَذَّابٌ، وَالسَّنَدُ فِيْهِ ظُلْمَةٌ)).

الملحق الثالث عشر) رد شبهات المشركين

المُلْحَقُ الثَّالِثَ عَشَرَ) ردُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِيْنَ مُقَدِّمَةٌ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُوْلِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذِهِ أَجْوِبَةٌ قَدَّرُ اللهُ سُبْحَانَهُ لِي أَنْ أَجْمَعَهَا فِي بَيَانِ الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الشُّبُهَاتِ فِي مَسَائِلِ عِلْمِ التَّوْحِيْدِ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُوْرَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ؛ تَتْمِيْمًا لِفَوَائِدِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءُ اللهُ تَعَالَى. (¬1) ¬

_ (¬1) أُصُوْلُ مَادَّةِ هَذَا الرَّدِّ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ رِسَالَةِ (تَأْسِيْسُ التَّقْدِيْسِ فِي كَشْفِ تَلْبِيْسِ دَاوُدَ بْنِ جَرْجِيْس) لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ أَبَا بطين تِلْمِيْذِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَّهَّابِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى. وَفِيْ هَذَا المُلْحَقِ اشْتِرَاكٌ فِي بَعْضِ جَوَانِبِ الرَّدِّ مَعَ مُلْحَقِ (مُخْتَصَرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ لِلبُوْصِيْرِيِّ) السَّابِقِ، وَلَكِنَّهُ أَوْسَعُ مِنْ جِهَةِ الشُّبُهَاتِ وَمِنْ جِهَةِ الجَوَابِ. وَالحَمْدُ للهِ.

الشبهة الأولى) أن قول صاحب البردة (ومن علومك علم اللوح والقلم) ليس فيه محظور لأن اللوح غير أم الكتاب

- الشُّبْهَةُ الأُوْلَى) أَنَّ قَوْلُ صَاحِبِ البُرْدَةِ (وَمِنْ عُلُوْمِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ) لَيْسَ فِيْهِ مَحْظُوْرٌ لِأَنَّ اللَّوْحَ غَيْرُ أُمِّ الكِتَابِ - وَهَذَا الأَخِيْرُ هُوَ الَّذِيْ فِيْهِ الخَمْسُ الَّتِيْ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ - الَّتِيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتُ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ} (لُقْمَان:34)!! وَالجَوَابُ: إِنَّ هَذِهِ فِرْيَةٌ لَا دَلِيْلَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ اللَّوْحَ المَحْفُوْظَ هُوَ نَفْسُهُ أُمُّ الكِتَابِ. قَالَ البَيْضَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ: ({وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} أَصْلُ الكُتُبِ وَهُوَ اللَّوْحُ المَحْفُوْظُ؛ إِذْ مَا مِنْ كَائِنٍ إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوْبٌ فِيْهِ). (¬1) وَقَالَ النَّسَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ: ({وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} أَصْلُ كُلِّ كِتَابٍ، وَهُوَ اللَّوْحُ المَحْفُوْظُ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مَكْتُوْبٌ فِيْهِ). (¬2) ¬

_ (¬1) تَفْسِيْرُ البَيْضَاوِيِّ (190/ 3). وَقَالَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ({وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ} فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ). تَفْسِيْرُ البَيْضَاوِيِّ (86/ 5). (¬2) تَفْسِيْرُ النَّسَفِيِّ (158/ 2).

الشبهة الثانية) قول صاحب البردة في همزيته عن النبي صلى الله عليه وسلم (وليس يخفى عليك في القلب داء) ليس فيه محظور لأن الله تعالى أعطى لنبيه صلى الله عل

- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُ صَاحِبِ البُرْدَةِ فِي هَمْزِيَّتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكَ فِي القَلْبِ دَاءٌ) لَيْسَ فِيْهِ مَحْظُوْرٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمَ مَعْرِفَةِ القُلُوْبِ!! وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَكَذِبٌ عَلَى رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طَهَ:7)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوْهُ} (البَقَرَة:235)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُوْنَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (التَّوْبَة:101) (¬1)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ: {وَآخَرِيْنَ مِنْ دُوْنِهِمْ لَا تَعْلَمُوْنَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأَنْفَال:60)، وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُوْنَ إِلَيَّ؛ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيْهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ؛ فَلَا يَأْخُذْهَا) (¬2)، وَفِي الحَدِيْثِ (أَلَا إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ؛ فَأَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) (¬3)، وَكَمَا فِي حَدِيْثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي رَدِّهَا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ حَيْثُ قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُوْلُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬4) 2) أَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمُوْرِ المُغَيَّبَاتِ؛ فَهُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِ - وَلَيْسَ اسْتِقْلَالًا (¬5) - لِذَلِكَ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الإِظْهَارَ مِنْهُ إِلَيْهِ وَنَفَى عَنْهُ العِلْمَ. قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجِنّ:26) (¬6)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ فِي النَّفْي: {قُلْ لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعِلْمُ الغَيْبِ} (الأَنْعَام:50). ¬

_ (¬1) قَالَ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيْرِ (ص350): ((مَرَدُوا) أَيْ: تَمَرَّنُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَمَرُّوا وَازْدَادُوا فِيْهِ طُغْيَانًا). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2680) عَنْ أمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوْعًا. قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوْقِ المُصْطَفَى) (ص875): (وَيُجْرِي أَحْكَامُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الظَّاهِرِ وَمُوْجِبِ غَلَبَاتِ الظَّنِّ؛ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَيَمِيْنِ الحَالِفِ وَمُرَاعَاةِ الأَشْبَهِ، وَمَعْرِفَةِ العِفَاصِ (الوِعَاءُ) وَالوِكَاءِ (مَا يُرْبَطُ بِهِ) مَعَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللهِ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ تَعَالَى- لَوْ شَاءَ- لَأَطْلَعَهُ عَلَى سَرَائِرِ عِبَادِهِ وَمُخَبَّئَاتِ ضَمَائِرِ أُمَّتِهِ؛ فَتَوَلَّى الحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ يَقِيْنِهِ وَعِلْمِهِ دُوْنَ حَاجَةٍ إِلَى اعْتِرَافٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ يَمِيْنٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللهُ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَسِيَرِهِ، وَكَانَ هَذَا - لَوْ كَانَ - مِمَّا يُخَصُّ بِعِلْمِهِ وَيُؤْثِرُهُ اللهُ بِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَّةِ سَبِيْلٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا قَامَتْ حُجَّةٌ بِقَضِيَّةٍ مِنْ قَضَايَاهُ لِأَحَدٍ فِي شَرِيْعَتِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا أُطْلِعَ عَلَيْهِ هُوَ فِي تِلْكَ القَضِيَّةِ بِحُكْمِهِ هُوَ إِذْنٌ فِي ذَلِكَ بِالمَكْنُوْنِ مِنْ إِعْلَامِ اللهِ لَهُ بِمَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ سَرَائِرِهِمْ، وَهَذَا مَا لَا تَعْلَمُهُ الأُمَّةُ، فَأَجْرَى اللهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ عَلَى ظَوَاهِرِهِمُ الَّتِيْ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ البَشَرِ لِيَتِمَّ اقْتِدَاءُ أُمَّتِهِ بِهِ فِي تَعْيِيْنِ قَضَايَاهُ وَتَنْزِيْلِ أَحْكَامِهِ). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4740) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. (¬4) البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177). (¬5) قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُوْلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} (الرَّعْد:38). (¬6) قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (البَحْرُ المُحِيْطُ) (132/ 3): (فَاطِّلَاعُ الرَّسُوْلِ عَلَى الغَيْبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيْهِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ فِي الغَيْبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الوَحِي، لَا مِنْ جِهَةِ اطِّلَاعِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى المُغَيَّبَاتِ).

الشبهة الثالثة) أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، والملائكة أيضا، فعلم الغيب ليس محصورا بالله تعالى وحده

- الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ الغَيْبَ! وَالمَلَائِكَةُ أَيْضًا! فَعِلْمُ الغَيْبِ لَيْسَ مَحْصُوْرًا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ! حَتَّى الخَمْسُ المَذْكُوْرَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتُ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ} (لُقْمَان:34)؟! وَهَاكَ أَمْثِلَةً مِنَ النُّصُوْصِ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ} (الجِّنّ:27)، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ أَيْضًا {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آلِ عِمْرَان:179)، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَصَارِعِ القَتْلَى يَوْمَ بَدْرٍ؛ وَكُلٌّ مِنْهُم صُرِعَ فِي ذَلِكَ المَكَانِ، فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الأَنْفُسَ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتُ وَهِيَ مِنَ الخَمْسِ! وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى عَنِ المَسِيْحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِي بُيُوْتِكُمْ} (آلِ عِمْرَان:49) وَهِيَ أَيْضًا مِنَ الخَمْسِ! وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِلمَلَكِ الَّذِيْ يَكْتُبُ عَلَى النُّطْفَةِ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا وَعَمَلَهَا وَشَقِيٌّ صَاحِبُهَا أَمْ سَعِيْدٌ؛ فَهُوَ عَلِمَ الغَيْبِ، وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الخَمْسِ! وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيْثِ اخْتِصَامِ المَلَأِ الأَعْلَى (فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (¬1) فَيَشْمَلُ عِلْمَ السَّاعَةِ وَغَيْرِهَا! وَحَدِيْثُ حُذَيْفَةَ؛ وَفِيْهِ (قَامَ فِيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُوْنُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ) (¬2)، وَحَدِيْثُ أَبِي ذَرٍّ؛ وَفِيْهِ (تَرَكَنَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الهَوَاءِ - إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا). (¬3) ¬

_ (¬1) حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (3234) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ (3234). وَتَمَامُهُ (أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُوْرَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيْمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: رَبِّ لَا أَدْرِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيْمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ وَالكَفَّارَاتِ، وَفِي نَقْلِ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغِ الوُضُوْءِ فِي المَكْرُوْهَاتِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمَنْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوْبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ). وَبِنَحْوِهِ أَيْضًا فِي التِّرْمِذِيِّ (3235) مِنْ حَدِيْثِ مُعَاذٍ، قَالَ عَنْهُ أَبُو عِيْسَى التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ. سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ (البُخَارِيَّ) عَنْ هَذَا الحَدِيْثِ، فَقَالَ: (هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ)). (¬2) البُخَارِيُّ (6604)، وَمُسْلِمٌ (2891) عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوْعًا، وَهُوَ بِتَمَامِهِ في مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (قَامَ فِيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُوْنُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ - حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ - قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُوْنُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيْتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ). (¬3) صَحِيْحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي المُعْجَمِ الكَبِيْرِ (155/ 2)، الصَّحِيْحَةُ (1803).

وَالجَوَابُ: 1) لَيْسَ في ذَلِكَ حُجَّةٌ لِذَلِكَ بَلْ فِيْهِ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَمَعْنَى الآيَتَيْنِ عِنْدَ جَمِيْعِ المُفَسِّرِيْنَ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُطْلِعُ رُسُلَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الغَيْبِ آيَةً لَهُم وَمُعْجِزَةً، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَحَتَّى مَا ذُكِرَ عَنْ عِيْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَشْمَلُ أَيْضًا المَلَائِكَةَ فَهُم رُسُلُ اللهِ تَعَالَى أَيْضًا. (¬1) (¬2) 2) كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُطْلِعَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ؛ لَا يَعْنِي أَنَّهُ يَعْلَمُهُ كُلَّهُ بِنَفْسِهِ عِلْمًا ذَاتِيًا - كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُم -، وَقَدْ سَبَقَ فِي رَدِّ الشُّبُهَاتِ السَّابِقَةِ بَيَانُ أَمْثِلَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَحَدِيْثِ (إِنَّكُم تَخْتَصِمُوْنَ إِلَيَّ)، وَحَدِيْثِ (مَتَى السَّاعَةُ) (¬3)، وَكَحَدِيْثِ (إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوْا بَعْدَكَ) , وَ .... 3) هَذِهِ الأَشْيَاءُ الَّتِيْ أُطْلِعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مِنْ بَابِ إِظْهَارِ الآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى تَأْيِيْدِ رَبِّهِ لَهُ، وَلَا يَمْلِكُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا اسْتِقْلَالًا (¬4)؛ بَلْ هِيَ مَقْرُوْنَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي إِطْلَاعِهِ عَلَيْهَا مَتَى شَاءَ وَأَيْنَمَا شَاءَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُوْلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} (الرَّعْد:38). (¬5) ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيْرِ (247/ 8): (وَقَوْلُهُ {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ} هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُحِيْطُوْنَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} (البَقَرَةِ:255) وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: إِنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ، وَإِنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا مِمَّا أَطْلَعَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ} وَهَذَا يَعُمُّ الرَّسُوْلَ المَلَكِيَّ وَالبَشَرِيَّ). (¬2) قُلْتُ: وَأَمَّا عِلْمُ المَلَكِ وَكِتَابَتُهُ فِي الرَّحِمِ عَنِ النُّطْفَةِ فِي رِزْقِهَا وَأَجَلِهَا وَعَمَلِهَا وَالشِّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ فَهُوَ مِنْ تَعْلِيْمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ. وَأَمَّا عِلْمُهُ بِكَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَلِمَ مَا فِي الأَرْحَامِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى خَصَّ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ خَمْسَةٍ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ وَمِنْهَا {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (لُقْمَان:34)؛ فَهُوَ - كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ المُحَقِّقِيْنَ - أَنَّهُ بَعْدَ الاثْنَتَيْنِ وَالأَرْبَعِيْنَ - وُفْقًا لِحَدِيْثٍ فِي كِتَابَةِ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيْدٍ مَرْفُوْعًا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ - فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عِلْمُ نَوْعِ الجَنِيْنِ مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى عَنِ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بِهِ؛ وَعَلَيْهِ فَلَا يَكُوْنُ غَيْبًا مُطْلَقًا. وَمِثْلُهُ مَعْرِفَةُ الأَطِبَّاءِ - غَالِبًا - بِمَا فِي الرَّحِمِ بَعْدَ أَشْهُرٍ مِنْ تَكْوِيْنِهِ؛ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللهَ مَكَّنَهُم مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَحْضَ عِلْمٍ بِالغَيْبِ مِنْهُم. وَقَدْ نَقَلَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (216/ 1) عَنِ القُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (أَنَّ هَذِهِ الخَمْسَ لَا سَبِيْلَ لِمَخْلُوْقٍ عَلَى عِلْمٍ بِهَا قَاطِعٍ، وَأَمَّا الظَّنُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِأَمَارَةٍ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيْبُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ، وَلَا نَفْيُهُ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ النُّصُوْصِ). (¬3) وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ هَاهُنَا شَرْحًا عَجِيْبًا لِذَلِكَ فَقَالُوا: (مَا المَسْؤُوْلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ) أَنَّ المَعْنَى: أَنَا وَأَنْتَ فِي العِلْمِ بِهَا سَوَاءٌ؛ فَكَمَا تَعْلَمُهَا أَنْتَ؛ أَعْلَمُهَا أَنَا!! قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ آخِرُ الحَدِيْثِ، وَفِيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ تَلَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (لُقْمَان:34). (¬4) أَيْ: لَيْسَ لَهُ فِيْهَا اخْتِيَارٌ وَلَا قَصْدٌ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ شَيْءٍ مَقْرُوْنٌ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيْئَتِهِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. (¬5) وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُوْنَ} (إِبْرَاهِيْم:11).

4) أَمَّا بِخُصُوْصِ حَدِيْثِ الاخْتِصَامِ؛ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ كَشَفَ لَهُ عَنِ الأَعْيَانِ المَوْجُوْدَةِ إِذْ ذَاكَ، (¬1) فَلَيْسَ فِيْهِ مَعْنَى كَشْفِ وَقْتِ السَّاعَةِ؛ وَلَا عِلْمَ مَا سَيَكُوْنُ كُلِّيًّا، وَإِلَّا تَعَارَضَ الحَدِيْثُ مَعَ النُّصُوْصِ الكَثِيْرَةِ المُتَوَاتِرَةِ - مِنْ جِهَةِ الدِّلَالَةِ - الَّتِيْ فِيْهَا عَدَمُ عِلْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالغَيْبِ وَبِمَا فِي الصُّدُوْرِ. 5) أَيْضًا عَلَى فَرْضِ حَمْلِ حَدِيْثِ الاخْتِصَامِ عَلَى الغَيْبِ المُسْتَقْبَلِيِّ؛ فَمَا أُطْلِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ مَا سَيَكُوْنُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ هُوَ عَلَى سَبِيْلِ الإِجْمَالِ وَلَيْسَ التَّفْصِيْلِ، وَكَذَلِكَ حَدِيْثُ حُذَيْفَةَ، لِذَلِكَ تَجِدُ بَيَانَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي رَدِّهَا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍّ؛ حَيْثُ قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُوْلُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬2) 6) أَمَّا بِخُصُوْصِ حَدِيْثِ حُذَيْفَةَ فَالخَطْبُ فِيْهِ أَسْهَلُ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِمَا سَيَكُوْنُ مِنْ فِتَنٍ وَمَلَاحِمَ، كَذَا بَيَّنَهُ أَحَدُ أَلْفَاظِ الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي مُسْلِمٍ، حَيْثُ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ فِيْمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَّ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يُحَدِّثْهُ غَيْرِي! وَلَكِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - وَهُوَ يُحَدِّثُ مَجْلِسًا أَنَا فِيْهِ عَنِ الفِتَنِ - فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَعُدُّ الفِتَنَ - (مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ لَا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شَيْئًا، وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ مِنْهَا صِغَارٌ وَمِنْهَا كِبَارٌ) قَالَ حُذَيْفَةُ: فَذَهَبَ أُوْلَئِكَ الرَّهْطُ كُلُّهُمْ غَيْرِي). (¬3) وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَهْلُ الحَدِيْثِ - وَهُمُ العَالِمُوْنَ بِالآثَارِ وَمَعَانِيْهَا وَمَوَاضِعِهَا - فِيْ ذِكْرِ أَحَادِيْثِ الفِتَنِ مِنْ سُنَنِهِم. (¬4) (¬5) 7) أَمَّا بِخُصُوْصِ حَدِيْثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَوْلُهُ (إِلَّا أَذْكَرَنَا مِنْهُ عِلْمًا)، فِيْهِ أَنَّ - مِنْ - هُنَا لِلتَّبْعِيْضِ، فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ أَصْلًا؛ وَانْدَرَجَتْ مَعَ أَخَوَاتِهَا فِي ذِكْرِ الإِجْمَالِ. 8) أَنَّ حَدِيْثَ أَبِي ذَرٍّ أَصْلًا يَتَنَاوَلُ أُمُوْرَ الشَّرِيْعَةِ، وَعَلَى هَذَا المَعْنَى فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا إِلَّا بَيَّنَهُ مِنْ أُمُوْرِ الشَّرِيْعَةِ، وَالحَمْدُ للهِ. وَدَلَّ لِذَلِكَ نَفْسُ الحَدِيْثِ، حَيْثُ أَنَّ الحَدِيْثَ بِتَمَامِهِ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (تَرَكْنَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الهَوَاءِ - إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ؛ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ). قَالَ ابْنُ حِبَّانَ - عَقِبَ ذِكْرِ الحَدِيْثِ -: (مَعْنَى (عِنْدَنَا مِنْهُ) يَعْنِي بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيْهِ وَأَخْبَارِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِبَاحَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (¬6) ¬

_ (¬1) وَاُنْظُرْ سِيَاقَ الحَدِيْثِ حَيْثُ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ اخْتِصَامِ المَلَأِ الأَعْلَى؛ فَأَجَابَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَدَمِ العِلْمِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ عُلِّمَ أَجَابَ عَنِ الدَّرَجَاتِ وَالكَفَّارَاتِ، فَهَذَا السُّؤَالُ كَانَ عَمَّا هُوَ مَوْجُوْدٌ مِنْ ذَلِكَ الاخْتِصَامِ؛ وَالتَّعْلِيْمُ أَيْضًا كَانَ عَمَّا هُوَ مَوْجُوْدٌ مِنْهُ. وَبِاللهِ التَّوْفِيْق. (¬2) البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177). (¬3) وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4243)؛ قَالَ حُذَيْفَةُ: (وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَصْحَابِي أَمْ تَنَاسَوْا؟ وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ - إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا - يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةٍ فَصَاعِدًا؛ إِلَّا قَدْ سَمَّاهُ لَنَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيْهِ وَاسْمِ قَبِيْلَتِهِ). وَهُوَ ضَعِيْفٌ. المِشْكَاةُ (5393). (¬4) أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَبْوِيْبِ مُسْلِمٍ (2207/ 4) ضِمْنَ كِتَابُ الفِتَنِ. وَفِي المُسْتَدْرَكِ (465/ 4) قَالَ: كِتَابُ الفِتَنِ وَالمَلَاحِمِ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ (94/ 4) قَالَ: بَابُ ذِكْرِ الفِتَنِ وَدَلَائِلِهَا. وَفِي صَحِيْحِ ابْنِ حِبَّانَ (5/ 15) قَالَ: بَابُ إِخْبَارِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَكُوْنُ فِي أُمَّتِهِ مِنَ الفِتَنِ وَالحَوَادِثِ. (¬5) وَمِثْلُ حَدِيْثِ حُذَيْفَةَ فِي الدِّلَالَةِ مَا أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ (2892) أَيْضًا فِي كِتَابِ الفِتَنِ - عَقِبَ حَدِيْثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ السَّابِقِ - عَنْ عَمْرَو بْنِ أَخْطَبٍ؛ قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ؛ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا). (¬6) صَحِيْحُ ابْنِ حِبَّانَ (267/ 1).

الشبهة الرابعة) قول صاحب البردة (فإن من جودك الدنيا وضرتها) ليس فيه محذور؛ لأن الله تعالى أعطى نبيه فعلا مزية إنقاذ الناس من النار، كما في حديث الشفاعة

- الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُ صَاحِبِ البُرْدَةِ (فَإِنَّ مِنْ جُوْدِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا) لَيْسَ فِيْهِ مَحْذُوْرٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى نَبِيَّهُ فِعْلًا مَزِيَّةِ إِنْقَاذِ النَّاسِ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيْثِ الشَّفَاعَةِ؛ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ (أَخْرِجْ مَنْ فِي قَلْبِهِ كَذَا وَكَذَا مِنْ إِيْمَانٍ)؟! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ اللهَ تَعَالَى لم يُمَلِّكِ الشَّفَاعَةَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُوْنِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُوْنَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُوْنَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيْعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} (الزُّمَر:44) (¬1)، وَفِي الحَدِيْثِ (مَا أُعْطِيْكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ؛ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ). (¬2) وَكَوْنُهُ تَعَالَى أَعْطَاهَا إِيَّاهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ إِكْرَامِهِ وَإِظْهَارِ شَرَفِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ تَمَلُّكِهَا اسْتِقْلَالًا؛ لِذَلِكَ لَمْ تَنْفَعْ شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّهِ كَمَا فِي الحَدِيْثِ (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي) (¬3)، كَمَا لَمْ تَنْفَعْ أَيْضًا شَفَاعَةُ إِبْرَاهِيْمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِيْهِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (فَيَقُوْلُ إِبْرَاهِيْمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِيَ يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟ فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِيْنَ) (¬4)، كَمَا لَمْ تَنْفَعْ أَيْضًا شَفَاعَةُ نُوْحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ابْنِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَادَى نُوْحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِيْنَ، قَالَ يَا نُوْحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُوْنَ مِنَ الجَاهِلِيْنَ} (هُوْد:46). وَبِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ طَلَبُهَا مِنَ العَبْدِ، بل تُطْلَبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشفِّعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْهِ، كَمَا فِي حَدِيْثِ دُعَاءِ الضَّرِيْرِ (¬5): (اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ). (¬6) ¬

_ (¬1) وَتَأَمَّلْ كَوْنَ المَلَائِكَةِ وَعُزَيْرًا وَعِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ كَيْفَ أَنَّهُم آلِهَةٌ عِنْدَ المُشْرِكِيْنَ؛ وَقَدْ نَفَى اللهُ مُلْكَهُم لِلشَّفَاعَةِ وَدُعَاءَهُم بِقَصْدِهَا، مَعَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالمَلَائِكَةَ لَهُم شَفَاعَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ: {وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ} (الأَنْبِيَاء: 28). (¬2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3117) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. (¬3) وَالحَدِيْثُ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (976) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: (زَارَ رَسُوْلُ اللهِ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، وَقَالَ: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُوْرَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُوْرُوا القُبُوْرَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ المَوْتَ)). (¬4) وَالحَدِيْثُ فِي البُخَارِيِّ (3350) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا (يَلْقَى إِبْرَاهِيْمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ - وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ - فَيَقُوْلُ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُوْلُ أَبُوْهُ: فَاليَوْمَ لَا أَعْصِيْكَ. فَيَقُوْلُ إِبْرَاهِيْمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِيَ يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟ فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِيْنَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيْمُ؛ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيْخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ). وَ (الذِّيْخُ): ذَكَرُ الضَّبْعِ الكَثِيْرُ الشَّعْرِ؛ حَيْثُ أُرِيَ إِبْرَاهِيْمُ أَبَاهُ عَلَى غَيْرِ هَيْئَتِهِ وَمَنْظَرِهِ لِيَسْرُعْ إِلَى التَّبَرُّءِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ (مُلْتَطِخٌ): أَيْ: مُتَلَوّثٌ بِالدَّمِ وَنَحْوِهِ. (¬5) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3578)، وَأَحْمَدُ (17241) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (1279). وَتَمَامُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ؛ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيْرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اُدْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَني. قَالَ: (إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ، فَهوَ خَيْرٌ)، وَفِي رِوَايَةٍ (وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهوَ خَيْرٌ لَكَ)، فَقَالَ: ادْعُهُ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوْءَهُ؛ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْن، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحمَّدُ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيْهِ)، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ). (¬6) وَهَذَا الإِتْيَانُ مِنَ الضَّرِيْرِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْرُوْنٌ بِحَيَاتِهِ فَقَط، أَمَّا بَعْدَ مَمَاتِهِ فَلَا يَجُوْزُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ دُعَاءِ الأَمْوَاتِ، وَهوَ شِرْكٌ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَخْلُقُوْنَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّحْل:21). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ} (الأَحْقَاف:5). وَأَمَّا يَوْمُ القِيَامَةِ فَيَطْلُبُ النَّاسُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُم عِنْدَ رَبِّهِم لِأَنَّهُ حَيٌّ حَاضِرٌ قَادِرٌ، وَلَكِنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ إِلَّا فِيْمَنْ أَذِنَ اللهُ لَهُم حَيْثُ يُجْعَلُ لَهُ حَدٌّ في كُلِّ مَرَّةٍ فَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ.

2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِيْ حَدَّ لَهُ مَنْ سَيَدْخُلُ الجَنَّةَ - وَلَيْسَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ -، كَمَا فِي نَفْسِ الحَدِيْثِ (فَيَأْتُوْنِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ؛ قُلْ تُسْمَعْ؛ سَلْ تُعْطَهْ؛ اشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيْدٍ - يُعَلِّمُنِيهِ رَبيَّ - ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا؛ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) (¬2) 3) أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلشَّفَاعَةِ شُرُوْطًا مِنْهَا: رِضَى اللهِ تَعَالَى عَنِ المَشْفُوْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:28)، فيَكُوْنُ مِنْ أَسْبَابِ حُصُوْلِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ طَلَبُ الرِّضَى مِنَ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. 4) أَنَّ الله تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ مِنْ أَسْبَابِ حُصُوْلِ الشَّفَاعَةِ أَنْ تُطْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، بَلْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِيْنَ الأَوَائِلِ كَانَ فِي طَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُوْنَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (يُوْنُس:18)، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ. (¬3) 5) أَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكُوْنُ المُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ فِيْهِ هُوَ للهِ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ}، فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ تَعَالَى. (¬4) ¬

_ (¬1) مُسْلِمٌ (193). (¬2) وَمِنْ بَابَ التَّقْرِيْبِ لِلأَذْهَانِ: أَرَأَيتَ لَو أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى هَدِيَّةً إِلَى صَدِيْقِهِ وَأَرْسَلَهَا مَعَ عَامِلِهِ، فَهَلْ يَكُوْنُ فِيْهَا الفَضْلُ لِلعَامِلِ أَمْ لِمَنْ أَرْسَلَهُ؟ وَمَا رَأْيُكَ بِمَنْ شَكَرَ هَذَا العَامِلَ وَتَعَلَّقَ بِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ المَزِيْدَ؟ هَلْ يَكُوْنُ إِلَّا جَاحِدًا مُنْكِرًا لِإِحْسَانِ صَاحِبِهِ؛ بِحَيْثُ يَقُوْلُ لَهُ: إِنَّ العَامِلَ هُوَ الَّذِيْ أَهْدَانِي وَلَيسَ أَنْتَ! لِأَنِّي رَأَيتُهَا في يَدِهِ!! فَقَارِنْ بَينَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ النَّاظِمِ لِلبُرْدَةِ: (يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِيْ مَنْ أَلُوْذُ بِهِ ... سِوَاكَ عِنْدَ حُلُوْلِ الحَادِثِ العَمَمِ إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي ... فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ يَا زَلَّةَ القَدَمِ)!!! (¬3) وَالحَدِيْثِ هُوَ ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ) ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِيْنَ يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُوْنَ جَهَنَّمَ دَاخِرِيْنَ} (غَافِر:60)). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2969) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (3407). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ في التَّفْسِيْرِ (134/ 1): (وَتَخْصِيْصُ المُلْكِ بِيَوْمِ الدِّيْنِ لَا يَنْفِيْهِ عَمَّا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ العَالَمِيْنَ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيْفَ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيْئًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَ يَقُوْمُ الرُّوْحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُوْنَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (النَّبَأ:38)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (طَه:108)، وَقَالَ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ} (هُوْد:105)).

الشبهة الخامسة) إن الكفار لم تنفعهم الشفاعة في الآية الكريمة {أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذوني} (يس:23) لكونهم ي

- الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ) إِنَّ الكُفَّارَ لَمْ تَنْفَعُهُمُ الشَّفَاعَةُ - كَمَا فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} (يَس:23) - لِكَوْنِهِم يَرْجُوْنَهَا مِنَ الأَصْنَامِ، وَهَلْ هِيَ إِلَّا حِجَارَةٌ صَمَّاءُ عَمْيَاءُ! فَكَيْفَ يُقَاسُ سَيِّدُ الأَنَامِ بِهَذِهِ الأَصْنَامِ؛ فَيُقَالُ: إَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأُمَّتِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا! أَلَيْسَ هَذَا إِنْكَارًا لِلشَّفَاعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ فِيْهَا إِثْبَاتُ النَّفْعِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَظَهَرَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ حَشْرِهِمُ الأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِيْنَ مَعَ زُمْرَةِ الأَصْنَامِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الاسْتِشْفَاعِ بِهِم!! وَالجَوَابُ مِنْ أُوْجُهٍ: 1) أَنَّ هَذَا الإِيْرَادَ فِيْهِ حَقٌّ وَفِيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا دُعِيَ مِنْ دُوْنِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الأَصْنَامَ - وَهِيَ حِجَارَةٌ بِلَا رَيْبٍ - لَمْ تُعْبَدْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا حِجَارَةٌ صَمَّاءُ؛ بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا تَرْمُزُ إِلَى أَصْحَابِهَا مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ حَيْثُ جَعَلَهَا المُشْرِكُوْنَ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى (¬1)؛ فَلَمْ يَعْتَقِدُوا أَصْلًا فِيْهِمُ الخَلْقَ أَوِ الضُّرَّ أَوِ النَّفْعَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُوْنَ} (العَنْكَبُوْت:61). وَتَأَمَّلِ التَّعْبِيْرَ بِـ (مَنْ) الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ المَدْعُوَّ مِنْ دُوْنِ اللهِ عَاقِلٌ وَلَيْسَ بِجَمَادٍ أَصَمٍّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ} (الأَحْقَاف:5). 2) أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِيْنَ أَصْلًا هُوَ فِي دُعَاءِ الصَّالِحِيْنَ وَالاسْتِغَاثَةِ وَالاسْتِشْفَاعِ بِهِم عِنْدَ رَبِّهِم، قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُوْنَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ} (يُوْنُس:18). 3) أَنَّ إِثْبَاتَ الشَّفَاعَةِ لَا يَعْنِي إِثْبَاتَ النَّفْعِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ - مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ طَبْعًا؛ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ -، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ جَعَلَهُ اللهُ لِرَحْمَةِ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنَتِهِ (يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ: سَلِيْنِي بِمَا شِئْتِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬2) وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النَّجْم:26)، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آلِ عِمْرَان:128). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِيْنَ} (الأَنْعَام:76) (292/ 3): (وَالحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي هَذَا المَقَام مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ؛ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَة الهَيَاكِلِ وَالأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ مَعَ أَبِيْهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَة الأَصْنَامِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِيْ هِيَ عَلَى صُوَرِ المَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الخَالِقِ العَظِيْمِ - الَّذِيْنَ هُمْ عِنْد أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوْهُ -؛ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُوْنَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَه فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ). (¬2) وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آلِ عِمْرَان:128).

الشبهة السادسة) أن الله تعالى بشر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه لن يخزيه في أمته؛ فقال له: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى:5). فهل يرضى النبي صلى الله عل

- الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ) إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَشَّرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَنْ يُخْزِيَهِ فِي أُمَّتِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيْكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضُّحَى:5)، فَهَلْ يَرْضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَذَابِ أُمَّتِهِ؟! أَوْ أَنَّ يَكُوْنَ أَحَدٌ مِنْهُم قَدْ أَخْطَأَ السَّبِيْلَ فَاسْتَغَاثَ بِهِ - عَلَى فَرْضِ خَطَئِهِ - أَنْ يَكُوْنَ فِي النَّارِ؟! فَشَفَاعَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذًا نَائِلَةٌ جَمِيْعَ أُمَّتِهِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ أَخْطَائِهِم. وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ الَّذِيْ بَشَّرَهُ بِـ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيْكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} هُوَ الَّذِيْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آلِ عِمْرَان:128)، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْضَى مَا لَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. فَنَقُوْلُ: هَلْ يَرْضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْعَى مَعَ اللهِ؟ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِيْ قَالَ لِابْنِ عَمَّهِ مُعَلِّمًا إِيَّاهُ كَلِمَاتٍ جَامِعَاتٍ نَافِعَاتٍ: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ). (¬1) 2) أَنَّ مَنْ بَدَّلَ فِي دِيْنِهِ وَغَيَّرَ وَحَرَّفَ، وَاسْتَبْدَلَ الَّذِيْ هُوَ أَدْنَى بِالَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أُمَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْضَى عَنْهُ بَلْ يُبَاعِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا فِي حَدِيْثِ الوُرُوْدِ عَلَى الحَوْضِ الشَّرِيْفِ ((لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُوْنِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ)؛ قَالَ: (إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُوْلُ: سُحْقًا سُحْقًا؛ لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي)). (¬2) ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (2803)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2516). صَحِيْحُ التِّرْمِذِيِّ (2516). (¬2) البُخَارِيُّ (6584)، وَمُسْلِمٌ (26) مِنْ حَدِيْثِ أَبِي سَعِيْدٍ مَرْفُوْعًا.

الشبهة السابعة) ما جاء في الحديث من كونه صلى الله عليه وسلم لا يملك لأهله وللناس شيئا؛ لا يعني عدم نفعه لهم في الآخرة، لأن من نفي عنهم النفع هم الذين لم ي

- الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ) مَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ مِنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْلِكُ لِأَهْلِهِ وَلِلنَّاسِ شَيْئًا؛ لَا يَعْنِي عَدَمَ نَفْعِهِ لَهُم فِي الآخِرَةِ! لِأَنَّ مَنْ نُفِيَ عَنْهُم النَّفْعُ هُمُ الَّذِيْنَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَصْلًا، فَالمَقْصُوْدُ بِالحَدِيْثِ هُوَ لَا أُغْنِي عَنْكُم مِنَ اللهِ شَيْئًا إِذَا لَمْ تُؤْمِنُوا؛ أَمَّا إِذَا آمَنْتُم فَإِنِّي أُغْنِي عَنْكُم!! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ هَذَا تَلْفِيْقٌ فِي حَدِيْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِدْرَاكٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقُلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ يَبْقَى الحَدِيْثُ عَلَى عُمُوْمِهِ؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مُؤَكَّدٌ بِقَوْلِهِ - شَيْءٌ - فَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ العُمُوْمِ تُفِيْدُ عُمُوْمَ عَدَمِ نَفْعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُم شَيْئًا مِنْ دُوْنِ إِذْنِ رَبِّهِ. (¬1) 2) أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانْفِطَار:19)، وَتَأَمَّلْ كَوْنَ النَّفْسِ فِي الآيَةِ نَكِرَةً فِي المَوْضِعِيْنِ؛ الأَمْرُ الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَيًّا كَانَ الشَّافِعُ؛ وَأَيًّا كَانَ المَشْفُوْعُ فَلَا يَمْلِكُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. 3) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيْثِهِ الشَّرِيْفَةِ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا إِذَا جَاءُوْهُ بِالمَعَاصِي، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ أَوْلِيَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ المُتَّقُوْنَ - وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ - فَلَا يَأْتِيْنِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُوْنَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، فَتَقُوْلُوْنَ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُوْلُ: هَكَذَا وَهَكَذَا؛ لَا) وَأَعْرَضَ فِي كِلَا عِطْفَيْهِ) (¬2)، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُم مِنْ جِهَةِ عِصْيَانِهِم؛ وَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ شِرْكِهِم. وَلَا تَخْفَى عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ الأَحَادِيْثُ الكَثِيْرَةُ المَشْهُوْرَةُ الَّتِيْ تُثْبِتُ دُخُوْلَ كَثِيْرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيْدِ النَّارَ - مِمَّنْ لَهُم مَعَاصٍ لَمْ يَتُوْبُوا مِنْهَا؛ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُم ابْتِدَاءً - ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرَجُوْنَ مِنْهَا بِإِذْنِ اللهِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيْهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُوْنَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ} (البَقَرَة:254) (¬3)، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ أَهْلَ الإِيْمَانِ بِالنَّفَقَةِ مُحَذِّرًا إِيَّاهُم مِنْ إِتْيَانِ يَوْمٍ لَا تَنْفَعُهُم فِيْهِ شَفَاعَةٌ؛ الأَمْرُ الَّذِيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ تَحْصِيْلِ الحَاصِلِ لِأَهْلِ المِلَّةِ؛ بَلْ هِيَ مَقْرُوْنَةٌ بِرِضَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ المَشْفُوْعِيْنَ وَإِذْنِهِ لِلشَّافِعِيْنَ بِالشَّفَاعَةِ، هَذَا كُلُّهُ عَدَا عَنْ كَوْنِهَا دَرَجَاتٍ فِي حَقِيْقَتِهَا. 4) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيْثِهِ الشَّرِيْفَةِ أَنَّ شَفَاعَتَهُ تُنَالُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - وَلَيْسَ بِالدَّعَوَاتِ الفَارِغَةِ مِنَ المَضْمُوْنِ - وَأَهَمُّ هَذِهِ الأَعْمَالِ التَّوْحِيْدُ، كَمَا فِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ (قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيْثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ - لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيْثِ -، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ)). (¬4) وَتَأَمَّلِ الحَدِيْثَ عَنْ رَبِيْعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ؛ قَالَ: (كُنْتُ أَبِيْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوْئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: (سَلْ). فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ. قَالَ: (أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ). قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُوْدِ). (¬5) ¬

_ (¬1) وَلَا يَخْفَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ نَافِعَةٌ، وَلَكِنَّهَا مَقْرُوْنَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُم. (¬2) حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (897) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الصَّحِيْحَةُ (765). (¬3) وَمِثْلُهَا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِيْنَ يَخَافُوْنَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُوْنِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيْعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُوْنَ} (الأَنْعَام:51)؛ حَيْثُ كَانَ الإِنْذَارُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ؛ وَأَنَّ العِلْمَ بِذَلِكَ هُوَ سَبَبُ التَّقْوَى. (¬4) البُخَارِيُّ (99). (¬5) صَحِيْحُ مُسْلِمٍ (489).

الشبهة الثامنة) الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل هو نداء، والنهي إنما هو عن دعاء الأموات فقط؛ وليس عن ندائهم!

- الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ) الطَّلَبُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَالغَائِبِيْنَ لَا يُسَمَّى دُعَاءً بَلْ هُوَ نِدَاءٌ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ دُعَاءِ الأَمْوَاتِ فَقَط؛ وَلَيْسَ عَنْ نِدَائِهِم! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللُّغَةِ؛ فَالنِّدَاءُ هُوَ الدُّعَاءُ، وَلَكِنَّ الفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ رَفْعِ الصَّوْتَ وَخَفْضِهِ، وَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ حَقِيْقَةِ المَعْنَى. قَالَ أَبُو الهِلَالِ العَسْكَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مُعْجَمُ الفُرُوْقِ اللُّغَوِيَّةِ) (¬1): (الفَرْقُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ: أَنَّ النِّدَاءَ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِمَالَهُ مَعْنَىً، وَالعَرَبِيُّ يَقُوْلُ لِصَاحِبِهِ: نَادِ مَعَي؛ لِيَكُوْنَ ذَلِكَ أَنْدَى لِصَوْتِنَا؛ أَيْ: أَبْعَدَ لَهُ، وَالدُّعَاءُ يَكُوْنُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَخَفْضِهِ، يُقَالُ: دَعَوْتُهُ مِنْ بَعِيْدٍ وَدَعَوْتُ اللهَ فِي نَفْسِي، وَلَا يُقَالَ: نَادَيْتُهُ فِي نَفْسِي). 2) أَنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ؛ فَقَدْ سَمّى اللهُ تَعَالَى النِّدَاءَ دُعَاءً فِي كَثِيْرٍ مِنَ المَوَاضِعِ، وَإِلَيْكَ بَعْضَهَا: قَالَ تَعَالَى عَنْ نَوْحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوْبٌ فَانْتَصِرْ} (القَمَر:10)، وَقَالَ أَيْضًا {وَنُوْحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيْمِ} (الأَنْبِيَاء:76)، وَقَالَ عَنْ زكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (مَرْيَم:3)، وَقَالَ أَيْضًا {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} (آلِ عِمْرَان:38)، وَقَالَ عَنْ يُوْنُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَذَا النُّوْنِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ} (الأَنْبِيَاء:87)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعْوَةُ ذِي النُّوْنِ - إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوْتِ -: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ) (¬2)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَقُوْلُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} (الكَهْف:52) فَسَمَّى اللهُ تَعَالَى النِّدَاءَ مِنْهُم دُعَاءً. 3) أَنَّ هَذَا ضَلَالٌ مِنْ جِهَةِ المَعْنَى؛ فَمَا الغَايَةُ مِنْ نِدَائِهِم، وَقَدْ فَرَّقَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ، وَجَعَلَ الاسْتِجَابَةَ لِلحَيِّ دُوْنَ المَيِّتِ، فَنِدَاؤُهُ هُوَ كَنِدَاءِ الجِدَارِ الأَصَمِّ، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِيْ هَدَانَا لِهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ} (فَاطِر:22)، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ} (الأَحْقَاف:5). (¬3) 4) أَنَّ الطَّلَبَ مِنَ الحَيِّ - سَوَاءً سُمِّيَ نِدَاءً أَوْ دُعَاءً - يَجُوْزُ فِي الأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِيْ أَقْدَرُ اللهُ تَعَالَى البَشَرَ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوْكُمْ فِي الدِّيْنِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (الأَنْفَال:72)، أَمَّا مَا كَانَ مُخْتَصًا بِاللهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مِنَ الإِحْيَاءِ وَالإِمَاتَةِ وَالفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالفَوْزِ بِالآخِرَةِ وَكَشْفِ الكُرُبَاتِ وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الضَّمِيْرِ وَالرِّزْقِ بِالبَنِيْن وَالإِمْدَادِ بِالأَمْوَالِ مِنَ الغَيْبِ - وَكُلِّ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ طَاقَةِ البَشَرِ - فَلَا يَجُوْزُ، وَهُوَ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الرُّبُوْبِيَّةِ فَضْلًا عَنْ جِهَةِ العُبُوْدِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوْهُمْ فَلْيَسْتَجِيْبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ} (الأَعْرَاف:194). وَأَيْضًا الطَّلَبُ مِنَ الغَائِبِ مِنَ البَشَرِ - وَإِنْ كَانَ حَيًّا - لَا يَجُوْزُ، لِأَنَّ هَذَا المَدْعُوَ بَشَرٌ لَا يَسْمَعُ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْمَعُهُ البَشَرُ؛ فَدَعْوَى سَمَاعِهِ وَحُضُوْرِهِ هُوَ إِشْرَاكٌ بِهِ مَعَ اللهِ تَعَالَى الَّذِيْ هُوَ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا، فَيَكُوْنُ ذَلِكَ شِرْكًا فِي المَعِيَّةِ وَالعِلْمِ وَالإِحَاطَةِ. وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ نِدَاءَ الأَمْوَاتِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَا يَخْلُقُوْنَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُوْنَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُوْنَ أَيَّانَ يُبْعَثُوْنَ} (النَّحْل:21). (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) مُعْجَمُ الفُرُوْقِ اللُّغَوِيَّةِ (ص38). (¬2) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3505) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (5695). (¬3) وَتَأَمَّلِ التَّعْبِيْرَ بِـ (مَنْ) الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ المَدْعُوَّ مِنْ دُوْنِ اللهِ عَاقِلٌ وَلَيْسَ بِجَمَادٍ أَصَمٍّ، فَهُم كَانُوا يَعْبُدُوْنَ الصَّالِحِيْنَ وَالمَلَائِكَةَ طَمَعًا فِي شَفَاعَتِهِم. (¬4) بَلْ لَوْ كَانَ المَيِّتُ يَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِيْنَ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الجاري بَعْدَ مَوْتِهِ، فَمَا الجَمْعُ مَعَ الحَدِيْثِ الَّذِيْ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (1631) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)، وَلَكِنَّ الأَمْرَ هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ} (يُوْنُس:32). (¬5) وَيُقَالُ أَيْضًا لِهَذَا المُسَاوِي بَيْنَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى إِنْسَانٌ إِنْسَانًا مَالًا وَقَالَ: أَوْدِعْهُ عِنْدَ ثِقَةٍ، فَذَهَبَ بِهِ الوَكِيْلُ وَأَوْدَعَهُ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ كَالشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، وَقَالَ: هَذَا وَدِيْعَةٌ عِنْدَكَ لِفُلَانٍ وَاسْتَحْفَظَهُ إِيَّاهُ؛ فَضَاعَ! لَعَدَّهُ النَّاسُ مَجْنُوْنًا وَلَأَلْزَمُوْهُ الضَّمَانَ. وَكَمَا لَوْ أَنَّ مُغَسِّلًا - يُغَسِّلُ مَيِّتًا - ذَهَبَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ حَارٍّ! أَلَا يَكُوْنُ عِنْدَ جَمِيْعِ النَّاسِ أَحْمَقًا؟! فَكَيْفَ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ؛ وَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالِ مَيِّتٌ بَيْنَ يَدِي مُغَسِّلٍ.

الشبهة التاسعة) أن الله تعالى يملك الشفاعة من شاء من عباده، وأولى الناس بذلك هم الصالحون

- الشُّبْهَةُ التَّاسِعَةُ) إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمَلِّكُ الشَّفَاعَةَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ هُمُ الصَّالِحُوْنَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمْلِكُوْنَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (مَرْيَم:87)، وَقَوْلُهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ} (الزُّخْرُف:86)، فَطَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُم صَحِيْحٌ إِذًا؛ مُوَافِقٌ لِلأُصُوْلِ!! وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا يَمْلُكُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى، فَقَالَ سُبْحَانَهُ {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيْعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} (الزُّمَر:44)، وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ قَوْلُهُ فِي هَذَا المَقَامِ (¬1) أَنَّ تَمَلُّكَ المُؤْمِنِيْنَ لِلشَّفَاعَةِ هُوَ بِقَيْدِ أَنْ يَرْضَى اللهُ تَعَالَى عَنِ المَشْفُوْعِ فِيْهِ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ المُثْبَتَةَ فِي الشَّرِيْعَةِ لَهَا شَرْطَانِ هُمَا: الإِذْنُ لِلشَّافِعِ وَقَدْ تَحَقَّقَ هُنَا - جَدَلًا -، وَالثَّانِي هُوَ الرِّضَى عَنِ المَشْفُوْعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الشُّفَعَاءِ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُوْنَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ} (الأَنْبِيَاء:28). 2) أَنَّ إِثْبَاتَ مِلْكِ الشَّفَاعَةِ لِلصَّالِحِيْنَ لَا يَعْنِي طَلَبَهَا مِنْهُم؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ شِرْكُ المُشْرِكِيْنَ، حَيْثُ أَنَّ عِيْسَى وَمَرْيَمَ وَالعُزَيْرَ هُمْ مِنْ سَادَاتِ الأَوْلِيَاءِ مِنَ الصَّالِحِيْنَ؛ الَّذِيْنَ هُمْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِم بِتَمَلُّكِ الشَّفَاعَةِ - عَلَى القَوْلِ بِذَلِكَ - ومع ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ بَيَانُ كَوْنِ مَنْ دَعَاهُم مُشْرِكًا مَذْمُوْمًا شَرْعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُوْنِهِ فَلَا يَمْلِكُوْنَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيْلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوْرًا} (الإِسْرَاء:57). قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬2): (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهُمْ عِيْسَى وَأُمُّهُ وَعُزَيْرٌ وَالمَلَائِكَةُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُوْمُ، (يَبْتَغُوْنَ) أَيْ: يَطْلُبُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ (الوَسِيْلَةَ) أَيِ القُرْبَةَ. وَقِيْلَ: الوَسِيْلَةُ الدَّرَجَةُ العُلْيَا، أَيْ: يَتَضَرَّعُوْنَ إِلَى اللهِ فِي طَلَبِ الدَّرَجَةِ العُلْيَا). 3) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ البَشَرِ لَمْ يَمْلِكْ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ دُوْنِ اللهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنَتِهِ فَاطْمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (سَلِيْنِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا). (¬3) 4) أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَوْ كَانَتْ مِلْكًا - جَدَلًا - لِلصَّالِحِيْنَ؛ فَالأَحْيَاءُ مِنْهُم يَمْلِكُوْنَ الدُّعَاءَ لِمَنْ طَلَبَ مِنْهُم، وَأَمَّا الأَمْوَاتُ مِنْهُم فَهُم فِي البَرْزَخِ، وَلَا يَدْرُوْنَ عَنِ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَهُم شَيْئًا - فَضْلًا عَنِ الاسْتِجَابَةِ لَهُم -، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ مَا يَمْلِكُوْنَ مِنْ قِطْمِيْرٍ، إِنْ تَدْعُوْهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُوْنَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيْرٍ} (فَاطِر:14). ¬

_ (¬1) عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ فِي الآيَتَيْنِ مُتَّصِلٌ - عَلَى أَحَدِ قَوْلَي المُفَسِّرِيْنَ - وَإِلَّا فَإِنَّ الحَافِظَ ابْنَ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ فِي الآيَةِ مُنْقَطِعٌ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (243/ 7): ({وَلَا يَمْلِكُ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ} أَيْ: مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ (الشَّفَاعَةَ) أَيْ: لَا يَقْدِرُوْنَ عَلَى الشَّفَاعَة لَهُمْ {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ} هَذَا اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، أَيْ: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ عَلَى بَصِيْرَةٍ وَعِلْمٍ؛ فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ). قُلْتُ: وَمَعْنَى الانْقِطَاعِ فِي الاسْتِثْنَاءِ أَنَّ المُسْتَثْنَى لَيْسَ جُزْءًا مِنَ المُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَمَّا المُتَّصِلُ فَمَفَادُهُ هُنَا أَنَّ الَّذِيْنَ يُدْعَوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ إِنْ كَانُوا مُوَحِّدِيْنَ؛ فَإِنَّهُم يَمْلِكُوْنَ الشَّفَاعَةَ لِغَيْرِهِم بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُم، وَفِيْمَنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. (¬2) تَفْسِيْرُ البَغَوِيِّ (101/ 5). (¬3) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206) مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا.

الشبهة العاشرة) أن الأنبياء والصالحين أحياء يجيبون من دعاهم، ومثلهم الشهداء؛ لذلك يجوز دعائهم والاستغاثة بهم بخلاف الأصنام فهي حجارة لا تسمع ولا تعقل!

- الشُّبْهَةُ العَاشِرَةُ) إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِيْنَ أَحْيَاءٌ يُجِيْبُوْنَ مَنْ دَعَاهُم - وَمِثْلُهُمُ الشُّهَدَاءُ - لِذَلِكَ يَجُوْزُ دُعَائُهُم وَالاسْتِغَاثَةُ بِهِم بِخِلَافِ الأَصْنَامِ فَهِيَ حِجَارَةٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْقِلُ! وَهَاكَ الأَدِلَّةَ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَيَاتِهِم: 1) قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُوْنَ} (البَقَرَة:154). 2) قَوْلُ المُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ - بِلَفْظِ الخِطَابِ - (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1)، وَحَدِيْثُ (الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُوْرِهِم يُصَلُّوْنَ). (¬2) 3) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُم بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا؛ يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا. فَإِنَّ للهِ حَاضِرًا فِي الأَرْضِ سَيَحْبِسُهُ). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. (¬3) 4) عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَان مَرْفُوْعًا (إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُم شَيْئًا أوْ أَرَادَ غَوْثًا - وهُوَ بِأرْضٍ لَيْسَ بِها أَنِيْسٌ - فَلْيَقُلْ يَا عِبَادَ اللهِ أغِيْثُونِي؛ يَا عِبَادَ اللهِ أغِيْثُونِي؛ فَإِنَّ للهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. (¬4) 5) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ - وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ - قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي المَنَامِ؛ فَقِيْلَ لَهُ: ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ السَّلامَ, وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مُسْتَقِيوْنَ، وَقُلْ لَهُ: عَلَيْكَ الكَيْسُ, عَلَيْك الكَيْسُ, فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ, ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ لَا آلُو إلاَّ مَا عَجَزْتُ عَنْهُ). (¬5) ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1202)، وَمُسْلِمٌ (402). (¬2) صَحِيْحٌ. أَبُو يَعْلَى (6888) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (621). (¬3) ضَعِيْفٌ (وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ). الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (217/ 10)، وَأَبُو يَعْلَى (5269). (¬4) ضَعِيْفٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (117/ 17). الضَّعِيْفَةُ (656). (¬5) ضَعِيْفٌ. مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (32002). اُنْظُرْ كِتَابَ (التَّوَسُّلُ) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ص118). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (495/ 2): (وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ ...)، قُلْتُ: وَلَكِنَّ (مَالِكَ الدَّارِ) هَذَا مَجْهُوْلُ الحَالِ.

وَالجَوَابُ: 1) أَنَّ إِثْبَاتَ الحَيَاةِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى تِلْكَ الصُّوْرَةِ الَّتِيْ يُوْهِمُهَا أَهْلُ البِدَعِ، فَكَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ - كَمَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُوْرِهِم - لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُم اتِّصَالًا بِالدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُوْنَ} (البَقَرَة:154)، وَكَمَا قَالَ أَيْضًا {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِم} (آلِ عِمْرَان:169)، فَصِفَةُ الحَيَاةِ لَهُم هِيَ فِي البَرْزَخِ وَلَيْسَتْ فِي الدُّنْيَا. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُوْنَ} (الزُّمَر:30)، وَأَيْضًا حَدِيْثَ (وَلَيُذَادَنَّ بِأَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِي عَنِ الحَوْضِ فَأَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬1) وَفِي حَدِيْثِ قَبْضِ الرُّوْحِ أَنَّ أَرْوَاحَ المُؤْمِنِيْنَ تَسْأَلُ الرُّوْحَ المَقْبُوْضَةَ حَدِيْثًا عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِهِم مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم مَعْزُوْلُوْنَ عَنْهُم تَمَامًا إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يُخْبَرُوْنَ بِهِ عَنْهُم. (¬2) وَنَقُوْلُ - مِنْ بَابِ الإِفْحَامِ - لِمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآنَ مَيِّتٌ: كَمْ عُمُرُهُ الآنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟؟؟ وَفِي الجَوَابِ مَقْنَعٌ لِمُرِيْدِ الهِدَايَةِ، وَالحَمْدُ للهِ. 2) أَنَّ المَقْصُوْدَ مِنْ حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ هُوَ تَنَعُّمُهُم فِي البَرْزَخ وَلَيْسَ أَنَّهُم مَا زَالَوا أَحْيَاءَ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْهُم أَنَّهُم قُتِلُوا أَصْلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ} (آلِ عِمْرَان:169). قَالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (¬3): ({وَلَا تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتٌ} نَزَلَتْ فِي قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ؛ كَانَ النَّاسُ يَقُوْلُوْنَ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ: مَاتَ فُلَانٌ، وَذَهَبَ عَنْهُ نَعِيْمُ الدُّنْيَا وَلَذَّتُهَا! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {وَلَا تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُوْنَ} كَمَا قَالَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ} (آلِ عِمْرَان:169)، قَالَ الحَسَنُ: إِنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ تُعْرَضُ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الرَّوْحُ وَالفَرَحُ؛ كَمَا تُعْرَضُ النَّارُ عَلَى أَرْوَاحِ آلِ فِرْعَوْنَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الوَجَعُ). (¬4) 3) كَوْنُهُم أَحْيَاءً فِي قُبُوْرِهِم لَا يَعْنِي سَمَاعَهُم لِمَنْ يَسْتَغِيْثُ بِهِم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} (النَّمْل:80). (¬5) 4) أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ وَالتَّعَلُّقَ بِهِم فِي تَفْرِيْجِ الكُرُبَاتِ شِرْكٌ، بَلْ أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِيْنَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِيْنَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيْبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُوْنَ} (الأَحْقَاف:5). ¬

_ (¬1) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6576)، وَمُسْلِمٌ (2297) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. (¬2) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ؛ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ؛ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُونَهُ: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا، فَإِذَا قَالَ: أَمَا أَتَاكُمْ؟ قَالُوا: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الْأَرْضِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ). صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (1833). الصَّحِيْحَةُ (1309). (¬3) تَفْسِيْرُ البَغَوِيِّ (168/ 1). (¬4) وَمِنْ لَطَائِفِ مَا يُذْكَرُ مِنَ القَصَصِ هُنَا مَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا - يُنْسَبُ إِلَى عِلْمٍ! - قَالَ لِرَجُلٍ عَامِّيٍّ: أَنْتُم مَا لِلأَوْلِيَاءِ - عِنْدَكُم - قَدْرٌ! وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ فِي الشُّهَدَاءِ: إِنَّهُم أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِم يُرْزَقُوْنَ! قَالَ لَهُ العَامِّيُّ: هَلْ قَالَ: يَرْزُقُوْنَ؟ - يَعْنِي بِفَتْحِ اليَاءِ - أَوْ قَالَ يُرْزَقُوْنَ؟ - يَعْنِي بِالضَّمِّ -؛ فَإِنْ كَانَ بِالفَتْحِ فَأَنَا أَطْلُبُ مِنْهُم، وَإِنْ كَانَ بِالضَّمِّ فَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الَّذِيْ يَرْزُقُهُم. فَأُفْحِمَ الأَوَّلُ وَسَكَتَ. (¬5) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ فِي مُلْحَقِ (مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ) مِنْ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ.

5) أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بَلْ وَرَدَ عَنْهُم النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. فَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيْءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَيَدْخُلُ فِيْهَا فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيْدًا، وَلَا بُيُوْتَكُمْ قُبُوْرًا، فَإِنَّ تَسْلِيْمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ). (¬1) 6) أَمَّا بِخُصُوْصِ دُعَاءِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ الخِطَابِ أَنْ يَكُوْنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعًا لِمَنْ خَاطَبَهُ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ حَاضِرًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ قَادِرًا عَلَى المَطْلُوْبِ لِكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ. (¬2) بَلْ قَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفَرْقَ بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ فِي نَفْسِ هَذَا التَّشَهُّدِ، وَقَد أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الحَقِيْقَةِ الصَّحَابيُّ الجَلِيْلُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ (عَلَّمَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ؛ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ) - وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا -، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ - يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬3) (¬4)، وَكَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَيْضًا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُوْنَ} (المُؤْمِنُوْن:100). ¬

_ (¬1) صَحِيْحٌ لِغَيْرِهِ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (49/ 2). قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَخْرِيْجُ أَحَادِيْثِ فَضَائِلِ الشَّامِ) (ص52): (صَحِيْحٌ بِطُرُقِهِ وشَوَاهِدِهِ). (¬2) فَلَفْظَ الخِطَابِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَبَدًا أَنْ يَكُوْنَ المُخَاطَبُ سَامِعًا لِلنِّدَاءِ، بَلْ إِنَّ الجَمَادَاتِ قَدْ تُنَادَى، كَمَا فِي مُخَاطَبَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلحَجَرِ الأَسْوَدِ فِي قَوْلِهِ (إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1597). وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا هَاجَرَ فَخَاطَبَ مَكَّةَ قَائِلًا (وَاللهِ؛ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3925) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الحَمْرَاءِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (7089). وَكَمُخَاطَبَةِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِم: (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ) وَهُم فِي جَمِيْعِ المَسَاجِدِ؛ وَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهُم وَيَرُدُّ عَلَيْهِم السَّلَامَ - وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ كَمَا لَا يَخْفَى -؛ وَلَكِنَّهَا عِبَادَةٌ يُتعَبَّدُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - أَيْ: دُعَاءُ دُخُوْلِ المَقَابِرِ، وَالتَّشَهُّدُ -. وِمِثْلُهُ حَدِيْثُ (مَنْ رَأَى مُبْتَلى، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيْلًا؛ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ البَلَاءُ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3432) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (602). قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (130/ 6): (قَالَ العُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُوْلَ هَذَا الذِّكْرَ سِرًّا بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعْهُ المُبْتَلَى؛ إِلَّا أَنْ تَكُوْنَ بَلِيَّتُهُ مَعْصِيَةً فَيُسْمِعُهُ - إِنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً -). (¬3) البُخَارِيُّ (6265). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (314/ 2): (كَذَا وَقَعَ فِي البُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيْحِهِ وَالسَّرَّاجُ وَالجَوْزَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ - شَيْخِ البُخَارِيِّ - فِيْهِ بِلَفْظِ (فَلَمَّا قُبِضَ؛ قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) بِحَذْفِ لَفْظِ (يَعْنِي) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ. قَالَ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَوَانَةَ وَحْدَهُ -: (إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الصَّحَابَةِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الخِطَابَ فِي السَّلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ فَيُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ). قُلْتُ: قَدْ صَحَّ بِلَا رَيْبٍ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا قَوِيًّا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ؛ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: (أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُوْلُوْنَ - وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ - السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، فَلَمَّا مَاتَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيْحٌ. وَأَمَّا مَا رَوَى سَعِيْدُ بْنُ مَنْصُوْرٍ مِنْ طَرِيْقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّد؛ فَذَكَرَهُ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِنَّمَا كُنَّا نَقُوْلُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ - إِذْ كَانَ حَيًّا! -) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: (هَكَذَا عُلِّمْنَا! وَهَكَذَا نُعَلِّمُ)، فَظَاهِرٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَه بَحْثًا وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي مَعْمَرٍ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ؛ وَالإِسْنَادُ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ ضَعِيْفٌ).

7) وَأَمَّا حَدِيْثُ (إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُم بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا؛ يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا. فَإِنَّ للهِ حَاضِرًا فِي الأَرْضِ سَيَحْبِسُهُ) فَهُوَ ضَعِيْفٌ. قَالَ الحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ) (¬1): (رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَزَادَ (سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُم). وَفِيْهِ مَعْرُوْفُ بْنُ حَسَّان؛ وَهُوَ ضَعِيْفٌ). (¬2) وَأَيْضًا فَإِنَّ الحَدِيْثَ الآخَرَ - حَدِيْثَ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَان - هُوَ ضَعِيْفٌ جِدًّا، وَمِنْ أَوْجُهِ ضَعْفِهِ أَنَّ فِيْهِ (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شَرِيْكٍ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ القَاضِي - وَأَبَاهُ، كِلَاهُمَا ضَعِيْفَانِ، قَالَ الحَافِظُ فِي الأَوَّلِ مِنْهُمَا: (صَدُوْقٌ يُخْطِئُ))، وَقَالَ فِي أَبِيْهِ: (صَدُوْقٌ يُخْطِئُ كَثِيْرًا))، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ العِلَلِ أَيْضًا. (¬3) وَأَجْوَدُ مَا يُمْكِنُ إِيْرَادُهُ (¬4) فِي هَذَا المَقَامِ - مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ - الحَدِيْثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (مَرْفُوْعًا وَمَوْقُوْفًا) (إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فَضْلًا - سِوَى الحَفَظَةِ - يَكْتُبُوْنَ مَا سَقَطَ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ، فَإِذَا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ فِي سَفَرٍ فَلِيُنَادِ: أَعِيْنُوا عِبَادَ اللهِ؛ رَحِمَكُمُ اللهُ). (¬5) وَلَنَا فِيْهِ - بِتَوْفِيْقِ اللهِ - كَلِمَاتٌ: أَوَّلًا) أَنَّ الصَّوَابَ وَقْفُهُ وَلَيْسَ رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الحَدِيْثَ جَاءَ مَرْفُوْعًا عِنْدَ البَزَّارِ، وَمَوْقُوْفًا عِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ، وَالرُّوَاةُ فِيْهِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (¬6) مُخْتَلِفُوْنَ فِي الوَقْفِ وَالرَّفْعِ، وَلَكِنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ (الرَّاوِي لِرِوَايَةِ الوَقْفِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي الشُّعَبِ) أَوْثَقُ مِنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ (وَهُوَ الرَّاوِي لِرِوَايَةِ الرَّفْعِ عَنْ أُسَامَةَ عِنْدَ البَزَّارِ). (¬7) ثَانِيًا) أَنَّ كَوْنَهُ مَوْقُوْفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لَا يَعْنِي كَوْنَهُ حُجَّةً فِي هَذَا البَابِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُوْنَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَلَقَّاهُ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ الكِتَابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. ثَالِثًا) أَنَّهُ إِنْ قِيْلَ بِحُجِّيَّتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيْدِهِ بِأُمُوْرٍ أَهَمُّهَا: أ) تَقْيِيْدُهُ بِكَوْنِ المُسْتَغَاثِ بِهِ هُمُ المَلَائِكَةُ. وَهَذَا لَهُ مَخْرَجٌ صَحِيْحٌ مِنْ جِهَةِ أُصُوْلِ عِلْمِ التَّوْحِيْدِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِ المُسْتَغَاثِ بِهِ حَيًّا؛ وَحَاضِرًا - كَمَا بَيَّنَهُ نَفْسُ الحَدِيْثِ بِقَوْلِهِ (حَاضِرًا) -، وَقَادِرًا - كَمَا بَيَّنَهُ نَفْسُ الحَدِيْثِ بِكَوْنِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَهُم لِهَذِهِ المُهِمَّةِ -. (¬8) وَهَذَا يُبْطِلُ اسْتِدْلَالَهُم بِالحَدِيْثِ عَلَى الأَمْوَاتِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالغَائِبِيْنَ، وَالحَمْدُ للهِ. ب) تَقْيِيْدُهُ بِمَنْ أَصَابَتْهُ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ؛ فَيُدَلُّ إِلَى الطَّرِيْقِ، كَمَا جَاءَ فِي نَفْسِ الحَدِيْثِ، وَلَيْسَ عُمُوْمُ النَّصْرِ وَالإِغَاثَةِ وَالرِّزْقِ وَالشَّفَاعَةِ. (¬9) 8) أَمَّا حَدِيْثُ الرَّجُلِ الَّذِيْ أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَسْقِي لَهُ ثُمَّ أَتَى عُمَرَ ... ، فَهُوَ ضَعِيْفٌ، وَلَا يُفِيْدُ تَصْحِيْحُ الحَافِظِ لِإِسْنَادِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَحَّحَهُ إِلَى مَالِكِ الدَّارِ فَقَط، وَمَالِكُ هَذَا مَجْهُوْلُ الحَالِ (العَدَالَةِ وَالضَّبْطِ) وَلَيْسَ لَهُ تَوْثِيْقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الرِّجَالِ (¬10)، عَدَا عَنْ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الطَّرِيْقَةِ لِمَا سَنَّهُ النَّبِيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ مِنْ دُعَاءِ وَصَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ. ¬

_ (¬1) مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ (17100). (¬2) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (655) - بَعْدَ ذِكْرِهِ العِلَّةَ الأُوْلَى -: (العِلَّةُ الثَّانِيَةُ: الانْقِطَاعُ، وَبِهِ أَعَلَّهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: (حَدِيْثٌ غَرِيْبٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي السَّنَدِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ ابْنِ برَيْدَةَ وَابْنِ مَسْعُوْدٍ) نَقَلَهُ ابْنُ علَّانَ فِي (شَرْحُ الأَذْكَارِ) (5/ 150). وَقَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي (الابْتِهَاجُ بِأَذْكَارِ المُسَافِرِ وَالحَاجِّ) (ص 39): (وَسَنَدُهُ ضَعِيْفٌ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ جَرَّبَهُ هُوَ وَبَعْضُ أَكَابِرِ شُيُوْخِهِ). قُلْتُ (الأَلْبَانِيُّ): العِبَادَاتُ لَا تُؤْخَذُ مِنَ التَّجَارِبِ، سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي أَمْرٍ غَيْبِيٍّ كَهَذَا الحَدِيْثِ، فَلَا يَجُوْزُ المَيْلُ إِلَى تصَحِيْحِهِ بِالتَّجْرِبَةِ! كَيْفَ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُهُم فِي جَوَازِ الاسْتِغَاثَةِ بِالمَوْتَى عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَهُوَ شِرْكٌ خَالِصٌ! وَاللهُ المُسْتَعَانُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا رَوَى الهَرَوِيُّ فِي (ذَمِّ الكَلَامِ) (4/ 68/1) أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ المُبَارَكِ ضَلَّ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي طَرِيْقٍ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ مَنِ اضْطُرَّ - كَذَا الأَصْلُ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ: ضَلَّ - فِي مَفَازَةٍ فَنَادَى: عِبَادَ اللهِ أَعِيْنُوْنِي! أُعِيْنَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطْلُبُ الجُزْءَ أَنْظُرَ إِسْنَادَهُ. قَالَ الهَرَوِيُّ: فَلَمْ يَسْتَجِزْ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ لَا يَرَى إِسْنَادَهُ). قُلْتُ: فَهَكَذَا؛ فَلَيْكُنِ الإِتِّبَاعُ). (¬3) الضَّعِيْفَةُ (656). (¬4) وَهُوَ مِنْ بَابِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَذْكُرُوْنَ مَا لَهُم وَمَا عَلَيْهِم، وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ مَا يُحَابَى عَلَى حِسَابِ الحَقِّ وَالشَّرِيْعَةِ، وَللهِ الحَمْدُ. اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِيْ مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ. (¬5) الحَدِيْثُ وَرَدَ مَرْفُوْعًا وَمَوْقُوْفًا، وَهُوَ صَحِيْحٌ مَوْقُوْفًا، رَوَاهُ البَزَّارُ (181/ 11) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (165) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوْفًا. الصَّحِيْحَةَ (656). (¬6) وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ هَذَا هُوَ اللَّيْثِيُّ؛ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيْنَ (ت 153 هـ)؛ وَلَيْسَ هُوَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ؛ الصَّحَابِيُّ؛ حِبُّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْلَاهُ. (¬7) اُنْظُرِ الصَّحِيْحَةَ (656). (¬8) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (656): (فَلَا يَجُوْزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمُ المُسْلِمُوْنَ مِنَ الجِنِّ أَوِ الإِنْسِ مِمَّنْ يُسَمُّوْنَهُم بِرِجَالِ الغَيْبِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ، سَوَاءً كَانُوا أَحْيَاءً أَوْ أَمْوَاتًا، فَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِهِم وَطَلَبَ العَوْنِ مِنْهُم شِرْكٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ الدُّعَاءَ، وَلَو سَمِعُوا لَمَا اسْتَطَاعُوا الإِجَابَةَ وَتَحْقِيْقَ الرَّغْبَةِ، وَهَذَا صَرِيْحٌ فِي آيَاتٍ كَثِيْرْةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنْ تَدْعُوْهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُوْنَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيْرٍ} (فَاطِر:14). (¬9) وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيْحَةِ (656): (وَيَبْدُو أَنَّ حَدِيْثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - الَّذِيْ حَسَّنَهُ الحَافِظُ - كَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يُقَوِّيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ فِي (المَسَائِلِ) (217): (سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: حَجَجْتُ خَمْسَ حُجَجٍّ مِنْهَا اثْنَتَيْن (رَاكِبًا)، وَثَلَاثَةً مَاشِيًا، أَوِ اثْنَتَيْن مَاشِيًا، وَثَلَاثَةً رَاكِبًا؛ فَضَلَلْتُ الطَّرِيْقَ فِي حَجَّةٍ - وَكُنْتُ مَاشِيًا -، فَجَعَلْتُ أَقُوْلُ: (يَا عِبَادَ اللهِ دُلُّوْنَا عَلَى الطَّرِيْقِ!) فَلَمْ أَزَلْ أَقُوْلُ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى الطَّرِيْقِ)). قُلْتُ: وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ حَدِيْثَ ابْنِ مَسْعُوْدٍ السَّابِقَ فِي كِتَابِهِ (الوَابِلُ الصَّيِّبُ) فِي الفَصْلِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثُيْنَ (ص125): فِي (الدَّابَةُ إِذَا انْفَلَتَتْ وَمَا يُذْكَرُ عِنْدَ ذَلِكَ). (¬10) وَقَدْ رَوَى لَهُ الحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (4688) أَثَرًا عَنْ عُمَرَ فِي - بَابٌ فِي الإِنْفَاقِ - وَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيْثهِ: (وَمَالِكُ الدَّارِ لَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ).

الشبهة الحادية عشرة) أن الصحابة كانوا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته

- الشُّبُهْةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ) إِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَغِيْثُوْنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَابْنُ عُمَرَ كَانَ يَسْتَغِيْثُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَلَمَّ بِهِ مَكْرُوْهٌ، بَلْ حَتَّى إِذَا خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَقَط! فَفِي الحَدِيْثِ عَنِ الهَيْثَمِ بْنِ حَنَشٍ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَخَدِرَتْ رِجْلُهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أُذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ فَذَكَرَ مُحَمَّدًا، فَكَأَنَّما نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ) (¬1)! وَأَيْضًا مَا جَاءَ فِي الأَحَادِيْثِ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ شِعَارُهُم فِي الحَرْبِ (يَا مُحَمَّدُ)! وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ: 1) أَنَّ حَدِيْثَ الخَدَرِ ضَعِيْفٌ. 2) أَنَّ الحَدِيْثَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ فِيْهِ مُتَمَسَّكٌ لِلاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيْهِ اسْتِغَاثَةٌ أَصْلًا، بَلْ هُوَ عِلَاجٌ قَدِيْمٌ مَعْرُوْفٌ لِلخَدَرِ؛ حَيْثُ يَذْكُرُ صَاحِبُهُ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ فَيَزُوْلُ الخَدَرُ. (¬2) وَهَذَا الدَّوَاءُ التَّجْرِيْبِيُّ لِلخَدَرِ كَانَ مَعْرُوْفًا عِنْدَ الجَاهِلِيِّيْنَ قَبْلَ الإِسْلَامِ وَجُرَّبَ فَنَفَعَ بِإِذْنِ اللهِ، وَلَيْسَ فِيْهِ إِلَّا ذِكْرُ المَحْبُوْبِ، وَقِيْلَ فِي تَفْسِيْرِ ذَلِكَ: إِنَّ ذِكْرَهُ لِمَحْبُوْبِهِ يَجْعَلُ الحَرَارَةَ الغَرِيْزِيَّةَ تَتَحَرَّكُ فِي بَدَنِهِ، فَيَجْرِي الدَّمُ فِي عُرُوْقِهِ، فَتَتَحَرَّكُ أَعْصَابُ الرِّجْلِ؛ فَيَذْهَبُ الخَدَرُ، وَجَاءَتِ الأَشْعَارُ بِهَذَا كَثِيْرَةً فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلَامِ، فَمِنْهَا مَا فِي: دِيْوَانِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيْعَةَ: (إِذَا خَدِرَتْ رِجْلِي أَبُوْحُ بِذِكْرِهَا ... لِيَذْهَبَ عَنْ رِجْليَ الخُدُوْرُ؛ فَيَذهَبُ) وَفِي دِيْوَانِ جَمِيْلِ بُثَيْنَةَ: (وَأَنْتِ لِعَيْنِي قُرَّةٌ حِيْنَ نَلْتَقِي ... وَذِكْرُكِ يَشْفِيْنِي إِذَا خَدِرَتْ رِجْلِي) 3) أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ (يَا مُحَمَّد) شِعَارُهُم فِي الحَرْبِ؛ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِهِ! فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ مَرْدُوْدٌ، لِأَنَّ الشِّعَارَ فِي الحَرْبِ هُوَ مَا يُمَيِّزُ بِهِ المُحَارِبُوْنَ أَنْفُسَهُم عَنْ عَدُوِّهِم عِنْدَ الاخْتِلَاطِ، وَهُوَ يُشْبِهُ مَا يُعْرَفُ اليَوْمَ بِـ (كَلِمَةِ السِّرِّ). قَالَ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ (مُخْتَارُ الصِّحَاحِ): (شِعَارُ القَوْمِ فِي الحَرْبِ: عَلَامَتُهُم؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُم بَعْضًا). (¬3) وَفِي الحَدِيْثِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ؛ قَالَ: (غَزَوْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ؛ أَمِتْ). (¬4) (¬5) وَمِثْلُهُ عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرْفُوْعًا (إنْ بُيِّتُّمْ فَلْيَكُنْ شِعارُكُم: (حَم، لَا يُنْصَرُوْنَ)). (¬6) 4) أَنَّ حَمْلَ الأَثَرَيْنِ عَلَى الاسْتِغَاثَةِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَزُوْلَ الضُّرُّ بِذِكْرِهِ غَيْرُ مَشْرُوْعٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى - لَا يَمْلِكُ كَشْفَ الضُّرِّ أَصْلًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (الجِنّ:21). ¬

_ (¬1) ضَعِيْفٌ. عَمَلُ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ (141/ 1). تَحْقِيْقُ الكَلِمِ الطَّيِّبِ لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (236). (¬2) قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَجْمُوْعُ) (652/ 4): ((يُسْتَحَبُّ) وَإِذَا خَدِرَتْ رِجْلُهُ؛ ذِكْرُ مَنْ يُحِبُّهُ). قُلْتُ: فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا. (¬3) مُخْتَارُ الصِّحَاحِ (ص165). (¬4) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2596) - بَابٌ فِي الرَّجُلِ يُنَادِي بِالشِّعَارِ -. صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (2596). وَرَوَاهُ البَغَوِيُّ (52/ 11) - بَابُ الشِّعَارِ فِي الحَرْبِ -. (¬5) قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيْبِ الحَدِيْثِ) (809/ 4): (هُوَ أَمْرٌ بِالمَوْتِ، وَالمُرَادُ بِهِ التَّفَاؤُلُ بِالنَّصْرِ بَعْدَ الأَمْرِ بِالإِمَاتَةِ مَعَ حُصُوْلِ الغَرَضِ لِلشِّعَارِ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا هَذِهِ الكَلِمَةَ عَلَامَةً بَيْنَهُمْ يَتَعَارَفُوْنَ بِهَا لِأَجْلِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ). (¬6) صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2597) عَنِ المُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَنْ أَحَدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الصَّحِيْحَةُ (3066).

الشبهة الثانية عشرة) أليس قد استقر عند الخاصة وكثير من العامة ما يسمون بـ (الأبدال)؟! وألم يرد في الشرع ما يشهد لوجودهم؟! فعليه تصح الاستغاثة بهم لقضاء

- الشُّبُهْةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ) أَلَيْسَ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الخَاصَّةِ وَكَثِيْرٍ مِنَ العَامَّةِ مَا يُسَمَّوْنَ بِـ (الأَبْدَالِ)؟! وَأَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ مَا يَشْهَدُ لِوُجُوْدِهِم؟! فَعَلَيْهِ تَصِحُّ الاسْتِغَاثَةُ بِهِم لِقَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ وَكَشْفِ الضُّرِّ وَإِنْزَالِ الرَّحْمَةِ!! الجَوَابُ: 1) أَمَّا مَا يُسَمَّوْنَ بِـ (الأَبْدَالِ) فَلَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي خَبَرِهِم (¬1)، وَأَعْلَى مَا يَصِحُّ فِي ذَلِكَ هُوَ أَثَرٌ مَوْقُوْفٌ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (¬2) قَالَ الشَّيْخُ مُلَّا عَلِي القَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (الأَسْرَارُ المَرْفُوْعَةُ فِي الأَخْبَارِ المَوْضُوْعَةِ): (وَمِنْ ذَلِكَ أَحَادِيْثُ الأَبْدَالِ وَالأَقْطَابِ وَالأَغْوَاثِ وَالنُّقَبَاءِ وَالنُّجَبَاءِ وَالأَوْتَادِ؛ كُلُّهَا بَاطِلَة عَن رَسُوْلِ اللهِ، وَأَقْرَبُ مَا فِيْهَا (لَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ؛ فَإِنَّ فِيْهِمِ البُدَلَاءَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلًا آخَرَ). ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ. (¬3) قُلْتُ (¬4): وَقَدْ وَرَدَتِ الأَحَادِيْثُ وَالآثَارُ مَرْفُوْعَةً وَمَوْقُوفَةً عَلَى الصَّحَابَةِ الأَبْرَارِ وَالتَّابِعِيْنَ الأَخْيَارِ، وَقَدْ جَمَعَهَا السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ سَمَّاهَا (الخَبَرُ الدَّالُ عَلَى وُجُوْدِ القُطُبِ وَالأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالأَبْدَالِ)). (¬5) أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المَوْقُوْفُ - الصَّحِيْحُ - فَهُوَ: (قَامَ رَجُلٌ يَوْمَ صِفِّيْنَ؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِلعَنْ أَهْلَ الشَّامِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: (مَهْ، لَا تَسُبَّ أَهْلَ الشَّامِ جَمًّا غَفِيْرًا؛ فَإِنَّ فِيْهِمُ الأَبْدَالَ)). (¬6) ¬

_ (¬1) قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّبْصِرَةِ) (113/ 2): (وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُ عَدَدِ الأَوْلِيَاءِ فِي أَحَادِيْثَ لا تَصِحُّ). وَقَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (935): (وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيْثَ الأَبْدَالِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَكُلُّهَا مَعْلُوْلَةٌ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ ضَعْفًا مِنْ بَعْضٍ). وَقَالَ أَيْضًا الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّعِيْفَةِ (1479): ((فَائِدَةٌ): نَقَلْتُ أَكْثَرَ أَسَانِيْدِ الأَحَادِيْثِ المُتَقَدِّمَةِ مِنْ رِسَالَةِ السُّيُوْطِيِّ (الخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُوْدِ القُطْبِ وَالأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالأَبْدَالِ)، وَقَدْ حَشَاهَا بِالأَحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ وَالآثَارِ الوَاهِيَةِ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ ضَعْفًا مِنْ بَعْضٍ كَمَا يَدُلُّكَ هَذَا التَّخْرِيْجُ، وَمِنْ عَجِيْبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيْهَا وَلَا حَدِيْثًا وَاحِدًا فِي القُطْبِ المَزْعُوْمِ، وَيُسِمِّيْهِ تَبَعًا لِلصُّوْفِيَّةِ بِالغَوْثِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ أَيَّ حَدِيْثٍ مَرْفُوْعٍ، وَإِنَّمَا هِيَ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ مُخْتَرَعَةٌ عِنْدَ الصُّوْفِيَّةِ - لَا تُعْرَفُ عِنْدَ السَّلَفِ - اللَّهُمَّ إِلَّا اسْمَ البَدَلِ فَهُوَ مَشْهُوْرٌ عِنْدَهُم كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ نَقَلَ السُّيُوْطِيُّ عَنِ اليَافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: (وَقَالَ بَعْضُ العَارِفِيْنَ: وَالقُطْبُ هُوَ الوَاحِدُ المَذْكُوْرُ فِي حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ أَنَّهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيْلَ)! فَنَقُوْلُ: أَثْبِتِ العَرْشَ ثُمَّ انْقُشْ، فَالحَدِيْثُ كَذِبٌ كَمَا سَمِعْتَ عَنِ الذَّهَبِيِّ وَالعَسْقَلَانِيِّ، فَالعَجَبُ مِنَ السُّيُوْطِيِّ - لَا اليَافِعِيِّ - أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ). (¬2) قَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ) (ص45): (وَمِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ هَذَا الحَدِيْثُ (حَدِيْثٌ فِيْهِ ذِكْرُ الأَبْدَالِ) وَيَدُلُّ لِانْتِشَارِهِ بَيْنَ الأَئِمَّةِ قَوْلُ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي بَعْضِهِم: (كُنَّا نَعُدُّهُ مِنَ الأَبْدَالِ)، وَقَوْلُ البُخَارِيِّ فِي غَيْرِهِ: (كَانُوا لَا يَشُكُّوْنَ أَنَّهُ مِنَ الأَبْدَالِ)، وَكَذَا وَصْفُ غَيْرِهِمَا - مِنَ النُّقَّادِ وَالحُفاَّظِ وَالأَئِمَّةِ - غَيْرَ وَاحِدٍ بِأَنَّهُم مِنَ الأَبْدَالِ). (¬3) هَذَا النَّقْلُ هُوَ مِنْ كَلَامِ الإِمَامِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ - كَمَا فِي كِتَابِهِ (المَنَارُ المُنِيْفُ) (ص136) - نَقَلَهُ الشَّيْخُ مُلَّا عَلِي القَارِي رَحِمَهُمَا اللهُ. (¬4) القَائِلُ هُوَ الشَّيْخُ مُلَّا عَلِي القَارِي رَحِمَهُ اللهُ. (¬5) الأَسْرَارُ المَرْفُوْعَةُ فِي الأَخْبَارِ المَوْضُوْعَةِ (ص491). (¬6) صَحِيْحٌ مَوْقُوْفٌ. المُخْتَارَةُ (111/ 2)، وَقَالَ الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ: (وَهُوَ أَوْلَى مِنَ المَرْفُوْعِ). اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثِ الضَّعِيْفَةِ (2994).

2) أَمَّا مَعْنَى الأَبْدَالِ فَهُوَ مِنَ الإِبْدَالِ، وَعَلَى وُفْقِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ النُّصُوْصُ - وَكُلُّهَا ضَعِيْفَةٌ كَمَا سَبَقَ - هُوَ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: أ- أَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ وَاحِدًا آخَرَ. (¬1) ب- أَنَّهُم أَبْدَلُوا السَّيِّئَاتِ مِنْ أَخْلَاقِهِم وَأَعْمَالِهِم وَعَقَائِدِهِم؛ بِحَسَنَاتٍ، فَهُم أَصْلَحُ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَنٍ. (¬2) ج- أَنَّهُم أَبْدَالُ الأَنْبِيَاءِ. 3) أَمَّا مِنْ جِهَةِ جَوَازِ الاسْتِغَاثَةِ بِهِم فِي مَا سَبَقَ مِنَ الكَلَامِ؛ فَيَصِحُّ إِنْ كَانُوا أَحْيَاءً حَاضِرِيْنَ قَادِرِيْنَ؛ يَقُوْمُوْنَ بِأَسْبَابِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيَّةِ - مِنْ سَعْيٍ وَإِنْفَاقٍ وَنُصْحٍ وَإِرْشَادٍ -، أَوْ يَقُوْمُوْنَ بِأَسْبَابِ نَفْعٍ دِيْنِيَّةٍ - مِنْ دُعَاءٍ للهِ وَتَضَرُّعٍ وَتَعْلِيْمٍ لِلشَّرِيْعَةِ - فَيَصِحُّ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُم أَسْبَابٌ (¬3)، وَأَمَّا الاسْتِغَاثَةُ بِهِم - وَهُم أَمْوَاتٌ -؛ وَالتَّعَلُّقِ بِهِم فِيْمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَرُ - مِنْ كَشْفِ الكُرَبِ وَالنَّصْرِ العَامِّ وَشِفَاءِ المَرْضَى وَإِنْزَالِ الغَيْثِ وَالنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ وَ ... - فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ شِرْكِ المُشْرِكِيْنَ حَيْثُ ادَّعَوا فِي شُفَعَائِهِم وَأَوْلِيَائِهِم الصَّالِحِيْنَ أَنَّهُم إِذَا دَعَوْهُم؛ فَإِنَّهُم سَيَدْعُوْنَ اللهَ لَهُم وَيَتَوَسَّطُوْنَ لَهُم عِنْدَ اللهِ، وَهَذَا شِرْكٌ فِي الأُلُوْهِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيْبُ بِهِ مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ} (يُوْنُس:107). (¬4) ¬

_ (¬1) كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خِيَارُ أُمَّتِي فِي كُلِّ قَرْنٍ خَمْسُمِائَةٍ, وَالأَبْدَالُ أَرْبَعُوْنَ, فَلَا الخَمْسُمِائَةَ يَنْقُصُوْنَ وَلَا الأَرْبَعُوْنَ, كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الخَمْسِمِائَةِ مَكَانَهُ, وَأَدْخَلَ مِنَ الأَرْبَعِيْنَ مَكَانَهُمْ) , قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ دُلَّنَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ. قَالَ: (يَعْفُوْنَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ, وَيُحْسِنُوْنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ, وَيَتَوَاسُوْنَ فِيْمَا آتَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). مَوْضُوْعٌ. الحِلْيَةُ (8/ 1). المَوْضُوْعَاتُ لِابْنِ الجَوْزِيِّ (3/ 151)، وَالضَّعِيْفَةُ (935). (¬2) وَقَدْ سَبَقَ فِي الحَاشِيَةِ المَاضِيَةِ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ وَصْفِهِم. وَقَالَ العَجْلُوْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ الخَفَاءِ) (35/ 1): (فَائِدَةٌ: لِلأَبْدَالِ عَلَامَاتٌ، مِنْهَا مَا وَرَدَ فِي حَدِيْثٍ مَرْفُوْعٍ: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ فَهُوَ مِنَ الأَبْدَالِ: الرِّضَى بِالقَضَاءِ، وَالصَّبْرُ عَنِ المَحَارِمِ، وَالغَضَبُ للهِ). مَوْضُوْعٌ. الدَّيْلَمِيُّ فِي الفِرْدَوْسِ (84/ 2) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوْعًا. الضَّعِيْفَةُ (1474). (¬3) كَمَا فِي أَثَرِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ (قِيْلَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ: كَيْفَ بِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيْتُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِكْثَارَ الأُمَمِ فَيَكْثُرُوْنَ, وَيَدْعُوْنَ عَلَى الجَبَابِرَةِ فَيُقْصَمُوْنَ, وَيَسْتَسْقَوْنَ فَيُسْقَوْنَ, وَيَسْأَلُونَ فَتُنْبِتُ لَهُمُ الأَرْضُ, وَيَدْعُوْنَ فَيَدْفَعُ بِهِمْ أَنْوَاعَ البَلَاءِ). مَوْضُوْعٌ. الحِلْيَةُ (9/ 1). الضَّعِيْفَةُ (1479)، وَقَالَ الحَافِظُ السُّيُوْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (اللَّآلِئُ المَصْنُوْعَةُ فِي الأَحَادِيْثِ المَوْضُوْعَةُ) (279/ 2): (فِيْهِ مَجَاهِيْلٌ). وَقَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ) (ص46): (وَقَالَ يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ: (الأَبْدَالُ: هُمْ أَهْلُ العِلْمِ)، وَقَالُ الإِمَامُ أَحْمَدُ: (إِنْ لَمْ يَكُوْنُوا أَصْحَابَ الحَدِيْثِ؛ فَمَنْ هُمْ؟!). (¬4) وَقَدِ اسْتَطَالَ الشِّرْكُ بِبَعْضِهِم حَتَّى جَعَلُوا لِلأَبْدَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوْبِيَّةِ وَمِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَا لَا يَكُوْنُ إِلَّا للهِ تَعَالَى، كَقَوْلِ بَعْضِ المُنْشِدِيْنَ - قَاتَلَهُمُ اللهُ -: (شَيْخ رَسْلَان! يَا حَامِي البَرِّ وَالشَّامِ)، وَاللهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوْهُمْ فَلْيَسْتَجِيْبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ} (الأَعْرَاف:194).

- قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (¬1) وَقَد (سُئِلَ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ الحَدِيْثِ المَرْوِيِّ فِي (الأَبْدَالِ) هَلْ هُوَ صَحِيْحٌ أَمْ مَقْطُوْعٌ؟ وَهَلِ (الأَبْدَالُ) مَخْصُوْصُوْنَ بِالشَّامِ؟ أَمْ حَيْثُ تَكُوْنُ شَعَائِرُ الإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُوْنُ بِهَا الأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَقَالِيْمِ؟ وَهَلْ صَحِيْحٌ أَنَّ الوَلِيَّ يَكُوْنُ قَاعِدًا فِي جَمَاعَةٍ وَيَغِيْبُ جَسَدُهُ؟ وَمَا قَوْلُ السَّادَةِ العُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الأَسْمَاءِ الَّتِيْ تَسَمَّى بِهَا أَقْوَامٌ مِنَ المَنْسُوْبِيْنَ إلَى الدِّيْنِ وَالفَضِيْلَةِ وَيَقُوْلُوْنَ: هَذَا غَوْثُ الأَغْوَاثِ، وَهَذَا قُطْبُ الأَقْطَابِ، وَهَذَا قُطْبُ العَالَمِ، وَهَذَا القُطْبُ الكَبِيْرُ، وَهَذَا خَاتَمُ الأَوْلِيَاءِ)؟ فَأَجَابَ: (أَمَّا الأَسْمَاءُ الدَّائِرَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيْرٍ مِنَ النُّسَّاكِ وَالعَامَّةِ مِثْلُ (الغَوْثِ) الَّذِيْ بِمَكَّةَ وَ (الأَوْتَادِ الأَرْبَعَةِ) وَ (الأَقْطَابِ السَّبْعَةِ) وَ (الأَبْدَالِ الأَرْبَعِيْنَ) وَ (النُّجَبَاءِ الثَّلَاثِمِائَةِ): فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ مَوْجُوْدَةً فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى؛ وَلَا هِيَ أَيْضًا مَأْثُورَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ صَحِيْحٍ وَلَا ضَعِيْفٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الأَبْدَالِ. فَقَدْ رُوِيَ فِيْهِمْ حَدِيْثٌ شَامِيٌّ مُنْقَطِعُ الإِسْنَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوْعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ فِيْهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الشَّامِ - الأَبْدَالَ الأَرْبَعِيْنَ رَجُلًا؛ كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا) وَلَا تُوْجَدُ هَذِهِ الأَسْمَاءُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَمَا هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ؛ وَلَا هِيَ مَأْثُوْرَةٌ عَلَى هَذَا التَّرْتِيْبِ وَالمَعَانِي عَنْ المَشَايِخِ المَقْبُوْلِيْنَ عِنْدَ الأُمَّةِ قَبُوْلًا عَامًّا، وَإِنَّمَا تُوْجَدُ عَلَى هَذِهِ الصُّوْرَةِ عَنْ بَعْضِ المُتَوَسِّطِيْنَ مِنَ المَشَايِخِ؛ وَقَدْ قَالَهَا إمَّا آثِرًا لَهَا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ ذَاكِرًا. وَهَذَا الجِنْسُ وَنَحْوُهُ مِنْ عِلْمِ الدِّيْنِ قَدْ التَبَسَ عِنْدَ أَكْثَرِ المُتَأَخِّرِيْنَ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ، فَصَارَ فِيْهِ مِنَ الحَقِّ مَا يُوْجِبُ قَبُوْلَهُ وَمِنْ البَاطِلِ مَا يُوْجِبُ رَدَّهُ، وَصَارَ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ، قَوْمٌ كَذَّبُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيْهِ مِنَ البَاطِلِ، وَقَوْمٌ صَدَّقُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيْهِ مِنَ الحَقِّ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ التَّصْدِيْقُ بِالحَقِّ وَالتَّكْذِيْبُ بِالبَاطِلِ، وَهَذَا تَحْقِيْقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رُكُوْبِ هَذِهِ الأُمَّةِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الكِتَابَيْنِ لَبَّسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَهَذَا هُوَ التَّبْدِيْلُ وَالتَّحْرِيْفُ الَّذِيْ وَقَعَ فِي دِيْنِهِمْ؛ ....... فَأَمَّا لَفْظُ (الغَوْثِ) وَ (الغِيَاثِ) فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللهُ؛ فَهُوَ غِيَاثُ المُسْتَغِيْثِيْنَ، فَلَا يَجُوْزُ لِأَحَدِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِهِ؛ لَا بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَهْلَ الأَرْضِ يَرْفَعُوْنَ حَوَائِجَهُمْ - الَّتِيْ يَطْلُبُوْنَ بِهَا كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَنُزُوْلَ الرَّحْمَةِ إلَى الثَّلَاثِمِائَةِ؛ وَالثَّلَاثمِائَة إلَى السَّبْعِيْنَ، وَالسَّبْعُونَ إلَى الأَرْبَعِيْنَ، وَالأَرْبَعُوْنَ إلَى السَّبْعَةِ، وَالسَّبْعَةُ إلَى الأَرْبَعَةِ، وَالأَرْبَعَةُ إلَى الغَوْثِ - فَهُوَ كَاذِبٌ ضَالٌّ مُشْرِكٌ، فَقَدْ كَانَ المُشْرِكُوْنَ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُوْنَ إِلَّا إيَّاهُ} (الإِسْرَاء:67)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ} (النَّمْل:62)، فَكَيْفَ يَكُوْنُ المُؤْمِنُوْنَ يَرْفَعُوْنَ إلَيْهِ حَوَائِجَهُمْ بَعْدَهُ بِوَسَائِطَ مِنَ الحِجَابِ؟! وَهُوَ القَائِلُ تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيْبٌ أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيْبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُوْنَ} (البَقَرَة:186) ... وَقَدْ عَلِمَ المُسْلِمُوْنَ كُلُّهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَامَّةُ المُسْلِمِيْنَ وَلَا مَشَايِخُهُمُ المَعْرُوْفُوْنَ يَرْفَعُوْنَ إلَى اللهِ حَوَائِجَهُمْ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا بِهَذِهِ الوَسَائِطِ وَالحِجَابِ، فَتَعَالَى اللهُ عَنْ تَشْبِيْهِهِ بِالمَخْلُوْقِيْنَ مِنَ المُلُوكِ وَسَائِرِ مَا يَقُوْلُهُ الظَّالِمُوْنَ عُلُوًّا كَبِيْرًا، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنْ إمَامٍ مَعْصُوْمٍ يَكُوْنُ حُجَّةَ اللهِ عَلَى المُكَلَّفِيْنَ؛ لَا يَتِمُّ الإِيْمَانُ إِلَّا بِهِ! ثُمَّ مَعَ هَذَا يَقُوْلُوْنَ إنَّهُ كَانَ صَبِيًّا دَخَلَ السِّرْدَابَ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ سَنَة؛ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا يُدْرَكُ لَهُ حِسٌّ وَلَا خَبَرٌ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ يَدَّعُوْنَ هَذِهِ المَرَاتِبَ فِيْهِمْ مُضَاهَاةٌ لِلرَّافِضَةِ مِنْ بَعْضِ الوُجُوْهِ ........ وَأَمَّا الأَوْتَادُ فَقَدْ يُوْجَدُ فِي كَلَامِ البَعْضِ أَنَّهُ يَقُوْلُ: فُلَانٌ مِنَ الأَوْتَادِ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُثَبِّتُ بِهِ الإِيْمَانَ وَالدِّيْنَ فِي قُلُوْبِ مَنْ يَهْدِيْهِمُ اللهُ بِهِ كَمَا يُثَبِّتُ الأَرْضَ بِأَوْتَادِهَا، وَهَذَا المَعْنَى ثَابِتٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ العُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ بِهِ تَثْبِيْتُ العِلْمِ وَالإِيْمَانِ فِي جُمْهُوْرِ النَّاسِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الأَوْتَادِ العَظِيْمَةِ وَالجِبَالِ الكَبِيْرَةِ ..... وَأَمَّا القُطْبُ فَيُوْجَدُ أَيْضًا فِي كَلَامِهِمْ: فُلَانٌ مِنَ الأَقْطَابِ! أَوْ فُلَانٌ قُطْبٌ! فَكُلُّ مَنْ دَارَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنْ أُمُوْرِ الدِّيْنِ أَوِ الدُّنْيَا بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَهُوَ قُطْبُ ذَلِكَ الأَمْرِ وَمَدَارُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ الدَّائِرُ عَلَيْهِ أَمْرَ دَارِهِ أَوْ دَرْبِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ أَوْ مَدِيْنَتِهِ؛ أَمْرَ دِيْنِهَا أَوْ دُنْيَاهَا؛ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا، وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا المَعْنَى بِسَبْعَةٍ وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ؛ لَكِنَّ المَمْدُوْحَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَدَارًا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّيْنِ دُوْنَ مُجَرَّدِ صَلَاحِ الدُّنْيَا؛ فَهَذَا هُوَ القُطْبُ فِي عُرْفِهِمْ، فَقَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الأَعْصَارِ أَنْ يَكُوْنَ شَخْصٌ أَفْضَلَ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي عَصْرٍ آخَرَ أَنْ يَتَكَافَأَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي الفَضْلِ عِنْدَ اللهِ سَوَاءٌ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُوْنَ فِي كُلِّ زَمَانٍ شَخْصٌ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ لَفْظُ (البَدَلِ) جَاءَ فِي كَلَامِ كَثِيْرٍ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الحَدِيْثُ المَرْفُوْعُ؛ فَالأَشْبَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ الإِيْمَانَ كَانَ بِالحِجَازِ وَبِاليَمَنِ قَبْلَ فُتُوْحِ الشَّامِ وَكَانَتِ الشَّامُ وَالعِرَاقُ دَارَ كُفْرٍ ......... وَاَلَّذِيْنَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ البَدَلِ فَسَّرُوْهُ بِمَعَانٍ مِنْهَا: أَنَّهُمْ أَبْدَالُ الأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أُبْدِلُوا السَّيِّئَاتِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ بِحَسَنَاتِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا لَا تَخْتَصُّ بِأَرْبَعِيْنَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ، وَلَا تُحْصَرُ بِأَهْلِ بُقْعَةٍ مِنَ الأَرْضِ؛ وَبِهَذَا التَّحْرِيْرِ يَظْهَرُ المَعْنَى فِي اسْمِ (النُّجَبَاءِ). فَالغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الأَسْمَاءَ تَارَةً تُفَسَّرُ بِمَعَانٍ بَاطِلَةٍ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مِثْلِ تَفْسِيْرِ بَعْضِهِمْ (الغَوْثَ) هُوَ الَّذِيْ يُغِيْثُ اللهُ بِهِ أَهْلَ الأَرْضِ فِي رِزْقِهِمْ وَنَصْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا نَظِيْرُ مَا تَقُوْلُهُ النَّصَارَى ......... وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَّرَ (الأَرْبَعِيْنَ الأَبْدَالَ) بِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يُنْصَرُوْنَ وَيُرْزَقُوْنَ بِهِمْ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ بَلْ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ يَحْصُلُ بِأَسْبَابِ مِنْ آكَدِهَا دُعَاءُ المُؤْمِنِيْنَ وَصِلَاتُهُمْ وَإِخْلَاصُهُمْ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ لَا بِأَرْبَعِيْنَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ ....... وَلَيْسَ فِي أَوْلِيَاءِ اللهِ المُتَّقِيْنَ؛ وَلَا عُبَّادِ اللهِ المُخْلِصِيْنَ الصَّالِحِيْنَ وَلَا أَنْبِيَائِهِ المُرْسَلِيْنَ؛ مَنْ كَانَ غَائِبَ الجَسَدِ دَائِمًا عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ، بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ القَائِلِيْنَ: إنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ! وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الحَنَفِيَّةِ فِي جِبَالِ رضوى! وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ بِسِرْدَابٍ سَامِرِيٍّ! وَإِنَّ الحَاكِمَ بِجَبَلِ مِصْرَ! وَإِنَّ الأَبْدَالَ الأَرْبَعِيْنَ - رِجَالَ الغَيْبِ - بِجَبَلِ لُبْنَانَ!! فَكُلُّ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ وَالبُهْتَانِ. نَعَمْ؛ قَدْ تُخْرَقُ العَادَةُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ فَيَغِيْبُ تَارَةً عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ إمَّا لِدَفْعِ عَدُوٍّ عَنْهُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَكُوْنُ هَكَذَا طُوْلَ عُمْرِهِ فَبَاطِلٌ ..... وَكَذَا لَفْظُ (خَاتَمِ الأَوْلِيَاءِ) لَفْظٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ؛ الحَكِيْمُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ انْتَحَلَهُ طَائِفَةٌ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الأَوْلِيَاءِ؛ كَابْنِ حَموية وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَبَعْضِ الشُّيُوْخِ الضَّالِّيْنَ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا،

تم الكتاب بحوله تعالى وقوته وفضله.

تَمَّ الكِتَابُ بِحَوْلِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَفَضْلِهِ. وَأَخِيْرًا أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى إِجَابَتِي دَعْوَةً كَدَعْوَةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيْمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ يَقُوْمُ الحِسَابُ} (إِبْرَاهِيْم:41). وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ. وَكَتَبَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُوْنُ بْنُ مَحْمُوْدِ بْنِ نَغَوِي آل حَقَوِيُّ

فهرس المصادر والمراجع

فِهْرِسُ المَصَادِرِ وَالمَرَاجِعِ - وُفْقَ التَّرْتِيْبِ الأَبْجَدِيِّ -: - اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ، لِشَيْخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيْمِ بْنِ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّيْنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728هـ)، دَارُ عَالَمِ الكُتُبِ، بَيْرُوْت، بِتَحْقِيْقِ نَاصِر عَبْدِ الكَرِيْمِ العَقل. - الإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَهَادِر الزَّرْكَشِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 794هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيْرُوْت، بِتَحْقِيْقِ د. عِصْمَتُ اللهِ. - الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ عَبْدِ الحَقِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الإِشْبِيْلِيِّ؛ المَعْرُوْفِ بِابْنِ الخَرَّاطِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 581هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيْقِ حُسَيْنِ بْنِ عُكَاشَة. - الاسْتِذْكَارُ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوْسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيْرُوْت، بِتَحْقِيْقِ سَالِم مُحَمَّد عَطَا، وُمُحَمَّد عَلِي مُعَوَّض. - الاسْتِيْعَابُ فِي مَعْرِفَةِ الأَصْحَابِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوْسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463هـ)، دَارُ الجِيْلِ - بَيْرُوْت، بِتَحْقِيْقِ عَلِي البجاوي.

§1/1