التوريث الدعوي

محمد بن موسى الشريف

قال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"

مقدمة

مقدّمَة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه رسالة في التوريث وأهميته في حياة الدعاة إلى الله تعالى، وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع أمور منها: - ندرة الكتابة فيه؛ إذ أني لم أقف على من تكلم في هذه القضية، وقد أخذت على نفسي عهداً بألا أكتب في مواضيع قد طرقت من قبل طرقاً وافياً أو شبه وافٍ، وهذا الموضوع أحسب الكلام فيه جديداً، والله أعلم. - أهمية الموضوع، كما سأوضح إن شاء الله تعالى في ثنايا الكتاب. - تخصُّصه الدقيق؛ إذ أن من أحب الأمور إليّ تناول مثل هذه المواضيع الدقيقة وخدمتها وتجلية جوانبها

المختلفة؛ إذ نحن في عصر تخصص التخصص، والمواضيع الدعوية العامة قد قتلت بحثاً، فينبغي أن يكتب الدعاة في مواضيعَ تفتقر إليها الساحة، هذا وقد مرت الكتابة في الصحوة الإسلامية بأطوار كان منها: - طور إثبات عظمة الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، ودعوة الناس إلى التمسك به والفخر بتعاليمه، وهذا كان في زمان انتشار الإلحاد والمذاهب الوضعية في أوائل القرن الهجري الفائت إلى الربع الأخير منه، وكان ذلك بسبب جملة عوامل لا مجال لذكرها في هذه المقدمة العَجِلة. - طور بيان طرق الدعوة إلى الله تعالى، وتثبيت الدعاة، وطرد الشبهات عن طريقهم، وتحذيرهم من الوقوع في الشهوات، وكانت تلك الكتابات في زمان لاحق للطور الأول لكنه عاصره بعد ذلك. - وكلا الطورين السابقين قد كتب فيهما كتب ورسائل كثيرة جداً، ملأت الساحة الثقافية. - والطور الذي ينبغي الكتابة في شأنه في هذا الزمان هو الطور المخصَّص للدعاة إلى الله تعالى، والذي قد يغفلون عنه في زحمة الدعوة وانشغالهم بها،

ويخاطبون فيها بالارتقاء بطرق الدعوة، وابتكار الوسائل الكفيلة بإحسان القيام عليها، وجعلها محوراً لالتقاء الطاقات وتفعيلها، وأحسب أن هذا المبحث- التوريث - من القضايا الدقيقة التي قد يُغفل عنها كلياً أو جزئياً؛ وهذا هو السبب المهم الذي دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، والذي أرجو أن يكتبه الله تعالى لي حسناتٍ في صحائف أعمالي يوم ألقاه، إنه أكرم مسؤول وأعظم مأمول. وهناك سبب آخر دعاني للكتابة في قضية التوريث هذه وهو ما شاهدته في هذا العقد الأخير من موت كثير من العلماء والدعاة وأهل الفضل والصلاح، الذين عاشوا مجاهدين عاملين، ثم ماتوا ومات مع أكثرهم خبرته وتجربته، ولم يُسجل أي ذكريات أو يترك كتباً يتحدث فيها عن تجربته ودعوته وعلمه، وهذه خسارة عظيمة كبيرة، وسأوضح في ثنايا الرسالة إن شاء الله تعالى سبل تلافي هذا الأمر. هذا وقد كنت صنفت كتاب ((التدريب وأهميته في العمل الإسلامي)) قبل هذه الرسالة بمدة، وهممت أن ألحق به فصولاً في التوريث، ثم رأيت أن أفرد التوريث بالتصنيف لأهميته ولتباين بعض مباحثه عن مباحث التدريب، لكني أقرر هاهنا أنه لا بد لكل داعية إلى الله

تعالى، ولا بد لكل مؤسسة تدعو إلى الله تعالى من هذين الأمرين المهمين: التدريب والتوريث؛ فالتدريب يحافظ على سلامة المسيرة بل يرتقي بها، والتوريث الحسن يضمن استمرار العطاء وتناقله بين الأجيال، والله الموفق. وكتبه العبد الفقير: محمد بن موسى الشريف الموقع على الشبكة: www.altareekh.com البريد الإلكتروني: [email protected]

تمهيد

تمهيد قضية التوريث في العمل الإسلامي والدعوة إلى الله تعالى تعني أن يقدِّم السابق للاَّحق خلاصة تجاربه، وعصارة حياته الدعوية، ليبدأ اللاحق من نقطة انتهاء السابق، فهذه القضية إذاً من أهم القضايا الدعوية على الإطلاق لأنها توفر الجهود، وتسدد المسيرة، ويؤمن معها وبها الزلل والخلل إن شاء الله تعالى. والملاحظ أن الهيئات الإسلامية والتجمعات الدعوية الرسمية منها والشعبية لا تكاد تلتفت إلى هذه القضية المهمة، فتجد المسؤولين يغادرون مواقعهم التي مكثوا فيها سنوات فيأتي مَن لا خبرة له أو صاحب الخبرة الضحلة ليتولى مسؤولية عمل لم يتقنه أو لم يحط به علماً كما ينبغي، وهو إما أن يكون قد شارك في فريق ذلك المسؤول عن العمل أو أنه جديد تماماً، وفي كلتا الحالتين فإنه قد ورث تركة ثقيلة، مدار إدارتها على تعاليمَ شفوية في أكثر

الأحيان ليبدأ طريقاً طويلاً يكاد يكون فيه لا صلة له بمن سبقه. والضعف في قضية التوريث هذه ملحوظ في جوانب كثيرة منها: - المؤسسات الدعوية والخيرية: وذلك كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراكز الدعوية، والمندوبيات التعاونية الدعوية، وجمعيات تحفيظ القرآن، ومكاتب وجمعيات البر وهيئات الإغاثة، إلخ .... وهي كلها لا تكاد تملك من وسائل التوريث الصحيحة إلا مقداراً يسيراً، لا يصح أن يُكتفى به. - تدريس العلوم الشرعية: يلاحظ أنه ليس بين من يُدَرِّسون العلوم الشرعية تنسيق ولا توريث إلا في النادر، فتجد مسجداً من المساجد يدرس الشيخ فيه كتاباً في الفقه مثلاً، ويطول عجبك إذا علمت أن مساجد كثيرة تدرِّس الكتاب نفسه في وقت واحد وفي أمكنة متقاربة؛ إذ يدرِّس من شاء ما شاء بلا تنسيق ولا توريث، ثم إنه قد يفرغ الشيخ من كتابه الذي يدرسه ليبدأ بتدريس الكتاب نفسه مرة أخرى، فلا يعتني بهؤلاء الذين درسوا كتابه لينقلهم إلى مستوى أعلى أو إلى مسجد

آخر، ولا يكاد الشيخ يكلف نفسه النظر في الطلاب ليختار منهم النابهين ليورثهم علمه وخبرته، وهذا مما سأوضحه في ثنايا الكتاب إن شاء الله تعالى (¬1). - النتاج الفكري والثقافي: وقلة التوريث في هذا الجانب ملحوظ إلى حد كبير؛ إذ أن عشرات من المؤلفين يكتبون في موضوع واحد مكرر مطروق، والذي يفترض هو أن يُنظر فيما هو معروض في الأسواق ويُقوّم فإن أغنى فهذا هو المطلوب، وإن لم يُغن فيؤلف بالقدر الذي يحتاج إليه الناس، وبهذا يكمل المؤلفون في تآليفهم بعضهم بعضاً، ويورث السابق للاَّحق المادة المهمة التي يبني عليها اللاحق تأليفه، لكنا لا نجد هذا أبداً إلا في القليل النادر. وكم ألّف السابقون تآليف مهمة أُسدل عليها ستار النسيان وجاء من بعدهم ليكتب في الموضوع نفسه - سواء أعلم أم لم يعلم بالتأليف السابق - وقد يكون تأليف السابق أحسن وأعظم من تأليف اللاحق، لكن المشكلة تكمن في غياب التوريث تماماً، وكم أُلِّفت رسائل علمية في موضوعات مهمة. وقد مضى على هذه التآليف سنون عديدة، ثم يفاجأ الناس بمن يعيد التصنيف في الموضوع ¬

(¬1) انظر المبحث الثاني: النوع الأول.

نفسه. والسبب هو أن المؤلف المتأخر لم يعرف بالتأليف المتقدم، أو أن المصنفات المتقدمة لم تنشر وإنما بقيت مطوية في خزائن النسيان. ومثال على هذا أيضاً أننا نجد من يكتب في قيام الليل فيتبع سبيل من سبقه في التأليف بلا نظر إلى متطلبات العصر الحديث الذي يعيشه، ولا كيف يوفق بين تعقيداته ليخرج بطريقة علمية لتحقيق المطلوب من قيام الليل، وذلك لأن المؤلف اللاحق لم يكلِّف نفسه عناء وراثة السابق وراثة حقيقية نافعة. ولهذا كله كثر الغثاء في السوق الثقافية الفكرية، وكثر الطرح النظري، وقَلّ الطرح العملي المناسب لحال أهل العصر. - قلة الاستفادة من الدعاة والصالحين والعلماء: إذ أن جمهرة كبيرة من الدعاة والصالحين والعلماء يغادرون هذه الحياة بدون أن تستفيد منهم الأجيال في وراثة مفيدة قائمة على أصول علمية واضحة، ولذلك يفقد العالم الإسلامي بهذا كنزاً ثميناً لا يعوّض غالباً إلا أن يشاء الله تعالى، فلو كانت هناك مؤسسات مهمتها استقاء ماعند أولئك الدعاة والعلماء والصالحين وتتبُّع أوضاعهم وتَسقُّط أخبارهم، وتسجيل المهم من خبرتهم وأحوالهم لكان ذلك

أمراً حسناً يدل على عناية الأمة بالخيرة من أبنائها والعظماء منهم (¬1). والعجيب أن الأمم من حولنا - شرقاً وغرباً- تنبهت إلى هذه القضية المهمة في وقت مبكر، وعقدت مجامع، وأسست مراكز، وعملت كل ما في وسعها للاستفادة التامة من علمائها وأعلامها، فلا يغادرون هذه الحياة إلا وقد حصلت الاستفادة التامة من حياتهم غالباً، فحبذا لو التفتنا إلى هذا الأمر المهم، إذ أنَ الجهود المبذولة اليوم لا تكاد تقتصر على مظاهر وشكليات في هذه القضية، نعم هي مهمة لكن لا ترتقي إلى أن تبلغ المستوى المطلوب من الاستفادة والتوريث الحسن، فما الذي سيستفيده المجتمع من حفلات التكريم وجوائزها - على قلتها وندرتها وذهابها لغير أهلها عادة - إذا اكتُفي بذلك ولم يُستفد من أولئك الأعلام الاستفادة الحقيقية. وأشرع الآن في تفصيل ما أردت الحديث فيه، والله المستعان. ¬

(¬1) سأبيِّن إن شاء الله تعالى في ثنايا هذه الرسالة طرقاً للاستفادة من تلك الفئة المهمة من المجتمع، انظر المبحث الثاني: النوع الأول.

المبحث الأول معنى التوريث وتأصيله من الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من المسلمين

المبحث الأول معنى التوريث وتأصيله من الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من المسلمين ويشتمل على أربعة مطالب: - المطلب الأول: التوريث لغة واصطلاحاً. - المطلب الثاني: التوريث في كتاب الله. - المطلب الثالث: التوريث في السنة الشريفة. - المطلب الرابع: عمل الصدر الأول من المسلمين.

المطلب الأول معنى التوريث

المطلب الأول معنى التوريث لغة: وَرِث، يرث وَرْثاً، ووِراثة، ووِراثاً، وتُراثاً، وميراثاً، وإرثاً، وإراثاً. صار ما خلّفه إليه فهو وارث، وهم ورثة ووُرّاث. والمال مَوْرُوث، والأب مَوْرُوث. ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا. وورث ماله ومجده. وورث منه علماً: استفاد. وورّثه: خلّف له مالاً أو مجداً.

والوارث من أسماء الله تعالى: قال تعالى: (ولله مِيرَاثُ السَّمَواتِ والأَرْضِ). والوارثة: أن يحصل للإنسان شيء لا يكون عليه فيه تبعة ولا عليه محاسبة (¬1). اصطلاحاً: والتوريث المقصود في هذا البحث هو ما يتركه السابق للاّحق من خبرة أو تجربة أو لوائح أو طرائق في مجال الدعوة خاصة. ¬

(¬1) " معجم متن اللغة": ورث.

المطلب الثاني التوريث في كتاب الله تعالى

المطلب الثاني التوريث في كتاب الله تعالى قد ذكر الله تعالى في كتابه الوارثة والتوريث مراراً (¬1)، وذلك علامة على أهمية هذه القضية، وقد كان الأنبياء العظام مهتمين بها أيضاً، فمن ذلك قوله تعالى قاصّاً قول زكريا عليه السلام: (وإني خِفْتُ المَوَلىَ مِن وراءى وكَانَتِ امرَأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيِّاً * يَرثُنيِ وَيَرِثُ مِنْءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلهُ رَبِّ رَضِيّاُ*) (¬2) فزكريا عليه السلام يخاف انقطاع النبوة من نسله، ويريد من يرثه: يرث العلم ويرث النبوة، قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: ((صوّر حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه وعرض ما يطلبه: إنه يخشى مَن بعده، يخشاهم ألا يقوموا على تراثه (¬3) بما يرضاه، وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها - وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين- وأهله الذين يرعاهم، ومنهم ¬

(¬1) قرابة ثلاث وثلاثين مرة. (¬2) (سورة مريم: 605). (¬3) أي: ميراثه.

مريم التي كان قيِّماً عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه ... وهو يخشى الموالي (¬1) من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته ... ذلك ما يخشاه، فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه، وتراثه النبوة من آبائه وأجداده ... )) (¬2). وقال الشيخ الإمام ابن كثير (¬3) رحمه الله تعالى: ((وجه خوفه أن خشي أن يتصرفوا بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنوبته وما يوحى إليه فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة وأجلُّ قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حَدُّه أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيجوز ميراثه دونهم، هذا وجه. الثاني: أنه لم يُذكر انه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً، ولا سيما الأنبياء - عليهم السلام - فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا. الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن ¬

(¬1) العصبة من قومه. (¬2) " الظلال" 4/ 2302. (¬3) الشيخ الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي القرشي الدمشقي. توقي سنة 774 رحمه الله تعالى: انظر ترجمنه في "الدرر الكامنة": 1/ 399 - 400.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نورث، ما تركناه فهو صدقة))، وفي رواية عند الترمذي بسند صحيح: ((نحن معشر الأنبياء لا نورث)) وعلى هذا فتعين حمل قوله: ((فهب لي من لدنك ولياً)) يرثني على ميراث النبوة (¬1). ونعى الله تعالى على أقوام يرثون الكتاب بدون فهم ولا تطبيق ولا تدبر، فقال عن بني إسرائيل: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) (¬2). قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: ((صفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه، ولكنهم لم يتكيَّفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم، شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تُدرس وعلم يحفظ، وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه ثم تأولوا وقالوا: سيغفر لنا ... )) (¬3). وقال تعالى: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شكٍ منه مريب) (¬4). ¬

(¬1) " تفسير القرآن العظيم ": 5/ 207. (¬2) سورة الأعراف آية: 169. (¬3) " الظلال ": 3/ 1387. (¬4) سورة الشورى آية: 14.

والله تعالى يبين في كتابه العظيم أن الوراثة والتوريث بأمره ليس من ذلك شيء لأحد من الخلق، فهم ينتظرون مشيئته بتسليم واطمئنان، يقول تعالى قاصّاً قول نبيه موسى عليه السلام لبني إسرائيل: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (¬1) قال الأستاذ سيد رحمه الله تعالى: ((إن الأرض لله، وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها)) (¬2). وقال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (¬3) الذكر هو التوراة، والزبور كتاب نبي الله داود عليه الصلاة والسلام (¬4). وهنا يتحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- حديثاً طويلاً عن هذه الوراثة ومَن يستحقها، وأختار من كلامه قوله: "ما هي هذه الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟ لقد ¬

(¬1) سورة الأعراف آية: 128. (¬2) " الظلال " 3/ 1355. (¬3) سورة الأنبياء آية: 105. (¬4) هناك أقوال غير هذه أنظرها في " تفسير القرآن العظيم ": 5/ 379 - 380.

استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة والبلوغ بها إلى الكمال المقدّر لها في علم الله، ولقد وضع الله للبشر منهجاً متكاملاً للعمل على وفقه في هذه الأرض ... في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود، ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدَّر له في هذه الحياة ... وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة، وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة، وقد يغلب عليها كفار فجَّار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالاً مادياً، ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق، والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح ... وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله وتجري سنته: ((أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)) فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون (¬1). ¬

(¬1) " الظلال ": 4/ 2400، وقد ذكر الإمام ابن كثير قولاً عن السلف أن المراد بالأرض الجنة: أنظر "تفسير القرآن العظيم": 5/ 380، وكلا القولين محتمل وله وجه، والله أعلم.

الصالحون والميراث: ولما سبق أقول: إن الصالح يحرص على أن يُوَرَّث ميراثاً حسناً كما قال تعالى: (ثم أوثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (¬1) فيرث الصلاح والخير والقرآن والدعوة إلى الله تعالى، وهو كذلك يحرص على أن يُوَرِّث العمل الصالح؛ فيدع أولاداً صالحين، وأعمالاً صالحة، وذلك كان مطلباً لنبي الله إبراهيم عليه أفضل الصلاة والتسليم حيث قال: "واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين" (¬2) أي اجعل الآخرين الذين يأتون من بعدي يثنون عليّ ثناءً حسناً ويذكرونني ذكراً عاطراً، فأوتي ذلك عليه أفضل الصلاة والتسلييم كما قال تعالى (وتركنا عليه في الآخرين) (¬3) ثم طلب الوراثة العظمى: (واجعلني من ورثة جنة النعيم) (¬4) فأوتي ذلك عليه الصلاة والسلام، وليس أعظم من أن يترك العبد عملاً صالحاً يوّرثه لمن بعده من الأجيال، فيظل عطر ذكراه باقياً ما بقيت هذه الأرض، ويتردد صدى عمله في جنباتها يرشد العاملين ويهدي السائرين، والله الموفق. ¬

(¬1) سورة فاطر: آية 32. (¬2) سورة الشعراء: 84. (¬3) سورة الصافات. (¬4) سورة الشعراء.

المطلب الثالث التوريث في السنة الشريفة المطهرة

المطلب الثالث التوريث في السنة الشريفة المطهرة قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة أحاديث يمكن أن يستنبط منها قواعد مهمة للتوريث، ويستنبط منها- أيضاً- عنايته الكبيرة بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القضية الخطيرة، فمن تلك القواعد: 1. تناقل العلم فيما بين الصحابة ومَن بعدهم من أجيال المسلمين، أو مَن لم يحضر ما قاله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليبلغ الشاهدُ الغائب؛ فإن الشاهد عسى أن يُبَلِّغ من هو أوعى له منه)) (¬1). وفي معنى هذا الحديث وردت عدة أحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم - لو فد عبد القيس لما أرشدهم إلى بعض أمور دينهم: ((احفظوه وأخبروه مَن وراءكم)) (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب العلم: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رب مبلَّغ أوعى من سامع)) (¬2) المصدر السابق: باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وراءهم.

فهذا التناقل المشار إليه هو نوع من التوريث. ومن ذلك أيضاً ما كان من حال معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث يحدثه النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث فيكتمه - كما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يورثه لمن بعده عندما حانت منيته، فقد حدّثه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو رديفه على الرَّحْل، قال: ((يا معاذُ بنَ جبل)). قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: ((يا معاذ)). قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً). قال: ((ما من أحد يشهد أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)). قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: ((إذاً يتكلوا)) وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً (¬1) 2. الاهتمام بنوعية التوريث وأنه ينبغي أن يكون في الأمور الجامعة المهمة للأمة: ¬

(¬1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب العلم: باب من خَص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا.

ومثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في شأن وراثة الأنبياء: ((إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (¬1). 3. التشجيع على توريث العمل الصالح: فهذا النبي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - يذكر في حديث له قضية يمكن أن تدرج ضمن التشجيع على التوريث، وهي قضية الأعمال الصالحة التي تتناقلها الأجيال بإعجاب ويكون أجرها للعامل الأول، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا يَنقص من أجورهم شيء)) (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الإمام أبو داود والترمذي في كتاب العلم، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده كلهم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي الحديث كلام طويل ألخصه بسَوْق كلام الأستاذ الشيخ البنا إذ قال: ((قال المنذريّ)): ومن هذا الطريق رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحة، والبيهقي في ((الشعب)) وغيرهما ... وروى الحديث أيضاً الحاكم في ((المستدرك)) بإسناد حسن، والنسائي وأبو يعلى، والطبراني في الكبير، وصحيح البخاري بعض طرقه ... )) أنظر ((الفتح الرباني)): 1/ 150. (¬2) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحة: كتاب العلم: باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة.

4. جملة من الأعمال الإدارية للدولة الإسلامية الأولى: هناك عدد من الأعمال التي شرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مبينة لاهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بهذه القضية، فمن ذلك إقراره لمبدأ الشورى لإدارة شؤون الدولة، وكذلك إشارته الواضحة بتولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه من بعده، ومبادئ الحرب التي كان يبينها لهم - صلى الله عليه وسلم - والعلاقات بين الدول، وإقامة الحدود لحفظ الأمن والنفوس، وغير ذلك من القضايا الكثيرة التي سقت أمثلة لها فقط، وإلا فالدين كله توريث على الحقيقة، فكيفية الصلاة والزكاة والحج والصوم والمواريث وغير ذلك هي أنواع من التوريث، لكني إنما ذكرت هاهنا ما نص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توريث أو أشار إليه إشارة واضحة.

المطلب الرابع عمل الصدر الأول من المسلمين ومن بعدهم

المطلب الرابع عمل الصدر الأول من المسلمين ومَن بعدهم كان الصدر الأول من المسلمين يشيع فيهم التوريث في كثير من أمورهم، فهذا كتاب الله تعالى وقد ورثوا عمله خلفاً عن سلف وكابراً عن كابر، وورثوا طريقة قراءته كذلك، وهذه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورثوها بأسانيد متصلة، وقُل الشيء نفسه في الشعر الذي كان ديوانهم، ويتوارثونه جيلاً بعد جيل، وكل ذلك قبل عصر التدوين وانتشار الكتابة والكتب، وهناك بعض الأمثلة المهمة في التوريث كانت منتشرة بينهم، فمن ذلك: 1. المدارس الفقهية: كان الصحابة رضي الله عنهم قد تفرقوا في الأمصار، وكان عند بعضهم علمٌ سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعاه قلبه مع من وعاه، وبعضهم تفرَّد بعلم لم يكن عند الآخرين،

فبثُّوا كل ذلك في الأمصار التي سكنوها، حيث التفّ حول كل واحد من أولئك الأطهار مجموعة من التلاميذ ورثوا علمهم فاستفادوا منه أيَّما استفادة، ومثال على ذلك عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (¬1) الذي استقر في الكوفة، وورث علمه جماعة كثيرة منهم علقمة (¬2) - وهو من أجلِّ تلاميذه- والأسود بن يزيد (¬3) وغيرهما، وورث علم أولئك وغيرهم جماعة منهم إبراهيم النَّخَعي (¬4) وورث علم إبراهيم جماعة أجلّهم حماد بن أبي سليمان (¬5). ¬

(¬1) أبو عبد الرحمن الهذليّ، من كبار علماء الصحابة - رضي الله عنه -، ومن السابقين الأولين. مناقبة جمة توفي سنة 32 بالمدينة - رضي الله عنه -. انظر ((التقريب)): 323. (¬2) علقمة بن قيس بن عبد الله النَّخعي الكوفيّ. ثقة ثبت، فقيه، عابد. مات بعد الستين رحمه الله تعالى: المصدر السابق:397 - انظر التقريب 397. (¬3) الأسود بن يزيد بن قيس النَّخَعي، أبو عمرو. مخضرم. ثقة، مكثر، فقيه. مات سنة 74 أو 75 رحمه الله تعالى: المصدر السابق:111. (¬4) إبراهيم بن يزيد بن قيس النَّخَعي، أبو عمران، الكوفي الفقيه. ثقة. مات سنة 96 وهو ابن خمسين أو نحوها. المصدر السابق: 95. (¬5) العلامة الإمام، فقيه العراق، أبو إسماعيل بن مسلم الكوفي مولى الأشعريين، وأصله من أصبهان. كان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء. له ثروة وحشمة وتجمل. توفي سنة 120 كهلاً رحمة الله تعالى. انظر ترجمتة في ((سير أعلام النبلاء)): 5/ 231 - 239.

ثم جاء الإمام أبو حنيفة (¬1) الذي ورث علم كل أولئك حيث كان تلميذاً لحماد وعليه تفقَّه. وأسس مدرسة للفقه في الكوفة، وما زال تلاميذه يتوارثون علمه إلى يوم الناس هذا. وقل الشيء نفسه في المدارس المختلفة التي نشأت في زمان السلف كالمدرسة المالكية والشافعية والحنبلية. 2. الوصايا: الوصية نوع من أنواع التوريث، حيث يوصي الرجل بما رآه نافعاً وصالحاً، وهي خلاصة تجارب، ومجموعة حكم إن صدرت من حكيم مجرب، والوصية من مثل هذا كنز يحافظ عليه، ويعتنى به. وللوصايا أصل وسلف في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في كتاب الله تعالى قوله جلَّ وعز: (ذالكم وصاكم به لعلكم تذكرون) (¬2). وقال تعالى قاصّاً وصية بعض الأنبياء العظام: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (¬3) (¬4). ¬

(¬1) النعمان بن ثابت الكوفي، أبو حنيفة الإمام. فقيه مشهور. مات رحمه الله تعالى سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة. انظر ((التقريب)):563 (¬2) سورة الأنعام: آية 125. (¬3) سورة البقرة آية 132. (¬4) جاء ذكر الوصايا في كتاب الله تعالى في قرابة ثلاثين موضعاً.

ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - وصى صحابته بأمور مهمة فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) (¬1). ووصى - صلى الله عليه وسلم - على فراش الموت: بـ ((الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)) (¬2). وقد كثر اعتناء المسلمين من بعده - صلى الله عليه وسلم - بالوصايا، وقد جرى عدد من أئمة المسلمين وساداتهم على الوصية التي تحمل خلاصة التجارب والحِكَم، فمن ذلك وصية أبي بكر الصديق لعمر الفاروق رضي الله تعالى عنهما حيث قال له: ((إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصاه بتقوى الله، ثم قال: يا عمر: إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر يا عمر: إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثِقَله عليهم (¬3)، وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه غداً إلا حق أن يكون ثقيلاً. ألم تر يا عمر: إنما خفّت موازين مَن خفّت موازينه ¬

(¬1) حديث مشهور أخرجه الإمام أحمد وغيره رحمهم الله تعالى عن العرباص بن ساريه - رضي الله عنه -، والحديث صحيح أنظر ((الفتح الرباني)) 1/ 188 - 190. (¬2) أخرجه الإمام أحمد عن انس - رضي الله عنه - وأخرجه غيره والحديث صحيح، انظر ((الفتح الرباني)): 21/ 236. (¬3) أي شعورهم بقوته وعظمته ومِن ثم قيامهم به.

يوم القيامة بإتباعهم الباطل وخِفّته عليهم (¬1)، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يكون خفيفاً. ألم تر يا عمر: إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغباً راهباً؛ لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ماليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه (¬2). ألم تر يا عمر: إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم فإذا دكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم - لأنه تجاوز لهم عما كان من سيِّء - فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من أعمالهم (¬3). فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت ولست بمعجزه)) (¬4) (¬5). 3. الاعتناء بعلوم الأمم الأخرى وتوريثها توريثاً صحيحاً: وهذا أعظم ما أسدته الأمة الإسلامية إلى الأمم ¬

(¬1) أي: سهولة إقدامهم عليه. (¬2) كأن المراد: ييأس، والله أعلم. (¬3) أنظر إلى تواضع خير الأمة - رضي الله عنه - بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) ((الكامل)): 2/ 292 - 293. (¬5) وهناك كتاب للإمام أبي حامد الغزالي بعنوان ((أيها الولد)) فيه بعض الوصايا النافعة، فأنظره للاستزادة إن شئت.

الأخرى بعد إرشادها إلى الإسلام وإهدائه إياهم، وذلك أن الفاتحين الأوائل رضي الله عنهم وقفوا على علوم أمم متحضرة مادياً إلى درجة كبيرة، فمن ذلك الحضارة المادية المصرية والآشورية والكلدانية، والفينيقية والرومانية وغير ذلك من الحضارات، فقاموا بنقل كل ذلك تقريباً إلى اللغة العربية فأحسنوا (¬1)، ولم يكتفوا بنقله وتوريثه إلى الحضارة الأوروبية إبان عصر النهضة في الغرب كما يدعي بعض المستشرقين والمستغربين أن المسلمين كانوا جسراً فقط لنقل حضارة الأولين إلى الغرب، بل أضافوا إليه وهذبوه ووضعوا القواعد العلمية للاستفادة مما نقلوه، فبزغت لهم شمس حضارة سطع على الدنيا شعاعها زماناً طويلاً، وكانت على الحقيقة السبب الرئيس لنهضة الغرب التي قامت على أنقاض الحضارة الإسلامية الرائعة التي فرط فيها أهلها تفريطاً بيِّناً، فالمسلمون لم يورِّثوا الأمم الأخرى عقيدتهم الصافية فقط بل ورَّثوهم معها أسباب الحضارة ومفاتيح العلوم، لكن كثيراً من الأمم - لضلالها وبعدها عن أسباب الهداية - اكتفت بأخذ العلوم وقطف ثمارها، وضلّت عن أسباب الهداية والرشاد عصبية وحمية جاهلية، والعياذ بالله. ¬

(¬1) إلا فيما نقلوه من الخرافات العقدية والمعضلات الكلامية الذي أضرََّ بهم ضرراً بالغاً، وفتح عليهم باب شر لم يغلق تماماً إلى الآن.

المبحث الثاني أنواع من التوريث ينبغي الاعتناء بها

المبحث الثاني أنواع من التوريث ينبغي الاعتناء بها 1. لقاء الدعاة والعلماء والصالحين. 2. كتب الذكريات أو المذكرات. 3. اللوائح. 4. الاعتناء بمؤلفات الدعاة الأوائل. هناك أنواع من التوريث يحسن إظهارها والاعتناء بها حتى تتم الاستفادة منها، ولأجل أن تتناقلها الأجيال تناقلاً حسناً، وجيل اليوم - بل المسلمون منذ أجيال- مقصِّرون في الاعتناء بها وتوريثها لمن بعدهم توريثاً حسناً، وهذه مشكلة من المشكلات الكبيرة في مجتمعاتنا الإسلامية عامة، وفي البيئات الدعوية الشرعية خاصة، وفي تقديري أنه إذا أُحسن التعامل معها ووضعت الحلول الناجحة لها فإن مردود ذلك سيكون ضخماً رائعاً جليلاً، فمن هذه الأنواع:

النوع الأول لقاء الدعاة والعلماء والصالحين

النوع الأول لقاء الدعاة والعلماء والصالحين إن من أعظم طرق التوريث المخالطةَ المباشرة مع الدعاة والعلماء العاملين والصالحين، فإن أكثر هؤلاء لم يترك مذكرات، ولم يورث كتباً ولا رسائل ولا تجارب مكتوبة، فإن ماتوا ماتت معهم تجاربهم وعلومهم إلا من شاء الله تعالى أن يبقي له ميراثاً تتناقله الأجيال. وسبيل تعويض ذلك هو الاستفادة من أولئك العظماء في حياتهم، والمكوث معهم والأخذ منهم، فهذه وراثتهم، ولقد حرص السلف على ذلك حرصاً عظيماً فضربوا بذلك أحسن الأمثلة في اعتنائهم بعلمائهم الأحياء وأخذ ما عندهم من العلم؛ فهذا الإمام مالك بن أنس (¬1) - إمام دار الهجرة- يقول: ¬

(¬1) مالك بن أنس بن مالك، شيخ الإسلام، الحميريّ ثم الأصبحيّ المدني. أحد الأئمة الأربعة الفقهاء. توفي سنة 179 عن 89 سنة رحمه الله تعالى. انظر ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)): 8/ 48 - 135.

((كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه)) (¬1)، فلتتصور هذا أيها القارئ ولتعجب طويلاً من أولئك العظماء. وهذا مهدي بن حسان (¬2) يقول: ((كان عبد الرحمن بن مهدي (¬3) يكون عند سفيان (¬4) عشرة أيام وخمسة عشر يوماً بالليل والنهار، فإذا جاءنا ساعة جاء رسول سفيان في أثره يطلبه، فيدعنا ويذهب إليه)) (¬5) فهذا حرص عظيم من الطالب والأستاذ معاً رحمهما الله تعالى. وكان العلماء يعرفون أهمية هذا الأمر، فربما خصُّوا بعض طلبتهم بوراثة علمهم أو أن الطالب قد نبغ بين طلاب شيخه فعرف وخُصّ به؛ وهذا كان حال جماعة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى، أذكر منهم: ¬

(¬1) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 736. (¬2) هذا والد عبد الرحمن بن مهدي، الآتية ترجمته. (¬3) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري الأزدي بالولاء البصري اللؤلؤي. ولد سنة 135، وكان إماما حجة قدوة في العلم والعمل. توفي بالبصرة سنة 198 رحمة الله تعالى انظر ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)): 9/ 192 - 209. (¬4) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، إمام الحفاظ، وسيد العلماء العاملين في زمانه. توفي سنة161 رحمه الله تعالى عن أربع وستين سنة. انظر ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)): 7/ 229 - 279. (¬5) ((نزهة الفضلاء)) 2/ 817 - 818.

1 - حبر الأمة عبد الله بن عباس وبعض طلبته الذين اصطفاهم: وكانوا جماعة اشتهروا بالأخذ عنه والاختصاص به، فمنهم: مجاهد بن جََبْر المكي (¬1)، وقتادة بن دِعامة السَّدوسيّ (¬2)، وقد ورّث أولئك الطلبة عمله حتى أن مجاهداً قرأ عليه القرآن ثلاث مرات من فاتحته إلى خاتمته يسأله عنه، فقد قال رحمه الله تعالى: ((قرأت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت)) (¬3). 2 - شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) وتلميذه الحافظ ابن القيم (¬5): ¬

(¬1) أبو الحجاج المخزومي بالولاء، ثقة إمام في التفسير وفي العلم، مات سنة مائة ونيف وله 83 سنة. انظر ((التقريب)): 520. (¬2) أبو الخطاب البصري. ثقة ثبت. مات سنة بضع عشرة ومائة. انظر المصدر السابق: 453. (¬3) انظر ((تهذيب التهذيب)): 10/ 40. (¬4) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، يُدعى لجدته تيميّة. أحد أئمة المسلمين المجتهدين. توفي - رحمة الله تعالى- سنة 728 بدمشق مسجوناً بعد أن خلف علماً كثيراً ومصنفات عديدة. انظر ((الدرر الكامنة)): 1/ 154 - 170. (¬5) محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرَعي الدمشقي، شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبليّ. ولد سنة 691، وكان جريء الجنان، واسع العلم، غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله بل ينتصر له في جميع ذلك. توفي سنة 751 بدمشق رحمة الله تعالى. انظر المصدر السابق: 4/ 21 - 23.

هذا وقد عرف القاصي والداني شدة تعلق ابن القيم بابن تيمية رحمهما الله تعالى، وشدة اختصاصه به وانتصاره له، رحمهما الله تعالى، وكان ذلك ناتجاً عن المعاشرة الطويلة والقرب من الأستاذ. 3 - شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني (¬1) وتلميذه الحافظ السخاوي (¬2): وتعلق السخاوي بشيخه معلوم، حتى أنه وضع له ¬

(¬1) أحمد بن علي بن محمد، الأستاذ، أبو الفضل الكناني العسقلاني المصري الشافعيّ. ويعرف بـ (ابن حجر) وهو لقب لبعض أبائه. ولد سنة 773 بمصر العتيقة، ونشأ بها يتيماً. وحفظ بعض المنظومات، وأخذ على كثير من المشايخ، وجَدّ في الفنون حتى بلغ الغاية. وولي بعض وظائف الدولة من حسبة وقضاء وإمامة. وله العديد من المصنفات النافعة المشهورة. توفي - رحمة الله تعالى- سنة 852. انظر ((الضوء اللامع)): 2/ 36 - 40. (¬2) الشيخ الإمام الحافظ الرُّحلة أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاويّ القاهري الشافعي، ولد سنة 831. حفظ القرآن وهو صغير وحفظ عدة متون وعرضها على مشايخ عصره. اختص بشيخ الإسلام ابن حجر، وكان يحبه ويثنى عليه. توفي رحمة الله تعالى بالمدينة مجاوراً سنة 902 وقد خلف مصنفات كثيرة. انظر ((النور السافر)): 16 - 21.

ترجمة حافة سماها ((الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر)) (¬1)، وكان ابن حجر يتفرّس في تلميذه السخاوي خيراً ويخصه بأشياء، وكان السخاوي من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر (¬2) وكان الحافظ ابن حجر يعلم شدة حرص تلميذه فيقابل حرصه بحرص أيضاً على تعليمه، ((فكان يرسل خلفه أحياناً بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة)) (¬3). هذا فيما يتعلَّق بالعلماء مع طلبتهم، أما الدعاة فقد حرص كثير منهم على توريث دعوته لغيره من الناس باللقاء معهم، وإفادتهم من تجاربه، وتوريثهم من علمه وفنِّه، وكان منهم من يخص بعض طلبته بمزيد من الاعتناء والتوجيه، وذلك متضح في سير بعض الدعاة، منهم: 1 - جمال الدين الأفغاني (¬4) وتلميذه الأستاذ محمد ¬

(¬1) وهي مطبوعة متداولة. (¬2) ((الضوء اللامع)): 4/ 6. (¬3) المصدر السابق. (¬4) محمد بن صَفْدر - أو صَفْتر- الحسيني، جمال الدين، الفيلسوف. ولد في أسعد آباد بأفغانستان سنة 1254، ونشأ بكابل، وتلقى العلوم العقلية والنقلية، وبرع في الرياضيات. وارتحل مراراً، وساءت علاقته بالدولة العثمانية، وقصد مصر فتتلمذ له كثيرون، وصار لدعوته ضجة فيها، فنفته الحكومة المصرية، ثم عاود الارتحال الطويل. وكان عارفاً بعدة لغات، وله بعض المصنفات القليلة، وهو ممن اختلفت فيه الأنظار توثيقاً وتضعيفاً. توفي سنة 1315 رحمة الله تعالى، وانظر ((الأعلام)): 6/ 168 - 169.

عبده (¬1). 2 - الأستاذ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا (¬2). ¬

(¬1) محمد عبده بن حسن خير الله، من آل التركماني، مفتي الديار المصرية، ومن كبار رجال التجديد في الإسلام. ولد في إحدى قرى الغربية بمصر سنة 1266، وتعلم بالجامع الأحمدي بطنطا ثم بالأزهر، ثم تصوَّف وتفلسف، وعمل في التعليم وكتب في الصحف، وتولى تحرير جريدة الوقائع المصرية، وأجاد اللغة الفرنسية بعد الأربعين. ولما احتل الإنكليز مصر ناوأهم فسجن ثم نفي سنة 1299، وسافر إلى باريس فأنشأ مع أستاذه جمال الدين الأفغاني جريدة ((العروة الوثقى)) وعاد إلى بيروت فمصر سنة 1306، فتولى منصب القضاء، ثم جعل مستشاراً في محكمة الاستئناف ثم مفتياً للديار المصرية سنة 1317 فاستمر إلى أن توفي بالإسكندرية سنة 1323 رحمة الله تعالى، له عدة مصنفات. انظر المصدر السابق: 6/ 252 - 253. (¬2) القلموني البغدادي الأصل الحسيني النسب، أحد رجال الإصلاح. ولد سنة 1282 في القَلَمون من أعمال طرابلس الشام، وتعلم فيها وفي طرابلس. رحل إلى مصر سنة 1315 فلازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له ثم أصدر مجلة المنار لبثَّ آرائه الإصلاحية، وأصبح مرجع الفتيا. ارتحل إلى الشام والهند والحجاز وأوروبا ثم عاد فاستقر في مصر التي توفي بها سنة 1354 رحمة الله تعالى. له عدد من المصنفات النافعة. انظر المصدر السابق: 6/ 126.

3 - الشيخ محمد محمود الصواف (¬1) وأستاذه أمجد الزهاوي (¬2). ¬

(¬1) داعية إسلامي مناضل. ولد بالموصل سنة 1333 وتعلم بها وبالأزهر، وعمل بالتدريس في كلية الشريعة بجامعة بغداد، وشارك في الجهاد ضد الإنكليز. وأسس جمعية إنقاذ فلسطين بالعراق، وجمعية الأخوة الإسلامية، وكان المراقب العام للإخوان المسلمين بالعراق. هرب من العراق إلى الشام بعد ثورة الشيوعيين الذين هاجموا مقر مجلة لواء الأخوة الإسلامية التي أنشأها، وحطموا المطبعة وبدَّدوا المكتبة، ومن الشام خرج إلى السعودية التي عمل فيها في مناصب كان أرفعها ما كان مع الملك فيصل رحمة الله تعالى. له عدد من المصنفات. توفي سنة 1413 رحمة الله تعالى. انظر ((ذيل الأعلام)): 200 - 201. (¬2) أحد كبار علماء العراق. ولد في العراق وتعلم فيه، وكان رجلاً ربانياً ورعاً، ذكياً، فقيهاً مجتهداً بارزاً، عمل بدأب طيلة حياته لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأسس جمعية إنقاذ فلسطين وعدة جمعيات أخرى للتربية ونشر الثقافة الإسلامية. ارتحل من أجل ما حدث في فلسطين مراراً على شيخوخته، وكان لسانه لا يفتر عن ذكر الله تعالى. توفي سنة 1387 رحمة الله تعالى. انظر ((الموسوعة الحركية)): 1/ 137 - 138.

وعلاقة هؤلاء الثلاثة بمشايخهم وثيقة إلى حد كبير جداً، ولقد ورثوا منهجهم وطريقتهم في الدعوة، وكان للمشايخ أثر كبير في حياة التلاميذ الأعلام، وهذه العلاقة ينبغي أن تكون منهجاً يُسار عليه ويُصار إليه، ونبرات يضيء لنا الطريق إلى الاستفادة من كبار العلماء والدعاة الأحياء حتى لا يأتيهم الأجل إلا وقد وُرِثوا وراثة حقيقية نافعة (¬1). ¬

(¬1) هناك عدد من التلامذة اختصوا بمشايخهم وعرفوا بهم إضافة إلى هؤلاء، ومنهم: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وتلميذه الشيخ عطية محمد سالم رحمهما الله تعالى وغفر لهما، وكذلك الشيخ حافظ الحكمي مع شيخه الشيخ عبد الله القرعاويّ، وغيرهم كثر رحمهم الله تعالى جميعاً.

النوع الثاني كتب الذكريات أو المذكرات

النوع الثاني كتب الذكريات أو المذكرات من المصادر الثرية بالتجارب التي تستحق الاعتناء بالتوريث وتوقيف الأجيال عليها كتب الذكريات أو المذكرات، وذلك لأن أصحابها سطَّروا فيها عصارة تجربتهم وخلاصة حياتهم، بعد أن خبروا الحياة وخبرتهم، وعاركوها وعركتهم، وواجهوا مواقف كثيرة خرجوا منها بنجاح أو فشل، وبلوا الناس وعرفوهم، فجاءت تلك الكتب على ما يشتهي القارئ ويحب غالباً (¬1). والمذكرات في كل المجتمعات والبيئات ثروة طائلة يعتنى بها وتبرز وتدرس، بل إنها تكون محطَّ أنظار الباحثين الاجتماعيين والناظرين المتدبرين في أحوال وسنن الحياة، والمؤرخين الذين يربطون بتأريخهم الماضي ¬

(¬1) إنما مرادي من كتب الذكريات ما كان منها لعظماء علماء ودعاة الإسلام، أما غيرهم ممن تخبط طويلاً وضل وأضل كثيراً فيُتخير منها بحذر ودقة ما كان نافعاً ويُنبذ ما سوى ذلك، والله أعلم.

بالحاضر والذاهب بالآتي، وبعض عظماء الرجال والنساء في الغرب يراودون لكتابة مذكراتهم بالملايين الطائلة، وما ذلك إلا لمعرفة دور النشر بالأهمية البالغة التي تمثلها هذه المذكرات، وإقبال الناس عليها إقبالاً منقطع النظير. هذا وإنه في ديارنا العربية قصور كبير في التعامل مع المذكرات كتابة وقراءة، أما القراءة فلانصراف أكثر الناس عن قراءة كل نافع مفيد في المجالات الأدبية والاجتماعية والتاريخية والدعوية وغيرها، وأما كتابة الذكريات والمذكرات فإن أكثر العظماء عندنا - وما أكثرهم مقارنة بغيرنا من الأمم والشعوب- منصرفون عن هذه الكتابة لسبب أو لآخر، فيموت الواحد منهم عندما يموت وقد خلَّف حسرة في النفوس من ضياع تجارب كثيرة تناقلتها الألسن والأذهان ثم أصبحت في طيِّ النسيان كلها أو أكثرها، نعم إن بعض العظماء لا يتمكن من كتابة مذكراته لأنه غير آمن أن يؤاخذ بسببها، لكن ما لا يدرك جُلُّه لا يترك كله، ويمكن لكاتب الذكريات أن يكتب قدراً كبيراً من تجاربه من غير حرج ولا قلق (¬1). والذي ينبغي على كل من يظن أن عنده تجارب تستحق الكتابة والنظر فيها ألا يتردد في كتابتها ولا يحقرنّها ¬

(¬1) انظر المبحث الثالث، العقبة الثالثة؛ ففيها شيء من التفصيل.

فتذهب أدراج الرياح، وما أحسن ما قاله الأديب الدكتور إحسان عباس (¬1) عندما قال: ((فاتحني عدد غير قليل من الأصدقاء في أن أكتب سيرتي الذاتية، فأخذ اقتراحهم يمثل هاجساً يدور في نفسي ويستثير ذاكرتي، ولذا توجهت إلى أخي بكر عباس أسأله رأيه في الأمر، فكان جوابه المباشر أن قال: لا أنصحك بذلك؛ لأن حياتك تخلو أو تكاد من أحداث بارزة تثير اهتمام القارئ وتطلعاته، كان ما قاله أخي وصديقي بكر صحيحاً، فأنا أعرف أنني لم أشارك في أحداث سياسية، ولم أتولّ مناصب إدارية، ولم أكن عضواً في حزب، ولم أكن مسؤولاً عن مشروعات اقتصادية، إلى آخر ما هنالك من نشاطات تعرِّض الفرد للمسؤوليات الاجتماعية والوظيفية، وعلى الرغم من ذلك كله وجدتني أميل إلى كتابة سيرتي - ومنهجي فيها التزام الصدق فيما أسرده- لا لأن ما أكتبه تاريخ مهم، بل لأنه يمثل تجربة إنسان حاول في كل خطواته أن يخلص للعلم بصدق ومحبة ... )) (¬2). هذا وهناك بعضٌ من الناس لا ترقى ذكرياتهم إلى أن تنشر على الناس لخصوصيتها المطلقة أو لضعفها النسبي أو ¬

(¬1) أحد المحققين الكبار للتراث، وهو مشهور في الأوساط الأدبية، معاصر، باق. (¬2) ((غربة الراعي)): 5 - 6.

لغير ذلك، فمثل هؤلاء يصح لهم أن يكتبوا ذكرياتهم لأنفسهم أو لأولادهم وأحفادهم، قال الأستاذ علي الطنطاوي- رحمه الله تعالى- في ذكرياته: ((أوصي كل قارئ لهذه الفصول أن يتَّخذ له دفتراً يدوِّن فيه كل عشية ما رأى في يومه، لا أن يكتب ماذا طبخ وماذا أكل، ولا كم ربح وكم أنفق، فما أريد قائمة مطعم ولا حساب مصرف، بل أريد أن يسجل ما خطر على باله من أفكار وما اعتلج في نفسه من عواطف، وأثر ما رأى أو سمع في نفسه، لا ليطبعها وينشرها فما كلُّ الناس من أهل الأدب والكتابة والنشر ولكن ليجد فيها يوماً نفسه التي فقدها)) (¬1). لكن قد تساوي ذكريات بعض الدعاة ممن ليست له دُربة أدبية ولا لغة راقية ذكريات جماعة كبيرة من الأدباء من حيث قيمتها وأهميتها، فيمكن للأخ الداعية أن يسطرها للنشر بلغة مقبولة على الأقل مرتفعة عن الخطاب السوقي العامي، وسيعوض غزارة ما فيها من ذكريات مهمة النقص في الأسلوب أو الركاكة في بعض الجُمل، والله أعلم (¬2). والذي ينبغي على كل من انصرفت همته لكتابة ذكرياته ونشرها الآتي: 1 - التعجيل بكتابتها قبل الهرم والشيخوخة، فإن المرء ¬

(¬1) ((ذكريات)): 9. (¬2) انظر رقم 4 الآتي.

الهرم يملُّ ويكلُّ، وينسى كثيراً من الأمور المهمة التي مرّت عليه في حياته، وقد تسقط من ذاكرته للأبد، فالقيد هنا بالتبكير بالكتابة مهم، وما أصدق ما قاله الأستاذ علي الطنطاوي -رحمه الله تعالى- عندما كتب ذكرياته في حال شيخوخته: ((لم أجد عندي شيئاً مكتوباً أرجع عند تدوين الذكريات إليه وأعتمد عليه، وما استودعتُ الذاكرة ضعفت الذاكرة عن حفظه، وعجزت عن تذكُّره، لذلك أجّلت وما طلت، وحاولت الهرب من غير إبداء السبب)) (¬1). وقال أيضاً: ((وليس لدي أوراق مكتوبة أدوِّن فيها الحادثة عند حدوثها وأصف أثرها في نفسي، وهذا تفريط كان مني لم يعد إلى تداركه من سبيل)) (¬2). وقال أيضاً: ((كنت أغرف من بحر وأنا اليوم أنحت في الصخر، كان الفكر شاباً فشاخ ... كان قلمي يجري على القرطاس كفرس السباق لا أستطيع أن أجاريه فأمسى كالحصان العجوز أجرُّه فلا يكاد يُجَر، كانت المعاني حاضرة والقلم مستعداً ... )) (¬3). وقال الأستاذ إحسان عباس: ¬

(¬1) ((ذكريات)): 1/ 5. (¬2) المصدر السابق: 1/ 9. (¬3) المصدر السابق: 1/ 16.

((إن كان هناك من عيب في الإقدام على كتابة مثل هذه السيرة فذلك هو أنها تأخرت في الزمن، وكان من الحق أن أكتبها قبل حلول الشيخوخة وامتلاء النفس بألوان من المرارة والخيبة)) (¬1). وهناك علاج ناجح لتذكر عدد من الوقائع التي أصبحت طيّ النسيان ألا وهو أن يجتمع مدون ذكرياته بمجموعة تذكره ما نسيه، وتطرح عليه أسئلة مناسبة لتجعله يتذكر ما أغلفه وأهمله، فتسأله عن أشخاص محددين أو قضايا محددة، وهذا مفيد مجرب. 2 - تسطير الوقائع كما وقعت مع التعليق عليها بما هو مناسب للمقام حتى تكتمل الفائدة المرجوّة من إيرادها، فإن بعض الوقائع لا يكاد القارئ يفقه المراد من تسطيرها أو يجهل سبب وقوعها، أو لا يدرك خلفيات الأحداث ومجرياتها، لذلك لا بد من كتابة الوقائع مع التعليق المناسب، واستخلاص العبر والعظات مما جرى، فإن ذكريات الدعاة ليست كغيرها من الذكريات. 3 - التدرج في كتابة الذكريات: إذا أن أكثر ما يصد الناس عن كتابة ذكرياتهم ضخامة ما فيها من معلومات وتفاصيل، فإذا نظر إلى شريط حياته وتدبَّره فإنه سيوقن بعظم ماهو مقبل عليه، ومثل هذا قد ¬

(¬1) ((غربة الراعي)): 7.

ينصرف كلياً عن كتابة أي شيء، خاصة إن كان في زمان الشيخوخة أو حولها، وبعضهم قد يكتفي بكتابة شيء يسير يضيع على الناس معه كنوز عظيمة، فعلاج مثل هذا أن يشجع على الكتابة ولو نصف ساعة كل يوم، أو أن يجمع له بعض الطلبة النابهين يسجلون له ما يقول في جلسات متعددة طويلة، ويحفزون ذاكرته بما يلقونه عليه من أسئلة، وهذا مجرَّب نافع لا شك، وكم من ممتنع عن كتابة ذكرياته سَلُس قياده بمثل هذه الأفكار، وليُعلم أن هؤلاء كنز للأجيال اللاحقة، فليحرص عليهم وليُتخير منهم من عظمت قيمة ذكرياته بعظيم ما ورد فيها من أحداث. 4 - كتابتها بالأسلوب الأدبي المناسب، فإن بعض الأشخاص المتعرضين لكتابة الذكريات لا يرقى أسلوبهم إلى أن يكون جذاباً مشوِّقاً، وقد ينصرف القارئ تماماً عن الكتاب بسبب هذا، لذلك ينبغي الاعتناء بطريقة الكتابة اعتناء مناسباً، وحبذا لو سُوعِد من كان لا يستطيع تسطير ذكرياته على وجه مناسب بشخص يصوغ له الأحداث بأسلوب جيد مناسب. 5 - عدم إيراد ما يؤذي الآخرين، فإن الأحداث ليست ملكاً لصاحب الذكريات فقط بل هي له ولغيره، فلا يورد شيئاُ يرى أنه يضرُّ الآخرين بوجه أو بآخر، وإن فعل فليغفل الأسماء، وليبتعد بالسياق عما يمكن أن يعرف منه أسماء الأشخاص مما يجرُّ إليهم الأذى أو الحرج، فإن

ذلك لا يجوز، وهو من خوارم المروءة. 6 - عدم الاستطراد إلا بقدر، والإيجاز في إيراد الأحداث، فإن أهل هذا العصر لا يحتملون التطويل، ولا يقبلون على القراءة إقبال القدامى عليها، فالإطناب يحرم القراء من الثروات التي في الذكريات، كما أن الإيجاز يرغّبهم في قراءة الذكريات والإقبال عليها. 7 - وينبغي أن يُعلم أنه بقدر ما تسطر في الذكريات من مهمات الوقائع سيكون الإقبال عليها والاستفادة منها، فليحرص كل كاتب لذكرياته أن يجتهد في كتابة ما ينفع العامة، لا أن يجعلها ميداناً للحديث عن نفسه والفخر بما صنع، ولا بأس في الحديث عن نفسه بقدر لكن لا يجعلها كأنها كانت محوراً للأحداث، والصانعة لها، فإن الحديث عن النفس ثقيل، فليخفف منه كل من كتب ذكرياته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) ومن كتب المذكرات المهمة المتعلقة بالدعوة إلى الله تعالى كتاب ((مذكرات الدعوة والداعية)) للإمام حسن البنا، وكتاب ((من سجل ذكرياتي)) للشيخ محمد محمود الصواف، وأجزاء من كلام الشيخ علي الطنطاوي في ((ذكرياتي))، وبعض أجزاء من كلام الشيخ الندوي في كتابه ((في مسيرة الحياة)) وكتاب ((مذكرات سائح في الشرق العربي)) له أيضاً، وكتاب ((ذكريات لا مذكرات)) للأستاذ عمر التلمساني، وغير ذلك من الكتب.

النوع الثالث اللوائح

النوع الثالث اللوائح (¬1) اللوائح تضبط قضية التوريث أيما ضبط، وتنقل للأجيال الخبرة على وجه ليس فيه إفراط ولا تفريط، وقضية اللوائح والاعتناء بها قضية مهملة في المؤسسات الدعوية إلا قليلاً منها، وذلك في المؤسسات الحكومية والشعبية وإن كانت الحكومية أحسن حالاً من أختها قليلاً، فتجد تلك المؤسسات والهيئات إذا تغير موظَّفوها أو مسؤولوها فإن مَن يأتي بعدهم يبدأ من المكان الذي ابتدأ من سلفه، ويقع في الأخطاء نفسها التي وقع فيها مَن قبله، وذلك في مجالات التوظيف، وإدارة الأعمال، والتعامل مع الآخرين، ووضع الخطط، إلخ .... ¬

(¬1) اللوائح هي ما تضعه الإدارات المختلفة من ضوابط وقرارات لإدارة العمل على وجه يضمن حسن السير وكمال النتائج، وجاء في ((المعجم الوسيط)): لوح: اللائحة: مجموعة من المواد توضع لتنظيم العمل في هيئة، أو مؤسسة.

فينبغي إذاً على كل من كان على رأس هذه المؤسسات أن يعتني كل الاعتناء بأن يستفيد من جهود من قبله ولو لم تكن على هيئة لوائح مكتوبة منضبطة، ثم يجتهد في وضع اللوائح التي تضبط عمل مؤسسته في جميع المجالات، وليورث ذلك لمن يجيء بعده؛ فإن العمل الدعوي لن يرتقي إلا على أمثال هذا الصنيع أو ما يقاربه. ولأضرب المثل على ما قلت فإني أذكر الواقعة التالية: طلب أحد المسؤولين عن إحدى المؤسسات التعليمية في دولة آسيوية خطة متكاملة عن قضية التعامل مع مؤسسة أخرى، فلما وضعت هذه الخطة بعد جهد جهيد تذكر أحد أفراد المؤسسة أن هناك خطة وضعت في عهد المدير السابق، فبحثوا عنها طويلاً فلم يجدوها، وهذا التفريط من قبل المسؤولين في الاحتفاظ بالخطة السابقة أدّى إلى تضييع جهود الفريقين اللذين وضعا الخطة: السابق واللاحق، وأدّى أيضاً إلى عدم معرفة الحال الذي كتبت فيه الخطة السابقة لبناء الخطة الحالية عليها، وإذا أريد معرفة مكمن الخلل فسيتضح في أنه ليست لتلك المؤسسة اللوائح اللازمة للتوريث، فلم يدر المسؤول اللاحق مجالات عمل الإدارة السابقة ولا ما

اعتنت به أو أهملته؛ إذ ليس هناك مرجع على الإطلاق يمكنه من الإحاطة بأعمال من سبقه. وينبغي أن يُعلَم أن قضية التوريث مرتبطة ارتباطاً عظيماً بقضية مهمة ألا وهي قضية الاعتناء بمؤلفات الدعاة الأوائل.

النوع الرابع الاعتناء بمؤلفات الدعاة الأوائل

النوع الرابع الاعتناء بمؤلفات الدعاة الأوائل الدعاة عندما يكتبون إنما يضعون عصارة تجاربهم في مؤلفاتهم، ويقصُّون على الأجيال قصة كفاحهم، وعملهم في دعوتهم، أو يبينون لهم كيف يخطون الخطى الواثقة لاستعادة المجد لأمتهم، والملاحظ أن كثيراً من شباب الدعاة قد انصرف كلياً أو جزئياً عن مؤلفات أولئك الأئمة، وأن عدداً كبيراً من هؤلاء يجهل حتى أسماء تلك الكتب، أو أنه قد اطلع عليها منذ سنوات طويلة خلت فلم يعد يتذكر ما سطَّروه فيها، صحيحٌ أن هنالك كتباً كتبت في ظروف معينه ولم تعد ملائمة لهذا العصر إلا من باب التأريخ للدعوة، كالكتب التي ردَّت على المذاهب الشيوعية والاشتراكية والوجودية والقومية العربية، وغيرها من الكتب التي كانت نافعة في زمنها لدعاة ذلك العصر الغابر الذي أنقذنا الله تعالى منه، لكن أكثر الكتب التي كتبت ما زالت تمثِّل ضياء

على طريق الدعاة، ورشاداً يسترشدون به في زمانهم هذا، وإنه لمن العجيب أن يقبل الدعاة على رسائل وكتب تعد فرعاً من تلك الدوحة السامقة، ولو رجعوا إلى الأصل لاستفادوا فائدة عظيمة. إن تضييع تلك الكتب لهو إهمال لقضية التوريث الدعوي برمتها، ودليل على هوان أولئك الأعلام على دعاة هذا العصر، الذين لو عقلوا لوضعوا تلك المؤلفات في الموضع اللائق بها، ولأسَّسوا لها اللجان والمراكز التي تستخلص أهمَّ مافيها وتنشره ليطَّلع عليه أهل هذا الزمان وليورِّثوه لمن بعدهم التوريث اللائق المطلوب (¬1). ¬

(¬1) من تلك الكتب: ((هذا الدين)) و ((المستقبل لهذا الدين)) للأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وكتاب ((معالم على الطريق))، وكتاب ((في ظلال القرآن)) وكلاهما للأستاذ سيد أيضاً، وبعض كتب أخيه الأستاذ محمد حفظه الله تعالى، وبعض كتب الأستاذ الندوي وبعض كتب الأستاذ المودودي خاصة كتاب ((تذكرة دعاة الإسلام))، وغير ذلك من الكتب النافعة التي كادت تنسى اليوم.

- التوريث مع التقويم والتحسين والإضافة: إن التوريث لا تتم فائدته، ولا يظهر أثره إلا بالإضافة عليه وتحسينه، والارتقاء به، وهذا فيه كلام تقدم قبل ذلك ذِكْرُ أهميته (¬1)، وقال الدكتور محمد أبو فارس موضحاً ومبيناً: ((إن مما لا شك فيه أن هذه الأمة خرّجت من الدعاة والعلماء والفقهاء والمحدِّثين والمصلحين والوعَّاظ الزاهدين وغيرهم مما لا يحصرهم كتاب، وهؤلاء عاشوا في ظروف مختلفة وأماكن متباعدة، ومع شعوب مختلفة وأجناس متعددة، فعلّموها ودعوها إلى الخير والإصلاح، وأمروها بالمعروف ونهوها عن المنكر، وواجهوا في سبيل ذلك مشاكل ومصاعب، وابتكروا من الأساليب ما عالجوا ما كان يَجِدّ من المشاكل، فأصبح عند كل قوم أو بلد أو جيل تجربة لعلمائه وفقهائه ومصلحيه ووعاظه، وكانت هذه التجارب ينقلها التلاميذ عن الشيوخ فيزيدون عليها ويحسنون فيها. إن تجارب هؤلاء الدعاة على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وتخصصاتهم معين ثَرُّ لا ينضب، على الدعاة أن يبحثوا عن هذه الأساليب ويستفيدوا منها ويُحسِّنوها)) (¬2). ¬

(¬1) انظر المقدمة والتمهيد. (¬2) ((أسس في الدعوة)): 83 - 84.

المبحث الثالث عقبات أمام التوريث السليم

المبحث الثالث عقبات أمام التوريث السليم 1. سوء التخطيط والعشوائية. 2. الجهل بأهمية التوريث. 3. خوف العواقب. 4. الانشغال بقضايا الساحة الملحة. العقبة الأولى: سوء التخطيط والعشوائية: وهي آفة كثير من الدعاة، بل إن بعضهم - هداهم الله تعالى - يرون العشوائية ديناً يدينون به، ويحرِّمون التخطيط بدعوى أنه لم يكن في زمان رسول - صلى الله عليه وسلم - ووسائل الدعوة توقيفية، إلى آخر الكلام الذي بلغ الغاية في السقم والركاكة الفكرية، والبراهين الناقضة لهذه الأفكار السقيمة أوضح من الشمس، لكن ليس محلها هذه الرسالة التي تتحدث عن شيء محدد، وعلى من أراد التوسع في هذا أن ينظره في مكان آخر (¬1)، فمن لم ير التخطيط شيئاً مشروعاً فكيف يفكر في التوريث أو يخطر هذا بذهنه أصلاً. ¬

(¬1) انظر مثالاً: ((مشروعية العمل الجماعي)) للأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وانظر كذلك: ((جند الله تخطيطاً)) للأستاذ سعيد حوى رحمه الله تعالى.

العقبة الثانية: الجهل بأهميته التوريث

أما آفة كثير من الدعاة فهي خلاف هذا الذي وقع فيه بعض ضعاف الفكر وضيِّقي الأفق، وتتلخص في أنهم يخططون لكن بسذاجة بالغة مبلغاً غير مقبول، أو أن بعضهم اتخذ العشوائية سبيلاً ومنهجاً لحياته فلا يسير على هدى مرسوم ويخبط خبط عشواء في كثير من أموره، وفي جملتها قضية التوريث هذه، ومثل أولئك لا علاج لهم على الحقيقة إلا إعادة التفكير بعمق وجدية ليغيِّروا من طريقتهم، ويستقيموا على جادّة تخالف ما هم عليه اليوم، هذا إن أرادوا لدعوتهم أن تنجح يوماً ما أو أن تحقق شيئاً ملموساً في حياة الناس. والعجيب أن هذه الفئة لا ترتضي منهجها الدعوي منهج للتجارة أو لإدارة المؤسسات أو للإشراف على توزيع المال وإنفاقه، فكيف ترتضي ذلك في قضية هي من أهم قضايا العصر على الإطلاق ألا وهي الدعوة إلى الله تعالى؟! العقبة الثانية: الجهل بأهميته التوريث: وهذه عقبة كأداء؛ إذ المرء عدوُّ ما يجهل، والإنسان مفطور على حب القديم والخوف من التغيير، ولو فكر الداعية قليلاً فإنه سيخرج بنتيجة مفادها أن التوريث إبقاء على شيء كثير من القديم الجيد ونبذ الرديء عنه، وأنه

العقبة الثالثة: خوف العواقب

سبيل للمحافظة على ما يراه هو الحق أو الصواب أو الأفضل، فلِمَ يخشى التوريث إذاً؟ وهذا الجهل لا يليق بالأخ الداعية؛ إذ أنه يدعو الناس دوماً إلى الاستفادة من المعطيات والمواهب والطاقات، وإلى القراءة العميقة المستفيدة من كل جديد جيد، فكيف يليق به البقاء على جهله في أمر مهم كهذا؟ العقبة الثالثة: خوف العواقب: وهذه العقبة ناشئة عن أمرين أوَّلهما: ما سقته في العقبة الثانية. والآخر منهما: هو أن الداعية قد يخشى أن يتضرر أحد من الناس بهذا التوريث، أو أنه قد يجر عليه متاعب لا طاقة له بها؛ فهو بهذا تجده هياباً من نقل التجربة ويفضل بقاء ما كان على ما كان، ومثال على ذلك قضية الذكريات سالفة الذكر؛ فإني قد لقيت أساتذة ومشايخ وعلماء ودعاة يحرصون كل الحرص على عدم كتابة مذكراتهم، وسبب هذا هو إما خوفهم من الأنظمة المتسِّلطة في بعض البلاد التي ابتليت بمناهج تخالف منهج الإسلام لئلا يُحاسَب على شيء مما كتب، أو أنه يخشى أن يتضايق فلان وفلان أو أن يغضب عليه فلان وفلان، ولقد بينت لبعضهم أن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، فاكتب ما

العقبة الرابعة: الانشغال بقضايا الساحة الملحة

استطعت كتابته وخَلِّف ذلك للأجيال وورِّثهم إياه؛ فإنه كنز عظيم وخلاصة وعصارة تجارب، وقد وعد بعضهم بالاستجابة وأصرَّ آخرون على عدم الكتابة للسببين اللذين سقتهما آنفاً، هذا وقد أوردت شيئاً من ضوابط كتابة الذكريات في الفصل السابق، لكن ناسب المقام هنا إعادة ذكر بعضه. العقبة الرابعة: الانشغال بقضايا الساحة الملحَّة: إن جمهرة كبيرة من العاملين في الساحة الدعوية يشكون من قلة الوقت وكثرة الأعباء، وهذا يعوقهم أحياناً عن كثير من الأعمال المهمة، وهذا يعوقهم أحياناً عن كثير من الأعمال المهمة، وقد يعوقهم عن التفكير الصحيح أحياناً أو تغيير المسار إذا ثبت فشله أو ضعفه، بل إنه قد حصلت مناقشات بيني وبين أحد الدعاة في مسألة الارتقاء بعمله وفتح آفاق فيه، فتعجب الرجل مما سمع، وأظهر الجهل التام بما أقوله وأرشده إليه، على أن ما أقوله - في الحقيقة- لا يمثل شيئاً فريداً، إنما هو حصيلة تأملات في بعض لحظات الصفاء القصيرة، فدهشت لاندهاشه وتعجبت لاستغرابه: كيف لم يفكر في مثل هذا من قبل؟! وهذا الذي مثلت بحاله هو - تقريباً - حال العدد الأكبر من الدعاة في هذا العصر الذي امتلأ بالمشكلات والعقبات والتعقيدات في جوانب كثيرة تلتصق بالداعية نفسه أو ببيئته.

فكيف يراد إذاً من هذا الداعية الموزع على جبهات أن يفكر في قضية التوريث أو يعيرها اهتماماً؟! لكن ينبغي معرفة أن قضية التوريث من الضخامة إلى الحد الذي لا ينبغي إغفالها أو تجاوزها - كما بينت فيما سبق - أو جعلها من القضايا التي تنجز إن اتسع لها الوقت، إذ هي أكبر من هذا وأهم.

مسألة أخيرة مهمة

مسألة أخيرة مهمة: الضعف يورَّث كما أن الإيجابيات تورث: هناك مجموعة من السلبيات في مجتمعات الدعاة يتوارثونها فيما بينهم ويتوارثونها أيضاً خلفاً عن سلف، فخُلف الوعد، والتأخر عن المواعيد المضروبة، وعدم المبالاة بأحوال المجتمع السيئة، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة الاعتناء بالعبادات فرائض وسنناً، واليبوسة في الخُلق، والجفاف في القلوب، وعدم الاكتراث بالارتقاء الدائم، إلى أخر ما هنالك من صفات سيئة، يتوارثها الدعاة فيما بينهم، وتقع فيما يسمى ((اللاشعور))، فالداعية إن اجتمع بأقرانه قد يتأثر بما هم عليه من ضعف أو انحراف فتصبح صفة متأصلة فيه يورثها لآخرين معه، ويورثها لمن بعده أيضاً. وهذه الصفات السيئة الآنفة الذكر وغيرها كثر التحذير منها في كتب متداولة، وليس السياق مناسباً للتعرض لها والتحذير منها لكنها سيقت لبيان أن التوريث قد يقع في الشر كما يقع في الخير، وأن على الداعية العاقل العامل أن يتخير أحسن ما يقع عليه من سلوكيات وأخلاق ليكتسبها ولتكون سلوكاً يومياً له ثم يورثها لمن بعده.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد تبين لي بعد كتابة هذا البحث ما يلي: 1. الأهمية القصوى لهذا الموضوع لما يترتب عليه من إنجاح الأعمال، ووصل السابق منها باللاحق، لذلك أنصح إخواني الدعاة بالأخذ به بقوة وعدم إهماله أو التقصير فيه. 2. أهمية أن يُكتب فيه كتابة أوسع من هذه، وأن يُقعّد له القواعد اللازمة، وحبذا لو اعتنى بهذا الموضوع أحد الدارسين الباحثين، فيضع فيه رسالة علمية قوية، وحسبي أن يُعد ما كتبته مفتاحاً للبحث في هذه القضية المهمة. 3. وهناك اقتراح حبذا لو وجد طريقه إلى التنفيذ؛ ألا وهو التنادي إلى مؤتمر يضم أهل الشأن والاختصاص

في المؤسسات الشرعية والدعوية والتربوية لينظروا في وضع لوائح محكمة تضمن حسن العمل وجودة توريثه للأجيال المقبلة، والارتفاع عن العشوائية في العمل والنظر؛ خاصة أن من سبقونا في الإدارة والتخطيط والعمل المحكم في الشرق والغرب أخذوا بهذا الأمر وطبقوه منذ أزمنة طويلة. وهذا ما تيسر لي في هذه الخاتمة من توصيات، والله تعالى أعلم وأحكم، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

فهرست المصادر والمراجع

فهرست المصادر والمراجع * ((القرآن الكريم)) 1. ((الأعلام)) الأستاذ خير الدين الزركلي (ت1397). نشر دار العلم للملايين. بيروت. الطبعة الخامسة سنة 1980م. 2. ((أسس في الدعوة)): د. محمد عبد القادر أبو فارس. 3. ((تفسير القرآن العظيم)) الإمام ابن كثير = إسماعيل بن عمر (ت 774)، تحقيق مجموعة من الأساتذة نشر دار الشعب القاهرة. 4. ((تقريب التهذيب)): الإمام ابن حجر العسقلاني = أحمد بن علي (ت 852) , تحقيق الأستاذ محمد عوامة. 5. ((تهذيب التهذيب)) الإمام ابن حجر العسقلاني = أحمد بن علي (ت 852). نشر دار الفكر. بيروت. الطبعة الأولى سنة 1404.

6. ((سير أعلام النبلاء)): الحافظ الذهبي = محمد بن أحمد (ت 748). تحقيق مجموعة من الأساتذة. نشر مؤسسة الرسالة. بيروت. 7. ((صحيح الإمام البخاري)) = محمد بن إسماعيل (ت256). نشر دار الجيل. بيروت. 8. ((صحيح الإمام مسلم بن الحجاج)) (ت 276). نشر دار الخير. دمشق، بيروت. الطبعة الأولى سنة 1414. 9. ((الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)) الإمام السخاوي = محمد بن عبد الرحمن (ت 902) نشر دار مكتبة الحياة. بيروت. 10. ((ذكريات الأستاذ علي الطنطاوي)) (ت 1420)، نشر دار المنارة. جدة الطبعة الأولى سنة 1406. 11. ((غربة الراعي)). د. إحسان عباس. نشر دار الشروق. عمان الأردن. الطبعة الأولى سنة 1996. 12. ((الكامل في التاريخ)) ابن الأثير = علي بن محمد (ت 630). نشر دار الكتاب العربي. بيروت. الطعبة السادسة. 13. ((في ظلال القرآن)) الأستاذ سيد قطب (ت 1386) نشر دار الشروق. بيروت. الطبعة الحادية عشرة. سنة 1402. 14. ((الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني)) مع مختصر شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني: الشيخ أحمد البنا. نشر دار الشهاب. القاهرة.

15. ((معجم متن اللغة)) الأستاذ أحمد رضا. نشر دار مكتبة الحياة. بيروت سنة 1377. 16. ((المعجم الوسيط)): نشر مجمع اللغة العربية. القاهرة. الطبعة الثالثة. 17. ((الموسوعة الحركية)): الأستاذ فتحي يكن. نشر دار البشير، عمان. الأردن. الطبعة الأولى سنة 1403. 18. ((نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء)): السيد الإمام الذهبي، والتهذيب لواضع هذه الرسالة. نشر دار الأندلس الخضراء الطبعة الأولى سنة 1411.

§1/1